الموقف الإسلامي من الدراسات المستقبلية
وتبقى القضية الأخيرة وهي أن الواجب علينا -على هذه الأمة- أن يكون لديها دراسات مستقبلية جادة متخصصة، وهي أقدر الأمم في العالم على ذلك، لأن واقع الناس والعالم الآن في صراع، فأنت إن لم تأكلهم أكلوك، وهذه قضية لاشك فيها، فنحن مأكولون مأكولون! إلا إذا رجعنا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأخذنا بالأسباب ومنها هذا.
ونقول: نحن أقدر الأمم على أن نضع دراسات مستقبلية مصيبة ودقيقة؛ لأننا -كما ذكرنا في أنواع معرفة المستقبل- لدينا المصدر الوحيد الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فنأخذ هذا المصدر ونبني عليه النظر في سنن الله الكونية، وهذا يمكن أن نصل إليه -أيضاً- بصورة أدق مما يصلون إليه، لأنهم مهما نظروا فهم يعتبرون الدين عاملاً مؤثراً، لكن الدين عندهم هو أيُّ دين سواء كان هو التوحيد أو الشرك لا يعرفونه.
فأيضاً حتى دراسة الأوربيين الغربيين لموضوع السنن الربانية، فمهما أصابوا فيها فهم عرضة للخطأ أكثر منا، ونحن نُصيب بلا شك أكثر منهم.(64/21)
منازعة القدر بالقدر
وهنا قضية أخرى لا بد أن نذكرها وهي أن من ديننا أن ننازع القدر بالقدر أو كما قال عمر رضي الله عنه: [[نفر من قدر الله إلى قدر الله]].
وأضرب لذلك مثلاً: عندما يخبرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الكعبة -هذا البيت الحرام المعظم- سوف يهدمها ذو السويقتين من الحبشة، فهذا من المستقبل الذي لا يستطيع الغرب أن يتصوروه بدراسات السنن الربانية، وليس عندهم فيه يقين أو وحي فهذا مما نتفرد به، وفي هذه الحالة ليس من المشروع لنا أن نستسلم وندع الأحباش الوثنيين والنصارى، ونتركهم وما يريدون أن يعملوه فيعملونه، ونقول: قد أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا وما لنا حيلة، ولا بد أن يأتوا ولا بد أن يهدموا الكعبة!! فهذا ليس بصحيح، وهذا خذلان واتكالية وجبرية، إنما الواجب أن نعمل جهدنا وطاقتنا لئلا يقوم أي حكم غير إسلامي في الحبشة، وفي أثيوبيا كلها، وفي شرق أفريقيا، ونجتهد في هذا في جميع الأوقات فإذا غلبنا، والله أعلم متى يكون هذا، ويقع ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن نحن ندفع القدر بالقدر، فهذا قدر، وهنا واجب علينا أن نسعى وأن ندافع عن ذلك.
نحن نعلم أن الروم سيأتوننا وسينزلون في الأعماق أو بـ دابق أي: في بلاد الشام، وهذا معناه أنهم سيجتاحون تركيا ويحتلون البحر، ثم يكون لنا دول في أوروبا سيجتاحونها، ولكن ليس معنى ذلك أن نستسلم لهم ولا نحاربهم في البوسنة مثلا أو تركيا أو في البلقان أو في قبرص! بل نحارب ونحارب حتى إذا نزلوا في الأعماق يكون قد وقع ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهكذا.
هذا اليقين الذي عندنا في أننا نتعبد الله بأن ندفع القدر بالقدر، أما هؤلاء المجرمون اليهود والنصارى فإنهم بمقتضى عقيدتهم جواز البداء على الله تعالى الله عن ذلك، والبداء معناه: أن يبدو له أمراً ما -أي يغير رأيه- كان خطأً فيغيره إلى الصواب، هذا من عقيدتهم في التوراة وغيرها، فهم مهما قرءوا في كتبهم أو قرءوا في كتبنا وصدقوا أننا سنهزمهم يقولون: لا! إذا نحن اجتهدنا وعملنا فيجوز أن نجعله يغير رأيه، تعالى الله عن ذلك!! هذا من عقيدتهم وأن الأحبار يقولون للرب: غير رأيك وعدِّل! ويغير رأيه، تعالى الله عن ذلك! إذاً هم عقيدتهم غير عقيدتنا، وإيمانهم غير إيماننا، فهم من منطلق آخر من منطلق إيمانهم بالماديات وبالأسباب يتحركون، ونحن من منطلق آخر ويجب علينا أن نتحرك ونعمل.(64/22)
أهمية التركيز على الغرب في الخطط المستقبلية
أقول: ما دمنا نحن الأمة الوحيدة التي تمتلك هذا الميراث العظيم ومصدر اليقين ومصدر الحق في أحداث المستقبل؛ فعلينا أن نجتهد لذلك بالدعوة إلى الله، وأن نقيم الدراسات لغزو أوروبا وأمريكا بالإسلام.
فلو قال قائل: لماذا لا نغزوا كوريا واليابان، ولدينا طاقات بشرية للدعوة؟ قال الآخر: لا! يجب أن نوجهها إلى أوروبا وأمريكا! فمن الذي يُقَدَّم رأيه؟ الذي يقول: يجب مواجهة الغرب، لأنه هو العدو الذي نحتاج أن ندخل في أعماقه، فهو أكثر عداوة، وأولئك أعداء كفار مشركون لنا، لكن العدو الذي سوف يهاجمنا ويكون أخطر علينا هو هذا.
وكذلك تخطيطنا الدعوي وتخطيطنا العسكري يكون ضد الغرب، وتخطيطنا الاقتصادي والعلمي يكون ضد الغرب بالدرجة الأولى والكفار عموماً؛ لأن عندنا يقين أنه سيكون هو العدو كما هم الآن يفعلون.
نحن نقابل الضد بالضد، وعندنا يقين، وعندهم خرافات وأساطير باطلة، ثم إن هذا التخطيط هو مقتضى العقول السليمة، فالعاقل يفكر عندما يريد أن يفتح أي محل أو عمل تجاري أو عندما يريد أن يبني بيتاً، وكل هذا قائم على التخطيط ودراسة المستقبل، صحيح أن المستقبل محدود في سنتين أو ثلاث أو عشر مثلاً أو أكثر، وإذا اشترى رجل عمارة هذه الأيام بمليونين لأنه فكر أنه يستطيع تأجيرها خلال (10 سنوات) فيما يعادل مليون ونصف أو مليونين، إذاً هكذا البشر يخططون بمقتضى العقول.
فالأمة يجب أن تخطط بالقرون وليس بالعقود -بالعشرات-، ونحن حتى بالعشرات لا نخطط! كانت أمريكا تقول: -وهذا الكلام قبل أكثر من عشر سنوات- مما سوف يعجل بانهيار الإتحاد السوفيتي، أن طاقم الحزب الشيوعي كلهم فوق الستين سنة، ومعنى ذلك -كما قالوا وهذا صحيح وما هو علم غيب- أنه بعد عشر سنوات سيموتون كلهم، أو أكثرهم، والآن، ماتوا -فعلاً- ولم يبق منهم حيّ إلا جورباتشوف؛ لأنه بعد السبعين يبدأ الموت في الناس وهكذا، إذاً هناك أشياء مثل هذه الأمور نحتاج أن نحييها في الأمة عامة وفي أنفسنا، ويكون لدينا نظرة بعيدة لمستقبل الإسلام ومستقبل الدعوة، ونبني عليه خططنا لهذه الحياة، وإلا فلا مكان في هذه الحياة لفوضوي أو عابث أو متخاذل أو متكاسل، وعلينا أن نبدأ، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي يحقق المساعي بإذنه عز وجل.
وأنتقل الآن إلى هذا المثال وهو أن جريدة الحياة قد جاءت بعنوان: "مذنَّب ضخم مندفع نحو الأرض سيدمر كل أشكال الحياة عام (2116) " والخبر يقول: "يندفع مذنب كبير نحو الأرض وسيصل إليها في (14 آب أغسطس عام 2116)، ويُحدث انفجاراً أقوى من واحد ونصف مليون قنبلة نووية ينهي جميع أشكال الحياة" وهذا مثال لما يتنبئون به -كما ذكرنا- وهو من الرجم بالغيب، فالمهم أن نعلم كيف يتنبئون ويتوقعون واليقين إنما هو عندنا وليس عندهم.(64/23)
الأسئلة(64/24)
الغرب بين القوة والضعف
السؤال
كأنك مرة تصوَّر الغرب أنه هالك ومرة أنه جاد ومحطِّم لغيره؛ فما عملنا؟
الجواب
كيفية الجمع بين أنه هالك، أو أنه قوي وجاد، من خلال أن عوامل الانهيار فيه موجودة وعوامل البقاء فيه موجودة، فنحن إن نازعنا القدر بالقدر وعرفنا سنن الله، قويَ عاملُ الانهيار لديه وانهار، وإن تركناه قويَ وحطَّم غيره، وظل قوياً، فانهياره أو ضعفه بمقدار خلوه من الإيمان الذي عندنا، والحمد لله فإنا نملك الشريعة والعدل والحق ولا يملكونه، وقوته بمقدار ما لديه من قوة مادية وتخطيط نحن لا نملكه، فإذا اجتمع لدينا قوة الإيمان والعقيدة مع التخطيط الصحيح السليم الذي هو قوته المادية -أيضاً- فإننا سوف نهزمه -بإذن الله- والمعركة طويلة، وحتى كلامي هذا هو من باب أن نحث الهمم لمنازعة القدر بالقدر، وإلا فالمعركة طويلة، ولن تنتهي إلى قيام الساعة، ولكن المصيبة هي أن نركن ونتخاذل وأن ندع الغرب يتحكم في مصائرنا، ثم يخرجنا من ديينا أو يُنصِّرنا كما يريد أن يخطط، وللتنصير باب طويل لا نريد أن نتحدث فيه الآن.(64/25)
الطريقة المثلى لتجاوب الدعاة مع دراسة المستقبل
السؤال
كيف يتجاوب الدعاة وطلاب العلم مع دراسة المستقبل بما ينعكس إيجابياً على واقعهم، خصوصاً والألم يعتصر القلب عندما يسمع المسلم عن دقة تخطيطهم وعشوائية أعمالنا؟
الجواب
نحن مهما بلغنا من الضعف والعشوائية ومن تسلط الغرب المجرمين والطواغيت، ومن انتشار الأفكار الإلحادية والبدع والخرافات، فنحن مهما كان حالنا، فإن لدينا اليقين الذي لا يتزعزع في أن العاقبة للمتقين، وأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، وأن الله عز وجل قد كتب في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، وأن المستقبل للإسلام.
يجب أن نؤمن بهذا وأن نعتقده، فلا يهزنا ما لديهم لحظة واحدة، فنعتقد أن المستقبل للإسلام، وإذا كان واقعنا بهذه العشوائية، وبهذه التفرقة، وبهذا الاضمحلال، فعلينا أن ننطلق ونعمل ولا نقول: إن هذا الواقع يدعو لليأس وإلى ترك المعركة؛ لأنك في معركة شئت أم أبيت، فما دمت واثقاً من أن لك النصر في النهاية، فلا تغرك مظاهر الهزيمة لديك ومظاهر القوة لدى عدوك، ولهذا أساس الانتصار على أنفسنا، وعلى أعدائنا، وعلى الشرق والغرب، وعلى كل خطر أن نعود إلى الله تبارك وتعالى عودة صادقة إيمانية، فإذا آمنا بالله وآمنا بوعد الله أيقنا بما أخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإننا حينئذٍ سوف نحطم كل ما يواجهنا بإذن الله مهما طالت الطريق ومهما نالنا من تعب، فهذا دافع إيجابي، لأن تكون حركتنا إيجابية لا سلبية فيها بأي حال من الأحوال، فنكون إيجابيين في تعاملنا مع كل الأحداث ومتفائلين بأن النصر لهذا الدين، وأن ما نراه من هذا الواقع المؤلم هو نفسه بإذن الله سيكون فيه العبرة لهم إذا استطعنا أن ننهض من هذه الكبوة العجيبة ونهزمهم، فإن هذه آية من آيات الله التي نؤمن بها في الدلالة على أن هذا الدين هو الحق، وإلا لو كانت هذه الآلام والمحن والحروب والفتن والتخطيط يواجه أمةً غير المسلمين وديناً غير دين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكان قد اضمحل من فوق ظهر الأرض، فعندما قدم التتار اتحدت الرافضة والفرق الباطنية الحشاشون- مع المغول التتار ومع الحملات الصليبية كلها، وشكلت قوة واحدة، ولولا أن هذا الدين من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لكان في القرن الثامن أو السابع لا وجود له على الإطلاق، ومع ذلك فنيت تلك القوى وظل هذا الدين والحمد لله.(64/26)
نتائج الانتخابات الامريكية وأثرها على المنطقة العربية
السؤال
هل من نتائج فوز كلنتون على بوش في الانتخابات السماح للصليب بالعبث في المنطقة العربية، لأن أصله يهودي، ولأنه من الحزب الديمقراطي؟
الجواب
هما وجهان لعملة واحدة، واليهود الآن في الحملة الانتخابية تقريباً كلهم مع كلنتون لأن عندهم في التلمود أن الأميين لنا كالحمار إذا نفق منهم حمار ركبنا حماراً آخر، ركبوا بوش واستخدموه ويريدون أن ينتهوا منه ويركبوا الآخر لو فاز بوش فالعملية سوف تستمر والخدمة ستستمر في الأصل، لكن سوف يكون أكثر حرية؛ لأنه لا يطمع في ترشيح ثالث، فلا يريد الفوز بأصواتهم، ولا يريد أن يكسبهم هم ولا غيرهم، فيكون لديه نوع من المرونة والحرية وهم لا يريدون هذا، يريدون المرشح الديمقراطي؛ لأنه أحمق، ولأن لديه جذور يهودية توراتية، ولأنه يمكن أن يحقق لهم أهدافاً أكثر باعتبار أن الفضل لهم في الوقوف معه في الانتخابات، ونحن مثل الأسير المكتف المقيد المغلوب الذي يرى وحشين يتصارعان، ويتمنى أن يكون هذا أرحم أو هذا أرحم!! أياً كان منهما فأنت مأكول إلا أن تطلق قيدك وتتوكل على الله تعالى، وتعتمد بعد الله على نفسك وعلى ما لديك، أما هم فلن يفرق الأمر كثيراً، ولا أتوقع أكثر من عشرين في المائة من تغيير في سياستهم الخارجية؛ لأنها تحكمها معايير ثابتة، وليس مجرد آراء الرئيس، وربما عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، بمعنى أننا نكره أن يفوز كلينتون، وما يدرينا أنه إذا فاز بحماقته هذه وتأييده لليهود وسبه للعرب، يكون هذا الذي يوقظنا ويكون هذا الذي يعرفنا قدرنا وقيمتنا، ويكون هذا الذي يحركنا، أما ذاك فإنه يدللنا بالكلام والأخوة والعدالة والشرعية، فننام ونتخدر أكثر، فالله أعلم، ونسأله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يختار الخير لهذه الأمة.
وبالمناسبة فإن النتيجة غداً، وهذه من فوائد البث المباشر!(64/27)
إطلاق الروم وبني الأصفر على الأوروبيين
السؤال
يقول الأخ ما وجه الجمع بين حديث: {لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا بني الأصفر}، وحديث: {لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الروم}؟ وهل فيهما إشارة إلى تدمير أمريكا وبعد أن تدمر أمريكا يكون الروم هم أوروبا بعد أن يتحدوا؟
الجواب
معنى الحديثين واحد وبني الأصفر هم الروم، ولا ندخل في التفاصيل، ولكن الروم يشمل الغرب كله بما في ذلك أمريكا، وسيسلم الروم بإذن الله، وهذا الذي يشجعنا للدعوة؛ لأنه في نفس الحديث: {يقول الروم للمسلمين في الملحمة الكبرى: أخرجوا لنا إخواننا فيقول المسلمون: والله لا نعطيكم إياهم} لأنهم آمنوا بمعنى أنه يوجد روم مسلمون لهم نكاية في روم الكفار وهم مع المسلمين، ففي هذا دليل على أن من الروم من يسلم بإذن الله تعالى.(64/28)
توقعات من أزمة الخليج في كتاب المسيح الدجال
السؤال
ما رأيكم في كتاب المسيح الدجال الذي ظهر قبل أزمة الخليج؟
الجواب
في الكتاب حقائق كثيرة، لكن ليس بالدقة والحرفية، إنما يعطيك إشارة إلى نوع من تفكير هؤلاء، والذي سميناه نحن نبوءاتهم وما يفسرون به كتبهم، وهذا الكتاب مثال على هذا النوع الذي لديهم، وقد كان قبل الأزمة، ومع ذلك فيه بعض التوقعات التي حدثت فعلاً في الأزمة.(64/29)
تبعية الصين للغرب
السؤال
فضيلة الشيخ! بعد ذكر أن اليهود يمكن أن يركبوا أمة أخرى غير الأمريكان مثل الصين، فهل هناك علاقة بين ضعف أمريكا اقتصادياً ومحاولة تجديد الرؤساء إلخ؟
الجواب
أنا أقول: إن الظاهر لنا أن اليهود ليسوا هم الذين يركبون الصين، بل إن الصين سيظل تابعاً للغرب، وبهذه المناسبة فإن الغرب أراد وخطط لأن تتحول أوروبا الشرقية كلها عن الشيوعية، أما الصين فقد أراد الغرب أن تظل شيوعية؛ لأن الشيوعية دمار وخراب، فلما ضمن الغرب تكوين جبهة غربية واحدة، أخذ هذا الدمار وأزاله عن أوروبا الشرقية، أما الصين فلأنها أمة شرقية، ولم تخضع له في النهاية؛ فقد جعل هذا الدمار باقياً لديها، وربما يدعمون وجود هذا الدمار!(64/30)
خطر الرافضة
السؤال
فضيلة الشيخ! لماذا لا تنبه على خطر الرافضة وغيرهم؟
الجواب
نحن نتكلم عن خطر واحد، والأخطار كثيرة، ولا نستطيع أن نتحدث في كل مرة عن جميع الأخطار.(64/31)
من المشاريع ضد التنصير
السؤال
ماذا عن مشروعكم ضد التنصير؟
الجواب
هذا مشروع بسيط جداً! ونسأل الله أن يكون كبيراً عنده، وإلا فهو بالنسبة لنا ليس كبيراً؛ للواجب الذي يجب أن تقوم به لهذه الأمة، وسوف نحدثكم عنه -إن شاء الله- في مثل هذا اليوم من الأسبوع القادم في جدة، وقد سبق الحديث عنه في القصيم بعنوان: "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح".(64/32)
التفسير الإشاري من سمات الصوفية
السؤال
التفسير الإشاري هل هو من باب ادعاء الغيب أم هو من باب اجتهادات ابن خلدون؟
الجواب
التفسير الإشاري ليس من باب اجتهادات ابن خلدون، إنما هو من سمات الصوفية، ويمكن أن تفسر النصوص أو حتى الأشعار تفسيراً إشارياً أو رمزياً، ولا يختص هذا بأحاديث الفتن، وليس خاصاً بطائفة دون طائفة من المسلمين.(64/33)
خطر الفرقة على مستقبل المسلمين
السؤال
إن مما يؤثر في مستقبل المسلمين الفرقة التي يعيشونها، ومن ذلك ما يحصل بين أهل السنة والجماعة وغيرهم من الجماعات عموماً؛ علماً بأنهم يلتقون في مبدأ واحد يتسع للخلاف إلخ؟
الجواب
لا شك أن الفرقة عامل ضعف، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر ذلك فقال: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]، ويقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، فمن أسباب قوة الغرب أنهم يتوحدون، ومن نظر إلى أوروبا الشرقية والغربية يجد أن فيهم العرق الآري، وفيهم الأعراق الأخرى، وفيهم الأرثودكس وفيهم الكاثوليك، وفيهم الأحزاب الشيوعية، والأحزاب اليمينية، والأحزاب اليسارية، والأحزاب الوسط، وفيهم من يتقاتلون مع بعض، وكل هؤلاء مع كل الاختلافات يريدون أن يتوحدوا، ونحن لدينا كل أسباب الاجتماع حتى اللغة؛ فلغتنا واحدة، المسلمون في كل مكان يحبون اللغة العربية، ويتعلمون القرآن أما هم فإن اللغة الألمانية لا يمكن أن يتكلمها الفرنسي، والفرنسية لا يتكلمها الألماني، ومع ذلك يريدون أن يتوحدوا، وأن يكون جيشهم واحداً، ونحن لدينا كل عوامل الوحدة، ولكننا لا نريد ذلك؛ لأن النفوس مرضى؛ ولأن الاقتناع بضرورة ذلك غير موجود، ولن يوجد إلا بالرجوع إلى العقيدة الصحيحة، وبالذات ما يتعلق بالولاء والبراء.(64/34)
غفلة المسلمين عن المخططات الغربية
السؤال
ذكرت مكائد الغرب وسلطته وأن المسلمين في غفلة
ويُقضى الأمر حين تغيب تيمٌ ولا يُستأمرون وهم شهودُ
وكأننا نرى أن الغرب ملك كل شيء، وما بيدنا شيء؟
الجواب
لا! لم نقل هذا، ولا نريد أن يفهم هذا، لكن نريد أن نقول: إن الغرب يعمل ويخطط ونحن نتثاقل ونتخاذل.(64/35)
تحضير الأرواح
السؤال
هل يعتبر تحضير الأرواح الموجودة اليوم -وخاصة عند النصارى- من ضمن الطلاسم؟
الجواب
هو نفس الكهانة لكنها تطورت، بمعنى أن تحضير الأرواح هو نوع من الكهانة واستخدام القرين، وذلك أن لكل إنسان قرينه: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} [فصلت:25] كما ذكر الله تبارك وتعالى فكل إنسان له قرين وله شيطان، كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أن الله أعانه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قرينه فأسلم، فكل إنسان له قرين، فهذا القرينُ يأتي الخبيثَ من أولياء الشياطين من الإنس، يستعين بطواغيت الجن وملوكهم ويقدم لهم عبادات وخدمات معينة، ومنها إهانة المصحف -والعياذ بالله- وغير ذلك، فيسألون قرينه عن أحوال ذلك الميت، فإذا اجتمعوا في مكان، فربما نطق القرين، وقال: أنا ربما كنت كذا وكنت كذا، ويتكلم عن قرينه الذي مات فيقسم أهله الأيمان أن هذا الكلام حقيقي وأنه خاص ما اطلع عليه أحد، لكن القرين الذين معه يسارحه روحةً وغدواً وعشياً ويرى أفعاله، فهو يخبر بما شاهده، وليس من الغيب؛ لأن الغيب ما خفي، أما ذاك فقد اطلع فيه الجني على وليه من الإنس، مثلما لو أن عند أي شخص مجهر تلفزيوني، أو عين تلفزيونية يرى فيها شخصاً جالساً في مكتبه، وهو في الدور الرابع، فهذا ليس غيباً، وإنما اطلع عليه بوسيلة لا يراها الناس، فظنوا أنه يعلم الغيب، فهذا هو كل ما يقوم به من تحضير الأرواح، إنما هو تسخير للشياطين، كما ذكر الله -تبارك وتعالى- عنهم يوم القيامة: {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام:128].
أسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينفعنا وإياكم جميعاً بما نسمع ونقول، وأن يكون فيما قلناه عبرة وإثارة لهذه القضية المهمة.
والحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد.(64/36)
وقفات مع آية الولاية
في هذه المادة تكلم الشيخ عن مفهوم الولاية، وبين صفات أولياء الله الذين اصطفاهم لولايته، ثم ذكر بعض خرافات الصوفية المتعلقة بالولاية.(65/1)
الخسارة الحقيقية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على رسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:- فبفضل الله تعالى وتوفيقه، نكمل شرح الحديث العظيم الذي ذكره الإمام الشارح ابن رجب ضمن حديثه عن الولاية، وهو حديث الولي الذي ذكرنا طرفاً منه والحِكم فيه، وقرأنا طائفة من شرح الإمام الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى، وكان آخر ما وقفنا عنده، هو ما كان يتحدث عنه الحافظ ابن رجب رحمه الله من أوصاف الذين يحبهم الله ويحبونه، بعد أن تحدث عن الفرائض التي تقرب إلى الله تعالى، وذكر الآية وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54].
قال الشارح رحمه الله: 'من فاته الله، فلو حصلت له الجنة بحذافيرها، لكان مغبوناً ' وهذا كلام عظيم لا يقدر قدره إلا من عرف الله عز وجل وعرف قدر الله، وعظَّم الله حق تعظيمه وقدره حق قدره.
يقول: ' من فاته الله، فلو حصلت له الجنة بحذافيرها، لكان مغبوناً -على فرض أنها الجنة- فكيف إذا لم يحصل له إلا نزر حقير يسير من دار كلها لا تعدل جناح بعوضة'.
هذه الدار التي قال فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء} فكلها لا تعدل جناح بعوضة، ويستمتع فيها الكفار من قديم الزمان إلى نهاية هذه الدنيا، فكم نصيب الكافر الواحد من هذه الدنيا كلها التي لا تعادل جناح بعوضة؟ نسبة عجيبة جداً لو تأملها الإنسان بذهنه وخياله، فهذا آثرها على الله والدار الآخرة، وباع حظه من الآخرة، وحظه من محبة الله، ومعرفته بهذه الفانية العاجلة الحقيرة التافهة.(65/2)
صفات أولياء الله
ثم قال: ' ثم ذكر وصف الذين يحبهم الله ويحبونه ' قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] فذكر الله صفات هؤلاء وهي: أولاً: أنهم يحبهم الله ويحبون الله.
ثم أتى بالوصف الثاني لهؤلاء المحبين 'فقال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] يعني: أنهم يعاملون المؤمنين بالذلة واللين وخفض الجناح (أعزة على الكافرين) يعني: أنهم يعاملون الكافرين بالعزة والشدة والغلظة، فلما أحبوا الله أحبوا أولياءه الذين يحبونه، فعاملوهم بالمحبة والرأفة والرحمة، وأبغضوا أعداءه الذين يعادونه؛ فعاملوهم بالشدة والغلظة كما قال تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] ' والوصف الآخر هو أنهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون في الله لومة لائم.
ولو تأملنا هذه الآية لوجدنا أنها بينت آيات الولاية، فإنه أول ما ابتدأ هذا المقطع والموضوع من الآيات، ابتدأ بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] ثم جاءت آية، ثم هذه الآية، ثم بعد أن أكمل هذه الآيات ذكر آية الولاية، وذكر أولياء الله، وأنهم حزب الله فقال: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56].
ثم حذر بعدها فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} [المائدة:57] إذاً: قبلها آية التحذير، وبعدها آية التحذير من اتخاذ الكفار أولياء، فبين التحذيرين من موالاة الكفار.
تأتي صفة المؤمنين الذين يستبدل بهم الله تعالى من يترك دينه، ويعرض عنه، ويرتد، ويتخلى عن القيام بحمل هذه الدعوة، والوفاء بعهد الله، وميثاقه في نصرة هذا الدين، وحمل ميراث النبوة، ورفع لواء سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذروة ذلك الجهاد في سبيل الله عز وجل.(65/3)
عاقبة الأمة التي تختلف فيها هذه الصفات
فإما أن تكون الأمة المؤمنة التي أمر الله بها في قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104] ترفع لواء الجهاد في سبيل الله وتنصر الحق موجودة أو لا توجد، أو ترتد كما ارتدت طائفة كانت تدعي ذلك، فإن الله تعالى لن يضيع دينه، وسوف يأتي بقوم آخرين، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] فيأتي الله تبارك وتعالى بقوم هذه صفاتهم.
وهذا دليل على أن الأمة التي تتخلف فيها هذه الصفات، هي أمة متروكة مخذولة ليست من أولياء الله، بل يتخلى الله عنها ويعاقبها بما يشاء، ويسلط عليها أعداءها، ويسلط عليها الفرقة فيما بينها فيشتت جمعها، ويذلها بمن يشاء من عباده المؤمنين أو الكافرين، فيبتليهم بالخوف، ويبتليهم بالجوع، وبما ذكر من المصائب والعذاب الذي حلَّ بالأمم السابقة، أو كما يشاء، ويأتي بالبديل وهم القوم الذين هذه صفاتهم.(65/4)
أذلة على المؤمنين
لما كان هذا الموضوع -موضوع الولاية- بهذه الأهمية، والتحذير عن موالاة الكفار بهذه المثابة وبهذه المنزلة، ذكر من صفات المؤمنين الذين يأتي بهم الله تعالى عوضاً عمن ارتد عن دينه، فذكر من صفاتهم أنهم أذلة على المؤمنين، كما علل الشيخ رحمه الله بأن هؤلاء يحبون الله، ويحبون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويحبون الدين، فمن كان من أهل الدين والإيمان، من أهل محبة الله، من عباد الله الصالحين، ومن أهل اتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإنهم أذلة معه يعاملونه باللين والرحمة والشفقة وخفض الجناح؛ لأنهم ينظرون إلى دينه، وإلى محبوبه، وإلى غايته وهمه ومراده وهو الله واتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فيعاملونه بمقتضى ذلك، فهو أخوهم وحبيبهم وخليلهم وقريبهم، حتى لو أخطأ عليهم فإنهم يعفون عنه ويتجاوزن، ولا يغلظون عليه لقوة صلته بالله ومحبته له، ومن أحب الله حقاً فإنه لا بد أن يحب كل من أحب الله من الأحياء أو من الأموات.
حتى لو أنك فتحت كتاباً من كتب التاريخ -أي كتاب- فوجدت سيرة رجل عالم عابد داعٍ إلى الله، آمرٍ بالمعروف ناهٍ عن المنكر أحببته وليس بينك وبينه أي صلة، وقد يكون من بلاد الهند، أو الترك، أو أطراف الدنيا، لكن لما وجدت سيرته بهذه الحال، فإنك تحبه، وتترحم عليه، وتترضى عنه، وتسأل الله تعالى أن يكثر من أمثاله في هذه الأمة.
وكذلك لو لم يكن هناك أي رابطة إلا أن الإنسان المؤمن يقرأ عن الماضين أو المعاصرين في أقاصي الدنيا، أن رجلاً منهم هذا حاله وشأنه من البعد عن الله أو محادة الله ورسوله وارتكاب ما حرم الله؛ فإنه يبغضه.
إذاً: هذا أمر يكون في قلب كل مؤمن، ودرجته ومقداره تكون بمقدار إيمان الإنسان ومحبته لله، فكلما عظمت محبة الله تعالى في قلب العبد المؤمن عظمت محبة أولياء الله وأحباب الله، فيكون خافضاً للجناح ذليلاً أمامهم، ولاحظوا كلمة (ذِلة) والذل هل هو صفة محبوبة عند الإنسان أو مكروهة؟ إنها مكروهة فلا يوجد أحد يريدها، أو يتمناها، ولا يصف بها إخوانه، ولا يصف بها أحداً ممن يحب، ومع ذلك جاءت هذه الصفة في وصف هؤلاء، ولم يقل رحماء، وقد قال في الآية الأخرى عندما وصف الصحابة فيما بينهم: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] لكن عندما ذكر شروط هؤلاء القوم، جاء بوصف أبلغ من مجرد الرحمة وهو الذلة؛ لأنك قد ترحم إنسان لكن أن تكون ذليلاً له فهذه مرحلة أعظم من ذلك، فهذا دليل على أن هذا الشرط مهم، ودقيق، وضروري، ولا بد منه لمن يريد أن يكون من هؤلاء القوم.
وعليه فإذا وجدت إنساناً غليظاً على المؤمنين، شديداً على الصالحين، عنيفاً على المتقين، بأي سبب؛ حتى لو يرى أنهم ظلموه في دنياه، أو خالفوه في رأي، أو فتيا؛ فاعلم أنه فقد صفة أساسية من هذه الصفات، ولا يمكن أن توجد الولاية أو المحبة لله عز وجل إلا مع وجودها، ولا بد من ترك ما يضادها.(65/5)
أعزة على الكافرين
إذا كان الإنسان ذليلاً للمومنين، وفي المقابل مع الكافرين عزيزاً غليظاً عليهم، فقد حقق الشرطين، وهذا لا يتعارض مع العدل، ولا يعني الغلظة على الكافر أنه ظالم للكافر بل هو العدل، ولذلك نحن عندما نجاهدهم فإننا نجاهدهم لأن الجهاد عدل، ونجاهدهم ونغلظ عليهم كما أمر الله تعالى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم:9]، وقال: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123].
فهذه الغلظة من العدل، وليس فيها اعتداء، بل هي حق لا تعني الظلم، ولا تعني البغي، حتى ونحن نجاهدهم فإننا لا نقتل إلا من أمرنا الله بقتله، ولا نقتل من نهانا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتله، ففي كل أمورنا نحن مقيدون بالعدل وبالقسط وبالحق.
إذاً: هذا لا يتعارض مع العدل، والغلظة أن يرى عدو الله تعالى منك ما يغيظه ويكدر أمره، إما بكلمة غليظة، ولا نعني بكلمة غليظة أن الإنسان يسب أو يشتم وإنما بالقوة في الحق والموقف، وإما عملاً يسيء إليه، كأن تهدم ما يبني هذا الكافر، وتحبط عمله، وتجتهد في رد كيده، وإفشال سعيه.
وأما إن كان أعلى من ذلك كمن يريد بالإسلام والمسلمين حرباً، فتحاربه وتقاتله، وتقتله إذا لم يكف شره إلا بذلك، وإذا لم يخضع لحكم الله، ويدفع الجزية؛ فإنه يقاتل حتى يقتل.(65/6)
الخلل في تحقيق هاتين الصفتين
هاتان الصفتان لا بد أن تكونا مقترنتان، ولذلك كان أكبر خطأ يخطئ فيه كثير من الناس أنهم يغلظون على المؤمنين، من أغلظ على المؤمنين؛ فإنه يؤدي به الأمر إلى أن يتساهل مع الكافرين، وهذا أمر يجده كل إنسان من نفسه، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل في نفس الإنسان هذان العاملان: أحدهما: الحب ومقتضاه: اللين، والرأفه، والرحمة، والذلة.
والآخر: البغض ومقتضاه: العنف، والقسوة، والشدة، والمقاتلة إلخ.
فلو أن الإنسان أخطأ في أحدهما، فإنه يخطئ في الآخر لا محالة، فتجد بعض من يلين القول مع الكفار يغلظ على المسلم، فإذا تعامل مع الكفار، ووادهم، وأحبهم، وخالطهم بحيث إذا جاء إنسان وتكلم في الكفار، وحذَّر منهم، وبيَّن أنهم أعداء الله؛ أغلظ وأنكر عليه.
وكذلك لو أنه أغلظ على إخوانه المؤمنين وكان شديداً عليهم، فإن هذا قسط من عداوته للكافرين صرفه وحوله إلى إخوانه المؤمنين.
فتجد من شغله الله بالطعن والعيب والعداوة للمؤمنين لا يجد وقتاً ولا تجده يفرغ للطعن والحرب والعداوة لأعداء الله الكافرين، ولذلك يجب على المؤمن أن يحفظ هذا الميزان الدقيق وأن يجعل نفسه كما أمر الله تعالى.
فقوله تعالى {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54] يجب أن نأخذ هذه الكلمة بكل ما تحمله من معنى، وليس في ذلك غضاضة، فإن ذل المسلم لأخيه المسلم عزٌ له عند الله عز وجل، وهذا يورثه الدرجة العليا، وهي: أن يكون ممن يصطفيهم الله عز وجل، فأنت لا تنظر إلى أن أخاك المسلم أخطأ عليك، أو أخطأ في اجتهاد ترى أنه خالفك فيه، بل انظر إليه هل هو ممن يحب الله ورسوله فتجتمعان في محبة الله أم لا؟ ومن عادة الناس في أمور دنياهم أنهم إذا كان أحد منهم يحب أحداً فإنه يستشفع إليه بمن يحب، حتى ولو كان بينه وبين الرجل أي مشكلة فيعفو عنه لأنه تشفع له من يحبه ذلك الرجل.(65/7)
محبة الله ورسوله فوق كل محبة
وهل هناك من يُحَب أعظم من الله عز وجل، فكل محبوب في هذه الدنيا تحبه فيجب أن يكون الله أحب إليك منه، لماذا؟ لأنك إن أحببت الوالد، فمن الذي خلق الوالد والوالدة؟ ومن الذي سخرهما لك؟ ومن الذي حفظهما لك حتى ربياك؟ ومن الذي أودع في قلبيهما الرأفة والحنان والشفقة بك؟ إنه الله.
لو أحببت الزوجة، فمن الذي خلقها؟ ومن الذي أعطاها الصفات التي أحببتها من أجلها في خَلْقِها أو في خُلُقِها؟ ومن الذي سخرها لك؟ إنه الله.
وقد تحب شيخك، أو معلمك، أو أستاذك، فمن الذي أعطاه العلم؟ ومن الذي سخره ليعلمك؟ ومن الذي عقد بينك وبينه هذه المحبة؟ إنه الله.
إذاً: كل من تحبه في هذه الدنيا، وتقدِّره، وتعظمه، فالفضل أولاً وآخراً لله تعالى، فوجب أن تحب الله أكثر من محبتك لهؤلاء جميعاً، ولهذا أشد محبة يجب أن يحبها الإنسان هي محبة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولما قال عمر رضي الله عنه للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {والله يا رسول الله! إنك لأحب إلي من كل شيء إلا من نفسي -هل أقره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ لا- قال: لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من كل شيء حتى من نفسك، قال: الآن يا رسول الله! أنت أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي} وهذه حقيقة الإيمان، لأن من كان يريد أن يكون في مثل درجة عمر، فلا بد أن يصل به الحال إلى هذا المستوى، ألَّا يحب وألَّا يؤثر على محبة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي شيء؛ حتى نفسه التي بين جنبيه، لأن هذه النفس إنما جاءها الخير والصلاح والهدى من غيرها، وإلا فمن أين جاءنا الخير والصلاح والهدى؟ من أين الوسيلة التي نصل بها إلى النعيم الأبدي الخالد عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ إن ذلك كان من طريق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(65/8)
من لوازم محبة الله سبحانه وتعالى
يجب أن يكون الله عز وجل أحب إلينا من أنفسنا؛ إن أردنا أن نكون من أهل الدرجة العليا، وهكذا هي محبة الله تعالى، والذلة للمؤمنين والغلظة على الكافرين شرط في حصول ذلك، كما ذكر الشيخ رحمه الله تعالى، ولذلك عقب على الغلظة بالجهاد كما قال تعالى: ((يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)) [المائدة:54].
يقول: ' فإن من تمام المحبة مجاهدة أعداء المحبوب '.
إذا كنا نحب الله، فكيف نرضى ونسكت عمن يقول: إن لله تبارك وتعالى ولد؟ كما قال ذلك اليهود والنصارى، وكيف نرضى عن قول اليهود كما حكى الله عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64] وعندما يقول اليهود: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] وعندما يكذِّبون رسل الله، وعندما يدعي النصارى أن لله ولداً، تعالى الله وتنزه عن هذا القول المنكر المفترى العظيم، الذي تكاد السماوات يتفطرن منه، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدَّا، فهكذا يقول النصارى واليهود.
والمشركون يعبدون مع الله حجارة وأصناماً، ويظنون أنها تقربهم من الله، وأنها واسطة بينهم وبين الله، فحق الله الذي خلقهم ورزقهم يصرفونه إلىهذه الحجارة وهذه الأوثان والأشجار والقبور، وغير ذلك، وهذا أمر عظيم، فمن عرف الله، وأحب الله، فإنه يجب عليه أن يتقرب إلى الله بقتال هؤلاء -أعداء الله- الذين تركوا عبادته والإخلاص له الذي أمرهم به، كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] فتركوا ذلك وذهبوا إلى عبادة غير الله، والافتراء على الله، وادَّعوا لله تعالى ما ليس له.
وأقول: -ولله المثل الأعلى- هل يعقل أن تحب أحداً من الناس وتقول: أنا أحبه غاية المحبة، ولا تعادي من يفتري عليه أعظم الافتراء، ويبهته أعظم البهتان؟ مستحيل، حتى إن الواحد من الناس يقال له: ألم يكن فلاناً حبيبك، فيقول: نعم، هو حبيبي وأخي، لكن لما رأيته أبغض فلاناً، وافترى عليه، وكذا وكذا كرهته، فلسان حاله يقول: ليس بيني وبينه أي شيء، لكنه أبغض من أُحب، وكَذَب على من أحب، واتهم من أحب، وأبطل حق من أحبه محبة عظيمة؛ فكانت العاقبة أن أقطع ما بيني وبينه.
إذاً: هكذا المؤمنون لو أحبوا الله تعالى حق المحبة؛ لعادوا الكافرين أشد العداوة، وأحبوا المؤمنين أشد المحبة، ومنتهى العداوة أن يجاهدوا باليد بعد المجاهدة بالبيان، يجاهدون بالسنان مع إقامة الحجة عليهم بالدعوة والبرهان، وينتقلون معهم من حال المجادلة إلى حال المجالدة، وهذا لا بد منه، ولذلك تأتي هذه الصفة كأنها صفة لازمة.
فإنك لو تأملت السياق: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] فهل المحبة صفة لازمة أو عارضة للمؤمن؟ لا شك أنها لازمة، وكذلك قوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] هل هي لازمة أم عارضة؟ أيضاً لازمة وثابتة، إذاً يجاهدون في سبيل الله لازمة، لماذا؟ لأنه من المستحيل أن تكون بهذه الدرجة، وأن تدعو إلى الله، ولا تجاهد في سبيل الله؛ فلابد من المجاهدة.
هذه الأمة في مجموعها لا بد لها أن تجاهد؛ لأن من سنة الله تعالى أنه ما قام أحد بأمر هذا الدين إلا عودي، وهذا ما علمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ورقة بن نوفل، فأول ما نزل عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوحي، لم يكن قد قرأ عن أخبار الأنبياء من قبل، ولا علم ولا عرف ما ابتلوا به، فأتت به خديجة رضي الله عنها إلى ورقة بن نوفل، وكان رجلاً كبيراً قد أسنَّ، فذكرت له ذلك، فقال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا ليتني أكون فيها جذعاً إذ يخرجك قومك فأنصرك نصراً مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي ومات، فتعجب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما سمع ذلك فقال: {أو مخرجي هم} لماذا يخرجونني؟ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] هل فيها شيء يتطلب الإخراج أو الأذى؟ فقال له ورقة {ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي} وهو لا يعلم الغيب، ولكنه يعلم أنها قاعدة وسنة ماضية للرسل من قبل؛ لأنه يقرأ لأهل الكتاب أنه ما جاء نبي من الأنبياء ودعا إلى الله إلا عودي وحورب وأوذي؛ فمنهم من قتل، ومنهم من طرد، أو أوذي، أو حبس، أو إلى آخره.
فلابد من نوع من الأذى والابتلاء يصيب الداعية إلى الله، ولهذا يقول الله تعالى لعبده ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت:43] فليس فيه جديد {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:52] نفس العبارة {أَتَوَاصَوْا بِهِ} [الذاريات:53] هل كتب قوم نوح وثيقة وقالوا: يا عاد.
إن بعث إليكم رسول يقول لكم اعبدوا الله فقولوا له كما قلنا؟ وهل كتبت عاد إلى ثمود إذا جاءكم وبعث فيكم رجل ودعاكم إلى مثل ما دعانا إليه هود فقولوا له كما قلنا؟ أبداً.
لم يتواصوا به، إنما هي سنة واحدة، الطغيان واحد، والإعراض واحد، والرد واحد؛ لأنه كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيرا} [الفرقان:31]، إذاً: ما دام الأمر كذلك فكل من تصدَّى لهذا الدين لا بد أن يجاهد.(65/9)
الطائفة المنصورة
الطائفة المنصورة الموعودة بنصر الله تعالى من صفاتها أنهم يجاهدون ويقاتلون في سبيل الله، كما في الروايات الصحيحة {لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم}.(65/10)
أقسام الناس تجاه الطائفة المنصورة
والناس تجاه الطائفة المنصورة على قسمين: الأول: أعداء؛ فهؤلاء يقاتلون.
الثاني: طائفة أخرى يقرون ويوافقون الطائفة المنصورة، لكنهم يخذلونهم ولا يعاونونهم، فهاتان ليستا من الطائفة المنصورة.(65/11)
الدعوة والجهاد من صفات الطائفة المنصورة
الطائفة المنصورة: تدعو، وتأمر، وتنهى، وتجاهد، فمن خذلهم فليس منهم، ومن قاتلهم فهذا عدوهم، ومن المستحيل أن يكون منهم.
ومن العقبات السبع التي ذكرها ابن القيم رحمه الله العقبة السابعة: عقبة المراغمة، والمراغمة هي الجهاد فلا بد منه، فعندما ذكر العقبات مثل: عقبة الشرك، وعقبة الكبائر فإنه يوجد لله عباد لا يرتكبون الكبائر، لكن العقبة التي لا يستطيع أحد أن يتداركها أو يتجاوزها هي المراغمة، لا بد أن يسلط الله تعالى عليه عدواً أو يسخر من يعاديه ومن يؤذيه.
ولهذا ذكر ابن القيم رحمه الله عن نفسه في الفوائد قصة سلمان الفارسي عندما قال له أبوه: إما أن تعود إلى ديننا أو القيد، فقال: [[هذا هو الخطاب الذي قالته الأمم لأنبيائهم من قديم]] قال الإمام: 'وهو الخطاب الذي خوطب به الإمام أحمد عندما رفض القول بأن القرآن مخلوق، وهو الخطاب الذي قيل لـ ابن تيمية شيخنا شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله، وهو الخطاب الذي قيل لنا'.
فهذا لابد منه، وهذا هو الجواب الأخير: إما أن يعود في ملتهم وإما يناله من الأذى ما يستطيعون: رجماً، أو طرداً، أو إخراجاً، أو أذى، وربما وصل الحال كما فُعِل بأصحاب الأخدود، هذا شيء عجيب، وحالة نادرة أن يصل الأمر إلى أن يُحرق المؤمنون، ويرجع الملك إلى ملكه، وتبقى الأمور مستمرة، ولكن حكمة الله تعالى اقتضت أنه لابد من هذا، كما قال: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54].(65/12)
لا يخافون لومة لائم
قوله: {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] فيه معاني حكيمة وعجيبة، وكل القرآن فيه ذلك لمن تدبره وتأمله، لكن قوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ووصفهم بأنهم أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، كلها صفات نستطيع أن نقول: إنها معروفة، لكن لا بد منها وهي ضرورية للإنسان المستخلف الذي يريد أن يمكنه الله تعالى وأن ينصر به دينه.(65/13)
الخوف من قول الحق
لكن قوله: {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] كثير من الناس لا يمنعه من قول الحق، أو السير في طريق الدعوة والاستمرار فيه؛ إلا لوم اللائمين، فإن كان قريباً أو صديقاً أو محباً قال: يا فلان أنا أحبك، وأعزك، وأشفق عليك، ولا أريد أن تؤذى، ولا أريدك أن تهان ولا أريدك أن تُخذل، أريدك أن تقعد محترماً، وفعلاً قد يكون يحبه، ولكن هذا من لوم اللائمين.
وآخر قد يقول له أبوه أو أمه: تريد الجهاد، أخاف عليك أن تموت فمن يبقى لنا؟ أين نذهب من بعدك إلخ.
وهذه حرب أخرى تسمى في مصطلحات الناس اليوم: الحرب النفسية وحرب الأعصاب، والمهم أن هذا اللوم من المهم جداً أن يتجنب، وقد يقال لك: ألا يوجد إلا أنت حتى تقاتل الكفار وتجاهد، وأنت تريد الجنة، كلنا نريد الجنة، ونقاتل، وندعو، ونأمر، وننهى، ولو أوذيت أو عذبت لصبرت لكن المشكلة هي في أن يأتيك اللوم.
واللوم ليس شرطاً أن يكون من العدو؛ لأنه لو كان من العدو فلن يؤثر، لكن المشكلة إذا جاءك من المحب، ومن الموافق، وفي صورة الناصح المشفق الحنون الدءوب على مصلحتك، لكنك لو أطعته لتركت أمر الله تعالى، وتركت الجهاد في سبيل الله، ونزلت عن الدرجة التي يريدها الله تعالى لك؛ فالله تعالى يصطفى هؤلاء الأصناف بدرجة عالية عظيمة المقام، كمقام الأنبياء، بحيث يقفون ويقومون مقام الأنبياء، ويرثون ميراث النبوة، ويدعون إلى الله، هذه الدرجة العظيمة ينزلك عنها، نعم هو لا يريد أن يخرجك من الدين، ولا يريدك أن تترك الحق والخير، لكن ينزلك عن هذا المقام إلى مقام بعيد بالنسبة لهذا وإن كنت من المؤمنين، ومن الأخيار، ومن الصالحين الذين هم على خير ويدخلون الجنة، لكن ليس هذا هو الغرض الذي أنت تريده، ولا هو الشرط أو الصفة التي يريدها الله عز وجل فيمن يريد أن يمكنه وأن يستخلفه وأن ينصر به دينه ويظهره.(65/14)
لماذا لا يخاف الإنسان في الله لومة لائم؟
لا بد أن يهتم الإنسان دائماً بهذا الجانب: {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] ولا يخاف أبداً ما دامت أعماله حقاً، وبميزان الكتاب والسنة.
فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا دائماً يتحرون الحق حتى في الأمور المندوبة، وفي السنن المستحبة، ويعلل أحدهم ذلك بأني لا أخاف في الله لومة لائم.
أقول: هذه الجملة من الآية من المهم جداً لطلبة العلم أن يتدبروها، يقول ابن رجب رحمه الله: ' فإن من تمام المحبة مجاهدة أعداء المحبوب، وأيضاً فالجهاد في سبيل الله دعوة للمعرضين عن الله إلى الرجوع إليه بالسيف والسنان، بعد الدعاء إليه بالحجة والبرهان، فالمحب لله يحب اجتلاب الخلق كلهم إلى بابه' كما قال بعضهم: وددت لو أن لحمي قرض بالمقاريض، وأن أحداً لم يعص الله عز وجل.
وهذا من غيرته على دين الله، وغيرته أن تنتهك حرمات الله، ومن تعظيمه لله، ومن محبته لله لا يريد أن أحداً يغضب الله أو يتعدى حدود الله، فيؤثر أن يقرض بالمقاريض ولا يعصى الله عز وجل.
فالمحب لله يحب أن يكون الخلق كلهم عبيداً لله طائعين له، ولا يرضى أن أحداً منهم يعصي الله أويتجاوز حدوده، قال: 'فمن لم يجب الدعوة إليه باللين والرفق احتاج إلى الدعوة بالشدة والعنف: {عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل} {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] لا همَّ للمحب غير ما يرضي حبيبه، رضي من رضي، وسخط من سخط'.
وابن رجب عادته كعادة ابن القيم يتكلم بروحانية وبشفافية، فيأتي بأساليب وعبارات أدبية، ثم يستشهد بالشعر، وكأنه لا يتكلم بكلام الفقيه أو المؤصل لأنها لا تكفي، فينتقل إلى واحة الشعر والأدب، ويبدأ يعبر هذه التعبيرات الأدبية الجميلة، ويقول: ' لا همَّ للمحب غير ما يرضي حبيبه رضي من رضي، وسخط من سخط، فمن خاف الملامة في هوى من يحبه فليس بصادق في المحبة ثم أتى بهذه الأبيات:-
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخر عنكم ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة حباً لذكرك فليلمني اللوم
' وهذه الأبيات يقول فيها بعض الناس: إنها أبلغ أبيات قالتها العرب في الحب، وهذه الأمور ذوقية، وقد ترى أنت أن غير هذا أبلغ، لكن يقال في حق هذه الأبيات أو هذه القصيدة: إنها أبلغ ما قيل في المحبة وفي الحب: ثم قال في البيت الآخر:
وأهنتني فأهنت نفسي جاهداً أين المهان لديك ممن يكرم
أي: من أجلك أهنت نفسي، ثم قال:
أجد الملامة في هواك لذيذة حباً لذكرك فليلمني اللوم
كل من يلوموني أفرح؛ لأنه يلوموني في حبك، فهم يذكرونني بك، كما يقول:
لقد نقل الواشون عنك فقد سرني أني خطرت ببالك
وهذه قالها أحد شعراء الهوى، يقول: كلما يقولون عنك أنك لا تحبني، أنا أفرح به لأن المهم عندي أني خطرت ببالك، فانظر إلى هذا الحب العظيم العميق، سبحان الله! لكن كيف يكون شعور المؤمن إذا ذكر الله فإنه يستشعر أن الله يذكره، كما يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: {أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي} الله أكبر! جبار السماوات والأرض سبحانه الغني الحميد الذي يقول: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم:8]، ويقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] يقول: {إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي} أي حبيب في الدنيا كهذا، وبدون واسطة يعلم أن هذا ذكره، ثم قال: {وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه} فمهما تخيلت من ملأ في الدنيا، فالملأ الأعلى -المقربون عند الله تعالى- هم خير من هذا، ولهذا لما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للصحابي أبي بن كعب: {إن الله أمرني أن أقرأ عليك، قال: أو قد سماني الله عز وجل وذكرني باسمي، قال: فبكى}.
هكذا يكون المحبُ المحبةَ الحقيقية، أما أهل الهوى فيقولها في حق المحبوب.
فالعملية واحدة، والتضحية واحدة، والتعلق والتعب والمشقة لا بد منها، ولذلك لا تجد أحداً حتى من أكثر الناس تطفلاً على الحب -كما يسمونه- وعلى الغزل، إلا ويكتب: الحب عذاب على سيارته، وعلى أوراقه، وعلى كتاباته، فما دام عذاباً فلا تتعذب من أجل أي شيء، بل ينبغي إذا أحببت شيئاً وتعبت من أجله، فليكن مِنْ مَنْ يستحق ذلك الحب، ولا شيء يستحق أن يُحب على الحقيقة إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن والاه عز وجل، فلهذا يقول العلماء الربانيون، ومن يعرفون الله عز وجل: إن مثل هذه الأبيات التي تقال في حق المحبوبين -لغير الله- لا يليق أن تقال لغير الله عز وجل.
مثلاً: أبو فراس له أبيات عظيمة جداً في الحب، يقول:
فليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
فهذا كلام عظيم جداً، لكن لمن تقول هذا يا أبا فراس؟ كتب الرسالة إلى سيف الدولة، وسيف الدولة ابن عمه وكان يحبه؛ لكن لما اختلفا على الملك تقاتلا فكتب له هذه الرسالة، وكم تقاتل من إخوة وآباء وأبناء على الملك والدنيا، إذاً لا يستحق أحد أن يكون الذي بينك وبينه عامر ولو خرب ما بينك وبين العالمين، وأن تراقب وتراعي رضاه، ومحبته، ورغبته، وما عدا ذلك فكل ما فوق التراب تراب إلا الله عز وجل فقط، أما ما عداه فلا، ولو دققت النظر فإنك تجد أن هذا الكلام يقال على سبيل المبالغة التي لا تصل إلى درجة الحقيقة.
لكن بالنسبة لله عز وجل يمكن أن يكون وأن يوجد على الحقيقة.(65/15)
الانحراف في مفهوم قوله تعالى: (وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)
وهنا مدخل للصوفية الذين يكثرون من هذه الأشعار، ومن هذه الدعاوى، فإن الصحابة رضي الله عنهم والتابعون ومن بعدهم من الصالحين حققوا هذه المحبة على الحقيقة عملاً في قلوبهم وأحوالهم، أما الصوفية فادعوها دعوى -فقط- بغض النظر عن الزندقة، والكذب، ودعوى المحبة التي ليست إيمانية، ولو نظرنا إلى من يتكلم بهذه المحبة والوجد والهيام والشوق لوجدناها كلها دعاوى، وأشعار تقرأ وتنشد ويبكى عند سماعها، أما حقيقة هذه الأشعار والأذواق والأوجاد فقد عاشها الصحابة رضوان الله عليهم حقيقة، والتابعون، وأولياء الله العباد الصالحون، وإن لم يتمثلوا بها شعراً.
فهؤلاء الصوفية مثل الذي يتكلم ويتغزل بمحبوبته، والآخر مثل الذي حصل على ما يحب، وبذل، وأعطى، وأنفق، وأكرم حبيبه، وضحى من أجله بالفعل، هكذا الفرق بين هذا المتمني من بعيد، وبين الذي يحب ويدفع ويبذل ويضحي وإن لم يقل بيتاً من الشعر في هذا المحبوب.
فهذه الأبيات إنما تليق بالله تعالى، على تعديل بعض العبارات أحياناً، فقوله:
وقف الهوى بي حيث أنت
يجب أن تقف رغبتك ومحبتك وميولك حيثما كان أمر الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا تكون متقدماً عنه ولا متأخراً، هذا الذي يليق بك أن تكون، لا تغلو فتزيد من عندك في الدين ما ليس منه ولا تقصر؛ لأن السنة كما قال الحسن: [[وسط بين الجافي عنها والغالي فيها]] فلا تتقدم ولا تتأخر عن ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم قوله:
أجد الملامة في هواك لذيذة
نقول: يجب على الإنسان المؤمن أن يجد الملامة في محبة الله، وفي طاعة الله لذيذة.
وقوله:
حباً لذكرك فليلمني اللوم
فليلم اللوم، وليقولوا ما شاءوا، لماذا؟ لأن غاية ما يقولونه، هو نفس ما ذكره شعراء الغزل:
وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا سوى أن يقولوا إنني لك عاشق
أي أنه يقول: دعهم يسبوني وليقولوا: إنني عاشق، فهذا شيء أنا أفتخر به، وهذا المعنى أولى أن يحققه المؤمن؛ لأنه ماذا عسى أن يقول الناس فيك، إلا أنك محب لله، تجاهد في سبيل الله، وتدعو إلى الله؟ فليكن ذلك، وهل هناك شرف أفضل أو أعظم من هذا؟ هذا هو التعرض للوم الحقيقي.
وتعلمون أن طائفة من الصوفية سمت نفسها الملامتية، وألف فيهم أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي المعروف كتاباً مطبوعاً -وإن كان قليل التداول- سماه الملامتية، وهؤلاء الملامتية لماذا سموا بذلك؟ لأنهم يقولون: افعل أي شيء تلام عليه، واحرص واجتهد؛ لكي يلومك الناس من أجل العبادة، وكما يقول بعضهم: اذكر الله حتى يقال: إنك مجنون، اتركهم يلومون ويقولون مجنون، وقد ووصل الحال ببعضهم إلى أن يشبه المجانين، حتى إن بعضهم -نسأل الله العفو والعافية- غلا في ذلك فأصبح يرتكب بعض المحرمات وهو يعلم أنها محرمة؛ حتى يلومه الناس وحتى يسقط من أعينهم.
فهذا فهم ضال في اجتناب الرياء، واجتناب الغرور، أو الاغترار وتعظيم الناس، فانظروا كيف الأدواء النفسية صعبة جداً، والواحد لا يستطيع أن يعرفها، حتى قيل: إن أولياء الله وعباد الله من الصوفية إنما هربوا وفروا عن القضاء، وعن العلم، وعن مجالس الفتيا، وعن التبحر في المسائل، وعن التقرب إلى السلاطين، حتى يجتنبوا الناس، ويجتنبوا الدنيا، ويجتنبوا الاغترار والعجب؛ فلبسوا الثياب المرقعة؛ وأخذوا يأكلون مما يعطيهم الناس من أبسط العيش، وعاشوا بعيدين عن الناس، فسلموا من هذا.
ولكن تدرج الحال فأصبح الناس لا يعظمون القاضي لكونه قاضياً، أو الفقيه لكونه فقيهاً، إنما يعظمون من يسمونهم أولياء لله، فإذا وجدوا إنساناً في زاوية من زوايا المسجد يذكر الله، ويسبح، ويقرأ القرآن، وثيابه رثة عظموه وأكرموه وأجلوه، وقالوا: ادع الله لنا، وتمسحوا به، وتبركوا به، وأينما ذهب يتبعونه، فقالوا: إذا كان أن الأمر كذلك فالحل أننا نخالف مراد الناس، فنفعل أفعالاً يحتقرها الناس، ويتركونا من أجلها، حتى إن بعضهم كان يمشي في السوق فما وجد وسيلة ليصرف الناس عنه -لأنهم كانوا يمشون وراءه ويعظمونه- إلا أن سرق جوزاً من السوق وأخذ يأكلها فكرهه الناس، وقالوا: هذا ليس ولي، فتركوه وتفرقوا عنه.
فيقول أصحاب الملامتية، أصحاب المنهج الضال، الذين يعالجون الضلال بالضلال والخطأ بالخطأ: يجب على الإنسان أن يتعرض لما يلام عليه، وأن يعمل أعمالاً يلام عليها، فيسلم من العجب والرياء والغرور وما إلى ذلك.(65/16)
المفهوم الصحيح لقوله تعالى: (وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)
يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية -رحمه الله- وهو من أعطاه الله من الفقه والحكمة-: 'عجباً لهؤلاء، أطع الله تجد من يلومك' أي: لا تحتاج أنك تعصي الله حتى يلومك الناس، أطع الله، واتق الله، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر؛ تجتمع الدنيا كلها عليك لوماً.
فقد ليم الإمام أحمد، وتعرض للوم أيضاً شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، فأوذي وعذب وسُجِن وشُهِّر به، وكُفِّر وضُلِّل وبُدِّع، كل هذا تعرض له؛ لأنه استقام.
فيقول: ليس هذا حقاً، بل استقم على دين الله، ومن غير أن تطلب اللوم فسوف تلام، وعندها يجب عليك أن تصبر، أما أن تخالف شرع الله من أجل أن تلام فتحتسب هذا اللوم، أو تخالف حتى يدفع عنك الغرور والعجب، فهذا مخالف لمنهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فإنهمُ استقاموا على دين الله ولامهم الخلق وعُذِّبوا، وأوذوا، واضطُهِدوا، حتى أقرب الناس إليهم لامهم، فهذا أبو طالب يقول للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا محمد إن قومك فعلوا كذا، وعرضوا كذا، وقالوا كذا، فلم يأبه بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذاً: أنت استقم على الدين، وافعل الخير، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر وسيأتيك اللوم، وحينئذٍ لا تأخذك في الله لومة لائم، لأن هذه الصفة، هي كما قال الله تعالى: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54].(65/17)
حقيقة الولاية
وبعد أن ذكر هذه الصفات، قال: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54] أي: هذه الصفات لا يمنُّ الله تعالى بها إلا على من يصطفيهم ويختارهم.
إذاً: حري وجدير بكل مسلم أن ينافس وأن يسابق؛ ليكون منهم، والذي لا يريد أن يقدم هذه التضحيات، فلن ينال هذه الدرجة وهذا الاصطفاء وهذا الكرم وهذا الفضل، لأن هذا فضل الله يختص برحمته من يشاء {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23].
فعليك أن تجتهد لتكون ممن يختارهم الله ويصطفيهم، ولذلك يقول الشيخ 'وقوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54] يعني: درجة الذين يحبهم ويحبونه بأوصافهم المذكورة، {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54] واسع العطاء، عليم بمن يستحق الفضل فيمنحه، ومن لا يستحقه فيمنعه قال: ويروى أن داود عليه السلام كان يقول: اللهم اجعلني من أحبابك، فإنك إذا أحببت عبداً غفرت ذنبه وإن كان عظيماً، وقبلت عمله وإن كان يسيراً، وكان داود عليه السلام يقول في دعائه: اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ومالي ومن الماء البارد.
وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أتاني ربي عز وجل -يعني في المنام- فقال لي: يا محمد، قل: اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يبلغني حبك} وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: {اللهم ارزقني حبك، وحب من ينفعني حبه عندك، اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب، اللهم ما زويت عني مما أحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب} وروي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يدعو: {اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إلي، وخشيتك أخوف الأشياء عندي، واقطع عني حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك، وإذا أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر عيني بعبادتك} فأهل هذه الدرجة من المقربين ليس لهم هَمٌ، إلا فيما يقربهم ممن يحبهم ويحبونه -أي: أهل هذه الدرجة همهم في الدنيا هو الحصول على مرضاة الله، ومحبة الله تعالى- قال: قال بعض السلف: العمل على المخافة قد يغيره الرجاء، والعمل على المحبة لا يدخله الفتور' وقد تقدم الكلام في هذا عند الكلام على الحب والخوف والرجاء، ولكن أجمع ما يقال فيها: إن الخوف والرجاء كالجناحين، والمحبة هي الرأس، فليكن عملك كالطائر، الرأس هو الموجه وهو الأساس، والخوف والرجاء جناحان لا يميل أحدهما عن الآخر، ولو طار الطائر بجناح واحد لسقط.
إذاً: فتغييب جانب الخوف قد يغير الرجاء، وقد يضعف الرجاء، وإضعاف الرجاء لا ينبغي؛ وكما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه، ويرجو رحمة الله}.
قال: 'والعمل على المحبة لا يدخله الفتور' وهذا حق، فأي شيء تعمله وأنت تحبه لا يدخله الفتور، ولو كنت في آخر الليل وتريد أن تنام لأنك مرهق، فجاءك إنسان بعمل تحبه، وتشتاق إليه؛ فإنك تقوم وتنشط وتنسى النوم وتنشغل وتسهر، واليوم الثاني إذا كنت مريضاً فزارك إنسان تحبه، فإنك تقوم وتنسى المرض وهكذا، فالعمل على المحبة لا يلحقه الفتور، ولا يلحقه الممل ولا السأم، ولهذا كان العمل عملاً خالصاً لله تعالى؛ لأن العبد يعمله من محبة، وشوق، ويعمله بهذه الرغبة؛ فيكون ذلك من العمل الصالح الخالص عند الله تعالى.
قال: 'ومن كلام بعضهم: إذا سئم البطَّالون من بطالتهم، فلن يسأم محبوك من مناجاتك وذكرك.
قال فرقد السبخي: قرأت في بعض الكتب: من أحب الله لم يكن عنده شيء آثر من هواه، ومن أحب الدنيا لم يكن عنده شيء آثر من هوى نفسه، والمحب لله تعالى أمير مؤمَّر على الأمراء -الله تعالى يجعله أميراً مؤمراً على الأمراء- زمرته أول الزمر يوم القيامة، ومجلسه أقرب المجالس فيما هنالك.
والمحبة منتهى القربة والاجتهاد، ولن يسأم المحبون من طول اجتهادهم لله تعالى، يحبونه ويحبون ذكره ويحببونه إلى خلقه' لاحظ كيف أنه يحبهم ويحبونه!(65/18)
ضرورة تحبيب الله عز وجل إلى الخلق
وقد أضاف الشيخ هناك عبارة عظيمة جداً، وهي: 'ويحببونه إلى خلقه' وكثير من الدعاة وطلاب العلم ينسى هذا المعنى، يقول: أنا أحب الله ويكتفي، لكن لا تبغض الله تعالى إلى الخلق، وحبب الله تعالى إلى الخلق، كيف يحببون الله إلى الخلق؟ بالرفق، واللين والنصح، وبحسن المعاملة مع الخلق، وإذا أحب الناس هذا المخلوق ورأوه يدعو إلى الله، أو أنه عالم، أو مفتي، أو أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
فاعلم أن فيه صفة من صفات أولياء الله لأنه عمل الأعمال التي تقرب إلى الله، وعاملهم بالمعاملة اللينة الحسنة التي يحبونها، من غير تنازل أو تهاون أو مداهنة في الدين، فيحبب الله إليهم فأحبوا الله وأحبوا ذلك المخلوق.
ولهذا نوصي إخواننا في خطب الجمعة وفي المواعظ: أن تكون من موضوعاتها أو مما تستفتح به موعظتك هو تحبيب الخلق إلى الله، وبيان نعم الله، وتذكيرهم بنعم الله عليهم، فإذا ذكرتهم بنعم الله عليهم؛ أحبوا الله، واستشعروا التقصير والتفريط، وأنه لا يليق بالإنسان أن يقابل هذه النعم بتلك المعاصي والذنوب، وهذا من الحكمة في الخطابة، مع التخويف أيضاً والوعيد، لكن هذا جانب قد يُغفل عنه؛ لأن كثيراً من الوعاظ يقول: عندما تقول هذا حرام، والله تعالى توعد عليه بكذا، ومن فعله فقد تُوعِد بكذا، فإن الناس ينتهون، وهذا حق لكن لا ينسى الجانب الآخر، وهو أن تذكر الناس بالنعم، وكما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها}.
إذاً: علينا أن نعلم الناس أن الله تعالى أحسن إلينا بنعم عظيمة جداً، فإذا عرف ذلك أحب الله، ولذلك يجب أن نكون جميعاً ممن بِخُلُقِه وبتعامله يحبب الله إلى الخلق.(65/19)
حقيقة عمل الدعاة
يقول: 'يمشون بين عباده بالنصائح، ويخافون عليهم من أعمالهم -يوم القيامة- يوم تبدو الفضائح' فعمل الدعاة في هذه الأمة هو النصح، كما قال تعالى حاكياً عن رسله: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف:68] وفي الآية الأخرى: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ} [الأعراف:62]، وفي الآية الأخرى عن أحد الدعاة: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس:20]، {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُون} [يس:21].
فهم لا يريدون شيئاً كما حكى ربهم عنهم: {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [ص:86] وفي الآية الأخرى {مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ:47] وفي سورة هود: {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً} [هود:29].
هكذا قال رسل الله الكرام: أنهم هم ومن يتبعهم لا يريدون من الخلق مالاًً، ولا دنيا، ولا منصباً، ولا جاهاً، إنما نصحاً لهم، وإشفاق، ومحبة وحرص أن يكون هؤلاء الناس على طريق الخير، الذي يؤدي بهم إلى سعادة الدارين، والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.(65/20)
راحة المؤمن
يقول: 'أولئك أولياء الله وأحباؤه وأهل صفوته، وأولئك الذين لا راحة لهم دون لقائه' كما قال الإمام أحمد رحمه الله: 'لا يجد المؤمن راحة دون لقاء ربه'.
فترتاح من أي شيء قبل أن تلقى الله، نعم.
ما أمرك الله تعالى به فهو شاق، فقد أمرك بقول الحق، وقد يكون هذا مراً وصعباً وعظيماً على النفس، وأمرك بالجهاد، وهذا شاق عليك ومجهد لك، وأمرك بالصلاة، تقوم لصلاة الفجر، وإن كنت تؤثر النوم والفراش والدفء، فتقوم إلى الصلاة لتلبي داعي الله تعالى، وإن كان فيها مشقة عليك، وتنفق من مالك الزكاة الواجبة، أو الواجبات غير الزكاة كالصدقات، والمال أحب إليك، وتقاطع ابنك أو أخاك أو قريبك؛ لأنه أعرض عن طاعة الله، وهكذا فلا راحة في الدنيا.
ثم إن أعداء الله لا يتركونك ما دمت حياً.
متى ترتاح؟ لا يجد المؤمن الراحة الحقيقية إلا إذا تنزلت عليه الملائكة، كما قال تعالى: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] فدون لقاء الله لا يستطيع الإنسان أن يرتاح، حتى لو سلم من كل شيء فرضاً، فإنه لا يضمن لنفسه حسن الخاتمة، فيخاف والعياذ بالله أن يختم له بخاتمة السوء، فهو دائم الخوف من الله، والخوف مما أمامه.
فإذا بشر بهذه البشرى، ولقي الله عليها اطمئن، ولهذا كانوا كما حكى الله عنهم: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26] كانوا مشفقين، فأصبحوا بعد ذلك آمنين مطمئنين، بدَّل الله تعالى عنهم هذا بهذا والنتيجة هي: {لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:35]: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر:34] إذاً: كانوا في الدنيا حزينين مشفقين، وكانوا وجلين وخائفين، فجاءت الجنة لا حزن فيها ولا خوف ولا وجل، وإنما الطمأنينة، يلقون فيها تحية وسلاماً، ويبشرون بنعم الله تعالى، ويتمتعون بالنظر إلى وجه الله، وإلى لقاء أو مجالسة أحباب الله، الذين كانوا يحبونهم في الدنيا ولم يروهم، والآن يرونهم.
لأنك أنت في الدنيا تحب كثيرين، ولا تستطيع أن تراهم لأسباب كثيرة جداً، أما من مات ممن تحب فهذا أمر قد سبق.
فهل نستطيع أن نرى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة؟ لا نستطيع ذلك في الدنيا، لكنك تحب هذا، وأيضاًً يأتي أقوام من بعدك تحبهم لكنك ما رأيتهم، ولا تستطيع أن تعيش حتى تراهم، ففي الدنيا لا تستطيع أن تحصل فيها على كل شيء تريده، فهي ضيقة دائماً.
لكن في الآخرة من نعيمها: أن الله يجمع لك بين هؤلاء وبين هؤلاء، فتجد وتلتقي بمن تحب، وأعظم محبوب هو الله عز وجل، فالمؤمنون يرون ربهم -عز وجل- في الجنة، وهو أعظم نعيم على الإطلاق.
وترى من تحب من الماضين وإن كانوا قبلك بقرون، فلو أحببت أن ترى آدم عليه السلام، أو نوحاً عليه السلام، أو المؤمنين ممن نجوا مع نوح في السفينة، أو الصحابة، أو الأئمة كالإمام أحمد -مثلاً- وأئمة الإسلام وكل من تحب أن تراه وكذلك الذين لم يأتون بعد، فإنك تراهم هناك.
فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {وددت لو أنا رأينا إخواننا -كان يتمناها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالوا: يا رسول الله! ألسنا إخوانك، قال: لا، أنتم أصحابي، لكن إخواني قوم لم يأتوا} هم الذين نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم، هم الذين وجدوا الكتاب والسنة فاتبعوهما ولم يروا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فهذا يحصل في الجنة بإذن الله تعالى، والشاهد: أن المؤمن لا يجد راحة دون لقاء ربه.
قال: 'قال فتح الموصلي: المحب لا يجد مع حب الله للدنيا لذة، ولا يغفل عن ذكر الله طرفة عين' وبعض هذه الأقوال والآثار المنهج فيها معروف، فهي تحكى ولا يعني أن تلتزم بالدقة.
'وقال محمد بن النظر الحارثي: ما يكاد يمل القربة إلى الله تعالى محب لله، وما يكاد يسأم من ذلك' ولا شك أن من أحب الله تعالى حق المحبة، فإنه لا يمل القرب إلى الله ولا يسأم، ولا يكاد يسأم، لكن النفس البشرية بطبيعتها أنها تمل وتسأم، ولهذا ينبغي للمؤمن أن ينوع في العبادة، فهذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، ألَّا يتكلف في العبادة ما لا يطيق: {فإن الله لا يمل حتى تملوا} فإذا سئمت أو مللت، أو كدت تسأم وتمل من قراءة القرآن أو صلاة أو أي عمل فكف عنه، فإن الله لا يمل حتى تملوا.
قال: 'وقال بعضهم: المحب لله طائر القلب، كثير الذكر، متسبب إلى رضوانه بكل سبيل يقدر عليها من الوسائل والنوافل، دأباً وشوقاً'.
ولذلك قال الله في الحديث القدسي: {ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه} فهكذا المحب لله لا يزال يتقرب إلى الله بكل شيء، قال: 'وأنشد بعضهم:
وكن لربك ذا حب لتخدمه إن المحبين للأحباب خدام
' وهذا أيضاً مما ينبه عليه وهو: إطلاق الخدمة على العبادة، وقد تجدون أحياناً في كلام بعض العلماء ذلك، وأكثر من يستخدم ذلك الصوفية، والصحيح أن العبادة أجل من الخدمة.
والأفضل في حق الله تعالىألا نستخدم إلا الألفاظ الشرعية، فنقول: عبادته، ولا نقول: خدمته.
قال: وأنشد آخر:
ما للمحب سوى إرادة حبه إن المحب بكل برٍّ يضرع
وهذا أيضاً يؤكد ذلك، فهذا كله في محبة الله تعالى.(65/21)
كيف تنال ولاية الله؟
ثم قال الشيخ: 'ومن أعظم ما يتقرب به العبد إلى الله عز وجل من النوافل: كثرة تلاوة كتابه، وسماعه بتدبر وتفكر وتفهم' إذاً: هذا أمر عظيم جداً؛ لأن الكلام عن كيف تنال ولاية الله، وكيف تنال محبته عز وجل، وكيف نتقرب إلى الله.
فالتقرب إلى الله بالصلاة، وهذا قد سبق في قوله رحمه الله: 'وأعظم فرائض البدن التي تقرب إليه الصلاة'.
فأعظم الفرائض البدنية للتقرب إلى الله هي الصلاة، وأعظم النوافل قراءة القرآن، وهذا من فقه الإمام ابن رجب -رحمه الله- أنه جعل أعظم الفرائض الصلاة، وأعظم النوافل قراءة القرآن.
يقول: 'قال خباب بن الأرت لرجل: [[تقرب إلى الله تعالى ما استطعت، واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلامه]].
وفي الترمذي عن أبي أمامة مرفوعاً قال: {ما تقرب العبد إلى الله تعالى بمثل ما خرج منه} يعني: القرآن، لا شيء عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم' وإذا رجعنا للقاعدة -قاعدة المحبة الدنيوية- فكل من تحب، تحب كلامه، وتحب أن تقرأ له، وتحب رسائله، وتحب أن يخاطبك، أو تقرأ كلامه مكتوباً، وهذه حقيقة نفسية.
فالواجب أن يكون أحب شيء إلى العبد هو القرآن، يشغل وقته به، بل يتغنى، ومعنى يتغنى: يغتني به عما سواه، أو يتغنى به: كما أن أهل الدنيا تعجبهم الأشعار فيتغنون بها، ويترنمون بها، ويتذكرونها فيكون هو كذلك، بحيث يكون على لسانه، يقرأه، ويتلوه، ويتلذذ به.
قوله: 'لا شيء عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم، فهو لذة قلوبهم، وغاية مطلوبهم، قال عثمان رضي الله تعالى عنه [[لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم]] ' وهذا معيار عجيب اختبر به قلبك، وقلوب الناس.
ويوجد كثير من الناس لا يستطيع أن يستمع إلى صفحة مثلاً أو عشر آيات، ولو قلت له: اجلس نقرأ عشر آيات أو استمع لهذا الشريط، فإنه لا يطيق أبداً، إما أن يقفله، وإما أن يقول لك: أنا مشغول -والعياذ بالله- لأن قلبه مطموس كما قال الله عنه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14].
ومعنى: (ران) أي: مطبوع مختوم عليه، وأُغلق بحيث لا ينفذ إليه شيء من الحق فنعوذ بالله.
ومن أعظم مايجعل العبد كذلك، أن يدمن على سماع الأغاني، والأشعار الخالية عن ذكر الله، التي كما جاء في الحديث: {لأن يمتلأ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه، خيراً له من أن يمتلأ شعراً} فلو أن مدمناً على سماع الأغاني، أو هذه الأشعار الخالية من ذكر الله، قلت له استمع هذه الآيات؛ لا يستطيع ذلك، وإن كانت ذنوبه أقل فإنه يتحمل بقدر أقل وهكذا.
فعباد الله الصالحون يقول لهم: [[لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم]] لماذا الإنسان يقرأ ويقرأ، ثم يتعب ويمل أو يضعف؟ لشيءٍ في قلبه، فهذا هو المعيار، فانظر لنفسك فإذا وجدتها لا تطيق القرآن أو لا تستمع إليه، فاعلم أن داءً ومرضاً خبيثاً يداخلك فاجتنبه، وسارع إلى العلاج.
وبادر إليه.
وبهذه المناسبة أذكر أن أحد الشباب أرسل إلي رسالة يشكو ويقول فيها: إنني كنت أحب طلبة العلم، وأطلب العلم، وأحب المساجد، وقراءة القرآن، والآن لا أستطيع، حتى أصبحت أتخلف عن الجماعة، وأصبحت كذا؟ نسأل الله أن يرده إلى الحق والصواب.
فأقول: علينا جميعاً أن نبادر إلى العلاج قبل أن يستفحل الداء، انظر كم من مريض يذهب إلى الطبيب فإذا به بعد فترة قد مات، لماذا؟ لأن المرض قد انتشر واستشرى في جسده.
ومرض الأرواح والقلوب ليس مثل المرض البدني، ومن فضل الله أن جعل الإنسان حتى لو كان منغمساً منهمكاً إلى أقصى شيء، يمكن أن ينتشل نفسه بتوبة صادقة إلى الله، فالمهم أن تتدارك نفسك قبل أن تحاول أن تتوب فلا يقبل منك عياذاً بالله.
قال: 'وقال ابن مسعود: [[من أحب القرآن أحب الله ورسوله]] '.
قال: 'وقال بعض العارفين لأحد طلابه: أتحفظ القرآن؟ قال: لا، قال: واغوثاه با لله! مريد لا يحفظ القرآن، فبم يتنعم؟! فبم يترنم؟! فبم يناجي ربه تعالى؟! '.
وهذا وإن كان من كلام الصوفية، ولكن هذا القول صحيح، فالذي يريد أن يسلك طريق الله، وأن يتعلم ويتأدب وهو لا يحفظ القرآن فبم يتنعم! وبم يترنم! وبم يناجي الله!(65/22)
انحرافات في الولاية
من أكبر الأخطاء التي ارتكبها الصوفية وغيرهم ممن لا يدري: أنهم وضعوا أدعية، وأوراداً وأذكاراً في كتيبات، أو في أوراق، ونشروها بين الناس، ويقال: من قرأها فإن له كذا وكذا، مما لا أصل له في الدين، فيشتغل الناس بها عن القرآن، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى الكفر والعياذ بالله.
فـ التيجانية يقولون مثلاً: من قرأ صلاة الفاتح خيراً له من أن يقرأ القرآن ستة آلاف مرة، وهذا كفر لا شك فيه، وكلما وجدوا شيئاً غير القرآن يجعلون قراءتها خير منه؟ مادام هو مذنب قولوا فرضاً: من قرأها خير له من أن يتصدق بألف دينار -مثلاً- لكن تقول: خير من أن يقرأ القرآن، هل يعقل هذا؟!!! إنك مهما ابتدعت أو اخترعت أو اختلقت من أذكار، فلا يمكن أن تكون أفضل من القرآن، ولا يمكن أن تأتي بشيء أفضل من القرآن أبداً.
وأقول: كثير منهم لا يصل إلى هذه الدرجة من الكفر -والعياذ بالله- لكن واقع الحال عندهم أنهم يأتون بأدعية وأوراداً يقرءونها في الصباح والمساء، ومن هذه الأحراز الجوشن الكبير، والجوشن الصغير، والحصن الحصين، والحصون المنيعة، والعهود السبعة، وأشياء كثيرة منها ما لا أصل له، ومنها ما له أصل، لكن ليس بهذه الكيفية وبهذه الهيئة، ومنها ما يكون جملة من الآيات اختارها صاحب الحرز، لكن لم يرد الشرع بتحديد هذه الآيات، فيشتغل بهذه الآيات عن بقية القرآن أو عما فضله الله، نعم هو من القرآن، لكن هل يستطيع أحد أن يفضل شيئاً من القرآن على شيء من غير أن يبينه الله.
فمثلاً: الله عز وجل هو الذي أخبرنا أن آية الكرسي أفضل الآيات، وأن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وأن الفاتحة أفضل السور، فنحن حتى في هذه نتبع ولا نبتدع، ولكن نقرأ القرآن، ونتلذذ به كله.
وإن من أكثر ما يحول بين الناس وبين الخير إما صاحب فجور وشهوة، فيحول بين الناس وبين القرآن، بالغناء، والمزامير، والموسيقى، والأشعار، والقصص وما لا خير فيه، كما تشاهدون الإذاعات في آخر الليل، إذا قرب الثلث الأخير، تجد فيها الغزل والأشعار والهوى والحب سبحان الله العظيم؛ لأن قلوب الناس، ترق في تلك الساعات، فهم جاءوا إليها يرققوها بشيء رقيق، لكنه شهوة وفتنة، هذا هو الجانب الأول.
أما الجانب الثاني: الذي يأتي ليسد الحاجة لكن بغير الحق، كالذي يطعم الجائع نشارة الخشب، أو يطعمه ما لا يغني ولا يشبع.
فهؤلاء الذين وجدوا الناس محتاجين إلى الذكر ويريدون المناجاة، أعطوهم هذه الأوراد البدعية، والأذكار غير المشروعة، وقالوا لهم: اقرءوها في الصباح، واقرءوها في المساء، واقرءوها إذا قمتم في الليل، واقرءوها قبل أن تناموا إلخ، فأطعموهم مالا يغذي.
والحق: أن القلوب إنما يكون غذاؤها وترنمها، وحياتها، وروحها، وريحانها، وشفاؤها بقراءة كلام الله عز وجل.
حتى وإن قل التعبد بشيء من الحق ومن الخير فلو لم يقم العبد إلا بعشر آيات، ولو لم يقرأ إلا قل هو الله أحد، ولو لم يقرأ إلا آية الكرسي فهذا خير، لكن كلما زاد فهو خير له، ولهذا جعل الشيخ رأس النوافل قراءة القرآن.
نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلني وإياكم ممن يتلونه حق تلاوته ويتلذذون بذكر الله تعالى به، وبمناجاته بقراءته إنه سميع مجيب.(65/23)
حقيقة لا إله إلا الله
اشتملت هذه المحاضرة على نواح تتعلق بالتوحيد، تحدث الشيخ حفظه الله خلالها عن التوبة المطلوبة من العبد، وفتح الله باب التوبة أمام العبد، وبيَّن أن العبد فقير إلى ربه محتاج إليه، ثم تحدث عن حقيقة التوحيد، وضرب مثالاً لذلك بصدق إيمان سحرة فرعون، وما كان عليه الصحابة وسلف الأمة رضوان الله عليهم من تحقيق التوحيد وإخلاصه لله تعالى.(66/1)
إفتقار العبد إلى التوبة(66/2)
افتقار العبد إلى ربه
أيها الإخوة الكرام إن الله تبارك وتعالى يقول في محكم كتابه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:15 - 17].
والافتقار إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شأن كل مخلوق في هذه الحياة، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاء} [فاطر:15] فخاطب بها الناس جميعاً، فالملوك فقراء إلى الله تعالى، وأصحاب الأموال الطائلة فقراء إلى الله تعالى، والشباب والكبار، والعبيد والصغار فقراء إلى الله، وكل من على هذه الأرض فهو فقير بالذات إلى الله تعالى، والله هو المتفرد بالغنى المطلق، وهو الذي يقول: {يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم}.
ومع حاجتنا جميعاً إلى أن يطعمنا ربنا، ويكسونا، وأن يهدينا الصراط المستقيم، ثم بعد ذلك بيَّن سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غناه المطلق عنا جميعاً فقال: {يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً -ثم بين سبحانه كمال غناه في الرفق وفي الخير والعطاء فقال:- يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص المِخْيَطْ إذا أدخل البحر}.
فانظروا إلى كمال غناه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غنىً مطلقاً من جميع الوجوه، وانظروا إلى شدة افتقارنا إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو فقر من جميع الوجوه، فنحن مفتقرون إليه في غذائنا، وفي لباسنا، وفي هدايتنا، وفي كل شيء، فما هي حياتك يا بن آدم؟ ما هي أنفاس تدخل وتخرج! إن توقفت لم يعد هذا النفس، وقالوا: رحم الله فلاناً، أصابته سكتة قلبية فمات، فإما أن يصعد الهواء فلا يدخل، وإما أن يدخل فلا يخرج، فهذا هو حال الذي يسير وكأنه يخرق الأرض، أو يبلغ الجبال طولاً، فهذه هي حالنا وهذا هو فقرنا وحاجتنا إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا هو غناه المطلق عنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(66/3)
فتح أبواب التوبة
ومع هذا الغنى المطلق، يعاملنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما في الحديث: {إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل}، وقال في الحديث السابق: {يا عبادي! إنكم تذنبون في الليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم} فسبحان الله! مع غناه عنا يقبل منا التوبة من الذنوب ويغفرها لنا، ومع ذلك {فإن الله تعالى أشد فرحاً بتوبة العبد إذا تاب من رجل فقد دابته في الخلاء، حتى يأس منها، وقال: أنام تحت شجرة حتى يدركني الموت فاستيقظ فإذا دابته أمامه وعليها متاعه، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح} أي: أنه فتح عينه وإذا بدابته وعليها غذاؤه وطعامه واقفة أمامه، فسبحان الله ما أغناه وما أحلمه وما أكرمه! انظروا إليه كيف يعامل العصاة -وكلنا عصاة إلا من عصمه الله تبارك وتعالى- ثم انظروا كيف يغذو أمماً ويجود عليهم، وكيف يفتح لهم الأبواب ليتوبوا إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهم الذين عذبوا أولياءه وأحبابه، كما في قصة أصحاب الأخدود، تلك القصة التي وردت في سورة البروج، التي تحكي أن أناساً يحرقون عباد الله بالنار، ويرمونهم فيها، ويخدون الأخاديد، ويحفرون الحفر العميقة في الأرض ويقذفون عباد الله تعالى فيها لأنهم يقولون، كما حكى الله عنهم بقوله: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8]؛ لأنهم قالوا: آمنا بالله وكفرنا بك أيها الملك الذي تقول: أنا إله من دون الله، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10] فيفتح باب التوبة لمن يحرق أولياءه الموحدين بالنار وهم أحياء، فهذه معاملته للعصاة، كما يقول جل شأنه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُون * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45 - 46].
يفتح عليهم أبواب كل شيء ليستدرجهم بها، ولو تابوا لأخذوا هذه النعم، وأخذوا نعيم الآخرة، لو تابوا حتى عند وقوع العذاب أو قرب وقوع العذاب لمتعهم في النعم ولكنهم: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام:43] فهذه هي القسوة التي نشكوها إلى الله تبارك وتعالى، ولا تزال تصاحب الإنسان حتى وقت حلول العذاب، ولكن لو آمن قبيل أن يأتي العذاب لكان الحال كما قال تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يونس لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98] فقوم يونس عليه السلام آمنوا في آخر اللحظات التي انتهت فيها النذارة، وما بقي فيها إلا تحقق الوعيد، فآمنوا فأنجاهم الله من العذاب لأنهم آمنوا، فهذا على مستوى الأمم.
وأما على مستوى الأفراد فيفتح الله باب التوبة والرحمة: {إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر} فما دامت الروح لم تبلغ الحلقوم فباب التوبة مفتوح، فتب إلى الله، تب من الربا، وتب من الزنا، وتب من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتب من الحسد، ومن الغيبة، من النميمة، وقطيعة الأرحام، ومن أذى الجار، ومن كل الذنوب التي أنت أعلم بها، فتب إلى الله تعالى فالباب مفتوح.
كما أنه لا يقف الأمر عند هذا الحد، ولا يقف الأمر عند حد أن يتوب هذا العبد المذنب المخطئ المحتاج الفقير إلى الله فيعفو الله ويتجاوز عنه، بل هناك درجة أعظم من هذا {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:70] فسبحان الله! سجلات الإنسان حين يتوب إلى الله عز وجل -وهي سجلات ودواوين من المعاصي- يقلبها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دواوين من الحسنات، فهذا غاية الكرم ولا يفعل هذا إلا الله؛ لأنه هو صاحب الغنى المطلق وهو الكريم واسع الكرم.
فإذا تبت وصدقت مع الله وأخلصت في الإنابة إلى الله، فلا تنظر إلى الماضي، ولا تصدق الشيطان وأعوانه، الذين يقولون لك: أَبَعد أن بلغت السبعين من عمرك وفعلت كذا وكذا، تريد أن تتوب، لا تنفع توبتك، كأمثال قطاع الطريق، فهم أعداؤك وأعداء الله، فتب إلى الله في أي لحظة ما دمت لم تغرغر، وما دامت الشمس لم تطلع من مغربها، لأنك حين تتوب إلى الله تجد أن الدواوين التي يخوفونك بها تنقلب إلى دواوين من حسنات بفضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(66/4)
أساس التوبة
نعيم الله لا ينفذ وغناه مطلق، ولكن هل هناك من أساس للتوبة؟ أقول: نعم لابد من أساس لهذه التوبة، ولا بد من أساس للاستقامة، ولقبول العمل، وأعظم شيء وأساس كل شيء هو: عبادة الله وحده لا شريك له وأن يوحد الله.
(أي: أن نقول: أشهد أن لا إله إلا الله) ونحن صادقين في هذه الشهادة، فنحقق هذه الشهادة، فهذا الكرم الذي رأيتموه، يكون لأهل التوحيد، ولأهل النجاة، ولمن حقق الشهادة.
أما من أشرك بالله -عافانا الله وإياكم- فلا ينفعهم من أعمالهم شيئاً، وإن اجتهد في الصلاة، والصيام، والإنفاق، والبر والطاعة، ما دام يشرك بالله تعالى، ويدعو ويسأل غير الله، ويستعين بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، ويطيع أمر غير الله ويعصي أمر الله، ويعلم أن هذا تشريع أو قانون مخالف لما أمر الله، فكل أنواع الشرك، هي الخطر العظيم، وهي التي تجعل كرم الجبار ونعمته وسعة جوده تنقلب غضباً ومقتاً وطرداً ولعناً عافانا الله وإياكم.
فمع وجود الشرك: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار} [المائدة:72] فإذا سمعنا أحداً يتكلم في أنواع الشرك فليكن الواحد منا كله أذن صاغية، وإذا سمعنا أحداً يتحدث عن التوحيد فلنلقي إليه بأسماعنا وقلوبنا لنعرف معنى التوحيد ونحقق ذلك التوحيد لأن المسألة ليست هينة.
فإذا كان كرم الله تعالى لا يكون إلا لهؤلاء، وكتب أنه لن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، وحرَّم الجنة على المشركين، ونحن لا نريد إلا الجنة، وكل ساعٍ يسعى من عباد الله في هذه الحياة إنما يريد وجه الله ويريد الجنة، ونعوذ بالله أن تكون نهاية هذا الكدح هي النار نسأل الله أن يعافينا من سوء المصير.(66/5)
التوحيد أساس العمل
التوحيد هو سبيل النجاة في الدنيا والآخرة، للكافر وللمؤمن، ولكن قد يقول القائل: علمنا كيف يكون التوحيد سبيل نجاة للمؤمن، لكن كيف يكون للكافر هذه الخاصية في التوحيد؟ فأقول: إن المشركين إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، حتى إذا جاءتهم ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان -فعندها- دعوا الله مخلصين له الدين، فينجيهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بالتوحيد الذي هو مناط النجاة، فهو المفزع الذي يفزع إليه حتى الكافر: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62].
فالمضطر أيّاً كان، مسلماً كان أو يهودياً أو نصرانياً، فهو يدعو الله إذا انقطعت به كل الحيل، فيستجيب له الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] أو {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم:33] لماذا؟ لأنهم نسوا الله لما نجوا إلى البر.
فالتوحيد ثمرته وفائدته تتحقق حتى في الكافر إذا أخلص في هذه الحياة الدنيا، وإن كان لا يواظب عليها، فبالله كيف نتوقع أن يكون للمؤمن؟ وكيف ينبغي لنا؟! نحن الذين نقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، هذه الكلمة العظيمة، التي نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلها آخر كلمات حياتنا وأن يميتنا عليها وعلى تحقيق معناها، ويحيينا عليها إنه سميع مجيب.(66/6)
حقيقة الشهادة
إن شهادة أن لا إله إلا الله ليست مجرد كلمة أو مجرد عبارات، لكن حقائق هذه الكلمة التي بعث الله تبارك وتعالى بها أنبياءه جميعاً {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256].
فقد بعث الله الأنبياء جميعاً بشهادة أن لا إله إلا الله، ومعنى لا إله إلا الله: أن يكفر بالطاغوت ويعبد الله وحده، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256]، والعروة الوثقى هي: شهادة أن لا إله إلا الله فلا تقبل الصلاة من غير لا إله إلا الله، كما قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] فلا يقبل الله العمل أبداً، بل هو كرمادٍ اشتدت به الريح في يوم عاصف؛ لأنه ليس مبنياً على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وعلى توحيد الله تبارك وتعالى.
والتوحيد الذي هذا ثمرته ليس أي كلام، فالإيمان والتوحيد يتفاوت وله حقائق، فالإسلام إن كان وراثياً عن آبائنا وأجدادنا فهذا شيء حسن، ولكن هذا لا يكفي لأنه يحتاج إلى الإيمان الذي إذا جاءته شدة، وإذا جاءت الشهوة من المال الحرام ومن النساء الحرام وأعرضنا عنها ابتغاء وجه الله فهناك نكون موحدين، وإذ جاء الداعي ليدعوك بتأخير الصلاة، أو إلى التهاون بأمر الله وتركته استجابة لأمر الله فهنا اختبر توحيدك، وإن سمعت آيات الله، ووجدت خشوعاً ورّقةً في قلبك فاختبر توحيدك هنا، فإن وجدتها لا تصبر على ما حرم الله من اللهو والغناء وتتلذذ به وتعرض عن سماع القرآن، فاعلم أن توحيدك ناقص أو أنه مفقود.(66/7)
سحرة فرعون
لابد أن نعلم أن السحرة الذين وحدوا الله وآمنوا بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كيف كان توحيدهم؟ وكيف كان إيمانهم؟ لما ألقوا حبالهم وعصيهم فألقى موسى عليه السلام عصاه {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:117 - 118].
فما كان منهم لما أن رأوا الآيات البينات الباهرات التي لا يمكن إلا أن يذعن لها القلب ويستسلم لها إلا أن {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَموسى} [طه:70]، آمنوا بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فأجابهم الطاغوت بالتهديد -فرعون-: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} [طه:71].
فأخذ يتوعدهم ويهددهم كما ورد في آيات كثيرة من كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فماذا قال السحرة؟ وانظروا إلى حقيقة التوحيد من أول لحظة: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:72 - 73].
فهذا هو التوحيد، وهذه هي حقيقته، فهناك القتل وهناك الصلب، من جبار طاغوت يملك ذلك، ويتوعد عليه، وأول الأمر كانوا يقولون له: {أَإِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:41 - 42] إن انتصرتم على موسى فلكم الأجر ولكم الجوائز وإنكم من المقربين، ثم لحظات وإذا به يقول: أقتل وأفعل وأفعل، وهم يقولون: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] فهو لن يخوفنا أبداً؛ فمن عرف حقيقة الإيمان وحقيقة التوحيد، فلا يخاف إلا الله عز وجل ولا يبالي في دينه {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72].
فكانت نهاية فرعون الغرق، ومنذ أن وضع رجله في البحر انتهى فرعون {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72] فإنك إن ملكت الجسد لتقطعه فممكن، لكن هل تملك القلب؟ وهل تملك الإيمان؟ وهل تملك أن تنتزع التوحيد؟ لا، فهذه قلوبنا قد وجدت الله، وآمنت، وتعلقت بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي سوف يطهرها ويغفر لها الخطأ الذي كنت تكرهها عليه من السحر، ومما حرم الله تبارك وتعالى.
فخوفهم من عذاب الآخرة، جعلهم ينسون عذاب فرعون وصلبه وأمره كله {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72].(66/8)
الترقي في درجات التوحيد
كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه من الذين ضربوا المثل الأعلى في تحقيق التوحيد لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وما جاهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قريشاً ثلاث عشرة سنة إلا ليحقق شهادة أن لا إله إلا الله، فهذا أمر ليس هيناً، فما نزلت الصلاة إلا لتكمل ولتزيد شعبة من شعب لا إله إلا الله.
وأما في المدينة فنزلت الزكاة والصيام وهما شعبتان من شعب لا إله إلا الله، ومن شعب الإيمان أيضاً لتكون كل حركات، وسكناته المرء لله {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
فهكذا يجب أن يكون المؤمن، ولهذا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الإيمان بضع وستون شعبة فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان}.
فكل أعمال البر وكل أعمال الخير كما هو في مذهب أهل السنة والجماعة - شعب من شعب الإيمان، فإذا حققت ما أمر الله في توحيده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيما بينك وبينه، وفيما بينك وبين الناس، وفيما بينك وبين نفسك في كل أمر، فأنت في ذلك تحقق التوحيد وترتقي في درجات الإيمان والتوحيد.
وهكذا أوصانا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: {اتق الله حيثما كنت} فهذا هو جانب المعاملة مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فضع هذا في حسبانك، واتق الله حيثما كنت، وأينما كنت في سرك وعلنك في بيتك وفي المسجد أو في أي مكان {اتق الله حيثما، كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها}.
فكلما راودتك نفسك وعملت المعصية -وهي أمارة بالسوء وهي لا بد فاعلة- فأتبع السيئة حسنة تمحو لك تلك السيئة، وأما مع الناس فعاملهم بخلق حسن، فإذا أصلحت سريرتك، وإذا حققت هذا فأنت ترتقي في درجات الإيمان والتوحيد، حتى تصبح من المحسنين الذين قال فيهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يبين درجة الإحسان حين قال له جبريل عليه السلام: {فاخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك}.
أي: أن تعبد الله كأنك تراه، فحين تصلي ولا أحد من الناس يتهمك في شيء لأنك تصلي ولكن أن شيئاً من هذه الصلاة -ولو قل- لغير الله فتحاسب نفسك، لماذا كان شيء من هذه الصلاة في غير ما أمر الله ولم يكن لله؟ وأيضاً حين تنفق المال وأخرجت منه درهماً أو ديناراً لغير الله، فتذكر أن هذا لغير الله، وحين تطلب العلم تعلماً أو تعليماً فعليك أن تنظر وأن تتفكر في نفسك هل هذا الشيء لله أو لغير الله؟ نسأل الله أن يجعل أعمالنا جميعاً خالصةً لوجهه الكريم فهذا هو تحقيق التوحيد.(66/9)
توحيد الرعيل الأول
التوحيد من شدة صفائه ونقائه أن أدنى شيء يؤثر فيه ويخدشه، لأنه أنقى وأعظم الأشياء، والناس كثيراً ما يرتكبون المعاصي اغتراراً منهم بأنهم محققون للإيمان والتوحيد، أو أن هذه المعاصي لا يبرح منها أحد، أو لأنها قد وقعت فيمن قبلنا، وهذا من غرور الشيطان ومن تزيينه.
فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم لو وقع في زمانهم شيء من هذه المعاصي مع أن إيمانهم وتوحيدهم كان كالبحر العظيم، الذي مهما تلقي فيه بنجاسة من بول أو غائط فلا يؤثر فيه؛ لأنه بحر خضم كبير، ولديهم من قوة الإيمان ومن أعمال الخير والبر الشيء الكثير، فوقع في زمانهم أن فلاناً زنا وأن فلانة زنت، وأن فلاناً شرب الخمر، ولكن أين نحن منهم؟ إنما نحن كبركة صغيرة إن وقع فيها شيء من النجاسة تنجست.
فهذه الأمور تؤثر في القلب بقدر ما في القلب من إيمان من حقائق الإيمان والتوحيد، ولذلك الزاني الذي يزني في هذا الزمان هل فيه -وهو أعلم- من الإيمان مثل المرأة التي زنت في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ تأتي إليه فيردها وهي حامل، ثم يردها ثم تأتي إليه بالولد وبيده كسرة خبز لتُبِرهن له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أنه يأكل وأنه مستغنٍ عنها، لأنها تريد أن يطهرها ثم يرجمها، ويقول: {لقد تابت توبة لو وزعت على أهل المدينة أو أهل الأرض لوسعتهم}.
فهذه التوبة وهذا الصدق مع الله سبحانه تعالى إذا وقع معه الزنى فعلاً، فنقول: إنما هو مثل ما لو ألقيت النجاسة في البحر فلا يضره، فهذا إيمان قوي في هذا العمق، ولم يكن حالهم كحال الذين يزنون ويعصون، ويقولون: عندنا توحيد، فأين التوحيد وأين الإيمان مع الانهماك في المعاصي، ومع مجاهرة الله تعالى؟!(66/10)
الحياء من الإيمان
ولقد أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المؤمن بالحياء كما في الحديث: {والحياء شعبة من الإيمان} فأين نحن من الإيمان بهذه الشعبة -شعبة الحياء- التي نص عليها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فهل عندنا حياء من الله؟! الإنسان منا يأكل والمزمار يُغني أين هذا من حياة السلف الصالح؟ هذا نافع يُحدِّث عن ابن عمر أنه كان ماشياً فسمع مزماراً فوضع ابن عمر يديه على أذنيه، فقال له نافع: لم فعلت هذا؟ قال له ابن عمر: {مرَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإذا براع وبيده قصبة فوضع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده هكذا} فوضع نافع يده -وهو لا يدري بالحكم وكان صغيراً.
فهذا جيل يبلغ الحياء من الله بالرجل منهم أنه لا يسمع، ويعتزل المعازف حتى المرء الصغير منهم، ونحن نسمع المعازف والأغاني ونحن نأكل نعم الله، وننام في صحة وعافية، فماذا يقول الإنسان في هذه الحالة؟! أيقرأ الأذكار الواردة؟! أيحمد الله، وينام على السرير؟! وفي السجون وغيرها، فهل يقول: الحمد لله؟ وهل يدعو بالأدعية الواردة أو بدلاً من ذلك يسمع الغناء؟ فأين إيمانه وأين حياؤه؟ ينظر الإنسان إلى امرأة لا تحل له في تلفاز أو مجلة أو في الشارع وهي تعمل وتقوم بما تقوم به من حركات، وتقول: هذا مؤمن، فأين الحياء من الله؟ هذا التعري وهذا التبرج يتنافى مع الحياء تمام المنافاة، وهو الذي حرص عليه إبليس منذ أن أخرج أبوينا من الجنة ووسوس إليهما {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} [الأعراف:20] فهذه هي الخطة الشيطانية القديمة، فإذا نزع الحياء انتهى كل شيء {إن من مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى، إذا لم تستح فاصنع ما شئت}.
وإذا لم يوقفنا إيماننا في هذه الشعبة، فأين حياؤنا من الله عز وجل، إذا وجدنا صاحب منكر ولم ننكر عليه، ونمر بأصحاب المنكرات كأن يكون فاتحاً للمتجر والناس يصلون ولا نقول له: صلِّ، فأين حياؤنا من الله؟ وليكن تغييره بالأسلوب الحسن، فالمهم أن تدخل الإيمان في قلبه، ولا نريد تخويفاً ولا ترهيباً، وإنما نريد أن ندخل الإيمان في قلبه، فهل فعلنا ذلك؟ بل ذهب بنا ضعف الحياء إلى أن نؤيد صاحب المنكر على منكره.
فهذا غاية الجرأة على الله وغاية التجاوز لحدود الله أن نتعاون على الإثم والعدوان ولا نتعاون على البر والتقوى، فلو اختبرنا إيماننا، وتوحيدنا عند شهوة أو فتنة لسقط فيه إلا من رحم الله.
فهذا كتاب الله بين أيدينا، هل فيه آية واحدة علَّق الله فيها دخول الجنة على الإسلام، أو جعل الإسلام شرطاً في دخول الجنة، أو وعد المسلمين أنهم من أهل الجنة؟ لا تجدونه يقول: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [الشعراء:227] إيمان وليس مجرد الإسلام، والإيمان درجة أعلى والحياء شعبة منه، فهل نحن فعلاً مؤمنون؟ هل نطمع بجنة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ وهل طَمَعُنَا ورجاؤنا فيها وهم وخيال، أم هو على شيء؟ فيجب أن نراجع أنفسنا، ويجب أن نحاسبها على كل صغيرة وكبيرة، ونحن قادمون على موسم عظيم وهو موسم الحج، وهذه العبادة كغيرها من العبادات إنما بنيت وركّبت وأسست على التوحيد، وهذا البيت أول من جدده إبراهيم عليه السلام، فإبراهيم إمام الموحدين، فقام هذا البيت على التوحيد.
وكان هذا البيت قبلة المسلمين جميعاً للتوحد، مبدأ واحد، وغاية واحدة، ومقصد واحد إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} [الحج:26] فأول شيء لا تشرك بي {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج:26] ثم ابنِ البيت، فبني البيت على أساس التوحيد الخالص لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فيجب علينا أن نكون في أعمالنا جميعاً منطلقين من منطلق تحقيق التوحيد، وتحقيق متابعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يتحقق هذا إلا بهذا، فنصلي كما صلّى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونحج كما حج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونذكر الله كما ذكره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وندعو إلى الله كما دعا إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي كل أمر من الأمور نتمثل نهج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا تحقيق التوحيد والشطر الأول أشهد أن لا إله إلا الله.
والشطر الثاني من تحقيق التوحيد هو: أشهد أن محمداً رسول الله، فإذا اتخذنا غيره قدوة، فصلينا على غير طريقته ومنهجه، وذكرنا الله على غير طريقته صلى الله عليه وسلم ومنهجه، فما حققنا شهادة أن محمداً رسول الله، وكأننا نشهد أن الشيخ فلان أو علان هو الذي يتبع، وهو الذي يُقتدى به، وهو الأسوة، وإن كنا نقول باللسان: أشهد أن محمداً رسول الله.
فتحقيق التوحيد هو أعظم مطلب، وهو الذي به تنال رحمة الله، وتنال النجاة والفوز في الدنيا والآخرة، ولا يكون هذا الفوز إلا بأن يُعبد الله وحده لا شريك له، وأن يُعبد الله بما شرع، وبما عمله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو القدوة، والأسوة، الذي نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يحيينا ويميتنا على سنته والاهتداء بهديه والاقتداء به، إنه سميع مجيب.(66/11)
الأسئلة(66/12)
هل الصوفية من الإسلام؟
السؤال
هل الصوفية من الإسلام؟ نرجو التحدث عن طرق الصوفية؟
الجواب
أنتم جميعاً -والحمد لله- تقرءون كتاب الله، وتقرءون سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهل وجدتم في آية منه أو في أي حديث أن الصوفية من الإسلام؟ لا يوجد، ولكن هل في المسلمين صوفية؟ فنقول: نعم، لكن لا يوجد في الإسلام صوفية، أو تصوف؟! إذاً: الانحراف وقع من المسلمين، فهم الذين أدخلوا التصوف، وأما القرآن فهو بين أيدينا، ولا يوجد فيه تصوف، ولا يمكن للكتاب الذي أنزله الله تبارك وتعالى هدىً ونوراً وشفاءً ورحمةً أن يأتي بهذا المذهب الوثني القديم، الذي يسمونه تصوف، فالناس إنما يقصدون الله، فكثيراً ممن يعبدون الله كرهبان النصارى يظنون أنها لله، وأنها العبادة المقبولة، وكذلك رهبان البوذيين والهندوس يظنون أنها تقربهم إلى الله، وكل واحد يقول هذا، لكن هل هي بالتمني؟ يقول الله تبارك وتعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] ويقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} فعمله مردود.
وقد يقول: قصدي وجه الله، وقصدي الخير، فحين نصلي الظهر خمس ركعات فما قصدنا إلا الخير! فلا يقبله الله منهم لأنه ليس عليه أمر الله.
وقد يقول: إن الصوفية فيها ذكر لله عز وجل فمثلاً عندما نقول: يا لطيف! إحدى عشرة ألف مرة، وأنت تقول: سبحان الله، والحمد لله مائة مرة، فأين الأحد عشر ألف من المائة؟! فنقول: ليست العبرة بالكمية، وإنما هي بالاتباع، فهل شرع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا؟ لا لم يشرعه، فإذاً نقف عنده.
وفي القرآن نقول في كل ركعة: {اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم} [الفاتحة:6 - 7] {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] صراط واحد مستقيم، فهذا هو الإسلام، أما الصوفية فتنطوي تحتها مئات من الطرق، فافرض أن واحداً من الشباب اهتدى فأي الطرق يتبع؟ فهذه تجعل الذكر بهذا الشكل، وهذه عندها الرقص بهذا الشكل، إذاً فأيها دين الله عز وجل؟ وأيها يقبل الله عز وجل؟ فإذا قلت النقشبندية، فلماذا لم تكن القادرية؟ فهم محرومون ومساكين!! فكم من طريقة لديهم؟ ومع ذلك لو دققنا فإن الله لا يقبل من هذه شيئاً، فهذه هي السبل {فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153]-أي: الصراط المستقيم- {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153].
فهذه الطرق ماذا نقول عنها؟ لا يتسع المجال للكلام عنها، ويكفي أن نعلم أن كل ما لم يشرعه الله باطل، وهذه لا أصل لها لا من كتاب ولا من سنة، ومن تصوف من المسلمين ففيه من البدعة بحسبه، فإن تصوف تصوفاً شركيا فهو مشرك، وإن كان على بدعة أقل فهو أقل، وإن كان أخذ شيئاً بسيطاً فهو بقدر ما أخذ.
فهذه حقائق الإيمان، وهذا من التنبيه، أتظنون أحداً يغش ويقول لك: أنا غشاش، وهل تتوقعون هذا الشيء؟ فلو كان أحدهم يبيع (طماطم) لا تصلح، فهل سيقول: أيها الناس! تعالوا اشتروا الطماطم الفاسدة؟ لا، وإنما يقول: النظيفة الطيبة الممتازة الرخيصة، وهل تريدهم يقولون لك: هذه هي البدعة وهذه هي الضلالة؟ لا، بل يقولون لك: هذه هي السنة، وهذا هو الحق وهذا هو الدين، فلا ننخدع وفقنا الله وإياكم للطريق المستقيم.(66/13)
العلم الروحاني
السؤال
هل هناك علم يسمى علم الروحانية؟ وهل هو التعامل مع ملائكة الرحمن، لأن هناك من يدَّعي هذا، نرجو التوضيح؟
الجواب
يوجد كذابون ودجالون من السحرة ومن الصوفية، وهي مختلطة مع بعضها البعض، فالذين وصلوا في التصوف إلى هذه الدرجة، يقولون: نحن أناس روحانيون، ونتعامل مع العالم الروحاني، حتى إن بعضهم لا يأكل اللحم، ويقول: من أجل أن أتروح، فما يأكل إلا النباتات لكي يتروح، ويعيش مع العالم الروحاني، فمن العالم الروحاني هذا؟ فلو قلت له: اكتب لي شيئاً عن العالم الروحاني، فسيكتب لك هذه الأسماء التي لا تستطيع أن تقرأها، ويقول: هذه أسماء الملأ الروحاني.
هذا هو الملأ الشيطاني، وهذه هي أرواح الشياطين التي يتعامل معها، وهذا هو ما قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح من حديث عياض بن حمار عن الله عز وجل: {وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين؛ فاجتالتهم عن دينهم، فحرمت عليهم ما أحللت لهم}.
فهؤلاء يحرمون ما أحل الله من الطيبات، ومن أكل ذات الروح، أسوةً بِعُبِّادِ الهنود الذين لا يأكلون أبداً أي شيء فيه روح، حتى البيض يقولون: هذا نتيجة شيء فيه روح، فلا نأكله، ولا يأكلون إلا النباتات، فهكذا عباد الهنود، وهؤلاء السحرة والدجالون يعملون مثلهم؛ لأنهم على نفس المنهج، فهذا العالم الذي يتحدثون عنه ليس عالم الروحانية، بل هو عالم الشياطين، والشياطين عالم {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُم} [الأعراف:27].
ويوم القيامة إذا بعثهم الله وسألهم فإنهم يقولون: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام:128] وأما الملائكة الحقيقيون فإنهم يقولون كما ذكر الله ذلك عنهم: {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:41] فيدعون أنهم يعبدون الملائكة، وهم في الحقيقة يعبدون الجن، ويعبدون الشياطين من دون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فلا تصدق أن هناك عالماً بهذا الشكل، فعالم الملائكة الأطهار الأبرار لا يتعامل مع هؤلاء الأرجاس، وعباد الله من الملائكة هم في كل مكان، فيذكر فيهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنهم يحضرون حلقات الذكر، لهم أعمال؛ فمنهم الكرام الكاتبون، ومنهم السائحون في الأرض، ومنهم ومنهم، فهؤلاء لا يدعون إلى شركٍ عياذاً بالله، ولا يأمرون به، فهم معصومون عن ذلك، وليس هؤلاء من الملائكة، ولا يتعامل تاركوا الدين -هؤلاء الضالون- مع الملائكة، وإنما مع الشياطين.(66/14)
حكم إتيان الكهنة والعرافين
السؤال
ما حكم الذهاب إلى العرافين والسحرة؟
الجواب
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيّن ذلك فقال: {من أتى عرافاً أو كاهناً لم تقبل له صلاة أربعين يوماً}، والحديث الآخر الذي يقول: {من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد} ولا يوجد تعارض بين الحديثين، فإنه ذهب إليه ولم يصدقه في كلامه فلا تقبل له صلاة أربعين يوماً.
لكن إن صدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن مما أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله تعالى: {لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65] فهذا مما أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن خالفه فقد كفر بما أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه اعتقد أن أحداً غير الله يعلم الغيب.(66/15)
حكم قراءة الكف
السؤال
قرأت في إحدى المجلات أن قراءة علم الكف ليس من علم الغيب؟
الجواب
السحر أنواع، والرمل أنواع، والعرافة أنواع، فما الذي يخرج الكف عن ادعاء علم الغيب؟ بأي كتاب أم بأية سنة، ما الذي يستثنيها؟! أجاء فيها نص أم جاء فيها دليل؟ فهذه كلها أخاديع وحيل سواء قرأها في كف، أو طست كبير، أو وضعها تحت الوسادة، فأياً كان، فكل ذلك من ادعاء علم الغيب، ومن صدق أن أحداً يعلم الغيب فقد كفر بما أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:27].
أي: من أطلعه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على شيء من الغيب من الأنبياء والرسل، وهؤلاء قد ذهبوا إلى الله، أو عبداً من عباد الله الصالحين، يرى رؤيا حق في المنام، فهذه أمور معروفة محددة، أما هذه الدعوى العريضة، فهي من الباطل، فلا يغركم الشيطان بصحة شيء مما قيل لكم، فهذه يلقيها الشيطان على لسان الكاهن، وبينها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأحاديث الصحيحة، أن من الفتنة أن يلقي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الشهاب على هذا الذي اقتبس أو سمع من الملأ الأعلى شيئاً من علم الغيب، فلا يصيبه الشهاب حتى يلقي إلى وليه من الإنس كلمة مما سمع، فيأخذها الإنسي، فيجعل معها مائة كذبة، ثم ينشرها بين الناس، فيأتي الشيطان وأولياؤه، فإذا قيل لهم: إن فلاناً كذاب ودجال، فيقولون: أرأيت في ذلك اليوم قبل عشر سنوات لما أخبرنا عن فلان وكان الكلام صحيحاً! فإذا كان ذاك اليوم صدق، فما بال الأيام الأخرى التي كلها كذب! فهم لا ينظرون إلى المائة، ولكن إلى الواحدة، التي جعلها الله فتنة، فما علينا إلا أن نحذر من الفتن عافانا الله وإياكم منها.(66/16)
القول بحلول الله في خلقه كفر
السؤال
هناك من المجرمين من يقولون: إن الله يحل في جسم الإنسان بذاته، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً؟
الجواب
من ادَّعى ذلك فقد كفر بإجماع المسلمين، وهو كافر مرتد ويجب قتله بإجماع المسلمين، فهؤلاء الحلولية أو الاتحادية كفار بإجماع المسلمين، وهم أكفر من اليهود والنصارى، كما نص على ذلك علماء الإسلام، ودليل كفرهم قول الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17] فالذين قالوا: إن الله حل في المسيح كفَّرهم الله، فكيف نقول: حلَّ في فلان وفلان وفي كل شخص، فهم أكفر من النصارى، وهذا حكمهم، أنهم كفار مرتدون لا صلاة لهم، ولا ولاية ولا دين ولا إيمان، وليسوا من هذا الدين في شيء.(66/17)
أنواع التوحيد
السؤال
نرجو توضيح التوحيد بأنواعه الثلاثة؟
الجواب
أنواعه هي: توحيد الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات، وإن شئت فقل توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد الطلب والقصد والإرادة.(66/18)
توحيد الربوبية لا يكفي في نجاة العبد
السؤال
هل يكفي الإيمان بتوحيد الربوبية من دون فهم لتوحيد الألوهية والأسماء والصفات؟ وما حكم من جحد نوعاً منها؟
الجواب
من جحد نوعاً منها فهو كافر، ولكن لا يكفي نوع عن نوع فهي كلها أجزاءً لشيء واحد، فلا يكفي أن تقول: إن الله هو الذي يخلق كل شيء ويدبر كل شيء، ثم يدعو الإنسان غير الله، بل هذا هو الشرك {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه} [لقمان:25] فهذا قول المشركين، فقد كانوا يقولون في التلبية: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك) فلم يقبل الله منهم هذه التلبية، فهذا هو الشرك بعينه، وتقول الصوفية في الولي هو لا يملك شيئاً، فالله يملك ولكنه فقط أعطى هذا الشريك التصرف، هذا هو الذي يقوله الصوفية اليوم، يقولون: إن عبد القادر الجيلاني أو البدوي، لا يملك شيء والله هو الذي أعطاه التصرف، وهذه هي نفس الكلمة الجاهلية: (إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك) فالله يقول: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [الجن:20] فعلينا أن نوحد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا نشرك بربنا أحداً.(66/19)
ثمرات التوحيد
السؤال
هل للتوحيد ثمرات ظاهرة في الدنيا؟
الجواب
نعم، فمنها: اليقين، والطمأنينة، والإخبات، والإنابة، وصدق الإيمان في التعامل مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والاستقامة على أمر الله، والأمر بالمعروف، وطاعة الله وتقواه في السر والعلانية، فهذه من ثمرات التوحيد، فكل خير في الدنيا فهو من ثمرات التوحيد، وكل شر أو مصيبة فهي من عاقبة الشرك والمعاصي.(66/20)
علاقة الإيمان بالإسلام
السؤال
ما معنى كون الإيمان باطناً والإسلام ظاهراً؟
الجواب
هذا معنى حديث ورد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الإيمان في القلب، والإسلام علانية} وهو الذي يبينه الحديث الآخر الصحيح، وهو قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب} فالإيمان في القلب، والإيمان عقيدة، والإسلام هو: انقياد الجوارح هذا علانية، ولكن بينهما تلازم فإيمان الجوارح أن تطيع الله وأن تمتثل أمره، كما أن من إسلام القلب الإذعان لأمر الله والانقياد له، وإلا فما هو الطاغوت؟ الطاغوت: هو كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فأي إنسان تعبده أو تتبعه أو تطيعه فيغ غير ما أمر الله فقد تجاوزت به حده، وإذا تجاوزت في أي إنسان حده فقد جعلته طاغوتاً وعبدته من دون الله، فالأصنام طواغيت، والقوانين الوضعية طواغيت، لأن الله تعالى يقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء:60] فكل من عبد من دون الله وهو راضٍ بالعبادة فهو طاغوت، والشيخ الذي يقول للمريدين: إذا مت فأتوني واعبدوني، طاغوت، وإذا هم عبدوه، فقد جعلوه طاغوتاً وإن لم يكن كذلك.(66/21)
تفضيل القوانين على الشرع
السؤال
ما حكم من يفضل القوانين على شرع الله؟
الجواب
نسأل الله العافية {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] من فضَّل شرع البشر على شرع الله، فهو مثل من يفضل البشر على الله؛ لأن هذا شرع الله وهذا شرع البشر، فمن فضله فكأنه يقول: البشر أعلم من الله بالمصالح، وأفضل من الله، وأحكم من الله -تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا- فأياً كان شرع الله في المسائل المالية، أم في المسائل الاجتماعية، فشرع لنا الحجاب، وحرم الربا، والزنا والاختلاط، وشرع لنا كل ما تعلمونه من الأوامر والنواهي.
فهذا هو وحده الحق والخير الذي يجب اتباعه، واتباع غيره وطاعته شرك وكفر، كما قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] وقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].(66/22)
القول بحياة الخضر عليه السلام
السؤال
القول بحياة الخضر عليه السلام هل هو صحيح؟
الجواب
لا ليس بصحيح لقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:35] ولو كان الخضر حياً لما وسعه إلا اتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والدخول في دينه، ومجاهدة الكفار معه.(66/23)
الاحتفال بالمولد النبوي بدعة
السؤال
هل الاحتفال بمولد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من السنن؟
الجواب
نقول: إنه لم يحتفل به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يحتفل أكثر الناس وأشد الناس حباً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم الصحابة، ولكن الذي احتفل بالمولد هم أبغض الناس لدين الله، وأول من أوجد البدعة هم أبغض الناس لدين الإسلام ولأصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم الروافض والباطنيون والمجوس، الذين كانوا مجوساً زنادقة في الباطن وكانوا روافض في الظاهر، وهم العبيديون.
فهؤلاء أول من أحدث المولد بعد مئات السنين من وفاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويقال: إنهم لم يحدثوه إلا احتفالاً بموت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه جُعل يوم اثنا عشر من ربيع الأول، التي توفي فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدون شك عيداً، ذبائح وولائم، فقالوا: هذا المولد، ونحن نحتفل بمولده، وما أدرانا أنهم يحتفلون بموته، كعادتهم إذا مات من يكرهون، جعلوا يوم موته عيداً، ولا أحد أكره إليهم من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه هو الذي هدم ملك كسرى، ودمّر أصحابه رضي الله عنهم النار وقضوا على نار المجوسية، وهدّموا دينهم، فجاء هؤلاء بحقد على الإسلام، فقتلوا الفاروق رضي الله تعالى عنه، الذي أرسل الجيوش إلى هناك، وأوجدوا هذا الدين المبتدع وفرقوا به المسلمين، وأوجدوا هذا الرفض، ثم احتفلوا بموت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعلوه عيداً، وقالوا: نحتفل بالمولد، ولو فرضنا أن قصدهم غير هذا فانظر إلى مناسبتين جاءت في وقت واحد، واحدة مفرحة وواحدة محزنة مؤلمة جداً أيهما تقدم؟ فالحزن يغلب على الفرحة، فهذا اليوم يوم وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الأبد، وليس هناك مصيبة أصابت هذه الأمة أعظم من وفاته وفقده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الأبد، فهل نحتفل بهذا اليوم ونجعله عيداً؟! هذا بالإضافة إلى أنه لا دليل عليه كما قلنا، فهو بدعة لا تجوز.(66/24)
حكم حلق اللحية
السؤال
البعض يحلق لحيته ويقول: الإيمان، في القلب نرجو توضيح ذلك؟
الجواب
المعاصي تتنافى مع الإيمان، والمعاصي على نوعين: معاصٍ ظاهرة: وهذه هدم لشعائر الإسلام.
ومعاصٍ باطنة وهذه تهدم الإيمان الذي في القلب.
فحلق اللحية من المعاصي الظاهرة، التي نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يهدي المسلمين جميعاً فينتبهوا إلى خطره، فأنت تهدم شعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة، التي بها يتعارف أهل السنة، وبها يتعارف أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي سمة وعلامة وشرف وميزة، ودليل الأسوة والاقتداء بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حتى أفجر الفجار إذا رأى أنك تفعل شيئاً وأنت ملتح، يقول: يا أخي! أنت بلحية وتفعل هذا! فهو يعلم في نفسه أنه لا يليق بمن يكون على سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يفعل هذا الفعل، لكن لو كان شخصٍ آخر حالقٍ للحية، فيقول: ليس فيه شيء.
وما ذاك إلا لأنها شعار، وقدوة، وتحقيق للأسوة ظاهراً، وهو إن شاء الله علامة تحقيق ذلك باطناً، فالإنسان لو غلبته نفسه، وعصى الله، فحين يتوب إلى الله عز وجل يبدل الله سيئاته حسنات، ولو كان الأخ القائل عنده إيمان بالقلب لظهر أثر هذا على الجوارح.(66/25)
المعاملة مع الله
السؤال
بعض الناس يقول: الدين المعاملة، ما تعليقكم على هذا؟
الجواب
يقصد أنه يقول: الدين المعاملة، فأنا قلبي نظيف ولا أحقد على الناس، فلا شيء أعظم معاملة من معاملتك مع الله، فلماذا لا تكذب على الناس ولا تغش الناس؟ فيقول: عيب، فنقول له: إذا كنت تستحي من الناس فاستح من الله الذي يطعمك ويرزقك ويعافيك وهو خلقك أول مرة، وأخرجك من بطن أمك وأنت لا تعلم شيئاً، ثم تعصيه، وتترك فرائضه، وتقول: أنا أعامل الناس بالطيب، فكيف تكون معاملتك مع الناس صحيحة، وأنت لا تتعامل مع الله، فالدين هو المعاملة، وأول معاملة مع الله، هو توحيد الله، ثم مع عباد الله، {اتق الله حيث ما كنت -فهذه المعاملة مع الله- وخالق الناس بخلق حسن} وهذه المعاملة مع الناس، ولا يمكن أن يقبل هذا إلا بذاك، بل ذاك هو الأصل.(66/26)
حكم الساحر
السؤال
كيف نستطيع الجمع بين التصديق بوجود السحر في قوله تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] وأن نكذب الساحر للحديث الذي ذكرته قبل قليل؟
الجواب
ما تكلمنا عن تكذيب الساحر، وإنما تكلمنا على الكاهن والعراف الذي يَّدعي علم الغيب، أما الساحر فما يدري أنه كذب فيما سحر، وإذا درى أنه ساحر أو سحر ورأينا سحره عرفنا كفره، فدليل كفر الساحر قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا} [البقرة:102] يقولا للمتعلم هذا: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102].
وهذا لا يُقال إلا للكافر، لأن من كان على التوحيد فإن له في الآخرة ولو شيئاً يسيراً فينجوا بالتوحيد ولو بعد حين، لكن الذي ليس له في الآخرة من خلاق، والذي ليس له في الآخرة إلا النار، فهذا هو الكافر نعوذ بالله، فالساحر غير الكاهن أو المنجم.(66/27)
رؤى المنام
السؤال
ما رأيك في رؤية الميت في المنام مع محادثته أكثر من مرة؟
الجواب
الرؤى قسمان: منها حق ومنها باطل، قد تكون هذه من رؤيا الحق، وقد تكون من أضغاث الأحلام التي يلقيها الشيطان بالباطل.(66/28)
حكم سب الدهر
السؤال
ما حكم سب الدهر مثل اليوم والساعة والليلة؟
الجواب
في الحديث: {لا تسبوا الدهر فإني أنا الدهر أقلب الليل والنهار} فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي يدبر الليل والنهار:
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيبٌ سوانا
كان أحد السلف يقول: إني لأرى أثر المعصية في خلق امرأتي ودابتي، ونحن على ما نحن فيه من عصيان لله عز وجل إذا وقعت مصيبة قلنا: هذا يوم مشئوم والسَّنة المشئومة، فيوم الأربعاء عند بعضهم.
وبعضهم شهر معين، {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] وهذا هو واقعنا، يعفوا عن كثير وإن أصابنا فبما كسبت أيدينا، ولا ذنب لليَّل والنهار، وإنما الذنب على الفجار والكفار.(66/29)
حديث الذباب
السؤال
حديث الذباب {إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء} [حديث صحيح رواه الإمام البخاري] يقول بعض الناس الذباب محمل بمكروبات الكولرا فإن سقط على كأس لبن هل أغمسه أم لا، علماً بأن الذباب محمل بالمكروب؟
الجواب
كون الذباب محمل بالمكروب ليست معلومة جديدة، فالحديث قال: {فإن في أحد جناحيه داء} فهو يقول: أنا محتار كيف أطبق الحديث، فهل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ضعه في مطهر، ثم ضعه في الإناء، أو أنه قال لك في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء؟ فهكذا الحديث، فلا يوجد اكتشاف جديد، لكنهم وإن سموه مكروباً، أو فيروساً، أو جرثوماً، أياً كان الاسم فليس هناك إشكال، فلو أن الذباب تطهر من هذه الجراثيم فليس هناك خلاف.
لكن هذا لنختبر الكلمة التي نقولها كل يوم أشهد أن محمداً رسول الله، فهل نحن نشهد بحق أم أنه مجرد كلام؟ فإذا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً وصح سنده، واعتقدنا صحته، وعملنا وآمنا به، فنحن نشهد أن محمداً رسول الله، لكن يقول لك: نحن نشهد أن محمداً رسول الله لكن هذا الحديث فيه مشكلة، فهل يجوز هذا؟ أو يقول البخاري فيه موضوعات، ومن أجل حديث واحد في البخاري يهدم البخاري كله، ويهدم السنة كلها، لأنه لم يعجبه هذا الحديث {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] تسليم لا نقاش معه، ولا تقول: صحيح أن الإسلام حرم الربا لكن (5%) لا تضر، فهذا الحرج هو خلاف لهذه الآية، وهذا يدل على أنك ما سلمت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبداً {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] فإذا كان حراماً فلنسلم ولا يحتاج إلى نقاش، وهذه هي معنى شهادة أن محمداً رسول الله، أفنأتي عند الذباب ونقف مع أن الغمس ليس بواجب، وإنما هو إرشاد وتوجيه من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن لو أن أحداً كَذَّب فهذا نقض في العقيدة والإيمان، لكن لو أن مؤمناً بالحديث وصحته قال: إن نفسي تعاف الإناء أو الأكل منه فلا يلحقه شيء، فليس مثل الذي يقول: أنا أكذب بمثل هذا الحديث ولو رواه البخاري ولو رواه الجماعة لأنه يتنافى مع العلم، وفيه مكروبات، فهذا يكذب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(66/30)
شقاء الإنسان وسعادته
السؤال
هناك حديث معناه: أن الإنسان يخلق ويكتب شقياً أو سعيداً إلى آخر الحديث، فما معنى الحديث؟
الجواب
هي أحاديث كثيرة لكن لعل الأخ يقصد حديث الصادق المصدوق حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه {إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يؤمر الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بكتب أربع كلمات، بكتب رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيد}، فالبعض يقول: أنا مكتوب عليَّ شقي أو سعيد، فما الرد عليه؟ {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم:78] لماذا لا يقول: إن شاء الله أكون من السعداء ويصلي؟ والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما كذب المشركين {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأنعام:148] هذه أولاً كذبة جاهلية قديمة يردون بها على الأنبياء {حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148] هيهات، أعندك علم أن الله كتبك شقي في بطن أمك؟ لا، فهذا هو {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام:148] وهذا هو الذي أخرصهم، ثم قال بعد ذلك: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149].
فالحجة البالغة التي أقامها الله على عباده هي هذا الدين، وهذا الرسول، ولهذا قال في سورة النحل، بعد نفس الاعتراض {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل:35] ثم قال الله بعد هذه الآية: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] فلو أن الله تعالى راضٍ عن شرككم وأعمالكم هذه، لما أرسل الرسل تحذركم منها، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل:36].
فذاك هداه الله فضلاً، وذلك حقت عليه الضلالة عدلاً منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذه الشبه كذبها الله تعالى في القرآن، فمن يعارض شرع الله بمشيئة الله فهذا هو حاله، لأن القدرية ثلاثة أصناف: قدرية إبليسية الذي قال زعيمهم إبليس {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16] قال: بما أغويتني، نسب الغواية إلى الله، وهو الذي غوى، والله إنما قدر، لكن إبليس هو الذي غوى، وفسق عن أمر ربه وعصى، فهذه القدرية الإبليسية النوع الثاني: القدرية الشركية الذين قالوا: كما حكى الله عنهم في القرآن: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148] فلو شاء الله اهتديت.
النوع الثالث: القدرية المجوسية الذين يقولون: إن العبد هو الذي يخلق فعل نفسه فهذه ثلاثة أنواع، وكل هؤلاء ضلال، وكلها أبطلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كتابه، والصحابة رضي الله تعالى عنهم لما سألوا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن هذه الأمور: {هل هي فيما نستقبل ونستأنف، أم في أمر قد قضي وقدر؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بل في أمر قد قضي وقدر.
قالوا: ففيم العمل إذاً؟ قال: اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق، له.
ثم قرأ قول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5 - 10]} فعلامة الشقي أنه ميسر له عمل أهل الشقاوة، وعلامة السعيد أنه ميسر له عمل أهل السعادة، وهو الذي يختار ذلك، لكن لا يحتج بما قد كتب، وهو لا يدري ماذا قد كتب.(66/31)
مجازاة الله لعباده
السؤال
هل يجازي الله العبد على شيء قدَّره عليه؟
الجواب
إن كان القصد بالسؤال: هل سوف يجازيه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على شيء هو الذي قدره عليه؟ فنقول: الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غني عن طاعتنا كلها، وغني عن أن يظلم أحداً منِّا ولا يمكن أبداً، ولا أحد أحب إليه العذر من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل المعاملة على نوعين، كما قال: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54] و {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:105].
فالمعاملة الأولى بالفضل، والمعاملة الثانية بالعدل، فأما الفضل فللمؤمنين فضل منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مثل حديث اليهود والنصارى، نحن عملنا من بعد العصر إلى غروب الشمس، وأعطانا الله ضعف ما عملوا {فقالوا: لم يا ربنا؟ قال: هل غمطتكم شيئاً من حقكم؟ قالوا: لا.
قال: ذلك فضلي أوتيه من أشاء} فالله تعالى يتفضل على المؤمن من عنده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالإيمان بالله فضل من الله، وزيادة الحسنات فضل من الله، والقدرة الجسدية حتى نطيعه فضل من الله، والغذاء فضل من الله، وكل شيء فضل من الله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] والكافر وكله الله إلى نفسه، وأبان له الحجة، {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] فلو جاء أحدهم، وقال: يا رب! أنا عندما كنت في الدنيا لم يبلغني آية ولا حديث ولا سمعت شيئاً من الدين، فهل هذا يكون مثل الذين يقول لهم خزنة جهنم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الزمر:71] لا، ليس مثله، ولا يعامله الله مثله، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] فهؤلاء يمتحنهم الله في عرصات القيامة؛ لأنه معذور فالصغير له حكمة، والزِّمِن والهرم الذي أدرك الإسلام في آخر عمره وما فقه منه شيئاً له حكمه، لكن السميع البصير العاقل الذي بلغه أمر هذا الدين، ورفض الاستجابة له، حتى لو جاء يوم القيامة، وقال: يا رب! أنت ما وفقتني للعمل الصالح، فهل هذه حجة عند الله عز وجل، والله عز وجل أعطاك القدرة، وأعطاك الهداية، وأقام عليك الحجة، فالحجة لله وحده {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام:149] وليس لأحد من الخلق حجة على الله تعالى بعد الرسل وبعد الحجج والنذر.(66/32)
حكم صلاة التسابيح
السؤال
ما حكم صلاة التسابيح؟
الجواب
الراجح أنها لا تصح، وهو قول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، والحديث الوارد فيها ضعيف والمتن منكر، فأنت لو قرأت المتن وحده، فسوف ترى النكارة فيه واضحة، وهذا هو قول العلماء الأفذاذ، وقد يوجد من يخالفهم، لكن أنت اتبع ما هو الأرجح والأفضل.(66/33)
حكم لحم الإبل
السؤال
لحم الإبل هل ينقض الوضوء أم لا؟
الجواب
نعم ينقض الوضوء.(66/34)
لفظة (صدق الله العظيم)
السؤال
ما حكم قول: صدق الله العظيم بعد قراءة القرآن؟
الجواب
الالتزام بذلك بدعة، لكن مرة واحدة عند آية سمعتها لا بأس بذلك إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.(66/35)
حكم الاحتفال بأعياد الكفار
تحدث الشيخ حفظه الله عن منكر شاع في المجتمع ومصيبة ابتلي بها المسلمون في بلدانهم، وهذا المنكر يتمثل في قيام الكفار -ممن يعيشون في مجتمعاتنا الإسلامية- بإحياء أعيادهم، وتشبه المسلمين بهم، وبذل الدعم لهم، ثم بين معنى العيد وحكم الاحتفال بأعياد الكفار، مبيناً خطورة الرضا أو الابتهاج بها، وسرد أقوال السلف والفقهاء في حكم ذلك.(67/1)
معنى العيد
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه محمد الأمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
وبعد: فلا ريب أن لكل قول داعياً وموجباً، وهذه المحاضرة موجبها وداعيها في هذه الأيام هو أنه - كما تعلمون - بعدما يقارب الشهر تقريباً سوف يكون عيد بل عيدان من أعياد المشركين، وقد عهدنا أن الكفار يقيمون أعيادهم في الشركات والمؤسسات والإدارات والمجمعات السكنية علانية أو بما يشبه العلانية.
كما عهدنا أن من المسلمين من يشاركهم في ذلك ويحضر ويشهد هذا الزور العظيم، وتبدر منهم أفعال لا تليق بمن يعرف الله ورسوله، ومن هداه الله تبارك وتعالى إلى الصراط المستقيم وأمره بمخالفة المغضوب عليهم والضالين، ومجانبة طريق أصحاب الجحيم، ولذلك أردنا أن نجعل هذا الدرس إعذاراً إلى الله تبارك وتعالى وإبلاغاً لكم ولكل من تبلغه، وإنذاراً لأولئك الذين قد يفعلون هذا المنكر: إما لأنهم كفار لم يلتزموا بما أمر الله تبارك وتعالى به، ولا سيما في بلاد الإسلام وإما لأنهم في غفلة فليتعلموا وليعرفوا حكم الله تبارك وتعالى وليذكروا بالله وبما شرع الله تعالى في مثل هذا.
وإما لأنهم معاندون كما قد يبدر من بعض المنتسبين إلى الإسلام فيعاندون ويصرون على إقامة هذا المنكر بين ظهرانينا.
ففي هذا الكلام قبل أن يأتي ذلك الموسم إنذاراً لهم بأننا لن نسكت ولن ندع هذا المنكر يمر أبداً، ونحن إذا قمنا بهذا الواجب فإن ذلك لن يقع أبداً -بإذن الله- وليكن في علمهم أن ما مر في كل سنة، فلن يمر -بإذن الله- في هذه السنة مهما كان الأمر، فإننا لن ندع هذا المنكر أبداً بكل وسيلة مشروعة من وسائل الإنكار، وسوف نذكر بعض الحلول والوسائل في آخر الدرس بإذن الله عز وجل.
فهذا الذي أردنا أن ننبه إليه، وأحب أن كل واحد لا يفوته ذلك، فهذا منكر جلل، وخطب عظيم، والواجب علينا جميعاً أن نقوم في ذلك بقدر الطاقة، كل من موقعه، وبحسب مسئوليته، والله تعالى سائل كل واحد منا عما علم ولم يعمل به، وعما سمع من دين الله ولم يبلغه.
وعندما نقول أو نتحدث عن حكم الاحتفال بأعياد الكفار، فإن من أول ما ينبغي أن نعرفه، ما معنى العيد؟ ذكر شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله في كتابة العظيم اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم هذا، وذكر أحكاماً أخرى عظيمة نورد بعضاً منها إن شاء الله، وقبل ذلك نوصي كل أخ منكم باقتناء هذا الكتاب القيم النفيس، ولا سيما النسخة التي حققها أخونا الفاضل الدكتور ناصر العقل، وهي موجودة متداولة، وكذلك تراجعون ما ذكره وسطَّره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه أحكام أهل الذمة، وما ذكره أيضاً العلماء في أبواب الفقه في مواضع وكتب كثيرة تعرضت لذلك، ومنها ما أوجزه شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله في آخر الجزء الخامس والعشرين من مجموع الفتاوى.
أقول: إن شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله عرّف العيد فقال: " العيد اسم جنس يدخل فيه كل يوم أو مكان لهم-أي للكفار- فيه اجتماع، وكل عمل يحدثونه في هذه الأمكنة والأزمنة".
إذاً: فالعيد اسم جنس يدخل فيه كل يوم أو كل مكان يجتمع فيه الكفار، ويحدثون فيه شيئاً من خصائص دينهم، والنهي الوارد عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشمل ذلك كله، كما يشمل حريم العيد.
يقول: " وكذلك حريم العيد، وهو: ما قبله وما بعده من الأيام التي يحدثون فيها أشياء لأجله، أو ما حوله من الأمكنة " فهو كما يشمل المكان الذي يكون فيه العيد؛ فإنه يشمل ما حوله من الأمكنة التي تعد حريماً لذلك المكان، يشمل النهي عن العيد كل ما يحدث بسبب العيد من أعمال.
ومن الأمثلة على ذلك: التهنئة أو الهدايا أو إطعام الطعام، أو أي شيء، فالعيد يشمل هذه الأمور ويشمل هذه المعاني كلها، ويقول: " أعياد الكفار كثيرة " وهذه حقيقة، ونحن الآن في هذا البلد نرى الكفار كثيرين، ومن أديان شتى، فلنعلم أنه كما قال رحمه الله: أعياد الكفار كثيرة مختلفة، وليس على المسلم أن يبحث عنها ولا أن يعرفها، بل يكفيه أن يعرف في أي فعل من الأفعال، أو في أي يوم من الأيام أو في أي مكان، من الأمكنة هي ويجتنب ذلك.
فلدينا هنا مثلاً: أهل الكتاب -النصارى خاصة- يحتفلون بعيد الميلاد وعيد رأس السنة، وكذلك يحتفل البوذيون ويحتفل الهندوس وكل أمة لها عيد، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن لكل قوم عيداً} هذه قاعدة جعلها الله -تبارك وتعالى- مجبولة ومفطورة عليها الأمم، فكل قوم لهم عيد.
فالأعياد كثيرة ومختلفة، وعلى المسلم أن يعرف أماكنها إن كانت مكانية، أو أزمنتها إن كانت زمانية، فيتجنب ذلك، ويتجنب ما نهى عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أمور سوف نفصلها بأدلتها إن شاء الله، وذكر رحمه الله مقدمات يقدم بها بين يدي الأدلة.(67/2)
عمل المسلم في يوم عيد الكفار
فما الضابط في العيد أو في غيره، وماذا يجب على المؤمن؟ وما الضابط للمسلم في مثل هذا اليوم من أيام العيد؟ قال شَيْخ الإِسْلامِ " الضابط ألاَّ يحدث فيه أمر أصلاً " ألاَّ تحدث أي أمر من الأمور في هذا اليوم الذي هو عيد للكفار، وإنما تجعله كسائر الأيام، كأنَّ شيئاً لم يكن، وكأنهم لم يحتفلوا، وفي هذا تكون مخالفتهم.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه ينبغي مخالفتهم وسنعرض لها إن شاء الله.
واختار بعض العلماء صيام تلك الأيام، وأن يصوم المسلم يوم العيد الذي يحتفل به الكفار، فمن نظر إلى أصل المخالفة وأنها مشروعة قال: من مخالفتهم أن يكونوا فرحين مبتهجين يأكلون ويشربون ويعربدون ويفعلون، كما هو معلوم مما لا يجوز ذكره، قال: وهو يكون صائماً لله تبارك وتعالى، فيكون قد حقق المخالفة.
وقال بعض العلماء: لا يصام يوم من أيام أعيادهم وذلك خشية الوقوع في التعظيم، إذ قد يظن ظان أنما إما صيم لأنه يوم معظم فكأن هذا يعظمه بالاحتفال والأكل والشرب، وذاك يعظمه بصيامه والتقرب إلى الله فيه.
وهذا هو الأظهر والأرجح، وهو أن المؤمن في هذا اليوم لا يتعمد فعل أي شيء مطلقاً وإنما كل حياته وأموره تكون كسائر الأيام، ويعمل كل عمل كما كان يعمله في بقيه الأيام ولا يعبأ ولا يلتفت إلى هذا.
هذا هو الضابط العام الذي يجب أن تكون عليه حياة المسلمين جميعاً فتكون عادية تماماً.
أما الإنكار على أولئك ومنعه وأدلته فهذا ما سوف نُفصل فيه إن شاء الله.
والكفار الذين بيَّن الله تبارك وتعالى لنا عداوتهم في آيٍ كثيرةٍ جداً منها قوله تعالى: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً} [النساء:101] وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1] وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51] وكذلك بيَّن الله وسماهم حزب الشيطان وأولياء الطاغوت إلى غير ذلك.(67/3)
أقسام الذين يقيمون الأعياد
إنَّ هؤلاء بمجموع الأدلة التي جاءت في الكتاب والسنة يمكن أن نصنفهم بحسب مشابهتهم في أعيادهم وغيرها، إلى قسمين: القسم الأول: هم أهل الكتاب: -اليهود والنصارى-.
القسم الثاني: الأعاجم.
وهذا نستطيع أن نأخذه من قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه.
قيل له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اليهود والنصارى؟ قال: فمن!} وفي الحديث الآخر: {لتأخذن أمتي مأخذ القرون قبلها، قالوا: يا رسول الله! فارس والروم؟ قال: فمن الناس إلا أولئك} أو كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فتبين من الحديث الأول، أن المقصود أهل الكتاب، وأن النوع الأول هم: اليهود والنصارى -أهل الكتاب- وأما قوله: فارس والروم، فإنه إشارة إلى الأعاجم، وهم من جملة من نهينا عن التشبه بهم ومشاركتهم، ويدخل في ذلك ويتبعه الأعراب.(67/4)
النهي عن التشبه عام في جميع المشركين والكفرة
وبهذا يتبين لنا أن الله تبارك وتعالى نهانا عن التشبه بالكفار عموماً، وهذا هو أصل المسألة، وقد تعرض بعض الأسئلة للمناسبة بين أعياد الكفار من أهل الكتاب، وبين أعياد المشركين من غير أهل الكتاب، وأيهما أشد ضرراً وأيها يجب أن نكون أشد هجراً ومخالفة له.
فنقول مقدماً وسنعرض الكلام بالتفصيل: إن مشاركة أهل الكتاب في أعيادهم أشد نهياً وأشد ضرراً، وأقل ما يقال إنهما سواء، فلا يقولن أحد من الناس: إن المقصود هم المشركون فقط، وأما أهل الكتاب فإن بيننا وبينهم من الأحكام ما لا يدخل فيه غيرهم كما قد يظن.
وقد نص شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله على عيد الميلاد بالذات، فقال: " وهذا من دين النصارى، وهو من أقبح المنكرات المحرمة وكذلك أعياد الفرس مثل: النيروز، والمهرجان، وأعياد اليهود وغيرهم من أنواع الكفار أو الأعاجم أو الأعراب " ومن أعياد اليهود: عيد الغفران كما يسمونه.(67/5)
حكم أعياد الكفار
أعياد الكفار محدثة بدعية، ولذلك تجدون أن النصارى في بلاد الشام ومصر، في القديم لهم أعياد وأسماء تخالف في بعض منها الموجود لديهم الآن.
وكذلك في الأيام وأحياناً في الأسماء يختلف نصارى المشرق مع نصارى المغرب، واليهود القدماء مع اليهود المتأخرين، وما سبب ذلك إلا الابتداع، لأن الكل مبتدع، فإذا فتح باب الابتداع، ابتدع كل ما يشاء ووضع كل ما يشاء، فمجاميعهم الكنسية المقدسة -كما يزعمون- تبتدع أعياداً وتضع من عندها فقد يشتبه الأمر، وتختلف الأسماء، ولكن المهم أن حكمها واحد، فيقول شَيْخ الإِسْلامِ في هذا -مثل النيروز والمهرجان وغيرها- قال: " حكمها كلها على ما ذكرناه من قبل، وكما لا نتشبه بهم في الأعياد، فلا يُعان المسلم المتشبه بهم في ذلك، بل ينهى عن ذلك، فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تجب دعوته " فلو وافقت يوماً من أيام عيدهم لم يجب عليك أن تجيب الدعوة، مع أن الإجابة من حق المسلم على المسلم -كما هو معلوم- لكن هذا لوجود ذلك المانع.
قال: " ومن أهدى من المسلمين هدية في هذه الأعياد، مخالفة للعادة في سائر الأوقات، غير هذا العيد، لم تقبل هديته خصوصاً إن كانت الهدية مما يستعان بها على التشبه بهم، مثل: إهداء الشمع ونحوه في الميلاد ".
فالحكم واضح، ولكن المقصود هو إثبات أن عيد الميلاد هو عيد قديم.
وذكر الكاتبون في الملل والأديان أن عيد الميلاد الذي يحتفل به هؤلاء النصارى اليوم -وهو أكثر ما يضايقنا من الأعياد في هذه البلاد- أنه عيد وثني قديم، ثم لما اتخذ النصارى واتبعوا طرائق المجوس وغيرهم من الأمم، كما فعل بولس الذي أسس دينهم، وكان على دين المسرائية وبعض الفلسفات الشرقية نقلوا هذا العيد الوثني القديم وجعلوه من أعيادهم، فهو في الحقيقة لا أصل له في دينهم فضلاً عن أن يكون له أصل في ديننا، ولولا الإطالة لذكرت بعض ما ذكره الباحثون في هذا الشأن، وهم من النصارى على أية حال.(67/6)
بيع سلع يتوسل بها إلى الشبه
وينص شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله على مسائل تتعلق بالفروع، تتعلق بما يسمونه: الحريم المكاني، أو الزماني للعيد، فيقول مثلاً: " ولا يبيع المسلم ما يستعين به المسلمون على مشابهتهم في العيد، من الطعام واللباس ونحو ذلك " ونحن سنتعرض الأدلة كاملة، لكن نريد أن نأخذ من هذه القضية مدخلاً، وهو إذا كان ما قد يستعين به بعض المسلمين على مشابهة الكفار أو الاحتفال بعيدهم يحرم أن يباع لهم، وهو من الطعام أو اللباس أو ما أشبه ذلك فما بالكم ببيع الكروت أو البطاقات التي هي للتهنئة بهذا العيد؟ فما بالكم بمن يشارك أو يدخل أو يندمج في هذا العيد، ويحضر ويشهد هذا الزور؟ إذا هذا لا شك أنه حرام، فإذا حرم ذلك وهو ذريعة -كما حرم على المؤمن أن يبيع العنب لمن يجعلها خمراً، أو أن يؤجر لمن يزني أو يلوط أو غير ذلك، مما قد يكون ذريعة إلى الفساد- فإن هذه الذريعة إذا حرمت؛ فإن المقصد يكون إذا وقع في عينه أشد حرمة.
وهنا نقف وقفة مع واقعنا: هل نحن فعلاً نبيع الوسائل المؤدية إلى الاحتفال بالعيد أو تعظيم أعياد الكفار؟ أمر مؤلم أن نقول لكم: نعم.
إنَّ هذا المنكر العظيم منتشر ومتفش في مجتمعنا، وهذه مسألة غير مسألة حضور أعيادهم أو الاحتفال بها.
ومن ذلك -مثلاً- المكتبات التجارية، ولا سيما في الأسواق المركزية، وهذا مشاهد هنا في جدة، حيث تباع البطاقات التي يتهاداها أولئك، ويهنئ بعضهم بعضاً بها، وهذه عشرة نماذج لأنواع من البطاقات مشتراة من مكتبات متنوعة بالفواتير من مدينة جدة، تركت الأشياء التي فيها صور خليعة أو نساء، لكن كلها يجمعها أنها تشتمل على صليب أو كنيسة، فهذا دليل على أنها فعلاً من شعائر دينهم، ومع ذلك فإنها تباع في مكتبات المسلمين، وهذا أمر لا يجوز، وهو من أعظم المنكرات التي يجب إنكارها.
وإن أردتم الدقة في الإحصائيات، لتعلموا كم يرد إلى هذه البلاد، وكيف تباع هذه البطاقات، وتباع الأشجار التي يسمونها أشجار عيد الميلاد، فنحن ننقل لكم من نشرة إحصائيات التجارة الخارجية، وهي نشرة رسمية تصدرها مصلحة الإحصائيات العامة بوزارة المالية كل عام وهذا الصنف دائماً رقمه (9705) في كل عام، فإذا أخذتم الكتاب انظر رقم (9705) تجدون أنه ما يتعلق بالأعياد والمهرجانات وأشجار عيد الميلاد بالذات، وما يستخدمه الحواة السحرة، الذين يتعاملون مع الثعابين بالسحر لكن أهم سلعة هو ما يتعلق بعيد الميلاد وبأشجارهم.
وفي عام (1985م) نعم توقيتنا الرسمي متروك مع الأسف وأكثر إداراتنا توقيتها بالتوقيت الميلادي وهذا نوع من المشابهة، كالمشابهة في أعيادهم والمشاركة فيها، وكل ما سنذكره إن شاء الله من الأدلة يحرمه من الأدلة يحرمه، وهو داخل فيها كاستعمال أشهرهم وتقويمهم، لكن هذا هو الواقع.
على أية حال في عام (1985م) بلغت قيمة ما استورد (1.
589.
233) ريالاً، هذه البطاقة تباع -أحياناً- بأربعة ريالات، ولنفرض أنه بالجملة بريالين، ونفرض أن الرقم مليون، معنى ذلك ما دخل المملكة من بطاقات يساوي (500.
000) بطاقة، وهذا كان في عام (1985م)، وفي عام (1986م) ارتفع الرقم إلى (2.
299.
127) ريال، وفي عام (1987م) ارتفع الرقم إلى (3.
012.
931) وفي عام (1989م) بلغ (2.
763.
030) ريال، وبلغت قيمة الواردات أيضاً في عام (1990م) (1.
848.
000) ريال، وعام (1991م) الربع الأول وتعرفون أنه في وقت الأزمة قدم إلى هذه البلاد جموع غفيرة من الكفار، قد يكون مجموعهم وصل إلى المليون، إذا ضممنا إلى الجيوش الصحفيين، ومن جاء للتجارة وغير ذلك مما له علاقة بالأزمة في هذه السنة، وفي هذا الربع لم يذكر التصنيف، وليس له وجود في الكتاب أو الدليل؛ ربما لأنهم رأوا أن الرقم ضخم مبالغ فيه ففضلوا ألا يُذكر، أو لسبب آخر لا ندري به، لكن في الربع الأول من العام الذي قبله وهو (1990م) بلغت قيمة مشتروات هذا الصنف (252.
202) ريال.
وبالنسبة لبطاقات التهاني هذه التي تستورد فإنها ترد من عدة دول، وكما تعلمون أن النصارى من أمم الغرب، وفي أمم الشرق -أيضاً- يوجد نصارى، ويبيعون هذه البطاقات مثل الولايات المتحدة الأمريكية فهذه الدولة وحدها -كما هو موجود في نشرة إحصائيات التجارة لعام (1989م) - صدرت من البطاقات وما يماثلها ما قيمته (2.
003.
212) ريال، وفي نشرة عام (1990م) بلغت قيمة بطاقات التهاني وما يشابهها (3.
321.
680) ريال، أي: بزيادة عن العام الذي قبله (1.
318.
468) ريال، ويعزى ذلك إلى كثرة وجود الكفار عند حدوث الأزمة.
وفي الربع الأول فقط من عام (1991م) بلغت قيمة الواردات من بطاقات التهاني (433.
746) ريال هذا فقط من الولايات المتحدة الأمريكية.
ومن ألمانيا، بلغت في الربع الأول من السنة ما قيمته (103.
385).
ومن المؤلم والمؤسف أن بعض هذه البطاقات يطبع في دول خليجية ويستورد منها، -ولا حول ولا قوة إلا بالله- فأصبح المسلمون يطبعون هذه الكروت، وفيها الصلبان ويبيعونها، وأشد ألماً من ذلك أننا في هذا البلد الطيب في بلاد التوحيد نشتري وندخل هذه الأعداد والأرقام، وفي ذلك دليل على أنها رائجة سائرة عندنا من غير إنكار.
وأنا لا أستبعد أن تكون -أيضاً- بعض المطابع تطبعها هنا في جدة، لا سيما مع قرب الموسم، نظراً لهذه الكميات الهائلة من ملايين البطاقات، والطباعة -كما تعلمون- لا تكلف، ولا سيما إذا كانت الكمية كبيرة، فبدل أن يستوردها بريالين يمكن أنها لا تكلفه قرشين لطبعها هاهنا، فما يطبع هاهنا في الداخل غير داخل في هذه الإحصائيات، ولا حول ولا قوة إلا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل.(67/7)
الأدلة في حكم الاحتفال بأعياد الكفار
إننا نبين الحق في هذا الشأن، ونوضح بعض الأدلة والأحكام في هذا، وأسير في هذا على ما سار عليه شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله تعالى.
ولقد قسَّم شَيْخ الإِسْلامِ أدلة حكم الاحتفال بأعياد الكفار إلى قسمين: أدلة كلية، وأدلة تفصيلية.(67/8)
النهي عن الموالاة والمشابهة للكفار
أما الأدلة الكلية في هذا فأولها: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، نهانا عن موالاة الكفار ومشابهتهم، فالمسألة تدخل في باب الموالاة، ومن هنا فهي إذاً جزء من العقيدة.
أي: أن الإيمان أو التصديق أو الإقرار بها، إقرار لعقيدتهم، وأن الكفر مطلوب، كالكفر بما لديهم من عقائد أخرى، فهذا يدخل في الموالاة والمشابهة، وفي هذا من الأدلة الكثيرة ما لا يحصى، كما بيَّنا في الآيات، قال تعالى: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً} [النساء:101] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51] وغير ذلك، فمن موالاتهم أن تحضر أعيادهم وأن تكون أعيادً للمسلمين، فتكون أعياداً حزب الشيطان وأوليائه أعياداً لأولياء الرحمن وحزب الله تبارك وتعالى، وهذا أمر يتنافى مع هذه الأدلة، بل يتنافى مع ما طبع الله عليه النفوس من النفور من المخالف، ولا أحد يخالفك أشد ممن يخالفك في دينك.
وأضرب لكم مثلاً من الواقع: انظروا إلى لاعبي الكرة! هل يمكن أن ينزل إلى الميدان فريقان من لاعبي الكرة، ويكون لباسهما واحد، وشعارهما واحد؟ لا يمكن.
لماذا؟ لأنهما فريقان متقابلان متنافسان، متصارعان متباريان، فهل في الدنيا عداوة أشد من عداوة المؤمنين والكافرين؟ وهل من عدوين يجب أن يتباغضا ويتهاجرا ويتباعدا أشد من المؤمنين والكافرين؟ وهل هناك نسبة أو تقارب بين أصحاب الصراط المستقيم وأصحاب المغضوب عليهم والضالين؟ وهل هناك تقارب أو تسوية بين من يهدي إلى الجنة ومن يهدي إلى النار؟ وبين المتقين والفجار؟ لا يمكن أبداً.
إذاً: حتى في نفوس الناس ركز الله هذا وجعله في طباعهم.
ولو أن رجلاً في دولة تحارب الشيوعية، ارتدى رداء الشيوعيين أو أي شعار، لضُرب وأوذي! ولا يستطيع أحد الآن في أوروبا أو أمريكا أن يحتفل بعيد من أعياد النازية، ولا أن يرتدي شعار النازية ويضعه على صدره ويمشي في الشارع لأن النازية في نظرهم عدو لهم، فيا سبحان الله!! كيف بالعداوة التي هي في الدين؟! وهي التي أمر الله تبارك وتعالى بها، وهي أعظم فُرقان يجب أن يكون بين المؤمنين وبين الكافرين.(67/9)
بدعية الأعياد
المأخذ الثاني من الأدلة الكلية: هي أن هذه الأعياد من البدع، والمشاركة فيها من البدع، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه من بعده والمسلمون جميعاً في العصور المفضلة لم يحضروا أبداً، ولم يشاركوا بأي شكل من الأشكال في هذه البدع المحدثة، بل قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} فهذه بدع عُظمى، وفيها مع المشابهة والموالاة أنها محدثه.
فلو أحدث بعض المنتسبين إلى الإسلام، كـ شيعة أو خوارج أو صوفية عيداً، فهل الواجب علينا أن نحضره؟ لا يجوز لنا حضوره، ولو كان الذين ابتدعوه من أهل الإسلام، فما بالكم بحضور أعياد الكفار، فهو أشد بدعة، والنهي فيه أشد وأغلظ.
إذاً هذان المأخذان هما المأخذان الكليان الأساسيان، وكل واحد منهما له من الأدلة التفصيلية الشيء الكثير الذي لا يتسع له المقام أن نذكره؛ وإنما نقتصر على التنبيه إليه.(67/10)
الأصل في المسلمين مخالفة المشركين
وقد ذكر شَيْخ الإِسْلامِ من الأدلة الكلية -أيضاً- ما جاء في الشرع من المخالفة، ولو كان في أمور نفعلها نحن في ديننا.
فمثلاً: نحن في ديننا نصلي لله تبارك وتعالى، ولا نصلي ولا نسجد لغيره أبداً، ومع ذلك فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى كما في الحديث الصحيح من حديث عمرو بن عبسة: {نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها} وعلل ذلك بعلتين: الأولى: أنها تطلع بين قرني شيطان.
الثانية: أنه يسجد لها الكفار حينئذٍ.
انظروا! إنه لما كان الكفار يسجدون لها حينئذٍ، ونحن نسجد لله تبارك وتعالى، لكن لما كان الزمن قد يتوافق، فنوافقهم في زمن عبادتهم، مع أن معبودنا غير معبودهم، نهينا أن نعبد ربنا في هذا الظرف، وهذا دليل على أن ما عدا ذلك هو أشد مخالفة ونهياً وزجراً.
وأدلة هناك كثيرة في المخالفة، فقد أمرنا مثلاً: أن نعجل الإفطار في رمضان لأن تأخيره من شأن وديدن أهل الكتاب، وقد يقول قائل: أنا مسلم، وصمت لله تعالى، فما لي ولمن صام لغير الله، فإنه لا حرج عليَّ أن أؤخر الإفطار، فنقول له: لا.
حتى هذا نهانا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه، منعاً للتشبه بهم.
إذاً: فكيف بمن يشاركهم في شعيرة من شعائر دينهم، وفي عمل من أعمالهم؟ لا ريب أن ذلك حرام.
وكذلك الأدلة العامة في مخالفة المجوس، كما في الأمر بإعفاء اللحية وإحفاء الشارب، وغير ذلك مما علله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو صدره بقوله: {خالفوا المشركين} {خالفوا المجوس} أو {خالفوا اليهود} فهذه الأدلة كلها تدل على أنه حتى في الأمور التي هي من جنس ديننا وعبادتنا أو من جنس العادات التي قد يفعلها بعض الناس، حرَّم علينا ديننا أن نشابههم فيها، بل جعلت مخالفتهم أصلاً من أصول ديننا، فيتصدر الأمر بقوله: {خالفوا}.
إذاً تكون القاعدة، إن الأصل فيك أن تخالف، وفي ذلك أيضاً أدلة كثيرة لا يتسع المقام لها.(67/11)
الأدلة التفصيلية في حكم الاحتفال بأعياد الكفار(67/12)
الذين لا يشهدون الزور
وصف الله عباد الرحمن المؤمنين في آخر سورة الفرقان، فقال من جملة الآيات: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72] فنقل العلماء والمفسرون كما في الدر المنثور، عن بعض التابعين- مجاهد والضحاك وعكرمة وغيرهم أن ذلك أعياد المشركين، أي: لا يحضرون أعياد المشركين , وهذا ما نصوا عليه بالنص، ولا ريب أنه لا يقتصر عليه، لكن المقصود أنه الشهود، وأصح القولين في الشهود هو الحضور، كما نقول: من شهد الجنازة، أو من شهد يوم عرفة إلى غير ذلك، فالشهود يكون هو الحضور، فالذين لا يشهدون الزور، من فسرها من العلماء جعل هذا النموذج نموذجاً للزور الواضح الذي لا شك فيه، فالمؤمن لا يشهد ويحضر أعيادهم، وأماكن لهوهم أو لعبهم، كما صرح بذلك كثير منهم.(67/13)
للمسلمين عيدان فقط
أما من السنة فالأحاديث في ذلك كثيرة، منها: حديث أنس رضي الله عنه قال: {قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما -كعادة الأمم (الروم والفرس) كل أمةٍ لها أعياد، فكان للعرب في الجاهلية يومان يلعب فيهما أهل المدينة - فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما هذان اليومان؟ فقالوا: كنا نعلب فيهما في الجاهلية، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما، يوم الأضحى ويوم الفطر} وهذا حديث رواه أبو داوود، وقال شَيْخ الإِسْلامِ: إن إسناده على شرط مسلم.
ووجه الدلالة في هذا: " إن العيدين الجاهليين لم يقرهما الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة " بل نص على البديل فقال: {إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما} فهل يجتمع البديل والمبدل منه؟ لا يجتمعان أبداً.
إذاً: فلا بد أن نضع هذا مكان هذا، ولا يمكن أن نحتفل بأي يوم يحتفل به المشركون أبداً، فوجه الدلالة في هذا واضح.
ويعلق شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله في الاقتضاء على هذا فيقول: " أيضاً فإن ذينك اليومين الجاهليين قد ماتا في الإسلام، فلم يبق لهما أثر على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا عهد خلفائه، ولو لم يكن قد نهى الناس عن اللعب فيهما ونحوه، مما كانوا يفعلونه لكانوا قد بقوا على العادة " فهنا شَيْخ الإِسْلامِ يستدل بالواقع، ففي أيام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأيام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، لا وجود لهذين العيدين بل أكثر المسلمين لم يكونوا يعلمون متى كان موعد هذين العيدين، وهذا دليل على استئصال الشرع لهما استئصالاً نهائياً، حتى لم يبق لهما ذِكَرٌ أو أثر.
فالنهي يكون من أشد أنواع النهي وأشد أنواع التغليظ -كما ذكر رحمه الله- مع تشوق النفوس إلى العيد، وإلى الفرح وخاصة كما ذكر: من النساء والأطفال والفارغين من الناس، وهو صادق؛ فما أكثر الفارغين من الناس اليوم الذين يحبون الأعياد، ويتمنون أن يكون في كل شهر حفلات وأعياد وعطل، والنساء كذلك يردن الزينة والبهرجة والفرحة، والأطفال.
