العبودية عند الغرب
العبوديات -كما قلنا- تختلف، ولذلك يقع هذا العالم المتمرد في أنواعٍ كبرى من العبوديات للبشر، وهو نوعٌ معروفٌ حدثنا الله تبارك وتعالى عنه في القرآن، كما كانت عبودية قوم فرعون لفرعون حين قال لهم: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24]، فصدقوه.
عبودية البشر للبشر في هذا القرن تتمثل في هذه المناهج التي وضعها بشر، مثل كارل ماركس، وهو رجل شيوعي يهودي، وضع مذهباً اسمه الشيوعية، كم من الملايين اليوم تتعبد بهذا المذهب، وكم من الدماء أريقت من أجل تثبيت هذا المبدأ؟! المسلمون وحدهم في الاتحاد السوفيتي قتل منهم ما يزيد عن عشرين مليوناً ذهبوا ضحية الاحتلال الشيوعي للمناطق الإسلامية، وذلك من أجل أن يثبت هذا المذهب، وهذا المبدأ الذي وضعه رجل يهودي واحد، فهل هناك نوع أشد من هذا النوع من العبودية، أنَّ رجلاً يهودياً فيلسوفاً يأتي بهذا المذهب الهدَّام، فتراق من أجله دماء الملايين، وتقام الثورات في كل مكان باسمه ولأجله؟! والعاَلَمُ الغربي يتشدق بالحرية، ويدّعي أنه هو العالم الحر، ولكن أي حرية هذه في عالم لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر؟! أي حرية في عالمٍ لا يدين دين الحق لله -تبارك وتعالى-؟! والكرامة الإنسانية فيه مهدرة، حثنة من اليهود متسلطون على إمكانيات الغرب يتلاعبون بمقدراته وبخيراته وبشعوبه كما يشاءون، وتقدم لهم أنواع العبوديات.
ونحن نختار -مثلاً بسيطاً- من العبوديات التي تقدم في الغرب كمثال فقط: هناك في الغرب بيوت للأزياء، وأغلب القائمين عليها من اليهود، وهم يضعون لكل فترة ولكل لحظة أحياناً زياً معيناً، فهناك أزياء للربيع، وأزياء للشتاء، وأزياء للخريف، وأزياء للسهرة، وأزياء للصباح، وأزياء للمساء، وأزياء مضحكة، وأزياء مفزعة، أنواع كثيرة جداً، يتنمقون، ويتفننون فيها، ويتغالون في أسعارها، ولا يملك الملايين في هذا العالم -الذي يُسمَّى العالم الحر- إلا أن يمتثل، فلا يمكن أن ترتدي المرأة فستان السهرة -مثلاً- في وقتٍ غير السهرة، فهذه أضحوكة مخالفة، ومنكر يُنكَرُ عليها؛ لأنها لم تقدم العبودية لهؤلاء الأرباب الذين يمتصون الخيرات، ويتلاعبون بمقدرات الأمم ويستعبدونها بهذا الشيء.(40/3)
صور من العبودية
هناك أنواعٌ أخرى من العبوديات لا تحصى، ولكن الناس لا يدركونها، ولا يتصورونها، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبهنا إلى معنىً، وإلى قضيةٍ خطيرة، يجب أن نتنبه لها جميعاً حينما قال: {تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش}.
فرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيَّن أنه من الممكن أن يكون الإنسان عبداً للدرهم وللدينار، وهذا شيء عجيب، كيف أنَّ الإنسان الذي يكدح ليل نهار، ويجمع المال ويستنفع به يكون عبداً له؟! لكن هذا كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا هو الواقع يصدِّق هذا الكلام، فالرجل الذي يغفل عن نفسه، وأسرته، وعمله، وعن ما هو أعظم من ذلك كله، وهو ما خُلِقَ من أجله هذا الإنسان، ويشتغل عنها بجمع الدرهم والدينار، أو بالمنصب، أو بالوظيفة، أو بأي شيء من الدنيا، فهذا عبد للدرهم والدينار، وصدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق، ولا يمكن أن يقول إلا الحق، كما قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]، فهو عبدٌ للدرهم والدينار، وعبدٌ للمنصب، وقد يكون عبداً للزوجة، وقد يكون عبداً لأي عبودية أخرى، والشرط الأخير أو المعيار الأخير هو أن يتملك قلبه، ولذلك قال في آخر الحديث: {إن أُعطيَ رضي، وإن لم يعطَ سخط} من تملك قلب الإنسان فهو عبدٌ له كما قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان:43].
فهذا إنسان اتخذ إلهه هواه فهو عبدٌ لهواه، فعبودية الدرهم والدينار أن يبيع الإنسان دينه، وصلواته، وأن يضيع ما بينه وبين الله عز وجل، وأن يُضَّيعَ من يعول من أجل أن يجمع الدرهم والدينار، وهكذا عبوديات كثيرة يقدمها الإنسان وهو يدري أو لا يدري، وليس من الشرط أن يعلم الإنسان أنه يقدم عبودية، لكن إذا ملك قلبه شيء، فهو عبدٌ له شاء ذلك أم أبى، وهكذا أخبر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنَّ كل شيء واليت فيه وعاديت فيه فقد عبدته وقدمت له العبودية.