فرغم قوة الداعي لبقاء هذين اليومين في نفوس الناس إلا أنهما استؤصلا واجتثا؛ حتى لم يبق لهما من أثر.
فهذا دليل على قوة المعارض وقوة المانع وهو حرصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحرص أصحابه ومعرفتهم بأن هذا لا يجوز أبداً بخلاف بعض الأمور التي بقي لها أثر كالنياحة، وغير ذلك من أمر الجاهلية التي ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها تبقى، لكن هذا ذهب واستؤصل بالكامل.
قد يقول الواحد منكم: هذه أعياد الجاهلية قد استؤصلت، فأعياد أهل الكتاب أمرنا شرعاً أن نقرهم عليها، فعندما يدخلون في عقد الذمة نقرهم على دينهم، ومن جملة دينهم الاحتفال بأعيادهم، وهذه الشبهة -أيها الإخوة- سوف تسمعونها في الجرائد والتلفاز، والإذاعات وغير ذلك، عندما تأتي هذه الأعياد وتفتح الإذاعات العربية، إلا ما رحم الله فتجدها كلها تحتفل بهذه الذكرى، فمن جملة من يأتي، ويتفلسف ويبرر ويقول: إن هذه الأعياد أقرت من جملة دينهم الذي أقر، وأن الإسلام يحترم أهل الكتاب، فـ شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله يرد على هذا رداً قوياً فيقول: " المحذور في أعياد أهل الكتابين التي نقرهم عليها، أشد من المحذور في أعياد الجاهلية التي لا نقرهم عليها، فإن الأمة قد حُذروا من مشابهة اليهود والنصارى، وأخبروا أن سيفعل قوم منهم هذا المحذور، بخلاف دين الجاهلية، فإنه لا يعود إلا في آخر الدهر، عند اخترام أنفس المؤمنين عموماً " عندما تقرب الساعة وتدنو، يلتحق فئام من أمتى بالمشركين وتضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة -وما أشبه ذلك من الأدلة- قال: هذا عند نهاية الزمان، أما أن تعود الجاهلية تلك التي كانت قبل قدومه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة بأعيادها، فلا تعود أبداً، فالنهي عن الشيء المتكرر والواقع والفتنة به أشد بلا ريب، فقال: " ولو لم يكن أشد منه فإنه مثله " أقل ما يقال: إن أعياد أهل الكتاب هي مثل أعياد الجاهليين.
إذاً الشر الذي له فاعل موجود، يخاف على الناس منه أكثر من شر لا مقتضى له قوي.
فوجه الاستدلال: الشر الذي له أهل ويقومون به، هذا المقتضي والدافع له أقوى من غيره، وقد زاد في زماننا هذا دافع آخر لهذا الشر، وهو دافع عظيم من أهم الدوافع على المشاركة، وهو: أن الكفار ظاهرون غالبون وممكنون، استدراجاً من الله لهم، وإلا لا يغرنا، وأنهم، وهم متحضرون ومتطورون، فتقتدي بهم أمم العالم جميعاً، ومنها أكثر المسلمين مع الأسف الشديد، فهذه تضاف إلى تلك.
فإذا كان شَيْخ الإِسْلامِ تحدث عنهم وهم في زمنه أهل ذلة وصغار مضروبة عليهم الجزية، وهم في بلاد الشام، أما في هذه الجزيرة فقد حماها الله وطهرها، لا يجتمع فيها دينان، ولا يجوز أن يقروا فيها أصلا، لكن هنالك من أهل الذمة مضروب عليهم الذل والصغار ويكون الداعي أشد لوجودهم.
ويذكر أن النساء والأطفال في عدة مواضع من كتابه وفي الفتاوى: أن النساء والأطفال والجُهال والفارغين يشاركونهم ويفرحون بأعيادهم، فما بالكم في هذا الزمان الذي زاد فيه هذا الداعي وهذا الدافع؟ إذاً يجب أن يكون الإنكار أشد وأكثر، وإلا كان من المحظور ما لا تحمد عاقبته، الذي قد يؤدي إلى الكفر نسأل الله العفو والعافية على ما سنذكر في الأدلة الأخرى.(67/14)
عدم الوفاء بالنذر في مكان عيد الكفار
ومن الأدلة: حديث ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ينحر إبلاً بـ بوانة - وهذا في كتاب التوحيد قد جعله الشيخ محمد بن عبد الوهاب باب "لا يذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله" فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له: {هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية؟ قال: لا.
قال: هل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قال: لا، قال: فأوفِ بنذرك، فإنه لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم} وهذا حديث صحيح أصله في الصحيحين وهو بلفظه هذا على شرط الصحيحين كما ذكر رحمه الله.
وبعد أن ذكر الروايات الأخرى، قال: " وجه الدلالة، أن هذا الناذر كان قد نذر أن يذبح نعماً: إما إبلاً وإما غنماً، وإما كانت قضيتين في بمكان سماه: بوانة يقال: إنها قريب من ينبع، مكان قريب معروف في أيامهم، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل كان فيها كذا أو هل كان فيها كذا؟ فهذا يدل على أن الذبح في بمكان عيدهم ومحل أوثانهم معصية لله تعالى من وجوه: الوجه الأول: أنه قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فأوفِ بنذرك} لماذا هذه الفاء؟ هي تعقبية، وتعني أن الحكم مترتب على ذلك -أي: فتفي بنذرك- فإذا لم يوجد محظور فأوفِ بنذرك، فلو لم يكن كذلك لقال: لا تفِ به.
الوجه الثاني: أنه عقب بقوله: {لا وفاء لنذر في معصية الله} ومعنى ذلك أنه لو كان هناك ما يوجب التحريم لما جاز.
إذاً كأنه قال له: حيث لا يوجد مانع ولا يوجد ما يقتضي التحريم ولا يجعله معصية؛ فأوفِ بنذرك، فدل ذلك على أن هذا معصية لا يوفى بالنذر فيها، أي لو كان مكانه عيداً من أعياد الجاهلية.
الوجه الثالث: يقول: إنه لو كان الذبح في موضع العيد جائزاً، لسوغ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للناذر الوفاء به، كما سوغ لمن نذرت أن تضرب بالدف؛ أن تضرب به، بل لأوجب الوفاء به، إذا كان الذبح بالمكان المنذور واجب " فنلاحظ أن وجه الدلالة -هذا- دقيق، وقد يكون واضحاً إن شاء الله.
إذا كان الإنسان لا يجب عليه فعل من الأفعال، ولكن نذر أن يفعله وهو طاعة، فيكون حكمه الوجوب عليه، والنهي عن النذر معروف، لأنه يستخرج به من مال البخيل، لكن لو نذر وجب عليه أن يفي بنذره.
الوجه الرابع: أنه وجب عليه أن يفي بنذره بعد أن انتفت الموانع، فإذا كان الوفاء بالنذر أشد حكماً، لأن حكمه الوجوب والآخر حكمه الإباحة من الشيء الذي أصله مباح.
فإذاً المقتضي والداعي لأن يفعله الرجل في هذا المكان أشد، وهذا واضح وظاهر، فلما جاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمانع يمنع هذا الوجوب الواضح الظاهر القوي، دل ذلك على قوة هذا المانع، فإنه لو وُجِدَ لما جاز له أن يفعله.
إذاً: وجود عيد من أعياد الجاهلية في هذا المكان مانع قوي، يجعلك لا تفعل، ولو نذرت، فكيف لو تطوع أحد، وذهب إلى بقعة من البقاع التي فيها أعياد المشركين، فهذا يكون بلا ريب حراماً، والحديث يدل على ذلك أشد مما يدل على دلالته في عدم الوفاء بالنذر.
وهناك ملحوظ آخر في هذا الحديث، وهو أنه إذا كان من أجل تخصيص البقعة -وهو الظاهر -فهذا إنما نهي عن البقعة لأنها موضع عيدهم، ولهذا لما خلت من ذلك أذن في الذبح لهم، فقصد التخصيص باق، فعلم أن المحظور تخصيص بقعة عيدهم، فكيف نفس عيدهم.
أي: إذا كانت بقعة العيد يحرم فعل الشيء فيها، حيث لم يكن في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عيد؛ بل جاء أن هذا كان في آخر أيام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن الرجل سأله في حجة الوداع؛ بعد أن طمست أعياد الجاهلية جميعاً، إنما الاتفاق في الموقع فقط، ومع ذلك يسأله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو قال: نعم يا رسول الله! كان فيها عيد، لقال: لا تفعل.
فكيف إذا اتفق الزمان والمكان ووجود الكفار واحتفالهم وحضورهم؟! لا شك أن هذا يدل دلالة قطعية على تحريم ذلك والله المستعان.
ثم أعاد رحمه الله الكرة وهذا مهم جداً في أن أعياد الكتابيين أشد، فإذا كان هذا الزجر والنهي كما في هذا الحديث عن أعياد الجاهليين، فالكتابيين اليهود والنصارى النهي في حقهم أشد.(67/15)
حديث: (لكل قوم عيداً وهذا عيدنا)
ومن الأدلة أيضاً على ذلك الحديث الذي في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: {أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل عليه أبو بكر الصديق، وعنده جاريتان تغنيان من جواري الأنصار، وما هما بمغنيتان -أي: إنما جاريتان صغيرتان تغنيان عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال أبو بكر رضي الله عنه: أبمزمور الشيطان بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أبا بكر دعهما فإن لكل قوم عيد وهذا عيدنا} فماذا نأخذ من هذا الحديث؟ أولاً: أن قوله: {إن لكل قوم عيد وهذا عيدنا} يوجب اختصاص كل قوم بعيدهم، يختصون به عن سواهم، وإلا كانت الأيام مشتركة والأعياد مشتركة، وهذا كما في قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48]، فشريعتنا غير شريعتهم، وقبلتنا غير قبلتهم، وعبادتنا غير عبادتهم، وصلاتنا غير صلاتهم، وصيامنا غير صيامهم، فكذلك عيدنا غير عيدهم، فلا هم يتبعون قبلتنا وعبادتنا وصيامنا ولا نحن نتبع قبلتهم وصيامهم ولا كذلك أعيادهم.
إذاً: لكل قوم وأمة ونحلة عيد ونحن هذا عيدنا، فلا يشاركوننا فيه ولا نحن نشاركهم في أعيادهم.
ثانيا: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وهذا عيدنا} يدل على الاختصاص، أي: لا عيد لنا سواه، وليس المقصود فقط ذلك اليوم، وإنما هما يومان، وهذا من الجنس: أي لا عيد لنا إلا هذا العيد المشروع، فدل على أنهما اليومان فقط، ودل على أنه لا عيد لنا سوى ذلك، فحتى لو أردنا أن نجعل لنا عيداً -كالعيد الوطني أو عيد التحرير أو عيد الاستقلال، أو أي عيد نجعله لنا- ولا نشابه فيه أحداً من الكفار، لما جاز ذلك لنا أبداً.
فكيف إذا كنا نفعل عيداً هو من أعياد الكفار، ونقيم شعائر هي من شعائر الكفار؟! لا شك أن ذلك يكون أشد وأعظم حرمة.
يقول شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: إن تعليل الإباحة للجواري بأن ذلك في يوم عيدنا، فيه دلالة على أن الإذن باللعب لأن هذا اليوم خاص بنا، فهذا اللهو وهذا اللعب خاص بنا، ولا يتعدى إلى أعياد الكفار.
فإذاً لا يرخص باللعب في أعياد الكفار، فهما تلعبان أو تضربان لأنهما في عيدنا، فلو كان في عيد غيرنا لما أذن لهما.(67/16)
عدم مشاركة المسلمين لأعياد الكفار من أول الإسلام
ومن الأدلة على ذلك -وهذا يمكن أن نسميه دليل الواقع- أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بعثه الله كان اليهود في جزيرة العرب في أماكن كثيرة، في المدينة، وخيبر، والنصارى كانوا في نجران، واليمن -في صنعاء وغيرها- فكان اليهود والنصارى موجودين في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أول ما جاء الإسلام، وكذلك كان الفرس وديانة المجوس في البحرين -في شرق جزيرة العرب - ونحو ذلك.
ومع ذلك من تأمل ونظر في سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، علم علماً يقينياً قطعياً، أنه لم يكن المسلمون يشاركونهم في أي عيد من أعيادهم أبداً، ولم يقع ذلك من أحد من الصحابة أو التابعين، حتى لو تتبعنا السير لا نجد أن نساء المؤمنين أو أطفالهم شاركوا أولئك في أعيادهم، وذلك لأنهم أمة عرفوا الله، ومعنى لا إله إلا الله، وعزة الإيمان، وعرفوا أنهم على طريق الجنة والصراط المستقيم، وأن أولئك على طريق الكفر والضلال واللعنة والغضب، فلا نسبة بيننا وبينهم، ولا يمكن أن نقاربهم أو ندانيهم في شيء من شعائر دينهم.
هذا كله مع أنه قد ثبت وجود التعامل معهم في أمور الدنيا الاعتيادية كالمبايعة، والمخالطة في الأسواق، وفي البلاد، وفي السكنى والمجاورة، وكثير من الأحكام، بل حتى رد السلام والتعارف كان موجوداً بينهم، والتعارف، وكثير من الأمور كانت موجودة؛ بعضها نسخ وبعضها لم ينسخ.
والمقصود أن وجودهم كان حاضراً بين المسلمين ولم يثبت أبداً أي مشاركة لهم في أعيادهم، فهذا دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم علموا وأيقنوا أن أعيادهم جزء من عقيدتهم، فكما لا نوافقهم على عبادة المسيح عليه السلام أو عزير أو تحريفهم للتوراة أو إنكارهم لنبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا مثل ذلك، فكذلك لا نوافقهم في أعيادهم، لأنها من دينهم.
فهذا كان حالهم رضي الله عنهم، ومن بعدهم، وهذا ما نسميه دليل الواقع.(67/17)
تميزنا بعيد الجمعة
ومن الأدلة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في الحديث الذي في الصحيحين {نحن الآخرون السابقون يوم القيامة} فنحن الآخرون في الأمم، زماناً، السابقون يوم القيامة، قال: {بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم، فاختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود يوم السبت والنصارى يوم الأحد، ونحن -أي: يوم عيدنا- يوم الجمعة} وهذا في العيد الأسبوعي.
فانظروا وقيسوا العيد الحولي على العيد الأسبوعي، فالعيد الأسبوعي الذي يتكرر كثيراً وهو قريب من أيامهم، ومع ذلك اختصنا الله تبارك وتعالى بعيد أسبوعي نخالفهم به، وفضلنا به، وجعل ذلك أحد العلامات التي تدل على أننا نخالفهم، وأن الله تعالى هدانا وأضلهم، وأرانا الصراط المستقيم وأغواهم عنه، فنحن لنا الجمعة وهم لهم اليومان المعروفان للجميع.
إذاً هذا دليل كما يقول شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: " وإذا كان هذا في العيد الأسبوعي فكذلك في العيد الحولي إذ لا فرق، بل إذا كان هذا في عيد يعرف بالحساب العربي، فكيف بأعياد الكافرين العجمية التي لا تعرف إلا بالحساب الرومي القبطي أو الفارسي أو العبري ونحو ذلك ".(67/18)
الأنبياء يستخدمون التقويم القمري
وهنا ملحوظ آخر وهو أن ما كان من الأعياد كان بالتقويم العربي أو الهجري.
وهكذا كانت العرب يحسبون على منازل الهلال، بل كان كما يقول شَيْخ الإِسْلامِ: " أن الرسل والأنبياء كانوا يشرعون لأممهم وكانت شرائعهم كلها على الهلال " سبحان الله! هذه كلمة لما قرأتها تعجبت من سعة علمه رضي الله عنه، يقول: أي نبي من الأنبياء يقول: شهر أو يقول: سنة فإنما يقصد الشهور الهلالية، أما الفلاسفة ومن تبعهم وهذا مأخوذ عن قدماء الفلكيين من الصابئين، فإنهم يوقتون بالشهور الشمسية، فيقول: نحن منهيون أن نتخذ هذا التقويم، وما كان من شهورهم فهو أشد حرمة مما كان من شهورنا، لأن فيه زيادة اختصاص لهم، لأنه ليس من شرائع الأنبياء أبداً أن يوقتوا بهذا.
فهي -كما ذكرها- أوقات معروفة في أيام الأشهر الرومية، وإلى الآن تستخدم في بلاد الشام والعراق وهي: حزيران، ونيسان، وآذار إلى آخره، بينما الغربيين يستخدمون، يناير، فبراير، مارس إلى آخره.(67/19)
إجماع السلف على عدم حضور أعيادهم
وهناك دليل آخر عظيم جداً على مسألة عدم حضور أعيادهم وهو دليل الإجماع، فالإجماع فلم يعهد أو يؤثر عن أحد من الصحابة أو التابعين أو من سلف الأمة وفقهائهم أنه حضر عيداً من أعيادهم أو أقره على الإطلاق.(67/20)
ما ورد من آثار عن الصحابة والتابعين
نذكر الآن بعض ما ورد من آثار عن الصحابة وعن التابعين رضي الله عنهم في ذلك ولا سيما الصحابة.(67/21)
الشروط العمرية
عمر رضي الله عنه، له في هذا مواقف عظيمة، أعظمها وأشهرها الشروط العمرية، التي فرضها على أهل الكتاب، فأصبحت -ولله الحمد- سنة متبعة أجمع الفقهاء عليها، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل، لكن الأصل العام أن الفقهاء اتخذوا الشروط العمرية دليلاً ومنهاجاً لهم في معاملة أهل الذمة، وهذا من سنن الخلفاء الراشدين؛ التي أُمِرَت الأمة أن تتبعها وأن تأخذها.
فمما اشترطه عمر رضي الله عنه عليهم: ألا يظهروا شيئاً من أعيادهم -وهذا في بلاد الشام حيث أهل الذمة، أما في جزيرة العرب فننبه مراراً أنه لا يجوز أصلاً أن يدخلوا فيها، فضلاً عن أن يعلنوا فيها شعائر دينهم أو أعيادهم- فـ عمر رضي الله عنه، مع ما فرض عليهم من أمر الله، وما ألزمهم به من الذل والصغار والجزية، ومع ذلك اشترط عليهم شرطاً واضحاً صريحاً ألاَّ يعلنوا عن أعيادهم في دار الإسلام أو بين المسلمين، فهي من جملة دينهم يتخفون به في بيعهم أو كنائسهم وما أشبه ذلك.(67/22)
النهي عن تعليم رطانة الأعاجم
وروى البيهقي -أيضاً- كما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ بإسناد صحيح أن عمر رضي الله عنه، قال: [[لا تعلموا رطانة الأعاجم]] وهذا موضوع مهم، تفشي العمل بخلافه في هذا الزمن، فقد صار أصحاب الأعمال يعلنون عن أعمال في الصحف، يفضل في المتقدمين لها من لديه إلمام بسيط بلغة الأعاجم، وكذلك فقد أصبح الناس يحثون على السفر إلى بلاد الكفار رغم أنهم يُنصحون بأنها بلاد لا يجوز الذهاب إليها إلا للضرورة، لأنها بلاد كفار، فيقول أحدهم: لو لم يكن من فائدة من الذهاب! إلا تعلم اللغة لكفت، فما فائدة اللغة إن لم تكن لمصلحة شرعية؟! فهي من جملة المشابهة وهي تورث محبتهم بلا ريب، وهذا له تفصيل آخر.
كن المقصود أن عمر رضي الله عنه نهى عن أمرين: عن رطانتهم، وعن الدخول في كنائسهم يوم عيدهم، فإن السخطة تنزل عليهم -ينزل سخط الله عليهم- في يوم عيدهم، وفي كنائسهم.
فإذا جاء شخص، وقال: اليوم عيد النصارى، دعنا نذهب إلى الكنيسة ننظر ماذا يصنعون، فهذا هو الذي قصده عمر رضي الله عنه، أما أن يشاركهم المسلم في أعيادهم وأن يهنئهم بها، فهذا من دينهم، ولكن هذا الفرجة يقول: لا تدخلوا عليهم لأنها مكان سخط، ومكان نزول عذاب -نسأل الله العفو والعافية- وغضب من الله؛ فربما يهلكهم الله عز وجل بما يعلنون من الشرك والكفر، فيهلك معهم هذا المسلم المؤمن.(67/23)
النهي عن البناء والإقامة عندهم
وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: [[من بنى ببلاد الأعاجم أو أقام، فصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك، حشر معهم يوم القيامة]] ويعقب شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله فذكر: أن هذا يحتمل أنه يقصد أنه يكفر، قال: وإن لم يكن يكفر من يفعل ذلك فلا شك أنه دليل على أن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه يرى ذلك من الكبائر المحرمة وكل واحدة من هذه الأمور منكر برأسه، وليس المقصود اجتماع هذه المنكرات جميعاً حتى يكون كذلك، بل كل واحد منكر، فالإقامة عندهم من غير حاجة أو ضرورة منكر، وحضور النيروز منكر، والمشاركة في أمورهم، والتشبه بهم منكر على انفراد، نسأل الله العفو والعافية.(67/24)
عدم مشاركتهم في أسمائهم
علي رضي الله، عنه وكان -كما تعلمون- قد أقام هنالك في العراق وهم مجاورون للفرس فجاءه رجل، وقال: يا أمير المؤمنين! هذه هدية، قال: ما هذه الهدية؟ قال: هذا يوم النيروز -أظنه يوافق أول أيام الربيع- قال علي رضي الله عنه: [[فاصنعوا كل يوم فيروزاً]] فهم قالوا: نيروز -وهذا اسمه إلى الآن- قال: اصنعوا كل يوم فيروزاً، فغيَّر الاسم ولم يرضَ أن يشاركهم حتى في الاسم، وقال: اصنعوا كل يوم فيروزاً، حتى تنتفي المشابهة، فهم يتهادون الهدايا في يوم معين، ونحن كل يوم نصنع هذا الطعام، كفاكهة ورياحين معينة تقدم لتشم، ويقال: هذا عيد النيروز، قال: اصنعوا كل يوم فيروزاً، يعني تغير عليهم، ليصبح يوماً عادياً جداً، فلا يظهر أنك تحتفل بهذا العيد أو تشاركهم فيه.
فهذا من شدة حرص الصحابة رضي الله عنهم، وما نسميه الحساسية من مشابهة المشركين في هذا.(67/25)
إجماع الفقهاء على تحريم مشابهة الكفار ودخول أعيادهم
كل الفقهاء مجمعون على تحريم مشابهة هؤلاء الكفار، وحضور أعيادهم ومشاركتهم فيها، قال ابن القاسم من فقهاء المالكية المشهورين: من ذبح بطيخة في يوم عيدهم فكأنما ذبح خنزيراً، أي: أنه إذا وافق يوم عيدهم، واشتريت بطيخة، ثم ذبحتها فكأنما ذبحت خنزيراً وشاركتهم في عيدهم، إذاً لا تذبحها في هذا اليوم.
والحنفية أشد، فقد قالوا: من أهدى إلى رجل في يوم النيروز بيضة على سبيل التعظيم والإهداء في ذلك اليوم فقد كفر، فهو بسبب بيضة يكفر، ليس كرتاً فيه: إننا نهنئكم بهذه المناسبة السعيدة، ونسأل الله أن يعيدها علينا وعليكم بالحب والفرح، وغير ذلك.
فبيضة يعطيها في يوم النيروز على سبيل أنها من هذه الهدايا كفر، هكذا نص الحنفية، ولا غرابة؛ فإن في مذهبهم مثل هذا النوع من المسائل، فإذا اقترن بذلك الكفر الصريح كتعليق الصلبان وإظهار هذه الشعائر، وحضور الحفل الذي يبدأ فيها بعباداتهم أو بصلواتهم، فيقال: باسم الأب والابن وروح القدس إلهاً واحداً، وكذلك ما يمازجه -والعياذ بالله- من المنكرات كالاختلاط وشرب الخمور والفجور وما أشبه ذلك، فهذا يكون لا شك أنه أعظم بكثير من قضية إهداء البيضة.
إذاً: كتاب الله تبارك وتعالى وما في ديننا من أدلة كلية وأدلة تفصيلة في سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما ذكرنا من هذه الأحاديث ومن فعل الصحابة الكرام وفعل السلف الصالح وكلام الفقهاء جميعاً.
ولو نظرتم إلى ما قال الإمام أحمد، فهو أيضاً من أشد الناس بعداً عن هذا وتحذيراً منه، والفقهاء جميعاً الحنفية والمالكية والحنبلية والشافعية، وكل الفقهاء الآخرين حتى الظاهرية كـ ابن حزم رحمه الله له كلام عظيم جداً في أحكام أهل الكتاب وفي مشابهتهم، وكل هذا يدل دلالة قطعية صريحة على تحريم الاحتفال بأعيادهم أو مشاركتهم فيها، وأنَّ هذا مشاركة لهم في الكفر في شعائر من شعائرهم، وشريعة من شرائعهم فهو كفر عملي.
وإذا اقترن هذا العمل اعتقاد أن دينهم حق أو أن ما هم عليه صحيح، وإقرارهم بذلك، فلا شك أنه يصبح كفراً أكبر مخرجاً من الملة والعياذ بالله.
فانظروا أي خطر ماحق ساحق يحيق بمن يشارك هؤلاء أو يقرهم عليه، وفي المقابل انظروا أي واجب عظيم علينا، تجاه هذه المنكرات التي يعلن بها ويجاهر بها وبوسائلها وذرائعها في بلاد الإسلام، نسأل الله العفو والعافية.
هناك أدلة كثيرة لم نذكرها وإن كانت تدخل فيما سماه شَيْخ الإِسْلامِ (الاعتبار) يعني النظر العقلي السليم الذي به تحرم مشابهة الكفار وموالاتهم في أعيادهم فليراجعها الإخوة الكرام في كتاب الاقتضاء.(67/26)
الحلول المعينة على درء منكر إقامة أعياد الكفار
ولعلكم تسألون قبل أن نجيبكم على الأسئلة عن الحلول، ما هي الحلول التي يمكن أن نتخذها لدرء ومنع هذا المنكر الكبير؟(67/27)
النصح باللسان
أولاً: أهمية الكلمة وقوة الكلمة، فإن الله تبارك وتعالى بعث رسله الكرام يدعون الناس بالكلام وبالبلاغ وبالنذارة، ثم بعد ذلك يكون منهم الجهاد، لكن الكلمة هي الأساس، فنحن ما بين واعظ ومدرس ومتحدث إن لم يكن كذلك، فهو في عمله يستطيع أن يتحدث.
فيجب على الإخوة الخطباء أن يخطبوا الجُمَع بهذا الشأن ويجذروا الناس من خطره.
فالخُطَب إذاً مهمة جداً، والحمد لله صلاة الجُمُعَةِ يحضرها عامة الناس، ونحن طلاب علم في الغالب، لكن الجُمعة في هذا المسجد وغيره يجتمع عدد كبير من الناس ومن كل الفئات، فلا بد من إقامة الحجة عليهم بهذه الأدلة، وبما يفتح الله عليكم من غيرها فلا يخفى عليكم ذلك.
إذاً خطب الجمعة يكون فيها ذلك، وكذلك المواعظ التي يجب أن يقوم بها الإخوة هذه الأيام، ونتجول في المساجد ونحذر الناس من ذلك.
ولقد وصلتنا أخبار أن بعض المستشفيات قد علقوا لافتات فيها عبارة: عيد سعيد، فإذن بدأ أهل الفساد يعملون ويشتغلون ولا بد أن يعمل أهل الإصلاح من الآن في المواعظ هذه.(67/28)
نشر المحاضرات والفتاوى
ثانياً: نشر المحاضرات والفتاوى والأحكام المتعلقة بهذه القضية وبهذا العيد، ومن ذلك فتوى سماحة الشيخ الوالد محمد بن صالح العثيمين تستطيعون الحصول عليها، ونرجو من كل مندوب حي أن يأخذ منها صوراً ويوزع ولو عشراً في كل مسجد، ثم كل واحد منكم إذا أخذ نسخة أو قرأها يصور منها مجموعة ويوزعها.
ومن أراد زيادة في الفتاوى كفتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء التي يرأسها سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز فتوى رقم (2540) ورقم (3326) ورقم (9254) ورقم (8848) وإن كانت موجزة لكنها صريحة وهي موجودة، فمن حصل منكم على كتاب فتاوى اللجنة الذي خرج وطبع مؤخراً، فيجدها فإنها موجودة في الجزء الأول من صفحة (48) فما بعدها، تنشر وتوزع وتعلق في المساجد وهذا أحد الوسائل.(67/29)
التوعية في المدارس
ثالثاً: والغالب أننا في حقل التعليم، وكثير من الإخوة في حقل التعليم، فالمدارس وسيلة مهمة جداً لنشر هذا الوعي، والطفل أو الطالب سوف يبلغ ذلك، ويُلزم ويقال له ذلك أن يبلغه لأهله وجيرانه ولمن يستطيع، وهذا إن شاء الله في الإمكان.(67/30)
تعليق تراجم للفتاوى في الشركات
رابعاً: يجب أن تعلق هذه الفتاوى مترجمة في الشركات التي يكون فيها كفار، وفتوى الشيخ ابن عثيمين مترجمة موجودة.
فتعلق في الشركات والمؤسسات، ولا يُكْتَفى بهذا، بل تعلق الأوامر الحكومية التي تمنع من القيام بمثل هذه الاحتفالات، بل لا نكتفي بذلك بل نطالب بأوامر جديدة هذه الأيام وتترجم وتعلق وتختم في جميع الإدارات وجميع الشركات، قد يكون في الحضور من هو مسئول أو نحن يجب أن نبلغهم، كل منا من طريقه، فهذا لا بد منه.
ومن يعملون في هذه الشركات الواجب عليهم أكثر أن يخاطبوا المسئولين، ويكتبوا بالقنوات الرسمية المعروفة، ويطلبوا التعاميم السابقة إن لم تكن موجودة أو تعاميم جديدة تَنهى عن هذا، وتترجم بحسب لغة القوم، فإن عندنا كفار والعياذ بالله من جميع الأجناس، فمنهم: الألماني، والفرنسي، والإنجليزي، وغيرهم، فنترجم ما استطعنا بحسب الشركات، وتعلق على أبواب ومكان بارز، يراه هؤلاء أعداء الله تعالى أو من قد يشاركهم في ذلك من المسلمين.(67/31)
دور وسائل الإعلام
خامساً: كذلك الصحافة، فالإخوة مندوبي الصحف، ومنهم الصحافة أو الصفحات الإسلامية يجب أن تكتب وتكرر الكتابة عن هذا الأمر وتبين هذه الأحكام بالتفصيل، فيقرأها قطاع كبير من الناس بإذن الله تعالى، وكذلك يجب أن يعلن في الإذاعة، والتلفاز، وبأي وسيلة ممكنة من العلماء وغيرهم، بل يجب أن ننبه علماءنا الكرام إلى أن يجددوا فتاواهم، وأن يجددوا التحذير، وأن يكتبوا أيضاً لمن يهمه الأمر بهذا الشأن في زيادة التحذير، لأن علماءنا أثابهم الله في كل رمضان يُعلموننا أحكام الصيام، وفي كل حج يعلمونا أحكام الحج أو بدع الصيام والصلاة وهكذا، فكل شيء في وقته.
فوقت هذه المواسم التي يحتفل فيها الكفار ينبغي أن نجدد فيها البلاغ والإنذار، والتحذير لهؤلاء ونذكر المسلمين بها، حتى لا يؤخذوا على غرة.(67/32)
المعاقبة والردع عن المنكر
سادساً: أيضاً يجب أن يعاقب من تسول له نفسه أن يتعدى هذه الأوامر، فلو علقت الإعلانات فجاء أحد يوزع كروتاً أو يبيعها فيجب أن يعاقب بعقوبة رادعة؛ لأن هؤلاء القوم لا ينفع معهم إلا الزجر والردع، وهذا من أوجب ما يجب على من بيده المسئولية؛ لأن الله سبحانه قال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، وهذا من أعظم المنكر بلا ريب كما سمعنا في الأدلة.
كذلك يجب على الرقابة الإعلامية أن تسحب كل كروت وبطاقات التهاني من المكتبات، وأن تتلف وتحرق، ويؤخذ عليهم التعهد الشديد بعدم بيعها مرة أخرى، كما يجب على إدارة الجمارك أو أي جهة مسئولية في موانئ المملكة البرية أو البحرية، ألا تسمح بدخول هذه البطاقات والكروت مرة أخرى، بحيث نأتي -إن شاء الله- في الأعوام القادمة فلا نجد في كتاب الإحصائيات ذكراً لهذا، ولا يستورد أي آلةٍ أو أي ذريعة من ذرائع هذه الأعياد الكفرية.(67/33)
وضع تعميم على السفارات والقنصليات وغيرها
فلابد أن يعمم على السفارات والقنصليات والبعثات والهيئات التي تظن أنها في حصانة، وليس لأحد حصانة أن يعصي الله، ويرتكب ما حرم الله، ويطلب منها أن تعمم على أفرادها، مثلما يعمموا عليهم موضوع اللباس والمطاوعة، وانتبهوا لهم إلى آخره، فهذا أهم وأولى وأوجب أن يعمموا لهم ويقولوا لهم: لا تجاهروا فهذا مخالف، ولا شك أن إقامتهم لعيدهم علانية، ومشاركة المسلمين فيها، ورفعهم الصلبان وما يتعلق بهذا هي أشد حرمة من الاختلاط والتبرج، لأن هذا يتعلق بالعقيدة، فهذا أمر خطير ونحن نحارب الكل، كل الكبائر وكل المنكرات لكن مجرد أنه يمشي في السوق أو تمشي في السوق وشعرها مكشوف، أشد منه أن تكون في حفل عيد الميلاد ويجتمع عندهم المسلمون مع ما قد يصحب ذلك، وهذا معروف عندهم أن الخمر والرقص والزنا والمزامير والفواحش، كل هذا لا يبالون بها، وحسبكم أنهم يجتمعون لشعيرة من شعائر دينهم، فماذا تتوقع من كافر يشرب الخمر ويخالطه ما يخالطه من المسلمين فتوقع بعد ذلك كل موبقة، نسأل الله العفو والعافية.
وختاماً: هذه بعض الحلول ولا شك أن الإخوان لا يفوتهم غيرها وإنما هذا تنبيه على البعض، وانظروا مثلاً هناك كتاب تنصيري يوزع في مستشفى الملك عبد العزيز في حي المحجر، وترجمة ما فيه من كلام، من جملة ما يقول -وهو يباع بريالين كأي سلعة عادية- ومكتوب فيه: كلمتك يا عيسى هي المصباح على قدمي ونور يضيء لي دربي، هذا اليوم الذي صنعه الله اليوم، الذي نكون فيه سعداء، فلنمجد الله، راعينا الله، وكذا، وبعون الله، وهم يعنون بالله اي: المسيح عليه السلام، قبحهم الله وقاتلهم ولعنهم: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:72] ومكتوب ما ترجمته: علقها في أي مكان اشتر بريالين وعلق في أي مكان.
فهذا الكفر الصريح، ووالله ما جرَأهم على هذا وأمثاله إلا سكوتنا.
أيضاً أخبرنا أحد الإخوة أن مستشفى الملك فهد علقت فيه لوحات مكتوب فيها: عيد سعيد، وهو عيدهم: عيد الكفر، بالإنجليزي والعربي طبعاً، أما نحن فالفتاوى لا نترجم حتى الآن، وهذا موضوع قد يكون خارجاً عن موضوع المحاضرة، لكنه مهم مع وجود هؤلاء الإخوة الكرام.
ففي جريدة الجزيرة كتب الأستاذ فهد بن إبراهيم بن عبد العزيز آل إبراهيم يوم الثلاثاء موضوع الحسبة في الإسلام، وهذا الكلام جدير بأن يشكر صاحبه عليه، فمن استطاع منكم أثابكم الله فليشكر هذا الكاتب، ونحن في الحقيقة نشكر له ذلك، ونسأل الله أن يبارك فيه وفي أمثاله ممن يدافعون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونرجو الله أن يكثر من هؤلاء الأخيار في صحافتنا، وفي كل وسائل إعلامنا، وكما أننا نذكر أهل المنكر ونرى ديناً علينا أن نذكرهم ليعرفوا وينزجر الناس عنهم، ومن الدين أن نحب من يأمر بالمعروف ومن ينشره ومن ينتصر لدين الله تبارك وتعالى، ومنهم هذا الأخ الكاتب ادعوا له جميعاً، ومن استطاع منكم أن يشكر له فليفعل.(67/34)
الأسئلة(67/35)
حكم العمل مع من يقيم هذه الحفلات
السؤال يقول: أنا أعمل مع أساتذة من الجامعة وخاصة باللغات الأوروبية، وهم يدعون أفراد القسم إلى حفلة الشكر، أو عيد الكريسمس، وبعضهم يصنع شجرة صغيرة يعلق عليها بعض الزخارف ويأتي بشراب فواكه ولحم الديك الرومي؟ والديك الرومي يأكله الأمريكان في عيد الشكر، هل عليّ إثم إذا استمريت في العمل بالقسم؟
الجواب
يجب عليك أن تنكر، ونأثم جميعاً -ولست وحدك- من أكبر مسئول في البلد إلى كل من بلغه هذا الكلام، إن لم ننكر مثل هذا المنكر، فيجب علينا جميعاً، كل بحسب استطاعته أن ننكر هذا المنكر، فأول من يجب أن ينكر وتبلغه عميد الكلية، فإن لم يسمع فوكيل الجامعة أو مديرها، فإن لم يسمع؛ فلتبلغ الإخوان خارج الجامعة.(67/36)
موقف النبي في يوم عاشوراء
السؤال يقول: إن موقف الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما جاء المدينة فوجد اليهود يحتفلون بيوم نجَّى الله فيه موسى، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {نحن أولى بأخي موسى منهم} فصام ذلك اليوم وهو يوم عاشوراء، فهل نستطيع أن نقف موقفاً مشابهاً لموقف الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنسبة لعيد النصارى؟
الجواب
ليس في هذا أي دليل على أية حال ولا سيما عند سؤالك عن عيد النصارى، لأنه كما أشرنا: أولاً: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل ذلك، وما فعله اتبعناه وما لم يفعله لم نتبعه.
ثانياً: عيد النصارى محدث حتى في دينهم، فعيدهم يقترن به اعتقادهم أن المسيح عليه السلام صلب ورفع في هذا اليوم، هناك بعض أديانهم وطرائقهم وكنائسهم تعتقد هذا، ونحن نعتقد كما ذكر ربنا: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] ثالثاً: أن صيام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو غير صيام أهل الكتاب، فهذا صيام غير ذلك، ثم بعد ذلك نزل صيام رمضان، فعلى الأقل نقول: إن هذا يكفي أن نقتصر على ما ورد ولا نزيد عليه وهذا يكفينا، فكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، مع ما يعارض ذلك من أدلة كلية وتفصيلية ذكرناها في هذا الشأن.
أما من أخذ أو فهم منه -كما أسلفنا- أننا نصوم مخالفة لهم، فقلنا: إن الأولى ألا يكون ذلك؛ لأن الصيام تعظيم فيكون كأنا اشتركنا معهم في تعظيم عيدهم.(67/37)
حكم وسائل الإعلام التي تبث أعياد الكفار
السؤال
ما حكم وسائل الإعلام التي تبث أعيادهم مثل صحيفة الشرق الأوسط ومجلة المجلة؟
الجواب
هذه الصحف وغيرها من المجلات التي تصدرها هذه المؤسسة المعروفة مثل صحيفة المسائية ومجلات الأطفال وسواها دائماً تأتي مليئة بتلك التهاني بأعياد الكفار، فهذا دأبهم والواجب أن ننكر عليهم بما استطعنا، وأقل شيء أن ننكر على وزارة الإعلام إدخالها أي مجلة فيها هذا الكلام, وخاصة إذا كانت سعودية؛ لأن الناس يعتبرون هذا قدوة، فيجب من الآن أن ننكر عليهم، وأن ننكر ونطالب بعدم دخول أي عدد تذكر فيه هذه الأعياد، وكما ذكرنا في الحلول الأخرى.(67/38)
حكم بيع كروت التهنئة بأعياد الكفر
السؤال
ماحكم بيع كروت الأعياد؟
الجواب
ذكرنا أنه حرام وأنه قد يكون كفراً إذا اعتقد صاحبه أن هذا عيد جائز وسائغ وأن دينهم حق، وأن بيعها كبيع بقية الأشياء المباحة، فقد يكون كفراً، -نسأل الله العفو والعافية- ويجب أن تسحب هذه الكروت من جميع المكتبات التي تبيعها.(67/39)
نصيحة لمن يذهب إلى أعياد الكفار للتمتع
السؤال
ما نصيحتكم لمن يذهب إلى أعياد الكفار للتمتع؟
الجواب
أنصحهم وأنفسنا بتقوى الله تبارك وتعالى، وأن لا نرتد كافرين بعد إذ هدانا الله للإسلام، وألا نشارك هؤلاء الكفار في شريعتهم وفي شعائرهم كما قد أوردنا وأسلفنا في الكلام السابق.(67/40)
حكم تنصب الكفار على مؤسسات في بلاد إسلامية
السؤال
حكم إدارة الكفار مؤسسات في بلاد المسلمين؟
الجواب
ليس كل الشركات كبار المسئولين فيها يهود أو نصارى، لكن يوجد شركات فيها هؤلاء ووجود الكفار مسئولين في بلادنا حرام، إذا كان مجرد دخولهم إياها حراماً فكيف يكونون مسئولين، والموظفون المسلمون تحتهم يتحكمون فيهم؟! ولذلك لا يجوز أن يبقوا رؤساء، هذا أولاً.
ثم لا يجوز أن يقر هذا اليوم يوم عطلة أو عيد وعطلة لهم، فإن كان ولا بد كحل انتقالي -وإلا فأنا دائماً أقول: لا نرقع المسألة، بل يجب أن يخرجوا يجب أن يخرجوا فهذا أمر الله ورسوله- لا يجوز للمسلمين أن يعطلوا ويعيدوا في هذا.
وسبحان الله العظيم! المسلمون إذا جاء الحج يشتكون والله كثيراً جداً حيث لا يعطون إجازة للاعتكاف، ولا يعطون إجازة للحج، ثم تعطي الشركات إجازات في عيد الميلاد حيث يعطل الكفار، فيرغم المسلمون في بلاد الإسلام على أن يعطلوا مع الكافرين، ويعيدوا مع الكافرين والعياذ بالله.
فنحن قد رضينا بالدنية في ديننا، وقد أسأنا إلى المسلمين وأذللناهم إذا أقررنا هذا الأمر؛ فهذا لا يجوز قطعاً.(67/41)
حكم تهنئة رؤساء الدول الكافرة بأعيادهم
السؤال
ما حكم تهنئة حكام الدول الكافرة بأعيادهم وذلك بمقتضى الأعراف الدولية؟
الجواب
لا يجوز تهنئة الدول ولا الأفراد، يقول الأخ: بمقتضى الأعراف الدولية، نضع عرفاً، ونقول: لا نهنئكم بعيدكم ولا تهنئونا بعيدنا: {إن لكل قوم عيداً} كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا تهنونا ولا نهنيكم، هذا عرف دولي لا يوجد شيء اسمه قانون دولي.
وهناك بعض الإخوان مع الأسف الشديد يقولها، وقد أصبح عندنا قسم قانون، بل حتى فتح قسم دراسات عليا في القانون، في جامعة الملك عبد العزيز.
المهم أن أي واحد اطلع على كتب القانون الدولي، يجد أنهم يقولون وبنص القانون الدولي على كذا لا يوجد حقيقة شيء اسمه قانون دولي إنما هو مجموعة أعراف، لأنه لا يوجد سلطة ملزمة له، والسلطة أهم ركن من أركان القانون.
إذاً هي أعراف فلنقل هذا الشاهد، نقول لهؤلاء الكفار: من العرف بيننا وبينكم أن لا نهنئكم بشيء من دينكم ولا تهنونا، كما أننا نصلي ولا تصلون، نشهد أن لا إله إلا الله، وتقولون: إن المسيح هو الله، فالفوارق كثيرة جداً.(67/42)
حكم السماح لهم بالاحتفالات بأعيادهم
السؤال
أنا أعمل مسئولاً في شركة من الشركات السعودية ولدي عمال، فلبينيين من أهل الكتاب، ويوم العيد يطلبون إجازة طارئة من إجازاتهم الخاصة بهم، أفيدوني هل أوافق على إجازتهم وهي من حقوقهم حسب الأنظمة أم أمنعها؟
الجواب
لا يجوز أن يعطوا إجازة، لكن إذا كان نظام العمل والعمال -وهو بلا شك مستمد من مكتب العمل الدولي في جنيف كما هو مذكور، فهو قانون وضعي- يجيز لهم ذلك فتقع فتنه ومشكلة بينك وبين مكتب العمل، فالحل أن تكتب إلى مكتب العمل والعمال ويكتب إخوة آخرون ونكتب نحن كلنا ونقول: يجب أن ينص في نظام العمل والعمال على الالتزام بدين هذه البلاد، فكما أنهم يعطلون الخميس والجمعة فكذلك أيضاً لا يعطون عطلة للأعياد إلا مع المسلمين في عيد الفطر والأضحى؟ فإذا ما تعاقدنا مع أي كافر ولم نستقدمه، ارتحنا من مشاكل كثيرة جداً راحة مطلقة، وهكذا دائماً الحل الشرعي يكون حاسماً، أما الحلول الترقيعية فدائماً تجلب المشاكل، فهم يأتون بخمرهم وزناهم وصلبانهم وأعيادهم ومخدراتهم وجرائمهم، فإذا منعنا هذا الباب انتهينا، فلا يجوز أن نتعاقد ونتعامل إلا مع المتقي من المسلمين وهم كثير والحمد لله في العالم الإسلامي من أهل السنة وعقائدهم طيبة، وفيهم فضل وخير وصلاح.
وكونه مسلم فاسق يبيع الخمر أو المخدرات فلا يجوّز أن يدخل هذه البلاد وأن يتعاقد معه، فكيف إذا كان كافراً من أصله! نعوذ بالله.(67/43)
علاقة الديموقراطية بالاحتفال بأعياد الكفار
السؤال
أليس من المصالح المرسلة أن نسمح لهم أن يحتفلوا بأعيادهم؟ وأين الديمقراطية في الإسلام؟
الجواب
هذه مفاسد مؤكدة وليست مصالح بارك الله فيك.
أما الديمقراطية فلا مكان لها في الإسلام أبداً، ويوجد كثير من هذا النوع في الجامعة، وقلنا إن الأمر قد نُفِّذ، وخرج حقيقة قد نفذ وخرج عن حدود الاحتمال، ولا بد من اتخاذ إجراءات عملية يقوم بها أولياء الأمور، المسألة ليست نصيحة توجه من هاهنا من مكبر الصوت ولا ندري تصل أو لا تصل.
فأنتم أولياء الأمور يجب عليكم أن تنتبهوا لأبنائكم وبناتكم في هذه الجامعة، ومن ذلك أن المدرس كافر في مركز اللغة الإنجليزية يتكلم العربية أحياناً ويستهزئ بالشباب المتدين، ويستهزئ بالإسلام وباللغة العربية، ويدعو الشباب إلى التعلق بالغرب، ويأخذهم معه إلى رحلات، ويأتي بزوجته ويعرفهم عليها، إلى آخره.(67/44)
حكم قبول هدايا الكفار في يوم عيدهم
السؤال
يوجد لدينا جيران من أهل الكتاب يبعثون إلينا أحياناً عند احتفالهم بعيد الميلاد بعض الأكل، هل نأكل منه شيء علماً بأنا لا نشاركهم بأي عمل، أم ينبغي أن نعيده إليهم؟
الجواب
يجب أن ننكر عليهم هذا أصلاً؛ لأنه منكر، فيجب أن ننكر عليهم أن يظهروا ويعلنوا بهذا العيد، فطبيعي إذاً ألا نقبل ذلك منهم ولا نأكله.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله.
والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته.(67/45)
تكفير أهل القبلة
استطرد الشيخ في شرح حديث "من المفلس" وبيّن أن فيه دلالة على اجتماع الخير والشر في المسلم، وأن ذلك لا يخرجه من دائرة الإسلام, ثم بين مذاهب الفرق المختلفة في التكفير وأبرزها الخوارج والمعتزلة والمرجئة وأهل السنة موضحاً أن منهج أهل السنة والجماعة هو المذهب الوسط الذي يجمع بين نصوص الوعد والوعيد.(68/1)
اجتماع الحسنات والسيئات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين أما بعد: فقد ذكرنا آيات القصاص وآيات قتال الطائفتين من المؤمنين، اللاتي ذكرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة الحجرات، وكذلك ذكرنا الحديث الأول وهو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من كانت له مظلمة من أخيه فليتحلل منه اليوم، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلِمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئاته فطرحت عليه}.(68/2)
اللفظ بين الشرع والعرف
والحديث الثاني الذي رواه الإمام مسلم وهو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: {أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس من لا درهم له ولا متاع, فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، فيأتي وقد شتم هذا, وقذف هذا, وأكل مال هذا, وسفك دم هذا, وضرب هذا؛ فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته؛ فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطايا من ظلمهم فطرحت عليه ثم طرح في النار} وإن هذا الحديث يفيدنا كما تفيدنا أحاديث أخر تصحيحاً للمفاهيم والمقاييس؛ من خلال تحرير وتصحيح المصطلحات, فالناس في نظرهم مصطلحات تطلق مثل: فلان حر, أو فلان عدل, وفلان فيه خير, وفلان عاقل وغير ذلك, ولكن قد تكون بخلاف المراد والمطلوب شرعاً، فاللفظ يطلق في الشرع لمعنى آخر يدل على صفة حقيقية إما من عمل الطاعات أو غيره.
أيضاً: في الجانب الآخر قد يكون للظالم أو الباطش أو ما أشبه ذلك صفة في الشرع غير ما في نظر الناس, فمثل هذه الأحاديث تفيدنا في كيفية وزن الأمور وكيف نعرفها, وكيف نستخدم الألفاظ؟ فهذا من حكمة الدعوة.
فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أتدرون من المفلس؟} وهذا سؤال أكثر الناس يعرفون الجواب عليه من خلال حياتنا العادية.
{قالوا: من لا درهم له ولا متاع} وهذا معروف عند الناس؛ لكن ليس هذا هو الجواب, وكأنهم يقولون: هذا في واقعنا, وفيما نقيس نحن, وإذا كان: لديك يا رسول الله شيء آخر فعرفه لنا.
وهذا كمثل الشديد عند الناس هو القوي الذي يصارع القوم فيغلبهم, والغني هو صاحب الأموال الذي يكنزها, فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصحح هذه المفاهيم الدنيوية إلى مفاهيم شرعية فيقول: {ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب} ويقول: {الغنى غنى النفس} فالمفلس ليس هو ما تعارفتم عليه؛ ولذلك قال: {إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة, وصيام, وزكاة} وهذا يدل على أنه يفعل الحسنات, ويقوم بالطاعات؛ فالصلاة, والصيام, والزكاة أعمال وطاعات؛ بل هي أركان الإسلام, والمواظب عليها موعود بالخير , والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شبَّه الصلوات الخمس بنهر جار يمر على باب أحدنا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات.(68/3)
من الذنوب ما لا يكفره الاستغفار والتوبة
وكثير من الناس ينظر إلى هذا الحديث -حديث تكفير الصلوات الخمس للخطايا- وينسى الحديث الآخر وهو أن هناك ما لا تكفره الصلاة, ولا الزكاة, ولا الصوم وهو حقوق العباد, لأن حقوق العباد لا تكفر إلا بأدائها إليهم أو بأخذ حسنات الآخذ، ولذلك فإذا اغتبت إنساناً ولم تستطع أن تتحلل منه فاذكره بالخير واثن عليه؛ فهذا يكافئ ذاك، لكن الخاسرين هم من قال الله عنهم: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:15] فأكبر خسارة هي خسارة الآخرة، أما الدنيا ففيها دراهم ودنانير, وفيها رهن وفيها شيء كثير، وكم من مؤمن ضيق الله عليه رزقه ابتلاءً؛ لكن يوم القيامة ماذا يعمل الإنسان وليس عنده إلا الحسنات أو السيئات؟! جنة أو نار, فيأتي بهذه الأعمال الصالحة فتوضع له, والله تعالى لا يظلم أحداً, وسوف نأتي -إن شاء الله- إلى وضع الميزان، وأن مذهب أهل السنة والجماعة الإيمان به وإثباته كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن له كفتين, وأن الأعمال توزن, وأن الأشخاص يوزنون كما قال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:8] {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:103] وقال أيضاً: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:8] والآيات والأحاديث في الميزان تدل على هذا الأصل من أصول أهل السنة والجماعة وهي اجتماع الحسنات والسيئات والموازنة والمفاضلة بينها؛ فمثلاً ربما يأتي الإنسان بصلاة, وصيام, وزكاة, بل ربما يأتي بجهاد ومعه غلول, أو يأتي بجهاد ومعه شرب خمر كما في قصة أبي محجن الثقفي مع سعد بن أبي وقاص فالنفس الإنسانية خلقها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مفطورة على أن يأتي منها هذا وهذا، وقل أن تتمحض لأحدهما.
فنجد -مثلاً- أنه حتى الكفار مفطورين على حب العدل, وكراهية الظلم, فالنفس الإنسانية جعلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مرنة تقبل الخير والشر ويجتمعان فيها، وهذه من حكمة الله، ومن ابتلاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن جعلها هكذا.
وكما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أصدق الأسماء حارث وهمام} لأن الإنسان دائماً يهم ويفكر ويعمل، ولكن كيف يكون هذا العمل؟ {من الملك لمة ومن الشيطان لمة} كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه, وهذا دليل على منهج أهل السنة والجماعة في اجتماع الخير والشر للإنسان؛ فتجتمع كبائر موبقات مع حسنات بالغات، فيقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من يأتي بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وسب هذا}، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {سباب المسلم فسوق} وما أكثر من يشتم الناس الشتم بأنواعه! إما أن يدعو شخصاً بلقب معين, وإما أن يأتي وقد قذف هذا بمصيبة, أو أكل مالَ هذا, أو سفك دمَ هذا, وهذه أمثله قد تجتمع جميعها في واحد, وقد يقع منها ثلاثة, أو اثنين أو واحد بحسب تقوى المرء؛ إنما المراد أن هذا يقع، فهذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضرب مثلاً للصورة الذهنية المتكاملة؛ أنه في جانب الحسنات أتى بصلاة وزكاة وصيام, وفي جانب السيئات أتى بشتم, وقذف, وضرب, وسفك دم, فكيف يكون الحكم؟ فيعطى هذا من حسناته, وهذا من حسناته, فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم وطرحت عليه.
إذاً عندنا احتمال أن يعطيهم من حسناته ويبقى له حسنات فيكون ناجياً، فيحتاج الواحد منا -على الأقل- إذا كان يعرف أنه يقع في أموال الناس ودمائهم وأعراضهم أن يجتهد في كسب الحسنات حتى يبقى له منها شيء, فالعاقل من يتدبر ويفكر في عاقبته.
أما الاحتمال الآخر الذي ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو أن تفنى حسناته قبل أن يقضى ما عليه، فتنتهي ولا يزال غارماً لم يقض دينه، ولا أعطاهم حقهم، والحسنات قد انتهت، فهنا لا بد من عدل, ولا بد من القصاص بين يدي الله الذي لا يُظلم أحد عنده، فيؤخذ من سيئاتهم فتطرح عليه، وقد يكون المقذوف من أهل الفسق والزنا والفجور الذين لهم سيئات, لأن الحديث يدل على هذا المذهب من الجهتين, من جهة المفلس ومن جهة أصحاب الدين، فهؤلاء أيضاً لهم سيئات, ولكن مع ذلك لا يسقط حقهم في المطالبة والمؤاخذة فيأخذون حسناته, فما الفائدة إذاً؟ كنت ترى من فضل الله عليك في الدنيا أنك كنت تقوم تصلي وهؤلاء يفسدون في الأرض, ويسرفون على أنفسهم بالمعاصي؛ فالنتيجة أن معاصيهم أخذت فطرحت عليك -نعوذ بالله من سوء الخاتمة- وكفى هذا زاجراً للمؤمن أن يكف لسانه ويده عن المسلمين، كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه} فلو روعيت هذه الحرمات, وأعطيت حقها, وحفظها المسلمون لكان حالهم غير الحال، ولكن نرى أكثر الناس يستسهلون ذلك حتى لا يكادوا يعدونها من الذنوب فالحذر الحذر!(68/4)
إن الحسنات يذهبن السيئات
أما قول الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود:115] هذه الآيات نزلت في رجل من الأنصار اجتمعت فيه الحسنة والسيئة كحال أكثر الخلق، كان يبيع التمر فأتته امرأة فراوده الشيطان عليها, فقال لها: عندي في البيت ما هو أجود منه، فهلمي إلي, فذهبت معه فلما خلا بها قبلها, ولم يفعل الفاحشة؛ لكنه فعل مقدماتها, وسرعان ما أفاق كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] فترك السوق, وذهب إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: يا رسول الله! وقع مني كذا، إلا أني لم أفعل الفاحشة فماذا أصنع؟ كان الرجل متأثراً وعرف كيف أوقعه الشيطان وتلاعب به, ثم إنه جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعرض عليه الموضوع بنية التوبة، وأدرك صلاة الجماعة مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أصليت معنا؟ قال: نعم، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الحسنات يذهبن السيئات} فأنزل الله عليه هذه الآية, وغفر له بمجيئه إلى المسجد مع الندم والتوبة وعرضه ذلك على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سبيل أن يبحث له عن مخرج، فدل ذلك على أن الحسنات إذا فعلها الإنسان فإنها تكفر عن الإنسان, ولا سيما اللمم: {إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:32] وهذا اللمم فسره كثير بمثل؛ البسمة, والقبلة, وكلمة الغيبة التي لا يخلو منها إنسان إلا من رحم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعفو ويغفر اللمم بالمداومة على الطاعات والحسنات, ومن ذلك كثرة الخطا إلى المساجد, وانتظار الصلاة بعد الصلاة, فإذا قال إنسان: سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر -وكذا إذا قال:- لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة.
فعندنا مطهرات, فنحن لا نخلو من الدرن مثل الإنسان عندما يمشي في الشارع وتمر من جنبه دراجات فيصيبه الوسخ؛ فيرجع إلى البيت فيرى بقع الوسخ في ثوبه, فيغسله بالصابون والمطهر, وكذلك الاستغفار يذهب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به الذنوب والخطايا {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] بالتوبة والاستغفار، ومن ذلك فعل الحسنات {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فلم نخلق نحن لنظل صفحة بيضاء لا نخطئ، ونحن إن لم نخطئ فسنقصر في الواجبات, فالمعاصي لازمة, لكن دواؤها بالتوبة, وأعجبتني كلمة قرأتها لـ ابن الجوزي رحمه الله.
قال له رجل: أيهما أفضل لأصحاب الذنوب: الذكر أم الاستغفار؟ فقال له: 'الثوب الدنس أحوج إلى الصابون منه إلى البخور' فقد جعل الاستغفار كالصابون بمعنى أن الإنسان إذا فعل المعاصي فأهم شيء هو أن يتوب ويندم ويستغفر، بخلاف ما لو فعل الإنسان الطاعات فهذا يذكر الله ويسبح الله.
والاستغفار أدعى للمحاسبة حيث يفكر العبد في الذنب الذي يستغفر منه فلا يعود إليه, والإيمان يزيد وينقص, والنفوس تتفاوت في الغالب, فالواجب على الإنسان أن يحاسب نفسه.
{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فيجتمعان على مذهب أهل السنة والجماعة في الإنسان ويمكن أن يجتمعا في كل إنسان إلا من عصمه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الرسل.
يقول الإمام المصنف رحمه الله: 'وقد دلت الآيات السابقة آيات القصاص وآيات القتال وآيات من كانت له مظلمة' هذه النصوص تدل على أنه في حالة يعمل حسنات تمحو تلك السيئات، وأنه يجتمع فيه عمل الخير مع المظلمة, والعمل الصالح مع المظلمة، وكذلك -كما في الحديث الآخر- تجتمع الصلاة والصيام مع الشتم والضرب والقذف, وكذلك في آية هود تجتمع الحسنات مع السيئات فمن الممكن أن يأتي بهذه وتلك وهو لا يزال في حدود الإسلام، وما يزال من أهل الملة, فهو يخطئ ويصيب ولكنه لم يخرج من دائرة الإسلام إلى دائرة الكفر.(68/5)
مذهب المعتزلة والخوارج في مرتكب الكبيرة
ثم قال المصنف رحمه الله: 'والمعتزلة موافقون للخوارج هنا في حكم الآخرة فإنهم وافقوهم على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار' ولهذا نختصر هذه الجملة بعبارة سهلة وهو أن نقول: إنهم متفقون في الحكم مختلفون في الاسم.
قال: فيوافقون الخوارج في حكم الآخرة، فإنهم وافقوهم على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، أما الخوارج فمذهبهم معروف في هذا كما تقدم في حديث: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن} أي: أن من زنى فهو كافر مخلد في النار لا يخرج منها أبداً, فجعلوا الزاني, والسارق, وشارب الخمر مرتداً على اختلاف وتفصيل في فرقهم ومذاهبهم.
أما المعتزلة فوافقوهم في الحكم، فقالوا: إنه مخلد في النار يوم القيامة وحكمه كحكم اليهودي, والنصراني, والمجوسي, والمشرك, سبحان الله! هل هذا من العدل؟! ولو تأمل أصحاب العقول السليمة لوجدوا أن مذهب أهل السنة هو المذهب المتفق مع النصوص من جهة, ومع الفطرة السليمة من جهة أخرى، وذلك أن من صلّى, وصام, وحج البيت الحرام, ولكنه زنى, أو شرب الخمر, لا يعامل معاملة اليهود والنصارى، فقد قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] ولكن إذا عميت البصيرة واتبع الإنسان هواه؛ فإنه يضرب بالنصوص عرض الحائط ولا يبالي, والمعتزلة تورعوا, ولكنه ورع بارد لا ينفع في شيء فقالوا: لا نقول إنه كافر ولا مؤمن؛ بخلاف الخوارج الذين قالوا: إنه كافر، بل حكمت المعتزلة عليه أنه فاسق، أي أنه ليس بمؤمن ولا كافر، لا على أساس الفسق الذي لا يعني الخروج من الملة، فلابد من إيضاح هذه العبارة على مصطلحهم، وتقول المعتزلة بأنه في منزلة بين المنزلتين ويزعمون أن الحسن البصري رحمه الله وافق مذهبهم وقال بقولهم، فـ الحسن رحمه الله قال: [[كيف نقول: إنه مؤمن وقد ارتكب ما ارتكب؛ ولا نقول إنه كافر ولم يخرج من الدين؛ لكن أقول: إنه منافق؟ لأنه ادّعى الإيمان وتسمى باسمه, ولم يمتثل أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, فوقع فيما حرم الله فترك ما أمر الله منه]] فـ الحسن لم يقل هذا القول على أساس أن يخالف أمر أهل السنة والجماعة، أو يعطل مذهب أهل السنة، بل سئل سؤالاً فأجاب, وهكذا كثير من الناس, كما في قصة ذر بن عبد الله شيخ المرجئة لما قيل له أول عمره في هذا الأمر قال: (إنما هو أمر رأيته) وبعد زمن وإذا به يدعو الناس إليه، فنوظر بعد ذلك في قوله الذي قال فقال: 'والله الذي لا إله غيره إنه الدين الذي بعث الله به النبي نوحاً والنبيين من بعده' سبحان الله! كيف الرأي أصبح الآن ديناً؟! ولهذا يحذر الإنسان أن يكون لديه شبهة فيأتي أحد يجادله فيصر عليها فيجعلها مبدأً وعقيدة, فيكتب هذا ويكتب هذا فتصبح مذاهب لهم, وكانت أول الأمر آراء مع أنه كان يمكن أن يرجع هذا ويرجع هذا وينتهي الموضوع ببساطة, لكن سبحان الله! النفوس إذا اشتعلت واشتدت وجاء الشيطان وجعل فيها الكبر والغطرسة، فإنها ترفع رأسها حتى ترى الرأي ديناً! نسأل الله العفو والعافية.
فهم قالوا: كيف يكون مؤمناً وهو يرتكب الفواحش، وكيف نقول: هو كافر وهو لم يخرج من الدين؟ إذاً نجعله بين هذه وتلك.(68/6)
الخلاف بين المعتزلة والخوارج في مرتكب الكبيرة
ثم قال المصنف رحمه الله: 'والخلاف بينهم لفظي فقط' كلمة الخلاف اللفظي هنا مهمة, لأنه سوف تأتي هذه اللفظة في باب الإيمان.
اللفظ إما أن يكون مطلقاً وإما أن يكون باعتبار معين، فبالنسبة للخوارج والمعتزلة هو لفظي معين باعتبار الآخرة أو المآل، لكن في الدنيا هل الخوارج والمعتزلة يعاملون مرتكب الكبيرة معاملة واحدة؟ بمعنى لو أن إنساناً زنى عند خارجي وزنى آخر عند معتزلي, هل تكون المعاملة بينهما معاملة واحدة في الدنيا؟.
الجواب
لا؛ لأن الخارجي يحكم بكفره ويقتله؛ أما المعتزلي فإنه لا يرى بالضرورة أن يقام عليه حد الردة؛ لأنه زنى أو شرب الخمر.
صحيح أنه لا يسمى مؤمناً لكنه أيضاً لا يصل إلى درجة الكفر, وهذه العبارة المهمة تحدد لنا ما بعد؛ وهو أن النزاع لفظي في أحكام الآخرة، أو مآل الشخص، فالنزاع بينهم لفظي فقط في هذا.
وكما أن المعتزلة والخوارج متفقون على أنه يخلد في النار, فإن أهل السنة متفقون على أنه يستحق الوعيد المترتب على ذلك الذنب، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10] هذا وعيد يستحقه من أكل مال اليتيم، وقد رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزناة وهم في تنور في النار فهم يستحقون هذا الوعيد.
وكذلك وعيد القاتل -مثلاً-: {إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار} فيستحق القاتل هذا الوعيد.
وكذلك قوله: {سباب المسلم فسوق وقتاله كفر} يستحق الساب الوعيد هنا أيضاً فـ أهل السنة والجماعة لا ينفون استحقاق العاصي ومرتكب الكبيرة للعقوبة؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رتب في النصوص هذه العقوبة، فقال سبحانه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان:68 - 70] وقال سبحانه: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] إذاً هناك وعيد مستحق مترتب -كما ذكرنا- لا كما يقوله المرجئة من أنه لا يضر مع الإيمان ذنب, ولا ينفع مع الكفر طاعة, وقد قلنا: إن مثل هذا قول غلاتهم، ولا يعرف أن معيناً منهم كتب هذا أو دعا إليه وإنما هو على سبيل الإلزام أحياناً، وعلى سبيل الجدل حيناً آخر وأكثرهم غلواً هو جهم وهو خارج من الملة! ومذهبهم خارج عن دين الإسلام بالكلية -نسأل الله العفو والعافية- والمهم أن هذه المقولة: لا يضر مع الإيمان ذنب, ولا ينفع مع الكفر طاعة لم يعرف أن أحداً منهم صرح بهذا اللفظ والتزمه, وقد ذكرنا أن الخوارج الغلاة ومنهم الأزارقة ثم النجدات ثم الإباضية فـ الأزارقة لا يعلم لهم الآن كتاب نحاكمهم إليه؛ لكن أقرب مصدر فيه أخبار الأزارقة هو كتاب (الكامل) ومؤلفه المبرد النحوي وقد كان متهماً برأيهم ويميل إليهم وأسانيده عالية، وهو من أهم المصادر وأقدمها وقد أطال في ذكرهم.
أما الإباضية فقد قامت عليها دولة فتطبع وتنشر لها, بل إن لها بعض المؤسسات في دول أخرى.(68/7)
اجتماع الوعد والوعيد
قبل أن نقول: ما الحكم إذا اجتمع الوعد والوعيد على مذهب أهل السنة والجماعة فقد سبق أن ذكرنا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {كلها في النار إلا واحدة} فهذا يدل على الوعيد.
فكيف نفهم نصوص وآيات الوعيد وفق منهج أهل السنة والجماعة أن الزاني في النار, وأن شارب الخمر في النار؟ نقول: إنه يستحقها بمعنى أنه إن فعلها فهذه عقوبته وهل يلزم من ذلك أن تلحق به العقوبة فعلاً؟
الجواب
لا يلزم.
إذاً نقول: أهل الوعيد المستحقون له في جملتهم كأصحاب الكبائر، قد يدخلون النار وقد لا يدخلون.
فالنتيجة أننا نقول: إن كل مرتكب كبيرة مستحق للوعيد؛ لكن هذا الوعيد ينفذ في حق البعض ولا ينفذ في حق البعض الآخر؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل هناك أسباباً وموانع ومن ذلك الشفاعة, والحسنات الماحية, ومغفرة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(68/8)
الفرق بين المرجئة وأهل السنة والخوارج
إذاً ما الفرق بين الخوارج والمرجئة وأهل السنة؟ قالت الخوارج في أهل الوعيد: (كل من أطلق عليه الوعيد فينفذ في حقه، إذاً كلهم يدخلون النار).
أما المرجئة فقالوا: (يجوز ألا يدخل النار منهم أحد لأنهم يقولون: لا إله إلا الله) أما أهل السنة والجماعة فإنهم يقولون: (يدخل بعضهم وبعضهم لا يدخل) بحسب الشروط والأسباب والموانع، فهناك حديث صحيح يدل على أن بعض الزناة في النار, ومن يشرب الخمر في النار, بينما نجد أيضاً أن هناك أحاديث تدل على تكفير الذنوب بالحسنات, ومن ذلك حديث شارب الخمر لكونه يحب الله ورسوله فقد قام به مانع, وهذا المانع علمناه في الدنيا، ويوم القيامة تنكشف الحقائق أن هذا الشارب كان يحب الله ورسوله, وهذا يزني ويجاهد, وهذا يتصدق؛ وذاك يفعلها ولا خير فيه فهذا يدخل النار وهذا لا يدخلها, لأنه بحسب الأسباب والموانع، أما أن يقال: لا يدخل أحد من أهل القبلة النار، فهذا خطأ.
ولا يُعكس فيقال: كل من عصى واستحق الوعيد من أهل القبلة لا بد أن يدخل النار! فمذهب أهل السنة والجماعة مذهب عدل، نقول: لا ننفي مطلقاً ولا نثبت مطلقاً، فيلحق الوعيد بعضهم, وبعضهم لا يلحقه, لأسباب وموانع والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحكم بينهم جميعاً بالقسط, وهذا هو الحق الذي يليق بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وصفاته, كما هو الحق في نظر أي إنسان.(68/9)
فساد كلام المرجئة والخوارج
ثم يقول المصنف رحمه الله: 'وإذا اجتمعت نصوص الوعد التي احتجت بها المرجئة كقولهم: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وجمع معها نصوص وآيات الوعيد التي استدلت بها الخوارج والمعتزلة مثل {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن} " إذا اجتمعت تبين لك فساد القولين " -أي: يظهر لك فساد قول الخوارج والمعتزلة من نصوص الوعد- ويتبين فساد قول المرجئة من نصوص الوعيد، ويتبين أن الحق ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة بالجمع بين الوعد والوعيد؛ ولا فائدة في كلام هؤلاء سوى أنك تستفيد من كلام كل طائفة فساد كلام الطائفة الأخرى' الأصل أن لا نحتاج في الرد على الخوارج إلى كلام المرجئة ولا نحتاج إلى كلام الخوارج في الرد على المرجئة؛ لكن من الإنصاف أننا لم نستفد من كلام كل طائفة شيئاً, إلا أننا عرفنا فساد الطائفة الأخرى, فربما يكون هناك خصمان تسمع من أحدهما فتتيقن أن كلامه في حق خصمه حق؛ لكن لا يلزم من ذلك أنه على الحق لاحتمال أن يكون الحق عند ثالث لهما، فقد يختلف المختلفان وكلاهما مخطئ؛ لكن لنعتبر أن الاثنين مخطئان فأين الحق؟ بالتأكيد أنه عند ثالث غيرهما.
فأنت لا تستفيد من كلام المرجئة لأنك تعرف أن مذهب الخوارج باطل من نصوص الوعد, ولا تستفيد أيضاً من كلام الخوارج أن كلام المرجئة باطل, لأنك تعرف هذا من نصوص الوعيد، ومن خلال الاستدلالات العقلية التي يأتون بها، لكن لا يلزم من ذلك أنه إما هؤلاء على حق أو هؤلاء على حق وإما كلاهما على حق، بل الواضح الجلي أن كلاً منهما على باطل وعلى ضلالة.(68/10)
وسطية مذهب أهل السنة بين الفرق
عليك أن تجمع الحق من نصوص الوعد وما صح من نصوص الوعيد وتخرج المذهب الحق وهو مذهب أهل السنة والجماعة المذهب الوسط في هذا الشأن, كما هو الوسط في جميع الأبواب, وسط في الصفات بين أهل التعطيل (النفي المطلق) وبين أهل التمثيل, (الإثبات المغالي فيه) وفي باب القدر بين المعتزلة النفاة الجبرية الغلاة، ووسط أيضاً في باب الصحابة الكرام بين من ألههم وبين من كفرهم, ووسط في باب الإيمان, بين من يخرج العاصي من الملة, وبين من يجعله مؤمناً كامل الإيمان؛ فهذا جزء من الوسطية ويظهر ذلك من خلال اجتماع النصوص فيهم والحمد لله.
وهنا فائدة منهجية وهي أنه لا يوجد نص صحيح في الوعد أو الوعيد يرده أهل السنة والجماعة فهذا في القرآن معلوم, لكن في الأحاديث لا يمكن أن يصح حديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الوعد أو الوعيد ويرده أهل السنة والجماعة؛ لكن لو نظرت إلى الخوارج , فلابد أن يردوا أحاديث، وكذلك المرجئة لا بد أن ترد أحاديث, إذاً فما آمنوا بما جاء به الرسول حق الإيمان, لكن أهل السنة والجماعة يؤمنون بالكل, ويجمعون النصوص على بعضها البعض, فيقعون على الحق الوسط ويستمسكون به, وبه يلقون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولهذا كانوا الطائفة الناجية إن شاء الله تعالى، فهي وحدها الموعودة بالنجاة، أما غيرها فمتوعد بالهلاك.
وكما كان الدين وسطاً بين الملل، فلو نظرنا إلى ما كان عليه أهل الأديان وأهل الكتابين قبلنا؛ لوجدنا أن هناك إفراطاً من جهة, وهناك تفريط من جهة فأرسل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجمع له بين العفو والعدل فكان وسطاً بينهما, إن أخذ فبالعدل وإن عفى فبالفضل.
وفي الدنيا لم نؤمر بالرهبانية، ولا يجوز أن نكون كجشع اليهود وطمعهم, وإنما أحلت لنا الطيبات, وأحلت لنا زينة الله التي أخرج لعباده, ونهينا عن الإسراف والتبذير.
وحتى في الأحكام، وعندما استعرضنا الجواب الصحيح في أحكام الطهارة وقلنا: نحن لا نقص الثوب إذا وقع فيه نجاسة, وفي نفس الوقت لا يجوز أن نصلي وعلينا نجاسة، وإنما نغسله, حتى في القصاص في القتلى، نحن لا نقول: إما أن تعفو ولا شيء لك، وإما أن تقتص، بل وضع الله حلاً وسطاً وهو الدية, فيمكن للإنسان أن يأخذ الدية, فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعلنا بين الأمم وسطاً.
وكذلك أهل السنة والجماعة هم على المنهج الوسط بين أهل الإسلام, فجمعوا من كل طائفة محاسنها وكل حسنة تنسب إلى أي طائفة من الطوائف فلأهل السنة مثلها, وكل شر أو بلاء أو معاصٍ أو فساد يقع في أهل السنة؛ ففي غيرهم من الطوائف مثله وأكثر, وهذا فضل من الله ورحمة بهذه الطائفة المنصورة , فنسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يحشرنا معهم، وأن يجعلنا منهم, وأن نكون من المجاهدين في سبيله الذين لا تأخذهم في الحق لومة لائم حتى يلقون الله عز وجل, والحمد لله رب العالمين.(68/11)
توبة تارك الصلاة
ابتدأ الشيخ بذكر تسعة أدلة استدل بها شيخ الإسلام على عدم وجوب إعادة الصلاة على تاركها، وحمل حديث المسيء صلاته وصاحب اللمعة على أنهما بلغهما الخطاب والوقت ما زال باقياً، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يأمرهما بإعادة ما فات.
ثم تحدث عمن ترك الصلاة معتقداً سقوطها وهو الذي ذهب إليه بعض الصوفية، موضحاً حكم ذلك، ثم تحدث عمن ترك الصلاة معتقداً وجوبها، وأنه إذا فضَّل القتل على الصلاة فإنه كافر، ثم فرق بين التارك المطلق فإنه يكفر، والمتهاون فإن أمره إلى المشيئة.(69/1)
قضاء الفرائض
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: موضوعنا هو عن حكم من تاب وقد ترك الفرائض عمداً، وأهم من ذلك وأعظمه الصلاة، فماذا يفعل الإنسان إذا أمضى شطراً من عمره، وهو تارك لهذه الفريضة، فأراد الله تبارك وتعالى ومَنَّ الله عليه بالتوبة فهل يقضي أم ماذا يفعل؟ نذكر كلاماً لـ شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله، إذ له كلام نفيس في الجزء الثاني والعشرين من الفتاوى لم أجده عند غيره ابتداءً من صفحة (40) فنذكر الأدلة: الدليل الأول: أن الصحابة الذين ظنوا أن الخيط الأبيض والخيط الأسود هو الحبل الذي يعرفه عامة الناس، فوضعوا حبلين ولم يعلموا أن المقصود هو بياض النهار وسواد الليل، فهذا من الأدلة التي تدل على أن الإنسان لا يقضي ما فعله وهو جاهل لم يبلغه التكليف، أو لم يبلغه الخطاب.
الدليل الثاني: قصة عمر وعمار رضي الله عنها التي رواها الإمام البخاري وغيره لما قال عمار لـ عمر: يا أمير المؤمنين أتذكر لما كنت أنا وأنت في سفر فأجنبنا، فأما أنت فانتظرت ولم تصل، وأما أنا فتمرغت كما تتمرغ الدابة، ثم أتيا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يأمر عمر ولا عماراً بإعادة الصلاة.
الدليل الثالث: دليل المستحاضة كما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ أنها قالت: إني أستحاض حيضةً شديدة تمنعني من الصلاة، فدل ذلك على أنها كانت لا تصلي أثناء الاستحاضة، ومع ذلك لم يأمرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإعادة، لأنها اجتهدت وكانت تجهل أنها مخاطبة بذلك، وظنت أن الاستحاضة كالحيض تمنع المرأة من الصلاة.
الدليل الرابع: الكلام في الصلاة كما في قصة معاوية بن الحكم السلمي في صحيح مسلم.
الدليل الخامس: لما زِيد في صلاة الحضر، وقد كانت الصلاة ركعتين كما روت عائشة رضي الله عنها فأقرت في السفر -أي بقيت ركعتين- وزِيدت في الحضر، فأصبحت الثنائية أربع ركعات ما عد الفجر، فإنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأمر من كان بعيداً عنه، كمن كان بـ مكة أو بـ أرض الحبشة أن يعيدوا ما فاتهم من صلوات بعد أن صارت بعضها رباعية.
الدليل السادس: لما فرض شهر رمضان في السنة الثانية للهجرة، فإن الخبر بذلك لم يبلغ المسلمين الذين كانوا مهاجرين في أرض الحبشة حتى فات ذلك الشهر ولم يأمرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يعيدوا صيامه.
الدليل السابع: لما حوِّلت القبلة، بعض الأنصار ذهبوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المدينة إلى مكة -قبل الهجرة كما ذُكر- وكان بعضهم قد صلّى إلى الكعبة معتقداً جواز ذلك قبل أن يؤمر باستقبال الكعبة، والطائفة الأخرى الذين استقبلوا بيت المقدس بعد أن نزل الأمر باستقبال الكعبة كلا الفريقين عذَرَهُ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يأمره بالإعادة.
الدليل الثامن: لما سئل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بـ الجعرانة عن رجل أحرم بالعمرة وعليه جبة وهو متمضخ بالخلوق فلما نزل الوحي قال له: {انزع عنك جبتك واغسل عنك أثر الخلوق، واصنع في عمرتك ما كنت صانعاً في حجك} فيقول شَيْخ الإِسْلامِ: ' فهذا قد فعل محذوراً من محذورات الحج، ولم يأمره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك بدم، ولو فعل ذلك مع العلم للزمه الدم، وإنما فعله قبل أن يبلغه الخطاب بالتكليف'.
الدليل التاسع هو: أنه ثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيحين أنه قال للأعرابي المسيء في صلاته: {صل فإنك لم تصل -ثلاث مرات- وهو في كل مرة يرد الرجل، ويأمره بأن يصلي -لأنه لم يصل الصلاة المشروعة- فقال الأعرابي -بعد الثالثة-: والذي بعثك بالحق، لا أحسن غير هذا فعلمني} فعلمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة، ولم يأمره بإعادة ما كان قد صلى قبل ذلك، وقد مرت على الأعرابي أوقات وهو يصلي بهذه الصورة لقوله: {والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا} فلم يأمره النبي بالإعادة لأنه قد فعل غاية علمه، وقدر استطاعته، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.(69/2)
إعادة الصلاة
قال شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: 'وإنما أمره أن يعيد تلك الصلاة التي هي الفرض، والتي كانت بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن وقتها باقٍ فهو مخاطب بها' لأن من بلغه الخطاب وجب عليه الامتثال، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره بتلك الصلاة لهذا السبب، لكن ابتداءً من الصلاة التي قبلها وانتهاءً بأول صلاة صلاها لم يأمره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإعادة شيء من ذلك، فلذلك يقول: مادام أن الوقت باق، وتلك الصلاة التي صلاها لا تبرأ بها الذمة فلا تزال في ذمته ولو لم يبق من الوقت إلا ما يؤديها أو ركعةً منها، قال: 'ومعلوم أنه لو بلغ صبي، أو أسلم كافر، أو طهرت حائض، أو أفاق مجنون والوقت باق لزمتهم الصلاة ولكن تكون أداءً' أراد شَيْخ الإِسْلامِ أن نتخذ هؤلاء نموذجاً ونقيس عليهم الذين لم يبلغهم خطاب التكليف، فالصبي قبل البلوغ لا تجب عليه الصلاة وإن كان يندب ويحث عليها ويعلم، ولكن الوجوب المتعين إنما يكون بعد البلوغ، فلو بلغ الصبي في وقت فريضة من الفرائض، أو أسلم كافر في وقت فريضة من الفرائض، أو طهرت الحائض في وقت إحدى الفرائض، أو أفاق مجنون ومنَّ الله تبارك وتعالى عليه بالعافية في وقت فريضة من الفرائض، ولا يزال في الوقت متسع لأدائها فإن هؤلاء يصلونها أداءً لا قضاءً، وهذا كما في حديث النائم: {من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يذكرها فإنه وقتها} فكذلك هنا وقتها بالنسبة له هو متى ما ظهرت عليه علامة البلوغ، أو أسلم إن كان كافراً، أو طهرت إن كانت حائضاً، أو أفاق إن كان مجنوناً، قال: ' وإذا كان بعد خروج الوقت فلا إثم عليهم، وليس في ذمتهم أن يؤدوا تلك الفريضة التي ذهب وقتها، والتكليف لم يجب عليهم، فهذا المسيء الجاهل إذا علم بوجود الطمأنينة في أثناء الصلاة وجبت عليه الطمأنينة حينئذٍ ولم تجب عليه قبل ذلك.
' إن المسيئون لصلاتهم كثير، ولو أن كل واحد منا تعهد بأن يقوم في مسجده أو عمله أو مدرسته لتعليم من لا يستطيع كيفية صلاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لوجد العجب العجاب، فإن الملايين اليوم من المسلمين يصلون صلاة قد تكون صلاة المسيء صلاته في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر طمأنينة، أو أفضل منها، فهؤلاء نعلمهم الطمأنينة في الأركان كلها، وتجب عليهم الطمأنينة وهي ركن من أركان الصلاة، لكن هذه الركنية تكون في حقهم منذ أن نعلمهم، ولا نأمرهم بأن يعيدوا ما قبل ذلك.
فيقول شَيْخ الإِسْلامِ: 'فلهذا أمره بالطمأنينة في صلاة ذلك الوقت دون ما قبلها من الصلوات التي قد صلاها ولم يطمئن فيها، وإلا لكان في ذلك من الحرج والمشقة ما الله تعالى به عليم، ولكن الله تبارك وتعالى ما جعل علينا في الدين من حرج، وبعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحنيفية السمحة -ولله الحمد، قال:- وكذلك أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن صلى خلف الصف منفرداً أن يعيد، ولمن ترك لمعة من قدمه أن يعيد الوضوء والصلاة لأن الصلاة تترتب على الوضوء، وقوله أولاً للمسيء صلاته {صل فإنك لم تصل} تبين أن ما فعله لم يكن صلاة، ولكن لم يعرف أنه كان جاهلاً بوجوب الطمأنينة؛ فلهذا أمره بالإعادة ابتداء، ثم علمه إياها لما قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا -قال:- فهذه نصوصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في محذورات الصلاة والصيام والحج في من ترك واجباتها مع الجهل، وأما أمره لمن صلى خلف الصف أن يعيد فذلك أنه لم يأتِ بواجب مع بقاء الوقت، فثبت الوجوب في حقه حين أمره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبقاء وقت الوجوب، وأما أمره لمن ترك لمعة في رجله لم يصبها الماء بالإعادة؛ فلأنه كان ناسياً فلم يفعل الواجب، فكان كمن نسي الصلاة وكان الوقت باقياً -وهنا نلاحظ الفقه، قال:- فإنها قضية معينة بشخص لا يمكن أن يكون في الوقت وبعده، أعني أنه رأى في رِجل رَجل لمعة لم يصبها الماء، فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة، رواه أبو داود وقال أحمد بن حنبل حديث جيد ' فهذا الرجل الذي بقي في رِجله مثل الدرهم يعرف أن الوضوء واجب، وأنه شرط لا بد منه للصلاة، ويعلم أن الوضوء لابد أن يكن سابغاً، فتوضأ ونسي ذلك المقدار، فلما رآه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره أن يعيد الوضوء، وأن يصلي بوضوءٍ كاملٍ، إذاً الفرض أن الوقت كان باقياً، وهذه القضية قضية شخصية تتعلق بهذا الرجل فلا يؤخذ منها قاعدة، كما أخذ بعض الفقهاء، فيقولون: كل من ترك واجباً فإن عليه الإعادة؛ فهذه حالة غير حالة الذي لم يبلغه الخطاب، فلا يقاس عليه من كان يعلم الحكم لكن لم يلتزم به، فإن هذا يعتبر تاركاً عن عمد وعن إصرار، فلا يقاس عليه.
فإذاً: هي حالة معينة لمثل هذا الرجل، فلو أنك رأيت أحداً ترك شيئاً من أعضاء الوضوء، فأرشدته إليه، أو ترك واجباً من واجبات الصلاة، أو فاته ركن من أركانها، فنبهته إلى ذلك فالواجب عليه أن يأتي به، ويستمر كهذه القضية، لكن لا يقاس عليها الذي لم يبلغه شيء من قبل لأنه لا يزال جاهلاً بخطاب التكليف، قال: 'وأما قوله: {ويل للأعقاب من النار} ونحوه فإنما يدل على وجوب تكميل الوضوء وليس في ذلك أمر بإعادة شيء' كما أن قوله ليس فيه ما فهمه بعض الفقهاء: أنه يجب على هذا الرجل أن يعيد كل صلواته التي صلاها من قبل، ولم يكن يسبغ الوضوء، وإنما يدل على وجوب تكميل الوضوء، هذه الحالة الأولى وهي حالة الجاهل الذي لم يبلغه الخطاب.(69/3)
توبة من ترك الصلاة معتقداً سقوطها عنه
الحالة الثانية: لمن أراد أن يتوب وأناب إلى الله تبارك وتعالى، وجاء إلينا وقال: أنا كنت تاركاً للصلاة وأريد أن أتوب، فهل ترون أن أقضي، أم ماذا أفعل؟ فنقول له: كيف كنت تترك الصلاة وتعلم أنها الركن الثاني من أركان الإسلام، وأن الله تبارك وتعالى قال فيها: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] وأن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {العهد الذين بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} فقال: إنه كان يعتقد أن الصلاة تسقط عن العارفين، أو عن الواصلين، وهذه بدعة الصوفية التي تملأ معظم بلاد العالم الإسلامي -وهي ضلالة كبرى، وفرية عظمى- أن أحداً من الخلق يترك فرائض الله مدعياً وزاعماً ومتوهماً أنه قد وصل إلى الله، وأن الفرائض أو التكاليف -كما يسمونها- إنما تجب على العامة لأنهم لم يعرفوا التوحيد، وأما الخاصة، أو كما يقولون أحياناً: خاصة الخاصة الذين عرفوا التوحيد، فهؤلاء لا يحتاجون إلى أن يأتوا بهذه الفرائض، لأن هذه مرحلة يفعلها المريد، وهم قد وصلوا وعاينوا الحق كما يقولون -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- وفي نظرهم أنه قد اتحد المخلوق بالخالق.
فإذا كان الذي جاءنا تائباً منيباً من هذا النوع -وهم كثير- وقال: كنت أعتقد أني بلغت درجة العارفين، أو الواصلين وزين لي ذلك شيوخ الضلالة في الطريقة التي كنت أنتمي إليها، والآن عرفت أن الصلاة لا تسقط عن أحد، ولو كانت ساقطة عن أحد لكمال علمه أو يقينه كما يؤولون قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] لكانت سقطت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسائر الصحابة لأنهم أعلم الخلق بالله، وأكثر الخلق يقيناً الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه وسلم ثم صحابته رضوان الله عليهم، فهل تركوها؟ فالمعلوم أنه لم يتركها منهم أحد إلا إذا دخل في سكرات الموت، أما قبل ذلك فيصلي إما قاعداً، أو على جنبه، أو على أي حال من الأحوال، ولم يكن يترك الصلاة أبداً، بل كانوا يوصون بها، فقد أوصى بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو في حال الاحتضار، وأوصى بها قبيل موته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأوصى بها عمر رضي الله تعالى عنه، وهذه أهمية الصلاة عندهم، إذاً: لا يمكن أن تسقط الصلاة عنهم إلى الموت، فإذا مات أحدهم سقطت عنه.
ومن باطل الصوفية أن الشيخ يصلي عنهم، فمن المصائب الكبرى التي ابتليت الأمة بها شيوخ الضلالة أن الشيخ يصلي عن أتباعه ويحفظهم، وبعض الشيوخ وصل به الحال كما فعل التيجاني وكما ينسبون أيضاً إلى غيره مثل الشاذلي والبدوي والجيلاني أنه يقول: الشيخ الذي يدخل مريده النار فليس بشيخ، ومن جاءه مريده يستغيث به أو يدعوه عند قبره ولم يجبه فليس بشيخ، فلقد جعلوا أنفسهم أرباباً، أو جُعلوا أرباباً من دون الله لأن بعضهم ما قال هذا الكلام.
والتيجاني ينسبون إليه في كتبه أنه قال: لا يدخل النار من رآني أو من رأى من رأى إلى سابع رجل يرى أحمد التيجاني مع أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رآه المشركون وهم من أهل النار، ومنهم الذين آذوه في مكة، ومنهم الذين في قليب بدر وغيرهم من اليهود الذين رأوه في المدينة، فهذا شيء لم يكن، وحتى أبناء أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهم، وغيرهم من الصحابة ما ضمن لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجنة لأنهم رأوا من رآه، أو يقول: كل من رأى أبا بكر فحرام عليه النار، ومن رأى عمر كذلك فكيف بالسابع، فكيف بغيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما يقرب كل إنسان إلى الله عمله وتقواه لله عز وجل.(69/4)
حكم من ترك الصلاة معتقداً سقوطها عنه ثم تاب
من كان يعتقد أن الشيخ يصلي عنه، أو أن لله عباداً أسقط عنهم الصلاة -كما يتوهم بعضهم، وهم كثير- من المنتسبين إلى الفقر والزهد، والفقير الذي نعرفه وهو المعروف في اللغة وكما هو معروف عند العامة: أنه الذي لا مال له ولا متاع، أما عندهم فهو في الحقيقة ترجمة لكلمة هندية، فالفقير في لغة الهندوس، والبوذيين وأشباههم هو المنقطع لله الزاهد، أو الراهب على دينهم الذين يتعبدون به، ولهذا قال بعض الصوفية: إن الفقر هو الله -تعالى الله عما يقولون- وهذا كلام عجيب.
وفي الفتاوى سئل شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله عمن يقول: إن الفقر هو الله -تعالى الله- كيف يكون الفقر هو الله؟ لكن لأنهم يعنون بالفقر مصطلحاً آخر غير ما يعرفه الناس، هؤلاء الذين يقولون: إن الله قد أسقط عنا الفرائض حكمهم أنهم متأولة، أي: أنه ترك الصلاة متأولاً وهذا من أقبح أنواع التأويل، لأنه لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يصل الجهل بالمسلم إلى الجهل المركب وإلى أن يظن أن الصلاة تسقط بالتأويل، ولهذا قال شَيْخ الإِسْلامِ: 'فهؤلاء يستتابون باتفاق الأئمة' فهو إجماع بين العلماء والفقهاء أنهم يستتابون، فإن أقروا بالوجوب -وأن الله تعالى أوجب علينا هذه الصلاة- فيجبرون على أدائها، ويكونون من جملة المسلمين لهم مالهم وعليهم ما عليهم، كما أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ما لنا وعليه ما علينا} وإن لم يفعل ذلك فليس له هذا الحق، قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] فتبدأ الأخوة في الدين منذ أن يصلوا، فإن أبوا وجحدوا وجوبها عليهم، فهؤلاء يقاتلون قتال المرتدين.
قال شَيْخ الإِسْلامِ: 'ومن تاب منهم وصلى لم يكن عليه إعادة ما ترك قبل ذلك في أظهر قولي العلماء -لأن المسألة فيها قولان؛ لكن الأظهر من القولين أنه لا إعادة عليهم، فقال:- فإن هؤلاء إما أن يكونوا مرتدين، وإما أن يكونوا مسلمين جاهلين بالوجوب، فإن قيل: إنهم مرتدون عن الإسلام؛ فالمرتد إذا أسلم لا يقضي ما تركه حال الردة عند جمهور العلماء' فيريد شَيْخ الإِسْلامِ هنا أن يلزم الفقهاء المخالفين الذين قالوا: إن عليهم القضاء.
وأخذ يستدل على ذلك فقال: 'كما لا يقضي الكافر إذا أسلم ما ترك حال الكفر باتفاق العلماء' ومثله: ما لو جاءنا اليوم رجل من أمريكا أو من الهند أو من أي بلد سواء كان عابداً للنار، أو عابداً للصليب، أو يهودياً، أو كائناً ما كان دينه، وآمن بالله تبارك وتعالى، فإننا نقول: قد تبت من الكفر وعليك الصلاة، ونعلمه أحكامها، ويبتدئ عليه الوجوب منذ أن أسلم باتفاق العلماء، ولا نقول له: اقضِ منذ أن بلغت سن البلوغ إلى اليوم، لأنها قضية متفق عليها بين العلماء وهو أن الوجوب يبتدئ في حقه منذ إعلان إسلامه، فتبعاً لذلك قال جمهور العلماء: وكذلك المرتد لا يجب عليه أن يأتي بما تركه في حال كفره، وردته.
قال شَيْخ الإِسْلامِ: 'ومذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد في أظهر الروايتين عنه -هذا هو الاتفاق- والأخرى يقضي المرتد كقول الشافعي والأول أظهر ' -ثم أخذ يأتي بالأدلة على ذلك، ويقول:-: 'فإن الذين ارتدوا على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كـ الحارث بن قيس، وطائفة معه أنزل الله فيهم {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران:86] الآية والتي بعدها، وكـ عبد الله بن أبي السرح والذين خرجوا مع الكفار يوم بدر أنزل فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل:110] فهؤلاء عادوا إلى الإسلام، وعبد الله بن أبي السرح عاد إلى الإسلام عام الفتح وبايعه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يأمر أحداً منهم بإعادة ما ترك حال الكفر في الردة، كما لم يكن يأمر سائر الكفار إذا أسلموا' فلم يأمره النبي بأن يعيد ما كان قد ترك من الأركان أو الواجبات في حال ردته، وهذا معلوم وثابت من السيرة، بل عاملهم معاملة الكافر إذا أسلم.
قال شَيْخ الإِسْلامِ: 'وقد ارتد في حياته خلق كثير اتبعوا الأسود العنسي الذي تنبأ بـ صنعاء في اليمن -والذين عظمت فتنته حتى سلط الله عليه من قتله على فراشه- ثم قتله الله، وعاد أولئك إلى الإسلام ولم يؤمروا بالإعادة' وكان ذلك قبيل وفاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم قال شَيْخ الإِسْلامِ: 'وتنبأ مسيلمة الكذاب واتبعه خلق كثير' كانوا في اليمامة، وهؤلاء توفي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم ما يزالون على ردتهم، ثم جاء من بعده خليفته أبو بكر رضي الله تعالى عنه، قال شَيْخ الإِسْلامِ: 'قاتلهم الصديق والصحابة بعد موته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أعادوا من بقي منهم إلى الإسلام، ولم يأمر أحداً منهم بالقضاء، وكذلك سائر المرتدين بعد موته '.
ثم قال شَيْخ الإِسْلامِ:-: 'وكان أكثر البوادي قد ارتدوا، ثم عادوا إلى الإسلام' فكما هو معلوم أنه عندما توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفر أكثر العرب وارتدوا، ولم يبق إلا ثلاث مدن هي: مكة والمدينة والطائف وفي البحرين وهم: بنو عبد القيس؛ لأن العقلية العربية والعقلية الجاهلية في كل زمان ومكان ترى أن المبادئ والعقائد ترتبط عندهم بالأشخاص، فإذا مات ظنوا أن دينه قد انتهى، فهذا هو الظن الباطل الذي ظنوه بالدين الذي أنزله الله تبارك وتعالى ليبلغ ما بلغ الليل والنهار، وليظهره الله على الدين كله ولو كره المشركون، ولو كره الكافرون، فقالوا: مات محمد، إذن مات دينه، وظنوا أن الأمر سوف يرجع جاهلية، ويرجعون إلى عكاظ ومجنة وذي المجاز والأشعار، والأخبار، ونهب الطرق، وعبادة الأصنام لأن الإيمان لم يدخل قلوبهم، أما من آمن كما في هذه المدن الثلاث، ومن حولها ومن كانوا في البحرين وغيرها، ممن ثبت الله تبارك وتعالى الإيمان في قلبه، فإنهم كانوا أكثر علماً بالله، وأكثر يقيناً فيه وثقة في وعده، ونصرة لدينه من أن يرتدوا عنه.
إذاً ترك أكثر العرب دينهم وارتدوا، فقاتلهم الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ولم يأمروا أحداً منهم بأن يقضي، وأن يعيد ما كان قد فاته من الصلوات، ثم قال شَيْخ الإِسْلامِ: 'ولم يأمر أحداً منهم بقضاء ما ترك من الصلاة، وقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] يتناول كل كافر' فكل كافر يتوب يغفر الله تبارك وتعالى له ما قد سلف، وهذا فضل من الله تبارك وتعالى ونعمة، وباب عظيم من أبواب الدعوة وتأليف القلوب، فإن كان كافراً أصلياً فإن باب الله مفتوح، وما عليه إلا أن يتشهد وأن يؤمن بالله حقاً، وأن يدخل في هذا الدين بصدق وإخلاص؛ فيكون كواحد من المسلمين، ويغفر له ما قد سلف، هذا فضل ونعمة من الله.
وكذلك من أضله شيطانه، أو جهله وغيه، فارتد -عياذاً بالله- بعد أن عرف الحق يظل أمامه الأمل، وباب التوبة مفتوحاً، ليتوب إلى رشده، ويعود إلى الحق، وهذه ميزة عظيمة ورحمة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذا على اعتبار أن هؤلاء كان حكمهم حكم المرتدين.
والحالة الأخرى: أن يكون لهؤلاء الصوفية المتأولين حكم الجهال قال: 'وإن قيل: إن هؤلاء لم يكونوا مرتدين، بل جهالاً بالوجوب، وقد تقدم أن الأظهر في حق هؤلاء أنهم يستأنفون الصلاة على الوجه المأمور به ولا قضاء عليهم' وهنا نرجع إلى الأدلة التسعة التي ذكرناها سابقاً، قال: 'فهذا حكم من تركها غير معتقد بوجوبها' فهذا حكم يشملهم جميعاً وإن اختلف السبب؛ فهذا يعتقد أنها غير واجبة لأن الشيخ يصلي عنه، أو لأنه من العارفين، والآخر يعتقد عدم وجوبها لأنه لم يبلغه حكمها.(69/5)
حكم من ترك الصلاة معتقداً وجوبها
قال شَيْخ الإِسْلامِ: 'أما من أعتقد وجوبها مع إصراره على الترك فقد ذكر عليه المفرعون من الفقهاء فروعاً: أحدها هذا، وقيل عند جمهورهم: مالك، والشافعي وأحمد وإذا صبر حتى يقتل فهل يقتل كافراً مرتداً، أو فاسقاً كفساق المسلمين؟ على قولين مشهورين'.
وهنا كلام طويل للعلماء، فإذا كان رجل يعتقد أنها واجبة ولكنه لا يصلي سألناه وناقشناه فأقر بالوجوب، لكنه يرفض الصلاة؛ فجيء به إلى القضاء وقيل له: تب، أو أدِّ ما افترض الله تعالى عليك، وإلا فاعلم أن جزاءك القتل، وستؤخذ إلى الساحة، ويراك الناس ونفصل هذا الرأس عن هذا الجسد إن لم تصل، فقال: لا أصلي أبداً، فجيء به وضربت عنقه، ففي هذه الحالة ما حكم هذا الرجل؟ فـ شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله يقول: من قال إن هذا فيه خلاف فهو مخطئ قال: ' وهذه فروع فاسدة؛ لأن الصحابة رضي تعالى عنهم لم ينقل عنهم شيء من هذه الفروع، وهم أكمل الناس فقهاً، وعلماً' قال شَيْخ الإِسْلامِ: 'فإن كان مقراً بالصلاة في الباطن معتقداً وجوبها' أي: بداهة بأن الله خالقه، ومعبوده، وأنه قد أمره بالصلاة، وأنه يجب عليه أن يؤديها، ثم قال: 'يمتنع أن يصر على تركها حتى يقتل وهو لا يصلي، هذا لا يعرف من بني آدم وعادتهم، لأنه لا يكون مقراً بشيء أو محباً له أو مؤمناًُ به، ثم يرغم عليه أن يفعله، إلا إذا كان رافضاً له، فهذا دليل على كفره، وأنه لا يقبله أبداً، وإلا كيف يفضّل السيف عليه وهو في باطنه يحبه هذا أولاً'.
'أما ثانياً: -وهي كلمة عظيمة له رحمه الله فقال:- ولم يقع هذا قط في الإسلام ' أن يصر على ترك الصلاة وإن قطعوا رأسه إلا من كان زنديقاً في الباطن، أما أن يكون في باطنه مؤمناً فلا، أو جاهلاً فنعلمه، لأن الجاهل لا يعرض على السيف حتى يعلم، قال: 'فمتى أمتنع الرجل من الصلاة حتى يقتل، لم يكن في الباطن مقراً بوجوبها، ولا ملتزماً بفعلها، وهذا كافر باتفاق المسلمين ' كما قال رحمه الله في كتاب الإيمان إذا جئنا برجل وقال: أنا من أهل السنة، فقيل له: ترض على أبي بكر وعمر، فقال: لا أترضى عنهما، قلنا: نقتلك، ونضربك، ونعذبك فأبى، فلا يصدق أحد أنه -في باطنه- من أهل السنة ويحب أبا بكر وعمر بل نكتشف أنه رافضي؛ لأن الرافضة لشدة حقدهم، وعداوتهم للشيخين الكريمين رضي الله تعالى عنهما خصوصاً ولعامة الصحابة الآخرين، لا يمكن أن يترضوا عنهم، فالمؤمن من أهل السنة على الحقيقة لا يمنعه شيء أن يترضى عليها، لأنه مقتنع بذلك، ولا يمكن أنه يحتمل الضرب فضلاً عن القتل في سبيل فعل شيء هو مقتنع به، ولا يكون كذلك إلا إذا كان كارها له.
فلو جئنا بإنسان وقلنا له: هذا طعام نظيف كله، وهو شدَّة من الجوع، فأبى أن يأكل، فقلنا: نضربك حتى تأكل مع أن الجائع لا يحتاج إلى الضرب ليأكل، لكن إذا امتنع حتى ضربناه، فهذا دليل على أنه إما مسموم أو حرام، لأنه فضل الضرب على أكله ولا يمكن أن يتركه وهو جائع، فالقاعدة التي يعرفها الناس جميعاً أن من تحمل العذاب أو الضرب أو القتل في سبيل شيء معين فهو معتقد له، وهذا واضح وهذا الرجل عقيدته أن يترك الصلاة، والذي وقع هو أن يؤتى برجل، ويقال له: صل، فإن أبى فنعلم أن هذا الرجل منافق زنديق ملحد، كما حدث لبعض من درسوا في بلاد الغرب، أو اعتقدوا العقائد الباطلة الكفرية، كـ الشيوعية والإلحاد أو غيره، وفعلاً يصرون على ألا يصلوا فنعرف أنه قد تغلغلت في نفسه هذه العقيدة الخبيثة، حتى أصبح يرى أن عليه أن يموت ولا يرجع إلى الدين، فهذا يموت كافراً، ويقتل كافراً، ولا يجوز أن نختلف في حكمه، فنقول: لعله يكون مقراً بالوجوب، وهذا من فقه شَيْخ الإِسْلامِ، وقد أخذه من حال ومعاملة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم مع من تركوا شيئاً من الدين.
قال شَيْخ الإِسْلامِ: ' استفاضت الآثار عن الصحابة بكفر هذا ودلت عليه النصوص الصحيحة كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة} رواه مسلم وقوله: {العهد الذي بينا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} وقول عبد الله بن شقيق: [[كان أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة]] فمن كان مصراً على تركها حتى يموت لا يسجد لله سجدة قط؛ فهذا لا يكون قط مسلماً مقراً بوجوبها، فإن اعتقاد الوجوب واعتقاد أن تاركها يستحق القتل داع تام إلى فعلها' فمعنى كلامه: أن الإنسان يقوم في قلبه المقتضي أو الدافع الذي نسميه الآن في مصطلحاتنا الحديثة (الدافع التام أو الدافع القوي) لعمل معين، فهذا إذا اكتمل لدى الإنسان، وجاء أيضاً من يحضه عليه ولم يكن مانع من فعله؛ فلا بد أن يفعله، فالاعتقاد أن تاركها يستحق القتل، وأن هذا من الدين مع اعتقاده بوجوبها فهذا داع تام ودافع إلى فعلها، ثم قال: 'والداعي مع القدرة يوجب وجود المقدور، فإذا كان قادراً ولم يفعل قط عُلِمَ أن الداعي في حقه لم يوجد -أي الدافع غير موجود، ولو وجد لصلى أو صام أو زكى أو عمل، ثم قال- فالاعتقاد التام لعقاب التارك باعث على الفعل؛ لكن هذا قد يعارضه أحياناً أمور توجب تأخيرها وترك بعض واجباتها وتفويتها أحياناً' أقول هذا وأنا آسف جداً، لأني سمعت شريطاً لأحد الدعاة، وله إلمام بعلم الحديث، ويدير أحد المراكز الدعوية، وجدته يقرر أن تارك الصلاة ليس بكافر، ويقول: الإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل، وتارك العمل ليس بكافر، ويؤصل لهذه القضية، فكأنه يدعو الناس إلى حقيقة غائبة عن أذهانهم من العقائد، ومثله الذي كتب كتاباً أسماه " فتح من العزيز الغفار وبيان أن تارك الصلاة ليس بكافر من أهل النار " فعجيب أمر هؤلاء، وخاصة الأخ الداعية كيف أنه نسي أو غفل عن النقل الصحيح، وعن إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم على ذلك، وإطباق أئمة الإسلام وخاصة أهل الحديث على ذلك، وقول وفتاوى علمائنا المعاصرين -حفظهم الله- كلهم متفقون على أن تارك الصلاة عامداً مع قيام العلم والحجة كافر.
وتعجبت من قوله بأن هذا من عقيدة أهل السنة والجماعة فمعنى كلامه: أن من اعتقد غير ذلك؛ فإنه على غير عقيدة أهل السنة والجماعة، فعقيدة الخوارج هم الذين يكفرون بترك بعض الأعمال، وهذا كلام عجيب، مع أن شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله يقرر هذا الأصل، وهذه العقيدة الواضحة الجلية في مواضع من كتبه ولا سيما في كتاب الإيمان بتوسع.
لكن نقول: لعل اللبس جاء من أن بعض الناس يصلي أحياناً، ويفوت أحياناً، ويؤخر أحياناً، وهذا ما نسأل عنه كثيراً فمثلاً: تتصل امرأة وتقول: زوجي أحياناً يصلي، وأحياناً لا يصلي، فهل أفارقه؟ وتقول: قرأت أو سمعت بعض العلماء يقول: إن الرجل إذا كان تاركاً للصلاة فإن زوجته تحرم عليه، والعقد باطل، والأبناء أبناء زنا وما أشبه ذلك، فتقول: إذاً ماذا أفعل؟ وهكذا يقرءون بعض الأدلة كما في حديث عبادة -الذي سنذكره بعد قليل- فيقولون: إذاً الذي لا يحافظ على الصلاة لا يزال مسلماً، وهكذا مثل هذه الشبهات، فيقع في حيرة واضطراب، ويقول: كيف نقول: إن الإجماع قد انعقد وثبت على كفره، ومع ذلك نسمع من يقول: لا.
أو مثل هؤلاء المساكين، تقول: إذاً ماذا أفعل أنا؟ هل فعلاً أتركه وأفارقه؟ فنقول: من هنا يأتي اللبس.(69/6)
الفرق بين تارك الصلاة وبين المتهاون فيها
نقول هناك فرق بين التارك المطلق للصلاة، وبين الذي لا يحافظ عليها، فالتارك المطلق هو الذي لا يصلي أبداً، وهذا كافر لا ينبغي ولا يجوز أن نتنازع فيه.
أما المتهاون وهو: الذي ينام عن فريضة -مثلاً- ويؤدي فريضة، فهذا ليس بغريب أن نقول: إنه كفر في الفجر عندما لم يصل الفجر ثم جاء الظهر فصلى فأسلم، فهذه طبيعة وحالة ذكرها الله عن المنافقين وأنهم درجات، فمنهم المنافق المحض الذي لم يدخل الإيمان قلبه أبداً، ومنهم الذي نفاقه عن ضعف إيمان، فهو لم يصل وإن كان يسمى بالمنافق لكن لا يصل به الحال لأن يكفر؛ لكنه يصلي أحياناً ويترك أحياناً إلى أن يقرب من الخيط الرقيق الفاصل بين الإسلام والكفر، فهو يذهب مرة ويعود مرة إلى أن يقرب من حافة الكفر، ومرة يعود إلى دائرة الإيمان، فهذا حال واقع عند كيثر من الناس.
فرجل يصلي أحياناً ويترك أحياناً، فهو في هذا التأرجح بين الإيمان والكفر، فهذا نقول له: كن مسلماً حقاً وحافط على صلاتك، وإلا قد تموت ويأتيك الأجل وأنت في الخط الآخر وقد خرجت، فتموت كافراً، وليس هناك خاتمة أسوء من خاتمة الذي يموت على الكفر، ولا سيما وقد عرف الإيمان، وهو يأتي إليه أحياناً ويعود إليه إحياناً، فهذا نقول له: ابتعد ما استطعت عن دائرة الكفر بأن تحافظ على الصلاة في أوقاتها جماعة.
إن هذا الحال هو الذي قد يشكل، وقد يسبب نوعاً من الخطأ في الفهم أو في التصور، قال شَيْخ الإِسْلامِ: ' فأما من كان مصراً على تركها لا يصلي قط، ويموت على هذا الإصرار والترك فهذا لا يكون مسلماً؛ لكن أكثر الناس يصلون تارة ويتركونها تارة فيشتبه الحكم، فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها وهؤلاء تحت الوعيد ' وهم الذين جاء فيهم الحديث الذي في السنن عن عبادة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة، من حافظ عليهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عهد عند الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له} ' فبعض العلماء فهم من الحديث أن المقصود هو: من لم يحافظ عليها بالكلية وهذا فهم خطأ، والصحيح أن هناك فرقاً بين من لم يحافظ، ومن يترك بالكلية، فالأول تحت المشيئة والثاني كافر، وبهذا الجمع تتعاضد الأدلة في هذا الشأن.
لكن قد يعترض بعضهم بما قاله النووي وغيره من علماء الشافعية وأمثالهم فنقول: الخلاف موجود، وإنما نحن نريد بيان القول الراجح، وهو ما أجمع عليه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وأما غيرهم فيقول شَيْخ الإِسْلامِ -رحمه الله وقد قرر ذلك في: الإيمان الأوسط بشكل أوضح-: 'إن هؤلاء الذين يرون أن تارك الصلاة ليس بكافر دخلت عليهم شبهة المرجئة ' وهذا الأخ الداعية الذي ذكرته سابقاً دخلت عليه شبهة المرجئة، وهي فصل القول عن العمل، بينما لا يمكن أن ينفصل القول عن العمل عند أهل السنة والجماعة فإذا وجد قول القلب التام المطلوب شرعاً، فإنه يستلزم عمل الجوارح بقدره، فمن كان عمل قلبه قوياً للغاية يقيناً، وإخلاصاً، وصدقاً، وانقياداً، فلا بد أن يصلي صلاة خاشعة، صادقة، منقادة يظهر في إيمان هذا القلب، ومن كان إيمانه أقل فإن صلاته وبقية أعماله كذلك، أما من لم يؤد الصلاة مطلقاً فهذا دليل على أنه لا إيمان في قلبه مطلقاً.
إذاً: هذا حكم التائب الذي تاب وقد ترك الصلاة؛ أن ننبهه ونذكّره بأن عليه أن يصلي، ونذكره بالله، وأنه لا يجوز له أن يترك فريضة من فرائض الله لأنه سيكون بهذا كافراً، ونقول له: يجب عليك أن تعيد، أو أن تقضي ما فات من الصلوات.(69/7)
مفهوم العبادة
في هذه المادة تحدث الشيخ عن الحاجة الفطرية إلى العبودية، وأنه ما من أحد إلا والعبودية مغروسة فيه، فهو بفطرته عبد، ثم بين أن البشر إنما يختلفون في المعبود، وفي كيفية العبادة، وذكر سبب ضلال البشر بعد آدم عليه السلام، ثم تكلم عن المعبودات الباطلة من دون الله، متطرقاً إلى موضوع شمولية العبادة، مع إيراد عدد من الأدلة على ذلك؛ وتكلم عن عبادة أصناف الناس كالملوك والعلماء والتجار وغيرهم، مبيناً خطر البدعة وتاريخ دخولها على الإسلام، وخطر الفرق ذات الأفكار الدخيلة، وعلى رأسها فرقة الصوفية بطرقها المختلفة.(70/1)
الحاجة إلى العبادة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
أما بعد: يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56 - 57] فالله تبارك وتعالى قد بيَّن في هذه الآية الغاية من خلق الثقلين وهي (عبادته)؛ وهذه العبادة يفتقر إليها المخلوق افتقاره إلى الطعام والشراب؛ بل ربما كان أكثر من ذلك؛ لأن جوعة الروح وجوعة القلب أعظم من جوعة الجسد، فإن الإنسان لا يستطيع الاستغناء عن الطعام والشراب، وكذا عن الجو الذي يعيش فيه جسده، فكذلك -بل أعظم منه- لا يستطيع الإنسان أن يكون في كفاية عن غذاء الروح (أي: عن العبودية لله).(70/2)
حاجة العبد إلى الله حاجة فطرية ذاتية
إن افتقار المخلوق إلى أن يكون عبداً لله -تبارك وتعالى- هو افتقار ذاتي فطري، وهو حاجة رجوعة لا يسدها حقاً إلا عبادة الله وحده لا شريك له، وهو الذي أودع في العبد هذه الحاجة الفطرية، وهذا الافتقار الذاتي؛ كي يعبده وحده تبارك وتعالى، ولذلك مدح الله سبحانه نبيه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أعظم مقامات التشريف، وهو: مقام الإسراء والمعراج الذي لن يبلغه قبله بشر ولم يبلغه أحد بعده، فقال تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) [الإسراء:1] فوصفه بالعبودية؛ لأنها أشرف مقام، ولأنها أعظم ما تطمح إليه النفس البشرية؛ فبتحقيق العبودية لله -تبارك وتعالى- يرتقي العبد إلى أعلى درجات الكمال الإنساني الذي يمكن أن يبلغه أي بشر، وأعظم الناس عبودية هم: الملائكة، والأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل من البشر، ممن انتهج منهجهم، وسار على طريقهم.(70/3)
الكفار يلجئون إلى الله
وهذا الافتقار الذاتي إلى عبادة الله من فطريته وضروريته في النفس الإنسانية، أنه لا يمكن أن ينكره منكر، ولا يكابر فيه مكابر، حتى الكفار الذين جحدوا آيات الله، وعاندوا أنبياء الله، وردوا ما جاءوا به من أمر الله، واستكبروا على عبودية الله، فإنك في وقت الشدة تراهم يذعنون لله تبارك وتعالى بالعبودية، ويظهرون الافتقار والحاجة إليه، في ذلك الوقت (وقت الضرورة) الذي تنتفي فيه كل البهارج وكل ما يكون على القلب من الكبر والعتو.
إذاً: كما ذكر الله عنهم في القرآن حاكياً حالهم بأنهم إذا ركبوا في الفلك وأحاط بهم الموج من كل مكان، حينئذٍ ينسون آلهتهم، ويعلمون أن تلك الآلهه {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [النجم:23] فهم الذين اختلقوها واخترعوها، وهم أول من يعلم أنها لا تغني ولا تنفع ولا تضر؛ فيدعون الله تعالى بتضرع وبكاء.
وهنا سأذكر أمثلة من العالم الحاضر، الذي يعيش الآن في أعتى درجات التكبر عن عبادة الله وعن الإذعان والإعلان بالعبودية لله، بل عن الإقرار لله تعالى بالألوهية، بل بوجوده تبارك وتعالى؛ فهم ينكرون أن يكون الله موجوداً، فضلاً على أن يتقربوا إليه بالعبادة، أو يخضعوا له.
هذا العالم المتجبر المتكبر، وإنَّ أعتى وأكبر من يمثل ذلك هي: الشيوعية الملحدة، وأعتى دول الشيوعية في العالم هي: الاتحاد السوفيتي، وإن أعتى طواغيت هذه الدولة هو: استالين عندما اجتاحت جيوش هتلر أراضي بلاده -أثناء الحرب العالمية الثانية- وكانت بلاده تحرم الأديان تحريماً قاطعاً، بل وحظرتها حظراً باتاً وأقفلت دور العبادة من أي ملة؛ فعند ذلك لم يكن لديه أية حيلة ولا أي منقذ، وهنالك يأمر هذا الطاغوت اللعين أن تفتح أبواب الكنائس، وأن يتضرع الناس بدعاءِ الله، وأن يطلبوا من الله التأييد على هتلر وعلى جنوده النازيين!! فهذا الإقرار الذي ذكره الله تبارك وتعالى عن الأمم الخالية يتمثل أمامنا في أعتى طاغوت من طواغيت أعتى دولة شيوعية ملحدة تنكر وجود الله.
! وأذكر أنني قرأت في مذكرات شدشد أنه هو وإيزنهاور عندما كانا يتوليان قيادة جيوش الحلفاء في الحرب العالمية نفسها، أنهما كانا على إحدى البوارج في البحر، وكان الموقف في أشد ما يكون من الحرج، وكانت جيوش النازية ما تزال في عنفوان وقمة انتصاراتها واجتياحها لـ أوروبا؛ وعندئذٍ عملا قداساً على ظهر البارجة وأخذا يبتهلان إلى الله! وهما الرجلان اللذان لم يعرفا الله عز وجل من قبل؛ فهؤلاء عتاة الشرق والغرب في عالمنا المتمرد على الله يلجئون وقت الشدة إلى الله، ويعترفون أنه لا ملجأ ولا منجىً منه إلا إليه، وأنه هو الذي يغيث الملهوف، وينقذ المكروب ويكشف الغم.
فالعبودية ضرورة فطرية، فطر الله تبارك وتعالى عليها كل واحد.(70/4)
الاختلاف في العبودية عند البشر
إن واقع البشر الذي نراه يختلف اختلافا بيناً لا في قضية العبودية من أصلها أو في العبادة من حيث هي عبادة ولكن من حيث نوع العبادة، ومن حيث نوع المعبود، ومن حيث كيفية التعبد، وهنا ضلت الأمم وتاهت.(70/5)
سبب الضلال
قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} [البقرة:213] كان الناس أمة واحدة (أي: كانوا على التوحيد) فالمُقَدَّر هنا، (فأشركوا وكفروا) كما فسرها ابن عباس -رضي الله عنه- بقوله: [[كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام]] حتى أضلتهم الشياطين الذين جاءوا إلى قوم نوح وأمروهم أن يعيدوا ذكريات القوم الذين سماهم الله تبارك وتعالى من الرجال العبّاد: (ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسرا).
عشرة قرون والبشرية على التوحيد النقي، تعبد الله -تبارك وتعالى- ثم اختلفوا، ومنذ أن اختلفوا -وما يزالون مختلفين- ظهرت العبوديات المتباينة، والديانات المختلفة؛ التي منها ما كان من عند الله فحَّرفه الذين قال الله تبارك وتعالى عنهم: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة:79] وهم: الأحبار، والرهبان، والكهان، الذين اتخذهم أقوامهم أرباباً من دون الله، وحرفه -أيضاً- الطواغيت من الملوك والحكام من الفراعنة ومن قبلهم، ليعبِّدوا الناس لأنفسهم، كما قال عبد الله بن المبارك رحمه الله:
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها
جاء فرعون ليقول للقوم الذين كانوا يعبدون آلهة شتى: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] ويقول لهم: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24].
وممن قام بتحريف الأديان المبتدعة الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله كما قال سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] فكل من اتبع هواه في عبودية الله أو عبد الله لا كما أمر الله، وإنما كما يحلو له، أو كما يرد على خاطره، أو كما يرى من تقاليد آبائه وأجداده؛ فله حظ من ذلك.(70/6)
المعبودات الباطلة مظاهرها وأشكالها
لقد تعددت العبوديات وتنوعت؛ فهناك اليوم بشر! يعملون في المصانع النووية، وينتجون القنابل الذرية التي يهددون بها المسلمين، ولكنهم يعبدون البقر! هذا الحيوان المعروف الذي نراه!! ويتبركون بما يخرج منها!!! وهناك من يعبدون البشر ويعطونهم الربوبية الكاملة وهم -أيضاً- أحياء، وفي القرن العشرين القرن الذي يقال عنه: إنه قرن الحضارة والعلم والتطور، وإن مرحلة الدين هي مرحلة تجاوزتها الإنسانية وخلفتها وراءها، وانتقلت الآن إلى طور الحضارة وطور العلم، وما الدول الشيوعية إلا نموذج لذلك.
ويوجد -أيضاً- عُبَّاد الشهوات الذين يعبدون الهوى، والذين يعبدون بطونهم وفروجهم، وهؤلاء يقدمون عبودية كاملة وعبودية حقيقية.
قد يقول البعض: إنها ليست عبودية بالمعنى الواضح، ولكنها في الأخير نرى أنها عبودية لمن أوحى ولمن وسوس ولمن زين هذه العبوديات؛ إما عبودية الشيطان، أو عبودية المرأة، أو عبودية الأفلام، أو عبودية الخلاعة، أو عبودية ما يسمى بالموضات، فكل هذه أنواع من العبودية.
وهناك -أيضاً- عبودية التقاليد وهي عبودية شديدة الوطأة فهي ثقيلة، ولا أدَّل على ثقل هذا النوع من العبودية من أنه في إمكان الإنسان أن يتعبد أو يصلي أو يستقيم مع أنه يتعرض للأذى لكنه قد يتحمل ذلك، لكن أن يخالف عادة اجتماعية أو تقليداً من تقاليد القبيلة أو من تقليد البيئة فهذا أشد شيء عليه، وهنا تظهر حقيقة اتباع الناس لهذه العبودية التي لم يشرعها الله تبارك وتعالى وإنما هي تقاليد، قال تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22] فقط! دون النظر إلى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أحل هذا أو حرَّمه.
هناك -أيضاً- عبودية أخرى، وهي عبودية اللهو واللعب (عبودية الملاهي بجميع أنواعها) فشياطين الجن والإنس الذين كما قال الله تبارك وتعالى عنهم: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] أوجدوا هذا النوع من العبودية لمن؟! للجماهير (الطبقة العريضة الممتدة من البشر الذين هم أقل من أن يفهموا الأفكار أقل من أن يستوعبوا المبادئ أو النظريات التي يخطط لها هؤلاء الشياطين) فجاءوا لهم بعبودية اللهو واللعب، ومنها: الكرة -كمثال على ذلك، فالفرق كبير بين (الرياضة -بين النشاط- بين الترفيه) بين أي نوع من الأنواع التي يمكن أن يقوم الإنسان بها مع نفسه أو مع غيره، فرق بين هذه وبين العبودية التي تعطي الولاء والبراء! تعطي المحبة والبغض! وهذا الذي فطن إليه شياطين الجن والإنس، فرأوا أن القلب البشري -كما خلقه الله- لا بد أن يُعادي وأن يوالي، أي: أن فيه خطان مزدوجان: خط الحب وخط البغض.
فمثلاً: عندما تسمع أي خبر في الإذاعة عن القتال في أفغانستان، فمجرد أن يخطر على بالك هذا الخبر فإنك سوف تتعاطف تلقائياً مع إخوانك المجاهدين، وتتمنى أن يكون الخبر مفرحاً، وأنهم حققوا انتصارات كبيرة على عدوهم! وبالمقابل تتغيظ من عدوهم وتبغضه، وتتمنى أن يحقق الله له الذلة والهزيمة الساحقة! (وهذه هي فطرة بشرية!)، فأراد شياطين الإنس والجن أن يأتوا إلى هذا الإناء فيفرغوا فيه ويضعوا فيه ما يملؤه مما يصرف البشر -وبخاصة المسلمين- ويجعلهم يعرضون عن الطريق القويم إلى طريق آخر، وهذا الإناء الذي جعله الله تبارك وتعالى لنا هو القلب، فإذا امتلأ بما يضعه هؤلاء الشياطين؛ فلن يبق فيه مجال لما يلقيه الملك الذي يأمرك بالخير، كما في الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (ويظهر أنه موقوف عليه) {إن للملك لمة وللشيطان لمة} فالقلب البشري تعتريه لمة الملك ولمة الشيطان، ولا يمكن أن يخلو القلب من هذا أو ذاك؛ فهؤلاء يريدون أن يجعلوا لمة الشيطان هي الغاية، فلا يبقى للمة الملك مدخل ولا منفذ إلى القلب البشري؛ ولذلك جاءوا بهذه المغريات، وأتوا بالتعصب والتحزب والولاء والعداء لها! فجعلوها كأنما هي غاية!! فتحققت عبودية المشتغلين بها على النحو الذي خطط له هؤلاء؛ فالقلب البشري لا يخلو من الحب والكره، وهما (أي: الحب والكره) مع الإرادة يحققان العبودية لأي معبود كان.(70/7)
شمولية العبادة
يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] أي: فكل بشر كادح وكل مخلوق كادح وكل مخلوق عابد كادح فهذا الكدح هو عبادة؛ فإن كان يكدح ويعمل في طاعة الله فهذا عبد لله، وإن كان يكدح ويعمل للدنيا فهو عبد للدنيا، وهو الذي قال فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم} وإن كان يكدح من أجل المرأة فهو عبد للمرأة، وإن كان يكدح من أجل أي هدف مادي أو أي غرض دنيوي فهو عبد لذلك الغرض.(70/8)
شمولية مفهوم العبادة في الإسلام وأدلته
ولشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رسالة قيمة عنوانها (العبودية) ذكر فيها هذا الأمر، وذكر ما هو أشمل منه؛ فكل مخلوق لابد وأن يكون عبداً، فإما أن يعبد الله، وإما أن يعبد غير الله، إما أن يوالي في الله فيحب إخوانه المؤمنين ويكره أعداءه الكافرين, وإما أن يوالي في غير الله، فيحب أعداء الدين ويكره المؤمنين، ولا يمكن أن يخرج الإنسان عن ذلك؛ لأنه كادح، وهذا الكدح لا بد أن يكون لغرض، ولا بد أن يكون وراء الكدح هدفاً معيناً، وهذا الهدف به تتحدد نوعية العبودية، فإذا كانت العبودية بهذا الشكل؛ فإننا نعرف لماذا كانت العبادة في الإسلام عامة وشاملة؟ في كل النشاط (الكدح) البشري ككل.
فالعبادة تحتويه وتحتضنه؛ فإما أن يكون في طاعة الله (من الواجبات أو من النوافل أو من المستحبات) وإما أن يكون في ضد ذلك من المنهيات أو من المكروهات، وإما أن يكون في درجة المباح، والمباح إن كان وسيلة للطاعة التحق بالطاعة، وإن كان وسيلة للمعصية التحق بالمعصية.
فكل إنسان بما أنه كادح فهو عابد، بل وإن كل دولة وكل أمة بما أنها بشر فهي عابدة لشيء ما، ولغرض ما، ولإله ما؛ فإما أن يكون هذا الإله هو الله تبارك وتعالى، وإما أن يكون الله ومعه غيره من الأوثان التي يشرك بها البشر، وإما أن يكون معبوداً لغير الله.
فمن هنا كان مفهوم العبادة في الإسلام أعظم وأشمل مفهوم، وفي ذلك جاءت الآيات وجاءت الأحاديث، التي ذكرها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كتابه العظيم، فذكر لنا من الآيات، والتشريعات، والعبر، ومن الحكم، ومن أخبار الأنبياء ما يدل على ذلك؛ فنجد نبي الله إبراهيم عليه السلام يخاطب الملك فيدعوه إلى عبادة الله، وكذلك موسى وهارون عليهما السلام يخاطبان فرعون، فيدعوانه إلى عبادة الله.
وهكذا كل نبي فإنه دائماً يدعو أمته إلى عبادة الله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:32]، وكما قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36].
فعبادة الله التي تضمنتها الكلمة العظيمة -كلمة لا إله إلا الله- كانت دعوة كل نبي بعثه الله، يخاطب بها الملوك، ويخاطب بها العوام، ويخاطب بها ما نطلق عليه المثقفين؛ كل هؤلاء مدعوون إلى عبادة الله فمن كان ملكاً فليعبد الله من خلال ملكه، فليقم شرع الله ودين الله عز وجلَّ كما قال جل شأنه: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41].(70/9)
عبودية العلماء لله
أما العلماء فعبوديتهم أعظم لله سبحانه؛ لأن الله -جل شأنه- جعلهم شهداء على ألوهيته دون غيرهم، كما قال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران:18] فجعلهم الله تبارك وتعالى شهداء في أعظم قضية وهي ألوهيته التي شهد بها الله -جل شأنه- ثم ملائكته الذين يسبحون له في الليل والنهار لا يقترون ولا يملون، ثم أولو العلم الذين يقيم الله تعالى بهم الحجة على العالمين.
فعبوديتهم أعظم؛ لأنهم الرقباء على البشر جميعاً؛ لأن العلماء في هذه الأمة هم في مقام الأنبياء في الأمم التي قبلنا، فهم رقباء على شرع الله عز وجل، وعلى أفعال الناس؛ ولهذا تجدون الإمام ابن القيم رحمه الله ألف عن العلماء كتاب (إعلام الموقعين عن رب العالمين)، فهم بمثابة الموقعين عن الله، لأن حكم الله لا نعرفه إلا عن طريق هؤلاء العلماء، فكأنما يوقعون هذا حرام من حرمه؟ الله، هذا حلال من أحله؟ الله، فإذا قال العالم هذا حلال أو هذا حرام فهو يوقع يخبرنا عن الله تبارك وتعالى؛ ومن هنا كانت عبوديتهم أعظم.
وهم يشهدون في الآخرة كما يشهدون في الدنيا، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الروم:56] وهذا عندما يقسم المجرمون أنهم ما لبثوا في هذه الدنيا غير ساعة، فمن يشهد يوم القيامة؟ أو من يقيم الحجة على المنكرين؟ إنهم الذين أوتوا العلم والإيمان؛ فالعلماء يشهدون في الدنيا ويشهدون في الآخرة؛ لأن رتبتهم هي رتبة الأنبياء، ومقامهم هو مقام الأنبياء.(70/10)
عبودية التاجر
وكذلك التاجر في متجره عليه عبادة عُظمى، وهي: أن يتقِ الله وألا يغش ولا يخون، وأن يكون صادقاً وألا ينفق بيعه وشراءه بالحلف الكاذب، وكذلك هو منهي عن المناجشة، وأن يبيع على بيع أخيه، وعن أن يبيع الحاضر للبادي، وأحكام في البيع، البيوع المحرمة البيوع المكروهه ومتى يجوز؟ ومتى لا يجوز؟ ما يتعلق بالخيار، ما يتعلق بالأجل، ما يتعلق بصفة المبيع أحكام شرعها الله تبارك وتعالى في هذا المجال، فأحل البيع، وحرم الربا، وحرم الغش، وجعل لكل شيء حكمه حتى الشفعة، وهي من الأحكام التي قيل: إن الأمم قبلنا لم تعرفها.
وشرع الله تبارك وتعالى أحكام التوارث، ولم يرضَ أن يكلها إلى أحد، بل فصَّلها في كتابه، وترك الاجتهادات المتفرعة عنها للعلماء، كلُّ ذلك شرعه الله؛ ليبين لنا أن هذا المال إنما هو أمانة؛ كما قال سبحانه: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7] فهو الذي استخلفنا فيه والمال ماله فلنتق الله فيه.(70/11)
عبودية المعلم والمتعلم
وفي مجال العلم: فالطالب أو المعلم كل منهم -أيضاً- عليه عبودية كاملة لله تبارك وتعالى، بأن يتقي الله ويعمل بما يُعلَّم أو يُعلِّم، وأن يدعو إلى هذا العلم الذي تعلمه، وأن يصبر على الأذى في الدعوة إلى الله إذا دعا إلى هذا العلم، وأن يجعل هذا العلم لوجه الله الكريم، لا يبتغي به أي عرض من أعراض الدنيا.(70/12)
عبودية المرأة
وهكذا المرأة: فالمرأة مطالبة بأنواع من العبوديات تتناسب وتتلاءم مع ما جعل الله لها، وما أودع فيها؛ فهي في بيتها تتعبد الله بطاعة زوجها، وبتربية ابنائها على دين الله، وبغض نظرها، وحفظ فرجها، وبعدم التبرج، وبكل ما شرع الله من الأحكام مما دلت عليه الآيات والأحاديث.
إذاً: فكل إنسان مطالب -من حيث أنه إنسان ومن حيث أنه مخلوق- بتحقيق العبودية لله، وهي عبودية عامة لا تدع شيئا من حياة الأفراد ولا من حياة الأمم إلا واستوعبته وشرحته، وبيَّنت منهجه كما جاء في الكتاب والسنة.(70/13)
البدعة وخطرها
إنَّ التعبد بما لم يأذن به الله، من أخطر ما أصاب الأمة الإسلامية؛ فقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه على الدين المعروف لنا جميعا (المنهج القويم) {ما أنا عليه وأصحابي} (أمة واحدة) كما ذكر الله عز وجل فكانت تعبد الله على الطريق القويم الذي لا عوج فيه، وكان كل شيء في هذه الأمة يمضي وفق أمر الله، ولا يُقدِّم أحد بين يدي الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أي أمر؛ حتى إن عمر رضي الله عنه لما رآه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه أوراق من التوارة، غضب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غضباً شديداً! وقال له: {لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي!} لو بعث أي نبي لاتبع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يأتِ بشيء من عنده مع أنه نبي، لأن الله تبارك وتعالى أخذ الميثاق على الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81] فالله عز وجل أخذ العهد على الأنبياء أن ينصروا محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يؤمنوا به، فما بالك بغيره من البشر؟!(70/14)
بدء الانحراف
لقد بدأ الانحراف عندما أخذت هذه الأمة تتلقى عن غير كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن القَدَر أن أول من واجه هذه القضية هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فعندما فتح سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه هو وجيشه الميمون المظفر مدائن كسرى تلك المدينة العظيمة التي ما كان يحلم العرب بأن يروها بأعينهم، فضلاً عن أن يدخلوها! دخلوا فوجدوا فيها الكتب الكثيرة عن الحضارة الفارسية والعقائد والأديان والعلوم التي كانت عند هذه الأمة في هذه المملكة؛ فكتبوا إلى عمر رضي الله عنه: [[يا أمير المؤمنين! قد وجدنا كذا وكذا فما رأيك أنحملها أم ننقلها للمسلمين فلعل فيها علوماً، فكتب رضي الله عنه إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أغنانا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن يكن في هذه الكتب هدىً فقد هدانا الله، وإن يكن فيها غير ذلك فقد كفانا الله، فاطرحوها في الماء أو حرِّقوها]] ولكن هذا الموقف الذي اتخذه عمر رضي الله عنه لم يظل هو الموقف المعمول به؛ فإنه جاء من بعده خالد بن يزيد الأموي الذي ترجم من كتب اليونان قليلاً، ثم أبو جعفر المنصور الذي ترجم بعض الكتب أيضاً، ثم جاء المأمون ففتح الباب على مصراعيه، ودخلت البدع من كل مكان، تُلقي وراء ظهرها بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فظهرت أقوال القدرية، وظهرت أقوال الخوارج، وظهرت الشيعة، وهي التي نفثها اليهود في دين الإسلام ليهدموه، وظهرت هذه الفرق، فنبذت كتاب الله وراء ظهرها، وأخذت تُشرِّع للناس من أنواع التعبدات ما لم يأذن به الله.(70/15)
خطر الصوفية
هناك فرقة كانت أخطر من هذه الفرق جميعاً! لأنها تعاملت مع الطبقة العامة، وتعاملت مع الجمهور ومع المثقفين أيضاً؛ لكنها كانت شعبية، وأخذت تزحف على كل بلد (إنها الصوفية!).
فبالتصوف جاءوا إلى قضية العبودية وإلى قضية الافتقار الذاتي الذي يعيشه، ويشعر به كل إنسان، فحركوها، ولكن على غير هدى من الله.
فكل واحد منا يتلذذ بقراءة كتاب الله تبارك وتعالى، تنعش قلبه وتدمع لها عينه، ويتفكرها دائماً ويجد لذة عجيبة، وقد يُبتلى الإنسان في بلوى فيرفع يديه إلى الله، فيجد من لذة دعاء الله ما ينسيه مصيبته التي دعا من أجلها، فيشعر ويعلم عندئذ أن في إصابته بهذه المصيبة خير كثير جداً فعرف الله وتلذذ بدعاء الله، وتلذذ بمناجاة الله!! ونحن نعلم كيف كان الصحابة رضي الله عنهم يتأثرون ويتلذذون بقراءة القرآن، حتى أنهم لما كانوا في سرية من السرايا، وكان أحدهم يقرأ وجاءه العدو، فرماه بالسهم الأول، ثم رماه بالسهم الآخر ولم يتوقف! فمن لذة قراءته للقرآن؛ ترك هذه النبال تدخل في جسده وهو يقرأ ولم يقطع قراءته!! فالعبودية من يشعر بها ويتذوقها ويجدها لا يعدل بها أي متعة في هذا الكون كله!! فمن هذا الباب دخل المبتدعة وأخذوا يُشرِّعون، فأخذوا من حلاوة الذكر تشريعات بأن يُذكر الله عز وجل بغير ما أذن، وأخذوا من حلاوة المناجاة بأن يشرعوا الأدعية الكثيرة جداً، والتي يطبعونها في عصرنا الحاضر ويوزعونها؛ لأن الإنسان إذا دعا الله شعر بالاطمئنان والراحة، فشرعوا من عند أنفسهم ما يصرفون به هذا الإنسان عن عبادة الله؛ ليعبد غير الله؛ فعندما نقول: إن جوعة التعبد أو الحاجة إلى العبودية أشد من الحاجة إلى الطعام والشراب أو مثلها، فهؤلاء المبتدعة مثلهم كمثل من يأتي إليك وأنت جائع في أشد حالات الجوع يطعم هذا الجائع تراباً! خشباً! ورقاً! يطعمه أي شيء لا ينفعه بل يضره!! ولو أنه بقي على جوعه لكان أفضل؛ لأنه سيبحث عن الغذاء النافع؛ لكن هؤلاء جاءوا ووضعوا بدلاً من الغذاء الذي جعله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو القرآن والسنة، والذي جعل فيه الحياة والزكاء والنماء، جاءوا فجعلوا مكانه غذاء لا يُسمن ولا يغني من جوع، ولا يعلي ولا ينمي ولا يزكي ولا يطهر، فشرعوا هذه البدع والضلالات؛ فطواغيت الأديان شرعوا أدياناً تخالف دين الله عز وجل، وتصرف الناس عن عبادة الله، وطواغيت البدعة شرعوا بدعاً تخرج الإنسان مع انتسابه للإسلام عن منهج العبودية الصحيح إلى تعبدات وإلى عبوديات لم يشرعها الله ولم يأذن بها ولم ينزلها.
فمن هنا نرى خطر هؤلاء المجرمين، وأن إجرامهم لا يقل عن إجرام الأحبار والرهبان والكهان والطواغيت والفراعنة في الأمم التي قبلنا.(70/16)
أهمية تحقيق العبودية
إن واجب المسلم أن يحقق العبودية لله كما أراد الله، وأن يتقي الله أينما كان، وألاَّ يُعبد الله إلا بما شرع الله قف عند كل عمل تعمله وانظر هل هذا من طاعة الله؟ فإن كان من طاعة الله فكيفما فعله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فافعله، وإن كان مما حرم الله فاجتنبه، ولا يغرك كثرة الهالكين، ولا يغرك كثرة الداعين إلى البدع؛ فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ضرب لنا أمثلة منها: أنه رسم خطاً ورسم خطوطاً، وذكر أنه على رأس هذا الخط المستقيم داع يدعو، وعلى جانبيه أبواب، وعليها ستور مرخاة ودعاة يدعون، فهؤلاء دعاة على أبواب جهنم كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا أطاعهم المؤمن (فانحرف يميناً أو يساراً) إما إلى مذهب الغلو في الدين حتى يخرج منه كما فعل الخوارج، وإما إلى مذهب التساهل أو الترك كما يفعل أكثر الناس إلا من رحم الله؛ فإذا انحرف يميناً وشمالاً انحرف عن الخط، وأخذه وتلقفه دعاة جهنم فيلقونه في النار.
فهذه العبادة كيف يحققها العبد؟ يحققها باتباع ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف؟ تقرأ كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعرض أعمالك كلها عليها، وتعلم أنه ما من عمل يتعلق بك فرداً، أو بمجتمعك الذي تعيش فيه، أو بأمتك عامة، أو بالثقلين كافة؛ إلا والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد شرع فيه ما يغني ويكفي؛ وإنما جعل الله تبارك وتعالى اجتهادات العلماء والفقهاء أموراً كاشفة عن حكم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يبحثون ويجتهدون ليبينوا لنا ما شرع الله؛ ولذلك كل الأئمة الأربعة رضي الله عنهم وهم أكثر من اتُّبع من العلماء، كلٌّ منهم يقول: 'إذا رأيتم الحديث يخالف كلامي فاعملوا بالحديث واضربوا بكلامي عرض الحائظ! '.
هذا وهم أئمة وقدوة! وهم الذين أجمعت عليهم الأمة! لكن قالوا: إذا خالفنا الحديث فلا تعملوا بقولنا أبداً! فكيف إذا كان القول المخالف لشرع الله -قول- أعداء الله؟! قول الكافرين وقول الملحدين وقول المنافقين وقول المجرمين {الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:19] والذين يتبعون الشهوات؛ والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:27] لكن ماذا يريد الذين يتبعون الشهوات؟ قال تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] أي: لو أطعناهم بما يقولون وبما يزينونه للشباب، وبما يبهرجون للشباب من المغريات؛ لأخرجونا عن عبودية الله تبارك وتعالى.
إن العودة إلى الله وإلى الدين وإلى العبودية الحقة لله أصبحت ظاهرة قوية مشاهدة في الشباب المسلم، ونرجو الله أن يمكن لها، وأن تتقدم أكثر فأكثر؛ لكن ماذا عمل هؤلاء المبتدعة؟ هؤلاء قطاع الطريق لما رأوا أن الشباب متجهون إلى الله، جاءوا ووضعوا علامات (اتجه يميناًَ، اتجه شمالاً) ليصرفوا هؤلاء الشباب عن العودة إلى الله تعالى، فلتحذروا من قطاع الطريق هؤلاء! وهم المبتدعة وأصحاب الضلالات وأصحاب الفرق المنحرفة، الذين كل منهم يرفع راية من الرايات! ليأخذ ثلة من الشباب، فيقذف بهم في النار! فيجب على الشاب العائد إلى الله المتمسك بدينه أن يعرف هؤلاء المبتدعة وأن يجتنبهم وأن يتجنب بدعهم؛ كما يجب أن يعرف أيضاً أولئك الملاحدة وأتباع الشهوات، ويجتنب إجرامهم وشهواتهم ومفاسدهم، فليجتنب هذين العدوين! فإنهما من أخطر الأعداء، وكذلك العدو الذي في داخله وهي (هذه النفس) (فيتقي الله في نفسه) ويعلم أنها إنما خلقت لعبادة الله، وإلا فكلُّ نفسٍ بشرية فيها جزء من الفرعونية؛ كما يسميه ابن القيم رحمه الله، كما أن فرعون قال: ((فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] فكل إنسان يحب أن يظهر، ويحب أن يرتفع على غيره، يحب أن لا يخضع، وكأنه يرى أن في عبوديته وخضوعه لله قيوداً تعطله؛ ولكن في الحقيقة: إن أعظم حرية هي العبودية لله! وإن أعظم راحة وأعظم نعمة هي عبادة الله!!(70/17)
حالة أهل الكفر والبدعة
وما أظننا في حاجة إلى أن نعدد ما تعيشه المجتمعات التي لا تعبد الله من القلق والألم من الانتحارات والضياع ومن انتهاك الحرمات من الملل ومن الذعر والإرهاب والجرائم، فلا أظن أننا الآن سنأتي بجديد عندما نتحدث عن هذه الموضوعات؛ لأن كل جريدة ومجلة وكل نشرة أخبار تظهر فيها هذه الحقائق!! فهؤلاء لما لم يعبدوا الله ابتلاهم الله وعذَّبهم بهذه المصائب عقوبة لهم؛ وفي المجتمعات الأخرى مثل مجتمعات الهند، التي هي مدمنة ومغرقة في العبودية، ابتلاهم الله بأنواع أخرى من الابتلاء؛ لأنهم دائماً في عبودية، لكنها عبودية لغير الله، يعبدون الأبقار! ويعبدون الأحجار! فالصوفية منهم، وهم منبع الصوفية! يعذبون أنفسهم بأنواع من العذاب، ويقولون: هذه هي عبودية الله! والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما شرع ذلك ولا أمر به، فهؤلاء يعيشون في عذاب، والغرب الملحد الكافر المتمرد يعيش في عذاب وقلق وذعر، والمجتمعات الشرقية التي يسمونها المنحطة وكل منهم منحط؛ لأنه لم يرتفع إلى عبودية الله هذه المجتمعات المنحطة تعيش في هذا الألم والعذاب والمعاناة الشديدة من الفقر والجوع، ومن التعبدات المرهقة المجهدة!! وشريعة الله سمحة سهله موجودة بين أيديهم، ويمكن أن يعرفوها؛ لكنهم لم يهتدوا إليها! ونحن لم نبلغها لهم! فهؤلاء عبدوا الله على ضلال، وهؤلاء استكبروا عن عبادة الله؛ فعذَّب الله الطائفتين، وأخشى أن يعذبنا بمثل ما عذبهم به إن لم نستقم على أمر الله؛ فإن ما يعانيه الغرب من القلق النفسي أصبح حقيقة في ديار المسلمين أيضاً، وما تعانيه المجتمعات الشرقية من التعبدات المرهقة الثقيلة لغير الله أصبحنا -أيضاً- نعانيه، ونرى أمثلتهم في مجتمعاتنا الإسلامية من شباب يقلدونهم فأخذوا يجوعون أنفسهم! ويتعرون!! ويلبسون الملابس المزرية!! ويضربون أسوأ النماذج للإسلام! ويقال: هذا هو الدين وإذا اهتدى شاب قيل له: تريد أن تهتدي فتكون مثل فلان.
فهذه العقوبات التي ابتلي بها الغرب والشرق قد ابتلينا بها -أيضاً- بقدر ما بعدنا عن منهج الاستقامة والعبودية لله.(70/18)
الأسئلة(70/19)
جواز ارتباط اسم الإيمان بأي مسمىً من مسميات الشريعة
السؤال
إن الإيمان يكون بالله فقط، فهل يجوز أن نقول: إننا نؤمن بدعوة التوحيد وأنها دعوة الحق، أفيدونا جزاكم الله خيرا؟
الجواب
إن كان الأخ يقصد أن الإيمان إنما يكون بالله، فهل يجوز لي أن أقول: أنا أؤمن بدعوة التوحيد، أو أنا أومن بكذا، الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة:137] أي بالذي آمنتم به، وهو القرآن والسنة، فإذا قلت: أنا أؤمن بالإيمان.
أيضاً قال الله تعالى في آية أخرى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة:5] فمن يؤمن بالإيمان وبالتوحيد ومن يؤمن بالرسول أو بأي مسمى من مسميات الشريعة كمن يؤمن بالصلاة، أو من يؤمن بالزكاة؛ فهذا لا حرج فيه إن شاء الله إن كان هذا هو المراد.(70/20)
كيفية التخلص من عبادة الشهوة
السؤال
كيف يمكن للإنسان أن يتخلص من عبادة شهوة معينة لها تأثير -على نفسه- شديد؟
الجواب
عبودية الشهوة من أشد وأخطر العبوديات، فللشيطان طريقان: الشهوات والشبهات، يتعبث بهما الخلق، وعندنا نماذج تجيب على هذا السؤال وأمثاله.
فمثلاً: يصعب على المدمنين على الخمر أن يتركوها؛ ولذلك فهم يموتون ولا يتركونها، لكن العرب كانوا يشربونها كعادة، ثم جاء الإسلام ولم تحرم أول الأمر؛ بل كان الصحابة رضي الله عنهم يشربونها من جملة ما يشربون، لكن لما حُرِّمت الخمر أريقت تماماً! فجرت أنهاراً في شوارع المدينة! وكف عنها المؤمنون! ومن هذا الشيء نأخذ عبرة لنا أيضاً، شهوة التبرج أو النظر إلى النساء -مثلاً- كان الصحابة رضي الله عنهم وهم أطهر وأنظف المجتمعات يرى بعضهم بعضاً، فلما أنزل الله الحجاب أصبحت النساء مغطيات كالغربان لا يرى منهن شيئاً أبداً! امتثال عجيب!! فإذاً: الشهوات والتقاليد مهما اشتد ضغطها؛ فإنه بالإيمان بالله يمكن أن يتغلب الإنسان عليها.
فيا أخي! إذا كنت تُعاني من عبودية شهوة معينة، فتَّذكر أنك عبدٌ لله، وأنك سوف تلقى الله، وتَّذكر وعيد الله، وتَّذكر كم تعيش في هذه الدنيا! ولكن في النار أبد الآبدين عياذاً بالله.
تذكر أن جهنم سوداء مظلمة لو ألقي فيها حجر لاستمر سبعين خريفاً لا يصل إلى قعرها! تَّذكر ما ذكر الله تبارك وتعالى من آيات الوعيد، وما ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أحاديث الوعيد، ثم تَّذكر إلى جانب هذا كله هذه الشهوة، وقارن بين هذا وذاك، ثم انظر إلى الجانب الآخر، انظر إلى الجنة ونعيمها! وما يعوضك الله عن هذه الشهوة من الخير العظيم! فحينئذٍ يعينك الله تبارك وتعالى وتقلع عن هذه الشهوة.(70/21)
الرفاهية من أسباب قسوة القلوب
السؤال
ماذا عن الفراغ الروحي الذي يستولي على قلوبنا استيلاءً كاملاً، وحلَّ بذلك محلَّ العبودية التي فرضها الله علينا، ولعل الرفاهية هي أهم سبب في ذلك؛ لأنها زادت عن حدها المفروض فكيف يكون الحل؟
الجواب
نعم، الرفاهية التي سمَّاها الله تبارك وتعالى الترف فنحن قد أُترفنا؛ وأما الصحابة رضي الله عنهم فقد كانوا يخشون أن تكون حسناتهم قد عُجِّلت لهم في هذه الحياة الدنيا، كما فعل ذلك الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لما وضعت أمامه المائدة وفيها الطعام، فتذكر مصعب بن عمير وترك الطعام، قالوا: مالك؟ قال: تذكرت مصعب بن عمير يوم أحد، وكان بجوار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مصعب بن عمير فقاتل حتى قُتِلَ؛ فلما جئنا نكفنه، لم يكن معه إلا بردة، إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه؛ وإن غطينا رجلاه بدا رأسه! وما منا اليوم أحد إلا وهو أمير على بلد من البلدان، فقال: أخشى أن تكون هذه حسناتنا قد عجلت لنا! فإذا كان هذا الجيل المجاهد العظيم الذي وعده الله في هذه الدنيا بأنه يملكها، لما ملكها خاف أن تكون عقوبة وأن تكون طيباته عُجِّلت له بهذه الدنيا! فنحن أولى بالخوف ونحن أولى أن نحذر من هذا الترف وأن نعوذ بالله منه؛ فإن المترفين هم أكثر الناس قسوة في القلب، وأبعدهم عن الضراعة إلى الله؛ لأن الحاجة تلجئ إلى دعاء الله وإلى عبادته والتضرع إليه، لكن الذي يشعر بالغنى لا يدعو الله، ولا يشعر أنه مفتقر إليه، فيكون من الران على قلبه أنه يشعر بالغنى عن الله، فالرفاهية والترف لاشك أنها من أعظم أسباب الفراغ الروحي والبعد عن الله، لكن قلوبنا لها ِأسباب أخرى في قسوتها وغفلتها، ولو عبدنا الله تعالى حق العبادة لكنا حقاً من المؤمنين، وإن كان بيدنا من الدنيا ما بيدنا؛ لأن المؤمن الذي يملك المال ويتعبد الله به لا يكون مترفاً أبداً، مهما كانت بيده من الأموال، وإنما يأخذ بقدر إنفاقه على نفسه.(70/22)
السلف والتصوف
السؤال
ما هي الصوفية التي اتصف بها السلف الصالح رحمهم الله، وما هي الصوفية المنحرفة في هذا الموضوع؟
الجواب
الصوفية لم يتصف بها أحد من السلف -ولله الحمد- وهذا دين قديم ظهر في بلاد الهند، ثم انتقل منها إلى أوروبا.
ولم يكن الرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أحد من الصحابة، ولا من التابعين يقول: أنا صوفي! أو أنا متصوف على التصوف الصحيح أبداً.
فهذا دين؛ كما أن اليهودية دين، كما أن البوذية دين، وكما أن المجوسية دين، فهذا دين آخر كانت الأمم تتعبد به وليس من دين الله في شيء.
وأما الصوفية المنحرفة ولو لم تكن منحرفة، فيكفي أن تقول: إنها صوفية، ولأن أي شيء غير الإسلام فهو منحرف، إذا كان غير الدين الذين أنزله الله -فهي دين آخر- كما هو الواقع وهي بطبيعتها منحرفة، فليس هناك نوع منها كان محقاً ونوع آخر مبطلاً؛ بل كلها بطلان، ولكن يأتي اللبس بسبب أن بعض أهل الحق يأخذون بعضاً منها، ولا يأخذون شركياتها، ولا يأخذون وحدة الوجود، ولا يأخذون الحلول والاتحاد، ولا يأخذون العقائد المبتدعة الكفرية فيها، وإنما يأخذون بدع مخففه وهم من أهل الحق، فيأتي الإشكال، لكن الإشكال الذي يأتيك في هذا الرجل أو هذا العالم أو هذا الداعية الذي أخذ شيئاً من المتصوفة لا يعني أنك تحكم على المنهج نفسه؛ لأن فيه حق وباطل، وهذا الرجل أخذ بعض الباطل، وعنده كثير من الحق خلطه ببعض الباطل، فيأتي اللبس ممن أخذ، لا من الفكرة نفسها.
فالعقيدة نفسها - عقيدة التصوف - موجودة من قديم، وموجودة الآن، وهي موجودة في هذا الاسم نفسه ديناً من الأديان التي يسمونها الأديان الحديثة في الولايات المتحدة الأمريكية، لما بعثوا الأديان القديمة وجدوا هذا الدين وبعثوه بهذا الاسم، ويوجد عدد من الشباب الأمريكي يدخل فيه ويتعبدون بأنواع العبادات بهذا الاسم الصوفية أو الثيوصوفية التي تعني عشق الله!! كما يقولون: ثيوقراطية أي: الحكم الإلهي فالثيوصوفية هي العشق الإلهي أو المحبة الإلهية المطلقة.
فهذا دين جديد موجود في أمريكا بهذا الاسم، وموجود في أوروبا ضمن النصرانية وغيرها، وموجود في كل بلد، فمن الخطأ؛ أن نقول: إن في دين الله تصوف.
نعم! وُجِدَ في المسلمين من يتصوف، إما أن يأخذ منه كفره، أو يأخذ منه البدعة، وما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تجد فيه لا يهودية ولا مجوسية ولا بوذية ولا صوفية ولا أي مسمى من مسميات الأديان الباطلة الذي نسخها هذا الدين.
فقد أكرمنا الله بالحنيفية السمحة أكرمنا الله بملة إبراهيم؛ ولذلك أنكر الله تعالى على اليهود والنصارى، فقال سبحانه وتعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140] فلم يرض الله عز وجل أن يقال لهؤلاء الأنبياء أنهم يهود أو نصارى، فهل يرضى لأمة الإسلام أن تقول: إننا صوفية أو بوذية؟! لا يمكن هذا أبدا.(70/23)
معرفة الله أساس الخشية
السؤال
قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] ما معنى هذه الآية؟
الجواب
ذكر ابن كثير رحمه الله في هذه الآية من التفسير ما لا نريد الإطالة فيه، والخلاصة أن الإنسان كلما كان أعلم بالله عز وجل فهو أعبد لله وأكثر خشية له ممن لا يعرف الله؛ فمعرفة الله تمنع من معصية الله، معرفة الله عز وجل تدعو إلى خشية الله، والعلم بالله يدعو إلى خشيته كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] أي: الذين يعرفون من صفاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونعوت جلاله ما يحجزهم عن أن يعصوه أو يخالفوا أمره أو ينتهكوا حرماته، فمن هنا تظهر أهمية معرفة الله تبارك وتعالى؛ فكلما كان العبد أكثر معرفة بالله كان أكثر طاعة وخشية لله.
وورود هذه الآية ضمن الآيات الكونية التي تحدَّث الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنها في أول السورة التي تحدَّث فيها عن الرياح والأمطار، ثم تحدث عن خلق الإنسان، ثم تحدَّث عن الشمس والقمر، ثم تحدَّث عن الجبال وألوانها والدواب والشجر وألوانه؛ ثم قال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] لا يعني بالضرورة أن العلماء الذين يخشون الله هم علماء الكون فقط، فالعلماء بالله عز وجل يعرفون من مخلوقات الله ما يستدلون به على معرفة الله عز وجل، ومن عرف الكون وعرف أسرار الطبيعة ولكن لم يعبد الله عز وجل؛ فلا تنفعه هذه المعرفة وإن اعترف بالله بلسانه، فلا يغني عن العبودية لله! أقول هذا تنبيهاً بأن هناك كتاباً اسمه الإسلام يتحدى ذكر هذه الآية وذكر جيمس بيكر، وأمثاله من علماء الفلك أنهم يعرفون الله، وكل من عرف الله فقط بتوحيد الربوبية، وأنه خالق الكون، فلا يعد في ديننا عارفاً ولا عالماً بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حتى يفرده وحدة بالعبودية.(70/24)
متى يكون الحب والكره عبادة
السؤال
ما مدى الحب والكره الذي تتحقق به العبودية؟
الجواب
الحب والكره في قلب كل مخلوق، وللحب والكره أنواع، فالنوع الذي تحدد به العبودية يختلف عن الحب الطبيعي أو الحب الفطري، كأن يحب الرجلُ أمه أو أباه أو إخوانه أو أن يحب الطعام أو الشراب فليس هذا هو الحب التعبدي، فالحب التعبدي هو: ما فُعل تعبداً وتقرباً، أو مبنياًَ على العبادة وعلى التعبد والتقرب، أو ما يقتضي الولاء والبراء، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة -إلى أن قال-: إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط} فمن كانت موالاته وبغضه ومحبته للدنيا فهو عبد لها، ومن كانت موالاته ومعاداته لله، فهو عبد لله.
فهذا هو الحب التعبدي الذي لا يجوز أن يصرف إلا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو ما يقتضي الموالاة والمعاداة.(70/25)
تعارض عبودية الله وعبودية الهوى وفائدة الرفقة الصالحة
السؤال
هل يمكن للقلب البشري الجمع بين عبادتين: عبودية الحق وعبودية الهوى، أو أن ينقسم الدهر بينهما، كمثل أولئك الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان، وماذا عن الرفقة الصالحة، أليست معينة لتحقيق العبودية الحقة الموصلة إلى جنات النعيم؟
الجواب
القلب البشري لا يمكن أن يجمع بين عبادتين؛ لأنه كالإناء، فهذا الإناء إذا امتلأ بشيء لا نستطيع أن نضع فيه شيئاً آخر، وإنما تتعارض -للملك لمة وللشيطان لمة- أي: يغفل القلب فيأتي الشيطان فيدخل فيه، فهنا يكون الهوى، فيذكر العبد الله -عز وجل- فيخرج الشيطان ويولي، وهنا تكون العبودية لله عز وجل، والقلب ما دام ينبض، لا يخلو أبداً من لمة الملك أو لمة الشيطان؛ فأنت بإرادتك وباختيارك إما أن تجعل لمة الملك هي الغالبة عليك وعلى قلبك بذكر الله الذي يطرد الغفلة عن القلب، وإما أن تجعل الشيطان يعشش ويفرخ في القلب بالغفلة عن ذكر الله، وبالغفلة عما أمر الله؛ فهذا الذي يقع في القلب (التعارض بين العبوديتين) لكن! لا يخلو من عبودية لأحدهما، فالذي يقول: أنا لا أعبد شيئاً أبداً لا تصدقه، لابد أنه إما أن يكون عابداً لله أو عابداً للشيطان والهوى.
وأما الرفقة فلا شك أنها أحد ما يعين الإنسان؛ إما على الخير بأن يعينه الصالح على الخير، أو رفقة الشر تعينه على الشر وتزينه له.
فليحذر المؤمن ولينظر من يخالل؛ فإن المرء يحشر يوم القيامة ويبعث مع خليله، وأما الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان فهؤلاء بئس القوم كما قال السلف.(70/26)
متى يكون الخوف عبادة
السؤال
هل الخوف من غير الله عبادة؟ وما هي أقسام الخوف؟
الجواب
الخوف من غير الله قد يكون خوفاً طبيعياً، وقد يكون خوفاً عبادياً، فالخوف الذي هو عبادة هو خوف التعبد كما يخاف أتباع الأولياء وأتباع الطواغيت العباد من دون الله، أي: يخافونهم ويرهبونهم، وإذا ذكر الطواغيت في مجلس من مجالسهم؛ سكتوا كلهم، حتى يظن بعضهم أنه يسمع ذلك، ويظن أن الجن الذين هم موكلون به -الآن- يلتقطون الخبر ويبلغونه للطاغوت؛ فهذا من الخوف الذي يكون لغير الله.
مثال من أمثلة الخوف الذي هو لغير الله والذي يكون شركاً، ذكره الله عز وجل ليبينه لنا، فقال سبحانه: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6] أي: خوفوهم أكثر حتى يدعوهم أكثر، وإلا فإنهم بشر مثلنا، لكن! حتى نعبدهم أكثر خوفُونا أكثر فهذا هو الخوف الذي يجعلك تترك الطاعة، عندما تريد أن تنهى عن المنكر أو تأمر بالمعروف، فتخاف المخلوقين، تخاف -كما يقول بعض الناس- أن يقطعوا عنك الرزق أو يمنعوه، فتدخل في الشرك وأنت لا تشعر بأن الله هو الرزاق ذي القوة المتين؛ أو تخاف إذا أمرت أهلك بطاعة الله؛ أن تهرب إلى بيت أهلها؛ فتتركها على المعصية مثلاً، أو تخاف من أي مخلوق فلا تقول له كلمة الحق بالحكمة أو بالحسنى هنا يكون الخوف المكروه أو المحرم أو الذي قد يرتقي إلى درجة الشرك.(70/27)
حكم من يقول: (ساعة لقلبي وساعة لربي)
السؤال
كثيراً ما نسمع من بعض الناس، أن العبادة يمكن أن يقطعها الإنسان بشيء من الترفيه والتسلية غير المشروعة، ويرددون: (ساعة لله وساعة لك) أو ما شابه ذلك؛ فما رأيكم بأمثال هؤلاء؟
الجواب
الذي يقول: إن الإنسان يمكنه أن يقطع العبادة بشيء من الترفيه أو التسلية غير المشروعة، كيف يدعي بعد ذلك أنه في عبادة؟! لأن الذي لم يشرعه الله لا يمكن أن يكون طاعة، ولا يمكن أن يكون عبادة.
وأما قضية (ساعة لله وساعة لك)؛ فإنهم يقولونها بغير علم، ولو تأملوا وأدركوا معناها أو بُعدها؛ لوجدوا أنها تعني الشرك؛ لكن لا نعني أن من يقولها مشرك، بل نقول: إن مآل مثل هذه العبارات إلى الشرك، لأنني في وقت أعبد الله، وفي وقت قد أعبد الهوى، في وقتٍ أطيع الله، وفي الوقت الآخر قد أطيع الهوى والشهوة فمآل هذا القول إذا وضع قاعدة في الحياة أنه يعني أنني أُشرك بالله، فأجعل له وقتاً فقط، وأقول له: الوقت الآخر لا تتدخل فيه؛ لأن هذا الوقت (لربك) انتهى، والآن أنا في وقت (لنفسك).
ومن هنا نعرف خطورة مثل هذه الشعارات، وهذا القول هو مشتق من المقولة التي يقول النصارى أن عيسى عليه السلام قالها: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فهؤلاء أيضاً جعلوها بمعنى آخر أي: (هذا لنفسك وهذا لربك) وإذا قلت لواحد منهم: (اتق الله) قال: يا أخي! الموعظة بالمسجد.
ما معنى هذا؟ وكأنه يقول لك: أنا عبد لله في المسجد؛ فإذا رأيتني في المسجد فعظني، لكني في الشارع لا أعبده؛ فكيف تطالبني بذلك وكأنك خرجت من بلد، تطبق عليك قوانينه.
فمثلاً: لو أنك خرجت من أمريكا ثم جاء أحدهم يقول لك: إن النظام الأمريكي ينص على كذا وكذا؛ فستقول له: أنا الآن خارج حدود أمريكا، ولا تهمني قوانين أمريكا في شيء، فهؤلاء يقولون: الموعظة في المسجد فقط، فكأني أصبحت خارج الحدود التي يمكن أن تطبق عليَّ فيها شريعة الله، وهذا هو بعينه مكر الشيطان الذي أخرج به النصارى من دين الله فقالوا: هذا لله وهذا لقيصر.
أمة العرب قبل البعثة -أيضاً- وقعت في هذا، قال تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [الأنعام:138]، وقال: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} [الأنعام:136] أي: أولاً: تبدأ القسمة، فهذا لله، وهذا للنفس؛ ثم بعد ذلك الساعة التي نجعلها لله في المسجد، تكون لغير الله! فيدخل الشيطان بالوساوس، وكان الواحد في الصلاة يبيع في الدكان ويشتري ويشوف ويكتب ويقرأ و!! وأما ما كان لغير الله، فإذا كان أحدهم في البيت أو في الدكان فإنه لا يسمع القرآن ولا يذكر الله؛ لأنه يقول لك: أنا الآن تركت ما لله.
فإذا كنا نعيش هذا واقعاً تحت مظلة الغفلة عن الله، فنجعله شعاراً ومنهجاً، فإننا نكون قد خططنا للشرك ووقعنا فيه، شعرنا أو لم نشعر بذلك!!!(70/28)
واجبنا أمام وجود النظريات الإلحادية في المناهج
السؤال
ذكرت أن المعلم يكون له دور في العبودية من خلال رسالته العظيمة.
فمثلاً: مدرس العلوم يجد -أحياناً- أموراً لا توافق الكتاب والسنة، مثل نظرية التطور لدارون اليهودي فهو بدوره سيخبر الطلبة بهذا العيب، لكن بعض المدرسين لا ينبهون على ذلك، فما رأيكم في هذه المناهج؟
الجواب
في الحقيقة مثل هذه النظريات لا تختص بمدرس فقط، لأن المدرس عندما يكون وظيفته كذا أو عمله كذا، نعني به ما هو في حدود عمله هو؛ أما مثل ذلك فهو واجب على الذي وضع المنهج وعلى الوزارة المسئولة عن المنهج، وعلى العلماء المسئولين، وعلى كل من قرأه!! فعندما يكون الأمر أمر نظريات إلحادية شركية، فهنا يجب على كل من بلغته أن يتقدم، وأن يطلب من المسئول أو من بيده الأمر أن يزال وأن يغير هذا المنهج، وأضعف الإيمان أن تقول أمام الطلاب: إن هذه النظرية خاطئة، لكن ذلك لا يكفي، بل لا بد من الكتابة إلى وزارة التعليم أو إلى الوزارة أو إلى العلماء الذين يكون تأثيرهم أقوى من تأثيرنا، فهم يستطيعون أن يغيروا المنهج.
وأي عمل يسعى فيه بالجد والاجتهاد فلا بد بإذن الله أن يتحقق التغيير، أو تقوم الحجة؛ لأن الله عز وجل جعل عمل الأنبياء إقامة الحجة على العالمين.(70/29)
كيف نعبد الله طوال اليوم
السؤال
عندما تقول لشخص: إنه لم يخلق إلا للعبادة، فإنه يقول: أتريد أن أصلي كل اليوم، فما هو الرد على مثل هؤلاء؟
الجواب
نقول له: اتق الله كل اليوم، {اتق الله حيثما كنت}، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن كانت الصلاة بمعنى الركعات المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم، فلا نقول لك: صلِّ إلا الصلوات الخمس، وما يسر الله لك بعدها من النوافل، وإن كانت الصلاة بمعنى العبادة، فنعم يجب أن تعبد الله طول اليوم! حتى ولو كنت نائماً؛ كما قال معاذ رضي الله عنه {إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي} هؤلاء الرجال الذي ثاروا قليلاً وربحوا كثيراً، ينام ويحتسب النوم، ويقوم والنوم في ميزانه! ويأتي بعض العبَّاد الذين اجتهدوا طول الليل في العبادة يأتون وهذه العبادة مردودة عليهم، بل تضرب بها وجوههم لماذا؟ هنا نعرف قيمة الصحابة رضي الله عنهم ونعرف لماذا نحن متأخرون ومنحطون في كل مجال، وهم متفوقون في كل مجال؟ فقد عرفوا كيف يسيرون، وعرفوا العبادة بمعناها الواسع العظيم، فالواحد منهم كان يتعبد بما يسر الله له ثم ينام، وكلها محسوبة، أما نحن فيقول شبابنا مثل هذه الكلمة! ثم نقول: لماذا نحن متأخرون؟! بل حقنا والله أن نتأخر!! وسوف نزداد تأخراً إلا أن يمن الله علينا بالتوبة.(70/30)
الانحراف وأسبابه
السؤال
هل للانحراف عن الطريق المستقيم سببان: (الشهوات والأهواء فقط) أم أن هناك أسباباً أخرى؛ كالتقليد وتعود الإنسان على أشياء معينة غير جائزة؟
الجواب
إن أدخلت التقليد والعادات ضمن الأهواء فتكفي، ولا حرج في عد أسباب أخرى؛ لأن الله عز وجل يقول في الوصايا التي قال عنها عبد الله بن مسعود: [[من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات من آخر سورة الأنعام]] {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].
فطريق الله واحد؛ أما السبل فكثيرة! أودية يهلك فيها البشر؛ فمنهم من يهلك في أودية الشبهات، ومنهم من يهلك في وادي الشهوات، ومنهم من يهلك في وادي التقليد، ومنهم من يهلك في وادي البدعة، ومنهم من يهلك في وادي كذا، والشيطان لا تتوقف مكائده، فكل يوم يأتي بمكيدة، ويأتي ببدعة ويأتي بضلالة، ويأتي بسبيل جديد؛ ليضل الناس عن سبيل الله عز وجل.(70/31)
اختصار كتب السلف، وهل ابن القيم صوفي
السؤال
ظهر كتاب تهذيب مدارج السالكين (لابن القيم) لعبد المنعم صالح العلي؛ فما رأيك في: أ- اختصار كتب السلف الذي انتشر مؤخراً.
ب- ذكر المهذب في أحد عناوينه بأن ابن القيم صوفي؟
الجواب
لا نستطيع أن نحكم حكماً عاماً مطلقاً على المختصرات، وإنما هي أنواع، والسلف أيضاً اختصروا الكتب؛ فمن كان على عقيدة صحيحة، وغرضه سليم، واختصر جزءاً من كتاب أو كتاباً كاملاً لإفادة الناس أو لإفادة طبقة معينة يشق عليهم الرجوع إلى الكتاب الكبير؛ فهذا لا حرج فيه -إن شاء الله تعالى- على ألاَّ يمنع ذلك القارئ فيستغني عن الأصل؛ لأن الأصل مهم.
وأما أن يكون المختصر صاحب بدعة وهوى، يشوه كتاباً من كتب السلف، أو طالب شهرة، فبعض الناس مغمور لا يعرفه أحد، لكن يعرف أن ابن تيمية وابن كثير وابن القيم مشهورون، فيربط الاسم المغمور بالاسم المشهور حتى يشتهر، ويختصر -والاختصار سهل غالباً- خاصة على تصور أي كتاب، فينزع ورقة، وينزع الأساليب، ويحذف كذا سطر ويترك الباقي، ثم يعطيه المطبعة؛ فيصدر كتاباً ويصبح شيخاً، فيذهب للمكاتب، ويقول: اشتروا مني خمسين ألف نسخة ووزعوها؛ لأني أصبحت مؤلفاً وعندي علم فهذا ونيته التي أراد.
أما قول المهذب بأن ابن القيم صوفي، فأظن الأجابة مرت عليه فيما سبق، بل ابن القيم -رحمه الله- في هذا الكتاب نبه على كثير من أخطاء الصوفية، لكن لا ننسى قضية معينة وهي أن بعض الناس يقولون: (إن في كتب شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وابن القيم ميل إلى التصوف أو أحياناً تساهل معهم أو شيء من هذا القبيل) وإن الذي يقرأ كتب شَيْخ الإِسْلامِ وتلميذه شَيْخ الإِسْلامِ ابن القيم قراءة واضحة وجادة ومتعمقة، يجد أنهما عندما يتكلمان عن الفكرة أو عن المبدأ بعيداً عن الأشخاص كأن يتكلم عن وحدة الوجود فلا يتردد أنها كفر، أو يتكلم عن الفناء، يقول كفر، وعندما يتكلم عن كفريات الصوفية يطلق عليها الكفر ولا يتردد، فيقول عن ابن عربي -مثلاً- أو التلمساني أو السهروري بأنهم كفار، لكنه عندما يتكلم عن الجيلاني أو مؤلف (منازل السائرين) الذي شرحه ابن القيم في (مدارج السالكين) تجد أن الكلام يختلف؛ لأنك لم تعش في واقع أو في عصر وهناك شخص يُعبد مثل عبد القادر الجيلاني.
والآن فأكثر المسلمين في الهند وفي أفريقيا يعبدون عبد القادر الجيلاني، وتسمعهم ينشدون ويرددون:
عبد القادر يا جيلاني يا متصرف في الأكوان!
كانوا يرددونها في الحلقات! وإذا كانوا في الطائرة، وحصلت مطبقات جوية يقولون: (يا جيلاني يا جيلاني) تصيح بها الطائرة كلها وهم حجاج!! فهناك عبودية غريبة له.
فأنت في هذا الواقع لو جئت وقلت لهم: هذا فلان كذا فأنت مخطئ؛ لأن عبد القادر الجيلاني لم يكن يدعو إلى عبادة نفسه.
ثانياً: أنك تثيرهم فلا يستفيدون من دعوتك، بل تأتي بكتب الجيلاني التي يقول فيها -مثلاً- لا يكون البعد لله ولي إلا إذا كان على عقيدة أحمد بن جنبل.
تقول: يا جيلانية، هذا الجيلاني يقول هذا الكلام، ما رأيكم؟ ثم تقول لهم: التصوف الذي أنتم عليه تصوف لا يقتضي منكم الشرك، ولا يقتضي منكم دعاء هذا الرجل؛ لأن الرجل يريد أن تكونوا على طريق الله فتعبدوا الله وحده.
كمثل الشيخ أبو بكر الجزائري فإنه من أعداء التصوف؛ لكن له كتيب إلى التصوف يا عباد الله فالرجل لا يريد به أن يدعو إلى التصوف، لكن يضع لهم هذا الاسم لعلهم ينقادون إليه.
على كل حال! نحن لا نقول: هذه وجهة صحيحة أو خاطئة، لكن نقول: أنت عندما تتعامل مع واقع صوفية، لا تصدمهم وتواجهم مواجهة؛ فمن باب الحكمة والدعوة أنك تأخذ معهم المنهج السليم فشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وابن القيم وُجدا في وقت كانت الصوفية طاغية حتى على علماء الحديث الذين يذكرون كلام الله ورسوله، وعلماء التفسير، فكان لا بد لهم إذا جاءوا في مواضع العامة أن يأتوا بكلام ظاهره يقبل حتى لا يثيروها، هذا أحد الأسباب عملياً ودعوياً، فأنت تدعوهم، ومن باب دعوتهم إلى العقيدة الصحيحة، لا تبدأ بأن تصدمهم بعقائد معينة تظهر منهم؛ لكن عندما تتحدث عن البدعة المجردة أو عن الدين نفسه أو عن الشرك مجرداً؛ تقول ما تشاء، ولذلك تجد في فتاوى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، أمثلة لهذا وهذا؛ لأنه ذهب إلى مصر مطروداً، فإذا وصل إلى هناك، لا يستطيع أن يقول لهم: هذا ضلال وهذا كفر -بهذه المواجهة- وإنما يأتي من باب أوسع وأرحب قليلاً، فلا يعني هذا أنه من التناقض.
فعندما يعالج الإنسان واقعاً معيناً قد يأخذ بنوع من الحكمة ومن التدرج، لا يفطن إليها من يعيش بعيداً عن هذا الواقع.(70/32)
الخشوع في الصلاة
السؤال
مما نجد في حضارة العبودية في هذا العصر، هو أن العبادة هي تلك الحركات الخالية من أي خشوع، فما هو العلاج لذلك؟
الجواب
يجب أن نعبد الله كما شرع، فالصلاة يجب أن نقيم هيئتها كما صلاَّها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه مما يجعلك تخشع، أن تقيم العمل كما أمر الله، فنعلم أنها بالقلب، والخشوع هو روحها، والطمأنينة هي لبها، والعلاج لذلك هو دوام الخشوع ودوام الذكر واستحضار معاني الآيات والصلاة كأنك مودع كل منا يعاني من هذه المشكلة، لكن بقدر ما تجاهد نفسك على أن تكون صلاتك على أكمل وجه؛ فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يستجيب لك.(70/33)
كتاب الإيمان حقيقيته وأركانه
السؤال
كتاب (الإيمان حقيقته وأركانه) لـ محمد نعيم ياسين سمعنا أن فيه بعض الأخطاء العقدية خاصة في قضية خلق القرآن، فهل هذا صحيح؟
الجواب
الذي أعرفه أن هذا الكتاب ليس لصاحبه فيه جهد مستقل، فهو اختصر وجمع من عدة كتب، ولا أذكر الآن أن في مسألة خلق القرآن خطأ، ولا أذكر صواباً لأني بعيد عهد به، فلا أستطيع أن أجيبك، لا بنعم، ولا بلا؛ لكن إذا كان الكتاب يتحدث عن القرآن بأن لله تعالى كلامين: كلام نفسي قائم بذاته، وكلام لفظي؛ فهذه هي البدعة التي يخشى هو وأمثاله أن يقعوا فيها، وهي من كلام الأشاعرة إذا كانت هكذا.
أما إذا ذكر أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ولم يتجاوز ذلك، أو ذكر أقوال السلف فيه -وهذا الذي أظنه وأرجحه- فليس هناك خطأ، لأن الحكم على أشياء وهي غائبة يوجد اللبس، لكن عندما يكون النص الذي تشك فيه أمامك فمن الممكن أن يعرف هل فيه خطأ أم لا.(70/34)
ترجمة علوم اليونان (فائدتها- وخطرها)
السؤال
هل يفهم من حديثكم عن الترجمة في عهد المأمون أن الحضارة الإسلامية لم تستند إلى علوم الإغريق واليونان في الطب ولا الهندسة ولا الرياضيات وغيرها من العلوم؟
الجواب
فرق بين أن نتلقى عن غيرنا وبين أن نستفيد من علمه، بل يجب أن نستفيد من علوم غيرنا والحكمة ضالة المؤمن، فقد استفاد المسلمون في الطب والهندسة وغيرها من العلوم.
من اليونان ومن غيرهم، وعدَّلوا وأضافوا وشرحوا وزادوا، وإنما كان الكلام مقتصراً في قضية التعبد، فإذا أخذنا عن غير الله ما نعبد به الله عز وجل وما نعرف به الله، فهنا يأتي الضلال.
نضرب لكم مثالاً على ذلك: فمثلاً اليونان تكلموا عن الله كلاماً مجرداً فهم يقولون: إن الله وجود مطلق لا يوصف بأي صفة، وإذا كان لا بد أن يوصف، يوصف بالنفي فقط، ليس بكذا ولا بكذا، فلما جاءوا إلى قضية بديهية عندنا جميعاً وهي قضية أين الله عز وجل؟ هم يقولون: لا داخل العالم ولا خارجه!! وهكذا كان اليونان يعتقدون؛ لأنه هو ليس شيئاً عندهم، فهو مجرد وجود مطلق لا يوصف بشيء! فقالوا: لا داخل العالم ولا خارجه! وهذه عقيدتهم.
فجاء المسلمون ولم يهتموا بنقل الطب أو العلوم، بل نقلوا هذه العقيدة؛ وكما يذكر شَيْخ الإِسْلامِ ابن القيم أن الأدلة على علو الله عز وجل على خلقه تقارب الثلاثة آلاف دليل، فهي بالآلاف ومن أوضحها دليل الفطرة، فكل مخلوق يشعر أن الله عز وجل فوق، حتى رائد الفضاء الملحد الشيوعي لما صعد على المركبة إلى الفضاء، ثم نزل إلى الأرض، قال: (لما صعدت رأيت الله) أي: آمنت بوجود الله، فاضطره استالين أن يغير عبارته إلى (لما صعدت لم أجد الله)، أي: على مذهبه الكافر.
أي: لو أنه موجود فسيكون فوق، وهذه هي الفطرة البشرية؛ لكن أخذ المسلمون عقيد أن الله لا داخل العالم ولا خارجه، وكتاب المواقف في العقيدة -وهو الذي يُدرَّس الآن في معظم الجامعات في العالم الإسلامي خارج المملكة - يقول: 'إن الله لا داخل العالم ولا خارجه'.
إذاً: فالشاب الأوروبي الذي هرب من دين النصارى لأنه يقول: (الله ثلاثة: الأب، والابن، وروح القدس) - أي: ثلاثة تساوي واحد- فقال: هذه عقيدة لا يقبلها العقل، وأنا أرفض هذه العقيدة وألحد بها أو آمن بنظرية دارون أو غيرها ثم رفضها؛ لأنها لا يقبلها العقل، أفنأتي نحن أمة القرآن ونقول له: تعال! أنت لا تريد تلك العقيدة، فعندنا العقيدة الصحيحة ما هي؟! نقول له: الله لا داخل العالم ولا خارجه! فهل يؤمن؟! لا يمكن أبداً! هنا نعرف جناية هذه العلوم وهذه البدع وجناية العقائد المحرفة على دين الله عز وجل.(70/35)
حقيقة حب الرسول صلى الله عليه وسلم
السؤال
بعض الناس يقولون: إننا لم نحب الرسول لذاته بل نحبه ونتبع ما جاء به، نرجو توضيح ذلك؟
الجواب
الغلو قد يذهب بالإنسان في ما لم يشرعه الله عز وجل، فلماذا نفرق (لذاته أو لما جاء به)؟ فبمقتضى أنه (رسول) الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فنحن نحبه ونجله ونعظمه، والصحابة رضي الله عنهم كانوا يحبون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكانوا يتسابقون على ما بقي من وضوئه، وكانوا إذا دخل بيت أحدهم -كما في الأحاديث الكثيرة- كانوا يطلبون منه أن يصلي في البيت، يتبركون به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما شرب من قربة أحدهم؛ قطعوا الفم لماذا؟ تبركاً؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمسه، ومن كانت له شعرة من شعر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يحتفظ بها.
فنحن لا نغلو ولا نريد أن نلغي هذه أبداً، إنما إنكارنا على أهل البدع أنهم يتحدثون عن معجزات ما قبل المولد ثم عن المولد ثم انقطع الحديث!! فيتركون الهداية والنور والدين والدعوة، ويتعلقون بتقديس خيالي وهمي يجعل السيرة وكأنها خيالات وأوهام فقط! فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندهم لم يأت ليخرج الثقلين من العبودية لغير الله، أو ليحرر العالم، ولا يذكرون إلا أنه سقطت الشرفات والبحيرة جفت، وكذا وكذا والشجرة صار لها كذا والحجر كلمه والجذع نطق، هذه بعضها صحيح، لكنه جزء فقط مما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن تعظيم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندهم، وأنهم يشركون بالله، ويدعون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويستغيثون ويكتبون كتب الاستغاثة بالرسول، ويسمون أبناءهم: عبد الرسول، فإذا أنكرت عليهم، قالوا: أنت لا تحب رسول الله.
والخلاصة: أننا نحب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لذاته ولما جاء به، ولا نفرق ولا نتنطع.
والحمد لله رب العالمين.(70/36)
كلمة وموعظة
تحدث الشيخ حفظه الله عن أهمية دعاء الإنسان لنفسه ولأخيه بظهر الغيب، مبيناً ترغيب الله لعباده في دعائه، وأن حفظ الله لأوليائه إنما يكون بقدر قربهم منه ومداومتهم على طاعته، وختم الحديث بالدعوة إلى التوبة، والحرص على مجاهدة النفس وكبحها عن المعاصي والذنوب.(71/1)
الدعاء
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد: الدعاء من الأمور التي قد لا يتفطن لها كثير من الناس، فالإنسان يدعو لنفسه وقد يستجاب له، وربما لا يستجاب له لموانع موجودة في هذا الشخص، وهي كثيرة منها: ما ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قال: {إنَّ الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله قد أمر عباده الصالحين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون:51] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟!} نسأل الله العفو والعافية.(71/2)
موانع الدعاء وما يزيلها
فموانع الدعاء كثيرة منها:- أكل الحرام، ومنها ما يتعلق بطريقة الدعاء، كأن يدعو الإنسان دعاءً معتدياً، والله تبارك وتعالى نهى عن ذلك، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190] فالاعتداء في الدعاء كأن يدعو بما لا يليق بالله عز وجل أن يستجيب له، كأن يدعو بإثم أو قطيعة رحم، وما أشبه ذلك من موانع إجابة الدعاء.
فلو دعا الإنسان لنفسه بأمر، وأخل بأدب من آداب الدعاء، فربما تخلف كله لوجود مانع يمنع هذه الدعوة من الإجابة، إلا أن هناك أمراً يزيل كل هذه الموانع، وتستجاب الدعوة -بإذن الله- وهذا الأمر هو الدعاء بظهر الغيب كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يقول الملك: آمين! ولك مثل ذلك!} فيستجاب له في أخيه، وينادي الملك: ولك مثل ذلك.
والحكمة ظاهرة في هذا: لأنك بدعائك لأخيك تنتفي شبهة حظ النفس التي قد تفسد الإخلاص أحياناً، أما في دعائك لأخيك في ظهر الغيب، فالإخلاص فيه واضح؛ لأنه لا يعلم ولا يدري عنك أحد، وإنما أنت تنادي وتناشد وتتضرع إلى علام الغيوب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فيما بينك وبينه أن يفرّج عن أخيك هذه الكربة، وأن يرزقه، ويحفظه، ويعافيه، بما يفتح الله لك به من الدعاء لأخيك فالإخلاص متحقق، فمن هنا كانت هذه الدعوة جديرة بالإجابة.(71/3)
أمر الله لنا بالدعاء
يقول الله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] فيجب علينا أن نستجيب لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وأن ندعو الله ونتضرع إليه، كما قال الشاعر:
الله يغضب إن تركت سؤاله وبُني آدم حين يُسأل يغضب
فهكذا حال الناس، فأكرم الناس في الأرض حتى لو كان أباك ولو كان أصلح الناس؛ لأنه لو طلبت منه شيء فقد يرفض ذلك، وهذا طبيعي، حتى الأم، ومعلوم أنه ليس هناك أحد أشفق على أحد مثل شفقة الأم على ولدها وعلى رضيعها، ولذلك ضرب بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المثل عندما رآها وهي تحتضن طفلها، فقال: {أرأيتم هذه المرأة أكانت واضعة طفلها في النار؟! قالوا: لا! فقال: لله أرحم بعباده من هذه الأم بوليدها!!} إذاً فالله أكرم كريم عز وجل، وهو الكريم الذي يده ممدودة بالعطاء: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64].
حتى أعداؤه شملهم عطاؤه، قال تعالى: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء:20] ماذا لو كان عطاء الله خاصاً بالمؤمنين! فمن يرزق الكافرين؟! ومن يرزق المنافقين؟! لا أحد! فالرازق هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62].(71/4)
إجابة الله لدعاء المضطر
المضطر إذا دعا الله سواء أكان براً أم فاجراً، فإن الله هو الذي يجيبه، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى ومن سعة رحمته أنه يريد أن نسأله، ويحب أن نتضرع إليه، وبقدر الضراعة، والذل الذي يظهر منك، والخشوع والانكسار والافتقار بين يدي ربك؛ يكون رجاؤك بالإجابة، فليس قولك: (يا رب! اعطني) هو ضراعة، بل الضراعة هي التي تكون مثل دعاء نبي الله يونس عليه السلام حين دعا الله بضراعة وخشوع، لأنه لا منجى ولا ملجأ من الله إلا إليه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فعندما تُشعر نفسك بالافتقار إلى الله يستجيب لك، وإذا كان الأمر كذلك، فهل أنا فعلاً فقير إلى الله؟! أم أني لا أفتقر إلى الله إلا وقت الحاجة؟! كثير من الناس لا يدعون الله إلا في وقت الحاجة! إما بسبب مرض أو مشكلة تقع أو غيره.
نحن مفتقرون إلى الله تبارك وتعالى في كل لحظة، وفي كل دقيقة، بل وحتى في النفس الواحد! وكم من الناس من يتنفس ثم فجأة لا يستطيع أن يتنفس! هذا القلب الذي ينبض لو ضعف نبضه؛ لمرض الإنسان وأسعف إلى المستشفى، وربما مات أو صار في حالة عصيبة، وهكذا في كل لحظة -أيها الأحباب- نحن مفتقرون إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15].(71/5)
حفظ الله لأوليائه
إذا افتقرت إلى الله أغناك عن الناس وكنت عزيزاً عندهم؛ لأن علاقتك قوية بملك الملوك الحي القيوم -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، والذي لا تنضب خزائنه، والذي يفعل ما يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويرفع من يشاء، ويضع من يشاء، ويحيي من يشاء، ويميت من يشاء، ويضحك من يشاء، ويبكي من يشاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فكل شيء بيده.
وبقدر قربك منه تكون هذه الأمور كلها ميسرة لك، ويقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه، ولأن استعاذني لأعيذنه} الله أكبر! كل هذا بسبب التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض! والمهاجرين والأنصار يوم بدر وقفوا ذلك الموقف، قال عليه الصلاة والسلام: {وما أدراك يا عمر! لعل الله قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم}.
وقفوا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذا الموقف، فكانت هذه هي المكرمة من الله، وهكذا فإن كل من يقف مع الله فإن الله يكرمه ويحفظه، وحب الله له يكون بقدر قربه من الله، وكلما كان هذا القرب محفوفاً بالمخاطر والمضار -والنفس لا تريد ذلك- بقدر ما يكون هذا القرب من الله عز وجل، وإذا علمت أن كل هؤلاء الذين يعادونك ويحاربونك، ويحاولون أن يثنونك عن القرب من الله والسير إليه، إذا علمت أنهم جميعاً خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهم عبيد له؛ هانت عليك المضار، والمهم في ذلك أن تعمل لله وعلى منهج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما ما عدا ذلك فهو المتكفل به، قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173].
فماذا كانت النتيجة يا ترى؟ كانت كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيهم بعد ذلك: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:174] الله أكبر! وقال في آية الأحزاب: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25] وعندما يرى المسلم هذه الأمور، ويرى هذه اللفتات، فيزداد إيماناً، وتسليماً، ويقيناً، ويعلم أنه لا بد منها في إيمانه.(71/6)
كيف تحفظ جوارحك؟
تكلم الشيخ حفظه الله عن ضرورة شكر نعم الله التي أنعم بها على عباده، وأن من هذه النعم نعمة الجوارح، مبيناً أن هذه الجوارح إنما تصلح بصلاح القلب وتفسد بفساده، وحذر من أسباب فساد القلب، وتطرق لسوء الظن وضرره على القلب، وكيف فعل سوء الظن والحسد بأهل الأهواء والمنافقين، ثم أتى بكلام نفيس لشيخ الإسلام ابن تيمية بين فيه قواعد عظيمة في التعامل مع المؤمنين في أوقات الاختلاف، مبيناً فضل الصبر في هذه الحال.(72/1)
شكر نعمة الجوارح
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:- فنحمد الله تبارك وتعالى ونشكره على ما منَّ به علينا من النعم، ونسأله عز وجل ونتضرع ونتوسل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل لنا ذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً، وعملاً صالحاً مقبولاً، وقلوباً وأبصاراً سليمة، وألسنة كافة عما حرم الله تبارك وتعالى، وجوارحاً تستعمل في طاعته، ولا يستزلها الشيطان لتعمل في معصيته.
ثم إن الموضوع الذي أريد أن أتحدث به ليس هو بجديد عليكم، ولكن التذكير به واجب، لأن يجب علينا أن نتذاكر به نحن طلبة العلم، كما يجب علينا أن ننصح لعامة الأمة، فإن كثيراً من الأدواء والعلل قد تعتري قلوبنا ونحن لا نعلم بها، بل ربما تصيبنا بعض الآفات الخطيرة ونحن مشغولون بمعالجة أدواء الناس، ونعوذ بالله من ذلك ونستجير به عز وجل أن نكون ممن قال الله -تبارك وتعالى- فيهم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] ومن هنا كان التذكير واجباً، فكل منا عرضة لمثل هذه الذنوب والعيوب، ولا سيما في زمن كثرت فيه الفتن والمثيرات، وكثر فيه الإفساد، وقل الناصحون.
فالواجب علينا جميعا أن نوصي أنفسنا، ويوصي بعضنا بعضاً بحفظ هذه الجوارح التي ائتمننا الله تبارك وتعالى عليها، فإن الله عز وجل لما قال {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] فإنه يدخل في ذلك حفظ هذا البدن الذي أعطاك الله تبارك وتعالى إياه وامتن به عليك، كما قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78] وهذا فيه حض وحث وتنبيه أن نشكر نعمة الله تبارك وتعالى على ما أعطانا من هذه الأعضاء ومن هذه الجوارح، والتي ميزنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بها عن سائر خلقه، وفضلنا بها عن باقي ما خلق من الدواب.
فجعل لنا سمعاً وأبصاراً وأفئدة وعقولاً نهتدي بها، ونعرف الحق من الباطل، والهدى من الضلال، والتوحيد من الشرك، والسنة من البدعة، والطاعة من المعصية، والحسنة من السيئة، ونعمل بمقتضى ذلك بجوارحنا الظاهرة، لأن هذه من نعم الله العظيمة، والواجب فيها أن نشكر الله تبارك وتعالى عليها، وأن نراعي حق الأمانة الذي ائتمنا عليها، فالمال أمانة، واليد أمانة، والعين أمانة، والقلب أمانة، وكل ذلك مما يجب علينا جميعاً أن نحفظه، وأن نعتني ونهتم به، ونتوقع السؤال عنه بين يدي الله تبارك وتعالى، كما قال عز وجل: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36].
فلا يغرن العبد منا شيطان من شياطين الإنس أو الجن، فيحسب أنه غير مسئول، وأنه يفكر كما يشاء، ويعتقد ما يشاء، وينظر إلى ما يشاء، ويتناول بيده ما يشاء، ويعمل بفرجه ما يشاء، ويمشي برجليه إلى حيث شاء، من قال لك ذلك؟ ومن قال لك هذا؟! إنك عبد، ولا يخرج واحد منا عن عبودية الله -تبارك وتعالى- بحال من الأحوال، والعبد مأمور أن يستخدم ما أعطاه سيده فيما أمره به لا فيما نهاه عنه، والله تبارك وتعالى يقول: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] واليقين هو الموت، كما قال الله تبارك وتعالى: {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:47] وكما جاء في حديث عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه عندما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أما عثمان فقد أتاه اليقين من ربه} فلا بد أن نعبد الله حتى الموت.
فلا ينتهي عقد الأمانة الذي ائتمنك الله تبارك وتعالى عليه إلا بموتك، فحينئذ ينتهي هذا العقد، أما ما دمت حياً فأنت مسئولٌ عن هذه الأعضاء، والجوارح جميعاً، ألا تستخدمها إلا فيما أمرك به سيدك وخالقك، وربك الذي أعطاكها، ومنّ بها عليك وقد حرمها كثيراً من الخلق.
فكثير من الخلق لم يرزقه الله تبارك وتعالى قلباً يعقل به فتراه مجنوناً، فاحمد ربك الذي أعطاك العقل والفؤاد لتعي وتتذكر كلما رأيت من لا عقل له، واعلم أن الواجب عليك أن تستخدم قلبك وفكرك وعقلك في طاعة الله تبارك وتعالى، وبعض الناس خلقه الله تبارك وتعالى لا بصر له مطلقاً، فإذا رأيت أحداً من ذلك فاذكر نعمة الله تعالى عليك، واحمد الله الذي أعطاك عينين تبصر بهما وترى وتميز وتستخدمها في حياتك فيما ينفعك في الدنيا والآخرة، وبعض الناس لم يعطه الخالق تبارك وتعالى -وله في ذلك حكمة- أذنين، وقد أعطاكها فأنت تسمع بهما، فاحمد الله تبارك وتعالى واشكره ولا تسمع بهما إلا ما يرضي هذا المنعم المتفضل تبارك وتعالى.(72/2)
تقلب القلب بين الصلاح والفساد
ويجب علينا جميعاً أن نعلم أن أهم هذه الأعضاء التي يجب أن نبدأ بها ونصلحها هو القلب، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} هذا الارتباط العجيب بين القلب وبين الأعضاء قال فيه أبو هريرة رضي الله عنه، وجاء -أيضاً- عن غيره من السلف أنه قال: [[القلب ملك والأعضاء جنوده]].
فقال شَيْخُ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله: 'إن قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث المتقدم أبلغ وأبين من قول أبي هريرة رضي الله عنه ومن قال هذه العبارة، لأن الارتباط بين الأعضاء والقلب ارتباط عضوي لا يمكن أن يختلف ولا يمكن أن ينفصل، أما الارتباط في الصلاح والفساد بين الملك وجنوده، فهذا قد يقع فيه الاختلاف، فربما صلح الملك وفسد الجنود، وربما فسد الملك وصلح الجنود، وربما فسد الملك وصلح بعض الجنود وفسد بعضهم'.
فهذا البيان من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبلغ البيان في أن القلب إن صلح صلح الجسد كله، وإن فسد فسد الجسد كله، وأن مادته مادتان: مادة صلاح ومادة فساد فهو للأغلب منهما، ولهذا تجد أن كثيراً من الناس يعمل بالطاعات ويخلطها بالمعاصي، لأن القلب تمده مادتان، مادة خير وصلاح وحياة وذكر واعتبار ووعظ، ومادة أخرى وهي مادة فساد وشهوة وشبه وما إلى ذلك، نسأل الله أن يحفظنا وإياكم.(72/3)
أساس سلامة القلب
وقد جاء في دعاء إمام الموحدين خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:87 - 89] فسلامة القلب هي دليل ومعيار النجاة من عذاب الله تبارك وتعالى، ومن الخزي يوم القيامة وشدته، وعبوسه، وكرباته، كل هذا يكون بسلامة القلب، وسلامة القلب تكون بأمرين لا يجوز أن نغفل عنهما، بل يجب أن نعلمهما: أما الأول: سلامته من الشبهة، وأعظم ما ينبغي في ذلك أن يسلم القلب من الشرك بالله تبارك وتعالى، وألا يكون في قلب العبد المؤمن شيئاً من الشرك لغير الله -عز وجل- سواء كان ذلك بالتقرب، أو بالتأله في الدعاء، أو التوكل، أو الخشوع، أو الخوف، أو الرجاء، وفي أصول هذه الأعمال التي هي أساس أعمال القلب، فليحذر العبد أن يكون مشركاً مع الله -تبارك وتعالى- بشيء من هذه الأعمال والتعبدات.
ويجب أن تكون هذه الأعمال خالصة لله تبارك وتعالى، فيسلم القلب من الشرك، ويسلم من الشبهة التي تدفعه إلى الابتداع ومخالفة سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أمر الله -عز وجل- بطاعته واتباعه {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64] {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1].
فلا بد أن يتواطأ هذا القلب ويتفق اتفاقاً كاملاً مع ما جاء به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا تنقدح فيه شبهة من شبه أهل البدع والضلال، إما بميل إلى رأي أهل الغلو كـ الخوارج ومن ماثلهم، أو ميل إلى رأي أهل التفريط كمثل رأي أهل الإرجاء وأشباههم، أو أن يعبد الله -تبارك وتعالى- بما لم يشرعه، كما يفعله أهل التصوف وأشباههم، كل ذلك لا يصح وإنما الواجب السلامة منها، فالقلب السليم هو الذي سلم من الشبهات ومن المعارضات، والمنازعات والمدافعات، فكل ما شرعه الله وشرعه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو الحق الواجب اتباعه والإذعان له {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
فصاحبه مذعن منقاد مستسلم بقلبه، لا يبحث إلا عن صحة الحديث، فإذا صح الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وثبت وكان معناه معلوماً لديه، فهو يعتقده إن كان من الخبريات والاعتقاديات، ويعمل به ويمتثله إن كان من العمليات، فهذا هو الجانب الأول: السلامة: أي سلامة القلب من الشبهات.
الثاني: سلامة القلب من الشهوات: وهي كثيرة -نسأل الله العفو والعافية- وهي التي تدفع الإنسان إلى أن يخرج عن الجادة وعن الطريق المستقيم، ينحرف عن طريق الجنة إلى طريق النار، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات} والإنسان إذا أراد طريق الجنة فإنه لا يمكن أن تتحق شهواته ورغباته كلها، أما النار فإنها حجبت وحفت بالشهوات، فمن سلك طريقها وصل إلى شهواته ورغباته نسأل الله العفو والعافية.
فانظر يا أخي المسلم في أي الطريقين أنت؟! إن كنت تلاقي العنت من حفظ نفسك وتصبيرها عن الوقوع في الشهوات والشبهات فأنت على طريق الجنة، فأنت وإن كنت تريد المال وهو معروض عليك، ولكن لأنه حرام لا تقبله، ومعروض عليك شهوة النساء، ولكن لأنك تخشى الله وتتقيه وتستعصم به، فأنت لا تريد إلا أن يكون حلالاً، ومعروضة لديك شهوات كثيرة ومغريات تشتاق إليها النفوس ويتسارع إليها الناس، ولكنك تعرض عنها ابتغاء وجه الله، ومرضاته، فأبشر بالخير، واعلم أنك على طريق الجنة إن شاء الله.
أما من أتبع نفسه هواها، وأصبح لا يشتهي أمراً إلا وأخذه من حلالٍ أو حرام، ولا تشتاق نفسه إلى شهوة إلا وسعى في تحصيلها ولا يبالي بأمر الله -تبارك وتعالى- فيها، فهذا ساع على طريق أهل النار، ونسأل الله أن يحفظنا وإياكم من ذلك، والشهوات كثيرة كما أن الشبهات كثيرة، وأساس ذلك كله هو ما يعتري القلب من أمراض.(72/4)
أساس فساد القلب
بعض العلماء جعلوا أساس فساد القلب بالشهوات كالحسد، وبعضهم قالوا: هو القوة الغضبية، وبعضهم قالوا هي: قوتين أو أكثر، وأخذوا ذلك من قول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان:68] قال العلماء رحمهم الله تعالى ومنهم ابن القيم: هذه الآية حذرت من ثلاثة أمور: الشرك، ودعوة غير الله، وهذا معلوم التحذير منه {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] وما عدا ذلك فإن الموضوعان الآخران فيهما إشارة إلى القوتين اللتين في الإنسان، أو الخصلتين اللتين هما أساس كل معصية وذنب يفعله العبد، وهما القوة الغضبية والقوة الشهوانية.
القوة الغضبية تبدأ بأن تغضب من إنسان بغير حق، ثم تعتدي عليه بالضرب وتأخذ ماله، ثم تنتهي بقتله {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان:68] فنبه الله تعالى على نهاية وغاية القوة الغضبية -حفظني الله وإياكم منها- ولهذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوصى الرجل مراراً {لا تغضب} فكل منا يعرف نفسه، فإذا كان ممن فيه حدة في جانب القوة الغضبية فليتدارك نفسه ولا يغضب، وليعالجها بالأدوية النبوية وقد بينها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وإما أن تكون القوة قوة شهوانية، وهذه القوة الشهوانية أول بدايتها تكون من الجوراح، بالنظر، ومعظم النار من مستصغر الشرر:
كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
أول ما يبدأ بالنظر، فيمد الإنسان عينيه إلى ما حرم الله -تبارك وتعالى- ويتبع ذلك النظر اتباع القلب، فيميل القلب وينصب ويعشق ويهوى ويتمنى، ثم بعد ذلك يدفع المال أو يبذل السبل، ثم تكون النهاية هي الوقوع في الفاحشة -والعياذ بالله- فيكون الزنا فلهذا قال: {وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68] فنهى عن الزنا بعد أن نهى عن الشرك وعن القتل، فالقوة الغضبية والقوة الشهوانية هما أساس كل ذنب ومعصية.(72/5)
فساد القلب بالحسد
والذين قالوا: إن الحسد هو أساس فساد الجوارح من القلب والأعضاء جميعاً لم يذهبوا بعيداً، فهو إما أن يكون ناشئاً عن القوة الغضبية لأنه نوع منها، لكنه يتجه اتجاهاً آخر -نسأل الله العفو والعافية- يتجه إلى الإنكار على المنعم وعلى المتفضل تبارك وتعالى، الجواد الكريم الذي أعطى كل نفس مخلوقة كما قال: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء:20] فهو الذي يعطي من يحب ومن لا يحب، يعطي الكافرين ويعطي المؤمنين، فالحاسد يتجه حقيقة إلى الاعتراض على الله -تبارك وتعالى- لماذا؟ لأن فيه القوة الغضبية التي جعلته يكره هذا الرجل المحسود وينفر منه ثم زادت حتى أدت به إلى الوصول إلى الاعتراض على من أعطاه ومن منّ وتفضل عليه، فالمقصود أن هذا ناشئ عن القوة الغضبية أيضاً.
ولهذا كان من أدلتهم على ذلك أن أول ذنب عصي الله تبارك وتعالى به، ونشأ عنه الكفر والفساد في الدنيا كلها من بني آدم هو الحسد، لأن أصل وقوع الفتنة والشرك والكفر والفواحش والبغي والعدوان في الدنيا هو من إبليس اللعين، وما الذي دفعه إلى ذلك الحسد؟ دفعه إلى ذلك أمر الله تبارك وتعالى الملائكة بأن تسجد لهذا المخلوق آدم عليه السلام {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء:61] {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] حسده ولم يقبل أمر الله تبارك وتعالى في أن يسجد له كسائر الملائكة الكرام الذين استجابوا لأمر الله ولم يعترضوا عليه، وهكذا يجب على العبد دائماً ألا يعترض على أوامر الله فينشأ من ذلك الحسد والإباء والاستكبار {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] ثم بعد ذلك الكفر، فالحسد جعله الله تبارك وتعالى سبباً لوقوع الكفر والفواحش والمصائب والبلايا في هذه الدنيا نسأل الله أن يحفظنا وإياكم من همز الشيطان ونفخه ونفثه وشره كله.
إذاً: هذه قضية الحسد، ويجب على الإنسان أن يطهر قلبه من الحسد والغش والغل لإخوانه المؤمنين في كل زمان وفي كل مكان، وأن يدعو الله تبارك وتعالى ألا يجعل في قلبه غلاً للذين آمنوا، كما وصف الله تبارك وتعالى عباده الصالحين.
وقد صح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث الرجل الذي خرج إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في مجلسه الكريم صلوات الله وسلامه عليه، ومعه أصحابه الكرام رضوان الله تعالى عليهم، ولحيته تقطر من أثر الوضوء، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يطلع عليكم من هذا الفج رجل من أهل الجنة} وانظروا إلى هذا الوصف العظيم، ما معنى من أهل الجنة؟! وهل هي كلمة عادية؟ أي من الفائزين، من الذين رضي الله تبارك وتعالى عنهم، أي: أن هذا الرجل ما بينه وبين التمتع بنعيم الجنة -التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر- إلا أن يموت فقط، فتعجب الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وثلاث مرات يخرج ذلك الرجل والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول فيه هذا القول، فحرص الصحابة لمعرفة سبب هذا الفوز، وكان أكثر حرصهم على الخير مثل حرص أحدنا اليوم على الدنيا، فحرص على ذلك عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنها.
فذهب يستطلع الخبر ويخبر بعد ذلك بقية الصحابة، فذهب إليه وسلم عليه وقال: يا أخي، إني لاحيت أبي -أي: خاصمت أبي- فحلفت ألا أبيت عنده ثلاثاً -أي: ثلاث ليال- فأريد أن تؤويني عندك، فآواه عنده، وما غرضه إلا أن ينظر لعمله، يقول: عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه فما وجدت له من شيء كما كنت أتوقع، إلا أنه إذا قام من الليل أو تحرك ذكر الله عز وجل، لم يجد فيه أكثر من ذلك، لم يجد فيه زيادة عبادة أو صيام أو صلاة أو ذكر.
فلما كان اليوم الثالث كدت احتقر ما عنده من عمل، فقلت له: أيها الرجل إني لم يكن بيني وبين أبي مُلاحاة، وإنما جئتك لأني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول فيك كذا، فأحببت أن أرى عملك، فما رأيت فيك شيئاً غير ما كنت قد رأيت، قال: ما هو إلا ذاك قال: ثم وليت، فقال لي الرجل لما وليت: تعال، فرجعت، فقال: ما هو إلا ما رأيت، إلا أني لا أبيت ليلة من الليالي وفي قلبي غش أو حسد لمسلم على نعمة أنعم الله تعالى بها عليه، قال: فذلك الذي به بلغت ما بلغت، وذلك الذي لا نطيق.
سبحان الله! قلب سليم ليس فيه غش لأي مسلم، ولا حسد على نعمة أنعم الله بها عليه، من يستطيع لهذا إلا أصحاب النفوس التي سمت وعلت وزكت وعلمت أن النعم من الله، وعلمت أن الفضل كله من الله، والخزائن كلها بيديه، والخلق خلقه، وأن العبيد عبيده، وأنه يبتلي هذا بالفقر، وهذا بالغنى، ويبتلي هذا بالصحة، ويبتلي هذا بالمرض، وكلنا يجب أن نطيع أمره، ونقبل حكمه الشرعي كما نقبل حكمه الكوني القدري، فإن جعلنا من أهل الابتلاء والفقر والمرض والألم، صبرنا واحتسبنا، وإن جعلنا من أهل اليسار والغنى والمال والعافية، شكرنا واحتسبنا، فلا يطغينا هذا أو يلهينا ذاك، هذه هي سلامة القلب من ذلك كله.
فلما سلم قلب هذا الصحابي رضي الله تعالى عنه من الشرك والبدعة والهوى، سلم مما هو أدق من ذلك وهو الغش للمسلمين أو الحسد لهم، ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من غش فليس منا} وفي الرواية الأخرى يقول: {من غشنا فليس منا} لأن المؤمن لا يغش ولا يحسد أخاه.
فمن صفة أهل الكتاب التي جعلتهم يكفرون بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورسالته الحسد، ولهذا يقول الله تبارك وتعالى عنهم: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] وقال في الآيات الأخرى: {حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة:109]، وبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف حسدنا اليهود على رسالة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه بعث من العرب، وحسدونا على القبلة، ويوم الجمعة، وعلى أن وفقنا الله له ولم يعرفوه، وحسدونا حتى على كلمة (آمين)، وما من شيء في ديننا إلا وحسدنا عليه اليهود والنصارى وأشباههم، ونتيجة هذا الحسد استكبروا وأبوا أن يذعنوا للحق، ورفضوا الإيمان بهذا الدين العظيم.
والمؤمن لا يحسد أحداً من إخوانه المسلمين أبداً، بل المؤمن لو رأى أهل الكفر يتنعمون ويتلذذون ويعبثون بالأموال كما يشاءون يعلم أن ذلك ابتلاء لهم وأنه {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:197] فلا تقلبهم في البلاد، ولا يغره تقلبهم في النعم وهم كفار، فكيف تحسد إخوانك المسلمين المؤمنين؟!(72/6)
سوء الظن واتباع الهوى
وأمر آخر يجب أن نحفظ منه قلوبنا، وهو مما يظهر أيضاً أثره على جوارحنا، وهو قرين وقريب من الحسد، وهو سوء الظن، يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] ولا حظوا الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} فلا بد أن تجتنب الكثير من الظن لكون البعض منه إثماً وليس العكس، والإنسان ينظر إلى بعض الأمور، ثم يتوسع الظن عنده حتى يسوء ظنه كثيراً من أجل احتمال قليل، وربما يكون هذا القول صدر أو بدر من أخيك وله احتمال من الحق واحتمال من الخطأ أو الباطل، فإذا وسَّعته أكثر مما يحتمل، فقد عكست مفهوم الآية ومضمونها تماماً.
فالواجب علينا أن نجتنب كثيراً من الظن لكون البعض منها إثماً، وحتى نحفظ قلوبنا ونحفظ جوارحنا من النيل والوقوع في أعراض إخواننا المسلمين، ولذلك يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا تناجشوا ولا يبيع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا}.
وسوء الظن يولد في الإنسان عندما يترك هذه الفضائل، فتنقطع الأخوة والبغضاء ويقع الحسد والبغي، ويقع العدوان والفتنة، وأصل ذلك كله ناشئ من سوء الظن -والعياذ بالله- وقال بعض السلف -وهو من الكلام المفيد-: [[إنما يُسيء الظن بالله خبيث النفس، قالوا: كيف ذلك؟! قال: إنه تترشح صفاته فتخرج في غيره]] أي: هو نفسه خبيثة والعياذ بالله، وأعماله وباطنه خبيث، فيترشح ذلك كما يترشح الأناء، ويخرج بشكل إساءة الظن بالناس.
فيأتيه -مثلاً- القول الصادق فيقول: لا، هذا القول كذب، وإذا قيل له: لماذا؟ يقول: ماذا لو كان صاحبه كاذباً؟! لأنه هو -نفسه- يقول القول وهو كاذب والعياذ بالله.
ويوصف له الإنسان بالتقوى فيقول: لا، هذا ليس بتقوى، لماذا؟ قال: هناك أشياء لا تدري أنت عنها ولا تعلمها، لماذا؟ قال: لأنه يظهر التقوى ويعمل في الباطن أعمالاً خفيه، فهو في الحقيقة يتكلم عن نفسه، وأصدق الناس ظناً بإخوانه المسلمين هو أسلم الناس باطناً، وهذه قاعدة؛ لأنه لا يتصور أن أحداً يقول الحق ثم يفعل هذه الموبقات ولذا فإنه لا يتهم بها الناس؛ لكن الذي يفعلها -والعياذ بالله- يتهم الآخرين بلا دليل إلا دليل سوء الظن فقط.(72/7)
سوء الظن سبب اتباع الهوى
سوء الظن بداية لاتباع الهوى، وهذا من أخطر الأمور، وإذا اتبع العبد الهوى حاد عن الطريق المستقيم، ولم يرتدع بأي رادع، وهذه مشكلة وفتنة عظيمة يفتن بها العبد بعد الشرك بالله تبارك وتعالى، بل إن الشرك أحياناً عندما يقع، فهو يقع نتيجة لاتباع الهوى، كما أخبر الله تبارك وتعالى في أكثر من آية عن المشركين فيقع الشرك وتقع المحظورات كلها بسبب الهوى، فيخل بحق الله وبحق إخوانه المؤمنين، ويصبح متعصباً لرأيه ولهواه، وذلك التعصب يعميه ويصمه عن قبول الحق وعن الانقياد والإذعان له.
فيشبه حاله في هذا الحال حال اليهود والنصارى الذين تعصبوا بما عندهم من الباطل، ورفضوا دعوة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورفضوا قبول الحق، ولهذا يقول عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله وهو من العلماء الأجلاء، يقول: 'العلماء يكتبون ما لهم وما عليهم، وأما أهل الأهواء فيكتبون ما لهم ويذرون ما عليهم' أي: أن العالم بالله تعالى حقيقة هو الذي يخشى الله، كما قال الله عنهم: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] إذا بلغه شيء يخالف ما كان يظن أو ما كان يفتي به أو يقوله كتبه سواء كان له أو عليه، حتى لو كان رأيه في المسألة كذا، ثم بلغه حديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمل به، أو عن الصحابة، فإنه يكتبه ويتأمل ويبحث عنه، حتى لا يقول إلا الحق، ولا يفتي بالباطل، ولا يعتقده.
أما أهل الأهواء لو أتيته بالآيات والأحاديث والبراهين من الواقع -إذا كانت القضية مما اختلف فيها الناس- وتقول: انظر الدليل الفلاني والدليل الفلاني؛ فإنه لا ينظر إليه، فإذا وجد رائحة شبهة، أو كلمة أو احتمال ينفعه، قال: نعم، ثم أخذه وكتبه وحفظه ونشره ووزعه واهتم به، وهذا دليل على أنه صاحب هوى، وليس من أهل العلم الذين يخشون الله، ويعلمون أنهم مسئولون عما يقولون ومحاسبون ومجزيون بهذا، وهذه هي صفة أهل الأهواء.(72/8)
اتباع الهوى في الحكم
وأصل ذلك قول الله تبارك وتعالى عن المنافقين: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:49] إذا كان الحق لهم قالوا: لا نريد أن نحتكم إلا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لماذا؟ قالوا: لأنه لا يحكم إلا بالحق، هذا إذا كان يعلم أن الحق له، أما إذا كان الحق لغيره قال: نذهب إلى فلان وفلان من الناس لأنه من أهل الخير والصلاح، وهذا هو الهوى والعياذ بالله، ونحن والحمد لله ممن نتبع منهج السلف الصالح في هذا، ونعتقد أن الإنسان يأخذ ما له وما عليه.
فإذا اجتنب سوء الظن، واتباع الهوى، وأخذ ما له وما عليه وفقه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ثم بعد ذلك قد يكون اجتهاده بالحق مفضياً به إلى الصواب، وقد يفضي به إلى الخطأ، فليس منا أحد معصوم أبداً، بل كلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن فضل الله أعظم من ذلك، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إذا اجتهد الحاكم، فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر} والحاكم هنا أعم وليس المقصود من الحاكم مجرد الأمير أو الملك أو السلطان الحاكم؛ بل يعني كل من حكم في مسألة، حتى قال شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: 'حتى الذي يقضي بين الصبيان في الخطوط' أي: في أيهم أحسن خطاً، فأنت مطالب أن تحكم بالحق والعدل، فأنت قاضٍ في هذه الحالة.
أما معنى الاجتهاد فهو: استفراغ الجهد والطاقة والوسع في الوصول إلى الحق، فأنت تريد الحق فإن أصبته فلك أجران: أجر الجهد الذي بذلت، وأجر الصواب، وإن أخطأت لم يحرمك الله عز وجل، فلك أجر الاجتهاد، وأما أجر الصواب فيفوتك.
والله تبارك وتعالى جعل ذلك في حق من هم خير منا ومن الخلفاء الأربعة، جعله في حق نبيين رسولين من عباده الصالحين {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79] فهمها سليمان ولم يفهمها داود عليهما السلام، فهذا له أجران وهذا له أجر حتى تكون هذه القصة عبرة لنا.
والصحابة رضوان الله تعالى عليهم، لمَّا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة} بعضهم قال كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا أصلي العصر إلا في بني قريظة ولو غربت الشمس، ولا أبالي أنني لم أصلها في وقتها، لأن هذا أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما علي من حرج، فهذا اجتهاد، وقال الآخرون: إنما أراد منا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نتعجل فلنصل الصلاة في وقتها، ولنتعجل إلى بني قريظة، لأن المقصود هو أن نذهب إلى بني قريظة لنقاتلهم، وليس المقصود أداء الصلاة في بني قريظة أو في المدينة، أو في مكان قريب منهم أو بعيد عنهم، ثم لما بلغه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، ما عنف إحدى الطائفتين.
وهذا من فضل الله عز وجل، أي: أن هذا مأجور على اجتهاده، وهذا مأجور على اجتهاده، وهؤلاء صلوا، وهؤلاء صلوا ولم يقل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهؤلاء أخرتم، ولم يقل لهؤلاء قدمتم، إذاً قد يستوي الأمران، وقد يكون أحدهما له أجران والآخر له أجر، والشاهد -وهو الذي يهمنا- أن كلاهما لا يستحق اللوم والذم والتعنيف والتشهير وإطلاق اللسان بالطعن والقذف والنيل منه، لأن الأمر في دائرة النظر والاجتهاد والفهم، فمن تعدى ذلك وتجاوز وبغى فقد أساء إلى نفسه وجمع وساء الظن بغيره، وربما جمع إلى سوء الظن الحسد، فزاد على سوء الظن الحسد والبغي والعدوان.(72/9)
الاجتهاد في الأحكام عند شيخ الإسلام
ولأهميه هذا الموضوع ننقل كلاماً نافعاً لـ شَيْخِ الإِسْلامِ رحمه الله، ولا أريد أن أطيل عليكم فيه، لكننا طلبة العلم نحتاج إليه كثيراً في واقعنا، وهو من كتاب الاستقامة يقول الشيخ رحمه الله: 'إن من مسائل الخلاف الاجتهادية ما يتضمن أن اعتقاد أحدهما يوجب عليه بغض الآخر' أي: إذا اختلفوا في مسألة اجتهادية، فيظن البعض أن اعتقاده يوجب عليه بغض الآخر ولعنه أو تفسيقه أو تكفيره أو قتاله أو تفزيعه، إلى غير ذلك وقد يخرجه من السنة أو الإسلام أو طريق الحق والدعوة، لأن اعتقاده يدفعه إلى ذلك، فيقول: 'فإذا فعل ذلك مجتهداً مخطئاً كان خطؤه مغفوراً له، وكان ذلك بحق الآخر محنة وفتنة وبلاء ابتلاه به' أي: حتى إذا تنازعا واختصما فبغى أحدهما على الآخر، أو بغت إحدى الطائفتين على الأخرى فظلمتها وكفرتها وفسقتها وبدعتها إلى آخره، فاعلم أن هؤلاء الذين فسقوا وضللوا وبدعوا إن كانوا يريدون الحق فعلاً فلهم أجر واحد وهو أجر الاجتهاد، وإن كانوا غير مصيبين فالواجب على الآخرين -وإن كان ما قيل فيهم زوراً وباطلاً وبهتاناً- الصبر؛ لأن هذا امتحان وابتلاء.(72/10)
البغي في الاجتهاد
ويقول: 'ولكن اجتهاد السائل لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغي' أي إذا أصبح الأمر فتنة وفرقة وقعت بين الناس من طلاب العلم وغيرهم، فلا بد أن ذلك نتيجة بغي وعدوان وليس نتيجة اجتهاد.
يقول: 'فلا يكون فتنة وفرقة مع وجود الاجتهاد السائغ' فالاجتهاد السائغ لا يكون معه فتنة ولا فرقه، أي: إذا قلت قولاً وخالفك أخوك، فلا توجد هناك فتنة ولا فرقة، ولا يقع ذلك إلا إذا كان هناك بغي من أحد الطرفين على الآخر، واستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [آل عمران:19].
يقول: 'وعامة ما تنازعت فيه فرقة المؤمنين ' والكلام يخرج المنافقين، لأن المنافقين -والعياذ بالله- يقولون آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، لكننا نتكلم عن المؤمنين الذين يريدون الحق من هذه الأمة.
يقول: 'وعامة ما تنازعت فيه فرقة المؤمنين من مسائل الأصول -أي أصول الدين- في باب الصفات والقدر والإمامة وغير ذلك هو من هذا الباب، فيه المجتهد المصيب، وفيه المجتهد المخطئ، وقد يكون المخطئ باغياً، وفيه الباغي من غير اجتهاد، وفيه المقصر فيما أُمر به من الصبر' أي يوجد إنسان بغى من غير اجتهاد، وخالف الحق وظلم، ولا يزال من المؤمنين ولم يخرج من الملة، فخالف في أمر من أمور الاعتقاد العظيمة؛ لكن خالف من غير اجتهاد سائغ، وكان باغياً في ذلك.(72/11)
بغي الخوارج في الاجتهاد
وأوضح مثال على ذلك هم الخوارج لما بغوا واعتقدوا كفر علي -رضي الله تعالى عنه-ومن معه، ماذا فعل بهم علي رضي الله تعالى عنه؟ وهم خوارج حقيقيون فعلاً، وهم الذين بلغ من شأنهم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفهم بأعيانهم، وعلي رضي الله تعالى عنه كان يقول لأصحابه ابحثوا عن ذي الثدية، فلم يجدوه فكان يقسم ويقول: [[والله ما كذبت ولا كُذبت]] فبحثوا حتى وجدوه في ساقية وفوقه جرحى وقتلى، فأخرجوه وإذا في عضده مثل الثدية، ومع ذلك قالوا لـ علي -رضي الله عنه- لما صعد المنبر لا حكم إلا لله، أي أن علياً رضي الله عنه حّكَّمَ الرجال، ومادام حكم الرجال فقد خرج عن الإسلام وخرج عن السنة، وليس له طاعة، وهو كما قالوا: يريدون أميراً غيره وهو عبد الله بن وهب الراسبي، أو أميراً مثل عمر، إلى آخر ما قالوا، ومع ذلك صعد المنبر وقال: " أما إن لكم علينا ثلاثاً -أي: مهما قلتم وافتريتم فإن لكم علينا ثلاثا- وهم خوارج حقيقيون -قال: وهذه الثلاث هي: ألا نبدأكم بقتال حتى يكون الباغي منكم هو الذي يصول ويعتدي، وألا نمنعكم مساجد الله -لأن المساجد بيوت الله، وكل من كان من أهل القبلة يحق له أن يأتي إلى بيوت الله- وألا نمنعكم الفيء " أي عطاءكم من بيت المال، لا نمنعكم إياه ولا نفصلكم ونضايقكم لأنكم خوارج، ولأن هذا هو حق لكل مسلم مادام من أهل القبلة، ومن أهل الإسلام.
هذا حكم علي رضي الله تعالى عنه، وحكم الخلفاء الراشدين الذين قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي} ثم قاتلهم رضي الله تعالى عنهم وقاتلهم الصحابة حتى تحقق فيهم ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعد أن بدأوهم هم بالقتال وخرجوا عن الطاعة، وأمَّروا عليهم أميراً منهم، ورفضوا طاعة أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه.(72/12)
الخطأ في الاجتهاد
قال شَيْخُ الإِسْلامِ: 'وفيهم المجتهد المخطئ' وبعض العلماء من أهل السنة والجماعة أخطأ في مسائل الصفات، فبعضهم أول الكرسي بأنه العلم، وأخطأ بعضهم وقال في حديث {إن الله خلق آدم على صورته} إن الضمير يرجع إلى الرجل أو إلى آدم وليس إلى الله، وبعضهم أخطأ في القدر، وبعضهم أخطأ في الحكم على مرتكبي الكبائر، قال قولاً مغايراً لقول الجمهور، لكنه لا يريد إلا الحق، فهذا مخطئ معذور مادام من أهل السنة ويريد الحق، والتزم السنة باطناً وظاهراً، لكن لم يوفقه الله إلى الصواب، وليس كل من التزم السنة يوفق فيعصم بل إنما يوفق ويصيب في أكثر أقواله وأعماله -والحمد لله- وأما الخطأ فكل بني آدم عرضة له، ومنهم النوع الآخر وهو المجتهد المصيب الذي لا شك فيه، يقول: 'وكل ما أوجب فتنة وفرقة فليس من الدين' حتى نحفظ ألسنتنا جوارحنا من أن نحدث فتنة وفرقة بين طلبة العلم وبين إخواننا المسلمين، فكل ما أوجب فرقة أو فتنة فليس من الدين سواء كان قولاً أو فعلاً.(72/13)
صبر المصيب العادل على المخطئ الجاهل
المصيب العادل عليه أن يصبر على الفتنة، إذا كنت أنت المصيب العادل وغيرك الظالم الباغي المخطئ فاصبر ولا ترد عليه، حتى لو ألف ضدك الكتب، حتى لو قال فيك ما قال، لا ترد أنت، لأنه إذا أخطأ وعصى الله فيك فأطع الله فيه، كما قال بعض السلف: ما رأيت أن أعامل أحداً عصى الله فيّ بمثل أن أطيع الله فيه -عصى الله فيك وأنت تطيع الله فيه، تعفو وتصفح وتصبر وتتحمل.
يقول -رحمه الله-: "وسوف يصبر على جهل الجهول وظلمه إن كان غير متأول، وأما إن كان ذلك أيضاً متأولاً فخطأه مغفور له' أي حتى الذي يبدأ بالعدوان والسب والشتم والتعيير والتبديع قد يكون بعضهم يريد الدفاع عن السنة وعن العقيدة، فهذا له أجر الاجتهاد على هذا الاجتهاد السائغ، وإن كان عمله خطأ.
وفي المقابل أنت عليك الصبر، يقول: 'وهو فيما يصيب به من أذىً بقوله أو فعله له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور له، وذلك محنة وابتلاء في حق ذلك المظلوم، فإذا صبر على ذلك' أي: المظلوم والمفترى عليه إذا صبر على ذلك واتقى: 'كانت له العاقبة -ولا بد أن يظهر الحق- كما قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] '.
وكم افتري على شَيْخِ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله، وقالوا: إنه عدو الله والسنة والإجماع، ولو قرأتم في أول التسعينية وغيرها لرأيتم كيف جعلوه خارجاً عن إجماع الأمة، وهذا لأنه -بظنهم- لم يوافقه على كلامه أحد لا في القديم ولا في الجديد، فجعلوه خارجاً عن إجماع الأمة في الأمور التي يعلم الناس الآن أنها حق.
واسألوا العامة بل واسألوا العلماء من هم الذين ردوا على ابن تيمية، من الذين أغروا به فسجن ومات في السجن رحمه الله؟! ومن الذين اتهموه، وآذوه؟! من هم وما أسماؤهم؟! دعك من كتبهم قد لا يكون لها وجود في الدنيا، بعضهم لا وجود لاسمه فضلاً عن كتبه، كثير منهم لا يعرف؛ لكن من الذي يجهل ابن تيمية رحمه الله؟! سبحان الله! دائماً العاقبة للتقوى، ولا يظهر الله إلا الحق، أما الزبد فيذهب جفاءً ولو استمر ما استمر.
فهذا يوجب من المبتلى ومن المؤذى والمفترى عليه أن يصبر، ويتوقع أن العاقبة له، وهذا حاصل في القديم والحديث.
وتذكرون شيخاً عالماً فاضلاً -ولا حرج أن نسميه- وهو شيخنا جميعاً الشيخ محمد بن صالح العثيمين -حفظه الله- عندما قال قولاً في مسألة المعية، وافترى عليه من افترى، وقالوا: خرج عن أهل السنة وصار حلولياً -حاشاه من ذلك حفظه الله- وتعجبت من ذلك وقلت: سبحان الله! المسألة لا تحتاج إلى هذا القول كله، ولكن الشيخ آذوه وتحمل الأذى الشديد وصبر على هذا، وفي النهاية الآن لا يوجد أحد إلا ويعلم أن الشيخ -حفظه الله- على الحق وعلمه منتشر في الأمة، وأولئك من كان منهم له اجتهاد سائغ فله أجر الاجتهاد ولكنه لم يصب، ومن كان عادياً ظالماً باغياً فهو قد أفضى إلى ما قدم والله تعالى حسيبه حياً أو ميتاً.
الشاهد أن هذه سنة الله في العلماء والدعاة أن يبتلوا، ويفترى عليهم، ويتهموا، وأن يقال عنهم: أعداء للعقيدة والسنة، فالواجب في هذه الحالة هو الصبر والاحتساب، وفي النهاية يحق الله الحق ويبقى ما ينفع الناس ويمكث في الأرض بإذن الله تبارك وتعالى.(72/14)
الصبر على الابتلاء
يقول شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: 'وقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186] فأمر الله سبحانه بالصبر على أذى المشركين وأهل الكتاب مع التقوى -وهذا مهم لنا- وذلك تنبيه على الصبر من أذى المؤمنين بعضهم لبعض متأولين كانوا أو غير متأولين' أي: لابد أن يصبر المؤمنون بعضهم على أذى بعض، فلا يجوز لأحد أن يغتاب المسلمين، أو يسيء الظن فيهم، أو أن يعقد جلسات للطعن والنيل منهم.
ولكن أيضاً لو فعل فالواجب على الطرف الآخر الصبر والسكوت والاحتساب، وهذا واجب على الجميع، يجب على هذا أن يكف عن الأذى، ولكن لو لم يكف وجب على ذاك أن يصبر وأن يحتسب حتى تستقيم الأمة ولا تعم الفرقة.
يقول: 'وقد قال سبحانه: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] فنهى أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفار على ألا يعدلوا فيهم -هذا وهم كفار- فكيف إذا كان البغض لفاسق أو مبتدع متأول من أهل الإيمان؟! ' فلا يحملنا بغضنا لليهود والنصارى أن نظلمهم ونفتري عليهم، ونبهتهم بما ليس فيهم، حتى لو كان رافضياً، أو كان خارجياً، ولا يحملنا ذلك على ظلمه والافتراء عليه، وما فيهم من البدعة يغنينا على أن نبهتهم ونفتري عليهم ونتكلم في نياتهم.
فكيف إذا كان ممن يدعو إلى مثل ما تدعو إليه، ويدين الله بمثل ما تدين به، ويعتقد مثل ما تعتقد، هل يجوز أن تبغضه وتعاديه؟ هذا مما لا يجوز بلا ريب.
يقول: 'فهذا أولى أن يجب عليه ألا يحمل ذلك على ألا يعدل على مؤمن وإن كان ظالماً له، فهذا موضع عظيم المنفعة في الدين والدنيا، فإن الشيطان موكل ببني آدم وهو يعرض للجميع، ولا يسلم أحد من مثل هذه الأمور' وهذه قاعدة عظيمة، لا يسلم أحد من أن يقع في قلبه شيء من هذا على إخوانه المسلمين.
يقول: 'من نوع تقصير في مأمور، أو فعل محظور باجتهاد، أو غير اجتهاد، وإن كان هو الحق، ولهذا قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} وقل فعلاً ولا يمكن أن يسلم أحد أو يسلم مجلس من هذا {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114] '.
لماذا لا يكون هذا هو ديدننا وشأننا دائماً في مجالسنا، أن نأمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، ولا نتحدث في الفرقة ولا نضع على النار أعواداً لتشتعل، بل لو بلغنا أن أحداً في قلبه شيء على أحد نصلح ما بينهما ونهدئ الأمر، وهذا الخلاف يقع عقوبة من الله {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65].
وقد استعاذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأولين فأعيذ منهما، وأما الثالثة فمنع وحجب عنه كما صح عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالفرقة عذاب لكن الواجب ألا نأججها، بل نقول لمن جاء يغتاب أو ينم أو يتكلم اتق الله وأصلح ذات البين، فيجب أن تكون مجالسنا كذلك، وإن لم تكن مجالسنا مجالس علم وذكر لله -تبارك وتعالى- ومنفعة تنفعنا حتى في دنيانا، فيجب أن تكون مجالاً للأمر بصدقة أو معروف إو إصلاح بين الناس، وليس مجالس إفساد وشحناء في القلوب وإيغار في الصدور.(72/15)
أمر الله لنبيه بالصبر
يقول: 'وقال سبحانه لنبيه: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِبْكَارِ} [غافر:55] فأمره بالصبر، وأخبره أن وعده حق، وأمره أن يستغفر لذنبه.
ولا تقع فتنة إلا من ترك ما أمر الله به- فإنه سبحانه أمر بالحق وأمر بالصبر -فالفتنة إما من ترك الحق، وإما من ترك الصبر- عند المعتدى عليهم والمتكلم فيهم، فتقع الفتنة والفرقة- فالمظلوم المحق الذي لا يقصر في علمه يؤمر بالصبر فإذا لم يصبر فقد ترك المأمور' دعك من المفتري الظالم صاحب الهوى؛ لكن أنا أخاطبكم وأخاطب نفسي أن نكون من النوع الثاني، فليقل فينا من شاء ما شاء، وليفتري علينا من افترى، لكن يجب علينا أن نصبر، وإن لم نصبر نحن فقد عصينا الله، كما عصى أولئك بالبغي والظلم، فكانت الفتنة.
وحتى أكون صريحاً معكم، فإني أتعجب أن بعض الناس من المتكلم فيهم يصبرون والباقين لا يصبرون -سبحان الله! - لا بد أن نصبر حتى نقضي على هذه الفتنة التي يريد الشيطان أن يرجف بها بين المؤمنين، فليبغ الباغون، وليعتد المعتدون، وليفتر المفترون، لكن أنت اصبر وتحمل.
يوسف عليه السلام مكث في السجن سبع سنين نتيجة أنه افتري عليه أنه يريد أن يفعل الفاحشة، وهو الذي استعصم وأبى وهرب إلى الباب، وهو نبي من أنبياء الله، افتري عليه وظلم وسجن هذه المدة بظلم، ونحن الآن إذا قيلت فينا كلمة أو أوقف داعية، أو صار شيء علينا جزعنا وقنطنا، لكن هذه هي سنة الله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] ولا شك أن الذي يحمل بعض الإخوان على الأذى والألم هو من باب قول الشاعر:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً على النفس من وقع الحسام المهند
أي: إذا تكلمت -مثلاً- إذاعة صوت أمريكا، وقالت: المتطرفون الأصوليون، فنقول: هم كفار ولا يضيرنا كلامهم فينا، لكن عندما يأتي إخوان لك، وترى فيهم -إن شاء الله- دعوى الخير ومظهر الخير ومحبة الخير واعتقاد الخير، وتحسبهم كذلك والله حسيبهم، ولا تتوقع منهم إلا الخير، ثم يظلمونك! فإنك تتألم، هذا الذي يدفع ببعض الإخوان إلى ذلك.
ومع هذا نقول كما قال شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله درءاً للفتنة: 'لا بد من الصبر على هؤلاء، كما لا بد من الكف من أولئك'(72/16)
خطأ المقصر في معرفة الحق من وجوهٍ ثلاثة
يقول: 'وإن كان مجتهداً في معرفة الحق ولم يصبر، فليس هذا بوجه الحق مطلقاً، لكن هذا وجه نوع حق فيما أصابه، فينبغي أن يصبر عليه، وإن كان مقصراً في معرفة الحق -الطرف الآخر- فصار له ثلاثة الذنوب: أنه لم يجتهد في معرفة الحق' وبعض الناس -مثلاً- قد يقع في أعراض العلماء والدعاة، فيجتمع له ثلاثة ذنوب.
أنه لم يجتهد في معرفة الحق، بل وسمع كلاماً وأخذه على عواهله وردده ونشره.
والثاني: أنه لم يصب الحق.
والثالث: أنه لم يصبر.
فوقع في ثلاثة ذنوب، والآخر قد يقع في ذنب واحد وهو ترك الصبر، ولكن ينبغي ألا يعصى الله لا من هؤلاء ولا من هؤلاء، يقول: 'وأمور القلوب لها أسباب كثيرة، ولا يعرف كل أحدٍ حال غيره بإيذاء له بقول أو فعل قد يحسب المؤذى -إن كان مظلوماً لا ريب فيه- أن ذلك المؤذي محض باغٍ عليه، ويحسب أنه يدفع ظلمه بكل ممكن'.
أي من الخطأ أن يقول شخص: ما دام ظلمني فلان فإنني أدفع ظلمه بأي شيء، ليس كذلك! حتى الذي ظلمك، وأجاز الله لك أن تدفع سيئته بمثلها، أمرك الله كذلك بالصبر والعفو وأنه أفضل، وما أباح لك أن تدفعه بأي شيء أو تقول في حقه ما تريد، وهذه القواعد عظيمة في التعامل بين المؤمنين مهما اختلفوا ومهما أخطئوا، "والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وصف الأئمة بالصبر واليقين فقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] وقال: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] '.
ثم ذكر رحمه الله، أصلاً عظيما وهو: يقول: 'وكثير من الناس قد يرى تعارض الشريعة - يظن أن الأمر متعارض- فيرى أن الأمر والنهي لا يقوم إلا بفتنة' يقول: لا أستطيع أن آمر أو أنهى إلا بفتنة، فيقول: 'فإما أن يؤمر بهما جميعاً' أي: الله أمرني بالأمر والنهي وأمرني بالفتنة، وكيف أمرك بالفتنة؟ يقول: ما دام لا يمكن الأمر والنهي إلا بها، فأنا مأمور بالإثنين، وإن كانت فتنة لا بد أن آمر وأنهى، أو أسكت، فلا أقول الحق حتى لا تقع الفتنة، وهذا هو الخطأ، فيفهم أنه لا بد من الأمرين معاً نفياً أو إثباتاً، وينسى قول الله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] فلا بد أن تأمر وتنهى وتصبر على ما أصابك من الفتن، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يرزقنا وإياكم الصبر وقول الحق في الغضب والرضا إنه سميع مجيب.(72/17)
ولاية الله لمن حفظ جوارحه
إنما أردت من هذا التذكير والتنبيه لإخواني ولنفسي بأن نحفظ قلوبنا وأسماعنا وأبصارنا وألسنتنا عما حرم الله تبارك وتعالى، ولا سيما إذا كان مؤدياً إلى الفتنة بين المسلمين وإلى الفرقة بين المؤمنين فإن هذا يتأكد ويتعين.
والذي حرم الغيبة والنميمة والحسد والغش وحرم وقوع الظن لأي مسلم كائناً من كان، فإنه في حق أوليائه وعباده الصالحين والدعاة إليه لا شك أنه يحرمه أشد ولا يرضى به تبارك وتعالى، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا وإياكم ممن يريدون وجهه تعالى، وممن يتبعون الحق على بصيرة، ولا يريدون إلا الكتاب والسنة، وإذا سمعوا القول اتبعوا أحسنه، ولا يتعصبون لرأي ولا لقوم، ولا يزكون أنفسهم بما ليس فيهم.
فإن من أعظم الأدواء أن يزكي الإنسان نفسه، والله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32] ويقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النساء:49] لا تظن أنك تزكي نفسك بأن تقول: أنا من أهل الحق، والصواب، وأنا من أهل السنة، ومن أتباع السلف، وحملة الدعوة، {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء:123] لا تنظر إلى هذا وانظر إلى الحق، وإلى عملك في ذاته، لو أن المسألة ألقاب وأسماء وتزكيات يجعلها الإنسان لنفسه أو يصفه بها من يحبه لكان الأمر هيناً لكل أحد {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] هذا ما شرعه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- محذراً إيانا من مثل هذا.
فأسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلني وإياكم ممن يحفظ الله فيحفظه الله تبارك وتعالى، بأن يحفظ جوارحه عما حرم، فإذا حفظنا جوارحنا جميعاً عما حرم الله وأقمناها واستخدمناها في طاعة الله، حفظها الله عز وجل ونالنا ما ذكر في حديث الولي: {كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولأن سألني لأعطينه، ولأن استعاذني لأعيذنه} فهو لما حفظ الله بجوارحه كان جزاؤه بهذه الدرجة وبهذه المنزلة، فيسدد الله تبارك وتعالى كلماته وخطواته وأعماله ويوفقه، وهو غير مبال ولا يدري أحياناً.
وكثير من أمور الدعوة -والحمد لله- ليست عميقة الخطة، أو أن وراءها عقول مدبرة، وإنما هي أعمال عملها بعض أهل الخير واجتهدوا بها، ففتح الله تعالى عليهم أبواباً عظيمة من أبواب الخير، نتيجة أن هناك قدراً من ولاية الله لمن قاموا بهذا العمل في الجملة، لا نفكر الآن بأفراد معينين، لكن أقول في الجملة -والحمد لله- أن خيار خلق الله هم الأئمة الذين يدعون إليه، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في جملتهم، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
وبالمناسبة يشكو الإخوة من ضعف في التعاون والتجاوب مع أنشطة الأحياء، وفي فترة ما يسمونه عطلة الربيع، وتزدحم مدينة جدة، ازدحاماً شديداً بالناس وبالمنكرات والملهيات، فالواجب علينا أن يكون كل منا جندياً لله مستعملاً في طاعة الله، يعين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلنتعاون على ذلك.(72/18)
الأسئلة(72/19)
التنويع في أساليب الدعوة
السؤال
تشكو بعض الأحياء التي يوجد فيها الشباب الذين لا يصلون ولا يعملون الخير، ويحبون اللهو واللعب، وربما كانوا من مدمني المخدرات ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويتعرضون لبنات الناس، وغير ذلك، ما هو التوجيه المطلوب؟
الجواب
نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا وإياكم للدعوة إليه، يجب أن نجتهد في دعوة هؤلاء الشباب، وننوع في الوسائل، وليس شرطاً أن تذهب وتقول له: أنت عاصٍ! أو حتى تقول: اتق الله! لا، بل يمكن أن تزوره أو تهدي له كتاباً أو شريطاً، أو تكلم والديه، أو تكلم أساتذته في المدرسة، اهتم به وتعرف عليه، خاصة في الحي.
اعرف من هو أبوه؟ ومن هي أمه؟ ومن هم أخواله؟ وهل يمكن أن يكون لأحدهم تأثير عليه، فتكلمه فلا بد أن نتعاون ونحرص على هؤلاء الشباب.
لماذا يجتمعون في هذا المكان؟ وهذا المقهى، لماذا لا يقفل؟ وإذا كانت جلسة في مكان فيه إيذاء، لماذا لا يمنع من الجلوس فيه؟ ولابد أن ننوع ونوسع أذهاننا ونفتقها، حتى نستوعب كل الاحتمالات لوقوع هؤلاء الشباب في هذه الانحرافات، ونعالجها بالعلاج الناجح بإذن الله، وهو ليس صعباً والحمد لله.(72/20)
السفر إلى أمريكا وغيرها من بلاد الكفر
السؤال
الأخ يقول: إنه أعطي دورة في أمريكا وهو شاب لم يتزوج وليس لديه ما يكفي لتكاليف الزواج فما نصيحتكم؟
الجواب
الذي أنصح نفسي به وإخواني جميعاً كما قال صلى الله عليه وسلم {من غش فليس منا}.
فأقول: الذهاب إلى تلك الدول فيما بلغني وجاءتني رسائل عنها في الأسبوع الماضي، وجاءني من الإخوان من قطع دورته في أمريكا وجاء.
يقولون: الحياة هناك لا تستطاع ولا تطاق من الشاب الأعزب، لا يطيق أن يعيش في تلك المجتمعات، وقد رأينا في أيام خاطفة شيئاً عجيباً، والذي يذهب مثلي أو مثلكم، ونزل في مراكز إسلامية أو مساجد ولا يرى شيئاً، لكن مع ذلك ترى في المطارات وترى في الطرق ما تستعيذ بالله منه، والله الذي لا إله غيره، إنني قلت: سبحان الحي القيوم مراراً في أمريكا، سبحان الذي بلغ من عفوه وفضله وسعة رحمته أنه يرزقهم ويطعمهم ويسقيهم، وعندما ترى ما يفعل الأمريكان وغيرهم تتعجب من سعة فضل الله {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء:20] كيف يطعمهم فضلاً عن أن يكونوا أقوى الأمم، كيف يطعمهم وكيف يعطيهم الماء وهم على هذه الموبقات والعياذ بالله؟! وأعجب أن الخطوط السعودية والدفاع الجوي، ووزارة الطيران، وعدة وزارات بلغني عنها قريباً أنها تبتعث، سبحان الله! لماذا تبتعثون بارك الله فيكم؟ قال بعضهم -وهذا الذي آلمني جداً-: نبتعث لنتعلم اللغة، أليس عندنا معاهد ومراكز، ألا نستطيع أن نفتح الخطوط -كمثال-؟ أليست كانت تدار من قبل شركة أمريكية منذ أكثر من أربعين سنة، وهم بين أيدينا هنا، لماذا لا نعلمهم اللغة هنا؟ لماذا لا نأتي بالكمبيوتر هنا؟ فرحنا جميعاً عندما افتتحت الأكاديمية في رابغ -أكاديمية الطيران والحمد لله- يصبح طياراً، ويدرس هنا ويسلم من الفتنة هناك، فأصعب الأمور وهو تعلم الطيران وجد عندنا، واللغة وهي أسهل شيء يبتعث إليها هناك؟ على كل حال الكلام في هذا كثير، لكن نرجو أن تتنبه كل الإدارات، بل وعلى الآباء كذلك التنبه إلى خطورة مثل هذه البعثات وأثرها السيء.(72/21)
وساوس المعصية
السؤال
يقول الأخ: أحس عند ارتكاب المعصية كأن جوارحي يحركها شخص آخر، ويعلم الله أني أرفض المعصية من كل قلبي، وعندما أفعل معصية أندم ندماً لا يعلمه إلا الله، فما هي النصيحة التي توجهها لي؟
الجواب
الأخ يقول: أحس عندما أعمل المعصية كأنه شخص آخر، وهو في الحقيقة الذي يفعل المعصية، ولكن الشيطان يملك عليه جوارحه، نسأل الله أن يحفظنا وإياكم من شره، ولذلك يجب علينا أن نعلم هذا الأخ وأمثاله أن الواجب أن يحفظ قلبه بذكر الله، وإذا اطمئن قلبه بذكر الله لم يتسلط عليه الشيطان لأن الشيطان إذا ذكر الله خنس، وإذا غفل العبد وسوس، وأول ما تبدأ المعاصي بخواطر الشيطان ووساوسه، ثم تتحول الخاطرة إلى همّ، ثم يتحول الهم إلى عزم، ثم يتحول العزم إلى فعل، فلنقطع شجرة الشر من أصلها بقطع الوساوس والخواطر التي يلقيها الشيطان في قلوبنا.(72/22)
المداومة على الطاعة في الرخاء والشدة
السؤال
كنت واقعاً في مشكلة وكنت كثير القيام والبكاء بين يدي الله في آخر الليل، وبعد نهاية المشكلة شُغلت النفس، فتراني آكل وأنام وكلما حاولت القيام لا أستطيع، وهذا الأمر يؤرقني؟
الجواب
الحمد لله أن في الأمة من يؤرقه أنه كان في حال الشدة أقرب إلى الله منه في حال الرخاء، فيريد أن يكون قريباً من الله في حال الرخاء والشدة، هذا فضل من الله وجاهد نفسك -يا أخي- ونسأل الله لنا ولك الثبات على الحق، ولاشك أن النفس يعتريها الضعف، ولا شك أننا في حالة الشدة نتقرب إلى الله أكثر، ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] لو عقلنا وأدركنا أننا في كل لحظة محتاجون إلى الله، بل أنا الآن عندما أتكلم عن ما هي حياتي؟ أجدها أنفاس تصعد وتخرج، تدخل وتخرج، أي: الواجب أنني في أي لحظة من لحظات الحياة أستشعر أني محتاج إلى الله، وأن الله لو وكلني إلى نفسي طرفة عين لهلكت -والعياذ بالله- فوقت الرخاء هو وقت الشدة.
أضرب لكم مثالاً: لو أن شخصاً ركب الباخرة أو الطائرة، وجاءت مطبات قوية عنيفة، فإنه يذكر الله ويستغفر الله، فإذا نزل إلى الأرض نسي {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:16] فهو على خطر، ومن الممكن أن يخسف الله به الأرض كما يخسف به الطائرة، ففي كل الأحوال أنت محتاج إلى أن يحفظك الله، ويعصمك، ويعافيك، فاستدامه التفكر في ذلك يجعلك مستديماً للطاعة.
ونسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن يدومون على طاعة الله وأن يوفق الأخ هذا لذلك.(72/23)
منكرات البيوت
السؤال
كيف يتعامل الإنسان مع المنكرات الموجودة في بيته؟
الجواب
منكرات البيوت كالتلفاز وغيره، عليك أن تجاهد نفسك يا أخي في إخراجها من بيتك وبيت أهلك بالأسلوب الحسن، ولا أطيل فيه لأننا أجبنا عنه مراراً.(72/24)
الذب عن عرض الإخوان
السؤال
ما توجيهكم لمن كتب في الصحف أو غيرها لكي يذب عن عرض إخوانه؟
الجواب
بالنسبة للمتكلم فيه فعليه {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55] أما بالنسبة لإخوانك المسلمين إذا كنت تريد أن تذب عن عرض أخيك، فمن ذب عن عرض أخيه بالغيب ذب الله عن وجهه يوم القيامة، فذب عن عرض أخيك لكن بالأسلوب الحسن الذي لا ظلم ولا عدوان فيه.(72/25)
كفارة المجامع في رمضان ولو طالت المدة
السؤال
رجل جامع زوجته في شهر رمضان قبل عشر سنوات، والزوجة طلقها فما الحكم؟
الجواب
لا يؤثر طول المدة، ولا يؤثر أنه طلقها في أنه يجب عليه الكفارة، كما هو معلوم.(72/26)
طرق إيصال المعونات للمجاهدين
السؤال
العمل الذي نقوم به تجاه إخواننا في البوسنة والهرسك والصومال وهو جمع المال لهم، وإيصال المعونة، ما مصيره؟
الجواب
الآن الطرق تكاد تكون شبه مقفلة بالنسبة لذهاب الإخوة للدعوة أو الجهاد نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يفرج عن هذه الأمة.(72/27)
الزواج في المجتمعات المختلفة
السؤال
أنا في مجتمع عماده الاختلاط، وهذه أصبحت شبهة مفروغ منها، وإنني على أبواب الزواج، فبم تنصح: هل أصبر على عدم الزواج حتى يفتح الله، أم أتزوج ويكون الأمر الذي نخاف منه؟
الجواب
قصد الأخ لو تزوج فزوجته تختلط بالمجتمع -هذا قصده- على كل حال تزوج واحفظ نفسك وأهلك من الاختلاط.(72/28)
مراحل العمل في كتاب الجواب الصحيح
السؤال
إلى أي مرحلة وصل العمل في كتاب الجواب الصحيح؟
الجواب
نحن إن شاء الله عاملون في ترجمة الجواب الصحيح، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا وإياكم، ولا نستغني عن أي دعم منكم، وأهم نوع من أنواع الدعم والمعونة الرأي السديد والصائب في كيفية محاربة هذه الأفكار الضالة، من تنصير أو أي بدعة من أنواع البدع، فعملنا هو أعم وأشمل.(72/29)
دعاء لمرضى المسلمين
السؤال
يقول الأخ: أسألك بالله العظيم أن تعرض هذه الورقة على الشيخ، وهو أنه لدي مريض كبير السن مغمى عليه منذ أسبوعين، فأرجو من الشيخ والحاضرين أن يدعوا له ولمرضى المسلمين؟
الجواب
نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يشفيه ويشفي أمراض المسلمين جميعاً، ويشفي أمراض قلوبنا وأبداننا إنه سميع مجيب، فنرجو أن يكون هذا في الغيب كما هو الآن في العلم، لكن لا ينبغي للأخ أن يحرج على إخوانه بمثل هذا ويسأله بالله؛ لأن الذي يعرض الأسئلة أو يجيب عليها يقدر ما لا تقدره أنت يا أخي الكريم.(72/30)
حكم دفع المال الحرام إلى مكان حرام
السؤال
هذا رجل وضع أمواله في البنك ثم أعطوه ربحاً -وهذا ليس ربح بل خسارة محض- فاحتار فهو مطالب بدفع الضرائب في بلده هل يدفعها من هذا الربح المحرم؟
الجواب
أخذ الضرائب من الناس حرام، وما حصل له من البنك حرام، فدفع الحرام في الحرام جائز، ويذهب بالحرام حيث أتى، لكن لا يعني ذلك أن يستمر في أكل الحرام حتى لو ظُلم، وأُخذ من ماله بغير حق، فلا يتخذ مصدراً للحرام، إنما كلامنا الآن في التخلص من الحرام وهو يكون بإعطائه لمن يأخذه منه على وجه الحرام.(72/31)
منع الأب لابنه من مجالس العلم
السؤال
يقول الأخ: أنا شاب أحب متابعة مجالس الذكر وملازمة إخوتي في الله -والحمد لله- ولدي والد حفظه الله يمنعني من ذلك في بعض الأوقات هل أطيعه أم لا؟
الجواب
انصحه، ولا تطعه فيما تعلم أنه خير لقلبك وأصلح لك، ولو تأولت وعرضت في بعض الأمور بالمعاريض.(72/32)
غض النظر
السؤال
هل الشاب والشابة مطالبون جميعاً بغض النظر؟
الجواب
كثيراً ما تأتي أسئلة عن الزنا والفواحش، والعادة السرية، وعن مشاكل بعض البنات، وعن أمور كثيرة.
وأُجْمِلُ لك الجواب، فأقول: يجب علينا أن نغض نظرنا، وأن نتقي الله بجوارحنا، ونحفظها ليحفظنا الله عز وجل في ذلك، ونشتغل بما ينفعنا، ونبتعد عن المغريات والمهيجات من أفلام أو مسلسلات أو مجلات أو معاكسات في الهاتف أو منظر في الشوارع، أو مقالات سوء، أو قصص غرامية، وكل ما يدعو إلى المنكر والفاحشة والعياذ بالله.(72/33)
كيف نحفظ الجوارح
السؤال
كيف نحفظ الجوارح؟
الجواب
اتق الله فيها، واعلم أن السمع والبصر كل أولئك أنت عنه مسئول.(72/34)
المساهمة في الشركات الربوية
السؤال
المساهمة في الشركات التي تستخدم الربا في معاملاتها؟
الجواب
اسمها بيناه في الحديث عن الشركات، إن كانت شركات ربوية كالبنوك وأشباهها فلا يجوز، وإن كان شركات أخرى للعقار أو للإنشاء أو للتعمير فلا بأس ولكن بشرط، وهذا أذكر به حتى لا يكون الواحد منا سلبياً، وأنا لا أمانع أن أحداً يساهم أو يحضر في الجمعية العمومية أو يحضر في أي مكان، لكن لابد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو كل شركة ساهم فيها خمسة أو عشرة أو خمسة عشر من المساهمين فيها الطيبين، وأقاموا الحجة وكتبوا إلى وزارة التجارة وهكذا؛ لتغيرت أحوالنا إن شاء الله، كما قال شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: 'إن واجبنا هو تقليل المفاسد أو تعطيلها، وتكميل المصالح أو تحقيقها' إما أن نحقق المصالح أو نكملها، أي إما أن نأتي بأصلها أو نكملها، وأما أن نعطل المفسدة كلية أو نقللها إن لم نستطع تعطيلها.(72/35)
حكم الأناشيد الإسلامية
السؤال
حكم الأناشيد التي تطرح في التسجيلات، والتي فيها قوة من حيث الكلمات واللحن؟
الجواب
الحقيقة أنا قد تكلمت في هذا مراراً، وأنا أريد من الإخوة أن يفرقوا بين حكم الشيء شرعاً، وبين أنه قد يحف به أمور تبيحه أو تجيزه غير مجرد الحكم.
فمثلاً كون الإنسان يخرج ليجلس أو يذكر الله أو يستنشق الهواء في الطريق نقول له: جائز؛ لكن كونك تخرج وتتعرض لفتنة النظر إلى النساء فإن هذا يجعل خروجك من البيت غير جائز، فليس التحريم للخروج بل للنظر.
فإذا كان في هذه الأناشيد شغل عن القرآن، أو كانت لصغار السن، فأنا أستحي وأعيب من أراه كبير السن ويسمعها، وإذا كان هو ينشدها فهذا أشد، لكن الأناشيد يمكن استعمالها في حالات الجهاد، فأقول: كثير من العلماء قد تكلموا فيه، وما أظن الفتاوى في هذا إلا معلومة لديكم، وما عندي فيها جديد.
لكن أحب أن أنصح بشيء بهذه المناسبة: إذا لم يطعك أحد الأشخاص في مركز صيفي أو في مدرسة في ترك سماع الأناشيد لا تتهمهم في عقائدهم.
وهنا قصة عجيبة ذكرها شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله، أذكر لكم المرجع في هذا منهاج السنة (الجزء الرابع صفحة 150 الطبعة المحققة) أن الإمام الشافعي رحمه الله -وهو من تعلمون! حتى قيل: إنه مجدد عصره وقرنه، لا أحد منا يجهل فضله وعلمه، رضي الله تعالى عنه- اتهمه بعض الناس ببدعة التشيع والرفض، سبحان الله! الإمام الشافعي يكون رافضياً! أعوذ بالله، لماذا؟ قالوا: لأنه يرى الجهر بالبسملة، والقنوت، والرافضة تفعل ذلك، فبغى بعض الناس واعتدوا، وقالوا: ما دام الشافعية والشافعي يشابهون الرافضة في الجهر بهذا فهم منهم وجعلوهم منهم، سبحان الله! هذا بغي وعدوان.
فإذا رأيت أحداً يعمل مثل هذا العمل من إخوانك من أهل السنة من مريدي الحق، لا تقول: أنت أصبحت صوفياً أو أنت من الصوفية، فتلحقه بطائفة مبتدعة لأنه خالف بهذا فربما كان له اجتهاد، فهو يرى أنه جائز وأنت ترى أنه محرم، فأذكر الإخوة بهذا وأحيلهم إلى هذا المرجع لأنها قضية مهمة، وهي الإسراع في التهمة بغير بينة، والاختلاف الذي يصحبه الهوى، الاختلاف في الأناشيد والتمثيليات في كثير من الأحيان أنا أرى أنه يصحبه نوع من الهوى.
أما مجرد معرفة حكم الله فيها فهذا سهل يمكن أن نتفق عليه، ويمكن أن نفترق فيه على قولين، والغالب والحق في مثل هذه الأمور، كما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله في مواضع، منها ما ذكرنا في الاستقامة الغالب في مثل هذه الأمور أن الحق مع من يفصل، وليس مع من يحرم مطلقاً، ولا من يثبت مطلقاً، بل لابد من فصل الحرام من الحلال في هذه الأمور وستجد الخير -إن شاء الله- أما أن يحرم شيئاً من أساسه وغيره يخالفه من أساسه فلا بد أن ذلك الغير له نظر، فما دام هو داخل في دائرة الاجتهاد فليقدرها قدرها.(72/36)
حكم لبس النقاب
السؤال
لبس النقاب؟
الجواب
الذي نراه وندين الله تعالى به، هو تغطية الوجه كاملاً، وما نراه الآن فيما سمي نقاباً أو سمي لثاماً أو كذا، المشاهد والواقع المحسوس الآن أن فيه نوعاً من الفتنة، ولا أحد ينكرها، وبعض الناس يرى فتنته في عينيها، أذكر أن محمد أسد خطب مرة فيقول: كيف أن الرجل يتزوج المرأة فيراها دميمة، يقول: غرني أنني نظرت إلى عينيها من النقاب وتزوجتها، حتى قال بعض الناس أكثر من هذا -على سبيل النكته- يقول: حتى لوجئنا بعنز ونقبناها فترى أن عينها جميلة.
فالمقصود أن الشيطان يزين ما ترى من مظاهر الأعضاء، يزين الشيطان الباقي ويحسنه، لماذا؟ لتستديم النظر وتقع في قلبك الشهوة، فربما وقعت في الفاحشة -والعياذ بالله- ولكن ليس هناك أسلم من استئصال الشر من جذوره، وسد الذرائع من أصلها وذلك بإخفاء البدن كله، فلا يظهر منه شيء، وهذا هو حقيقة الحجاب وكماله.(72/37)
كتابة النصارى للأناجيل على هيئة تشبه هيئة القرآن
السؤال
ظهرت الآن للأناجيل مكتوبة على شكل تشبه فيه المصاحف، فما حكم ذلك؟
الجواب
كون النصارى يكتبون أناجيلهم على شكل القرآن وعلى طريقة القرآن، ويقرءونها على طريقة القرآن، هذه صورة من صور الدس والطعن والتشويه والتضليل والتلبيس على هذه الأمة المسكينة.
فمثلاً: سورة سموها باب السكينة مقذفي، الآية الأولى كتبوا (بسم الله الرحمن الرحيم) على شكل المصحف قالوا: (قل يا أيها الذين آمنوا إن كنتم تؤمنون بالله حقاً فآمنوا بي ولا تخافوا إن لكم عند الله جنات نزلاً) أعوذ بالله، هذا الكلام يذكرنا بالقرآن الذي يزعمه الرافضة، وكأنه من كلام الرافضة، كلهم عجم وكلهم يفترون على الله، فحتى الأسلوب لا يوجد، إلى أن يقول: (وإنكم لتعرفون السبيل إلى قبلتي العليا، فقال له توما الحواري مولانا إنا لا نملك من ذلك علما، فقال له عيسى: أنا هو الصراط إلى الله حقاً، ومن دوني لا تستطيعون إليه سبيلاً الخ) حولوا دينهم وأناجيلهم على شكل القرآن.
وهذا والحمد لله دليل على أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- جعل في هذا القرآن من الخاصة في البيان وفي الأداء وفي التغني المشروع به ما يحسدوننا عليه، ولذلك يتمنون أن كتبهم كذلك، مع أن كتبهم مكتوبة بلغة قديمة، حتى العربي الآن مترجم من السريانية، واليونانية وهو كلام ثقيل وعبارات غامضة جداً، فحسدونا حتى على الأسلوب، ولكن الكبر والحسد منعهم من الحق، فبدل أن يؤمنوا بالقرآن وما ذكر الله تعالى فيه عن عيسى عليه السلام من آيات عظيمة، في سورة مريم، والمائدة، وآل عمران، آيات عظيمة جداً في حقه عليه السلام، كفروا بالقرآن الحق وابتدعوا قرآناً من عند أنفسهم، وصاغوه على صياغة القرآن الذي من عند الله، وهذا حنق وحسد وكبر في قلوبهم مع أنهم لن ينالوا شرف ومتعة ولذة قراءة في القرآن بهذا الشكل، فكتبوا أناجيلهم بذلك، نسأل الله العفو والعافية.(72/38)
ملابس النصارى وأعيادهم
السؤال
بشأن الملابس من الصلبان , وبابا نويل؟
الجواب
يجب أن نتنبه إلى عقائد النصارى كـ بابا نويل وعيد الميلاد يجب أن ننكر كل مظاهر الصلبان والشعارات وأعياد الميلاد، ولا نطيل في هذا أيضاً.(72/39)
تعلق الوفاء بالنذر بالمكان
السؤال
يقول الأخ: نذرت نذراً أن أذبح جملاً في مدينة جدة، هل يمكن أن أوفي بنذري في الصومال لحاجة المسلمين هناك؟
الجواب
الأصل أن تفي بنذرك حيثما نذرت، لكن أظن الأخ لم يقل: لله علي أن أذبح في جدة، إنما قال: لله علي أن أذبح جملاً وهو في جدة، وفي مخيلته أنها في جدة، ففرق بين أن يكون نوى أن يذبح في جدة أو في مكة، فهذا الأصل أن يذبح حيثما نذر، أو يكون قاصداً فقط أن يكون في جدة فهذا أقل من الأول، ومع ذلك فالأصل أن يذبحه هنا ويمكن أن يرسله مذبوحاً إذا استطاع، ولو أنه رأى مانعاًُ شرعياً كأن لا يجد من يأخذه هنا -مثلاً- أو رأى أن الحاجة هناك أشد وأعظم من ذلك فأرسله، أو كان قد فعل ذلك فأرسله، فنرجو أن يكون قد وفَّى بنذره إن شاء الله.(72/40)
الموت بمرض السرطان
السؤال
هل من مات وهو مريض مرض السرطان فهو شهيد؟
الجواب
نرجو أن يكون كذلك إن شاء الله، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كان يعلم أن الشهيد من قتل في المعركة فقط فقال: {إن شهداء أمتي إذاً لقليل} ثم سأل الله أن يكونوا أكثر فأعطاه ذلك، وقد جمعهم الإمام السيوطي رحمه الله فوجدهم أكثر من أربعة وعشرين صفة.
منهم: المطعون، والمبطون، والنفساء -المرأة التي تموت في الولادة- فالمطعون: هو الميت بالطاعون، والمبطون: المصاب في بطنه، فنرجو أن يدخل في ذلك -إن شاء الله- ما نسيمها نحن بأسماء مختلفة، مثل السرطان، أو مثل تليف في الكبد، أو ما أشبه ذلك من أسماء نطلقها ولم تكن معروفة بهذا الاسم من قبل.
ونسأل الله أن يحفظنا ويعافينا وإخواننا المسلمين.(72/41)
فتنة النظر إلى النساء
السؤال
ابتليت بالتعلق بإحدى الفتيات، وأصبحت أضيع أوقاتي معها، وكلما حاولت الابتعاد عنها عجزت عن ذلك، فبماذا تنصحني يا شيخ! مع العلم أني شاب ملتزم وأحفظ من القرآن أربعة وعشرين جزءاً؟
الجواب
نعم لا نستغرب فقد يقع هذا، فلذلك أنصح هذا الشاب أن الواجب عليه أن يتقي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن يبتعد عنها انفصالاً كلياً، ولا يحاول الاتصال بها سواء عن طريق الهاتف، أو عن طريق مقابلتها، حتى لا يغويه الشيطان، ويقع في الفاحشة، وإن كان لابد فليخطبها بالطريقة المشروعة، وليتزوجها، وهذا لا حرج فيه إن شاء الله؛ لكن عليه أن يحذر أن يوقعه الشيطان في الفاحشة مع هذا التعلق الشديد.
وما أورده شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله في كتابه النافع المفيد الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي إنما هو جواب لمثل هذا السؤال, فأنصح الشباب أن يقرءوا هذا الكتاب, وسيجدون فيه أنواعاً من العلاجات النافعة العظيمة فيما يتعلق بداء العشق, ونسأل الله العفو والعافية.(72/42)
صفة الصلاة عند النصارى؟
السؤال
هل للنصارى في الفاتيكان صلاة تشبه في صفتها صلاة المسلمين؟
الجواب
لا يستبعد وجود صفة للصلاة عند النصارى تشبه صلاتنا في الشكل العام.(72/43)
حكم لعب الورق إذا لم يشغل عن الطاعة
السؤال
إذا لم يشغل لعب الورق عن طاعة الله فهل يعدّ لهواً؟
الجواب
كل لهو يلهو به المسلم فهو باطل إلا ما استثناه الله ورسوله, ولعب الورق يعدّ من اللهو الباطل, ولا شك أنه يشغل عن الطاعات, وربما أدى إلى التشاحن والتباغض بين المسلمين, ولو لم يكن فيه من الضرر إلا السهر وضعف العقل وضياع الأوقات لكفى بذلك سبباً للنهي عنه.(72/44)
موقف الحكومة المصرية من المجاهدين العائدين من أفغانستان
السؤال
تجري الآن في مصر عمليات اعتقال ومطاردة للشباب العائدين من أفغانستان فهل فعلاً هؤلاء الشباب إرهابيون متشددون, وماذا تعني هاتين الكلمتين, وإذا كانوا على الحق -نحسبهم كذلك إن شاء الله- فلماذا لا نقف معهم ونؤيدهم ونشد من أزرهم, عملاً بحق الأخوة في الدين؟
الجواب
إذا استطعت أن تقف معهم ولو بكلمة تلقيها في مسجد فافعل.
فهم ليسوا إرهابيين ولا متطرفين ولا متشددين, والتنظيمات السرية التي تدعي الحكومة تشكلها, مهددة بذلك الأمن الوطني, إنما يعنى بها الشباب الذين عادوا من أفغانستان , فمن وجد أنه كان في أفغانستان , أو على الأقل وجد على أن جوازه يحمل تأشيرة الدخول إلى باكستان , فهذا يكون الحكم عليه ما بين الإعدام والسجن لمدة تزيد على الخمسة عشر عاماً.
أما من مرّ في طريق عودته على الخرطوم فهذا يكون مصيره الإعدام قطعاً, مع العلم أن مصر لا تمنع مواطنيها من زيارة تل أبيب , ولا يتعرض من يزورها للمطاردة ولا يخضع لأي نوع من العقوبة.
إذاً القضية هي إعلان الحرب على الله ورسوله وعلى المؤمنين, والعدوان على دين الله وعلى أولياء الله, وهذا كل ما في الأمر, فقد قامت قوات الأمن بتمشيط الأحياء حياً حياً, وبلدة بلدة, ليثبتوا للمجتمع الدولي أنهم يحكمون قبضتهم على البلاد والعباد.
وزعمت الحكومة أن المسألة لا تعدوا أن تكون اضطراباً أمنياً في قرية من القرى اسمها دوروب مدعية استتباب الأمن, وعدم تأثير هذه الأحداث على السياحة في مصر , فما لبثت الأحداث أن شملت مدناً أخرى مثل القاهرة والإسكندرية وأسوان , وغيرها, فقامت الحكومة بعمليات تمشيط واسعة للتضييق على هؤلاء الشباب.
وهذا إنما يدل على تخوف الحكومة من انتشار الصحوة بين الناس, وربما بلغكم خبر توبة ثلاث فنانات خلال فترة وجيزة, كما أن هناك من رجال الأمن المركزي من انضم إلى الشباب المؤمن, ليقينهم ببراءتهم.
المهم أن التردي في الوضع بلغ درجة قيام قوات الأمن بعمليات المداهمة لكل بيت فيه شاب يطلق لحيته, أو يقتني بعض الكتب الشرعية, وربما وصل الأمر إلى أن يقتل دون تحقيق أو اتهام صريح.
سبحان الله العظيم! لماذا؟! ما ذنبه وما جريرته؟! افرض أن عنده أفكاراً! أو أنه يقتل السياح! أو يفعل كذا! فلقد بينا فيما سبق كيف تعامل علي رضي الله عنه مع الخوارج الحقيقين, فعاملوا هؤلاء الشباب بنفس الطريقة, وأعطوهم الحقوق الثلاثة التي أعطاها علي رضي الله تعالى عنه للخوارج , وناقشوهم وناظروهم وتفهموهم, أما أن تلقى التهم جزافاً فهذا لا يجوز.
والدليل على أن هذه الأحداث ليست مقتصرة على مصر وحدها, ما أذاعته إذاعة صوت أمريكا وبريطانيا , وما نقلته مجلة الوسط ومجلة الوطن العربي ومجلة كل الناس ومجلة نصف الدنيا ومجلة صباح الخير ووعد ما شئت, وكلهم متفقون على وصف شباب الصحوة بأنهم متطرفون وإرهابيون, فلو قبض على شاب مسلم في أي بلد من البلدان, وأُظهرت صورته وهو ملتحٍ لكتبت جميع الصحف العربية أنه إرهابي متطرف, سبحان الله! لكن لو كان يهودياً أو نصرانياً يطلق لحيته, ويعلق الصليب على صدره فهل يقال: أنه متطرف؟!! هذه هي القضية يا إخوان! إن بعض الشباب في مصر فيهم نوع من الغلو بلا شك, وفيهم نوع من الجهل كما في كل مكان, لكن ماذا ننتظر من شباب يعيش وسط مجتمع غلا في حرب الله ورسوله؟ ولماذا نستغرب الغلو في الطرف الآخر؟ إذاً الواجب إنصاف هؤلاء الشباب ونصرتهم, والدعاء لهم, وتوجيههم, ونحن هنا بالذات يجب علينا أن نرسل الكتب والأشرطة لتوعيتهم وتفقيههم في الدين, ويجب أن يكون لنا دور دعوي, يجب أن تكون صحافتنا وإعلامنا متزناً, حتى نكون مصلحين بين هؤلاء وهؤلاء, أما أن ندعم الظلمة والمجرمين فهذا لا يجوز سواء وقع من أفراد أو من وسائل إعلام أو مؤسسات.
هذا وأسأل الله رب العرش العظيم أن يختم لي ولكم بالأعمال الصالحات, وأن يجعل خير أعمالنا خواتيمها, وخير أيامنا أواخرها, وألا يتفرق هذا الجمع الطيب إلا بذنب مغفور وعمل مشكور, إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد.(72/45)
تأملات في حديث: (يا عبادي)
تكلم الشيخ في هذا الموضوع حول حديث "يا عبادي" مورداً العديد من التأملات حول ما جاء فيه من نداءات تهز الجبال الرواسي، فكيف بقلب المؤمن؟! فهذه النداءات التي وجهها الله لعباده بدأها بالإخبار بتحريم الظلم على نفسه وتحريمه من ثم بين عباده، وختمها ببيان تمام عدله وجزيل فضله، وذكر فيما بينهما افتقار خلقه إليه؛ من هداية إلى الصراط المستقيم وطعام وكساء، وكل ما يحتاجه الإنسان، وأتبع ذلك ببيان غناه المطلق عن خلقه، وبين أن حياة القلوب والأبدان لا تزيد في ملكه شيئاً، كما أن موتها لا ينقص من ملكه شيئاً.(73/1)
نداءات الله لعباده
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فجميلٌ بنا ونحن نستقبل شهر رمضان العظيم: أن نقف قليلاً بقلوبنا وعقولنا وأسماعنا، لنستمع إلى هذا النداء الرباني الذي تكرر عشر مرات في هذا الحديث الجليل الذي قال عنه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى ورضي عنه-: ' هو أشرف حديث رواه أهل الشام '.
لأنه من رواية أهل الشام، رواه التابعي أبو إدريس الخولاني عن الصحابي الجليل أبي ذرٍ جندب بن جنادة رضي الله تعالى عنه.
وكان أبو إدريس إذا حدَّث بهذا الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جثا على ركبتيه من شدة وقعه عليه وتأثره به.
وفي هذا الحديث عشرةُ نداءات من الله -تبارك وتعالى- يرويها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو مما تعلمونه جميعاً ويعرف بالحديث القدسي، الذي يرويه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ربه عز وجل، فالألفاظ التي فيه نبوية، والمعاني ربانية.(73/2)
تحريم الظلم على الخالق والمخلوق
يقول الله تبارك وتعالى في أول هذا الحديث: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا}.
وهذه الرواية رواية الإمام مسلم رحمه الله وهي أتم من غيرها، فأول العشرة النداءات هو هذا النداء وبهذا اللفظ: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي}، فالله تبارك وتعالى هو الذي حرم الظلم على نفسه، وإلا فإنه عز وجل لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولن يكون ظالماً -تبارك وتعالى- ولو فعل بخلقه ما فعل؛ وهو الخالق والرازق والمنعم والمدبر والمتصرف في ملكه كما يشاء، ومع ذلك فإنه فضلاً منه تبارك وتعالى، حرم الظلم على نفسه، وكتب على نفسه الرحمة، كما أخبر تبارك وتعالى في الذكر الحكيم.
فإذا كان القوي العزيز الجبار المتكبر، القادر على كل شيء، الخالق المالك لكل شيء حرم الظلم على نفسه، فكيف يظلم العبد أخاه العبد؟ وكيف يتظالم العباد؟! {فلا تظالموا}، هذا مع أن الله تبارك وتعالى، لا يجب عليه حقٌ لأحد، بل هو كما قال الشاعر رحمه الله:
ما للعباد عليه حقٌ واجبٌ كلا ولا سعيٌ لديه ضائعُ
إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسعُ
فهو إن عذب الخلق، فلا يعذبهم إلا عدلاً، وإن رحمهم فلا يرحمهم إلا فضلاً منه عز وجل وتكرماً، ولهذا جاءت هذه النداءات -وكلها تخاطب الإنسان الضعيف العاجز- من الله من الرب الرحيم، الودود سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
{يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا} فكيف يتظالم المخلوقون؟! وكيف يظلم بعض الناس بعضاً؟! والله تبارك وتعالى قال عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً} [يونس:44]، وقال: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} [غافر:31]، فهو عز وجل لا يريد الظلم ولا يحبه، وقد حرمه على نفسه فلن يريده ولن يقبله من أحدٍ أبداً.
بل هو كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {إن الله يملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته}، وقال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183].
لكن الله إذا أخذ الظالم لم يفلته، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الظلم ظلمات يوم القيامة} كما صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {المسلم أخو المسلم لا يظلمه} فالمسلم لا يظلم أحداً من الناس، بل ولو كانت دابةً من الدواب، فوضع الشيء في غير موضعه، هو: الظلم، وكل وضع للشيء في غير موضعه فالله تبارك وتعالى منزه عنه.
كما يجب على العباد أن يتركوا ذلك الظلم، فديننا هو دين العدل في كل شيء، حتى الحذاء: {نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ينتعل الرجل في إحدى رجليه ويدع الأخرى}، لأنه دين العدل في كل شيء.
فمن الفوائد المأخوذة من هذا الحديث: أن ديننا دين العدل، حتى بين أرجلك فتعدل بينهما، فإما أن تنتعل فيهما معاً، وإما أن تكونا حافيتين معاً، فلا ظلم ولا إجحاف.
ولقد بعث الله -تبارك وتعالى- محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والدنيا شرقاً وغرباً تعج بالمظالم، وبالعنصرية وبالطبقية وباستعباد خلق الله -تبارك وتعالى- فكما كان فرعون ظالماً كان كذلك فراعنة الفرس والروم، فيجعلون أقوامهم شيعاً ويستضعفون طوائف منهم.
فجاء محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدين العدل والحق والهدى، فتعلمت الإنسانية جميعاً كيف تعدل من هذا الدين، وعلمت لأول مرة في تاريخها لا كلاماً وحِكماًَ يقولها الفلاسفة، ويرددها الحكماء، بل رأت العدل واقعاً يسير أمامها، ويملأ شرق الدنيا وغربها، وذلك لأنهم عرفوا مما عرفوا مثل هذا النداء الرباني الكريم: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا}.(73/3)
طلب الهداية من الله وحده
بعد ذلك تأتي نداءات تالية لتبين عجز هذا المخلوق الضعيف، وافتقاره إلى الله تبارك وتعالى: {يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم} أي: أخرجكم من الضلال الذي يسبب شقاء الدنيا والآخرة، والذي لافلاح معه ولا نجاح، ولا خير فيه ولا سعادة.
فهذا الضلال {كلكم ضال إلا من هديته}، فكل خلق الله، وكل عباد الله ضالون إلا من هدى الله، ومن منَّ الله تعالى عليه وتفضل بالهداية.
ومن هدايته لهم: أنه خلقهم على الفطرة القويمة، وأنه أرسل إليهم الرسل، وأنه أنزل عليهم الكتب، وأنه أعطاهم العقول ليفكروا بها وليتدبروا طريقهم بها، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} [النحل:78].
فهكذا الإنسان، أول ما يخرج لا يعلم شيئاً، ثم يمنُّ الله تبارك وتعالى عليه، بالعلم وبالسمع والبصر والفؤاد، ثم يبين له طريق الخير من طريق الشر، فمن وفقَّه الله تبارك وتعالى للهدى فلا مضل له، ولكن من خذله الله وحُرِمَ توفيق الله تبارك وتعالى للاهتداء إلى الطريق القويم، وركنه الله إلى نفسه وعقله ورأيه وتدبيره، فقد خاب وهلك.
فمن لم يوفقه الله -تبارك وتعالى- لسلوك طريق الحق فإنه ضال لا محالة، مهما بدت أمامه الحجج، فمع أنه مولودٌ على الفطرة، وأمامه الحجج والآيات البينات، والآيات المقروءة في كتاب الله، والآيات المنظورة في صفحات الكون، والآيات المرئية أيضاً من آثار الغابرين السابقين، فكلها أمام عينيه، ولكن إذا خذله الله، ولم يوفقه، فإنه لا يؤمن ولا يعرف طريق الحق أبداً.
فإذاً كلنا ضلال إلا من هدى الله، فماذا ينبغي لنا أن نفعل؟! {فاستهدوني أهدكم}، فما علينا إلا أن نطلب الهداية من الله -تبارك وتعالى- آناء الليل وآناء النهار، ولهذا أُمر المؤمنون أن يقرءوا في كل ركعة من صلاتهم أم الكتاب، وفيها يقولون: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7].
فعباد الله المؤمنون المصلون، العابدون، يطلبون الهداية من الله تبارك وتعالى في كل يوم بعدد ركعات صلاتهم، فريضةً كانت أم نافلة، ويعلنون أنهم إن لم يهدهم الله تبارك وتعالى، فقد ضلوا إما ذات اليمين أو ذات الشمال، فكانوا إما مع المغضوب عليهم، وهم: الذين رأوا الآيات البينات، وعرفوا الحق، ولكنهم لم يتبعوه، وإما مع الضالين، وهم: الذين عبدوا الله تبارك وتعالى على جهل، فلم يتبعوا ما أنزل الله وما شرع، بل عبدوه بالبدع، لا بما شرع.
فيقول تعالى: {كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم} فاطلبوا هدايتي، وادعوني أن أهديكم، والإجابة من الله تبارك وتعالى متحققة: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:87].
فإذا أقبل العبد على الله وطلبه الهداية ورجاه، فإن الله تبارك وتعالى يهديه ولا يخيبه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] فمن جاهد في الله يريد وجه الله ويريد معرفة الحق، أوصله الله تبارك وتعالى إليه.
ألا ترون إلى قصة سلمان الفارسي -رضي الله تعالى عنه- كيف أنه خرج يطلب الدين الحق، وكيف عَبَدَ الله بـ المجوسية مدةً من الزمن، ثم انتقل من راهبٍ إلى راهب، وهذا يسلمه إلى ذاك، وهذا يحوله إلى ذاك، حتى مَنَّ الله تبارك وتعالى عليه بلقاء المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فآمن بالله، وجاهد في الله، وطلب الهداية وسعى من أجلها، فلم يمت إلا وقد قرت عينه بالإيمان، ورأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].
إذاً الافتقار الأول هو الافتقار إلى الهداية، وهو أشد أنواع الافتقار بالنسبة للمخلوق، فالعبد المخلوق أفقر ما يكون إلى هداية الله، ولذلك قدمت الهداية على الطعام وعلى الكساء، لأن أهم شيء هو: أن يهتدي الإنسان إلى الله تبارك وتعالى، كما قال تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ} [الرحمن:1 - 3].
فامتنَّ الله تبارك وتعالى بتعليم القرآن قبل خلق الإنسان، مع أن الإنسان لن يستطيع قراءة القرآن إلا إذا خُلق، ولكن أعظم من كونه مخلوقاً: أن يكون عالماً بالقرآن، عاملاً به، مهتدياً إلى ربه، وإلا فكم من مخلوق لا يعرف ربه ولا يعرف القرآن، فحياته نقمة عليه، لأنه والدواب سواء، قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44]، فهم أضل من الأنعام.
فالهداية هي أحوج ما يبحث عنه الإنسان، وأشد ما يفتقر إليه، ولذلك فإنها قدمت في هذا الحديث، على ما سيلحقها بعد ذلك.(73/4)
طلب الرزق من الرزاق وحده
النداء الثالث هو: طلب ما يحتاج إليه العباد ويضطرون إليه في معاشهم وحياتهم الدنيا، فقال: {يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم}.
نعم: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت:17] فالناس غالباً ما يعلقون طلب الرزق بالأسباب، فكل الناس -حتى أكثر المسلمين- يعلقون طلب الرزق إلى الأسباب؛ وينسون خالق الأسباب، وينسون الرزاق ذا القوة المتين الذي تكَّفل فقال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود:6].
ومع ذلك، فإن أكثر الناس لا ترتفع أنظارهم إلى خالق السماوات والأرض، الرازق المحيي المميت، بل ينغمسون في طلب الأسباب ويلهثون ورائها، وكثيراً ما يخرج بهم ذلك عن الطريق المستقيم، فيقعون في معصية الله، ويبتغون رزق الله بمعصيته، ظناً منهم وجهلاً أنهم بذلك ينالون فضل الله، وينالون رزق الله تبارك وتعالى، وهو يقول: {يا عبادي كلكم جائعٌ إلا من أطعمته}، فهو المطعم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو الذي يُطْعِمْ ولا يُطْعَمْ، وهو الذي يمنُّ على خلقه بهذا الرزق، وكل ذي كبدٍ رطبة، فالله تبارك وتعالى يرزقه ويكلؤه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
{فاستطعموني أطعمكم}، فاطلبوا الرزق مني وحدي، فمن طلب الرزق من الله تبارك وتعالى وحده لا شريك له، فقد كفي مؤونة الرزق، وكان مع ذلك ذا عزةٍ وتعففٍ وترفعٍ، لا يجده أبداً من طلب الرزق من البشر، أو من الأسباب المخلوقة المنقطعة عن الله تبارك وتعالى.
فثنى الله -تبارك وتعالى- بطلب الرزق والإطعام بعد طلب الهداية منه وحده لا شريك له.(73/5)
طلب الكساء من الخالق وحده
وهناك أمر ضروري آخر يحتاج إليه الناس، وقليل من الناس من يُفكِّر فيه، أو من يعرف نعمة الله تبارك وتعالى ومنته علينا به، فقال في الحديث: {يا عبادي! كلكم عارِ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم}، فكثير من الناس لا يفطنون ولا يتنبهون إلى نعمة الكساء؛ لأنها لكثرتها ولوفرتها ولعموم فائدتها تبلد الإحساس بها، إلا من عانى ومن ذاق عدم اللباس، فمن ذاق ذلك عرف نعمة الله تبارك وتعالى على العالمين، بأنه أنزل إلينا هذا اللباس، وتفضل علينا به، والله تبارك وتعالى، يذكرنا بنعمه، ومنها هاتان النعمتان: نعمة الطعام ونعمة اللباس، وهما النعمتان المشاهدتان الملموستان يومياً في حياة الإنسان.
فكل إنسان في أية بيئة كان أو في أي مستوى كان من الحياة، لابد أنه في كل يومٍ وليلة يأكل ويشرب، ولابد أنه يلبس، فهاتان نعمتان ملازمتان للإنسان أينما وجد، فكان ينبغي أيضاً أن يلازم الإنسان تقوى الله، وطاعته، وعبادته، أينما وجد، ومهما كانت حالته الاجتماعية والمعيشية.(73/6)
طلب المغفرة من الغفور سبحانه
ثم يقول تعالى في هذا الحديث: {يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم}.
فهذه حقيقة لامناص لأي إنسان أن يفر منها أو يكابر أو ينكرها، فنحن العباد نخطئ بالليل والنهار، وكل بني آدم خطاء، فالقلب يخطئ بالخطرات والأفكار والوساوس الرديئة والأماني الكاذبة.
والعين تخطئ بفضول النظر، وبالنظر المحرم، وبما من شأنه أن يدخل إلى القلب داءً قد لا يشفى منه أبداً.
واللسان يخطئ، ومن الذي يمر عليه يوم ولا يخطئ بلسانه؟! إما بغيبة أو نميمة أو كلمةٍ لاحق له أن ينطقها؟! والأذن تخطئ فكم تسمع من حرام! فإما أن تسمع حراماً فتستلذ به، وإما أن تسمع منكراً فلا تنكره، فالخطأ ملازم لابن آدم، ولو لم يكن من خطأ ابن آدم إلا أنه غافلٌ عن هذه النعم، فهو غافل عن ذكر الله تعالى مع أنه متلبس بها ليل نهار.
ولهذا أمرنا الله أن نستغفره -تبارك وتعالى- وكذلك أمرنا رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نستغفر الله تبارك وتعالى، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضرب لنا في ذلك المثل الأعلى؛ فقد كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستغفر الله في اليوم مائة مرة أو أكثر من مائة مرة، بل كان ربما استغفر في المجلس الواحد أكثر من سبعين مرة.
هذا وهو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، والاستغفار هو صابون الذنوب، وهو الذي يذهبها بإذن الله تبارك وتعالى.
فهذا الطلب وهذا النداء من الغفور الرحيم، الغني عن العالمين إن عبدوا وإن أطاعوا، أو إن عصوا وكفروا؛ فالله عز وجل يبين لنا أنه يفتح هذا الباب العظيم من أبواب الرجاء ومن أبواب الخير، وهو عز وجل يطلب منا أن ندعوه، وأن نستغفره.
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
فسُبْحَانَهُ وَتَعَالَى القائل في محكم التنزيل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]، فهذا الغني الحميد هو من يقول لهؤلاء الفقراء -وكلنا فقير-: يا أيها العبيد استغفروني؛ واطلبوني الهداية، واطلبوني الإطعام؛ واطلبوني الكساء؛ واطلبوني أن أغفر لكم ذنوبكم، لأنكم لاتنفكون عن ذنب آناء الليل وآناء النهار، فأي إنعامٍ وإحسان وتكرم وفضل بعد ذلك؟! وهو عز وجل لا يُقَنِّطُ عباده ولا يخيب من أتاه ومن رجاه، ولو أتاه بملء الأرض من الخطايا.(73/7)
ممن يطلب العفو
يقول تعالى في حديث آخر: {يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي} سبحان الله! لا يبالي مهما كان عظم ذنبه! فأين المستغفرون؟! وأين الأوابون؟! وأين التائبون؟! فيكفي أن تقبل على الله وأن تطرق باب الكريم الودود، فلا يردك أبداً، ولا يخيبك أبداً، فالله -عز وجل- منه المفر وإليه الملجأ، كما جاء في دعائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك}.
فنخاف من الله، لأننا أذنبنا، وأسرفنا على أنفسنا بالمعاصي، فماذا نفعل؟ نلجأ إلى الله، فمنه المهرب وإليه الملجأ، فلا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك يا رب العالمين.
فهكذا يفتح الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهو الغني الحميد الباب أمام العباد الفقراء المحتاجين العاجزين أن هلموا، وتعالوا إلى الفضل والرحمة والمغفرة، وتعالوا إلى الله بقلوب مؤمنة مستغفرة تائبة، فعندها يُبدِّلُ الله سيئاتكم حسنات.
فالله لا يرد من أتاه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولا يخيب من رجاه، وهل هناك أكرم من الله عز وجل؟! فلو تخلَّى الله عن هذا التائب العائد إلى الله، فإلى من يعود؟! وإلى من يلجأ؟! لا إلى أحد، فهذا من سعة فضل الله ومن سعة كرمه -جل وعلا- فهو يبسط يديه بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ومع ذلك أين العباد من هذا؟! نجد أن أكثر الناس غافلون، لاهون، منغمسون في دنياهم، لا يقول أحدهم: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، كم من المؤمنين من يستغفر الله! {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13].
فكيف بالكافرين وهم أكثر من المسلمين، الذين لا يستغفرون الله تبارك وتعالى، ولا يرجون اليوم الآخر؟! ولذلك يلقونه وأوزارهم على ظهورهم، وتعجل لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، ولا يظلم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أحداً، فما عملوا من عملٍ، فيه إحسان أو خير، إلا عجل لهم الجزاء به في الحياة الدنيا، من عافية ومالٍ، وزيادةٍ في النماء، والذكر عند الناس، لكنهم يلقون الله وليس لهم عنده شيء.
أما المؤمن الذي يرجو لقاء الله، فإنه يستغفر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ويعلم أنه مذنب، والاستغفار لتضمنه الافتقار إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والانكسار والذل والخضوع له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ كان بهذه المثابة العظيمة، وكان هذا فعله في الذنوب.
والمهم أن يكون المستغفر مستغفراً حقاً، وأن يكون صادقاً في أوبته إلى الله تبارك وتعالى، وأن يكون راجياً طالباً لذلك، وينظر إلى ذنبه، وكأنه جبل يوشك أن يقع عليه.
فهذا هو استغفار عباد الله الصالحين: {يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم}.(73/8)
لا ينفع الإنسان ولا يضر إلا نفسه
ثم يقول: {يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني}، فهذا النداء السادس يبين لنا الفارق بين رب العالمين، وبين العبيد، وهو أن العبيد لن يضروا الله شيئا، فمن كفر فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله تبارك وتعالى شيئاً أبداً، ولو أراد أحدٌ أن ينفع الله تبارك وتعالى، فهل ينفع رب العالمين بشيء؟! لا، لأنك أنت الفقير وأنت المحتاج إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
{يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني}، فلماذا إذاً يفكر العباد في أن يُعَادْوا ربهم -عز وجل- ويحاربوه، ويعاندوه ويستكبروا على دينه؟! أيظنون أنهم يضرونه؟ لا يضرون إلا أنفسهم فيقول الله لهم: {لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني}.
فلو أن أحداً ظن بعقله القاصر، وبذهنه الكليل أنه قد ينفع الله، فإنه لن ينفع الله تبارك وتعالى بشيء، فهو الغني الحميد، والعباد هم الفقراء إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ثم وضحَّ الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ذلك وجلَّاه وبيَّنه فيما بعد، فقال: {يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً}.
فسبحان الله! لو أن هؤلاء جميعاً، الأولين والآخرين، الإنس والجن، كانوا على أتقى قلب رجل واحد -ولا أتقى من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما زاد ذلك في ملك الله تبارك وتعالى شيئاً أبداًَ.
فلا يزيد ملكه بالطاعة، ولا ينقص بالمعصية، كما قال بعد ذلك: {يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً}.
فهو الغني عن الطاعة إن أطعنا، وهو الغني عن المعصية إن عصينا، وهو الذي لا تنفعه تلك الطاعة، ولا تضره هذه المعصية أبداً.
فإن نفع الطاعة وفائدتها هي للعبد، لك أيها العبد العاجز الضعيف، ومن تضر المعاصي؟ تضرك أنت أيها العاصي، العبد العاجز الضعيف، فإذا تدبر الإنسان هذه المعاني, وعلم ذلك، وعلم مقدار جنايته على نفسه حين يعصي ربه عز وجل، وعلم أنه فرط في حق نفسه وفرط في حق ربه -تبارك وتعالى- لما جاهره وحاربه وتنكَّب طريق هداه، فهو بهذا لن يضر إلا نفسه، وربه تبارك وتعالى غني عنه.(73/9)
غنى الله المطلق لا ينقص بالعطاء
ثم أخبر الله تبارك وتعالى بعد ذلك بما يدل على الغنى المطلق الذي لا يحده حد، والعطاء الواسع، فقال: {يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيدٍ واحد فسألوني، فأعطيت كل واحدٍ منهم مسألته، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، إلا كما ينقص المِخْيَط إذا أدخل البحر}.
فلو وقف الناس جميعاً الأولون والآخرون، والثقلان الجن والإنس، في صعيد واحد في أرض منبسطةٍ ممتدةٍ واحدةٍ، وكل منهم سأل الله ما يشاء ودعاه كما يريد، وأعطاه الله تبارك وتعالى ما طلب، لم يُنقص ذلك المعطى للمخلوقين جميعاً من ملك الله، إلا كما يُنقص المِخْيَط إذا أدخل البحر، وكم يأخذ المِخْيَط من الماء بالنسبة إلى ذلك البحر؟! هو كما قال عز وجل، كما في مسند الإمام أحمد: {عطائي كلام، وعذابي كلام} فعطاء الله تبارك وتعالى كلام، وعذابه كلام، أي: يقول للشيء: كن فيكون، فماذا ينقص من خزائن الله تبارك وتعالى، وهو الذي يقول للشيء: كن فيكون! فمهما طلب العبد، ومهما رجا، ومهما ألح أو أكثر، فإن أعطي له فإن ذلك لا ينقص من ملك الله الواسع العظيم أي شيءٍ على الإطلاق.
كما أنه لا يكون علم المخلوقين بالنسبة إلى علم الله -تبارك وتعالى- إلا كهذه النسبة، كما ضرب الخضر عليه السلام، لموسى عليه السلام ذلك حين قال: {ما مثل علمي وعلمك في علم الله -تبارك وتعالى- إلا كمثل ما أخذ ذلك الطائر من البحر}، وكم أخذ من البحر؟! فهذا هو العليم؛ علمه كذلك، وملكه كذلك، وغناه كذلك سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(73/10)
إحصاء الله لأعمال عباده حتى يوفيها لهم
يقول عز وجل: {يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها}، فهذا هو النداء العاشر، والخاتمة المهمة التي يجب أن ينتبه لها كل المخلوقين.
{يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله} فالفضل لله، لأنه هو الذي هداه وأنعم عليه، وغفر له واجتباه، ووفقه لطريق الخير.
ثم قال: {ومن وجد غير ذلك، فلا يلومنّ إلا نفسه}، لأن الحجة قد قامت عليه، ولأن الإعذار قد أتاه، والنذير قد جاءه، وأياً كان هذا النذير، فقد جاءه النذير، وقد رأى الآيات البينات وما عصى إلا على بينةٍ وعلم: {فلا يلومن إلا نفسه}.
فاللوم حينئذٍ يتوجه إلى ذلك العبد وإلى نفسه الأمارة بالسوء، وليس إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وليس إلى المقادير، كما يفعل ذلك الكفار: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:106]، فهذه العلل وهذه الأعذار لا تنفع حينها.
ولهذا قال من قال من السلف: والله لأجتهدن، ثم لأجتهدن، فإن كان الذي نرجو فالحمد لله، وإن كان غير ذلك، قلت: قد اجتهدت وقد فعلت، ولم ينفع ذلك، ولا نقول: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً} [فاطر:37]، فكان السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم يعلمون هذه الحقيقة، ولهذا اجتهدوا وبذلوا جهدهم كله، واستفرغوا أوقاتهم وأعمالهم وطاقاتهم في رضى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وفي طاعته، وفي اجتناب معصيته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فكانوا هم العباد حقاً.
فهذا الحديث قد سقناه، وشرحناه شرحاً موجزاً، راجين من الله -سبحانه وتعالى- أن يمنَّ علينا بالإيمان والتقوى، وبالتدبر لهذا الحديث ولأمثاله، مما خاطبنا الله تبارك وتعالى به في القرآن الكريم أو في السنة النبوية، وما خاطبنا به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذلك مما فيه حياة قلوبنا وسعادتنا في الدنيا والآخرة، وفيه الخير والفلاح، لنا في هذه الحياة وفي الحياة التي نرجوها عند الله تبارك وتعالى.(73/11)
الأسئلة(73/12)
أنواع الظلم وعقاب كل منها
السؤال
ما الظلم؟ وما أنواعه؟ وما عقابه؟
الجواب
الظلم ثلاثة أنواع:- النوع الأول: ظلم العبد مع ربه، بأن يشرك مع الله إلهاً آخر، فأعظم الظلم أن يجعل العبد لله نداً وهو خلقه، كما قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، ولهذا قال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82].
النوع الثاني: ظلم العبد لأخيه، فظلم العباد مما حرمه الله؛ وكما في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {الظلم ظلمات يوم القيامة}، فنهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ظلم الإنسان في نفسه أو في ماله، فلا يظلم مسلم مسلماً أبداً.
النوع الثالث: هو أن يظلم العبد نفسه بالمعاصي التي يرتكبها، وهي دون الظلم الأكبر الذي هو الشرك بالله تعالى.
أما عقابه فيختلف: فعقاب الشرك الخلود في النار -عافانا الله وإياكم منها- قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72].
وأما ظلم العبد للعبد، فعقوبته هي النار، إلا أن يعفو ذلك المظلوم، ويتفاوت ذلك فإن كان الظلم قتلاً فهو أشد مما لو كان ضرباً مثلاً، وإن نهبه ماله، فهو أشد وأعظم مما لو نهبه بعضه وهكذا.
وأما ظلم العبد نفسه: فهو بحسب ما يذنب من الذنوب، فإن كانت من الكبائر دون الشرك فعقوبتها بمثل قدرها، وإن كانت أقل فعقوبتها كذلك ودواؤها الاستغفار؛ وليست العقوبة هي النار فقط، بل للذنوب عقوبات كثيرة جداً، كما ذكر الحافظ الإمام ابن القيم -رحمه الله تبارك وتعالى- في الجواب الكافي كثيراً من أضرار الذنوب وعقوباتها، عافانا الله وإياكم منها!(73/13)
معاقبة الله للعصاة على ما قدر عليهم لا يتعارض مع عدله
السؤال يقول: لقد ألقيت محاضرة هنا بعنوان: القضاء والقدر، ثم أتيت بالحديث الذي دار بين أبي الأسود الدؤلي وأحد الصحابة، وفي هذا الحديث أن هذا الصحابي قال: {أليس كل ما نعمل مكتوباً قبل أن نخلق}، فما توضيحكم لهذا الحديث؟ وما تتمته؟
الجواب
الصحابي هو عمران بن حصين -رضي الله تبارك وتعالى عنه- ونص هذا الحديث: {أن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه قال لـ أبي الأسود الدؤلي أليس كل ما نعمل مكتوباً قبل أن نخلق؟ قال: بلى! قد كتب، قال: أيعذبهم على ما كتب؟ قال: نعم، قال: ألا يكون ذلك ظلماً؟} الصحابي رضي الله عنه يقول للتابعي: ألا يكون ذلك ظلماً من الله أن يكتب عليهم الذنوب ثم يحاسبهم عليها {قال أبو الأسود الدؤلي: ففزعت فزعاً شديداً وقلت: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، له الخلق كله، وله الأمر كله، فرضي وسر عمران رضي الله عنه، وقال: إنما سألتك لأحزر عقلك} أي: لأختبر عقلك، ثم حدَّث أنه: {كان جالساً عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه أتاه رجلٌ فسأله: فقال: يا رسول الله؛ أرأيت ما نعمل؟ أهو فيما نستقبل من أمرنا أم في أمرٍ قد قضي وكتب؟ قال: في أمر قد قضي وكتب}، وقال في رواية: {أندعُ العمل ونتكل على ما كتب؟ فقال له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعملوا فكلٌ ميسرٌ لما خلق له، فمن كان من أهل السعادة فهو ميسرٌ لعملِ أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة، فهو ميسرٌ لعمل أهل الشقاوة}، والحساب يكون على ما اختار العبد وعمل، إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر.(73/14)
طرق مؤدية إلى السبيل الأوحد
السؤال
أنا أطلب الحق والهداية، ولكن ما هو الطريق الذي أسلكه؟ طريق كذا أو كذا أو أعيش وحدي، أرجو منك إيضاح هذه الطريق؟
الجواب
هذا الطريق واضح ولله الحمد، فطريق الهداية واضح، كما في الآية التي ذكرناها، وهي قول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].
قد يقول قائل منكم: كيف تكون سبلاً؟ والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، فالله تعالى جعل سبيله واحداً وجعل الطرق المخالفة لدينه سبلاً، وهنا يقول: ((لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)) [العنكبوت:69]؟! ومن جوابنا لهذا الإشكال ننفذ -إن شاء الله- إلى جواب هذا السؤال.
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يسَّر هذا الإنسان لما خُلِقَ له، وسبل الخير كثيرة، فإن كنت ميسراً لطلب العلم، فاسلك طلب العلم سبيلاً، وإن كنت ميسراً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاجعل همك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فجاهد في الله وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، أو جاهد في الله واطلب العلم، أو جاهد في الله بالصيام إن لم تستطع أن تفعل شيئاً، أو جاهد في الله بذكره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إن لم تستطع أن تنال قسطاً من العلم أو تتعبد بعبادة المجاهدين، أو الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فأنت ميسر لأمر ما، فانظر إلى الأمر الذي أنت ميسرٌ له، فإن يسر لك بر والديك فبر والديك حتى تنال بذلك رضى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإن يسر لك أيتام أو جيران ضعفاء فابتغ طريق الهداية وطريق الجنة بالإحسان إلى هؤلاء الجيران الفقراء.
وهكذا فكل إنسان منا لابد أن أمامه سبلاً معينة، وأن هذه السبل هي طرق من طرق الخير الكثيرة، التي يسَّرها الله تبارك وتعالى لك، فاسلك أياً منها مبتغياً بذلك وجه الله، لينقذك الله تعالى ويهديك.
وكل ذلك مبناه على التمسك بما في الكتاب وما في سنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهديه في حياته.
فإزالة الإشكال هو أن سبيل الله واحد، أي طريقه المستقيم واحد، أما السبل التي يهدي الله تبارك إليها، فهي طرق الخير، فالخير واحد ولكن له طرقاً متعددة توصل إليه، فهذا يدخل الجنة من طريق الجهاد، وهذا من طريق العلم، وهذا من طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا من طريق الصدقة، وهذا من طريق الذكر، مع أن الكل على الصراط المستقيم الذي هو سبيل واحد.(73/15)
ليكن جليسك عوناً لك على الطاعة
السؤال
إنني شاب أدرس وأخاف الله -ولله الحمد- ولكن رفقاء السوء دائماً معي، فأخرج من البيت من الساعة التاسعة إلى الساعة الواحدة تقريباً، فإذا عدت إلى البيت، توضأت وصليت ركعتين واستغفرت الله من ذلك، وأدعو الله، ولكن إذا أتى اليوم الثاني ذهبت معهم، نلعب البلّوت، وهم شباب لا يصلون إلا على حسب أمزجتهم، فأرجو إفادتي في أن أقلع عن مجالستهم، أرجو نصيحتي؟
الجواب
هذا الأخ مبتلى ومصاب، ويعلم طريق العلاج، وهو يعلم أن الرفقاء رفقاء سوء، ولكن يريد أن يبصر بشيء يعينه على اجتياز هذه العقبة، ومن كان هذا حاله فهو قريب من الخير والهداية ولله الحمد، فما عليك إلا أن تجزم بقوة على أن تترك هؤلاء الرفقاء، وأن تستبدل وتستعيض بهم الرفقاء الصالحين من الشباب الطيب المتدين، واعزم وتوكل على الله، فديننا دين العزيمة ودين الهمة، والذي لا يريد سلعة الله الغالية، وهي الجنة، فهو الذي تكون همته فاشلة، أما من أراد هذه السلعة الغالية، فلا بد أن تكون همته عالية، والهمة العالية يجب أن تدفعك إلى أن تقاطع هؤلاء الناس، وإلى أن تنخرط في صفوف أهل الخير، وتجالسهم، وتحضر لهم ومعهم، فإذا فعلت ذلك، فقد استعنت على نفسك بأعوان الخير، بدلاً من أن يستعين الشيطان عليك بأعوان السوء.
فيجب أن تقلع عن مجالسة هؤلاء أولاً، ثم تقبل على الله تبارك وتعالى، وتتذكر وتتفكر في الموت وفي الآخرة، وما أعد الله تعالى لمن أطاعه واستقام من النعيم، وما أعد لمن عصاه من الجحيم، فلعل ذلك أن يكون زاجراً لك، ونسأل الله أن يثبتنا وإياك على الحق، وأن يصرف عنا طرق الشر إنه سميع مجيب.(73/16)
الهمة العالية تذلل الصعاب
السؤال يقول: أفيدكم يا شيخ، أنني واقع في ظلم نفسي، حيث إنني مستمر في معصية، وهي شرب الدخان، وكلما حاولت أن أدعه أجد فيه صعوبة، وأنا أخشى أن يبلغني الله تعالى رمضان ولم أترك هذه المعصية؟
الجواب
هذه نفس المشكلة السابقة، والقضية قضية همة، فعلى المؤمن أن يكون ذا همة وألا تغلبه شهوته، وألا تغلبه نفسه وشيطانه، بل يكون هو الغالب لها، ورضي الله عن الصحابة والتابعين والسلف الذين كانوا يتنافسون في الخير.
كان أبو مسلم الخولاني يقوم الليل، وكان يضرب على ركبته إذا تعب، ويقول: 'قومي! فليعلمن أصحاب محمدٍ أنهم تركوا بعدهم رجالاً' همم! فكانوا يريدون أن يتنافسوا في الخير، مع أنهم يعلمون أنهم لن يبلغوا منزلة الصحابة الكرام، ولكن يجب أن تكون همة المؤمن عالية، فإذا كان الدخان يغلبك، والأصحاب يغلبونك، فما الذي تريد أن تغلب؟ وما الذي تريد أن تهزم أنت؟ ولماذا هزمت الأمة الإسلامية؟ ولماذا غلبنا أضعف وأحقر وأذل خلق الله وهم اليهود وأشباه اليهود؟! إلا حينما أصبحت هممنا بهذا المستوى.
فمعذرةً إلى هذا الأخ وإليكم جميعاً! وكلنا نحتاج إلى تقوية الهمة، ويجب أن تكون الهمة عاليةً وقوية، ويجب أن يكون الإنسان منا حريصاً على اغتنام هذه الفرصة العظيمة، فإن الرحمن الرحيم يقول: {يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، فاستغفروني أغفر لكم}، فأين نحن من هذا النداء ومن إجابة هذا النداء؟! وأين نحن من باب التوبة المفتوح ليلاً ونهاراً؟! فيجب أن نستعين بالله ونتوكل على الله ولا نعجز، وأن تكون لنا همة لنزجر أنفسنا عما حرم الله تبارك وتعالى.(73/17)
لين القلب محتاج إلى المجاهدة المستمرة
السؤال
أنا شاب أحاول أن أتبع كل ما أمر الله، وأحاول أن أجتنب كل ما نهى عنه، ولكني أجد قسوةً في قلبي، فما هي طرق ترقيق القلب، وهل أؤاخذ على هذا؟
الجواب
نحن كلنا ذلك الرجل، ونسأل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يرزقنا إيماناً نجد حلاوته في قلوبنا، وأن يبصرنا في ديننا، وأن يعيننا على أنفسنا.
ونحمد الله أنه لا تكاد تأتي محاضرة، إلا وتأتي مثل هذه الأسئلة: الذي يسأل: كيف أتوب؟ والذي يسأل كيف ألين قلبي؟ والذي يسأل كيف أقلع عما حرم الله؟ فهذه -ولله الحمد- من بشائر وعلامات الخير، وأن الشباب في رجعة وأوبة إلى الله تبارك وتعالى.
والذي أحب أن أقوله: إن الطريق شاق وطويل، فلو كان لهذا الأمر علاجٌ مؤقت، أو علاج معين، يأخذه العبد فيلين قلبه، لسبق إليه أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في يوم واحد وفي لحظة واحدة، ولانت قلوبهم، ولكنها جهاد مستمر، يلين قلبك اليوم ويقسو غداً، وترغب اليوم عن الدنيا وترغب في الآخرة، وإذا بك في غدٍ تكون عكس ذلك، فتطيع ربك عز وجل، وإذا بك في غدٍ مهزوم تقودك نفسك كما تشاء.
فهكذا جعل الله العبد؛ لكي يظل العبد المؤمن في جهاد مستمر، قال بعض السلف: 'جاهدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت، فبلغت بعضهم فقال: طوبى له! أوقد استقامت؟ ما زلت أجاهدها ولم تستقم ' بعد أربعين سنة! وهم في أفضل جيل وأفضل بيئة، فكيف بنا اليوم ونحن في عصر المغريات وفي عصر الشهوات؟! فمن أعظم أسباب قسوة القلب: طول الأمد عن ذكر الله، وعن تقوى الله، وعن مجالس وحلق الذكر والخير، وعدم التفكر في ملكوت السماوات والأرض وعدم التفكر في الموت.
وهذا التفكر قد يتفكره الإنسان، ولكن أيضاً يتبلد إحساسه، ويصبح تفكيره كأنه أمرٌ عادي لا يثار له، ولهذا ينبغي للإنسان أن يجدد وأن ينوع من الذكرى، وأن يحرص كل الحرص على أن يتعاهد قلبه وإيمانه، فـ {إن الإيمان يخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب}، كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو يبلى ويتلاشى ويضمحل، فلا بد أن نتعاهد إيماننا.
وقراءة القرآن وتدبره والعمل به، هي من أعظم ما يزيد الإيمان؛ لأن الإنسان إذا قرأ كتاب رب العالمين سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فإنه يجد فيه الشفاء والحق والمواعظ والحث على التفكر وعلى التدبر، ومع ذلك أيضاً يدعو الإنسان ربه عز وجل، كما سمعنا في هذا الحديث: {كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم} فندعو الله أن يمنَّ علينا بالإيمان، وأن يمنَّ علينا بالهداية، وأن تلين قلوبنا لذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يخيب من دعاه.(73/18)
تعليم الله للإنسان القرآن أعظم منة عليه
السؤال يقول: قلتم بقول غريب غامض في تفسير قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ} [الرحمن:1 - 3]، فقلتم: إن الله علم القرآن قبل خلق الإنسان، فنرجو من فضيلتكم الإيضاح؟
الجواب
إما أني لم أَفَهم أو لم أُفهم على أية حال أنا لم أقل: إن الله علم القرآن الإنسان قبل أن يخلقه، ولكن امتنَّ الله تعالى بذكر تعليم القرآن قبل ذكر خلق الإنسان، فالمنَّة الأعظم هي أنه علمنا القرآن، بعد ذلك منته بأنه خلقنا، ونعم الله عظيمة لا تعد ولا تحصى، لكن أعظم نعمة من الله علينا هي الهداية، فالقرآن وتعليم القرآن -الذي هو مادة كل هداية وخير- هو أساس ذلك، وما بعده تبع له، والحياة من غير القرآن لاشيء، بل هي كحياة الحيوان، فهذا هو المراد، ولم أقصد أن أفسر الآية.(73/19)
انظر إلى من دونك ترزق القناعة
السؤال
يوجد من يتذمرون من الحياة بالفقر أو غير ذلك، فبماذا تنصحهم؟
الجواب
يجب علينا أن نؤمن بالقدر، وأن نشكر الله تبارك وتعالى، وألَّا نضجر أو نتذمر كحال الكافرين، الذين يبلغ بهم الحال إلى أن ينتحروا! -عياذاً بالله! - فالمؤمن يحمد الله على أعظم نعمةٍ أنعم بها وهي نعمة الإيمان، ثم ينظر في الدنيا إلى من هو دونه، فإن كنت مبتلىً بالفقر فثق أن في الدنيا من هو أفقر منك، وإن كنت تشكو المرض فثق أن في الدنيا من هو أشد منك مرضاً، ومهما كنت فيه من حال فاعلم أن هناك من هو دونك، ولا تزدرِ نعمة الله عليك، فالمؤمن إن أصيب بفقرٍ، أو مرض أو بلاء، فصبر واحتسب، كان له بذلك الأجر عند الله، حتى إن العبد الصالح يوم القيامة يتمَّنى أنه ما من داءٍ أو بليةٍ إلا ابتلي بها، لما يرى ما يتفضل الله تبارك وتعالى به من النعم على أصحاب البلاء الصابرين، جعلنا الله وإياكم منهم.(73/20)
الجمع بين أن الإنسان يولد على الفطرة وبين قوله: (كلكم ضال)
السؤال
كيف نوفق بين الحديثين: {كل مولود يولد على الفطرة} وقوله: {كلكم ضال إلا من هديته}؟
الجواب
كل مولود يولد على الفطرة، كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكما في الحديث القدسي الآخر: {إني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين}، وأما {كلكم ضال}، فهو كما أشرت، أ، هـ لو خلي بين الإنسان ونفسه لضل، وإنما الهداية توفيق من الله، فمن وفقه الله تعالى اهتدى، ولو خُلي بينه وبين نفسه، فإنه يضل؛ مع أنه ولد على الفطرة فإنه يخالفها، ومع أن الرسول قد أتاه فإنه يكذبه، ومع أن القرآن بين يده ولكنه لا ينتفع بما فيه ولا يهتدي.
فمع وجود الهداية وأسبابها، ولكن مع عدم التوفيق، لا يكون الإنسان مهتدياً أبداً، فلا تعارض بين الحديثين، والحمد لله رب العالمين.(73/21)
فستذكرون ما أقول لكم
استعرض الشيخ حفظه الله حال الأمة المسلمة ومدى بعدها عن الله عز وجل، وبين أن سبب ذلنا اليوم إنما هو بتركنا لتعاليم ديننا، ثم أكد على ضرورة التوبة والعودة الصادقة إلى الله عز وجل وأن هناك منكرات كثيرة لابد من تغييرها، وأن اللجوء إلى الغرب خلل في مبدأ الولاء والبراء، مذكراً بقصة من قصص المجاهدين، وموضحاً أن من أهم أهداف الحشود الكافرة في منطقة الخليج ضرب الصحوة الإسلامية، مختتماً حديثه بالرد على الاستدلالات التي أوردها من يقولون بجواز الاستعانة بالكفار في مثل هذه الأحداث.(74/1)
مشكلتنا الحقيقية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فإن أول ما أحب أن أذكر نفسي وإخواني به في هذه القضية، أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يقدِّر في هذا الكون إلا ما هو خير، وإن كان فيه ضررٌ أو شرٌ لأناس مؤمنين أو كافرين من وجه من الوجوه، وفي الجملة الشر ليس إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وما يقع منه -عز وجل- فهو خير.
ولكن يجب علينا أن نعتبر ونتعظ ونستفيد من الأحداث؛ لتكون خيراً لنا، من جميع الوجوه، وإن اشتملت على ضرر، فإن الأمور بنهاياتها.
ونحن الآن في أول المشكلة، فلا تتصوروا أن ما حدث يمكن أن يحل في أسبوع أو أسبوعين أو شهر أو شهرين! هذه مشكلة ستطول، ونهايتها لا يعلمها إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى!! فلا يمكن أن تنتهي كما قد يبدو للبعض بأيامٍ معدودات؛ فالغرب بدأ يتكالب ويأتي من كل وجهة! بعض أساطيله إلى الآن لم تتحرك، وبعضها تحرك قبل عدة أيام، ويحتاج إلى شهرين في البحر حتى يصل، ثم بعد الشهرين وبعد الوصول: ماذا سيكون؟! الله تعالى أعلم! إن الأمر سيطول! وليست هذه المشكلة خارجة بأي شكل من الأشكال عن مشكلتنا الأساسية الأولى في حياتنا نحن أمة الإسلام.
وهي مشكلة دائمة نعيشها، وهي: ضعف قربنا من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وضعف تمسكنا بكتابه جل وعلا؛ فقد يسلطهم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- علينا إن عصيناه وانحرفنا، أو ينصرنا ويؤيدنا ويجعل الدولة لنا على أعدائنا إن تمسكنا واستقمنا، هذه قاعدة في جميع العصور، وفي جميع مراحل التاريخ.
جاءت موجة التتار، وجاءت موجة الصليبيين في مراحلها الأولى، ثم جاءت الصليبية في شكل استعمار، ثم جاءت الصليبية الجديدة؛ فكلها صليبية وإلى الآن فالمعركة التي نعيشها معركة صليبية؛ لأن حزب البعث صليبي، والغرب صليبي، فالقضية كلها صليبية.
وأهم شيء يجب أن نتحلى به: أن تكون لدينا القاعدة الإيمانية، التي لا يجوز أن نتناسها بأي شكل من الأشكال، لأن هناك سنَّة من سنن الله في الأمم وفي المجتمعات وهي: أنهم إذا عصوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أو خالفوا أمره، جاءهم العذاب، ثم إنهم يتضرعون إلى الله.(74/2)
انصراف الأمة الإسلامية عن القرآن
أقول: عجيبٌ أن يصدر هذا عن أمة القرآن وأمة الإيمان وأمة الإسلام، التي جعل الله لها في كل مشكلة، وفي كل أمر، وفي كل ضائقة، وفي كل نازلةٍ حلاً في كتابه وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والحل موجود، وقد تكلم عنه كثير من دعاة الحق -والحمد لله- لكن لم نجد إلى الآن أية إشارة واضحة إلى أننا فعلنا الحل الذي في كتاب الله عز وجل، وأننا امتثلنا الحل الذي أمر به الله، كما قال:- {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام:43] قسوة القلوب كهذه التي نعاني منها.
توزع حالياً أخبار عن المبيدات والأسلحة الكيماوية والغازات الكيماوية أثارت الرعب والهلع في نفوس الناس، وأنا لا أتكلم عنها، وأنا جازم وواثق أنها ليست رسمية، وليس عليها ختم رسمي، وهي في حقيقتها صحيحة، فما تضمنته من أثر هذه الغازات السامة صحيح وواقع، بل في الحقيقة هناك أنواع أخطر من ذلك بكثير.
ولكن ليست هذه هي القضية؛ القضية هي: لماذا عندما لا ينسب مثل هذا الكلام الذي ليس له أصل ولا مستند رسمي، فلم يقل للناس: " خذوا أقنعة أو احتاطوا" رسمياً وإنما هذه أوراق وإشاعات، الله أعلم بمن وراءها، وما مصدره، فهو قول غير مؤكد وغير معروف، ومع ذلك ذعر الناس وهلعوا، وكل إنسان بدأ يفكر جدياً، فيما يصنعه؟ وهل منطقته بعيدة عن الأحداث أو قريبة؟ ويفكر ماذا سيصنع إذا جاء الغاز فعلاً.
سبحان الله! القرآن كلام الله رب العالمين سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحدثنا عن عذاب جهنم يحدثنا عن دخان جهنم، أين هذه الغازات من دخان جهنم؟! أين هي من {ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات:30 - 31] أين هي من {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:41].
أين، أين، آيات كثيرة، فأين هذا من هذا؟! وهو كلام رب العالمين وهو حق وصدق، ولا يمكن أن يقع إلا في حق من توعده الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بذلك، وذكر الله تعالى أسبابه، وهي المعاصي والذنوب، فهل اتخذنا وقاية من هذه الذنوب؟! قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم:71] كل إنسان واردها، كل إنسان سيعبر الجسر المنصوب على متن جهنم، كما أخبر بذلك الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهل أعددنا وقاية من عذاب الله؟! هل أصابنا الخوف من الله؟ كما أصابنا الخوف من البشر والهلع والذعر؟! وقد ضربت هذا المثال لتعلموا لماذا أصبنا بهذه النكبة، ولماذا حلت بنا هذه المصيبة؛ وذلك لأننا لم نعد نخاف من الله، ولم نعد نخاف من وعيده ولا عذابه سبحانه، لأننا لم نعد نستمع إلى آيات القرآن، وما كان فيها من وعد أو وعيد، ومن استمعوا فهم يستمعون وقلوبهم غافلة لاهية إلا من رحم ربك.(74/3)
منكرات لم تغيرها الأمة
ننتظر متى نكف عن الغناء واللهو والطرب في وسائل الإعلام أو في خارجها، وما كففننا! ننتظر هل سيمنع الربا، هل سيخفف الربا، هل سيتقلص، فما تغير شيء من هذا! قلنا: لعل التبرج ينتهي من الأسواق ومن الشواطئ ومن المنتزهات، فلم يتغير شيء! سبحان الله العظيم! محلات يسمونها التخسيس وصوالين التجميل، ومشاغل الخياطة، وما فيها من فساد، هل أوقفت؟ هل منعت؟ هل انقطعت؟ هل ضعفت؟ والله ما صار شيء من هذا! هل أعيدت صلاحيات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وهل وضع لها اعتبار وقوة؟ والآن هذا وقت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لعل الله أن يرحمنا ويرفع عنا العذاب، لم نصنع شيئاً من هذا! هل أعدنا وضع مدارس تحفيظ القرآن إلى وضعها الطبيعي؟ نقول: علينا أن نستغفر الله؛ لعل الله سلطهم علينا بذنوبنا، إذاً وجب أن نعيد لها اعتبارها، وتأخذ من الطلاب ما تشاء، وتكون كما كانت، لكننا ما فعلنا شيئاً من هذا! الرقابة الإعلامية: كل ما حدث في السوق، هو أننا سلمنا من شرور المجلات والصحف الكويتية، وهذا من عند الله ليس من عند أنفسنا، هل قلنا ما دامت أن هذه الصحف عوقبت على فسادها وإلحادها وكفرها الذي كنا نتحدث عنه، إذاً فلنمنع الصحف الباقية، هل مُنع منها شيء؟! وأنا لا أدري، ولكن أنا أقول فيما أرى.
وضعنا هو مثل الذي لا يصلي قبل الأحداث ولا يصلي بعدها! سبحان الله! الذي لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر لا يزال على ما كان عليه إلا من رحم الله! لا اعتبار! لا اتعاظ! لا ضراعة! لا رجوع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى! لم لا نحاسب أنفسنا ونقول: كان هذا حراماً واستبحناه! فلنتجنبه، كان هذا واجباً وتركناه! إذاً فلنفعله لكن ما حدث شيء من هذا! إذاً ماذا نتوقع؟! كيف ندفع العذاب؟!(74/4)
الغفلة عن أسباب دفع العذاب
لقد بين الله لنا كيف ندفع العذاب، وبين لنا أن التضرع سبب من أسباب دفع العذاب كما في آية المؤمنون والأنعام والأعراف وغيرها، يقول تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76] ويقول تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43] وفي سورة الأعراف يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف:74] إلى أن يقول: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف:96 - 97] وهذا ما حدث في الكويت! ثم يقول تعالى: {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:98 - 99].
أين الضراعة التي ذكرها الله في القرآن؟ أم أننا لسنا في حاجة إليها؟! لا ضراعة! لا استكانة! لا توبة! لا إنابة؟ حالنا كأنه لم يحدث شيء.
من أين جاءنا الأمان والارتياح؟ من أين؟! لما قيل: إن الغربيين الكفار سيدفعون عنا عذاب الله، فارتحنا واطمئننا!! أهكذا أمة الإيمان؟! أهذه أمة التوحيد التي في كل ركعة تقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]؟! أهذا حالها؟! أهذا شأنها؟!(74/5)
اللجوء إلى الكفار خلل في العقيدة
أمتنا في وقت الشدة لا تلجأ إلى الله ولا تتوب ولا تستغفر ولا تتضرع وإنما تلجأ إلى الكفار! وتجعل ثقتها بالكفار، في كل مجلس تقريباً، يقول الناس: ما دام أمريكا موجودة فلا مشكلة! لا أحد يقول: ما دام الله معنا!! هل إلى هذا الحد وصل بنا الأمر من ضعف العقيدة وكل وقتنا إنما كنا نقول فيه العقيدة العقيدة العقيدة إذاً فقد كان هذا مجرد شعارات فقط!! وإلا فأين أثر الإيمان الحقيقي؟! وأين هذه العقيدة؟! نأمن ونطمئن بالكفار؛ لأن الكفار سينصروننا هكذا نعتقد وننسى وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى! وننسى أن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38].
من هم المؤمنون الذين يدافع الله عنهم؟ قال بعد ذلك: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] إلى أن قال بعد ذلك: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] هؤلاء يدافع الله عنهم، هؤلاء ينصرهم الله (إنه قوي عزيز)، فهكذا ينصرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وليس الكفار هم الذين ينصروننا!(74/6)
ما يترتب على اللجوء إلى الكفار
أنا أقول هذا من باب اللجوء وتوجه القلوب، ولا أتكلم عن الواقع؛ من حيث ضرورته أو عدم ضرورته، بل من حيث التوجه القلبي، وهذه المسألة مشكلة خطيرة، وأرجو أن تكون هكذا عند كل أخ منكم يقرأ كتاب الله.
المشكلة والخطورة ليست في أننا عملياً قد نلتجئ للكفار أو نستعين بهم، وهل يجوز هذا وقت الضرورة أم لا يجوز ليست هذه هي القضية؛ لأننا يمكن أن نبحث هذه المسألة أو أن نفعل هذا العمل، وقلوبنا مطمئنة بالإيمان وبالثقة والتوكل على الله، ونجعل هذا سبباً من الأسباب، لكن ليست هذه هي المشكلة المشكلة: هي أن القلوب انصرفت إلى غير الله، وانصرفت إلى الكفار الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وتعلقت الآمال بهم في سلامتنا وفي نجاتنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله! أنا أريد أن نتناول هذه القضية من جانبها الإيماني، ومن جانبها القلبي الإذعاني، وننبه إخواننا وأنفسنا وأهلنا وكل أحد، إلى أن عذاب الله قد يأتينا في أشكال لا نعلمها، وهذا جزء منه ونذير: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُو} [المدثر:31].
قد يأتينا في أشكال منها الموت، فقد يأتي أي واحد منا قبل أن تأتيه الغازات التي نسمع عنها، فيلقى الله، فيسأله الله: ماذا عملت؟ ماذا قدمت؟ وما من دارٍ إلا الجنة أو النار! فأين نحن من هذا التفكير؟ أين الدعاة والخطباء والعلماء لإيقاظ الناس إلى هذه المسألة المهمة؟ قبل أن نبحث الأسباب وقبل أن ننظر في واقعنا، وماذا نفعل؟ نبحث هذه القضية من جذورها وأساسها! وقد وردت إشارة في بيان مجلس القضاء الأعلى إلى أنه يجب على الناس أن يكثروا من الاستغفار والتوبة، وبعد ذلك انظر إلى وسائل الإعلام، وانظر ماذا يبثون! نريد أن نجد هذا التفكير فلا نجده وهو الأساس والأصل، وهو الذي امتنَّ الله علينا به، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي هو بالمؤمنين رءوف رحيم، وهو أرأف وأرحم بنا في أية مشكلة تقع قد دلنا عليه وبينه لنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع ذلك لا نجد من يتمثله؛ بل في ساعات النصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما دخل مكة وهو منتصر، دخل في ذلةٍ واستكانةٍ لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مطأطئ الرأس حتى كاد رأسه أن يمس رحله، وهو داخل مكة بالفتح العظيم الذي وعده الله تعالى به، وكان في هذه الحال من الاستكانة إلى الله والذل له.
ونحن في حالة الخوف والذعر والهلع ومع ذلك لا ضراعة، ولا استكانة، ولا إنابة، ولا خوف من الله عز وجل إنما تعلق بالمخلوقين، وتعلق بالعدو اللدود، الذي عداوتنا به لا تنتهي إلى قيام الساعة.(74/7)
قدم العداوة مع الغرب
هذه العداوة ليست من عندنا، ولا هي تحليلات سياسية، فنقول: إن أمريكا هي أعدى عدو للإسلام والمسلمين أو الغرب هو أعدى عدو للإسلام والمسلمين، التحليلات السياسية والصحفية تخطئ وتصيب، لكن هذا كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا خبر منه وهو الصادق المصدوق عندما قال: {تقوم الساعة والروم أكثر الناس} حديث صحيح.
وقال: {لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بـ الأعماق} وهناك ستكون الملحمة.
أحاديث الدجال تتضمن في جملتها ذلك، أحاديث نزول عيسى عليه السلام كلها تتضمن ذلك إذا جمعتها، وأعظم ما يقوم به عيسى عليه السلام هو محاربة هؤلاء النصارى الروم.
أيضاً هذه الأخبار الصريحة في الروم وأنها آخر ما يفتح، قال عليه الصلاة والسلام: {تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله لكم، ثم تغزون فارس فيفتحها الله لكم، ثم تغزون الروم فيفتحها الله لكم}.
والمعركة -والحمد لله- كما بينها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سوف تنتهي لصالح المسلمين ضد الروم وهذا حتى لا نخاف، ولا نيئس، لكن أين المسلمون؟! إن حالات الذل تمر بالأمم كما تمر بها حالات القوة، حالات الخذلان تمر بها بسبب الذنوب، كما تمر بها حالات التوفيق إذا اتقت ورجعت إلى الله.(74/8)
حرب الخليج والمخططات الغربية
تذكرون محاضرة "مستقبل العالم الإسلامي في ظل الوفاق الدولي"، ثم محاضرة "الحروب الصليبية"، من هذا المنطلق كنا نتوقع ونعلم -دون معرفة التفاصيل- أن هذا الوفاق سيؤدي إلى أن الغرب سيتكتل ويتألب ويتكالب علينا، وأنهم سيجتمعون علينا، وأنه سيأتي إلى هذه المنطقة، لكن كيف؟ الله تعالى أعلم! لا ندري، المهم أنه سيأتي.
هل هذه فرصة أتاحها لهم حزب البعث الصليبي نفسه، وقدمها لهم على طبق من ذهب؟ أم أنهم رتبوها بأنفسهم؟ أم رتبوها بعضهم مع بعض؟ أم أنها جاءت فرصة ذهبية؟ لا ندري! لكن المهم أن أمريكا منذ عام (1980م) أي عام (1400هـ) وهي تعد العدة وتدرب الجيش! أكثر من مائتين وخمسين ألف جندي أمريكي يتدربون في صحراء نيفادا، وهي صحراء في وسط أمريكا قاحلة على أجواء مشابهة لأجواء الصحراء العربية، والمعركة الآن يسمونها درع الصحراء، يتدربون هناك على الإنزال في الخليج! وآخر خبر أذكركم به ما قيل عندما حدث الإنزال في بنما، وذلك -من ضمن التحليلات العسكرية لعملية الإنزال في بنما - قيل فيه: إن من أهدافها الاستراتيجية التمرين والتعود على الإنزال في الخليج! وهذه العملية ما بيننا وبينها إلا بضعة أشهر، أي: أن الأمر مبيت عندهم ووارد، وهذه فرصة قدمها لهم أعداء الإسلام.