ولنضرب مثالاً بسيطاً من واقعنا الذي نعيشه: الكرة مثلاً، لا نتكلم عن الرياضة كمجال لتنمية الجسد ولا للنشاط، نتكلم عن الكرة كمعبود يوالى فيه ويعادى فيه، نتكلم عن الزوج الذي يطلق زوجته لأنه يشجع فريقاً وهي تشجع الآخر!! نتكلم عن الأخ الذي يهجر أخاه لأنه يشجع فريقاً، أو ينتمي إلى فريق وهو مع الفريق الآخر، أي عبودية تتصور أكثر من هذا؟ فهل هجرنا الكفار؟ هل عادينا الكفار وأعداء الله عز وجل حتى يصل بنا الأمر إلى هذا؟ لا! هذه هي العبودية التي جعلها الله في القلوب، وهذه هي التي يجب أن تنصرف إلى ما أمر وأراد، فتحب ما أحب الله، وتوالي من والى الله، وتعادي من عادى الله، فإذا صرفناها لأي شيء -كهذه الكرة- فهي عبودية لها شئنا ذلك أم أبينا.(40/4)
مفهوم العبودية عند الصحابة
إنَّ العبوديات كثيرة في هذا العصر، ولكننا نريد أن نستعرض أو نعرف كيف وقع الانحراف في العبودية في أذهان الأمة الإسلامية.
كانت بداية الانحراف في أنَّ جيل الصحابة رضي الله عنهم الذي عرف حقيقة الإخلاص، وحقيقة العبودية، وبلغ الدرجة العليا في العبودية لله، لم يبق هو المعيار والقدوة، فجاءت أجيالٌ من بعده انحرفت في مفهوم العبودية، ولم تعرف ما هي العبودية الصحيحة، ولا كيف تقدم العبودية لله عز وجل.
هذه الأجيال عندما جاءت ظنت أنَّ العبودية هي فقط أداء نوع من العبادات، فإذا أدَّاها وعمل بعدها ما عمل، أو أهمل في واجبه، أو ضيع في مسئولياته، أو أساء إلى إخوانه، أو أي شيء آخر، فلا شيء عليه مادام قد صلَّى، وحقق العبودية، هذا مما وقع فيه المسلمون ومما انحرفوا في فهمه، فلم يفهموا من العبودية إلا أنواعاً معينة، وتركوا أنواعاً أخرى.
كان الصحابة رضي الله عنهم، كما يقول بعضهم: {إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي}، فعندما ينام يحتسب هذه النومة هل هي عبادة؛ أم لا؟ لأنه يستعين بها على الطاعة، وهي القيام لصلاة الفجر، فالحياة كلها عبادة، والعمر كله عبادة، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] فالحياة كلها عبادة لله عز وجل، وعمله كله ينصرف لله عز وجل، حتى اللقمة يضعها في فمِّ زوجته له بها أجر، وهي عبادة، حتى الرجل إذا أتى أهله، كما سأل الصحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم، قال: فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر} إذا عفَّ نفسه عن النظر إلى الحرام، وعن ارتكاب الحرام، وعفَّ هذه المسلمة التي بين يديه، فهي عبودية.
وقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- يفهمون العبودية بالمعنى العام الواسع الشامل، ولذلك لما حققوا العبودية لله، حقق الله تعالى لهم عبودية العالمين من ملوك الفرس، وملوك الروم، ونحن الآن في القرن العشرين، هناك دولتان تتحكمان في العالم وتسيطران على مقدرات العالم في الشرق وفي الغرب، وفي عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعهد الصحابة كان هناك دولتان أيضاً، فكان الفرس في الشرق، والروم في الغرب، وكل منهما يتحكم في العالم، وكان أضيع الشعوب على الإطلاق هم شعوب قبائل الجزيرة العربية، فلما جاء النور، وأنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجاء الجيل الذي عرف العبودية لله، وحقق العبودية لله تعالى، جعل الله عز وجل ملوك هاتين الدولتين عبيداً لهؤلاء الأعراب، الذين كانوا أعراباً بالأمس، وخرجوا حفاة عراة، لماذا؟! اعبد الله حق عبادته يُسخِّر لك الله عز وجل كل شيء، حتى في عملك اليومي.
إذا قمت في الصباح وجعلت الآخرة أكبر همك، جمع الله عز وجل همك، وأعطاك الخير وبارك لك، وإذا جعل الإنسان -والعياذ بالله- الدنيا أكبر همه، شتت الله همه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتِبَ له.