جاءت فجاءوا من كل حدبٍ وصوب، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الذي لا ينطق عن الهوى: {تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها} من كل أفق، من كل المناطق، جاءوا إلينا بحجة أنهم يحموننا! ولابد أن تعملوا أنه مما نشر من المائتين وخمسين ألفاً ما لا يقل عن ثلاثين ألف امرأة برتبة ضابط ونقيب ورقيب.
هؤلاء جاءوا بنسائهم ليحموا أبناء خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعمر، وأبناء الأبطال الذين فتحوا فارس والروم بعدد أقل من عددهم اليوم، وبعدة أقل من عدتهم اليوم! ولو كنا كما أمر الله متقين له وقائمين على أمره عز وجل، لفتحنا البلاد بما عندنا من عدد، وبما عندنا من قوة، فما كلفنا الله ما لا نطيق، كما قال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] فقال: (ما استطعتم) فإذا كنا لا نقدر إلا على هذا، فقد أعذرنا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(74/9)
مواجهة ذاتية دون الذل للكافر الحربي
أسوء ما يمكن -وهذا واقع- أن يتكالب علينا أعداء الله ولا نستطيع أن ندفعهم، فماذا نفعل؟ بين أيدينا سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسنة الخلفاء الراشدين وقادة الإسلام في كيفية التعامل مع العدو وهناك عدة وسائل: - قد نصالحهم فإن أبوا إلا على شيء من المال فإننا نعطيهم، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد أن يعطي الأحزاب لما تكالبوا عليه من ثمر المدينة كما تعلمون.
- قد نصالحهم على شيء من الأرض.
- قد نقول: لا بد أن نحاربهم.
وهناك وسائل وبدائل أخرى؛ فما جعلنا الله تعالى في ضيق أو في حرج، إما هذا، أو هذا كما يظن كثير من الناس اليوم.
كثير من الناس -في المجالس وفيما أسمع- يقولون: ما عندنا إلا الموت أو التعلق بالغرب! من قال لك: إنه ليس عندنا إلا هذان البديلان، ولا ثالث لهما.
يمكن أن يكون هناك عشرة بدائل لو فكرنا وتأملنا، وندفع الشر بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالمشكلة الأساس هي مشكلتنا مع الله، مشكلتنا أننا لم نصطلح معه بل نحاربه، فألب الله تبارك وتعالى علينا وأرسل علينا هؤلاء، كما أرسل على بني إسرائيل الفرس- بختنصر وجيشه- قال تعالى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8] هذه ليست فقط لبني إسرائيل، حتى هذه الأمة إن عادت عاد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالعقوبة قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14].
إن هذا الفسق والفجور والطغيان والترف الذي كنا نعيشه، هل يمكن لأي عاقل ولأي ناظر في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يصدق أن هذا يستمر إلى الأبد بدون عقوبات؟ مع أنه لا توبة ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر؟! لا يمكن.
بل نهلك وفينا الصالحون إذا كثر الخبث كما بين ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فكان المفروض أن ننظر إلى كل هذه الأمور من خلال كتاب الله ومن خلال سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن نحمد الله على هذه الأحداث؛ وذلك لأن فيها عبراً عظيمة تعطى لنا وتهدى لنا من كل جهة.
هل تظنون أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو الذي أخبرنا عن نفسه وعن رحمته للمؤمنين، وما أعد لهم وما يبشرهم به لا يظلم الكفار ويظلم المؤمنين، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس:44]؟! هل يظلمنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ونحن ندفع إلى صدام حسين الملايين والمليارات طوال عشر سنوات، ثم ترتد أموالنا علينا! هل يظلمنا الله بذلك؟! لا والله لا يظلمنا! لكنه ظلمنا لأنفسنا نحن، وتعلقنا بالأسباب المادية! والذين هاجمهم اليوم وقاتلهم من منهم لم يحسن إليه ولم يعطه ولم يساعده، هل هذا من ظلم الله لنا؟ نفعل هذا الإحسان، وهذا الخير، وهذا العطاء، ثم يظلمنا؟ لا والله.(74/10)
الاستقامة سبيل العزة
لو كنا مستقيمين على أمر الله، ولا ننفق إلا حيث أمر الله أن ننفق، ولا نمنع إلا من أمر الله أن نمنع، وإذا أنفقنا فللدعوة إلى الله وفي سبيل الله، وخالصة لوجه الله، عندها سينصرنا الله ويذل أمريكا نفسها، وتأتي راكعة ذليلة، وقد أذل من هو أعظم شأناً منها، وليس ذلك عليه بعزيز أن يذلها لنا، ونحن أمة الإيمان والتوحيد.
وقد أذلها لـ كوبا، وأذلها لغيرها، ولا تستطيع أن تفعل شيئاً ضدها؟ والآن هي المحتاجة إلينا، وهي المضطرة إلينا، فإذا اتقينا الله كفانا الله ذلك كله، وإذا خفنا الله أخاف الله منا كل أحد، وإذا لم نخف الله أخافنا الله من كل أحد، وأتانا الذعر والرعب في قلوبنا، وأصبحت هذه الأمور تهزنا وتحركنا وتخوفنا.
قضيتنا نحن المسلمين ليست في أنك ستموت أو أموت! أنا واثق أني سأموت، لكن المشكلة عندنا نحن هي أن نموت على ماذا، ونلقى الله تعالى بماذا، فالأمريكي أيضاً يموت، وليس فقط نحن، حتى أصحاب الكمامات يموتون، وغيرهم يموتون، ولو كنا في بروج مشيدة فلابد أن نموت.(74/11)
التوبة واللجوء إلى الله
الفرق بيننا وبين الذين ينظرون للأمور نظرة مادية بحتة، وبالحسابات المادية المجردة، يقولون: مائة دبابة إما أن يقابلها مائة دبابة أو الهزيمة! من قال هذا؟! إن هذه نظريات مادية، ونحن عندنا قضايا أساسية مذكورة في كتاب ربنا، فإذا تبنا واستغفرنا وتضرعنا ولجأنا إلى الله، فإنَّ الله سوف يسلط على عدونا جنداً من عنده يدفعهم عنا، وقد دفع عنا شرورهم وهم أعظم ما يكونون ونحن أضعف ما نكون، لكننا لا نقرأ التاريخ.(74/12)
شموخ الإيمان
قبل خمسين سنة أو ستين سنة تقريباً بريطانيا العظمى -كما تسمى- كانت لا تغيب الشمس عن مملكتها، وكانت أكثر بطشاً وهيبة في قلوب العالم من أمريكا اليوم، وكانت كل أمم العالم ترهبها وتخافها، لكنها كانت تخاف من صنف واحد من الناس، وجاء ذكره في الوثائق البريطانية، وهي الآن منشورة؛ لأنهم بعد كل ثلاثين سنة ينشرونها، وبعضها في أقل من ذلك؛ لأنها ليست ذات أهمية عندهم، وجاء في تلك الوثائق أن أكثر ما كانت تخاف منهم بريطانيا في المنطقة كلها من الإخوان الوهابيين، كما يسميهم الإنجليز، وكان هؤلاء يعيشون في الصحراء، وبعضهم ما يعرف معنى الإنجليز، يسمع هكذا وما يدري، ولا عنده -مثلنا الآن- تفكير واستراتيجيات وخبرات، ولكن كان الإنجليز يخافون منهم خوفاً شديداً.
من الوثائق المنشورة -حتى تعرفوا كيف هُنَّا على الله، وكيف لو كنا مع الله لكان معنا- أن المقيم السياسي الإنجليزي في البحرين -وما كانوا يسمونه سفيراً، كان اسمه الوكيل أو المقيم السياسي- كُلِّف من قبل المندوب السامي في العراق أن يكتب شيئاً عن الإخوان فكتب يقول: 'أنا بنفسي ذهبت إلى سوق البحرين ورأيت الإخوان، طولهم يبلغ ياردتين أو تقريباً -يعني مترين إلا شيء- عرضهم كذا، وجوههم كذا، تعاملهم في السوق من أفضل التعامل، و، و' ويكتب عنهم مثلما يكتب من يذهب في وسط إفريقيا ويرى الغورلا، فيكتب عن شكلها وطولها!! أي أنهم أناس يحسبون لهم ألف حساب! ولما سألوا لورنس: ما رأيك في مسألة الإخوان؟ ماذا رد عليهم لورنس، قال: 'إذا أرادت بريطانيا أن تقضي على الإخوان، فعليها أن تخصص خمسين ألف جندي بريطاني، ولكنهم سيموتون جميعاً تحت شمس الصحراء المحرقة' وهذا موجود في كلام لورنس، وكأنه يقول: لا فائدة من حربهم! وأخطر شيء كانت تخافه بريطانيا أن تقوم حركة الإخوان، بمهاجمة الحدود العراقية! بريطانيا العظمى والأساطيل والقوات تحتل العراق ما هو صدام؟! وتخاف أن يهاجم الإخوان العراق، وهي التي كانت ترتعد خوفاً من الإخوان.
ومشكلة الحدود مع العراق والكويت هي فعلاً مشكلة طويلة جداً.
والمندوب السامي البريطاني هو الذي وضع الخط- وهناك كتاب موجود في الأسواق في كل مكتبة يوجد فيه هذا الكلام- وقال: من هنا تكون حدود الكويت، ومن هنا حدود العراق، ومن هنا حدود السعودية، ثم طالت المشكلة.
وعندما وصلت جيوش الإخوان إلى بحرة، لم تفتح جدة، ثم دخلوا مكة، وتقدموا إلى بحرة ليفتحوا جدة، وجاء وزير الخارجية من العراق، وقد أرسلته بريطانيا ليوقع اتفاقية بحرة، وهم الذين حرصوا على توقيعها، وهي تتضمن عدم الاعتداء على الحدود العراقية، هذا من جهة.
من جهة أخرى كان اليهود -ومعهم الإنجليز أعوانهم- في فلسطين، وكانوا يخشون من جيوش الإخوان أن تهاجم العصابات الصهيونية؛ لأنهم يعرفون أن الجيوش العربية السبعة أو العشرة لن تعمل شيئاً، ولكن هؤلاء يمكن أن يقضوا على اليهود قضاءً مبرماً، وبالفعل عام (1924م) وصل الإخوان إلى عَمَّان، ورُعِبَ الإنجليز رعباً شديداً، وقالوا: إذا أخذوا الأردن فسيتقدمون إلى فلسطين، وسيقضون على اليهود.
وهم لم يكن لديهم أكثر من البنادق العادية والخيول، حتى لما قيل لهم -وهذه قصة مشهورة، تناقلها الكبار الذين حضروا تلك المعارك- لا تتقدموا لأن الإنجليز عندهم طائرات تلقي ناراً من السماء -أي قنابل- فقال قادتهم: هل هذه الطائرات فوق الله أم الله فوقها؟! انظروا كيف الإيمان! قالوا: الله فوقها، قالوا: توكلنا على الله، فتأتي الطائرات وتُسْقَط الطائرات بالبنادق العادية، وينهزم جيش الشريف الذي كان يُخْشَى لأن عنده طائرات.
ودخلوا إلى جدة، ثم تقدموا منها حتى أخذوا العقبة، وهذا يعني أنهم كانوا في ضعفٍ فعلاً، لكن كان لديهم قوة الإيمان والعقيدة القوية في الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- والثقة به، فكان العالم يخافهم ويرهبهم، أما نحن فعندنا قوة ليست هي هينة، قوة الطيران ضخمة، وقوة مالية، وكل شيء موجود فإننا نقدر أن نشتريه، لكن أقول: السبب المعاصي والذنوب! ونحن لسنا عسكريين حتى نتكلم في الخطة العسكرية، أو نتكلم في الاستراتيجيات، نحن نتكلم في الشيء الأساس الذي يجب أن يكون عند العسكري وعند المدني وعند كل أحد، وهو الإيمان بالله وقوة التوحيد وقوة التوكل على الله، إن وجدت هذه عندنا فوالله سوف يخاف منا الغرب والشرق معاً.(74/13)
أهداف اجتماع الحشود الغربية
هل تظنون أن الغرب والشرق عندما يجتمع ويتكالب ويأتي إلى هذه المنطقة، أن ذلك من أجلنا؟ أم من أجل سواد عيوننا؟! والله لا يريد لنا الكفار خيراً أبداً، إن ألقيت الغازات السامة علينا، أو على بغداد، فالموتى مسلمون، وما الذي سيضرهم، إن دُمِّر العراق أو غير العراق؟! فالمدمَّر هو هذه الأمة ومقومات هذه الأمة، بغض النظر عن وجود المجرمين والمرتدين الذين أثاروا هذه الفتنة.(74/14)
البترول
لكن على المدى البعيد هؤلاء المرتدون ضربوا الأمة، وسببوا لها النكبة! والغرب ضرب الأمة وأذل الأمة! وما هو الغرض من هذا كله؟! الغرض هو البترول، أن يصلهم البترول دائماً، وحتى الأسعار يستطيعون أن يتحكموا فيها إلى حد كبير، وهناك غرض أساسي غير البترول، وقبله وبعده، وهو: إذلال هذه الأمة وضرب الصحوة الإسلامية.(74/15)
ضرب الصحوة الإسلامية
وقد نشر في يوم (11 من ذي القعدة) على لسان أحد المسئولين في الإدارة الأمريكية حين سئل: هل تتخوفون من قوة العراق الضاربة في المنطقة؟ فكانت الإجابة أن قال: 'لا، وذلك لأن العراق يشكل أكبر قوة في المنطقة لضرب الصحوة الإسلامية التي هي أخوف ما نخاف' وهذا موجود ومنشور، وقد ورد أيضاً في مجلة الحياة أن وزير الخارجية دوما يقال له: كيف كنتم مع العراق طوال السنوات الماضية؟ وما هو موقفكم الآن؟ ثم بعد ذلك سُئل عن توقعاته وغير ذلك، وأنا سآتي لكم بمجمل ما قاله، قال: 'موقفنا من العراق كان سلمياً سابقاً؛ وذلك لأنه أمر حتمي، حيث إنه كان يحارب الأصولية الإيرانية' ثم قال: 'أكثر ما يزعجنا الآن أن تتحالف القومية مع الأصولية الإسلامية في موقفها لتأييد صدام ' ولا شك أن من وقف مع صدام -وإن سمى نفسه داعية أو دعوة أو جماعة- مخطئٌ خطأً كبيراً جداً، إن لم نقل أكثر من ذلك، لكنَّ هذا ليس موضوعنا الآن، موضوعنا هو أن الغرب يقول: 'ما دام هناك جماهير أو حركات أصولية تقف الآن مع صدام، فالمشكلة موجودة' بمعنى أنهم يقولون: نحن ما تناقضنا؛ لما كان صدام يحارب الأصولية أيدناه، وحاربنا معه الأصولية الإيرانية، والآن الأصولية تقف مع صدام، فإذاً نحن نحارب صدام، وكلام واضح لمن يتدبره، فالقضية والهدف الأساسي أن الغرب يريد إذلال الأمة الإسلامية، وضرب الصحوة الإسلامية، واستنزاف المنطقة، لأنها منطقة مهيأة لقيادة الأمة منها.
والغرب صفى الحسابات فيما بين قواته، فـ روسيا الآن تابعة لـ أمريكا، وأساطيلها جزء من القوات التي دعت إليها أمريكا، وهذا أمر لا شك فيه عندنا، وكلهم علينا؛ قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] الشاهد: (بعضهم أولياء بعض) فـ أمريكا احتوت روسيا وأصبحت معها، ماذا يريدون؟! والمسألة تتعلق بـ الكويت، ومن شفقة أمريكا ورحمتها بـ الكويت تُخرج العراق منها، فهذا المظلوم يستغيث فتغيثه أمريكا! هل تعرف أمريكا شيئاً اسمه رحمة أو عطف أو إنسانية أو شفقة لغير الإنسان الأوروبي؟! انظروا إلى القضية من جذورها العميقة في الغرب وأوروبا.
منذ أن قامت الحرب العالمية الثانية إلى اليوم، هل سمعتم أن دولة أوروبية جيشت الجيوش على دولة أوروبية، أخرى؟ لم يحدث هذا أبداً، وفي نهاية العام القادم ستكون أوروبا دولة واحدة.
لمن تبنى هذه الحشود والأساطيل إذن؟! إذاً: لمن الأساطيل؟! ولمن الحشود؟! ولمن المليارات التي تنفق على التسليح وهم أصبحوا دولة واحدة؟! للعدو نحن الذين من أجلهم تحشد هذه الإمكانيات، جاءتهم هذه الفرصة أو خططوا لها، المهم الآن أنهم بدءوا يتوافدون، وسوف يتوافدون علينا بهذا الغرض، وأمريكا من أجل هذا الحدث البسيط أرغمت أسبانيا واليونان وتركيا على استخدام القواعد، وأخذت منها صلاحيات واسعة جداً في ذلك، واحتلت وطوقت المحيط الهندي، وبحر العرب، والبحر الأبيض المتوسط والمنطقة بكاملها، كل منطقة ابتلعت من أجل الكويت، فهم أناس يخططون على المدى البعيد!(74/16)
الثقة بنصر الله
نحن لا نقول هذا من باب الإخافة، بل كما قلت لكم: والله أننا كما نؤمن وكما نثق وكما نقسم أن الشمس ستشرق غداً فكذلك والله سيكون النصر لهذه الأمة، بإذن الله، لكن لمن؟! وعلى يد من؟! نحن نحتاج هذه الأمور الأساسية وهي: أن نذكر الناس بالله، وأن نربطهم به سبحانه، وأن يكف الشباب عن متابعة هذا الغثاء من الصحف ونشرة الأخبار، ونُعلِّم الناس كلهم بأن يرجعوا إلى القرآن، ونقول لهم: اعمروا المساجد، وكفوا عن هذا التبرج والفساد الذي في الأسواق، ومروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، وتوبوا إلى الله، بدلاً عما تشغلون به أوقاتكم من اللهو، واشغلوه بالجد وبالحق، فغيروا ما بأنفسكم يغير الله ما بكم {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].
غيروا ما بداخلكم تجدوا أن الله أذهب صدام بانقلاب عسكري أو غير ذلك، ثم بعد ذلك نجد أمريكا وهي العدو الأخطر والأكبر يذهبهم الله بما يشاء ويعيننا عليهم.(74/17)
أهمية التغيير لتحقيق النصر
لابد أن نغير ونبدأ من الآن، والملحمة مع الروم لن تكون سهلة، ولكن تكون سنة أو سنتين أوخمس أو عشر سنين، إنها ملحمة طويلة، ومعركة طويلة تحتاج أول ما تحتاج إلى أمة مؤمنة صابرة متقية؛ قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] أول شيء نفعله هو أن نصطلح مع الله، ثم نلغي الربا والفساد، ونلغي الباطل الذي يكون فيه الفاحشة والزنا الظاهر من التبرج وما إليه، ونلغي الغناء، والرشوة، نلغي الغيبة والنميمة والحسد والبغضاء التي انتشرت بيننا نحن المسلمين، نلغي كل نظام يخالف شريعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وليظل الحكم هو بكتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى شرع الله وإلى دين الله؛ بأن نتحاكم إليه في كل صغيرة وكبيرة حقاً، وليس مجرد شعاراً، نراجع أنفسنا: ماذا أذنبنا! وماذا أخطأنا؟ وماذا فعلنا؟ نتوب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(74/18)
أهمية الإعداد
ثم بعد ذلك نعد العدة ما استطعنا كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] هؤلاء البعثيون أعداء الساعة نعد لهم ما استطعنا وسنيصرنا الله عليهم، وأما الروم والغرب فهم أعداؤنا إلى قيام الساعة، كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنعد لهم أيضاً العدة، ونعلم أنهم لا بد أن يواجهونا يوماً ما، ثم نجعل جميع موازيننا لله عز وجل، إذا أعطينا نعطي لله، وإذا منعنا نمنع لله، وإذا غضبنا نغضب لله، وإذا رضينا نرضى لله.(74/19)
الاستمرار في معاداة المرتدين والكافرين
نحن الآن نخشى لو حلت القضية -ونحن نتمنى أن تحل القضية وتنتهي المشكلة- أن تعود الصداقة بيننا وبين هؤلاء المرتدين، وترجع العلاقات والصداقة والمحبة وكل شيء ومؤتمرات القمة الإسلامية والقمة العربية، وتعود المياه لمجاريها شيئاً وكأنَّ شيئاً لم يكن، فإذا كنا نلدغ من الجحر الواحد عشرات المرات، فنحن جديرون بما ينزل بنا، نسأل الله العفو والعافية! الكفار -أيضاً- نعاملهم بما أمر به الله من معاملة الكفار، وليس هم وحدهم البعثيين فإن هناك بعثيون في أماكن أخرى، وليس هم وحدهم مرتدين، إذاً: تكون موالاتنا ومعاداتنا في الله، ولذات الله، وفي هذه العقيدة، نتمسك بها، وإن متنا فسوف نموت ونحن متمسكون بها، وقد عملنا ما استطعنا، وأعددنا ما استطعنا، وإن عشنا فالنصر لنا بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(74/20)
المفاهيم والقيم وأثرها في النصر والهزيمة
تأكدوا أن الله سوف ينصرنا، إن لم يكن جيلنا هذا الذي هو جيل المعاصي، فسيكون الجيل الذي سيأتي به الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، الجيل الذي سيتربى بعيداً عن العقد النفسية!! ماذا عندنا؟ عقدة إعجاب بالغرب، أو خوف من الغرب، أو إرهاب من الغرب انظروا إلى القضية الفلسطينية، أخ عزيز يقول لي: إنه ذهب في العطلة إلى هناك، وعنده ولد عمره خمس سنوات، لكنني لما ذهبت لزيارتهم لم أجده، فخرجت أبحث عنه في الشارع فوجدته وإذا به يحرق إطار سيارة ويرمي اليهود بالحجارة، يقول: والله ما علمته! وكل حياتي إنما هي هنا في السعودية! هذا الطفل ليس عنده عقد، ولا توجد عنده حكاية الهيلمان والجيوش التي لا تقهر من الغرب والأساطيل، هذا الجيل سينتصر بإذن الله وإن قل العدد.
وعندما جاءت الحملة الصليبية الأولى، كان عدد الذين فتحوا أنطاكية واتخذوها أول مستعمرة لهم خمسة آلاف من الصليبيين فقط، لكن الأمة كانت مشغولة بالشهوات، وفرقتها العصبيات، وفرقتها الفرق والطوائف الضالة بالطرب، وكان أغلى شيء في تلك الأيام وأغلى سلعة في السوق: الجارية أو المغنية، ويصل سعرها إلى عشرة آلاف دينار، وإلى مائة ألف دينار، أمة كبيرة وضخمة جداً ومواردها هائلة، وخمسة آلاف من الصليبيين يذلونها ويرغمونها، لكنهم في الحملة الثالثة كان عددهم ثلاثمائة ألف صليبي من جميع دول أوروبا جاءت وهُزمت بعد خمسين سنة تقريباً، لأنه ولد جيل وظهر جيل لا يعرف إلا الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وما عنده ذلك الفسق والفجور واللهو والمجون الذي كان عند أولئك.(74/21)
كيف نواجه أزمة الخليج
إذاً: نقول -يا إخوان-: ما يحتاج أن نذكركم ونكثرمنه وهي نصيحة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وللمسلمين خاصتهم وعامتهم، أوجهها من هذا المكان، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن تبلغ إلى كل من ينفعه الله بها: إن الحرب أولاً هي مع أنفسنا، والصلح أولاً هو مع الله، لابد أن نحارب هذه النفوس وهذه الشهوات، هذه النفس الأمَّارة بالسوء، ونصطلح مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونتوب إلى الله، ونعيد لأهل الدعوة قيمتهم واعتبارهم، نعيد لرجال الهيئات قيمتهم واعتبارهم، ونعيد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قيمته، ونعيد لكل أمر من أمور ديننا من الحق والخير والفضيلة قيمتها واعتبارها، ونكف عن كل المعاصي، وغيروا وانظروا ماذا سيكون؟! والله ليغيرن الله هذا الحال، وليكونن لنا نصرٌ عظيم جداً نفتخر به مدى الأزمان، ونظل نقول: الحمد لله الذي جاءنا بهذه المشكلة، غَيَّرْنا فَغَيَّرَ الله أحوالنا، وغير حال العالم وجعلنا هداة مهتدين، ثم نفرح إذا تحولت إلى نعمة عظيمة جداً.
أما إن بقينا على حالنا، وتعلقنا بالأسباب المادية، ونظرنا إلى الأمور بنظرة مادية، ونسينا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، واستمر صاحب الغناء في غنائه، وصاحب المنكر في منكره، ومحلات السياحة تسيح، ومشاغل الخياطة تعمل في فسادها وفي تعريها، ولا مُنْكِرَ، وتارك الصلاة تارك لها ومستمر، وتحويل تسجيلات غناء إلى تسجيلات إسلامية أيضاً ممنوع، وما غيرنا من ذلك شيئاً، ومن أراد أن يتوب أيضاً لا يجد من يشجعه، فإذا بقينا كذلك، فالعذاب قائم، ونعوذ بالله أن يأخذنا! وكل ما في الأمر أن نقول ونسأل الله ونتضرع إليه كما أمر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وإذا وقعت العقوبة والفتنة فنسأله أن يتوفانا إليه غير مفتونين، وإلا فلن نسلم! ولذلك أقول: لابد أن نتوب، ونلقى الله ونحن على التوبة، ونحن على إيمان، ونحن قد أعذرنا إلى الله.
واجبكم -يا إخواني- عظيم وكبير ولا يستهان به، لا تقل: ماذا أفعل؟! أنت تتكلم، وهذا يخطب، وهذا يعظ في مجالس الناس، أو في أي مكان يذكرهم بالله، يذكرهم بأن المؤن التي نقصتنا هي مؤن الإيمان والتقوى، فلا نتكالب على الرز وعلى البضائع وعلى ماله علاقةٌ بالمأكل والملبس، فلو آمنا بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما شحت المؤن كما ذكر تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96].
لكن لما عارضنا وعصينا، حصل لنا النقص، نقص في الوظائف، وفي العملة، وفي الأرزاق، وهذا بذنوبنا، فنعلم الناس هذا في كل مجلس ونذكرهم، والآن لا يوجد أحد إلا وهو يتكلم في القضية؛ الصغار والكبار، لماذا لا نذكرهم، ونعظهم، ونعظ أنفسنا قبلهم؟ ونقول كلمة الحق، الكلمة التي سيحاسبنا الله عليها، يجب أن نقولها وهي خير لنا وخير للأمة، وخير والله لكل من يسمعها، ونحن نعلم -إن شاء الله- أننا لا نقولها ونريد أجراً عليها، ولا نقولها لنبتغي بها دنيا من الناس أو نريد منهم شيئاً.
لكن ما نقولها إلا خالصة لوجه الله، ونصيحة كما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ليتذكر من تذكر، وليتعظ من يتعظ، فإن أبوا قلنا: معذرة إلى الله؛ فنكون نحن أعذرنا أمام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فهل ترون أنفسكم معذورين أمام الله؟ كل منا يسأل نفسه وإذا كان واحد معذوراً أمام الله فجزاه الله خيراً.
أما أنا فأقول: لا أحد منكم معذور، حق علينا ألا ننام هذه الأيام، وألا نهنأ بأكل ولا شرب، ليس والله لأننا نخاف من الموت أو لأن هؤلاء سينتصرون، لا والله، لكن لأن الله سيسألنا عن العلم الذي لم ننشره، وعن الدليل الذي لم نبلغه، وعن الحق الذي لم نصرح به، ولم نقل إلا بعضه، وربما لم نقل شيئاً منه؛ ولو تحرك العلماء والقضاة والمسئولون كلٌ بحسب مسئوليته، وأخبرونا جميعاً من فم واحد بوجوب التضرع والتوبة والإنابة والاستغفار، وأن هذا هو سبب البلاء كما ذكر الله في القرآن؛ والله لتغيرت أحوالنا، ونعذر إلى الله فعلاً.
فالمسألة ليست مجرد كتابات، يكتب هؤلاء ويكتب هؤلاء، وليست هي مجرد حرب مادية أيضاً، فيقلق هؤلاء ويقلق هؤلاء، هذه حرب طويلة الأمد.
أقول إن القضية ليست قضية مؤقتة، ولا نهايتها قريبة كما يظن البعض، وإن كنت لا أتوقع أنا ضربة قريبة -والله أعلم- لكن أرجح أنه لن تكون هناك ضربة قريبة لا من هذا ولا من هذا، وإنما سيكون الحصار والإنهاك، وهذا يعزز مواقعه، وهذا يعزز مواقعه، البعثيون يحكمون قبضتهم على الكويت، والغربيون يحكمون قبضتهم على الرقعة بأكملها، ثم بعد ذلك سوف يأتي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالفرج من عنده.
ولن ينبع الأمل ولن ينبع الفرج إلا من هذا الشباب الطيب المؤمن، إن اتقى الله وعرف واجبه في هذه الأحداث، وبدأ بالمرحلة الأساسية الأولى، ثم انتقل إلى المرحلة الثانية ثم الثالثة حتى لو لم يكن إلا بعد مائة سنة أو مائتي سنة -الله أعلم- لكن المهم: لا بد من يوم ما يتواجه فيه المؤمنون مع هؤلاء الكافرين، لابد! وفي ظل الظروف الآنية نحن نحتاج الموضوع الأول والقاعدة الأولى فقط؛ لأن عليها يبنى كل شيء، وتجاوزها إلى أي شيء آخر خطأ وغلط، ولا يصح أن يقر بأي حال من الأحوال، ومن أراد الأدلة فهي أكثر من أن تحصى.(74/22)
خطأ من أجاز الاستعانة بالكفر
هناك مشكلة أخرى خطيرة جداً، وإننا لا يمكن ولا يجوز أن نسكت عنها، وهي الاستدلال بأدلة غير صحيحة لا تؤدي إلى المطلوب، هذا لا نقوله دفاعاً عن أموالنا -بغض النظر عن رأينا في أي حدث من الأحداث- لكن دفاعاً عن ديننا، ولئلا يفترى على الله، ولئلا يُكْذَب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولئلا يقال على الله غير الحق، ولئلا يظن أحد أن ديننا هذا هزل، هناك من تكلم واستدل ببعض الأمور، فأخطأ الاستدلال، فيجب أن يبين خطؤه، وسوف أوجزها في الآتي:(74/23)
استعانة الرسول بعبد الله بن أريقط
أولاً: الاستدلال بحديث أو بموضوع عبد الله بن أريقط وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعان به واتخذه دليلاً إلى المدينة، نقول: إن هذا من باب استئجار الكافر، واستئجار الكافر ليس فيه شيء، والبيع والشراء مع الكفار جائز وهذا متفق عليه، لكن الشركة مع الكفار هل تجوز؟ لا تجوز على القول الصحيح؛ لأن الشركة مشاعر مشتركة بينك أنت والكافر، فمشاعرهم واحدة رأيهم واحد، تأويلاتهم واحدة، فلا تجوز الشركة، لكن الاستئجار هذا سواءً كان استئجار عين أم استئجار منفعة معينة، هذا جائز لأنه ليس على كل شيء كالشركة، والإجارة هي أقرب إلى البيع لكنها بيع مؤقت، واستئجار الكافر ما قال أحد: إنه حرام، فلا يصح أن يستشهد به على مسألة لا يدل ذلك عليها.(74/24)
معاهدة النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود في المدينة
أهل المدينة أو سكان المدينة الأصليون هم اليهود من جهة، والأوس والخزرج من جهة، والبديل والطارئ على المدينة هو الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمهاجرون، فهم جاءوا ودخلوا المدينة، فكأنهم في نظر أهل المدينة محتلون، واليهود والمنافقون كانوا يقولون: "أكرمناهم وآويناهم"، "سمن كلبك يأكلك"، هكذا قال عبد الله بن أبي ثم قال: 'والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل' فنحن آويناهم والآن ارتفعوا علينا! فهذا هو الشاهد: أهل المدينة الأصليون هم اليهود والأوس والخزرج، وأما المهاجرون ومعهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهم طارئون على المدينة فكأنهم جاءوا واحتلوها، ثم جاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكتب المعاهدة، ومن ضمن ما كتب: أن الأمر في المدينة كله -الأمر والنهي- مرجعه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا شيء مهم جداً، أي: أن شرع الله هو الحاكم على الجميع، وإذا داهم المدينة عدو، فإن الدفاع -كما نسميه نحن الآن- يكون من الجميع، فهل يعقل أن يتصدى المهاجرون والأنصار للعدو، واليهود قاعدون آمنون، وهم من أهل البلد، وهم مواطنون؟! ولذلك فهي مسألة تختلف تماماً عن المسألة التي نحن نتحدث عنها.(74/25)
عدم مشاركة المشركين في المعارك مع الرسول
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يستعن بالمشركين في أية معركة من معاركه أبداً! ولذلك جاء في بيان هيئة كبار العلماء: أن الأمر يرجع إلى الضرورة، والضرورة لها أحكام ولها تفصيل، وليس هذا موضوعنا، لكن موضوعنا نحن فقط هو من ناحية علمية بحتة، فنقول: لم يستعن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمشرك في أي حرب من الحروب، بل في صحيح مسلم {أن رجلاً جاء فقال: أريد أن أحارب معك، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارجع فإنا لا نستعين بمشرك} وهذا حديث صحيح.
أما ما نسب إليه مما ذكره الشافعي رحمه الله أو سعيد بن منصور، أنه استعان ببعض يهود خيبر، فهذا الحديث غير صحيح، ولم يستعن بهم وإنما استعمل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يهود خيبر، أي: استخدمهم في الأرض وجعلهم رقيقاً، أما أنه استعان بهم، أي: حارب بهم أو سهم لهم فلا.(74/26)
استعارة الرسول دروعاً للحرب من المشركين
السؤال
هل استعار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دروعاً من الكفار؟
الجواب
أولاً: لا! فالحديث الصحيح في سنن النسائي وغيره، وهو بسند صحيح لا شك في صحته أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعار من يعلى بن أمية، ويعلى بن أمية صحابيُّ جليلٌ مسلم والحمد لله، لكن ورد في روايات موجودة في السنن والمسند وفي بعض الكتب أنه استعار من صفوان بن أمية وهو مشرك، ولو صحت رواية صفوان كنا سنقول بذلك، لكن الصحيح أنه استعار من يعلى، وليس من صفوان.
ثانياً: على فرض صحة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعار دروعاً، نقول: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحكم الجزيرة العربية، وهو قائد الأمة، وولي الأمة، وجيشه اثنا عشر ألفاً، ولذلك قالوا: لن نغلب اليوم من قلة؛ كما أخبر الله عنهم بقوله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة:25] فكانوا جيشاً عرمرماً، والجيش المسلم قد يستعير من فاجر، أو يأخذ من فاجر أو من تجار الكفار دروعاً، وهذا ليس ممنوعاً، هذا لو صحت الرواية، مع أنها ما صحت، لكن نقول فرضاً، الدولة المسلمة يجوز لها أن تشتري من أحد الكفار أو تستعير منه وليس في ذلك شيء، لكن هل هذا يدل على أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعان بالكفار أو حارب معه الكفار الآخرون؟ نقول هذا براءةً للذمة؛ لأنه لا يجوز مهما كانت الظروف والضغوط التي علينا أن نبرر لأنفسنا بدليل غير صحيح، لا يصح أن نستدل به في وقت الضرورة، والضرورة مثل الميتة، الميتة أكلها حرام، ولا يوجد دليل يقول: الميتة حلال، لكن في حال الضرورة يجوز أكل الميتة ولا خلاف بين العلماء في حلها عند ذاك.
إذاً: متى تكون الضرورة؟ أو هل هي ضرورة؟ فهذا شيء آخر، لكن هل نستدل بدليل ضعيف أو موضوع على شيء؟ لا، فهذه وسيلة في الاستدلال غير صحيحة.(74/27)
الاستدلال بحديث: (تصالحون الروم)
قد ذكرنا هذا الحديث من قبل، وهو حديث: {الروم وتقاتلون معهم عدواً من ورائهم، فتسلمون وتغنمون، ثم ينقضون} وليس في هذا دليل؛ لأن هذا إخبار عن حال وعن واقع يخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أمر سيقع، فيقول: أنتم ستفعلون، فهذا لا يدل على أنه حق، وقد يكون هذا بدعة أو يخرج عن الأدلة الشرعية، لكننا سنفعله، وفي النهاية سينقض الروم العهد فيكون القتال.
على كل حال العلماء ذكروا أنه إذا كنا في عهد مع عدو، وكنا نأمن غائلتهم، وبشرط أن يمكننا أن نغلب كل منهم على حِدَةٍ، ففي هذه الحالة يجوز، وهي حالات لا أريد أن أدخل في تفاصيلها.
مثلاً: أتينا نحارب الفرس، فأتى الروم بيننا وبين الفرس، الروم أيضاً يكرهون الفرس، قالوا: ما رأيكم في أن نحارب معكم، فنقول لهم: أنتم تعالوا من الغرب، ونحن نأتي من الشرق، ونحن نعلم أننا نستطيع أن نغلب الفرس لو حاربناهم وأن نغلب الروم، وأنهم لو اجتمعوا علينا الاثنين أيضاً لغلبناهم، وهذه الحالة أصبحت حالة تكتيكية -والجرائد اليوم علمونا عبارات استراتيجية أو تكتيكية، والتكتيكية تعني: عملاً لا يدخل في صميم الأسس، فهذان عدوان أمامنا، أنا أستعين بهذه، أقول: تحرك أنت من هنا، وأنا من هنا، ونقضي على هذا العدو، لكن نحن لو حاربناهما جميعاً نستطيع أن نغلبهم، فهذه حالة ذكر الفقهاء أنه يمكن أن تستعين فيها بكافر أو يعينك كافر في القضاء على عدو آخر.
والمقصود: أننا حتى مهما كانت الضغوط يجب أن نتقي الله، إذا قلنا قال الله، أو قال رسول الله، أو هذا من الدين، أو هذا يجوز وهذا لا يجوز.
ويكفي أن نقف عند كلام هيئة كبار العلماء، فقد قالوا: إنها ضرورة، والضرورة لها أحكامها، وأنا لا أتكلم في هذا الآن، لكن نقول: إن أي دليل آخر فإنه غير صحيح.(74/28)
السخرية من المتدينين وتخويفهم
قالوا: إن الكمامات الواقية لا يمكن استخدامها مع اللحية! بمعنى أنها لن تنزع، وهذا قد نشره اليهود، وهذا الكلام تكلم به مسئول في الحاخامية اليهودية -المقر الديني لليهود في إسرائيل- فقال: يجب أن تصحبوا ومعكم مقصات؛ لأنه في حالة كشف الكمامات الواقية، قد يحدث هجوم كيماوي ويختنق كل الناس.
ومع الأسف إسرائيل التي سكانها يمكن أن يكونوا خمسة ملايين أو أربعة يمكن أن تجند مليون جندي في خلال أربع وعشرين ساعة! الجيش جاهز، والاحتياط جاهز، والكمامات جاهزة، وكل شيء جاهز! أمة تعيش الحرب، وتعيش حالة الحرب؛ مع أن الانتفاضة تؤرقها من الداخل، ومع أن اقتصادها منهك ومنهار من الداخل، مع أن مجتمعها متفكك ومكون من عدة تجمعات وبها مشاكل كثيرة، لكنها مستعدة في خلال أربع وعشرين ساعة أن يكون بينهم ما يقارب المليون جندي لديهم الجاهزية لأي حرب؛ لذلك وُجِدت إسرائيل، لا لأن اليهود كرماء على الله وأورثهم الله الأرض، لا، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] فهل أمريكا صالحة واليهود صالحين؛ ولذا أورثهم الله الأرض؟! لا والله، ولكنهم اتخذوا الأسباب المادية، وغيرهم تركوا الأسباب المادية والمعنوية، وتركوا أعظم الأسباب وهو الإيمان، فلذلك كان هذا حالهم، فكل إنسان في إسرائيل مدرب وقابل للتجنيد.
فهذا الحاخام اليهودي يسخر من المسلمين ويقول: ' أنتم يا أهل الدين حتى تتجندوا لابد أن يكون معكم مقصات حتى تلبسوا الكمامات' وعلى كل حال هذا من الإرجاف الذي استغله المنافقون، وبدءوا يتكلمون وانظروا في هذا الإرجاف كيف ينشر في الصحافة الإسلامية، ويتكلم الناس به في المجالس، وقد يقولونه على طريق المزح، وبعضهم يقولها على سبيل الاستهتار، فوصل بهم الاستهزاء بالدين إلى هذا الحد، وأقول: إن هذا يدلكم على أن مشكلتنا فعلاً هي مع الله، وليست مع الغرب ولا مع الشرق، نسأل الله العفو والعافية!(74/29)
خصائص أهل السنة والجماعة
تحدث الشيخ حفظه الله عن خصائص ومميزات أهل السنة والجماعة، فبدأ حديثه عن اختيار الله عز وجل لهذه الأمة من بين غيرها من الأمم، واختياره لهذه الطائفة على غيرها من الطوائف، وعرض خصائص ومميزات هذه الطائفة، ذاكراً منها: تمسكها بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرها على طريقه، والتزامها بالنصوص وعداً ووعيداً، ووسطيتها في الشرع والأحكام، وخيريتها المطلقة، مثبتاً تحقق هذه الصفات بالأدلة الشرعية.(75/1)
مميزات أهل السنة والجماعة
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فنحمد الله تبارك وتعالى الذي جعلنا جميعاً من أهل السنة وفي ذلك اصطفاء واختيار وتكريم من الله تبارك وتعالى لمن كان كذلك، ونحمده أن جمعنا لنعرف بعضاً من خصائصهم ومناقبهم العظيمة، التي ميزهم الله تبارك وتعالى بها على سائر أهل الإسلام.
تعلمون أن الله تبارك وتعالى يخلق ما يشاء ويختار، وقد اختار واصطفى أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سائر الأمم والملل يقول تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32] ويقول الله تبارك وتعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:110] ويقول الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] فهذه الأمة أورثت الكتاب، واصطفيت، وكانت خير أمة أخرجت للناس، وهي شاهدة على الناس يوم القيامة، حين يشهد عليها رسولها محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد اختص الله تبارك وتعالى واختار من هذه الأمة المصطفاة المختارة طائفة بعينها، هي في هذه الأمة كأمة الإسلام بين أهل الأديان وسائر الملل، وهذه الطائفة هي ما نسميه أهل السنة والجماعة، ولهذه التسمية مدلولها، وبها يتميز المنهج والخاصية العظمى لـ أهل السنة والجماعة، وكما أن سائر الأديان والملل نسخت بشريعة الإسلام وبدين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخاتِم، فكذلك بقية الفرق والطوائف المنتسبة إلى القبلة أيضاً هي في منزلة تلك الملل بالنسبة لهذه الطائفة، أي أن تلك الفرق والطوائف هي مفضولة بالنسبة لـ أهل السنة والجماعة، ثم يتفاوت مقدار ذلك الفضل.(75/2)
الاعتصام بالكتاب والسنة
أول ما يميزهم وأعظم خاصية لهم هي أنهم -كما هو واضح من اسمهم- يتمسكون بكتاب الله تبارك وتعالى، وبسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولاً وعملاً واعتقاداً ظاهراً وباطناً، فلا يأخذون دينهم واعتقادهم من مصدر غير كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كائناً ما كان ذلك المصدر، ولا يقدمون بين يدي الله ورسوله، ولا يرفعون أصواتهم فوق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يرضون أن يرفع أحد صوته فوق صوت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بأن يحدث في هذا الدين أمراً مخالفاً لأمره مجانباً لسنته إلا ويرفض ويرد عليه.
وبضدها تتميز الأشياء، فإذا قارنت بين هذا المنهج العظيم، وبين غيره من المناهج فإن الفرق يبدو جلياً وواضحاً، ولسنا بصدد تبيان تلك المناهج بالتفصيل، ولكن لو نظرنا نظرة إجمالية لوجدنا أن المناهج في الأصل هي ثلاثة: المنهج الأول: هو ذلك المنهج الذي ينحى المنحى العقلي، والذي يدعي بزعمه تحكيم العقل والمنطق والبراهين والنظريات العقلية.
والمنهج المضاد له: هو ذلك المنهج الذي يستقي ويستمد من الكشف، أو من الذوق والوجد، أو غير ذلك من المعايير غير العقلية كمعيار العاطفة، أو معيار الوجدان.
وبإيجاز نقول: إن المنحى الأول وهو منحى أهل الكلام عموماً من معتزلة وأشعرية ومن جرى مجراهم، يجعل الدين والإيمان والعقيدة فكرة عقلية، فالإيمان عندهم فكرة عقلية.
والمنهج المضاد الآخر هو منهج أهل التصوف والتنسك والتزهد غير المشروع، فهؤلاء يجعلون الإيمان والدين والعقيدة تجربة روحية.
ولهذا يصعب حصر الفريق الأول وكذلك الآخر؛ لأن العقول تختلف وتتباين، وكذلك التجارب الروحية الذاتية هي أكثر اختلافاً وأكثر تبايناً.
فميز الله تبارك وتعالى أهل السنة والجماعة بالرجوع إلى الكتاب والسنة، فعرفوا للعقل منزله ومكانته، وعرفوا للحقائق والأذواق الإيمانية الحقة قيمتها ومنزلتها، ولكن الحَكَمَ في ذلك كله هو النص من الوحي، من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:45].
ولم يوجد عند أهل السنة والجماعة تصور معارضة أو تضاد بين العقل الصحيح السليم وبين الوحي، ولا بين الذوق الإيماني الصحيح وبين الوحي، فضلاً عن أن يقولوا كما قال أولئك بأنه عند التعارض يقدم العقل، أو يقدم الكشف، أو يقدم أي شيء غير كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
بل إن من أصول أهل السنة والجماعة الثابتة أن أقوال أئمة أهل السنة والجماعة ابتداءً بالصحابة الكرام ومروراً بالتابعين، ثم الأئمة الأربعة والسلف الصالح أجمعين، -على جلالتهم وقدرهم وفضلهم- لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعارض بها نص من الكتاب والسنة على الإطلاق، فإنما هي بمنزلة بعد منزلة النص عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فلا يمكن أن يقدموا قول أحد كائناً من كان على قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن كان صحابياً ذا فضل، أو إماماً مجتهداً مع الاحترام والتقدير لأولئك الأئمة الكرام، فضلاً عن أن يقدموا عليه كلام أحد من المبتدعة الضالين أو أصحاب الكلام، أو أصحاب الأذواق والمواجيد والكشوفات الباطلة، وبهذا تميز منهج أهل السنة والجماعة بالعلم.
وهذا ينقلنا إلى الميزة الأخرى.(75/3)
العلم
فمنهجهم قائم على العلم، فهم في كل أمر وفي كل حكم يطلبون الدليل من الكتاب والسنة، ولهذا نجد أن علماء السنة أجمعين الذين كتبوا، وكذلك الذين لم يدونوا بل سبقوهم؛ نجد أنهم جميعاً من أهل السنة والجماعة، وأهل السنة والجماعة أكثر الطوائف حرصاً على السنة تدويناً لها وحفظاً، وإن وجد من غيرهم من يهتم بها فهو لخدمة هوى في نفسه أو ليخلط حقاً بباطل -ولا يسلم من ذلك- أما أهل السنة والجماعة فإنهم يهتمون بكتاب الله عز وجل حفظاً وتلاوة، ويهتمون بسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حفظاً وفهماً وتصحيحاً وتضعيفاً، فالحديث الضعيف -فضلاً عن الموضوع- لا يعتد به ولا يعمل به، فضلاً عن الكشوفات أو الآراء أو الخيالات أو المنامات التي يعتمد عليها غيرهم.
فهم إذاً يتميزون بالبصيرة وبالمنهج الصحيح، وهو منهج العلم المُتلقى عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بواسطة أولئك الرجال الثقات الذين لم تشهد أمة من الأمم على الإطلاق مثلهم في الحفظ والضبط والدقة والفهم والاستنباط.(75/4)
الوسطية
ومما يميز أهل السنة والجماعة ويختصون به دون غيرهم من الطوائف، أنهم أمة وسط، وهذه الوسطية تتجلى في أمور الإيمان والعقيدة جميعاً، فكما أن هذه الأمة -أي أهل القبلة عموماً- جعلها الله تبارك وتعالى أمة وسطاً، فـ أهل السنة هم وسط هذه الأمة وخيارها، وأصحاب المنهج الوسط في هذه الأمة، فلو أخذنا نضرب الأمثلة من أبواب العقيدة والإيمان باباً باباً لطال بنا المقام، ولكن نوجز ذلك بما يتضح به هذا المنهج القويم: فمثلاً في صفات الله تبارك وتعالى نجد أن الطوائف قد ضلت، فمنهم من أثبت وغلا في الإثبات حتى مثَّل الله تبارك وتعالى بخلقه، وهؤلاء هم أهل التمثيل أو التشبيه، وهؤلاء هم كما اعتبرهم السلف الصالح عباد صنم، لأنهم جعلوا صفات الله تبارك وتعالى مماثلة لصفات المخلوقين.
وفي المقابل نجد أولئك الذين نفوا صفات الله تبارك وتعالى، وغلوا في التنزيه -بزعمهم- حتى لم يثبتوا له تبارك وتعالى شيئاً من صفاته أو أنكروا بعضاً منها، وهؤلاء كما قال فيهم السلف: [[الممثل يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً]] فوصفوا الله تبارك وتعالى بالعدم (بالصفات السلبية).
كما نقول في صفة العلو -مثلاً- ونؤمن -نحن أهل السنة والجماعة - كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه أن الله تبارك وتعالى على العرش استوى، وأنه فوق جميع المخلوقات، فيقول هؤلاء -أي الممثلة -: استوى كالمخلوقين، ويقول أولئك -أي المعطلة -: لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا يميناً ولا شمالاً!! نعوذ بالله من الزيع والضلال.
وأما أهل السنة فهم وسط، فيثبتون لله كل ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الصفات إثباتاً لا تمثيل فيه، وينفون عن الله تعالى ما لا يليق به نفياً لا تعطيل فيه، من غير تحريف، ومن غير تكييف، هذا هو المذهب السليم الصحيح الذي عليه أهل السنة والجماعة جميعاً.
ولننتقل إلى باب آخر -فمثلاً- في باب الإيمان والأحكام والأسماء، نجد أن بعض طوائف الأمة قد غلت حتى كفرت من يرتكب ذنباً دون الكفر أو الشرك، وأخرجته من الملة، أو حكمت عليه بالخلود في النار، ونجد بالمقابل من استهان وفرط بالأمر حتى جعل أهل المعاصي والكبائر والفجور مؤمنين كاملي الإيمان.
فـ الخوارج وتبعهم في ذلك المعتزلة يقولون: إن مرتكب الكبيرة كافر كما تقول الخوارج، أو هو في منزلة بين الإيمان والكفر كما تقول المعتزلة، فغلوا في ذلك فجاءوا إلى كل ما ذكر الله تعالى أو رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المعاصي والكبائر كالزنا وشرب الخمر والسرقة وأمثالها، فجعلوا مرتكب ذلك كافراً خارجاً من الملة، مثل من عبد غير الله تبارك وتعالى، فهذا غلو، رغم أن هذا الغلو كانت تصحبه العبادة، ويصحبه الزهد في الدنيا -كما سيأتي إن شاء الله- فيما يتعلق بهذه الخاصية.
وأما المرجئة فإنهم قالوا: إن العبد إذا قال لا إله إلا الله، وشهد لله بالوحدانية وأقر لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرسالة فإنه مؤمن كامل الإيمان وإن عمل ما عمل، وأنكروا أن الإيمان يزيد وينقص، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، فكلاهما خرج عن الجادة الصحيحة وعن الصراط المستقيم، وعما جاء صريحاً في كتاب الله وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومما هو معلوم -كما لا يخفى على أحد يقرأ كتاب الله عز وجل- أن الله تبارك وتعالى فرق في الحكم بين من يشرك به ويعبد غيره، وبين من يرتكب شيئاً من هذه المعاصي، كما فرق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأدلة كثيرة لا تحصى فهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجم الزاني، وقطع يد السارق، وجلد شارب الخمر.
فلو كانت كل هذه الذنوب ردة وكفراً كالكفر الأكبر الذي هو الخروج من الملة؛ لكان حكم هذه الذنوب واحداً ولا تفريق بينها، وأيضاً نقول للمرجئة: لو كان العاصي والفاجر كامل الإيمان؛ فما معنى تلك الآيات العظيمة التي جاءت في صفات المؤمنين، وفي بيان أحوالهم وصفاتهم وما يتميزون به عن غيرهم، وتلك الآيات القطعية من كتاب الله تبارك وتعالى في بيان أن الإيمان يزيد وينقص، وما جاء كذلك في سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فوفق الله تبارك وتعالى أهل السنة فكانوا أمة وسطاً بين هؤلاء وأولئك.
وإذا انتقلنا إلى باب آخر من أبواب العقيدة والإيمان، وهو باب القدر الذي ضلت فيه العقول والأفهام التي ابتعدت عن كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووفق الله تبارك وتعالى أهل السنة والجماعة فكانوا على الجادة والصراط المستقيم فإن القدرية -أي الذين نفوا القدر ولم يثبتوه- غلوا في تحميل العبد للمسئولية عند فعل المعصية، فقالوا: العبد مسئول عما يفعل من المعاصي، وغلو في ذلك حتى قالوا: إن الله لم يقدر عليه هذه المعاصي ولم يخلقها فيه! ثم غلوا حتى جعلوا جميع أفعال العبد هو الذي يستأنفها من عند نفسه، والله تبارك وتعالى لم يكتبها ولم يقدرها عليه!! وغلا بعضهم فقال: لم يعلم بها إلا بعد وقوعها! -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراًً- كل ذلك غلو وجموح عن الصراط القويم.
فقابلتهم الجبرية فقالوا: لا حيلة للعبد ولا إرادة له ولا اختيار، وغلو في إثبات القدر -بزعمهم- حتى آل بهم الأمر إلى أن جعلوا الإنسان كالريشة في مهب الريح لا إرادة له ولا اختيار، فكل الأمور بالقدر، وكل شيء قدره الله، حتى إذا فعلوا المعاصي وانتهكوا حرمات الله قالوا: هذا بقدر الله وليس لنا في ذلك أي ذنب، فهؤلاء وهؤلاء في ضلال مبين.
ووفق الله تبارك وتعالى أهل السنة والجماعة فتمسكوا بصريح القرآن والسنة، فأثبتوا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الخالق لأفعال العباد كما أنه الخالق لكل شيء لقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] وفي نفس الوقت أثبتوا أن العبد هو الفاعل، فالعبد هو الذي يفعل أفعاله كما هو في كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8] فالعبد هو الفاعل والله تعالى هو الخالق، والعبد يفعل بمقتضى مشيئةٍ وإرادةٍ خلقها الله تعالى فيه وأعطاه إياها، ولكن كما قال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30].
فالمشيئة التي تنفذ وتتحقق ولا يردها شيء هي مشيئة الله تبارك وتعالى، والعبد مع أن له مشيئة يتصرف بها ويكون مسؤولاً عما تمليه عليه من الأعمال؛ إلا أن هذه المشيئة لا تكون إلا بعد مشيئة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكل ذلك في علمه تبارك وتعالى، فهو كما صرح في القرآن وفي الحديث قد كتب مقادير كل شيء عنده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12] وكتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة -كما جاء ذلك في الحديث الصحيح.
فـ أهل السنة والجماعة لا يردون أي آية ولا حديث في القدر بحجة أنه يؤدي إلى الجبر، أو يؤدي إلى نفي مسؤولية العبد، بل يوقنون بالجميع، وأما أولئك فإنهم لا بد أن يردُّوا تلك الأدلة فـ القدرية النفاة يردون كل حديث أو آية تدل على إثبات القدر، أو -بزعمهم- تدل على الجبر كقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
وكالحديث الصحيح المتفق عليه في محاجة آدم وموسى عليهما السلام {فقال موسى لآدم: أنت أبونا الذي أخرجتنا من الجنة، فقال آدم عليه السلام: أنت موسى الذي اصطفاك الله تعالى برسالته وبكلامه، أتلومني على أمر قد كتبه الله علي قبل أن يخلقني بأربعين عاماً، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى}.
وكذلك حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه وهو المسمى حديث الصادق المصدوق الذي يقول في أوله: حدثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق {إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله تعالى الملك فينفخ فيه الروح، ويأمر بكتب أربع كلمات: رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها} فأنكروا هذا الحديث، وأنكروا كثيراً من الأحاديث رغم ثبوتها وصحتها، لأنها -بزعمهم- تفضي إلى الجبر.
كما أن أولئك الجبرية أنكروا كل ما يدل على استقلال العبد بفعله، وأنه هو الذي يفعل، وبذلك أنكروا كل ظواهر القرآن الصريحة في أنه هو الذي يعمل كقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5 - 10] فأنكروا أن العبد هو الذي يعطي أو يصدق أو يكذب أو يبخل، وجعلوا الفعل كله لله تبارك وتعالى.
والمقصود أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وفَّق أهل السنة والجماعة فآمنوا بكل الآيات وبكل ا(75/5)
هم الفرقة الناجية
ومن خصائص أهل السنة والجماعة التي لا يشاركهم فيها غيرهم أنهم موعودون بالنجاة من عذاب الله تبارك وتعالى يوم القيامة، وذلك مبني على أنهم هم الطائفة المهتدية التي ثبتت على الصراط المستقيم في هذه الحياة الدنيا، وأن غيرهم متوعد بالهلاك وبالعقوبة في الآخرة.
وعندما نقول: إن أهل السنة موعودون بالنجاة، وأن غيرهم متوعد بالهلاك، فلا يعني ذلك أن كل فرد من أهل السنة والجماعة هو ممن يدخل الجنة ابتداءً، كما لا يعني ذلك أن كل فرد من غير أهل السنة والجماعة لا يدخل الجنة انتهاءً ولا يدخلها أيضاً ابتداءً، ولكن من حيث الجملة أهل السنة موعودون بالنجاة، ومن حيث الجملة أهل البدع متوعدون بالهلاك، ثم طوائف من أهل البدع ممن خرج عن الملة فهذا حكمه حكم المشركين والمنافقين من أهل النار خالداً فيها مخلداً - نسأل الله السلامة والعافية - ومن كان غير ذلك فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ينصب الموازين يوم القيامة، وتوضع حسناتهم وسيئاتهم في كفتي الميزان؛ فما رجح منها فإن الله تعالى لا يظلم أحداً، فهم يدخلون في أهل الكبائر الذين قد تنالهم شفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابتداءً، وقد تنالهم بعد دخول النار فيخرجون منها.
أما أهل السنة والجماعة فمن كان منهم تام الاهتداء في الدنيا؛ فهو تام النجاة في الآخرة كما قال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، فمن كان منهم تام الاهتداء في الدنيا، تاركاً للظلم الذي هو الشرك -وليس من أهل السنة والجماعة مشرك- وتاركاً للظلم الأصغر الذي هو الذنوب، ومجتنباً للكبائر فهذا يكون ناجياً النجاة الكاملة يوم القيامة.
وأما من كان من أهل السنة والجماعة ولكنه على معصية من المعاصي كالزنا أو السرقة أو شرب الخمر أو ما أشبه ذلك؛ فإنه يدخل في الوعيد الذي توعد الله به من فعل ذلك، ولكنه مع دخوله في الوعيد فإن الشفاعة له أرجى -بلا شك- ممن كان من أهل الكبائر من غيرهم؛ فمن كان من أهل السنة والجماعة فهو أرجى وأقرب إلى رحمة الله تبارك وتعالى من غيرهم، وإن كان للآخر على بدعته فضل أو جهاد أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر فإنه يوزن له في الموازين فأيهما رجح كان له سعادته أو شقاؤه.
كما جاء في الحديث: {افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هم يا رسول الله قال: الجماعة} وفي رواية {من كان على ما أنا عليه وأصحابي}.
فهذا الوعيد لأهل الفرق الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، والذين خالفوا وصية الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى العاشرة في سورة الأنعام بقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] فالذين خالفوا هذه الأوامر وغيرها فإن الوعيد يشملهم، فهم من الاثنتين والسبعين الذين هم متوعدون بالنار {كلها في النار إلا واحدة} هذه الواحدة هي الجماعة وهي أهل السنة والجماعة، وهي من كان على مثل ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه.
فبذلك يبين لنا معنى الوعد الذي وعد به أهل السنة والنجاة التي لهم بالجملة، ومعنى الوعيد الذي لغيرهم، والذي هم متوعدون به في الجملة.
وهذا أيضاً ينقلنا إلى قضية المفاضلة بين أهل السنة والجماعة وغيرهم، وهو أن يقال: إن في غير أهل السنة من أهل البدع التي لا تخرج من الملة، لا سيما الشبه العلمية التي قد تخفى على بعض الناس كشبهة القدرية أو شبهة الإرجاء غير الغالي- هؤلاء الناس فيهم من العبادة والزهد والجهاد الشيء الكثير، ولكن نقول: من حيث الجملة: ما من خير ولا حسنة عند غير أهل السنة إلا ولـ أهل السنة من ذلك النصيب الأوفر والكمال في هذه الصفة وفي هذه الخصلة.
وأهل السنة والجماعة منهم المجاهدون، ومنهم القراء، ومنهم العلماء، ومنهم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، ومنهم الحافظون لحدود الله، ومنهم كل أهل المناقب والفضل في هذه الأمة، فخيريتهم مطلقة، وأما غيرهم فإن شاركهم في شيء من هذه الخيرية فإن في أهل السنة والجماعة من هو أكثر منه خيرية ويكون له الفضل الأوفر والنصيب الأكبر، وما كان من سيئة عند بعض أفراد أهل السنة والجماعة، أو معاصٍ فإنه يوجد في أهل البدعة مثلها وأكبر منها.(75/6)
أنهم يدخلون في الإسلام كله
وأهل السنة والجماعة وسط -أيضاً- حتى في أسلوب حياتهم العملي، فمن أهل السنة والجماعة من كان يلي القضاء، ومن كان يلي بعض المناصب، ومن كان -أيضاً- ذا مال وسعة وفضل، وفي أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأسوة الكاملة؛ فكان فيهم أهل الثراء وأهل اليسار والغنى، كما كان في أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أيضاً- أهل الفاقة والفقر، وأهل الصبر والزهد، وكان في أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل العبادة والذكر، كما كان فيهم أهل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي من تميز بهذه الصفة دون غيرها من الصفات الأخرى.
ثم حصل لمن بعدهم الاضطراب في ذلك؛ فإن فئةً مالت إلى الدنيا وركنت إليها، ولم تتحرج في قبول أي ولاية ولم تتحرج في قبول أي منصب ولا في التوسع في الدنيا والأخذ منها، وقالوا: هذه خيرات وطيبات أحلها الله لنا، فاتسعوا في ذلك اتساعاً أخرجهم عما كان عليه السلف من التقلل من الدنيا والرغبة في الآخرة، وصدق التوجه إلى الله تعالى، ومنهم طائفة مالت إلى العكس فأخذوا بالزهد والتنسك وترك متاع الحياة الدنيا، حتى إنهم حرموا الطيبات، أو على الأقل نظروا إلى من أخذ شيئاً من الطيبات بأنه خارج عن الصواب وعن جادة الحق.
وتوسط أهل السنة والجماعة في هذا الأمر يدلنا على خاصية عظمى يتميز بها أهل السنة والجماعة وهي أنهم يدخلون في الإسلام كله، ويجمعون الدين كله، وأما غيرهم فإن حاله كحال النصارى الذين قال الله تبارك وتعالى فيهم: {فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:14] فهؤلاء نسوا حظاً مما ذكروا به {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة:14] فوقع بينهم التنازع.(75/7)
انتسابهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومن أعظم ما يميز أهل السنة والجماعة ومن أهم خصائصهم وأجلاها: أنهم منتسبون إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو سألت أي طائفة من الطوائف: إلى من تنتمون؟ ومن أول من أظهر أو من أنشأ عقيدتكم؟ لأخبروك عن رجل ما، إلا أهل السنة والجماعة فإنهم يقولون: هذا ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه.
فلو نظرنا إلى الخوارج لوجدنا أنه رجل ما، وأنهم خرجوا في زمان علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه حين التحكيم.
والمرجئة خرجت بعد ذلك، ولم يكن من الصحابة رضي الله تعالى عنهم خارجي ولا مرجئي فضلاً عن أن يكون فيهم رافضي.
والرافضة أخبث من الخوارج ومن المرجئة، فـ الرافضة أول من أنشأ أو أسس مذهبهم هو رجل يهودي يسمى عبد الله بن سبأ ثم هم يزعمون أنه منهج أو مذهب جعفر الصادق.
والمعتزلة لو سئلوا لقالوا: عمرو بن عبيد أو واصل بن عطاء هو الذي أسس المذهب، والتاريخ شاهد بذلك، وهكذا لو نظرنا إلى أهل الكلام أيضاً نجد أن أصولهم تنتهي إلى أهل الاعتزال.
والصوفية يقولون: الجنيد سيد الطائفة، وإن تعمقوا قليلاً قالوا: الحسن البصري.
والأشعرية يقولون: نحن ننتمي إلى أبي الحسن الأشعري -قبل أن يتوب-.
وهكذا كل طائفة تنتسب إلى رجل ما، ظهر في وقت من الأوقات، ولكن أهل السنة والجماعة لا ينتسبون إلا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا يقال لهم أهل السنة سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يقال: إن أول من أوجد مذهبهم أو أنشأه أو أسسه فلان، بل ليس في مذهبهم أي شيء مما أسس، وإنما هو مذهب اتباع لا ابتداع، فلا يوجد أصل من أصول الدين في مذهب أهل السنة والجماعة إلا وهو مأخوذ من كتاب الله ومن سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن وجد غير ذلك وسمي أصلاً فهذا عند أهل البدعة، أما عند أهل السنة فهو بدعة محدثة، ولا يكون من الدين أبداً، ما دام أنه قد وقع بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعد أصحابه.
والمميزات كثيرة، وهذه ليست كل خصائص أهل السنة والجماعة ولا كل مميزاتهم؛ وإنما هي بعض منها، ذكرناها بإيجاز شديد، نظراً لضيق الوقت، والعبرة العظمى التي تفيدنا جميعاً نحن المسلمين هي أن نؤمن بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على منهج السلف الصالح أهل السنة والجماعة، وأن نتمسك بذلك قولاً وعملاً ونعض عليه بالنواجذ، ونعلم أنه لا نجاة لهذه الأمة ولا خير ولا فلاح في الدنيا ولا في الآخرة إلا أن تكون على هذا المذهب السليم القويم، ويتمسكوا به قولاً وعملاً وجهاداً ودعوة، كما فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه والسلف الصالح الكرام الذين ثبتوا عند المحنة، والذين جددوا الدين.
والذين من أبرزهم الأئمة الأعلام كالإمام أحمد رحمه الله تعالى، وشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في العصور الوسطى، ثم شَيْخ الإِسْلامِ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في العصر الأخير، وكل من سار على نهجهم وهم كثير -ولله الحمد- فهؤلاء معقود لهم لواء النصر إلى يوم القيامة، كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم أيضاً موعودون بالنجاة في يوم القيامة عند الله تبارك وتعالى كما أخبر بذلك الصادق المصدوق.(75/8)
الأسئلة(75/9)
توقير أهل البدع
السؤال
هل من مذهب أهل السنة والجماعة أن يكنوا لصوفي أو معتزلي أو أشعري شيئاً من الاحترام أم ينبغي علينا ألا نحترمهم؟
الجواب
روى اللالكائي وغيره بأسانيد صحيحة عن أيوب وغيره من السلف ومن التابعين أنه قال: [[من وقرَّ صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام]]؛ لأن توقير أهل البدع هو رفع لشأن البدعة، وهدم لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقديم بين يدي الله ورسوله، ورفع لصوت أحد من الناس فوق صوت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا لا يكون أبداً.(75/10)
منهج أهل السنة في الحكم على الرجال
السؤال
من وقع في بعض البدع مع سعيهم لنشر السنة؛ فهل يعد من أهل السنة أم لا؟ مثل الإمام النووي وابن حجر العسقلاني وغيرهما؟
الجواب
أولاً: نحن مع أننا لا نوقر صاحب البدعة ولا نقدره إلا أننا ننهج معهم منهج السلف الصالح كذلك، فإن أهل السنة والجماعة لا يظلمون أحداً، لا مبتدعاً ولا غير مبتدع، فلو وجد في أهل البدع -كما أشرنا- صاحب جهاد أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر فإن ذلك رغم ما فيه يذكر.
والسلف الصالح يقولون عن عمرو بن عبيد: إنه كان زاهداً، ولم يقولوا عنه: أنه كان مترفاً، وأثبتوا حتى لـ معبد الجهني أنه كان من العباد رغم أنه ابتدع القول بالقدر، فهم لا يظلمون أحداً، ويقولون عن الخوارج: إنهم أصدق الناس -الأولون منهم بالذات- وإنهم لا يكذبون؛ فلم يظلموهم، وعندما قالوا: إن الرافضة أكذب الناس فلم يظلموهم، فنحن لدينا منهج لا يظلم، لأنه من الوصايا العشر التي أوصى الله تبارك وتعالى بها في سورة الأنعام قوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152] ويقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة:8] ويقول في الآية الأخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:135] فهذه الشهادة لله عز وجل، والقوامة بالقسط أولى الناس بها وبالعدل هم أهل السنة والجماعة.
ثانياً: هل الإمام النووي وابن حجر من أهل البدع حتى نقول: بماذا نحكم عليهما؟ الواقع أننا قد أشرنا إلى شيء من ذلك حين قلنا: إنه يوجد من أهل السنة والجماعة من له ذنوب وأخطاء، فالإمام النووي والإمام ابن حجر رحمهما الله تعالى هما من أهل السنة، ولكن لهما أخطاء، ومن الذي قال: إن الرجل إذا كان سنياً فإنه معصوم لا يقع في خطأ من الأخطاء في الاعتقادات أو في الأحكام أو في الأعمال؟ لا يقول بذلك أحد من أهل السنة والجماعة.
ولكن نقول: قد يكون الرجل من أهل السنة والجماعة ويوافق بعض المبتدعة في أمر من الأمور دون أن يعلم، أو يعلم ولكن يظن أن ذلك هو الحق وأن ذلك لا ينافي كونه من أهل السنة والجماعة فمن لم يضاد السنة ويحادّها بل كان متبعاً لها، ومحكماً لها، ومؤمناً بها، ويسعى جاهداً في ذلك ولكنه أخطأ؛ فإننا نرجو أن يغفر الله له خطأه وتأويله واجتهاده، ولكن لا نأخذ ذلك الخطأ علمياً وإنما نلتمس له العذر.
فالإمام النووي وابن حجر هما من أكبر الأعلام المشهورين الذين خدموا سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وماكان منهما من أخطاء فنرجو أن يغفرها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهما، فهي كالقطرة في بحر ذلك العلم والخدمة لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليسوا من أهل البدع بل ورد عنهم الذم لأهل البدع، في كتبهم المشهورة المتداولة.
فإذاً: الإنصاف والحق أن نقرأ كتبهم ونعلق على ما فيها من أخطاء، كما فعل سماحة الشيخ علامة العصر عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى في فتح الباري حيث علق عليه؛ وهذا ينبغي أن يكمل وتكمل فوائد باقي الكتب، وهي كتب عظيمة لا يستغنى عنها، فما فيها من خطأ يعلق عليه ويبين، فلا إجحاف ولا غلو، ولا إفراط ولا تفريط.(75/11)
سبب توبة المتكلمين
السؤال
ما سبب تألم بعض المتكلمين في آخر حياتهم، حتى إن بعضهم تمنى إيماناً كإيمان العجائز؟
الجواب
سببها أن من لم يكن على هدي الله تبارك وتعالى، وعلى سنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا بد أن يحار وأن يضطرب وأن يتخبط، ولهذا فإن من كانت لديه فطرة سليمة فإنه يعود في آخر عمره كما عاد أبو محمد الجويني، وكما عاد ابنه أبو المعالي الجويني، وكما عاد أبو حامد الغزالي، وكما عاد الفخر الرازي، وأمثالهم ممن رجع إلى الدين الصحيح وإلى العقيدة السليمة قبيل وفاتهم بزمن قد يطول أو يقصر، وإنما تمنوا دين العجائز لأنه الدين المتلقى بالفطرة، ودين العجائز بالنسبة لما كانوا عليه من علم الكلام نعمة ورحمة.
لكن أهل السنة والجماعة لا يتمنون دين العجائز، وإنما يتمنون دين وإيمان الراسخين في العلم، لأن دين العجائز عند أهل السنة والجماعة أدنى مراتب الدين، إذ هو مجرد التسليم أو مجرد علم، لكن ليس هناك حقائق تفصيلية فيه.(75/12)
الإيمان عند أبي حنيفة
السؤال
ما حقيقة الخلاف بين أهل السنة والجماعة والإمام أبي حنيفة في مسألة الإيمان؟
الجواب
أولاً: ورد عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه رجع عن قوله في الإيمان ذكر ذلك ابن عبد البر في التمهيد.
ثانياً: الإمام أبو حنيفة ومن تبعه في مسألة الإيمان الخلاف بينهم وبين السلف لفظي من وجوه، وحقيقي من وجوه، فأما كونه حقيقياً فإن أبا حنيفة وأصحابه يسمون صاحب الكبيرة مؤمناً، ويطلقون عليه كمال الإيمان، وينكرون زيادة الإيمان ونقصانه، وغير ذلك.
وأما كون الخلاف لفظياً فإنهم يتفقون مع أهل السنة في الحكم والمآل فيقولون: صاحب الكبيرة معرض للعقوبة ومع هذا فهو تحت المشيئة، وكذلك تارك الأعمال الواجبة مؤاخذ ومعرض للعقوبة، وهو تحت المشيئة.
إذاً فالخلاف في المآل والآخرة خلاف لفظي أو صوري.(75/13)
سبب تكفير الرافضة للصحابة
السؤال
ما الذي أدى بـ غلاة الرافضة إلى تكفير الصحابة رضوان الله عليهم؟
الجواب
الذي أدى بهم إلى ذلك الزندقة، فقد كانوا في زندقة ونفاق، وكانوا يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام -كما كان أولهم عبد الله بن سبأ اليهودي -فهؤلاء كانوا حاقدين على الإسلام الذي هدم مملكة الفرس وقضى عليها، وقضى على اليهود والنصارى، فحقدوا على الإسلام وعجزوا عن أن يقاوموه بالقوة العسكرية فلجأوا إلى النفاق، لأنهم لو جاءوا إلى المسلمين وقالوا: إن القرآن كَذِب، لقاتلهم المسلمون وما قبله منهم أحد، فجاءوا بحيلة أخرى وقالوا: إن الصحابة كاذبون فاجرون، والقرآن جاء عن طريقهم، فإذا كانوا فاجرين أو كافرين أو كاذبين فإن شهادتهم مردودة، وما نقلوه باطل.
وبهذه الحيلة يتوصلون إلى هدم الإسلام عن طريق تكفير الصحابة الكرام، ولهذا خرجوا عن سائر فرق الأمة، وتفردوا بما هو معلوم من النفاق والزندقة، والقول بتحريف القرآن، وأن الصحابة كفار، وعدم الاعتراف بالسنة التي نؤمن بها كالصحاح وغيرها من كتب السنة، فتميزوا بكل ذلك، وأصبح لهم منهجهم الخاص الذي خرجوا به عن الجادة، وفي كثير من الأمور عن الملة نسأل الله العفو والعافية.(75/14)
وجود الخوارج والمرجئة في هذا العصر
السؤال
هل يوجد في هذا الزمن خوارج ومرجئة؟
الجواب
يوجد في هذا الزمان الذين حكموا العقول والأهواء، وهذا يشمل جميع أهل البدع.
وأما الخوارج فإنهم متواجدون، وكذلك يوجد من ينادون بالإرجاء على المستوى العلمي والعملي بدون قصد أو فقه لحقيقة الإرجاء، ويوجد الذين يعالجون الدين بالمنامات والكشوفات وهؤلاء كثرة، والإلحاد والعصرية الحديثة التي جاءت في هذا الزمان والماديات والنتائج الوضعية المخالفة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تدخل تحت هذا أو ذاك، إما أنها مناهج ومذاهب عقلية كـ الماركسية مثلاً والشيوعية والقومية فتدخل ضمن مخالفة ومعارضة الدين بالعقل المزعوم، وإما أنها مذاهب روحانية أٍو باطنية ذاتية داخلية كـ الوجودية والمذاهب الأدبية الأخرى، فهذه تدخل ضمن معارضة الدين بالتجارب الروحية أو التجارب العاطفية أو الأدبية أو الوجدانية، فمهما تجددت الضلالات فإنها لا تخرج عن هذه المذاهب؛ لكن كان قصدنا بيان تميز أهل السنة عن غيرهم ممن ينتسبون إلى الإسلام وإلى القبلة.(75/15)
فرق الإسلام
السؤال
هل أهل هذه العقائد من معتزلة وأشاعرة كفار أم مسلمون؟
الجواب
أقول: إنهم متوعدون بالعقوبة والهلاك، وإن هذا الحكم الذي ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنهم هو الحكم المجمل، وأما عند التفصيل فمنهم صاحب الهلاك الكلي كـ غلاة الشيعة وغلاة الخوارج -مثلاً- فهؤلاء خرجوا من الملة -نسأل الله العفو والعافية- ومنهم من كان أقل من ذلك؛ كمن كان من الشيعة مقتصراً على تفضيل علي على الشيخين مثلاً فهذا لا يخرج من الملة.
وكمن كان لديه شبهة المرتبة الرابعة من مراتب القدر -فقط- وهي مرتبة الخلق مع إثباته للعلم والكتابة والمشيئة، وأمثال ذلك مما قد يقع الإنسان فيه، ولا يكون بذلك خارجاً من الملة، فهذا صاحب كبيرة وهي أكبر من الكبائر العملية، أي أنها أكبر من كبيرة صاحب الزنا والسرقة أو شرب الخمر لأنها كبيرة اعتقادية.
ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا ولكم القبول والتوفيق، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.(75/16)
قواعد وضوابط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أجل خصائص الأمة الحية، ومن أهم مقومات بقائها، وفي هذه المادة يتناول الشيخ بعض القواعد اللازمة للقيام بهذا الواجب على الوجه الصحيح، مشيراً إلى الخطأ الحاصل في فهم بعض هذه القواعد وتطبيقها، وسعى خلال ذلك إلى تصحيح المفاهيم المتعلقة بهذه القواعد.(76/1)
أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد الأمين، الذي أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وجاهد في الله حق جهاده حتى لحق بالرفيق الأعلى، وعلى أصحابه الكرام الذين اهتدوا بهديه، وتمسكوا بسنته، وجاهدوا في الله كما جاهد حتى وصل إلينا هذا الدين، فنحمد الله تبارك وتعالى على نعمة الإيمان، ونسأله عز وجل أن يجعلنا من التابعين لأولئك السلف الكرام، إنه سميع مجيب، وبعد: فإن موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهو من أولى وأوجب ما ينبغي أن يتحدث عنه الدعاة والوعاظ والخطباء، فهو واجب من الواجبات التي شرعها الله تبارك وتعالى، بل هو واجب يترتب على تحقيقه واجبات كثيرة، بل كل الواجبات إذا تأملنا نجد أنها لا تتحقق، وكل المنهيات لا يُنتهى عنها إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا أمر الله تبارك وتعالى هذه الأمة المباركة فقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] ثم عقب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعد هذه الآية فوصف حال هذه الأمة، وأفضليتها وخيريتها فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] ولو تأملنا هذه الآية لوجدنا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قدم على الإيمان بالله.
وكل المسلمين يعلمون أنه لا شيء يتقدم على الإيمان بالله، فلماذا قُدِّم في هذه الآية؟ ذلك لأن الآية تتحدث عن الخيرية والأفضلية، وعن الميزة والخاصية التي تتميز بها هذه الأمة عن غيرها من الأمم، فقدم فيها الخاص، ثم ذكر بعد ذلك الأمر الأساس الذي لا يقبل بدونه أي عمل، ولهذا عقب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بوصف حال أهل الكتاب الذين كان من طبعهم أنهم تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة:78 - 79] فعقب على هؤلاء القوم بعد ذلك فقال: {لَيْسُوا سَوَاءً} [آل عمران:113].
فبين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنهم ليسوا كلهم بهذه المثابة، وإنما فيهم من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله أناء الليل وهم يسجدون، ويؤمنون بالله واليوم الآخر، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فأولئك وصفوا بالإيمان ثم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه هي الحالة الطبيعية، وهذا هو الوصف العادي الذي توصف به الأمم جميعاً، لكن هذه الأمة لأنها أُخرجت للناس لتخرجهم من الظلمات إلى النور، ولأن رسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسالة للعالمين فهي أولاً تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فهذا ما يميزها، وهذا ما تختص به دون غيرها من الأمم التي قَصَّرت في ذلك أو كانت دونها.(76/2)
علاقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحقيقة الدين
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما تعرف أهميته من معرفة حقيقة هذا الدين، ومعرفة حقيقة دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى أي شيء دعا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فإذا عرفنا أن هذا الدين يقوم على أساس لا إله إلا الله، وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وكل نبي قبله- إنما جاء ليدعو الناس إلى هذه الكلمة، وإنما جاهد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أجل تحقيق التوحيد الذي هو لا إله إلا الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
فلا إله: هذا النفي نبذ للشرك ولكل ما يتبعه من المعاصي والمنكرات.
وإلا الله: هذا الإثبات تحقيق للتوحيد.
والتوحيد هو المعروف الأكبر، والشرك هو المنكر الأكبر، ثم بعد ذلك تكون البدعة هي المنكر الذي يلي الشرك ثم المعاصي المعروفة.
فإذا علمنا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاش حياته كلها ومعه صحبه الكرام يدعون إلى توحيد الله، ويأمرون بالسنة، وينهون عن البدعة، ويأمرون بالطاعة وينهون عن المعصية، عرفنا أن حياتهم كلها إنما كانت أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وهكذا من سار بعدهم واقتفى منهجهم.(76/3)
من آثار ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ولما وقعت غربة الإسلام، واندرست معالمه، وأصبح المسلم يعيش كالقابض على الجمر، وتفشت المنكرات نتيجة تقصير الأمة وإخلالها بهذا الشأن، وكأن ما حل ببني إسرائيل قد وقع بها -ونعوذ بالله أن تنزل بها اللعنة كما نزلت بأولئك- فلقد نسينا أن الله تبارك وتعالى قد خصنا وميزنا بذلك، ونسينا أن الجهاد الذي هو أعلى درجات التضحية والفداء إنما هو من أجل أن يعبد الله وحده، ومن أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا لما قال عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] وصفهم بعد ذلك بآية، فقال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41].
فالإنسان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في حال الضعف وفي حال بداية الدعوة، وهو -أيضاً- يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر في حال التمكين وفي حال القوة، وحسبنا أن نعلم أنك -أيها المسلم-! دائماً في حالة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وأقل ما يجب -الواجب العيني- هو أن تأمر نفسك بالمعروف وأن تنهاها عن المنكر، فهذا فرض عين على كل مسلم.
ثم بعد ذلك كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه} ثم الدرجة الثالثة التي أصبحت هي ذاتها مفقودة إلا عند من رحم الله وهي الإنكار بالقلب.
ففرض عين على كل مسلم أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر في نفسه وفيما تملك يده، في بيته وإدراته، ومدرسته، وفي كل ما له عليه سلطة وولاية ومقدرة على التغيير باليد، وفرض على الأمة جميعاً أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
أقول: لما غابت هذه الحقائق عن الأمة أصبح المؤمن يعيش في حال الغربة، وأصبحت السنة بدعة، والبدعة سنة، وأصبحت بعض المعاصي علامة على أن الإنسان حسن الأخلاق، أو مهذب الطباع، أو اجتماعي، أو غير متشدد أو متزمت، وأصبحت الدعوة إلى ترك بعض المنكرات الظاهرة علامة على أن هذا الإنسان فيه وفيه من الصفات التي لا تليق، وليست بصفات مدح على أي حال.
فكيف وصلنا إلى هذه الحال؟ وما هو العلاج؟(76/4)
أهمية توضيح قواعد وضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ونحن في هذا الدرس لا نريد أن نتحدث عن أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ذاته، وعن وجوب ذلك، وعن فرضيته، ولكن الحديث إنما هو عن شيء من القواعد أو الضوابط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد تقولون: وهل يحسن أن نتحدث عن القواعد والضوابط مع قلة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؟ وهل وصل الأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى حد الانتشار والعموم الذي يحتاج إلى أن يوضع له قواعد وضوابط؟ فأقول: الحق أن الأمة ما تزال في غيبوبة عن هذا الأمر إلا من رحم الله تبارك وتعالى، ولكن ذلك لا يعني أن نغفل عن هذه القواعد والضوابط الشرعية، التي يتحقق بها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولعل من أسباب ذلك وجود توبة وعودة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من قبل الشباب ومن قبل الشيوخ -الذكور والإناث- فأصبحت الأمة الإسلامية على أبواب فجر جديد بإذن الله تبارك وتعالى، وأصبحنا نرى أن ما تعيشه الأمة من واقع مظلم، إنما هو ظلمة ما قبل بزوغ الفجر، وإنما هو مخاض تعقبه ولادة جيل لا تأخذه في الله لومة لائم.
هذا الذي نؤمله ونرجوه، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يحققه.
ومن أجل هذا الجيل الذي نترقب أن يوجد، ومن أجل هذه القلة التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، نريد أن يكون الطريق أمامها واضح المعالم، حتى يكتب لها الأجر كاملاً بإذن الله، وحتى لا تخطأ أو تضل في هذا الأمر، فيكون منكراً آخراً وانحرافاً جديداً يحتاج إلى تصحيح، وإلى أمر بمعروف ونهي عن منكر.
والحق أقول لكم: إن هذه القواعد والضوابط تحتاج إلى أكثر من رأي وأكثر من اجتهاد، لأنها مسائل تتبع في الغالب المصالح التي يتحقق بها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمصالح متجددة بحسب العقول، الأزمان، والأحوال، ولهذا ينبغي لنا جميعاً أن نجتهد وأن نفكر، من كان مستطيعاً لذلك ليصل بإذن الله إلى ما يحقق المصالح، وإلى ما يدفع المفاسد في هذا الجانب، ولكن لا يمنع ذلك أن نبدأ بخطوة أو خطوات.
ولعل الله تبارك وتعالى -وهو على كل شيء قدير- أن يبارك في كل الإخوان العاملين في هذا الشأن بأن يتموا ذلك، وأن يستدركوا عليه، فهذا واجبنا جميعاً.(76/5)
الدعوة جزء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وأول ما نضعه من هذه الضوابط والقواعد: أن نعلم أن الآمر بالمعروف وأن الناهي عن المنكر إنما هو داعية إلى الله تبارك وتعالى، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو جزء من الدعوة، وإن شئت فقل هو الدعوة كلها ولا غضاضة.
فليس المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: التشفي أو الثأر أو الانتقام من هذا الواقع المر، أو من هؤلاء العصاة وإن جاروا وإن بغوا على أهل الحق والخير، وإنما هو جزء من الدعوة إلى الله، فالصبر فيه صبر على الدعوة إلى الله.
وطلب العلم من أجل ذلك واجب.
والحكمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبة؛ لأن الدعوة إلى الله لا بد أن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن كما بين الله ذلك.
أي أننا نستطيع أن نقول: إن كل ما ينضبط به منهج الدعوة إلى الله ويقوم عليه، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضاً يتقيد بتلك الضوابط، وينضبط بتلك القواعد.(76/6)
فقه الأولويات
والأمر الثاني: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له أولويات؛ فلا بد أن نقدم المنكر الأكبر في الإنكار، ثم المنكر الأصغر منه.
وحياة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلها شاهدة على ذلك، حيث بُعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والناس يزنون، ويئدون البنات، ويشربون الخمر، ويقطعون الأرحام، ويأكلون الميتة، ويشركون بالله تبارك وتعالى ويعبدون غير الله.
فبماذا بدأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعوته وإنكاره على المشركين؟ لقد بدأ بالنهي عن الشرك أولاً.
فإذاً نبدأ بإنكار الشرك، لأن الشرك هو المنكر الأكبر، وهو الذنب الأعظم: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ونحن دعاة وهداة نريد أن ندعو الناس إلى طريق الجنة.
فلنبدأ إذن بإنكار الذنب الذي لن يصلوا أبداً إلى طريق الجنة وهم مرتكبون له، ونوضح لهم ذلك، وإذا كان ذلك يستلزم منا العلم فلنتعلم.
فيجب أن نتعلم ما هو التوحيد وما هو الشرك، وما هي أنواعه، وما هو الشرك الأكبر وما هو الأصغر، وما هي أحكامه، وما هي ذرائعه، ووسائله التي تُوصل إليه.
وذلك لأن الذرائع والوسائل لها حكم المقاصد، فننكر المنكر الأكبر، وننكر ما يؤدي إلى المنكر الأكبر، وهذه هي الدرجة الأولى، فإذا كان الداعية في أمة فليبدأ بذلك، وإذا كان مع فرد فليبدأ بذلك.
فمثلاً: رجل يدعو غير الله عز وجل، ورجل يتحاكم إلى الطواغيت، ورجل يذبح لغير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ أول ما نهتم به بأن ندعوه إليه هو أن يتخلى عن هذا الشرك، وأن يسلم قلبه وروحه لله وحده لا شريك له، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
فيجب أن نهتم بأن ندعوه أولاً إلى تحقيق التوحيد.
أرأيتم لو أن أمة من الأمم تعبد الأضرحة والقبور، وتدعو غير الله، وتستغيث بغير الله، وتذبح لغير الله، وتتحاكم إلى غير شرع الله تبارك وتعالى، ومع ذلك نجد أنها تملأ المساجد للصلاة، ونجد أن وعاظها ينكرون الزنا، وشرب الخمر، ويجتهدون في ذلك، هل ترون هذه الأمة يمكن أن تصل إلى أن تكون من الأمة التي فضلها الله على العالمين؟ أو أن تلك الدعوات ستنجح في أن تصبح هذه الأمة كذلك؟ لا مهما دُعي ومهما تُكلم عن تلك الفروع فلا يمكن أبداً بأي حال من الأحوال أن تكون من الأمة التي لها الخيرية على العالمين.
فكل دعوة إصلاحية أخلاقية لم تقم على الأمر بالمعروف الأكبر وهو التوحيد، وعلى النهي عن المنكر الأكبر وهو الشرك، فإنها دعوة مخفقة لا تنجح بأي حال من الأحوال.
وكذلك الفرد: فلو دعوت إنساناً من هذا النوع فحافظ على الصلاة، وترك الخمر والزنا، ولكنه يدعو غير الله، ويحلف بغير الله، ويعدل بالله تبارك وتعالى غيره، ويعترض على قضاء الله، وما أشبه ذلك مما يخل بالإيمان والعقيدة، فنجده يصلي لله، ولكنه لا يدري أين الله -كما يقول بعض الناس إنه في كل مكان- وهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أخبرنا أنه على العرش: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فهو فوق المخلوقات على العرش، فإذا صلى هذا الرجل وتهجد وتعبد ولكنه يتعبد لإله يظنه في كل مكان، فإن هذا الإنسان لم يحقق حقيقة الإيمان.
إذاً نقول: إن البدء بالعقيدة، والتوحيد هو الأساس حتى نعبد الله تبارك وتعالى على بصيرة وبرهان، ومن هنا كانت هذه هي البداية التي لا تُتجاوز، وبعد ذلك ينطلق الإنسان.
فالإنسان العاق لوالديه -عافانا الله وإياكم من ذلك- وهو أيضاً قاطع لرحمه من الأقربين، نبدأ معه في الدعوة والإصلاح والإنكار بالحق الأعظم، لأنه ليس لأحد بعد الله تبارك وتعالى حق أعظم من حق الوالدين، وحقهم قبل بقية الأرحام، والجار، وسائر الحقوق.
فإذا أردت أن تأمر بالمعروف أو تنهى عن المنكر، فرتب هذه الحقوق، ورتب أنواع المعروف، وكذلك رتب أنواع الشرك، وأبدأ بالأهم ثم الأهم.
ولا يمنع ذلك أن تبدأ دعوتك بالمحبة وبالحكمة وبالحسنى، ونحن نقول: إنها جزء من الدعوة إلى الله، لكن يكون الاهتمام هو أن أغير المنكر الأكبر عنده، وأن أزيل عنه هذا المنكر، حتى إذا بقيت عنده كبائر فهي أهون من المنكر الأكبر، وهي كبائر أسعى إلى تغييرها، ولكن بعد أن أكون قد اطمأننت إلى أن المنكر الأكبر قد قضي عليه، وأنه لا وجود له.(76/7)
أهمية الدعوة إلى التوحيد في المجتمعات التي يقل فيها الشرك
والمجتمعات التي يقل أو يختفي فيها الشرك بوضوحه -الشرك الأكبر المخرج من الملة- يجب ألا تغفل هذه القضية، وأنا أنبه إلى هذا لأننا مغزوون، ولأن المجتمعات التي ورثت التوحيد وهي عليه بفضل الله تبارك وتعالى، ثم بفضل الذين قاموا بدعوة التوحيد التجديدية مع ذلك هذه المجتمعات تغزى، والقلوب إذا طال عليها الأمد تقسو، والغفلة تعتري الناس، والشيطان يوسوس، وإلا فقد كانت الأمة كلها على التوحيد، حتى حدث الشرك في قوم نوح.
إذاً لا نطمئن ونقول: دعونا من هذا الكلام، والآن نتكلم في الربا والزنا والخمر، وما أشبه ذلك، ونترك التوحيد والشرك، فهذا الكلام خاطئ، لابد أن ندعو إلى ذلك حتى الذين لا شرك فيهم، ونذكرهم ونذكر أنفسنا بذلك، ولذلك قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء:136].
وهنا يلاحظ الثبات على الإيمان، والاستمرار عليه فهو الأساس، وبعد ذلك على هذه القاعدة تقوم جميع الطاعات، ولو أننا عرفنا حقيقة التوحيد، ولو أننا اجتنبا المنكر الأكبر الذي هو الشرك لما أكلنا الربا، ولا رضينا بالخمر، والزنا أبداً.(76/8)
علاقة المعاصي بالشرك
ولننظر إلى الذي يأكل الربا لماذا يأكله أليس لأن قلبه قد غلب عليه حب الدنيا؟ فهو يأكل الربا، والرشوة وأمثال ذلك من المنكرات التي يرتكبها، وهو يعلم أنها حرام؛ لأن القلب في الحقيقة ضعيف الإيمان، أو فاقد الإيمان، ولهذا آثر الحياة الدنيا على الحياة الأخرى، وأتبع نفسه هواها.
فإذاً ابدأ معه وذكره بالأساس، وإن كان يقول أنا على التوحيد وعلى الإيمان ولا شرك عندي، فنقول له: هل نسيت شرك الإرادة؟ وهل نسيت شرك المحبة؟ فإن محبة الشيء محبة شيء إذا تغلغلت في القلب، حتى طمست على محبة الله ورسوله فإنه شرك، وإذا أريد عمل أمر ما يقدم على أمر الله ورسوله فهذا شرك خفي.
فإذاًَ لا بد أن نعرف أن كل منكر له أساس من الشرك، بل قد كان بعض السلف يطلق على كل الذنوب شرك، ولا يقصد أنها تخرج صاحبها من الملة كما فعلت الخوارج، وهذا معلوم ونحن لا نكفر من يشرب الخمر، أو يأكل الربا، أو يزني، فمذهب أهل السنة والجماعة أنه مسلم لكنه ليس لديه إيمان، فالإسلام فوقه درجة هي درجة الإيمان، والإيمان فوقه درجة هي درجة الإحسان، لكن بعض السلف سمى الذنوب جميعها شرك؛ لأن أصلها جميعاً هو اتباع الهوى، فمن اتخذ إلهه هواه فقد أشرك بهذا الشرك الخفي، وإن كان لا يأخذ حكم الشرك الظاهر الذي يخرج من الملة.
فهذه القاعدة يجب أن نتنبه لها ونحن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وندعو إلى الإيمان بالله تبارك وتعالى.
والقواعد والضوابط التي يجب الاهتمام بها في حال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي:(76/9)
القاعدة الأولى: البدء بإنكار المنكرات الظاهرة
أولاً: أن نبدأ بإنكار المنكرات الظاهرة، أو بعبارة أخرى: أن نهتم بإنكار المنكرات الظاهرة أكثر من اهتمامنا بإنكار المنكرات الخفية والمستترة.
وهذه القاعدة تحقق المصالح جميعاً، حيث تحقق القضاء على المنكر الظاهر، وتحقق القضاء على المنكر الخفي، ولكن بعض الدعاة إلى الله والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر لا يفطنون إلى ذلك، ولو نزلنا إلى أرض الواقع، وتأملنا فيما حولنا في المجتمع، واتخذنا أمثلة على ذلك لوجدنا أن هذا الأمر واضح جلي.
ماذا تقول الأمة المؤمنة في الصلاة؟ سيقولون: إنها واجبة ولا شك، فالصلاة لا يجادلك فيها إلا من مرق من الدين، لكن المقصود أن الصلاة ليست موضع نقاش.
ولكن صلاة الجماعة نجد أن الأمر أقل فيوجد من يناقش فيها، ويوجد من يحافظ على الصلاة ولكن في بيته، ويوجد من يشرب الخمر، ومن ينشئ مصانع للخمور ويوزعها، ويوجد من يهرب المخدرات.
فإذا أردت أن أدعو إلى الله عز وجل، وأردت أن أقضي على الخمر، والمخدرات وترك الصلاة، فما الذي أبدأ به؟ ونحن هنا نعني ترك صلاة الجماعة أولاً ولندع الحديث الآن عن الصلاة ذاتها، لأن تارك الصلاة الذي لا يصلي أبداً هذا كافر لا حظ له في الإسلام، لكن نتحدث عن الذين يتركون صلاة الجماعة ويقولون: نصلي في البيت، أو بعد نصف ساعة، أو بعد قليل.
أي الأمرين أولى بالإنكار: أن أذهب إلى هؤلاء الذين في المقاهي أو على الطرقات ولم يحضروا الجماعة فأنكر عليهم، أو أن أذهب لأتتبع مصنعاً من مصانع الخمر لأقضي عليه؟(76/10)
أسباب الابتداء بإنكار المنكرات الظاهرة
أنا أقول: لو قارنا لظهر لنا الأمر: إن الواجب في الحقيقة هو أن نبدأ بالقضاء على المنكر الظاهر، فالمنكر الظاهر شيوعه وانتشاره مما يوجب غضب الله تبارك وتعالى ومقته، وأما المنكر المستتر فإنه مستتر بذاته وما يزال دون درجة الشيوع، وإنما يظهر ويشيع المنكر المستتر إذا تركت المنكرات الظاهرة حتى تصبح معروفاً، فإذا أصبحت المنكرات الظاهرة معروفاً انتقل المنكر المستتر إلى أن يصبح منكراً ظاهراً، وهكذا الحال.
ونحن في هذا المجتمع عايشنا هذا الأمر، بل كل العالم الإسلامي، فقبل ثمانين أو سبعين سنة أو ما أشبه ذلك لم يكن في العالم الإسلامي وفي جزيرة العرب بالذات من يحلق لحيته أبداً، وأول من علمنا هذه العادة هم الغربيون -الإنجليز وأتباعهم- لما جاءوا إلى بلاد المسلمين، فالناس في المدن والقرى لا يفعلون هذا المنكر الظاهر.
مثال آخر: التدخين كيف كان حال الذي يدخن قبل أربعين أو ثلاثين سنة، كان منكراً ظاهراً كبيراً لكن لما سُكت عن هذين المنكرين، ووقع ما وقع في شأنهما، حتى أصبحا الآن كأنهما شيء مباح، وعند الذي ينكر المنكر أصبحت أقل شأناً؛ لأن التهاون وقع بل أصبح عند كثير من الناس أن الإنكار أو الحديث عن هذه الأمور أمر لا قيمة له.
فإنسان يتحدث عن حلق اللحية والتدخين إنسان متخلف! والذي يتحدث عن غطاء الوجه، وأنه يجب على المرأة أن تغطي وجهها متزمت، ونجدهم يقولون لك: يا أخي! نحن الآن في أمور أخطر من هذا، وأنت تكلمنا في هذه الموضوعات.
أما لو كلمت هذا الإنسان عن الزنا، لقال: نعم لا بأس بهذا.
لكن لماذا ينتشر الزنا؟ ومتى يصبح الزنا منكراً ظاهراً؟ إنما ذلك إذا أصبح التبرج هو المعروف، فإذا أصبح التبرج معروفاً في المجتمع صار الزنا منكراً ظاهراً، ثم بعد ذلك يتحول الأمر فيصبح الزنا هو المعروف -عياذاً بالله- ثم تستمر نفس العملية، ولهذا لما أصبح التدخين كأنه من المعروف أصبح الخمر منكراً، وقد يظهر أحياناً، فلما انتشرت الخمر على نطاق واسع ووفدت المخدرات أصبح الكلام عن الخمر كأنه عفا عليه الزمن، وأصبح المطلوب -الآن- من الخطباء والوعاظ أن يتحدثوا عن المخدرات.
فتجدهم يقولون: يا شيخ! لا تتكلم عن الخمر، فهو بسيط، والمصيبة الكبرى الآن هي المخدرات.
فنقول له: هذا صحيح.
ولكن إنما انتشرت لأننا تهاونا في السيجارة، وجاء الكأس وتهاونا فيه، فجاءت المخدرات، ولا ندري ماذا يكون حالنا لو تهاونا أيضاً في المخدرات والتهاون حاصل ويجب علينا أن نعترف بذلك؛ لنشجع أنفسنا على أن ندعو إلى الله، وأن نتدارك أنفسنا قبل أن يعمنا الله بعذاب وهلاك ومصيبة من عنده.(76/11)
أمثلة توضيحية للقاعدة
وأعود للمثل الأول وهو ترك صلاة الجماعة، فهو منكر ظاهر لا يجوز لنا بأي حال من الأحوال أن نتهاون به، بل نبدأ به، وعليه يقوم إنكار المنكر الباطن، وأقل ما في الأمر إن لم أغير فعلى أن أتصل بمن يغير ولن يكلفني ذلك شيئاً، فبالتلفون -مثلاً- أتصل للهيئة وأبلغها عن هذا المكان وهذا المقهى وهذا التجمع.
ولا ننظر إلى من يقول: البدء بالحسنى، فنحن -أيضاً- نقول لا بد من البدء بالحسنى، وبالحكمة، لكن ليس ذلك في كل أمر وفي كل وقت، فصاحب المحل الذي تمر عليه كل يوم وهو يسمع الأذان ويبيع ويشتري، أو يشرب الشيشة في المقهى، ويسمع الأذان ويصلي الناس ويخرجون وهو في مكانه جالساً، فأول يوم تعظه، وثاني يوم تنصحه، وثالث يوم تخبر عنه الهيئة، فإذا قالوا: أخطأت التصرف، والدعوة إلى الله لا بد أن تكون بالحكمة، فما هي الحكمة التي تريدون؟ يقولون: حتى يقتنع الإنسان ويفهم.
فهل وصل بنا الحال إلى أن أصبحت الصلاة مما يُقنع بها المسلم؟ سبحانه الله! الصلاة أمر معلوم لدى كل إنسان، وبالذات في المدن والقرى، فإذا قال يجب علي أن أتلاطف مع تارك الصلاة، وأشرع معه في دعوى طويلة حتى يقتنع بعد شهور أو سنين، فإذاًَ متى أصل إلى تغيير المنكرات التي تحتاج إلى صبر وتحتاج إلى أناة؟ إن هذه الأمور لا نقول فيها بالعجلة والتهور، بل نحن هنا نضع الضوابط ونمنع التهور والاندفاع والعجلة؛ لكن الضوابط لا تعني الإلغاء، فشيء مؤلم ومؤسف أن بعض الإخوة الدعاة، يقولون: لا بد من الحكمة، ولا بد من ضوابط ولا بد من قواعد، فكانت النتيجة ألا إنكار لمنكر، فإذا وصلنا إلى ألا ننكر أي منكر بحجة الحكمة، والضوابط فهذه خسارة كبرى نعيشها، فلابد في المنكرات الظاهرة المعلوم أنها منكر يجب أن يكون تعامل المجتمع معها تعاملاً حازماً حاسماً فيها.
فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وهو سيد الحكماء في دعوته وفي كل حياته- أمر أن نضرب الابن إذا لم يصلِّ لعشر، وقبل ذلك ثلاث سنوات موعظة، وأمر، وتشجيع، لكن في العاشرة ضرب، فإذا قيل: لماذا تضرب؟ فنقول له: هذا هو ما سنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أما لو أخطأت فلم آمر ولم أنهَ، ولم أشجع وأحث، وأحض، وبدأت بالضرب فأكون في ذلك الحين قد خالفت سنة المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأكون قد أنكرت المنكر وأمرت بالمعروف بطريق مخالف للسنة، لكن الذي يقول: (إذا كبر ابنك آخيه) فإذا أصبح هذا حالنا، وكل واحد في المجتمع ترك ابنه يفعل ما يشاء فسوف يصبح المجتمع كله إخوة في المعصية، وهذا لا يجوز أبداً.
فيجب على الزوج أن يكون حازماً مع زوجته، فيعظها ثم يذكرها وينصحها؛ لكن لو أدى الأمر إلى أن يضربها حتى لا تذهب إلى السوق فليضربها، وهذا واجب، وإلا فهو -عياذاً بالله- ديوث، وإذا ذهبت إلى الخياط، والبقال، ودخلت الأسواق، وأماكن الملابس، وهذا يراها وهذا يكلمها، فتنطلق من البيت بعد العصر وترجع آخر الليل كما يفعل بعض الناس، وتذهب إلى الشواطئ، فلا شك أن من يرضى ذلك في أهله أنه ديوث وأنه يجب عليه الحسم ولو أدى إلى الضرب، ولو حسم كل أب وكل زوج لكنا قضينا على هذه العادة السيئة المقيتة التي نخشى أن يعمنا الله بعقاب من أجلها، فإذا حرصنا على القضاء على الزنا، فلنبدأ بالقضاء على التبرج لأنه منكر ظاهر وهو الوسيلة إلى الزنا.
فالذين يتأملون في هذه القاعدة يرون من الحكم في ذلك أن كل إنسان تتهمه أو تواجهه بمنكر خفي فإن في إمكانه أن ينكر، فترى فلاناً عنده مصنع خمر، فيقول: لا شيء عندي وينكر، ولا يستطيع أحد أن يعترف بذلك.
أو إذا كان شخص يمارس الزنا والفاحشة فإنه لن يقر أحد بهذا الشيء، لكن المنكر الظاهر، مثلاً: إذا قامت الصلاة وهو جالس في الشارع، فكيف يستطيع الإنكار؟ فمن فوائد ذلك أننا إذا اتبعنا أمر الله ورسوله تحققت المصالح بإذن الله.
فإذا أمرته بالذهاب إلى الصلاة، فإنه يوجد أي إنكار منه، ولا يستطيع أن يقول: لم أسمع الأذان، ولم أعلم ولهذا يقول غالباً جزاك الله خيراً، حتى لو لم يصل فإنه يكون مقهوراً، وليس لديه عذر ولا حجة، فهذا هو الذي ينبغي.
والمرأة المتبرجة في السوق أنت تستطيع أن تقول لها وأنت واثق أنها متبرجة، فالمنكر ظاهر، وأنت لست مجرد متهم، فالناس يسيئون الظن بالناس، ويتهمون أعراض الناس، ويفعلون كما يقال عادةً عن أهل الخير وعن الآمرين بالمعروف وعن الناهين عن المنكر، فأنت الآن أنت تتخاطب وتتعامل مع منكر ظاهر أمامك، فليس هذا الخياط بمحرم لها ولا صاحب الدكان بمحرم لها، وهي كاسية متبرجة في السوق، إذاً هذا منكر ظاهر لا نقاش فيه.
إذاً لا بد أن ينكر هذا المنكر، ولا بد أن يُقضى عليه بكل وسيلة، بالدعوة والوسائل العامة، بنشر الحق والخير بالتعليم، وأيضاً بالقوة وبالحزم المهم كقاعدة عامة: أن نبدأ بالمنكر الظاهر، ولنتعاون في القضاء عليه، وهذا -بإذن الله- يقضي على المنكرات الباطنة، دون أن نتهاون أيضاً في شأن المنكرات الباطنة.(76/12)
القاعدة الثانية: لا يجوز إنكار المنكر إذا أدى إلى منكر أكبر
ثانياً: إن إنكار المنكر إذا أدى إلى منكر أكبر، أو إلى مفسدة اعظم، فإنه لا يجوز الإنكار.
فليس الغرض مجرد أن تنكر، أو أن تتشفى بالإنكار، أو أن تنتقم من صاحب المنكر، بل الغرض هو أن يطاع الله تبارك وتعالى، فإذا كنت تسعى إلى أن يطاع الله وجئت بما يؤدي إلى معصية أكبر فلا تفعل ذلك، وقد بين الله ذلك في القرآن للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، يقول عز وجل: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام:108] فنهى الله تبارك وتعالى عن ذلك؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يتجرأ المشركون فيسبوا الله عز وجل.
فإذا كنت في مجلس، أو جمعك ركب ما بقوم لو شتمت أهل المعاصي لشتموا وسبوا أهل الخير والإيمان، ولو أنك شتمت رءوس البدعة، ورءوس الشرك والضلال للعنوا وسبوا وشتموا رءوس أهل الإيمان والتوحيد، فعليك ألا تفعل ذلك، ولو ذهبت إلى إنسان تعلم من حاله أنك لو أمرته بمعروف ما لأعلن الكفر وسب الله ورسوله فلا تأمره.
ومن المصائب أن يقع هذا في مجتمعنا، وأن يوجد في ظل هذا المجتمع الذي ترتفع فيه المآذن في كل حين وتملأ الأجواء بالتكبير والشهادة لله تعالى بالتوحيد، ولمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرسالة، من يسب الدين.
وإننا كنا نتوقع ألا يوجد سب الدين، في أي مجتمع مسلم وأن يخلو من سب الدين، فكيف يوجد هذا السبب في المجتمع الذي يعاقب الإنسان إذا لم يلتزم بصلاة الجماعة، فكيف بمن يسب الله ورسوله! لكن هذا هو الواقع للأسف.
فلا بد إذاً أن ننتبه إلى هذا الأمر، فلا ننكر المنكر إذا كنا نتوقع أن يقع منكر أكبر منه.
وأيضاً لا ننكر المنكر بوسيلة غير مشروعة، فالمنكر منكر، فلا ينكر المنكر بمنكر آخر؟ لأنهما منكران، فما هذا بأولى من ذاك، وإنما ينكر المنكر بالأمر المشروع وبالمعروف وبما أمر الله تبارك وتعالى وبما شرع.(76/13)
تأخير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ولهذا لا نصدم مشاعر الناس في أمور لو أخرت لكان خيراً، وهذه أحد القواعد التي تتفرع عن هذه القاعدة، فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لأم المؤمنين عائشة: {لولا أن قومك حديثو عهد بشرك أو بكفر، لهدمت الكعبة ولجعلتها على قواعد إبراهيم} فهذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الذي غيَّر ما كان عليه العرب من الدين، وقاتلهم على ذلك قتالاً، ودخلوا في دين الله عز وجل برغبة وصدق، وبالسيف والجهاد، وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي يحكم جزيرة العرب جميعاً، والذي إذا قال أطيع، ومع ذلك يذكر المانع من أن يجعل الكعبة على قواعد إبراهيم، مع أن جَعْل الكعبة على قواعد إبراهيم مصلحة وتحقيق لأمر شرعي؛ وهي أن تكون كما بناها الخليل عليه السلام؛ لكن ما الذي يمنع من تحقيق هذه المصلحة؟ المانع هو أن العرب حديثو عهد بالكفر، وهم إنما آمنوا به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واتبعوه لأنه يعظم حرمات الله، ويعظم ما عظم الله، ويوحد الله، ويدعو إلى دين إبراهيم، وكثير من الناس ينظرون إلى الدين بهذا المنظار، ولا يفطنون إلى ما وراء ذلك من حكم ومصالح، فكل ما في الأمر عندهم أن هذا هو دين التوحيد، وأننا اتبعناه من أجل ذلك، والكعبة في أذهانهم تمثل حقيقة التوحيد ورمزاً للتوحيد وللدين، فإذا هُدمت وغُيرت فكأنها تغيرت ملة إبراهيم، وكأن المنهج الذي رسمته الأذهان فيه خلل وخطأ.
إذاً لا بد من الإنكار عليه، ولهذا لم يشأ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يصدم هذه المشاعر.
ولهذا نقول: إن علينا أن نعلم أن الإنسان وإن آمن واهتدى، واستقام، فقد يُترك له بعض التجاوزات والمخالفات لا إقراراً لها، أو اعتقاد حلها والانكار على من أنكرها بدعوة مصلحة الدعوة ولكن يقال: مصلحة الدعوة أن يؤخر الإنكار وأن يؤخر التغيير.
أرأيتم لما وضعت الكعبة على قواعد إبراهيم أيام عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه ما الذي جرى؟ لم يجر شيء، لأنه قد انقضى ذلك الجيل وولدت أجيال على التوحيد، فالذي أمر به عبد الله بن الزبير أمر مشروع، ولم يحدث أي منكر ولا إنكار، لأنه جاء في حينه.
ومن هنا لا نتوقع أن ننكر المنكرات دفعة واحدة، والشيء المؤلم والمؤسف اليوم أن في المسلم جملة منكرات فتجده متهاوناً بالصلاة ويسمع الغناء، ويرى النساء الأجنبيات، ويغش في البيع والشراء، ويكذب، ويغتاب والله المستعان! إنها مصائب مجتمعة ومنكرات.
فإذاً نحن مع قولنا في الأول بالبدء بالأهم فالأهم، والبدء بالظاهر قبل الباطن، نقول أيضاً: إن مما يجب، هو أن نؤخر ما قد يصدم مشاعر هذا الإنسان، فيجعله يرجع عما هو عليه من الحق، فإذا اهتدى وبدأ يقيم الصلاة، فنحرص بعد ذلك أن نبين له أن سماع الأغاني حرام، وأن رؤية النساء في الشارع أو في التلفاز أو في المجلات حرام، ولنبدأ بذلك حتى يدخل في الدين تدريجياً، ويرسخ الإيمان في قلبه بالتدريج، ولا نتعجل ونقول: ما دام أنه اهتدى اليوم، فيجب في هذه اللحظة وفي هذا الوقت أن يبادر فيحافظ على الصلاة، ويترك المنكر الظاهر والباطن، وأن يترك جميع المنكرات التي هو عليها، فهذا من توقع المحال، وهذا مما يجعل بعض الدعاة يفشل في دعوته، لأنه توقع ذلك، والحقيقة أن النفس لا بد لها من التدرج، فبعض الأمور قد تؤجل إلى أمد ما محافظةً على الأصل الموجود، لكي ينمى الإيمان في قلبه، ثم بعد ذلك يترك ذلك.(76/14)
مثال توضيحي للقاعدة
ولعل من الأمثلة التي توضح هذا: أنه إذا اقتصر الدعاة إلى السنة على إنكار الغلو في محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع أن الغلو في محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منكر، لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي أنكره، وعلمنا أن ننكره، والأحاديث في ذلك معلومة؛ لكن لو أننا نقتصر فقط على أن نذكِّر أن الغلو في محبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منكر، فإنه سوف يكون مدخلاً لأهل البدع، ومدخلاً لبعض المهتدين الذين هم قريبو عهد بالبدع أن يقولوا: إن هؤلاء الناس لا يعرفون من محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا النهي عن الغلو فيها، ولا يتحدثون عنها، ولا يأمرون بها، إذاً ما هو الواجب في هذه الحال؟ الواجب أن نبدأ بالتذكير بمحبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطاعته، ونجعل النهي عن الغلو فيه مع ذلك وضمنه، وإلا فقد يفتن بعض الناس من هذا الباب، يفتنه الشيطان أو يفتنه شياطين الإنس بمثل هذا الشبهات، ولا يخفى عليكم الأمثلة التي توضح ذلك في واقعنا اليوم.(76/15)
القاعدة الثالثة: الإنكار على العالم ليس كالإنكار على الجاهل
ومن القواعد والضوابط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أن الإنكار على العالم أو على الفقيه أو على الكبير الفاهم ليس كالإنكار على المبتدأ وحديث العهد بالمعصية والجاهل.
أرأيتم لو أن أحداً من خيار الصحابة رضي الله تعالى عنهم جاء وبال في المسجد -وحاشاهم من ذلك- كيف يكون الإنكار عليه؟! سوف يكون شديداً؛ لأن هذا أمر لا يمكن أن يفعله إنسان من خيار الصحابة ممن عرف الإيمان وحقيقته، فسوف يكون الإنكار عليه بأشد ما يمكن، وبذلك وقائع من السيرة، كإنكار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أبي ذر لما قال لـ بلال: يا ابن السوداء، فأنكر عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنكاراً شديداً وقال له: {يا أبا ذر: إنك امرؤ فيك جاهلية} فهذا إنكار شديد، فالجاهلية التي هرب وخرج منها أبو ذر رضي الله تعالى عنه وتحمل المشاق، وجاء إلى الكعبة، وجاهر بالإيمان، وضُرب حتى أصبح كما يقول هو: [[كأنه صنم ذبح عليه]] من كثرة ما فيه من الدماء، وكل ذلك لذات الله ومن أجل الله، ويقول له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنك امرؤ فيك جاهلية} لأنك أمام إنسان يعرف الحق وعرف الجاهلية، وعرف قذارتها، وعرف نتنها، وعرف كيف يفر منها كما يفر من النار أو من الأسد، فتقول له هذا الكلام ليرتدع.
لكن لما جاء الأعرابي وبال في المسجد، فهذا أعرابي جاهل لا يفقه من أمر الله ودينه شيئاً، دخل وبال في المسجد، فأرشدنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلمنا أن الإنكار على الجاهل يختلف، فهذا نلاطفه، ونلاينة، ونداريه، ولا نعنفه.(76/16)
مثال توضيحي للقاعدة
فنجد في قصة هذا الأعرابي ما يشهد بهاتين القاعدتين: القاعدة الأولى: تحمل أهون المفسدتين لدرء أعظمهما.
والثانية: إن الجاهل لا يكون الإنكار عليه كالإنكار على العالم وعلى ذي الشأن.
فلو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يزجر الصحابة وينههم عندما ثاروا عليه ليزجروه عن البول في المسجد، لانتشر البول في أجزاء كثيرة نتيجة فزع الأعرابي وهربه، بل وسينتثر البول في ملابسه، وربما لا يعود إلى المسجد وإلى الإيمان.
إذاً نتحمل المفسدة من أجل أن ندفع مفسدة أكبر منها، فهذا شيء.
والأمر الآخر أن هذا الإنسان جاهل، والجاهل نرفق به، كما منع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصحابة أن يضربوه، وأمر أن يغير المنكر، بصب دلو من الماء على البول وانتهت النجاسة.
فالآن قضينا على النجاسة، وبقي أن نقضي على ما في قلب هذا الرجل، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال معاوية بن الحكم السلمي: {والله ما كهرني ولا نهرني، بأبي وأمي ما رأيت قبله ولا بعده معلماً مثله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} فلا يوجد معلم أرفق من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أحكم، فلما رأى الأعرابي هذا الرفق وهذه المعاملة ممن كان يظن أنه أكثر الناس شدة -ولا شك أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أكثر الناس محافظة على بيوت الله، وأكثر الناس قوة في الحق، لكنه كان يوازن بين المصالح والمفاسد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما رأى منه اللطف واللين صلى فقال: {اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحد}.
وذلك لأن القلب ما تزال فيه ضغينة لهؤلاء الذين ثاروا عليه، وأظهروه مظهر الإنسان الذي لا يليق، ولكن دعا أن يرحم الله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا هو المطلوب، وهو أن يحب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان ذلك، ولكن أيضاً نحن لا ينبغي أن نجفو قلوب الناس عنا، فالجاهل نعلمه ونترفق به، ونبين له.
وكما ينقل في سيرة الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما أنهما كانا ذاهبين إلى المسجد، فدخل رجل يتوضأ فلم يحسن الوضوء، وهما صبيان صغيران فقالا له: أيها الشيخ! نحن طفلان صغيران واختلفنا كيف نتوضأ، فاحكم بيننا لترى أي منا يتوضأ أحسن من الآخر، فتوضأ الأول كما توضأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتوضأ الآخر كما يتوضأ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قالا له: احكم، فقال: أحكم بأنكما توضأتما على السنة وأنا لا أحسن الوضوء.
فعلماه كيف أنه يجب على الإنسان أن يتوضأ، وهو بنفسه عرف خطأه.
فإذا استطعنا أن نعرَّف الإنسان خطأه بنفسه فهذا مكسب لنا، ونكون قد كسبنا قلبه ومع ذلك عرف الحق، وسيتبعه بإذن الله تبارك وتعالى.(76/17)
القاعدة الرابعة: عدم الإنكار في مسائل الخلاف
ثم نتكلم على مسألة وهي: أن من ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عدم الإنكار في مسائل الخلاف، وهذا الأمر مهم في ذاته لأنه كثيراً ما يفهم خطأً، ونقصد بذلك أن الأمر الاجتهادي المحض لا ينكر فيه.
وبعض الناس يقول: لا إنكار في مسائل الخلاف، فإذا جئت إلى إنسان لا يرفع يديه في الصلاة -مثلاً- إذا كبر لتكبيرة الإحرام، أو الركوع أو بعد الرفع منه، أو لا يقول: آمين، أو لا يجهر بها، أو ما أشبه ذلك، فإنك تجد من يقول: لا تنكر عليه لأن المسألة خلافيه.
وإذا جئت إلى إنسان يترك زوجته تخرج أمام الرجال كاشفة الوجه، ولو سترت كل شيء لكن بقي الوجه- والكفان- ثم يقولون لك: المسألة خلافية فلا تنكر عليه.
فنقول: ليس الأمر كذلك.
فالمسائل الخلافية التي لا إنكار فيها هي مسائل الاجتهاد المحضة التي يجتهد فيها العلماء فتختلف وجهات نظرهم، والجميع ينطلقون من الكتاب والسنة، وينتهجون منهج الكتاب والسنة، أما العالم أو المذهب الذي يخالف نصاً من النصوص عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو في كتاب الله، فإنه ينكر عليه، ولو قد قال بذلك بعض الأئمة، فهذا لا يمنع من الإنكار، وإلا لاتبع الناس الأئمة في أخطائهم وأصبحت معروفاً، وتركنا سنة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أجل أن فلاناً اجتهد فاخطأ، وهذه مصيبة: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63] والفتنة الشرك، فلا بد أن نفهم ما هي مسائل الخلاف.
مثلاً: إذا أحرم الحاج مفرداً أو متمتعاً أو قارناً، فنقول: هذا لا إنكار فيه، ولو كنت ممن يرى أن التمتع هو الأفضل، فيحسن بك أن تقول ذلك، وأن تبينه له وترشده إليه إرشاداً، لكن أن تنكر عليه، وأن تقول: لا إحرام لك، فلا تفعل ذلك لأن هذه -فعلاً- من مسائل الخلاف.
لكن مسألة أن المرأة تسفر عن وجهها، فهذه المسألة لا تعتبر من مسائل الخلاف، وأخطأ من خالف فيها، فقد خالف كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والعالم له أجر اجتهاده، لكن نحن نأثم لو أننا سكتنا وقلنا: الأمر فيه خلاف.
وكذلك صلاة الجماعة فلا نقول: بعض العلماء لا يرى أنها واجبه، فلا ننكر ونجعلها من مسائل الخلاف؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هدد تاركي الجماعة بأن يحرق عليهم بيوتهم، ولولا ما فيها من النساء وما فيها من الأطفال لحرق عليهم بيوتهم، بل يجب الإنكار على من خالف سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكذلك بعض المنكرات الظاهرة كحلق اللحية، بغض النظر عن أن هذه الأمور تنكر بالحكمة والأسلوب الحسن، لكن لا نسكت ونقول: الأمر ليس فيه شيء لأن فيه خلاف، فليس كل خلاف معتبر، وسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صريحة وقاطعة في تحريم حلق اللحية، ولم يثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الإطلاق أنه أخذ منها شيئاً فضلاً عن حلقها وقد أمرنا بذلك، فإذاً لا نقول: هذه مسائلُ خلافٍ، بل هذه مما يجب أن ننكر فيها، وألا نرضاه ولا نقره؛ فهذه أيضاً من القواعد والضوابط التي ينبغي أن تعلم.
أما مسائل الخلاف في المعاملات- في البيع والشراء وما يتعلق به- هل هي أمور تلحق بالمباح أو تلحق بالحرام، أو تلحق بالربا مثلاً.
وذلك مثل بعض الأشياء التي ليس فيها نص، وإنما اجتهد العلماء فيها هل يلحقونها بالحلال أو بالحرام، فاشتبه فيها الأمر، فنقول: نعم، هذه لا إنكار فيها، فلا نعاملها كالمنكر الصريح، ولكن موقفنا هو أن نرشد وننبه الأخ الذي يفعلها إلى ما نراه نحن هو الصواب، لأن الدين النصيحة، ولا يؤمن أحدنا حتى يحب لأخيه مثل ما يحب لنفسه، فإذا كنت أنا أرى أن هذا هو الراجح، ولا أوافق من خالفني في ذلك من العلماء، فأنصح لأخي وأبين له على سبيل النصح والبيان والإرشاد، لا على سبيل الإنكار كما في الأمر الظاهر المخالف لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأعود لأقول: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو ضعيف في مجتمعنا، وضعيف حتى في أنفسنا، وفي بيوتنا إلا من رحم الله تبارك وتعالى، وإنه لأمر عظيم، وإن له قواعده وضوابطه التي يجب علينا أن نعرفها وأن نتواصى بها، وأن نحث أنفسنا على تطبيقها بإذن الله تبارك وتعالى، وأنه مهما كان قلة العدد، وضعف الإمكانيات، إذا تمسكنا بسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة، وفي الأمر والتغيير، فإننا بإذن الله تبارك وتعالى سوف نحقق ما نريد، بل ما يرضي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لأن غرضنا إنما هو إرضاء الله.
نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يكتب لنا ولكم رضاه وتوفيقه ونصره، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.(76/18)
الأسئلة(76/19)
نصيحة حول الشك
السؤال
أنا امرأة متزوجة وزوجي رجل شكاك، كلما سمع كلاماً من أحد عني سواء أكان صحيحاً أم كذباً لا يتحقق من ذلك؟
الجواب
هذه المرأة تشكو من زوجها من أنه على كل حال يشك فيها، ويسمع الواشين، وأنه لا يتركها تذهب إلى أهلها، ولم يبتعد عن سماع ما يقوله هؤلاء الذين يتقولون عليها، والحقيقة أن هذا المشكلة منتشرة في المجتمع العام، فشك الرجال في نسائهم منتشر وليس خاصاً بهذه الأخت، وما سبب ذلك إلا التهاون في الاختلاط والمكالمات، وأمور أخرى تؤدي إلى حدوث الشك، والقضاء على الشك يكون بالآتي: أولاً: بتقوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو أن تتقي المرأة الله، وأن يتقي الرجل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا يفتري أحد على أحد ولا يتقول عليه، وعلى الوشاة أو المشككين أن يتقوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لأن القذف في أعراض المحصنات الغافلات المؤمنات من الكبائر.
ثانياً: يكون بترك الأسباب المؤدية إلى الشك، أرأيتم المرأة المسلمة التي لا تخرج من بيتها إلا لضرورة ومع محرم، ولا تخاطب إلا من شرع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لها أن تخاطبه، ولا تخلو إلا مع محرم وهكذا، أرأيتم كم تكون نسبة الشك فيها؟ وإن وقع الشك فإنه سيكون الإثم بالكامل على صاحب الشك أو على الواشي، لكن إذا شاركت هي فتبرجت أو اختلطت أو تساهلت حتى بالكلمات: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] وهذه الآية قالها الله تبارك وتعالى لأمهات المؤمنين، فإذا كان التساهل منها فإن مما تعاقب به هو أن يُشك فيها، وإن كانت بريئة مما هو أكبر مما تفعل.
وهذا ما يجب علينا جميعاً أن نتعاون عليه، ونرجو من هذه الإخت أن تجتنب كل أسباب الشك، وأن تصبر بعد ذلك، لأن المؤمن مبتلى، كما نرجو من زوجها أن يتقي الله وألا يشك لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12].(76/20)
حقيقة الستر
السؤال
من ستر على مؤمن ستره الله في الدنيا والآخرة، فما هو الضابط في عملية الستر؟
الجواب
بعض الناس يفهمون -الستر الذي هو بلا شك من سنن ديننا ومن آداب الإسلام- على أصحاب المعاصي والمنكرات أنه عدم إنكار المنكر، ويفهمون أنك لا تبلغ عن مصنع خمر لأن الستر طيب، ويفهمون أنك لا تبلغ عن بيت للدعارة لأن الستر طيب، والله تعالى يحب الستر، والحقيقة أن الأمر ليس كذلك.
أولاً: الجهات المكلفة شرعاً بتتبع المنكرات الباطن لا يجوز لها أن تتهاون في هذا الشأن، فرجال الهيئة ورجال مكافحة المخدرات وما يلحق بهم؛ الذين من مهمتهم ومن عملهم أن يتتبعوا المنكرات الباطنة، يجب عليهم أن يتتبعوا المنكرات الباطنة، ولا ينطبق في حقهم مسألة الستر.
والأمر الآخر أن الهدف في حال الكشف أو الستر: هو تحقيق مسألة الإيمان والدين، فالمرء قد يخطئ، والإنسان قد يهفو، وهو رجل صالح فاضل، فيختلي بامرأة لا تحل له، فهذا الستر عليه أولى مع الموعظة والنصح، ومع متابعة النصيحة بعد ذلك، فالستر عليه منك أولى، لكن لا تتركه على منكر، بل تنبهه إلى ذلك وتستر عليه، أما فاجر مجاهر معروف بالفجور فالحال معه يختلف.
وهكذا يجب أن نضع كل شيء في موضعه الصحيح، والنهي عن التجسس يعني ألا أشك في جاري، وألا أترصد من الثقوب لأرى هل يشرب الخمر أم لا؟ فهذا سوء ظن لا يجوز، لكن إذا كان جاري يجمع الناس على شرب الخمر، وقد نصحت ووعظت، ثم لم يُجد ذلك، فيجب علي أن أبلغ عنه، ولو عوقب.
فالأمر يجب أن يوضع له ضابط، وأن ننظر في المصلحة إن كانت في الستر أو في عدمه، حتى لو كان من رجال الهيئة ورجال الحسبة، ورأى أن المصلحة أن يستر على هذه المرأة، لأنها هفت وأخطأت، وسوف تستغفر الله وتتوب، فما فعلت إلا مقدمات للفاحشة كالخلوة فيمكن الستر إذا رأى ذلك، لكن من ظهرت عليه علامات الفسق وعلامات الفجور فلا يُستر.
وأيضاً الحاكم -صاحب السلطة- ليس من شأنه الستر، فالحدود إذا وصلت إلى ولي الأمر فلا يجوز أبداً إلا أن تقام الحدود وأن تطبق، فأنت قبل أن توصل الموضوع إلى ولي الأمر فبإمكانك أن تستر إذا رأيت المصلحة تتحقق في ذلك، لكن إذا أوصلته إليه أو تعلم أنه وصل إليه فلا تذهب وتشفع، وتقول: اتركوا هذا فهو رجل طيب، وسيهديه الله، وقد قبض عليه وهو زانِ أو شارب خمر، فهذه شفاعة في حد من حدود الله يأثم صاحبها ولا يؤجر عليها، ولا تجوز بأي حال من الأحوال.(76/21)
علاقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالجهاد
السؤال
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو قمة الجهاد، خصوصاً وأن المستعمرين للمسلمين لم يستخدموا السلاح -كما هو معروف في الاحتلال- بل استخدموا تفشي المنكرات بين الأمة، فلماذا لا يدعى الشباب إلى الجهاد في هذا المجال، ويوضح لدى الشباب أن الجهاد في هذا المجال أولى من حمل السلاح في أي بلاد، فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
نعم هو جزء من الجهاد، والجهاد إنما يكون من أجله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] فهذا الإذن بالجهاد، ثم بعد ذلك بين الله تعالى بعدها بآية: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41] فالجهاد يكون من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو من الجهاد، ولا بد فيه من الصبر، حتى العبد الصالح لقمان قال لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17] فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقترن بالصبر كما أن الجهاد مقترن بالصبر.
إذاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من الجهاد، ولا يمكن لأمة أن تجاهد عدواً وتنتصر عليه والمنكرات متفشية فيها، فأمة تغلب أعداءها بأعمالها، ويغلبها أعداؤها بذنوبها، فإذا تركنا الذنوب تنتشر فلا نطمع في نصر الله بأي حال من الأحوال.
ولهذا فمن هو قائم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو قائم على جهاد في سبيل الله، قد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] والجهاد في الله أعم من مجرد قتال الكفار، فالجهاد في الله عز وجل هو جهاد الدعوة التي تشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطلب العلم، وإحياء السنة، وقتال الكفار، وكل ذلك من الجهاد في الله الذي قال: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78] نسأل الله أن يجعلنا كذلك.
فعلينا جميعاً أن نحث إخواننا على المرابطة في هذه الجبهات العريضة التي فتحها علينا أعداء الله، فأعداء الله لو احتلوا بلادنا بقواعد عسكرية لعرفوا أننا سوف نثور عليهم ونحرر بلادنا من هذه القواعد، ولكن إذا احتلوها بالأفلام الخبيثة وبالمجلات الخليعة، وبالنساء الفاجرات اللاتي يأتين في أشكال مضيفات أو ممرضات أو خادمات، وما أشبه ذلك، وبكل الوسائل التي تقتل الأمة قتلاً، وتدمرها، وتجعل عدوها يسيطر على اقتصادها وأخلاقها، وكل ما تملك، فماذا يريد العدو بعد ذلك بالتراب؟! وقد حصل على ما يطمع ويسعى إليه: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].
ولكن اليهود والنصارى والشيوعيين يحاربون كل بلد بطريقة ما فقد تدخل الشيوعية بلداً من البلدان بالسلاح والقوة، وقد تدخل عن طريق الفكر والأدب والفن، والحداثة، ولكن هذه لها طريق وهذه لها طريق، فلا نقل: إن أعداء الله لا يعرفون إلا لوناً واحداً من ألوان العداء، بل هم يعرفون ألواناً كثيرة، فالشياطين يوحي بعضهم إلى بعض ليحاربونا بهذه الأنواع والأصناف من أنواع الحرب، وجهاد هؤلاء جميعاً واجب، وكل إنسان يحاربهم بما يستطيع، وبما يقتدر عليه وبما أعطاه الله من إمكانية، بالقلم أو باليد أو بالكلام، وأقل ذلك أن ينظف بيته وقلبه وسمعه وبصره من المنكرات، فهذا هو أقل ما في الأمر.(76/22)
كيفية محاربة التبرج
السؤال
النساء المتبرجات هل لكل أحد أن يأمرهن بالمعروف وينهاهن عن المنكر؟ وما الضابط في ذلك؟
الجواب
يجب علينا جميعاً أن نتعاون على إنكار تبرج النساء، لكن لا يعني ذلك أن على كل واحد منا أن يذهب إلى المرأة ويخاطبها في السوق، بل منا من يخاطب أولياء الأمور، ومنا من يخطب ويحاضر في خطبة جمعة وما أشبهها، ويحذر من ذلك، ورجل الهيئة والحسبة يذهب بنفسه ويباشر ذلك العمل في السوق، ومنا من يؤلف الكتب في هذا الشأن، ومنا من يأتي إلى كتب العلماء وفتاواهم فيطبعها ويوزعها وهكذا.
فالجهود يجب أن تتكاثف، وكل منا مسئول عن هذا الدين.
فالمذيع في الإذاعة مسئول أن يحارب هذا في الإذاعة، والمسئول في التلفزيون مسئول عن تطهيره من التبرج، وأن يدعو الأمة المسلمة إلى ترك التبرج وإلا يأثم، وأنا في مسجدي آثم إن لم أدعُ الناس وأعظهم بذلك، ورجل الحسبة يأثم إن لم ينزل إلى السوق ويباشر ذلك العمل ويأخذ التعهد على الآباء وهكذا.
فالتبرج وغيره من المنكرات يجب على كل إنسان كبيراً كان أم صغيراً أن ينكرها، ويجب علينا أن نتعاون بقدر ما نستطيع لأن نقضي عليها.(76/23)
المسلم بين التلقي والتبليغ
بدأ الشيخ هذا الدرس بذكر الثمار المرجوة من اللقاءات والندوات الخاصة، مبيناً أنه ينبغي على الدعاة أن يستغلوها في تدارس أمورهم وحل مشكلاتهم، مع الإشارة إلى أحوال الدعاة اليوم، ونبه على الأسلوب الأمثل الذي يتخذه الداعية لتربية الجيل، وحذر من الحماس الكاذب الذي يقع فيه بعض طلبة العلم والدعاة، ثم ذكر ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من حرص على التعليم والدعوة، ثم بين ملامح الدعوة الناجحة التي ينبغي للدعاة التمثل بها لتؤتي الثمار المرجوة لها.(77/1)
ثمرة اللقاءات الخاصة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فإني أشكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي جمعنا برحمته، وأسأله أن ينفعنا -جميعاً- بما نقول وبما نسمع إنه سميع مجيب.
أقول: إنها لمناسبة طيبة وفرصة قيمة، أن نجلس ونلتقي مثل هذا اللقاء، لنتداول المشورة والرأي، ولنتباحث في قضايا كثيرة لا يتناسب المقام أن نتحدث فيها أمام عامة الناس، كما لو كان اللقاء في المسجد -ونِعمَ اللقاء في المسجد- ولكن هذه اللقاءات الخاصة ضرورية للدعوة.
وإنني أرى أن من خير ما تقوم به الجامعات والمعاهد والمؤسسات الدعوية أن تقوم بمثل هذا اللقاء، وأن تجمع المهتمين بأمور الدعوة؛ ليتباحثوا في الأمور المهمة، بحيث تكون اللقاءات منهجية، والموضوعات معدة مرتبة لاستقصاء جوانب كثيرة يعيشها الشباب، وتهم الدعوة، ويشعر الجميع بضرورة معالجتها.
وأنا أومن وأنادي بأن تكون الأمور على هذا المستوى من الأخذ والتلقي والطرح والتداول، كما قال الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] وهي آية مكية، ولم يكن الحديث هنالك عن أمور المسلمين العامة، وعن أن الدولة الإسلامية شورية فقط، بل أمرهم شورى بينهم في كل شيء كما في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159].
والأمر من أعم الألفاظ في اللغة العربية وهو بمعنى الشأن، وكل ما يطلب المشاورة فيه؛ فالشورى فيه إن لم تكن واجبة فهي بلا ريب خير من الرأي المنفرد.
والحقيقة أننا معشر الدعاة نعيش واقعاً يكاد يكون متنافراً، بمعنى أن كلاً منا يحارب في ميدان ويصرخ في واد، لكن كيف نستفيد من هذه الثمرات؟ وكيف نوظف ونجمع هذه الجهود؟ وكيف يستفيد بعضنا من خبرة بعض؟ وما هو المنهج الصحيح في قول الحق ونشره؟ ثم كيف نحصد ردود الأفعال التي تنشأ عند الناس من قول الحق ومن نشره؟ وهذه كلها تحتاج إلى معالجات وإلى دراسات شاملة، وإني لأحمد الله على مثل هذا الاجتماع لنتحدث في مثل هذا الأمر، ولهذا سأجعل النصيب الأكبر من الوقت لاقتراحاتكم، واستفساراتكم، لأني أعاني فردياً من كثرة ما يرد عليَّ.(77/2)
الطريقة المثلى لتربية الجيل
فمثلاً: عندما تسأل: كيف يتلقى الشباب العلم؟ هذه مسألة ليست الإجابة عليها كما يظن بعض الإخوة أن تقول له: كذا وكذا؛ فتلك ليست إجابة سليمة متكاملة، هذه الإجابات لا تعطي ثمرة، بل الإجابة الحقيقية تكون بدراسة شاملة لوضع هذا السائل ومستواه، وكيف يمكن أن يتلقى، وما الذي يمكن أن يفلح فيه من العلوم إلخ، وكذلك السؤال الآخر الذي كثيراً ما يرد: كيف ندعو إلى الله؟ ومن هنا يتبين لنا ضرورة أن تكون هذه الأمور دائماً في حس وأذهان الشباب، وأن نركز على القضايا والمسائل المنهجية الأساسية.
ثم نحن -والحمد لله- لنا قدوة، نحن لسنا جدداً على هذه الأمور في التلقي، وطلب العلم، أو في التبليغ والدعوة، وإنما نحن أتباع متبعون قد سبقنا إلى ذلك السلف الصالح رضوان الله عليهم وسبقنا إلى ذلك أئمتنا المجددون، دعاة الخير والهدى في كل زمان ومكان، فهل أخذنا من خبراتهم؟! وهل عرفنا زماننا لنضع الأمور في مواضعها الصحيحة؟ هذا ما ينبغي أن يتدارس، ولا يكتفى فيه برأي واحد.(77/3)
الحماس الكاذب
إن الشباب المسلم تعصف بهم العواطف من كل جهة، فإن هبت الرياح لطلب العلم وجدت الاعتكاف الشديد، والنهم الذي يقبل به بعض الشباب -وهم مشكورون على هذا الحرص- لكن نجد الإقبال الذي يعقبه الفتور، فهذا يقرر أن يحفظ القرآن الكريم كاملاً ومعه كذا وكذا من الأحاديث، وهذا يقرر أن يرحل إلى أحد العلماء وينقطع عن الحياة ليتلقى على يديه، ويجتهد الجميع أول الأمر ثم يعقب ذلك فتور، ثم مراجعة الحساب، ثم يقول: كنت مخطئاً، وكثيراً ما نسمع مثل هذا: أخطأت، تسرعت، استعجلت، لم أفِ بوقتي، لم أكسب، ولم أحصل على ما أردت، أو ربما دفع به اليأس إلى الانقطاع الكلي.
وإذا هبت الرياح لإنكار المنكر -وهو حق لا شك فيه ولا مرية- والمنكرات تزحف علينا في كل مكان، بل قد اقتحمت بيوتنا ومكتباتنا، وشوارعنا، فأمة مستهدفة من كل مكان، فماذا يفعل الإنسان، في أي جبهة نصارع، وأي ملة نكافح، وأي عدو نتصدى له؟ في كل مكان يضطرب الشاب يميناً ويساراً، وتكون النتيجة في النهاية قريبة مما أشرنا إليه في طلب العلم.
وكذلك في الدعوة: يأتي بعض الإخوة الكرام ويعجبون من تقصير الدعاة في نشر الدعوة إلى الله، مع أننا نحن أمة الخير كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110] نحن أمة الدعوة، وأمة الجهاد كما قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104] وقال أيضاَ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
إن الإنسان ليعجب أن يرى الجهل في العقيدة، وكذلك في الأحكام الظاهرة، متفشياً ومنتشراً من حوله، وفي بيئته وما جاورها، وفي الأصقاع البعيدة أشد وأشد، ثم يقول: كل هؤلاء يعبدون الله على ضلالة وجهل، وكثيراً ما يقال: وهذه الملايين المشركة الملحدة مسئولية من؟! أليست مسئوليتنا؟! فيندفع الشاب باندفاع عاطفي، ويذهب ذات اليمين وذات الشمال، ويضع المشاريع الطويلة الكبيرة التي يخيل إليه بعدها أن الناس سيهتدون، أو أن بلاداً ستفتح للدعوة، ثم في ساحة العمل، وفي حقيقة الميدان يفاجأ بعد سنوات، وإذا به وحده، أو معه قلة، أو معه جهود لا تكاد تذكر، وإذا به لم يزرع شيئاً، ثم يأتي ويقول: ماذا أصنع؟ لم لا يكتب لنا منهج محدد؟ لم لا نفعل؟! أقول: هذا واقع موجود، وإلا فالحمد لله فإن هناك السائرون على المنهج السليم المحكم، الرتيب الهادئ، الذي لا تدفعه العاطفة ولا تحركه النوازع الارتجالية أو المؤقتة، هذا موجود -والحمد لله- وثمراته ظاهرة، وهم منارات الطريق للبقية الحائر والشباب التائه.(77/4)
من المسئول؟
إنها مسئوليتنا جميعاً في أن نرسم الطريق الصحيح والسليم، طريقاً عملياً في الدعوة إلى الله تعالى.
فواحد منا لو أعلن عن محاضرة في أي مسجد لجاءه جمع غفير، فنحن لا نشكو من قلة الناس، أو من قلة المقبلين على الخير؛ لكن نشكو من نوعية ما نقول نحن، ماذا نقول؟ وماذا نقدم لهم؟ وهذا القول ماذا بعده؟ وماذا سيترتب عليه؟ وهل نستطيع أن نتدارك الآثار التي تنتج عنه؟ هل نستطيع أن نوظف إيجابيات هذه الآثار، وأن نتلافى السلبيات التي تنتج عنه؟ فإنه بمجرد القول أو الكلمة -وهو خير عظيم ولا شك- يتأثر الكثير ولكن أين ما بعد ذلك؟ أترون اليوم أن المشكلة هي في وجود شباب يعرف الله، ويطيع الله ويتقيه، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقط؟ أقول: ليس الأمر كذلك، المشكلة التي يعاني منها الدعاة هي مشكلة هذا الشاب الذي اهتدى وأتاك رافع اليدين، مستسلماً يريد أن توضح له الحق، وتنير له الطريق، كيف تنير له الطريق؟ وكيف توضح له أمر الدعوة إلى الله تعالى؟ تقول له: هذا حرام.
نعم هو حرام، لكن كيف يتعامل مع المنكر ومع هذا الحرام؟ كيف يتعامل مع أسرته وقبيلته ومع زملائه في حيه؟ تصرفات كثيرة لابد أن تضبط على المنهج الصحيح لتقبل أولاً عند الله، ولتؤدي الثمرة المرجوة منها في واقع الناس، ولكي تكون الدعوة إلى الله تعالى -كما هو حقها دائماً- مكان التقدير، ومكاناً يليق بوظيفة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.(77/5)
نظرة إلى ما كان عليه السلف من التلقي والدعوة
لننظر إلى تلقي الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وكيف تلقوا هذا الدين، وماذا بعد التلقي.
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أنزل عليه قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] قام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتحمل هذا القول الثقيل، وأنذر الناس؛ فجاءه أولئك الثلة المؤمنة الذين آمنوا بالله وصدقوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأول شيء حدَث أنهم غيَّروا قلوبهم، وغيَّروا نظراتهم وموازينهم وآراءهم، فكل شيء في حياته تغيَّر لأنه قد تحول من الكفر إلى الإيمان، وأصبحت النظرة نظرة الانقياد لشرع الله، ماذا أمر الله؟ وماذا أحل الله؟ وماذا حرم الله؟ هكذا كانوا، لماذا كان الجاهليون يرتكبون الموبقات، ويسفكون الدم في الشهر الحرام في البلد الحرام، ويقطعون الطريق، ويئدون البنات؟ وكانوا لا يتورعون عن أي فضيعة من الفضائع، فأصبح الواحد منهم بعد ذلك يرجف من خوف الله -عز وجل- إذا قيل له: اتق الله، كلمة واحدة كانت تهز قلوبهم.
ولهذا ورد أن حماد بن زيد رضي الله عنه قال لـ أيوب: أي العلم كان أكثر: في زماننا أو في ما كان قبلنا؟ فقال أيوب رضي الله عنه: العلم في الزمن الأول أكثر، ولكن الكلام اليوم أكثر.
هذا في زمنهم فكيف بزمننا؟! الكلام كثير، فبعض الكتب الآن عشرة مجلدات، لكن ما أثرها وما مفعولها؟ الصحابة رضوان الله عليهم كانت تنزل آية، أو يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً، وهذه مواعظه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أيدينا، فتراهم يخفضون أصواتهم، ويبكون من خشية الله تعالى، ولا تنتهي الموعظة بل تستمر معهم، ويتذكرها الواحد منهم مادام حياً؛ لأن قلوبهم طهرت، ونقيت، وصفيت لتلقي هذا العلم، وتلقي هذا الدين؛ لأنهم أذعنوا واستسلموا لأمر الله تعالى، همهم دائماً هو قال الله وقال رسول الله ولا كلام بعد ذلك، علموا أن الله لا يقبل منهم إلا ذلك كما قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
حرم الله الخمر -وما أدراك ما الخمر إذا تعلق بها الشخص؟ - ودول العالم الآن جميعاً تعاني من مشكلة الإدمان، وكيف تقضي على الإدمان، ففي أمريكا الميزانية الإضافية لمشكلة المخدرات ثلاثة آلاف مليون دولار، هذه مبالغ إضافية لمكافحة الإدمان، هذا الشيء الذي يسلب لب الإنسان -نعوذ بالله-، لما أنزل الله تبارك وتعالى تحريم الخمر ماذا فعل الصحابة -رضوان الله عليهم- عندما سمعوا قول الله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91]؟ قالوا: انتهينا وربنا انتهينا -بدون تفتيش ولا محاكمات ولا هيئات مكافحات- أريقت الخمر حتى جرت في شوارع المدينة، إننا نقول: متى تفيق القلوب التي تتلقى أمر الله سبحانه تعالى.
ليس المسألة كما يُقال الآن: الوعي، الثقافة، المعرفة، وهل هناك مجتمع أوعى من مجتمع أمريكا في المجتمعات المعاصرة؟! أمريكا حرمت الخمر سنوات؛ ثم اضطرت أن تبيحها لما رأت انهماك الناس وإقبالهم عليها والمصانع في البيوت، فالدستور الأمريكي لم يتغير فيه إلا مادتين فقط مدة عمر هذا الدستور، هما: المادة التي حرمت الخمر، والمادة التي ألغت التحريم، وبقية الأمور ثابتة.
ومن الغرائب عن الشيوعيين -وهم الذين يتزعمون الجبهة الشرقية-ما جاء في كتاب ميخائيل جورباتشوف إعادة البناء يقول -فيما معنى كلامه-: إن الخمر فتكت بشبابنا، ونريد أن نقضي على مشكلة الخمور والإدمان، وقد بذلنا جهوداً في ذلك، وقد اقترح البعض عدة تشريعات لمنع الخمر، وقد فكرنا في ذلك، ولكن هذا لا يجدي؛ لأنه ما إن فُكِّرَ في اتخاذ هذا الإجراء حتى انتشرت صناعة الخمور الجوفية، فصنعوها في البيوت، إذاً فلا فائدة من ذلك، فالقضية ليست قضية وعي، ولا قضية ثقافة، ولا قضية أن الناس يرون شعارات براقة فيتركون ما حرم الله، إنما المسألة مسألة إيمان وقع في القلوب.
ولذلك كان شعار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه الكرام إذا كانت هناك معصية أن يقولوا: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15] فيحاول الإنسان ألا يقع في معصية أبداً ويقول: يجب أن أخاف من عذاب الله، وهذه تقع في الحالات التي لا تُراقب، ولا يطلع عليها أحد، وهذه هي حالة التقوى كما وقع ليوسف -عليه السلام- مع التي راودته وهو في بيتها، قص الله ذلك بقوله: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} [يوسف:23] امرأة العزيز راودته، وغلقت الأبواب وقالت: هيت لك، فكل الاحتياطات متخذة، فلا خوف من أي شيء، ومع ذلك لم يفعل! والرجل الذي ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث: {ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله} وكذلك: {الرجل الذي أطبق عليه الغار، وكانت له ابنة عم وكان يراودها عن نفسها فامتنعت، فلما احتاجت جاءت إليه فرفض أن يعطيها إلا بعد أن تمكنه من نفسها، فلما جلس بين رجليها قالت له: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقام خوفاً من الله}.
فهؤلاء هم الذين خافوا الله دون أي رقابة، وهذه هي القلوب التي تتلقى ما أمر الله به، فتظهر ثمرة خوفهم وبركته في أعمالهم هم، ثم بعد ذلك يدعون الناس إليه، ولا يتأخرون، فكانوا رضوان الله عليهم يستثقلون الإكثار من طلب العلم؛ لأنه حجة الله تعالى، يقول أحدهم: لماذا استكثر من حجة الله علي؟ مع أنهم أحرص الناس على العلم، ولكن إذا كنت أتعلم العلم فأعمل به، وأدعو إليه، فهذا شيء ثقيل، ومن هنا كان يستثقل أن يزداد شيئاً من العلم، لكي لا تزداد الأمانة عليه، وتزداد مسئوليته، فلابد أن يقف موقفاً ما.
ولهذا لما تعرض الإمام أحمد بن حنبل -رضي الله عنه- للفتنة قيل له: تأول، فقد تأول بلال وتأول عمار، قل كلمة وانج بنفسك، فقال له: اخرج إلى الباب وانظر، فخرج فإذا الناس في الباب واضعين أقلامهم يكتبون، فقال الرجل: ماذا تصنعون؟ قالوا: نسمع إلى ما يقول أحمد فنكتبه، فقال الإمام أحمد: والله لا أضل هؤلاء.
سبحان الله! لما أن طلب العلم ورفعه الله به، وحفظ من السنة ما حفظ، ووعى منها ما وعى؛ كان مثالاً حياً لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأصبح الناس يأخذون عنه ما يقول، فهم يحسبون حساب التبعة الثقيلة.
وليس كل أحد يسعه السكوت، وليس كل أحد تسعه التقية، بل لابد للأمة من قيادات، ولابد لها من أناس نذروا أنفسهم لله قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54].
ويكون الإنسان محباً لله إذا كان محباً لأوامر الله تعالى، ويكون محباً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا كان محباً لأوامره، ومن هنا يأتي ما نأمله من قلوب تتلقى ذلك بمحبة، وبإذعان، وبإخبات لله تعالى، وهذا هو مقتضى العبودية.
وهذا معنى أنني عبد مؤمن مسلم وليست تلك المعارضة، أو المنازعة، أو المدافعة لما جاء عن الله أو جاء به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك كان وجوباً على أي متبع لشيخ، أو لإمام، أو لعادة من العادات، أو لأي أمر من الأمور، لابد أن يرغم النفس لتوافق قول الله وقول رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(77/6)
الدعوة الناجحة
إن تبعة الدعوة وثقل الأمانة عظيم، وهي تبدأ عندما تبلغ الناس الحق وتنتهي بأن تقود هؤلاء الناس، وتوجههم وتضبط تصرفاتهم حتى يستقيموا على الحق مادمت حياً على الأقل، وتضمن أن يستقيموا على ذلك فيما بعد، ثم هي مرحلة طويلة وخطوة عظيمة، وليست -كما يتصور البعض- أنها كلمة تقال!! ومن هنا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مربياً ومزكياً، فهو يزكي هذه القلوب: بالخير، والإيمان، والجهاد، والصبر، والعلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تزكية يومية مستمرة، ومن هنا تجدون مراحل الدعوة كيف تغيرت.(77/7)
التربية بالمعارك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
لما خرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بدر خرج معه من خرج، وقد أراد الله أن يصطفي تلك الطائفة بأن تكون من أهل بدر الذين قال لهم: {اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم}.
ويوم أحد خرج معه أول الأمر من خرج، ثم في آخر المعركة قال: {لا يخرج معنا إلى حمراء الأسد إلا من خرج معنا في أحد}.
وفي يوم حنين فر من فر، ويأتي يوم تبوك يوم تخلف المنافقون الذين كانوا يقسمون بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن، وهذه هي طبائع المنافقين أصحاب الوعود الكاذبة، والأماني الزائفة، -إننا نخاف على أنفسنا من النفاق، ونخاف أن تنطبق هذه الآية علينا، وإن كانت عن النفاق؛ لكنها قد تنطبق علينا بسبب ما فينا من الفتور، وضعف الهمة، ووهن العزيمة- فهم يحلفون ويقسمون الأيمان، حتى إذا جاء النفير وقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انفروا؛ تخلفوا.
ثم يأتون بعد ذلك فيقسمون الأيمان إننا لمعذورون، فما منعكم؟ قالوا: شغلتنا أموالنا وأهلونا، ويعتذرون بالأعذار التي لا تنفعهم شيئاً عند الله، لكن الثلاثة الذين تخلفوا ولم يقبل منهم ولم يعتذروا بالكذب، والمقصود كيف عوقب الثلاثة؟ ولم؟ لأنهم تربوا، وزكيت قلوبهم على يد محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طويلاً، فلن تكون معاملتهم كأولئك! وذلك البناء الطويل بعد هذه الجهود العظيمة وهم من السابقين، رجلان شهدا بدراً والآخر شهد البيعة، فلا يمكن أن يكون الأمر بهذه البساطة.
انظروا إلى نوح -عليه السلام- لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، فكانت الحصيلة أنه ما آمن منهم إلا قليل، قيل: بضع وثمانون رجلاً وامرأة؛ فكان مجموع من آمنوا مع نوح -عليه السلام- حملتهم سفينة واحدة، والسفينة ليست لهم خاصة؛ بل حمل من كلِ زوجين اثنين، فكل من آمن مع نسائهم وأطفالهم، ومع من شاء الله له أن يحمل من الحيوانات.
وهؤلاء كلهم الذين نجوا نتيجة دعوة ألف سنة إلا خمسين عاماً لماذا؟ لأن الأمر ليس مجرد أن نوحاً -عليه السلام- يقول للناس قولاً، أو أن هذا الإيمان هين وسهل، بل الإيمان بناء عظيم، وتبعة كبيرة، يستتبع الواجبات الثقال على الإنسان، ومن هنا كان تفاوت الناس في الإيمان بقدر تفاوتهم في الهمم.
انظروا إلى الصحابة رضي الله عنهم كيف كانت هممهم قبل أن يسلموا، وكيف كانت بعد أن أسلموا، ماذا قال أبو جهل يوم بدر قال: لا نرجع حتى ننزل بـ بدر، فتعزف القيان ونشرب الخمر، وتسمع بنا العرب فلا تزال تهابنا أبد الدهر.
هذه همة الجاهليين في كل زمان ومكان؛ لكن الصحابة -رضوان الله عليهم- همتهم عالية، عظيمة، بعيدة، فعندما عرض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسه عام الوفود على بني فلان وبني فلان، والكل يتململ ويعتذر، قالوا: نخشى قومك، وقالوا له: هل يكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر لله، والأرض لله يورثها من يشاء.
ثم جاء أصحاب الهمم العالية والنفوس المتطلعة إلى الأمر الأعظم فقالوا: ما يكون لنا يا رسول الله إن نحن فعلنا؟ قال: لكم الجنة، فقالوا: الجنة؟ ربح البيع إذن! والله لا نقيل ولا نستقيل، همة عالية أعلى من هذه الدنيا، ولا يعني ذلك أنهم لن يرثوا الأرض، بل أخبرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته فقال: {إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله} فأنفقت في سبيل الله عز وجل، وورث سراقة سواري كسرى لما كانت الهمة العالية المتطلعة إلى الأعلى، أورثت الأدنى تلقائياً.(77/8)
بناء الهمة العالية في نفوس شباب الصحوة
ومن هنا يجب أن تكون الهمة العالية في طلب العلم، وأن تكون الهمة العالية في بناء الإيمان في القلب، ثم في نقله وتحويله إلى الناس في واقع منضبط يأتمر بأمر الله تعالى، لا نريد الإيمان الذي يتحول إلى حركات وارتجالات وانفعالات فقط، إنما نريد من الشباب المؤمن أن يزداد إيماناً، حتى تنضبط هذه العاطفة على الإيمان، وتصبح تأتمر وتنتهي بأمر الله وبأمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
تكون كما كان قلب الصديق رضي الله عنه في يوم الحديبية، عندما قال عمر رضي الله عنه: {يا رسول الله ألسنا مؤمنين؟ ألسنا على الحق؟ فعلام نعطيهم الدنية في ديننا؟ قال له الصديق: لا يا عمر، إنه رسول الله} والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: {إنني رسول الله ولن يضيعني الله}.
هكذا التسليم لأمر الله، ولأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مهما كانت العاطفة تجيش، ونظن أن هذا الحماس لمصلحة الحق والدعوة، لكن الكل يضبط بضابط محكم، وهو الاتباع لسنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولذلك تجد كثيراً من الإخوة لديهم غلو في طلب العلم، وغلو في تطبيق بعض الأمور، وغلو في الدعوة، وفي تعجل النتائج الخ، والطائفة الأخرى لديها من التثاقل ومن التثبيط، ومن عدم التجاوب ما يميت، فيكسل بعض الدعاة، فلا شعور ولا إحساس يمكن أن يحركه! فلو أن الدعاة أو المدعوين من أمثال هذه النوعية فلن تتقدم الدعوة خطوة واحدة أبداً.
يجب أن نجعل كل أوقاتنا، واهتماماتنا بأمر الدعوة كأساس وأصل، ومنهج، كيف نطلب العلم؟ كيف نعمل لهذا العلم؟ كيف نصبر؟ وأن يكون ذلك كله منضبطاً بأمر الله، وأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3] وتكون سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسيرة السلف الصالح أمامنا دائماً.
فنطلب من العلم ما طلبوا، ونهتم بمثل ما اهتموا به، ولا ننظر إلى العاجل، ولانخاف في الله لومة لائم، كما ذكر الله عز وجل، ندعو كما دعوا؛ ففيهم الأسوة والقدوة، ونصبر كما صبروا، ونتحمل كما تحملوا، ونلاقي في ذات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما لاقوا.
فإذا كنا على آثارهم فثقوا أننا سنصل -بإذن الله- إلى شيءٍ مما وصلوا إليه، أو يشملنا الله تعالى برحمته فيوصلنا إلى ما وصلوا إليه، وينشر الله دعوته ودينه على أيدينا، فيكون لنا بذلك فضل السبق في زمن الغربة، وفي زمن الفتنة، ونكون من الغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس، أو يصلحون عند فساد الناس.
إن الواجب عظيم، فأوصي نفسي وإخواني أن نتذكر دائماً أن هذا الواجب عظيم وثقيل، وأننا نحن طلبة العلم أكثر الناس مسئولية عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهذه أمانة عظيمة لا ننساها أبداً، ولن يشفع لنا إلا ما عملنا أو قدمنا، وكل ما نعمله وكل ما نبذله من جهد فلنراجع أنفسنا فيه، ماذا أثمر؟ وماذا أنتج؟ وبذلك نكون -إن شاء الله- على المنهج القويم الذي فيه تتحول الجهود إلى حركة ذاتية منضبطة على أمر الله وأمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس مجرد هيجانات، أو ثورات عاطفية سرعان ما تخبو، وسرعان ما تخفت.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم لي ولكم الثبات على الحق في المحيا والممات إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.(77/9)
الأسئلة(77/10)
دور الشاب مع أسرته التي يكثر فيها المنكرات
السؤال
أنا شاب أعيش في عائلة تكثر فيها المنكرات، حاولت معهم بقدر استطاعتي لإزالة المنكرات التي تكاد تكون ضعيفة جداً ولكن لا فائدة، مع العلم أنني لا آمن على نفسي أن أرتكب كبيرة من الكبائر؟
الجواب
هذه حالة من حالات الأمة، ومن حالات الشباب، نأخذها الآن نموذجاً؛ فهذا شاب -ولا أعنيه بذاته- سمع النصائح والمواعظ والتوجيهات، وعاشر بعض الإخوة وخالطهم، وسمع أشرطة طيبة؛ فاستقام واهتدى، والآن يريد أن يدعو إلى الله، فيأوي إلى بيته وإذا به يرى أبويه متلبسين بالمعاصي، وأخواته وإخوانه كذلك، فماذا يصنع؟ من هنا نعرف واجبنا نحن طلبة العلم، وهذا الواجب لا يقع على عاتق خطيب خطب وذهب، أو واعظ وعظنا وذهب إلى حاله، ولا على عاتق مؤلف ألف كتاباً فاشتريناه وقرأناه، بل يجب علينا جميعاً أن نعاون مثل هذا الشاب، ناصحين ومربين له.
إن إمام المسجد الذي يصلى عنده، أو مُدرسه، أو شيخه الذي يتلقى على يديه العلم، وأمثال أولئك، يجب أن نعيش مع مثل هذه الحالة، فالتوجيهات العامة لا تكفي، لأننا نستطيع أن نقول: يجب عليك يا أخي المسلم أن تصبر على أذى الوالدين، وإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] نعم، لكن كيف يطبق هذه الآية؟ وعلام يصبر، وعلام لا يصبر؟ فتحقيق المناط له صفات معينة لابد منها، فنحن ننصح هذا الأخ وبقية الإخوة عموماً بما يلي: أولاً: بأن يقوي إيمانه؛ لأنه يقول: بأنه لا يستبعد أن يرتكب كبيرة من الكبائر -نسأل الله العفو والعافية- وإذا انتكس الإنسان فرجوعه أصعب من هدايته أول الأمر، فنسأل الله لنا وله الثبات ونقول له: قو إيمانك، وتوكل على الله واعزم على الحق، وخذ هذا الدين بجد، وأقبل عليه، وعوامل تقوية الإيمان كثيرة منها: الصحبة الطيبة، ومنها: ذكر الله، ومنها: قراءة القرآن، ومنها: التفكر في ملكوت السماوات والأرض، ومنها: زيارة المقابر وغيرها مما يقوي الإيمان.
ثانياً: لابد أن تكون العلاقة مع الوالدين -مهما فعلا- علاقة طيبة مع الصبر؛ لأنه كما ذكر الله أنه ليس بعد الشرك ذنب، وأن الشرك أعظم ذنب؛ لكن مع ذلك فقد أُمِرَ الإنسان بأن يصاحبهما في الدنيا معروفا، والأصل أن لا يخالطهما ولا يقرهما فيما يفعلان من المنكرات، وعليك أن تجتهد بذلك بقدر المستطاع، وأن تستشير من يرشدك.(77/11)
موقف الشاب إذا كانت أسرته صوفية
السؤال
والدي ومعظم أقاربي يعتقدون بشرعية الاحتفال بالمولد، ويؤمنون بأن قراءة الأوراد الصوفية المنمقة النص والترتيب قربة، ولكن يؤمنون بالله، وأنه لا إله غيره، وأن محمداً رسول الله، ولكنه عبد ليس كالبشر بل أرفع منهم درجة بما اختصه الله، فما واجبنا -نحن الأبناء- نحو والدينا وأقاربنا؟
الجواب
إن من أعظم المنكرات أن تنتشر البدع، بل هي أخطر وأخوف على المؤمن من المعاصي، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة}، وحسبكم ما ورد في الخوارج، فقد صح فيهم الحديث من عشرة أوجه، ولقد أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صفاتهم وأحوالهم، فقال: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم} ولكن ما الذي جعلهم بهذا المآل القبيح؟! إنها بدعتهم -نسأل الله السلامة- فالبدعة خطر، وهنا لا بد من المنهج في مثل هذه الحالات التي يعج بها المجتمع أحياناً.
وبالنسبة للعلاقة بالوالدين فلا بد أن تكون بمحبة، وأن تقدم لهما الخير والحق والهدى، على طبق من المحبة والاحترام والتقدير.
وأقم الحجة على الأقارب الأقرب فالأقرب بالحكمة والسهولة واللين، فبقدر قرابته وفضله تحرص على أن تقيم الحجة عليه، وتعظهم وتذكرهم بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن تقول لهم ذلك بعلم، ولذلك نقول: لابد من العلم، ولو أننا استطعنا أن ننقل أسرنا ومجتمعنا إلى درجة عالية من العلم؛ لاستطاعوا هم أنفسهم أن يفرقوا بين البدعة وبين السنة.
إنّ هذه البدع تنتشر بالتلبيس، يأتي الملبسون الدجالون قطاع الطريق، الذين يقطعون طريق الصحوة المباركة، ويصرفون الشباب ذات الشمال في البدع، فيلبسون على عامة الناس، إلا من كان لديه علم وبصيرة، أما العامة فيلبس عليهم حتى وإن كان تاجراً كبيراً، نعم مهارته وفكره وعلمه في التجارة؛ لكن في الأمور الشرعية يلبس عليه أي مبتدع فيضحي بماله في سبيل البدعة.