فهذا الجيل الذي تجرد لله -عز وجل- وحقق العبودية لله عز وجل أخضع الله له العالمين، ولذلك جيء بملوك الروم وملوك الفرس مقيدين بالسلاسل إلى هذه البلاد الجرداء الصحراء، جاءوا عبيداً لمن عبدوا الله عز وجل حق عبادته، فلما ضيَّع المسلمون عبوديتهم لله عز وجل، أصبحوا هم -كما هو واقعنا الآن- عبيداً لهؤلاء الكفار، وما أكثر ما أخذ من بلاد المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(40/5)
الانحراف في مفهوم العبودية
إنَّ الله عز وجل يقول: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] هذا كان جواباً للصحابة رضي الله عنهم لما انهزموا يوم أحد، فكيف بنا الآن، فإذا حققنا عبودية الله عز جل حقق الله لنا النصر على العالمين.(40/6)
بداية الانحراف في مفهوم العبودية
نوع آخر من الانحراف في العبودية، أو من الانحراف في التعبد، وهو الضلال، فنحن عندما نقرأ الفاتحة هذه السورة العظيمة، نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] هذه قاعدة عامة نكررها دائماً، ولذلك نقول: (آمين) هذا دعاء، يجب عندما نقرأه أن نتأمله دائماً في كل ركعة: ما معنى هذا الكلام؟ نقول: آمين على أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم كما قال تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69] لكن المغضوب عليهم من هم؟ الذين تمردوا عن عبادة الله، واستكبروا عن عبادة الله، وهم اليهود، كذلك الضالين الذين لم يحققو العبودية، وأتوا بعبودية منحرفة وهم النصارى.
فنحن نعوذ بالله من طريق هؤلاء وهؤلاء، نعوذ بالله من الحضارة الغربية من دينها، وطريقها التي تكبرت فيه على الله، وتمردت عليه، وأنكرت عبوديته.
كما نستعيذ بالله من عبودية الضلال والانحراف التي وقع فيها كثير من المسلمين وهي عبودية التصوف، فـ المتصوفة هؤلاء جاءوا بعبادات شرعوها من عند أنفسهم، لم يتعبدنا الله عز وجل بها، كل يوم يأتون ببدعة جديدة، ويقولون: هذا هو الدين، فمن يريد أن يتعبد، فليتعبد على هذا الدين، لا كما شرع الله عز وجل.
هذا الضلال الذي جاء به الصوفية أنتج انحرافات خطيرة في مفهوم العبودية، وفي تحقيق العبودية، فتركوا المال، ونفروا من الدنيا؛ لأنها كما قالوا: تصرف عن عبودية الله، وأرادوا أن يعبدوا الله كما شاءوا، فتعبدوه بالترانيم وبالغناء وبالأوراد التي لم يشرعها الله، ثم ذهب بهم الأمر قليلاً قليلاً حتى خرج أكثرهم عن مُسمَّى الإيمان أصلاً، ووقعوا في الشرك الأكبر وهم لا يشعرون.
فالله عز وجل -مثلاً- تعبدنا بقراءة القرآن، وفي الحديث {مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر} وعبودية قراءة القرآن من أعظم القربات، ومن أعظم أنواع التعبدات، فما الذي جعلته الصوفية كمثال مقابل لهذه العبادة؟! جعلوا الأناشيد والأغاني مقابلها، فالأغنية نفسها التي ألقاها أو قالها شاعرٌ قديم من شعراء الحب والغزل، ويغنيها الدُّعار والفساق في أماكن لهوهم ولعبهم، هي نفسها التي تُغنَّى -مثلاً- في الموالد أو في الحضرات، أو ما يسمونه الخلوات، فتُغنَّى نفس الأغنية على أنها عبادة، كيف تعبدون الله بهذا؟ قالوا: لا، الذي يُغنيها هناك يغنيها بنية المحبوب الذي يريد، لكن نحن نغنيها بنية المحبوب الأعظم وهو الله.
فنقول لهم: هل نبعد الله بهذه الصورة؟ هل هذا مما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن نفس أغنية أبو فراس أو غيرها، تغنيها أم كلثوم، هي نفسها التي يُتعَبد الله بها في المولد، بل حتى الأغاني التي في غزل النساء.
أما في الدول الأخرى فالمولد نفسه يحضره النساء والحضرة، وتغني -أيضاً- امرأة، نفس الأغنية التي تُغنى هنا، شيء عجيب! كيف تتعبدون الله عز وجل بهذا الشيء، بنفس الأغنية، والصورة، والنموذج، أنتم تضعون شرعاً من عند أنفسكم؟ نعم هم يضعون شرعاً من عند أنفسهم، بحجة أنهم أولياء لله عز وجل وأنَّ الله يقول: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]، نعم! لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولكن قال بعد ذلك: {الذين آمنوا وكانوا يتقون} [يونس:63] وهذه ليست من أعمال الإيمان، ولا من أعمال التقوى، خرجوا عن مجال التعظيم لله ورسوله إلى تعظيم الأفراد من دون الله عز وجل، وهو كما قلنا في عبودية تعظيم الأرباب من دون الله، الذي تقع فيه الجاهلية المعاصرة وهو مناقض لتوحيد الربوبية.(40/7)
نماذج من الانحراف العصري
سمعنا من كثير من الإخوة أنه تقوم مظاهرات في بعض الدول -التي هي إسلامية في الأصل- وتقول: ماو ماو رب الكادحين، أي كانوا يقولون: إن ماوستوق -هذا الزعيم الشيوعي الذي هلك- رب الكادحين، فتعطى الربوبية لهذا الفرد، فهنا ربوبية عصرية في حق هذا الرجل العصري الذي جاء بهذا المذهب الوضعي.