أو بمنصبه في سبيل البدعة، فلا بد من نشر العلم بين المجتمع، لتقوية الجانب العلمي، فإذا ظنوا أن الحق هو الباطل أعطيناهم مناعة، أو حصنّاهم ضد أي بدعة أو شبهة، وما أكثر البدع والشبهات!(77/12)
مواجهة الشباب الملتزم لسخرية العامة
السؤال
إذا التزم الشاب وتمسك واجهته مشكلة كبيرة هي: سخرية العامة منه وخاصة من الأقارب، فمعظم الشباب يرجع على ما كان عليه، فكيف يواجه الشاب هذه السخرية؟
الجواب
السخرية والاستهزاء أوذي بها كل الناس، فهذا نوح -عليه السلام- وهو يصنع الفلك كان كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه، فالسخرية لابد أن تأتي، وقد سُخِرَ واستُهزِئ بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستهزئ بالرسل من قبله كما أخبر الله تعالى، فلا جديد فيها، ولكن كيف نتعامل معها؟ أقول: ننتبه إلى أمر تربوي مهم، وهو أن الشباب المقبل على الله، حديث العهد بالهداية والتوبة لا نجعلهم في واجهة البركان، أو في واجهة التيار فلا يستطيعون المقاومة.
فالاستهزاء باللحية -مثلاً- أو بتقصير الثياب، أو ببعض السنن الظاهرة أكثر ما يواجه الشاب الملتزم الاستهزاء بها، أما الباطن فلا يمكن لأحد أن يعمله إلا الله، ومن هنا نقول: يعطى هذا الشاب الإيمان والهدى على جرعات؛ حتى يستقيم على هدى الله تعالى، ولا يعني ذلك أن نتركه يمشي على معصيته، لكن عندما أخاطبه فيكون راغباً في الحق أعطيه قليلاً قليلاً، أما إذا كنت أريد منه دفعة واحدة أن يذهب فيكسر الغناء الذي في البيت والموسيقى، ويحطم ما فيه من الصور المحرمة، ويقطع العلاقات بتاركي الصلاة من أقاربه، ويفارق الزوجة؛ فهذا في الحقيقة بدلاً من أنه كان مستسلماً طائعاً فسأجعله في معركة لا يستطيع أن يواجهها، وأتحمل مسئوليته بعد ذلك إذا انحرف، وكثيراً ما ينحرف الشباب بسبب الثقل.
لكن نريد من هذا الشاب أن يوغل في الدين برفق، ونحن نعينه على ذلك، لكن برفق في التربية، فيبدأ بالأساسيات أولاً، وكيف يعالج الأمور بحكمة؟ وكيف يكون في موقع دون أن يعصي الله تعالى، ولكن دون أن يثير عليه السخرية؟ أن نضمن أنه يستطيع أن يتحمل ما يعطى، كما يعطى المريض جرعات من التطعيم تجعله في النهاية يدخل بين المرضى ولا يبالي، فبدون تطعيمه لا تنقله بين المرضى، لكن أعطه من اللقاحات الكافية ثم اعمل له اختبارات حتى تطمئن عليه، بعد ذلك سينطلق ولا تخاف عليه، فهذه أمثلة من الواقع يجب أن ننتبه لها.
ويجب ألا نعرض مثل هذا الشاب لمشاكل، فإذا جاءنا هذا الشاب واستقام قلنا له: أترك عملك، إن كان له عمل! وتعال لتلتحق بدرس من الدروس في المسجد -مثلاً- فالحقيقة أنك حملته ما لا يطيق وعرضته لكلمات الناس، فيقال: اهتدى وترك الوظيفة، أو اهتدى وضيع عائلته، أو اهتدى وفعل كذا؟ فمن المسئول؟! أنا الداعية الذي قلت له هذا الشيء، بخلاف ما لو حذرته وحرصت على تربيته.
فمثلاً: يأتيك إنسان يعمل في بنك ربوي -ولا شك أن العمل في جميع هذه البنوك حرام- ومع ذلك إذا جاءك مثل هذا فلا تقل له اترك عملك، مع أن هذا هو الواجب؛ ولكن لو قلت له اترك، ما الذي يحصل؟ بعضهم ترك فجأة، فلم يجد عملاً، فعاد إلى البنك، وقال: لم أجد عملاً ويكون بخلاف ما لو أنك قلت له: ابق حتى تجد عملاً مناسباً.
ثم اجتهدت معه حتى يجد له عملاً مناسباً، ثم صبرته وقلت له: إن الله سيعوضك خيراً منه، ثم ينتقل بعد ذلك نقلة طبيعية ويضمن أنك كنت معه حتى انتقل، فتكون بذلك قد ضمنته، نعم مثل هذا الأمر وهذا العمل يجب أن يتركه، وإذا استطاع أن يتركه اليوم فلا يؤجل ذلك إلى الغد، لا شك في ذلك.
لكن نقول: هذا هو حال الحرام، فكيف يؤدي الواجبات أو الطاعات أو يطلب العلم؟! هل تربطه بحيث يبدأ يحفظ من العلوم، ويضيع اختصاصه الدراسي ويضيع الحقوق التي عليه، فتكون النتيجة أن يقول الوالدان والأهل: منذ أن تعرَّف على فلان، وبدأ يحفظ القرآن، بدأ يضيع المال، فلا يصح هذا! ولا يفيد ذلك شيئاً.
وأحياناً يقال: منذ أن تعرف على هؤلاء الشباب الطيبين ذهبوا به إلى المسجد، وبعد ذلك أصبح عاقاً لوالديه، كانت أخلاقه طيبة، كان يحب أمه وأباه، ويلبي لهم أي طلب، ولما اهتدى واستقام تركهم؛ لأنه لم يرب التربية الصحيحة.
ولذلك لو أن الآباء أصبح شعورهم أن الابن إذا استقام يعقهم، فسيصبح الآباء يدعون: اللهم لا تهدِ أولادي! ولهذا لابد أن نضع مناهج واقعية وجدية ومرحلية، بمعنى أن يكون الإيغال في هذا الدين برفق، وتربية الشباب عليه تربية صحيحة، ليضمن ثبات هذا الشاب بإذن الله في المستقبل.
وعلى أي حال نوصي هذا الأخ بالصبر، وكلنا من المأمورين بذلك.(77/13)
الحكمة في تبليغ الحق
السؤال
من المعلوم أن تبليغ الحق إلى الناس يحتاج إلى حكمة بالغة، ومن الملاحظ من بعض من هداهم الله للحق، أنه يتخذ طرقاً في التبليغ قد تعود عليه بمشاكل عدة وعلى إخوته في هذا المجال، وإذا قلت له: لابد من الحكمة قال: إن الحكمة التي تدعيها هي في الحقيقة مداهنة، ويقوم أحياناً بأمور يستطيع عليها أهل الحسبة لما لهم من سلطة ولكنه تسرع، فما توجيهكم له؟
الجواب
هذا واقع، وهذه حقيقة، ونحن بغض النظر عن الأذى وعن الألم، بعض الناس عندما تذكره يقول: أنا مضحٍ ولا يهمني سبحان الله! لننظر إلى حال السلف الصالح، الصحابة رضي الله عنهم أكثر منا تضحية، فقد كانوا يطلبون من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأذن لهم في قتال الكفار وهم في مكة، ولو أذن لهم لربما قامت منهم مجموعة وهجموا على المشركين في دار الندوة، ففتكوا بهم، وانتهت القضية، ولكن كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمرهم بالصبر.
ولما نزل الأمر بالجهاد ما نزل أمراً، ولكن نزل إذناً كما قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39]؛ لأن القلوب متشوقة متحرقة من قبل يريدون ذلك.
والحمد لله هذه علامة خير، وعلامة إيمان، لكن المطلوب تغيير المنكر فإذا رأيت مثلاً جهاز أغاني بجوار بيت الله الحرام هل أدخل فأحطمه؟ لا ينبغي أن أقوم بعمل فتنة، لكن أنصحه وأعظه، ولا أقول: دعهم ولا تتكلم معهم، فهذا غلط وألف غلط.
إن القضية: هل هذا العمل صحيح؟ وهل هو سديد؟ هل فعل هذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه الكرام؟ هل لك أنت أن تغير باليد؟ وهناك أسئلة كثيرة يجب أن توقف مثل هذا الشاب عند حده.
فنجاح الدعوة الحقيقي يقاس بمقدرتك على أن تعري المنكر أمام الناس، حتى تضمن من أنهم إذا رأوه تقشعر منه جلودهم، لا بأن تحجبهم عنه.
في أمريكا بلاد العهر والفجور والدعارة والفسق والفساد، الشاب الذي لديه مكافأة ضئيلة يقتطع من مكافأته للمراكز الإسلامية، ليقاوم الشهوات، ويقاوم المغريات، والمنكرات، فهذا الشاب ترتاح لمثله.
نحن لا نقلل من أهمية إنكار المنكر أبداً، ولكن يُنكر بالطرق المشروعة، والمهم عندنا هو نجاح الداعية بحيث يستطيع أن يجعل الناس مقتنعين بإنكار المنكر بقلوبهم، ويرفضونه حتى ولو عرض عليهم، حتى لو بذل لهم الثمن، بحيث لو جئت إلى شاب تقي مؤمن، وقلت له: هذا مليون ريال، وهذه مخدرات أو سجارة فاشربها، لا يشربها -انظر كيف تبذل المليارات لمكافحة المخدرات أو لغيرها- أما هذا فيرفض أن يأخذ مليون ريال! هذا من الإيمان، وهذا النوع لا يرجوه أي غاصب، وهذا الذي تطمئن إلى أنه صار جندياً لهذا الدين، وسيستمر على ذلك بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أما مجرد أن هذا المنكر ذهب أو زال أو اختفى؛ فالحقيقة لو أن الأمر بهذه الطريقة، فهذا يعتبر أمراً سهلاً، وليس صعباً.
وأضرب لكم مثالاً: لما دخلت الشيوعية إلى أفغانستان دعا داع الجهاد، فقام وهب الفلاحون والعمال والطلاب والموظفون، وفي أشهر معينة أو في عدة أسابيع تدربوا على معظم أنواع الأسلحة، وتقدموا في هذا المجال فهزموا الشيوعيين والحمد لله.
وهذا دليل على أن كون الإنسان يستوعب الإنكار باليد أو يجاهد باليد ليس بتلك الصعوبة؛ لكن المشكلة هل يستطيع أن يأتي هذا الشاب إلى جاره، أو أمه، أو زوجته، فيجعلهم ينكرون المنكر، هنا الصعوبة، ومن هنا كان دور الأنبياء شاقاً وصعباً.
فهذا نوح -عليه السلام- مكث ألف سنة إلا خمسين عاماً، لم يسلم له إلا قرابة المائة؛ لأنه يخرج الإنسان من الكفر والشرك والمعاصي راضياً مختاراً، ولو عرضت عليه لأباها، أما مجرد التهور أو التسرع والتعجل فلا يفيد، والعاقبة لن تكون سليمة قطعاً.(77/14)
كيف يتعامل الداعية مع المسائل الخلافية
السؤال
ما هي الخطوات التي يتبعها الداعية المهتدي الذي لم يتمكن من معرفة الخلاف المذهبي بين الناس في قضية دعوتهم، ما هو موقفه أمام المسائل الخلافية؟
الجواب
لا يصح لنا أن نعود الشاب من أول أمره على أن المسألة فيها قولان، خاصة العامة، فلا ينبغي أن نبدأ: هذه المسألة فيها خلاف، وهذه فيها خلاف، وبذلك نكون قد شتتنا الناس! وفي المقابل يقول البعض: أنا لا أريد أقرأ عليهم بكتاب فقه معين فأوقعهم في التقليد، إذا كان التقليد خطأ -وهو خطأ طبعاً- فأيضاً هذا الضياع خطأ، وقد تفر من تقليد إنسان أو عالم، فتقع في تقليد من لا يستحق أن يقلد.
فهنا تأتي الحكمة، فإن هناك أساسيات يجب أن تعرض بدون خلاف، وهناك أمور قد عرف الخلاف فيها، فيعرج عليه على أنه يوجد ولكنه مرجوح، ويفصل في أدلة القول الراجح ولا يفصل في الآخر؛ لأن القلوب قد يعلق بها شيء من أدلة المرجوح أحياناً، هذا في الناحية التربوية، ولا نعني الناحية العلمية مثل البحث العلمي؛ لكن نحن نتكلم في نواحي التطبيق والتربية، بعد ذلك إذا اطمأننت إلى مستواه العلمي، تقول له: هذه المسألة فيها كذا، وهذه المسألة فيها كذا.
ولذلك لماذا نجد التسرع عند طلبة العلم فنرى أحدهم يقول: إن هذا القول خطأ؛ لأن هناك حديثاً ضده، فلا يصبر مع أنه لم يعرف الأحاديث الأخرى، ولا ماعند المخالف، وهذا التسرع أخذه الطالب ممن علمه.
فأقول: منهج طلب العلم مضبوط، فالذي يقول لا نقبل هذا الكلام، ولا نقبل المذاهب، ولا نقلد، ولا ندعو إلى التقليد فهذا حق ولكن لا يقوله كل أحد، قال الشافعي: 'إذا رأيتم قولي مخالف لقول الله وقول رسول الله فاضربوا به عرض الحائط'.
إذاً المسألة مسألة اتباع، لكن كيف تنفذ؟ كيف تعلن؟ الحمد لله في هذا البلد أنعم الله علينا بنعمة عظيمة، واسألوا كيف حال البلاد التي علماؤها مداهنون مفرقون كلٌ على طريقة أما نحن أنعم الله علينا -والحمد لله- أن علماءنا فتاواهم وعملهم ومنهجهم بفضل الله عز وجل على منهج السلف الصالح.
ولذلك فإنه يقال: هذه فتوى من الشيخ عبد العزيز، هذه فتوى من اللجنة الدائمة، فإنها تقابل بالاحترام والقبول، ألا ترون أن الواحد منا إذا أخذ فتوى اللجنة الدائمة في تحريم الغناء الذي يظهر في التلفزيون والإذاعة، هي ورقة واحدة إذا قرئت على الناس، أو علقت في مسجد، أثر على الناس التأثير العظيم.
لكن لو قلت: هذه الفتوى فيها قولان، وأنا أقول كذا وكذا، نعم هذا صحيح، ولكن حتى لو ألفت مجلداً، فهل ستؤدي هذه الفتوى نفس التأثير التي تؤديه الفتوى الصادرة من اللجنة الدائمة؟ وإذا قلت هذه فتوى الشيخ ابن عثيمين في المجلات وزعها أو اطبعها، أو علقها على المسجد، فإنك تسمع الناس يقولون هذه فتوى الشيخ ابن عثيمين، فلا يناقشون، هكذا تعلم الناس أن يحترموا العلماء.
لكن ثقوا بأن من لم يسلك هذا المنهج، أو ربى الشباب على عدم احترام العلم والعلماء، فأول من يجني الثمرة هو من دعاهم إلى ذلك.
إن المنهج العلمي منضبط، والسلف الصالح هؤلاء بين أيدينا، واقرءوا سيرة السلف الصالح، هل تجدون رجلاً منهم تعلم الحديث والرجال في خلال شهرين ثم أخذ يصحح ويضعف؟ لكن هذا الشيء واقع اليوم في حياتنا، وهو عجيب جداً، ويدل على خلل كبير جداً نعاني منه.
وأُذكِّرُ بالقضية الأساسية، ألا وهي قضية هذا الشاب الذي اهتدى، وعرف الحق، وبدأ يقرأ كتب العلم، كيف يستقيم على الهداية، وكيف يستمر ويواصل الدرب في سبيل الدعوة، فهذه هي المسئولية ولا نُعفى إن تخلينا عنها.(77/15)
الأسلوب الحسن من شروط الدعوة
السؤال
بعض الناس ليس لهم أسلوب في الدعوة كما ينبغي، فقد يفسد أكثر مما يصلح، فهل يعذر بترك الدعوة إلى الله؟
الجواب
الحقيقة هذه مشكلة، أن يصبح الشاب المسلم عبئاً على الدعوة، ويتمنى زملاؤه أن يتوقف عن الدعوة -ولا حولا ولا قوة إلا بالله- لأنه لم يضبط نفسه، ولم يملك من كبح الهوى ما يضبط تصرفاته، يظن أن كبح النفس عن الهوى أنك تمنعها عن الخمر والزنا والغناء، لا؛ بل كل شيء لا ينضبط على أمر الشرع فهو اتباع للهوى، وقد يكون من اتباع الهوى أن يقول الإنسان: لئن مكنني الله من الكافر فلان الفلاني لأقطعنه إرباً وأمثل به، وهذا لما كان متوقعاً من شباب المسلمين، قال الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126].
فينبغي أن تضبط النفس بما شرع الله تعالى، ولا ينبغي أن يكون الداعية بهذه الحالة، ولكن لو حصل فعلاً أن أحداً هذه تصرفاته، فهذا لا يصلح أن يكون داعية، وقد يكون من الخير له أنه يبحث عن مجال آخر، وألا يثير مشكلة، ونحن نعاني من القطيع الذي لا يعمل، ونعاني من المتهور الذي لا يتأمل، والله المستعان.(77/16)
متى يكون الداعية مؤهلاً للدعوة
السؤال
متى يكون الداعي مؤهلاً للدعوة إلى الله بالفعل والكلام والكتابة؟
الجواب
بعض الإخوة يفهم أن الداعي إلى الله لا بد أن يدرس وقتاً طويلاً، فيكمل فتح الباري كله، والمغني، ويسمع كل الأشرطة التي قيلت في الفتاوى والعلم والموعظة، وبعد ذلك كله إذا صار مجتهداً يدعو إلى الله! هذا خطأ، والبعض من الناس يسمع كلمة من بعض الخطباء، أو يسمع موعظة من شريط فيقوم يفتي كما سمع في الشريط، وكل هذا خطأ! إلى أي شيء ندعو الناس؟ ندعو الناس إلى أساسيات واضحة، وإلى أمور شبه واضحة، وإلى أمور دقيقة غامضة، هذا هو الواقع، إذا دعونا الناس إلى الأمور الجلية الواضحة فقط فهذه يمكن أن يدعو إليها أي إنسان مستقيم، العامي وصاحب المتجر، وصاحب المخبز، والبقال، كلهم يستطيعون أن يقولوا: إن الزنا حرام، وإن الربا حرام، والاختلاط بين النساء والرجال حرام، وهذا واجب على الجميع.
وما كان غير ذلك مما اختص به طلبة العلم، كالكلام في الطرق الصوفية فهذا لأهله، وما كان أدق من ذلك فلأهله الخاصة، وهكذا نضع كل شيء في موضعه.
وأنت في كل مرحلة من المراحل بقدر ما تتهيأ له تدعو، ومن الدعوة إلى الله أنه إذا جاءك أمر وأشكل عليك، أو كان فوق طاقتك، أن تحيله إلى من هو أهل له، ثم تدعو الناس، وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم يدعون الناس، فإن أشكل عليهم أمر سألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعد موت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا يستفتون الصحابة العلماء، وهم معدودون ومعروفون، فيرجعون إليهم ويسألونهم ثم يدعون الناس، وهذا أيضاً من الدعوة، ولا يشترط أن أكون حافظاً لكل شيء لكي أقول للناس كل شيء، وهكذا التأهيل على خطوات، ومع التأهيل لكل مرحلة تكون الدعوة، وتكون الانطلاقة.(77/17)
التخصصات العلمية
السؤال
هناك قضية التخصص، فبعض الشباب يبرزون في النواحي العلمية، ولكن ليس لهم القدرة على التعامل مع الناس فما نصيحتكم لهم؟
الجواب
التخصص بذاته لابد منه، ولكن لابد مع التخصص من حد أدنى معقول مقبول في بقية الأمور، فهناك من وفقه الله في الأسلوب الناجح في الدعوة والتعرف، لكن لابد أن يكون عنده حد أدنى من العلم، وهناك من يكون قد وفق في علم مثل علم الحديث -مثلاً- لكن لابد أن يكون عنده حد أدنى في اللغة، وهكذا فلابد مع التخصص من حد أدنى في بقية الأمور.
وانظروا إلى الصحابة الكرام خالد بن الوليد سيف الله المسلول، ومعاذ أعلم الناس بالحلال والحرام، وأبي بن كعب أقرأ الناس، وزيد أفرضهم، فالتخصصات موجودة بين الصحابة رضوان الله عليهم لكن مع ذلك كل منهم كان لديه قدر معين مشترك، فنحن يجب أن نكون كذلك، فعندنا معرفة في العقيدة، وفي الحديث، وفي أصول العلوم الشرعية عموماً، فلابد من حد أدنى، وبعد ذلك ينبغ الإنسان في مجال تخصصه، ولا تتعارض هذه التخصصات أبداً.(77/18)
التأثير الوقتي يزول بزوال المؤثر
السؤال
تلقيت العلم من أهله وتأثرت، ولكن سرعان ما زال التأثير بزوال المؤثر، فما هي نصيحتكم لي ولأمثالي؟
الجواب
هكذا طبيعة النفس، ولهذا جاء في حديث حنظلة: {لو أنكم بقيتم على ما أنتم عليه عندي لصافحتكم الملائكة، ولكن ساعة وساعة يا حنظلة} فهذه طبيعة النفس البشرية، والإيمان يزيد وينقص، ولهذا يجب عليك أن تسعى دائماً إلى تقوية إيمانك، وتقويته تكون بصلتك بالله تعالى والتزام وسائل تقوية الإيمان.(77/19)
حقيقة الغلو والتطرف
السؤال
هل التمسك بالحق من الغلو؟ وما هو حد الغلو والتطرف.
جزاكم الله خيراً؟
الجواب
التمسك بالحق ليس من الغلو، بل التمسك بالحق هو الحق، لكن الغلو ما جعله الشرع غلواً، لا ما جعله الناس غلواً، فالغلو ما جاء في كتاب الله، وفي سنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما جاء عن منهج السلف الصالح وعرف على أنه غلو، هذا هو الغلو أو ما يسمى بالتطرف، أما الصراط المستقيم الذي كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فليس فيه غلو بل هو الحق.(77/20)
الزواج وطلب العلم
السؤال
هل الزواج يتعارض مع طلب العلم؟
الجواب
ذكر الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد عندما تعرض لمسألة العلماء العزاب الذين ضحوا في سبيل العلم ولم يتزوجوا، أن هذا ليس من سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أصحابه، ونحن ديننا دين التكامل، ودين الحنيفية السمحة، ودين الفطرة الذي يلبي كل الرغبات.
فإذا كان المقصود من السؤال أن الإنسان لا يتزوج ويقول: أنا أطلب العلم ولا أتزوج، فنقول: لا.
هذه هي رهبانية النصارى.
أما إذا كان قصده أن يؤخر الزواج حتى يكمل الدراسة أو شيئاً من هذا، فنقول: إن هذه الأمور بحسب الأفراد، بحسب الحالة الشخصية، لكن الأصل والقاعدة في زمن الفتنة، والفساد الذي نعيش فيه، والإغراءات والمثيرات أن الزواج حصن حصين للشباب يجب أن نسعى إليه، ويجب أن ندعو ونحث عليه، ليس عند طلبة العلم فحسب؛ بل عند عامة الناس بما نستطيع، يجب أن نسعى وأن نكوِّن رأياً عاماً؛ ليضغط على الآباء وعلى الأمهات وعلى أولياء الأمور، وعلى المسئولين أن يهتموا بقضية الزواج.
وفي مثل هذه الظروف التي تعيشها الأمة الإسلامية اليوم؛ حتى لو كان ليس لديه رغبة قوية في الزواج، أو لو كانت قدرته البدنية على المعاشرة الزوجية فيها شيء من الضعف، فأقول كما قيل عن عمر رضي الله عنه ولا أعلم صحته ولكنها حقيقة، أنه قال: [[إني لأتكاره وأمني نفسي لعل الله أن يخرج مني نسمة تعبد الله عز وجل]].
ونحن الأمة الإسلامية الآن لو عزفنا عن الزواج، فسنصبح أقلية مع هذا الوجود الصليبي الضخم، ونحن أيضاً في هذا البلد بالذات أقلية، فنحن في الحقيقة بحاجة إلى قوة بشرية وهي رأس كله قوة، وأهل السنة بالذات بحاجة إلى أن يتكاثروا.
صحيح أن هذا يكلف أشياء ومسؤوليات لكن نتوكل على الله، والإنسان كما يقال: هو أساس كل شيء، وهو أساس كل مُنتَج، والإنسان إذا كان في شارع يزدحم بالناس فإنه يفتح أكبر مؤسسة، لكن في قرية صغيرة لا يفتح شيئاً، لأن وجود الناس هو الذي يحرك العمل، وكثرة الناس في مكان العمل تساعد على نهوض العمل.
والمقصود أن العوامل التي تحث على الزواج كثيرة والحمد لله، لكن أتأسف وأتألم عندما أجد بعض الإخوة يجعل الأمرين متعارضين: الزواج، وطلب العلم.
أما ما يكون من بعض الشباب حيث جعل الزواج استغراق في المتعة وفي الشهوة، وتمشية الزوجة، وغير ذلك من هذه الأمور، وجعل شهر العسل سنة، فهذه الأمور لا تصح ولا تنبغي، ولكن أعط كل ذي حق حقه، فتزوج ولكن أيضاً قم بطلب العلم، ولا تترك الدعوة إلى الله، ولذلك اختر ذات الدين لأنها لن تعيقك عن الدعوة، بل ستعينك على أمور الدعوة إن شاء الله.(77/21)
ظاهرة إيثار دروس الوعظ والرقائق على دروس وحلقات العلم
السؤال
نجد أن كثيراً من الشباب الملتزم المتمسك، لا يحضرون الدروس العلمية ولا المحاضرات العلمية المركزة، وإنما يحضرون المحاضرات التي تعتمد على الرقائق غالباً، كما يحضرون المحاضرات للمشهورين من العلماء، فما نصيحتكم لهؤلاء؟
الجواب
قد يترك العالم الجليل المشهور الذي نتمنى أن يتاح لنا أن نجلس معه ساعة، ويترك حضور حلقة علم، ويحضر عند وعاظ أو أصحاب رقائق، هذه ليست ظاهرة جديدة بل هي ظاهرة قديمة؛ فقد كان بعض الوعاظ يجلس عنده عشرون ألفاً، وإن كان ليس في روايته ذكر صحيح وضعيف وربما اختلطت مواعظه بالأحاديث الموضوعة حتى هجرت أحاديث القصاص؛ لأن القاص غالباً مع العاطفة والتذكير ربما يأتي بحديث وليس بصحيح، ويقول: قال الله ولم يقل الله ذلك، همه العبرة أكثر من الصحة أو الضعف.
فالمقصود أن هذه المشكلة قديمة، وإقبال الناس على المواعظ والرقائق قديم، بل حتى على الأشعار، فـ الصوفية عندها ذكر الأشعار أو سماع الأناشيد، أفضل من سماع القرآن؛ لأن الأشعار والنغمات تحرك القلوب والعاطفة، فمن الممكن أن تزيد العاطفة بغناء من يغني شوقاً إلى ليلى ولبنى الخ، لأن الفاصل بين العاطفة والنفس دقيق جداً؛ لكن الفاصل الواضح الكبير هو ما يتعلق بالعلم وبالعقل الذي يعتبر الجانب الواعي في الإنسان، فهذا الذي تكون فيه الأمور دائماً واضحة، والقصد أن العاطفة تتأثر وتستجيب للمؤثرات العاطفية، وخاصة أنها لا تكلف شيئاً.
أما حضور حلقات العلم المشهورة، كما يحصل في شهر رمضان يأتي الرجل إلى الحلقة، ويبدأ الشيخ في اليوم الأول في الصيام وأحكامه وأنواعه، ويدخل في الكفارة، وكيف اختلف العلماء، فيخرج من المحاضرة وهو ما استفاد أي شيء؛ لأن مشكلتنا أنه ليس عندنا صبر ولا جلد على العلم، وكأنه يكلفنا ما لا نطيق.
وإذا لم تضبط لديه المسألة يأتي إلى الشيخ فيقول: ارجع إلى كتاب كذا رقم كذا؛ فيقول الشاب: مراجع! كتب! وأذهب لأشتري الكتاب وأقرأه! هذه مشكلة! فيبدأ يحب الأشرطة؛ لأنها سهلة، ويستطيع أن يضعها في السيارة، ويستمع لها إذا ركب السيارة وذهب إلى عمله، لكن الكتاب يحتاج إلى فهم وتركيز وتعليق فيكرهه.
ولا أعني ترك ذلك على الإطلاق بل بالعكس، أنا أقول: إن المواعظ يجب أن تنشر بأكبر وأقصى حد عند العامة، لكن الموعظة الحقة، لا خيالات، ولا منامات، ولا أقاصيص كاذبة فيها، بل المواعظ السليمة، والرقائق الصحيحة وهي كثيرة -والحمد لله- والله إن فيها الفائدة، فالقصص النبوي والقصص القرآني كثيرة وفيها الدروس والعبر، فنريد أن نعرضها على العامة، ونريد أن يكون فينا من يجيد أن يعرضها على العامة بأجمل أسلوب من حيث الأداء ومن حيث الإثارة الخطابية.
أما طالب العلم، فينبغي أن يُصبِّر نفسه ليتعلم -مثلاً- مسألة من مسائل العقيدة، أو من مسائل العلم، ثم يفهمها ويعيدها، ثم يوصلها إلى غيره فإن لم يحصل هذا فربما بعد فترة من الزمن نتحول كلنا إلى عوام، ويبرز فينا مجموعة من الوعاظ يعظون والباقي عوام يسمعون، وهذه مشكلة فالأمة لا تقاد إلا بالعلماء، ولا يحركها إلا العلماء.
شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله لما غزا التتار الشام، وقف فأفتى بفتواه المشهورة فتحركت الأمة للجهاد بها، تحركت على علم وجُمعت قلوب الناس على علم، لأنها مبنية على قال الله وقال رسول الله، فهذا هو الذي نريده وإن كان شاقاً.
فأنا مع الأخ في كونه قد يُترك العلماء المشهورون، فيكون الحضور عندهم أقل من العشر مما يحضر للوعاظ والقصاص، فهذه ظاهرة سيئة وخطيرة، ويجب أن نقاومها؛ مع أني قلت أن لكل إنسان فائدته في مجاله، لكن لسنا أنفع من العلماء، ولا أنفع من أن نقول: قال الله وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويأتيك بالأدلة التفصيلية التي تعطيك حجة علمية، كما بعث الله الرسل -رضوان الله عليهم- بالحجة، فأقول: إقامة الحجة العلمية لا تكون إلا بذلك.
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يكتب لي ولكم أجر هذا اللقاء، وأن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وأن لا يجعل فينا شقياً ولا محروماً، وأن يأجر خيراً القائمين عليه، وأن يثيبنا ويثيبهم جميعاً بحسن الثواب، والحمد لله رب العالمين، وصلِ اللهم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(77/22)
الصبر على مجاهدة النفس
بدأ الشيخ حفظه الله بالتذكير بتقوى الله، وبواجب الأخوة في الله والمحبة فيه، وبأهمية الصبر في سبيل الله، ثم ذكر بعد ذلك حال هذه الأمة وما يجب عليها أمام ما تلاقيه الأمة من هجوم أعدائها وتكالبهم عليها، وداعياً إلى العودة إلى كتاب الله، مذكراً أن الملتجأ والمعتصم به هو الله، مبيناً أن الصبر وضبط النفس وعدم الاستعجال من أهم ضرورات الدعوة والجهاد.(78/1)
التذكير بتقوى الله
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فنحن نعيش هموماً وآلاماً وأموراً يجب أن نلحظها بعين البصيرة، وبعين النقد أحياناً، وبعين المراجعة، فيجب أن تكون القاعدة في ذلك هي التذكير، وليس شرطاً أن تكون جديدة.
التذكير بالأمور التي قد نغفل عنها جميعاً، أو ننساها في زحمة العمل، وأهمها وأعظمها تقوى الله تبارك وتعالى، فإن الله عز وجل أوصى بها الأولين والآخرين كما في كتابه المبين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] أن نتقي الله تعالى في كل ما نأتي ونذر، في حركات أبداننا وخلجات قلوبنا، وألفاظ ألسنتنا، وأن يكون الله تعالى -وهو كذلك عز وجل- مطلعاً ورقيباً علينا، فلنستشعر نحن هذه الرقابة دائماً، وأن نعامله ما استطعنا بدرجة الإحسان كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك}.
والأولى بهذه الدرجة هو طالب العلم، والداعية إلى الله، أن يعبد الله بهذه المرتبة (أن تعبده كأنك تراه) فنحن آمنا به -عز وجل- بالغيب، فيجب أن نستشعر هذه الحالة، وبقدر يقيننا وإيماننا ورسوخ الإيمان بالغيب في قلوبنا، نجد أننا نسمو ونرتفع في آفاق إيمانية عظيمة، تعجز عن وصفها الألفاظ والعبارات والألسن، ولكنها منازل يبلغها الله -تبارك وتعالى- من شاء من عباده ويرفعهم إليها درجات.
فأولى الناس بأن يرتقوا هذه المنازل ويرتفعوا في هذه الدرجات العلى هم طلبة العلم، ونعوذ بالله أن يكون أحدنا شمعةً تحترق لتضيء لغيره، أن يستفيد الناس من مواعظنا ومحاضراتنا وندواتنا، ونكون نحن آخر من يستفيد منها، إنما الواجب علينا أن نجعل تقوى الله -تبارك وتعالى- نبراساً لنا في حياتنا وفي كل أمورنا، نحفظ قلوبنا وجوارحنا كما قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] وقال أيضاً: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] فطالب العلم أولى الناس بهذا، إذا نطق أن يكون نُطْقُه ذكراً، وإذا صمت فصمته عبرة، وإذا نظر فنظره فكر، ولا تخلو حال المؤمن من هذا.
وقد عبر عن ذلك بعض السلف -رضوان الله عليهم- فقال في معنى الإخلاص: [[أن تكون حركاته وسكناته لله تعالى، لا يمازجه شيء ولا يخالطه شيء]]، وهذه هي الدرجة التي تجعل الإنسان ولياً لله تبارك وتعالى كما في الحديث القدسي: {وما يزال عبدي يتقرب إليًّ بالنوافل حتى أحبه}.
فإذا جعل الإنسان هذه الرقابة والحصانة على أعضائه ومشاعره، وصارت حركاته وسكناته لله، استحق هذه المرتبة، فإذا كان كذلك صار كما قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: {كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه} فلما حفظ هذه الأمور جميعاً، وزكاها وما دساها، نال ذلك بإذن الله، فتقوى الله مع الإخلاص لله تعالى في القول والعمل هو أول ما نوصي ونذكر به إخواننا.(78/2)
التذكير بواجب الأُخوة في الله
ومن باب التذكير أيضاً أن نذكر بواجب الأُخوة في الله والمحبة، وهذه المحبة لا نعني بها ما قد يكون عند بعض الشباب من أنه يسر برؤية أخيه، ويفرح بأن يجالسه، وأن يسهر معه، وأن يذهب معه، مجرد هذا لا يكفي وإن كان في هذا خير، وإنما نعني المحبة الإيمانية بلوازمها وموجباتها الشرعية.
ومن لوازم ذلك وموجباته: التناصح، فالمحبة مقتضاها التناصح وتسديد العيب، وبيان التقصير، ودوام الانتباه لأمراض القلوب التي قد تعتري أخيك أو تعتريك، فكل منا يكون مرآة لأخيه، والمرآة -كما تعلمون- لا تدخر شيئا من العيوب، ولا تجامل ولا تحابي، لكنها لا تشهر، هذه هي الميزة.
فالإنسان يجب أن يكون بالنسبة لأخيه مرآة له، يريه ويبصره بما يرى على سبيل التناصح، فالنصيحة واجبه بيننا، أما إن كانت علاقاتنا عاطفية أو أخوية تتجرد عن التناصح، وعن تسديد الأخطاء، وعن بيان الواجب في الدعوة إلى الله؛ فإننا مع الزمن تتضخم لدينا الأخطاء، ولا نستفيد من هذه العلاقة إلا راحة نفسية يجدها الإنسان عندما يرى إخوانه، ولا شك أن هذه الراحة مطلوبة، وأنها دليل الإيمان -إن شاء الله- ولكنها لا تكفي وحدها، وأنا أعزو هذا الارتياح الذي نجده عندما يقابل بعضنا بعضاً إلى شدة وطأة الغربة والألم الذي نعيشه، فالإنسان عندما يسمع دائماً عن أهل الشر والفساد والمنكر، والبدعة، والضلالات، فإذا رأى أخاً له فرح وأنس به وتحدث معه، وهذا ما عبر عنه الشاعر:
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءةٍ يواسيك أو يسليك أو يتندم
حتى قال بعض السلف 'ذهبت لذاتُ الدنيا كلها، وبقي من لذات الدنيا محادثة الإخوان' أو 'مناجاة الإخوان' فلذة النساء تذهب بعد الشباب، ولذة المال أيضاً للعاقل ليست شيئاً، وإنما بقي منها محادثة الإخوان.
وهذه من لذات الدنيا التي تبقى مهما كبر الإنسان في السن، ومهما تقدم في العمر، ومهما افتقد من الدنيا، فإذا وجد أخاً له في الله يحبه وجلس معه، استمتع ووجد راحة لا يجدها في أيٍ من اللذات الأخرى التي تضمحل وتذهب.
إن هذا يعود إلى وطأة الغربة -أحياناً- ولكن ذلك لا يعني أن نسترسل ونسترخي لعواطفنا، وإنما محبتنا -حتى لله ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هي محبة إيمانية، وليست مجرد علاقة أو محبه عاطفية، وإنما هي محبة إيمانية لها مقتضيات ولوازم، وتتطلب منا أعمالاً وأموراً لا بد أن نحققها في واقعنا وفي أنفسنا، هذا الشيء لا ينبغي أن يغيب عن أذهان الإخوة الدعاة، وهذه العلاقة ضرورية في مثل هذا الخضم الذي نعيشه.
نحن الآن نرى آثار التفكك وضعف الأُخوة والعلاقة بين الشباب، حتى سأل بعض السلف بعضاً من طلابه فقال لهم: 'هل بلغ من محبة أحدكم لأخيه أن يدخل يده في جيبه، فيأخذ ما شاء ويدع ما شاء؟ قالوا: لا.
قال: فما المحبة عندكم إذاً؟! ' انظر كيف كان السلف الصالح رضي الله عنهم، وأروع مثال على ذلك مؤاخاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين المهاجرين والأنصار، وكيف تلاحمت هذه الأمة فأصبحت لحمة واحدة مع اختلاف القبيلة والوطن والحال، ولكن جمعهم الإيمان والعقيدة، ومحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجمعتهم الهجرة إلى الله ورسوله، ونصرة دين الله -عز وجل- فلما كان الهدف والغاية وجه الله -عز وجل- اجتمعوا على ذلك فكانت هذه الأُخوة العميقة، بحيث إنك أحياناً إن لم تكن تعرف القبائل أو لا تعرف حال هذا الصحابي من قبل، إذا قرأت اسمه من المهاجرين أو من الأنصار، فبمجرد أنك قرأت خبراً أنه ذهب فلان وجاء فلان، تحتاج إلى أن تعرف هل هو من المهاجرين أو الأنصار، ذهبت كل الفوارق تماماً، وأصبحوا أمة واحدة، فهذه هي المحبة التي لا بد منها.(78/3)
التذكير بالصبر
ثم أمر ثالث يجب أن نكرر الوصية به لا نملُّ في ذلك وهو الصبر، فلا بد من الصبر، ومن أعجب ما نراه الآن ونفقده في الدعاة إلى الله وطلبة العلم: قلة صبرنا، سبحان الله! لا نصبر على طاعة نستمر فيها، الواحد منا قد يكون له شيء من كتاب الله أو من السنة يدرسه ولكنه لا يصبر عليه، فينقطع في نصف الطريق، هذا عجيب! أين الصبر؟ بعض السلف لما قيل له: 'بمَ عرفت ربك؟ قال: عرفته بضعف الهمم، وفتور العزائم' لأن العزائم والهمم تضعف، فيعرف الإنسان حقيقة نفسه وضعفه؛ فيعرف ربه تبارك وتعالى المتصف بصفات الكمال والثناء عز وجل، فهذه حالة تعتري الناس، لكن هناك فرق بين أن تضعف وأنت تريد الدرجات العلى فتضعف عنها، وبين أن تضعف وأنت في أول الطريق.
ومما يذكر أن أحد العظماء قال لابنه: 'يا بني! من تريد أن تكون مثله؟ فقال: يا أبتِ أريد أن أكون مثلك، قال: يا بني! إذا كان كذلك فلن تكون؛ لأنني اجتهدت أن أكون مثل عمر بن الخطاب، فكنت كما تراني، فإذا أردت أن تكون مثلي فلن تكون' يقول له: أنت لا بد أن تكون همتك أعلى، وتصبر وتصابر ومع ذلك لن تصل -والله أعلم- إلى النصف أو الربع مما تأمل.(78/4)
الصبر على الدعوة والعلم
فلا بد أن يكون لدينا الصبر على طلب العلم، والصبر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحن -ومع الأسف- نعلن عن بعض المشاريع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو بعض المبادرات الخيرة فلا نصبر، أحدنا يقول: قد ذهبنا إلى السوق مرات ولم نستفد، سبحان الله! النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {رأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد} ونحن اليوم نملُّ من الدعوة لأن بعض الناس استجابوا وبعضهم لم يستجب! لقد ظل نوح -عليه السلام- يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً لم يمل ولم يكل، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاهد قومه، ودعاهم إلى الله -عز وجل- كثيراً، فطريق الدعوة هو طريق الصبر على الأذى: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا} [إبراهيم:12] والصبر إما على الطاعة، أو عن المعصية، أو على الابتلاء.
أما نحن فقد ضقنا ذرعاً حتى بالدروس العلمية، فبعض الإخوة يلقي المواعظ والدروس، وفي أول الأمر يحضر عنده عدد عشرين ثلاثين طالباً، ثم ينقص العدد فيقول: لقد صاروا أربعة أو خمسة ثم يترك، وما علم أن هناك علماء كبار يستمرون ثلاثين وأربعين سنة على خمسة طلاب أحياناً أو على عشرة ولا يملّون، والذين يعرف قيمة العلم ينظر لهذه القضية من زاوية أخرى، من زاوية أنه ينفق علمه، والعلم إن لم تنفقه ضاع، فلا تنظر إلى كثرة من حضر واستفاد؛ لكن انظر إلى أنه يجب عليك أن تُعَلِّم.
ولهذا لو قلت اليوم: أنا اقرأ ما تيسر من كتاب الله، وشيئاً من السنة، بعد صلاة الفجر، ثم أقوم بعد صلاة العصر، فأعظ به الناس في المسجد، فإن هذا العلم سيثبت في ذهنك، لكن في الأيام التي لا تعظ فيها بما قرأت فإنكن كله أو بعضه، ففما يثبت العلم ومما يحفظه الوعظ به، وتعليمه، والعلم هو الشيء الذي يزيد بكثرة الإنفاق منه، وأما غيره فينقص بالإنفاق ولو كان البحر على كبره.
أيضاً لا يوجد عندنا صبر حتى على التعلم، وما أكثر هذا ومع الأسف، فبعض الإخوة نطلب منهم ونلاحقهم شهوراً على التعلم ثم إذا جاء فلا يلبث حتى يترك محتجاً بأن الكتاب لم يعجبه، أو أن الشيخ يطيل أو غير ذلك، وكأن الطالب يريد أن يفعل الشيخ كما يشاء هو، وهذا أول شرط من الشروط التي تخل بطلب العلم، فطالب العلم يجب عليه أن يوطن نفسه على أن يتعلم كما يريد الشيخ، وقد كان بعض الأئمة المحدثين الكبار يرحلون إلى آفاق بعيدة من أجل الحديث والحديثين.
بعض الناس يجلسه الحياء أول الأمر -والحياء خير كله- وكما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أما الأول فآوى فآواه الله وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه} فالذي لا يريد أن يستفيد، فليأتِ من باب الحياء.
وعندما يأتينا من يريد أن يعلمنا، ونعرف أن له فضلاً، ولن يتكلم إلا بخير فلنحضر ولو كان لدينا أعمال، أو ظننا أننا لن نستفيد منه، وكم من محاضرات وكتب وأشرطة تركناها نظن أن لدينا ما هو أهم وأعظم فائدة فإذا بدأنا بها ندمنا وقلنا: ليتنا قرأناها من قبل.
كم من أناس نقول عنهم إذا أرادوا أن يحاضروا أو يدرسوا: من هو هذا في العلم والمعرفة؟ فإذا حضرت له استفدت، وهذا فيه احترام وتقدير للزائر، ولن تخلو من فائدة -إن شاء الله تبارك وتعالى- فهذه كلها داخلة في نطاق الصبر.(78/5)
الصبر على مجاهدة النفس
إن الإنسان إذا ابتلي في نفسه أو ماله، أو أهله صبر، وهذا نوع، لكن الصبر له أنواع ومنها: الصبر على مرض النفس.
واعلم أخي المسلم أن أعدى عدو لك هو هذه النفس، ولو عاداك الناس كلهم وسلمت من شرها؛ أنّك آمن بإذن الله ولن يضروك أبداً؛ لكن المشكلة هي: (كيف أحترس من عدوي، إذا كان عدوي بين أضلعي؟) والمشكلة هي العدو الداخلي، هذه النفس والهوى والشهوة، وحب الإخلاد إلى الدنيا، والتكاسل عن طاعة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- والميل إلى ما يريحها وإن كان مُتعِباً فيما بعد، وهذا من إيثار العاجل، وهكذا طبعت هذه النفس فيجب أن تصبر على ذلك.
بعض الناس عنده نفس غضوبة، فهذا يجب عليه أن يسأل الله دائماً أن يهديه إلى أحب الأخلاق وأحسنها إليه، لكن -أيضاً- من الابتلاء أن أكون إنساناً غضوباً فأصبر على غضبي، وأحاول أن أصبر عليها وأجاهدها؛ فإنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، وإنما الصبر بالتصبر، نعود النفوس الصبر حتى تستقيم.
بعض الناس مشكلته أنه لينٌ جداً، أي أنه متساهل، وليس عنده فطانة.
وبعض الناس يقول: ليس عندي فطنة، فنقول له: مارس الحياة، واعرف أن فيك هذا العيب، وهذا عليه ألا يثق بكل أحد، إنما يتأكد ويتأنى ويفكر، فلا يعطي كل من طلبه كتبه أو ماله حتى يتأكد من حاجته.
والبعض يشكو من أن نفسه تتوق إلى شيء من مظهر الدنيا فلا يصبر، فهو لا يخرج إلا بالثوب والغترة والشكل المعين، وإلا اعتذر عن الحضور، فهذا عليه أن يعود نفسه رويداً رويداً، على أن يذهب أحياناً بشكل عادي أقل من هذا، قليلاً قليلاً حتى ينتهي هذا الأمر وهكذا.
وهذه النفس مشكلتها أنها حرون مثل الدابة مرة تمشي، ومرة تقف وسط الطريق، لا تتحرك، ولذلك القاعدة التي علَّمنا إياها السلف الصالح في التعامل مع النفس، أنها إذا أسلست لك القياد حركها بسرعة حتى إذا حرنت، تكون قد قطعت مسافة كبيرة، وكل إنسان يجد في نفسه الفتور والخير، فإذا جاءت أوقات الاندفاع والإقبال على الله تعالى فحركها، فإذا جاء وقت الفتور فستجد أنه ليس فتوراً كلياً وإنما إلى حد ما.
فمن أهم ما يصبر عليه هذه النفوس التي بين جنبينا، فبعض الإخوة لم تكمل ما أخبرته به حتى يعطيك رأيه سريعاً فيحكم بسرعة ولا يصبر ويتأنى.
والبعض مشكلته كثرة الكلام، فأصبحت مجالسنا فيها كثرة كلام وقلة ثمرة، وفي الحديث: {كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع} ونترك وكالة أنباء (قالوا) ونرفعها عنا، ولا نتحدث بـ (سمعنا وقالوا) ولكن نتركها ونصبر، وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا حديث عظيم جداً في معالجة القلوب والنفوس: {ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب} هو الذي إذا قلت له: اتقِ الله ولا تغضب، وقف.
فيجب أن تجعل أهم شيء تعالجه في حياتك هذه النفس، فإذا وطنتها على أمر الله حتى تصبح مواطئة له، فأبشر بما سبق أن ذكرنا من فضل الله عليك، فتصبح لا تفكر، ولا تهم، ولا تعزم، ولا تعمل، ولا تخطو إلا كما بين الله تعالى في الحديث القدسي: {فبي يسمع وبي يبصر إلى آخره}، هذه الحال لا تصل إليها إلا بعد المجاهدة، مع أن كل نفس ركب فيها هذا الأمر إلا من عصم الله من الأخيار والمتقين.(78/6)
الصحابة والصبر
وسير الصحابة -رضوان الله عليهم- في هذا عجيب -كما تعلمون- كان بعض الصحابة يشكو منه غلامه، وبعضهم تشكو منه زوجته، وكان بعضهم يشكو منه جاره، سبحان الله! لديهم طباع لكنهم كانوا سريعي الندم والتوبة والأوبة، وفي نفس الوقت أحدهم يعلم ما في نفسه من أمر، فتجد أحياناً يقول: ما منعني أن أتكلم إلا خشية كذا، ما منعني أن أمشي إلا خشية كذا، كثيراً تجد في السِّيَر أن عالماً لم يقدر على مسألة فيصبر عندها ولا يتجاوزها حتى يفهمها.(78/7)
من مظاهر ترك الصبر
من مظاهر ترك الصبر في حياتنا أن أحدنا يتصرف بعجلة، فكثير من تصرفات الشباب ينقصها الصبر، وأستشهد ولو بمثال واحد: وهو قول بعض الشباب: والله يا شيخ ما عدل ابن باز وهو إن شاء الله غضبه لله، أو إنكاره المنكر لله، لكن تعجل فأدخل الناس في حرج، فنقول له: اصبر قليلاً فالله تعالى يقول: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] شاور، إذا كانت قضيه تخصك في ذاتك أنت، فتعجلت فيها فلا بأس، لكن شيء يعالج وضع الأمة لا تعجل فيه، واصبر حتى تستشير أقرب الناس إليك، ومن تثق فيه وهكذا، وأقصد بهذا أن الصبر له جوانب كثيرة، ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3] ولا بد من هذا، هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم وأسأل الله لي ولكم العفو والعافية إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين.(78/8)
قاعدة في طريق الدعوة والجهاد
ينبغي أن يفرق الإنسان بين ما يهواه ويتمناه، وأن يكون له قاعدة في عمله، فأنت عندما تعمل في طريق الدعوة أو الجهاد، فالقاعدة في ذلك أن لا تستعجل، ولهذا لما جاء الصحابة إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو متوسد في ظل الكعبة، قالوا: يا رسول الله! وشكوا إليه -كما تعلمون الحديث- ما نالته منهم قريش، وسألوه الدعاء، قال: {والله ليتمنَّ الله هذا الدين حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت} وقال تعالى: {خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37] فليست القاعدة في الدعوة هي العجلة، وقطف الثمرة، لكن النفس تهوى ذلك وتتمناه.
وهذا -والله أعلم- لا تؤاخذ به، فأنت تجاهد وتقدم على قتال العدو وملاقاته، أو تدعو وتقدم في سبيل الدعوة، وأنت تعلم أنك لا تدرك ثمرة عملك هذا، لا يعيقك ذلك ولا يؤخرك، لكنك تتمنى أن لا يميتك الله حتى ترى ثمرته، وهذه أمنية وللإنسان أن يتمنى الخير، وما نهانا الله أن نتمنى الخير، ولكن لا ينبغي للأماني هذه أن تؤثر على العمل؛ فتصبح هي الهدف، وهي المقصود الذي نحققه، هذا الذي يبدو لي في هذه المسألة والله تعالى أعلم.
أما من أراد الحيطة وأراد أن يقطع هذا الأمر من أساسه، فينبغي له كما ثبت عن كثير من الصحابة منهم عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين ممن تمنوا أنهم ماتوا ولقوا الله تعالى مع مصعب بن عمير وأمثاله، كما حدث لـ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فكانوا يخشون أن تكون حسناتهم عجلت إليهم، كما قال عتبة بن غزوان: [[وما منا اليوم إلا من هو أمير على مصر من الأمصار]] خافوا من الذي نتعجله نحن.
ولا شك أنّ الإنسان مجبول على أنه يتمنى أن يريه الله نصرة هذا الدين، كما دعا سعد بن معاذ أن يريه الله يوماً في بني قريظة قبل أن يموت، والحمد لله فقد أراه، فهذه حالات تعرض في النفس، فإذا لم تؤثر على القاعدة، ولم تدخل إلى المنهج وإلى الغاية، فإن هذا لا يؤثر إن شاء الله تعالى.(78/9)
الأسئلة(78/10)
فقه الدعوة وعوائقها
السؤال
فضيلة الشيخ سفر نريد أن تحدثنا عن فقه الدعوة، وبعض ما قد يفعله المجتهدون، وربما قد يكون من عوائق الدعوة؟
الجواب
الكلام طويل جداً في هذا، ولا أدري أي عقبة يريدها السائل، فكل طريق الدعوة عقبات، وكل ما تحدثنا هو من العقبات، عقبه النفس والهوى والشيطان، وعقبه كيد الكائدين، فهي عقبات كثيرة، وفقه الدعوة باب واسع، ولهذا من رسل الله الكرام -وهم صفوة خلقه وخيرتهم- من احتاج أن يعلمه الله تعالى فقه الدعوة بالعمل مثل يونس عليه السلام {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات:140] فالله تعالى يريد أن يعلمه أن الإنسان الداعية، يدعو إلى الله -تبارك وتعالى- ويصبر ويصابر ولا يعجل وهكذا فإذا كان الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- يعرض لهم شيء من هذا والله تعالى له حِكَمٌ عظيمة جداً، والله تعالى اختار منهم أولي العزم، وهم الذين صبروا وثابروا امتازوا عن غيرهم بهذا فما بالك بنا نحن؟ لا بد أن تعرض لنا أمور كثيرة من الضعف والفتور، ومن العقبات التي نحن بأنفسنا أكثر ما نعاني منها، وأكثر العقبات هي العقبات الداخلية، قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] والعقبات الخارجية هي أهون ما يلاقي المؤمن لو أننا اتقينا الله تبارك وتعالى وصبرنا على ما يصيبنا، فالطريق كله محفوف بالمتاعب من أوله إلى آخره.
يقول الإمام أحمد -وهو من تعلمون في الدعوة والعلم والإيمان، حتى أثنى عليه العلماء بما لم يثنوا به على أي عالم آخر بعد صحابة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والتابعين-: 'لا يجد المؤمن راحةً دون لقاء ربه'.
فالراحة الكبرى إذا جاءتك الملائكة، وبشرتك أن لا خوف عليك ولا حزن وأبشر بالجنة التي كنت توعد؛ هنا في هذه اللحظة ترتاح، أما قبل ذلك فإنه لا تأمن فتنة، ولا ابتلاء، ولا تأمن الضعف، ولا العداوة، لا تأمن إلا في الحالات التي ذكرها الله -تبارك وتعالى- في الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:34].
معناه: أنهم كانوا في الدنيا في حالة حزن، فأبدلهم الله بالنعيم "الجنة"، وقالوا في الآية الأخرى: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26] فلما كانوا مشفقين في الدنيا صابرين أورثوا هذه الجنة، لكن لو كانوا في الدنيا مرفهين ومنعمين لن ينالوا هذا، ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7 - 8].
فعلينا أن نوطن أنفسنا على أن نكون من أهل التقوى، والعلم وأهل العمل، وأهل الصبر واليقين.
وأهم ضابط في الدعوة كما في قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] والآية الأخرى قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] وهذه بينت الحالات الثلاث التي لا تخلو منها دعوة: إما أنها مع الموافقين فتحتاج إلى حكمة، وإما أنها مع الغافل فيحتاج إلى الموعظة الحسنة، وإما مع المخالف فيحتاج إلى جدال بالتي هي أحسن، فالضابط في الآية الأولى قوله: (أدعو إلى الله) لا ندعو إلى أنفسنا، ولا إلى مشايخ نحبهم، ولا ندعو إلى انتماءات ننتمي إليها، لا ندعو إلى أي شيء إلا إلى الله، وما بعده فهو تبع له، فهذه الآية آية الدعوة احتوت أعظم الغاية في الدعوة وأعظم الوسائل، في الدعوة {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] وختمت {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] فأعظم ما ندعو إليه توحيد الله، وأعظم ما نحذر العالم منه الشرك بالله، ثم المعيار في هذا العمل بين هذا وهذا: البصيرة، والبصيرة: أمر يجمع بين العلم النافع وبين العمل الصائب، فالإنسان إذا كان لديه علم نافع وليس له عمل صائب فلا يوصف بأنه من أهل البصيرة، ومن كان لديه عمل وإن كان يتحرى فيه الصواب لكنه بلا علم فإنه ليس من أهل البصيرة، والحمد لله رب العالمين.(78/11)
مسئولية المرأة المسلمة
تكلم الشيخ أثابه الله تعالى عن الحقوق التي يجب على المرأة المسلمة أن تؤديها، وذكر أن أعظمها وأهمها توحيد الله تعالى وعبادته حق العبادة وعدم الإشراك به شيئاً، ثم ذكر واجبات المرأة نحو زوجها وأبنائها، مبيناً وظيفتها التي خلقت من أجلها، ثم ذكر ما يجب على المرأة المسلمة نحو أختها المسلمة أينما كانت.(79/1)
أعظم الحقوق على المرأة المسلمة
الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: إن مسئولية المرأة المسلمة عظيمة بلا ريب، وقد بين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن كل إنسان في هذه الأمة مسئول، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع -في الأمة- وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته إلخ}.
فالمرأة مسئولة كما قال ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولعموم العبادة لأنها خلقت لعبادة الله تبارك وتعالى، وتعبدها الله وشرع لها هذا الدين، كما شرع للرجال إلا فيما يختص بها لكونها أنثى.
فهي مكلفة مأمورة تدخل في كل أَمْرٍ أَمَرَ الله تبارك وتعالى به، من تقوى الله، ومن الاستقامة على الدين، والتمسك بالكتاب والسنة، واتباع هدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكل ما شرعه الله عز وجل في القرآن أو السنة مما لم يكن خاصاً بالرجال فإنه يشملها، وما كان خاصاً بالرجال لا يشملها، وكذلك لها -أيضاً- خصوصيتها من أحكام وأوامر شرعت لها فيما يختص بها من الخلق والجبلة.
إذاً: كل إنسان منا مسئول، ولا بد لكل مسلم ولكل عبد أن يعرف مسئوليته وواجباته، وإذا حددنا المسئولية والواجبات -وهو كذلك في الشرع- فإننا لا بد أن نأتي عليها جملة من غير إطالة.
إن أول وأعظم الحقوق هو حق الله تبارك وتعالى وأعظم واجب على المرأة المسلمة أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً؛ كما قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} [النساء:36].
وكما بعث الله تبارك وتعالى أنبياءه بذلك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِم وَسَلَّمَ أجمعين، فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] فأول ما يجب على المرأة المسلمة هو أن تبتعد كل الابتعاد عن الشرك بالله عز وجل كما قال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:116].
وكما قال عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72]، فهذا أعظم واجب في حق المؤمن في ذاته وفي دعوته إلى الناس، وكما بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن، فقال له: {إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله}، أو {إلى أن يوحدوا الله}، أو {أن يعبدوا الله} ثلاث روايات كلها صحيحة ثابتة، ومعناها واحد، فأول ما يدعو إليه العبد نفسه ويدعو إليه المدعويين هو توحيد الله تبارك وتعالى، لئلا يشرك به شيئاً في ربوبيته ولا في ألوهيته ولا في أسمائه وصفاته.(79/2)
توحيد الربوبية
فالشرك في الربوبية أن يعتقد أن هناك خالقاً غير الله عز وجل أو أن هناك من له شرك في خلق السموات والأرض أو شيء منها، وإن كان ذرة! فإن الله تبارك وتعالى هو خالق كل شيء، كما قال عز وجل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء} [الزمر:62] ولا أحد من هؤلاء المدعوين المعبودين قديماً وحديثاً يملك أن يخلق شيئاً؛ لأن الله تبارك وتعالى تفرد بذلك، فهو الذي له الملك كله، وإليه يرجع الأمر كله، واعتقاد ما يعتقده بعض المعاصرين الآن وينشرونه في المجلات وفي الأفلام وفي غيرها من أن في إمكان الساحر والكاهن أو المنجم، أو أي إنسان كائناً من كان أن يخرج أو يحييَ ميتاً، كما قد يعرض أحياناً في أفلام الكرتون ويعرض في الدعايات مما يمس جانب الربوبية كل ذلك يعد شركاً بالله تبارك وتعالى! ومن الشرك في الربوبية من يعتقد أن في إمكان أحدٍ أن يعلم الغيب، أو يدبر الأمر، أو يحييَ الميت من غير تدبير الله تبارك وتعالى ومن غير فعل الله، وهذا مما يقدح في توحيد الربوبية، وهو شرك شنيع لم يعرفه الجاهليون الذين أخبر الله تبارك وتعالى عنهم بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]، فلم يكونوا يعتقدون أن أحداً يشارك الله تبارك وتعالى في خلقها بل حتى في تدبير الأمر: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس:31]، بل كانوا مقرين لله تبارك وتعالى بذلك، فهذا جانب عظيم، وعلينا أن نتنبه جميعاً، وأن نلحظ ذلك وأن نعلم أن الله عز وجل هو الخالق الرازق المحيي المميت، الذي ينزل الغيث، والذي يدبر الأمر، والذي يُعبد وحده في هذا الوجود.
ومما يناقض ذلك مما قد ينتشر مع الأسف الشديد في هذه الأيام بين الناس من اعتقاد أن الأولياء يديرون الكون كما تعتقده الصوفية، أو أن الأئمة -كما تعتقد الرافضة - هم الذي يديرون الكون! ويزعمون أن ذلك بتفويض من الله لهم! فكأنه أعطاهم ملكه وفوضهم بتدبيره! وهذا من أبطل الباطل وأمحل المحال؛ فإن الله تبارك وتعالى هو كما أخبر عن نفسه: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]، وهو الذي يرزق، وهو الذي يحيي، وهو الذي يعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويعطي من يشاء، ويمنع من يشاء: {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى:49]، وكل شيء لا يخرج عن حكمته وتدبيره، وهو من خلقه تبارك وتعالى وتصريفه عز وجل لهذا الكون فمن اعتقد غير هذا فقد أشرك في الربوبية.(79/3)
توحيد الألوهية
ثم إن من الشرك في الألوهية وهو- مما يجب أن يحذر منه- ما يعتقده ويفعله بعض الناس من دعاء غير الله عز وجل، أو الذبح له، أو رجائه أو خوفه كرجاء الله وخوفه، أو محبته كمحبة الله تعالى، وغير ذلك مما يوجد في كثير من بلدان العالم الإسلامي، وربما أصاب بعض أهل هذه البلاد بتأثير الفرق الضالة كالصوفية وأشباهها.
فيحسب الإنسان أنه إذا دعا غير الله، أو استغاث به، أو ذبح له، أو تقرب إلى قبره أو ما أشبه ذلك، أنه لم يُخِلَّ بالألوهية، ويظن أن هذا إنما هو نوع من التوسل أو الوسيلة! وهذا من تلبيس إبليس عليهم؛ لأن المشركين الذين عبدوا هذه الأصنام -سواءٌ ما كان منها تماثيل أم صوراً للرجال الصالحين أمثال: وُدّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، والتي عبدت في زمن نوح أو غيرها- ما كانوا يعبدونها إلا لهذا الغرض، كما قال تبارك وتعالى عنهم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، فيظنون أنها تقربهم إلى الله زلفى، وكما في الآية الأخرى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]، فهذه الوسيلة التي يسميها المشركون المعاصرون وسيلة، هي بنفسها وبذاتها كما كان الجاهليون الأولون يعتقدون، وقد كان الجاهليون في تلبيتهم يقولون: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك!!) كانوا يعتقدون أن هذه المعبودات الباطلة هي وما تملكه داخلة في ملك الله.
ومع ذلك فإن هذا من الشرك الذي أبطله الله عز وجل بهذا الدين العظيم -دين التوحيد- وببعثة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصبح المؤمن يقول: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"، فأبطل تلك التلبية الباطلة وألغاها ومحا ذلك الشرك الذي كانوا يعتقدونه؛ مع أن ظاهره قد يقبله كثير من الناس اليوم، وربما فعلوا ما هو في حقيقته تطبيق وتنفيذ لهذا النداء ولهذه التلبية، وإن لم يلبوا أو يدعوا بها، سواء فعلوا ذلك في الحج أو في غيره، كاعتقادهم في أوليائه أو معبوداته أو صالحيهم -كما يزعمون- وقد يكونون صالحين حقاً، وقد يكونون أولياء، وقد يكونون فجاراً، لكن الشيطان زين عبادتهم لهم، فهنا جانب عظيم من الجوانب.
والله تبارك وتعالى يقول: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]، وقد حذَّر الله تبارك وتعالى عبده ورسوله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الوقوع في الشرك كله، ومنه هذا النوع الذي ذكرنا، كما قال جل شأنه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65].
وعندما أمر الله تبارك وتعالى خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام -وهو إمام الموحدين الذي أُمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتبع ملته في التوحيد، ونبذ الشرك، وتجريد الولاء لله- أمر خليله بقوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} [الحج:26]، فالواجب علينا أن نحذر وأن نتنبه من الشرك، ولا سيما في هذا الجانب -أي في جانب الألوهية- لكثرة وقوعه في هذا الزمان وفي سائر الأزمان، نسأل الله العافية والسلامة!(79/4)
توحيد الأسماء والصفات
ومما يجب أن نحذره الشرك في أسماء الله وصفاته والإلحاد فيها، كالذين ينفون أسماء الله، ويعطلون صفاته كلها، كما تفعله الجهمية والفلاسفة وغيرهما، أو تعطل بعضها كما تفعله الأشعرية.
ومع الأسف -وأنتن والحمد لله متعلمات ملتزمات- قد يوجد في هذه الأيام في بعض المناهج الدراسية وفي المكتبات وفي الأشرطة من يؤول صفات الله عز وجل، ويخدش في توحيد الأسماء والصفات، الذي هو: إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تكييف ولا تحريف.
فنجد من يقول: "إن صفة الغضب معناها إرادة الانتقام، وأن الرحمة هي إرادة الإنعام"، فهذا تأويل، أو من ينفي علو الله عز وجل واستواءه على عرشه، فيقول: "إن الله في كل مكان"! وهذا كثير في هذه الأيام مع الأسف الشديد، وغير ذلك من التأويلات: كتأويل اليد أو اليمين بالقدرة وما أشبه ذلك، فهذا أيضاً يجب أن يقاوم ويحارب؛ لأنه يخدش ويقدح في توحيد الأسماء والصفات.
وربما وصل الحال بهؤلاء المؤولين إلى أن يخرجوا من دائرة الإيمان إذا وصل بهم الأمر إلى تعطيل صفات الله وأسمائه؛ كما غلا الغالون في ذلك من قبل، نسأل الله العافية والسلامة!(79/5)
الطاعة والتقوى
ومن حق الله تبارك وتعالى علينا مع هذا كله أن نطيعه وأن نتقيه، فإنه عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].(79/6)
تفسير قوله تعالى: (حَقَّ تُقَاتِهِ)
و (حق تقاته) فسرها عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه تفسيراً عظيماً تستطيع كل أخت منكن أن تحفظه وتعمل به بإذن الله، قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه في تفسير (حق تقاته): [[أن يطاع فلا يُعصى وأن يُشكر فلا يُكفر]]، أي: يشكر على كل ما أنعم به علينا، وكل ما لدينا من خير هو من نعم الله علينا، كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53]، وكما قال عز وجل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34].
والمرأة المسلمة عليها أن تشكر الله الذي هداها للإيمان والإسلام، وهداها لهذا الدين، وهداها للعفاف والطهارة، وفضَّلها على كثير من نساء العالمين، اللاتي تمرغن وتلوثن في أوحال الذنوب والمعاصي، ولم يشأ الله تعالى أن يرفعهن بما أنزل الله من هذا الدين، وأن يكرمهن بأن يكن من أهل الخير والتمسك والالتزام، فإن هذا اختيار من الله، اصطفاء منه، كما قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]، فاختيار الله تبارك وتعالى لكِ أن تكوني أنتِ الداعية، وأنتِ المربية، وأنتِ الطاهرة والعفيفة والمحجبة، وأنتِ التي تغضين النظر، ولا تخضعين في القول، وتطيعين الله ورسوله، وتذكرين الله تعالى كثيراً، هذه نعمة عظيمة مهما قل حظك في هذه الدنيا من المال، أو الوظيفة، أو الجاه، أو ما يسمونه الآن الجنسية، أو المركز الاجتماعي.
إذا أنعم الله تعالى على العبد بنعمة التقوى، فكل ما عداها لا قيمة له، كما قال الله تبارك وتعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:46].
ثم قال ابن مسعود أيضاً: [[وأن يُذكر فلا يُنسى]]، والذاكرون الله والذاكراتُ هم في أعظم وأعلى أنواع الدرجات؛ لأن الإنسان لو تأمل لوجد أن الصلاة شرعت لذكر الله، كما قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]، وأن الجهاد -وهو أشق ما يمكن أن يعمله الإنسان من الطاعات- إنما هو لإعلاء كلمة الله وذكر الله عز وجل، الأذان هو ذكر الله تبارك وتعالى، وقراءة القرآن ذكر الله وهكذا.
فذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يشمل كل العبادات، وتندرج تحته كل الطاعات، ومن هنا كان بهذه المنزلة وبهذه المثابة؛ فجعله عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه -الذي استنارت بصيرته بهدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعليمه وحكمته- جعله الثالث مما يحقق تقوى الله حق تقاته، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم كذلك! وهذه الحقيقة هي التي سأل عنها جبريل عليه السلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قال له: {أخبرني عن الإحسان؟ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك}، فالمؤمن يكون شأنه مع الله تبارك وتعالى كما أوصى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اتَّقِ الله حيثما كنت}.
ويجب على الإنسان -وقد عرف الله، وعرف طريق الله، واتقى الله- أن يحرص على الاستقامة في هذا الطريق والتثبيت عليه؛ كما قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْت} [هود:121]، وكما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [الأحقاف:13]، وكما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قل آمنت بالله ثم استقم}، فلا بد من الاستقامة ولا بد من الثبات، ولا بد من الجدية في هذا الدين، فالأمر جد، والدين جد، والحق جد، والله عز وجل سوف يحاسب كل واحد منا على هذه الحياة، وعلى هذه الأوقات وعن هذه الأعمار، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمِ أنفقه} ولا بد أن يرى كتابه، وسيفاجأ بأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:13 - 14].(79/7)
قيمة الوقت
أخواتي الكريمات! الأمر جد، ولا يحتمل الهزل ولا أن نضيع كثيراً من أوقاتنا في اللهو وفي الهزل، وفي الغفلة عن ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وهذه ظاهرة موجودة ومتفشية بين المتمسكين والمهتدين من الرجال والنساء، من الذين عرفوا الله تبارك وتعالى فأوقاتهم تضيع في اللهو وفي المزاح؛ مما قد يضعف الإيمان، ويقسي القلب، وينسي الإنسان ذكر الله والدار الآخرة، فالأمر جد، فهذا المركز جد، يجب أن تأتي إليه الأخت جادةً تريد الفائدة والإفادة والخير، ويجب إذا رجعت إلى بيتها أن تتذكر ماذا أخذت، وتراجع ذلك في نفسها وفي مراجعها العلمية إن كانت ممن يتعلم، وأن تستفيد وتستزيد من العلماء عن طريق الهاتف أو الرسائل أو ما أمكن.
وأن تقرأ لتتقوى فيما أخذت، وليزيد إيمانها، ويزيد فهمها وتفقهها في الدين، ثم تزيد في عملها، وفي طاعتها، وفي عبادتها، وفي دعوتها إلى الله تبارك وتعالى، فهكذا كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهكذا كان أصحابه رضي الله عنهم رجالاً ونساءً، علموا أن الأمر جد، وعلموا أن العقبة أمامهم كئود، وعلموا أن هذا العمر وأن هذه الحياة ما هي إلا أنفاس تصعد وتنزل وتهبط، ولا يدري الإنسان متى تنقطع هذه الأنفاس، ويحاسب على هذا العمر، وعلى هذا المال، وعلى كل ما في حياته.
ولذلك كان السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم أشد الناس غيرةً على دين الله عز وجل؛ لأنهم لما أقاموا دين الله تعالى في أنفسهم، علموا أنه لا بد أن يقيموا دين الله في الناس، فكانوا أشد الناس غيرةً على دين الله، وعلى حرمات الله عز وجل كما قال بعضهم: [[وددت لو أن جسمي قرض بالمقاريض، ولا أن أحداً لم يعص الله عز وجل]].
أما نحن الآن مع غفلتنا ولهونا وبإضاعة أوقاتنا، فإنا نضيع الفرصة في الدعوة إلى الله.
وهذا دليل على أن القلوب هذه، اهتمامُها ضيقٌ بأمر الدعوة وبأمر الهداية، وأن غيرتها ضعيفة، فمع ما نراه من شدة المنكرات وشدة انتشار الفواحش في كل مكان -والعياذ بالله- وأنتن أعلم بما يحصل في المحيط النسائي، وأنا لا يصلني منه إلا القليل، ولكنه مما تقشعر منه الأبدان، ولا يكاد يمر أسبوع أو يوم إلا تأتيني فيه مكالمة أو رسالة تهولني وتروعني وتؤرقني، وأقول: إنا لله وإنا إليه راجعون!.
أهذا يقع من المسلمات في بلاد الإسلام وفي أرض التوحيد؟! فكيف في غيرها؟!! فحقيقة الأمر أن الداعيات يجب أن يقدرن هذه الأمانة وهذه المسئولية أمام الله تبارك وتعالى، ويجب أن يَكُنَّ في غاية الجد والاهتمام، وأن تأخذَهنَّ الغيرةُ على دين الله، وعلى حرماتِ الله عز وجل، وإن الله عز وجل يغار، كما ثبت في الحديث الصحيح: {إن الله يغار، وغيرته أن تنتهك محارمه}، والمؤمن أيضاً يغار على دين الله، ويغار على حرمات الله، ويتخلق بهذا الخلق العظيم.(79/8)
حق الزوج والأبناء على المرأة
ثم إن من الحقوق الواجبة على المرأة حقَّ الزوج والأبناء، وهنا لا بد أن نقول قضية مهمة جداً، وهي: أن عمل المرأة هي أن تكون أماً وزوجة؛ كما قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33]، فالعمل والوظيفة الأساسية للمرأة هي الزوجية والأمومة والقرار في البيت، هذه حقيقة نطق بها القرآن، وعمل بها الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم، وعملت بها أجيال السلف الأولى، فانتشر هذا الدين، وانتشر الحق، وانتشرت الفضيلة.(79/9)
عمل المرأة خارج البيت وتأثيره على قيامها بواجباتها
أما عندما استوردت أنماط الحياة الغربية وسلوكيات الأمم الكافرة، وأصبحت المرأة تزاحم الرجال في الأعمال، أو تعمل كأعمالهم، وتدرس مناهجهم وتترقى في وظائفهم، وإن كانت مفصولة معزولة، فإن ذلك يعد نوعاً من المشابهة؛ لأن بعض المجتمعات شابهتهم مشابهةً كاملةً في التبرج، وهذا كثيرٌ في خارج هذه البلاد، ونحن هنا في هذا المجتمع ويقاربنا فيه بعض المجتمعات القريبة منا شابهناهم مشابهة جزئية ولكنها خطيرة، فالفتاة تُدرَّس نفسَ المناهج (ابتدائي- متوسط- ثانوي) وبنفس المراحل في الجامعة والوظيفة والمراتب الوظيفية والأعمال، كل شيء إدارياً أو علمياً متشابه إلا في بعض الأمور، وهذا نوع خطير من المشابهة.
وأذكر أن فضيلة الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله في محاضرة له في جامعة أم القرى قال: 'إن الذي وضع مناهج البنات، وجعلها كمناهج الأولاد مجرم مجرم' وكررها رحمه الله، وحقاً قال والله! إن كان ذلك الذي وضعها قاصداً فلا شك أن ذلك إجرام في حق المرأة.(79/10)
معاناة الحضارة الغربية من عمل المرأة
أقول: هذه الحقيقة التي جاءت في الكتاب وفي السنة وواقع السلف -نطق بها أيضاً الغربيون الذين عانوا الويل والهلاك والمآسي والضياع من جراء خروج المرأة من البيت وعملها خارج البيت كأساس، وهذا رجل مشهور عند الغربيين عموماً، كتب وألف كتاباً لم يكتب كتاب آخر مثله في أوروبا كلها، وربما في العالم! عن سقوط الحضارات وأسباب انهيارها، وهو رجل ألماني يدعي شبنجلر.
وكتابه كتاب مشهور جداً يسمى تدهور الحضارة الغربية أو سقوط الغرب، يقول فيه -فيما معنى كلامه-: 'إن جميع الحضارات تسقط عندما تفقد المرأة فيها وظيفة الأمومة وتخرج وتتبرج وتتهتك' وأخذ يضرب الأمثلة: حضارة اليونان، وحضارة الرومان، والحضارة الفارسية، والحضارة اليابانية، والصينية، والكورية التي لا نعلم عنها شيئاً، حضارات جنوب أمريكا، وهي أيضاً مما لم يكتشف إلا قريباً، وأنواع الحضارات المعروفة في التاريخ سقطت وتدهورت عند هذا المنعطف الكبيركما سماه، وهو خروج المرأة، ومشاركة المرأة للرجل، وتركها الوظيفة التي خلقها الله تبارك وتعالى وأهَّلها لها، وهي الأمومة.
والمحللون الاجتماعيون الآن في العالم كله، المتجردون منهم يكتبون على اختلاف مللهم وكلامهم وآرائهم ويقولون: إن خروج المرأة من البيت هو سبب رئيسي من أسباب انتشار الجرائم وانتشار الفواحش وتعكير الأمن، وأيضاً كل الشرور التي يعانون منها؛ فلا أريد الإطالة على الأخوات الكريمات في هذا، وهناك أشرطة ومقالات ومحاضرات وكتيبات لعدد من الدعاة خاصة في هذا الموضوع.(79/11)
كيفية تعامل المرأة مع الواقع المعاصر
وأقول: إن هذه الأمومة وهذه الزوجية أسهل في حياة المرأة المسلمة، ثم إن كان لا بد من الخروج ونحن الآن أمام واقع وقد خرجت فيه النساء، وقد فرضت علينا هذه المناهج، وقد وضعت مدارسنا وتعليمنا وحياتنا على هذا النمط الذي لا قبل لنا أن نتنكر له بالكلية، وأن نتغاضى عنه كلية؛ فماذا نعمل؟ فمن باب أن نسد الثغرة ما أمكن أن نجتهد في أن نسدد ونقارب، ونستغفر الله تعالى في التقصير وفيما يحدث من تجاوز أمام أمر واقع ضخم هائل، يجعل المرأة تخرج من بيتها لأي عمل من الأعمال فيجب عليها أن تعلم أمراً: أن هذا عمل ثانوي بالنسبة لعملها الأساسي: إن لم تكن قد تزوجت، فلتعلم أن الزواج هو الأصل لا أن تتم الدراسة وتواصلها، وأن تتوظف كما يفعل بعض الأخوات.
وإن كانت متزوجة فلتعلم أن حق الزوج والأبناء هو الأساس، ثم بعد ذلك تحرص أن تربي البنات والطالبات، وتنشر أيضاً بين الزميلات والأخوات هذا الأصل وأن تذكرهن به، فإن خروجها عنه لو كان لضرورة أو حاجة، فلا يعني أن تنساه وأن تغفل عنه، وأن يصبح واقع حياتنا هو الأصل الذي نظن أنه هو الحق، بل يجب أن نهتم به، وبالمقابل يجب على الإخوة الكرام -أولياء الأمور أو الأزواج- أن يرفقوا ببناتهم وأخواتهم اللاتي يجمعن بين الوظيفتين، فإنه لا بد أن يحدث منهن خللٌ أو تقصيرٌ في حق الزوج أو البيت؛ لأنه يصعب على المرأة أن تقوم بأداء العملين كاملين، فلا بد أن يتغاضوا عن ذلك في مقابل مصلحة تعليم هؤلاء البنات ونشر الدعوة والقيام بهذا الواجب الذي نرغم عليه أحياناً إرغاماً، وليس من اختيارنا -والله المستعان- ولا بد من الصبر في هذا الشأن.(79/12)
حق المرأة المسلمة على أختها المسلمة
ومن الحقوق الواجبة على المرأة أيضاً: حق أختها المسلمة عليها في أي مكان، وهذا من مسئولية المرأة المسلمة في هذا الزمان وبالذات في هذا العصر، حيث فرضت وسائل الاتصال المتطورة التواصل بين أنحاء العالم، وأصبح لا بد أن يكون للمرأة المسلمة كلمة تقولها لأختها المسلمة أو توجيه أو دعوة أو معاملة في أي مكان كانت.
فالواجب في هذا الشأن هو الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، التي هي عمل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومهمة الرسل والصالحين والدعاة؛ كما قال عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، فلا شك أن قوله: {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} يشمل الإناث كما يشمل الذكور، فلا بد أن تدعون إلى الله، وقد قامت أمهات المؤمنين بأروع النماذج في هذا.(79/13)
الدعوة إلى الله
هذه عائشة رضي الله عنها كم حفظت؟ وكم علَّمت؟ وكم رَبَّتْ؟ وكذلك سائر أمهات المؤمنين، وسائر نساء الصحابة رضي الله عنهم أجمعين مما لا يخفى عليكن ذلك، فالدعوة إلى الله هي عملك أيتها الأخت، وهي شأنك مع زميلاتك في المدرسة، ومع زميلاتك في العمل لو كنت تعملين، ومع قريباتك، ومع جاراتك، ومع كل من يمكن أن توصلي إليها الخير.
وأخواتكِ المسلمات في خارج هذه البلاد ينظرن إليك على أنك القدوة والنموذج الأمثل، والآن عندما ذهب بعض الإخوة الدعاة إلى الأخوات المسلمات المشردات في البوسنة والهرسك، ورأين الحجاب، فقلن: هذا هو اللباس الذي يلبسه النساء في بلاد الحرمين في بلاد الإسلام، فإذا قيل لهن: نعم، فإنهن يسارعن إلى ارتدائه ويلبسنه، ونقول: الحمد لله أنهن لم يرين ماذا تفعل السائحات المائلات المميلات اللاتي بمجرد أن يغادرن المطار أو يصلن المطار من هذه البلاد، يتحللن ويصبحن كأنهن إفرنجيات نصرانيات نسأل الله العافية والسلامة! فالأخوات هناك يعتبرنكن قدوة ومثلاً ونموذجاً، وهكذا خلقنا الله وقدَّر لنا أن نكون في هذه البلاد، في موقع القيادة، وفي موقع القدوة، وفي موقع الأسوة.(79/14)
أهمية القدوة في واقع النساء
لا شك أن القدوة هو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن الاقتداء من بعده إنما هو بالصحابة وبنسائهم، لكن الناس يريدون قدوة حية، ولا بد أن يظل في الأمة من هو قدوة حي يراه الناس، ويستفيدون ويفيدون ويتعلمون منه مما يرون، غير ما يقرءون في الكتب، أما أن يفقد الناس وتفقد الأمة هذه القدوة، فلا شك أن هذه خسارة عظيمة، وأحب أن أذكِّر الأخوات -بهذه المناسبة- أن أخواتكن العائدات إلى الله تعالى قد كثُرن والحمد لله، ويردن منكن مزيداً من التمسك ومزيداً من إثبات النموذج الإسلامي الفاضل.
هناك أخوات مسلمات طاهرات عفيفات في مصر والشام والعراق.
وتركيا حتى في الفلبين، بل حتى في أمريكا.
والحمد لله، فإن الحجاب والاستقامة والتمسك يتزايد بنسبة متسارعة عالية في كل مكان، هذا أمر رأيناه وسمعناه، وشهد به الشهود وتواتر، فهؤلاء الأخوات ينظرن إليكن بعين الاعتبار بسبب العلم الشرعي الخالص النقي عندكن، وأن أعمالكن خالية من البدع، وأن مظهركن يجب أن يكون خالياً من التشبه بالكافرات، وأن مدارسكن يجب أن تكون على النموذج الإسلامي الأمثل وهكذا ويعتقدن أن المناهج التعليمية اللاتي تقمن بتدريسها هي أرقى ما يمكن أن يوجد من مناهج ولو علمنَ بهذا المركز -وقد يعلمن به- لتمنت كل واحدة منهن أن تأتي إليه، وأن تتلقى فيه هذا الخير، ما دام مفتوحاً، هذه حقائق واضحة، وأنا ألمسها من خلال ما يرد إليَّ من رسائل أو مكالمات من هؤلاء الأخوات من خارج هذه البلاد -والحمد لله على ذلك- ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يكون هذا الظن واقعاً وحقيقة فينا، وأن يبارك جهودنا جميعاً، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى.(79/15)
الأسئلة(79/16)
التميز في شخصية المرأة المسلمة
السؤال
كيف يكون التميز في شخصية المرأة المسلمة وفي كلامها، وتعاملها، ولباسها، واهتماماتها؟
الجواب
إن المرأة المسلمة يجب أن تتميز، وأعني بالمسلمة الأخت المتمسكة التقية التي رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبياً، واختارت طريق الطهارة والعفاف في هذا العصر الذي يموج بالفساد، وأن تكون شخصية ملتزمة تقية تخاف الله تبارك وتعالى في كل حين، وتجعل شعارها {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم ٍ} [الأنعام:15].
وتتحلى بتقوى الله، وهو أعظم الحلية، كما قال تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26]، وأن تُعرَفَ بأدبها وتقواها بين الفاجرات أو المتهتكات، وأن تعرف بطهارتها وعفافها بين الخليعات والمتحللات، وأن يكون لها سمت المرأة المسلمة الذي إذا رأتها المرأة الأخرى ذكرت الله عز وجل، وتذكرت الدين، وتذكرت اليوم الآخر، وتذكرت آداب الإسلام وأخلاقه.
أما كلامها: يجب أن يكون كله خيراً ونصحاً وتوجيهاً -كما هو حال كل مسلم- وفي حدود العمل، وفي حدود المزاح المباح، فلا يجوز أن يخرج كلامها إلى حد الخضوع إن كان مع الرجال، أو إلى حد التبذل والخوض فيما لا يليق إن كان مع النساء، وما هو محرم على عموم المسلمين من الغيبة والنميمة، وما أشبه ذلك.
تعاملها: يجب أن يكون تعاملها كله مبنياً على حسن الخلق، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن}.
فهي تصبر حتى على من يؤذيها، وتتحمل حتى من يقسو عليها، وتعامل الناس جميعاً بما أمر الله تعالى به من العدل والصبر والحلم، ومن الرفق والتبشير لا التنفير.
أما لباسها: يجب أن يكون ساتراً سابغاً ليس فيه ما يثير الفتنة، أو يدعو إلى التبرج، أو إلى إظهار شيء من الزينة لغير من أحل الله تبارك وتعالى لها أن تظهرها له.
أما اهتماماتها: يجب أن يكون همها إرضاء الله تبارك وتعالى، ونيل مرضاته، والعمل لما ينفعها في الدار الآخرة، والاهتمام بأحوال أخواتها المسلمات، وذلك بالقيام بواجب الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تهتم بتلاوة كتاب الله وحفظه وإتقانه، وبتعلم سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسيرته وسيرة أصحابه، وأن تحرص على كل شيء يرفع الله تعالى به إيمانها، ويقوي عقيدتها، ويفقهها في دين الله عز وجل.
أما دورها تجاه الجميع: فهو في حدود ما شرع الله عز وجل لها: أن تكون داعية إلى الله، ومبشرة بالخير، وناصحة لكل أحد؛ كما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأخذ البيعة على بعض أصحابه بالنصح لكل مسلم، وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الدين النصيحة! قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم}، وغير ذلك مما هو واجب المسلم تجاه إخوانه المسلمين رجالاً كانوا أو نساءً.(79/17)
دعوى حاجة المرأة إلى الوظيفة
السؤال
تقول الأخت: بعض الناس في هذا الزمان يقولون: إن المرأة تحتاج إلى التعليم وإكمال الدراسة والوظيفة أكثر مما تحتاج إلى الزوج! بماذا نرد على هؤلاء؟
الجواب
هذا مخالفة للفطرة التي فطر الله الخلق عليها، ومخالف لواقع الحياة البشرية التي تكاد الآن أن تصرخ وتصيح في وجوهنا في كل مكان أن المرأة الأصل لها هو البيت والزواج.
وقد وجدت في أمريكا جمعيات خاصة للمطالبة بعودة المرأة إلى البيت ينادين بذلك، وقد نشر في الصحف منذ أيام أنه في أمريكا وبريطانيا لوحات إعلانية كبيرة في بعض المدن والشوارع توصي المرأة بالحشمة: "احتشمي لكي تسلمي من الاغتصاب ومن المجرمين ومن كذا وكذا"! هذا وهم كفار! فالزواج لا بد منه، والحشمة لا بد منها، وهذه حاجة فطرية جعلها الله تبارك وتعالى في كل نفس، وإذا فات وذهب قطار العمر، وتجاوزت المرأة العمر سن الزواج من يحسن إليها؟! وكم من العوانس الآن وهن في سن الزواج، فكيف بمن تعدينه؟ فأرجو ألا ننساق وراء هذه الدعوات المشبوهة والمغرضة والغريبة عن ديننا؛ بل حتى عن حياتنا ومجتمعنا، والتي ما جاءتنا إلا من المجلات الخبيثة، والمسلسلات الفاجرة، والغزو الفكري الهدام.(79/18)
زينة المرأة ولباسها
السؤال
عن موضوع الزينة واللباس وما يتعلق بهما؟
الجواب
أحب أن أقول للأخوات في نقاط محدودة بتوفيق الله.
أولاً: الحجاب الذي أمر الله به وشرعه ليس هو مجرد أن يستر أي شيء؛ فالحجاب يشمل في كل الأحكام التي من شأنها أن تبعد المرأة عن الرجال وعن الفتنة؛ فهو يشمل: القرار في البيت، فالقرار في البيت من الحجاب، ويشمل ترك المخالطة مع الرجال، ويشمل اللباس الفضفاض الساتر السابغ، ويشمل ترك التبرج وترك التزين لغير الزوج ومن أحل الله له ذلك، ويشمل: ما دل عليه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {صلاة المرأة في خدرها خير من صلاتها في المسجد} والمسجد الذي كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتحدث عنه هو مسجده وهو إمامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد قال: {شر صفوف النساء أولها} وهذا كان في مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه قريب من آخر صفوف الرجال.
فانظرن كيف يمكن أن يكون وضع وحال المرأة المسلمة التي تتقي الله في هذه الأمور؟! القضية الثانية: اعلمن أيتها الأخوات أن المرأة الأجنبية إذا كانت كافرة، فإن حكمها هو حكم الرجل؛ فلا يجوز للمرأة المسلمة أن تبدي أو أن تظهر شيئاً من زينتها أمامها إلا أن ترى وجهها أو ما أشبه ذلك؛ خاصة في هذا الزمن؛ فالمرأة الكافرة لا يجوز لها أن ترى من المرأة المسلمة ما قد يؤدي -ولا بد أن يؤدي- إلى أن تنعتها في مجتمع خبيث كافر أو تتحدث عنها، وما أكثر ما تتحدث الكافرات الغربيات اليوم عن المرأة المسلمة وعن حجابها وعفافها وطهارتها! فحتى الوجه إن لم تكن هناك حاجة فلا يجوز للمرأة الكافرة أن ترى وجه المرأة المسلمة.
وأما المرأة الفاسقة فإنها تأخذ حكماً قريباً من ذلك؛ فإذا كانت فاسقة فربما وصفت المرأة المسلمة، وقد تصف وجهها وعينها وشعرها وما أشبه ذلك، فهذه أيضاً لا يجوز للمرأة المسلمة أن تريها ذلك، فأما إن كان ذلك مظنوناً فقط فالأفضل أن تجتنبها، وينبغي لها أن تراعي ذلك ولا تخالط الفاسقات، ولا تتيح لهن أن يرين منها ما يمكن أن يدعو إلى الفتنة، إما عن طريق الوصف أو ما أشبه ذلك.
وأما المرأة المسلمة مع المرأة المسلمة، التقية مع التقية، فإن الأولى والأفضل ألا تبدي إلا الوجه والكفين، أو كأن يظهر شيء من اليد أو الرجل، كما تعمل النساء في مهنتهن أو أعمالهن البيتيه وغيرها.
أما أن تتعرى المرأة أو تتبرج أو تلبس الملابس الضيقة والشفافة أمام النساء وتستسهل ذلك، فهذا لا يليق بالمرأة المسلمة مطلقاً.
وبالنسبة لما يرتديه بعض النساء من اللباس الأبيض للزواج ليلة العرس فإن الذي يرى حال النساء الكافرات يجد أن هذا اللباس بهذا الشكل بلونه وبزيه وبحمل الورود وغير ذلك هو عينه ما تطبقه وتعمله النساء الكافرات.
يفعلن ذلك في الكنيسة ويُعْقَدُ الزواج هنالك، ولو أن إحداكن رأت -إما على الطبيعة أو في الصورة- حفل زواج في الكنيسة للكافرات، ورأت بعض الحفلات التي تقام هنا لوجدت أن المشابهة كاملة في كل شيء، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ولذلك فإنه لا يجوز أن نتشبه بهم أو أن نقلدهم في ذلك، إن كان الذي يفعل ذلك يفعله عن تقليد وعلم، فقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من تشبه بقوم فهو منهم} وإن كان يُفعل عن جهل وغير علم، فيجب أن يحذر وأن ينبه إلى ذلك.
وهو على كل حال على خطر لأنه لا يدري ما دينه، فهو يفعل ذلك وهو إمعة! يرى الناس يفعلون شيئاً فيفعله دون أن يسأل عنه.
وقد عجبت جداً لانتشار هذه الظاهرة وهي مخالفة حتى للذوق السليم، فإن الرجل ذو الفطرة السليمة لا يستسيغ أو يحسن في عينه أن تكون المرأة لابسة أو مرتدية هذا اللباس الأبيض الشفاف وبهذه الطريقة؛ بخلاف ما كان عليه النساء من قبل والعرائس في الحفلات، فإنهن يلبسن الأخضر والأصفر والأحمر والأزرق والملون وما أشبه ذلك من ملابس جميلة، وفيها أكثر من ذوق، حتى إن فيها إتاحة للإبداع: أن تبدع المرأة أو يبدع أهلها في اختيار ذوق مناسب لها، فهذا في الحقيقة مما يجب أن نتعاون جميعاً على إنكاره.
والبنطلون وإن كان واسعاً فإنه أيضاً لا يستحسن ولا يليق بالمرأة المسلمة، فكيف تلبسه وهو بهذه المثابة؟ فإن كان بغرض المشابهة فكما ذكرنا، وإن كان لغير غرض المشابهة وأنه إنما هو مجرد تقليد لمن رأتهن يقلدنهن، فالواجب على المرأة المسلمة كما ألمحنا أن تتميز في لباسها وسلوكها ومعاملاتها وفي خلقها وفي كل شيء.
كذلك بالنسبة لصبغات الشعر وحتى لا أتكلم بغير علم فقد بلغني أنها أنواع، فبعض منها يغير خلقة الله، وأنا أعجب من المرأة المسلمة التي خلقها الله تعالى ذات بشرة بيضاء، وشعر أسود، وعينين سوداوين، ثم تغير ذلك وتتلطخ بهذا المكياج، وتصبغ شعرها، وتغير مقلتي عينيها؛ لتصبح كأنها امرأة أوروبية حمراء أو بيضاء، وشعرها أشقر، وعيناها خضراوان أو زرقاوان.
لقد اختار الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا أفضل الشعر وأفضل الألوان، ومن خلقه الله كذلك فلا حرج، لكن المقصود هو تغيير خلق الله الذي وعد به الشيطان فقال: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) [النساء:119].
والذي أراه أن هذا يدخل في تغيير خلق الله، بحيث إن المرأة التي كانت بشكل ثم غيَّرت شكلها لو رآها أحد ممن يعرفها لا يعرفها، لأنها غيَّرت خلق الله الذي خلقها الله تبارك وتعالى عليه، فلا مانع من تحسين الوجه أو الشعر وإطالته ودهنه بما لا يخالف الشرع، ولكن أن يخرج ذلك عن حده، ويدخل في تغيير الخلقة، ويدخل في ذلك ما نص الشرع على تحريمه من نتف الحواجب أو التنمص وما أشبه ذلك من الوشم، كل ذلك لا يجوز، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة الحديث}.
أقول: وكل ما حرم الله ورسوله فإنه يدخل في ذلك ضرورياً، لكن نتكلم عن هذه الظاهرة التي لم يكن لها وجود، وربما لم يتكلم عنها الفقهاء، فضلاً عن الأحاديث إلا أنها في نظري تدخل في عموم تغيير خلق الله، إضافة إلى أن الأخت التي تصرف هذه الأموال في هذه الأصناف فإن هذا المال أحوج أن يصرف للفقراء، وأحوج أن يعطى للأخوات المسلمات في أماكن أخرى، وأحوج أن تشتري به كتاباً أو شريطاً تستفيد منه، وأحوج إليه في أي عمل من أعمال الخير.
أقل ما في الأمر أن بيوت الأزياء أو بيوت العطور في أكثر أنحاء العالم يهودية أو شبه يهودية، فلماذا نعين ونساهم في تمويل هذه البيوت التي تتبرع بما يأتيها من مال لليهود، ولدولة اليهود والنصارى، ولكل أعمال التنصير أو غير ذلك.(79/19)
حكم كوافير الشعر
السؤال
ما حكم الذهاب إلى الكوافير؟ وهل هذا حرام؟
الجواب
نعم هذا حرام وممنوع! وإلى هذا التاريخ لا يوجد تصريح بإقامة محلات كوافير في المملكة لأنه مما حرمه الله، وهو مما يجب أن يحذر منها، فلا يجوز للأخت أن تخرج إلى محلات ما يسمونها التخسيس أو كمال الأجسام أو النوادي الصحية أو ما أشبه، ذلك لعموم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أيما امرأة خلعت ثيابها في غير بيت زوجها فقد برئت منها ذمة الله ورسوله} أو كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إضافة إلى ما في هذه الأماكن من مفاسد، فإنها تشتمل على كميرات تصوير، وهذا ثابت ومؤكد، وربما كان هناك من الرجال من يرى ويراقب بالكميرات الخفية، وهذا أيضاً قد حصل وقد وقع وقد قبض على أصحابها، ومفاسد أخرى كثيرة وهذه الصور كم قد طلق بسببها، فإن بعض الناس الخبثاء يترصدون بهذه البيوت، أو يحصلون على الصور من هذه الكوافير وأشباهها، ثم يتخذون منها وسيلة للإفساد بين الزوجين، ويتخذون منها وسيلة للضغط على المرأة وطلب أمور لا تريدها ويهددونها بهذه الصور.
وقد وقعت أمور أعرفها شخصياً وحالات -لا أريد الإطالة فيها- بسبب التساهل في هذه القضايا.
وهذا يشمل أيضاً الحمّام الذي نهينا عنه فيما روي عن الصحابة رضي الله عنهم وإن كان ما رفع عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير ثابت، لكن الأول يشمله، لأنه يكون فيه الخلع والتجرد في غير بيت الزوج ولغير ضرورة أو حاجة.
لا بأس -مثلاً- عند الطبيب أو غير ذلك أن تكشف مما لابد منه؛ لكن هذا التجرد لما يسمونه التجميل أو التخسيس أو ما أشبه ذلك، وهذه كلها مما لا تبيح للمرأة المسلمة أن تتجرد وأن يراها حتى النساء كما أشرنا، فأكثر هؤلاء النساء فاسقات، فقد يكون منهن وصف للمرأة التي يرونها والذي نهى عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه يراها}؛ فهذا الوصف قد يكون أشق وأخطر مما لو رآها الزوج -نسأل الله العفو والعافية- لأن الإنسان إذا وصف له شيء فإنه يتشوق إلى رؤيته، وربما إذا رآه لما كان لديه هذا الشوق.(79/20)
حكم مشاركة النساء في حلقات التحفيظ النسائية
السؤال
ما هي نصيحتكم للفتاة المشاركة في مثل هذه المراكز وحلقات التحفيظ النسائية، لا سيما في أوقات الإجازة؟
الجواب
نعم! من تستطيع أن تخرج من بيتها بالشروط الشرعية، أو لا تستطيع أن تحصل على هذا الخير في بيتها، فإن المبادرة إلى هذا التحفيظ خير لها، لا أقول: إنه خير لها من الذهاب إلى الأسواق وكذا، فأنتن -إن شاء الله- تعرفن حكم الخروج من المنزل لغير حاجة، أو الذهاب إلى هذه الأماكن، لكن أقول: هذا خير للمرأة حتى تستفيد وتزداد علماً وفقهاً في الدين، وحكمة ودعوة وبصيرة في الدعوة إلى الله.(79/21)
المرأة المسلمة داعية في المدرسة
السؤال
تقول الأخت: إنني أعي أن مسئوليتي هي كزوجة وأم ومربية للأجيال، ولكن أشعر في الوقت الحاضر أن المجتمع النسائي محتاج إلى داعيات، وأفكر بأن أعمل مُدَرِّسة، لكنني أخاف أن أقصر في واجبي ومسئوليتي الأساسية؛ فبماذا تنصحونني؟
الجواب
إن كنت مؤهلة للدعوة إلى الله، واستطعت الحصول على ضوابط معينة؛ كأن تكوني في مدرسة قريبة، ولا تذهبي مع السائق إلا مع ذي محرم، وأن تكون أعباء المنزل أقل؛ فإن بعض النساء أعباؤهن أقل من بعض؛ فعند ذلك لا بأس أن تشاركي في الدعوة إلى الله، كما أشرنا من قبل، أما إن كنت لا تستطيعين فواجباتك ومسئوليتك المنزلية أحرى.(79/22)
الدراسة في كلية الطب
السؤال
تذكر بعض الأخوات أن الوضع حالياً في كلية الطب وطبيعة العمل بعد التخرج مخالف للأصول الشرعية، وفيه بعض التنازل عن الحجاب، وفيه خلوة، مع مخالفته لطبيعة المرأة؟
الجواب
أنا أؤكد هذا في الحقيقة، أما من قد ابتليت بذلك، فتصبر وتصابر وتجتهد في أن تكون طبيبة مسلمة لتسد حاجة المجتمع في ذلك، أما إذا كانت هناك فتاة ملتزمة طاهرة تريد الدخول لكلية الطب، فكما قلت: لا أرى ذلك إلا إذا تغير الوضع عما هو عليه الآن.(79/23)
ذهاب المرأة للدراسة خارج البلاد
السؤال
عن حكم السفر إلى بلاد الخارج للدراسة أو لغيرها؟
الجواب
وأنا أقول: إن كان -كما ترين الآن- بلادنا في الأسواق وفي المطارات مما لا يرضي الله، ومما يخشى فيه الفتنة بل هي مؤكدة ولا بد، فما بالكن بغيرها من البلاد؟! والسفر العارض أرى أنه لا يجوز، مجرد أن تسافر المرأة إلى الخارج شهراً للإجازة أو نحو ذلك أرى أنه لا يجوز إلا لضرورة، فما بالكن بالسفر الذي تكون فيه إقامتها إقامة دائمة، سنوات لتنال الشهادة؟! وأعني أنا بهذه البلاد مصر وأمثالها، أما أمريكا وبريطانيا ودول الكفر، فهذه من باب أولى.
فالذي أراه -وأنصح الداعيات والأخوات منهن أن ينشرن هذا في المجتمع- أنه لا يجوز الذهاب إلى بلاد الكفر، وأنا لا أرى جواز ابتعاث أية فتاة مسلمة إلى الخارج، ولا أستسيغ كل ما يقال في الموضوع مهما قيل: إنه تخصصات نادرة في الطب وفي غيره، فلا يسوِّغ ذلك أن تضيع الفتاة المسلمة هنالك في بلاد الكفر سنوات، -وخاصة مع الأسف الشديد وقد رأيت ذلك وبلغني- أنهن مع غير محرم، والسفر لا بد فيه من محرم، إذا كان حلالاً ومباحاً وهنا في الداخل لا بد فيه من محرم.
واللاتي يسألن عن السفر في الطائرة مع الأطفال، أقول: لا يجوز؛ فالطفل في الحقيقة ليس بمحرم.
وقد سأل بعض الأخوات: هل المحرم الذي بلغ سن البلوغ أو التمييز؟ وأقول: فرق بين المحرمية وبين نفي الخلوة، فالذي أراه أن الخلوة تنتفي بوجود الطفل المميز، ولا سيما إن كان ذلك لحاجة أو ضرورة، وأن المحرمية في السفر البعيد أو الطائرات لا بد فيها من البالغ الذي في إمكانه ألا تحتاج المرأة مع وجوده أن تخالط الرجال، ولتحذر الأخوات الكريمات من التساهل في هذا الأمر؛ فإن السفر بالطائرات -وإن كان في الغالب مأموناً ومضموناً- إلا أن الخطأ الواحد منه يكون فظيعا وشنيعاً كأن تختطف الطائرة، أو تذهب إلى بلاد أخرى، كأن يقع أي حادث، وهنالك إشكالات أخرى إذا وقعت فهي فظيعة وكبيرة، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يحفظنا وإياكم أينما كنا.(79/24)
حكم ذهاب المرأة إلى المناسبات التي تقع فيها المنكرات
السؤال
ما حكم الذهاب إلى الأفراح والمناسبات التي يقع فيها منكرات؟
الجواب
إن كان ذهاب الأخت من شأنه أن يقلل المنكر أو يقضي عليه، فلا بأس أن تذهب وأن تحضر، وأما إن كان لا يجدي من ذلك شيئاً، فلا يجوز لها أن تذهب إلا في حالة واحدة، وهي حالة المصلحة المترجحة أو أن المفسدة التي تكون وتحصل أكبر من مفسدة بقائها كما لو كان الزواج لأخت لها، وسوف يغضب أبواها مثلاً عليها، ويحدث بذلك مفسدة عظيمة عليها، أو يغضب زوجها عليها غضباً شديداً أو يطلقها، كما يفعل بعض الحمقى والجهال، يقول: (إن لم تحضري زواج أختي أو أخي طلقتك) فتكون هناك مفسدة، فتذهب وهي مرغمة مكرهة، فإذا ذهبت فإنه لا حرج عليها، وهذا يظل في حكم الإكراه ولكن تجتهد أن تنكر المنكر وأن تعتزله ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.
ومن المنكرات التصوير والتشبه بالكافرات من قبل المدعوات، ومن المنكرات الرقص الخليع، ومن أمثال ذلك: الحركات التي فيها تشبه بالكافرات والغناء والمطربين والمطربات والموسيقى وأمثال ذلك مما يطول تفصيله.(79/25)
الرغبة في دراسة التخصصات العلمية
السؤال
إن كثيراً من الأخوات اليوم يرغبن في دراسة التخصصات العلمية ودخول كلية العلوم: أحياء، فيزياء، رياضيات، كمبيوتر، طب، والعلوم الطبية وغيرها مع جهلهن بأمور دينهن؟ ولا يخفى عليكم أننا بحاجة إلى أمهات واعيات بأمور دينهن مربيات لأبنائهن وبنات جنسهن، فنرجو لفت النظر والتوجيه إلى أهمية تعلم علوم الدين أولاً، ثم إن كان لديها فائض من الوقت والجهد تتعلم ما تريد؟
الجواب
أنا أكرر ما قاله الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله من أن من قرر ذلك فهو مجرم، ويجب أن نتدارك هذا الإجرام في حق الأمة، قد تقول الأخت: لا بد أن تُدرس الكيمياء والفيزياء في المدارس، فأَدْرُسُها لأَدرِّسَها، فنقول: مع هذا الواقع السيء، إن كان لا بد منه فلا بد من قدر من العلم الشرعي الذي هو الأساس والمطلوب الأول، أما مع جهلها بدينها وتسعى في ذلك، فهذا في الحقيقة لا يجوز.(79/26)
التوكل على الله عز وجل
السؤال
كيف يكون التوكل الحقيقي على الله عز وجل؟
الجواب
التوكل على الله عز وجل يكون بأمرين: أولهما: اتخاذ الأسباب المشروعة؛ لتحقيق ما يريده العبد.
ثانيهما: أن يعلم العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وعليه أن يتوكل على الله ويفوض أمره إلى الله عز وجل ويستعين به، ويعلم أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إليه الملجأ وإليه المصير، وأولياء الله تعالى هم الذين سماهم الله عز وجل بقوله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63]؛ فكل المؤمنين المتقين أولياء لله، ولكن درجاتهم في الولاية تتفاوت بحسب تفاوتهم في التقوى والإيمان.(79/27)
حكم صلاة التسابيح
السؤال
هل صلاة التسابيح صحيحة؟
الجواب
صلاة التسابيح ليست صحيحة على القول الراجح.(79/28)
ركوب المرأة مع سائق بدون محرم
السؤال
إن بعض المنتسبات إلى مدارس تحفيظ القرآن الكريم يلاحظ عليهن أنهن يخرجن بخلوة مع السائق، وهذا حرام لا يجوز، أو أنهن لا يتحجبن وهذه مصيبة ومنكر كبير، أو أنهن يتخاطبن مع الرجال بحرية وبدون حرج، وهذا أيضاً لا يجوز؟
الجواب
أرجو أن تتنبه الأخوات الكريمات إلى هذا، وأنتن أولى الناس بالتمسك وبالاستقامة، وأن تكن قدوة لغيركن من المنتسبات إلى المدارس العادية.(79/29)
حكم المرأة الحائض أثناء الحج
السؤال
امرأة حاضت في الحج، وأفتاها البعض بأنها مضطرة، وطافت وهي حائض؛ فما حكم ذلك؟
الجواب
نقول: الآن ليس عليها شيء يجب أن تفعله، ولكن هي على ما أفتاها المفتي، وإن كان أفتاها بغير القول الصحيح، فالصحيح: أنها تنتظر حتى تطهر وتقول: هل حجتي صحيحة؟ نقول: نعم حجك صحيح -إن شاء الله- ولا أعلم أنه يجب عليك شيء.(79/30)
إزالة شعر المرأة من الوجه بالموس
السؤال
حكم إزالة شيء من الشعر (الحاجب) بالموسى بدلاً من النتف؟
الجواب
لا فرق بين إزالته بهذه أو تلك بأي وسيلة من الوسائل فهو غير جائز.(79/31)
حكم قص شعر رأس المرأة
السؤال
ما حكم قص الشعر بعد ما شاهدته على بعض الأجنبيات وأعجبت به، هل يجوز أن أقص هذه القصة؟
الجواب
لا! هذا تشبه بالأجنبيات.(79/32)
حفظ القرآن للمرأة
السؤال
سائلة تقول: أعتذر من عدم حفظ القرآن؛ لأنني أخشى إن حفظت أن أنسى، فأكون من أهل الوعيد في نسيان القرآن!!
الجواب
نقول: سبحان الله! هذا خطأ، عليكِ أن تحفظي وأن تجتهدي في ألا تنسي، أما أن يكون الحل هو الفرار من وعيد من نسي إذا حفظ، إلى ألا يحفظ الإنسان، وأن يترك الطاعة من أصلها، فهذا من وساوس الشيطان!(79/33)
حكم الاشتراكات التي تطلب من المستشفيات
السؤال
ما حكم الاشتراكات التي تطلب من المستشفيات؟
الجواب
هذه لا تصح؛ هذا عقد باطل أن يدفع الإنسان لمستشفى مبلغاً من المال، ثم إن احتاج أن يذهب خفضوا له، وإن لم يذهب أخذوا المال فهذا حرام! وهذا عقد باطل؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أحل العقود في منفعة معلومة، سواء كانت بيعاً أم إجارة، بثمن معلوم، فإذا كان هناك شيء من الجهالة أو الغرر، فإن ذلك لا يجوز، وهذا لا شك أن فيه جهالة وغرراً، فربما يمرض من أفراد العائلة عشرة أو ما أشبه ذلك، ويعالجون بآلاف الريالات، فيكون المستشفى قد تكلف مثلاً بعشرة آلاف ريال مقابل الاشتراك بخمسمائة، فهذا فيه إجحاف بالمستشفى، وقد لا يحتاج الإنسان أن يذهب هو وأحد أفراده إلى المستشفى أو يذهب فلا يخسر إلا ما قيمته مائة ريال، بينما يكون قد دفع خمسمائة ريال فهذه العملية عملية حسابية بسيطة وهي نوع من التأمين، وهو بجميع أشكاله يقوم على أساس حساب الاحتمالات فهم قد جربوا وأحصوا رياضياً أن عشرة آلاف مشترك قد لا يمرض منهم إلا كذا، وقد لا يخسرون إلا كذا، فالربح مضمون بناءً على هذا؛ فالناس يشتركون، ويقولون: احتياطاً فربما أمرض أو كذا، فالمقصود أن الغرض حاصل أو واقع، وهذا العقد باطل.(79/34)
وضع اللولب لمنع الحمل
السؤال
ما حكم وضع اللولب لمنع الحمل؟
الجواب
اللولب أو غيره نوجز فنقول: كل موانع الحمل إن كان المقصود منها قطع النسل فهذا لا يجوز، وأما إن كان المقصود التنظيم، بحيث تستطيع الأم أن ترضع ابنها حولين كاملين، تريد أن تتم الرضاعة كما ذكر الله عز وجل، ثم بعد ذلك تربيه سنة أو ما أشبه ذلك، ثم تحمل في السنة الرابعة، فهذا من التنظيم ولا بأس به -إن شاء الله- وذلك راجع إلى النية.(79/35)
الظلم بين الأولاد
السؤال
إحدى الأخوات لها ثلاث بنات وتظلم إحداهن وتكرهها جداً؟
الجواب
لا يجوز ذلك، بل يجب العدل بين الأبناء وهذا مما استرعانا الله تبارك وتعالى وأمر به.(79/36)
الفرق بين مستحل الحرام ومرتكبه
السؤال
تحدثت معلمة عن أهمية العقيدة، وضربت مثلاً بشخصين أحدهما: يأكل الربا مع أنه يعتقد أنه محرم، ولكنه يراه ضرورة، وأنه من أهم مقومات اقتصاد أي دولة، والآخر لا يعتقد أنه محرم، ولو أنه لا يتعامل به، فقالت: إن الأول يعتبر مؤمناً، ولكن إيمانه ناقص، وأن الثاني كافر فهل كفره مخرج من الملة أم من باب أنه كفر دون كفر؟
الجواب
من اعتقد أن الربا حلال وإن لم يأكله فهو كافر كفراً مخرجاً من الملة؛ أي إذا كان عالماً وأقيمت عليه الحجة، ووضحت له الآيات والأحاديث، وأصر على ذلك، فهذا كافر كفراً مخرجاً من الملة، وأما الذي يأكل الربا لكن يقول: لا نستطيع، أو يتعلل بأي تعلل من التعللات التي تؤدي إلى ارتكابه، فهذا عاص مرتكب لكبيرة عظيمة، وهو الذي تأذن الله تعالى بحربه: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279]، هذا في الذي يأكله لا في الذي يستحله، ويقول: إنه حلال، فالمستحل قوله كقول أهل الجاهلية الذين حكى الله عز وجل قولهم في قوله: {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275].(79/37)
محبة الكافر ومودته
السؤال
إن الممرضات أو الطبيبات أوغيرهن من الكافرات اللاتي تكون أخلاقهن حسنة ربما أدَّى ذلك إلى الافتتان بتلك الأخلاق أو مودتهن بحجة الأخلاق؟
الجواب
الدين لا شك أنه خلق، وأنه معاملة، وأن الأخلاق الحسنة هي أعظم ما يدعو الإنسان به الناس بعد ما يعطيه الله تبارك وتعالى القول الحسن وهو من الأخلاق الحسنة، ولا يجوز للمسلم أن يحب الكافر أو أن يوده، وأما إن أحسن إليه هؤلاء فلا بأس أن يرد الإحسان، فالمؤمن هو مكافئ، يكافئ الإحسان بالإحسان، ولو بشيء من الهدية أو بشيء من العطاء، ولعل ذلك يكون بإذن الله مما يرغب تلك المرأة في أن تسلم، لكن لا يصل ذلك إلى المحبة والمودة والموالاة كما جاء في هذا السؤال.(79/38)
بذل النصيحة
السؤال
هذه الأخت لديها ثلاث جارات: إحداهن تنقل الكلام وتنم بين الباقيات، وإحداهن ذات سمعة سيئة، وإحداهن درزية عقيدتها منحرفة وتمشي بدون حجاب وبتبرج، فما هي المعاملة التي ينبغي أن أعامل بها كل واحدة منهن؟
الجواب
هذه مصيبة، وهذه قد جُمعت لها المصائب نسأل الله العفو والعافية: أما النمامة: فعلى الأخت أن تعظها وتنصحها وتذكرها بما جاء في النميمة، ولو لم يكن فيها إلا حديث الرجلين الذي مر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقبريهما، فشق جريدة خضراء ووضعها عليهما، وقال: {إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة}، فهذا في زمن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومع ذلك جعلته النميمة من أهل العذاب ومن أهل النار.
وأما ذات السمعة السيئة: فلا أعلم ما مصدر ذلك، لكن ربما أنت تعلمينه، فتنصحينها وتعظينها في ذلك.
وأما الدرزية ففي الغالب -والله أعلم- أنهم لا يرجعون عن دينهم فعليك أن تحذِّري الناس والجارات من دينها، وتحذرينهن بالأسلوب الحكيم الطيب، ولو وجدت قناة لإيصال الحق إليها فقد يمُنُّ الله عليها بالتوبة، لكن المعلوم أن الشيعة والدروز وأمثالهم قل من يهتدي منهم، ولا سيما إذا كان المجتمع في مثل هذه الحالة ولا أريد أن تيأسي فقد تكونين ناجحة في الدعوة معها ولو لم تنجحي فلن يضرك ذلك.(79/39)
مفارقة الزوج الذي يعمل في بنك ربوي
السؤال
ما حكم من يعمل في البنك الربوي وينفق من مرتبه على زوجته وأبنائه, وما الذي ينبغي للزوجة فعله تجاه ذلك؟
الجواب
لا يجوز له ذلك, وعلى المرأة أن تطلب الطلاق منه ويحق لها ذلك, إذا استنفدت الوسائل لتوبته.
السائل: والذي يشرب الخمر؟ الشيخ: كذلك ينطبق عليه نفس الحكم السابق, ولا حول ولا قوة إلا بالله.(79/40)
حكم أخذ النفقة ممن لا يصلي
السؤال
ما حكم أخذ النفقة من الزوج الذي لا يصلي؟
الجواب
النفقة كما سألت الأخت واجبة عليه, نفقتك ونفقة بناتك واجبة على الأب, وكونه تارك لصلاة الجماعة لا يؤثر ذلك في استحقاقكم للنفقة, وعليك أن تدعيه إلى الله أنتِ وهن.(79/41)
حكم هجر منزل الأب لمقارفته للكبائر
السؤال
ما حكم امتناع البنت عن العيش مع أبيها بحجة أنه يشرب الخمر ويخلو بالخادمة؟
الجواب
الفتاة التي رفضت الذهاب مع أبيها حتى يدع الخمر والخلوة بالشغالة الفلبينية, هي على صواب وعلى حق, وتبقى مع أمها, وأنصح لحل مثل هذه المشكلات أن يكون عن طريق الصلح, لا عن طريق الشكوى, ربما يكون من أهل الخير من الإخوان أو الأعمام من يحل مثل هذه المشكلات ويعين على طاعة الله.(79/42)
عمل المرأة خارج البيت
السؤال
سائلة تقول: إنها تعمل خارج البيت مضطرة، فما الحكم؟
الجواب
عليك أن تتحجبي وأن تتحصني، وأن تتقي الله، وأن تعلمي أنه متى ما هيئ لك الاستقرار في البيت فعليك أن تستقري فيه.(79/43)
الجلوس مع الأقارب مع وقوع بعض المنكرات
السؤال
الأقارب إذا كانوا من أهل الغيبة والضحك والمنكرات فما حكم الاجتماع معهم؟
الجواب
نقول: اجتمعي معهم ولا تقاطعيهم، ولكن أنكري عليهم ما استطعت، وإذا استمروا وتعاونوا ورفضوا أن يقبلوا نصيحتك، فبإمكانك بعد ذلك أن تتجنبيهم، لكن مجرد وقوع منهم بعض المنكرات، والتي لا يكاد يخلو منها بيت إلا من رحم الله، فهذه ليست سبباً موجباً للقطيعة بل هي سبب للدعوة؛ والدعوة لا تكون مع القطيعة.(79/44)
العدل بين الزوجات
السؤال
ما حكم العدل بين الزوجات؟
الجواب
العدل بين النساء واجب لا ريب، ولهذا قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3] لكن ينبغي أن تصبر الأخت إذا لم يعدل زوجها؛ فقد يكون فهمها للعدل خطأ، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: أن الصبر مع الزوج والأبناء خير لها وأنها تؤجر على ذلك، وهو يأثم بتركه للعدل، وهو خير من الفراق وطلب الطلاق، وكما أشرت فالصلح خير، فلتُوَسِّطْ من ينصحه ويصلح ما بينهما.(79/45)
محرمية زوج البنت
السؤال
هل زوج ابنتي يجوز أن أذهب معه؟
الجواب
نعم هو مَحْرم، ويجوز أن تذهبي معه إلا إذا كان فاسقاً أو شارباً للخمر أو ما أشبه ذلك، فهذا تجتنبيه.(79/46)
كشف الوجه في البلاد الأجنبية
السؤال
حكم كشف الوجه أو اللثام في خارج البلاد؟ وما حكم وجود الصلبان في الثياب؟
الجواب
قلنا: إن المرأة لا يجوز لها أن تذهب لبلاد الخارج، ويجب عليها ألا تخرج، وإذا اضطرت كأن تكون ذهبت لعلاج أو ما أشبه ذلك، فإنها تكون محجبة حجاباً كاملاً، وتستعين بالله وتصبر على ما تلاقي.
أما الصلبان: بجميع أنواعها، وهي أنواع كثيرة، فحرام أن تكون في لباسك أيتها الأخت، في أي نوع من أنواع اللباس، أما إن كانت في الأرض يوطأ ويداس فلا بأس بذلك إن شاء الله.
والصور والصلبان على ملابس الأطفال: هذه مسئوليتنا، فلا يجوز أن نترك الصلبان والصور على ألبسة الأطفال وإن كانوا صغاراً.(79/47)
وسائل تلقي العلم
السؤال
بالنسبة لطلب العلم من غير شيخ، ومن كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه، ما رأيكم في ذلك الخ؟
الجواب
الحقيقة أن عندنا أكثر من طريقة لطلب العلم، من سماع الأشرطة، ثم الاتصال هاتفياً بصاحب الشريط العلمي، والتأكد من بعض الأسئلة، وبالكتاب وغير ذلك؛ الآن تنوعت الوسائل، والحمد لله! فلنتقِّ الله ما استطعنا، وفي حدود الشرع.(79/48)
حال المسلمين المستضعفين من قبل الكفار
السؤال
وهنا عدة أسئلة وهي تدور في موضوع واحد، فإحدى الأخوات تقول: ما نراه الآن في الساحة الإسلامية من إبادة للمسلمين، وتنصير لهم في يوغسلافيا، وأوغندا، وألبانيا، والهند وغيرها، وهذا شيء مخجل لا يمكن وصفه لما فيه من إثبات الذل والهوان على المسلمين في كل مكان، وفي اعتقادي أن من يتعرضون للاعتداء هناك أكرم وأعز منا، ويكفيهم أنهم يقاومون ويتحملون هذه الاعتداءات، ولكني أقصد بالذل والإهانة الأفواه المكممة لأولياء أمر المسلمين، فكأنهم لا يبصرون ولا يسمعون، والصحيح أنهم لا يشعرون، فهل يمكن أن نكتفي بمساعدات مادية لا تصل في الغالب إليهم، كما هو الحال في يوغسلافيا وأحياناً في الصومال، وهل تصل المساعدات إلى أصحابها أم لا؟ وأخرى تقول: نعم المساعدات هامة، ولكن الأهم منها هو إنقاذ الأرواح التي قد تصل إليها هذه الإغاثة، فلعل الإغاثة المطلوبة تصل، ولكن بعد أن يكون المسلمون قد أبيدوا تماماً، وهل بالفعل نحن لا نستطيع فعل شيء لإخواننا المسلمين إلا بإذن الأمم المتحدة أقصد أمريكا؟! وأخرى تقول: لماذا لا يكون لنا قوة إسلامية عسكرية تعمل على حل مشاكل المسلمين عند استدعاء الحالة؟ أم سنظل وقتاً طويلاً ندفن رءوسنا في الرمال ونتباهى بالمساعدات المادية التي تملأ صدور صحفنا كالصحف السعودية، وأخواتها العربية؟ وأخرى تقول: أخي الفاضل من الذي يتحمل الإثم في هذه الأحداث، وهل للمسلم الفرد إثم في عدم مناصرته العسكرية لإخوانه المسلمين؟!
الجواب
في الحقيقة كل هذا الكلام حق، ونحن يؤلمنا جداً هذا الضعف وهذا التخاذل وهذا التعامل، ثم إننا إذا عملنا شيئاً نرائي به حتى أبطلناه بالمنِّ والأذى -نسأل الله العفو والعافية- والواجب ولا سيما عليكن معاشر النساء، أن تتبرعن بما تستطعن وأن تتصدقن، وهذا المال هو الذي يعين الرجال في كل مكان على الجهاد؛ فإن المال هو أكثر ما ينقصهم.
الحمد لله المجاهدون كُثر في كل مكان من أهل تلك البلاد -والحمد لله- إلا أن الإخوة المجاهدين يشتكون من قلة المال، فتبرعن به، قد تقلن: كيف؟ أقول: يمكن ذلك، والحمد لله.
وأنا شخصياً أتقبل التبرعات، وأرسلها أسبوعياً مع إخوة ثقات من طلبة العلم هاهنا، ويسلمونها يداً بيد، وتصل إلى أيدي المجاهدين -والحمد لله- وهي مثلما ينزل الماء البارد على العطشان الذي يكاد يموت من العطش، ونحن إذا اجتمع لدينا مبلغ -ولو كان قليلاً- نفرح به لعلمنا بشدة الحاجة إليه هنالك.
والحمد لله رب العالمين.(79/49)
(قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة) لابن تيمية
بدأ الشيخ حفظه الله ببيان أهمية هذه الرسالة، ثم بين بعض مظاهر الاختلاف بين أهل السنة وغيرهم من أهل البدع في معاملة المخالف، وحكم الصلاة خلف المبتدع، وقد بيَّن خلال ذلك الميزان الذي يتعامل به أهل السنة مع المخالف، موضحاً حكم المجتهد المخطئ، وحكم المسلم المتأول في القتال والتكفير، وبين أيضاً حكم الفُرقة الواقعة في الأمة، وكيفية التعامل معها وعلاجها.(80/1)
تعريف برسالة شيخ الإسلام في المعاملة
الحمد لله القائل في كتابه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، الذي قال: {تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك} أما بعد فلأهمية الموضوع ولكبر الرسالة نوجز -إن شاء الله تعالى- ما أمكن، والموضوع -في الحقيقة- هو قراءة مع شرحٍ يسير من رسالة لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله، ولعموم الفائدة فهذه الرسالة في مجمل اعتقاد السلف، في الجزء الثالث من الفتاوى، وهي رسالة صغيرة في حجمها، ولكنها غنية قيّمة في معناها ومضمونها.
وهي تبتدئ من (ص278) من الجزء الثالث -كما ذكرنا- والرسالة عنون لها شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله بعنوان 'قاعدة أهل السنة والجماعة والجماعة الاعتصام بالكتاب والسنة وعدم الفرقة' أو ' قاعدة أهل السنة والجماعة ' وقد يطلق عليها: 'قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة' والمقصود أنها ليست كتاباً مفرداً له اسم مستقل، وإنما هي قاعدة كتبها شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله تعالى في شكل رسالة.
وجدير بنا في هذا الزمن أن نقرأها، ونفهمها لأسبابٍ كثيرة: السبب الأول: أن شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله تعالى إمامٌ، وعالمٌ، وداعيةٌ، ومجاهدٌ موثوق به، ولا يشك في ذلك أحد والحمد لله، وكل أهل السنة والجماعة اليوم في هذا العالم متفقون ومجمعون على جلالته وإمامته وقدره ومكانته وكلامه حجة عندهم في هذه الأمور، وفي كل الأمور والقضايا التي تعرَّض لها رحمه الله تعالى، لا لأنه يأتي بشيءٍ من عنده، ولكن لأنه يؤصل كلامه من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإجماع السلف، ويدلل عليه.
والسبب الآخر: هو أن شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله قد عاشر قضايا وأحداثاً هي أشبه ما تكون بما نعيشه نحن اليوم، فقد عاش تلك الأحداث الدامية، التي تسلط فيها التتار على الأمة الإسلامية، وسقطت الخلافة أو ضاعت هيبتها كثيراً، وهي من قبل فاقدة القيمة، وتمزقت الأمة أشتاتاً وأحزاباً وطوائف، وتناحرت من كل جهة، فكان هناك الصليبيون والتتار، وهنالك طوائف الفرق المنتسبة لهذا الدين، وهو منها براء، كـ الباطنية وقد كان لـ شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله مواقف عظيمة في الرد على الباطنية وغيرهم من الرافضة، وعلماء الكلام، والفلاسفة، وله في ذلك كتب مشهورة معلومة في الرد عليها.
ومن ناحيةٍ أخرى فيما يتعلق بالتعامل -وهذا أمر مهم جداً- فالوضع الذي كانت فيه الحياة الإسلامية في زمنه رحمه الله، حيث لا يوجد خليفة قوي يضبط الأمة؛ وفي المقابل وجد أمراء أو حكام ينتحلون أو يدعون الدين وهم خارجون على أحكام الشريعة، كما هو الحال في التتار الذين كانوا يحكمون بغداد، وكان هناك أمراء الجور والظلم والفساد كما كان الحال في بلاد الشام ومصر، لكن كانوا على جهادٍ لأولئك المرتدين وأشباههم.
وهناك أيضاً الطرق وضلالاتها وما تفرع عن ذلك.
فكان شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله يعيش هذه الأحداث، التي هي -كما قلت- أقرب ما تكون إلى وضعنا الحالي وعصرنا الحاضر، ولذلك فالقاعدة التي كتبها رحمه الله في التعامل مع الأمة، وكيفية تعامل أهل السنة والجماعة مع الأمة، في هذه الحالة الاستثنائية قاعدة عظيمة ومهمة؛ لأننا الآن في الحالة الاستثنائية.
والحالة الأصلية والحالة الأساس: هي أن يكون المسلمون جميعاً أهل سنة وجماعة، وأن يكونوا جماعةً واحدة في كل أمورهم كما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن هذا غير الواقع في ذلك الزمن وفي هذا الزمن، فنحن -إن شاء الله- سنستعرض هذه الرسالة بإيجاز.(80/2)
مقدمة الرسالة(80/3)
أهمية الاجتماع
وقد افتتح شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله تعالى رسالته بالآيات العظيمة من سورة آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران:102 - 106].
فهذه الآيات جعلها في مقدمة الرسالة، ليبين أن الأصل الذي يجب أن يكون عليه المسلمون هو الاجتماع لا الفرقة، والاعتصام بالكتاب والسنة لا البدعة والشذوذ والاختلاف، فهذا هو الأصل.
ثم عقب على ذلك بالأثر المنقول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، قال: 'قال ابن عباس وغيره: [[تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة]] ' فبين أهمية الاجتماع، وخطر الافتراق من خلال هذه الآيات، وكيف أن هذا الاجتماع في الدنيا على الحق، يورث بياض الوجه يوم القيامة والنعيم عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكيف تورث الفرقة والبدعة والشذوذ والاختلاف تلك النهاية المخزية بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهي اسوداد الوجوه.(80/4)
الخوارج فرقة خارجة عن الجماعة
ثم قال رحمه الله: 'وفي الترمذي عن أبي أمامة الباهلي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخوارج: {إنهم كلاب أهل النار} وقرأ هذه الآية: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] ' ثم قال: 'قال الإمام أحمد بن حنبل: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه'.
وقال شَيْخ الإِسْلامِ: 'وقد خرجها مسلم في صحيحه، وخرج البخاري طائفةً منها'.
فالإمام مسلم رحمه الله سرد الروايات العشر في قتال الخوارج مرتبةً ومجموعةً ليبين ضلالها وخطرها، وفعل ذلك كثير من أئمة أهل السنة والحمد لله.
والإمام البخاري رحمه الله روى بعضاً منها، يقول: 'وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية} وفي رواية: {يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان} '.
والخوارج معلوم من السنة ومن واقع التاريخ، وقد ذكر رحمه الله الخوارج عقب ذكر الآيات الدالة على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة لحكمة سيبينها.
قال: ' والخوارج هم أول من كفَّر المسلمين، يُكفّرون بالذنوب، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم، ويستحلون دمه وماله' فهذا جانب، والجانب الآخر أنها أيضاً أول بدعة، وأول فرقة حدثت في الإسلام، ومعها قرينتها الرافضة الشيعة.(80/5)
صفات أهل البدع وأهل السنة
هذه الصفات نأتي بها مفصلة.(80/6)
تكفير أهل البدع لمخالفهم
يقول: ' وهذه حال أهل البدع ' فيضع رحمه الله معلماً بين أهل السنة وبين أهل البدعة في التعامل، يقول: 'وهذه حال أهل البدع، يبتدعون بدعة، ويكفرون من خالفهم فيها' فهم الذين وضعوها، ومن خالفهم فيها كفروه، ولهذا لا توجد طائفة من طوائف أهل البدع إلا وتتفرق وتتمزق إلى طوائف وفئات أخرى، لأن الذي أباح للأول أن يؤسس بدعة، ثم يجمع الناس عليها، ويوالي ويعادي فيها، قد يوجد عند رجل آخر، فيؤسس بدعةً جديدة ثم يوالي ويعادي فيها، فَلِمَ كان حقاً للأول، وليس حقاً لمن بعده؟! ومن هنا تفرقت الرافضة فرقاً كثيرة، وتفرقت الخوارج فرقاً كثيرة، وتفرقت الصوفية إلى طرق كثيرة، وهذه هي السبل التي نهى الله تبارك وتعالى عن اتباعها.(80/7)
رحمة أهل السنة بالخلق واتباعهم الحق
يقول: 'وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة، ويطيعون الله ورسوله' فلا يؤسسون من عندهم أصولهم، وإنما يتبعون كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا هم في جميع العصور جماعةٌ واحدة.
بل تجدون العجب العجاب لما ظهرت فتنة الخوارج كان الإجماع ضدها في كل البلاد، وكذلك لما ظهرت فتنة الروافض، ولما ظهرت فتنة الباطنية، أو لما ظهر القول بخلق القرآن، وأهل السنة منتشرون من الأندلس إلى خراسان إلى بلاد الهند وفي بلاد فارس وأواسط آسيا، وفي هضبة الآناضول، وفي مصر، وفي أفريقيا، وكلهم كلمتهم واحدة في هذه المسألة وفي غيرها.
فاتفقوا على كلمة واحدة رغم تباعدهم وعدم تلاقي أجسادهم؛ لأن المنبع واحد، والمشرب واحد، والمعتصم به واحد، وهذا يجعلهم أمة واحدة في جميع العصور، وفي جميع المواقف.
قال: 'فيتبعون الحق ويرحمون الخلق' فهم يتبعون الحق الذي هو كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويرحمون الخلق لأن أرحم الناس بالناس هم أهل السنة والجماعة، ومن ظن أن الأمر غير ذلك فقد ظلم نفسه، حتى عندما قاتلوا الخوارج وغيرهم، فإنما قاتلوهم للقضاء على فتنتهم، ورحمةً بالأمة من شرهم، وليهتدي من يهتدي منهم.
ولهذا فإنهم عندما يقاتلون فئةً وهي خارجة -لكنها ليست خارجة عن الدين- كما فعلوا في قتال الخوارج -مثلاً- فإنهم لا يجهزون على جريح ولا يتبعون مدبراً، ولا يقطعون سبيلاً، إنما القتال هو نفسه قتال رحمة، كما سيأتي تفصيل معاملتهم -إن شاء الله- في قتال أهل البدعة، حتى وهم يقاتلون أهل البدعة، فإنهم يعاملونهم بمعاملة شرعية منصفة فيها الرحمة.(80/8)
تعامل الصحابة مع بدعة الخوارج
ثم قال رحمه الله في الحديث عن بداية السبب الثاني أو التوطئة الثانية لموضوع الفرقة، قال: 'وأول بدعةٍ حدثت في الإسلام بدعة الخوارج والشيعة، حدثتا في أثناء خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فعاقب الطائفتين، أما الخوارج فقاتلوه فقاتلهم' وهنا لم يغز علي رضي الله عنه الخوارج ولم يبدأهم بقتال، مع أنهم اجتمعوا على هذه البدعة، وقال لأصحابه: [[دعوهم حتى يسفكوا الدم]] وقصتهم مشهورة معروفة، فلما لقوا عبد الله بن خباب رضي الله تعالى عنه أضجعوه وذبحوه، وبقروا بطن الجارية، فحينئذٍ سفكوا الدم الحرام فاستحقوا أن يقاتلوا.
أما قبل ذلك فقد كانوا يرفعون أصواتهم بالصياح في جنبات المسجد، وهو على المنبر في الكوفة رضي الله تعالى عنه يخطب، ويقولون: لا حكم إلا لله، لا حكم إلا لله، اعتراضاً على موقف التحكيم، ومع ذلك لم يعاقبهم بشيء، بل قال: [[إن لكم علينا ألا نمنعكم مساجد الله، وألا نمنعكم مال الله]] يعني: الفيء الذي هو حظهم من بيت المال؛ فيأخذونه ولا يمنعون منه، فأعطاهم هذه الحقوق، لكن قال: [[حتى يسفكوا الدم، وإنهم لفاعلون]] فلما سفكوا الدم وتجمعوا، وأمّروا أميراً عليهم، وأصبحت لهم شوكة وولاية مستقلة عن إمارة المؤمنين قاتلهم، مع أن من حقه من أول مرة أن يقتل أو أن يقاتل، ولكن حتى وهو أمير المؤمنين -وهذا حق شرعي له- لم يسر في ابتداء قتالهم ولا في معاملتهم أثناء القتال -كما أشرنا آنفاً- إلا على وفق أصول شرعية منضبطة، وهكذا يجب أن تكون المعاملة للأمة في كل شيء.
قال: 'وأما الشيعة فحرق غاليتهم بالنار، وطلب قتل عبد الله بن سبأ فهرب منه، وأمر بجلد من يُفضِّله على أبي بكر وعمر حد الفرية ثمانين جلدة ' لأنه افترى عندما فضّله على أبي بكر أو عمر.
ثم قال: 'ورُوي عنه من وجوه كثيرة أنه قال: [[خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر]] ورواه عنه البخاري في صحيحه ' وهذا أمرٌ معلوم عنه رضي الله تعالى عنه وعن الشيخين، ثم ذكر وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة، وبيّن أن أول بدعة حدثت في الإسلام هي بدعة الخوارج وكيف كان تعامل الصحابة معهم رغم أنهم يكفرون المسلمين.(80/9)
من صفات أهل السنة أنهم لا يتركون الجمع والجماعات
قال رحمه الله: 'ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يصلون الجمع والأعياد والجماعات -لا يدعون الجمعة والجماعة كما فعل أهل البدع من الرافضة وغيرهم- فإن كان الإمام مستوراً لم يظهر منه بدعة ولا فجور صُلّي خلفه الجمعة والجماعة باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين'.
وهذه قاعدة عظيمة من قواعد أهل السنة في التعامل مع الأئمة، وهي أنهم لا يدعون الجمعة والجماعة، وذلك لأن هذه الشعائر العظيمة، هي دليل اجتماع المسلمين، وقوة شوكتهم، ومهابتهم تعظم وتقع في عيون أعدائهم بقدر ما تحيا هذه الشعائر، فمن أعظم العلامات الدالة على إسلام أي مدينة أو بلدة أو عدم ذلك هو اجتماع الناس في المساجد للصلاة، وللجمعة، وللجماعة.(80/10)
حكم الصلاة خلف المستور والمبتدع
وما سبق تقديم بين يدي موضوع معاملة الأئمة في الصلاة، وما يتعلق بالصلاة خلف مجهول الحال أو المستور، أو خلف المبتدع وما يتعلق بذلك من أحكام، فقدم له -أيضاً- بتقدمة تدل على فقهه وحكمته رحمه الله، وهي أن الفرقة أو الطائفة التي عندها هذا أصل وهو عدم حضور الجمعة والجماعات هي الرافضة، وليس أحد من أهل السنة يرضى أن يشابههم، أو أن ينتسب إليهم، أو أن يكون مثلهم في أي شيء.
وهؤلاء الرافضة -بمناسبة ذكرهم- شبهتهم في ترك الجمعة والجماعات، أن هذه العبادات لا تصح إلا خلف الإمام الحق الوصي، ولما كان الأئمة موجودين كانوا مستضعفين، ولم يكونوا حاكمين ولا ظاهرين، فمن بعد الحسن رضي الله تعالى عنه ما بقي لهم إمام ظاهر موجود، يحكم الأمة، فلما اختفى الإمام في السرداب ولم يوجد للأمة إمام إذاً تترك الأمة الجمعة والجماعة والأعياد حتى يظهر الإمام، فربطوا هذه العبادات -كشأنهم في أكثر عباداتهم- بوجود الإمام المعصوم، الذي هو الوصي الذي تم اختياره وترشيحه، أو خلافته، وإمامته من الله -كما يزعمون- ولهذا فصلاة الجمعة عند الرافضة إنما استحبها بعض أئمتهم، وقال بعضهم: إنما تصلي من أجل المصلحة حتى يجتمع الناس فقط، ولكن لا يدينون الله تعالى بها على أنها فرض عين، كما يفعل أهل السنة والجماعة.(80/11)
الصلاة خلف المستور
والمقصود بقوله: ' فإن كان الإمام مستوراً لم يظهر منه بدعة، ولا فجور، صُلِّي خلفه باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين'.
ثم أوضح ذلك فقال: 'ولم يقل أحدٌ من الأئمة إنه لا تجوز الصلاة إلا خلف من علم باطن أمره' أما الخوارج فإنهم كانوا يمتحنون الناس حتى إنهم يتلقونهم في الطرقات، فإذا لقوا أحداً امتحنوه: ما تقول في كذا؟ ما تقول في كذا؟ فإن أعلن الولاء والبراء على حسب عقيدتهم وإلا قتل أو عوقب بأي عقاب.
ولما سيطرت المعتزلة أيضاً في دولة المأمون كانوا يمتحنون الناس؛ فامتحنوا العلماء والقضاة بل والعامة، حتى كانوا لا يعقدون لرجل على امرأة، إلا إذا أقر بأن القرآن مخلوق!! وهذا امتحان.
فهذا ليس من أصول أهل السنة والجماعة على الإطلاق، وكما قال رحمه الله: أنه لم يقل أحد من الأئمة إنه لا تجوز الصلاة إلا خلف من علم باطن أمره بحيث إنك تعلم أنه من أهل السنة في الباطن، بل هذا خلاف القاعدة، والأصل هو أن من كان من أهل السنة في الظاهر فهو منهم في الباطن، ولم نؤمر بأن نشق عن قلوب الناس.(80/12)
الصلاة خلف المبتدع
يقول: 'بل ما زال المسلمون من بعد نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلون خلف المسلم المستور، ولكن إذا ظهر من المصلي -الإمام- بدعة أو فجور، وأمكن الصلاة خلف من يعلم أنه مبتدع أو فاسق مع إمكان الصلاة خلف غيره' هنا العبارة مرتبكة، والمقصود منها أنه إذا كان هناك إمام يظهر منه بدعة وفجور، وأمكن للمأموم أن يؤدي الصلاة خلف غيره: ' فأكثر أهل العلم يصححون صلاة المأموم' أي: إذا كان الإمام مبتدعاً أو فاسقاً أو ظهر منه فجور، وأنت في بلد السنة فيه ظاهرة فتستطيع أن تدع هذا المبتدع وتصلي خلف السني، أو تدع هذا الفاجر وتصلي خلف التقي -وكل ذلك بالظاهر، والسرائر توكل وترجع إلى الله- فحكم الإنسان الذي يتهاون في هذا الأمر ويصلي خلف هذا المبتدع أو خلف هذا الفاجر أن صلاته صحيحة عند أكثر أهل العلم.
وكلامنا هنا هو في صحة الصلاة أو بطلانها، وليس في مسألة الوقوع في الإثم، فإن الذي يترك الصلاة خلف التقي أو السني مع إمكانها فإنه آثم، ولم يذكره لأنه معلوم، ولذا نقول له: لا تصل خلف المبتدع، أما ما وقع فهو صحيح مع إثمه، لتفريطه في ترك الصلاة خلف من يمكن أن يصلي خلفه ممن هو بريء من هذا.
ثم يقول: 'هذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد، وأما -وهذه الحالة الأخرى- إذا لم يمكن الصلاة إلا خلف المبتدع أو الفاجر كالجمعة التي إمامها مبتدع أو فاجر وليس هناك جمعة أخرى' هذا لو كان في بلد وليس فيه إلا جمعة واحدة والإمام فاجر أو مبتدع، قال: 'فهذه تصلى خلف المبتدع والفاجر عند عامة أهل السنة والجماعة ' فلا يتركها، بل يصلي خلفه، ولا تعني الصلاة خلفه الثناء عليه، بل لا تعني إقراره، بل لا تعني عدم المطالبة بتغييره، لكن المقصود الآن هو: هل يترك الجمعة والجماعة أم يصلي خلفه؟ ومع ذلك فيجب على أهل السنة أن يغيروا هذه البدعة، وأن يغيروا هذا المنكر، وأن يتعاونوا على إزالته ما أمكن، وسوف نفصل -إن شاء الله- أنواع البلاد عندما نتحدث بعد قليل.
ثم يقول: 'وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد ومالك وغيرهم من أئمة أهل السنة بلا خلاف عندهم، وكان بعض الناس إذا كثرت الأهواء يحب ألا يصلي إلا خلف من يعرفه على سبيل الاستحباب، كما نقل ذلك عن أحمد أنه ذكر ذلك لمن سأله، ولم يقل أحمد إنه لا تصح الصلاة إلا خلف من أعرف حاله'.
فمثلاً: هناك إنسان تعرفه أنه من أهل السنة، وآخر تعرف حاله أنه من أهل البدعة، وهناك إنسان مستور لا تعرف حاله، لا من أهل السنة ولا من أهل البدعة.
فهذا المستور قلنا: بالاتفاق تصح الصلاة خلفه، وأيضاً من يعلم أنه من أهل السنة فبالاتفاق تصح الصلاة خلفه، بل على استحباب أو وجوب ذلك، بحسب الظروف والأحوال، أما هذا الذي يعرف أنه مبتدع، فهذا الذي فيه التفصيل: فالإمام أحمد رحمه الله استحب لمن سأله ألا يصلي إلا خلف من يعرف حاله، ولكن هذا في حالة كثرة الأهواء والضلالات، فهو يحثه على أن يتحرى في ذلك، وهذه المسألة منقولة عن الإمام أحمد رحمه الله على سبيل الاستحباب، ومعنى ذلك أن الصلاة لا تبطل.(80/13)
مذهب المرازقة
وهنا نأتي إلى قضية تاريخية، وهو أن بعض الناس كانوا يرون أن الصلاة لا تصح، وهي الطائفة المسماة بـ المرازقة، وهي في الحقيقة فرقة صوفية، لكن كانت قريبة إلى السنة، وهم أتباع أبي عمرو بن مرزوق، وهذه الطائفة لها ذكر في التأريخ، حيث كان أبو عمرو عثمان بن مرزوق من الدعاة، ومربٍ من المربين، جمع حوله أتباعاً كثيرين، وكان يعيش في ظل الدولة الباطنية التي تسمى الفاطمية -على كفرها وضلالها- فكان لا بد للدعاة والعلماء أن يجمعوا الناس حولهم، ليبقى لـ أهل السنة وجود وشوكة وقوة، فوجد مثل هؤلاء الدعاة الذي جمعوا حولهم بعض الأتباع، ومنهم أبو عمرو عثمان بن مرزوق وكان مشهوراً بالصلاح والعبادة عند الناس، فاجتمع حوله كثير من الناس، على ما في منهجه من خلل وتصوف.
والمهم أنهم اجتمعوا فكأن أبا عمرو بن مرزوق استند إلى ما نقل عن الإمام أحمد في هذا الشأن، وهو التحري خلف من يصلى خلفه، فرأى أنهم يعيشون في ظل دولة باطنية زنادقة ملاحدة، فماذا حصل؟ يقول: 'ولما قدم أبو عمرو عثمان بن مرزوق إلى ديار مصر، وكان ملوكها في ذلك الزمان مظهرين للتشيع؛ وكانوا باطنية ملاحدة، وكان بسبب ذلك قد كثرت البدع، وظهرت في الديار المصرية، أمر أصحابه ألا يصلوا إلا خلف من يعرفونه'.
فقال لهم: انتبهوا، هؤلاء باطنية، وأئمتهم باطنية.
وكانوا -عياذاً بالله- يقولون: من لعن وسب؛ فله كيلة وإردب، أي أنهم كانوا يتعبدون بشتم ولعن الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، وكانوا من فوق المنابر يلعنون، فقالوا: كيف نصلي خلف إمام يلعن أبا بكر وعمر؟! مع أنه قد لا يلعنهم أو قد يلعنهم تقية لأن الدولة فرضت ذلك عليهم، وهذه من الفتن -نعوذ بالله- كما يقولون: فتنة عمياء، فقال لهم: لا تصلوا إلا خلف من تعرفون عقيدته، وأنه بريء من هذه البدعة، ومن هذه الضلالات.
يقول: شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: 'ثم بعد موته فتحها ملوك السنة مثل صلاح الدين، وظهرت فيها كلمة السنة المخالفة للرافضة، ثم صار العلم والسنة يكثر بها ويظهر'.
لكن مع ذلك بقيت طائفة المرازقة على القاعدة أيام الشيخ.
وهذه مشكلة كثير من الدعوات الإسلامية مع الأسف الشديد، فما يؤصله الشيخ يبقون عليه، مع أنه قد تغيرت الأحوال وتطورت من خير إلى شر، أو من شر إلى خير، فـ المرازقة بقوا على كلام الشيخ أنهم لا يصلون حتى يعرفوا عقيدة من يصلون خلفه، بل قد يمتحنونه: ما رأيك في الصفات؟ وما رأيك في القدر؟ وما رأيك في الشيخ أبي عمرو بن مرزوق؟ وما رأيك في كذا؟ حتى يتأكدوا أن عقيدته موافقة لعقيدتهم، وسلوكه موافق لسلوكهم؛ فيصلون خلفه، فصارت بدعة منسوبة إلى السنة وإلى الإمام أحمد.
فـ شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله يقول: الحال اختلف، فقد كان الشيخ أبو عمرو عثمان بن مرزوق أيام غلبة الباطنية الملاحدة، فلما ذهبت دولتهم وجاءت دولة السنة أيام صلاح الدين وألغى لعن الشيخين وسبهما، وظهرت شعائر السنة، انتفى ذلك الأمر، فلم يعد لهم مبرر.(80/14)
أقسام المدن والأمصار بدعةً وسنةً
وهنا نقول: من هذا الكلام ومما بعده نستنتج أن المدائن أو الأمصار على ثلاثة أصناف:(80/15)
المدن والأمصار التي يغلب عليها الشرك الأكبر
الصنف الأول: المدن والأمصار التي يغلب عليها الشرك الأكبر والبدع المكفرة، كبدعة هؤلاء الباطنيين وأمثالهم، فإذا غلبت على بلد من البلدان وظهرت وانتشرت، وكان أئمته منهم، فإن حكم الصلاة حينئذٍ أنها لا تصح، فلا يجب على أهل السنة أن يصلوا خلفهم؛ لأن الأصل هو الوجوب، بل أقول: لا تصح الصلاة خلف المعين المعلوم أنه من هذه الفرقة الكافرة المرتدة وإن كانوا ينتحلون الإسلام ويدعونه، وعلى أهل السنة في هذه الحالة أن يصلوا وحدهم إن استطاعوا، فإن لم يستطيعوا كأن تكون الغلبة لأهل الشر، فيصلون من غير جمعة ولا جماعة، فلو كان واحداً فإنه يصلي وحده، أو متفرقين صلوا فرادى فإنه لا يجب عليهم في هذه الحالة أن يصلوا خلفهم؛ لأن صلاتهم باطلة.
والقاعدة تقول: من كانت صلاته باطلة في ذاتها فصلاة المأموم خلفه باطلة، فلا يجوز له أن يصلي خلفه، وبطلانها؛ لأن البدعة مكفرة حيث أن هذا باطني أو مشرك مظهر للشرك الأكبر علانية، فهؤلاء لا يجوز الصلاة خلفهم، ولا تصح.(80/16)
المدن والأمصار التي يغلب عليها أهل السنة
الصنف الثاني: وهي مدن أهل السنة، أي: المدن أو الأمصار التي يغلب عليها أهل السنة وتظهر السنة فيها، وهذه هي التي فصّل القول فيها ها هنا، وسيتعرض لها -وقد ذكرنا بعضاً منها- وهو أنك تصلي خلف الأئمة جميعاً، ولا تقول: هذا لا أعرفه حتى تتيقن أنه من غير أهل السنة، بل لا بد أن يكون لك يقين أن هذا الإمام فيه بدعة مكفرة تنقله عن الدين، أما غير ذلك فالأصل هو صحة الصلاة خلفه، وإن كان فاجراً، وإن كان صاحب بدعة -كما ذكرنا من قبل- ولم يمكن الصلاة خلف غيره، ولو كان صاحب بدعة وأمكن الصلاة خلف غيره فهذا يترك.(80/17)
المدن والأمصار التي اجتمع فيها أهل السنة وأهل البدعة
أما الحالة الثالثة: إذا كان البلد أو المصر مختلطاً من أهل سنة ومن غيره من البدع، ففي هذه الحالة يكون الأصل هو التحري، كما لو كان بلداً نصف سكانه من الروافض أو الخوارج، والنصف الآخر من أهل السنة، فيجب على أهل السنة أن يتحروا ولا يصلوا إلا خلف من كان إماماً مثلهم من أهل السنة.(80/18)
حكم الصلاة في تلك الأمصار خلف المرء أو عليه
ثم يقول رحمه الله: 'فالصلاة خلف المستور جائزة باتفاق علماء المسلمين، ومن قال: إن الصلاة محرمة أو باطلة خلف من لا يعرف حاله، فقد خالف إجماع أهل السنة والجماعة ' وهنا ننبه إلى مسألة هامة: وهي أن حكم الصلاة خلفه مثلها -أيضاً- حكم الصلاة عليه، فأي جنازة تقدم في مصر من أمصار المسلمين فالأصل أنه يصلى عليه، إذا كان في مصر غلبت السنة عليه، أو لم يعلم يقيناً أن هذا الرجل من الفرق -أو من الناس- المرتدين، فإن علمت حاله يقيناً أنه مرتد؛ فلا يجوز أن تصلي عليه.
وهذه ينشأ عنها قضية أخرى، وهي: إذا علمت أنه مرتد ولا يجوز لي أن أصلي عليه، فهل يجب عليَّ أن أقول للناس: لا تصلوا عليه؟ الأولى أن نقول: هذه مسألة أخرى، وهذه تتعلق بالمصالح والمفاسد وما يترتب على ذلك؛ لأن الأصل أن الحكم مناط بالمصلحة أو المفسدة، كما فصل -رحمه الله- في هذه الرسالة، وهناك أدلة كثيرة، لكن نكتفي بذكر واحد منها -فقط- وهو القصة المشهورة الصحيحة: قصة عمر مع حذيفة رضي الله تعالى عنهما.
حيث كان عمر رضي الله عنه ينظر إلى حذيفة فإن صلّى على الجنازة صلّى، وإن لم يفعل لم يفعل؛ لأن حذيفة رضي الله تعالى عنه يعلم المنافقين بأعيانهم، وقد أطلعه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أعيانهم، لكن مع ذلك لم يقل حذيفة: يا أصحاب رسول الله! هؤلاء المنافقون لا تصلوا عليه، وكذا عمر وهو أمير المؤمنين لم يأمر الناس بذلك، وإنما هو بنفسه لم يفعل.
والحقيقة أن الرسالة عظيمة وقيمة، لكن أقول: هناك قضايا لا بأس أن نبسطها، وهي قضايا مهمة جداً، تدل على حكمة الدعوة وحكمة المعاملة، وشَيْخ الإِسْلامِ في رسالة الحسبة ورسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي رسائل كثيرة بسط هذه المسألة، بل هي ظاهرة في السنة كظهور الشمس لمن أراد الحق وتبينه.
فـ عمر أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه، ومع قوته في الحق التي لا تخفى، وهو الذي لم يرفع المبتدعة رأساً في زمنه، ولم يستطع الخوارج ولا الشيعة ولا غيرهم أن يرفع رأسه في زمنه، لقوته في الحق رضي الله تعالى عنه كان يستطيع أن يقول للناس: لا تصلوا، فكيف يقتصر على نفسه هو ولم ينه غيره؟ وذلك لأن هذا الأمر فيه سعة، فصلاتك عليه أنت تؤجر عليها لأنك صليت وامتثلت أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا تعني صلاتك عليه: شهادتك له بالإيمان.
وحتى لو شهدت له وقلت: هذا رجل مؤمن -مثلاً- مع أنه رجل باطني مرتد، أو رافضي وأنت شهدت أنه مؤمن على ما ظهر لك فإن الله لا يؤاخذك على ذلك! وسيأتي المصنف بالشواهد الكثيرة.
والشاهد أن الصلاة صحيحة خلف مستور الحال، وكذا الصلاة عليه.
بل ذهب الأئمة في كتب الفقه إلى أبعد من ذلك، كما في المغني والمجموع للنووي أنه لو قتل في المعركة واختلط أموات الكفار بشهداء المسلمين، قال بعض العلماء: يغسل الجميع ويكفن الجميع، ويصلى على الجميع، وقيل: يصلى عليهم واحداً واحداً، قالوا: وذلك تغليباً لجانب الإسلام.
والكلام معروف في أن الشهداء لا يصلى عليهم، لكن قد يكون قتال فتنة، وقد يكون دماراً أو زلزالاً.
المهم إذا قتل مجموعة، واختلطت جثث الكفار بجثث المسلمين في غرق أو حريق أو أي شيء آخر.
والمقصود أن الأئمة نظرتهم كلهم نظرة تغليب الإيمان، ولم يقل أحد أن الجميع يدفنون بلا صلاة ولا كفن لوجود كفار بين هؤلاء المسلمين.
مع أنه قد يكون في المسلمين -والله أعلم- من نعلم حقيقته في الباطن أنه مرتد، لكن يجب علينا أن نعامله بالظاهر، ولم يكلفنا الله تعالى بغير ذلك، ولا يحاسبنا على غير ذلك، وإن أخطأ أحد فنسب مؤمناً إلى النفاق أو الردة، أو أخطأ فنسب مرتداً إلى الإسلام مجتهداً مخطئاً؛ فهذا لا مؤاخذة عليه، والأدلة الصحيحة على ذلك كثيرة، وسيأتي بعض منها -إن شاء الله- هنا.(80/19)
صلاة الصحابة خلف الفجرة والظلمة
ثم يقول: 'وقد كان الصحابة رضي الله تعالى عليهم يصلون خلف من يعرفون فجوره' أي ليس فقط من لا يعرفون حاله، بل صلوا خلف من يعرفون فجوره كما صلى عبد الله بن مسعود وغيره من الصحابة خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان قد شرب الخمر، وصلى الصبح أربعاً وجلده عثمان بن عفان على ذلك، وقصة الوليد بن عقبة مشهورة في التاريخ، وجَلْدُ عثمان بن عفان رضي الله عنه له مشهور في التواريخ، وبعض الناس يطعن في صحتها على أساس أنه كيف يصلي الصحابة أربع ركعات خلف إنسان سكران، وكيف يصلون الفجر أربع ركعات؟! فأقول: لا يلزم من يصححها أن الصحابة صلوا الفجر أربع ركعات، لأن الإمام إذا قام خطأ، فإنه لا يتابع في ذلك، بل ينتظرونه حتى يكمل الركعة، ولهذا قال لهم: أزيدكم! حتى قال عبد الله بن مسعود: ما زلنا في زيادة منذ اليوم.
فلا يلزم بطلان القصة من جهة متنها، وإنما من جهة السند، وهذا شيء آخر راجع إلى اختلاف العلماء في هذه الأمور من الناحية الحكمية، لكن شَيْخ الإِسْلامِ كرر الاستدلال بها أكثر من مرة بناءً على أن كثيراً من الفقهاء استدلوا بها كدليل معتمد أو كدليل استئناس، والمهم أن فقهاء المذاهب الأربعة لا يعتمدون على هذا الدليل وحده، لكن مذهبهم من مجموع الأدلة هو: صحة الصلاة خلف الفاسق.
قال: 'وكان عبد الله بن عمر وغيره من الصحابة يصلون خلف الحجاج بن يوسف -وهذه الواقعة متفق على صحتها لا ينازع في ذلك أحد- وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف ابن أبي عبيد - المختار ابن أبي عبيد كذاب ثقيف- وكان متهماً بالإلحاد وداعياً إلى الضلال'.
ولعل قائلاً يقول: كيف يصلون وهم أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كـ عبد الله بن عمر وأنس بن مالك وعبد الله بن مسعود وأمثالهم خلف هؤلاء؟ فنقول: هؤلاء مع ظهور بدعتهم أو ضلالتهم أو فجورهم ليسوا مجرد أئمة صلاة، وإنما كانوا أئمة حكم أو نواب عن أئمة الحكم، فهنا لو لم يصلوا خلفهم لحدثت فتنة عظيمة.
والمختار بن أبي عبيد الكذاب الذي من ضلالته قيل: إنه ادعى النبوة وما أشبه ذلك، ونقل تكفيره عن كثير ممن عاصره، هذا المختار ما كان ينتحل ويدعي الكفر ويظهره، إنما كان يقول: إنه داعية إلى أهل البيت، وأن الإمام الحقيقي هو محمد بن الحنفية - محمد بن علي بن أبي طالب، لكن يقال له: ابن الحنفية لأن أمه ليست فاطمة رضي الله تعالى عنها، وإنما أمه امرأة من بني حنيفة- فـ محمد بن الحنفية كان المختار يدعي أنه هو الإمام.
وكثير من الأمة يقولون: إن محمد بن الحنفية أفضل من بني أمية، ومن المؤلم جداً أنه في سنة (60 أو61) هـ حج الناس تحت ألوية ثلاثة أمراء في وقت واحد، فوقفوا بعرفات ثلاثة ألوية، لواء لـ ابن الزبير، ولواء لبني أمية، ولواء لـ محمد بن الحنفية، وكانت الفُرقة عظيمة، فلم يشأ الصحابة أن تزداد فرأوا أن يصلوا خلف هؤلاء حتى يفرج الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن الأمة، ويأتي بإمام يجمع شملها، وقد اجتمع شملها بعد ذلك، والمقصود هو المصلحة، فحيث كانت المصلحة راجحة وترك الفتنة هو الأرجح وهو الأولى دائماً أخذ بها.(80/20)
العذر بالخطأ
يقول: 'ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].
وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم' قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قال الله تعالى: قد فعلت} فغفر الله تبارك وتعالى لهذه الأمة الخطأ والنسيان، فهي غير مؤاخذة به.(80/21)
التكفير في المسائل الخلافية
ولذلك لا يجوز تكفير المسلم بما فعله من الذنوب التي هي دون الشرك أو الكفر، ولا يجوز تكفيره بخطأٍ أخطأ فيه وإن كان في المسائل العلمية؛ حتى مما له علاقة في أمور الاعتقاد، وهذا فيما تنازع فيه أهل القبلة فمن نازع في المرتبة الأولى من مراتب القدر -وهي مرتبة العلم- فهو كافر بالاتفاق.
إذاً هذه مسألة لا تحتاج إلى اجتهاد؛ لكن من نازع في مسألة خلق أفعال العباد فقال: إن العباد هم الذين يخلقون أفعالهم فقد يكون مبتدعاً ضالاً، وقد يكون مخطئاً؛ إذا ظن أن النصوص تدل على ذلك، فلا يخرج عن أهل السنة والجماعة إذا لم يتبع غيرها لا فلسفةً أو منطقاً، أو كلام يونان، أو كلام واصل بن عطاء، أو عمرو بن عبيد، لكن اجتهد وظن أن المسألة موضع اجتهاد، وفهم بعض الأحاديث على غير ظاهرها ووجهها، فقال قولاً في هذه المسألة وما أشبهها، وإذا بهذا القول موافق لما تقوله المعتزلة، أو لما يقوله نفاة الصفات أو غيرهم.
فنقول: هذا السني الذي هو من أهل السنة في منهجه وفي دعوته، ولكن أخطأ فوافق أهل البدعة لا يخرج من أهل السنة، ولا يؤاخذ، وهو الذي جاءت الآية والأحاديث فيه أنه لا يؤاخذ، لكن لا يتابع ولا يقر على ذلك.
وهذه مسألة أخرى، فهو لا يقر على خطئه، ولا يقال: لا أحد يرد عليه، أو يبين خطأه، ومن ذلك أن أهل السنة والجماعة مجمعون على أن الإيمان قول وعمل، ومرجئة الفقهاء قالوا: إن الإيمان هو التصديق والإقرار باللسان، وأن الأعمال لوازم وثمرات ولا تدخل في حقيقته، فلا يخرجهم ذلك من الملة، ولا يجوز أن يكفروا به وهكذا.
وقد يخطئ مخطئ من أهل السنة فيجتهد فيقرّب بين وجهتي النظر، أو يرجح مذهب الفقهاء ويكون مخطئاً، ولا يقال عنه إلا أنه مخطئ، ويرد عليه، ويرد إلى الحق حسب الحكمة، ومراعاة الضوابط.(80/22)
معاملة الصحابة للخوارج
ثم يقول: ' والخوارج المارقون الذين أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتالهم، قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم، لا لأنهم كفار، ولهذا لم يسب حريمهم، ولم يغنم أموالهم'.
وهؤلاء الذين ورد النص صريحاً في قتالهم، فـ علي رضي الله عنه يأمره أصحابه ويقول: ابحثوا عن ذي الثدية، فيقولوا: ما وجدناه، قال: والله ما كذبت ولا كُذبت، ويأمرهم بالبحث عنه، وهو رجل -كما في الحديث- له مثل الثدي في يده، فبحثوا حتى وجدوه تحت الجثث فجاءوا به.
فالمقصود أنه مع وضوح قتالهم كالشمس في رابعة النهار، ومع ورود أنهم يمرقون من الدين، وأن صلاتهم وصيامهم لا تنفعهم، وأنهم كلاب أهل النار، وهذه أوصاف نصية قطعية، مع ذلك عوملوا معاملة المسلمين في أحكام القتال، فلم يقاتلوا حتى اجتمعوا وأمرُّوا أميراً فخرجوا عن الجماعة، ثم سفكوا الدم الحرام، ثم لما قوتلوا لم تُسبَ نساؤهم وذراريهم، ولم تُغنم أموالهم، ولم تبطل عقودهم في النكاح وما أشبه ذلك من المعاملات.
يقول: 'وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يُكفَّروا مع أمر الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم' أي: إذا كان اشتبه الحق على بعض العلماء، واستبان البعض لغيرهم، فلا يجوز لهم أن يكفر بعضهم بعضاً، ولا أن يضلل بعضهم بعضاً، والمسألة التي أسوأ من هذا أنه قد يكون البعض ممن ليس من العلماء، ولكنه يضلل العلماء -وهذه أشد- لكن الكلام هنا عن العلماء أنفسهم إذا اختلفوا في مسائل؛ فإنه لا يجوز أن يبغي بعضهم على بعض، ولا أن يضلل بعضهم بعضاً.
والقاعدة في هذه الأمور جميعاً هي: العدل والقسط، وقد أُمرنا أن نكون شهداء لله قوامين بالقسط، وقوامين لله شهداء بالقسط -كما في الآية الأخرى- وهذا هو الميزان الذي يجب أن يكون عند أهل السنة وعند شبابهم جميعاً.(80/23)
ميزان التعامل مع المخالف
ثم يقول: 'فكيف إذا كان المكفرة لها مبتدعة أيضاً؟ ' أي: أن هذا الميزان لما فقد، وقال الله تعالى: {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:8 - 9].
فقد حصل الضلال عند المسلمين من جهتين -كما ذكر رحمه الله- طائفة من جهة الإفراط، وطائفة من جهة التفريط.
أما التي من جهة التفريط وهي أكثر المسلمين -مع الأسف- فإنهم يزكون ويشهدون للإنسان بالخير أياً كان، حتى وإن لم يصل، بل يقال: {ما أظرفه، ما أجلده، ما أعقله، وليس في قلبه مثقال حبة من إيمان!} وتهاونوا في هذا الأمر، حتى إنهم قد يعدّون بعض المرتدين والمجرمين من المؤمنين المتقين، وهذا الحال الذي غلب على أكثر الناس -نسأل الله العفو والعافية- وهذا لا يجوز؛ لأن الميزان يجب أن يكون بما شرع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
والطائفة الأخرى: التي أخذت بجهة الإفراط والغلو، وهؤلاء يأتي منهم البغي، ويأتي منهم العدوان والظلم.