هناك ربوبية أخرى يجعلها المتصوفة للشيخ، أو للقطب، أو للغيث، كما يسمونه، وهو أنه يشِّرع كما يشاء، حتى أن من يذنب ذنباً؛ لا بد أن يأتي إلى الشيخ ويستغفر له -والعياذ بالله- ويقول للشيخ: أنا تبت، فاستغفر لي يا شيخ، أو فاغفر لي يا شيخ والعياذ بالله.
هذان النموذجان من العبودية: عبودية الأرباب الذين نصبوا أنفسهم آلهة من دون الله عز وجل، يُشرِّعون، ويُحللون، ويُحرمون، ويضعون المناهج للبشرية الضائعة، والعبودية الأخرى وهي عبودية الذين أرادوا أن يعبدوا الله، فعبدوه على ضلال، ويدَّعون أنهم أولياء لله، ويزعمون أنهم هم المقربون إلى الله، وأن ما عداهم أهل البدعة، وأهل الضلال.(40/8)
المخرج من الانحراف في العبودية
إن العبودية المنحرفة تحيط بالشباب المسلم من كل ناحية، وتكتنفه من كل جهة، وليس هناك من حلٍ لهذا الشباب إلا أن يعرف العبودية الصحيحة التي عَبَدَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه بها ربهم عز وجل.(40/9)
المخرج بالجهاد
ولنعلم أن أعلى درجات العبودية، ودرجات المحبة التي يدَّعيها هؤلاء الناس تكمن في الجهاد في سبيل الله -عز وجل- الذي هو ذروة سنام هذا الدين، يقول الله عز جل: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24] وفي هذا وعيد من الله عز وجل.
انظروا ماذا حل ببلاد المسلمين من النكبات ومن الذل! بسبب تركنا لعبودية الله، ومنها: ترك الجهاد في سبيل الله -عز وجل- ولو نظرنا أو تفكرنا في واقعنا الذي نعيشه جميعاً، وكلٌّ منا يتفكر، متى مر بك يوم من الأيام فقرأت الصحف أو سمعت نشرات الأخبار العالمية، ولم تسمع زلزالاً، أو فيضاناً، أو مجاعةً، أو انقلاباً، أو انفجاراً؟ أظن أنه لا يوجد يوم أبداً إلا وهذه البلايا تأتي، وهذه المصائب وهذه النكبات تمر، قد جلَّى الله عز وجل ذلك فقال {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96] هذه نتيجة عدم الإيمان بالله عز وجل.
إنَّ العالم البشري نتيجة عدم تحقيق العبودية لله -عز وجل- ضربه الله تعالى بهذه المصائب، وبهذه النكبات التي لا تخلو منها نشرة أخبار، ولا يخلو منها بلد، ولا تخلو منها جريدة ولا مقال، هذه النكبات بذنوب العباد، بل كما قال الله عز وجل: {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30].
أليس في هذه النكبات عبرة؟! أليس فيها مجال للاعتبار لمن أراد أن يعتبر؟! أليس هناك من يتذكر أو من يعي؟! أليست هذه نُذرٌ للعذاب الأكبر الماحق، الذي سوف يدمر الله تعالى به هذا العالم، وهو القيامة الكبرى؟! بل قبل ذلك قد يأتي عذابٌ أعظم وأطم، إذا ضللنا الطريق، وساد واستشرى الناس، وأوغلوا في الشهوات، وفي اللهو، وفي اللعب، وفي الغفلة عن الله عز وجل، وعن اليوم الآخر، ونسينا المهمة التي من أجلها جئنا.(40/10)
المخرج بالتفكر في النفس
كلنا أصحاب أعمال وأصحاب وظائف، ولو أن واحداً منا انتدب لمهمةٍ ما تتعلق بعمله إلى الرياض، وذهب إلى الانتداب لهذه المهمة، أيعني هذا أنه لا يأكل، ولا يشرب، ولا ينام، ولا يمر على زميل له في الرياض، كلا.
يمكن هذا، لكن المهم أن يحقق الغرض الذي من أجله ذهب، وانتدب.