وأهل السنة والجماعة بريئون من هذا وهذا، ومنهجهم ومذهبهم وتعاملهم دائماً هو بالقسط، فلهذا لو آذاهم من آذاهم، وبما يؤاذيهم به، ولو وصل الأمر إلى أن يقتلهم فإنهم لا يظلمونه، ولا ينكرون حقاً أو فضلاً له، ولا يغمطونه خيراً عنده، ومثال ذلك الحجاج حيث كان نائباً لبني أمية، وقد قتل من أهل السنة سعيد بن جبير، وقتل من القرّاء من قتل، فهل أنكر وجحد أهل السنة له أنه أرسل الجيوش وفتح البلاد، وأدخل في دين الله عز وجل أمماً كثيرة؟ وهل أنكروا له أنه لما مات لم يخلف إلا مصحفاً وبضعة دراهم، وأنه لم يكن يأخذ من بيت المال شيئاً؟ فلم ينكروا أي فضيلة من فضائله ولم تغمط، بل تذكر هذه، وتذكر هذه.
وهذه كتب السنة، وكتب الرجال، وكتب التاريخ التي كتبها أهل السنة -والحمد لله- ميزان صحيح لا يحيف ولا يجور أبداً، وبالعكس لو أن منافقاً داهن أهل السنة وولاهم ومكنهم، فسيعلنون أنه منافق، أو أنه مظهر للفجور أو البدعة، فهم يقولون ما فيه.
فالشاهد أن تعامل أهل السنة يكون بحسب النص، وكما أمر الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولولا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمر أهل السنة بالصلاة خلف البر والفاجر، أو على البر والفاجر، والغزو والجهاد مع البر والفاجر لفعلوا كما فعلت المعتزلة والخوارج فتركوا من أجرم وهكذا.
سواء في ذلك أئمة الحكم، أو أئمة الصلاة وغير ذلك، ولو أنه يجوز لهم أن يداهنوا مع ظهور الكفر والردة والانحراف لكان الله تعالى أجاز لهم ذلك، فهو أرحم بهم من أنفسهم ولداهنوا كما يداهن غيرهم، لكنهم إنما يزنون الأمور بميزان الشرع.
ولهذا لما أوذوا في أيام المأمون لم يداهنوا، بل أوذوا وسجنوا وعذبوا لأن المخالفة للسنة واضحة، ولم يرضوا أن تنتهك هذه العقيدة بذلك الشكل، ومع ذلك مواقفهم في الصبر على الأذى مشهودة ومعلومة -والحمد لله- ولم تخرجهم عن منهجهم في التمسك بالنص، والحكم بالميزان والقسط.(80/24)
حكم المتأول المكفِّر والمبدِّع لغيره
يقول: 'وإذا كان المسلم متأولاً في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك' فإذا جاء شخص مسلم فتأول وكفّر مسلماً، أو قاتل مسلماً متأولاً، فإنه لا يكفر بذلك، فهذا عدل أهل السنة وهم ينظرون في هذا الجانب، فحتى لو أخطأ فاعتدى أو اتهم أو كفّر فلا يقابل بالظلم ولا أو البغي، وإنما يعامل أيضاً بالعدل وبالحق.
الدليل؟ ويستدل على ذلك بدليلين صحيحين ثابتين، والدليل الأول: قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في حاطب بن أبي بلتعة حينما قال: {يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق} وهذه قصة معلومة مشهورة في الصحيحين وفي غيرهما.
فحكم عمر رضي الله تعالى عنه على حاطب بأنه منافق، ورأى استحلال دمه.
والقضية واضحة ليس فيها اجتهاد ولا تأويل؛ فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يطلع على السر -وهو غزو قريش- إلا قلة من الصحابة ومنهم حاطب، فكيف يجرؤ أن يكتب كتابه إلى الكفار، ويخبرهم أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قادمٌ إليهم يغزوهم؟ فليست هي خيانة لواحد أو اثنين، ولهذا يقول عمر رضي الله تعالى عنه: {يا رسول الله! دعني أضرب عنقه} وقال في آخر الحديث: {فقد خان الله ورسوله والمؤمنين} أي: فكيف نتركه يعيش وقد خان الله وسوله والمؤمنين، وصار جاسوساً للكفار الذين يعبدون الأصنام، ويحاربون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فقد يظهر أن القضية واضحة -وهذه هي المشكلة عند كثير من الناس- ولذلك فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رد عمر بالدليل الواضح، وهو أن حاطباً شهد بدراً، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لعل الله تعالى اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم}.
الدليل الثاني: حديث الإفك الطويل حيث جمع النبي الناس وخطب فيهم: {من يعذرني في رجل آذاني في أهل بيتي، ولا أعلم عن أهل بيتي إلا خيراً -يريد أن يرى رأي الأنصار والمهاجرين في هؤلاء الذين افتروا على أم المؤمنين هذا الإفك العظيم والفرية العظيمة- فقام إليه سيد الأوس سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه، وقال: يا رسول الله! إن كان منا معشر الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج فأمرني بأمرك أفعل ما تشاء}.
فقام سيد الخزرج سعد بن عبادة وكان مؤمناً، ولكن أخذته الحمية، فهو سيد قبيلته، فقال لـ سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه {كذبت، والله لا تفعل ذلك ولا أدعك تفعل} واحتدم النقاش واختصموا، فقال له أسيد بن حضير رضي الله تعالى عنه وكان ابن عم سعد بن معاذ: {والله ليفعلن، ولكنك منافقٌ تجادل عن المنافقين، فاختلف القوم حتى هموا أن يقتتلوا} أي: كاد أن يقع القتال بين الأوس والخزرج بسبب هذا الموقف.
والشاهد: أن عمر قال لـ حاطب: إنه منافق قد خان الله ورسوله والمؤمنين, وأن أُسيداً قال لـ سعد بن عبادة: إنك منافق تجادل عن المنافقين، فلم يرتب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قوليهما حكماً؛ لأن كلاً منهما أصل كلامه وموقفه هو الغيرة على دين الله، والانتصار للحق، ولم يقصد مجرد الهوى، أو الطعن أو التكفير -مع أن النفاق هنا هو النفاق الأكبر- ولذلك ما قال النبي صلى الله عليه وسلم لهما: {فقد باء بها أحدهما} ولم يقل أحد: هذا قد كفرني يا رسول الله! وإنما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن كان يسمع قدروا الموقف، وعلموا الدافع.
فالمقصود من هذا أنه حتى لو أخطأ المخطئ فكفّر أو بدّع أو ضلل وكان اجتهاداً منه، وغرضه الحق والدفاع عن الحق وإقامة الدين، فإنه يُخطئ في اجتهاده، ولا يقال: هذا صار من الخوارج ممن يكفر بالذنب، بل يُرد إلى الحق، وهذا هو الموقف العدل.
قال شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: 'فهؤلاء البدريون فيهم من قال للآخر منهم إنك منافق' فـ عمر وحاطب بدويان: 'ولم يكفر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا هذا ولا هذا، بل شهد للجميع بالجنة'.
يقول: 'وكذلك ثبت في الصحيحين أن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه: {قتل رجلاً بعدما قال: لا إله إلا الله، وعظم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك لما أخبره، وقال: يا أسامة بن زيد! أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟! وأخذ يكررها، حتى قال أسامة بن زيد: حتى تمنيت أني لم أسلم إلا يومئذٍ} ومع هذا لم يوجب عليه قوداً ولا ديةً ولا كفارة'.
ويمكن أن يأتي شخص ويقول: الآية هكذا: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة:178] إذاً نقتل أسامة بن زيد بهذا الرجل، وليس الأمر كذلك لأن أسامة بن زيد فعله متأولاً مجتهداً، فقال: {إنما قالها خوفاً من القتل} فهو يتمنع بها من السيف، وهذا اجتهاده، ولو قال: هذا رجل مسلم معصوم الدم وبريء ولكن أنا سأقتله؛ فهنا يقع القود وتكون التهمة؛ فبالنسبة للميت يقال لمن قتله: {أشققت عن قلبه؟} كيف عرفت أنه إنما قالها تعوذاً أو خوفاً، فلو جاء أولياء المقتول، وقالوا: يا رسول الله! إنه قتل أبانا بعدما شهد أن لا إله إلا الله، فلن يقول: نعم هذا قتله إذن نقتله به، أو يدفع الدية، لأنه لا يعني خطؤه أن يقاد به، أو يدفع الدية، لأنه فعله مجتهداً متأولاً.
يقول رحمه الله: 'فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضاً من أهل الجمل وصفين ونحوهم، وكلهم مسلمون مؤمنون كما قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]-إلى آخر هذه الآية- فقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم، وبغي بعضهم على بعض، إخوة مؤمنون، وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل، ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضاً موالاة الدين' وهذه هي الأخلاق العالية، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم والسلف ليسوا هم أفضل الأمة فقط في حالة الاتفاق، بل أفضل الأمة في المواقف عند الاختلاف، فيقاتل بعضهم بعضاً لاجتهاده أنه ينصر الدين.
ولكن لم يقطعوا الموالاة في الدين فيما بينهم، يقول: 'ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضاً موالاة الدين، ولا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض' لا كما قال الخبيث واصل وأمثاله: لو شهدوا على باقة بقل أو على درهم ما قبلت شهادتهم؛ يعني أهل الجمل أو صفين.
قال رحمه الله: 'ويأخذ بعضهم العلم عن بعض' فعندما وقعت الفتنة لم يقل علي رضي الله تعالى عنه: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا، فيقوم -مثلاً- أهل الجمل أو أهل صفين فيقولون: لا تأخذوا عنه الدين، بل كانوا: يأخذون العلم بعضهم عن بعض، وبعد أن هدأت الفتنة رجعت الأمور إلى مجاريها، وكانوا يأخذون العلم عن الصحابة، وعن السلف أجمعين من غير أن يقولوا: هذا كان من أصحاب كذا، وهذا كان من أصحاب كذا، فهذه النفوس العالية التي ارتفعت وأصبحت أهلاً لأن تحمل أمانة هذا الدين، فكان يشهد بعضهم لبعض، وتقبل شهادتهم لبعض أو على بعض.
قال رحمه الله: 'ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم بعضاً' حتى وإن كان هذا في صف، وهذا في صف، فالمعاملة واحدة على الاسلام، رغم وقوع أشد أنواع الاختلاف، وهو الاقتتال بالسيف.
ثم يستدرك -رحمه الله- ويأتي بأدلة تبين أن الفرقة واقعة، وأن الخلاف واقع، وإنما الواجب علينا أن نتقي الله إذا وقع الخلاف، ونحسن التعامل قال: 'وقد ثبت في الصحيح: {أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل ربه، ألا يهلك أمته بسنةٍ عامة فأعطاه ذلك، وسأله ألا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فأعطاه ذلك، وسأله ألا يجعل بأسهم بينهم فلم يعط ذلك} وأخبر أن الله لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم يغلبهم كلهم حتى يكون بعضهم يقتل بعضاً، وبعضهم يسبي بعضاً، وثبت في الصحيحين: {لما نزل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65] قال: هاتان أهون' أو قال: هذه أيسر، وهذه أهون، وهذا الحديث مشهور.
والمقصود أن الفرقة حق وواقع، وهي عذاب لم يرفع عن هذه الأمة، بل ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث صحيح آخر: {هذه الأمة عذابها الفرقة وفتنتها المال} فعذاب هذه الأمة الفرقة، وأكبر ما عذبت به في تاريخها الطويل هو الفرقة وليس الصليبيين أو التتار، أو اليهود، أو النصارى، ونسأل الله أن يجمعها على الحق إنه سميع مجيب.(80/25)
الفرقة قَدَر الأمة
الفرقة واقعة والأصل هو الاجتماع، وهو الذي يجب أن يدعى إليه دائماً، لذلك ذكر بعد ذلك، قال: 'هذا مع أن الله أمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن البدعة والاختلاف' أي: أمر الله الشرعي، وليس أمر الله القدري، فأمر الله الشرعي الديني، أن نكون أمةً واحدة، وأن نعتصم بحبل الله، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159] فهذا أمرٌ شرعيٌ ديني، لكن الأمر الكوني الذي قضاه وقدره هو وقوع الخلاف، حتى إن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أحب خلقه إليه تضرع وصلّى صلاة رغبة ورهبة، ودعا الله، ولم يعط هذه، ولكن قال: {هذه أهون أو هذه أيسر} أن تختلف الأمة أيسر.
فمع الاختلاف هي أمة مرحومة؛ من جهة أنها لم يسلط عليها عدو يستأصلها، ولم يسلط عليها عذاب يأخذها من فوقها ولا من تحت أرجلها؛ لكن أيضاً هي أمة معذبة لأنها تذنب، ولأن الله تعالى لا يحابي أحداً، بل يؤاخذ {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] فهذه الأمة تعمل السوء فتجزى وتعاقب بالعذاب الذي هو الفرقة.(80/26)
بذل الجهد في دفع الفرقة وإقامة الملة
ثم ذكر ما أمر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الاجتماع والوحدة إلى أن قال: 'فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين، أن يصلي معهم الجمعة والجماعة، ويوالي المؤمنين ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالاً أو غالياً وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك إن أمكن' وهذا كما قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] فنحن دعاة ندعو الضال، ونرشد الغاوي، وندعو المرتد، والفاجر، وأنفسنا إلى الخير.
قال: ' فعل ذلك إن أمكن وإلا فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وإذا كان قادراً على أن يولي في إمامة المسلمين الأفضل ولاَّه، وإن قدر أن يمنع من يظهر البدع والفجور منعه' فهذا واجب على الأمة.
والإمامة الكبرى الأصل أن يولى فيها من اجتمعت فيه الشروط الشرعية، وإذا قدرت الأمة على ذلك تعين القيام به.
والإمامة الصغرى في الصلاة يجب على الأمة أن تسعى لتعيين الأئمة الأتقياء البررة، الذين يخلون من الفجور والبدع، لكن إن لم يمكن ذلك، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، يقول: 'وإن لم يقدر على ذلك فالصلاة خلف الأعلم بكتاب الله وسنة نبيه الأسبق إلى طاعة الله ورسوله أفضل، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً} '(80/27)
مسألة هجر المبتدع
يقول: ' وإن كان في هجره لمظهر البدعة والفجور مصلحة راجحة هجره' فهجر المبتدع ليس على الإطلاق -فمثلاً-: إذا كان أهل السنة في مدينة من المدن، لا تزيد نسبتهم في هذه المدينة على واحد في الألف أو (1%) وواحد منهم اجتهد فأخطأ فهجرته لأنه مبتدع، أو نهجر هؤلاء الناس لأنهم مبتدعة، فمعنى ذلك أنك هجرت نفسك لأنه لا يوجد إلا أنت، وفلان وفلان وأنتم غرباء، فموضوع الهجر مرتبط -أيضاً- بالمصلحة والمفسدة.
ومن هنا لا إشكال ولا تعارض بين فعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبين ما فعله الصحابة أو التابعون في هذا الأمر، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هجر الثلاثة الذين تخلفوا في غزوة تبوك، والجيش قوامه -على بعض الروايات- أربعون ألفاً، ولم يحدث قتال، والإسلام قد ظهر، ولا يضر الجيش أبداً أنه نقص منه ثلاثة أنفار، وبعضهم كبير طاعن في السن، فلو حضر لربما لم ينفع بشيء، ولكن هجرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يهجر من تخلفوا عن بدر، ولا من تخلفوا عن الأحزاب، وهنا الحكمة تظهر، فكان الهجر وقت القوة ووقت الظهور ووقت الغلبة؛ لأن الحكمة أنك لا تكون شاذاً إذا أجمعت الأمة؛ والدين قد ظهر، فحتى المنافقون خرجوا مع الجيش، فتتخلف أنت على فضلك.
فهجره في مثل هذه الحالة يشعره بالشذوذ، حتى أقرب أقربائه لم يرد عليه السلام، فكان الألم شديد.
والتزمت الأمة الهجر، لكن أمة لا تلتزم بالهجر، وأمة أهل الحق فيها قلة قليلة، وليس الحق فيها واضحاً ظاهراً، بحيث أن من خالفه يعد شاذاً، بل الأصل هو الشاذ إلى آخر هذه الاعتبارات، فمن يريد أن يطبق فيها حكم الهجر فقد أخطأ، وهذا الذي كان في أول الإسلام.
وكذلك كان حال أئمة السنة، فأول ما ظهر أهل البدع كانوا يهجرونهم هجراً مطلقاً، أيوب وميمون بن مهران والحسن البصري رحمه الله.
فيقول أحدهم عن مبتدع: أقسمت بالله أن لا يضمني وهو إلا سقف المسجد، والآخر يقول نفس الكلمة، فكان هجراً كاملاً، وهذا في القرن الأول أو القرن الثاني حين كانت السنة قوية وظاهرة.
لكن الذي حصل في القرون المتأخرة لما أصبح الخلفاء معتزلة، والقضاة، والوزراء معتزلة، وتحولت الأمة إلى معتزلة، أو روافض، فـ أهل السنة في هذه الحالة اضطروا أن يخالطوهم، واضطروا أن يغيروا المعاملة؛ لأن الحكمة هنا غير الحكمة هناك، وإلا فـ أهل السنة هم كما كانوا، والمنهج واحد، لكن المصلحة تغيرت.
يقول: 'وإن كان في هجره لإظهاره البدعة والفجور مصلحة راجحة هجره، كما هجر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثلاثة الذين خلفوا حتى تاب الله عليهم، وأما إذا ولي غيره بغير إذنه، وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية، كان تفويت هذه الجمعة والجماعة جهلاً وضلالاً، وكان قد رد بدعةً ببدعة' فالذي يفعل هذا الفعل رد بدعة ذلك المبتدع ببدعة أخرى وهي ترك الجمعة والجماعة.
لكن إذا كان في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية، كما لو كان المأموم ممن له شأن أو يقتدى به، ولو صلّى خلفه لقيل: فلان صلّى خلفه، فيضلل أهل السنة ويقتدون به، فلا يصلي خلفه، وإن كان معيناً من قبل غيره ممن له الولاية؛ لأنه يقتدى به، والمصلحة هنا في أنه لا يصلي، أما من لا مصلحة من هجره كالعامي أو ما أشبه ذلك فهذا حاله يختلف.(80/28)
مسائل في إعادة الصلاة(80/29)
حكم إعادة الصلاة خلف الإمام الفاجر أو المبتدع
يقول: 'حتى أن مصلي الجمعة خلف الفاجر اختلف الناس في إعادته الصلاة وكرهها أكثرهم، حتى قال أحمد بن حنبل في رواية عبدوس من أعادها فهو مبتدع وهذا أظهر القولين'.
ونقل عن الإمام أحمد في مسألة إعادة الصلاة قولان: القول الأول: الإعادة، ونقلوا أنه كان وهو في السجن يصلي خلفهم، ثم يعيد الصلاة سراً.
والقول الثاني: عدم الإعادة، وقد رجح شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله في أكثر من موضع، أن الراجح عدم الإعادة.
وعلى هذا فما تجدونه في كتاب الشيخ -مثلاً- سليمان بن سحمان -وهو كتاب كشف الشبهتين وبعضه مأخوذ من كتاب توحيد الخلاق وأمثاله من رسائل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله- مِن تعرضٍ لهذه المسألة وترجيحهم إعادة الصلاة فهم أخذوا برواية، وشَيْخ الإِسْلامِ رجح رواية أخرى.
ولا إنكار في ذلك؛ لأن الكلام الذي أورد على الروافض وعلى الجهمية الذين ينكرون علو الله، وينكرون الصفات، وشَيْخ الإِسْلامِ هنا في الحقيقة تكلم عن المبتدعة الذين هم دون ذلك، وعلى هذا فلا إشكال من حيث العمل والتطبيق.
يقول: 'لأن الصحابة -أي هذا هو وجه الترجيح- لم يكونوا يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف أهل الفجور والبدع، ولم يأمر الله تعالى قط أحداً إذا صلّى كما أمر بحسب استطاعته أن يعيد الصلاة'.(80/30)
حكم إعادة الصلاة للمتيمم والمحبوس وأشباههم
ويقول: 'ولهذا كان أصح قولي العلماء أن من صلّى بحسب استطاعته لا يعيد حتى المتيمم لخشية البرد، أو المصلي لعدم الماء والتراب إذا صلّى بحسب حاله، والمحبوس وذوو الأعذار النادرة والمعتادة والمتصلة والمنقطعة، لا يجب على أحد منهم أن يعيد الصلاة إذا صلّى الأولى بحسب استطاعته' ثم استدل على ذلك بالحديث، يقول: 'وقد ثبت في الصحيح أن الصحابة صلوا بغير ماءٍ ولا تيمم لما فقدت عائشة عقدها، ولم يأمرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإعادة، بل أبلغ من ذلك أن من كان يترك الصلاة جهلاً بوجوبها لم يأمره بالقضاء، فـ عمر وعمار لما أجنبا فـ عمر لم يصل، وعمار تمرغ كما تتمرغ الدابة لم يأمرهما بالقضاء، وأبو ذر لما كان يجنب ولا يصلي لم يأمره بالقضاء، والمستحاضة لما استحاضت حيضة شديدة منكرة منعتها الصلاة والصوم لم يأمرها بالقضاء، والذين أكلوا في رمضان حتى يتبين لأحدهم الحبل الأبيض من الحبل الأسود لم يأمرهم بالقضاء، وقد كانوا غلطوا في معنى الآية، والمسيء في صلاته لم يأمره بإعادة ما تقدم من الصلوات، والذين صلوا إلى بيت المقدس بـ مكة والحبشة وغيرهما بعد أن نسخت -أي: نسخ التوجه إلى بيت المقدس - لم يأمرهم بالإعادة، فالمتأول والجاهل المعذور ليس حكمه حكم المعاند والفاجر، بل قد جعل الله لكل شيء قدراً'.
وهذه الأدلة معروفة في كتب الفروع، والأحكام ثابتة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأمر أصحابها بالقضاء، لأنهم إما متأولون، وإما جهلة بالحكم، فالمتأول والجاهل المعذور ليس حكمه حكم المعاند والفاجر، وفي الجاهل متى يعذر، ومتى لا يعذر تفصيل آخر، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينفعنا جميعاً بما نسمع وما نقول، والحمد لله رب العالمين.(80/31)
الأسئلة(80/32)
نصيحة حول التعامل مع بعض أئمة المساجد
السؤال
ما حكم الصلاة وراء إمامٍ يقول في خطبة الجمعة أحاديث ضعيفة, وإذا أخبرناه أن الحديث ضعيف، قال: أنا أعرف أحسن منكم، وصلاته سريعة جداً، وإذا نصحناه قال: هذا على قدر الفلوس التي يعطوني إياها، علماً بأن المسجد ليس تابعاً للأوقاف؟
الجواب
لا بد من مراعاة المصلحة، فإن كان في وجوده مصلحة كأن لا يوجد مثل هذا الإمام فليبق، ولا تترك الجمعة والجماعة، وينبه ويرشد إلى الأحاديث الضعيفة، والمسئولية على الأمة في جملتها، وعليها الاهتمام بالمساجد والصلاة.
وأيضاً فيما يتعلق بالحديث، إذا قلت له: الحديث ضعيف، فقال: بل هو صحيح، فإن ذلك لأنه قد لا يراك شيئاً، لكن لو أتيت وقلت له: يا شيخ! كأني سمعت أن هذا الحديث ضعيف، فما رأيك أن نتصل أنا وإياك بالشيخ فلان وننظر صحة الحديث، فإنه سوف يستجيب لك غالباً، لكن عندما تقول له: هذا ضعيف، فسوف يقول لك: ليس هذا من اختصاصك، أو أنا أعرف منك، وذلك لأن الأسلوب له دوره، فيجب أن تكون الأمور تابعة للمصلحة والحكمة.
والله المستعان!(80/33)
سبب نشوء تسمية أهل السنة والجماعة
السؤال
يقول تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] فلماذا لا يتسمى أهل السنة والجماعة بهذا الاسم؟
الجواب
{ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] فالأصل أن اسمنا هو المسلمون، وهذا هو الأصل فلما افترقنا إلى فرق وطوائف، سُمي من كان على كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل السنة وسموا الجماعة؛ لأن الباقين أهل بدعة وأهل فرقة واختلاف، تفرقوا عن الحق وتركوه، كما ذكر الإمام أحمد رحمه الله في مقدمة خطبته، فهم مختلفون في الكتاب ومخالفون للكتاب.
فيبقى ذلك الاسم في مقابل الكفار فنقول: المسلمون.
ونقول: أهل السنة والجماعة مقابل أهل البدعة والفرقة.(80/34)
ظلم العبد نفسه
تحدث الشيخ حفظه الله تعالى عن موضوع عظيم وقاعدة هامة من قواعد تعامل القلوب مع رب القلوب، وتتعلق هذه القاعدة بالكبائر والصغائر، ومفادها أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغائر من قلة الحياء وعدم المبالاة والخوف ما يلحقها بالكبائر، فرُب معصية أورثت ذلاً وانكساراً، خيرٌ من طاعة أورثت عزاً واستكباراً.(81/1)
أهمية أعمال القلوب
قال ابن أبي العز رحمه الله في شرح الطحاوية: 'وقد اختلفت عبارات العلماء في الفرق بين الكبائر والصغائر -وستأتي الإشارة إلى ذلك عند قول الشيخ رحمه الله:- (وأهل الكبائر من أمة محمد في النار لا يخلدون) ولكن ثَمَّ أمر ينبغي التفطن له، وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر، وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه وغيره، وأيضاً: فإنه قد يعفى لصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره، فإن فاعل السيئات تسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب، عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة' أ.
هـ هذا الموضوع موضوع عظيم، فإن خير الموضوعات وأنفع العلوم ما كان عِلاجاً للقلوب وأدوائها وأسقامها، وأعظم البلايا والأسقام هو الشرك، كما تحدثنا عنه سابقاً.
ثم هنا نأتي إلى قاعدة عظيمة فيما دون الشرك، وهي الذنوب التي لا بد أن يصيبها العبد وأن يَلِم بها.(81/2)
أنواع الذنوب
المصنف -رحمه الله- بعد أن ذكر الديوان الذي لا يغفره الله تعالى أبداً، ثم ذكر الديوان الذي لا يترك الله تعالى منه شيئاً، ثم أراد أن يبين الديوان الثالث: وهو ظلم العبد لنفسه مع ربه تعالى فيما دون الشرك، الذي ينقسم إلى كبائر وصغائر، وأحال موضوع الفرق بين الصغيرة والكبيرة إلى ما بعد، وهناك سيأتي التفصيل بإذن الله تعالى ونذكر الأقوال في ذلك.(81/3)
قاعدة في الكبائر والصغائر
وبعد أن أشار إلى ذلك، ذكر هذا الاستدراك العظيم، الذي هو قاعدة من قواعد تعامل القلوب مع رب القلوب تبارك وتعالى، قال: 'ولكن ثم أمر ينبغي التفطن له'.
ولا يجوز أن يُغفل عنها، وهي قاعدة عظيمة من القواعد التي استخرجها أمثال هذا العالم الفاضل، ومن نقل عنهم -رحمهم الله أجمعين- استخرجوها من كتاب الله، ومن سنة رسول الله، ومن سير العباد من السلف الصالح، الذين قاموا لله تبارك وتعالى بواجب العبودية على نحوٍ يقتدي بهم من بعدهم.
قال: وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء، وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر، وإلى أي شيء يرجع الأمر في ذلك؟ قال: وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب وهو قدر زائد على مجرد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه وغيره.
ثم شرع في موضوع التوبة، وأسباب سقوط العقوبة التي أولها التوبة.
فالقاعدة هي أن الذنوب: إما كبائر وإما صغائر، لكن الكبيرة التي فعلها صاحبها -وصورة العمل الظاهر الخارجي أن هذا مرتكب للكبيرة- استدرك عليه بقوله: فعل الكبيرة قد يقترن به من الحياء، والخوف، والاستعظام ما يلحقها بالصغائر -وبالعكس- الصغيرة قد يقترن بها من قلة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف، والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر.
وهذا مفتاح لباب عظيم من أبواب التربية الإيمانية القلبية.(81/4)
أهمية القلب في أعمال العبد
فالقضية قضية القلب، وإنما الجوارح تتحرك وتعمل وتتأثر لما يحصل في القلب، كما بيَّن ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك فمن الواجب إصلاح القلوب؛ لأنها محط ومحل نظر الرب من العبد.
يقول بعض العلماء -وهي حكمة عظيمة مأثورة- ': رب معصية أورثت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً'.
فبعض الناس قد يعصي الله، وتكون هذه المعصية سبب الخير وبداية التوبة والهداية في حياته، والبعض ربما كانت الطاعة بداية انحرافه وزيغه، ودخوله في باب الرياء والعجب، ثم خروجه نهائياً من طريق أهل الاستقامة وأهل السنة.(81/5)
وقائع تبين أهمية القلب في أعمال العبد
يجب على المؤمن الذي يريد تنقية قلبه، ويحرص على تقوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينتبه إلى هذه الحقيقة، والأدلة عليها كثيرة جداً، مما ثبت وصح في الوحي، وكثيرة من واقع الناس، وهو المشاهد من أحوال الناس الذين كانوا على ذنوب وفجور ثم تابوا واستقاموا، والذين كانوا على طاعة وخير وعلى طلب علم ودعوة ثم انحرفوا وحاروا، نسأل الله العفو والعافية.(81/6)
قصة الرجل الذي أوصى عند موته بأن يحرق
كمثل حديث الرجل الذي أوصى بنيه عند موته، وقد رأى نفسه مسرفاً في المعاصي، فخاف من الله تعالى أن يلقاه بهذه الحال، فأوصى أن يحرقوه ويسحقوه، ويذروه في الريح، مع أن هذا الرجل ارتكب ذنباً أكبر ووقع في إثم عظيم، ولكن بسبب هذا الاستعظام والخوف والحياء غفر الله ذنوبه المتأخرة والمتقدمة، وهذا الذنب العظيم والخطأ الجليل هو ظنه أن الله لا يقدر عليه إذا هو مات.
يقول: {إذا أنا مت فاجمعوا الحطب واحرقوني، ثم ذروني في الهواء، وضعوا نصفي في البحر، والنصف الآخر في البر، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، ثم جاءه السؤال من رب العالمين: لم فعلت ذلك؟ -ولم يكن السؤال عن الموبقات ولا عن الذنوب الأولى، إنما كان عن هذا الخطأ الكبير- فقال: خوفك يا رب، أو خشيتك يا رب، فغفر الله تبارك وتعالى له}.
إذاً، إذا اقترن بالذنوب والمعاصي خوف وتعظيم، وهيبة لله تبارك وتعالى، فإن هذه الذنوب: إما أن تمحى أو تكفر، أو تكون -كما قال الشيخ وهي كبائر- صغائر، أو كالصغائر، فتأخذ حكمها، كما قال الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] تكفر لما اقترن بها من خوف وخشية وذلة، وهذا الدليل الأول.(81/7)
قصة توبة الرجل الذي قتل مائة نفس
والدليل الآخر هو دليل الرجل قاتل المائة نفس، وقد كان قتل في أول الأمر تسعة وتسعين، فذهب إلى العابد فلم تعجبه فتواه فقتله.
وهذا الحديث -على كثرة ما فيه من الحكم والدلالات- يدل على فضل العالم على العابد، فقد قال هذا القاتل لذلك العابد: {إني رجل قتلت تسعة وتسعين نفساً فهل لي من توبة؟ فاستعظم الراهب ذلك، فقال: لا أجد لك توبة}.
وهذا من قلة العلم والفطنة -كما ذكر العلماء- فإذا قلت له: لا أجد لك توبة؛ فكيف تأمنه على نفسك، وعلى غيرك من الناس؟! على أقل القليل كان من الحكمة أن تقول له ما تدفع به شره في هذه الحياة الدنيا.
{فلما قال له ذلك أكمل به المائة، وبعد ذلك ذهب إلى العالم، فأخبره بأن له توبة، وأرشده أن يذهب إلى القرية الصالحة ليعبد الله تبارك وتعالى فيها، ثم كان من أمره: أن قبضه الله تعالى واختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وهذا فيه دليل على أن الملائكة تجتهد في أمر الله تبارك وتعالى، كما نجتهد بني آدم، فأخذوا ينفذون أمر الله تعالى، فملائكة الرحمة تقول: رجل تائب مقبل على الله، كيف ندعه لكم؟ وملائكة العذاب تقول: وأي توبة حصلت لرجل قتل مائة نفس، فحكم الله بينهم وهو الحكيم العليم أن انظروا إلى أي القريتين أقرب فألحقوه بأهلها}.
وجاء في بعض الروايات، من رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {أنه أمر هذه أن تتباعد، وأمر هذه أن تتقارب، فقاسوا فوجدوه إلى أرض التوبة أقرب فغفر الله تبارك وتعالى له، وتولته ملائكة الرحمة}.
وعندما نستعرض موضوع التوبة -إن شاء الله- سنتعرض مسألة هل تقبل توبة القاتل أم لا؟ وهذا الرجل القاتل لما اقترن به الخوف من الله دفعه إلى أن يبحث عمن يرى له توبة، فقام بقلبه من ذلك الخوف والإنابة ما دفع تلك الكبيرة العظيمة.(81/8)
قصتا ماعز والغامدية
ومن الأدلة على ذلك قصة ماعز والغامدية رضي الله عنهما حيث إنهما أتيا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريدان أن يطهرهما وغيرها كثير.
وقد أحببت بهذه المناسبة أن أدل على مرجع مفيد في هذا الباب، ومفيد في جوانب عدة، وهو كتاب التوابين للإمام ابن قدامة -رحمه الله- بتحقيق الشيخ عبد القادر الأرنؤوط، مع العلم أن المحقق لم يعلق عليه في مواضع كان ينبغي أن يعلق عليه فيها، منها أن أغلب من يتوب كما في هذا الكتاب يترك الدنيا بالكلية، ويذهب في البراري والجبال أو في المساجد، ويترك كل شيء، وليس هذا من صفة التوبة الشرعية، ولكن في الكتاب فوائد، ودرر عظيمة جداً، ولا سيما الذين يتوبون من الطرب والغناء، ومن الفسق والفجور كحال العالَم اليوم والله المستعان! ونقتصر على ذكر أو عرض بعض التوبات التي تتعلق بحال العاصي الذي من خلال معصيته اهتدى، وقد ذكر صاحب الكتاب قاتل المائة وتوبته.(81/9)
قصة الصحابي الجليل أبي خيثمة
ومن التائبين الذين كانت ذنوبهم سبباً لتوبتهم الصحابي الجليل أبو خيثمة.
وقد نقل الإمام ابن قدامة توبته بالسند، وهو عالم مُحدِّث فقيه بارع كما هو معروف، ولذلك يورد القصص التي يوردها بالأسانيد إلى منتهى السند، سواء أكان إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم إلى أحد العلماء من المؤلفين، أو إلى كتب رواة الإسرائيليات، أو أخبار بني إسرائيل إن كان السند ينتهي إليهم.
وكان ابن قدامة رحمه الله تعالى من الأئمة المجاهدين مع صلاح الدين الأيوبي في معاركه، ومع ذلك كتب المغني الذي هو من أعظم وأنفع كتب الفقه المقارن، وغير ذلك من المؤلفات النافعة، فذكر بإسناده إلى ابن إسحاق صاحب السيرة.
يقول: تخلف أبو خيثمة أحد بني سالم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك، حتى إذا سار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجع أبو خيثمة ذات يوم إلى أهله.
والتخلف عن الغزو كبيرة، قال تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّه} [التوبة:120] فاستخدم أقوى أنواع التعبير في التحذير والنهي، فلا يصح، ولا يليق أن يتخلف أحد عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يرغب بنفسه عن نفس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيذهب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل الخلق وأكرمهم على الله في الحر والرمضاء والحرب وهذا في الظل الظليل مع الأهل والبنين، وهذا هو الذي وقع فيه أبو خيثمة رضي الله عنه.
فعاد إلى امرأتين له في عريشين له في حائطه -أي: في مزرعته- وقد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبردت له فيه ماءً، وهيأت له طعاماً، فالزوجة، والعريش، والماء البارد والطعام، كلها في غاية المغريات المثبطات في زمانهم، فلما دخل قام على باب العريش ينظر، وهنا اشتعل حر الذنب، ثم قال: {رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الضحي والريح والحر -والضحي: حر الشمس قال الشاعر:
ضحوت له كي أستظل بظله إذا الظل أضحى في القيامة ناقصاً
- وأبو خيثمة في ظل، وماء بارد، وطعام مهيأ، وامرأة حسناء، ما هذا بالنَّصَف!} أي ليس هذا من العدل والإنصاف، ولا يليق ذلك أبداً، ولا يحق أن يكون الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذلك، وأن يتخلف عنه أبو خيثمة ويرغب بنفسه عن نفسه، ويتمتع ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تلك الحال، قال: {والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهيئا لي زاداً، ففعلتا، ثم قدم ناضحه فارتحله، ثم خرج في طلب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأدركه حين نزل تبوك، فلما رآه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راكباً من بعيد قال: كن أبا خيثمة، فذهبوا فإذا به هو، فقالوا يا رسول الله! هو أبو خيثمة فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أولى لك أبا خيثمة، ثم أخبره الخبر؛ فدعا له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ}.
ولو أن أبا خيثمة خرج أول الأمر مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كان ليقع في قلبه من الإيمان والأثر والخوف من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والحرص على الجهاد، والرغبة فيه مثل ما وقع بعدما غلبه الضعف البشري، وتراخى وضعف، ثم ذهب الناس، وذهب هو وحده، وتصور راكباً يذهب وحده في هذه البراري، وهو مستشعر للذنب في شدة الحر، وكل أمله أن يلحق برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كيف يكون همه وحاله وشعوره في هذه الحالة؟! إذاً قام بقلبه من حقائق الإيمان، والتوبة والندم، والاستغفار، والحياء من الله تبارك وتعالى، ومحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومحبة اللحاق به أمور عظيمة جداً، فكان في هذا الذنب، وهذا التأخر، والتخلف خير له، وفعلاً: رب معصية أورثت ذلاً وانكساراً، خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً.(81/10)
قصة الصحابي الجليل أبي لبابة
ومثال آخر: مثال أبي لبابة رضي الله عنه، وهذا حال المتقين دائماً، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] وهذا ما حدث لـ أبي لبابة رضي الله عنه، فيقول عن نفسه: {لما أرسلت بنو قريظة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسألونه أن يرسلني إليهم حين اشتد عليهم الحصار، دعاني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: اذهب إلى حلفائك، فإنهم أرسلوا إليك من بين الأوس}.
وقد كانوا حلفاء لهم في الجاهلية، وقاتل الله اليهود في كل زمان ومكان، فاليهود هم اليهود، فلا يصدق أن منهم متطرفون ومعتدلون، فكلهم أخباث أنجاس فأرسلوا يريدون أبا لبابة لأنه حليفهم.
{قال: فدخلت عليهم، وقد اشتد عليهم الحصار فهشوا إلي، ورحبوا بي، وقالوا: يا أبا لبابة! نحن مواليك دون الناس كلهم، فقام كعب بن أسد وقال: قد عرفت ما صنعنا في أمرك، وأمر قومك يوم الحدائق ويوم بعاث، وكل حرب كنتم فيها -يذكره بأيام الجاهلية- وعملنا معكم الجمائل والفعائل، وقد اشتد علينا الحصار وهلكنا، ومحمد يأبى أن يفارق حصننا حتى ننزل على حكمه، فلو زال عنا للحقنا بأرض الشام أو خيبر ولم نكثر عليه جمعاً أبداً، فما ترى؟ قال: نعم فانزلوا}.
لأنه صحابي مؤمن لا يمكن أن يشير عليهم بغير ما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهل يمكن أن يخالف حكم الله وحكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! أو يطلب منهم غير ما طلب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! لكن في آخر لحظة أخذته وقعة -وهو الضعف البشري الذي يقع فيه حتى الصحابة الأجلاء- {فقال: انزلوا على حكمه، ثم أومأ بيده هكذا} أي: حكمه فيكم الذبح.
وهنا علم أنه قد وقع في الذنب، وبدأ يؤنب نفسه على ما فعله مع أنه لم يره أحد من الصحابة، ورسول الله لا يعلم الغيب، فيقول رضي الله عنه: {فندمت واسترجعت، فقال كعب: مالك يا أبا لبابة؟ فقلت: خنتُ الله ورسوله، فنزلت وإن لحيتي لمبتلة بالدموع من لحظتها، والناس ينتظرون رجوعي إليهم، حتى أخذت من وراء الحصن طريقاً آخر} فما استطاع أن يواجه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{ثم عاد حتى أتى المسجد فأخذ رباطاً من الشعر القوي وربط ذراعيه ونفسه في سارية من سواري المسجد وأحكمه قال: وبلغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذهابي وما صنعت، فقال: دعوه حتى يُحدث الله فيه ما يشاء}؛ لأنه هو الذي ربط نفسه، أي: لو كان جاءني لاستغفرت له، فأما إذ لم يأتني وذهب، فدعوه فإنه هو الذي جنى على نفسه فأنزل الله في شأنه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء:64]، وهذه قيلت فيمن هو أعظم جرماً وذنباً من أبي لبابة وهم المنافقون الذين أعرضوا عن حكم الله.
قال الزهري: وارتبط أبو لبابة سبعاً في حر شديد لا يأكل ولا يشرب، وقال: لا أزال هكذا حتى أفارق الدنيا أو يتوب الله عليّ.
فلم يزل كذلك حتى لا يكاد يسمع صوتاً من الجهد، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظر إليه بكرة وعشياً، ثم تاب الله عليه، فنودي: إن الله قد تاب عليه، وأرسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه ليطلق عنه رباطه، فأبى أن يطلقه عنه أحد غير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال الزهري: وحدثتني هند بنت الحارث عن أم سلمة زوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: [[رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحل رباطه، وإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليرفع صوته يكلمه ويخبره بتوبته، وما يدري كثيراً مما يقول له من الجهد والضعف وقد كان الرباط حز في ذراعه، وكان من شعر، وكان يداويه بعد ذلك دهراً لتلوثه]].
فهذا الذنب والخطأ اقترن به من الخوف والحياء والمهابة والتعظيم، ما جعل صاحبه يفعل ذلك الفعل، فكانت التوبة من الله تبارك وتعالى عليه، وكان ذلك خيراً له فيما نرجو له عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مما لو لم يفعل شيئاً من ذلك، والله تعالى أعلم.(81/11)
قصة أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان
وذكر توبة قريبة من هذه، وهي توبة أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان، وهذه لها قصة مشهورة في كتب الأدب، وإن كانوا يذكرونها في كتب الأدب على أنها طرفة، أو ملحة من الملح أو النوادر؛ لكنها عند أهل الإيمان واليقين تدل على ما ذكره الشيخ -رحمه الله- راوياً بالسند.
قال: دخلت عزة صاحبة كثير عزة -نسبة إلى المرأة التي عشقها، وكان هذا الرجل باطنياً خبيثاً كان على عقيدة الباطنية، وهو ممن كانوا يعتقدون أن الإمام في جبل رضوى، وأنه في أعلى الجبل، وأن عنده نمور تحرسه، وأن عنده عسل وعنده ماء، وسيخرج في آخر الزمان، وكان هذا في القرن الأول.
الشاهد أن عزة دخلت على أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان أخت عمر بن عبد العزيز وكانت تسمع من الشعراء، كأي امرأة مترفة ذات ملك وجاه ومال، فلما دخلت عزة سألتها أم البنين -لأنها تعرف خبرها مع كثير، كما يتناقل الناس الحكايات- فقالت لها أم البنين: ما معنى قول كثير:
قضى كل ذي دين فوفى غريمه وعزة ممطول معنَّى غريمها
-وهذا السؤال من فضول الكلام، وذلك كما دخل بعض الناس على أحد السلف فقال: إني أرى خشبة في سقف البيت تريد أن تسقط، فقال له: يا رجل! إن لي عشرين سنة في هذا البيت ما نظرت إلى السقف، وكانوا يكرهون فضول النظر، كما يكرهون فضول الكلام- فقالت لها: ما هذا الدين الذي يذكره، قالت: اعفيني.
فقالت أم البنين: لا أعفيك حتى تخبريني؟ فقالت: كنت وعدته قبلة فأتاني يطلبها، فتحرجت عليه ولم أفِ له'.
وعشاق العرب عندهم العشق على نوعين: نوع إباحي، ونوع عذري، أو الهوى العذري -بزعمهم- وهو فقط الحديث والمزح والكلام دون أي شيء آخر وهكذا كان كثير وعزة، وطائفة من العشاق.
والنوع الآخر هو: الإباحي، وهو الذي يؤدي -والعياذ بالله- إلى ارتكاب الفاحشة، وهؤلاء كانوا من الموصوفين بالفجور، فهذه المرأة لم تعطه ما وعدته لحيائها، أو لعروبتها، أو لقبيلتها رغم أنه يخلو بها ويواعدها، ويتحدثان ويخبرها بما قال فيها من شعر، ثم يرجع كل منهما إلى مكانه، وقد قال بعضهم: 'كان العشق فيما مضى أن الرجل يلاقي المرأة فيحدثها وتحدثه، ويناشدها وتناشده، أما اليوم فلا يكاد يخلو بها حتى يفعل بها الفاحشة، وكأنه أشهد على نكاحها أبا هريرة رضي الله عنه' وهذا الكلام قالوه في القرن الأول.
أقول: حتى المجرمين في ذلك الزمن كانوا أخف جرماً من مجرمي زماننا، فالمهم أن الشيطان جاء أم البنين، فقالت: 'أنجزيها منه وعلي إثمها' فأوبقها الشيطان، ثم راجعت نفسها من وقتها واستغفرت الله، وأعتقت لكلمتها هذه أربعين رقبة، وكانت إذا تذكرت هذه الكلمة بكت حتى تبل خمارها، وتقول: 'يا ليتني خرس لساني عندما تكلمت بها' وتحولت أم البنين من تلك التي تستقبل الشعراء، وتسمع أخبار العشاق، إلى امرأة عابدة مجتهدة صالحة فاضلة، قال: فرفضت فراش المملكة، وقامت تحيي ليلها، وكانت كل جمعة تحمل على فرس في سبيل الله، أي: تجهز فرساً يخرج في سبيل الله عز وجل.
وكانت تبعث إلى نسوة عابدات يجتمعن عندها، ويتحدثن معها فتقول أم البنين: 'أحب حديثكن! فإذا قمت إلى صلاتي لهوت عنكن'.
سبحان الله! كيف رسخ الإيمان في قلبها إلى هذا الحد، وكانت تقول: 'البخيل كل البخيل من بخل على نفسه بالجنة'.
وكانت تقول: 'جعل لكل إنسان نهمة في شيء، وجعلت نهمتي في البذل والإعطاء، والله للعطية والصلة والمواصلة في الله؛ أحب إلي من الطعام الطيب على الجوع، والشراب البارد على الظمأ'.
سبحان الله!! جعل الله نهمتها في العطاء والبذل والإحسان، وهذا خير عظيم فتح عليها، قالت: 'وهل ينال الخير إلا بالاصطناع'، وكانت على مذهب جميل حتى توفيت رحمها الله.
فالشاهد أنها وقعت في ذنب، ولكن أعقب ذلك هذه التوبة، وهذه الاستقامة، وهذا الخير، وربما لم تكن لتنال ذلك الخير ولا تحصل عليه لو لم تقع في تلك الكلمة.(81/12)
قصة عبد الرحمن القارئ
ومثال آخر: رجل من شيوخ القراء، كان اسمه عبد الرحمن، وكان يلقب بالقس أو القسيس، أو العابد، فكان عبد الرحمن القارئ عند أهل مكة من أفضلهم عبادة، وأظهرهم تبتلاً، فمر يوماً بـ سلامة - وهي جارية كانت لرجل من قريش، فسمع غناءها، فأطل مولاها وعبد الرحمن عند الباب، فقال له: هل لك أن تدخل فتسمع، فأبى عليه، فألح عليه الرجل، فلم يزل به حتى وافق ودخل، فقال: أقعدني في موضع لا أراها ولا تراني -وذلك خشية أن يفتتن بها- قال: فدخل، فتغنت فأعجبته، فقال مولاها: هل لك أن أحولها إليك، فأبى وامتنع، فلم يزل به أيضاً حتى وافق، فجاءت فجلست أمامه، فلم يزل يسمع غناءها حتى شُغف بها وشُغفت به، وعلم ذلك أهل مكة وانتشر الخبر بأن العابد الراهب تعلق بهذه المغنية، حتى إنها ذات مرة قالت: أنا والله أحبك! فقال: وأنا والله أحبك! قالت فما يمنعك من الوصال! فوالله إن الموضع لخال، فقال: إني سمعت الله تعالى يقول: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] وأنا أكره أن تكون خلة ما بيني وبينك تؤول بنا إلى عداوة يوم القيامة، قالت: يا هذا! أتحسب أن ربي وربك لا يقبلنا إذا تبنا إليه، قال: بلى، يتوب علينا لو تبنا، ولكني لا آمن أن أفاجأ بالموت، ثم نهض وعيناه تذرفان، فلم يرجع بعد.(81/13)
قصة وهيب بن الورد
ويذكر ابن قدامة -رحمه الله تعالى- مثالاً آخر، وهو قصير لكنه عظيم جداً، قال وهيب بن الورد أحد العباد المشهورين المعروفين، بينما امرأة في الطواف ذات يوم وهي تقول: 'يا رب! ذهبت اللذات، وبقيت التبعات' والتبعة هي المسئولية، فتبعات اللذات مكتوبة، والإنسان يلقى الله يوم القيامة وقد انقضت اللذات ولكن بقيت عليه التبعات، قالت: 'يا رب ذهبت اللذات وبقيت التبعات، يا رب سبحانك وعزتك إنك أرحم الراحمين، يا رب مالك عقوبة إلا النار؟ '.
لأنها تذكرت أنه ليس بعد هذه الدار من دار إلا الجنة أو النار.
وكان معها امرأة أخرى صالحة تمشي معها قالت: 'يا أُخية! دخلت بيت ربك اليوم؟ -تقصد الكعبة- قالت: والله ما أرى هاتين القدمين أهلاً للطواف حول بيت ربي، فكيف أراهما أهلاً أطأ بهما بيت ربي وقد علمت حيث مشتا وأين مشتا' سبحان الله العظيم! تذكرت أن هاتين القدمين مشتا إلى فجور وإلى معاصٍ، والآن جاءها الندم، فكان تذكرها لتلك المعاصي والذنوب، أعظم دافع لتوفيق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لها أن تستقيم وأن تستشعر، وفي هذا الكتاب فوائد قيمة ولو علق عليه لاكتمل جماله.
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يتوب علينا وعليكم، وعلى جميع المسلمين، وأن يبصرنا ويفقهنا في الدين، إنه سميع مجيب.(81/14)
الأسئلة(81/15)
معنى قول أهل السنة: الإيمان قول وعمل
السؤال
ينقل الأخ كلاماً للإمام الحافظ الذهبي رحمه الله من سير أعلام النبلاء (2/ 15) في ترجمة عبد الله بن حذافة السهمي الذي قصته معلومة مع هرقل، لما قبل رأسه، يقول الإمام الذهبي: ' ولعل هذا الملك قد أسلم سراً، ويدل على ذلك مبالغته في إكرام ابن حذافة.
وكذا القول في هرقل إذ عرض على قومه الدخول في الدين، فلما خافهم قال: إنما كنتُ أختبر شدتكم في دينكم.
فمن أسلم في باطنه هكذا، فيرجى له الخلاص من خلود النار، إذ قد حصَّل في باطنه إيماناً ما، وإنما يُخاف أن يكون قد خضع للإسلام وللرسول، وأعتقد أنهما حق، مع كون أنه على دين صحيح، فتراه يعظم الدينين.
يقول السائل: كيف توفق بين قول الذهبي رحمه الله في هرقل وما هو مدون في عقيدة أهل السنة والجماعة بأن الإيمان قول وعمل؟
الجواب
أول ما يجاب به: أن الحالات الفردية الخاصة لا ترد القاعدة العامة، والقاعدة العامة معروفة وأوضحها لكم بمثال: القاعدة العامة في الصلاة، قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، هو أن نصلي قياماً؛ لكن العاجز عن القيام يصلي قاعداً، أو على جنبه، فهذه حالة عارضة، وهكذا في جميع الأمور الشيء العارض فيها غير الأصل.
فالأصل العام هو أن الإيمان قول وعمل، وأن ندعو الناس إلى أن يقولوا ويعتقدوا ويعملوا، لكن قد يأتي حالة عارضة كحالة هرقل هذه، وكأن الإمام الذهبي يقول: خاف هرقل على ذهاب ملكه عندما ثارت عشيرته، فقال: إنما أردت أن أختبر قوة إيمانكم وإلا فإن دينكم هو الحق، والله تبارك وتعالى لا يضيع عمل عامل كائناً من كان.
يقول: لعل هذا حصل له إيمان ما، وبهذا الإيمان يمكن أن ينجو من الخلود في النار؛ لأن حديث الجهنميين: {أخرجوا من في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان} وهو شيء لا يرى، فيقول: ربما يكون لـ هرقل هذه الذرة التي نحن لا نراها ولا نعدها، فلا يُعد مؤمناً في أحكام الدنيا، والذهبي لم يعتبره مؤمناً أو مسلماً في أحكام الدنيا، وكذلك لم يعتبره ناجياً من النار مطلقاً، إنما تكلم عن الخلود بسبب هذه الحالة.
فهي حالة خاصة كما ظن رحمه الله وقد لا تتحقق، ولا تعارض بين هذا وبين الأصل الكلي المعلوم عند أهل السنة والجماعة.
والجواب الآخر: أن الذهبي رحمه الله اجتهد، ولا يعول على الرأي والاجتهاد الفردي في مثل هذه المواضع، ولا حرج في ذلك، ومسألة الإيمان أخطأ فيها بعض التابعين، فلا غرابة أن يخطأ في شيء منها إمام أو عالم من المتأخرين.(81/16)
القصص وما في نسبتها من أخطاء
السؤال
إن بعض الخطباء ذكر عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [الأعراف:201] إن شاباً في عهد عمر رضي الله عنه فعل الفاحشة ثم مات عند ذكر هذه الآية، فما صحة ذلك؟
الجواب
يبدو لي أن هذه القصة لم يصح وقوعها في عهد عمر رضي الله عنه، وهذا لا يمنع أنها قد وقعت في عهد غيره، كما قد وقعت أشياء للعباد وللتوابين، لكن نسبتها إلى عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو إلى عهد الصحابة يكون فيه الخطأ، وكثيراً ما نجد في حلية الأولياء وفي غيرها من الكتب، نجد كلاماً لا يمكن أن يقع في زمن النبوة، لكن قد يمكن أن يكون هذا فيما بعد والله أعلم.(81/17)
ليالي العشاق
السؤال
لقد رأيت العشاق في أحد الليالي بعد نهاية مباراة قدم، حيث خرج بشر لا يحصيهم إلا الله، والأمر المبكي أن بعض الرجال خرجوا ومعهم نساؤهم وسط زحمة الرجال، وبعضهم ترى على مظهره ملامح الصلاة، ولكنهم عشاق من نوع آخر، وهم يُطبِّلون ويرقصون، فما رأيكم في هذا؟
الجواب
ليالي العشق حالة عجيبة جداً لا نستطيع أن نأتي عليها في ليلة ولا في ليالي نسأل الله أن يحفظني وإياكم:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا
وأساس العشق هو: خلو القلب من الإيمان بالله، وخلو القلب من الهم الذي يشغله بما ينفعه ويهمه في دنياه أو في أُخراه عن هذه السفاسف والأمور التافهات.
أما هؤلاء العشاق فهم ليسوا بعشاق ولكنهم دياييث، فالاسم الشرعي للرجل الذي يخرج وتتبرج زوجته، ويراها الناس من أجل مباراة أو غيرها هذا اسمه ديوث، والدياثة درجات -نسأل الله أن يحفظ المسلمين منها جميعاً- أسوؤها أن يعلم الفاحشة في أهله ويسكت عنها، فهؤلاء لا يُعدون من أهل الغيرة في شيء، وليسوا من الإيمان في شيء.
أما الإسلام -كما هو معروف- فلا نخرجهم منه، لكن لا يمكن أن يكون إنسان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، وهو يرضى بفاحشة في أهله ويسكت عنها، أو فيمن تحت ولايته نسأل الله العفو والعافية.
أما من يرضى بالتبرج، ويرضى بالنظرة فهذا له من الدياثة بقدر ما يرضى، ويكون فقد الغيرة بقدره وكلٌّ بحسبه.
وبعض الناس وصلت به هذه الدياثة وفقد الغيرة إلى أنه يجمل ابنته بنفسه، ويراها تتزين لتقدم برنامج الأطفال أو برنامج كذا وكذا، وربما افتخر بذلك، فهذا ممسوخ! وليس فيه من الغيرة شيء، فهو يرى الناس يتلذذون بالفتاة المسكينة، وربما لا يدري ولا يعلم.
وبعض الناس يقول: صغيرة، فهذه الآن بنت ثمان سنوات، ثم عشر سنوات ولا زالت صغيرة، ثم ثلاث عشرة سنة وهو يقول: صغيرة، وتبلغ وهي ما زالت في برنامج الأطفال، حتى إذا افتتن بها أحد وسأل بنت من هذه؟ وأين تدرس؟ قالوا: في مدرسة كذا، فيعاكسها، وأكثر المصائب سببها الدياثة، وهو أنه أخرجها أمام الناس، في برامج الأطفال، وكأن الأطفال لا يحتاجون إلا للطبل والرقص واللهو واللعب.
إن أطفال علماء السلف الصالح، وخيار هذه الأمة كانوا شباباً في مثل هذا العمر يقودون الجيوش:
قاد الجيوش لسبع عشرة حجة يا قرب ذلك سؤدداً من مولد
قاد الجيوش وهو ابن سبع عشرة سنة، واليوم يقال: ما زال طفلاً صغيراً اتركه يلعب، الرجال في مثل هذا السن قادوا الجيوش من عهد ابن قاسم الثقفي إلى محمد الفاتح الذي فتح القسطنطينية وهو في الرابعة والعشرين من عمره، أي: بعمر ضابط تخرج من الكلية، وهذا يقود أمة، ويفتح البلد التي عجز عنها الملوك والخلفاء قبله، وغير هذا كثير في تاريخنا.(81/18)
كيفية التخلص من الذنوب
السؤال
إنه واقع في ذنب كلما تاب منه عاد إليه، ويقول: إنه بعد أن يعمل المعصية يندم، ثم يزداد الندم عندما يقوم إلى الصلاة، ويعزم على عدم العودة ولكنه يعود، وعندما يصلي يعاوده الندم ويصمم على عدم العودة، ثم يعود إلى توبة وذنب، فأرشدوني فإن الندم يقطَّع قلبي؟
الجواب
هذا دليل الخير -إن شاء الله- عندما يقف بين يدي الله عز وجل يستشعر كيف يقف وهو ذلك المذنب، كما قالت هذه المرأة: كيف أقوم في البيت بأقدامي وقد فعلت ما فعلت، وفي الحديث: {ما يزال العبد يذنب فيستغفر، فيذنب فيستغفر، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يغفر له، ويقول: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب، قد غفرت له} وهذا إن كان صادقاً ونادماً.
أما إن كان نوعاً من الحيل الشيطانية فليتق الله، وليتب من هذا الذنب، ويبدو لي أن هذا الذنب من ذنوب الشهوات؛ لأن ذنوب الشبهات لا تصل إلى هذا الحد، ولكن هذا من ذنوب الشهوات وخاصة من الشباب، والشهوة لها علاج كما أن الشبهة لها علاج.
ومن علاج الشهوة: تذكر عظمة الله، وتذكر عذاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتذكر ضرر المعصية والذنب في الدنيا والآخرة -وكما أحلنا مراراً على كتاب الداء والدواء فقد تكلم عن آثار الذنوب وخطرها وضررها على القلب وعلى البدن، وعلى حياة الإنسان، حتى فيما بينه وبين الله.
وبعض العقوبات لا يفطن لها كثير من الناس وهذه من المصائب التي حلت في الذين لم يفقهوا الفقه الرباني الإيماني، أنه يظن أنه ما لم يقم عليه الحد -لا جلد ولا رجم- فلا شيء عليه، والنار لها وقت آخر ويمكن أن يتوب.
وعقوبات الذنوب أعظم، ومنها: أن يسلب الإنسان لذة قراءة القرآن، وكم من الناس لا يُفكِّر في هذه العقوبة! فعلى كل شخص أن يختبر قلبه، لماذا يسمع القرآن ولا يتلذذ لسماعه، ولا يأنس به؟! إذاً أنت معاقب يا مسكين عقوبة عظيمة جداً جداً! ومنها: أن يبغض الصالحين والأخيار ويحب الفجار والأشرار، فإذا كان في مجلس فيه أخيار لم يحب أن يجلس معهم، وهو لا يدري أنه معاقب، فانظر إلى قلبك: لِم ألف قلبك الذي يعملون بعمل أهل النار ونفر من الذين يعملون عمل أهل الجنة؟ مقامك في الآخرة أنت تحدده في هذه الدنيا، فإن كنت تريد طريق الجنة فاسلك، وإن كنت تريد طريق النار فهو واضح: {الحلال بيِّن والحرام بين} فالقلب الذي لا يأنس بأهل الخير ويأنس بأهل الفجور والمعاصي فليعلم صاحبه أنه معاقب.
وقد يُعاقب الإنسان على الذنب بأن لا يتفكر في ملكوت السماوات والأرض، فهو متبلد يرى الليل والنهار ولا يتفكر، يرى النجوم ويرى الكواكب ويرى خلق الله تبارك وتعالى في البر والبحر ولا يتذكر، بل ربما غفل عن هذه الأمور.
يقول أهل الفجور: الليلة قمر، فلنخرج لنلعب، فهم في لهو ومعاصٍ بدل التفكر والتدبر، بل وبعض ما خلق الله من الطيور ومن الحيوان أصبحت لهواً، يقولون: تعال! نذهب إلى حديقة الحيوان، لنلهو ونلعب، ولو نظر لها من جانب الإيمان لرأى العجب العجاب في خلق الله، لكن الحس -كما يقول ابن القيم رحمه الله-: الحس بهيمي، حتى لو رأى هذا الطائر الجميل أو الشجرة الجميلة فإنه يفكر بكم القيمة لو باعه، ويسأل هل هذا الطائر يؤكل لحمه أو لا يؤكل؟! وهذا فيه شيء أبعد من أنك تأكله، هذا فيه جمال، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل في الجمال آية: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل:6] فانظر كيف أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل هذا الريش، وركب هذه العيون، وجعل هذا المنقار، أشياء عجيبة من خلق الله.
حتى في جانب البحر ترى الألوان العجيبة في الأسماك، وليست القضية قضية حيوان يأكل في الماء ويمشي، لو كانت القضية هكذا لكان أي لون يصلح؛ لكن عشرة ألوان في بعضها طراز خاص، وشكل جميل، فتجد الشخص يُفكِّر كيف يصطادها ويأكلها، فهذا حس بهيمي، لكن الحس الإيماني هو أن تفكر وتقول: سبحان الخلاق الذي أبدع وخلق هذا الشيء!! وأقول: من العقوبات: ألَّا يتفكر الإنسان في ملكوت السماوات والأرض، فهو معاقب بضيق القلب، ولا يوجد عقوبة أسوء من هذه -والعياذ بالله- وهي أن يموت القلب، فهذا ميت القلب؛ لأنه ألف هذا الشيء المحرم، أما إن كنت تغار على حدود الله، وعلى محارم الله، وتتمنى كما قال بعض السلف لما رأى رجلاً يعصي الله، قال: ' وددت لو أن جسدي قُرِّض بالمقاريض وأنه لم يعص الله ' إن كان هذا شعورك فأنت مؤمن.
أما إذا كنت ترى المعاصي والمنكرات ولا يهمك هذا، فهذا هو موت القلب، فحقيقة الإيمان: أن تغار على محارم الله، وعلى دين الله، وأن تنكر المنكر ما استطعت، وأقل شيء هو أن تغضب وأن تحزن.(81/19)
شهادات تقديرية للممتنعين عن بيع السجائر
السؤال
وزارة الصحة توزع للمحلات التي تمتنع عن بيع السجائر شهادات تقدير بتوقيع مدير الصحة، فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
هذا شيء طيب، إن كانوا يعملون ذلك لوجه الله، ويا حبذا أن يصحبها قرار بمنع استيراد السجائر، على الأقل يكون هذا أنفع للأمة.(81/20)
سوء الظن وأحاديث المجالس
السؤال
بمناسبة الذنوب وخطرها قدمت من خارج هذه البلاد، وكانت فكرتي عنها طيبة جداً، ولكنني عندما أتيت وقعت في وسط مجموعة، لا يجتمع عندها إلا الأخبار السيئة، أي: الزنا والفواحش، وأخذوا يقصون علي، وأنا أدافع عن نفسي، ولكن النتيجة أنني مرضت بسوء الظن، وأصبحت كلما أنظر إلى شخص أظنه كما قالوا لي، وكأنها صدمة لي، خصوصاً أني شاب، فماذا أعمل خصوصاً وقد بلغ بي ذلك المرض أن ألحظ وأكاد أقع في التجسس، وكل ذلك غيرة ونار في قلبي على المسلمين، فأوصني رحمك الله؟
الجواب
أولاً: نوصي الإخوان كلهم بحفظ المجالس، احفظوا المجالس من هذه الأمور، وانصحوا الناس في خطبكم ومواعظكم ألا يتعرضوا لهذه الأمور، وهذا يدخل في قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:19]، قوله: {تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] فمسألة أن فلاناً يزني، وفلانة تزني، هذا الرجل ما مرض إلا من شيء، وحتى الملتزمين عندهم كذا!! وحتى التي تراهن محجبات يفعلن كذا، حتى حتى!! فالرجل هذا قلبه -فعلاً- لو رأى امرأة متحجبة متسترة تطوف بالبيت، يقول: حتى هذه، والذي علمه هو مجالس السوء، خاصة بعض دوائر الموظفين الذين ليس عندهم عمل في كثير من الإدارات -مع الأسف- بيروقراطية، وهذه دخلت علينا في الإدارة، كل اليوم كلام فارغ، كما يعبر عنه العامة: (من السرة وتحت)، كل الكلام فلان وفلان وفلان! وهذا فيه تزيين للشهوات وتحبيب بها، فمجرد أن يُقال: إن الزنا يقع ويقع ويقع من غير دعوة ونصح وإنكار وإرشاد، مجرد ذلك تذكر الناس فيه وتثيرهم لهذا الشيء، وخاصة إذا اقترن بفلان وفلان، والأشخاص والبيت الفلاني، والقرية الفلانية، والحي الفلاني فربما بعض الناس لا يعلم أن هناك مناطق وأحياء، الزنا فيها أسهل من غيرها، فبعضهم يتحدث فيروج لهذه الأماكن، وكذلك الكلام عن مجلات خليعة إن هذا يروج لها عند الآخرين، مجلة اسمها كذا، ومجلة اسمها كذا فتشترى، فما لم يكن الكلام موزوناً وفي محله، ومع من ينكر ويغير فلا داعي لمثل هذه الأمور.
ثانياً: أنصح هذا الأخ وأقول له: لِمَ الغيرة؟ ولماذا التجسس؟ وهلاَّ اشتغلت بعيوبك! والحمد لله رب العالمين.(81/21)
آفة الاستعجال
في هذه المادة تحدث الشيخ عن آفة عظيمة وصارف خطير عن العمل، وهذه الآفة هي آفة (الاستعجال)، مبيناً أن الله جل وعلا قد فطر الإنسان على استعجال النتائج؛ لذلك يجب على الدعاة مراعاة حال المدعوين، وعدم استعجال الثمرة قبل أوانها، ثم سرد شيئاً من الآيات التي حكت استعجال الأمم الكافرة بالعذاب تكذيباً للرسل، وذكر استبطاء المؤمنين لنصر الله، مبيناً أنه ينبغي على الدعاة إلى الله أن يعلموا أن هذا من طبيعة البشر، فيجب أن يتحمل بعضهم بعضاً، وأن يعالجوا هذه المشكلة بصبر وسعة صدر، ثم بين أن الجيل المهزوم في داخله لن ينتصر، ولكن عسى أن يكون أرضاً يخرج منها جيل النصر القادم.(82/1)
خلق الإنسان من عجل
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، أما بعد: فنحمد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي وفقنا للإيمان به، والتمسك بكتابه، واتباع سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما نحمده حيث يسَّر المراكز التي احتضنت الشباب فربتهم وغذتهم، ووسعت مداركهم، وفقهتهم في دينهم، وحفَّظهم من كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونمّت عقولهم وأجسامهم، فشكر الله تعالى للقائمين عليها، وأجزل مثوبتهم عنده، ووفق جميع الآباء والطلاب للالتحاق بها وبأمثالها إنه سميع مجيب.
ثم إن من الموضوعات المهمة: منهج الدعوة، والأسلوب الصحيح في إنكار المنكر، وفي فقه الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وفي طلب العلم، وكل ما من شأنه أن يكون منهجاً مسدداً صائباً وفق منهج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
من الموضوعات المهمة في فقه الدعوة: ما يتعلق بالاستعجال، فهذا أمر جدير بالبحث والمطارحة والمناقشة من الجميع، وسوف أذكر إن شاء الله ما يسر الله لي ولو بإشارات إلى رءوس الموضوعات.
أول ما نقوله في هذا الشأن: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال: {خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37]، وقال عز وجل: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً} [الإسراء:11] فالإنسان بطبيعته عجول، والنفس الإنسانية بطبيعتها عجلة، وهذا أمر جعله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها لحكمة عظيمة، لا نستطيع الآن أن نستعرضها، ولكن حكمة الله أن يكون في الإنسان هذا الطبع وهذه الصفة وهذه الغريزة.
ولو أن الناس لم يمنحهم الله تبارك وتعالى العقل والأناة، لأكلوا الثمار قبل أن تنضج، ولربما أكلوا الطعام قبل أن ينضج، إذ في الإنسان هذا الطبع، فإذا كان في طبع الإنسان باعتباره إنساناً أياً كان مؤمناً أو كافراً أن يستعجل، وخلق من عجل، فهذا يوضع في الاعتبار بالنسبة للإخوة الدعاة وبالنسبة للناس المدعوين.
أما بالنسبة للدعاة فيجب أن يحمل بعضنا بعضاً على المحمل الحسن، وإذا رأينا هذا الاستعجال من أنفسنا أو من إخواننا الدعاة، فلنعلم أن الطبيعة البشرية قد غلبت جانباً آخر، فلنذكِّر أنفسنا به، وهو "الحكمة والأناة"، حتى لا تغلبنا هذه النزعة وهذه العاطفة.
وبالنسبة للمدعوين نحتاج إلى أناة، إننا نريد أن نقول الكلمة اليوم فنرى أثرها عاجلاً الآن أو غداً، نريد أن نقول للناس: هذا حرام، فينتهي الجميع عنه، أو نقول لهم: هذا واجب، فسرعان ما نجدهم قد فعلوه، وامتثلوا أمر الله فيه.
والأمر ليس كذلك أبداً، فلِكَوْنِ الاستعجال من طبيعة البشر، ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في القرآن بياناً شافياً كافياً له حتى يغير به الأمور والأحوال.(82/2)
استعجال العذاب
ومن ذلك ما ذكره الله في آيٍ كثيرة أن الرسل الكرام عندما يدعون أقوامهم إلى الله وتوحيده يخوفونهم من عذاب الله، وينذرونهم عاقبة المعاصي، والظلم، والجور، والفساد، فإن الجواب عند كثير من الأمم هو استعجال العذاب {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47].
انظر حلم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وسنن الله! يستعجلون أن تحل بهم العقوبة، ولهذا جاء الرد عليهم في آيٍ كثيرة، قال الله تبارك وتعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:204 - 207].
سبحان الله! يستعجلون بالعذاب اليوم، لو فكروا كم سيعيشون، أرأيت إن أمهلهم الله وجعلهم يتقلبون في البلاد؟! أهذا يعني أنه لن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر؟! سبحان الله! {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} [الشعراء:205] هب أن الأمر كان كذلك {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:206 - 207] هنا المحك، وهنا المعيار.
سل من تمتع وتقلب في أنواع الملذات العمر كله، لحظة أخذ الله له أخذ عزيز مقتدر، هل أغنى عنه ذلك المتاع شيئاً؟! {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:50]، فإذا أتاه العذاب تذهب تلك النعمة، وتلك اللذات والشهوات، ولهذا في الحديث الصحيح: {أنه يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الأرض من أهل الدنيا، وهو من أهل النار، فيغمس في النار غمسة واحدة، فيقال له: هل رأيت نعيماً قط؟ هل ذقت نعيماً قط؟ فيقول: لا والله، ما ذقت نعيماً قط والعكس، يؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيغمس في الجنة غمسة واحدة، يقال له: هل رأيت بؤساً قط؟ هل مرَّ بك شدة قط؟ فيقول: لا والله! ما ذقت بؤساً قط}.
إذاً العبرة بالنتائج، فلماذا نستعجل؟ فالمشركون يستعجلون العذاب في معرض التحدي للرسل، وأن الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- غير صادقين فيما يعدون به من العذاب، والرسل الكرام يحذرونهم ويبينون لهم أن هذا الإمهال ليس إهمالاً، وأن التأخير ليس إغفالاً، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يمهلهم، ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته؛ ولذلك يضرب المثل بالأمم التي سبقت من قبلنا تنعمت وعصت {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:6 - 14]، فلم الاستعجال إذاً؟! ألا ترون ما فعل الله بحضارة عاد؟! وهي من الحضارات المندثرة، التي يحكى عنها الغرائب، كما قال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه لما دخل مدينة دمشق ورأى ما فيها من النعمة والترف بالنسبة إلى ما كان يراه في المدينة، [[يا أهل دمشق، ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون؟! إن الأمم قبلكم قد بنوا فشادوا، وجمعوا فأوعوا، وإنه قد بلغنا عن عاد أنهم بنوا لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، فمن منكم يشتري تركة آل عاد بدرهمين؟]] لا أحد، لأنه لا وجود لها، فقد محيت، وذهب بها الله.
والحضارة الفرعونية إلى الآن، لم يصل العلم الحديث إلى كثير مما كانوا يتعاملون به مع التقنية واستخدام العلم، مثل تحنيط الموتى، ومثل تفريغ الهواء.
فإلى الآن يعجب العلم الحديث كيف وصلوا إلى ما وصلوا إليه، وهم الآن قد ذهبوا، وقد كانوا يستعجلون العذاب! كما أن الكفار في كل زمان ومكان يستعجلون العذاب، ويرون أنه تأخر.
وإذا طال عليهم الأمد وقست قلوبهم ونسوا وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ووعيده، ركنوا إلى الدنيا وإلى الملذات والشهوات، وغفلوا عن كل ما جاء من عند الله {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:44] تأتيهم الخيرات -وهذا الواقع الآن- الحضارة الغربية اليوم عندما نقول للناس: إن الغرب سيسقط، إن الغرب ليس بدائم؛ لأنه يعصي الله، ولأن عذاب الله تعالى الذي دمر الحضارات جميعاً سيدمره، يرى بعض المتفرنجين أو المتربين على آرائهم وأفكارهم، أن هذه الحضارة تملك مقومات الأبدية أو شبه الأبدية، نعم فيها مقومات لأن تستمر إلى ما شاء الله، لكن لا بد من يوم يأخذهم الله تبارك وتعالى فيه إلا أن يؤمنوا بالله وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهكذا كل حضارة وكل أمة.
فالكفار يستعجلون العذاب، وهو واقع بهم لا محالة، ويرون ما أعده الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من العذاب بعيداً، سواءً عذاب الدنيا أم عذاب الآخرة، وهو أشد قال تعالى: {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:46]، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج:6 - 7] هذا شأنهم وهذا حالهم.(82/3)
استعجال عباد الله المؤمنين
وأما ما يتعلق بالمؤمنين فإن استعجالهم من نوع آخر، وهو استبطاء النصر من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، فهو قريب لكنهم يستعجلون.
{ولهذا جاءوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو متوسد في ظل الكعبة، فقالوا: يا رسول الله! ادع الله على قريش! وشكوا إليه ما وجدوا، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والله ليتمن الله هذا الأمر حتى تسير الظعينة أو الراحلة من صنعاء إلى حضرموت، ولكنكم قوم تستعجلون}، لا تستعجلوا، وقد أتم الله تعالى هذا الدين.
{جاء سراقة بن مالك وقد منَّى نفسه بالمائة ناقة، وتبع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعد أن حدثت الآية العظيمة، وساخت قوائم فرسه، يقول له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أبشر بسواري كسرى، يا سراقة أمن أجل الدنيا تأتي}.
فوعده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسواري كسرى، خيال!!! سواري كسرى! من يحلم أن يرى كسرى؟! من كان يطمع من العرب أن يذكر كلمة كسرى؟! وكسرى أين هو؟! شيء فوق الخيال! وهذا الأعرابي يُوعَد به.
وممن يُوعَد به؟!! يوعد به من رجل خرج خائفاً لينجو بنفسه صلوات الله وسلامه عليه، ومعه الصديق، خرجوا خشية أن يقتلهم الذين كفروا أو يثبتوهم، سبحان الله! في هذه الحالة! وهل أمنت على نفسك؟! هذا هو المنطق البشري، منطق الذين يقولون دائماً: الأمر حسابات، واعتبارات وخطط.
أنت الآن تريدني أن أرجع، حتى لا أقبض عليك، وحتى لا أدل قريشاً عليك، وتعدني مع ذلك بسواري كسرى! ولم يقل بعد جيل أو جيلين، انظروا إلى أين يؤدي ضعف الإيمان دائماً والاتكال على الأسباب المادية، وعلى النظرة المادية مهما كان عمق التخطيط، كما يظن، فلله تعالى حكم وسنن أعظم من ذلك كله، وفعلاً: لبس سراقة سواري كسرى.
الله أكبر! وعندما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحفر الخندق هو وأصحابه، بشرهم أيضاً بفتح كسرى، وإيوانه.
قال المنافقون: هذا محمد وأصحابه يعجز أحدهم أن يقضي حاجته، ويعدهم بقصور كسرى! انظروا ضعف الإيمان، وضعف الثقة بالله، والنفاق!! ومع ذلك حقق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذلك، كما تعلمون -والحمد لله- وصدق فيهم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبشارته: {إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل}.
لا تستعجلوا! الكنوز والحضارات التي تبنى، والمليارات التي يملكها الكفار، والذي نفسي بيده إن صدقنا مع الله لتنفقن في سبيل الله! هذه التي جمعت من حرام، أو ربما جمعها الكفار من أموال المسلمين، لا نستعجل: {والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل}، فيكون الأمر عكس ما أملوا، جمعوها ليقاوموا بها الدين والإسلام، فالله عز وجل يجعلها غنيمة للإسلام والمسلمين.
يستعينون بها على الجهاد في سبيل الله.
لو خرج المسلمون يريدون أن يأكلوها أو يتمتعوا بها ما أُورثوها، ولذلك في هذا الحديث تنبيه للمؤمنين، {لتنفقن كنوزهما في سبيل الله} فإن قاتلنا فلله، وإن غضبنا فلله، وإن دعونا فلله، وإن رضينا فلله، الكل في سبيل الله، لو خرجوا يطلبون الغنائم، والمتاع الدنيوي ما أُعطوا شيئاً، أو لو كانوا عند أول غنيمة، اقتسموها واختصموا فيها، وما الذي وقع في بلاط الشهداء؟ أثقلوا بالغنائم حتى عجزوا عن حملها! وأقول: استعجال المؤمنين أو استبطاؤهم لنصر الله هذا -أيضاً- مما يجب أن يبين بالأدلة وفقه الدعوة الصحيح أنه مخالف لسنة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإن كان هو حق قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف:110]، نعم يأتي اليأس، ويأتي الشعور بأن الأمر قد فرغ، وأنه لا حيلة بعد ذلك، وربما وقع في القلوب أن النصر قد تأخر ولكن نقول: لا يجوز للإنسان أن يفقد أمله في الله، وأن يستبطئ نصر الله ووعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(82/4)
معالجة آفة الاستعجال
على الإخوة الدعاة -وفقنا الله وإياهم- أن يعالجوا هذا الأمر مع الأحداث النازلة هذه، وفي كل حدث وفي كل موقف، ومع كل إنسان يدعوه، وأن يعالجوا هذه الغريزة وهذه العاطفة بعدم الاستعجال في أي شيء في تكوينك الشخصي والعلمي وغيره.
بعض الإخوان يقول: أريد أن أحفظ القرآن كله، وأن أكون في العلم إلى حد كذا وكذا، يستعجل ليصل إلى مستوى معين من العلم، فإذا لم يتسن له ذلك -ولن يتسنى طبعاً إلا وفق سنة ربانية معينة- ما جعله الله فيه من مواهب ومن طاقات، وما أعطاه من وقت وإمكانيات، فإذا لم يأته لِمَا أراد واستعجل، فربما قنط، وربما ترك ذلك ولم يكمله ففي معالجتك لأي حدث من الأحداث لا تستعجل! لِمَ الاستعجال، قبل أن ترى الحدث كله وأبعاده وما وراءه، قبل أن تلقى أو تسأل من هو أعرف منك، وأبصر منك بهذا الأمر؟! لا تستعجل في الحكم، ولا تتسرع.
هناك خصلتان يحبهما الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث أشج عبد القيس الحلم والأناة، فقال: {إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة}، الأناة: الروية، لا يندم الإنسان عليها أبداً، فإذا دعوت إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فكن حليماً ولا تستعجل.
رُبَّ مجرم ينقلب خيراً للدعوة -وهذا ما وقع والله- وينقلب سيفاً بتاراً على أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وعلى دعاة الشر والفساد، لكن بعد صبر من الدعاة عليه، حتى يفقه الحق، وحتى يستجيب له، وحتى يعرف أنه لم يُدع إلا إلى خير الدنيا والآخرة، فلا بد من الأناة.
أما الاستعجال في القرارات الفردية الشخصية، بأن يستعجل الإنسان في قرار ما، ثم يندم عليه، وكذلك الاستعجال في قرارات الدعوة، فيريد أن يرى الإجابة فوراً، ويريد الاستقامة حالاً، أو الاستعجال في سنن الله التي لم تتغير أبداً.
لقد وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المؤمنين بالنصر {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] لكن الإنسان يقول: لماذا لم يأتٍ النصر؟!! يريده الآن! فهذا الاستعجال آفة يبتلى بها الناس ولا ينبغي للدعاة بالذات، ولكل من يقرأ كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقع فيها، وإنما الواجب من الجميع أن يتأملوا سنن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في تغيير الأنفس وفي تغيير المجتمعات.
إننا نحن اليوم والأمة الإسلامية تواجه أعداءها من الشرق والغرب أنستعجل النصر، ونستعجل ما عند الله، وما وعد الله به المؤمنين، ونستعجل كيف نعمل وماذا نعمل؟! مع أن الواجب أن نأخذ الأمور بحكمة وبهدوء وبروية، ونقرأ التاريخ، فنأخذ منه العبرة والعظة، كيف غيَّر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الأحوال؟! عندما كانت حملات التتار، أو الحروب الصليبية، أو ما كان قبلها من المعارك أو ما بعدها، لقد جعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سنناً للتغيير، وقد ألمحت إلى هذا في محاضرة عن الحروب الصليبية.(82/5)
انبثاق النصر من جيل الهزيمة
مما رأيته من سنن الله تعالى أن جيل الهزيمة لا ينتصر هو لكن ينبثق النصر منه.
فهو أول من يشعر بمرارة الهزيمة ومرارة الذل، وهذه من نعم الله.
وربما صحت الأجساد بالعلل
فتأتي مصيبة، وتأتي نكبة، وتأتي مشكلة، فيبدأ الشعور بالتقصير، والشعور بوجوب الأخذ بما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فتبدأ الانطلاقة من هنا، ولكي يكون النصر نهائياً يحتاج إلى أمد بعيد وإلى زمن طويل، لا نحدده ولا نقيده بسنوات معينة، لكن هو على أية حال يحتاج إلى صبر وإلى أناة.
ومن هنا كان الواجب أنه في كل حدث، وفي كل مرحلة، وفي كل وقت، ألاَّ ننسى دائماً القواعد الأساسية التي عليها يبنى أي عمل مهما كان.
ومن أعظم القواعد في ذلك، أن توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الأساس الذي يكون منه الانطلاق في الدعوة، والجهاد، وأن التوبة، والإنابة، والضراعة، والاستغفار، وترك الذنوب والمعاصي، والإقلاع عما حرم الله ومحاسبة النفس، كل هذا لا بد أن نستصحبه في كل حال.
إذا اراد الفرد في ذاته أن يطلب العلم، فالاستعجال بالتوحيد أول واجب.
إذا أراد أن يجاهد فالتوحيد أول واجب.
إذا أراد أن يدعو فالتوحيد أول واجب.
إذا أراد أي أمر من أمور دنياه فأول شيء لا بد أن يبدأ بالتوحيد، ثم بعده يأخذ بسنن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في التغيير، ولله تعالى سنن في ذلك.
فالجيل الأول جيل الهزيمة أو جيل السقوط لا يفعل شيئاً، ولهذا رأينا الهزيمة المدمرة التي مرت بالعالم الإسلامي، كما حدث عام (67) الأيام الستة وما تسمى نكبة وهزيمة ونكسة، إلى آخر ما قيل، فابتداءً منها ولدت الصحوة الإسلامية والعودة إلى الله.
انهارت النظم القومية والاشتراكية، والدعاوى الباطلة، الوافدة المستوردة، وبدأ الناس يفيقون، ويفكرون بالعودة إلى الله.
ولننظر كم نحتاج؟ فإلى الآن لم نصل إلى حد أن نكون أهلاً للنصر؛ لأن المسألة تحتاج إلى طول وقت، ولذلك لما أُخذت القدس في الحروب الصليبية الأولى، وقبل أن يأخذوا القدس أخذوا مناطق أنطاكية، وأجزاء الشام العليا.
ومرت سنوات حتى ظهر نور الدين، ثم جاء بعد نور الدين، صلاح الدين.
ثم كانت حطين في النهاية، ثم بعد حطين كان دخول بيت المقدس.
إنها سنن وإعداد مادي، وإعداد علمي، وإعداد أدبي، فعند قدوم الصليبيين كانت هناك مدرسة واحدة في دمشق تعادل كلية كما نسميها اليوم، ودمشق عاصمة الشام، ولم يكن فيها إلا مدرسة واحدة للعلم وللحديث.
فلما كانت أيام صلاح الدين، كانت المدارس تقارب مائة مدرسة، فلماذا نغفل عن هذا الجانب؟! ننظر دائماً أن صلاح الدين جمع الجيوش وانتصر، هذا حق وهذا جانب لا يمكن أن يغفل، لكن هل يمكن أن يكون هذا النصر وهذا الجيش لولا أن هناك أمراً آخر حدث في الأمة؟! لقد حدث تغيير أساسي في الأمة، وهو رجوعها إلى العلم وإلى طلب العلم، وإلى الدعوة وإلى الخير.
وهؤلاء العلماء وهؤلاء الدعاة هم الذين حرَّكوا الأمة، فهم العصب الذي يحرك هذه الأمة ويجمعها، ويوحدها على الخير بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد كان ابن قدامة رحمه الله صاحب المغني في ميمنة صلاح الدين فاجتمع العلماء على الكتاب والسنة، واجتمع حولهم طلبة العلم على ما اجتمعوا عليه من الحق، فاجتمعت القيادة المؤمنة، مع الدعاة الصادقين، مع طلبة العلم، فكان النصر بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وهذا الذي يجب أن نفكر فيه دائماً، وأن نسعى إليه دائماً، وألاَّ نتيح لأنفسنا ولعواطفنا مجالاً للاستعجال، وقطف الثمرة قبل أن تنضج، مهما كان الأمر، ومهما كانت رغبتنا في تحقيقها وفي قطفها، فهذه سنن ربانية، ولا بد أن تتحقق بالنسبة للفرد وبالنسبة للمجتمع، وكل العالم يدرك هذه السنن نوعاً من الإدراك.
فعندما بدأت اليابان تخطو خطواتها في ملاحقة الغرب، بدأت -وهي تدرك هذا الشيء- وصبرت على الابتعاث وعلى التبعية للغرب، حتى أصبحت منافساً له.
بدأت كوريا من نفس النقطة، وبدأت غيرها من الدول، وهي دول لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر، لكن أدركت السنن، وأنه لابد من إعداد خطة أو منهج، ثم الصبر عليه حتى يؤتي ثماره، دون استعجال تكون فيه النهاية، وتكون فيه الانتكاسة والبدء من جديد.
أقول: إن الاستعجال يحتاج إلى حديث طويل، فنحتاج إلى أن نتحدث عن الاستعجال في أمورنا الخاصة، كالاستعجال في الزواج أحياناً، والاستعجال في قرار دخول الكلية، الاستعجال في قرار يتعلق بحياتك الشخصية، أو بإقامتك لمشروع ما، أو بأي عمل من الأعمال، لكن هذا مجاله طويل.
وقد حاولت أن أركز الحديث في القضية الأساسية التي يجب أن تكون دائماً محور حديثنا وموضوعنا.(82/6)
الأسئلة(82/7)
المواطن المحمودة للاستعجال
السؤال
هل توجد مَوَاطن محمودة للاستعجال؟
الجواب
الاستعجال الذي تكلمنا عنه، غير المبادرة إلى اتخاذ العمل الصائب والقرار الصائب في وقته المناسب، فلا يفهم أننا كنا نتكلم عن ذلك، فمثلاً من أكثر الناس حلماً الأحنف بن قيس رضي الله عنه، كان مشهوراً بالحلم في الجاهلية والإسلام، حتى ذكر في سيرته أنه كان يوماً محتبياً، فجيء له بابنه وقد قتله ابن أخيه، فلم يفك حبوته.
وقال يا بني، قتلت أخوك! ثم قال: اذهبوا إلى أم فلان، فإن رضيت، وإلا فأعطوها الدية، ولم يحل حبوته.
وقيل له: نراك حليماً! قال: "نعم إلا في ثلاث": وهذه الأشياء لا بد فيها من المبادرة وغيرها كثير، لكن هذه يذكرها على سبيل المثال: - الضيف إذا قدم: فهل تقعد وتتكئ والرجل واقف عند الباب؟! هذا ليس بحلم! ولاتقل: هذا من الاستعجال، بل قم وانهض، ورحب.
- وعند الجنازة: وهذه هي السنة، الاستعجال في الدفن، وألاَّ تتأخر.
- والبنت إذا أدركت: البنت إذا أدركت تُزوج، وهذه مفقودة الآن، إذا جاءها الخطيب، قال وليها: لا، حتى تكمل الكلية، بينما هي أدركت في المتوسطة.
وهذا في التعامل الشخصي، وكل إنسان منا يمكن أن تحصل له مثل هذه الأمور.
فالحلم والأناة لهما موضعهما، وأما المبادرة فأحياناً يحتاج الأمر إلى مبادرة، ويحتاج إلى عجلة لئلا يفوت؛ لأن هناك أموراً حاسمة، لو فاتت وذهب وقتها، لم تعد تجدي شيئاً.
ومن ذلك: أمور مجابهة أعداء الله تعالى في الحرب، وقد ضرب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه أروع المثل في ذلك.
والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء في يوم بدر، ونزل إلى الماء، وجعل الماء من ورائه، وسبق قريشاً إليه.
وهناك أمور وخطط، فيجب أن نواجه أعداء الله ونبادر إلى ذلك، ونحث الهمة ونرفعها، ونجتهد في أن نحقق أكبر قدر، وأكبر نصيب من الخير قبل أن يسبقنا عليه الآخرون، فلا تعارض بين هذا وهذا، بل الحكمة المطلوبة دائماً أن تكون الأناة في موضعها، وأن يكون الاستعجال في موضعه.
ولكن لما كان الاستعجال من حيث هو طبع غالب، فهو الذي يحتاج الحديث عنه لتقف النفوس عند مواقف معينة، فلا تغلبها هذه الطبيعة وهذا الدافع، فتنسى ما ينبغي أن تكون عليه، إذ الأصل أن يكون الإنسان حليماً، وكما نرى أي إنسان منا يذهب إلى آخر، ويراه يتعامل مع قضية بهدوء وبأناة، ثم ينتجها ويحكمها، يُسَرُّ منه، أكثر مما لو رآى أحداً استعجل ثم لم تثمر عجلته شيئاًًً.(82/8)
سبل معالجة الاستعجال
السؤال
ما هي السبل أو الأسس التي يستطيع بها الإنسان أن يعالج الاستعجال؟
الجواب
هذا يحتاج إلى التربية والتكوين، فالفرد منا -وكذلك الأمة- يحتاج إلى تربية، وإلى تكوين يستطيع به أن يميز بين مواضع العجلة ومواضع الأناة ومواضع المبادرة، بحيث يستطيع أن يضع الشيء في موضعه، فلذلك لا بد من هذا التكوين للفرد، ولا بد منه للأمة.
ومن ذلك أن ندرس ونقرأ ونتأمل سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحياة الأنبياء وجهادهم -صلوات الله وسلامه عليهم- وجهاد الصحابة والتابعين وصبرهم، وسير العلماء.
فالإنسان منا عندما يقرأ في صفة الصفوة، أو طبقات ابن سعد، ويرى هذه السير، يجد العجب العجاب، ويجد أمثلة حية.
أولئك الرجال الذين وهبهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذه القلوب الكبيرة، وهذه النفوس العالية، وهذه الهمم العظيمة، مع الأناة والهدوء وعدم الاستعجال، حققوا ما لم تحققه أجيال ولا أعمار! فلو أعطي أمثالنا أو من المتأخرين أضعاف أعمار أولئك، ما حققوا مثلما حققوا، فسبحان الله العظيم! كيف كان هؤلاء الناس؟! أقول: هذه النماذج مما يكوّن لدينا ذلك التكوين والتربية عليه، وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، وإنما الصبر بالتصبر}.
كل إنسان يحاول أن يطبع نفسه، إذا كان يعرف أنه عجل -وكل إنسان عجول- ولكن بعض الناس يعرف أن عجلته زائدة عن القدر اللازم، فإنما الحلم بالتحلم، فيعود نفسه أن يكون حليماً، ويصبر نفسه أن يتحمل، وإن كان الموقف لا يطاق، وإن كان لا يستطيع أن يتحمل، لكنه يُعود نفسه على ذلك، وقد يكون الإنسان حليماً عن صفة طبعه الله عليها، وقد يكون حليماً عن صفة هو تخلق بها وتعودها، حتى صارت صفة فيه.
ومن أعطاه الله الحلم والأناة من عنده فتلك سجية عظيمة، ومنة كبيرة، لكن لا يعني ذلك أن من لم يؤتها لا يصبر نفسه حتى يكون ممن يتحلى بها، بل يجتهد الإنسان في ذلك، والله تعالى سيوفقه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، فمجاهدة النفس في الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لتكون مستقيمة على أمر الله هذه عبادة، وتأذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لمن فعلها، واتخذ هذا السبب أن يحقق له النتيجة بإذن الله.(82/9)
المبادرة مع الخشية من الوقوع في الزلات
السؤال
أحياناً تكون المبادرة في بعض الأعمال مما يحقق مكاسب للدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولكن الإنسان يخشى أحياناً أن يبادر فيقع في بعض الزلات أو الأخطاء، كأن مثلاً يُدعى إلى جهاد أو إلى عمل في منطقة ما، فيخشى إذا تأخر أن تفوته فرصة العمل لهذا الدين ونشر منهجه الصحيح، وإذا بادر فإنه أيضاً يخشى أن يقع في زلات أو أخطاء، فكيف الحل في مثل هذا؟
الجواب
الحل سهل والحمد لله، فنحن لا نعني بالمبادرة أن يتخذ قراراً اللحظة أو الآن، كما لا نعني بالأناة أن يؤجل الأمر سنة، فهو يستطيع في أيام أو في أسابيع أن يستشير وأن يفكر وأن يخطط، ثم يمشي على بينة.
كثير من الشباب الذين يدفعهم الاستعجال في مواقف معينة، كإنكار منكر قد يؤدي إلى منكر أعظم منه، وفي أمور قد يظن أن فيها خيراً للدعوة وتكون شراً، فالمراد هو الاستعجال الآني: أن تكون الفكرة وليدة اللحظة.
أما إذا كان هناك أمر أنت مهيأ له، ثم جاءتك فرصته، فقمت، فليس هذا من باب الاستعجال، بل هذا الذي نسميه (المبادرة).
مثلاً: هناك إنسان مقبل على الله، وأنت تريد أن تهديه وأن تدعوه، ولكنك تتمهل، وتقول: حتى تأتي فرصة مناسبة! يقول أحدهم: اليوم أريد أن أعتمر، فلا تقل: دعها إلى الأسبوع الآتي ونفكر، وننظر، أو نكون مع بعض، فهذه مشكلة.
لكن إذا كان القرار موجوداً والمبادرة هذا وقتها، فانطلق أنت وإياه في أقرب وقت ممكن.
وشخص آخر يريد أن يتوب، وقال: أنا عندي بنك ربوي، وأفكر أن أتخلص منه، فلا تقل: انتظر حتى نعمل لك دراسة، ونعطي لك خبراً بعد شهرين! هذا لا ينبغي يصلح، بل نقول: ابدأ واستغفر الله، واعمل كذا، والآن آتيك وأتصل ببعض العلماء، لتعرف ماذا تعمل، وكيف، هذه هي المبادرة.
فالمبادرة تكون في الشيء الواضح، أما الشيء الذي يحتاج إلى روية، فلا بد من الروية والتفكير والاستشارة، لكن كم مدة الاستشارة؟! أيضاً قد جعل الله لكل شيء قدراً، بالمعروف والحكمة، فتكون فترة محددة، ثم بعد ذلك يكون القرار الصائب بإذن الله.(82/10)
الفرق بين الحكمة والتساهل في الدعوة إلى الله
السؤال
قد يختلط على الإنسان أحياناً التفريق بين الحكمة والتساهل في الدعوة إلى الله، فربما يتخذ مسألة الحكمة وعدم الاستعجال سبيلاً إلى التهاون والتساهل، فهل من توضيح لهذا؟
الجواب
هذه مع الأسف حقيقةً! وأصبح ذلك ذريعة للتهاون، فإذا نصحت إنساناً، فإنه يقول: يا أخي! الدعوة تكون بالحكمة.
بعض الذين يقولون هذا الكلام، لا نراه يدعو أبداً، فإذا وجد داعية يدعو، قال: لا بد من الحكمة، إلى متى الحكمة؟! وما معنى الحكمة؟! ثم هو لا يقول الحق، ولا يأمر بالحق ولا يظهره، فإذا تكلم إنسان، وقال كلمة الحق، قال: يا أخي! لا بد أن يكون بالحكمة! وهذا مما يعانيه الشباب ويعانيه الدعاة، أن هناك من يعكس الأمر.
الحكمة لا يجوز أن تكون سلاحاً في وجه من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الله؛ لأن الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دائماً معارضة لرغبات الناس ولشهواتهم؛ فالجنة حفت بالمكاره، وأما النار فحفت بالشهوات، فالإنسان إذا دعا إلى الله، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، فلابد أن يصادم رغبات الناس، فالناس يريدون أن يناموا إلى ما شاءوا، لا يريدون القيام لصلاة الفجر، فإذا قلت له: يا أخي! جزاك الله خيراً، قم صلِّ الفجر، جاءك شخص، وقال: يا أخي بالحكمة، فهل قصده ألا تكلمه البتة؟! وإذا نصحت إنساناً -زوجته متبرجة- بالأسلوب الحسن، وهو عكس رغبتها؛ لأنها تريد أن تخرج، تريد أن تذهب إلى السوق، لا نتوقع أن الأسلوب ما دام حسناً وما دام حكيماً أن الزوج يقول: جزاك الله خيراً، والمرأة تتحجب! بل ربما ينكرون ويصيحون! ويأتيك أحدهم يعاتبك، وما سمع بالقصة، ويقول: يا أخي، لو دعوت بالحكمة! وأي منكر أنكرته، أو كلمة حق أظهرتها وقلتها، فإنهم يأتونك ويقولون: لو كانت بالحكمة! لكن ما هي الحكمة؟ الإنسان قد يستنفد كل أسباب الحكمة، ومع ذلك لا يُقبل، ويكون مخالفاً لرغبات الناس، فالناس دائماً تريد المدح، وتحب الثناء، قال تعالى: {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران:188].
فإذا قلت له: أنت على خير، وأنت طيب، سُر من ذلك وهو يعرف أن هذا غير صحيح.
لكن لو قلت: يا أخي! أنت وأنت، ومدحته، ثم قلت له: هناك أمر أريد أن أنبهك عليه، وأتيته بأسلوب كأنك تحدثه عن شخص غيره وقال: يا شيخ لو كلمته بحكمة! وهذه مشكلة! فيجب علينا نحن أن نضبط عواطفنا ونفسياتنا، ولا نترك الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر ولا كلمة الحق، وأي شيء نرى فعلاً أنه بحكمة، نجتهد في ذلك، ونتوكل على الله، وعليه التكلان دائماً قبل العمل وبعده، فنتوكل عليه ونجتهد في الحكمة.
فإذا جاء إنسان وقال: هذا خلاف الحكمة.
نقول له: بَصِّرْنا كيف نعمل! فإن كان عنده بصيرة، أو رأي جزاه الله خيراً، وإن كان كما نلاحظ هذه الأيام، يريدون ألا نقول ولا نعمل ولا ندعو؛ باسم الحكمة! فهذه ليست حكمة، بل هذا خذلان وتثبيط، وترك لما أوجب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يجوز أن نقر الناس على هذا.
حقاً إن الحكمة أصبحت سلاحاً يشهر به في وجه من يدعو إلى الله، ويقول كلمة الحق، وإن كانت بأحكم ما يمكن أن تكون من الحكمة، والله المستعان! والنفوس لا تقبل الحق، وهكذا جبلت، وهكذا طبعت، لكن لا بد من الصبر عليها، ولله عاقبة الأمور.(82/11)
الاستعجال في تطبيق الفتوى مما يسبب الإرباك
السؤال
بعض الإخوة يقرأ فتوى أو حديثاً، فيتعجل ويعمل بها، وربما يلزم الناس بها، مما يسبب إرباكاً له ولغيره، فما نصيحتكم لمثل هذا؟
الجواب
نعم هذا من الاستعجال، أن الإنسان يقرأ شيئاً من العلم أو من كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو من كتاب الله، أو من كلام أهل العلم، فيستعجل في فهمه، ويستعجل أيضاً في تطبيقه وفي العمل به، فلا يتأنى ليتبين له ما معناه، وما ملحظه.
النصوص قد تعب فيها العلماء الجهابذة الكبار، في تخريجها، وفي بيان ألفاظها ومعانيها، وفي تنزيلها على مواقعها.
العلماء يقولون: لا بد من تحقيق المناط، ومن تنقيح المناط، ومن تخريج المناط، في أي نص من النصوص، لكننا الآن نقرأ النص رأساً، ولا شك أن من الخير والفضل أن يبادر الإنسان بالعمل، لكن لا بد أن تفهمه وتفهم موضعه، وأين دلالته، وما مقتضى دلالته، فكونك تستعجل وتنفذ فوراً، هو لا شك مطلوب، لكن بعد أن تفهم ما المقصود منه، وماذا يراد به، ولهذا يقول تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].
علينا أن نسأل وأن نتبين ما المقصود بهذه الآية وهذا الحديث وهذا النص، فيما يشكل علينا معناه؟ وليس هذا في أمور عباداتنا بالذات، فالأمور واضحة ومدروسة، ولكن أقول أيضاً: إن هناك أموراً خاصة في الوقائع والنوازل لا بد أن نتأنى فيها، وأن نسأل العلماء، وأن نأخذ كلامهم، وأن نستفهم ماذا أردت بهذا الدليل؟ ماذا أردت بهذه العبارة؟ ثم بعد ذلك يكون عملنا على بصيرة، والإنسان لا بأس أن يسأل عالماً أو عالمين، ويسأل من يطمئن إلى من يتحقق فيه أمران، وهما: معرفة الدليل الشرعي من جهة، ومعرفة الواقع المسئول عنه من جهة أخرى.
فإذا سألتُ إنساناً عن طبيعة عملي، -فمثلاً- أنا أعمل في بنك، فعليّ أن اسأل يعرف طبيعة البنوك، بالإضافة إلى أنه يعرف أحكام الربا، فلا بد من الشرط الثاني، كما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ، عندما سئل عن قتال التتار، قال: إن الأمر يتعلق بأمرين: الأول: معرفة حالهم، والآخر: معرفة حكم الله في مثلهم، فننزل الحكم على محله، فيكون الحكم صحيحاً.(82/12)
حال من يشكو من صراع نفسي
السؤال
يقول السائل: إن هناك صراعاً نفسياً يصاحبه -وعبَّر أنه يصاحب كل ملتزم بهذا الدين- فهل هذا الصراع من الابتلاء الذي ابتلاه الله عز وجل به؟ ويقول: إنه ساءت نفسيته بشكل شديد جداً، حتى أصبح يطلب النصر من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لشدة ما يعانيه هذا المبتلى، فبماذا تنصحون هذا الأخ؟
الجواب
ليس كل تائب، وكل مقبل، وكل منيب إلى الله، يعاني من ذلك، ولكن عموماً كل من دعا إلى الله أو أقبل على الله وتاب، لا بد أن يجد ما يشق على النفس، أو ما يجهدها، من داخل النفس أو خارجها، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:31]، وللنفس دائماً ثلاث حالات لا تخلو عنها: إما النفس الأمارة بالسوء، أو النفس اللوامة، أو النفس المطمئنة، فالأمارة بالسوء -وهذه عند أكثر الناس إلا من رحم الله- دائماً أنفسهم تأمرهم بالسوء.
والمؤمن نفسه لوامة، تأمره بالسوء أول الأمر فيفعله، ثم تلومه عليه: لماذا ذهبت إلى السوق من غير غرض شرعي؟ لماذا نظرت النظرة المحرمة؟ لماذا قلت الكلمة الآثمة؟ فتلومه -كما فسرها السلف - على ما فرط وما بدر منه.
الثالثة هي: النفس المطمئنة وهذه هي الدرجة العالية.
والنفوس المطمئنة: هي التي يصبح الخير والحق هو همها، وهو ديدنها وهو حياتها، وهذه من نعم الله إذا منَّ الله تعالى على الإنسان، بأن تصبح نفسه مطمئنة.
فالأخ المهتدي والمستقيم في مرحلة النفس اللوامة، يجد ربما ما يسميه بعض الإخوة الصراع النفسي، وأنه متردد، تأتيه دوافع للقنوط، ودوافع للرجاء والأمل، الخوف والرجاء دائماً يتصارعان في نفسه.
ويأتيه حب الخير والإقدام عليه من جهة، ومثبطات ومخذلات من جهة تكبله.
يريد أن يحفظ القرآن وأن يتعلم العلم، ولكن يأتيه ما يعيقه.
فتجده يعاني ما يعاني من الصراع.
فالأب والأم والأهل والزوجة، والأقارب والزملاء في العمل يريدهم أن يهتدوا، هذا من جهة، ومن جهة قد لا يمتلك أسباباً تعينه في الدعوة، فيعاني هذا الصراع.
وكل إنسان يعانيه، لكن علينا أن نأخذ بالأسباب وبما أمر الله ونجتهد، ونصبر حتى نستكمل ما أراد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن لم يصل الإنسان إلى مرحلة النفس المطمئنة، فعلى الأقل يلقى الله، وهو يجاهد نفسه لكي تكون مطمئنة.
وما ذكره الأخ من الضراعة في الدعاء لطلب النصر، هذه نعمة، فشعورك بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ابتلاك بهذه البلوى، وتضرُّعك ولجوءك إليه نعمة، كما قال ابن القيم رحمه الله: 'إن الإنسان يلجأ إلى الله ويتضرع إليه، فيجد من حلاوة مناجاة الله ومن لذة الدعاء، والتذلل، والتضرع إلى الله، والانكسار بين يديه، نعمة تنسيه النقمة التي يدعو الله أن تزول عنه، أو تنسيه النعمة التي يطلبها من المنعم'.
التضرع والدعاء نعمة، والذكر نعمة، ولهذا قال شَيْخ الإِسْلامِ: 'إنه ليأتي عليَّ أحوال، فأقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي نعيم' ويشعر الإنسان أنه مع الله، وأن عمله مع الله، وأنه مستمسك بحبل الله وبالعروة الوثقى من عند الله، ويصل إليها الإنسان المؤمن بإذن الله بمثل هذه الحالات، بمرض، وبمحن، وبالآلام.
وكل رسول، وكل داعية يبتلى ويمتحن ويفتن ويُؤْذى، فيجد مثل هذه النعمة في طريقه إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(82/13)
حال الشباب المذبذبين
السؤال
بعض الشباب هداهم الله تتذبذب آراؤهم في كل حين، فتراه في الليل له رأي، وفي النهار له رأي، وينتقلون أحياناً من النقيض إلى النقيض الآخر، فما نصيحتكم لهؤلاء الشباب؟
الجواب
هذه علامة من علامات الاستعجال: عدم الانضباط، التذبذب، وهو مرض في بعض الناس حتى إنه في قراراته الشخصية اليومية يتعب، وبعض الناس يمهد لنفسه أن يصاب بهذا المرض، وذلك لأنه لا يحسن الأمر، ولا يأخذه من أبوابه، بل عجلته في اتخاذ قرار معين هي التي تجعله يندم، ثم تجعله يستعجل في القرار المضاد، ثم يستعجل بضده وهكذا.
من أعظم صفات المؤمنين الاطمئنان والسكينة، ولذلك فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما امتن على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنزل عليه سورة الفتح قال: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح:4].
وقد كانت النفوس جياشة، كيف يكون هذا الصلح؟! أنرضى بالدنية في ديننا؟! وكانت القلوب تغلي من الحدث، فلما أنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى السكينة في قلوبهم، واطمأنوا وتأملوا، وأيقنوا أن ما وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الخير، وأن ما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الخير.
ثم ثبت ذلك في العام الذي بعده، فما بعده، وإذا به فعلاً يكون الخير ويكون الفتح المبين كما قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1]، فهذا فضل عظيم، وفرح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جداً لما نزلت عليه هذه السورة.
الطمأنينة والسكينة من صفات النفوس المؤمنة، ويجب أن نسعى إلى أن تكون نفوسنا إن شاء الله كذلك، فنطمئن دائماً بذكر الله {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
تطمئن أيضاً القلوب وتسكن بالتفكر في وعد الله، وفي أنَّ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإن أملى وإن أمهل فإنه لا يهمل أبداً، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لن يخلف وعده، وأن نصره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى متحقق، وأن عافيته ستأتي وإن كنا في حال البلاء، وأن نصره سيأتي وإن كنا في حال الهزيمة، وأن عزه سيأتي وإن كنا في حالة ضعف، وهذا مما يطمئن الإنسان به نفسه، ويجتهد في ذلك حتى يأتي الفرج بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
أما أن تكون صفة الشباب هي التذبذب، فهذا دليل على أنه ليس لديه ثبات علمي، ولا ثبات في الرأي، ولا استشارة ممن يملكون الرأي، وأحياناً قد يشار عليه ولكنه لا يفعل، ولا يريد أن يفعل، فينقلب ويتخبط، وهذه آفة نسأل الله تبارك وتعالى أن يرفعها عن الشباب وأن يبعدها عنهم.(82/14)
الكلام حول التنظيم الأصولي والإرهاب
السؤال
في جريدة الحياة كتب أحدهم موضوعاً عن فشل التنظيم الأصولي -كما يسميه- ثم بعد أن تكلم عن هذا قال: إنه سيتكلم في عدد لاحق عن كيفية مواجهة الإرهاب، يقول السائل: من المقصودون بهذا؟
الجواب
الأصوليون أنتم وأنتم المقصودون، كان الغرب يتكلم عن الأصولية الإيرانية كما تسمى أيام الخميني، ثم عرفها وعرف حقيقتها، وعرف ما قدمت له من رصيد لمحاربة الإسلام من أفعالها ومن تصرفاتها.
والآن إذاعة لندن تسمعونها قبل أحداث الخليج ومن سنوات تتكلم بذلك، وكذلك مونتكارلو، وصوت أمريكا.
الكلمة البديلة، والتي يخشون من ظلالها، والأصولية الحقيقية التي يخافونها هي ما يسمونها بـ الوهابية.
يقولون: الجهاد الإسلامي في أفغانستان نوعان، التنظيمات الوهابية، وهذه التي لا تقبل مساومة.
وأما التنظيمات الأخرى فهي التنظيمات المعتدلة، بمعنى أنها تقبل الحكم الديمقراطي والنيابي، وهذا هو المعتدل عندهم.
الأصولي: من يرجع إلى الأصول، أي: إلى قال الله وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم لا يريدون إلا المعتدل في نظرهم، والوسط على مزاجهم، أما الذي يريد الحق كما أمر الله، وكما أنزل الله، فلتأته التهم، ومنها أنه أصولي، ويربطون بين الإرهاب والأصولية.
باول شميدس في كتابه الإسلام قوة الغد العالمية، يقول عبارة خطيرة جداً لكنها حقيقة، يقول: 'إنه قد تبين من التاريخ أو من استقرائه أنه أينما وجدت الحركة الوهابية، فإنه يوجد معها مقاومة الغرب ومقاومة الاستعمار'.
لأن منهجهم قال الله، قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنهج الغرب وحضارة الغرب وإلحاده وكفره شيء آخر، فلا يجتمعان، وقد وجدوها هم في جزيرة العرب وهي منبع ومهبط الدعوة.
في الهند عندما كان عباد الأبقار قد استسلموا للإنجليز حتى كان الإنجليزي -خاصة من أهل اسكتلندا - من شحه لا يركب قطاراً ولا يركب حماراً بل يركب على ظهر الهندي، ويمشي به مسافة بعيدة.
وأما المسلمون فكثير منهم من تخاذل وركن إلى الدنيا، ومن جاهد وقاوم الاستعمار الإنجليزي وجدوا أنه متأثر بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، أو على منهجه.
وجدوهم في نيجيريا: عثمان بن فودي ومن معه.
وجدوهم في الصومال وجاهدوهم.
حتى مهدي السودان أصل دعوته كانت على منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب من التوحيد وهدم القبور، ثم دخله الفساد -والعياذ بالله-، لكن أول دعوته كانت محاربة الشرك والبدع.
وكذلك عمر المختار في ليبيا.
والأصولية الوهابية التي ترجع إلى الكتاب والسنة، أو الحنبلية كما تسمى أحياناً، وهي ألقاب ينبزون بها من يدعو إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
الأحداث الأخيرة غطت على ما حدث في الجزائر، بغض النظر عن رأينا الكلي فيها حدث.
وهناك عبرة معينة أريد أن أسلط الضوء عليها الآن: لقد انزعجت الصحافة الفرنسية وانزعج الغرب انزعجوا جداً من انتشار الأصولية في الجزائر؛ لأنهم عرفوا دعوة الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله، وأنه أقام الدعوة على أساس التوحيد، ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كما جاء بها، وكتب عن الشرك والبدع والخرافات.
وكان من منهج الشيخ عبد الحميد أن أول ما يبدأ به هو محاربة البدع والخرافات عند الشعب، حتى ينتشر العلم الشرعي، ثم الولاء والبراء، ثم الجهاد، وهي مرحلية لم يفطن لها الاستعمار، ولهذا تركوه أول الأمر يدعو، وتركوه يفتح الصحف، وما فطنوا إلى أنه لا يرضى بالوجود الفرنسي.
لكنه -رحمه الله- يريد أن يبدأ بالأساسيات، مرحلة الدعوة أولاً.
نقول: تحليلات خطيرة جداً غطت عليها الأحداث الأخيرة، وكانت دائماً ترددالأصولية في الجزائر، الأصولية هنا، والحادث الذي جرى في جزر ترينداد، ربطوه بالأصولية وبـ الجزائر، وقالوا: الأصولية خطر يهدد العالم، لكن جاءت أحداث أخيرة وطغت على ذلك، والله المستعان!(82/15)
المستعجلون من الشباب في طلب العلم
السؤال
بعض الشباب يستعجل في الوصول إلى أعلى درجات العلم والعلماء، حتى إنهم يقولون على الله بغير علم، ويفتون بغير علم، وبعضهم يقرأ كتباً أعلى من مستواه، ومن مستوى إدراكه، فما نصيحتكم لهؤلاء؟
الجواب
هذا من أنواع الاستعجال: الاستعجال في طلب العلم، وقد قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه لما فسر الربانيين {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79] قال: [[ومن يربي الناس بصغار العلم قبل كباره]].
ولا يعني بالصغر والكبر أن الصغيرة النوافل والكبيرة التوحيد.
إنما يعني بالصغار: البديهيات والمسلمَّات الواضحة، والكبار: هي الأمور المعقدة والصعبة، ودائماً أقول للإخوة الكرام: ابدءوا العلوم بدراسة متون معينة، مبسطة، ثم خذ شرحاً مبسطاً عليها، ثم توسع فيما بعد ذلك وهكذا.
لكن عندما يأتي بعض الإخوان يريد أن يبدأ في طلب العلم، فيبدأ في الكتب الكبيرة، فبعضهم قال: بدأنا بـ فتح الباري، والأخ الثاني يقول: بدأنا بـ مجموع الفتاوى.
سبحان الله! إنني عندما أقرأ في فتح الباري، أجد أنني أحتاج في صفحة واحدة إلى أن أراجع عدة كتب، وأن أنقب، وأن أفتش، وأن أكلم المشايخ بالتلفون، فالمسألة ليست سهلة، ويمكن أن يكون هناك من فتح الله عليه، لكن أنا أقول فيما نرى وما نعلم من تكويننا وتربيتنا جميعاً؛ لأن دراستنا دراسة نظامية، وهي لا تعطينا الزاد الكافي لمثل هذه الأمور.
كذلك مجموع الفتاوى لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، بعض الكلمات مع الأسف مطبوعة خطأ، ويأتي من يشرحها، وقد تمرس على كلام شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، فيشرحها خطأ.
وأحياناً تكون غير مشروحة في الهامش، أو غير واضحة، أو واضحة، لكن لم يفهمها؛ لأنه رجل عميق، يكتب في بحور من العلم عميقة وغزيرة، يحتاج كلامه إلى أن يفهم على مستوى معين، فلا نستعجل فنطمر الأمور طمراً.
إذا بدأنا بـ فتح الباري، ومجموع الفتاوى ننتهي بـ عمدة الفقه، أو بـ الأربعين النووية بدأنا السنة من أعلاها، ولم نأخذ الأمور من أولها.
بعض الإخوة يبدأ بالقراءات، ولا أعترض على من لديه دراسة منهجية يمكن أن يحفظ القرآن بالقراءات، لكن بالنسبة للحالات العادية، وهي من كان مثل حالة معظم الإخوة، الذين يعيشون طبيعة دراسية نظامية مع عمل وأسرة، فهذا أقول له: ابدأ بما أمكن أن تبدأ به وأتقنه، ثم انتقل إلى ما بعده.
والسلف الصالح رضي الله عنهم ضربوا لنا المثل في عدم العجلة فقد كانوا يطلبون العلم ويرحلون في طلبه، ثم يحدثون، لا تجد أحداً من العلماء ابتدأ يحدث، بل تعلم وحفظ وطلب العلم، ثم حدث.(82/16)
السيرة النبوية ومراحل الدعوة
السؤال
لا شك أن قراءة سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودراستها مما يقي الإنسان من الوقوع في العجلة وفي الاستعجال، ولكن هل يلزم الداعية إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يدعو سنين دعوة سرية كما فعل عليه الصلاة والسلام، ثم ينتقل إلى الأقربين وهكذا، أي ثلاث عشرة سنة مثلاً بحال معين، وأخرى بحال أخرى، أم أن الاستفادة تكون عامة؟
الجواب
لا شك أن دراسة سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضرورية، وهي الأساس الذي يجب على كل داعية أن يتخذه منهجاً في دعوته، فهو الأسوة الحسنة لنا، لكن فرق بين التقيد الحرفي بوقت الدعوة، بمددها ومراحلها، كما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبين أن ننظر إلى ثمرة المرحلة، ونهاية المرحلة، وغاية المرحلة، فالوضع غير الوضع.
فقد بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوم كفار، كما هو معلوم، ولكن نحن الآن في أمة مسلمة، ولكنها تحتاج إلى تصحيح، هذا أحد الفوارق وأهمها، وهناك فوارق أخرى.
فننظر إلى الثمرة، فما هي ثمرة المرحلة الأولى؟ وما غايتها؟ غاية المرحلة الأولى السرية هي إيجاد أناس إذا ظهروا فيما بعد يكون لديهم قوة، لا يستطيع الأعداء أن يستأصلوهم، وإن كانوا سيؤذون، وقد أوذوا، فإذا وجدت الدعوة في بيئة لا تحتاج إلى هذه المرحلة؛ لأن الفئة المؤمنة يمكن أن تظهر أو هي ظاهرة، بمعنى أنها واضحة، ومع ذلك لم تستأصل، فهذا خير.
إذاً: لا نحتاج إلى المرحلة الأولى لأن ثمرتها موجودة والهدف منها موجود.
مرحلة الجهاد: نقول أيضاً: لو وجدت أمة تعيش في مرحلة يمكن أن ننقلها رأساً إلى مرحلة الجهاد، نقول: على هذه الأمة أن تجاهد، وننقلها إلى الجهاد، ونستكمل بعض أمور التربية في الجهاد، وهذا صحيح.
لكن إذا وجد أن الأمة تحتاج أولاً إلى الدعوة والعلم والإعداد للجهاد، والجهاد لا نقصد به جهاداً معيناً في بلد معين، بل الجهاد باعتباره حالة دائمة، فالأمة الإسلامية في جميع عصورها في حالة استنفار دائم، ويجب أن تكون مناهجها مناهج جهادية، وحياتها حياة جهادية، فجهاد الطلب عندنا هو الأساس.
ومفروض أننا نصلح أوضاع الأمة هذه، ثم نقوم بجهاد الطلب، ونقاتل.
وجهاد الطلب غير جهاد الدفع، فجهاد الطلب: أن نذهب إلى الصين، إلى الروم، نغزوهم في بلادهم، لندخلهم في دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهكذا يجب أن تكون حياة المسلمين جميعاً، فنعد العدة لهذا الجهاد.
نعد الأمة في مرحلة الدعوة لهذه المرحلة التي هي آخر المراحل وهي مرحلة الجهاد، فيبسط الله سلطان هذا الدين في الأرض، ويُمكّن له، ويورث الأرض عباده الصالحين كما وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويمكّن لهم، ويورثهم الأرض بهذا الأمر.
إذاً: يكون الأمر بحسب البيئات وبحسب أحوال الناس، وبحسب المقصود بتلك المرحلة، أما التقيد الحرفي فليس صحيحاً كما يظن بعض الإخوة.
بعض الجماعات أو الدعوات فهمت تكفير المجتمع بناء على المرحلة المكية، وأسقطت كثيراً من التكاليف، وقالوا: نحن في المرحلة المكية، وهذا من أكبر الأخطاء الدعوية.
ومن جملة ما فيه من أخطاء: أنه نسخ أحكاماً ثابتة قطعية، بدعوى أو بزعم الرجوع إلى مرحلة قد نسخت وانتهت.
فلا بد من إدراك متأنٍ ومتفقه، في مسألة الفرق بين هذه المراحل، وبين ضرورة الإفادة من سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا شك أنها الأساس، والصحابة الكرام -رضوان الله تعالى عليهم- كانوا ينظرون إلى واقع الأمة، فيبنون على الواقع الموجود، فعندما وصلت الأمة إلى مرحلة الصفر، كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما بدأ دعوته من مرحلة الصفر، ومثل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، حيث جاء والأمة قد نزلت إلى الصفر إلى الشرك، فما بعد الشرك شيء، وابتدأ يدعو كما دعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى التوحيد، وابتدأ قليلاً قليلاً ثم قامت من جديد ولله الحمد! لكن في عهد الإمام أحمد كان الانحراف في مسائل معينة كلامية مثل خلق القرآن وما أشبهه، فقاومها، وقضى عليها، والحمد لله! الأمة صالحة وهكذا، فالمرحلية يجب أن تفهم فهماً صحيحاً.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(82/17)
قيمة العمر
تحدث الشيخ حفظه الله عن موضوع مهم قد غفل عنه الكثير منا ألا وهو قيمة عمر الإنسان، وما الذي يجب أن يمثله هذا العمر بالنسبة للمسلم، وضرب أمثلة لذلك من واقع السلف وحرصهم على أعمارهم، كما أورد نقيض ذلك من الأمثلة التي تصور تفريطنا في أعمارنا رغم أنها أغلى ما نملك، ثم ختم حديثه بالحث على استغلال الأعمار في طاعة الله.(83/1)
خلفة لمن أراد أن يذكر
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، الحمد لله الذي هدانا للإيمان، أما بعد: فإن الموضوع الذي نريد أن نتحدث عنه موضوع عظيم -وإن كان ليس جديداً- ولكن يجب أن نذكره، ألا نغفل نغفل عنه، فإن الله تبارك وتعالى خلقنا في هذه الحياة الدنيا لحكمة عظيمة وغاية جليلة، وجعل الليل والنهار وهذه الأعمار مطايا وأوعية لهذه الغاية وتلك هي الحكمة {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115].
إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يخلقنا عبثاً، ولم يتركنا هملاً، وإنما جعل لنا هذا الدين، وبعث إلينا هذا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنزل إلينا الكتاب، وعمَّرنا ما يتذكر فيه من تذكر، ولهذا يقول تبارك وتعالى لأهل النار: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] فقد عمر الله تعالى هؤلاء القوم ما يتذكر فيه من تذكر وأعطاهم من العمر مهلة وفسحة تكفي بأن يعتبر من يعتبر، وأن يتفكر من يتفكر، وأن يتذكر من يتذكر، وأن يتأمل كل أحد، لماذا جئت؟ ومتى سأرحل؟ وبأي وجه ألاقي الله تبارك وتعالى؟ فمن آياته عز وجل أنه {َهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] فجعل الليل والنهار خلفة أي متواليين يخلف أحدهما الآخر {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً اً} [الفرقان:62] فمن أراد أن يتذكر أو يعتبر فلينظر إلى هاتين الآيتين العجيبتين الليل والنهار، فلو أن الله تبارك وتعالى جعل النهار علينا سرمداً إلى يوم القيامة، أو جعل الليل كذلك وكانت الحياة لا تتغير ولا تتبدل لغفلة كثير من الخلق عما يعد لهم، وكان ذلك أدعى أن ينسوا الموت ولا يتفكروا في النهاية والعاقبة، فيظلون يعملون ويكدحون حتى يأتيهم الأجل، لكن من حكمة الله تبارك وتعالى أن جعل هذين يتداولان ويخلف أحدهما الآخر.
فأنت في نهار يعقبه ليل، وفي ليل يعقبه نهار، فتعلم أن انقضاء النهار ومجيء الليل هو انقضاء لعمرك وانقضاء لجزء منك، كما قال الحسن البصري رحمه الله: [[إنما أنت هذه الأيام فإذا مضى منك يوم فقد مضى بعضك]] وذلك إلى أين؟ إلى الدار الآخرة كما قال علي رضي الله تعالى عنه: [[ألا وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، وإن الدنيا قد ولت مدبرة، وإن لكلٍ منهما بنين فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا ومن أبناء الدنيا]] فكل يوم يقربك ويدنيك من القبر ومن الآخرة، ويبعدك عن الدنيا ومتاعها وعن لحظة الميلاد، والعمر إنما هو بين الميلاد إلى الوفاة.(83/2)
حقيقة العمر
ولو تأمل العاقل وفكر لوجد عجباً مما يغري الناس ويلهيهم ويطول أملهم، يجد أن ما مضى من العمر أحلام، وما بقي منه أمانٍ كما قال بعض السلف: ما مضى أحلام، كالنائم إذا نام ورأى في المنام ما يعذبه ويؤذيه، ثم أفاق وقد ذهب ذلك الألم، أو رأى في نومه ما يسره ويفرحه ويبهجه، ثم أفاق وقد ذهبت تلك البهجة وتلك الفرحة.
فانظروا بارك الله فيكم فيما مضى من أعماركم أهو حلم قد انتهى؟ ما كان فيه من راحة أو متعة أو فرحة أو لذة أو بهجة -فالعمر هو كما ما ترى في المنام- وما كان غير ذلك وخاصة إذا كان من معصية الله تبارك وتعالى فقد وقع، كما قال أحد التائبين رضي الله تعالى عنهم قال: {{ذهبت اللذات وبقيت التبعات}} وأما ما بقي من عمرك فهو آمال، ولا تدري هل تتحقق أم لا تتحقق، فلهذا يقول الله تعالى في حق الكفار: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3]، وكما في الآيات العظيمة {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2].
هذا المستقبل آمال قد تموت الليلة أو غداً أو بعد غد، وقد لا تدرك مما تؤمل شيئاً، ولهذا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {عش في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل} وهذا حال المؤمن، ولذلك قال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه لما روى الحديث قال: {إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء} وهو يفسر كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعناه، هذه حقيقة المؤمن أنه في الدنيا كالغريب أو عابر السبيل الذي لا ينوي الاستقرار، وإنما يتأهب ويتهيأ ويستعد للرحيل، فما لديه من ساعات أو أيام في سفره فهي استعداد وتهيئة لكي يصل المقر الذي يكون فيه.
ولهذا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الآخر: {مالي وللدنيا! ما أنا فيها إلا كراكب قال تحت شجرة ثم قام وتركها} أي: أنه ارتاح وقت القيلولة تحت شجرة ثم قام وتركها، هذا هو حال الدنيا، والعمر هو فترة القيلولة هذه، تبقى ثم ترتحل وتترك هذه الشجرة، فما حال الذي يعلم أنه إنما يعيش مثل هذه القيلولة؟ هل رأيتم مسافراً ذهب إلى صحراء في وسط الطريق بين البلد الذي خرج منه، والبلد الذي يريد الوصول إليه فأقام هناك، ووسع الفراش ووطَّأه، وأتى بكل أدوات الاستقرار، وأقام هناك وقال: هذا مكاني؟! لا يفعل ذلك عاقل أبداً، لأنك راحل، وليست هذه دار مقام.
ولهذا ذكَّر الله تبارك تعالى، وذكَّر الرسل الكرام، وذكَّر عباد الله الصالحون بهذه الحقيقة قال تعالى: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر:39] {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38]، قليل: زينة وتفاخر وتكاثر، ولكن تذهب كما يمضي الليل أو كما يمضي النهار، ويقول بعض السلف في هذا: [عجبت لمن كان يومه يأكل شهره، وشهره يأكل سنته، وسنته تأكل عمره وهو في غفلة] اليوم الذي يمر ينقص من الشهر يوماً، والشهر الذي يمر ينقص من السنة شهراً، وكلما مرت عليك سنة فقد قلَّ من عمرك.
فقال العلماء في قول الله تبارك وتعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر:37] بعضهم قال: إنه أربعون سنة، لأن الله تبارك وتعالى يقول: {إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف:15] فالأربعين كافية بأن يتذكر الإنسان، وقال بعضهم: لا.
بل نستند إلى قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة} فبعدها يتوقع الموت أو القبر.
لو فرض أن عاقلاً يريد أن يسافر إلى مكان أو أنه مشى في طريق طوله ستون ميلاً، فوصل إلى لوحة مكتوب عليها الباقي ثلاثون ميلاً فإنه سيقول في نفسه: لقد اقتربت لأنني الآن في النصف، وكل شيء مضى منه نصفه فهو قريب الانتهاء، وإذا كنت مسافراً إلى المدينة -مثلاً- والمسافة هي حوالي 400كم من مكة أو جدة فوجدت لوحة أمامك 200 كم تقول: الحمد لله، اقتربنا من المدينة وهكذا حياتنا.
وهكذا في كل شيء من حياتنا إلا في الموت والعمر، لهذا يقول الحسن البصري رحمه الله: [[ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت]] الموت هو الشيء الوحيد الذي نخل فيه بهذه القاعدة -قاعدة رياضية بسيطة سهلة نستخدمها في حياتنا كلها- إلا في العمر والموت، فلا تجد ابن الثلاثين منا يقول: أنا عمري ثلاثين إذن أنا اقتربت من الموت، وكل من رآه قال: تبارك الله! ما زلت في عز الشباب وبدايته، مع أن كثيراً من الناس لا يبلغون الستين، ولهذا قال بعض الحكماء: ' أكثر الناس يموتون وهم شباب' وإذا أردت أن تتأمل ذلك فلاحظ أن أكثر الناس يموتون وهم شباب أي لا يبلغون إلى الستين، بل يموتون بعد الأربعين أو ما حولها، وانظر إلى قلة الشيوخ في القرية أو في الحي، وهذا دليل على أن أكثرهم ماتوا وهم شباب.(83/3)
الإنسان بين الغبن والنذير
فإذا كان هذا الحال فتأمل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ} ولهذا قال بعض السلف (إن المغبون من غبن الليل والنهار) ليس المغبون هو الذي اشترك في بضاعة فذهبت أو أكثرها، أو اجتهد لينجح في دراسة ففشل، فأكبر مغبون في هذه الدنيا هو المغبون في عمره، فيذهب الليل في المرح والسهر والنوم، ويذهب النهار في اللهو واللعب وفي أعمال لا تنفعه، فغبن عمره، وفي النهاية يجد نفسه نادماً حاسراً يتمنى الرجعة قال تعالى عنهم: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100].
فيقول: كلا.
فقد عَمَّرك الله ما يتذكر فيه من تذكر، وجاءك النذير، والأولى بتفسير الآية أن أي وقت أمكن لأحد فيه أن يلقى الله ويتذكر الآخرة فقد عمَّره الله، وأبلغه الله ما يتذكر فيه من تذكر.
أما النذير فقد قال بعض العلماء: (النذير هو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ولا شك أنه نذير وبشير ومنذر كما جاء في الذكر الحكيم، لكن بالنسبة لكل واحد منا فقد جاءه نذير أكثر من ذلك، النذير: اسم لكل ما ينذرك بدنو أجلك وقرب ارتحالك، فالنذير هو القرآن وهذا حق، والنذير محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد جاءنا وعلمنا وهذا حق، والنذير هو: الشيب كما فسر ذلك أيضاً بعض السلف، فالشيب إذا ظهر فهو نذير، وإن لم تره فيك ورأيته في غيرك فاعلم أن غيرك أيضاً سيرحل، والنذير أيضاً: الموت، إذا رأيت الموت قد حل بمن تعرف، فاعلم أنه إن أخطأك اليوم وتعداك إلى غيرك فإنه نازل وواقع بك غداً، إذاً جاءك النذير مما تراه في مخلوقات الله تعالى.
جاءك النذير من أحوال الغابرين من أهل الحضارات القديمة، أين الذين أخبر الله تعالى عنهم ممن بنوا وشادوا، أثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمرها من كان قبلهم وقال الله تبارك وتعالى عنهم: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} [سبأ:45] أين هم؟ أين الذين قال الله تبارك وتعالى عنهم: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:128 - 130] أين عاد؟ أين ثمود؟ أين قوم نوح؟ أين فرعون ذو الأوتاد؟ أين وأين كل هؤلاء قد ذهبوا، إذاً جاءكم النذير.
مَن مِنا يستطيع أن يقول: ما جاءني نذير، أو ما علمت وأتاني الموت فجأة، أو أتاني أمر الله غفلة، لا أحد له عذر.(83/4)
الغافل من فرط في عمره
يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا أحد أحب إليه العذر من الله} ولذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب، وأقام الحجة على الخلق فلله الحجة البالغة على الخلق جميعاً، وإنما هي الغفلة وإنما هي الغباوة، كما جاء في الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وكل شيء يذكر الله تبارك وتعالى} فالسماوات والأرض والجبال والطير والأنهار، وكل ما في الوجود يذكر الله وأعظمهم ذكراً الملائكة، وما استثنى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا طائفتين لا تذكران الله تبارك وتعالى قال: {إلا المردة من الشياطين والأغبياء من بني آدم} فالمردة هم شياطين الجن، وهم شر محض لا إيمان ولا خير فيهم، وهؤلاء لا يذكرون الله تبارك وتعالى.
وكل يوم تطلع فيه الشمس عليك صدقة -كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكل يوم محسوب عليك، وأقرب مثال نراه نحن -الآن- في حياتنا هو هذا التقويم الذي يعلق في البيوت وفي المساجد، إذا أخذت كل يوم منه ورقة تفاجأ وإذا به قد انتهى وهكذا العمر كل يوم تأخذ منه ورقة، وإذا بالعمر فجأة ينتهي، فهذا فيه عبرة لمن اعتبر.
ومن العجب أن بني آدم أحرص شيء على هذه الدنيا، ولو تفكر ابن آدم لوجد أنه من أقل مخلوقات الله عمراً، سبحان الله! فبعض الطيور يعيش 300 سنة أو 400 سنة، والأشجار تجد الشجرة عند البيت من عهد جدك ومن قبله ولا تزال موجودة، ويموت الابن وابن الابن والشجرة موجودة، أما الجبال والبحار فهي أكثر بكثير، ولكن الإنسان يظن أنه الوحيد المخلد الذي يمتلك هذه الدنيا، ولذلك لو تأمل العقلاء ما اختلفوا وما اقتتلوا، وما بغى بعضهم على بعض من أجل قطعة أرض، أو من أجل بئر، هذه الدنيا طوت قبلنا أمماً عظيمة وقروناً طويلة، وسوف نطوينا بعد كذلك.(83/5)
الغفلة عن الآخرة
إن كل ما نرى في هذه الحياة الدنيا مما يتقاتل عليه الناس، ويبغي بعضهم على بعض بسببه، وما يشغلهم عن ذكر الله من أراضٍ أو دور أو عقار ما هو إلا عارية عندهم ينتقل من بعضهم إلى بعض، وكلما انتقل إلى شخص قال: هذا بيتي هذه أرضي هذا ملكي، ولو تأمل في حاله فسيرى أنه ما وجد إلا أياماً قليلة بالنسبة لعمر هذه القصور التي كانت قبل ثلاثين أو أربعين سنة تعد أفخم وأعظم وأفخر القصور، والتي لو تهدى إلى بعض الناس اليوم هدية والله ما يقبلها، وإنما يقال: انتبه لا تذهب إليه هذا خرابة، وفيه جن -مثلاً- أو كذا -سبحان الله! - أليس هذا من الدلائل الواضحات؛ على أن هذه الدنيا لا تستحق أن نتنافس من أجلها، ولا أن نتدابر أو نتقاطع أو نتهاجر ونتحاسد من أجلها.
وإنما الواجب أن نعمر أوقاتنا ونستغل حياتنا في ذكر الله، وفي عبادته، وفي طاعته، وفي العمل بما يرضيه، ولا يعني ذلك أن نتركها، وألا نقتني البيت الحسن، أو المرأة الصالحة، أو المركب المهيأ، ما قال أحد بذلك لا في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن المشكلة هي الغفلة عن الآخرة بالكلية وأن نتعلق بهذه الدنيا، ورحم الله من قال:
والله لو كانت الدنيا بأجمعها تُبقي علينا ويأتي رزقها رغدا
ما كان من حق حرٍ أن يذل لها فكيف وهي متاع يضمحل غدا
يقول: لو كانت الدنيا هذه باقية، وأننا مخلدون فيها ومتاعها يأتينا رغداً، ونحن إن شئنا بقينا فيها، وإن شئنا قلنا يا رب نعمل صالحاً وتنقلنا إلى الجنة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وفكروا في هذه المعادلة لو قيل لك كذلك: أنت مخير بين هذه الدنيا فتدوم دواماً أبدياً لا نهاية له ولا موت فيه، ونعيمها دائم وهو نعيم دنيوي، أو أن تعمل فيها وتجتهد لطاعة الله وتقول: يا رب انقلني إلى الجنة التي فيها هذا النعيم الذي ليس في الدنيا منه إلا الأسماء، ماذا يختار العاقل؟ العاقل يقول: لا أختار الدنيا على الآخرة، فهو متاع قليل زهيد لا يساوي شيئاً، بل أختار أن أجتهد، وأن أعبد الله وأقول: يا رب اجعلني من أهل الآخرة، وانقلني إليها حتى أنال هذا النعيم، فهذا لو كانت الدنيا دائمة، ونعيمها يأتي رغداً، فكيف وهي مضمحلة زائلة، وتخرج منها مضطراً من غير خيار؟!(83/6)
نماذج للقدوة في شغل العمر بالطاعة
قال بعض السلف عندما زاره أخٌ له في الله فرأى بيته، ورثة حاله، وقلة متاعه، فقال له: إن هذا حال من يتهيأ للرحيل، قال: أهو ارتحال؟! إنما أطرد طرداً، أي ما هو بارتحال على هوانا، بل نُخرج وننُتزع ونُطرد من هذه الدنيا، إذاً هل يختار العاقل متاعاً قليلاً وضئيلاً ونكداً ومنغصاً لا تدوم نعمته ولا لذته ويطرد منه وينزع منه بلا مقدمات فجأة؟ كما قال الله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16 - 17] لا يفعل عاقل ذلك أبداً؛ لكن هذا حالنا قال تعالى: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [الإنسان:27].
والواجب على المؤمنين المتذكرين المعتبرين الذين أعطاهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى العقول والألباب ألا يكونوا كذلك، بل لابد أن يعلموا أن أعظم نعمة أعطوها في هذه الحياة الدنيا أن يعطى من العمر ومن الصحة والفراغ ما يعبد الله تبارك وتعالى فيه ويتقرب إليه، ولا يخسر من وقته شيئاً ولا كلمة {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].
بعض السلف جاءته ابنة له وهو بين إخوانه في الله قالت: يا أبت أريد أن ألعب فأعرض عنها، فقال الآخر: قل لها تلعب، قال: لا أريد أن أجد في صحيفتي لعباً، وهذا جائز وليس فيه شيء أن يقال ذلك؛ لكن من شدة تحريهم -رضي الله تعالى عنهم- يعلمون أن كل كلمة وكل دقيقة محسوبة عليهم، وكل لحظة في الحياة يجب أن تستثمر في طاعة الله عز وجل.
ولهذا كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان أصحابه من بعده والسلف الصالح كانت حياتهم كلها ما بين جهاد وعبادة، ما بين قراءة قرآن وأداء حقوق للعباد، فأعطوا كل ذي حق حقه، وجاهدوا في الله حق جهاده، حتى حصل لهم قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] هذا من باب الصدقة، وهذا من باب الجهاد، وهذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا من باب الصيام، وهكذا كل منهم اجتهد في طريق أو أكثر من طرق الخير، فهو يذكر الله ويجاهد في سبيل الله.
وكان بعض السلف في المعركة يجاهد ويقرأ القرآن أو يذكر الله حتى لا يضيع الوقت، فله أجر الجهاد وله أجر الذكر، أناس عرفوا قيمة العمر، وعرفوا قيمة الحياة، وعرفوا أن الجنة سلعة الله، وعلموا أن سلعة الله غالية.
مر بعضهم بأناس في مقهى -وما أكثر من في المقاهي أو في الملاهي أو ما يسمونها: شاليهات أو منتزهات- وهم جالسون يضيعون الأوقات في الحديث واللعب واللهو، فتندم وتحسر، قالوا: مالك؟ قال: تمنيت والله أن الأوقات تشترى! فقد تحسر أن لو كانت الأوقات تشترى لاشترى من هذا يوماً، ومن هذا يومين، ومن هذا ساعة، ومن هذا شهراً، ويعمل فيها ويجتهد فيها لطاعة الله، لكن الأوقات لا تشترى.
فمن لديه غفلة فإن أوقاته ضائعة، وتراه يقول: احترت اليوم ولم أدر أين أذهب، أي: لا يدري كيف يضيع الوقت، والمؤمنون الذاكرون لا يستطيع الواحد منهم أن يفي بالواجبات الملقاة عليه، ويتمنى أن يزيد اليوم ساعة أو نصف ساعة أو دقائق ليغنمها في أداء واجب، أو في عمل طاعة تقربه من الله تبارك وتعالى؛ أو في علم يستفيده ويعمله فيكون من ورثة الأنبياء، أو في ذكر لله أن يقول: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) أو في آية يتلوها من كتاب الله وهو يعلم أن الحرف الواحد بعشر حسنات {لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف} فهل يضيع هذا ممن يعرف قيمة ذلك؟.
وبعض الناس يضيعون أوقاتهم في متابعة المسلسلات التلفزيونية، أو قراءة مجلات لا فائدة من قراءتها وكم من كتاب لا خير فيه فإما مجون، وإما عبث، وإما عقائد باطلة أو فلسفات يظل الإنسان يقرأ فيه ويحقق ويلخص بل يحصل شهادة الدكتوراه، أو الماجستير قد يُمضي فيها الإنسان سنوات طويلة حتى يتخرج وينال الشهادة فيها وهي كلام تافه لا قيمة له ولا منفعة منها، فهذا أفنى زهرة عمره وريعان شبابه فيما لا خير فيه، والبعض يعشق فتاة فيظل يلاحقها، وينتظر تخرجها، وبعد التخرج يتهيأ لزواجها ويبذل ما يبذل، فأضاع العمر كله من أجلها، ولسنا نقول لأحد: لا تأخذ الشهادة، أو لا تتزوج، ولكن أن يضيع العمر في هذا، فهذا لا يليق بالمؤمن.
أما إن أضاع وقته في الحرام فهو عليه عقاب، وهو عليه حساب وحسرته مضاعفة، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله تعالى فيه ولم يصلوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا كان عليهم ترة يوم القيامة} أي: حسرة وندامة ونقصاًُ هذا إذا كان مباحاً، لكن لو كان مجلس غيبة أو لهو فهذا لا شك أنه إثم وندم، فكيف إذا لم يكن الندم على مجلس واحد بل على عمر، وعلى الشباب الذي يقضيه كثير من الناس، هذا في تشجيع الكرة، وهذا في اللهو واللعب والفنون الشعبية، وهذا في متابعة الأفلام والسهرات، وهذا في ضياع الأوقات في التمشيات، وهذا في كذا من العلاقات.
فتضيع الأعمار ويذهب الشباب ولا حصيلة من ذلك إلا الخسارة والإثم الذي يلاقي به الله تبارك وتعالى يوم القيامة، ثم يستحي أن يعرض عليه هذه الأعمال وهو قد عملها، إن كل عاقل في هذه الدنيا ليستحي أن يراه بعض الخلق على ما لا يرضيه، فكيف بالوقوف بين يدي الله تبارك وتعالى وفي ذنوب مجتمعة، وهو الذي يعلم السر وأخفى، وهو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟ ورحم الله من قال:
هبه تجاوز لي عما أسأت به واحسرتى من حياء يوم ألقاه(83/7)
من العاقل؟
فالعاقل هو من يأخذ من دنياه لآخرته، من يأخذ من صحته لمرضه، من يأخذ من فراغه لشغله، من يأخذ من غناه لفقره، وقد أرشدنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهذا، وهكذا كان السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، فهذا العمر أمانة، وهو نصيبك من الدنيا الذي قال الله تبارك وتعالى فيه: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] نعم لا تنس رزقك الذي كتب الله تعالى لك أن تأخذ منها في الحل، وأن تنفق في حقه، وأيضاً لا تنس نصيبك من الدنيا ومن هذه الأيام، فلا تضيعها فيما لا خير فيه.
فالواجب علينا أن نتقي الله تبارك وتعالى، وأن نعظ أنفسنا، ونعظ إخواننا هؤلاء -وما أكثرهم! - يأتون ويقولون: هذه عطلة وهذه إجازة، وكأنها عطلة من كل واجب أوجبه الله تعالى، وكأنها إجازة من كل ما افترضه الله تعالى، وكأنه يباح فيها ما كان حراماً قبلها.
وهذه العطل لو كنا أمة فاتحة، لو كانت جيوشنا قد عادت بعد أن فتحت روما وقهرت أوروبا وحررت الهند، والصين وفتحت العالم لما كان هذا العبث لائقاً بنا، فكيف ونحن بهذه الحالة من المآسي والفجائع والنكبات في كل بلد من بلاد المسلمين؟! كيف ونحن في هذه المهانة والضعف والذلة من بين العالم؟! كيف ونحن مسئولون بين يدي الله تبارك وتعالى؟! العاقل منا والعالم سيقف بين يدي الله ويسأله عن الغافلين، كيف يليق بنا أن نلهو ونعبث، وأن نظن أن هذه العطل أو الإجازات أو أي لحظة من هذا العمر أننا فيها أحرار نمضيها كيفما نشاء، نترك الجمعة والجماعات، ونتخلف عن أوامر وواجبات كثيرة، وننظر إلى ما حرم الله تعالى؟! فعلينا أن نتقي الله تبارك وتعالى، وأن نعمل بوصية الله التي أوصانا بها فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] ونعلم أن كل آت قريب، وأن أجل الله تبارك وتعالى آت، وأننا موقوفون بين يديه، فلنحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، ولنجعل عمرنا وأوقاتنا هذه ساعات: ساعة كما جاء في بعض الآثار [[ساعة تناجي فيها ربك، وساعة تحاسب فيها نفسك، وساعة تتفكر فيها بخلق الله، وساعة تعمل فيها لمعيشتك]] نجعل أوقاتنا هكذا، ولا تعارض بين هذا أبداً ولله الحمد.
فلنحفظ الله تبارك وتعالى في أوقاتنا، ولنحفظه في جوارحنا، ولنحفظ في أعمارنا، ولنتق الله حيثما كنا كما أوصى أيضاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال: {اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن}.
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يَمنَّ علينا بتقواه وطاعته ورضاه، وأن يرزقنا البصيرة والتذكر، وأن يجنبنا الغفلة والسهو واللهو عما افترضه تبارك وتعالى علينا، وأن يجعلنا هداة مهتدين، وأن يتقبل منا طاعتنا، وأن يجعل خير أعمارنا أواخرها وخير أعمالنا خواتمها، إنه سميع مجيب.(83/8)
الأسئلة(83/9)
استغلال الوقت في طلب العلم
السؤال
أنا شاب -ولله الحمد- أحب الله ولقاءه, ولا أخاف الموت بل بالعكس أتمناه, وذلك ليس بسبب فقر أو مشاكل ولكن لحبي للقاء الله, ولكن هناك عيب فيَّ وهو عدم استغلال الوقت في طلب العلم, ولكن لا أستغله إلا في الخير, فأريد نصيحة لاستغلال الوقت في طلب العلم.
الجواب
ما شاء الله! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا جميعاً كذلك, هذا عبد نور الله قلبه بالإيمان, يحب لقاء الله, والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه} , فالحمد لله أن في الأمة من امتلأ قلبه بحب الله, ولذلك يقول: أحب الله ولقاءه.
فعلى كل حال أولاً: لا يجوز للمؤمن أن يتمنى الموت, وإنما عليه أن يستعيذ بالله تعالى من البلاء, وعليه أن يستفيد من عمره وأن يستغله في طاعة الله, فأنت يا أخي! ما دمت تحب لقاء الله فلا بأس أن تحب الحياة, لماذا تحب الحياة؟! حتى تجتهد فيها وتكثر فيها من الطاعات, فإذا لقيت الله في الوقت الذي قدره الله تبارك وتعالى -لا تستقدم عنه ساعة ولا تستأخر- لقيته بأعمال صالحة كثيرة, فكان لقاؤك إياه بها أفضل مما لو لقيته الآن بأعمال أقل, فعليك -بارك الله فيك- وعلينا جميعاً أن نتنبه لهذا, ولهذا لما جاء بعض السلف الموت, فأخذه نوع من البكاء, قالوا: أتبكي خوفاً من الموت يا فلان؟! قال: والله ما أبكي فرقاً من الموت ولا حرصاً على زرع الأشجار ولا جري الأنهار, ولكن لما سأفقده من قيام الليلة الباردة وظمأ الهواجر, يبكي خوفاً من أن تفوته هذه الأعمال وتنقطع عنه, يريد أن يطول به العمر ليجتهد أكثر, لأنه كان يتمتع بها ويرتاح, فكان يريد أن تطول هذه الراحة ويلقى الله تبارك وتعالى وقد عمل من الصالحات ما هو أكثر, وهذا أصل ثابت في أحاديث كثيرة.
فكون الأخ لا يطلب العلم, فكل ميسر لما خلق له, إذا كان الله تعالى لم يهيئك للعلم فلا يقدح هذا في إيمانك، وليس شرطاً أن يكون كل واحد منا عالماً, فكن ذاكراً كن مجاهداً كن آمراً بالمعروف كن ناهياً عن المنكر كن زاهداً في الدنيا كن محباً لأهل الخير كن عطوفاً شفيقاً على المسلمين تقول الكلمة الطيبة تعين هذا على دابته تحسن إلى هذا تتصدق على هذا, كل هذه من طرق الخير والحمد لله.(83/10)
شهوة الشباب وكيفية ترشيدها
السؤال
أنا شاب صغير في المرحلة المتوسطة أحضر حلقات العلماء، وأحفظ القرآن، ولكن يدور في ذهني أفكار وصور كنت شاهدتها قبل هدايتي، والآن لا أستطيع الصبر عن هذه الشهوة التي ما تكاد تذهب عني، فاضطر إلى فعل العادة السرية، وأنا حائر في أمري لا أجد حلاً طبياً لهذه العادة، فما الوسيلة للانقطاع عن هذا العمل؟
الجواب
الكلام في هذه القضية يطول؛ لأنه لا يتعلق بهذا الأخ وحده، ولا يتعلق أيضاً بالشباب وحدهم، ولا بالآباء وحدهم، هذه القضية قضية المجتمع كله، قضية الأمة التي تدفع بالشهوات، وسائل إعلام تدفع بالشهوات وتبهرجها وتزينها في الإعلانات، وفي المسلسلات، وفي الأحاديث، وفي اللقاءات، وفي الكتب، والأحاديث بين الناس، والهواتف والمعاكسات، والأسواق وما فيها من مثيرات، والتبرج وغيره، كل هذه المظاهر من دواعي الشهوة التي تجتذب الشباب.
والشاب حائر إما أن يقع فيها فيضل ويتوه، أو أن يريد أن يعف نفسه فلا يستطيع، حتى هذا الأخ في المتوسطة لا يمكن أن يتزوج لأننا قد اختلقنا أوضاعاً غير عادية، فأصبح المتمسك المهتدي يعيش حالة غير عادية فيضطر أن يقع في الحرام -والعياذ بالله- أو أن يفعل هذه الفعلة وهي من الحرام؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7] فأي شيء وراء ذلك فإنه تعدٍ لحدود الله تبارك وتعالى.
فأوصي هذا الأخ بتقوى الله، وأوصي إخواني جميعاً بغض النظر وترك هذه الشهوات، والمغريات، والمثيرات، وأن نتعاون جميعاً على تقوى الله تبارك وتعالى وإعفاف وإحصان الشباب ذكوراً وإناثاً.
وبهذه المناسبة أمامنا دعوة للمشروع الخيري للزواج، وهو مشروع عظيم النفع -نسأل الله تعالى أن يثيب المحتسبين القائمين عليه بخير الثواب- وهم يدعونكم إلى التبرع وإلى دفع ما تجود به أنفسكم، ونبشركم -والحمد لله- أنه قد استفاد منه حتى الآن 3700 شاب وشابة، وصرف لهم مبلغ (24.
000.
000) ريال، وبلغ عدد المواليد الأوائل لهؤلاء الشباب حتى الآن 531 مولوداً ولله الحمد، هذه نعمة فكيف لو كان في كل حي، وفي كل قرية، وفي كل قبيلة مثل هذا التعاون على الخير، ومع ذلك فإن هذا لا يغني عن وجوب الدعوة إلى ترك المثيرات فإنه واجب على الجميع كما في مثل هذه الحالة التي يعاني منها هذا الأخ.(83/11)
إيثار الدنيا على الآخرة
السؤال
ما حكم من يتخذ الأسباب ليستيقظ للعمل ولا يتخذها لصلاة الفجر، نرجو التنبيه على ذلك؟
الجواب
هذا هو الذي ينطبق عليه القول المأثور: دينار أحب إلى أحدهم من صلاته -والعياذ بالله- دنياه أحب إليه من صلاته، وظيفته أو عمله أحب إليه من دينه، إذاً هذا دنياه مؤثرة على آخرته، فهذا هو الخاسر الذي باع العظيم الباقي الذي فيه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر بالحقير التافه الزائل الذي كله نكد وآلام، فنسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوقظ قلوبنا جميعاً لذكره وتقواه، ويجعلنا ممن يؤثر الآخرة على الدنيا.(83/12)
دور الشباب في الدعوة إلى الله
السؤال
نرى هذه الأعداد الكبيرة من الشباب المهتدين, ولكن أين هؤلاء الشباب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ أين هؤلاء الشباب من الإنكار في الأسواق وغيرها؟ فنرجو توجيه الشباب إلى هذا الأمر العظيم.
الجواب
أظن فيما قاله الأخ كفاية, وكل منكم يعلم قيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فيا إخوان! والله أن المرء يفرح فرحاً عظيماً حين يرى مثل هذا العمل والحمد لله, لكن تخيلوا لو أن كل واحد منا في حيِّه وفي عمله الذي يعمل فيه قام بالدعوة كما ينبغي, والله ليكونن الخير أضعاف أضعاف ما هو موجود الآن؛ لأن هذا الجمع الكبير الآن -والحمد لله- خير كثير, وما كان الهداة ولا الدعاة إلا الفئة القليلة في جميع العصور, فالواجب أن يقوم كل منا بجهده, وبما يستطيع في الدعوة إلى الله, ويبارك الله في هذه الجهود بإذن الله.(83/13)
وساوس الشيطان
السؤال
إنه يعتلي قلبي خواطر وأفكار - لا يريد ذكرها- وبعد ذلك يقول: وأشعر بضيق في قلبي، وألم وحرقة، فما هو الحل والعلاج؟
الجواب
دائماً يأتي مثل هذا السؤال ويتكرر، وهذا دليل على الهداية -والحمد لله- لأنه عندما تكثر مثل هذه الأسئلة فإنه دليل على أن المهتدين كثير، وأبشركم أن هذا دليل خير، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشر أصحابه بذلك، بل قال: {أو قد وجدتموه، ذاك صريح الإيمان} النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال: {أو قد وجدتموه} كأنه شيء ينتظره، وكأنه لا بد منه، وهذا شيءٍ ملاحظ أن كل من يتوب ويهتدي لا بد أن يجد هذا، فبعد فترة من هدايته يجد شكوكاً وخطراتٍ ووساوس وأموراً غريبة، ويتألم ويكون كما قال الصحابة: {إن أحدنا يجد في نفسه ما يتعاظم أن يتكلم به} لا يريد أن يقوله لأحد، لأنها لم تكن تأتيه في حال الغفلة، واللهو واللعب، والآن بعد الهداية والالتزام والتمسك تأتيه فيتعجب من هذا، ولكن أبشروا فإن هذا محض الإيمان ولهذا قال في رواية أخرى: {الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة} أي أنه ما بقي للشيطان في قلبك إلا هذه الوساوس، فاصبر عليها، وهي تذهب من البعض بعد شهر أو شهرين أو أقل أو أكثر، فنرجو لك يا أخي الشفاء، ونسأل الله أن يشفي قلوبنا جميعاًُ إنه سميعٌ مجيب.(83/14)
نصيب الإنسان من دنياه
السؤال
كيف تأخذ نصيبك من هذه الدنيا، وهل هناك مقدار معين؟
الجواب
نصيبك من الدنيا هو هذا العمر، فقد أوصى الله تبارك وتعالى في قوله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77] أوصى بها الأغنياء جميعاً، وإن كانت تتحدث عن قارون أي: خذ بحظك الذي كتب الله لك في هذه الدنيا ولا تضيعها {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] هي للمؤمنين في الدنيا استحقاقاً، أما غيرهم فلا يستحق منها شيئاً إلا لتفاهتها وحقارتها {ولو أن الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء} لكنه لتفاهتها وحقارتها جعلهم شركاء فيها، فنصيبك من الدنيا -أي من الحياة- وهو العمر، هو هذه الأيام، فعليك أن تتقي الله ولا تضيعها.(83/15)
حكم العمل مع من يتهاون في الطاعة
السؤال
إني شابٌ ملتزم -والحمد لله- ولكني أعمل مع أناس لا يصلون ويتهاونون في طاعة الله، فأرشدني ماذا أفعل، فهل يجب علي ترك العمل؟
الجواب
أما من كان يعمل وهو في إمكانه أن يدير العمل، أو كان رئيساً ولو لمجموعة قليلة كمدير مدرسة -مثلاً- أو رئيس قسم أو إدارة، فالواجب عليه أن يأمر من تحت يده بطاعة الله وتقواه، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده} والتغيير باليد في حق كل ذي ولاية: في بيتك تغير باليد لأن لك ولاية، أو في إدارتك تغير باليد لأن لك ولاية، أو في الإمارة إن كنت أميراً، أو في الوزارة إن كنت وزيراًُ، في الدولة إن كنت حاكماً، وهكذا يجب التغيير باليد ولا يجوز أن تنزل عنه إلى اللسان، وأما إذا كان مأموراً مرءوساً أو كلهم زملاء له فالواجب عليه النصيحة، والإنكار باللسان والموعظة، فإن نجح في ذلك فالحمد لله، أما إن غُلب وأصبح يخشى أنه يترك طاعة الله ويتهاون فيها، أي خشي على نفسه من ذلك فليترك هذا العمل، وينتقل إلى بيئة صالحة طيبة.(83/16)
الكتب التي تهدى إلى النصارى لدعوتهم إلى الدين
السؤال
في حيّنا نصارى كثيرون، وأريد أن أدعوهم إلى الدين، فما هي الكتب التي تنصحني أن أهديها لهم؟ مع العلم أنهم يفهمون العربية؟
الجواب
النصارى هؤلاء أول ما ينبغي أن تخاطبهم وتكلمهم وتحدثهم وترى عمق ما عندهم من دين، أكثر هؤلاء القوم وهذه الملة -بالذات- أكثرهم لا يعرفون من دينهم شيئاً، ودينهم دين متناقض، وأكثرهم ينتسب إليه انتساباً فقط، فإذا جلست إليه وخاطبته فاسأله عن التثليث، كيف يكون الواحد ثلاثة، كيف يكون الله تبارك وتعالى ثلاثة؟ تعالى الله عما يشركون، كيف يكون لله ولد وصاحبه، فإذا شككته في هذه العقيدة الباطلة الفاسدة وتهيأ للتوحيد، فعلمه إياه بأي كتاب تراه مفيداً من كتب التوحيد، وفي إمكانك أن تشرح له ذلك، ومن أسهل ما يمكن في الدنيا أنك تدعو النصراني للإسلام، فيمكن لأي أخ أن يتحدث مع أي نصراني -ولو كان من أكبر القساوسة- وحين ذهب بعض الإخوان إلى ألبانيا وسجلوا بعض المشاهد، من جملتها أن طفلاً صغيراً يبلغ عمره 11 أو 12 سنة جاءه أحد كبار رجال الدين من روما إيطاليا هذا الطفل ناظر ذلك الكافر النصراني مناظرة عجيبة جداً وهو طفل صغير يقول له: كيف يكون الواحد ثلاثة؟! كيف تجعلون لله ولداً؟! كيف أدخل أنا ديناً متناقضاً، أو بعضه يناقض بعضاً وبعضه يكذب بعضاً؟ فهو دين وواضح البطلان، واضح البهتان، فلا إشكال في دعوتهم، إنما المشكلة أننا ننظر إليهم ونعظمهم ونقدرهم، فالمشكلة فينا نحن وليست في دينهم.(83/17)
مجاهدة النفس
السؤال
عندما أذهب إلى المحاضرة أتوب إلى الله، وعندما أذهب إلى البيت يتغير قلبي وتمسكي، فكيف أعمل؟
الجواب
هذه الحالة بالضبط وبالذات شكاها الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، {شكاها حنظلة ومر على أبي بكر رضي الله تعالى عنه وهو يبكي فقال له: مالك يا حنظلة قال: نافق حنظلة يا أبا بكر! نكون ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة كأنه رأي عين، فإذا رجعنا إلى الأزواج والضيعة نسينا كثيرا، قال: فوالله إنا لكذلك، انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقنا فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما لك يا حنظلة قال: نافق حنظلة يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنه رأي عين فإذا رجعنا عافسنا الأزواج والضيعة ونسينا كثيرا قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو تدومون على الحال الذي تقومون بها من عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم وعلى فرشكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة وساعة وساعة}.
فالواجب علينا أن نحاول أن نستزيد من إطاله فترة هذا الإيمان، ومن إطاله فترة الرقي أو السمو الإيماني، واللذة الإيمانية التي نشعر بها، نحاول أن نطولها فلعل الملائكة تصافحنا في الطرقات، لكن لو ضعف ذلك فهذا طبيعي، فإن الله تعالى خلقنا بشراً وركب فينا الغفلة والشهوة والتعب والملل والسآمة، هكذا خلقنا الله، فعليك إن جاءتك هذه النفس في رغبة وشوق وطاعة فاجتهد فيها أن تبلغها أكبر مرحلة، وإن وجد منها غير ذلك فعليك أن تجاهدها، ولهذا شبه بعض السلف نفس الإنسان بالدابة، فهي أحياناً تذهب وتنطلق، فإذا كنت مسافراً أو تريد أن تذهب إلى مكان -وأنت على هذه الدابة- فوجدتها منطلقة فحثها أكثر حتى إذا تلكأت تكون قد قطعت أكبر شوط، فهكذا جعل الله تبارك وتعالى طبيعة هذه النفس.(83/18)
كيف نخرج حب الدنيا من قلوبنا
السؤال
كيف نخرج حب الدنيا من قلوبنا؟
الجواب
سأل بعض الخلفاء بعض علماء التابعين سؤالاً مثل هذا أو قريباً منه: لماذا نحب الدنيا ونكره الآخرة؟ قيل إن السائل هو سليمان بن عبد الملك سأل أبا حازم، فقال: [[لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم آخرتكم، فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب]] هكذا حال الإنسان.
علنيا أن نخرج حب الدنيا ونحن إذا علمنا أن الدنيا فانية، وأنها زائلة، ومتاعها قليل، وأنها كما ضرب الله تبارك وتعالى فيها المثل، مثل النبات يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً حتى ينتهى، وأن الآخرة هي الباقية، وهي دار القرار، خير وأبقى، وفيها ذلك النعيم، وذلك الجحيم لمن خالف -والعياذ بالله- فتخرج بذلك حب الدنيا من قلبك، وتستعد للآخرة دون أن يعني ذلك -كما أشرنا- أن يترك الإنسان حق الله وما أوجب عليه في الدنيا من إعفاف لنفسه، ومن إطعام لأهله، والإنفاق عليهم، ومن خير يفتحه الله له في هذه الدنيا فيجتهد فيه كما قال النبي: {لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار} هذا من رحمة الله تبارك وتعالى، وهذا لا يدخل في حب الدنيا، إنما حبها: إيثارها.(83/19)
محق البركة في الأعمار
السؤال
ما سبب محق البركة في الأعمار والأزمان، حيث إنه يمر بي الزمن الطويل ولا أجد أني قد عملت ما أحسب أني أدخره لليوم الآخر؟
الجواب
حتى الصلوات باتت إلى العادات أقرب منها للعبادات، وما قاله الأخ الكريم حق، كل منا يشعر به ويتعجب -فعلاً- لماذا محقت بركة الأعمار، والأوقات، والأموال -والعياذ بالله! - والإجابة على هذا تطول جداً، لكن نشير إليها إشارة ولبعض أسبابها: فمن ذلك أنه اختلط أكلنا الحلال بالحرام، فالربا والمال الحرام دخل حياتنا -والعياذ بالله- فمن لم يأكله صريحاً ناله غباره، كأننا مستنقع للربا والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يرفع يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب له} لا يوجد بركة في عبادتنا، لأن هذه الأجساد دخلها الحرام -إلا ما رحم الله- هذه بعض الأسباب.
ومنها أن ذكرنا لله تعالى قليل، وذكر الله هو الذي يعمر الحياة ويجعلها طويلة، كما قال بعض الحكماء وذكر الله معناه أعظم وأوسع من مجرد أن تقرأ آيات أو تسبح، فأنت تذكر الله تبارك وتعالى في كل عمل، من أعمالك، فالجهاد ذكر، والصلاة ذكر، وكل عمل في الدنيا فيه إعلاء لكلمة الله هو من الذكر، ولإعلاء كلمة الله، فإذا ذكرنا الله واهتممنا بالدار الآخرة، نجد أن هذه الحياة يكون لها بركة.(83/20)
حكم الطعن في العلماء وغيرهم
السؤال
أليس من الاستشعار بقيمة العمر عدم قضائه بالجرح والقدح في العلماء وطلبة العلم، وأن يراعى في ذلك قيمته، وعدم استغلالها في تشويه ما لا ينبغي تشويهه، وأن يصرف ذلك الوقت إلى ما يفيد المرء في الدنيا والآخرة، وأن يتذكر حال الأمة وما صارت إليه؟
الجواب
هذا ليس فقط من استشعار قيمة العمر، بل هو واجب من الواجبات: ترك الغيبة، وترك سوء الظن، وترك القدح أو الطعن في أهل الخير واجب، وإذا كان الإنسان مقيماً عليه فهو مقيمٌ على كبيرة من الكبائر -والعياذ بالله- مهما ظن أنه على خير أو على طاعة أو على هدى؛ فهو مرتكب لكبيرة عظيمة، وحسبه أن يأتي يوم القيامة وخصومه بين يدي الله كل هؤلاء من العلماء أو الأخيار أو الأفاضل، والعاقل لا يضيع وقته فيما لا خير فيه، وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه} لأن ما لا يعنيك يشغلك عما يعنيك، فكيف إذا كان فيما هو أشد من ذلك، وهو أن يضيعه فيما يضره، بل ربما فيما يكون سبباً في أن يطبع على قلبه، والعياذ بالله.
ولاحظوا أن من عير أحداً بذنب واتهمه به فربما -كما جاء في بعض الأحاديث ولبعضها ما يصححه- قال: {لم يمت حتى يفعله} حتى يقع فيه إن كان بدعة، وإن كان ضلالاً، وإن كان حباً للدنيا، فعلى العاقل أن يعف نفسه، وأن يعلم أنه كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم} هذا اللسان هو الذي أورد أكثر الخلق المهالك نعوذ بالله!(83/21)
السكن مع من يتعامل مع الجن
السؤال
أنا ساكن مع أهلي في البيت، وأهلي يعملون أعمال شيطانية -والعياذ بالله- أي يستخدمون الجن، وأنا وبعض الإخوة الطيبين حاولنا معهم بكل طريق، لكن بدون جدوى، وهم مع ذلك لا يصلون، هل أجلس معهم؟
الجواب
الذين يستعينون بالجن ويدعونهم، والذين لا يصلون هؤلاء ليسوا مسلمين، أنا الآن لا أتكلم عن واحد معين، أقول عموماً: من كان يدعو الجن، ويستغيث بهم، ويستعين بهم ويخدمهم ويخدمونه، وهو أيضاً لا يصلي، تارك للصلاة تركاً كلياً فهذا ليس بمسلم -والعياذ بالله-، والواجب على الإنسان إن كان ابناً أن يجاهدهما كما قال الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] لا تطعهما بل قابل مجاهدتهما لك على الكفر بأن تجاهدهما وتعظهما وتذكرهما بالإيمان، وصاحبهما في الدنيا معروفاً: وبالذات الوالدان فإن لهما المصاحبة بالمعروف، أما غيرهما من بقية الأهل فالفراق خير، وحتى الوالدان إذا كانا يعملان مثل هذا العمل فله أن يقوم ببعض البر ويفارق الجلوس والبقاء معهما حتى لا يقع في مثل هذه البلايا إذا كان هذا يحل مشكلته.(83/22)
اليقين
السؤال
هل يمكن الانتقال من الشك إلى اليقين، وكيف يمكن الحصول على اليقين التام؟
الجواب
نعم يمكن ذلك، واليقين لا بد منه للإيمان، واليقين لا بد منه للدعاة إلى الله ولطلبة العلم قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:24] هذا الأول {وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] وهذا الشرط الثاني، فاليقين لابد منه، والانتقال إلى اليقين يكون بذكر الله، وبالتفكر في ملكوت الله، وبقراءة القرآن، وبالاعتبار بأحوال الأمم الماضية، وبكل ما هو من مقويات الإيمان.(83/23)
الخوف من عدم قبول الطاعات
السؤال
أنا رجلٌ إذا صليت كنت من الذين يبكون في الصلاة ويخشعون -والحمد لله- ولا أزكي نفسي على الله لكن بعد الصلاة أحس بأني قصرت فيها وأحياناً أحس أنها غير مقبولة فلماذا؟
الجواب
الحمد لله! ما دمت ممن يخشع فيها ويبكي فيها فلا يأتيك الشيطان ويقول: غير مقبولة إنما نحن جميعاً بين الخوف والرجاء، نخاف أن لا يتقبل منا؛ لكن لا يغلب الخوف على الرجاء، والله تبارك وتعالى عندما قال: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] وهذه فيمن يصلون ويزكون ويعملون الطاعات ولكن يخشون ألا تقبل منهم، فهم يرجون القبول ويخافون من الرد، وذلك أحرى أن يستمروا في الطاعة وألا يأخذهم الغرور بها.
أما إذا غلب على العبد جانب الخوف فربما ترك الطاعة -والعياذ بالله- أو إذا غلب عليه جانب الرجاء فربما ركن إلى عمله فيكون هالكاً -والعياذ بالله- فلا بد أن يتوازن عنده الخوف والرجاء معاً، ولا يخرجنك الشيطان عن هذا الخط القويم إلى أحد مجالي الانحراف، إما ذات اليمين، وإما ذات الشمال.(83/24)
حكم العمل تحت رؤساء كفار
السؤال
أريد أن اعمل في شركة لكن المسئولين فيها أمريكان، ويجب عليَّ أن أداهنهم وأن أسكت عن بعض المنكرات، وأن أرد التحية عليهم وأبادلهم إياها إلى آخره، هل علي في ذلك حرج؟
الجواب
أولاً: لا يجوز أن يكون لهؤلاء الكفار مكان في هذه البلاد الطاهرة كما أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يجتمع دينان في جزيرة العرب} فلا يجوز أن يكونوا فيها.
وإن جاءوا لضرورة فلا يجوز أن يكونوا هم المدراء أو المسئولين، بل يجب أن يكونوا تحت المؤمنين حتى ولو كانوا أعلى في الشهادة أو الدرجة أو في أي شيء، يجب أن يكونوا مرءوسين مأمورين، ويكون المتأمر والرئيس مسلماً مؤمناًً حنيفاً يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا وقع غير ذلك، وأمرنا إلى الله، -ولا حول ولا قوة إلا بالله- وهذا من عقوبات الله لنا -والعياذ بالله- ومن تهاوننا في طاعة الله، وتركنا لما فرض الله، أصبح الكفار يترأسون على المسلمين في بلاد الإسلام.
فالواجب على الإنسان أن يتقي الله وألا يري الكفار أي شيء يشعرهم بالولاء أو المودة أو المحبة، وإنما يقوم بالعمل الآلي أداء عادياً، لا يبدؤهم هو بالسلام، وإذا كان ولا بد ويضطر إلى ذلك فليقل أي كلمة عامة، ولا يقل السلام الذي يعهده المسلمون فيما بينهم، ويبغضهم بقلبه وإن لم يستطع أن ينكر عليهم بلسانه أو بيده فليدعو الله تبارك وتعالى أن يذهب عنا شرهم ومكرهم، وليجتهد أن يحل محلهم هو أو إخوانه المؤمنين الذين يمكن أن يحلوا محلهم إذا اجتهدوا في إتقان هذا المجال، المهم أن يعلم أن هذه حالة طارئة عارضة، وأنه لا يجوز له أن يواد هؤلاء الذين هم أعداء الله تبارك وتعالى.(83/25)
معنى قول الله: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ)
السؤال
ما معنى قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]؟
الجواب
أي أن الله تبارك وتعالى محيط علمه، وهو مطلع ورقيب على كل شيء حتى في الأمور الدقيقة، فكثير من الناس لو أنك جالس معهم وخالفت عينك ونظرت تتوقع أنهم ما علموا ذلك، فهي أقل ما يمكن من الحركات العملية الظاهرة، ومعنى قوله (وما تخفي الصدور) أي: تخفي الصدور هو الأسرار الباطنة، فالله تبارك وتعالى يعلم أدق الأمور الظاهرة، وأدق الأمور الباطنة، فهو يعلمها تبارك وتعالى، ولا يخفى عليه شيء.(83/26)
المخرج من أزمة المسلمين
السؤال
ما المخرج من أزمة المسلمين؟
الجواب
المسلمون يمرون بأزمات شديدة في شتى أنحاء العالم فهم يقتلون ويشردون ويضطهدون، وكل هذه الفتن يجب أن نتوب إلى الله ونقنت ونضرع إلى الله تبارك وتعالى أن يرفع عنا هذا العذاب {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام:43] نتضرع إلى الله ونمد لهم يد العون والمساعدة، ونحيي قضاياهم في إعلامنا ومجالسنا وأينما كنا، نذكر بقضايا هؤلاء المسلمين، ونعلم أن خير ما نقدمه لهم هو دعوتهم إلى الله والعلم الشرعي الذي هو التوحيد والسنة، فإنهم إذا تابوا وأنابوا ورجعوا إلى الدين رفع الله عنهم هذا البلاء.(83/27)
الانشغال عن الآخرة بالدنيا
السؤال
لي أب أخذته الدنيا عن الآخرة، فهو يجري وراء لقمة العيش ويغفل عن الآخرة، وكلما ذكرته بالآخرة يقول: من أين آتي لكم بلقمة العيش؟
الجواب
نعم، كثير من الناس يظن أنه هو الذي يرزق نفسه أو يرزق أبناءه، ولو أنه ابتغى الرزق من الله وعلم أن الله تبارك وتعالى قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، لو علم ذلك واتقى الله وقام بما افترضه الله تعالى عليه، ولم يشغله شيء عن عبادة أو طاعة أوجبها الله، لو علم ذلك لما كان كذلك، فذكره -يا أخي- بالله، وذكره بطاعة الله، وذكروه أنت وإخوانك بأننا لا نريد منك أن تنفق علينا إلا من حلال، ولا نريد أن يشغلك أي شاغل أو مانع من أجلنا عن تقوى الله وعن الواجبات التي افترضها الله تبارك وتعالى علينا وعليك.(83/28)
النساء وضياع الأوقات
السؤال
ما هي نصيحتكم للنساء اللاتي يضيعن أوقاتهن في غير فائدة، وإذا قيل لإحداهن إقرئي القرآن أو اجتهدي في تحفيظ ابنتك القرآن، قالت: كله قرآن قرآن، علماًَ بأن معظم الوقت يذهب سدى؟
الجواب
يا ليتنا نعطي كتاب الله ولو ساعة واحدة من اليوم فهي قليلة، ولكن ذلك خير كثير، أوصي أخواتي وإخواني وكل أحد منا أن نتقي الله في أوقاتنا، وألا نضيعها، ونعلم قيمة هذا العمر وقيمة هذه الحياة، فنعمرها بخير ما تعمر به وهو الإقبال على كتاب الله، وأن نتلوه حق تلاوته قراءة وحفظاً، وأيضاً عملاً واتباعاً فلا يغني شيء من ذلك عن شيء.(83/29)
دراسة العلوم غير المفيدة
السؤال
ما رأيكم فيمن أفنى عمره في الدراسة الأدبية مثل الاجتماع وعلم النفس؟
الجواب
عموماً من أفنى عمره في دراسة العلوم التي تشغل عن طاعة الله أو التي لا تنفع فعليه أن يتقي الله ويحفظ ما بقي من عمره من هذه العلوم، وأن يسخر هذه العلوم في طاعة الله، فمن تقوى الله ومن التوبة أن يسخر هذه العلوم في طاعة الله، وأن يبين ما فيها من ضلال وباطل، ويبين ما يمكن فيها من خير إن كان فيها شيء من الخير، ويبينه للناس من خلال إرشاده لهم أن ما جاء في القرآن، والسنة هو أفضل منه وأعظم، فإذا سخرت هذه العلوم جميعاً لخدمة هذا الدين فيكون ذلك العمر ما ضاع بل يكون فيه خير، -إن شاء الله-.
ولذلك كثير من الإخوان ممن هداه الله لا يندم على أنه أمضى فترة من عمره في هذا، لأنه بعد أن عرف الله واتقاه استطاع من خلال تلك العلوم أن يدعو إلى الله، وأن يكون تركه لها ودعوته إلى تركها عن بصيرة وعن اقتناع، ولا يمكن لأحد أن يتهمه أنه مجرد متطرف أو متعصب أو يكره هذه العلوم لأنها علوم جديدة وحديثة.(83/30)
الاستفادة من الوقت
السؤال
ما هي الحلول العملية للاستفادة من الوقت بالنسبة للنساء والرجال والصبية؟
الجواب
كل واحد يضع له جدولاً معيناً وبرنامجاً: أنني أكمل في هذا الشهر -مثلاً- شيئاً من القرآن، وشيئاً من العلم وكذا وكذا، أقوم بهذا الواجب، فيضع له برامج محددة من خلال إمكانيته ومواهبه وموقعه في الحياة.(83/31)
طول العمر وحسن العمل
السؤال
{ خيركم من طال عمره وحسن عمله} ما تعليقكم على هذا الحديث؟
الجواب
الحديث واضح ولا يحتاج إلى تعليق, ونسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون جميعاً كذلك.(83/32)
لزوم الرجوع إلى الميقات لمن فاته الإحرام منه لعذر
السؤال
والدتي جاءت إلى جدة وهي من سكان الجنوب, وفي نيتها أداء العمرة, ولكن لعذر العادة الشهرية لم تتمكن من ذلك, وجاءت إلى هنا وتريد أداء العمرة, علماً بأنها لم تمر بالميقات, أرشدونا ماذا نفعل؟
الجواب
لو أنها أحرمت من الميقات وبقيت على إحرامها حتى تطهر ثم تعتمر فلا شيء في ذلك مهما بقيت في جدة , أما وقد جاءت ولم تفعل وتريد العمرة فإنها تعود إلى الميقات وتحرم فتعتمر.(83/33)
الاقتصاد في المآكل والمشارب يعين على الطاعة
السؤال
قرأت أن السلف رحمهم الله حذروا من كثرة الأكل والشرب والضحك, وإني ضعيف أمام الأكل, فإني أعزم على الاقتصاد وعدم الإفراط, ولكن أمام السفرة أنسى ذلك؟!
الجواب
هذه مشكلتنا جميعاً, الحقيقة أقول لكم وأنا منكم: لو يعرض الواحد منا أكله على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه وإن كان ولابد فليجعله أثلاثاً, ثلث لنَفَسِه وثلث لطعامه وثلث لشرابه} الحقيقة لا يوجد فينا من يكون كذلك إلا ما رحم الله.
فمثل هذا الأخ يُشْعَر بمثل هذا, وينبه بمثل هذا, فلو أننا نأكل أكلاً قليلاً يكون كافياً من الناحية الغذائية إن شاء الله لكان نومنا قليلاً, ولما احتجنا إلى العلاج من كثير من الأمراض, لماذا يحتاج كثير من الناس إلى التخفيف من الوزن؟! ويذهب ويدفع الأموال ويضيع الأوقات والأعمار من أجل التخفيف من الوزن؟ لأن أكبر سبب في ذلك كثرة الأكل وقلة الحركة والعمل وهكذا فإذا نحن اتقينا الله واتبعنا سنة النبي صلى الله عليه وسلم ربحنا الأوقات وربحنا الأعمار, وانظروا إلى أحوالنا في رمضان -نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبلغنا رمضان إنه سميع مجيب- الواحد منا يشتغل أحياناً حتى يأتي وقت المغرب بالرغم من أننا نعيش في منطقة حارة وتصل فيها فترة الصيام إلى 14 ساعة.
والكفار لا يصدقون هذا الكلام, فلا يستطيع أحدهم أن يصبر ساعتين في منطقة حارة, وإذا أخذ المسلم لقيمات خفيفة بقي نشيطاً وصلى التراويح بنشاط والحمد لله, فإذا أكل وأكثر تعب حتى يتثاقل في الركوع والسجود وما إن يسلم الإمام, حتى يستلقي وينام وهذا شيء مجرب! فقلة الأكل كما نبه إلى ذلك كثير من السلف مما يستعان به على طاعة الله تبارك وتعالى, كذلك لو الواحد منا إذا أكل أكلاً اكتفى بما يحتاج إليه فقط لكان عقله أكثر استيعاباً وفهماً, لكن إذا امتلأت المعدة بالطعام انشغل الدماغ بها عن ما سواها وهذا الكلام معروف.(83/34)
البديل المناسب للعب الأطفال
السؤال
وما هي الوسائل التربوية الصحيحة في نزع المنكرات المتأصلة في الأطفال مثل مشاهدة أفلام الكرتون وحب كرة القدم؟
الجواب
هو أن تجعل له بديلاً يشغل وقته باللهو المباح، لا بد من لعب للأطفال ولا نستغرب من هذا فقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي ويأتي الحسن والحسين ويتسلقان ويركبان على ظهره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الأطفال هكذا، فلابد أن أوجد لهم البديل من لهو مباح، فيمكن مثلاً أن يلعبوا الكرة؛ لكن في أوقات محددة، فلابد أن أوجد لهم مجالاً لذلك، وأعطهم ما مما يرون أن فيه متعة لهم أو راحة أو فسحة، واصبر عليهم فما من أب إلا وهو تعب في تربية أبنائه.(83/35)
حديث: (ساعة وساعة)
السؤال
ما هو الحديث الذي ذكره الأخ الذي لبس عليهم الشيطان {ساعة وساعة} فهل معناه أن ساعة في المعصية هي أمر طبيعي؟
الجواب
ليس المقصود ساعة فيما يغضب الله ويقرب من النار، وساعة فيما يرضي الله ويقرب من الجنة، محال هذا! والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يقصد ذلك، بل إن المقصود هو ساعة جد وعمل وساعة راحة، كما في حديث حنظلة، فنذكر الله ساعة في مجلس ساعة ما بين المغرب والعشاء، مثلاً ثم نأكل ونشرب ونتحدث حديثاً طيباً في ساعة تالية، فحياة المؤمن دائرة بين الطاعة وبين المباح، أما أن يكون البديل عن الطاعة هو المعصية والذنوب والإجرام فهذا هو المفهوم غير صحيح.(83/36)
دخول المسجد للحائض
السؤال
أن هناك فتوى للشيخ ابن باز بأن أي مصلى للنساء يجوز للمرأة الحائض دخوله لأنه لا يعتبر من المسجد، رغم أنه قد يكون داخل المسجد، هل هذا صحيح؟
الجواب
لا أعلم من سماحة الشيخ فتوى في هذا، وإنما مصلى النساء هو من جملة المسجد، هذا الذي أعرفه، وعلى الأخت أن تطلب من التي قالت لها ذلك أن تأتيها بفتوى، فربما يكون فهمه خطأ أو شيء من هذا، والمعلوم أن المسجد كله مسجد ما كان منه للرجال وما كان منه للنساء، أما في صلاة العيد فقد كن يخرجن الحيض، ولكن كن يعتزلن الصلاة ويقفن خلف الناس، ولكن هذا في صلاة العيد التي تكون خارج البلد لأن السنة فيها أن تكون في فضاء خارج العمران، فربما اشتبه الأمر على الأخت، والله أعلم.(83/37)
الإشادة بالكفار
السؤال
هل يجوز أن أقول: إن الغرب عندهم عدالة واحترام لحقوق الإنسان، وهل ينبغي للمسلم أن يشيد بهم، مع العلم أني سمعت من بعض الخطباء يشيدون بهذا؟
الجواب
الإشادة بالكفار والثناء عليهم ومدحهم لا يجوز بأي حال من الأحوال، فهؤلاء أعداء الله وكيف تمدحهم؟! وكيف تثني عليهم؟! وكيف تمجدهم وقد ذمهم الله وعابهم ولعنهم وغضب عليهم؟! لا يمكن هذا ولا يصح ولا يجوز، لكن لا يعني كفرهم أن يغمطوا ويبخسوا كل فضيلة عندهم، فهناك فرق بين هذا وهذا، فنحن لا نمدحهم ولا نشيد بهم أبداً، لكن إن كان فيهم شيء من العدل أو الخير نذكره من باب العدل، والله تبارك وتعالى أمرنا بالعدل مع كل أحد سواء مع المؤمنين أو مع الكافرين، في حياتنا أو في أنفسنا، أينما كنا نحن مأمورون بالعدل {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:7 - 9] وأي شيء توزنه أعمال أمم أو أفراد أو هيئات لا بد أن يكون الوزن بالقسط والحق والعدل.
ولا شك أن في بعض أهل الكتاب وفي بعض دول الكفار شيء من ذلك، فعندهم شيء من العدل واحترام حقوق الإنسان بالنسبة لبعض البلاد الإسلامية، لكن لا يقال إن ذلك خير من حكم الله أو عدله لا يمكن ذلك، لكن فعلاً عندهم بعض العدل، كما شهد لهم بذلك عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه في الحديث في صحيح مسلم قال: {وأنهم أمنعهم -أمنع الأمم- من ظلم الملوك} فالروم وهم الغرب الآن هم أمنع الأمم، والحكومات هناك إلى الآن أمنع وأبعد الحكومات أن تظلم الشعوب والأفراد.
هذه فضيلة فيهم تذكر لهم مع كفرهم ومع أنهم أعداء الله ومع بغضنا لهم أشد البغض، لكن لا نظلمهم بأن نقول: كلهم كذابون، وخونة، وليس فيهم عدل ولا خير {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران:75] الله تعالى ذكر هذا وذكر أيضاً بالمقابل {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} [آل عمران:75] هكذا {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران:113] فليسوا سواء فيهم وفيهم؛ ولهم بعض المزايا كالبشر.
فالله تعالى خلق الشياطين شراً محضاً، أما غيرهم من الخلق ففيهم شيء من الخير ومن الشر، والعرب في الجاهلية كان لهم شيء من المزايا أيضاً: من الكرم والإيثار وحماية الجار، وقد أفاد منها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأفادت منها الدعوة إلى الله، فمن باب العدل لابد أن تذكر، لكن لا يعني من باب الثناء عليهم مطلقاً أو تمجيدهم أو تحبيبهم إلى نفوس المستمعين -والعياذ بالله! -(83/38)
المسلمون في الهند
السؤال
يريد كلمة عن إخواننا الهنود وما يعانونه الآن من الحكومة الهندية، وهؤلاء الكفرة الملحدين الهندوس، لأنني أشعر بالتكتم العام لجميع الوسائل حتى الوسائل الهندية؛ وفي الكلام عن تشريدهم ومعاناتهم؟
الجواب
الكفار عموماً ومنهم أعداؤنا عباد الأبقار في الهند أعداؤنا، ولا غرابة في أن يعاملونا بما عاملونا به، ويجب أن نكون منصفين، أنا أقول: إن اللوم الأكبر فيما يجري في الهند يقع على المسلمين، لأننا نحن المسلمين حكمنا الهند ثمانية قرون، وفي النهاية لما جاء الإنجليز أخذوا هذا الحكم، وإذا بعباد الأبقار أضعاف أضعاف المسلمين؟ لأننا كنا مشغولين ببناء تاج محل، ونصنع الأعواد الموسيقية، ونؤلف الكتب في اللهو والأدب والمجون، شغلنا عن هؤلاء، فلو دعوناهم إلى الله -وقد كنا نحكمهم- كما فعل الصحابة الذين لما دخلوا بلاد الشام والعراق ومصر وغيرها جعلوها كلها إسلامية -إلا ما قل- لتغير الحال، فنحن الآن ندفع ضريبة تفريطنا، وندفع ثمن اشتغالنا بالدنيا والزخارف والأضرحة والقصور والمتاع الفاني وتركنا للدعوة، هذا أول شيء.
الشيء الثاني: وقع ما وقع لأنه لا تعاطف ولا تراحم ولا تناصح بيننا.
فمن منا بمجرد ما سمع هذا الخبر تأمل في عماله فقال كل عامل عندي هندوسي فليرحل فوراً، وأرجو أن يقع مثل هذا -إن شاء الله- لكن ما بلغني شيء من هذا، بل نحن نأتي بهؤلاء الكفرة إلى بلادنا ويستفيدون الخبرة والمال ويستعينون بهذا على تقتيل إخواننا هناك، ويبعثون التبرعات بل هي ضرائب يدفعونها شهرياً من رواتبهم لجمعية هندوسية هناك، ونحن في غفلة ونقول العلاقات الأخوية.
وقاتل الله القومية العربية لأنها أتت لنا بمصائب كثيرة هذه منها، فمنذ كان جمال عبد الناصر الهالك زعيم الأمة العربية وكانت القومية العربية؛ في أوجها، من كان أصدقاء جمال عبد الناصر الذين أحبهم الشباب العربي: نهرو في الهند هذا حبيب الأمة العربية، وكان تيتو في يوغسلافيا وكان لومومبا وكان نكروما فنشأت الأمة ونشأ الشباب على أن هؤلاء لهم حقوق كأنهم إخوة، فقالوا: مؤتمر عدم الانحياز، وعقدوا أول مؤتمر لدول عدم الانحياز، وإذا بالهند يطلق عليها زعيمة دول عدم الانحياز، عباد الأبقار لما رأوا العالم إما شرق شيوعي وإما غرب رأسمالي، قالوا: أين البقرة، أين مكان البقرة؟ فيعنون البقرة الثالثة، فجاء المسلمون وصاروا أتباعاً لعباد البقر!! لأننا نحن يجب أن نكون قادة العالم وسادة الدنيا، ويجب أن ننير هذا العالم المظلم بتقوى الله، فالقومية العربية جعلتنا نمضي إلى الهند فإذا بها زعيمة دول عدم الانحياز، فنسينا إخواننا المسلمين في الهند وفي كل مكان، وتغاضينا النظر عن كل ما يصابون به.
والآن ومع الصحوة والإفاقة -والحمد لله- وانهيار القومية العربية لا ردها الله، وبقي من آثارها شيء، ولكن نرجو أن تنهار إلى الأبد، يجب علينا أن نراجع أمورنا، ونجعل ولاءنا وبراءنا بحسب العقيدة، وبمقتضى العقيدة ولا بمقتضى الانحياز وعدم الانحياز، لا بمقتضى المجاملات الدولية، والمداهنات السياسية، ولا بمقتضى أي علاقات مادية، وإنما لله وفي سبيل الله.
وإذا كنا كذلك فو الله سيغنينا الله من فضله، فالأمة الإسلامية فيها من الخيرات ومن الثروات ومن الطاقات البشرية ما لا يوجد في أي أمة من الأمم، فأين الذين يدعونها وأن تكون أمة ربانية حقاً، وأن تكون أمة مؤمنة حقاً؟! أن تقود العالم {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] أين الذين يجمعون طاقاتها كما يجمع هؤلاء طاقاتهم؟ ويجمعون أموالهم لإبادة الإسلام، نجمع طاقاتها لتحارب أعداء الله، من يقف في وجهنا بالله عليكم؟! من يقف في وجه هذه الأمة إذا هي أفاقت واستيقظت؟! نحن رأينا في هذا الحرب الأخيرة، أن كل الدول تجمعت على العراق ولو كانت بريطانيا وحدها لن تنهزم العراق وهم بعثيون وروافض، وفيهم من ترك الدين، وما فيهم إلا من رحم الله، فبالله كيف إذا عدنا كلنا -كل الأقطار التي فيها المسلمون هم الأكثرية أو شبه الأكثرية- لو عدنا جميعاً إلى الإسلام وجمعنا قوتنا وكنا قوة واحدة، هل تغلبنا أي دولة من الدول أو أي تجمع عالمي؟! والله لا يغلبنا، أما ونحن في حالة المهانة والذل فيغلبنا عباد الأبقار، وأصبحت الهند الآن تطالب أن يكون لها مقعد دائم في مجلس الأمن، وهذا يجعلنا -والعياذ بالله- نخضع لها أكثر، ونتوسل إليها إذا كان لدينا قضية أن تصوت معنا، وإذا استخدمت حق (الفيتو) انتهى العمل كله من أوله إلى آخره.
لماذا؟! لماذا نرضى لأنفسنا بهذه المهانة؟! لا حل لنا من هذه المشكلة أو غيرها إلا أن نرجع إلى الله، وأن نحيي الجهاد في الأمة كما بدأ في كشمير وإن شاء الله يبدأ في مناطق أخرى بـ الهند يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم} هذا هو الحل، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يرجعنا إلى ديننا، وأن يردنا إليه رداً حميداً، وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال إنه سميع مجيب.(83/39)
العبر في انهيار الشيوعية
قام الشيخ حفظه الله بسرد عرض قصير وموجز لنشأة الشيوعية، والأسس التي بنت عليها نظرياتها، وعن مؤسسي هذه الشيوعية وأشهر رجالها، وكيف استطاعت أن تسيطر على جزء كبير من العالم، ثم تحدث عن بداية تراجعها وانحسارها، ومن ثم كيف كان انهيارها، وكان محور الحديث مركزاً على العبرة والموعظة التي تستفاد من هذا الانهيار.(84/1)
تمهيد عن الشيوعية
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبيك ورسولك وعبدك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا من فضلك وكرمك يا أرحم الراحمين، اللهم اجعل تجمعنا هذا تجمعاً مرحوما، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا شقياً ولا محروماً.
وبعد: فالحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأنعم علينا باتباع سنة وهدي خير الأنام، صلوات الله وسلامه عليه، فإنها نعمة عظيمة لا يعرف قيمتها ولا يقدرها حق قدرها إلا من اطلع على ما عانى العالم منه قديماً، وما يعاني منه حديثاً في ظل العقائد البعيدة عن هدي الله، والمخالفة لسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكلنا نسمع في هذه الأيام أغرب ما يمكن أن نسمع، وأعجب ما كنا نتوقع أن نسمعه، بل بعضنا لم يكن يتوقع ذلك ولا يخطر له ببال، ألا وهو هذه الأحداث الكبرى التي تجري فيما يسمى بـ أوروبا الشرقية.
ولسنا بمعزل عن هذا العالم وعن عقائده وأديانه مهما حاولنا أن نكون بمعزل، وذلك لأن وسائل إعلامنا تكاد تكون -في كثير من الأحيان- صدىً لما تردده وسائل الإعلام العالمية، فما يردد هناك تجده هنا، ويعجب الإنسان ويحار وهو يسمع الأحداث كل يوم، ولكنه لا يعرف تفسيرها، ولا يدري لماذا؟ لأن ما يعرض لديه هو نسخة مطابقة لما يعرض هنالك.
أما نحن المسلمين الذين نملك تفسير الأحداث تفسيراً إسلامياً، فإننا لانجد المفسر أو المحلل الإسلامي الذي يعطينا التحليل وراء وقوع هذه الأحداث، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن العالم كله متقارب كما ترونه اليوم.
وما يدور في داخل المعسكر الشيوعي يهمنا، إذ نحن الآن -في العالم الإسلامي- نصطلي بنار الشيوعية الحمراء في أفغانستان وفي مناطق كثيرة جداً من أنحاء العالم الإسلامي، ومعرفتنا لعدونا هي الخطوة الأولى التي لا يمكن تجاوزها في مقاومته وصد كيده وجهاده في سبيل الله عز وجل، ومن هنا كان علينا أن نتطلع إلى معرفة هذه الأحداث ومعرفة ماذا يدور وراءها.
والحقيقة أن الوقت يضيق جداً عن سرد الأمر بالتفصيل ولا سيما ما يتعلق بنشأة الشيوعية، ولماذا نشأت هذه الفكرة؟ ثم كيف طبقت؟ ثم ما هي التعديلات التي جرت عليها؟ ثم التعديل المفاجئ الأخير، وما هي أبعاده؟ وما هي أهدافه؟ والكلام في هذا الموضوع يطول جداً، وإنما أردنا فيما يناسب المقام والمكان هنا أن نحدث إخواننا المسلمين عن بعض العبر التي تهمنا، سواء أكان ما يحدث الآن على يد ميخائيل جورباتشوف تطويراً للشيوعية ووسيلة لتغلغلها في العالم بشكل أكبر كما يرى طائفة من المحللين، أم كان بخلاف ذلك إنقاذاً لها من الانهيار وتغييراً جذرياً لها، وهو كما يرى البعض أنه ما هو إلا عميل أو ألعوبة غربية أرادت تقويض مذهب أمته، وبين هذين التحليلين نستخلص عبراً لا تتغير أياً كانت النتيجة، أو أياً كانت العلة الحقيقية بالنسبة لهذا التغيير المفاجئ، على أنه يجب علينا أن نعطي بعض الضوء على هذا المنهج الخبيث بإيجاز شديد جداً.(84/2)
الشيوعية
أولاً: الشيوعية أو ما يسمى بـ الماركسية تنسب إلى اليهودي الألماني كارل ماركس وهو يهودي ابن يهودي لا شك في ذلك، وقد أعانه على وضع هذا المبدأ الخبيث رجل آخر يدعى فريدريك إنجلز، وهذان الرجلان هما اللذان وضعا الأساس الفكري للشيوعية بمفهومها الحاضر.(84/3)
أصول الشيوعية
أما أصولها فهي مأخوذة من عدة أفكار، من أهمها نظرية داروين التي تعلمونها جميعاً، وهي أن الكائنات الحية مرت بسلسلة من التطورات انتهت بالإنسان؛ فهو المرحلة الأخيرة للتطور، وهذا التطور حتمي وجبري، كما يزعم أولئك الظالمون الكافرون الذين قال الله تعالى فيهم: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} [الكهف:51].
وثاني هذه المصادر هي: الفلسفة المثالية الألمانية، وقد برع الألمان في الفلسفة النظرية البحتة وتوسعوا فيها، وكان من أبرزهم الفيلسوف الأوروبي الكبير هيجل، الذي أخذ عنه ماركس نظرية النقيض، ولكن هيجل جاء بها نظرية خيالية في علم المنطق كما يسمونها، وجاء ماركس فطبقها على الناس، وقال: إن الناس في صراع، وإن الحياة في صراع، وأساس الصراع -في نظر هذا اليهودي وفي نظر الشيوعية - بين الناس هو الاقتصاد والبحث عن الطعام والشراب، وبناءً على ذلك وعلى الحتمية التي أخذها من النظرية الداروينية، قسموا تاريخ الإنسانية إلى خمس مراحل نوجزها لكم، ولعلكم إن شاء الله تستوعبونها، لتعلموا أن هذا المذهب منافٍ كل المنافاة لما أنزله الله على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى جميع الرسل.(84/4)
تطور الحياة عند الشيوعية
يقولون: أول مرحلة هي الشيوعية المطلقة "البدائية" فالإنسان -كما يزعمون- في هذه المرحلة بعد أن تطور من مرحلة الحيوان حتى أصبح إنساناً عاش عيشة حيوانية مطلقة، فكانت الشيوعية الأولى وهي الشيوعية المطلقة، فكان الإنسان لا يملك زوجة ولا مالاً ولا شيئاً قط، وإنما يعيش في الغابات هكذا.
المرحلة الثانية: ثم انتقل الإنسان إلى مرحلة أخرى وهي مرحلة الرق -كما يسمونها- وهي وجود أقلية مسيطرة تسترق وتستعبد بقية الناس، وتسخرهم عبيداً ليحرثوا وليزرعوا لها الأرض.
المرحلة الثالثة: وهي مرحلة الإقطاع، وفي هذه المرحلة أصبح الملاك الإقطاعيون يملكون المزارع الكبيرة التي قد تضم عدة مزارع أو قرى يملكها الإقطاعي أو الشريف أو النبيل إلخ، بمن فيها من عبيد ورقيق إلى آخر ما لا نستطيع التفصيل فيه.
المرحلة الرابعة: هي مرحلة الرأسمالية، وهي مرحلة ما بعد الثورة الصناعية، واكتشاف الآلة البخارية وأمثالها، حيث تحول الناس -كما يقولون- من العصر الزراعي إلى العصر الصناعي الحديث.
المرحلة الخامسة والأخيرة: بعد مرحلة الرأسمالية، هي مرحلة الشيوعية الأخيرة، فالعالم عندهم يبدأ بـ الشيوعية وينتهي بـ الشيوعية، والشيوعية الأخيرة لابد أن تحكم العالم.
ويهمنا هنا مسألة أساسية وقضية مهمة جداً وهي ما قررته الشيوعية من أن الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أمر حتمي، فيسمونه الحتمية، فهو حتمي قسري جبري قهري ليس للإنسان ولا للشعوب أي إرادة فيه، فالتاريخ يمشي بهم هكذا، وسيتحولون رغماً عن أنوفهم، وليس لهم خيار في هذا التحول، وليس لهم خيار في التراجع عنه مطلقاً، وأيضاً سبب التحول من مرحلة إلى مرحلة هو اكتشاف مادي، فعند الشيوعية أن أفكار الناس وعقائدهم وأديانهم وأخلاقهم وفلسفاتهم وآدابهم هي من نتاج الواقع الذي يعيشونه، فإذا تغير الواقع المادي تغيرت الأديان وتغيرت الحياة، والانتقال من مرحلة إلى أخرى هو بسبب مسألة مادية بحتة وليست عقلية ولا ذهنية.
فمثلاً: الانتقال من الشيوعية الأولى إلى الرق سببه اكتشاف الزراعة، ويقول هؤلاء المفترون الكاذبون: إن الإنسان في المراحل الأولى كان همجياً يأكل كل شيء، ثم اكتشف الزراعة لأنه رأى الثمار تسقط ثم تنبت، فلما اكتشف الزراعة انتقل حتمياً وبغير إرادته إلى مرحلة الرق، فالذين استرقوا -المزارعين- هم تلك الطبقة أو الفئة القليلة.
ثم انتقل الناس إلى مرحلة الإقطاع عندما اكتشفت الآلات الزراعية مثل المحراث، فإذاً الآلة هي سبب نقلة التاريخ، فالتاريخ الإنساني كله يتغير لاكتشاف يكتشف، فاكتشف المحراث فتغير مجرى التاريخ وأصبح العالم كله يخضع لنظام الإقطاع.
بعد ذلك اكتشفت الآلات الصناعية؛ فانقلب وجه التاريخ كله أيضاً فتغير وأصبح رأسمالياً.
ثم الشيوعية -المرحلة الأخيرة من الشيوعية - أيضاً حتمية لأنها تطبيقاً لنظرية النقيض.
والرأسمالية تحمل في ذاتها نقيضها، مما هو نقيض الرأسمالية والرأسماليون الصناعيون يستأثرون بالثروة جميعاً، فتكون النتيجة أن العمال يُضطهدون ويُهضمون، وقد كان ذلك واقعاً أن يثوروا على الرأسمالية، فينشأ من الصراع بين العمال وبين الرأسمالية ظهور القوة الثالثة حسب المنطق الجدلي الجالكسيدي -كما يسمونه- فتنتج قوة ثالثة هذه القوة هي الشيوعية الجديدة متمثلة في دولة البرولوتاريا أي: الدولة العمالية.
هذا هو المذهب الشيوعي نظرياً بإيجاز شديد، لكن واقعياً كيف طبق؟؟(84/5)
الأدلة الواقعية على بطلان مذهب الشيوعية
أول ما حدث الخلل في هذه الحتميات أن كارل ماركس وهيجل توقعا أن الشيوعية تنجح، وأول ما تنجح في بريطانيا لأنها أكبر دولة صناعية رأسمالية في القرن التاسع عشر، لأنهما كما تعلمون كانا في القرن التاسع عشر، أي قبل مائة سنة أو أكثر فكانت هذه النظريات، وكانت أحوال العمال في بريطانيا تدعوا إلى الرثاء فعلاً، كان النساء والرجال يعملون لمدة ثمانية عشر ساعة تحت الأرض في أنفاق مظلمة ويجرون عربات معبأة بالفحم، من أجل استخراج الفحم لأنه كان الوقود الرئيسي في ذلك الزمن، وكثير منهم يموتون ويدفنون في هذه الأنفاق ليس لهم أي حقوق ولا يؤبه لهم، فقال ماركس: لابد أن العمال سيثورون، فتكون الشيوعية في بريطانيا، لأن حتمية التاريخ هكذا.
فأول ما أكذبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأبطل قوله للعالم كله، أن الدولة البريطانية حتى اليوم لم تصبح دولة شيوعية، وإنما نجحت الشيوعية وقامت في دولة زراعية وهي روسيا القيصرية وكانت دولة زراعية، فانتقلت من مرحلة الزراعة إلى مرحلة الشيوعية دون أن تمر حقيقة بمرحلة الرأسمالية.
فهذا أول تكذيب للنظرية، نحن نعلم كذبها من كتاب الله وسنة رسوله، ولا يحتاج هذا عند المسلمين إلى نقاش، لكن نتكلم من خلال منطقهم ومنظورهم هم، لأننا وللأسف الشديد ابتلينا بهذه النظريات في بلاد المسلمين، وسوف نعرض له -إن شاء الله- ولا يزال كثير من المسلمين أو من أدعياء الإسلام المعتنقين لهذه النظرية في عمىً وغفلة عن هذه الحقائق الواضحة، إذاً كان هذا أول ما أفسد الحتمية.
الأمر الثاني: أن في عام (1917م) قامت الثورة الشيوعية وحكمت روسيا، فجاء التكذيب الثاني من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما قرره هذا اليهودي وأتباعه، وهو أن المفروض أن تكون الحكومة حكومة عُمالية، فالذي يحكمها المفروض أن يكون العمال، ومع الزمن تتلاشى الدولة نهائياً.
والمفروض في الشيوعية الأخيرة ألا يكون هناك دولة على الإطلاق إنما الناس هكذا يعيشون، وكل يعمل حسب طاقته وله حسب حاجته فقط، وليس هناك دولة ولا ضابط ولا نظام، والذي حصل أنه لما حكم لينين ثم استالين شهدت روسيا دكتاتورية فظيعة تسلطية، لم يكن لها نظير إلا ما يذكره الغرب عن هتلر وعن موسليني وعن أشباههما، واستالين أشد منهما ومن غيرهما، فلم تكن هناك أي حكومة للطبقة الكادحة -كما تسمى- بل كانت الحكومة للحزب الشيوعي، بل كان الثراء الفاحش والاستبداد الفظيع والاستئثار الكامل للسلطة وللثروة؛ وكل شيء لأعضاء الحزب، وأما البقية فبقوا في حالة يرثى لهم.
ثم جاء الانهيار وجاء التكذيب الثالث من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في واقع الشيوعية، عندما كان من المفروض أن تشمل الشيوعية العالم كله، كان التخطيط أن الشيوعية هي دين المستقبل وهي عقيدة المستقبل، وأنه لن يبقى على وجه الأرض أي دولة إلا وتكون فيها الشيوعية.
فمن النكت الظريفة التي في هذا الباب -والتي تعد من نكت التاريخ وهي حقيقة- أنه لما قامت دعوة الإخوة في الهجر التي انطلقت أساساً في هذه البلاد، ثم كانوا هم الجيش الذي كان هو جيش التوحيد؛ وفتح الله على أيديهم هذه البلاد، فلما قامت هذه الحركة تجمع الناس حولها وفي الهجر كانوا يعلمون الناس الأصول الثلاثة والتوحيد والعقيدة ثم ينطلقون للدعوة، ثم كان الجهاد كما تعلمون جميعاً، وقد علقت جريدة البرافدا في روسيا بأن تأثير الثورة الشيوعية وصل إلى وسط صحراء الجزيرة العربية، وها نحن نجد الهجر ونجد الدعاة فيها يترسمون خطى الثورة الشيوعية البلشفية، ولا يمكن للعقل أن يصدقه! ولكن هكذا كل شيء في التاريخ أن الأصل والقاعدة والقانون فيه: هو القانون الذي وضعه ماركس وإنجلز.(84/6)
ظهور الاشتراكية العلمية
ولو دخلنا إلى جانب آخر من جوانب النقض لوجدنا الشيء العجيب من الناحية الحتمية البحتة، فقد بنت الشيوعية نظريتها على نظرية داروين، وبنتها على أساس أن المادة هي الحقيقة.
ولا بأس أن نستطرد في هذا الأمر قليلاً لأن الإخوة على مستوى جيد من فهم هذا الكلام، وكان ماركس يقول: ليس هناك وجود للغيب -عياذاً بالله- أنكر الغيب كله، الوجود الحقيقي هو وجود المادة، والمادة هي الشيء الموضوعي الوحيد، فما هي المادة؟ قال: المادة لا تحتاج إلى تفسير ولا إلى بيان، فالجدار مادة، والحديد مادة، والجسم مادة، وشيء أمامك تؤمن به وانتهى الأمر، لكن الغيب لا تؤمن به ولا تصدقه، وكان هذا الكلام هو القول السائد والمنتشر، بعد ذلك جاءت نظرية إنشتاين على سبيل المثال، ونظريات علمية أخرى فأصبح تفسير المادة أشبه ما يكون بعلم الغيب؛ لأنك الآن تقول هذا الشيء الذي أمامي مادة.
وحقيقة لو أن لدى أحدنا منظاراً يكبر الأشياء بشكل كبير جداً، لا ستطاع أن يرى المادة بشكل آخر، فسيرى الذرة، ويرى النواة، ويرى الإلكترونات وهي تدور حولها -مثلاً- فلا يرى إلا مجموعة من الأشياء تدور حول بعض، فوجدوا بعد أن مات ماركس أن حركة الإلكترونات حول النواة في أي شيء من المادة؛ أنه يشبه حركة المجموعة الشمسية في الفضاء، بشكل مذهل، فما هي الذرة؟ وما هي النواة؟ وجدوا بالعملية الحسابية التي اكتشفها إنشتاين أن الانشطار الذي يحدث بين الإلكترونات وبين النواة هذا يؤدي إلى القنبلة الذرية التي هي مبنية على هذا الاكتشاف.
إذاً: كل ما قيل في القرن التاسع عشر كله كلام غير عملي، وكله أشبه -كما يقال- بكلام العجائز أمام العقل الإلكتروني، فليس هناك أي نسبة، ومع ذلك يسمونها الاشتراكية العلمية، وإلى الآن الأحزاب الشيوعية في العالم الإسلامي يسمون الشيوعية الاشتراكية العلمية؛ لأنها قائمة على العلم، أما غيرها فهي اشتراكيات غير علمية.(84/7)
مناطق النفوذ الاشتراكي
وليس ذلك هو المقصود وإنما نقول بعد ذلك: بعد أن كان مخططاً أن تسود الشيوعية العالم كله، وإذا بـ خريتشوف يضع تطويراً جديداً أو إعادة بناء، وهي التعايش السلمي عندما اتفق واصطلح مع الرئيس جون كندي -الذي كان رئيس أمريكا في ذلك الوقت- على مبدأ التعايش السلمي، والحرب الباردة بدلاً من الحرب الساخنة، فبدلاً من الصواريخ تبقى الإذاعات والصحف، كل من المعسكرين يطعن في الآخر.
ثم تلا بعد ذلك اقتسام مناطق النفوذ، وقنعت الشيوعية أنها لن تسيطر على العالم، وأكبر المفكرين والمحللين الإسلاميين في موضوع الشيوعية في تلك الفترة هو الأستاذ/ سيد قطب رحمه الله، كان يتوقع أن تسيطر الشيوعية على معظم العالم، وكان هذا هو المتوقع لدى عامة الناس.
وتعلمون أنها بالفعل حاولت أن تسيطر على أكثر العالم، وقد حكمت أوروبا الشرقية جميعاً كما تعلمون، وكانت الأحزاب الشيوعية في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وأسبانيا من أقوى الأحزاب جميعاً، ويمكن أن تصل إلى الحكم.
ثم في العالم الإسلامي وهو أخطر وأهم منطقة يكون الصراع عليها نجد أن الاشتراكية أعلنت عندما أعلن الزعيم الهالك جمال عبد الناصر الاشتراكية مبدأً عاماً، وكانت الدعايات الضخمة ليل نهار، والمليارات تنفق على الدعايات الاشتراكية ومبادئها، فكانت أيضاً مرحلة تطبيقية واضحة وواقعة.
وحزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان أصله حزباً قومياً، والذي حكم بلاد الشام والعراق، أعلن وأدخل الاشتراكية البلاد فأصبح شعاره ثالوثياً: وحدة، حرية، اشتراكية، وأيضاً دول المغرب العربي: الجزائر -مثلاً- ثم تلتها بعد ذلك مصر، ثم جاءت ليبيا فكانت أيضاً أن أعلنت الاشتراكية، على اختلاف في المناهج.
وفي السودان الحزب الشيوعي كان من أقوى الأحزاب، حتى إنه حكم السودان وقام بثورة في السودان، وكاد أن يحكمها، لكن النميري رجع مرة أخرى وعادت السلطة له.
وفي جنوب الجزيرة العربية الشيوعية حكمت وما زالت إلى الآن، وفي إندونيسيا قامت ثورة كبيرة جداً وكادت أن تحكم هذا البلد المسلم، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دمرهم وثار عليهم الشعب، وقضي عليهم والحمد لله، ولكن بقي الشيوعيون لهم قوة لا يستهان بها.
وفي باكستان -كان رئيسها ذو الفقار علي بوتو - كان أيضاً اشتراكياً وينادي بـ الاشتراكية، وكانت الأحزاب الشيوعية مثل الحزب الشيوعي البلوتوستاني كانت قوية، وكانت تحاول وتجتهد أن تكون باكستان دولة شيوعية، وكذلك في بلاد الهند.
والصين وهي أكبر دولة آسيوية أصبحت دولة شيوعية بالكامل، وما بقي إذاً إلا مثل اليابان، وفيتنام الجنوبية، وكذلك المناطق التي تسيطر عليها أمريكا سيطرة قوية تماماً.
إذاً: كادت الشيوعية تماماً أن تجتاح العالم، وحتى في أمريكا الوسطى والجنوبية! كانت الشيوعية موجودة، إما أنها تحكم أو أن لها أحزاباً قوية، وهكذا كادت الشيوعية أن تطبق على العالم.(84/8)
العبرة مما سبق
ومن العبر التي يجب أن نأخذها هنا، أن الغرب لا يملك عقيدة تواجه العقيدة الشيوعية، ولذلك لجأت أمريكا وحلفاؤها إلى اختلاق أحزاب اشتراكية وأحياناً الشيوعية لكنها أمريكية، لما رأوا أن الشيوعية تكاد أن تنتشر وتكتسح العالم، أصبحت أمريكا بنفسها ترعى أحزاباً الشيوعية وتربيها، ثم تحكم المنطقة فتكون قد استهلكت الشعارات، فأخذت الشعار، لكن الحكام الماركسيون الاشتراكيون هم في الحقيقة أمريكيون، يتوجهون أيضاً بتوجه أمريكا، وذلك أيضاً بسبب طغيان هذا المبدأ.
الحيلة الأخرى التي لجأ إليها الغرب أنه لجأ إلى إشاعة الإباحية والانحلال في الشعوب التي يخشى عليها من الشيوعية، لأن الانحلال يضعف أصحابه عن اعتقاد أي عقيدة -أياً كانت- وكما هو معلوم أن الشيوعية عقيدة ومبدأ وثورة، ولهذا حرصت أمريكا أن تكون الدول التي تدور في فلكها أو مواليةً لها أن تكون دولاً منحلة مترفة، بعيدة كل البعد عن كل منهج يمكن أن تحمله، ولا يمكن أن تتحمل أي عقيدة، فهذا يعطي نوعاً من الحصانة ضد تغلغل الفكر الشيوعي، لأن الناس ليس عندهم أي استعداد لقبول أي مبدأ، وإنما يعيشون لشهواتهم ويفكرون في شهواتهم، ويمضون أي شيء من أجل هذه الشهوات، ثم بعد ذلك الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهم بالمرصاد.(84/9)
محاولة إعادة البناء
كانت مرحلة الثمانينات الهجرية أو الستينات الميلادية هي أشد مرحلة، وكانت الدولة التي لا تطبق الاشتراكية تكاد تطرق رأسها من الحياء والخجل أمام العالم، كأنها دولة رجعية متخلفة؛ وهكذا توصم في جميع المحافل الدولية التي تسيطر عليها الشيوعية، ثم شاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وانقلبت المعايير والموازين وجاء برجنيف، وللعلم فقد كان ماركس يهودياً، ولينين يهودياً، واستالين يهودياً، وخريتشوف يهودياً، وبرجنيف يهودياً، وجورباتشوف ليس عندي علم به لكن سيكشفه الزمن، لكن علي أي حال كلهم يهود، فجاء برجنيف وهنا نأتي إلى نقطة مهمة جداً، فوجدت الشيوعية نفسها أنها ستنهار فعلاً من الداخل بسبب الإلحاد، وهذا من أعظم عوامل انهيارها، أنها لا تؤمن بالله، ولأنها لا تعبد الله، ولأنها تعلم الناس الإلحاد وتربيهم عليه، ولذلك تُبُنيَّ ميخائيل جورباتشوف من قبله برجنيف وأتباعه ليقود المرحلة الجديدة للشيوعية.(84/10)
البناء الديني
من أهم غرائب الدنيا التي سجلها التاريخ: أن زعيم أكبر دولة شيوعية في العالم، يحتفل بمرور ألف عام على إنشاء الكنيسة الكاثوليكية فاحتفل الاتحاد السوفيتي بمناسبة مرور ألف سنة على إنشاء الكنيسة الكاثوليكية، ثم أعقب ذلك قبل شهرين أن جورباتشوف بنفسه وهو صنيعة برجنيف ومن بعده، وذهب وزار البابا في الفاتيكان وقابله، وهذا أيضاً من الغرائب والعجائب إذ كيف يحصل هذا؟! وهم الذين يعتبرون أن مجرد كلمة دين رجعية.
فالدين كما قال كارل ماركس: أفيون الشعوب الذي يخدرها، يقولون قبحهم الله -وهذا القول يتردد في العالم الإسلامي ولكن بلهجات أخف- يقولون: إن الدين شيء اصطنعه الإقطاعيون والملاك وأصحاب السلطة والاستبداد ليخدروا به الشعوب، وليأكلوا دنياهم، ويعدونهم بالعوض في الدار الآخرة.
وهذا كان واقع رجال الدين من النصارى، كما أخبر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:34] فهذا حال النصارى، لكنهم يعممون الكلام على الدين كله، فيقولون هذا هو الدين.
لكن الآن انقلب الحال هذا إلى الاعتراف بالدين وكما في كتاب جورباتشوف " إعادة البناء البروستريكا " يقول: 'إن القيم الروحية ضرورية ولابد منها' سبحان الله!(84/11)
البناء الأسري
ومن العجائب التي لن تصدقونها وقد قرأتها في الكتاب بنفسي أن جورباتشوف ينتقد أو يريد إعادة الحساب في موضوع المرأة، كيف؟! الشيوعية التي تقول: إن العالم بدأ بـ الشيوعية البدائية التي لا يملك المرء فيها زوجة أبداً، والمرأة كانت كالرجل تعمل، وتنتهي بـ الشيوعية الأخيرة التي تحكم العالم وتسيطر عليه، والتي تقول: إن المرأة كالرجل في كل شيء، الشيوعية التي تفتخر بأنها أخرجت النساء إلى المعسكرات العمالية والمصانع، وأنتجت وبلغت الذروة -كما يقولون- في كل شيء.
غورباتشوف يقول: لا، كنا مخطئين، وكانت ظروف الحرب من جهة، وكان واقعنا ونحن نريد أن ننشئ البلد اقتصادياً من جهة أخرى، جعلنا نستعجل ونخرج المرأة؛ ونعطي قومية المرأة شكلاً أكبر مما تستحق، أما الآن ونحن نعيد البناء فلابد أن نفكر في وظيفة الأمومة وبوضع المرأة في البيت.
نعم، يا دعاة تحرير المرأة في كل بلد وفي كل مكان! هذا جورباتشوف بنفسه يقول: نعم، نحن أخطأنا، ولم ندرك حقيقة وظيفة المرأة، ولهذا فإن من ضرورات إعادة البناء: إعادة بناء الأسرة سبحان الله! ماذا كان الشيوعيون يقولون عن موضوع الأسرة؟! الأسرة تقليد برجوازي، تقليد إقطاعي، وعبارات سخيفة لا أريد أن أثقل بها عليكم، حتى لو فتحت إذاعة من إذاعات الدول التي ما زالت حتى الآن شيوعية، وتدندن للشيوعية البرجوازية من بين كل عشر كلمات تجد كلمة برجوازي، والمهم أي كلام، فيقول: الأسرة تقليد برجوازي.
وكان ماركس يقول: أصل الأسرة ليست شيئاً حقيقياً، أي: أن الأسرة خلقها وأوجدها العامل الزراعي فقط، أي: عندما كان في العصر الزراعي كان الرجل يزرع والمرأة تزرع معه، وهو يجني الثمار وهي تطبخ، فمن هنا وجد ما يسمى الأسرة فقط، لكن في عصر الصناعات والآلات فالرجل يصنع قطعة والمرأة تصنع قطعة ويضعونها في الجهاز ويشتغل، هذا يعمل من ناحية وهذه تعمل من ناحية أخرى، ما الضرورة الآن لوجود أسرة! فألغى ماركس الأسرة تماماً! ولما جاء استالين قال: لا يمكن للناس أن يعيشوا هكذا، فقال: الأسرة البرجوازية هي الأسرة التي تعيش بأخلاق العصر الزراعي أو بالدين، لكن نحن نستطيع أن نوجد أسرة تقدمية وعلمية، كيف؟ قال: أن تغير المرأة النية، فقد كان الشخص يتزوج لكي ينجب أطفالاً ويعيش معهم في عصر الانحطاط والتأخر والرجعية أيام الأديان، أما الآن فلا بد أن تغيروا النية، وانووا عندما تتزوجون أن تنجبوا أبناءً عماليين، يصبحون عمالاً في المصانع وأعضاء في السوفيتيات حتى ينهض البلد ويتقدم ويحقق الشيوعية في العالم، فأعاد تكوين الأسرة لكن بشكل آخر وباسم آخر.
الآن غورباتشوف يقول: حتى الكلام هذا لا فائدة منه، بل الحقيقة التي لابد أن نعترف بها أن الأسرة لابد أن تقوم، وأن المرأة لابد أن تعرف دورها المهم وهو أنها أم، وتكون في البيت.
والمجال لا يتسع لكي أذكر لكم كلامه بالنص، المهم أنه قال: من أهم الأشياء أن ترجع الأسرة، هذا الكلام سيترتب عيه أن البناء الشيوعي بأكمله سينهار، والحقيقة أنه على اختلاف المحللين في مسألة إعادة البناء، ليس المهم عندنا السبب بالضبط أو النتيجة أياً كانت، بل يهمنا أن إعادة البناء منطقياً تبتدأ من هدم الموجود، فلابد أن يهدم الموجود أولاً.
ففي العالم الإسلامي هل تعيش الأحزاب الشيوعية أو الاشتراكية هذه المرحلة؟ هل نحن الذين واقعنا كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لتتبعن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه} وفي رواية: {ولو أن أحدهم أتى امرأته على قارعة الطريق لفعلتموه} والعياذ بالله! عندما غزيت الأمة الإسلامية بهذه الفكرة وبهذا المذهب واعتنقته، وأصبح يحكم أكثر العالم الإسلامي، كيف نظر العالم الإسلامي إلى عملية البناء؟ اختصاراً للوقت ولكي آتيكم بمثال حي حاضر، أقول لكم ماذا حدث في الجزائر منذ أسابيع الحزب الشيوعي الجزائري جمع نساء عدة، وأخرج ثلاثة آلاف امرأة متظاهرة من الرفيقات، لأن العضو في الحزب الشيوعي يسمى رفيقاً، فأخذوا ثلاثة آلاف رفيقة أو رقيقة، وقالوا لهن: اخرجن وطالبن بإلغاء قانون الأسرة، أي عكس ما يجري في الاتحاد السوفيتي تماماً، إلغاء قانون الأسرة لأنه مشتق من الشريعة الإسلامية أو لأن فقرات منه مأخوذة منها، فخرج الثلاثة آلاف واتجهن إلى مبنى البرلمان، ورفعن الشعارات الشيوعية وطلبن بإلغاء قانون الأسرة، فماذا كانت النتيجة؟ تداعى أهل الغيرة والحمية والإيمان، وهبوا من كل جهة، فخرج مليونان ونصف المليون من المتظاهرين من بينهم مليون ونصف امرأة خرجن في العاصمة وبعض الولايات يطالبن بالحجاب، ونشرت الصحف صورهن والتلفزيونات الغربية ذهلت من هذا المنظر، وكن يلبسن الحجاب، كما ترون النساء المغربيات في الحج والعمرة لا يبدو منهن إلا العينين، ويرفعن اللافتات العريضة: احكمونا بالإسلام، شعب الجزائر مسلم، فصعقوا وذهلوا.
ولكن هل قالوا: يحق للأمة الإسلامية إعادة البناء؟ لا، بالنسبة للاتحاد السوفيتي بحق له إعادة البناء وإعادة النظر فيما هو سائر فيه، أما المسلمون فلا يحق لهم إلا أن يعيشوا تبعاً وأذلاء وموالين ورقيقاً للشرق أو الغرب، ولا يحق لهم إلا ذلك.
والصحف الفرنسية بالذات صعقت وذهلت وعلقت تعليقات كبيرة، وبعد أن تأكد رئيس فرنسا من حقيقة الموضوع؛ قال: هذا أمر لا يمكن السكوت عليه، ولو أن هؤلاء الأصوليون وصلوا إلى السلطة لتدخلت عسكرياً كما تدخل بوش في بنما، فهذا لا يمكن! لكن أن تغير روسيا أو تغير بريطانيا من رأسمالية إلى شيوعية أو من شيوعية إلى رأسمالية هذا ممكن، لكن الأمة الإسلامية تقلب من أمة اشتراكية إلى إسلام فهذا لا يمكن أبداً!(84/12)
من نتائج إعادة البناء
وهنا نقف على عبر عظيمة يجب أن نستنتجها، ومن أهم ما يجب أن نعلمه من الأحداث الكبيرة؛ ومن القضايا الرئيسية في مشروع البناء الذي نادى به غورباتشوف قال: يجب أن يقدم مؤتمر الأمن الأوروبي من السنة القادمة إلى هذه السنة، ويكون توحد أوروبا -الذي سيكون بعد سنتين- يبتدأ من هذه السنة ويشارك فيه الاتحاد السوفيتي، بمعنى أن أوروبا سوف تكون بعد سنتين دولة واحدة تتكون من عدة ولايات، مجموع سكانها ثلاثمائة وخمسة وعشرين مليوناً، ثم ينضم إليها الاتحاد السوفيتي وسكانه قرابة ثلاثمائة مليون، فيصبح المجموع ستمائة وخمسة وعشرون مليوناً ويصبح لها برلمان موحد وكأنها دولة واحدة، وداخل هذا البرلمان الكبير الأحزاب الاشتراكية هي المسيطرة.
ومن العجائب أنه رغم كل هذه الانهيارات المتتالية في الدول الشيوعية للأحزاب التقليدية إلا أن رؤساء الأحزاب هم في الأصل شيوعيون، والتغيير هذا له ما بعده، ووراءه مؤامرة كبرى، فإذا صار ستمائة وخمسة وعشرون مليوناً تقريباً؛ فإن أمريكا والغرب سيصيرون شيئاً واحداً.
وأعلن الاتحاد السوفيتي قبل شهرين أو ثلاثة شهور -تقريباً- أنه سيسحب جميع قواته من داخل الاتحاد السوفيتي، وعددها أكثر من ستمائة وسبعين ألف، وأعلنت أمريكا أنها سوف تسحب قواتها من أوروبا الغربية وعددها ستمائة ألف، سبحان الله! وماذا يبقى؟ إذا كانت أوروبا والاتحاد السوفيتي تعدادهما ستمائة وخمسة وعشرون مليوناً، وانضم إليها الثلاثمائة مليون أيضاً في أمريكا وكندا، يصبح تعدادهم ألف مليون، أي أن هذه القوة البشرية ستكون أقوى قوة في العالم بشرياً، وأقوى قوة في العالم اقتصادياً، وأقوى قوة في العالم عسكرياً، فهذه لما تصبح قوة واحدة وتتوجه بتوجه واحد، فمن الضحية؟! ولابد أنكم قرأتم أنه من أهم خطوات غورباتشوف في إعادة البناء السماح لليهود السوفييت بالهجرة إلى إسرائيل، وهذا مؤشر وله ما بعده، أيضاً الدول الشرقية الأخرى طولبت جميعاً بنفس العمل -وقد بدأت بعضها- بعمل لجنة تقوم بإعداد هذه العملية، وبدءوا بالسماح لليهود الشرقيين بالهجرة إلى إسرائيل.
يقابل ذلك أن الجهاد الإسلامي في فلسطين المسمى (الانتفاضة) يخسر كل يوم ثلاثمائة ألف حالة إجهاض، والقتلى، والجرحى بالآلاف، وكل يوم يسقط عدد من القتلى، ويعوض إسرائيل أن يتدفق عليها كل يوم مجموعة كبيرة من الروس وغيرهم.
آخر إحصائية نشرت قبل أسابيع تقول: إن عدد اليهود الروس الذين وصلوا في العام الماضي أكثر من ثلاثة وسبعين ألف يهودي، أي أكثر مما يفقده المسلمون في هذا الجهاد، وسيزيد العدد أكثر إذا تحسنت الأحوال أكثر.
ومن أهم شروط أمريكا لإعادة البناء المطالبة بالسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين، ويعقب ذلك بلا شك -وهذا أمر متوقع بإذن الله- انهيار للأحزاب الشيوعية في العالم الإسلامي، لكن ماذا ستكون النتيجة إذا انهارت الأوضاع والنظم الموالية للغرب في العالم الإسلامي؟(84/13)
عبر ودروس من الواقع
حادثة الجزائر هذه نأخذ منها العبرة، فما دام أنهم استطاعوا أن يحركوا هذه الملايين فممكن أن يصلوا، ولو انهارت النظم الموالية للغرب وجاءت نظم إسلامية كما يسمونها أصولية، ماذا ستكون النتيجة؟! لم يبق هناك أي حل إلا حل واحد فقط وهو المواجهة العسكرية، والتدخل العسكري المماثل.
لأن الأحزاب العلمانية والاشتراكية والشيوعية والنظم الموالية لهم ضاغطة وقائمة وتحمي إسرائيل وتدعم وجودها، والطوائف الباطنية التي تشقق العالم الإسلامي والطوائف الصوفية، وغير ذلك قائمة بجهود، فإذا سقط القناع وسقطت هذه الجهود والنظم، فماذا يبقى أمام الشرق والغرب وهم أقوى وأكثر العالم عدداً إذا توحدوا؟ إذاً: لا يوجد حل إلا التدخل العسكري المباشر.
إذاً: ممكن أن تتكرر حملة صليبية جديدة على العالم الإسلامي، ونحن نعطي هذا كمثال؛ لأن هذا المثال قد ورد وعرفه العالم وسمعه، فمثلاً فرنسا ستضطر أن تنزل إنزالاً عسكرياً في الجزائر لو أن المسلمين هناك وصلوا إلى أن يحكموا البلد، وقس على ذلك بقية البلدان، فماذا ستكون الحالة؟! وخاصة أن المصالح الغربية ستتضرر، بل قد تنعدم إذا وعى المسلمون دينهم ورجعوا إلى عقيدتهم وأصبحوا يحكمون أنفسهم بأنفسهم، فهنا ستكون الملاحم العظيمة.
ونحن نقول: لعل في ذلك خيراً، وهذه مجرد توقعات، والله أعلم كيف ستكون النتيجة، لكن نقول: إذا حصل ذلك فلا نتيجة لذلك إلا الملاحم التي ستكون بيننا وبين أولئك القوم، ونقول هذا الآن ولا نستعجل الأحداث ولا نستبقها، ولكن نقول: لنأخذ العبرة والعظة، أين نحن؟ هل واقع الأمة الإسلامية -الآن- يهيئها لمقاومة ومواجهة هذا الزحف الهائل بهذه القوة الرهيبة؟! وإذا كانت حرب النجوم أو أشباهها بعد عقد أو عقدين، ولو بعد مائة سنة، إذا أصبحت مسخرة فقط لحرب المسلمين، وتعاونت القوتان مع بعضهما؛ وأصبح العدو المشترك هو هذا العالم الإسلامي! فهل الأمة الآن تربي أبناءها ذكوراً وإناثاً، وتوجه وسائل إعلامها وشعوبها لهذا الخطر الداهم ولمقاومته، وهنا سؤال يطرج نفسه وهذا السؤال الكبير يفرض نفسه ونحن في غمرة العاطفة والابتهاج بسقوط هذا النظام الخبيث.
أقول: نحن المسلمين دائماً ندغدغ بالعواطف، مع أننا نحمد الله ونشكره على انهيار هذه النظم، وسوف ينهار الكفر كله، وسوف يبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار -بإذن الله- وسوف نغلبهم، وسوف ندخل روما بإذن الله، وهذا لا شك فيه، لكن ماذا أعددنا؟! {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] الدين منصور، ولكن على يد من؟ إن لم يقم به من سمع ووعى وعقل؛ فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سوف يذل هؤلاء بأولئك الكفار، ثم يستخلف من بعد ذلك قوماً يحبهم الله ويحبونه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] هؤلاء الذين سينصرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
أما من يواليهم، ومن يأخذ أنظمتهم، ومن يتبع طرقهم في الأحوال الاقتصادية أو الاجتماعية، أو يعتبرهم قدوة له، وأساتذة وقواداً ورواداً فهؤلاء جديرون بأن يسقطوا في أحضانه، وجديرون بأن يلفظوا من الشرق ومن الغرب، أي أن الأمة الإسلامية ستلفظهم، والغرب سيلفظهم -أيضاً- إذا لم يقوموا بالدور المطلوب، فإذا رأى الغرب أنه فشل في تحقيق المهمات التي يريدها فمهما قدم لهم من تضحيات، فإنه يركلهم كما تركل الحذاء ويأتي بغيرهم.
ولهذا نقول: اتقوا الله يا أولياء المسلمين، اتقوا الله يا من تنادون بـ الاشتراكية وما تزالون تنعقون بها في بلاد الإسلام، واتقوا الله يا دعاة العلمانية، واتقوا الله يا دعاة الربا، واتقوا الله يا دعاة التحررية والديمقراطية، وأشباهها مما أوجعتم به قلوب المؤمنين وأفئدتهم، اتقوا الله في هذه الأمة، وثقوا بأن هذا الدين باق منصور، وصدق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينما قال: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله} فنحن ننتظر ذلك بإذن الله تعالى.
وأسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا وإياكم العظة والعبرة مما نسمع ومما نرى، وأن يجعلنا له جنوداً مخلصين صادقين، وأن يعز بنا هذا الدين، وأن نكون وسيلة لإيقاظ هذه الأمة اللاهية في شهواتها، العابثة في ملذاتها لتعرف عدوها، وتعرف ما قيمة دينها، وتجاهد في سبيل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتعرف أنها خلقت لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، ولم تخلق لتقلدهم في ملاهيهم وألاعيبهم ومسارحهم ومراقصهم، وتعيش كما يعيشون حياة البهيمية والانحطاط، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يحقق ذلك، إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين.(84/14)
الأسئلة(84/15)
نصيب الماركسية من الحداثة
السؤال
قال الدكتور محمد مصطفى هداره في محاضرته القيمة في مؤسسة الملك فيصل الخيرية بـ الرياض عن الحداثة، والمحاضرة هذه أعيدت مرة أخرى ثم طبعت في كتاب نحو أدب إسلامي، طبعته ووزعته أم القرى، ولعلكم قرأتموه إن شاء الله.
يقول الدكتور محمد مصطفى هداره: والحقيقة هي أن الحداثة أخطر من ذلك بكثير، فهي اتجاه فكري أشد خطورة من اللبرالية ومن العلمانية ومن الماركسية وكل ما عرفته البشرية من اتجاهات ومذاهب هدامة، ذلك أنها تتضمن كل هذه المذاهب والاتجاهات، وهي لا تخص مجالات الإبداع الفني أو النقد الأدبي، ولكنها تعم الحياة الإنسانية في كل مجالاتها المادية والفكرية على السواء.
السؤال: ما هو نصيب الماركسية من الحداثة، وما هو موقف الحداثيين بعد انهيار الشيوعية؟
الجواب
هذا سؤال مهم جداً، وكنت أريد أن أتعرض له في أثناء حديثي، لكن ما قضيناه هو ساعة لا يمكن أن تستوعب الكلام عن الحداثة وإعادة البناء.
فـ الحداثة هي جزء من إعادة البناء وتعني الحداثة بالنسبة لـ غورباتشوف التغلغل الأدبي داخل الغرب، أي: لا نستطيع أن نقوم بثورة حمراء، عندما كانوا يقولون: يا عمال العالم اتحدوا، لم يكن هناك عمال لكي يتحدوا، لكن الآن يتغلغل داخل أوروبا الغربية وداخل العالم عن طريق الحداثة.
وهناك مفكر شيوعي حداثي فرنسي اسمه هنري لوفيفر له كتاب " ما الحداثة " ويقول في كتابه هذا: إن الحداثة هي ظل الثورة الغائبة هنا والناقصة هناك - ويقصد بـ (ظل الثورة الغائبة هنا) أي في باريس و (الناقصة هناك) أي في موسكو - الحداثة تريد الوصول إلى الشيوعية النهائية بأسرع مما تريده الثورة الحمراء الدموية.
ولذلك فـ الحداثة تعتمد على شيء مهم جداً -كما تعلمون- وهو العاطفة لا العقل، اقرأ أي قصيدة حداثية، وحاول أن تحللها بعقلك، إذا قلت: أن هذا مشبه وهذا مشبه به، وهذا مجاز فإنه سوف يسخر منك ويقول لك: هذا كلام سخيف، وهذا كلام غريب، وهذه كلاسيكية وهذا تقليد، لكن القصيدة الحداثية تقرؤها ولا تفهم منها شيئاً، والقصة الحداثية تقرؤها ولا تفهم منها شيئاً.
يقول: لأننا لم نعد نخاطب القوالب العقلية الجامدة، وهذا ما يقوله الشيوعيون: إن كلام كارل ماركس ولينين كانت قواعد علمية، قواعد مقننة مقرة ذهنياً، والآن العالم لا يحتمل الفكر المقنن، العالم الآن يجري ويبحث ويلهث ووراء عاطفة، وراء خيال بعيد عن إطار العقل.
ولهذا يقولون: إن غاية الإنسان وحقيقة الإنسان في شيئين، الأول: الحلم، والثاني: الجنون، وفرويد عبر عن ذلك بالعقل الباطن، والحداثيون يقولون: الجنون، ولهذا زعماء السيريالية في العالم والدادية والتكعيبية وكل المدارس الحداثية كلهم من مدمني المخدرات، لماذا؟ لأن المخدرات تجعل الإنسان يفقد العقل وتجعله يعيش في أوهام الخيال.
وهذا هو الشعر الذي كان يأتي به شعراء الحداثة كـ برايكون وأمثاله، ويأتي بشعر غامض وذلك بعد أن يحشش، وهذا الشعر غير مفهوم وتنطبق عليه صفات السريالية والحداثة.
لكن الشعر الذي يمليه العقل يكون فيه علاقات عقلية أو ربط عقلي بين أجزائه وهذا لا يريدونه، فإذاً عملية البناء تشمل التغلغل داخل المجتمعات الغربية بهدم القوالب العقلية، سواء ما كان منها في الاتحاد السوفيتي أو في خارج الاتحاد السوفيتي، فـ الحداثة موظفة توظيفاً خاصاً لأغراض البروستريكا أو إعادة البناء.(84/16)
البديل الذي ينادي به من يثور على الشيوعية
السؤال
لا شك أن من أسباب قيام الشيوعية ردة الفعل عند الرأسمالية، شأنها في ذلك شأن جميع المذاهب الفكرية، إلى أن يقول: فما هو البديل الذي ينادي به الآن من يثور على الشيوعية، لا سيما أن جميع الفلسفات والنظريات قد أفلست؟
الجواب
البديل الآن الذي ينادى به أن وظيفة الدولة ليست العقيدة، يقولون: الدولة ليست وظيفتها العقيدة -وهذا كلام مخالف لكلام كارل ماركس ولينين، الذين يقولون: وظيفة الدولة هي العقيدة- الآن وظيفة الدولة هي الرفاهية، فكل العالم الآن الشرق والغرب يبحثون عن الرفاهية، وعلماء السياسة -وبعض الإخوة في كلية الآداب يدرسون هذه النظريات- يقولون: إن الدولة الحديثة وظيفتها الأساسية تحقيق الرفاهية لشعبها، أما التركيزعلى العقيدة والتأكيد على العقيدة فهذا كلام مضى.
فحدثت عدة حوادث أرغمت غورباتشوف على ذلك، نذكر منها حادثتين.
الحادثة الأولى: حادثة الإشعاعات النووية التي تسربت من تشر نوبل هذه الحادثة جعلت الاتحاد السوفيتي يقف عاجزاً لا يستطيع أن يعمل مضاداً للإشعاعات؛ فاستعان بالتكنولوجيا الغربية.
الحادثة الثانية: الزلازل التي حدثت في أرمينيا، وكان الاتحاد السوفيتي الذي ينافس أمريكا على غزو الفضاء، لم يستطع أن يأتي بحراثات لنشل الجثث ونشل الضحايا، فاستعان بالأجهزة الغربية.
هاتان الحادثتان جعلتا غورباتشوف يعلن أننا مفلسون في التكنولوجيا، وكذلك انهيار البلد اقتصادياً واحتياجه إلى القمح واحتياجه إلى السكر.
أحد الصحفيين العرب ذهب إلى موسكو لكي ينظر إلى ما حدث من تغيير وما هي أسبابه، فقال: لا يوجد سكر ولا قمح، ولذلك يرفع غورباتشوف شعار الرفاهية كما يرفعها بوش أو غيره.
والبديل الآن ليس بديلاً عقائدياً وإنما هو بديل اقتصادي بحت، فالدولة التي تحقق أكبر قدر من الترفيه لشعبها هي الدولة النموذجية المثالية، هذا بالنسبة لشعبها، أما خارج شعبها فالقوة العسكرية هي الأساس، ولهذا روسيا رغم انحطاطها في كل شيء إلا أنها متفوقة جداً في مجال واحد وهو المجال العسكري.(84/17)
السر في انهيار الشيوعية
السؤال
ما هو السر في انهيار الشيوعية في هذا الوقت بالذات، وفي جميع البلاد الشيوعية وكأن الأمر يسير حسب خطة مسبقة؟
الجواب
أنا ضربت للإخوة فيما سبق، مثل تمثيلية تعرض لمدة ثلاث ساعات، فانتهى الوقت وبقي من المسرحية فصلين أو ثلاثة، فقاموا بعرض الباقي باللقطات السريعة، أي فعلاً لينين غير، وبرجنيف غير، ثم قالوا: غورباتشوف يمكن ألا يثبت، ويمكن ألا يأتي زعيم آخر تتوفر فيه جميع الصفات، فبدأت الحركة سريعة جداً، وبولندا وتشيكوسلوفاكيا وأطول شيء رومانيا بقيت حوالي شهر وانتهت، فهي حركات مسرحية درامية كما يعبر المسرحيون.
فلا شك أن ذلك يسير على خطة محكمة مبيتة، فمن غير المعقول أن تكون صدفة، قالوا: الظلم، والظلم موجود من البداية، ثم يقول: اهترأت الأحزاب وتآكلت الثورة، التآكل موجود، ولكن أن تتآكل وتسقط في ظرف أسابيع متتالية فهذا مستحيل؛ إلا أن يكون بخطة محكمة مدبرة.(84/18)
موقف اليهود من انهيار الشيوعية
السؤال
يقول الأخ: ذكرتم في كتابكم العلمانية أن اليهود يستغلون الأحداث ولا يصنعونها، فما هو موقف اليهود من انهيار الشيوعية كما ترون؟
الجواب
اليهود قد يصنعون بعض الأحداث، لكن من الخطأ أن نقول: إن اليهود يصنعون كل الأحداث ويسيرون كل التاريخ كما في كتاب " أحجار على رقعة الشطرنج "، لا ليس كذلك، لكن نقول: إن اليهود يستغلون أي حدث وهذا هو الواقع، فاستغل اليهود هذه الثورة وإعادة البناء بلا ريب.
وذكرنا لكم مثالاً على ذلك وهو هجرة اليهود الروس إلى إسرائيل، وهذا بعض النماذج، وسوف تسمعون بعد ذلك الشيء الكثير، لأن الاتحاد السوفيتي كما ذكر غورباتشوف في إعادة البناء: الغرب يتهموننا بأنا متحيزون مع العرب ضد إسرائيل، ونحن أول دولة اعترفت بإسرائيل.
وهذا في نفس كتاب إعادة البناء، فهو صادق وهو الكذوب فعلاً، أول دولة اعترفت بإسرائيل هي الاتحاد السوفيتي وهي معها، لكن اللعبة كانت أن يكون أحد الطرفين هنا والآخر هناك في التعامل مع العرب وإسرائيل، واتفقنا أن نغير اللعبة وأن نغير اللاعبين، وأحياناً لابد من تغيير اللاعبين.(84/19)
انتهاء الشيوعية
السؤال
هل تعتقد أن انهيار الشيوعية عالمياً في أوروبا الشرقية وروسيا يدعو إلى انهيار الشيوعية في العالم العربي، رغم اتهامهم للشيوعيين في روسيا وفي شرق أوروبا بالرجعية؟
الجواب
في فرنسا كان يقال: (لا تكونوا ملكيين أكثر من الملك) أيام لويس الرابع عشر، فعندنا الآن شيوعيون أكثر من الروس، فلا يزال هناك في العالم الإسلامي من يقول: هذا غورباتشوف عميل للغرب، أو هدم الشيوعية وهي في أوج قوتها ويمكن أن تستمر، أي: يرى أن إعادة البناء ليس لها أي داعٍ، نعم يوجد هذا الشيء لكن في النهاية سوف تسقط بلا ريب جميع الأحزاب إن شاء الله.(84/20)
دور الجهاد الأفغاني في سقوط الشيوعية
السؤال
ما هو دور الجهاد الأفغاني في انهيار الشيوعية؟
الجواب
ليس هناك شك في أن الجهاد الأفغاني كان له تأثيره المباشر في عملية إعادة البناء، ولا أقول انهيار الشيوعية بإطلاق فيفهم أنها انهارت بسببه؛ لأنني قلت: إن المسألة فيها نوع من التغيير ونوع من المكر الجديد، لكن لا يوجد شك في أن الجهاد الأفغاني الإسلامي كان له أثر واضح، وكان له من الآثار ما أقر به الجميع ومنهم الروس ومنهم الغرب، لكن لا يصح لنا أن نقول: إنه مجرد أن انسحبت روسيا من أفغانستان تغيرت الشيوعية فهذا ليس صحيحاً، لكن انسحابها من أفغانستان هو جزء من إعادة البناء، فالجهاد الإسلامي عجل فيه وأثر فيه بلا شك، وكان من الأسباب التي جعلتهم يدرسون الموضوع بدقة أكثر.
وأنا بهذه المناسبة أذكر شيئاً عن اللعبة الدولية وهو: أنها إذا أريد لها أن فإنها تتم، تتم بأساليب ذكية وخفية، وقد كان غورباتشوف يريد أن يغير كل الجهاز العسكري الأعلى في الدولة، حتى يستطيع أن يسيطر ولا يبقى له منافس، فماذا عمل؟ دبرت له حادثة سمعناها جميعاً وضحكنا لها وفوتناها جميعاً، ولم نحللها لأنها لا تحلل.
شاب ألماني ركب طائرة هوائية صغيرة، وأخذ عشيقته في الطائرة، وأقلعوا من ألمانيا ومشوا على مسافة قريبة من الأرض، واخترقوا الاتحاد السوفيتي ونزلوا في الساحة الحمراء في موسكو -سبحان الله- اندهش العالم كله حتى أمريكا، كيف هذا الشاب يعمل هذا الشيء وبطائرة شراعية، وعشيقته معه، حتى يقولوا في العالم الإسلامي: أكيد أن هذا صاحب حب، وليس برجل مخابرات مدرب، ولا هي امرأة استخبارات مدربة، إنما هي حكاية عشق وحب هكذا، ويخترق الحدود جميعاً والرادارات الضخمة، وأين ينزل؟ في الساحة الحمراء! أي: أن جورباتشوف ينظر من الشباك فيرى الطائرة في الأسفل، ما هذه السخافات.
ثم يحصل التمثيل الواضح وهو: أن ينفعل غورباتشوف ويصدر قرار إقالة وزير الدفاع، وإقالة القائد العام للطيران، وإقالة القائد العام للدفاع الجوي، فهل تستحقون أن تكونوا وزراء وهذه الطائرة الشراعية قد فعلت كل هذا! فقضى عليهم وتفرد بالسلطة.
فنقول: إن هناك أحداثاً تكون كالقشة ولكنها تقسم ظهر البعير -كما يقال- أي: إن الأمر مبيت من قبل، ولكن تأتي أحداث تدفعه أكثر وتؤثر فيه وتوجهه، أو تُستغل وتوضع كأنها السبب الأساسي، والسبب ليس هذا.
ومع ذلك فالحمد لله أن الجهاد الأفغاني -بغض النظر عن الروس- أثر في الأمة الإسلامية الخاملة المريضة التي ما كانت تعرفه تقريباً؛ وقد عرفته ولكن بشكل مغمور.
وكان عندنا أحمد الشفيري يلبس البدلة الشيوعية وهي نفس بدلة ماو بالضبط، كان يراد ألا تكون هناك أي حركة جهادية في العالم الإسلامي إلا أن تكون حركة شيوعية اشتراكية، ولكن الحمد لله أثبت المسلمون بالجهاد الأفغاني والأرتيري والفليبيني أنه يمكن أن يوجد جهاد حقيقي، ويقاوم أقوى وأعتى الدول، وأن الحل هو الجهاد وليس هذه الأحداث الثورية.(84/21)
مقولة: (المادة لا تفنى ولا تستحدث)
السؤال
هل هذا القول صحيح 'المادة لا تفنى ولا تستحدث' مع العلم أن هذا هو الذي ندرسه في مادة الكيمياء، يقول: هل هذه القاعدة هي من أسباب انهيار الشيوعية في المجال الفكري وفي المجال الفلسفي؟
الجواب
نحن المسلمون نعرف أن هذا خطأ، أي أن هذا الكلام خطأ إن كان يقصد به أن هذا الكون قديم لا أول له، وباق لا آخر له من غير رب، أما لو فسرت العبارة بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق الكون وجعل المادة تتغير من حال إلى حال ولا تنتهي، ولكن هو الخالق وهو الذي يقلبها ويسيرها، لو فسرت على هذا القول يكون الخلاف فقط في الأولية.
أما النهاية فنحن نعلم أن أهل الجنة خالدون فيها أبداً لا نهاية لوجودهم، فالجنة لا تفنى، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يفنى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] فمع ذلك نقول: بقاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليس كبقاء الجنة، أي أن بقاء الجنة ليس كبقاء الله، لأن بقاء الله ذاتي منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أما بقاء الجنة فهو بإبقاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لها.
ونحن نعتقد - أهل السنة والجماعة - أن السماوات والأرض هذه لن تعدم عدماً كاملاً مطلقاً ثم تخلق من جديد، وقد أوضحنا هذا من قبل، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة أنها تبدل، والإنسان يفنى ويبقى منه عجب الذنب، ثم يركب منه خلق آخر، كذلك السماوات والأرض لا تفنى بالكلية وإنما تبدل: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم:48].
فهم يقولون: إنها لا تفنى، ولكنها تتحول من نسب كمية إلى نسب كيفية أو العكس، فهو كلام قد يكون فيه شيء من الصحة، لكن إذا فسر بمعنى يخالف الكتاب والسنة فهو مرفوض مرجوع، أما من الناحية العلمية البحتة فلا شك أن مثل هذه النظرية كانت من أسباب هدم المبدأ الشيوعي من الناحية الفلسفية.(84/22)
القراءة في كتب الشيوعية
السؤال
يقول الأخ: ماذا تقولون لمن يقرأ عن الشيوعية وليس لديه ركيزة إيمانية في التوحيد؟
الجواب
الأصل أنه لا يوجد خوف، ومع ذلك نقول: لا يقرأ عن الشيوعية إلا من هو مؤهل في القراءة عنها، لكن نخاف على أحد أن يلحد إذا قرأ كتاباً شيوعياً، فهذا غريب وإن كان قد يقع، ونحن إذا قرأنا أو سمعنا أن الرجل زار الفاتيكان واحتفل بمرور ألف عام على الكنيسة، فهل يترك المسلم دينه لهذا الخبر؟! وإذا عادوا هم للثالوثية الصليبية التي وضعها لهم بولس وزورها عليهم، فهل نترك نحن ديننا دين إبراهيم ودين الحنيفية لأجل ذلك؟ هذا لا يمكن أن يقع من مسلم، لكن يفضل ألا يقرأ أحد هذه الكتب إلا من كان أهلاً لذلك.(84/23)
بشائر هذا الدين
السؤال
الأخ يقول: أخفتني يا شيخ، فهل من بشائر لهذا الدين؟
الجواب
بالعكس أنا قلت: سنفتح روما كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -بإذن الله- ففي الحديث أن أحد التابعين سأل عبد الله بن عمرو أي المدينين تفتح أولاً؟ قال عبد الله بن عمرو مدينة هرقل تفتح أولاً، فـ مدينة هرقل فتحت وبقيت مدينة روميا وستفتح -بإذن الله- وسيبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، ولا شك أن المستقبل للإسلام بإذن الله.
ولو لم يكن فيها إلا الملحمة الأخيرة، وقد أثبت فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أننا سوف نغلب الروم وسوف نهزمهم، عندما ينقسم المسلمون ثلاثة أقسام: ثلث ينهزمون فهم من شر خلق الله حينئذ، وثلث يقتلون فهم من خير الشهداء عند الله، وثلث ينتصرون، فهذا أيضاً موجود في آخر الزمان.
وإذا جاء عيسى عليه السلام فإنه يضع الجزية، أي: ينسخ حكم الجزية، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير ولا يقبل إلا الإسلام أو السيف، فسوف يدين العالم بأكمله بدين الإسلام -بإذن الله- والبشائر كثيرة، فلا نخاف.
فهناك فرق بين أن نخاف فلا نأمل، وبين أن يوجد عدو قائم ولا أحد يحذرنا منه، كما قلت: من أين نجد التحليل الحقيقي لما يدور في الغرب، لا نجده، بل يتكلم عن العملية هذه وغيرها من الأحداث على أنها تغييرات وعبور وأشياء شخصية، ويُعلق عليها تعليقاً عادياً مثل أي كلام، لكن لو وعت الأمة الإسلامية خطورة الوضع وعرفت حقيقته، فهذا لا يميتها ولكن هذا يستنهض الهمم، حتى لا نتولى فيستبدل قوماً غيرنا، فنكون كما قال تعالى: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]، وبإذن الله سننتصر وقد مرت الأحاديث في نصرة الطائفة المنصورة.(84/24)
مضمون كتاب المستقبل لهذا الدين
السؤال
عن كتاب المستقبل لهذا الدين لـ سيد قطب رحمه الله؟
الجواب
بالنسبة للشيخ سيد قطب رحمه الله، فإنه نقد كلام " رسل " في أن المستقبل للشيوعية، وذكر في كتابه المستقبل لهذا الدين، أن الشيوعية هي المؤهل لأن تسيطر كفكرة بشرية مادية غربية، وبعد أن تسيطر يأتي الإسلام ويتفوق عليها ويلغيها فتكون العاقبة للإسلام، لكن رسل يرى أن الغرب هو المواجه، والإسلام غير وارد في ذهنه أصلاً، ويرى أن الذي سيسيطر في النهاية هي الشيوعية أو أي مبدأ آخر كما يراه.(84/25)
المقصود بالصراع بين الطبقات عند الشيوعية
السؤال
ما المقصود بالصراع بين الطبقات عند الشيوعية؟
الجواب
كلمة (الطبقة) عند الشيوعيين اختلفوا فيها، وإلى الآن لم يتفق الشيوعيون على معنى محدد لكلمة "طبقة" لكن نحن نستطيع تقريباً أن نقول: أصحاب المصانع طبقة، العمال طبقة، فهذا أوضح شيء، فالصراع بينهما حتمي، فـ الشيوعية لا تقول: الصراع ممكن، بل تجعله حتمياً، ومن الصراع بينهما تنشأ القوة الثالثة، تطبيقاً للنظرية الجدلية التي هي الديالكتيك أو الجدلية، ويمكن الآن ألا تجد جريدة يومية إلا وتقول من منظور جدلي، ومن مفهوم جدلي، هذه هي نظرية هيجل التي أخذها كارل ماركس أن الأشياء تحمل نقيضها في ذاتها.
إذاً نبسط المسألة فنقول: عندنا عمال في بريطانيا ً -مثلاً- وعندنا أصحاب العمل -مثلاً- فلابد أن يتصارع العمال وأصحاب العمل ويثوروا، النهاية تخرج قوة البروليتاريا أو الحكومة العمالية حيث تكون الملكية مشاعة للجميع، لا العمال يملكون ولا الشركة تملك، وإنما لكل حسب جهده وحسب طاقته وحاجته، فهذه الشيوعية خيالية.
والواقع: أنه في بريطانيا -كما قلنا- لم تنجح فيها الشيوعية فأصحاب العمل تنبهوا إلى خطر ثورة العمال فقاموا وقالوا: لكل عامل من العمال الحق في أن يكون له أسهم في الشركة.
على سبيل المثال: يوجد بنك رأس ماله عشرة ملايين دولار يعمل فيه عدد كبير من العمال، وأيضاً هناك عمال يشتغلون في السيارات في الورش، لكن لو نجحت الاشتراكية فيهم لثاروا على البنك، خاصة إذا قال لهم الشيوعيين: خذوا مليوناً، أو كل واحد يؤمل أن تكون العشرة مليون دولار في جيبه، كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يحسر الفرات عن جبل من ذهب في آخر الزمان، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون كل يظن أن الجبل له}.
فكيف يتخلص البنك من هذه العملية؟ قام بوضع حوالي (50%) مثلاً أسهم، فيشترك الناس كلهم العمال والموظفون وغيرهم ويكون لهم أسهم في البنك، فلن يأتوا بعد ذلك إلى البنك، فقد أصبح البنك كله للناس، ولو كان ما تملكه عشرة ريال، فإنك تقول: دع البنك يبقى من أجل العشرة التي لي، فانتبه الاشتراكيون لمثل هذا الشيء، وشركات السيارات الضخمة انتبهت لهذه النقطة أيضاً، وعمال السيارات يقولون: من حقك أن توظف دخلك ليكون لك أسهماً في الشركة، فساهم في الشركة واتفق مع صاحب العمل، أو يأتي صاحب العمل ويقول للعمال: كل عشرين عامل ينتخبوا عاملاً، ونعقد مجلس شورى يتكون من رؤساء العمال، وهذا العامل هو في الأصل مندس بينهم، فيصير مجلس الإدارة مرتب على هوى رئيس الشركة، والعمال يقولون هذا جيد! فإذا أتى الشيوعي وقال: يا رجعيين، يا إمبرياليين، يا برجوازيين، ثوروا، فسيقولون: على من؟! هذا لي وأنا مرتاح له! أيضاً الشركات أصبحت تعطي سكناً صحياً، تعطي تأميناً اجتماعياً للإصابات، وللأضرار، فيقول لك الناس: لماذا تريد أن نكون شيوعيين؟! فنظرية ماركس لم تعد حتمية، لأن الواحد بعقله على الأقل في ظاهر الأمر أنه لا يوجد داعٍ لأن يثور، ولا حتمية، وهذا كله كلام لا فائدة منه.(84/26)
نصيحة للدعاة إلى الشيوعية
السؤال
أرجو أن توجه كلمة إلى أناس من بني جلدتنا يتكلمون بلغتنا ولا يزالون يتبنون الشيوعية ويتمسكون بها، ويصفون من حاد عنها بالمرتدين؟
الجواب
نحن قرأنا جرائدهم، وبعضها قرأناها سوية في أحد الأيام، يقولون: كيف تخرج طالبات الثانويات يطالبن بالحجاب؟! وكيف وكيف؟! والأحزاب المنشقة يقولون: مرتدة مرتدة، مرتدة على ماذا؟! مرتدة على الشيوعية الحرفية اللينية الماركسية، هذه ردة عندهم! فكيف نوجه لهم:
لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي
لا نوجه لهم إلا أن نقول لهم: اتقوا الله وعودوا إلى الله، لكن الذي يهمنا حقيقة هو أن نوجه الكلام لكم أنتم يا جنود الله الذين سيرغمون هؤلاء على الحق، أما الأذناب فيظلون أذناباً، وأضعف الإيمان أن يهتدي أولئك الأذناب، فإن الأسياد تركوا وهم ما تركوا، فليس لنا إلا أن نقول لهم: اتقوا الله، وتوبوا إلى الله، هذا كلام نقوله لأن الله تبارك وتعالى أمرنا به، فقط إقامة للحجة، ومعذرة إلى الله، وإلا فهم من أبعد الناس عياذاً بالله عن الرجوع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهم كأفراد قد يهتدي بعضهم، أما ككيان لا يرجع إلا إذا أرغمهم الأسياد، ونحن لا نريدهم أن يفعلوا ذلك، بل نريد أن نكون نحن الذين نرغمهم -بإذن الله- بالعقيدة الصحيحة، وبالعلم الصحيح وبالجهاد الإسلامي الحق المستجمع لجميع شروط الجهاد، والذي يسير وفق المنهجية المرحلية التي تسير بها الدعوة الإسلامية بلا ارتجال ولا عشوائية.(84/27)
خطر الطلبة المبتعثين
السؤال
هل يشكل الطلبة المبتعثون إلى الغرب خطراً على بلادهم عند رجوعهم إليها؟
الجواب
الاشتراكية والفكر الشيوعي دخلت كل بلد، والطلبة المبتعثون في الغرب من جميع البلاد يوجد بينهم أحزاب أو منظمات متأثرة بـ الشيوعية، لكن ليس لهم أي قيمة، ولا يشكلون أي خطر -بإذن الله- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(84/28)
البديل للشيوعية ومقاومتها
السؤال
بعد انهيار الشيوعية والنظام الاقتصادي القائم، فماذا تتوقعون البديل، كما أنه ظهرت مدارس فكرية وأدبية منحوتة شقيت بها الإنسانية كـ الوجودية وغيرها، فماذا تتنبئون لهذه المدارس، وما هي توقعاتكم للـ رأسمالية؟
الجواب
الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو العالم، لكن نحن نرى في الجملة أن الوجودية سقطت كما أن الاشتراكية سقطت، والأفكار الشرقية والغربية لم تعد تكفِ الإنسان أبداً، فيظل الغرب يتميز ويتفوق علينا بشيء واحد وهو القوة العسكرية، لأننا كما هو الظاهر الآن والعلم عند الله كم من القرون ستمضي حتى نستطيع أن نكون مثلهم؟ مع العلم أن لدينا القوة العظمى التي يفتقدونها، لا شك في ذلك.
لكن نقول: إن تفوق الغرب ينحصر في قوته العسكرية وقوته المالية والاقتصادية، أما النواحي الفكرية فقد أفلست تماماً، حتى الوجودية أفلست وغيرها ولم يبق إلا فتات وهراء، وهذه فرصة عظمى لنشر الإسلام، لكن لا يعني ذلك أن نشتت جهودنا لهداية أفراد أو آحاد من الغرب، ليس هذا هو المقصود.
لكن نقول: إن الغرب إذا أفلس مهما كان قوياً عسكرياً، إذا كنا على عقيدة صحيحة على الكتاب والسنة، وعلى الدين الذي لا يقبل الله تعالى سواه، وعلى مذهب أهل السنة والجماعة، ومنهاج الفرقة الناجية، وأقمنا الإسلام هنا في بلاد الإسلام، فعند المواجهة مع الغرب -بإذن الله- سوف يذعن الغرب ويركع ويخر للحق -بإذن الله- وسيدخل منهم من يدخل في الإسلام.
كما تعلمون في معركة اليرموك أن العدو هو العدو، والروم هم الروم، جورجيف الذي كان من قواد الروم أسلم وبين للمسلمين عورات الصليبيين وانتصروا -بإذن الله- وهكذا عندما يصبح المسلمون قوة سوف يسلم الغرب جماعياً، ومنهم من يكون طوعياً ومنهم من يكون مكرهاً، والمشكلة -والله أعلم- في تحليلي أنها ستبقى مشكلة التفوق في النظام، التفوق في القوة، والتفوق في الاقتصاد، ونحن مازلنا كما ترون عالة عليه، والأدهى أن الإعالة قد تكون في الحالة الفكرية، يعني أننا لم نتحرر فكرياً بعد.
وبهذه المناسبة نقول: إن التحرر من الغرب ليس صعباً، لكن لا يطيقه إلا أصحاب العقائد القوية، كانت المعركة بين فيتنام الشمالية، وفيتنام الجنوبية، وكما تعلمون أن الأمريكيين كانوا يحكمون فيتنام الجنوبية وكانت أقوى الطائرات وأحدث الطائرات الأمريكية تضرب الفيتناميين الشماليين، فماذا حصل؟ كان الشيوعيون الفيتناميون الشماليون يتحدون الغرب وعندهم مبدأ وعقيدة، فأنشئوا الجامعات تحت الأشجار، وأنشئوا الورش تحت الأرض، وطوروا أنفسهم واستمروا يقاومون الأمريكان ويعملون، وفي النهاية يحتلون فيتنام الجنوبية.
وغيرهم كثير مثل الصين الوطنية، وكوريا الشمالية والآن أمريكا منزعجة جداً من قوة كوريا الشمالية لأنها مقبلة على التصنيع، أي أن التحرر من الغرب ممكن، ولكن المهم وجود الإرادة، وهل هناك إرادة أقوى من إرادة المسلم صاحب العقيدة الصحيحة، لا يوجد أبداً، الذي يعرف أن هؤلاء كفار وأنه لا يجوز موالاتهم، وأنه يجب جهادهم، وأنه يجب الاستغناء عنهم، فهذه تعطي المسلم إرادة، ولو عصبنا الحجارة على بطوننا على ألا نشتري منهم شيئاً حتى ننتج بأنفسنا لفعلنا ذلك، ونحتسب ذلك عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإن كنا نألم فإنهم يألمون كما نألم كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ ونرجو من الله ما لا يرجون.(84/29)
أصل جورباتشوف
السؤال
ذكر الشيخ أبو بكر الجزائري في إحدى محاضراته أن غورباتشوف مسلم وأمه مسلمة وهو من أصل تركي؟
الجواب
لا أدري والله، إذا كان قال الشيخ ذلك فلابد أنه استند على شيء، لكن أنا ما عندي علم في ذلك، لكن على أي حال لا يهمنا، أما أن كل مولود يولد على الفطرة فهذا صحيح، لكن غورباتشوف الآن سيكشفه الزمن.(84/30)
ماذا عن الترف
السؤال
يقول الأخ: موضوع الترفيه؟
الجواب
نسأل الله تبارك وتعالى أن يصرف عنا وعنكم موجبات غضبه وانتقامه، {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16] كنا في الماضي ننتظر متى يأتي موسم الحج ونفرح بقدوم الحجاج، هذا يخدمهم، وهذا يحمل لهم المتاع، وهذا يعمل عندهم، وهذا يطبخ لهم، المهم كان دخلنا هو هذا الشيء، أن نخدم عباد الله لنقتات، وكنا محافظين على أصالتنا وعلى عقيدتنا وعلى الكثير من الخلال الحميدة التي كانت فينا وهذا حق.
فلما أغنانا الله ووسع علينا وبنينا البنيان العالية وجاءت الطفرة وإذا بنا نرى الألعاب في مدن الكفر ونريد أن نقيم مثلها هنا، هذا -والله- إنه نذير شر وشؤم، هذا هو الترف، وهذا هو داء الأمم، ليس هذا ترفيهاً والله، نحن ما عدنا من جبهات القتال حتى نقول: نتنزه على البحر يوماً أو يومين، بل على العكس نأتي من سهرات على التلفزيون أو الفيديو أو في الليل نسهر على البحر، ما الفرق، هنا سهرة وهنا سهرة! وأعمالنا الإدارية! نحن نعرف ماذا نعمل في الإدارات، نقرأ الجرائد ونشرب الشاي، إلا من رحم ربك، وأعمالنا الدراسية معروف الآن ماذا نَدرس وماذا نُدرس، فلابد أن ننظر فنحن أمامنا أهوالاً عظيمة.
ووالله لو أن الإنسان تفكر في مصيره ومآله واعتبر فيما يرى، واعتبر حتى بهذا البحر الذي أمامنا، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أغرق به أمماً أعظم منا.
أغرق الله تبارك وتعالى قوم نوح وهم أعظم منا.
وأغرق الله فيه قوم فرعون الذي حضارتهم أعظم من الحضارة الحالية الآن في كثير من الأمور لم يصلوا إلى مثل ما أنتج فرعون، وذكر الله تبارك وتعالى ذلك لنا في القرآن.
كل ذلك بسبب الفساد يقول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:6 - 14] وقال: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83].
نعوذ بالله من غضب الله، عذاب الله ما هو ببعيد أبداً إذا أراده، فإنه إذا أراد شيئاً فإنما يقول له: كن فيكون، فكيف ندفع عذاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ ندفعه بتقوى الله، وندفع الأعداء بالتقوى والصبر، وندفع عذاب الله القدري الكوني بالتقوى والإيمان، وبالدعوة والضراعة إلى الله، وبالإنابة، أما الطغيان والترف واللهو واللعب فهذا شيء ما خلقنا له: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32].
يا سبحان الله! نحن الذين أورثنا الله الكتاب واصطفانا، ونريد أن نكون كالذين أوتوا الكتاب، يكون في بلادنا تعرٍ، وانحلال، وتفسخ، وترفيه -كما يسمى- ألهذا خلقنا؟! أهذه رسالتنا إلى العالم؟! يأتينا هذا الغربي الكافر الذي لا يجوز أن يطأ بلاد الإسلام والطهارة، فبدل أن نقول: قد جاء فلابد أن ندعوه ونهديه، إلى الإسلام فيأتي ويجد البلاد مثل بلادهم، والتعري مثل التعري عندهم، ولا يشعر بالغربة أو يحس بأنه فقد شيئاً! والله اليوم وأنا آت من مكة قابلني إنسان -عامل بسيط كنت أريد أن يصلح لي شيئاً في البيت- فقال لي: أنا اشتغلت في الدمام وفي جدة، فقال: ما هذا الذي في جدة، شيء عجيب! ذهبنا إلى البحر في يوم الجمعة، وكله فساد، كله مثل الهنود ومثل عباد البقر، أين الدين أين الإيمان؟!! والله لقد وعظني موعظة عظيمة تحز في نفسي، وهو ما يعرف شيئاً ولا يعرف أن يقرأ الفاتحة! نحن بهذا نرضي الكفار ونغضب الله أولاً، ونغضب المؤمنين الذين يرون هذه المناظر، نحن تبلدت قلوبنا ومشاعرنا وأحاسيسنا، ونعوذ بالله أن يعمنا الله بعقاب من عنده، ونبرأ إلى الله من كل معصية له، حتى إن متنا فيبعثنا الله عز وجل ونحن على هذه النية، وإن قدر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهم السلامة ولنا فنكون قد عملنا الواجب علينا، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يعافينا دائماً، فنحن والله ننكر هذا كل الإنكار، ولا يجوز لواحد منا وأنتم والحمد لله فيكم المسئولون ومن له شأن ودور وتوجيه، لا يجوز لأحد منا يستطيع أن ينكر هذا الأمر إلا وينكره بما يستطيع في أسرته، وفي عمله، وفي مدرسته، وبيده إن كان من أهل الولاية، ونتعاون على البر والتقوى كما أمر الله تبارك وتعالى.
وختاماً: أسأل الله تبارك وتعالى لي ولكم التوفيق والسداد، وأن ينفعنا بما نسمع وبما نقول، وأن يحيينا على هذا الدين القويم ويبعثنا عليه، إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين.(84/31)
رسالة إلى فتاة الإسلام
ألقى الشيخ هذه المحاضرة في الفترة التي تلت -مباشرة- المظاهرة النسائية المشبوهة التي خرجت في الرياض داعية إلى السماح للمرأة بقيادة السيارة، فاستعرض الشيخ هنا التاريخ الذي مرت به دعوات تحرير المرأة في بداية تغلغلها في البلاد العربية، ونفاذها إلى مصر بداية، ثم استعرض الدور التاريخي الذي نمت فيه هذه الدعوة في السعودية، ومظاهر الفساد التي تم تسربها شيئاً فشيئاً، مستعرضاً بدايات ذلك في التلفزيون، والصحافة، والكلام فيها عن المسائل الشائكة حول تحرير المرأة، والجمعيات والنوادي النسائية، والنساء الغربيات في السعودية، وغيرها من الأحداث الهامة التي تبين تطور هذه الظاهرة في بلاد الحرمين.(85/1)
إلى من هذه الرسالة؟
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وجزى الله خيراً القائمين على التوعية الإسلامية في هذا البلد الحرام، وجزى الله خيراً كل من أسهم في نشر الخير ونصح الأمة وبيان الحق لها، ممن لم يتركوا لنا مجالاً للحديث في هذه القضية التي نحن -ولله الحمد- في غاية الفهم وغاية العلم بها، وهي في غاية الوضوح لدينا.
إن الرسالة التي كنت أريد أن أوجهها إلى الفتاة المسلمة دارت في ذاكرتي بشأنها أمور عدة: قلت: إلى من أوجهها؟ هل أوجهها إلى الفتاة المسلمة في مصر، البلد الذي كان أول من عانى من التغريب ومن خدعة ولعبة ما يسمى بتحرير المرأة وقضية المرأة، وإذا بي أنظر؛ فإذا بالفتاة المسلمة في مصر قد انتفضت على هؤلاء المجرمين، وعرفت مكرهم وغشهم وخداعهم، وإذا بالحجاب الشرعي الكامل يطرق جامعة مصر، ويطرق جامعة القاهرة التي أنشأها وأسسها دعاة التغريب الأولون لتكون جامعة علمانية، لا أثر فيها للدين، وإذا بالفتاة المسلمة هنالك تتحمل ألوان الأذى وأصناف التعذيب من أجل حجابها، ولكنها متمسكة به، ولا عبرة بالكثرة الغافلة؛ فالمهم أن العجلة قد دارت وأن الزمان قد استدار، وأن الحق قد ظهر وبان، وأن العاقبة للتقوى.
قلت: فليكن الخطاب إذاً إلى الفتاة المسلمة في بلاد المغرب التي احتلها الفرنسيون، وفرضوا عليها حضارتهم وعاداتهم وتقاليدهم ودياثتهم وإباحيتهم، فنظرت وإذا بالفتاة المسلمة في الجزائر قد أعلنتها صريحةً على الملأ منذ ما يقارب السنة تقريباً، حين أخرج الشيوعيون في مظاهرة تعدادها قرابة الثلاثة الآلاف، فرد عليهم الإسلاميون -وليس كل الإسلاميين، بل البعض الذين كانوا مقتنعين بالرد وبأن يكون الرد مظاهرة- وخرجت في الجزائر مظاهرة تعدادها على أعدل الأقوال، خمسمائة ألف امرأة، رداً على أولئك الثلاثة الآلاف.
وفزع الغرب فزعاً شديداً، وذهلوا ذهولاً عظيماً، -ولا سيما فرنسا - حتى صاح ميتران بملء فيه: 'إذا تولى الأصوليون الحكم في الجزائر، فسوف أتدخل عسكرياً كما تدخل بوش في بنما ' وقلت: لم لا يكون الخطاب والرسالة إلى الفتاة المسلمة في تركيا، البلد الذي كانت فيه أوضح وأعظم دعوة للانحلال من هذا الدين بقيادة اليهودي المجرم اللعين كمال أتاتورك، فقرأنا وسمعنا أن الفتاة المسلمة في تركيا قد عادت إلى إيمانها ودينها، وحجابها، رغم الكيد والأذى والتعذيب، وإذا بالعجلة قد دارت، وإذا بالمسيرة قد بدأت، فقلنا الحمد لله الذي رد كيد الخائنين، الذي لا يصلح عمل المفسدين، والذي جعل العاقبة للمتقين.
قلت إذاً: لما لا نوجه الرسالة إلى الفتاة المسلمة في أفغانستان أو الباكستان أو الهند، فوجدنا أن المرأة المسلمة هنالك هي السند بعد الله تبارك وتعالى لأولئك المجاهدين جهاداً باليد أو بالدعوة والقلم، وإذا بالمرأة المسلمة هنالك -والحمد لله- تدافع عن دينها وتعيش إيمانها وتسعى وتحرص كل الحرص أن تكون كما يريد الله، وكما كان المجتمع الإسلامي من قبل، فالدعوة هنالك قد قامت؛ والمسيرة -أيضاً- قد بدأت، ولا التفات إلى الوراء، ومنذ أن ذهبت الرافضية من الحكم، فلا عودة أبداً إلى هذه القضية، بل وئدت مسألة تحرير المرأة مع وأد تلك الخبيثة الفاجرة التي ما تولت الحكم إلا بنسج من أيدي أمريكا ومن معها.
إذاً من بقي؟ هل أوجه الرسالة إلى الفتاة المسلمة في بلاد الشام، التي لم يُنزع حجابها إلا قهراً؟(85/2)
خطاب إلى بنت الخليج
ما كنت أظن أنه يأتي اليوم الذي نحتاج أن نخاطب فيه المرأة المسلمة في أرض التوحيد، وبلاد الإسلام ومهد الإيمان، في هذه الجزيرة، في بلاد الحرمين، في هذه الأرض الطيبة التي ما خرجت دعوة؛ ولا قامت نهضة إيمانية، ولا عادت المرأة المسلمة في كل مكان إلى دينها إلا لتقتدي بالمرأة المسلمة هنا، لأنها مضرب المثل في تلك الدول، وإذا بالمفاجأة تأتي، وإذا بالحدث الجلل والخطب العظيم يأتي، وإذا بتلك اللعبة والخدعة الكبرى التي مرت في بلاد الأفغان والترك ومصر وتونس والشام والجزائر إذا بها وفي آخر الزمان، وبعد أن حلّت عروش الطغيان، وبعد أن ولى جيش الظلام، وانهزم الكفر وأهله، وبعد أن قامت الصحوة الإسلامية واستوت على سوقها في كل مكان، وإذا بهؤلاء الناعقات يأتين وفي قلعة وعاصمة التوحيد، ويردن أن يكن مثل أولئك.
عجباً والله! من كان يظن أن ذلك اليوم سيأتي، وأن هذا الخطاب سيكون موجهاً إلى الفتاة المسلمة في هذه البلاد، منذ ثلاث سنوات تقريباً، وفي هذا المكان الطاهر بالذات.
لما كانت محاضرة بعنوان: (المؤامرة على المرأة المسلمة) كنا نتكلم عن تلك البلاد، أما هذه البلاد فنحذر، ولا نتوقع أن يقع فيها ما وقع، ولكن التذكير والتحذير واجب، وإذا بنا نفتح أعيننا على هؤلاء المستغربات.
إن هذا يستدعي منا أن نعيد النظر لِمَ كان الأمر بهذه الكيفية؟! هل هذه هي النهاية؟! وهل هذه هي الغاية؟ أم أنها بداية لمرحلة جديدة، ولماذا هذا التوقيت؟ ومن وراءه؟ وماذا يريدون؟ أسئلة كثيرة هزت كل وجدانٍ وقلب حي.(85/3)
الصليبيون واهتمامهم بالمرأة
لا بد أنكم تساءلتم: ما ارتباط الدعوة بخروج المرأة، وتمردها على ربها وعلى سنة نبيها، وشريعة دينها، وأولياء أمورها، بالصليبية الغربية، ارتباط ذلك بالحملات الصليبية التي تفد على هذه البلاد الإسلامية كل حين، وما من صفحة من صفحات تاريخنا -واقرأوه- إلا ولنا مع الغرب والصليبيين معركة، ومع كل حملة تفد، تفد معها الدياثة، والتمرد، والانحلال، والخروج، ولأولئك دور وضلع لا يمكن إنكاره في هذا الخروج وفي هذا التغرب.(85/4)
الحملات الصليبية الأولى القديمة
إنّ الحملات الصليبية الأولى القديمة التي قدمت منذ ألف سنة، قام بها وحوش همج أوروبيون، لا يعرفون حضارة، ولا مدنية، وسخر منهم المسلمون ومن دياثتهم، ومن انحطاط خلقهم، ومن سفالتهم، بما لم يدع مجالاً لأن يُقتدى بهم.(85/5)
المرحلة الأولى: الحملة الصليبية الحديثة على مصر
لنتجاوز ذلك إلى العصر الحديث -كما يسمى- فأول حملة صليبية قامت في العصر الحديث هي حملة نابليون بونابرت على مصر في مطلع القرن التاسع عشر وأواخر القرن الثامن عشر ميلادي، فعندما قدمت هذه الحملة، واعتبرها البعض بداية لـ حركة تحرير المرأة، ومنهم المرأة المشهورة في الحركة درية شفيق، نظيرة وزميلة هدى شعراوي المشهورة والمعروفة، اعتبرت هذه الحملة بداية لدعوى تحرير المرأة -كما يسمونها- كيف كان ذلك؟ عندما جاء الفرنسيون بعد قيام الثورة الفرنسية التي قامت عام (1789م)، ورفعت شعار المساواة، والحرية، والإخاء -الشعارات الماسونية الكاذبة- وجاءوا بنسائهم متبرجات متهتكات.
وقد وصف المؤرخ السني الجبرتي رحمه الله صاحب التاريخ المشهور عجائب الآثار في التراجم والأخبار، قدوم الحملة وآثارها وكيف تأثرت بها المصريات، وكيف قلدن الفرنجيات في عاداتهن، وكيف أن الأمر تعدى مجرد اللباس إلى صحبتهن في الزوارق على النيل، والرقص معهن والتهتك والتخلع بخلاعتهن، فاعتبرت هذه هي البداية، وفعلاً قد كانت هي البداية.
ومن العجيب أن نابليون عندما قدم إلى مصر، وادعى أنه حامي الإسلام، وأنه ما جاء إلا لتأييد الإسلام، بل سمى نفسه محمد نابليون ضحكاً على المسلمين، وسخرية، واستهزاءً بهم، وطالب بالحرية الاجتماعية على نمط الثورة الفرنسية، وقال: 'إن مصر مجتمع متأخر منحط وقال: لا بد من إنشاء حكم يقوم على الطريقة الغربية' مع أن الغرب في ذلك الزمان لم تكن الديمقراطية قد تبلورت عندهم، فكانت الثورة حديثة عهد في فرنسا نفسها.
فأنشأ نابليون ديواناً للشورى، وقال: يشترك فيه جميع المسلمين، وانطلاقاً منه بدأت قضية المرأة، ولم لا تشترك المرأة، ولم لا يكون لها دور في هذا المجتمع؟ ولا سيما وقد قال نابليون: 'لا بد أن يكون هذا الديوان ممثلاً لجميع فئات المجتمع' فدخل النصارى -وقد كان النصارى وما يزالون دائماً عملاء للصليبيين الوافدين- ودخلت معهم أيضاً الطوائف الأخرى.
فإذاً كانت القضية حملة صليبية، صحبها تهتك، ودعارة، وخلاعة في النساء، ومطالبة بحكم شوروي نيابي؛ فانفتقت الأذهان عن هذه الفكرة الخبيثة، أو هكذا -على الأقل- فهم دعاة إفساد المرأة الذين جاءوا فيما بعد في المرحلة الثانية.(85/6)
المرحلة الثانية: حملة صليبية أخرى
في هذه المرحلة تجلت بوضوح قضية إفساد المرأة مع ظهور حملة صليبية أخرى في عهد إسماعيل باشا ابن إبراهيم باشا المشهور، كان إسماعيل باشا حاكماً على مصر في أواخر القرن الماضي الميلادي، وقد تلقى تعليمه في باريس، ثم لما تولى حكم مصر، شُقت قناة السويس؛ فكان الاحتفال التاريخي -كما يسمى- حضرته الامبراطورة يوجيني، وحضره امبراطور النمسا، وحضره كثير من زعماء أوروبا المتهتكين المتخلعين، وكان الرجل قد تربى تربية غربية؛ فقام بتطبيق الحياة الغربية بحذافيرها في مصر، أو شرع في ذلك؛ فهو أول من أدخل نظام الجمارك -مثلا- وهو الذي أدخل ديواناً أو مجلساً كما أسماه الشورى بظنه، وأنشأ جمعية عمومية، وعاش في الترف والبذخ، حتى ورط مصر في ديون بلغت مائة مليون جنية، وهي من الناحية المعنوية تعادل اليوم مائة مليار جنية.
وفي عهد إسماعيل باشا افتتحت لأول مرة في العالم الإسلامي مدارس للبنات، على نمط مدارس البنين وعلى الطريقة الغربية، تحتوي على سنوات معينة ومنهج كمنهج البنين، ثم مراحل بعضها يتلو بعضاً، كانت هذه هي المرة الأولى، ونتيجة للسيطرة الإنجليزية والفرنسية التي جاءت بسبب هذه الديون بدأت في عهده دعوة الانحلال، والفسق، والفجور، وكان رئيس وزرائه نوبار باشا الأرمني، وكان في حكومته وزيران: أحدهما فرنسي والآخر انجليزي، وفي ظل حكم هذا الرجل قامت ونمت وترعرعت الدعوة إلى الإباحية وإفساد المرأة.
حتى أن الإنجليز عندما جاءوا وأجهضوا ثورة أحمد عرابي وقضوا عليها، كان ممن أيد الإنجليز ودلهم وشجعهم على دخول القاهرة وحثهم على ذلك، وقاوم الشعب وقال لهم: لا تقاوموا الإنجليز، وهؤلاء إنما جاءوا لمصلحتنا، وما قدموا إلا لخير البلاد، ولدفع الظلم، ورفعه عنها، ولكي تكون حكومة شوروية انتخابية كان من جملتهم المدعو محمد سلطان باشا، وهو والد هدى شعراوي التي قد يأتي الحديث عنها -إن شاء الله- فالقضية ضالعة عميقة الجذور في العمالة أيضاً.
المهم أنه لأول مرة في الشرق عرف ما يسمى "البرلمان" في أيام إسماعيل باشا عام (1866م)، ثم خلفه الخديوي توفيق، ولأول مرة -أيضاً- في الشرق يعلن ما يسمى الدستور، فأعلن الدستور في عام (1882م)، وفي كل مرة يراد أن توجد حياة نيابية، أو دستورية، أو شورية -إن استخدم المصطلح الإسلامي- تظهر قضية المرأة لأن الأعداء المتربصين يريدون أن يفيدوا من هذا الوضع، فيقولوا: نصف المجتمع لا بد أن يظهر، وأن يمّثل، وأن يكون له دورٌ ووجود، وفي هذه الأثناء وبعدها ظهرت الحركة، وظهر جمال الدين الأفغاني الذي تتلمذ عليه محمد عبده، والشيخ محمد عبده -كما ثبت- هو الذي وضع أكثر كتاب قاسم أمين تحرير المرأة وظهرت دعوة قاسم أمين -المتوفى عام (1908م) - وانتشرت الحركة وكان اللورد كرومر المندوب البريطاني يرعاه.(85/7)
الحرب العالمية الأولى
بعد الحملة السابقة جاءت الحركة الأخرى التي كثيراً ما تنسى أو لا تذكر على أنها حملة صليبية، وهي الحرب العالمية الأولى، ونجد أن التمثيلية نفسها تتكرر، قامت الحرب العالمية الأولى عندما اتفق الإنجليز والفرنسيون على تقسيم العالم الإسلامي، وإخضاعه لسيطرتهم، وبدءوا يشيرون العرب ليثوروا معهم على الترك، فأعلن الإنجليز أنه لا بد أن يكون للعرب حكم مستقل.
ومن المكاتبات المشهورة التي كتبها السير هنري مكمهون إلى الشريف حسين يقول: "من السير هنري مكمهون مندوب الدولة البريطانية العلية، إلى الشريف حسين سليل الأسرة الطاهرة العترة الشريفة وكذا ويفيض عليه من المدح وأنك حفيد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكيف يصبح الحكم في أيدي الترك؟! وكيف يكون الأتراك هم الخلفاء والعرب موجودون، والسلالة الشريفة الطاهرة على قيد الحياة ويتولى الأتراك الحكم، والدولة العلية البريطانية تريد الخير والسلام، وعودة الأمور إلى شرعيتها، وتريد أن تنصبكم خليفة على العرب، وزعيماً لهما بشرط أن تقوموا معها، وتثوروا وتخرجوا على الترك، وقد عزمت على إقامة العدل والقضاء على الاستبداد التركي إلى آخر ذلك الكلام.
أما لورنس -المعروف بـ لورنس العرب الخبيث والمشهور- فقد خرج وخرج معه العرب المغفلون المخدوعون لمحاربة الترك والاستبداد التركي، يقول لورنس: 'كنت أشعر بتأنيب الضمير، وأنا أرى هؤلاء الناس يخرجون معي، ويقاتلون بني دينهم -يعني الأتراك- أملاً وطمعاً في أحلام ووعود وعدناهم بها ولم تتحقق' لقد كان الضمير يؤنبه، لأنهم ضحكوا على هؤلاء المساكين، فلا شرعية، ولا استقلال، ولا عدل، ولا حق، وإنما هي أطماع صليبية سُخِّرت لهذا الهدف.
ودخل اللنبي القائد الإنجليزي القدس وجيشه من الإنجليز والعرب -وفتحوا القدس - فلما وقف على جبل الزيتون، غرس رمحه بقوة وقال: 'الآن انتهت الحروب الصليبية'.
وأما الجنرال الفرنسي غورو فإنه تقدم ومعه أيضاً العرب في جيشه إلى دمشق، وقال العرب: لنا حكم بلاد الشام ويكون الشريف هو الخليفة وأبناؤه هم الحكام على هذه المناطق، هذا من عدالة الغربيين، ومن حسن أخلاقهم ومن حرصهم على الشرعية.
لما دخل غورو إلى دمشق قال: دلوني على قبر صلاح الدين، فدلوه عليه فأخذ يركله بقدمه، ويقول: قم يا صلاح الدين ها قد عدنا، وها قد انتصرنا، يا ثارات ريتشارد، يا ثارات بوهمند، يا ثارات فلان وفلان من قادة الحروب الصليبية الذين قتلوا أو أسروا في أيام صلاح الدين، وإذا بها حملة صليبية مكشوفة، وإذا بالعرب يخدعون وإذا بالوعود كلها تذهب هباءً.
المقصود ليس هذا -فكلكم تعرفونه- لكن انبثقت من خلال هذا: الحركة النسائية أيضاً، فلما انتهت الحرب العالمية الأولى عام (1918م) وإذا بـ سعد زغلول ومن معه وهدى شعراوي، يخرجون في العام التالي (1919م) يطالبون بالحرية والاستقلال وقالوا: لا بد أن يكون للمرأة دور، رتب سعد زغلول مع هدى شعراوي -وكانت رئيسة اللجنة المركزية لـ حزب الوفد للسيدات- ومن معها المظاهرة، فخرجت مظاهرة ضد الإنجليز، وخرجت المتظاهرات ونزعن الحجاب.
سبحان الله! يتظاهرن ضد العدو وينزعن الحجاب، ما هي القضية؟ وما العلاقة بين نزع الحجاب وبين المطالبة بإخراج المحتل؟! لكنها لعبة مدبرة، مزقن الحجاب وأخذن يطالبن بالحرية والاستقلال!! الحرية مِن مَن من الإنجليز أم من الحجاب الذي مزقنه ونزعنه؟! وجاء الإنجليز بتمثيلية من هنا ومن هناك فأطلقوا الرصاص، وقيل: هؤلاء البطلات الثائرات الرائدات الزعيمات، وإذا بالشعب والصحافة من كل مكان والأحزاب يقولون: المرأة تبذل نفسها من أجل الوطن، فماذا قدم لها الوطن! وإذا بالدعاة -دعاة الإفساد- يقولون: ها هي ذي المرأة تتطوع وتخرج وتقاتل وتواجه المستعمر، فماذا نقدم لها، أتظل حبيسة البيت وقد أثبتت وجودها ووطنيتها.
لقد صور الشاعر حافظ إبراهيم خروج المظاهرة وكيف استقبلها الإنجليز، ثم ردت على أعقابها، وسخر من هؤلاء الهزيلات والضعيفات ذات الجنس الرقيق والناعم، حتى هو رغم هذا الموقف شارك غيره من الشعراء والكُتَّاب في الحملة والدعوة إلى مشاركة المرأة في الدفاع عن البلاد، وعن الاستقلال، ومن ذلك القصيدة المشهورة التي كانت في مناهجنا التعليمية وقرأناها وحفظناها، وهي بعنوان: فتاة اليابان، لقد كان حافظ إبراهيم يمجد فتاة اليابان التي اشتركت وتطوعت في الحرب ضد أعداء اليابان في الحرب العالمية والتي قال فيها:
لا تلم سيفي السيف نبا صح مني العزم والدهر أبى
أنا يا دنية لا أنثني عن مرادي أو أذوق العقبا
هكذا الموساد قد علمنا أن نرى الأوطان أماً وأبا
فيقول: لا بد أن تخرج وأن تتطوع المرأة، وبالفعل تطوعت المرأة وخرجت في الدفاع عن الوطن، ويا سبحان الله! تبذل نفسها وتقابل الرصاص وتتطوع من أجل الوطن، ثم لا تمنح حرية الحياة ونزع الحجاب وأن تكون كالمرأة الغربية تتحضر وتترقى، وتفوز بالبرلمان، وتدخل المجالس النيابية وتعطى الوظائف، فهي تقدم دائماً والرجل ظالم لها لا يعطيها أي شيء، هكذا قيل وهكذا كانت تلك المأساة.(85/8)
ظهور الحركة النسائية والاتحاد النسائي
بعد ذلك ظهرت الأحزاب النسائية بالإضافة إلى أن هدى شعراوي -الزعيمة كما قلنا- وهي ليست هدى شعراوي، بل هي هدى بنت محمد سلطان، لكن انتسبت إلى علي شعراوي، وهو زوجها كما هو النظام عند الغربيين، كما انتسبت صفية زغلول إلى سعد زغلول، وهي ليست بنته، وإنما هي زوجته على عادة الغربيين، فهذا محمد سلطان -كما أشرنا- العميل الذي أُعطي أعلى الأوسمة والنياشين، والتي لا يعطاها في إنجلترا إلا من يصل إلى درجة أو مرتبة (سير) ويلقب بلقب (سير) وهو أعلى لقب هنالك بعد لقب (لورد).
أسست هدى شعراوي الحزب أو الاتحاد النسائي، بدايةً للمرحلة الجديدة التي انتقلت إليها مرحلة الأحزاب النسائية، وهذا بعكس ما حصل هنا، فعندنا هنا بدأ أولاً بتأسيس الجمعيات، ثم بعد ذلك نودي بالخروج، لكن بدأ هنالك بالخروج ثم أنشئت الاتحادات.
فالاتحاد أو الحزب الذي أسسته هدى شعراوي، أرسل وفوداً، ومن ذلك الوفد الذي أرسله لحضور المؤتمر النسائي العالمي في روما، وهذا مما يكشف ويفضح أن دعوات إفساد المرأة دائماً مرتبطة بالغرب، فهنالك ألقيت الكلمات، ومن الطرائف أن الوفد كان يتكون من ثلاث نسوة، منهن: اثنتان سافرتان، والأخرى الثالثة أخذها الحياء نوعاً ما؛ فكانت محجبة، فقال الإيطاليون وأعضاء المؤتمر: إن هاتين ليستا مصريتين، وإن هذه هي الوحيدة المصرية المحجبة، فقالوا: أكيد أن مصر استعارت امرأتين لتمثلها، لأنه لا يمكن أن تكون المرأة المصرية إلا محجبة.
وليس معنى ذلك كما يقول البعض الآن: تكشف الوجه وتقول: محجبة، كشف الوجه ما سمي حجاباً لا في اللغة ولا في الشرع أبداً، فالحجاب تغطية الوجه في اللغة وفي الشرع، وفي مصر كانت المرأة لا تكشف شيئاً أبداً، ولما جاءت هذه وهي متحجبة، قيل: هذه فعلاً التي تمثل مصر.
إن أولئك يعرفون أن المحجبة هي الأصيلة، وأن المتهتكة هي الغربية التي لا تمثل بلدها، ولم يُصدَّقوا أنهما مصريتان.
قابلت هدى شعراوي الزعيم موسيليني، وافتخرت بذلك، وقالت: كانت مقابلة عظيمة ورائعة وتحدثنا إليه عن تحرير المرأة وطالبنا بكذا -وموسيليني هذا هو زعيم الفاشية وكل زعماء الغرب موسيليني وهتلر، ولكن الزمان يدور دورته، المغلوب كما يقول المثل: إذا طاح الثور كثرت السكاكين.
لو أن هتلر هو الذي انتصر لكان الكلام اليوم في العالم، أنَّ هتلر هو حامل راية الحرية، وأن آيزن هاور ومن معه كانوا دعاة الطغيان والاستبداد للشعوب، لكن لأن الذي انتصر هو آيزن هاور الأمريكي، أصبحت أمريكا حاملة راية الحرية وغيرها هو العدواني وهو المتسلط.
المقصود أنها قابلته، وفي الطريق قابلت أتاتورك -انظروا إلى العمالة والنذالة- وأشادت به وجلست معه جلسة طويلة؛ وقالت له: أنت لست أتاتورك -أي أبو الترك- بل أنت أتا شرق، أي: أبو الشرق كله، هذا اليهودي المجرم الخبيث تقول عنه هكذا.
ومن تلك الحركات حزب فتاة النيل الذي كان وراءه وبكل وضوح زوجة الرئيس الأمريكي روزفلت، كانت تموله وكنَّ رائدات الحزب كله يذهبن إلى السفارة الأمريكية ويتلقين التشجيع والتهنئة بنجاح المؤتمر النسائي الذي عقدنه من زوجة الرئيس الأمريكي روزفلت.
وأصبح الآن لا مجال للنقاش في أن الحركة النسائية في مصر إنما هي عملية للصليبيين من الإنجليز والأمريكان ومن أمثالهما وأشباههما.(85/9)
مسيرة إفساد المرأة في المملكة العربية السعودية
بعد هذا العرض، ننتقل إلى هذه البلاد الطاهرة، وكيف بدأت المسيرة فيها، ولا بد أن نوجز إيجازاً وقد يكون مخلاً أيضاً.(85/10)
التعليم
الحركة عندنا هنا، كما كتب عنها من الكُّتاب الرسميين كما في كتاب معجزة فوق الرمال، أرادوا أن يبدءوا من باب آخر، ويعتبروا بما جرى في مصر وغيرها قالوا: تبدأ الحركة بالتعليم، والإسلام دين العلم، والمطالبة بالعلم لن يرفضها المجتمع، وليكن المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه، هو المسئول على التعليم.
ولم يكونوا في المرحلة الأولى يريدون إلا مجرد التعليم، فلو أن الشيخ محمداً -رحمه الله- جعل التعليم كله قرآناً وفقهاً وتوحيداً لقبلوا، ولو جعله بدون شهادة لقبلوا.
المرحلة الأولى كانوا يريدون فقط تعليماً -أي تعليم- لأنهم يخططون على الأمد البعيد، ونحن -مع الأسف وهذه مشكلة نعاني منها- أننا لا نخطط ولا نفكر على المدى البعيد، إذا ارتبط الأمر برجل فالرجل يموت، وكل الرجال يموتون ولكن من سيخلفه؟ كيف يكون الحال من بعده؟ ففات الإسلاميين أو فات حملة العقيدة أن يضعوا نظاماً للتعليم مختلفاً اختلافاً كلياً عن نظام الأولاد.
ومع الأسف بُدِئ به كتعليم الأولاد: ست سنوات ابتدائي، وثلاثة متوسط، وثلاثة ثانوي، والجامعة على نفس النمط، بل وضعت مناهج هي نفس مناهج الأولاد، حتى الجبر والإنجليزي، والكيمياء، والفيزياء، عجيب جداً! كيف مضى هذا الأمر، وكيف لم نتنبه لهذه الخدعة؟! وقد فرح وابتهج العلمانيون بهذه الخطوة العظيمة التي -أحسب وكما قرأت من كلامهم- ما كانوا يتوقعونها بهذه السرعة، لقد كانوا يظنون أنها تبدأ بكتاتيب القرآن، ثم توحيد وفقه، ثم كذا، وفي الأخير سوف يصل الأمر.
المهم أنشئ التعليم، ويا للأسف أنه أُنشئ كما أنشأه إسماعيل باشا، على نمط تعليم البنين.(85/11)
الجمعيات
أنشئت بعد ذلك الجمعيات النسائية، وأشير إلى جمعية النهضة النسائية هي أول جمعية أنشئت في المملكة، وأعطيت ترخيصاً خاصاً، كانت مُنشئتها هي سميرة خاشقشي، وهي ليست مجهولة، ولا يمكن لأحدٍ أن يتهمها بأنها امرأة صالحة أو ذات دين، أو ذات خلق لأن مؤلفاتها ورواياتها وقصصها تملأ الأسواق، وسيرتها معروفة، وتعليمها وحياتها في الخارج معروفة ومكشوفة للجميع، ثم تُعطى ترخيصاً بإقامة هذه الجمعية.
ورحمة الله على المنتبهين والناصحين، كم ينصحون ولكننا لا نحب الناصحين، ورحمة الله على الشيخ عبد الرحمن الدوسري فقد نبهنا والله وكأنَّ صوته يرن في أذني الآن، وهو ينبه إلى خطر هذه الجمعيات، وإلى الأيادي الماسونية من ورائها، ولكن من ينتبه، إنما نخدر بكلمة واحدة وبمقولة: إن هذه ضمن تعاليم ديننا، وفي إطار شريعتنا وتقاليدنا، فما دام قالوا هذه الكلمة، إذاً فليفعلوا ما يشاءون.
أرادات الجمعية أن تبدأ من هنا، وأخذوا يكتبون أعمدة نسائية في الصحافة، وبدأوا يظهرون صوت المرأة في الإذاعة، أحد وزراء الإعلام السابقين يقول: إنني لما لم أجد أحداً، وجدت فلانة بنت فلان، وزوجته، وبدأ صوت المرأة يظهر في الإذاعة السعودية، ولكن الاعتراض والاستنكار ما يزال قوياً، فما الحل؟ فكروا في الوسيلة الخبيثة الماكرة التي فتحت لهم باباً عظيماً في الفساد، قالوا: إن أظهرت لهن مجلة هنا في المملكة سيثور عليها الناس، وسوف تقفل وتمنع، فما الحل؟ الحل: أن تنشأ صحافة في بلد غربي، ثم تصدر إلى البلاد، فأنشأت سميرة خاشقشي مجلة الشرقية، وفي عاصمة الظلام -أو عاصمة النور كما يسمونها- في باريس وهي تخاطب المرأة السعودية، والمجتمع السعودي، فإذا جاءت هنا، وقيل: الرقابة، قالوا: هذه صحافة أجنبية، وإن قيل: أفسدت بناتنا، قالوا: لا، لا بأس، فمع الزمن يعترض المعترضون كالعادة، نعترض ثم نهدأ ثم نسكت ثم نستسلم، أما هم فيتقدمون خطوات، وإذا بـ الشرقية تستمر وتنطلق.
استنكرتها بعض الأصوات كـ مجلة الدعوة السعودية، وقد كانت قوية في عصرٍ مضى، ولكن مضى الأمر وهكذا.
وانتشرت الجمعيات النسائية، وإذا بالجمعيات تقيم الحفلات للأزياء، وتقيم الحفلات للتمثيل، والمسرحيات، تقيم ما تقيم من الأمور التي لا تخفى عليكم جميعاً، ولا نريد أن نستطرد فيها، فالمقصود: أن إنشاء الجمعيات النسائية هو نمط مبدل للأحزاب النسائية في البلاد الأخرى.
وهنا لا بد أن نقول كلمة: إذا كان إنشاء جمعية خيرية نسائية -مثلاًَ- على سبيل أن النساء ينفصلن عن الرجال ويعملن أي عمل من أعمال الخير، فهذا يبحث وينظر في ضوابطه وقيوده، ولكن لم يكن هذا هو الهدف، الهدف هو إيجاد صراع بين الذكر والأنثى في المجتمع، فتقوم الجمعيات لتطالب بحقوق المرأة، ويرد بعض الناس -وقد يكونون مفتعلين- على مطالبها، فتنشأ المعركة.
كالحال في المجتمع الغربي الذي لا يحكمه شرع الله، فالعمال في صراع مع أرباب العمل، والطلاب في صراع مع مديري ومسئولي الجامعة -مثلاً- والشعب في صراع مع الحكومة، والمعارضة في صراع مع الحكومة الدستورية، والمرأة في صراع مع الرجل، وأحياناً تكون -أيضاً- النوعية فالشباب في صراع مع الكبار، أو المحافظين في صراع مع أصحاب التحرر؛ فكل الغرب يعيش في صراع وفي تناحر، فتقول المرأة: إنما أريد أن أكون مطالبة بحقنا، إلى متى نظل مهضومات؟ إلى متى نظل كذا؟ فكان هذا هو الغرض الذي امتد وانتشر في أمور أخرى غير الجمعيات.(85/12)
التلفاز
جاء التلفاز بعد ذلك وفي أول الأمر وأذكر -كنت حينها في المرحلة الابتدائية في الرياض - أن أحد العلماء خطب، وقال: "لقد وعدنا وعوداً قاطعة جازمة، ألاَّ يكون هناك امرأة تظهر فيه، ونعوذ بالله، وهل يعقل أن نظهر النساء في دولة الإسلام" كلمات قوية لا زلت أحفظ بعضها إلى الآن، فكانت هناك وعود من المسئولين ألاَّ تظهر المرأة في التلفاز، وأنه لن يكون فيه موسيقى، وأنه لن يكون إلا وسيلة للخير، وهو سلاح ذو حدين، قلنا: مادام ذو حدين الحمد لله، لو كان حداً واحداً لغضبنا، وسكت الناس وخدعوا.
وبعد فترة قالوا: لا بد للمرأة أن يكون لها دور، قالوا: الطبخ كيف تتعلمه؟ فكانت تظهر حلقات وبرامج صغيرة عن الطبخ، تظهر فيها الكفان فقط وهي تقطع البصل.
بعد مدة ظهر الذراع، ثم ظهر الوجه، ولكن كانت متسترة وكبيرة في السن، قلنا: هذه من القواعد، فلا مشكلة، نعم دائماً يضحكون علينا لأننا نحن الذين نقبل هذا، ولا أحد يستنكر.
واحد يسكت، وواحد يقول: أنا أصلاً ما أدخلت التلفاز بيتي، فليذهب الناس إلى الجحيم أو الجنة، فالطريق واضح؛ وكل ذلك في ذمة الذي أتو به -المهم أن لكل إنسان أعذار- وبدأت المرأة.
وبدأ بعد ذلك -وكما رأيتم- الانفتاح قالوا: نأتي بمسلسلات ونراقبها، بدأت المسلسلات ثلاثة أنواع أو أربعة؛ مسلسلات أجنبية أمريكية وغربية وغيرها، مسلسلات مصرية ومصر كانت قد قطعت شوطاً في التغريب- والأخرى المسلسلات البدوية، وكل نوع من الشعب يُفسد بوسيلته التي يعجب بها، أهل البادية يحبون المسلسلات البدوية، تجعلها بعد المغرب أو في وقت مبكر قبل أن يناموا، أما الأفلام الأمريكية آخر الليل وهكذا، والمصرية بعد العشاء -مثلاً- المهم كل واحد على منزلته، فلا تظل فئة من فئات المجتمع إلا ودخلها الفساد.
اعمل إحصائية لهذه المسلسلات وقسها وانظر، فإن لم نقل (100%)، فـ (90%) منها عشق وغدر، وزنا، وفساد، وخلاعة، وفي النهاية إن كان الزواج آخر شيء، حفل الزواج آخر مقطع في المسلسل بعد ثلاثين أو أربعين حلقة، أما ما قبل ذلك من الصحبة والذهاب والرجوع والمرأة تقود السيارة، وتذهب وتواعد حبيبها وتركب معه السيارة، كل هذا قبل الزواج بمراحل، في أول الفيلم وأول المسلسل هكذا كانت الخطة.
وسكت الناس وما كان يدور في عقولهم أن ما نراه في الشاشة، سيأتي من يطالب به في الواقع، وهذا من استحكام الغفلة على قلوبنا-نسأل الله العفو والعافية-.(85/13)
الصحافة
نأتي -أيضاً- إلى ملحظ آخر وهو الصحافة: كانت الصحافة تطالب من بعيد، وأحياناً تتقدم خطوتين وتتأخر خطوة، وفي تلك الأيام أو البدايات الأولى ظهرت دعوى قوية -والحمد لله- مضادة لهذه الحركة، ونذكر منها الأستاذين الفاضلين الكاتبين، الأستاذ أحمد محمد باشميل، والأستاذ أحمد محمد جمال، اللذان ألفا: لا يا فتاة الحجاز، ومكانك تحمدي، فمن قرأ الكتابين وجد أنهما رد على دعوة كانت قائمة في البلاد، والمملكة كانت فيها مجلات كثيرة، كان أي أحد يستطيع أن يفتح مؤسسة ويعمل مجلة، فكانت كثيرة حتى كان هناك مجلة اسمها البعث، وصدر منها عدة أعداد، وكانت مفتوحة حتى نزلت المؤسسات الصحفية.
المهم أن الصحافة أخذت بنصيبها وأخذت على عاتقها نفس الدعوة وسايرت الجمعيات، وسايرت التلفاز، وظهرت الدعوة بوضوح بعد مقتل الملك فيصل وظهور الصحافة الأمريكية، وتعليق الصحافة الأمريكية بأن موت الملك فيصل هو بداية عصر جديد في السعودية للتحرر، وإذا بالجرائد ومنها جريدة الرياض تقول نفس العبارات: إن المرأة السعودية ستشهد عصر النور والانفتاح، وقد مضى عصر الظلام! بهذا النص.
وكتبت جريدة الرياض في أحد الأعداد، تقول: إنه قد يأتي اليوم الذي تكون هناك المقاهي المختلطة في الرياض لا في باريس بل في الرياض، ويجلس الرجل والمرأة في المقهى ويستمتعون ويشربون الشاي، ويكون -أيضاً- هناك ممثلون وممثلات، ودور السينما، وأخذ المقال يفيض بهذا الكلام، وإذا كان ذلك سيتحقق فلم لا نتعجل به، إذا كانت الدعوة تريد ذلك.
في أثناء ذلك -أيضاً- ظهرت ضمن الصحافة جريدة اليوم التي تصدر في المنطقة الشرقية وظهر أحد الشعراء وقال القصيدة المعروفة:
مزقيه مزقيه ذلك البرقع مزقيه أي ذل أنت فيه أي شؤم أنت فيه أي ليل أنت فيه أي قبر أنت فيه مزقيه مزقيه واسألي يا بنت رب العالمين واسألي من أنزل الآيات والسور هل يخفى القمر
أعوذ بالله، يريد أن تكفر بالله، وأن تسأل الذي أنزل الآيات والسور لماذا ينزل الحجاب؟ نسأل الله العفو والعافية.
فتحرك بعض أهل الخير وكانت تلك الأيام -مع الأسف- سنوات الطفرة، فالناس مشغولون بالسهرات وبالعمارات، لا يوجد متفرغ للثاني، لكن تنبه من تنبه، وعوقبت الجريدة بعقوبة صارمة للغاية! فأغلقت ثلاثة أيام!! وكان من المفروض أن يقام حد الردة، وهنا نقف وقفة.
حد الردة ما من حدٍ يسقط فلا يقام، إلا وتظهر عقوبة ذلك في المجتمع، متى أقيم حد الردة على أي ملحد؟ أيعقل أننا مع هذا الفساد العظيم ما ظهر فينا ملحد من سبعين سنة؟! معقول! ما وجد فينا مرتد من سبعين سنة! لو أقيم حد الردة على واحد والله لزجرت أمم وألوف من الناس، ولذلك طوي ملف الحداثة وحفظ، وإلا فالردة الصريحة موجودة فيه، لو حوكم أصحابه على الردة وقتل منهم اثنان، أو ثلاثة، أو أربعة، ومن قبل الحداثيون الأوائل، الذين ركبوا الموج أخيراً وغيروا، وإلا فدواوينهم معروفة، ونساؤهم معروفات، كن يخرجن في الرياض، وهم الآن يتمسحون باسم الدين، ويقولون: إن الفتوى ستتغير بتغير الأزمان والأحوال، هؤلاء أنفسهم هم أول من تبرجت زوجاتهم، وأول من طالبن قبل الحداثيين بالإلحاد والكفر، والفجور.
فالمهم أنه لما لم يقم على هؤلاء ولا على هؤلاء حد الردة، حتى تجرأ من تجرأ والله المستعان.
وفي هذه الفترة -أيضاً- ظهرت الدعوة عبر الصحافة إلى دور السينما، وقالوا: لا بد من وجود سينما في المملكة تراقب، كما ظهرت الدعوة في مصر، وقالوا: من اللازم أن توجد بيوت للبغاء وللدعارة، وتراقب صحياً واجتماعياً خير من أن البلد يكتسب الزنا ويصاب بالمرض، قالوا: تراقب؛ فظهرت، وتبنت جريدة عكاظ الخطة بعد أن تركها الأستاذ أحمد غفور عطار، وقد أعلن براءته منها بعد أن تبنت هذا الخط، ودعمتها جريدة الرياض، والجزيرة واليمامة وغيرها، وقامت بقوة، وانفردت جريدة المدينة بالوقوف ضد الدعوة إلى دور السينما، حتى أن واحداً من المعلقين الكبار، قال: دور السينما لا بد أن يوجد، وأيضاً نشكر الأستاذ أحمد محمد جمال، والأستاذ صالح جمال أخوه، ووقفتهما التي وقفوها ضد هذا التيار.
وأذكر أننا كنا في السنة المنهجية هنا في الجامعة، وأعددنا تحليلاً لتلك الأيام، فاشترك بعض الإخوة بمقالات صغيرة أرسلت إلى الجريدة؛ ويشهد الأستاذ أحمد محمد جمال ومن فرحته ومن غربة من يتكلم في هذا الموضوع، كتب عنواناً بخط كبير: لست في الميدان وحدي، وقال: "الحمد لله جاءني تشجيع، جاءتني رسالة من طالب جامعي يكتب في الموضوع، ولا زلت أذكر العناوين التي كان يكتب بها بعنوان: (لا تهدموا هذا الكيان الكبير) يقول: هذه الدعوة هدم لهذه المملكة الكيان الكبير، هذه الدعوة إلى الإباحية وإلى ظهور المرأة في المسرح، هذه دعوة لهدم هذا البلد وهدم الجيل، وكان هذا ما كتب، وجزاه الله خيراً، وهناك من كتبن ضد هذا الموضوع من أسرة الأستاذ صالح بالذات.(85/14)
تطوير الجيش
النساء في تلك الفترة -أيضاً- ابتلين بتطوير الجيش، الذي خسرنا عليه مليارات -والله يعوض خيراً- فتطوير الجيش وتحديثه قامت به عدة شركات أمريكية، وكان في كل القواعد الجوية الأمريكية نساء أمريكيات يعملن في القواعد وغير ذلك، ومن هذه الشركات (لوترب) وشركة (ماكدونلد) وشركات كثيرة في كل القواعد.
أما المستشفيات والخطوط السعودية فحدث ولا حرج -هذا أمر معروف وظاهر للجميع- فكانت المرأة تعمل في عدة قطاعات من المجتمع مع الرجل، وإن كان الغالب أنهن كافرات، لكن -أيضاً- وجدت بعض التعقيدات؛ فظهرت الدعوة التي تقول: لماذا لا تكون العاملات من أبناء الوطن وفي حدود شريعتنا وتقاليدنا؟ لماذا تظل هذه الوظائف حكراً على النساء الوافدات كالمذيعات في التلفزيون -مثلاً- أو الممرضات، أو المضيفات، أو العاملات في القطاعات الأخرى والشركات؟ وظهرت هذه الدعوة ووصل الحال إلى أن وزارة التخطيط تبنَّت بنفسها توظيف النساء، وخصصت لهن مكاتب كثيرة وتوظف النساء؛ وكما قال وزير التخطيط في الندوة التي عقدت في جدة: إن الوزارة تهدف إلى تهيئة الكوادر، ثم تصديرهن فيما بعد إلى الوزارات الأخرى، فبالطريقة هذه تصبح الوزارات جميعاً مختلطة، وما المانع أن يكون هناك موظف إلى جانبه زميلته موظفة في إطار وحدود شريعتنا وتقاليدنا.
في هذه الفترة ظهرت المطالبة بجامعة للبنات، ولكن كلما ظهرت فكرة جامعة البنات توأد ولا نسمع لها أثراً، فجامعة البنات قالوا في أول الأمر: إن التعليم سيكون إسلامياً؛ وأن المفتي هو المسئول عنه، وقالوا: لا، مع أن بعض الوزارات شققت في تلك الأيام إلى أربع وزارات، فوزارة المواصلات كم شقوا منها وزارة؟ ووزارة الداخلية كم شقوا منها وزارة؟ أموال كثيرة والحمد لله، ووظائف تراد أن تُفتح، فكثروا الوزارات إلا هذه، قالوا: الأحسن لو دمجت وزارة المعارف مع الرئاسة العامة، لأنه لو وضعنا جامعة للبنات ربما يختل عندهم هذا الشرط الذي يسعون إليه.
ثم قالوا: نريد أن يدرس الأبناء معلمات في المرحلة الابتدائية، وكتبوا ذلك، وكان لسماحة الشيخ عبد العزيز فتوى في الرد عليهم في ذلك، وأن هذا لا يجوز؛ لأنه يفتح باب الفتنة، فقالوا: تنازل يا سماحة الشيخ يدرسن إلى ثالث ابتدائي فقط، بعد ذلك تدخل من باب المدرسة لكن لا تدخل فصل سنة سادسة أي من ثالثة وتحت، تتقابل مع المدير والوكيل والفراشين والمراقبين، لكن سنة رابعة، وخامسة، وسادسة ما تقابلهم، فأرادوا أن يستغفلونا ويضحكوا علينا؛ ولكن قامت الدعوة -والحمد لله- ورفضتها الرئاسة؛ أما جامعة البنات فإنها لم تر النور بعد والله المستعان.(85/15)
ابتعاث النساء إلى الخارج
في نفس الوقت ظهرت مصيبة الابتعاث مع سنوات الطفرة والنعمة، ونعوذ بالله من أن نكون من الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار.
والله لما سمعت ما فعله هؤلاء الفاجرات الفاسقات في الرياض، قلت: يا سبحان الله! لو أنَّ كل واحدةً منهن سألت أباها أو جدها، كيف كنت تعيش؟! ونظرت إلى ما أنعم الله تعالى به عليها، لشكرت الله وحمدته، وما فعلت هذا الفعل، فوصل الحال في مجتمعنا إلى هذا الحال، أن الناس يأكلون الجيف.
والله لقد حدثنا ثقات أنه خرج ثلاثة من شدة الجوع قبل حوالي سبعين سنة أو ستين سنة، فلم يجدوا ما يأكلون، واستمروا في الصحراء، فما وجدوا شيئاً يأكلونه، فناموا، واتفق اثنان على أن يقتلا الثالث ويأكلاه -والله من الثقات- ولكن في أثناء التشاور كيف يقتلونه وهو نائم وإذا بكلب يمر، فأيقظوه وحاصروا الكلب وذبحوه وأكلوا لحمه.
أقول وأمثله كثيرة وآباءنا يعرفونها، جوع شديد جداً، بل إلى قريب بعد أن تأسس الجيش، كان الجنود يمضون أحياناً سبعة أشهر لا يأخذون الراتب.
أقول: أنعم الله علينا -والحمد لله- بالمال وهذا البترول، فهل شكرناه أم كفرناه؟ قلنا: نبتعث البنات للخارج، هل هذا جزاء النعمة وشكر المنعم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويرسلن إلى الخارج، هذه في كولورادو، والأخرى في مسلدن، والثالثة في كاليفورنيا.
وهنالك لا أقول: تعلمن قيادة السيارة، ليست القضية قيادة السيارة، بل تعلمن كل أنواع الفساد والانحلال والإباحية، ثم جئن هنا ليربين الأجيال! ابتعثن من غير محارم وما يزلن يبتعثن من غير محارم، ويفعلن ما شئن، فهل نتوقع أنها هناك مجرمة وفاسقة ومتهتكة، ومتخلعة؛ فإذا عادت هنا تتحول إلى ملاك؟ لا يمكن.
وصحب ذلك حملة خبيثة مسمومة من هؤلاء المبتعثين وقد يأتي لنا وقفه مع هؤلاء، لأن الذين يقفون وراء هذه الحركة الخبيثة رجال معرفون بأسمائهم ولو شئنا لسميناهم تستروا حتى تعرفوا أنها حركة مدبرة، بأسماء نساء، وأخذوا يكتبون في الجرائد في جريدة الرياض، وفي الجزيرة، وفي اليمامة، وفي عكاظ، وفي المدينة، كلام كثير جداً، فقام المعارضون ومنهن فتيات -والحمد لله- وتعرفون بعض أسمائهن، واعترضن وطال النقاش.
ومن أطرف ما نشر -والحمد لله أننا تنبهنا بعد فوات الأوان- طالبت بعض الفتيات المؤمنات اللاَّتي كن يحاربن هذا الفكر الخبيث، ونريد أن نتصل بكن يا فلانة، وفلانة، وفلانة، (ونجمة الحمود، وطفول عبد العزيز) وغيرهن، فتكتب تلك وتقول: إني موجودة ومعروفة، فتكتب تلك وتقول: أعطني هاتفك أتصل بك، أو مكان كليتك أريدك، وإذا بالأمر أنه ليس هناك نساء بهذه الأسماء، إنما هم رجال مجرمون ومعروفون بأسمائهم، يكتبون بأسماء نسائية، يقول أحدهم: أنا امرأة محطمة، وأنا متأخرة! وهو رجل يكتب ليفسد المرأة المسلمة، ويضحك علينا ونحن مع الأسف في غفلة عن هذه الأحداث التي تجري من حولنا، والطيّب فينا ربما لا تتجاوز قراءته أو فهمه حدود مسجده أو الحي الذي هو فيه، والدنيا الأخرى لا شأن له بها، والله المستعان!(85/16)
نوادٍ رياضية للنساء
ثم نشأت بعد ذلك دعوة غريبة جداً، تطالب بنوادي نسائية للرياضة، فيصبح هناك منتخب الرياض للفتيات، ومنتخب جدة، وبعد ذلك تعقد مباراة، وتنقل في التلفزيون، فيحضرها الرجال، وقالوا: لا بد من نوادي، وحكومتنا الرشيدة قد هيأت كل شيء، وتدفع آلاف المليارات على الرياضة، لا يمكن أن تحرم الفتاة التي تخدم الوطن والتي كذا وكذا، وطالبوا معها بمكتبات، والمكتبات أمرها أخف! لكن المقصود أنهم يريدوا أن يجعلوها صراعاً وخروجاً عن الدين، ولو كان الغرض مكتبة ليقرأن، لطالبنا نحن بذلك، لكن لهم أهداف خبيثة من وراء ذلك، وظهرت هذه الدعوات المحمومة -وربما لا تزال- وظهرت معها الدعوة إلى المهن المختلطة، وحتى فتحت معاهد التمريض في أكثر المدن -مع الأسف الشديد- ثم أخذت المقابلات تُجرى عن أول فتاة في دولة كذا تقود الطائرة، وأول عسكرية في دولة كذا، وأول شرطية في دولة كذا، من أجل أن يقولوا: أين المرأة السعودية وما دورها؟ هنا -أيضاً- نشيد بالأخت سهيلة زين العابدين فإنها ممن قاوم هذا الفكر المنحرف، ولها ردود في هذا المجال وغيرها من الأخوات التي -مع الأسف- اختفت ولا أدري لماذا اختفت.(85/17)
دخول القوات الغربية
وعندما جاءت هذه الحشود والقوات الغربية، الفتنة الكبرى التي ما أظن مر على تاريخ الإسلام وتاريخ جزيرة العرب كارثة أعظم ولا أكبر منها، وجاء معهم النسوة التي لا يخفى على أحد أعمالهن ولا تحركاتهن، وقد حُذر مع الأسف، ولكن قد كان الواقع الذي ترونه، والذي يراه كل أحد يزور المناطق التي يتواجدون فيها وهم ليسوا ببعيد، المهم لما جاءوا كان طبيعيٌ جداً أن تتكرر الدعوة القديمة دعوة تغيير المجتمع.
الذي نعرفه أنكم جئتم لإعادة الشرعية، وللدفاع عن البلاد، أمّا أنكم تقولون: تغيير المجتمع، التغيير الاجتماعي، والديمقراطية، وتغيير التركيبة، وتغيير البنية الاجتماعية، ما علاقة هذا بهذا.
ولكي أختصر عليكم الإحالات -وهذا شيء أنا أرجو أنه لا يفوت ذلك الكثير منكم حتى تعرفوا ماذا يراد لنا- كل يوم في الصباح وأيضاً تأتي في الليل أحياناً لكن أنا لا أسمعها إلا في الصباح أقوال الصحف الأمريكية تأتيكم في صوت أمريكا باللغة العربية نسمع ماذا تقول، والعاقل يفكر، المسألة ليست مسألة شرعية.
ويتكلمون عن غياب العدل لدينا، وأي عدل أقامه الغرب في حياتهم، أي شرع فَكَّرَ الغرب أن يقيمه في حياته كلها، إنها مآرب أصبحت غير خافيه على أحد -والحمد لله- ولهذا لا نفيض في الحديث عنها؛ فإن الواقع أكبر من أن يتكلم عنه، لكن المقصود أن ارتباط وجود هذه القوات مع المطالبة بالتغيير الاجتماعي، والتغيير في سياسة أو طريقة الحكم، وفتح المجال للشورى وللمقاطعات إلخ، هو نفس المشهد الذي رأيناه في أيام نابليون ثم في أيام إسماعيل، ثم في أيام سعد زغلول، ثم فيما بعد تكرر.
وإذا بالمنتمين إلى الفكر الغربي، الذين قبلتهم ليست مكة إنما واشنطن، ولم يتلقوا العلم الشرعي من سنة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وميراثه الذي ورثه لنا، وإنما تلقوا تعليمهم الإلحادي في تلك البلاد الكافرة، وإذا بهم يطالبون نفس الشيء، ويدعون إلى التحرر والإلحاد والخروج فكانت المسيرة.
فاجتماع هذه الأمور من وجود القوات ووجود هؤلاء السافرات الفاجرات ومعهن الكافرات، ووجود التوجيه من الخارج بالتغيير الاجتماعي -الذي لا بد أن يطرأ على دول المنطقة بعد قدوم هذه القوات- هذا هيأ الفرصة لخروج ما سمي بالمظاهرة، فخرجت وقد ظنوا -وخيَّب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ظنهم- أننا قد متنا وأنه (ما لجرح بميت إيلام)، فظنوا أن الإيمان قد فُقِِدَ، أو ذُبح، وأن حب الدنيا، وغلبة الشهوات، والتربية الإعلامية الطويلة على الانحلال، والسفر إلى الخارج المفتوح على أبوابه، وأكل الربا، والانغماس في الشهوات، وإبعاد الشباب عن حياة الجد، وغيرها من العوامل، أن ذلك كله قد قضى على شخصيتنا الإيمانية.
وتوقعوا أنه سيعترض بعض من سموهم أصحاب المكانس، ولكن سنغلبهم وسيعترف المسئولون بالأمر الواقع، وسيكون لنا كيان ووجود، ويكتب التاريخ أننا الزعيمات الرائدات لهذه الحركة، وكانت -والحمد لله- غلطةً كبرى، ووهماً عظيماً وقع فيه المخططون، ولا نعني المنفذات الغبيات، وإن كان فيهن من هي على علم، ولكن وقع في الوهم الكبير المخططون، ومن يقف وراء المخططين، وأخطئوا التوقيت، وعبارة (وأخطئوا التوقيت) كثيراً ما سمعناها، لكن نحن نريد بها معنى آخر، نقول: إنهم أخطئوا التوقيت بأن قدموا الأمر في وقت ظنوا فيه أننا قد متنا، ولكننا -والحمد لله- ما زلنا أحياء، وظنوا أنهم سيضحكون على علمائنا، ولكنهم والحمد لله تنبهوا، بعد أن كاد الأمر أن يفلت بتعهد، لكن الاستنكار الذي قوبلن به قضى على الأمر.(85/18)
الصبر والمجاهدة تجاه الفساد
لقد كشفت المؤامرة، وعرف من وراءها، وعرف المخرجون والمنفذون، ولم يسكت المؤمنون الغيورون على هذا الأمر أبداً، ولن نسكت أبداً، والقضية ليست قضية قيادة المرأة للسيارة، إنَّ القضية قيادة الأمة إلى الهاوية، وعندما أفتى العلماء بتحريم قيادة المرأة للسيارة، وصدر بها بيان من وزارة الداخلية، وعقب على ذلك أيضاً وزير الداخلية في مكة -كما سمعتم- ظهر العلمانيون المجرمون لمصادرة هذه الفتوى، وكتبوا وقالوا: إن هذا الأمر قابل للنقاش، وللحوار، وأن الفتوى تتغير بتغير الزمان والأحوال.
عجيب ما المقصود؟ ولماذا يكتب في جريدة مشهورة، ثم يقرأ عقب الأخبار في التلفزيون، وكأنه تعليق رسمي من الحكومة؟ وكأنه يقول: انتظروا قليلاً، نحن الآن مجبورون أمام هؤلاء، لكن سيموتون هؤلاء الأربعة أو الثلاثة، ويأتي الجيل المرن فيما بعد، وتتغير الفتوى ويكون حلالاً.
وضربوا أمثلة، قالوا: تعليم المرأة كان مرفوضاً ثم أبيح، وظهور المرأة في التلفزيون كذلك وذكروا كثيراً من المنكرات، التي تغيرت الفتوى فيها، أو الزمن غيرها ثم أُقرت.
نقول: خاب ظنكم! وخاب شأنكم! ووالله لا يكون إن شاء الله، ونحن الشباب المسلم -والحمد لله- كثير وكثير جداً، بل نحن الأمة كلها قد عاهدنا الله ألا يتم ذلك، بل المرأة المسلمة الغيورة استنكرت، وكثيرٌ منهنَّ لم تستنكر لعفافها ولكن لا يخرج عنها علم أو خبر.
وإلا لو كانت المسألة كما في المجتمعات الأخرى مظاهرة ويرد عليها بمظاهرة، لكان بإمكان العلماء والدعاة أن يخرجوا مقابل أربعين، أو بضع وأربعين عاهرة أو فاسقة، أو فاجرة -أياً كانت- أن يخرجوا ثمانية ملايين امرأة، إن كان عدد النساء عندنا ثمانية ملايين، لكن نحن لا نرى أسلوب المظاهرات أصلاً.
وهم يقولون: إن عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء، نقول: نعم! لن تعود أبداً بل بدأت -والحمد لله- تدور إلى الأمام في مصر، والجزائر، والمغرب، وتركيا، وأفغانستان وفي كل مكان، بدأت المرأة المسلمة تعود إلى حجابها وتعرف دينها، حتى في الأرض المحتلة في فلسطين المحتلة، وحتى في غيرها من البلاد -والحمد لله- بل حتى الفتيات المؤمنات داخل المجتمع الغربي الكافر نفسه، بدأت المرأة المؤمنة تعرف أنها مؤمنة، وتتمسك بحجابها في تلك الدول، هنالك في تلك المجتمعات؛ والطفلة فاطمة التي هزت فرنسا وغيرها من الأمثلة على ذلك -والحمد لله- فنعم، عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء، وقد بدأت مسيرة الإيمان إلى الأمام، والمسألة ليست عقارب ساعة، لكن المسألة هي مسألة غفلة وران تجتاح القلوب بالمعاصي والذنوب، وبحب الشهوات، وبأكل الربا، وبالانحراف عن شرع الله، وبعدم تحكيم شرع الله وإقامة دينه.
ولكن هذه الأمة تفيق وسرعان ما تفيق، وإذا أفاقت؛ فإنها تُحِكِّمُ كل القيود، وتفجر كل السدود بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا ما نص عليه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين}، وفي رواية {يقاتلون على أمر الله، لا يضرهم من خالفهم} لا يضرهم من خالفهم كائناً من كان، الشرق أو الغرب، حتى يأتي أمر الله، فيستمرون والغلبة لهم، وما مر بهذه الأمة مرحلة ضعف وخذلان، إلا وعقبها يقظة ونهضة قوية، وأعقبها غسل للعار، وأخذ بالثأر من كل مجرم جعل عرضها أو دينها أو شرعها مهزلة أو سخرية.
هذه حقائق يجب أن يعلمها أولئك، ويجب أن يعلمها الشباب وبالذات في هذا البلد الحرام.
أقول: إن ما بلغني وما سمعته من استنكار شديد في أوساط الشباب، والمشايخ وعلى رأسهم العلماء والحمد لله، العلماء في محكمة التمييز، وفي شئون الحرمين، وفي الجامعة وفي كل مكان من هذا البلد، الدعاة والطالبات والمدرسات في الكليات، أقول: هو خير كبير ومع ذلك لا يكفي بالنسبة إلى إنكار غيرها من المدن، يجب أن يكون هذا البلد الحرام هو المتصدر الأول للإنكار على هذا المنكر.
هذا البلد الذي انطلقت منه دعوة الخير والنور، والهدى يجب أن يكون أكثر المدن إنكاراً لهذا الفساد العظيم، وأكثر مطالبة لحكم الله، لا نطالب إلا بحكم الله في كل قضية، حكم الله عز وجل، أما تعهد فهذا لا ينفع نحن نريد حكم الله وشرعة، وما يحكم به القضاة في كل المسائل التي تعرض عليهم من شرع الله نرضى به ولا بد أن نرضى به في هذه المسألة، ولا يمكن، ولا ينبغي، ولا يحق لأي مؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن طالب بحكم الله فما ظلم ولا تجنى على أحد.