نحن جئنا في هذه الدنيا للعبادة ولتحقيق العبودية الصحيحة لله عز وجل، فالذي انتدب ثم ترك المهمة وذهب، فأكل، وشرب، ونام، ولعب، وسلَّم على من يحب، حتى جاءه فجأة الأمر بإنهاء الانتداب والرجوع، وما حقق شيئاً، فهل هذا يكرم؟ أم يهان؟ فنحن لماذا لا نفكر في أنفسنا، نحن جئنا لغرض، جئنا هذه الأيام المحسوبة والمعدودة التي أصبحت تمر كالدقائق، لماذا لم نتفكر أي عبودية حققنا فيها؟ هل هي عبودية الله، أم عبودية الشهوة، أم عبودية المنصب، أم عبودية الزوجة، أم عبودية الدرهم والدينار؟ ربما لو فكر كلٌ منا مع نفسه؛ لعرف الحق، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46] أي التفكر في أمر الله عز وجل، وفي الغاية التي جئنا من أجلها، فإذا تفكرنا وجدنا أننا بعيدون عن العبودية لله، وأننا نقدمها لأرباب آخرين من دون الله.(40/11)
التوبة والرجوع إلى الله
فلنعد إلى العبودية الصحيحة، وهي ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشرعه، وما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من التعبد لله عز وجل، وعبودية الجهاد في سبيل الله، وعبودية الإتقان في العمل، وعبودية إنكار المنكر؛ ولو أدى ذلك إلى التضحية؛ والخسارة -التي ظاهرها خسارة، وهي ربح أكبر- وعبودية الإحسان إلى الأهل بإعانتهم على تقوى الله ونصحهم عليها، وعبودية المعاملة بالحسنى مع إخواننا المسلمين، وعبودية الأمانة في كل شيء، وعبودية معرفة المسئولية كما في الحديث: {كلكم راع وكل راعٍ مسؤول عن رعيته} إن كنت مدرساً أو كنت قائداً، أينما كنت فأنت مسئول، ولذلك الجيل الذي فتح العالم، كان نوعاً فريداً؛ لأنه حقق العبودية لله عز وجل، كان قائد الجيش أول من يتقدم في المعركة، وكان في سبيل الله ولله، وكان الجيش يطيعه أيضاً؛ لأنها كلها لله، وفي سبيل الله، فلو أن كلاً منا جعل هذا الجيل الفريد قدوته، ونظر إلى نفسه، وقال: هل أنا أعمل لله؟ هل أؤدي هذا العمل في سبيل الله عز وجل؟ وهل أعامل من ولاني الله عز وجل أمره، أعامله لله، وفي ذات الله، وفي سبيل الله؟ لا بد أن نتفكر في هذا، وإلا قد نُسأل ونفاجئ، ويأتي الموت، وحينئذٍ لا يملك الإنسان الاعتذار، وما هذه الحياة الدنيا؛ إذا جاء الموت ووافى الأجل، إلا كالحلم الذي ينقضي، فيفيق الإنسان، ويقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] فيقال له: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100] انتهى الأمر، لا ينفع تمني العودة؛ لأن الله عز وجل يقول: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] فأعطانا الله تعالى العمر، وأعطانا التذكر، والتدبر، وخاصة ونحن -الحمد لله- على مستوى من العلم، والموعظة، وسماع الذكر، وقراءة القرآن، ولسنا كإخواننا المسلمين في إفريقيا، الذين يعيشون في مجاعة وتشرد وتعب، أو في أطراف الهند.
نحن -والحمد لله- هنا بجوار الحرمين، والعلم عندنا، والقرآن بين أيدينا وبلغتنا، فكيف نُعِرْضُ عنه؟ وإن لم نطبقه نحن، وإن لم نحقق ما جاء به ونحقق العبودية لله عز وجل، فأي شعب نتوقع أن يحققها؟ وإن لم نتمثلها نحن كإخوة مدنيين وعسكريين وموظفين وطلاب، فمن نتوقع أنه يحقق هذا الدين؟ والله عز وجل قد توعد وعيداً شديداً قاطعاً، فقال: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] وقد حصل هذا عندما ترك العرب هذا الدين وتخاذلوا، وعبدوا المناصب والدنيا؛ فجاء الأتراك وفتحوا العالم، ثم جاء الهنود، وجاءت الشعوب وتولت أمر المسلمين، وفتح الله بها العالم.
فيجب أن نعي هذه الحقيقة، ويجب أن نتدبرها، وأن نتفكرها جميعاً، وأن نعظ أنفسنا أولاً، ونعظ إخواننا ومن نستطيع بها، وأن نعتبرها واجباً فردياً عينياً علينا جميعاً، أن نذكر أنفسنا بما أمر الله وبما أنزل الله تبارك وتعالى.
نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وممن يحققون العبودية الخالصة الصحيحة لله عز وجل.(40/12)
الأسئلة(40/13)
حكم صلاة الجنب
السؤال
إنسان أدى الصلاة وعليه جنابة، ما الإثم في ذلك، وكيف يكون الغسل من الجنابة؟
الجواب
من الممكن أن نجيب على هذه الأسئلة، لكن من المعلوم أن لديكم -والحمد لله- قسم الشؤون الدينية للتوجيه، ومثل هذه الأسئلة وهذه الأمور مما لا ينبغي أن يجهلها المسلم، والحمد لله يستطيع الإنسان أن يعرف حكمها، ولذلك أنا أريد من هذا الأخ، ومن كل أخ أنه يشتري كتاباً، على أن يكون مبسطاً، من الكتب التي تعلمه العبادات، وتعلمه الأذكار، أو كتابين، أو أكثر، واسأل أهل الذكر، ولذلك لن أجيب.(40/14)
حكم القمار والميسر
السؤال
هل الميسر أو القمار مما يلعب بالمال، أو بأي شيء مما يملك، أو ما يترتب على أي لعبة كانت مثل بغضاء في النفس؟
الجواب
القمار كما ذكر الله عز جل، هو كل ما كان لعباً يقابله عوض، والخاسر يدفع للآخر، وهذا أيضاً من الأحكام التي ممكن أن يعرفها الإنسان ومما يجب أن يشتري الكتب ويعرفها.(40/15)
تأجيل طواف الوداع
السؤال
أجلَّت طواف الوداع أسبوعاً، فهل عليَّ شيء؟
الجواب
إذا سافر الإنسان فقد انتهى الأمر فكيف يودع؟ من المفروض أن الإنسان قبل أن يحج يسأل عن أحكام الحج، إنَّ أي واحد منا يسافر إلى أمريكا، لا يمكن أن يسافر بدون جواز ولا تأشيرة، ولا بدون التطعيم، ويعرف أنظمة البلد كلها قبل الذهاب، لكن إذا كان يذهب للحج، فيذهب وهو لا يعلم بشيء، من أحكامه وهذا لا ينبغي! يجب أن نتعلم ديننا، وأن نسأل عنه، نأخذ الكتب، وهي توزع والحمد لله بكميات، خذ كتاب الشيخ عبد العزيز بن باز وانظر كيف بين الحج الصحيح وحُجْ، لكن نحن الآن في شهر خمسة، وتسألني أنك مثلاً حججت وما ودعت؟! أقصد أن هذه الأسئلة تعطينا فائدة بضرورة الانتباه والتعلم، ولا حرج على الإنسان أن يسأل عن دينه، لكن يجب أن نتنبه لماذا مثل هذه الأسئلة؟ لأننا نحن المسلمين مقصرون في معرفة ديننا.
على كل حال: عليه دم، والأهم من الدم هو الاستغفار والندم والتوبة.(40/16)
العلمانية وأهدافها
السؤال
ما هي العلمانية وما هي أهدافها، وهل هي نفسها الشيوعية؟
الجواب
العلمانية ليست نفسها الشيوعية.
العلمانية هي باختصار: فصل الدين عن الحياة، أو فصل الدين عن الدولة، قامت العلمانية في أوروبا لظروف وأسباب معينة: منها: أن أوروبا ليس لديها إلا الدين الخرافي؛ وهو دين النصارى الذي بدلوه وحرفوه.
ومنها استبداد رجال الدين.
ومنها: وقوف رجال الدين -كما يسمونهم- في وجه العلم، فهي قامت لأسباب ليست في ديننا ولله الحمد، ولا في تاريخنا ما يبرر شيئاً منها على الإطلاق، ولذلك العلمانية الموجودة في الغرب هي فصل الدين عن الحياة، أن تكون العبودية في الكنيسة، فإذا تدخلت الكنيسة في تنظيم الاقتصاد في البلد قالوا: لا، هذا ليس من شؤونكم، عليكم التوجيه الروحي فقط، وليس من شئونكم الاقتصاد، وإذا تدخلت في عمل سياسي قالوا: هذا ليس من شؤونكم، السياسة لا دخل لها في الدين، كذلك الاجتماع لا شأن له في الدين، وحقوق المرأة لا شأن لها في الدين.
ولذلك كيف جاءت قضية المرأة في الغرب؟ (ومع الأسف هي موجودة عندنا هنا) قضية المرأة في أوروبا نشأت حينما كان المجمع الديني -مجمع كبار رجال الدين- يقول -كما حرفوا في الإنجيل وكتبوا بأيديهم وقالوا: هذا من عند الله، وما هو من عند الله-: إن المرأة حيوان نجس، وإنها قذر، وإنها وحش، وإنها كذا وكذا، فنفروا منها.