نطالب وبكل شدة وإلحاح، وسنستمر في المطالبة بأن يعرضن على شرع الله، وإن لم يحاكمن، وإن لم تقم تحتسب الجهات المسئولة بإقامة دعوى عليهن، فلا يجوز لنا أن نسكت، وسنأثم -جميعاً- إن لم يكن منا من يحتسب عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويقيم الدعوى لوجه الله.
وعلى النائب أو المدعي العام أن يستمع الدعوى، وأن يرفعها ويوصلها إلى القضاء، وتكون محاكمة بين هذا المحتسب أو المحتسبين، وليكونوا من علمائنا الأجلاء والحمد لله، فليحتسبوا هم بإقامة هذه الدعوى، ليرفعهم الله بها في الدنيا والآخرة، ثم حكم الله يمضي، ولا نعيد الكرة، لا نعيد ما حدث في ملف الحداثة، وماقبله مما نشر من إلحاد وكفر وضلال، فهذا البلد -والحمد لله- ما قام إلا على التوحيد والسنة، وسيستمر على التوحيد والسنة، رغم أنوف الكائدين والحاسدين من المنافقين هنا، {أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} [الأحزاب:61]، ومن الأعداء هنالك الذين يحركونهم ويشجعونهم، وسيرغم الله تبارك وتعالى أنوفهم بنصرة دينه وإقامته.(85/19)
واجبنا تجاه هذه القضية
لا نعني حل هذه المشكلة في ذاتها فهو ما أشرنا إليه حل سهل وواضح، وعادي، ومطلب مشروع جداً، وليس في إمكان أحد كائناً من كان، أن يلومنا عليه وهو المطالبة بحكم الله فيهن، هذا واضح، لكن ليست هذه هي القضية، فالقضية أنه يجب علينا أن نطالب، وأن نسعى إلى استئصال هذا الشر من جذوره، وتجفيف كل منابعه، وتطهير وسائل الإعلام من تلفاز وإذاعة، وصحافة، تطهيراً كاملاً من كل ما حرم الله.
ومن ذلك -أيضاً- تطهير الأسواق، والنوادي، ومراكز التجمع النسائية، وغير النسائية كائنة من كانت، من كل ما حرمه الله، من كل ما يغضب الله، وتطهير المناهج من كل دخن، وتطهير القلوب من أمراض الاعتقاد أو الشبهات، وأمراض الشهوات، والإذعان والانقياد والاستكانه لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
على أية حال نقول: لا بد من عودة صادقة كاملة إلى الله، نزيل كل ما حرَّم الله، فمحلات الفيديو لابد أن تقفل -جميعاً- إلا ما كان منها منضبطاً بشرع الله، وكذلك التسجيلات التي تبيع الغناء المحرم وكل التسجيلات غير الإسلامية لابد أن تقفل جميعاً، وكل شيء خالف شرع الله في حياتنا العامة، وإن لم يكن يتعلق بالنساء خاصة، كالبنوك الربوية تقفل جميعاً، وبدون تردد ولا استثناء.
فكل شيء عصينا الله فيه، فنرجو الله بأن نقفله أو نمنعه، فإن قيل: هذا شيء كبير، وتحول خطير، ونحن لسنا على استعداد أن نغيرها، وأن نتوب هذه التوبة.
فلنقل إذاً: أنكون على استعداد لغضب الله، ومقته وعذابه وتسليط الله تبارك وتعالى العذاب علينا، يقول: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76] إن لم نستكن ونتوب ونتضرع؛ فإذاً لا بد أن تنزل العقوبة كما قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25].
بل يجب أن نحمد الله أن فينا من أنكر، وأنَّ هذا الإنكار الذي يدل على وجود مُصلحين هو الذي يدفع الله تعالى به العذاب، لأنه تعالى ما كان ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون، ولم يقل: صالحون، فوجود المصلحين والمنكرين نعمة عظمى من الله، وقد كنت والله أخاف أن يباغتنا عذابٌ من الله تبارك وتعالى فيسلط علينا هؤلاء الأعداء أو غيرهم، جزاء بما اقترفنا وعصينا، ولأننا لم نظهر توبة صادقة حتى الآن، فلما جاء هذا الإنكار اطمأن قلبي نوعاً ما، وفرحت وقلت: الحمد لله، إن الله لن يهلكنا وفينا هؤلاء المصلحون، هذه نعمة من الله، فالحمد لله.
إذاً سيدفع الله تعالى عنا العذاب، وسيصد الله تعالى أعداءنا من عنده وبأيدينا -أيضاً- بإذن الله، هذه نعمة، فكلما ضاعفنا الإنكار، واستئصلنا شأفة الذنوب والمعاصي، وكلما صدقنا مع الله إنابة وتوبة، وإخلاصاً، وصدقاً، وتضرعاً، فذلك -والله- هو الخير والنجاة والفلاح والسعادة.
وأما غيره فهو الخسارة، والهزيمة، والنكال، والعذاب، والهوان، ولا سيما لهؤلاء الذين توعدهم الله تبارك وتعالى بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19] انظروا! ليس فقط في الآخرة بل في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
لا تقولوا: كيف تأتيهم العقوبة، إن لم نعاقبهم نحن، فإن هناك أبواباً من العقوبات لا نعلمها، سوف يسلطها الله تبارك وتعالى على هؤلاء، فنحن -والحمد لله- مهيئون للتوبة وللإنابة، وإن لم يكن هذا البلد هو المهيأ، وإن لم يكن حملة الإيمان فيه هم الدعاة إلى هذه التهيئة فمن إذاً يكون؟ والحمد لله رب العالمين.(85/20)
الأسئلة(85/21)
انتشار ظاهرة تدليك النساء
السؤال
انتشرت محلات التدليك النسائي بكثرة حتى في هذا البلد مكة، وهناك سهولة في الحصول على الترخيص؟
الجواب
وذلك لأنه لو أراد ترخيص لتسجيلات إسلامية فسيتأخر سنتين، لأنها لا تناسب ولا تعجب هؤلاء العلمانيين، ولهم أيادي وسلطة في بعض القطاعات لا تخفى عليكم، ولذلك يمنعونهم، لكن أماكن التدليك جزء من الظاهرة الكبيرة، وهي الانحراف والبعد عن دين الله -كما قلنا- وهذا هو إشارة إلى مرض من الأمراض.(85/22)
حكم قيادة المرأة للسيارة
السؤال
حكم كبار العلماء في قيادة السيارات شيء جيد، لكن أود منهم أن يفتوا، وأن يقوموا بالدعوة إلى إقفال تلفاز القناة الثانية وغيره؟
الجواب
موضوع قيادة السيارة للمرأة لا يحتاج فيه إلى كلام، وليست القضية قيادة المرأة للسيارة أبداً، ولا نعالج الخطأ بالخطأ، ولا نعالج المرض بالمرض، أصل قضية المرأة الله سبحانه قد حسمه وقد حله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] وقرن هذا الأصل {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:33] هذا كلام رب العالمين، فالأصل هو أن تقر المرأة المسلمة في بيتها، ولا تخرج إلا لحاجة أو ضرورة، هذا أمر آخر وشيء يبحث، وفي حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة والتابعين كان هذا واقعاً فلا جديد في الأمر، أما أن نخرج على شرع الله في أمر من الأمور، ثم نريد أن نرقع، فنحل المشكلة بخطأ أو مصيبة أخرى؛ فلا يُضحك علينا بذلك.
الصحابة رضي الله تعالى عنهم فهموا أول الأمر من نزول الحجاب أن ذلك حتى لا تُعرف المرأة أصلاً، والحديث الصحيح الذي رواه البخاري في عدة مواضع ورواه غيره من حديث سودة رضي الله تعالى عنها لما خرجت أم المؤمنين من عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يتعشى وفي يده عرق اللحم، خرجت فرآها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في الليل، وكانت محجبة، لكن كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها في الحديث: {وكانت امرأة بدينة لا تخفى على من يراها، قال عمر: قد عرفانك يا سودة فانظري كيف تخرجين، فانكفأت رضي الله تعالى عنها راجعة}.
انظروا إلى أخلاق وآداب الإسلام، انكفأت راجعة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت له ما قد جرى، فتغشى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كان يتغشاه إذ نزل الوحي وما يزال اللحم بيده حتى أفاق، ثم قال: {إن الله قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن}.
أي: ليس الشرط أن لا تعرف المرأة، حتى لو عُرِفَت أنها فلانة، ما لها ذنب، ما دامت متسترة ومتحجبة، لا يُرى منها شيء.
انظروا! كيف فهم الصحابة من الحجاب أنه لا تعرف أصلاً، لا يرى إلا السواد، ولا يدرى سواد من هذه.
فكيف الآن يقال: تقود أو لا تقود، لا ينقلونا نقلةً بعيدة، فالمسألة مسألة التزام بأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولا بد أن نلتزم به، وقيادة السيارة يرجع الأمر فيه إلى أصل الخروج وإلى حاجته، وإلى ضرورته، وإلى تحريم الخلوة بالسائق الأجنبي، وإلى غيره من الأمور المحكمة في هذا الشأن والتي تكلم فيها علماؤنا والحمد لله.(85/23)
التحسن الطفيف في برامج التلفاز
السؤال
في بداية هذه الأحداث المؤسفة لاحظنا تحسناً طفيفاً على برامج التلفزيون فاستبشرنا خيراً، ولكن بعد أسبوع أو أسبوعين عاد الحال إلى ما هو عليه؟
الجواب
الله أكبر! يقول تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:43 - 45] سُنة الله! نعوذ بالله أن تكرر فينا، نسينا ما ذُكِّرنا به؛ فلما فتح الله علينا الخير؛ حتى الأمن فتح، فتح عندنا الأمل في الأمن وأن صدام لن يفعل شيئاً، كنا خائفين، فذهب الخوف، والآن محميين ومنا من ترضى عن بوش ودعا له، فانتهى الأمر ونسينا ما ذكرنا به، ورجعنا إلى معاصينا نسأل الله العفو والعافية.(85/24)
مخططات تدمير أخلاق المرأة المسلمة
السؤال
ما هي توقعاتكم لمخططات أعداء المرأة المسلمة في هذا البلد؟ وهل سيحدث أو سينجحون في تدمير أخلاق المرأة؟
الجواب
هم أحقر وأذل وأقل من أن ينجحوا بإذن الله.(85/25)
الأسواق والصحف الداعية للسفور والرذيلة
السؤال
إنَّ الأسواق لا زالت تعج بالصحف والمجلات الداعية للسفور والرذيلة ومحاربة كل ما هو إسلامي؛ فما السبيل للحد من هذه المجلات؟ وهل من كلمة إلى طلبة العلم تبين خطرها؟
الجواب
الكلمة موجهة ومعروفة، ومن ذلك فتوى فضيلة الشيخ محمد بن صالح عثيمين جزاه الله خيراً، مطبوعة وما أظن يخلو منها أي بيت، والقضية هي قضية الإنكار.
إذا أنكرنا فأولاً لا نشتريها.
ثانياً: ننكر على أقربائنا وإخواننا، وزملائنا ونحذرهم.
ثالثاً: نكتب ونحذر أيضاً ونبين لوزارة الإعلام خطر وفساد هذه الجرائد، وأرجو إن شاء الله أن نجد التجاوب منها إذا رأوا الإنكار شاملاً كما حدث في الإنكار على هذه المصيبة.(85/26)
تطوع المرأة في الحرب
السؤال
يقول بعضهم: إن تطوع المرأة جائز، بحجة أن المرأة شاركت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حروبه، وفي إسعاف الجرحى، ما هو تعليقك؟
الجواب
نخشى -والعياذ بالله- أن يتحقق فينا قول الله تبارك وتعالى في المنافقين إذا دعوا إلى ورسوله أعرضوا، قال: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:49] إذا كان لنا شهوة ورغبة في أمر من الأمور قلنا الفتوى صدرت وجائز وفي عهد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفتاوى العلماء في الربا أليست في القرآن وفي السنة وفي جميع كتب الفقه؟ أليس العلماء ليل نهار يفتون؟ أعجبتنا هذه وهذه ما أعجبتنا! نتخير في دين الله كما نشاء!
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
إن المفروض بعد هذه الأحداث ألاَّ يبقى شاب إلا وأصبح متدرباً ومتطوعاً وجندياً للجهاد في سبيل الله، ولإعلاء كلمة الله في كل مكان، وفي كل بلد وفي كل قرية، حتى لو عطلنا الدراسة، المهم كلنا نتحول إلى جيش، ونقول: أربعة أشهر فقط، ويكون عندنا مليون جندي، ولا نستعين بكافر ولا مسلم، نحن في غنى عنهم، عندنا الحمد لله المال، وبلدنا أغنى بلد في العالم، وثرواتنا مكدسة في بنوك الغرب، وعندنا الإمكانيات، وعندنا الشجاعة بل نحن معدن الشجاعة في الدنيا كلها، نحن أحفاد الصحابة.
فلنتدرب ولنستعن بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولنقاتل كل من يحاول أن يهاجم بلادنا، بل نجاهد الكفار والمنافقين في عقر دارهم، والله نستطيع ذلك لو أردنا، ولوكانت لنا قلوب حية وصادقة مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لكن المصيبة أن الأحداث تمخضت عن فتح باب التطوع للنساء.
أنا أضرب مثلاً في مكة هنا، ليس فيها مركز تطوع للرجال، أما النساء أكثر من ثمانمائة امرأة في الدفعة الأولى، وما أدري كم الثانية وكم الثالثة؟! أعوذ بالله! أليست هذه انتكاسة ومصيبة وكارثة؟ ومع ذلك أيضاً استغلوا هذا الموضوع وأخذوا يشقشقون منه دورة بسيطة تأتي بتوقيع الوزير، ثم يقال: دورات للمتفوقات، ثم ربما يأتي دبلوم، وماجستير، ودكتوراه، يراد أن تمطط، وأن تعمم، وأن تنتشر؛ لأن الله تعالى قال وهو أصدق القائلين: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:27 - 28].
فهذا حال المتبعين للشهوات، يريدون ذلك، ففتح الباب، ثم أخذ القوم، وقالوا: المرأة ساهمت في خدمة الوطن، وتطوعت من أجل الوطن، ومع ذلك ماذا قدمنا لها؟ إذا قلنا: ماذا نقدم لها؟ الدعاء! ما يريدون الدعاء إذاً ماذا نقدم هل نقدم المال؟ كل واحد منا يُعطي زوجته إذا تطوعت خمسمائة ريال أو نحوها، مكافأة لها تقود السيارة وتحمل السلاح، وبعد ذلك تذهب إلى الجبهة، وتسير بين الأمريكيين والأمريكيات، هل هذا هو المطلوب؟! انظروا يا إخوان قبل يومين في أحد وكالات التلفزيون أو قنوات الإذاعة الأمريكية -والخبر أنا أخذته من الإذاعة- نقل مقابلة مع جنديتين في الفرقة (251) الأمريكية التي جاءت إلى المملكة، جنديتين بين ألف رجل، انظروا الحرية والديمقراطية والحياة التي يطالب بها هؤلاء الفاجرات ومن ورائهن، تقول الجنديتان: لقد شعرنا بالألم وبالقرف، وبعبارات كثيرة مترادفة.
وقالت إحداهن: وجدت أني امرأة واحدة أنام على سرير وحولي ألف رجل، وفي جو صحراوي موحش، هذه تقاتل بالله عليك، هذه تخاف من ألف وحش وهي كالدجاجة بينهم، وأبناءها وأطفالها هنالك، لا تستطيع أن تفعل شيئاً، ولكن لا بد أن تثبت جدارتها، حتى قال رئيس هيئة الأركان الأمريكية: إن دخول المرأة الأمريكية في الجيش هو أقوى أو أعظم من دخول القنبلة النووية، يعني: في عظمته وفي هزته.
فهذه الأمريكية، تصرخ وتجأر، تقول: تمنيت وندمت أنني انخرطت في السلك العسكري، وتمنيت أني لم أنخرط فيه، ولم آت إلى هذه البلاد، فالمرأة بفطرتها ما تريد هذا الشيء، ومع ذلك يقال: إن هناك من طالبن بذلك وتم نشر صورهن في الشرق الأوسط، وفي جريدة الرياض، وفي الظهيرة، وفي المجلة الخبيثة التي يسموها سيدتهم، وفي أمثالها، ويطالبن بكثرة التدرب على السلاح وبالمشاركة بالجبهة، إن كنا نطمع أنهن يدافعن عن البلاد، الله المستعان! مثلما قال الشاعر النبطي:
لبس الرجال العبي وأعطوهن البنادق واللحى(85/27)
فهم خاطئ
السؤال
ذكرتم في محاضرة سابقة، أنكم سوف تمرون على المراكز المعدة لتدريب الفتيات وتعليمهم التمرين؟
الجواب
لا.
أنا ما قلت هكذا، وكثيراً ما أُفهم خطأ، الإخوان سألوني وقلت لهم: إلى الآن لا أعرف طبيعة التطور، كنت ذلك الوقت لا أعرف حقيقتها، وقلت: ربما تكون بعض التدريبات -مثلاً- وفي أوقات معينة، وبضوابط معينة مع المحارم، أو يقوم بها النساء للنساء، وقلت: ممكن أن نقترح إذا جعلوها في التلفزيون -مثلاً- وتراها المرأة وتطبقها، للاحتياجات المنزلية، أنا ما أجبت جواباً قاطعاً، وقلت: سأستفهم من المسئولين في إدارة الشئون الصحية، ما قلت: سوف أمر على المراكز.
وعلى كل حال: لسنا بحاجة إلى أن نمر على المراكز، قد علم الأمر ونشرت الصور في الصحف، وأجريت المقابلات معهن، وقرأتم جميعاً ماذا يردن، وماذا يطالبن، فلم يعد الأمر يحتاج أن أمر وأخبركم ماذا رأيت؟(85/28)
الوجود الصليبي وإفساد المرأة
السؤال
ألا توجد صلة وثيقة بين الوجود الصليبي في المنطقة وبين ما حدث؟
الجواب
أنا ذكرت أن الصلة موجودة بين الوجود الغربي الصليبي وبين هذه الحركة منذ الحملة الفرنسية ثم إسماعيل باشا، ثم الحرب العالمية الأولى، ثم ما بعد، فالصلة قائمة في كل الأوقات، وفي كل مكان.(85/29)
حكم احتفال النصارى بأعيادهم في بلاد الإسلام
السؤال
ما حكم احتفال النصارى بأعيادهم في معقل الإسلام وبين المسلمين، مثل: عيد الشكر، وعيد الكريسمس وغيره؟ وما حكم الرضا بذلك؟ وما العمل تجاه ذلك؟
الجواب
حكم أعياد الكفار أو المشاركة في أعياد الكفار معروف، وهو من مشاركتهم في دينهم، لأنها من شعائر دينهم، كما ذكر ذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في " اقتضاء الصراط المستقيم " وابن القيم في " أحكام أهل الذمة " وكذلك أفتى به -والحمد لله- سماحة الشيخ عبد العزيز وفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين، والفتاوى معروفة بل ومعلقة في بعض المساجد.
وبهذه المناسبة نقول للإخوة الذين سألوا عن عيد الشكر الذي قد يُقام بعد يومين: عيد الشكر هذا -أيضاً- من الأعياد الدينية للنصارى، وهو عيدٌ تقيمه الكنيسة البروتستانتية شكراً لله بزعمهم بعد أن نزلوا الأرض الجديدة، وتيسر لهم فيها هناك رخاء بعد جهد وبلاء وقحط نالهم فيها، بعض الناس يقولون: إنها كانت جدب ثم جاءت نعمة، وفيه الديك الرومي الطعام الطيب، فلذلك يحتفلون في هذا العيد بأكل هذا الديك الرومي.
المهم أنها شعيرة دينية وعيد ديني للنصارى، ولا يجوز أن يقام في أرض الإسلام، الذي قال فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان} ويجب أن ننكر ذلك، ومن أنكر باللسان نرجو أن يكون قد برئ إن شاء الله تعالى.
أما عيد الميلاد فمشهور ومعروف، وتألمت عندما نشرت بعض الجرائد تقول: إنه ليس عيداً دينياً، فإذا لم يكن دينياً فما معناه، وكان من خصائص أو من شعائر الكفار اليومان اللذان كانا للعرب في الجاهلية قبل الإسلام، هل نستطيع أن نقول: إنهما كانا دينيين؟ وفيها شعائر دينيه كانا جاهليين.
المهم أن أي عيد غير اليومين الذين شرعهما الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا وهما الفطر والأضحى؛ فإنه لا يقر أياً كان، فإن كان الأمريكان يقيمونه على أنهم نصارى؛ فلا خلاف بأنه حرام، وحتى قيل: إنهم يقيمونه على أنهم لا دينيون؛ فلا نقول: الذي يقيم عيداً إلحادياً يقر، والذي يقيم عيداً دينياً يمنع! فكلها كفر وكلها سواء.
فعلى أية حال هذه الدعوى التي نشرتها بعض الجرائد لا تنفع قائلها، وتذكرون هذه عادة عند النصارى قديمة، ومن ذلك لما انتصر هرقل عظيم الروم على الفرس، نذر أن يحج إلى القدس ماشياً، وأن يبيت عشرة أيام على الصيام شكراً، هذا العشرة الأيام أيام شكر، يصومونها زيادة على ما فرض الله أيام الشكر، أي: أن النصارى يشرعون في دينهم شكراً لنعمة من النعم؛ هذا قديم وما فعله الأمريكان هو امتداد لما فعله هرقل من قبل والحكم واحد للجميع.(85/30)
الغزو الفكري عبر المجلات النسائية
السؤال
بعض الإخوان يستنكرون المحلات النسائية التي تحمل غزواً فكرياً خطيراً للمرأة؟
الجواب
نعم، ولا بد من تعاون الجميع على إنكار ذلك وفيما تقدم ما يكفي عنه.(85/31)
أنصار الباطل
السؤال
أدلى أحد المسئولين في إحدى الإذاعات الخارجية عن رأيه فيما حدث من مظاهرة النساء في قيادة السيارات، فقال: إن هؤلاء المعارضين -ويقصد الملتزمين- هم الذين عارضوا من قديم، عند الاستماع ومشاهدة الراديو والتلفزيون، وقال: إنه إذا لم تقد المرأة السيارة اليوم فسوف تقودها غداً؟
الجواب
كما إن للحق أنصار فإن للباطل أنصار، مهما كانت درجته ومهما كانت أسماءهم، ومثل هذا القول من الفضيحة والخزي الذي يريد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يذلهم بها، وهي من عذاب الدنيا الذي ذكره {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا} [النور:19] أن الإنسان يفضح نفسه فيقوم ضد حكم الله وضد مجتمعه، وضد بلاده، وضد ما أعلنته رسمياً وما أعلنه العلماء؛ فيقول: أنا أؤيد أو أنا أتوقع، فيكفي ما حصل له أياً كان.(85/32)
عمل المرأة في المستشفيات كممرضة
السؤال
يدَّعي كثير من الناس أن المرأة يجوز لها أن تعمل كممرضة في المسشفيات، وذلك وفق التقاليد الإسلامية، ثم نراهن وقد تبرجن وكشفن عن وجوههن، وسيقانهن، ونحورهن، وتزين وتسكعن في المستشفيات، أليس هذا الواقع حجر نلقمه هؤلاء الأدعياء، الذين اتخذوا عبارة (وفق التقاليد الإسلامية) رماداً يذرونه في العيون، وأمثال هذه القضية كثير؟
الجواب
بلى، ولتعرفوا أثر الدعاية والتضليل، نضع هذا المثال: لو أنَّ رجلاً من الناس له نعمة، صاحب مال، فتح الله عليه، وعنده أب كبير، أو أم كبيرة، وكلاهما عاجز وهو بارٌ لوالديه، اتصل بأحد الناس، السلام عليكم يا فلان، أنا فلان ابن فلان التاجر المعروف، حياك الله، ماذا تريد؟ سمعت أن عندك بنتاً معها الثانوية، أو أخذت المتوسطة، لو تعطيني إياها أجعلها تخدم والدي عندي وأعطيها خمسة الآف ريال، ماذا يقول له بالله عليك؟ يمكن أن يتقاتل معه ويسبه ويشتمه، إن كان فيه مواجهة ويمكن ألا تفصل بينهما إلا الشرطة، يقول مستنكراً: أنا بنتي خدامة عندك يا فلان، ويقوم الدنيا ويقعدها.
هذا لأنه بطريقة مباشرة وهو واضح، وهذه طريقتنا نحن في الإنكار، أو طريقتنا حتى في عرض القضايا نحن الإسلاميين، نعرضها بوضوح فقد يفاجئون الناس بها، أو ممكن بوضوح، قالوا: هؤلاء مثيرين، ومفتنين، ومفسدين، أولئك يعرفون كيف يعرضون، وكيف يستغلون وسائل التغرير والتضليل الفاسدة.
يقول لك: خدمة الوطن، وخدمة البلاد، وتعمل في المستشفى، ويأتي لك صورة السابقات الأوليات، وكذا وكذا، وهي في الحقيقة خادمة هناك لكل مريض، وتحمل الدواء والآنية لكل طبيب، ولكل رئيس ممرضين، وتناوب في الليل وفي النهار، ومختلطة بالرجال.
فلا فرق بين أن تخدم عجوزاً في بيت منعزل، محافظ، وبين أن تخدم في مستشفى.
لو يوجد عاقل يقول: والله أجعل ابنتي عند هذا الرجل ولا أجعلها عند أولئك، ولكن مع ذلك نستنكر هذه لأنها واضحة ومباشرة، والتغرير والتضليل جعلنا الآن نقبل تلك بل نعدها وطنية، والله المستعان!(85/33)
الرقابة الإسلامية على الصحف
السؤال
أين الرقابة الإسلامية على الصحف، حيث نشرت إحدى الجرائد قصيدة لإحدى الفتيات وهي كما هو مكتوب (فتاة الحريبي) تقول في بعض أبياتها:
ألا يا هلي ليتني ما لبست خماراً وليت البراقع ما ربطن عراويها
أنا أستغفر الله معقل الحكمة الجبار ولكن بلادي غالية كيف نفديها
الجواب
في الحقيقة القصيدة جاءتني، وقرأتها ولا أرى فيها اعتراضاً على الحجاب، بل يمكن أن يكون شعوراً طيباً لو وُجِّه وجهة صحيحة، أن المرأة المسلمة لما رأت الرجال ما صنعوا شيئاً، فهي تتمنى أن تكون رجلاً، لا اعتراضاً على حكمة الله في أن جعلها امرأة، لكن تقول: مصيبة الرجال لم تفعلوا شيئاً، ولذلك ذكرت صاحب البسطار، وصاحب الخوذة، وصاحب الرادار في آخر القصيدة وهي موجودة عندي تقول: ما عملوا شيئاً، نحن نصرف عليهم الملايين من سنين، وجاء وقت الحاجة وما رأينا شيئاً، فياليتني أستطيع أن أخدم، دون اعتراض على حكمة الله.
أتوقع أن هذا نوع من التعبير، والشعر باب واسع يحتمله، فأرجو أن نغتفر، وأن يغفر الله لها، إن كانت إن شاء الله صادقة، وما مرادها إلا التعبير عن الألم والخيبة، والمرارة التي أحس بها الإناث، عندما رأوا أننا لاشيء، بعد ذلك الوهم الكبير الذي كنا نعيشه، أظن هذا خير، والله تعالى قد أمرنا بالعدل والإنصاف، وماوجدنا للقوم محملاً أو مخرجاًَ إلا أخذنا به.(85/34)
التشهير بأسماء كبار المفسدين
السؤال
لماذا لا يتم التشهير بأسماء المفسدين الكبار وفضح مخططاتهم وأهدافهم، وتحذير الناس منهم؟
الجواب
ليست القضية قضية أسماء، وإلا فهم معروفون، حتى بعضهم كانوا في الجامعة عندنا، نعرفهم بأعيانهم ولو شئنا لسمينا، لكن القضية ليست هي قضية فلان وعلان، لكن القضية شر سيمثله فلان أياً كان، وخير يجب أن نكون نحن الممثلين له إن شاء الله الداعين إليه.(85/35)
دور حزب البعث في تحرير المرأة
السؤال
ما هو دور حزب البعث في تحرير المرأة؟
الجواب
معلوم أن بعضهن لهن صلات عن طريق إخوانهن وأقاربهن بـ حزب البعث من جهة، ومن جهة أخرى المتزعمات بعضهن حداثيات، والحداثة لا يشك أحد بصلتها بـ البعث من الناحية القومية، ولو راجعتم صحفنا وجرائدنا وقرأتم للسياب، وما أدراك ما السياب، وعبد الوهاب البياسي الذي جيء به إلى هنا وكان ما كان من الاعتراض، وقدم إلى هذه البلاد رغم إلحاده، وغيرهم من الشيوعيين، أو البعثيين، أو القوميين، وكل المهرجانات التي أقيمت في العراق وغيره، وحضرها بعضهم، بل بعضهن -أيضا- حضرن المهرجانات تلك، كلهم تغنوا بقداسية صدام وأثنوا عليه، ولو تراجعوا المجلات فهي شاهدة بذلك، فصلتهم بـ البعث واضحة، ولا استغراب.
بعض الإخوان يقولون: كيف لهم صلة بـ البعث وفي نفس الوقت لهم صلة بالغرب، هي واضحة جداً ولا تحتاج إلى دليل، نقول حزب البعث نفسه حزب صليبي غربي، ولهذا في مقابلة لـ مجلة المجلة مع حسن العلوي، -المستشار الإعلامي لـ صدام وحزبه- فقيل له: ما رأيك في دعوى صدام للجهاد؟ قال: حزب البعث حزب علماني خرج من رحم التغريب، ولا يمكن أن يكون إسلامياً أبداً، وكلام طويل مشهور منشور في مجلة المجلة.(85/36)
نداء من فتاة
تقول: من الفتاة السعودية إلى دعاة العلمانية، أيها العلماني! لا مكان لك بيننا، اذهب بعيداً عنا، فنحن حفيدات خديجة، وعائشة، وأم سلمة، ونسيبة، وأم عمارة، فنحن في بلاد الحرمين ويحكمنا القرآن، لماذا تريدون المرأة أن تخرج من بيتها وتخلع حجابها وتقود السيارة، لماذا؟ أتريدون منا ذلك؟ أما رأيتم المرأة في الغرب وما وصلت إليه الآن، وما أصبحت تنادي به إلى الرجوع إلى البيت، هيهات لكم يا دعاة العلمانية، فنحن سنخرجكم بإذن الله من بلادنا، وسنتمسك بحجابنا أكثر، فالحمد لله فما ازددنا إلا إيمانا وتمسكاً بديننا.
المقصود أننا نشكر الأخوات على هذه المشاعر الطيبة، وحقاً قلن عندما قالوا: سنخرجكم من بلاد الإسلام والسنة، من لم يكن على منهج القرآن وعلى الإسلام، يريد علمانية أو ديمقراطية أو شيوعية أو أي شيء غير الإسلام، ومن لم يكن على السنة، بل يريد أي مذهب من المذاهب المارقة الخارجة فلا مكان له في هذه البلاد، لا بد إما أن يخرج وإما أن يُخرج.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(85/37)
الممتاز في شرح بيان ابن باز
بدأ الشيخ ببيان الفرق بين الكفر والشرك، ثم انتقل إلى شرح البيان الذي أصدره سماحة الشيخ ابن باز مبتدئاً بتوضيح جهود الشيخ ابن باز العلمية والدعوية، وأوضح في شرح البيان بعض أوصاف الخوارج التي اتصف بها من تهجم على مشايخ أهل العلم، مبيناً أنهم اتهموا مشايخ العلم في قضايا خلافية لا تقبل القدح في دين المخالف، داعياً إياهم إلى إعلان التوبة بإصدارات جديدة تبرئ ساحة مشايخ العلم، ثم عرج على التطورات الحاصلة في انتخابات الجزائر والتي دخلت فيها جبهة الإنقاذ الجزائرية، وبين أنها اختارت خيار دخول الانتخابات وحصدت أصواتاً كبيرة، مما جعل الأعداء يهددون بتدخل الجيش خوفاً من قيام دولة إسلامية على أرض الجزائر.(86/1)
الفرق بين الكفر والشرك
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
السؤال
ما هو الفرق بين الكفر والشرك؟
الجواب
الأصل أن المعنى واحد، فكل كافر مشرك، وكل مشرك كافر، لكن يختص كل واحد منهما بمعنى غير الذي يختص به الآخر، وذلك أن الكفر في اللغة هو الجحد، والستر، والتغطية، ومن هنا سمي الفلاحون أو الزُراع كفاراً؛ لأن الفلاح يستر ويغطي البذرة بالتربة.
فالكافر يستر الإيمان والفطرة التي فطره الله عليها، ويستر الدين ويجحده ويغطيه، ويكفر بآيات الله تبارك وتعالى، فهناك مناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي.
أما الشرك فإنه كما يدل عليه لفظه: هو جعل ند مع الله، أي: اتخاذ إله مع الله، فهذا هو الشرك، وهذه حقيقته.
فإذا ذُكِرَا معاً فلكل منهما دلالته، كما في قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:1] فهاهنا أهل الكتاب المقصود بهم: اليهود والنصارى، والمشركون المقصود بهم: الأميون من العرب وأشباههم.
وإذا أُفرد ذكر الشرك أو الكفر مطلقاً، فإنه يعم اليهود والنصارى ومشركي الأمم والعرب، فكلهم يشملهم هذا التعبير، فالكفار هم كفار، وهم مشركون، فمن شركهم: أنهم قالوا: إن عيسى ابن الله، وإنه إله، كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهم مشركون وهم كفار، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:72] وإذا أُطلق الشرك، فإنه يشمل أولئك أيضاً، فبهذا يكون المعنى قد اتضح.(86/2)
بيان للشيخ عبد العزيز بن باز
وندخل الآن في موضوع كثر عنه السؤال والكلام في هذه الأيام، والذي طلب فيه الكثير من الإخوة إيضاح حقيقته أو المراد به، أو كما يعبرون: وضع النقاط على الحروف فيه، وهو البيان الذي أصدره سماحة الوالد الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين وعن الدعاة وطلبة العلم خير الجزاء، فهو أب كريم وموجه ومربٍ حكيم، وهو ناصحٌ مشفق، وهو الذي رتب هذه البرامج الدعوية، وتخرجت هذه الأجيال على يديه وبأثر علمه، وهو الذي ذب عن أعراضهم لما رأى النيل والقدح والطعن فيهم، فهو جدير أن يشكر بعد شكر الله تبارك وتعالى منا جميعاً، من الذين دافع عن أعراضهم، ومن كل المسلمين الذين من حقهم أن يشكروا سماحته على هذا الجهد، ونسأل الله تعالى أن يذب النار عنه يوم القيامة، فإن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أخبر عن ذلك بقوله: {من ذب عن عرض أخيه المسلم ذب الله عنه النار يوم القيامة}.(86/3)
الدفاع عن النفس والدفاع عن الدعوة
وهذا البيان ما كنت أريد أن أتحدث عنه، ولا أن أبينه بنفسي لما في ذلك من دفاع عن النفس، وإنني -كما تعلمون والحمد لله- لم أكن في أي يوم من الأيام لأجعل من نفسي أو شخصي قضية لأحد؛ لأن أمر الدعوة أهم، نحن نجعل أنفسنا ودماءنا وأرواحنا وأموالنا وأعراضنا فداءً لدين الله، ونسخرها لخدمة كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونحن نحتسب كل ما يصيبنا من أذىً في سبيل الله، ونعلم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31].
فلا بد من العداوات والأذى والحسد، ولا بد أن يقع الدعاة فيما وقع فيه الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وأقوامهم من قبل، وهذا أمر نعلمه، فمنذ أن بدأنا طريق الدعوة، ونحن موقنون به، وكل ما يقع لا نجد فيه جديداً أبداً.
لكن الموجب لهذا الإيضاح الموجز هو سوء الفهم والتفسير والتدليس الذي حصل نتيجة هذا البيان الذي أراد به سماحته أن يكون كالماء يطفئ النار -وهو كذلك والحمد لله- فإن كلَّ طُلاَّب العلم قد عرفوا ما يريد ويقصد الشيخ، وقد أطفأ الفتنة والحمد لله، وأظهر الحق وأبانه، ودافع عن المظلومين والمهضومين، ونصح المعتدين والباغين، بأجلى وأوضح بيان وعبارة، وإن كان قد ترك الأسماء فلمصلحة ولحكمة.(86/4)
بيان المقصود من بيان ابن باز
وليس مقصود البيان ذكر الأسماء، بقدر ما هو بيان الحقيقة لمن يعلمها ومن لا يعلمها، فهي بالنسبة له موعظة عامة، ونصيحة عامة، يجب أن تؤخذ كما يؤخذ غيرها من النصائح، لكن لوجود بعض محامل السوء والتدليس، سواء ما ظهر من عناوين بعض الجرائد مع الأسف، أو من بعض الناس الذين افتروا افتراءات عجيبة، وإن كانت نادرة وقليلة ولا يقبلها عاقل، كقولهم: إن الشيخ أراد بها الرد على الدعاة والانتصار للعلمانيين -والعياذ بالله- فهل هذا يعقل؟! ولوجود هذا الاشتباه، ولأن المسألة تحتاج إلى تجلية، ليؤدي هذا البيان القيم العظيم حقه ودوره كاملاً كما أراد منه كاتبه حفظه الله فنقول: إن المقصود هم فئة محدودة معدودة قليلة جداً؛ لأنه قال: 'إن كثيراً من المنتسبين إلى العلم والدعوة' إذاً هي قضية دعاة وطلاب علم 'وهم فئة قليلة جداً، يقعون في أعراض كثير من إخوانهم الدعاة المشهورين' فالقضية قضية دعاة لا دخل فيها للعلمانيين ولا للخرافيين ولا للمشركين ولا لدعاة الشرك؛ لأنهم ليسوا من الدعاة، ولا من إخوان الدعاة، وإنما هم أعداء الدعوة.
إذاً ما الذي فعل هؤلاء؟ لقد وقعوا في أعراض إخوانهم الدعاة المشهورين، ولا بأس أن نسمي؛ لأنه إن لم نسمِّ لن تتضح الحقيقة، فالدعاة المشهورون الذين تكلم في حقهم هم: فضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة حفظه الله، وفضيلة الشيخ: عائض القرني حفظه الله، وفضيلة الشيخ: ناصر العمر حفظه الله، وفي أخيكم العبد الفقير إلى الله، وكذلك تُكِّلم في أعراض كثير من الدعاة، حتى لم يكد يسلم أحد من هؤلاء الناس، والأدلة موجودة.
وكما ذكر الشيخ حفظه الله قال: 'يفعلون ذلك سراً في مجالسهم' فيأتي أحدهم من المدينة ويعقد جلسة في جدة مع بعض الخاصة ثم يذهب بعضهم إلى الطائف، وبعضهم إلى الشرقية، وبعضهم إلى حائل، فيقطعون هذه المفاوز ليجمعون من يجتمع لهم من طلاب العلم، ويحرصون دائماً على الصغار أو المبتدئين، أو حديثي عهد بالدعوة، ويجلسون ويذكرون لهم أشخاصاً، ويلصقون بهم التهم، ويأتون بألوان من التهم والظلم والبهتان والافتراء، وقد علم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعلم خلقه الذين يسمعون، أن هذا كذب وزور وافتراء واختلاق ليس له أي أساس من الصحة، فهم يفعلون هذا سراً في مجالسهم.(86/5)
أثر الطعن في العلماء على طلاب العلم
ثم وجدوا أن هذا لا يكفي، فأصبحوا يسجلون ما في الجلسة وينشرونه على الناس، ويأتي شاب قد يكون حديث عهد بالاهتداء يريد أن يعرف الحقيقة، وأن يعرف طريق الجنة والنار، فيقال له: خذ هذا الشريط واسمع، فيذهب ويسمع، فماذا تكون النتيجة؟ إذا سمع الطعن في فلان وفلان وفلان وفلان، فهل سيهتدي؟! هل سيحب الدعاة؟! هل سيخلص لله؟! هل سيقنت في طاعة الله؟! هل سيشعر بالخشوع في صلاته؟! هل سيقبل على قراءة القرآن برغبة؟! عندما يسمع هذه الطعون في العلماء والدعاة والمشايخ، الذين كل الناس من حوله يتحدثون عنهم ويسمعون لهم، فيزدادون إيماناً إذا سمعوا كلامهم، فسيتبلبل ذهنه لا شك بسبب هذا الكلام، لما فيه من بهتان وظلم يمرض قلوب الخاصة، وقد شكا من هذا بعض العلماء الكبار، وقال: عندما سمعت هذا تأثرت وتألمت وتكدرت! وهو من العلماء الذين هم في درجة عالية من العلم، فكيف بطالب علم مبتدئ؟! ماذا تتوقعون أثر مثل هذا الكلام على هذا المسكين في عبادته وإيمانه؟ قد ينتكس.
وقد كُتِبَ إليَّ أن بعض حالات الانتكاس حدثت! ويقولون: قد كنا نثق في هؤلاء! إذاً لا خير فيهم جميعاً، وخاصة أن الطاعنين متهورون؛ فمن أول مرة تجلس معه يطعن في المعروف الموثوق، والنتيجة أنك تخسر هذا وهذا قطعاً، فأنت عادة إذا سمعت أن إنساناً يشكو ويخاصم إنساناً، تتحفظ عما يقول عنه، لأنك تعلم أن هذا من منطلق عداوة وخصومة، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمرنا أن يكون حالنا عند الخصومة: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] حتى لو عاداك ولو ظلمك، فكيف بإخوانٍ لكم لم يظلموكم، ولم يمسوكم، أو يتكلموا عنكم بسوء، ولم يقعوا في أعراضكم؟! أقول عن نفسي وإخواني هؤلاء: ما عملنا شيئاً من هذا بعد أن افتروا وظلموا وبهتوا، فكيف نفعله قبل ذلك؟! لا نستحله ولا نستزيده، ونحن نترفع عن هذه الأمور عملاً بقول الله تبارك وتعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] وقوله: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55] وقوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72] وهذه آداب تأدبنا بها والحمد لله، لكنهم لم يكونوا كذلك! أما أسماء الأشرطة فمتعددة، فواحد "الجماعات" وواحد باسم "السرورية" وواحد باسم "البراءة إلى الله" إلخ.
فالأسماء مختلفة، والمضمون واحد، وهو مثل هذا البهتان والإفك المبين.(86/6)
بعض أوصاف الخوارج
وهنا تجدون أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد وصف الخوارج وهم أهل البدع، الموصوفون والمسمون بأسمائهم، الذين تواتر الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيان حالهم ووصفهم فقال: {يقاتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان}.
وهذا الذي عبر عنه أحد العلماء لما سمع أحد الناس يقع في أعراض العلماء، قال له: يا بني أقاتلت الروم؟ قال: لا.
قال: أقاتلت الترك؟ قال: لا.
قال: أسلم منك الروم والترك ولم يسلم منك المسلمون؟! وهؤلاء الناس هل ردوا على الرافضة ووزعوا الأشرطة عنها، فـ الرافضة يشكلون الربع أو الثلث من أهل المدينة كما هو معلوم، هل ردوا عليهم واجتهدوا سراً أو جهراً وأوصلوها إلى بيوتهم؛ ليبينوا لهم ما هم عليه من الشرك والضلال؟ لم يفعلوا ذلك!! هل ردوا على الصوفية وأشباههم؟ هل ردوا على أعداء السنة الحقيقيين الذين يسخرون بعلماء السنة؟ فيقول أحدهم: ذاك لحيته مثل التيس، وآخر يقول: كل ما عندهم: حدثنا كحكوح بن سمعان إلخ ما تسمعون.
وهذا الكلام يقال في صحف ينشر من بعضها مليون نسخة، أو مليون ونصف نسخة، فيكون فيها استهزاء بالسنة.
والآخر يدافع عن أبي رية بأنه مجتهد، وهو الذي أبطل سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيره كثير.
وهم يومياً -تقريباً- يعتدون على القرآن وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويهدمونهما هدماً صريحاً.
أتطعنون فقط في من تصدروا وتصدوا للدفاع عن هذا الدين؟! وإذا أخطئوا هم انصبت عليهم الردود من كل حدب وصوب، وكلنا نعلم أنهم ليسوا بمعصومين، فمن قال منهم: إنه معصوم؟ وصدق الشاعر:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
فإذا وجدت عيباً فابذل نصيحتك، وإن لم تُقبل فاكتبها إلى سماحة الشيخ واسمع الجواب منه، أما الاعتداء والهجوم والظلم والعدوان، بغير سبب وبغير مبرر، فهذا فعلاً هو مقاتلة لأهل الإسلام وترك لأهل الأوثان نسأل الله العفو والعافية! ثم إن من صفات الخوارج أيضاً -ونحن لا نقول: إنهم من الخوارج، كما قالوا هم في حقنا لكن نبين من أقرب الطائفتين إلى هذه الصفة- أنهم يعمدون إلى آيات نزلت في الكفار، فيجعلونها في أهل الإسلام، وهذا كما ذكر ابن عباس رضي الله عنه وعلي وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهم وغيرهم ممن رأى الخوارج وناظرهم، فهؤلاء يأتون إلى أبواب من أبواب العقيدة العظيمة؛ التي ذكرها العلماء في بيان أهل البدع، والتحذير منهم، وتنفير الناس عنهم، وهي أبواب عظيمة، ونحن -والحمد لله- شرحناها، ومن أطول الكتب التي ذَكَرتها فيما أعلم، هو كتاب اللالكائي، وقد بينا خطرها، وحاضرنا في هذا الموضوع -أيضاً- مستقلاً ومنفرداً لأهميته وخطره.
فهؤلاء يعمدون إلى هذه الأبواب -أحاديث أهل البدع، وآثار أهل البدع- ويجعلونها في هؤلاء الدعاة، فهؤلاء الدعاة عندهم هم أهل بدع.
إذاً: هذا وصف آخر وهو: أنهم عمدوا إلى آثار وأحاديث في أهل البدع فأنزلوها على إخوانهم المؤمنين أهل السنة، كما وصفهم الشيخ، ولا نزكي أنفسنا على الله تبارك وتعالى، ولكن هذه الظواهر والله تعالى هو العليم بالبواطن، وهو من يحاسب الناس عليها.
وقد فعلوا ذلك علانية في شريط معلن موجه إليَّ بعنوان: نصيحة إلى فلان، ومنه -أيضاً- الرد على الشيخ سلمان في شريطه "جلسة على الرصيف" وغيرها، والله تعالى حسيبهم في ذلك.(86/7)
من صور التعدي على الدعاة
ثم يقول الشيخ ابن باز: ' وهذا المسلك مخالف لما أمر الله به ورسوله من جهات عديدة منها: 1 - أنه تَعدٍّ على حقوق الناس من المسلمين، بل من خاصة الناس من طلبة العلم ومن الدعاة، الذين بذلوا وسعهم في توعية الناس وإرشادهم وتصحيح عقائدهم ومناهجهم، واجتهدوا في تنظيم الدروس والمحاضرات، وتأليف الكتب النافعة '.
وهذا واضح، فمن جهة الاعتداء على الحق يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه} وواضح أن {أربى الربا هو الاستطالة في عرض أخيك المسلم}، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذا مخالف لما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به: {لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره} {حق المسلم على المسلم الحديث} فهذه براهين عظيمة، وهذا موضوع واسع لو استطردنا فيه لطال المقام.
وهذا يدلك على عظم حق المسلم -أي مسلم- فكيف بمن كان من الدعاة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذين نفع الله بهم بقدر وحسب اجتهادهم، وبما بذلوا من دعوة أو محاضرة أو تأليف أو أي منفعة حصلت منهم للدعوة إلى الله تبارك وتعالى.
' أنه تفريق لوحدة المسلمين، وتمزيق لصفهم ' وهذا ليس فيه شك وواضح -أيضاً- من عملهم.
يقول الشيخ: ' وهم أحوج ما يكونون إلى الوحدة، والبعد عن الشتات، والفرقة، وكثرة القيل والقال فيما بينهم ' تصور أنهم (دبلجوا) أشرطة شيخ يتكلم، وشيخ آخر يرد عليه، فهذا يقول كلمة وهذا يرد عليه.
أليس التفرق -إذاً- هو المقصود؟! وكم يحصل بهذا من الشتات ومن الفرقة والقيل والقال! ومن يسمع الشريط فإنه لا يخلو إما أن يؤيد هذا أو يؤيد ذاك، مع أن أحدهما ليس مخالفاً للآخر.
فمثلاً: محاضرة تلقى قبل أربع أو خمس سنوات، فتقتطع منها عبارة، ويلقى محاضر آخر محاضرة في مكان آخر بعد سنوات فتقتطع منها عبارة، وتضرب هذه بهذه فما النتيجة؟! ولو جلس المحاضران وتكلما وتبادلا أطراف الحديث لما اختلفا، لكن لما ضربت العبارة بالعبارة أحدثت بلبلة، فيأتي طالب علم مبتدئ، فيسمع هذا ويسمع ذلك فيستغرب، ويندهش وقد ينتكس -كما ذكرنا- ويأتي طالب علم ويقول: الحق مع هذا! فيقول له أخوه: بل الحق مع هذا! فيتناقشان ويتجادلان بالليل والنهار، وقد يتهاجران ويتدابران فمن المستفيد؟ لا أحد.
فهذه هي الفرقة والشتات، والأمة في أشد ما تكون إلى الوحدة، وإلى التعاون على الخير والبر والتقوى، والبعد عن الشتات والفرقة وكثرة القيل والقال.(86/8)
ثناء ثم تهم باطلة
ثم قال رحمه الله: 'خاصة وأن الدعاة الذين نيل منهم هم من أهل السنة والجماعة، المعروفين بمحاربة البدع والخرافات، والوقوف في وجه الداعين إليها، وكشف خططهم وألاعيبهم'.
إذاً: ليسوا كما قال أولئك: أنهم من أهل البدع، وأنهم يوالون أهل البدع ويلبسون ويدلسون على الشباب، بل قالوا كلاماً يستحي الواحد أن يذكره، قالوا: إنهم أخطر من اليهود والنصارى -أعوذ بالله- وإنهم وراء المظاهرة النسائية التي قامت في الرياض، وإن هؤلاء ليسوا على عقيدة أهل السنة والجماعة، فهم إنما يتخذون العقيدة وسيلة ومطية لما يريدون! نعوذ بالله.
والكفار لا يقولون هذا، بل يقولون: هؤلاء وهابية متعصبون، وكلنا قرأنا وسمعنا الصحافة الأمريكية، وكثرة تردادها لهذه الكلمات: وهابيون متعصبون، أي: دعاة هذا البلد، ودعوتهم هي الدعوة والعقيدة الصحيحة -والحمد لله- وإن سموهم الوهابية فهي عقيدة أهل السنة والجماعة وما جاء في الكتاب والسنة.
وبعد كل هذا، يأتي أخوك المسلم ويطعنك هذه الطعنة النجلاء، ويجعلك أخطر من اليهود والنصارى، ويقول: كل كلامهم عن العقيدة وعن الدين والدعوة ما هو إلا ستار، ومحاولة للوصول إلى مآرب أخرى، مع أن الناس وطلاب العلم يسمعون هؤلاء المشايخ والدعاة المظلومين منذ أعوام، فلو كانوا يرون شيئاً أما كانوا سيقولونه؟! أيكتمونه طوال هذه السنين؟! سبحان الله ما أكثر الظلم! وما أعظم الظلم والبهتان! وهل يريد هؤلاء الدعاة إلا أن يبينوا الحق ويوضحوه للناس، ثم إن هذا اتهام بالنفاق! فمن الذي أطلعكم على نيتهم وما في بواطنهم، فإذا قال أحد: كلامهم نافع وأشرطتهم نافعة ومحاضراتهم نافعة؟ قال: نعم.
ولكن لهم أهداف أخرى.
سبحان الله! من أين علمت هذا؟ فرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعرف المنافقين، وقد أنبأه الله تعالى عنهم، وأطلعه على أحوالهم ومعرفته لهم بسيماهم، فقال له: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30] وغير ذلك، ومع ذلك فعاملهم على الظاهر، عاملهم معاملة المسلمين، وقال في حديث المقاتلة: {وحسابهم على الله} وأنت تقول: لا.
مهما أظهروا! وقد كلمهم كثيرون، ونصحوهم وقالوا لهم: اتقوا الله! من أين لكم هذا؟ فيقولون: أنتم لا تعلمون شيئاً، فيقال لهم: هؤلاء قد زكاهم العلماء، فيقلون: لا يعلم العلماء عنهم شيئاً، وهناك أمور أخرى، سبحان الله! فكيف عرفتموها؟ ثم إن من العجب أن هؤلاء قليلو المخالطة للدعاة المظلومين المفترى عليهم، فكيف عرفتم حقيقتهم وأنتم لا تجالسونهم؟ فلو أن واحداً منهم خدمه -مثلاً- أو رافقه أو صحبه؛ لكان في كلامهم شيئاً من القبول، ولكن لم يحدث شيء من ذلك.
ولهذا فالقريبون منهم يعلمون براءتهم، والبعيد يفتري عليهم، ويبهتهم بما ليس فيهم.
إذاً: هذا دليل على شحناء -والعياذ بالله- غلٍ وضغينة وحقد يترفع عنه طالب العلم.
أما الخلاف الفقهي، فلا ننكره، بل نقول: إنه إثراء للقضية، وسيأتي -إن شاء الله- عندما نشرح كلام الشيخ عن هذا الموضوع.(86/9)
مصلحة الأعداء من الشقاق
ثم قال: 'ولا نرى مصلحة في مثل هذا العمل إلا للأعداء المتربصين من أهل الكفر والنفاق، أو من أهل البدع والضلال' وصدق والله فالمصلحة -والله- لهؤلاء وأضرب لكم مثالاً: اتهام منهاج الجماعات الإسلامية بالابتداع، ويقولون: الإخوان والتبليغ إلخ، ويتكلمون عنهم كثيراً، فكيف سيكون حال الناس إذا ظنوا أن هؤلاء الدعاة مع هذه المناهج -خاصة بعدما استفادوا من علمهم وأشرطتهم ومحاضراتهم بالآلاف- عندما يقال لهم: إن فلاناً وفلاناً ممن يدعون إلى هذه المناهج، لاشك أن الناس سيتبعونهم؛ لأنهم قد أحبوهم وألفوهم، كما أنهم لا يلقون بالاً للتسميات، فإذا علموا أن فلاناً الذي أحبوه ووثقوا به من الجماعة الفلانية، قالوا: نحن معك، وأنا قد جاءتني رسائل تعبر عن إرادة المساعدة، وحب الخدمة، والاستعداد لذلك.
إن التسميات ليست مذمومة لذاتها، فليس في القرآن ذم لكلمة (إخوان، تبليغ) فيقول الناس إذا كان الأمر كذلك وكان القائمون عليها أمثال هؤلاء الرجال، فنحن معهم ومنهم، ولا يهمنا الاسم، وتكون النتيجة عكس ما أراد هؤلاء المصرون.
فإذا كان غرض هؤلاء محاربة الدعاة؛ ويقولون: نحن نحارب أهل البدع، وهؤلاء من أهل البدع، فسيقول الناس: هذه البدع على عيوننا ورءوسنا، وإذا كان أحد من أهل البدع فهو أنتم، وقد يردون بعض الحق الذي يقوله أولئك، وسبب هذا أن الافتراء العظيم يقابله عادةً غلو وتعصب عظيم.
ومثال آخر: تصوروا لو جاء رجل من المعتزلة، وقال: الإمام أحمد بن حنبل منا، فجاء رجل من أهل السنة، وقال: هذا صحيح، ليس الإمام أحمد منا، بل من المعتزلة، فسيقول المعتزلة: أحسنت.
أهديت لنا هدية عظيمة.
إن الروافض إلى الآن يحرصون على أن ينسبوا الصحابة من أهل بدر ونحوهم إليهم، لماذا؟ لأن كل عاقل يعلم أنك عندما تأتي إلى أناس لهم خير وفضل فتنسبهم إليك، فإن هذا أقوى وأفضل، بالنسبة إلى هؤلاء -سبحان الله- الذين انتكست عقولهم، فيأتي ويقول: هؤلاء ليسوا من أهل السنة.
ولهذا أجابهم بعض طلبة العلم وقالوا لهم: حسن، لقد عرفنا الآن من هم أهل البدع، فإذا ذهبت إلى القصيم فلن أحضر لا للشيخ سلمان بن فهد العودة أو من كان على شاكلته، وإذا ذهبت إلى جدة فلن أحضر عند سفر الحوالي ولا إلى من هو مثله، وإذا ذهبت إلى أبها فلن أحضر لا للشيخ عائض القرني ولا إلى من هو مثله، وإذا ذهبت إلى الرياض فلن أحضر لا للشيخ: ناصر العمر ولا إلى من هو مثله؛ لأنهم كلهم أهل بدع، ومجالسهم مجالس بدعية، فمن أهل السنة غير هؤلاء لنحضر لهم في هذه المدن الثلاث؟ والحمد لله، لا تجد أي داعية يحمل غلاً أو ضغينة على الآخر.
فلو ذهبت إلى أبها، فأكثر إنسان أحب أن أراه، الشيخ: عائض القرني، ولو جاء إلى جدة كان كذلك، أو مكة كلنا كذلك والحمد لله، إنها محبة إيمانية، فكل منا يريد بل ويفرح أن يسمع أن الناس يسمعون محاضرات أخيه وأشرطته وكتبه، وكأنه هو الذي كتب، لا فرق عندنا، لأن هذا هو الحق، ولو كان مكتوباً في أقاصي البلاد، لكن أولئك أفسدوا ويظنون أنهم يصلحون.(86/10)
أصحاب الصف الواحد
إن هذا العمل فيه مظاهرة ومعاونة للمغرضين من العلمانيين والمستغربين، وغيرهم من الملاحدة الذين اشتهر عنهم الوقيعة في الدعاة، والكذب عليهم والتحريض ضدهم فيما كتبوه وسجلوه، فعندما جاءت الفتنة أو الأزمة -والتي يسمونها "أزمة الخليج "- تكلم من تكلم منا وأبرأ ذمته، ولا أدل على أن الأمر هو براءة للذمة من اختلافنا نحن الأربعة -الذين يقال عنا ما يقال- فكل واحد منا لو سمعته تجده قد أخذ الموضوع من منحى خاص، وصحيح أن الهدف والمؤدى واحد، ولكن لكل واحد وسيلته، ليس كما ذكر هؤلاء أنها اخطبوطات في الخفاء، أو كما اتهمونا بأننا يديرنا جهات خارجية.
إننا نعتبر أن هذا البلد بلد القيادة -لا نقول هذا فخراً، لكنها الحقيقة- فهنا المنبع، فكيف ندار من الخارج؟ قد يكون لنا إخوة في الله يشاركوننا من أهل السنة في بعض آرائنا ومواقفنا، وطبيعة أهل السنة أنهم أمة واحدة، وفرقة واحدة، في كل مكان، لكنا لا ندار أو نوجه من الخارج.
فهؤلاء الذين كتبوا وطعنوا كانوا يمدحون ويثنون عليّ بما أنا أعلم أنه كان فيه نوع مبالغة، وأقول لأحدهم: لا تبالغ بارك الله فيك، وهذا حادث ويشهد به المئات، إن لم أقل الألوف من الذين يحضرون مجالسهم، حتى جاءت هذه الأزمة، وكان لنا رأي فيه مخالفة أو معارضة للموقف الرسمي للدولة؛ إبراءً للذمة، فنحن في هذا البلد ليس لدينا معارضة سياسية أو معارضة حزبية، بل عندنا كلمة حق تقال، لا خير فينا إن لم نقلها، ولا خير فيهم إن لم يسمعوها، فإن أخذوا بها فالحمد لله، وإن لم يأخذوا بها برئت ذمتنا وهم حسيبهم الله تعالى، وقد يكون اجتهادهم هو الصواب.
ونحن نقول، وما زلنا نقول: إن هذا رأي ليس فيه وحي نزل من السماء، ونحن عندما قلنا هذا الكلام انقلبت هذه المحبة والمبالغة في المدح إلى عداوة مقيتة شديدة غريبة -سبحان الله- واشترك فيها الطائفتان، حتى تعرفوا من يعاون هؤلاء، فيأتي: غازي القصيبي في كتاب حتى لا تكون فتنة فيقول: وافتتح هذه الفتنة " سفر الحوالي بشريطه (ففروا إلى الله) ثم ثنى بفلان، وخص كل واحد من الإخوة الثلاثة برد خاص مستقل، ويوزع الكتاب بالكراتين.
وفي نفس الوقت تكيل الصحافة السب والشتم الصريح لـ حسن الترابي، وراشد الغنوشي، وعباس مدني، وعلي بلحاج وأشياعهم عندنا هنا، فمن يقصدون بأشياعهم هنا -إنهم معروفون- وأتباعهم في دول الخليج؟ ومع هذا السب والشتم سكتنا، واستمرت دروسي إلى أن أوقفت، ثم عادت، وتركنا موضوع الأزمة جانباً، وانصرفنا إلى قضايا علمية بحتة، وقامت الحرب، ولم نعلق على هذه الأحداث، وواصلنا كما كنا، وهذا فيه دليل على أنه لا غرض نريده إلا بيان الحق.
لكن العلمانيين غضبوا وقالوا: ما دام هؤلاء قد خالفوا الحكومة، فإنهم يريدون الكراسي والمناصب والحكم مثل حسن الترابي وراشد الغنوشي وعباس مدني، وفي هذا الوقت بالذات كُتب غازي القصيبي توزع، وكلام الجرائد يومياً إلا ما رحم الله منها، فلا نعني الجميع طبعاً، وتأتي الأشرطة وتوزع في وقت واحد.
إذاً أليس المصدر واحد؟ أليس العقل المدبر واحداً؟ وسوف ندع ما خفي جانباً، وإن كان عندنا حقائق لا نظهرها، ولكن نتكلم عن الظاهر الآن، وهو أنك أنت والعلماني الملحد والمستغرب قد وقفتم في صف واحد ضد أخيك هذا المسكين، الذي قال كلمة وانتهت، فتأكل عرضه، وتنهش لحمه، ليل نهار من أجل ماذا! ثم إن هذه الآراء اجتهادية وقد أوضحها الشيخ -رحمه الله- فهي مما يقبل النقاش، ولكن المسألة بدت رداً للسنة وإنكاراً لها، وأنهم أتباع فلان القبوري، وفلان الشركي، ثم إغواء الشباب أن هذا شيء لا ينصره العدل.
فإذا كان الذبح يحتاج إلى الإحسان: {وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة} ولو رأيت كائناً صغيراً أتطلق عليه الرشاش؟ لا.
بل كل بحسبه.
فالمسألة ولو كانت خطأ، فلا يكون الرد بهذه الصورة، لكن هؤلاء ما أحسنوا حتى القتلة والذبحة.(86/11)
الفتنة تفسد قلوب العامة والخاصة
ثم قال الشيخ ابن باز: 'إن في ذلك إفساداً لقلوب العامة والخاصة' وحقاً -والله- لقد وقع، فعندما امتلأت الدنيا نشراً وترويجاً للأكاذيب والإشاعات الباطلة، كثرت الغيبة والنميمة، وفتح أبواب الشر بمصاريعها لضعاف النفوس، الذين يدأبون على بث الشبه، وإثارة الفتن، وممن يحرصون على إيذاء المؤمنين بغير ما اكتسبوا.
'وقد تبلبلت الأذهان، وتفلتت الألسن، وصرف الشباب عن طلب العلم النافع، ومدارسة الكتاب والسنة، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووقع التهاجر والتباغض فيما بينهم، وراجت الإشاعات والأكاذيب والأباطيل' فراجت على مستوى العامة، وعلى مستوى الحكومة، وعند أعداء الدعوة، وراجت في كل مكان، ويقولون: إن هؤلاء لهم أهداف خبيثة، ووراءهم أشياء عظيمة، ولهم علاقة بالخارج، وهكذا دواليك حتى تشوشت أذهان كانت من أصفى ما يكون، فكيف بالذي هو حديث عهد وابتلاء؟! وقد بلغت الضغينة مبالغ عجيبة جداً، وهناك أمثلة كثيرة مشهودة على هذا الشيء.
فمثلاً: سافر الشيخ عائض القرني حفظه الله إلى المدينة ودعاه أحد المشايخ المحترمين الفضلاء، والذي يعرفه الناس، وجاء بعض أولئك من غير دعوة، ودخل الشيخ، ومعلوم أنك تفرح إذا لقيت شيخاً وسلمت عليه، وهذا أمر ملموس، ومن طباع الكرام والمؤمنين، ولكن هذا لم يقم ولم يسلم مع أنه جاء بغير دعوة وأساء الأدب، أليست هذه ضغينة وبلبلة؟! وآخر بعدما بلغه خطأ وكذباً أن الشيخ سلمان بن فهد العودة قد اعتقل، سجد سجدة شكر وهكذا تكون الضغينة!!! مع أن المخالفة هينة، أو خلاف فقهي كما يقولون، فلو بلغك أن الشافعي كلامه راجح، وكلام مالك مرجوح أتسجد؟! لكن هذا دليل على أن هناك ضغينة، ولقد بلغ التدليس والتلبيس شيئاً لا يطاق.
حتى أنهم بلغ بهم الحال أن سجلوا شريطاً في المدينة ونسبوه إلى أحد هؤلاء المشايخ الذين يطعنون فيهم، وزعموا أنه من إصدار أحد التسجيلات المشهورة في جدة، وهي تسجيلات ذات سمعة حسنة، وكل مادة الشريط كانت مملوءة بكلام غيبة ونميمة وافتراء.
فهل هذا مجرد خلاف -فعلاً- حتى يصل إلى درجة الكذب والبهتان والتزوير، وينشر هكذا ليضلل على الناس؟ هذه أمثلة على كلام الشيخ ابن باز -حفظه الله- في البيان.(86/12)
تهم متوهمة
ثم يقول رحمه الله: ' إن كثيراً من الكلام الذي قيل لا حقيقة له، وإنما هو من التوهمات التي زينها الشيطان لأصحابها وأغراهم بها' وقد أنطق الله بعضهم، وقالوا: هذه أوهام، فأهل البدع يزرعون بيننا الأوهام، ليفرقوا بيننا؛ لكن بعد فترة رجع إلى هذه الأوهام والخيالات، فمثلاً: وهم الحزبية، وأن هناك حزب وهمي يسيطر ويدير كثيراً من الناس ومنهم: حسن الترابي وراشد الغنوشي وجبهة الإنقاذ إلخ، هذه خيالات الغربيين، فقد وضعوا فيلماً عن أحداث آخر الزمان من نبوءاتهم وأوهامهم الباطلة.
وهذا الوهم ركَّبه بعضهم، وصارت كلمة يقولونها: الإخوان، ونحن بيننا هنا إخوة سودانيون، سلوهم هل حسن الترابي فعلاً ينتمي إلى منهج حسن البنا وسيد قطب والإخوان أم أنه مخالف له؟ بل لقد خرج بمدرسة مستقلة.
سلوا الإخوة الجزائريين: هل عباس مدني من الإخوان أو من مدرسته؟ إن الإخوان لهم حزب مستقل تماماً بـ الجزائر عن جبهة الإنقاذ.
ثم قالوا: وهؤلاء الإخوان تعانوا مع صدام، وقالوا: والذين هنا تحفظوا على وجود القوات الأمريكية الأجنبية، إذاً هم صداميون وإخوان! انظروا الوهم، كيف يكون! فقد جعلوا كل حادثة تبع.
فعندما جاءت حادثة كنر، وقالوا: وراءها الإخوان -ونحن والله مع أهل السنة وسننصرهم بإذن الله تعالى- لم يتفهموا الموضوع، ولم يسمعوا تفاصيله، بل قالوا في البيان: لقد لبس الإخوان على الشيخ، وضحكوا عليه.
ووهم آخر توهموه، وهو قولهم: إن هؤلاء يعادون العلماء، ونحن -والحمد لله- نحضر كل رابع أسبوع اجتماعاً مع سماحة الشيخ، وهذا من بعد الأزمة، وهذا غير اللقاءات الأخرى التي تقع أحياناً بعد أسبوعين أو أقل من ذلك، وغير الاتصالات والمراسلات والمشاورات في أمور الدعوة، وغير ما نرفع به إلى سماحة الشيخ: محمد بن عثيمين ويعلم الجميع حبنا له، وفرحنا بمجيئه، وكلامه فينا ثناءً ومدحاً والحمد لله، أما إذا خالفت عالماً في فتوى فإنه لن يغضب.
وهو معنى كلام الشيخ عبد العزيز بن باز: 'ما يسوغ فيه الاجتهاد لا يؤاخذ' فالأمر ليس فيه أي شيء، خاصة إذا لم يسم، فإذا قيل -مثلاً- بعض العلماء قال كذا، ولكن بعض العلماء ما قال هذا، فهل يعني هذا المعاداة والطعن والتجريح للعلماء؟! بل نحن -والحمد لله- معهم، ونحن أبناؤهم وطلابهم، حتى أن من الأقوال التي يقولون أني قلتها: ما كان فينا من خير فهو من فضلهم وتربيتهم، حتى هذا القول جعلوه ضمن ما يقال أنه عداوة للعلماء، ويؤولون ويقلبون الحقائق والعبارات، وهذا من الافتراء وسوء الظن.
ولذلك يقول الشيخ: 'والمؤمن ينبغي أن يحمل كلام أخيه المسلم على أحسن المحامل' وقد قال بعض السلف: لا تظن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً، وأنت تجد لها في الخير محملاً، حتى لو قال: هذا الحديث لا أعمل به؛ فظن به الخير، وقل: لعله عارضه عنده حديث آخر، أو آية، أو اعتقد أن هذا الحديث منسوخ.
ولا تقل: رد السنة.
ولكن المصيبة، أننا ما وقفنا عند التأويل، وعند المحمل السيئ فقط، بل ضربوا عبارة قطعوها بعبارة أخرى، كما لو قرأ أحدهم مثلاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} [النساء:43] وقطعها، وهكذا هم، فأين كلامنا الأول، ومحاضراتنا الأولى؟ كلها لا تهمهم، وإنما المهم هذه القطعة أو الفقرة، فتعدوا سوء الظن وما نهى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنه ودعا لاجتنابه؛ إلى التلفيق المتعمد للأكاذيب والأباطيل.(86/13)
المؤاخذة في الخلافات الاجتهادية
ثم قال رحمه الله تعالى: 'وما وجد من اجتهاد لبعض العلماء وطلبة العلم، مما يسوغ فيه الاجتهاد -كمسألة الاستعانة بالكفار مثلاً، فإنها مسألة اجتهادية والخلاف فيها قديم- فإن صاحبه لا يؤاخذ به، ولا يثرب عليه، إذا كان من أهل الاجتهاد، فإذا خالفه غيره في ذلك كان الأجدر أن يجادله بالتي هي أحسن '.
والله تعالى يقول: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] فإذا كان هذا مع اليهود والنصارى من المجادلة بالتي هي أحسن دون تهم أو تلفيق فكيف بمن هو أخوه!! ويقول: ' حرصاً إلى الوصول إلى الحق من أقرب طريق، ودفعاً لوساوس الشيطان، وتحريشه بين المؤمنين، فإن لم يتيسر ذلك، ورأى أحد أنه لا بد من بيان المخالفة، فيكون ذلك بأحسن عبارة، وألطف إشارة، ودون تهجم ولا تجريح أو شطط في القول، قد يدعو إلى رد الحق والإعراض عنه، ودون تعرض للأشخاص، أو اتهام للنيات'.
وقد اجتمع مجموعة، وأخذوا معهم غيرهم وهم قلة، وذهبوا إلى سماحة الشيخ في الطائف وقالوا: نريد منك إيقاف درس شرح العقيدة الطحاوية، ونحن سندرس العقيدة مكانه، فقال الشيخ جزاه الله خيراً: هذا درس مفيد فيه خير، وأنتم جزاكم الله خيراً نفتح لكم دروساً في مدن أخرى، قالوا: نحن في جدة، قال: ولو في جدة، افتحوا درساً في المسجد، ولا مانع من ذلك، قالوا: نريد أن تكتب لنا كتاباً إلى مركز الدعوة، فكتب الشيخ لهم.
والكل يعلم أننا لم نُحج أحداً أن يذهب إلى الشيخ من أجل أن يعطيه خطاباً ليحاضر في جدة، بل نحن نفرح عندما نجد من يلقي محاضرة في جدة، ونرحب به وندعوه، ونقول له: لو تلقي دروساً كل يوم فأهلاً وسهلاً ونرحب بك، كأخينا الشيخ محمد المختار الشنقيطي حفظه الله، والشيخ ناصر العمر، ونحن نرى كيف يفرح الشباب عندما يأتي هؤلاء المشايخ، فنفرح لفرحهم، وكثيراً ما تأتيني رسائل بطلبهم، فنحن حريصون على هذا.
والشاهد من هذه القصة أن الشيخ اشترط عليهم وأمام جمع كبير من الدعاة: ألاَّ يتعرضوا للأشخاص ولا للمشاكل، وأن يتكلموا في التوحيد والعقيدة والدعوة.
فجاء هؤلاء، وتكلموا بما ذكرت سابقاً، ولما رأى الشيخ أن الأمر قد استفحل، ولم يلتزموا بما قال لهم، أصدر بياناً وجعله عاماً، وهذه حقائق يجب أن تعرف، وما كنا نريد أن تقال لكن هذا ما حدث.
يقول الشيخ: 'دون تعرض للأشخاص أو اتهام للنيات' إذاً لا تتكلم في نيته، بل تكلم في حدود الألفاظ، واحملها على المحمل الحسن.
'وإذا وجدت زيادة في الكلام لا مسوغٍ لها' لا تضع من عندك زيادات أو عبارات، أو سوءاً تلصقه بالكلام المنتقد، وإنما تقول: أخطأ.
وأيضاً لا تُعدد أفعالاً تذمه بها، مع أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يقول في مثل هذه الأمور: {ما بال أقوام قالوا كذا وكذا}.(86/14)
نصيحة للذين يقعون في أعراض الدعاة
ثم قال: 'والذي أنصح به هؤلاء الإخوة الذين يقعون في أعراض الدعاة، والنيل منهم أن يتوبوا إلى الله تعالى مما كتبته أيديهم، أو تلفظت به ألسنتهم، مما كان سبباً في إفساد قلوب بعض الشباب وشحنهم بالأحقاد والضغائن عن طلب العلم النافع وعن الدعوة إلى الله'.
كذلك كانت نصيحة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، فقد ذهب إليهم وحاضر عندهم بعنوان (موقف أهل السنة والجماعة من الخلاف) والشريط معروف.
إذاً لا بد من التوبة، والتكفير عن الكتب والشرائط السابقة، بجديدة ترجعون فيها إلى الحق، فهذا ما يفتي به علماؤنا وينصحون به.
والآن ظهر فعلاً من الذي يعصي العلماء، ولا يسمع كلامهم، ويرمي به عرض الحائط، فهل ستظهر الآن هذه الطاعة، وهذه المحبة للعلماء، فيتوبون ويستغفرون ويكفرون بأشرطة أو غيرها، توضح بأنهم رجعوا عما قالوا، وأنها كانت ظنوناً، وأنهم يبرءون إلى الله من إثمها، ويرجون من أصحابها العفو والصفح عنهم؟ فهل يفعلون ويمتثلون كما أمر الشيخ؟ قال: 'وشغلهم عن طلب العلم النافع، وعن الدعوة بالقيل والقال، والكلام عن فلان وفلان، والبحث عما يعتبرونه أخطاءً للآخرين، وتصيدها وتكلف ذلك' هذا ما قاله الشيخ.
ومن طلاب العلم من جاءني مراراً يقول: يا شيخ ما الذي نفعل؟ إنني أطلب العلم النافع وأحرص عليه من الكتاب والسنة، فأقول له: العلماء كثير، فخذ منهم واستفد، واترك هذا الموضوع ولا تشغل نفسك بإخوانك، ولا تثره في أي مكان، وهذه نصيحة نكررها لأكثر من يأتينا، ما لم يلح في طلب معرفة القضية، فأحدثه يسيراً وأنا كاره؛ لأننا لا نريد أن ننشغل عن الدعوة، وهي مهنتنا وقضيتنا الأساسية، أما أولئك فقد تتبعوا بعض أشرطة المشايخ القديمة والتي كانت قبل الأحداث، وقاموا بربطها بالأحداث، وركبوا منها موقفاً غير الموقف الذي وقفه بكل وضوح وعلانية، فشغلوا الشباب بها.
كما ذكر لي أحد الإخوة يقول: زميل لي في العمل -في مؤسسة حكومية كبيرة جداً- ملئا بكل ما تتخيله من منكرات، وهذا الأخ يعمل عندنا في المكتب، ويوجد عندنا من لا يصلي مطلقاً وعندنا الكفار، وعندنا من يروج لكتب الشرك وأمثالها، وهذا الزميل كل أسبوع يذهب إلى المدينة، وأحياناً إلى حائل، فيجمع شريطاً من هنا، وكلمة من هناك، ويذهب بكلمة ويأتي بكلمة، وينشغل بالقيل والقال، ولا يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، وهذا مثال لما ذكره الشيخ عن هؤلاء الشباب.
فننصحهم أن يكفوا عن أفعالهم، وأن يقبلوا على الأعمال المفيدة التي تقرب إلى الله، وتكون نافعة للعباد -وهذه نصيحة لنا جميعاً- وأن يحذروا من التعجل في إطلاق التكفير أو التفسيق أو التبديع بغير بينة ولا برهان، وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما} ومن قال لأخيه: يا فاسق! يا خارجي! يا عدو السنة! يا متستراً بالعقيدة! فقد يكون الأمر كذلك.(86/15)
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون
قال الشيخ رحمه الله: ' ومن المشروع لدعاة الحق وطلبة العلم إذا أشكل عليهم أمر من كلام أهل العلم أو غيرهم أن يرجعوا فيه إلى العلماء المعتبرين ويسألوهم عنه؛ ليبينوا لهم حقيقة الأمر ويوقفوهم على أصله، ويزيلوا لهم ما في أنفسهم من التردد والشبهة، عملاً بقول الله عز وجل في سورة النساء: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:83] والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين جميعاً، وأن يجمع قلوبهم وأعمالهم على التقوى، وأن يوفق جميع علماء المسلمين وجميع دعاة الحق لكل ما يرضيه، وينفع عباده ويجمع كلمتهم على الهدى، ويعيذهم من أسباب الفرقة والاختلاف، وينصر دينه الحق، ويخذل الباطل إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين '.
في 17/ 6/1412هـ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد).
وكل من يحبنا منكم فحق ودين عليه أن يشكر سماحته بأية وسيلة.(86/16)
الجزائر وجبهة الإنقاذ
الموضوع الآخر وهو موضوع حديث الساعة كما يسمى في الشرق والغرب، هو موضوع الجزائر، ونحن مبدئياً نعتقد أن الديمقراطية كفر ليس في ذلك عندنا أي شك، ونعتقد كذلك أن قيام الإسلام في الأرض ليس بهذه الطرق وبهذه الوسائل بالضرورة، بل الطريق الصحيح والمنهج الحق هو: الدعوة وطلب العلم ونشر الفقه في الدين، وتربية الناس على ذلك، وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى أن تأتي مرحلة تمايز الصفوف، هنا يأتي الجهاد في سبيل الله، وإقامة الدين بعد البيان والحجة وإبلاغ الحق، وهذه بديهيات معروفة والحمد لله، لكن نحن نتكلم عن قضية واقعية وأمر قد وقع.(86/17)
خيارات جبهة الإنقاذ في الجزائر
لم يكن هناك مناص، أو مفر من أحد أمرين إما أن تقع أحداث كأحداث تونس، والتي فيها الآن ما لا يقل عن خمسين ألف معتقل ومعتقلة، يعذبون بأشد أنواع التعذيب التي كانت في أيام جمال عبد الناصر كما في نافذة على الجحيم وقد كتب عن هذا شيء فظيع، وتواتر وتناقله الثقات من الإخوة السلفيين الموثوقين بعقيدتهم ونقلهم وكتبوا ذلك، وعندي أشياء كثيرة مؤلمة، ومقلقة تطير النوم، وتذهب الراحة من القلوب.
المقصود: أن هذا كان اختياراً أو حلاً، فلو سيطرت الجبهة الاشتراكية الحاكمة الخبيثة، أو جبهة القوى الاشتراكية فهذا ما يريدون أن يفعلوه، حيث يريدون التنكيل والإيذاء وضرب الصحوة وفتح المعتقلات، وهذا ما فعلوه أيضاً بـ الجبهة وأعضائها.
أو البديل الآخر مع اعتقادهم أن الديمقراطية كفر، وعلى أن نتائج الانتخابات قد لا تكون مضمونة، تلافياً للتهم وعدم الشرعية قالوا: ندخل، ونرتكب أخف الضررين، ونحقق أعلى المصلحتين، ونثبت للغرب والشرق أن هذا الشعب لا يريد إلا الإسلام، وهذا هو الذي عملت به الجبهة وغيرها في بعض الدول، وهناك فتوى من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز بأنه إذا كانت الضرورة، أو مصلحة الدعوة في دخول الانتخابات أو البرلمان فلا بأس بقيودها، وهكذا حصل.
فتصوروا جبهة تحارب ويعتقل منها الآلاف، وإلى الآن شيوخها في السجن كالشيخ: عباس مدني والشيخ: علي بلحاج؛ ومع ذلك تأتي الانتخابات، وتأتي هذه النتيجة العجيبة، فيكون للحزب الحاكم (16) مقعداً والجبهة (202) وقد تصل إلى (210)، فهي نسبة غريبة جداً، تدل على أن هذه الأمة لا تريد إلا الإسلام ولا نعني أن كلهم صحابة فضلاء علماء، ولكن المقصود أن الرغبة والعاطفة والشعور إسلامية، فالمعنى أنهم مستعدون أن يتربوا على الإسلام ويتبعوا المنهج الإسلامي بدل المنهج الاشتراكي، ويريدون المحاضن الإسلامية بدل المحاضن العلمانية، وتعليم العربية بدل الفرنسية، وتعلم التفسير والتوحيد والفقه والحديث بدلاً من تعلم الكفر والإلحاد والتاريخ القومي وغير ذلك.
فهذه دلالة على أن الشعوب تريد الخير، وشعب الجزائر شعب غيور، وصادق ومتدين بالفطرة والحمد لله.(86/18)
ردود الأفعال على نتائج الانتخابات الجزائرية
لما ظهر هذا الحدث الكبير تباينت ردود الأفعال، فـ فرنسا تلمح بأن الجيش سيحل المشكلة، مع أنهم يزعمون أنهم دعاة الديمقراطية، ويقولون: إن الثورة الفرنسية فجرت الديمقراطية في العالم، لأنها حررت الشعوب، وعبرت عن إرادتها، وهذا شعب عبر عن إرادته، فلماذا تلمحون أن الحل سيكون في تدخل الجيش؟! وبعض الدول والإذاعات والصحافات سكتت، ولم تتكلم مطلقاً، ولو كانت جبهة اشتراكية في كولومبيا أو جامايكا أو غيرها لجاء الخبر على الفور، لكن في بلد إسلامي كبير يبلغ تعداده حوالي ثلاثين مليون، وهناك أحداث خطيرة، ومع ذلك لا تسمع لهم حساً، وبعض الصحف كتبت عن " جبهة الإنقاذ " ولم تذكر الإسلامية، لماذا؟ إنهم يريدون أن يظهروها كغيرها من القوى، وإلا لماذا لم تميز؟! وبعض الصحف تجرأت أكثر، ومنها جريدة الشرق الأوسط، وقالت كلاماً عجيباً، حتى كلام الشيخ حاولت أن تحرفه وتؤول معناه، فلقد حاولت في قضية الجزائر أن تدخل البلبلة بعناوينها، ومن ذلك كلمة بعنوان: (كلمة لا بد منها حول الانتخابات الجزائرية) تقول: 'إنا قد علمتنا التجارب أن القوى التي تعيش في ضمن قالب أيديولوجي- أي: عقدي- جامد، أو تتعرض للقهر والاضطهاد، ولا تجد أمامها الفرصة الكاملة للتنفيس أو التعبير عن الرأي، تطرح شعارات مبسطة تتعاطف معها الجماهير' ومعنى كلامها: أن الناس مغفلون، وتقول: 'ومع الوقت تصبح بعض الشعارات التي دغدغت أحلام الناس بتذليل كل الصعاب، وترياق يعالج كل المشاكل، ويسهل تصديق هذه الشعارات، وتتحول من زفرة للفت النظر إلى برنامج عمل سياسي' فانظروا كيف الطعن والدس! وبعدما يذكر قدوته الاتحاد السوفيتي والقوى الاشتراكية، كما قرر جار الله الخبيث وأمثاله، أي: أن الإسلام والشيوعية عندهم نظامين شموليين، ويقول: (تجارب روسيا دلت على هذا، وكذلك هناك تدل على أن الحكم أكثر من مجرد شعارات ونية طيبة واستلهاب للهمم أو تحريض للشارع، فالمشاكل المتراكمة لا تحلها النظرات المثالية، ولا تنهض بأعباء حلها الشعارات أو تغيير الأسماء والوجوه وإنهاء سلطة هذا الحزب وإسناد الرأي لذلك، إنما تكمن في الحلول وفي الرؤية الواقعية الاختبارية لحقيقة الأوضاع لكي تصبح الحرية والكساء والغذاء والطبابة في متناول كل عقل وكل جسد).
فهو مقصوده إبعاد الدين! وهذه نظرة مادية بحتة، وهذه الدول الغربية تؤمن لمواطنيها الدواء والغذاء والراحة والحرية، حرية: التعري، والزنا، والسكر، والعربدة فهذا هو النموذج، أما الشعارات والدعوة للدين والإسلام، فلا يريدونه لا في الجزائر، ولا في أي مكان على حسب رأي الجريدة، يقول: (وفي بذل الجهد وجمع طاقات أبناء الشعب تحت مظلة الأمن والانسجام الاجتماعي بعيداً عن صفات التشنج والعصبية التي تزرع الريح فلا تحصد إلا العاصفة) إلى آخر ما قالوا وما كتبوا، فهناك ردود فعل كثيرة جداً، وما زالوا في أولها.(86/19)
نصيحة لجبهة الإنقاذ
ثم نوجه نصيحة للإخوة في جبهة الإنقاذ نقول لهم: أولاً: بغض النظر عما يقوله العلمانيون، نحن لا تغرنا الشعارات فقط؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يريد منا إيماناً حقيقياً وقلباً صادقاً مخلصاً، وليس مجرد الشعارات، وإن كانت شعارات حق، وأذكر من شعارات الجزائريين أنهم يجولون ويقولون: لا ميثاق لا دستور، قال الله قال الرسول، وغيرها، وهذا شعار حق، الله تعبدنا به ويجب أن نعتقده لكن لا يكفي الاعتقاد، يجب أن يتحول إلى عمل، وأن يكون احتكامنا فعلاً إلى ما قال الله وإلى ما قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ثانياً: أن الجماهير تحتاج إلى تربية بل طبقة المثقفين، فنحن لا تغنينا هذه الجموع عن التربية، وعن فتح حلقات العلم في المساجد ونشر العلم الشرعي، والتفقه في دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وفي التوحيد الذي هو أعظم ما أمر الله تبارك وتعالى به، وبيان الشرك، وبيان البدع، وخطرها وضررها وبيان العلمانية والرد عليها في جميع فروعها، وبيان القومية، والتي يسموها "جزأرة" أو أياً كانت، وفضح كل ما يمس بالعقيدة.
المهم أننا ننصح الإخوان في الجبهة، وفي كل مكان بأن يتمسكوا بكتاب الله، وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنها أمانة عظيمة حملوها، سواءً فازوا في الانتخابات أم لم يفوزوا، في المرحلة الأولى أم الثانية، وصلوا للحكم أو لم يصلوا، ليست هذه هي القضية الأصلية، بل القضية أنكم حملتم الآن أمانة عظيمة، خاصة أنتم أيها الدعاة في الجزائر؛ ونحن الدعاة في كل مكان أمام هذا الشعب الذي تخرج منه كل هذه الملايين، وتقول: لا نريد إلا قال الله وقال الرسول.
إنها -والله- أمانة عظيمة علينا، فلا بد أن نرسل لهم الكتب، وأن نبعث لهم بالأشرطة، وهم -والحمد لله- يتلقفونها كما يتلقف العطشان الماء البارد في كل منطقة، وفي كل ولاية من ولايات الجزائر، وأن نمدهم بالدعاء، فندعو لهم دائماً أن ينصرهم الله تعالى، وإنه لفتح كبير أن تكون دولة لا إله إلا الله، التي على منهج السلف الصالح والخلافة الراشدة في الجزائر، فنرجو أن تكون كذلك إن شاء الله، فلندع لهم بالتوفيق والسداد والتثبيت.
ونقوم بالواجب ولا يكفي النقد لأنه سهل، ولكن ليس هذا هو المطلوب، بل المطلوب النصح والتأييد، وأن أقول وأبلغ بما أستطيع لما فيه خيرهم، وخير الإسلام والمسلمين، ولله الحمد والمنة.
ثم ننصح الإخوة الصحفيين في بلادنا أن يتقوا الله، وأن يعطونا معلومات عن هؤلاء الناس، وأن تترك التجريح خاصة جريدة الشرق الأوسط التي تجرح وتشهر بمثل هذا الكلام، لماذا لا يسافر مندوبون من جرائدنا ومنها عكاظ، وأخصها لأن لها مندوبين في كثير من أنحاء العالم، لماذا لا يذهب هؤلاء ويقابلون قادة الجبهة وتنشر مقابلاتهم في صحفنا، ويعرف الناس الذين يدعون إلى الله، والذين يُتهمون بأنهم وهابية؛ لأن هذا البلد محط أنظار الناس، وهم يريدون أن يسمعوا منا أية كلمة، ولو كانت صغيرة فيعملون بها شهوراً وأياماً وليالي، فأرجو أن تكون هذه النصيحة لها قبول عند أولئك.
هذا وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.(86/20)
العزلة الفكرية لدى الشباب المسلم
تحدث الشيخ حفظه الله تعالى عن العزلة الفكرية التي يعاني منها الشاب المسلم، مبيناً أن الشاب المسلم يعاني اليوم عزلة كاملة عن دينه وتاريخه، وأن هذه العزلة جزئية بالنسبة لشباب الصحوة، ثم بين الشيخ حقيقة هذه العزلة، وأسبابها، ونتائجها، وضررها على الفرد، وعلى الأمة ككل، والحلول المناسبة لهذا الداء العضال.(87/1)
النوع الأول: العزلة الكاملة وفقدان التوازن
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد الأمين , وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد: إن العزلة لدى الشباب المسلم هي من أخطر الأمراض التي يعانون منها، ولا سيما في هذا العصر، وسوف نوضح -أولاً- حقيقة هذه العزلة، ثم ننظر إلى خطرها وضررها على الشباب المسلم من خلال ذلك.(87/2)
حقيقة العزلة الكاملة
أولاً: هناك عزلة كاملة يعاني منها الشباب المسلم اليوم، عزلة كاملة عن دينه وعن تأريخه، وعن كل ما يهمه ويجب عليه أن يعرفه، وهذا ما يعاني منه شباب الإسلام في معظم بقاع الدنيا؛ فهم أبناء الجيل الأول وأحفاد الصحابة الكرام، وحملة الأمانة، الأمانة التي حملتها هذه الأمة المباركة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
ولكنهم مع ذلك لا يعلمون من هذه الأمانة ومن هذا الحمل شيئاً، بل يعيشون كما يعيش أبناء اليهود والنصارى والمجوس وعباد البقر والأصنام، لا يعملون شيئاً إلا لشهواتهم ولدنياهم، قد حببت إليهم هذه الحياة الدنيا وغفلوا غفلة تامة عن الحياة الأخرى, وحبب إليهم كل كتاب إلا كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وكل عظيم من العظماء أو العباقرة أو الأبطال إلا أن يكون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو صحابته الكرام, وعظُم لديهم كل عالم في الدنيا إلا أن يكون عالماً من علماء الأمة الصابرين المجاهدين.
وهذه عزلة عظيمة وقع فيها وكان ضحيتها الشباب المسلم في أكثر أرجاء الأرض.(87/3)
صانعو العزلة الكاملة
إن سبب هذه العزلة هو سيطرة العلمانيين والماديين والملحدين وغيرهم من الأحزاب الخبيثة أو من الطواغيت المجرمين الموالين لأعداء الله تعالى في الشرق والغرب، ففرضوا على هذه الأمة المباركة الطيبة المصطفاة هذه العزلة، وأصبحوا يربون الأشبال وأبناء الأسود كما تربى فراخ الدجاج، ولذلك نجد أن هذه الأمة فصلت عن تاريخها، وعزلت عن ماضيها وعن مصدر حياتها وعن مقومات وجودها، وأصبح هذا الشباب يعيش على هامش الحياة وعلى هامش العالم، ونتيجة لذلك ظهرت هذه العزلة في هذا الشباب.(87/4)
نتائج العزلة الكاملة
ومن نتائج هذه العزلة الانتماءات الكثيرة المتشعبة المتفرقة, فهذا يتجه إلى الشرق، وذاك يتجه إلى الغرب وإذا ظهرت في الغرب اتجاهات فإنهم يتسارعون ويتسابقون إلى أيها يذهبون، وبأيها يأخذون، وكذلك في الغرب وهكذا فلا تكاد تجد اثنين من الشباب على قلب واحد، ومن لم تتخطفه الانتماءات المختلفة ذات اليمين وذات الشمال إلى غير دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فإن الشهوات تفتك به, وإن الإباحية والمادية تحيطان به من كل جهة.
وهذا النوع من الشباب نستطيع أن نقول: إنه يعاني من العزلة الكاملة عن الإسلام، وهذا هو الذي يسعى إليه -دائماً- أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويخططون له.(87/5)
وسائل العزلة الكاملة
ومن وسائل هذه العزلة وسائل الإعلام؛ لأنها تصرف الشباب عن الجد، والدين، والحق، وعن معرفة الله، والتفكير بالدار الآخرة, إلى الشهوات والأفكار الخبيثة فإذا لم يسمع الشاب أو لم يرَ أو لم يقرأ إلا ما كان بعيداً عن دينه، فإن هذه العزلة تزداد وتستحكم، فمن أين للحق والخير أن ينفذ إلى قلبه؟! ولا سيما إن كان الدعاة في قلة أو في ذلة, وكانت المساجد لا تؤدي الواجب الذي شرع فيها، وكان أئمتها مقصرين, وكانت حلقات العلم فيها معدومة أو ضعيفة إلى غير ذلك، فهنا تستحكم هذه العزلة على هذا الشباب المسكين.
ومن أعظم وسائل العزلة: المناهج التعليمية: فإنك تجد الشباب يتخصص في مجالات كثيرة في أكثر أنحاء العالم الإسلامي، فهو يعيش في مجالات متنوعة: منها ما تسمى علمية، أو ما تسمى أدبية، ولكن أقل القليل هو من يتفقه أو يقرر عليه شيئاً من دينه؟! وأكثر الجامعات الإسلامية لا تقرر أية مادة إسلامية شرعية، معتمدة على أن الطالب كان لديه في المرحلة الثانوية كتيب صغير جمعوا فيه الفقه والتوحيد والحديث إلى آخره.
ثم يأتي الطالب في الجامعة خاوياً وخالي الذهن، فإن لم يجد المنهج ولم يجد المدرس بطبيعة الحال، فمن أين له أن يعرف دينه وأن يطلع على حقائقه؟! وحينئذ يكون هذا محسوباً رقمياً على الأمة الإسلامية، ولكنه حقيقياً عضواً من الأعضاء الذين إن لم يكونوا ضد الإسلام فهم على الأقل لا يحسبون له حقيقة؛ لأنهم لا يعيشون قضية الإسلام، ولا يدرون لماذا جاءوا، وإلى أين يذهبون، ولا تهمهم قضايا أنفسهم وعبادتهم التي خلقوا من أجلها، ولا قضايا أمتهم التي يجب أن يضحوا ويعملوا في سبيلها.
هذا هو النوع الأول، وأرى أن أمره واضح، وأحسب -والحمد لله- أن مجتمعنا هذا إلى حد ما ليس عنده هذا النوع من العزلة، وليس مستحكماً فيه؛ نظراً لوجود هذه الصحوة الطيبة المباركة، والدعوة التي آتت ثمراتها والحمد لله، وما وجود مثل هذه المخيمات، ومثل هؤلاء الإخوة في كل جامعة -وأمثالهم كثير- إلا دليل على ذلك.(87/6)
النوع الثاني والثالث: العزلة الجزئية
والنوع الثاني من العزلة التي يعاني منها الشباب المسلم هي: "العزلة الجزئية" وهذه العزلة موجودة لدى شباب الدعوة الإسلامية، وهي التي يجب أن نتنبه لها، وأن نكون جميعاً على وعي تام بخطرها وضررها.(87/7)
أسباب العزلة الجزئية
إن التخصص -أيها الإخوة الكرام- مطلوب, بل لا بد منه لكي يُتقن الإنسان فناً أو مجالاً، لكن كثيراً من الشباب باسم هذا التخصص، يغفلون ضروريات وأساسيات لا ينبغي إغفالها, ثم بعد ذلك يرون أن ما أتوا به هو الحق وحده، فماذا تكون النتيجة؟ إذا أخذتُ أنا جانباً من جوانب العلم أو الدعوة أو الجهاد ثم جعلته هو كل شيء، ثم بعد ذلك اعتبرت أن من لم يكن مشاركاً لي فيه فلا شيء عنده، فإن ذلك ينتج عنه الاختلاف، ولا بد؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر ذلك من ضمن أسباب اختلاف الأمم قبلنا: {فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة:14] كمثل النصارى أخذوا حظاً ونسوا حظاًآخر, فإذا نسي المسلم حظاً مما ذكر به -وإن أخذ بحظ آخر- فإنه يعادي من أخذ بالحظ الذي نسيه وترك الحظ الذي أخذ به، والحظ معناه القسمة والنصيب.
فمثلاً: شاب مسلم اتجه إلى الدعوة وجعل همه الدعوة, وأي شيء يعاب على من اتجه إلى الدعوة؟! بل هذا فضل عظيم وخير كبير، لأن هذا منهج الأنبياء وهو طريقهم, لكن باتجاهه إلى الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى واشتغاله بها دائماً وعدم اهتمامه بالجانب العلمي -مثلاً- فلم يهتم بالعلم الشرعي، ولا بالاطلاع، ولا بالتفقه بالدين، ولا في معرفة المسائل بأدلتها التفصيلية, ثم بعد أن تعمق في ذلك ورأى كثيراً ممن تفقه وتبحر وتوسع في المسائل لم يغير منكراً، ولم يحرك ساكناً ولم يؤدِّ واجباً, فيرى أن الحق كل الحق هو ما عنده وما هو عليه، فيعيب ذلك الآخر, والآخر يعيبه.
فيقول: أنت تدعو إلى الله على جهل، وأنت كذا، وأنت كذا وهذا الشاب يزداد حرصاً وتمسكاً بما هو عليه عندما يرى الآخرين لم ينتفعوا بعلمهم، ولم ينشروا هذا العلم, فيقول: الحمد لله الذي جعلني من أهل الدعوة إلى الله، ولم يجعلني من أهل العلم والفقه في الدين، وهو في الحقيقة نسي حظاً وأخذ حظاً، فيقابله الآخر الذي جاءته العزلة من جانب آخر، وذلك أنه يقول: يا سبحان الله! دعوة بغير علم، يدعون ويذهبون إلى كل مكان، ويتحدثون عن أي شيء، ولكنهم جهلة بكتاب الله، وجهلة بسنة رسوله، وما عندهم شيء من العلم فلا خير في هذه الدعوة، فلنتركها ونتفقه ونتثقف.
إلى متى تتفقه يا أخي؟! حتى تكمل علوم شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية أو الحافظ ابن حجر! أو إلى متى إذاً؟ فيضع هذا الشاب أمامه مشاريع ضخمة لا يستطيع عشر عشرها، وخاصة في زماننا هذا, ثم يظل يستمر ويقرأ ويطلع تاركاً الدعوة إلى الله جانباً، ثم إذا ذكر عنده من يقوم بالدعوة أو طلب منه أن يدعو أو يشارك في الدعوة فإنه يقول: الدعوة ليست بجهل، الدعوة ليست أي كلام! وهذا صحيح بلا شك, ولكن ادعُ بما عندك من العلم وبما علمك الله.
فيقول الأخ: هذا فيما بعد، وهذا في وقت آخر، فَيُسَوِّف ويعلل، والنتيجة: أن يصبح هذا خصماً لهذا، وإن لم يتخاصما في الحقيقة، فليس شرطاً في الخصومة أن تكون بمعنى المواجهة، ولكن إذا أخذ هذا بطرف، وهذا بطرف آخر فإنهما ضدان متقابلان، فيأتي الشيطان أيضاً، فيجعل من ذلك خصومة حقيقية وخلافاً حقيقياً.(87/8)
فقدان التوازن بين واجب النفس وواجب الأمة
هناك أيضاً نوع من العزلة، يأتي ضمن النفس الإنسانية الواحدة, وهو: فقدان التوازن بين واجب النفس وواجب الأمة، ونعني بذلك أن الشاب يعيش في انفصام أو في معركة أو في تجاذب وتنافر بين واجب النفس وبين واجب الأمة، مع أننا نحمد الله على أن الشباب المسلم بدأ يتنبه، ويعي ضرورة أن يكون عمله وفكره وتطلعاته على مستوى الأمة جميعاً، لا لنفسه فقط, وهذا ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والرسل الكرام والصحابة, فقد كانوا دعاة خير للإنسانية جمعاء, وكانوا يفكرون في أمر العامة كما يفكرون ويجتهدون في أمر الخاصة، وكانوا يعرفون زمانهم، وتعلمون كيف كان واقعهم كان فيه قلة الأخبار، وقلة الاتصال، وقلة وسائل المعرفة والاطلاع، ومع ذلك فقد كانوا يحيطون بما تستدعي الحاجة أن يحيطوا به من أخبار فارس والروم والحبشة والقبط، ومعرفة القبائل، ومعرفة الناس بحسب ما تقتضيه الدعوة في مرحلتها وفي طبيعتها.
ومع ذلك كانوا يوازنون بين واجب العامة وبين واجب الخاصة.
فالإنسان يقول: يجب علي أن أعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويجب علي أن أطلب العلم بنفسي، ويجب علي أن أنقذ نفسي من النار، وأن أفعل كل عمل يقربني من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن أهتم أيضاً بحقوق النفس الواجبة كحق الزوجة أو الوالدين أو الأهل عامةً وما أشبه ذلك، فهذه حقوق يريدها الإنسان في نفسه، ويجد أنه من الواجب أن يقوم بها لنفسه.
وهناك حق الأمة وواجب الأمة فبعض الشباب ينسى نفسه وربما قصر في عبادته نتيجة انشغاله بالأمر العام، فهو يفكر في الدعوة، ويهتم بالمسلمين في كل مكان , وهذا واجب يُشكر عليه , لكنه ينسى نفسه هو، وربما ينسى واقعه القريب المحيط به في انشغاله بالواقع البعيد الذي هناك، فتكون النتيجة أن هذا الشاب يفقد التوازن، فلا ينفع ولا يفيد في أمر عام إلا على حساب أمر أو واجب خاص.(87/9)
نماذج في التوازن
الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكذلك كان صحبه الكرام الذين اهتموا بأمر هذا الدين والدعوة ونشرها في الآفاق والجهاد في سبيل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ما كانوا قط مقصرين في الواجب الفردي الشخصي.
فقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما تعلمون- يقوم الليل، وكان يؤدي النوافل، بل كان يؤدي حقوق الأهل وواجب الزوجات، وكان يستقبل الوفود، وكان يعاشر الناس جميعاً بأفضل وأحسن المعاشرة وكذلك صحبه الكرام، وهذا لم يتعارض قط مع الواجبات العامة أو مع أداء المهام العامة للأمة.
وكذلك نجد سير العلماء رضي الله تعالى عنهم , فقد كانوا في غاية العلم والعبادة والاتباع للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وفي نفس الوقت نجد أنهم كانوا يهتمون بأمر العامة، وبإنكار المنكر، وبإقامة دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والنصح للحكام والإنكار عليهم، وبالاهتمام بما يجري في الأسواق، وما يظهر من البدع في الآفاق كل ذلك نجدهم معتنين به ومهتمين به دون أن يطغى جانب على جانب.
ومع أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق النفوس وجعل لها خصائص فبعض الناس يصلح للجهاد ولا يصلح للعلم، وبعضهم يصلح للعلم ولا يصلح للجهاد، وبعضهم يصلح للدعوة ولعرضها وبسطها وجلب الناس إليها، ولا يصلح لإنكار المنكر؛ لأنه يضعف عن ذلك، وبعضهم يصلح لإنكار المنكر ومواجهة المفسدين؛ ولكنه لا يستطيع أن ينشر الدعوة وأن يبينها لأحد وهكذا ومع وجود ذلك، إلا أنه وجدت أيضاً نماذج من القدوة والأسوة الحسنة ممن استطاعوا أن يستكملوا هذه الخلال، ويستجمعوا هذه الصفات الطيبة.(87/10)
الشخصية المتكاملة وحاجة الأمة إليها
الأمة الإسلامية في هذه الحقبة أحوج ما تكون إلى تلك النماذج، التي تتكامل فيها جوانب الشخصية المسلمة، فتستطيع أن تعبد ربها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتقوم بالواجب على النفس، ثم تقوم بالواجب العام من الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثم تعرف كيف توازن بين هذه الواجبات، وكيف توفق بين العلم وبين الدعوة، وكيف تجمع بين الصبر وبين اليقين، وكيف توائم بين العصر الذي يصعب استيعابه بأحداثه وبأفكاره وبآرائه وبين تاريخها وماضيها وتراثها وبين العلم الشرعي الذي هو أشرف العلوم وقد ورَّثه لنا سلفنا الصالح من علوم العقيدة والتوحيد والفقه والحديث والتاريخ، وغيره من العلوم العصرية.
فلا بد أن يوجد في هذا الشباب الطيب المبارك من يجتهد في استكمال هذه الجوانب ما أمكن، وذلك لكي يقدم للأجيال المعاصرة نماذج حية وقدوات مباشرة ملموسة محسوسة في تكامل الإسلام؛ لأن الشباب المسلم إذا تكاملت شخصيته، فإنه يستطيع أن يظهر ويبرز في الوجود، ويثبت الوجود الإسلامي -كما كان السلف الكرام رضوان الله تعالى عليهم- في هذا العصر على تفرق المسلمين وعلى ذلتهم وقلتهم، وعلى ما يعانون فيه من العبودية للشرق أو الغرب.
أيها الإخوة الكرام: إن هذا الدين دين شامل متكامل، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] وعلينا أن ندخل في هذا الدين كله، وأن نطلب العلم من أصوله ومن أبوابه المشروعة في الحلقات العلمية، وأخذه من العلماء العاملين المتفقهين في الدين، وفي الوقت نفسه لا نألو جهداً ولا نقصر في الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بل نجعل العلم سلاحاً للدعوة، وتكون الدعوة وسيلة لنشر العلم، كما يجب علينا أن نعي واقعنا وزماننا، كما قال بعض السلف الصالح: {{رحم الله امرأً عرف زمانه واستقامت طريقته}}.
ومن معرفة الزمان أن تعرف هذا العالم جملة، وما يموج فيه من أفكار، وما يضطرب فيه من الفتن والضلالات, وتعلم بأن الحل في يدك، وأنك تستطيع أن تقدم لهذه الإنسانية التائهة الحائرة الحل الذي لا يملكه غيرك أبداً، وهو الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
كما يجب علينا -أيها الإخوة الكرام- أن نوفق وأن نوازن بين الواجب على النفس وبين الواجب للناس جميعاً، فإنه يجب علينا أن نعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأن نحافظ على الواجبات، ونتقرب بما استطعنا -أيضاً- من النوافل بحسب الإمكان، وأن نعبد الله ونذكره ونشكره؛ حتى تكون حياتنا زكية، وتكون أعمالنا زكية خالصة.
ثم ندعو الناس -أيضاً- ونصبر على أذاهم ونأمرهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر، ولا نغلب جانباً على جانب.
أما إذا اعتزل الشاب الناس بالكلية, أو اعتزل جانباً من جوانب الحق والخير بالكلية أو شبه الكلية، فإنك ستجد الشخصية غير المتزنة، وستجد أن هذا الإنسان إن وعى عصره وواقعه وجهل العلم والفقه الشرعي بأدلته، فإنه قد يتخبط في الفتوى ويقول على الله تبارك وتعالى بغير علم، وإن وعى جانب العلم الشرعي وتفقه فيه ولم يعش عصره وواقعه، فإنه لجهله بعصره هذا قد يضع تلك الأدلة في غير موضعها، فيستدل على أمور من غير انطباق أدلتها عليها -أي ما يسمى تحقيق المناط في أصول الفقه- فالعلم الذي لديه لم ينتفع به؛ لأنه لم يضعه في مناطه الصحيح.
وأنتم -والحمد لله- قد هيأ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لكم في هذه الجامعة وفي هذا البلد الطيب من وسائل تحقيق التوازن والتكامل الشيء الكثير، فاشكروا نعمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليكم، واحمدوه على ذلك، واجتهدوا في إيجاد الشخصية المسلمة المتكاملة.
وأسأل الله تبارك وتعالى لي ولكم القبول، وأن ينفعنا بما نسمع وبما نقول، إنه سميع مجيب.(87/11)
الأسئلة(87/12)
حل مشكلة العزلة الجزئية
السؤال
إني أحبك في الله! ذكرت العزلة الجزئية، فما هو الحل؟
الجواب
أنا أشرت إلى الحل وذكرته، وإيضاحاً لذلك كله، أقول: إنه يجب علينا في أنفسنا أن نسعى إلى التوازن والتكامل، ويجب على المربين والموجهين أيضاً أن يبرزوا ذلك للشباب، وأن تكون من الجانبين؛ لأن المربي والموجه إن لم يجد من يتقبل هذا التوجيه منه، لم يكن لتوجيهه معنى ولا أثر، وكذلك الشاب إن لم يجد من يوجهه ويربيه على ذلك، ويزكيه بهذه التزكية الإيمانية المتكاملة، فإنه -أيضاً- لا يفيد، فلا بد من وجودها في منهاجنا التعليمية، ووسائلنا التربوية وفي علاقتنا الفردية، وأيضاً في علاقتنا الأخوية، كل ذلك يؤدي -إن شاء الله- إلى ترك هذه العزلة الجزئية.(87/13)
الدعوة في مرحلة الدراسة
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: هناك العديد من الشباب أثناء فترة دراستهم في الجامعة لا يكون لهم أي نشاط تجاه إخوانهم في السكن الجامعي بحجة أن هذه الفترة فترة تحصيل، والدعوة تكون بعد التخرج؛ فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
هذا خطأ، وهذا -كما أشرت- إخلال بأمر الدعوة، وإن كانت حجة الأخ هي التحصيل، فنقول: إن الإنسان إذا أراد أن يدعو إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإنه يعد للأمر عدته، ونعوذ بالله أن نكون من المنافقين الذين قال الله فيهم: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:46]، فالمنافقون يزعمون؛ لكن واقع حال الإنسان يبين: هل هو يعد العدة أم لا؟ إن الشاب الذي يدعو إلى الله ويريد أن يكون داعية إلى الله تجده من الآن يدعو إلى الله، ولا يعني ذلك أنه يتقحم في المسائل أو أنه يبدد الوقت ولا يفيد في الجانب العلمي والتحصيلي، لا نقول ذلك، لكن يا أخي ادع إلى الله بما تستطيع وأنت في السكن -كما أشار الأخ- واحرص على أن يؤدي الصلاة كل من كان معك في السكن، وأن تصحح له عقائده وتتعلم معه ما ينفعك الله به في جانب العقيدة، وهي أهم جانب في الحياة، وأن ترشده إلى بعض الأحكام، وأن تأخذه معك إلى مجلس علم أو حلقة ذكر أو إلى أي شيء من الخير، فهذا من الواجب عليك، ولن يكون هذا متعارضاً مع تحصيلك العلمي أو توسعك في أي فن من الفنون.
فعلى الإنسان أن لا يضيع هذه الفرصة الثمينة، وهي فرصة التجربة، فلا أراه قد ينتج فيما بعد، فإذا خرج الإنسان للمجتمع وأصبح مدرساً في مدرسة أو أصبح زميلاً في إدارة، فإنه يكون فاقد التجربة في مجال الدعوة، بخلاف ما إذا عايش التجربة في السكن مع زملائه، فإنه يستفيد ممن هو خير منه وأقدم منه، وفي نفس الوقت يفيد من دونه من الناس بعد التخرج، فهو بين حالتين: إن وجد من هو فوقه فإنه يستفيد منه ويتعلم كيفية الاستفادة، وأما إن وجد من هو دونه فإنه يفيده ويتعلم كيفية الإفادة، لكن إذا بقي منعزلاً في السكن ثم تخرج، فكيف يكون حاله بعد التخرج؟ وبعض الإخوة -مثلاً- قد يكون حفظ بعض الأدلة فقط، فإذا تخرج إلى إدارة أو مدرسة معينة، فيرى فيها شيئاً محرماً، فيقول: هذا حرام، والدليل كذا فقط، ولا يستطيع أن يفهم الطلبة كيف يستوعبون هذا الكلام، فينفرون منه مثلاً، فتكون النتيجة أنه لم يستطع أن يقوم بالدعوة، لا لقلة العلم، ولا لعدم الإخلاص، ولكن لقلة التجربة في مجال الدعوة، ولو أنه كان مع إخوانه في السكن يمارس الدعوة، فإن أخطأ فخطؤه مغفور مع إخوانه، لكان ذلك أفضل له.(87/14)
التوازن في التخصصات الإسلامية
السؤال
ذكرت يا شيخنا أن هناك شباباً يصلحون للدعوة ولا يصلحون للجهاد، وآخرون يصلحون للجهاد ولا يصلحون لطلب العلم، فكيف يمكن للإنسان أن يوازن بين تلك الأمور كلها ليكون شخصاً مسلماً متكاملاً؟
الجواب
قلنا: إن الأصل هو التكامل، وهو الذي نسعى إلى تحقيقه؛ ولكن:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق النفوس وأعطاها إمكانيات، فـ خالد بن الوليد رضي الله عنه أُعطي السيف، فهو سيف الله، فكان مجاهداً بينما أعطي معاذ رضي الله عنه العلم، وأعطي أبي بن كعب رضي الله عنه القراءة، وأعطي عمر رضي الله عنه القوة في الحق، وهكذا كل واحد من الصحابة، وهم النموذج الأسمى لنا، وكل منهم يسر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له شيئاً، وكل ميسر لما خلق له، وأعطي له ذلك حتى تتكامل هذه الجهود.
ونحن نحاول أن تتكامل هذه الصفات في الإنسان، فإن لم تتكامل فيه، تكاملت في الأمة ما استطعنا، ولو أن هذه الجهود تكاملت وتعاونت، واجتمعت على الحق وعلى الكتاب والسنة والدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لوجدنا أن كل طاقة تفيد، وأن كل خبرة تنفع، وأن كل اختصاص يوضع في محله، ولكن جاء التنافر، وجاء الاختلاف من أنفسنا نحن، وليس ناتجاً من جهة ما جعله الله من خصائص وما أودعه من طاقات، لا! فهذه فطرة وسنة جعلها الله تعالى كذلك، وليست هي السبب في الحقيقة، بل السبب يعود إلينا نحن في أن الإنسان يأخذ جانباً من الحق ويغفل عن الجانب الآخر، مثلهم كمثل العميان مع الفيل، وكثير من الشباب المسلم اليوم ينطبق عليهم هذا المثل.
وذلك أن واحداً أمسك بأذن الفيل، فقال: هذا جلد، والثاني أمسك برجله، فقال: هذا جذع شجرة، والثالث أمسك الخرطوم، فقال: هذا أنبوبة، وكل واحد وصف الفيل بحسب ما لاحظه؛ لكن لو رأوا الفيل كله، لكان وصفهم له واضحاً.
فهذا المثال الساذج يكاد ينطبق على واقع الشباب، فالذي ينشغل بالجهاد -مثلاً- ينكر على المشتغل بالعلم، والمنشغل بالعلم ينكر على المشتغل بالدعوة وهكذا، مع أن كلنا على حظ وخير، وإن اجتمعت هذه الصفات في شخص لكان خيراً عظيماً.
فالصحابة رضي الله عنهم جمعت فيهم على الأقل هذه الصفات الثلاث، وهكذا كان الإمام أحمد رضي الله عنه، وكذا شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، وهكذا العلماء الذي أقاموا هذا الدين وأسسوه، وهذه الخلال والصفات ليست متضادة ومتناقضة، لكننا نحن بأخطائنا في الدعوة نناقض بينها.(87/15)
التوازن بين معرفة الواقع البعيد والقريب
السؤال
شيخنا الفاضل! ما المقصود بمعرفة الواقع البعيد وعدم معرفة الواقع القريب، مع المثال لذلك؟
الجواب
المقصود بذلك أن الأمة الإسلامية الآن تعيش قضايا يمكن أن تسمى بالقضايا الساخنة، يعني القضايا التي تهمنا يومياً -تقريباً- نسمعها ونتابع أحداثها، كقضية الجهاد الأفغاني، قضية إخواننا المسلمين في أفغانستان، وقضية إخواننا المسلمين في ظل الحكومات الشيوعية، مثلما في أوروبا الشرقية، وقضية المجاهدين المسلمين في الفلبين، وفي إرتيريا، وفي أماكن كثيرة، فهذه قضايا مهمة.
وجميل وحسن أن نفقه وأن نعي ما يخططه أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في تلك البلاد، وأن نكون مع إخواننا بما نستطيع؛ لكن لا يحسن بنا أبداً أن ننسى ما يخططه لنا الأعداء هنا في بلدنا أو مدننا؛ بل في جامعتنا أحياناً، فإذا كانت الدعوة هنا لها أعداء، وهناك لها أعداء، فإنه يجب أن نفكر في الأمرين بتوازن.
ولنضرب على ذلك مثلاً: الجزائر تعاني التغريب، وتعاني الإنكار والتمرد والجحود على أحكام الله، وتعاني معاناة شديدة من كل الاتجاهات؛ فالمسلم الجزائري الذي يشتغل ويفكر ويجعل كل همه مع المسلمين في الفلبين جزاه الله خيراً لا أحد يستطيع أن ينكر عليه ذلك؛ لكن يجب عليه ألا يغفل عن الجزائر وما يحاك وما يدبر ضدها؛ لأن الأخ الذي في الفلبين وفي أفغانستان لا نطلب منه أن يدع الجهاد هناك وينشغل بأمر الجزائر؛ بل نقول: جاهد هنا، وأيضاً ادع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إن لم يكن إلا الدعاء، وأما أنت هنا فيجب عليك أن تعرف الواقع الذي تعيش فيه، ولهذا لو أننا نحدث أهل الجزائر عن المشاكل الإسلامية البعيدة، ونترك لهم واقعهم هذا القريب، لما وجدنا عندهم أي تجاوب، وأقل شيء يشعرون به أننا لا نقدم لهم شيئاً جديداً بطبيعة الحال.
وأيضاً يأتي أعداء الدعوة ويقولون: هؤلاء لا يعيشون قضايا المجتمع ولا يعيشون قضايا الأمة، وهذه هي الورقة التي يلوح بها أعداء الإسلام من العلمانيين والمجرمين في كل مكان، يقولون: أنتم تنسون قضايانا وأحداثنا، وتنسون مجتمعنا، وتنسون التضخم، وتنسون التنمية، ولذلك يجب أن نقطع الطريق على هؤلاء ونوازن بين هذا الواجب في المجتمع القريب وبين ما للمجتمع البعيد والكل جسد واحد لا ريب في ذلك؛ لأن الأمة الإسلامية جسد واحد، فيبدأ الإنسان بنفسه وبمن يعول، ولا بد من هذا التوازن.(87/16)
تنظيم الوقت للشباب المسلم
السؤال
فضيلة الشيخ! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إن أكثر ما نعاني منه في حياتنا: عدم القدرة على تنظيم الوقت والمحافظة عليه، فنرجو منكم توجيهنا في هذا الموضوع؟
الجواب
نعم! مشكلة الوقت هي المشكلة الحقيقية التي يعاني منها كثير من الشباب؛ لأن الواجبات تتعدد، والهموم تتوزع، والوقت محدود، ولذلك ينبغي أن نأخذ العبرة والعظة من النظر إلى أوقات العبادات مما فرض الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علينا؛ فهذه الصلوات الخمس هي من العبادات التي تقربنا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ومن الذكر له، ولكن مما فيها من فوائد ثانوية أنها تعرفك قيمة العمر وقيمة الوقت، يجلس الشخص فترة بعد صلاة العصر، وإذا بالمغرب يؤذن، فيصلي المغرب ثم ما هي إلا لحظات وإذا بالعشاء يؤذن وهكذا، فتحس بأن الوقت قد مضى، وأن هذا وقت له واجب محدد، وأن الوقت الآخر له واجب آخر، فلا تحيل واجب وقتٍ إلى غيره، هذا مما يستشعره المسلم، ولهذا كان المسلمون أكثر الناس محافظة على أوقاتهم.
والوقت ليس فيه توقف، كما قال ابن القيم رحمه الله: عند قول الله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37]، قال رحمه الله: 'ليس في الشريعة ولا في الطبيعة توقف البتة' فليس هناك توقف، إما أن تتقدم وإما أن تتأخر، فمجرد التوقف هو تأخر، لو قلت: أنا أكتفي في هذا اليوم بما عندي من العلم، فمعنى ذلك أنك تأخرت؛ لأن الوقت يمضي، وهذه الأيام مراحل تطوي الإنسان، وما من يوم يمر إلا ويزيدك من الدنيا بُعْداً ومن الآخرة قُرْباً، وكما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع -ومنها- عن عمره: فيمَ أفناه؟ وعن شبابه: فيمَ أبلاه؟}، وضرورة المحافظة على الوقت مهمة، ومن ذلك أن تحفظ وقتك فتشغله في الأهم عن المهم.
أقول هذا، لأن الشباب -إن شاء الله- لن يشغلوا أوقاتهم في غير مهم، لكن قد يشغلونه في مهم ويتركون الأهم منه، ولهذا قال بعض السلف في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه}، قال: هذه فيها نصف العلم، أي: لو عرفت ما لا يعنيك وتركته فإن فيه نصف العلم والوقت، وقال بعضهم: من علامة إعراض الله عز وجل عن العبد: أن يشغله بما لا يعنيه.
وما لا يعنيك قد يكون لا يعنيك مطلقاً، وقد يكون لا يعنيك في هذه الساعة، وقد يكون لا يعنيك وغيره حاضر، لأن غيره أهم منه، فهو لا يعنيك الآن، فلو عرفنا ذلك لضبطنا أوقاتنا -إن شاء الله- فلهذا نبدأ بالأساسيات من العلم، ونبدأ بالضروريات من الدعوة، ثم نترك ما بعد ذلك لما يفضل.(87/17)
التمسك بمنهج أهل السنة
السؤال
شيخنا الحبيب! ما هي الوسائل التي تعيننا على التمسك بمنهج أهل السنة والجماعة وذلك في الواقع الذي نعيش، بالتفصيل والتصريح؟
الجواب
مما يعيننا على ذلك -وهذا يجب أن يكون حالنا دائماً كما أشرنا- العلم بهذا المنهج، فلا يصح أن يكون الإنسان جاهلاً بمنهج أهل السنة والجماعة مهما كان محباً له حباً صادقاً خالصاً وعلى معرفة إجمالية لا يكفي ذلك، بل لا بد من المعرفة التفصيلية له، وأشرف العلوم هو ما يتعلق بمعرفة الله وتوحيده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وبعد ذلك معرفة السنة من البدعة، ثم معرفة الحلال من الحرام، فيجب علينا أن نعرف هذه الأحكام معرفة تفصيلية بأدلتها الشرعية، ومن مصادرها الأصلية، ونحرص على أن نتلقاها من حلقات العلم، لأن اجتهاداتنا الفردية والشخصية ليست دائماً مثمرة أو ناجحة، والعلم يؤتى من أبوابه، وأبواب العلم الحقيقية هي مجالس العلماء، وإن لم يمكن مجالسة العلماء فبوسائل أخرى، والحمد لله نحن في زمن تيسرت وتوفرت فيه الوسائل.
والأمر الآخر: أن نضبط دعوتنا أيضاً على منهج أهل السنة والجماعة؛ لأن منهج أهل السنة والجماعة ليس مجرد عقائد تحفظ، أو تصورات تقال، وإنما هو حقائق يعمل بها، فيجب على الإنسان أن يعرف الحق ويؤمن به ويدعو إليه، ثم يصبر على الأذى في سبيل الدعوة إليه.
ونحن في هذا الزمن من أوجب ما يجب أن نعرفه في هذه المسألة: معرفة الطرف المخالف المناقض؛ لأن الحق يتضح به، وبضدها تتميز الأشياء، إذا أردت أن تعرف حقيقة منهج أهل السنة والجماعة، وأنت شاب وطالب علم وداعية فيجب أن تعلم الفرق بينه وبين الفرق الأخرى، تعرف حقيقة عقائد الرافضة وبطلانها، وعقائد أهل الكلام عامة وبطلانها، وأسسهم التي ضلوا بها؛ لتجتنبها ولتدافع عن الدين وعن منهج أهل السنة والجماعة من خلالها، ولتستطيع أن تقيم الحجة عليهم؛ فهذا عدو حاضر قائم، وهذا هو السرطان الذي يفتك بجسم الأمة الإسلامية، ويمنعها من مقاومة عدوها الخارجي، بل إن الأداة التي يستطيع العدو الخارجي أن يدخل منها إلى الأمة الإسلامية هي هذه الطوائف والفرق والنحل والضلالات والبدع.
إذاً: لا بد من الإحاطة بها ومعرفتها، وهي جزء من الواقع الذي يجب أن يعرف ويطلع عليه بتوازن، مع إعطاء الفرصة للتخصص، فكل من تخصص في فن منها أو بفرقة منها، فإنه يشجع ويشكر على ذلك، حتى نستطيع -إن شاء الله- أن نكون المنهج الملائم، والموضوع طويل ولكن الإشارة تكفي.(87/18)
كيفية تكوين ثقافة المسلم الإسلامية
السؤال
شيخنا الفاضل! كيف يكّون الإنسان الشباب المسلم ثقافته الإسلامية؟ هل يكتفي فقط بالمطالعة أم يكثر من الجلوس في حلقات المشايخ؟
الجواب
ليس هناك تعارض، فالإنسان يحضر حلقات العلم، لأن أساس العلم -كما قلت- هو حضور حلقات العلم والسماع إلى العلماء، ثم أيضاً يقرأ ويفيد ويطلع، ولا سيما أننا في زمن قَلَّتْ فيه حلقات العلم والله المستعان، فيجمع بين الحسنيين، ولا إشكال في ذلك، لكن يجب عليه أن يعرف من يجالس، وأيضاً يعرف ماذا يقرأ، وإذا جمع بين ذلك فأرجو أن يوفق إن شاء الله.(87/19)
كيفية تعلم أسلوب الدعوة
السؤال
إذا كان الشخص عنده من العلم المحصلة الطيبة، ولكن إذا قيل له: لماذا لا تدعو؟ قال ليس عندي أسلوب؛ فما السبيل إلى توجيهه؟
الجواب
هذا الشخص يجب عليه أن يتعلم الأسلوب الأمثل في الدعوة، فلن يتنزل عليه هذا من السماء، وبعض الإخوان يقول: أنا لا أستطيع أن أواجه الناس بالدعوة، فنقول له: إذا لم تستطع ذلك فعليك بطريقة أخرى كالتأليف والكتابة أو ما يكون به نفع للمسلمين، فإذا كان عندك علم، وعندك مصادر، فاكتب، وهذا عمل عظيم، فلو أن الكاتب يكتب، والخطيب يخطب، والمحدث يتحدث، والعالم يُعلِّم، ولنا كلنا هدف واحد، وهو: اتباع منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة، لتكاملت الجهود.
فليس من الشرط أن يخطب ويكتب، فبعض الناس يخطب، ولو قلت له: اكتب، لما قدر على ذلك، وبالعكس: بعض الناس إذا قرأت له تدهش وتسر، ولكنك لو سمعت له خطبة لما أعجبتك وهكذا، والذي ليس عنده أسلوب في معاملة الناس، يمكن أن يكون عنده الأسلوب في الكتابة، وأيضاً كلٌ منا يكمل صاحبه، فأنت أصِّل المسألة واكتبها، وأنا أبلغها بطريقتي الخاصة، إذا كنت أنا أجيد عرض الكلام، ولا أجيد أن أتعلم أو العكس، فنحن جميعاً نتكامل في دعوة واحدة.(87/20)
العيش في واقع الأمة
السؤال
شيخنا الفاضل! هناك بعض الشباب الملتزم الذي يقول: إنه من ضياع الوقت ومن فضول المطالعة: قراءة أخبار ما يجري في العالم الإسلامي وغيره، وإن من فضول القراءة: قراءة الكتب التي تتحدث عن التيارات المعاصرة فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
نحن أشرنا إلى هذا، وكررنا وقلنا: إن من الخطأ أن يعيش الإنسان بعيداً عن واقع أمته، وبعيداً عن الأفكار التي تعصف بأمته.
المسألة الآن -أيها الإخوة- لم تعد مجرد أن تعرف شيئاً لكي تستطيع أن تحاربه أو لكي تتعرف على ما لا تعرف الآن، فهذا الغزو، وهذه التيارات تصب علينا صباً، وتدخل كل بيت عن طريق التلفزيون، وعن طريق الإذاعة، وعن طريق الصحف، فهي تدخل كل بيت، فليس لأحد خيار فيها: إما أن يستسلم لها أو يقاومها، ولا خيار ثالث لها أبداً، والذين يظنون بابتعادهم عنها أنهم قد تركوها وأهملوها هم في الحقيقة قد استسلموا لها وسلموا لها أنفسهم وأبناءهم وأزواجهم ومجتمعاتهم وهم لا يشعرون، فليس هناك خيار في هذا الشأن.(87/21)
حكم تعلم العلوم العلمية
السؤال
شيخنا الفاضل! ما هو رأيكم في العلوم غير الشرعية: كعلم الكيمياء، وعلم الرياضيات؛ علماً بأن بعض العلماء وبعض المشائخ ينفرون من هذه العلوم؟
الجواب
العلم نوعان: كما يقسم الآن تقريباً ما يسمى في العرف الحاضر: العلوم العلمية: وتشمل الكيمياء والفيزياء وما أشبهها من العلوم.
والثاني: العلوم الأدبية: وهي علم النفس، وعلم الاجتماع، والعلوم الإنسانية -كما تسمى- والآداب الإنسانية، والإدارة الخ.
أما بالنسبة للعلوم العلمية بالمفهوم المعاصر كالفيزياء والكيمياء وما أشبهها، فهذه نقدر أن نسميها علوم التوحيد أو علوم العقيدة المساعدة، فهي ليست علوم التوحيد الأساسية، فالتوحيد الأساسي معروف، لكن هذه علوم التوحيد المساعدة، فالإنسان الذي يتعلمها ويستطيع أن يضمها إلى ما عرفه من الحق، من علم التوحيد الأساسي، يجد أنها تقوي إيمانه وتعمل على زيادته.
إذا كنتُ أنا الذي ما أعرف شيئاً، إذا نظرت إلىملكوت السموات والأرض بعيني المجردة في الليل، فإنه يزداد إيماني، فكيف بالفلكي الذي ينظر بالمنظار، ويرى المجرات ويرى المسارات والمدارات والأقمار، ويرى أشياء أخرى؟! لا شك أنه سيزداد إيماناً أكثر منا.
إذا كنت أرى من خصائص ما أودعه الله في هذا الوجود عجائب، أراها بعيني فأذهل لها، فلا شك أن الأخ الذي في الكيمياء أو في الأحياء يضعها تحت المجهر ويرى من العجائب بالتفصيل ما لا أرى، فإنه أكثر إيماناً مني، وهكذا كل إنسان بحسب ما يعلم، وكل إنسان مأمور أن ينظر إلى الكون، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل النظر متاحاً لكل إنسان، حتى أن العامي إذا نظر إلى الإبل استجابة لقوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17] بمجرد أن ينظر إليها يعجب من خلقها، وهي عجيبة بلا شك، وصاحب الأحياء وصاحب التشريع ينظر إلى تفاصيل هذا الجمل، فيجد العجب أكثر وهكذا، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من نعمته وفضله أنه أتاح للإنسان المعرفة، لكن التفصيل -لا شك- أنه أفضل من الإجمال.
إذا جردت العلوم عن النظريات والتأثيرات الإلحادية فيها، فهي علوم خير وحق وهدى.
والهندسة -مثلاً- أو الرياضيات أو العلوم البحتة -كما تسمى- هذه أيضاً تحتاج لها الأمة الإسلامية، وقد تكون من فروض الكفاية، ونص على ذلك العلماء منهم شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله.
فهي من فروض الكفاية؛ لأنه لا يمكن أن نقيم مشاريعنا ومساكننا وحياتنا إلا على أمور هندسية ورياضية، فلا بد منها، ولا يمكن لأحد أن يشكك فيها.
أما العلوم الأدبية والآداب عموماً -كما تسمى- فهي التي يجب أن تمحص فقرةً فقرةً، وكلمةً كلمةً، فمنها ما يرد جملة، ومنها ما يرد بعضه ويؤخذ بعضه، والمهم أن نأخذها من مأخذ الاستعلاء كما قال تعالى: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] ومعيار الحق معنا، نزن به هذه العلوم، ولا يصلح منها إلا ما يثبت صلاحيته، أما العلوم الأخرى تلك، ففي الحقيقة أنها تقبل ويرد منها ما يرى أنه ينافي الأصل.(87/22)
معنى قول عمر من لم يعرف الجاهلية لا يعرف الإسلام
السؤال
شيخنا الكريم! نرجو توضيح قول عمر رضي الله عنه: [[من لم يعرف الجاهلية لا يعرف الإسلام]]، وهل هذا شرط في الدعوة؟
الجواب
هذه كلمة عظيمة وحكمة جليلة، ولها دلالات كثيرة: منها: أن الإنسان الذي عرف الجاهلية ثم هداه الله بالتوحيد فضلاً من الله ونعمة، حتى تصححت عقيدته ونظراته وموازينه، فاستقام منهجه، فهو لذلك يعرفه حق المعرفة، لأنه عرف الجاهلية وعرف حقارتها، ورذالتها، وانحطاط موازينها وقيمها، وانعكاس تصوراتها فلا شك أن من عرف ذلك فإنه يعرف الإسلام أكثر، ولذلك تجدون الشاب الذي كان منحرفاً عاصياً أو كان كافراً ثم أسلم معتزاً بالإسلام وبالطاعة، ويجد من المحبة له في الغالب أكثر من ذلك الذي أخذه بالوراثة ولم يعرف قيمته؛ لأن ذاك ذاق مرارة الشرك وعرف الظلم وعرف الظلمة التي تحيط بالقلب في حال الشرك والبدعة، تجد الإنسان -أيضاً- الذي عاش في البدعة ثم عرف السنة، تجده من أشد الناس تمسكاً بالسنة، فهذا نعيم بن حماد رضي الله عنه -شيخ البخاري - كانوا يقولون له: إنك شديد على الجهمية، قال: لأني كنت منهم! كان منهم، فلما عرف الحق وعرف السنة، تمسك بالسنة أشدّ التمسك، فالإنسان بلا شك تزداد عنده قيمة الحق متى عرف الباطل، والشباب المسلم هنا إذا سمع عن أمريكا، وعن التكنولوجيا، والكمبيوتر، وغزو الفضاء، وحرب النجوم، وأشياء مذهلة، فإنه يذهل، فإذا ذهب إلى هناك، ورأى المآسي، ورأى الظلم والانحلال والفساد، فإنه يعتز بواقعنا الحاضر على مافيه من بعد عن الإسلام، ويؤمن بأن واقعنا هذا أفضل من أمريكا مليون مرة، فهذه في الحقيقة من الحكم الصادقة التي يدل عليها الواقع.(87/23)
الاختلاف بين الدعاة
السؤال
شيخنا الفاضل! هناك بعض الدعاة يحذرون من بعضهم، لأنهم خالفوهم في شيء معين، ويقولون فيهم ما ليس فيهم، فما رأيكم في هذا؟
الجواب
هذه الأمة كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنها: {فتنتها المال وعذابها الفرقة} {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بعض} [الأنعام:65] فأما الأولى والثانية فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أعوذ بوجهك! أعوذ بوجهك! -وأما الثالثة فقال-: هذه أيسر -أو أهون-} فالفرقة واقعة في هذه الأمة منذ أن وضع فيها السيف، وذلك عندما قتل عثمان رضي الله عنه، وهذا من الواقع الذي لا نريده، ولا يرضاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يريده لنا إرادة شرعية، لكنه واقع على أية حال، فإذا وضع السيف في الأمة فإنه لا يرفع إلى يوم القيامة، فما دام واقعاً ونحن لا نريده ولا نرضاه، فيكون واجبنا على نوعين: أولاً: أن نعرف -في زحمة هذا الاختلاف- الحق وأن نتبعه، فإن الحق واحد لا يتعدد، والجماعة هي الحق وإن كنت وحدك، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [[فإن كان سائر الناس أو معظم الناس قد خالفوا الجماعة، فالجماعة ما وافق الحق]] هذا أمر.
الأمر الآخر: أن تكون علاقتي بالآخر -المخالف- مضبوطةً بما شرع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فقد أرى مخالفاً لي وهو في الحقيقة غير مخالف، وإنما هذا من اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، وهناك فرق بين اختلاف التنوع واختلاف التضاد.
ونحن قلنا: إن اختلاف التنوع كمثل من اشتغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذاك اشتغل بالعلم -مثلاً-، توسع هذا في هذا، وتوسع هذا في هذا، فهذا تنوع وليس تضاد، فيجب أن نعرف أن هذا ليس خلافاً، ومن ثم فلا يترتب عليه أيُّ نوع من أنواع العداوة، فعرضه حرام علي، ولا يجوز أن أطعن فيه، وإن رأيت منه أخطاء، فهذا أصلاً يجب التناصح معه في ذلك، وهذا وارد في حق أيّ مسلم، فكيف للداعية؟! فيجب علي أن أنصح له، وأن أبين له الحق، وأن أرشده.
ومن الناس من إذا عرفته وعرفت حقيقة خلافه، وجدت أنه خلاف ناشىء عن جهله ببعض الحق الذي عندي، فهذا واجب أن أبين له ما عندي من الحق، ويجب عليه أن يتسع صدره ليسمع ما عندي، ومن الناس من خلافه خلاف عناد وابتداع -نسأل الله السلامة والعافية- فهذا إذا ثبت أنه يعاند عن علم ويكابر عن الحق، فننظر بحسب المصلحة، قد تكون هناك مصلحة في أن نغض الطرف عنه، وألا نكلمه أصلاً، ولا نتحدث معه بالمرة، وقد تكون المصلحة في أن أهجره، أو أزجره، أو أعاديه، بحسب الحالة، حتى من كان رافضياً، أو خارجياً، أو معتزلياً، أو مؤولاً، أومعطلاً، فحتى هؤلاء كان للسلف الصالح فقه للتعامل معهم، فليسوا على حالة واحدة، وعلى وتيرة واحدة، مع أن الأصل أن يهجروا، ويعزروا، ويؤدبوا إلى آخره، وإن ذلك يختلف بحسب الحال والظروف، وبحسب ما يحيط بالدعوة عموماً، فلا بد أن تكون الأمور منضبطة، وأنا بهذه المناسبة أقول: إن الأمة التي كتابها واحد، ورسولها واحد، وقبلتها واحدة، ومنهجها واحد، وهو منهج أهل السنة والجماعة، فكيف تختلف؟! وكيف تنشأ الاختلافات بينها؟! فيجب أن نتجرد عن الهوى، وإذا تجردنا عن الهوى، وعن حب النفس، وعن الحسد، وعن الغل الذي قد يلقيه الشيطان بين الشباب لبعضهم، فإننا سنجد أنفسنا إخوةً متحابين، كما قال الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
إذا نظرت إلى أخيك نظرة المحبة -مهما كان فيه من أخطاء- فإنك تتسامح معه فيها، وإذا نظرت إليه نظرة العداوة فإنك لا تقبل محاسنه، بل تصبح محاسنه مساوئ، فيجب علينا أن نصحح هذه النظرة، فالأصل هو الاجتماع لا الافتراق، والأصل هو التعاون لا التنافر والاختلاف، والأصل هو المحبة لا البغضاء.
ولقد ضرب الله مثلاً عظيماً في سورة يس: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27].
سبحان الله! آذوه ولم يؤمنوا بما قال بعد أن كذبوا بالأنبياء قبله، ومع ذلك لما دخل الجنة، قال: ياليت قومي يعلمون، أي: لو علموا ما أنا فيه من النعيم لآمنوا مثلي، فهو يحب الخير لهم، مع أنهم مخالفون له؛ فكيف بإخوانك المسلمين؟! وأنا أقول هنا: إن المهمة تقع على عاتق المربين والموجهين للشباب، فيجب عليهم أن يوجهوا الشباب جميعاً إلى المحبة والائتلاف، وخاصة -كما ذكرت- ما يتعلق باختلاف التنوع الذي لا بد أن يقع؛ لأنه سنة هذه الحياة فيجب أن تتسع له أذهاننا وآفاقنا، وأوسع وأشمل منهج هو منهج أهل السنة والجماعة؛ لأنه هو منهج الإسلام، وهو حقيقة الإسلام الفطري الشامل الذي يتسع لكل النفوس، ولكل الإمكانيات، ولكل التطلعات، فيشبعها جميعاً بلا تنافر وبلا تناقض أو تضاد فيما بينها.(87/24)
التعامل مع العصاة
السؤال
شيخنا الفاضل، قابلت اليوم شاباً، يقول: إنه قد تاب، ويعاتبني بعد مقابلتي كثيراً لعدم نصحي، ومن أخباره السابقة أنه كان يرتكب الفواحش ويتعاطى المخدرات؛ فما رأيكم بمجالسة هؤلاء؟
الجواب
هذا الموقف يعطينا عبرة عن تقصيرنا في الدعوة إلى الله، فهذا اهتدى وأتى يعاتب أخاه، ويقول: أين كنت؟ وأنا قد كنت أفعل وأفعل، والآن اهتديت، والحمد لله، كثير -والله- أمثال هذا الشاب في المجتمع، وبعضهم -والله- ليس بينه وبين الخير إلا خطوة، ولا حركة ولا خير يُبذلان له، فكيف نتغافل عنهم؟! كيف ننسى هؤلاء؟! وهم أمانة في أعناقنا، صحيح أن الوقت يضيق ومجالات الدعوة واسعة، ولكن يجب أن نتقي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بحسب الاستطاعة في هؤلاء، بالذات من كان له زميل في السكن أو في الدراسة، أو له جار في الحي، أو كل من كان بالإمكان أن يهدي له الحق أو الخير دون أن يكلفه ذلك شيئاً فنسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهذا الأخ الثبات، إنه سميع مجيب كما نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا جميعاً أن يبصرنا بالحق، وأن يفقهنا في الدين، وأن يجعلنا هداة مهتدين، والحمد لله رب العالمين.(87/25)
المناهج
تحدث الشيخ حفظه الله في هذا الدرس عن عدة مواضيع بيَّن فيها حكم أعمال الباطن، والفرق بين كفر العمل وكفر الاعتقاد، والفرق بين الإسلام والإيمان، ثم انتقل إلى الحديث عن الخطة اليهودية النصرانية الهادفة إلى تغيير المناهج في أنظمتنا التعليمية بغرض حذف العلوم الإسلامية والمواد الدينية، ثم تحدث عن البيان الذي أصدره الاتحاد الإسلامي الصومالي عن خبر التدخل العسكري الأمريكي في الصومال.(88/1)
أعمال القلوب
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
السؤال
يقول أحد الإخوة: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للصحابي الذي قتل الرجل بعد قوله الشهادة: {أشققت عن قلبه} الحديث, هل هذا إقرار بالإسلام بدليل الكلمة؟ أم أنه كان يجب على الصحابي التيقن؟
الجواب
قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أشققت عن قلبه} وأمثاله كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} [النساء:94] يدل على وجوب التثبت أو التبين، وقد قرأ بالوجهين فتبينوا أو فتثبتوا، لأن إجراء الحكم هو على الظاهر لا على الباطن, فكون الإنسان يقتل رجلاً كما وقع في حديث أسامة , فكأنه علم أنه لم يقل الشهادة إلاّ لينجو بها وليتعوذ بها من السيف, وهذا حكم بالباطن، ولا يجوز الحكم على الباطن لأنه من علم الغيب, وفي الظاهر أن من قال الكلمة أُلزم بالشرائع الظاهرة, ونَكِلُ أمره إلى الله، وهذا في الحكم الظاهر, كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة, فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم, إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله} أي: في البواطن, فقد يقولون ذلك ويفعلونه, وهم في الباطن منافقون في الدرك الأسفل من النار, فحسابهم على الله في بواطنهم, وفي هذا حكمة عظيمة لكل من يريد إجراء الأحكام، أو يصدر أحكاماً، فلك أن تحكم على الأقوال، ولك أن تحكم على الأعمال, أما البواطن فلا يحكم عليها إلا الله الذي يطلع عليها.(88/2)
الفرق بين كفر العمل وكفر الاعتقاد
السؤال
هل هناك فرق بين كفر العمل وكفر الردة؟
الجواب
ليسا متجانسين, ولا وجه لاقترانهما، لأن كفر العمل ليس بكفر ردة، وإذا كان المقصود بكفر العمل ارتكاب عمل من الأعمال التي بها يكفر صاحبها ويخرج من الملة, فهو ردة بالأعمال, فكما أن الردة تكون بالأقوال, فكذلك تكون بالأعمال, كمن يسب الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما أشبه ذلك.
والردة بالأعمال كمن يدوس المصحف أو يهينه، أو يفعل أي عمل من الأعمال؛ كأن يسجد للأصنام ويعبدها، أو يتحاكم للطواغيت، فهذه ردة بالأعمال.
فالردة تكون بالأقوال وتكون بالأعمال, إلا أننا نطلق كفر العمل في مقابل كفر الاعتقاد, فيكون المقصود الكفر الأصغر, أي: الذي لا يخرج صاحبه من الملة, ولكنه بأي حال من الأحوال هو أكبر من الكبائر الأخرى, وما سماه الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفراً -وإن لم يكن الكفر الأكبر- فهو أعظم وأشد مما لم يسمه الله تبارك وتعالى كذلك من الذنوب والمعاصي.
فمثلاً: يقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {سباب المسلم فسوق, وقتاله كفر}، فنعلم بهذا أن قتال المسلم مع أنه لا يخرج من الملة، كما قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] إلا أنه من حيث الجرم أكبر وأعظم من أي ذنب آخر كسرقة المسلم أو سبابه، أو غير ذلك مما لم يسمه الشارع كفراً.(88/3)
معنى انتفاء الإيمان عن أصحاب الكبائر
السؤال
هل الزاني وشارب الخمر وما شابهما في المعصية سواء؟ وما معنى انتفاء الإيمان عنه؟ وهل المقصود به مطلق الإيمان؟ وإذا بقي مسلماً؛ فما الذي ينتفي عنه؟
الجواب
معنى النفي هنا أنه ترك الكمال الواجب من الإيمان، ولا ننفي عنه مطلق الإيمان, بمعنى أنه غير مسلم، وإنما ننفي عنه الإيمان المطلق ونقيده.
أي: ننفي المطلق ونثبت المقيد, فنقول: مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته, حتى نخرج عن مذهب الخوارج الذي يقول: إنه كافر, وعن مذهب الإرجاء الذي يقول: إنه كامل الإيمان, ويبقى مسلماً ما لم يستحل ذلك، فإن فعل الزنا أو الخمر أو الربا أو أية كبيرة من الكبائر مستحلاً لها, معتقداً أن هذا جائز , معرضاً عن كل ما جاء في ذلك من آيٍ أو أحاديث, فهذا يكون كافراً , وهذا يُسمَّى كفر استحلال، وهو نوع آخر من أنواع الكفر والردة.(88/4)
الفرق بين الإسلام والإيمان
السؤال
هل يمكن أن يكون في شخص إسلام ولا يكون فيه إيمان؟ إذا كان ممكناً فكيف يكون ذلك؟
الجواب
هذا ظاهر حديث سعد الذي قال فيه الإمام أحمد: 'حديث سعد أحب إليّ'؛ لأنه أوضح عندما قال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أو مسلماً؟) فهو يقول: {يا رسول الله! إني لأراه مؤمناً, فيقول النبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو مسلماً؟}، فالفرق بينهما واضح, وقد يكون الرجل مسلماً, ولكن لا يكون مؤمناً؛ لأنه لم يأتِ بمرتبة الإيمان ولم يحققها، وهي فعل الواجبات وترك المحرمات.(88/5)
خطة تغيير المناهج وفق النظام الدولي
وهناك موضوع مؤلم جداً, كتب عنه الكاتبون في عكاظ وغيرها, وتحدث عنه بعض الإخوة، ورَدَّ بعض الإخوة على من كتبوا عن هذا الموضوع, وهو موضوع المناهج, وهو موضوع مؤلم جداً , وأوسع وأكبر مما نظن أو نتخيل, إنه موضوع توجه، وإن لم يكن كلياً -وقد يصبح كلياً- فهو بداية خطيرة لتغيير كبير في عقيدة الأمة وولائها وبرائها وانتمائها.
فالمسألة ليست كما نظن أنها مجرد تعديلات خفيفة أو تخفيفات وضعت بغرض التعديل والتغيير، وإنما وضعت بغرض حذف العلوم الإسلامية والمواد الدينية بالدرجة الأولى، وبالذات على الموضوعات المتعلقة بحقيقة التوحيد في هذا العصر، في ضوء الواقع المعاصر الذي نعيشه, وبما يتعلق بالولاء والبراء لليهود والنصارى, فبعض الأحكام الفقهية المهمة في حياتنا، والتي لا بد أن يتعلمها المسلمون، ولا ينبغي أن تخفى عليهم حذفت.
فالحقيقة هذا موضوع جلل يجب علينا أن نتنبه له؛ لأننا إما أن نكون مُعلمين نُعلم الخير ودعاةً إلى الله تبارك وتعالى, وإما أن نكون معلمين في المدارس، وهم -أيضاً- معلمون للخير يجب أن يتنبهوا إلى هذا وينكروا ويستنكروا ذلك.
وكذلك المسئولون عن التعليم في كل مكان، وكذلك نحن آباء, وإن لم نكن آباء فهؤلاء هم من أبنائنا، ولم يتعلموا الحقائق العلمية، وإذا لم يتعلموا الولاء والبراء، وإذا مسخوا وأصبحوا لا يشعرون بأي انتماء لهذه الأمة؛ فماذا نريد منهم أن يكونوا؟! فإن ما يحدث من تغيير في المناهج مرتبط ارتباطاً واضحاً بما يُسمى: عملية السلام، والتطبيع بين المسلمين وبين اليهود والنصارى, وإن شئت تعبيراً أعم, فقل: هو يتعلق بالنظام الدولي الجديد الذي يريد أن يُفرض هيمنته على العالم, ويدعو إلى وحدة إنسانية مشتركة كما يزعمون!! يريدون عالماً يكون فيه الأوائل هم اليهود ثم النصارى , والمسلمون تحت الأقدام, هذا الجديد في النظام الدولي الجديد باختصار.
ما الذي حدث في مناهج أبنائنا؟! أكثرنا لا يدري! ولم يسأل أبناءه عن مناهجهم.
كتاب التوحيد للسنة الثالثة الابتدائية, نسبة الحذف فيه تصل إلى (60%)! يا أهل التوحيد في بلاد التوحيد, (60%) من مقرر التوحيد يحذف! ويبرر الحاذفون -كما ذكر في عكاظ - بأن هذا صعب! سبحان الله! نترك الرياضيات ويراد أن يقرر الإنجليزي والتربية الوطنية والموسيقى والكمبيوتر وما إلى ذلك, والصعب فقط والذي يحذف هو التوحيد, والذي لا يريدونه هو التوحيد, ولا يبقى منه إلا معانٍ عامة.
حذفت منه فوائد كثيرة متنوعة دون بديل لها , وحُذِفَ منه موضوع الشرك الخفي -وهو من أنواع الشرك- مع أنه سهل مفهوم للطلاب, ويقع فيه كثير من الناس.
حذفت أنواع الكفر الأكبر الخمسة.
حذفت القواعد الأربع.
وحذفت نواقض الإسلام العشرة كلها.
فما المقصود من حذف هذه المسائل؟ المقصود هو أن يبقى الإنسان مؤمناً بالله واليوم الآخر إيماناً سطحياً, وإذا سألته قال: أنا أومن بالله واليوم الآخر، وليس لديه إلا مفاهيم عامة لدينه، أما نواقض الإسلام، وأنواع الكفر, وأنواع الشرك، فلا يدري عنها شيئاً، وربما يقع فيها ولا يشعر.
إن الغلو أو ما يسمونه بالتطرف ينتشر في بعض البلدان؛ لأن العقيدة لم تدرس في المناهج, فيأتي شباب لم يدرسوا العقائد، أو درسوا في معاهد قديمة أو جامعات نحت منحىً إرجائياً، فيدرسون الإسلام من زاوية معينة , فيأتي الآخرون ويدرسون الإسلام من زاوية أخرى، فيقع هؤلاء في الغلو وهؤلاء في الغلو.
لكن إذا درَّسنا أبناءنا من الابتدائي أن الكفر درجات وأنواع, فإن الشاب منهم يتخرج وقد صحت نظرته واستقامت، فلا يذهب إلى غلو هؤلاء المرجئة، ولا إلى غلو هؤلاء الخوارج.
فهذا الذي حُذف من المناهج هو الذي يميز بين أهل السنة والجماعة وبين غيرهم، فكيف يحذف ما يتعلق بأنواع الكفر؟ كيف تحذف القواعد الأربع المهمة التي تعتبر من أهم مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، وهي أساس عظيم لا بد منه للعامة وللخاصة؟ ثم تحذف نواقض الإسلام العشرة حتى يرى الإنسان أنه ما زال مسلماً مهما فعل ومهما ارتكب! الفقه نسبة الحذف فيه (30%) تقريباً.
أولاً: حذف باب الجنائز كله, حتى لا يدرس موضوع يُحدث الطلبة عن الموت ويذكرهم بالله، فمتى يسمع أطفالنا المساكين -الذين لا يتربون إلا على أفلام الكرتون وعلى المجلات الفاسدة، وعلى المجالس مع الأمهات والآباء التي لا خير فيها- عن الموت؟ متى يتذكرون الموت؟ متى يعرفون أحكامه؟ ثانياً: حذف اشتراط وجوب المحرم للمرأة في الحج, لأننا في عصر النظام الدولي والتقارب والخادمات، وهذا الموضوع يسبب إشكالاً عند الطالب, فهو يرى الخادمة في البيت ليس معها محرم وتحج مع أمه وأبيه, ولا يمكن أن نطرد الخادمات من البيوت، والأسهل أن تغير المناهج لذلك! ثالثاً: حُذِفت المواقيت، والأنساك الثلاثة، وصفتي الحج والعمرة, أي: حذف الحج كله؛ لأن معرفة الحج تتطلب أن توضح للطالب المواقيت، وتبين له الأنساك الثلاثة، وتبين له صفتي الحج والعمرة، أي: أننا نلغي ركن الحج مرة واحدة.
والأمر هو كما ذكر الإخوة الذين يقومون بتدريس هذه المواد أن كتاب العلوم الدينية لا يعادل كتاب الرياضيات, فهو صغير بالنسبة لحجم كتاب الرياضيات، ثم يحذف منه (30%) وتقطع أوصاله, وهم يقولون: هذه علوم مهمة وعلوم العصر.
الإنسان الآن يعيش في عصر الكمبيوتر, والحاسب والرياضيات وما إلى ذلك! إن الإنسان في كل العصور وفي كل الأحوال أحوج إلى أن يعرف الله، ويعرف الإيمان الصحيح، والتوحيد والشرك والعبادة الصحيحة، وأن يتفقه في الدين, فهو أحوج إليها من حاجته إلى الغذاء والماء والطعام والشراب والهواء -التي قد يعيش ببعضها- إلا الإيمان بالله تبارك وتعالى فهو بغيره حيوان، بل أضل من الأنعام, ولا قيمة له أبداً، وإن كان يشاهد البث المباشر ويأتي الكمبيوتر ويفعل كل شيء ويتحضر، كما يقولون.
فمهما عمل وهو مجرد عن الإيمان بالله عز وجل فلا خير فيه ولا في أعماله في أي حال من الأحوال, بل حتى حياته لا تكون إلا نكداً وضيقاً، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124]، نسأل الله العفو والعافية.(88/6)
الحذف في المستوى الرابع الابتدائي
حذف من التوحيد الأمثلة على أنواع العبادة كالدعاء, والذبح، والنذر, مع أنها أمثلة مهمة توضح سعة مفهوم العبادة وحقيقة العبادة, وتعين الطالب على معرفة ما يقبح فعله من العبادة لغير الله، فإذا حذفت هذه فماذا بقي؟ وقد يقال: إن هذه حذفت لأنها سوف تتكرر في سنوات قادمة, ونقول: إنها تتكرر لأننا بحاجة لتأصيل حقيقة الشرك والتوحيد والمواضيع الفقهية، فنحن بحاجة لتكرارها في كل سنة, بل في كل يوم, وهذا كتاب الله بين أيدينا, ألم يتكرر فيه الإيمان بالله واليوم الآخر, والدلائل على نبوة رسول الله، والدلائل على البعث، والدلائل على ما وقع وما حلّ على الأمم السابقة، وتكررت قصصهم وتحدث عنها مراراً كثيرة؟ وليس هذا عبثاً -تعالى الله وتقدس- وكتابه أجل من ذلك, وإنما لأنه لا بد من التكرار, لأن الناس يحتاجون إلى التذكير الدائم المستمر بهذا, ثم ليس هذا التكرار فقط في علم التوحيد، فكل العلوم فيها تكرار, فالرياضيات والكيمياء والجغرافيا كلها فيها تكرار, الكل إذاً قائم على تكرار, إما إعادة الشيء لغرض وإما تفصيل بعد إجمال, وإما شرح بعد تبسيط وهكذا.
حذف أيضاً من الفقه (30%) للسنة الرابعة, والتفسير حذف أيضاً وبُتر, وتفسير سورة الفاتحة حُذف منه وصف اليهود بأن الله غضب عليهم ولعنهم, وحذف وصف النصارى بأنهم افتروا على مريم بهتاناً عظيماً, وإذا كانت هذه الأوصاف في القرآن وسهلة وقصيرة، فلماذا تحذف؟ وما الذي يضر هذا الطفل أن يدرس ألفاظاً سهلة وواضحة؟ لكن لأنها تربي الطفل على أن اليهود أعداء الله, والنصارى أعداء الله، وهم يريدون أن يكون أبناؤنا مثل الدواجن, التي تتربى في محاضن وتفرخ وتسمن، لا توالي ولا تعادي, همُّ أحدهم الطعام والشراب, ينسى الموت ويحاول لمدة طويلة أن يشتري سيارة, وبعد مدة طويلة -ربما عندما يبلغ الستين- أن يحصل على بيت, وهو طوال عمره يفكر كيف يحصل على بيت، ويقول: الليلة أشاهد التلفاز أو الفيديو عند فلان، فهذا ليس إنساناً, لأن الإنسان بعقيدته وبإيمانه, وبمقدار ولائه وبرائه وبحقيقة انتمائه لدينه, فحقيقة الإنسان هي في انتمائه.
ولهذا تسأل أي إنسان تقابله عن بلده وعن دينه حتى تعرف انتماءه إن كان يهودياً أو نصرانياً أو بوذياً، ولا تحكم عليه رأساً، لأن الإنسان إنما يعرف بانتمائه لا بمظهره الخارجي، فهناك أناس هم أحقر خلق الله ديناً وخلقاً ولديهم الأموال الطائلة, وهناك دول كذلك.
ويوجد من أفضل خلق الله ديناً وخلقاً مثل الأنبياء صلوات الله عليهم، وهم من أفقر الناس وأزهدهم في حياتهم الدنيا, ومنهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي خير بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينام على الحصير حتى أثر في جنبه الشريف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فلا تقدم تكنولوجي ولا رفاهية ولا تنمية ولا شيء من هذا , ومع ذلك كان هو سيد ولد آدم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ولم ينزل هذا من قدره شيئاً؛ لأن الله يعطي الدنيا من أحب ومن لم يحب كما قال: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} [الإسراء:20].
فتقليص المناهج الدينية الشرعية بحجة أننا حريصون على التنمية وعلى التطور من أجل أن يحل محلها علوم أخرى يقتضيها التطور أمر باطل، مع أن المقصود ليس هو التطور ولا التنمية, إنما المقصود هدم عقيدة الولاء والبراء بالدرجة الأولى.(88/7)
الحذف في المستوى الخامس الابتدائي
التوحيد حذف منه (30%) حذفت المسائل الأربع المهمة الواردة في سورة العصر، والتي هي: العلم والإيمان والعمل والدعوة إليه والتواصي بالصبر عليه، فلماذا حذفت هذه؟ وما الذي يخسره الطالب إذا قرأها وحفظها؟ حذفت أيضاً المسائل الثلاث المهمة في التوحيد: وهي الغاية من الخلق وأن الله لم يخلقنا هملاً، ولم يخلقنا عبثاً، والنهي عن الشرك, وحذفوا وجوب المعاداة في الله والبراء من الشرك وأهله , ولم يستبدل بها أي شيء أيضاً, فلماذا تحذف الآيات والمقررات والأحاديث التي تتحدث عن الولاء والبراء، ونحن نرى المسلمين يذبحون في كل مكان؟! فتارة يقتلهم النصارى في البوسنة والهرسك , وهناك في إفريقيا أكثر من دولة يباد فيها المسلمون كما في بعض دول غرب إفريقيا , وتارة يبيدهم الهندوس إبادة كاملة كما في كشمير , وكذلك في بورما وفي غيرها, وتارة تبيدهم الشيوعية، كما في طاجكستان وفي أماكن أخرى، وأينما اتجهت تجد أتباع الديانات المحرفة يبيدون المسلمين في كل مكان, ونحن نحذف ما يتعلق بالولاء والبراء ومعاداة الشرك وأهله! الفقه حذف منه (50%)؛ فقد حُذِفَ المسح على الجورب، وهذا مهم, والناس مقبلون على الشتاء, صحيح أن بعض المناطق مثل: مكة وجدة لا يحتاجون الجوارب؛ لأنه لا يوجد برد عندهم، لكن الناس يحتاجون مثل هذه الأحكام حتى الصغار منهم, وقد حذف حتى مدة المسح وبدايتها ونهايتها, وهو حكم ليس بصعب, وحذفت آداب المشي إلى الصلاة جميعاً, وحذفت صفة الصلاة كلها, ويستصعبون على الطالب في الصف الخامس أن يقرأها كلها، ولو قرروا ذلك في الخامسة ثم أعادوه في السادسة وأول متوسطة, ولكن بتفصيل أكثر, أما أن تحذف حذفاً كلياً فلا يدرس الطالب كيفية الصلاة, فماذا يدرس إذن؟! وماذا يهمه إذن من الفقه ومن حياته؟! وقد حُذِفَ حكم صلاة الجماعة, وهو الوجوب، وبقي ما يدل أنها سنة فقط؟ وهم يريدون -حسب ظنهم- ألَّا يكون الطالب متطرفاً، لا يقول لأبيه: المؤذن يؤذن وأنت تصلي في البيت؟ فلذلك حذفوا ما يدل على أن صلاة الجماعة واجبة، بل ينقدح في ذهنه أنها سنة ومستحبة, فيكون طالباً معتدلاً، قد ربي على الاعتدال مع اليهود والنصارى ومع تاركي الصلاة, ومع المتخلفين عن الجماعة, ويكون شجاعاً على الدعاة فقط؛ لأن هؤلاء هم المتطرفون وهم الأعداء, أما بقية الناس فهم يعاملون بالحكمة والنصيحة.
وبعد هذا -كما ذكر الأخ الذي كتب هذا وهو متخصص- يقول: الذي تولى الحذف والتعديل شخص واحد غير متخصص، لكنه أجاد دوره, فهو يعرف ماذا يحذف، الانتقاء واضح فليس خبطاً عشوائياً!! يقول: رغم أن العلوم الدينية الأربعة: التوحيد، والحديث، والفقه، والتجويد، مجموعة في كتاب واحد, يقل حجمه عن كتاب الرياضيات أو العلوم، إلا أن الحاذف قد أثخن فيه حذفاً وشطباً وإلغاءً, حتى أنه ألغى من كتاب سنة رابعة (30 %) من الفقه, و (75%) تقريباً من التجويد, حتى القرآن لماذا؟ لأن العصر عصر كمبيوتر, وهو عصر التغيير! وهي نفس الحجة التي قالها مشعل السديري أو غيره ممن يكتبون في عكاظ , ممن يُسر ويعلن أنها مناهج ثقيلة, وللعلم أنهم بعد تخفيض المنهج بدءوا يقولون: المنهج صغير.
إذاً فهو لا يحتاج إلى كل هذه الحصص، لا بد أيضاً من تخفيض الحصص، فالغرض هو التخفيض المستمر.
ومن أعجب التخفيضات أنك تجد الطالب في الفصل الدراسي كله يحفظ سورة واحدة, كالغاشية أو عبس أو الانشقاق أو غير ذلك, في فصل دراسي كامل.
حتى أن بعض مدرسي التربية الإسلامية يقول: والله لا أعرف ماذا أُسَمِّعُ في الحصة؟ آية أو نصف آية؟! كيف أوزعها؟! الطلاب في هذه المرحلة يستطيعون أن يحفظوا كل شيء, لأن عقولهم مهيأة، وهم أذكياء؛ لأنهم من أبناء هذه البلاد الأصيلة التي هي معروفة بالحفظ، وهم يقولون: الحفظ يشتت الذهن, ولكنهم لا يقبلون هذا الكلام في الرياضيات ولا في الكيمياء, فترى الطالب يحفظ المعادلات التي لا يحتاج إليها في حياته أبداً, وبمجرد أن يتخرج ينساها, والكثير ممن تخصص في الرياضيات أو في غيرها ثم تخرج، فتسأله عن بعض المعادلات، فيقول لك: درسناها قبل ثلاث سنوات, ولا يتذكر منها شيئاً، كما أنه لا يستفيد منها شيئاً ولا يطبقها في حياته, ولن يستخدمها طوال عمره لا في بيته ولا مع الناس.
وهناك أحكام علمية شرعية يحتاجها في عباداته لا يدري عنها شيئاً، وكتاب الله أجل من ذلك وهو أعظم لا يُحفَظُ منه في الفصل الدراسي إلا سورة واحدة! فأصبحنا ننظر إلى الدنيا على أنها هي الأساس ونعظمها، وبعضنا يقول: نحن والحمد لله مجتمع التوحيد وبلد التوحيد, حتى إذا لم ندرس الدين فليس هناك مشكلة! سبحان الله! إنها أماني، وقد قال الله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء:123].
إن الإنسان الذي لا يعرف التوحيد ولا مقررات التوحيد, ثم يقول: "الحمد لله! نحن من بلاد المسلمين" هو إنسان خدعته الأماني.
وإذا ألغينا مقررات الفقه بحجة أن بلادنا بلاد الإسلام، ولم نعمل بالشريعة لأننا بلاد الشريعة؟ وإذا ألغيناها وعملنا على هوانا فلن تنفعنا الشعارات، ولا يريد الله منا هذه الشعارات، كما قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] المسألة مسألة حساب بين يدي الله.
وإن اليهود هم الذين قالوا: "نحن شعب الله المختار, كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:18] والصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- ما قالوا هذا, وفي جيل الصحابة في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لم يقل الناس: نحن أصحاب الإسلام وأهل الدين وأهل التوحيد, فكل عمل نرتكبه فلا حرج.
والآن إذا قلت لأحدهم: اتق الله! لِمَ تفعل هذا؟! أو قلت: هذه المصائب زادت عندنا، قال: نحن أحسن من غيرنا! لا تنظروا إلا إلى هذا الجانب, ذهبت أمور كثيرة وضاعت أصول عظيمة, والكذب والتحريف وصل إلى مقررات التوحيد في مناهجنا, وما زلنا نقول: أهل التوحيد , بلاد التوحيد, عقيدة التوحيد إلى آخر هذه الشعارات التي لا تنفع إلا بالعلم والعمل والدعوة والصبر على العداء في سبيل هذه الدعوة.
أما ما يقال من أن هدف التعديل هو التيسير على الطلاب -وهذا ما يُذكر في الصحف- فهذا كلام غير صحيح، فإن التيسير لا يكون بحذف الموضوع بأكمله، وإلا فلماذا لا يستخدمون هذه الطريقة في الجبر والكيمياء؟ بل إنهم في هذه المواد يريدون أن يضيفوا بعض الإضافات.(88/8)