فأرادت المرأة أن تتحرر -كما زعموا- فكانوا يقرأون في التوراة أن نبي الله سليمان -عليه السلام- كان لديه سبعمائة زوجة مثلاً، لما أرادوا أن يتحرروا، قالوا: نثور على هذا الوضع الذي يزدري المرأة، ونثور على تعدد الزوجات، ونثور على إهدار كرامة الإنسان، والمرأة إنسان، والمرأة نصف المجتمع، وكان هناك أيدي يهودية خبيثة ما تزال تعمل وراء تحرير المرأة، فهذه القضية نحن المسلمين استوردناها، فعندما تجرى مقابلة مع صاحب بقالة ما رأيك في تعدد الزوجات؟ سبحان الله العظيم! هل هذه مسألة رأي؟! بعض الصحفيين ينبغي أن ننصحهم، وأن نبين لهم في الحقيقة أنهم يسيئون إلينا نحن كأمة لها دينها ولها كتابها، فأنت تسأل عن شيءٍ الله عز وجل وضحَّه في كتابه، فمن منا يجهل هذا الشيء؟ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ألم يتزوج عدداً من الزوجات؟ والصحابة والمسلمون إلى اليوم كذلك، فما معنى هذا السؤال؟ هل لأي إنسان كائناً من كان، رأيٌ مع كتاب الله وسنة رسوله؟ من هذا الإنسان الذي يملك أن يقول: أنا رأيي في قضية كذا وقد قال الله عز وجل فيها شيء؟! يقول ابن عباس رضي الله عنه في قضية فقهية معروفة - للصحابة أفضل الأجيال-: [[أقول لكم قال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقولون: قال أبو بكر وعمر، يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء]] لا يمكن أن تأخذوا بكلام أبي بكر وعمر، وتتركوا كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
نحن الآن مع الأسف! يراد لنا أن نترك كلام الله، ونأخذ ما تردده أذواق اليهودية الغربية أو العلمانية الغربية الملحدة؛ فالمرأة عندهم لا علاقة لها، المرأة عندهم يُشرِّعون لها من عند أنفسهم، والاقتصاد يشرعون له من عند أنفسهم، والسياسة يشرعون لها من عند أنفسهم؛ حسبما يرون هم، أما الدين فلا دخل له في هذه الأمور، ونحن ولله الحمد قد أكمل الله لنا ديننا، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فمن جاء فما عليه إلا الاتباع والتنفيذ، وليس هناك شيء أكثر من ذلك.(40/17)
حكم الإحرام لدخول مكة
السؤال
هل إذا غاب شخص عن مكة أكثر من أربعين يوماً لا يدخلها إلا بإحرام، وما هو الدليل؟
الجواب
ليس هناك دليل، ولكن يستحسن للإنسان أن يعتمر، أما التحديد بالأربعين فلا أعلم له دليلاً، والعمرة إنما تجب مرة واحدة، ولكن من حيث الاستحباب، ففيها أجرٌ وفضلٌ كبير.(40/18)
حكم تأخير الصلاة
السؤال
هل في تأخير صلاة الجماعة للانشغال بطلب المعيشة عبودية للمال؟ مع أن هناك ظروف خاصة تجبر الشخص؟
الجواب
ظروف العمل إن كانت وظيفة؛ فيجب عليك أن تكلم المسؤول عن الإدارة، وأن تشرح له، وستجد بإذن الله التجاوب؛ لأنك لن تكلم إلا مسلماً ولله الحمد، أما الذي لا يصلي، أو لا يريد الصلاة؛ هذا ليس مسلماً أصلاً، كان الصحابة -رضي الله عنهم- كما ثبت عنهم، [[لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة]]، فيجب أن تكلمه، وأن يجعل عمل الإدارة موافقاً لوقت الصلاة، وإذا كان دكانك تقفله، وأما عن كونها عبودية، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر عن مسلمي آخر الزمان أن أحدهم يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، فإن كنت ستبيع صلاة الجماعة، وتدع بضعاً عشرين درجة بمكسب ريال أو ريالين أو ألف أو مائة فهذه عبودية.(40/19)
تحقيق العبودية
السؤال
بم يكون تحقيق العبودية؟ وكيف التخلص مما نحن فيه؟
الجواب
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيَّن لنا كيف نتخلص من ذلك وأخبر بما سنقع فيه فقال: {إذا تبايعتم بالعينة، وتركتم الجهاد، وأخذتم بأذناب البقر، سلَّط الله عليكم ذلاً لا يرفعه حتى ترجعوا إلى دينكم} وهكذا قال كثير من السلف: 'لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها' كيف التخلص مما نحن فيه الآن، نرجع إلى ديننا ونرجع إلى ما كان عليه الجيل الأول.(40/20)
حكم بيع الدخان
السؤال
الدخان هل بيعه حلال أو حرام؟
الجواب
حرام(40/21)
الصوفية والتحذير من أورادهم البدعية
السؤال
الصوفية تنشر أدعية مثل دعاء نصف شعبان، ودعاء العددية أو كذا، كيف يكون التخلص؟
الجواب
عليك التبليغ عن هذه الأشياء للمسئولين، وعليك أن تنصح من يراها، وعليك ألا تقتني هذه الأذكار البدعية، بل اشتر كتاب الأذكار، أو كتاب صحيح الكلم الطيب، واعرف كيف تذكر الله عز وجل واعلم أنه، ينبغي عليك أن تذكر الله وأنت في عملك، وفي الطريق، وقبل النوم، وقبل دخول الخلاء وبعد الخروج، أذكار معروفة اقرأها وتعلمها، وهكذا الكون العبودية(40/22)
المحبة الطبيعية للأهل والمال والولد
السؤال
هل حب الأهل والمال والولد محبة لا تصل إلى درجة محبة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تعد من العبودية لغير الله؛ وخاصة أنها غريزة وضعها الله في البشر؟
الجواب
الحب الطبيعي والحب الفطري الذي جعله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يكون من هذا القبيل، كما في الآية، والله عز وجل أنه إن كان الآباء، والأموال، والعمارات، والبنوك، أحب إليك من الله ورسوله، وتقدمها على محبة الله، وتؤثر محبة الزوجة، أو الأهل، أو الولد على طاعة الله، فهنا المحذور أما إذا أحببتهم بما أودع الله، فلا شيء في ذلك، بل {جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرآه يقبل أحد الصبيان فقال: إن لي عشرة من الولد لم أقبَّل واحداً منهم، فقال: من لا يرحم لا يرحم} أو قال: {وما أصنع إن نزع الله الرأفة من قلبك} فليس هذا من العبودية، إلا إذا شغلك عن طاعة الله، ولذلك يقول الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون:9] فلم يقطع المحبة من أصلها، وإنما منع أن تلهينا عن ذكر الله.(40/23)
من أحكام التيمم
السؤال
من أصابته الجنابة؛ وقد حان وقت الصلاة، فتيمم وصلى خشية فوات وقت الصلاة؟
الجواب
وقت الصلاة -والحمد لله- طويل، لا تكون صلاة إلا ووقتها واسع، لا تنتظر إلى آخر الوقت ثم تذهب وتبحث عن الماء وقد ضاق الوقت، ينبغي عليك أن تبذل جهدك من أول الوقت؛ للبحث عن الماء، فإذا فعلاً ضاق الوقت ولم تجد، أو كنت مسافراً، أو منقطعاً، فجائز التيمم ولله الحمد.(40/24)
البنوك الربوية
السؤال
البنوك الربوية أهلكت شعبنا بالمال الحرام ما هو مدى محاولة العلماء في مكافحة ذلك؟
الجواب
لماذا تسأل عن العلماء، ولا تسأل عن نفسك يا أخي جزاك الله خيراً، كل معصية نعصي الله تعالى بها، فنحن مسئولون عنها جميعاً، العالم يجب أن يقول: هذا حرام، وأنا يجب أن أنكر بما أستطيع، أقل ما أعمل في إنكار هذا المنكر أني لا أضع مالي فيها، أما أن أضع مالي وأساهم، وأقول: العلماء ماذا قالوا؟ لا يا أخي، كل واحد منا ينظر لنفسه هو، انظر أنت ماذا قدمت وبماذا أنكرت المنكر؟ أقل ما يجب عليك من درجات إنكار المنكر ألا تفعله أنت؛ فإذا لم نفعله أنا وأنت وفلان وفلان، ما أعطينا البنك شيئاً، فإنه سوف يقفل، ويعلن الإفلاس.(40/25)
حقيقة الديمقراطية
السؤال
هل معنى الحرية هو الديمقراطية كما يقولون؟ وما رأيك في مفهوم الديمقراطية، وهل في الإسلام ديمقراطية؟
الجواب
الحرية والديمقراطية هي كما قلنا في الغرب حرية الشهوات، وحرية التمرد على الله عز وجل، وحرية العبودية لغير الله عز وجل، أما الحرية الحقيقية وهي التي تتحقق بها كرامة الإنسان، وهي أن لا يُعبد إلا الله , ولا يُخضع إلا لله، ولا يطاع إلا الله، فهذه مفقودة في الغرب تماماً، والديمقراطية الموجودة اليوم في العالم الغربي هي ستار، ونحن -والحمد لله- جميعاً نقرأ الصحف ما يسمى اللوبي اليهودي -مثلاً- في أمريكا، كيف استغل هذه الديمقراطية، فهو الذي يتحكم في مصير الانتخابات، وفي مصير البلد بكامله، ويوجه الإذاعة، ويوجه الصحف، ويوجه كل شيء، فهذه الديمقراطية المدعاة والمزعومة لا يستفيد منها إلا أرباب الأهواء والشهوات، وأرباب رءوس الأموال الذين قال الله تعالى عنهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:19] هؤلاء يحبون أن تشيع الفواحش؛ فيبيعون الخمور والمخدرات، ويحبون وجود الدعارة، والربا، وكل الموبقات ليكسبوا وينهبوا الناس باسم الديمقراطية.
أما هل في الإسلام ديمقراطية؟ الله عز وجل رضي لنا الإسلام، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فما رضي لنا الإشتراكية ولا الديموقراطية ولا القومية، ولا أي تسمية أخرى، وقال: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج:78] فلن يرضى أن يسمينا بأي اسم آخر، ولا يرضى لنا أن ننتسب إلى أي ملة أخرى.(40/26)
عادات غربية وافدة
السؤال
بنات بعض المسلمين يقلدن الحضارة الغربية في الزواج وما أشبه ذلك، أرجو من فضيلتكم مزيد شرح لما ذكر؟
الجواب
هذا جزء من عادات كثيرة جداً استوردناها، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شرع لنا السنة المثلى في الزواج؛ التي لو طبقناها لعفّ الشباب وأُحْصِنْ، ولما رأينا تكدس الفتيات في البيوت دون وجود من يخطبهن، مع شدة تطلع الشباب وتلهفه بأن يتزوج ولا يجد؛ لأننا وضعنا من الحواجز ومن العقبات، ما لم ينزل الله تعالى بها من سلطان، ولذلك أخشى على كل من وضع عائقاً من هذه العوائق أمام الشباب، أو الفتاة المؤمنة أن يأثم عند الله، وقد يشارك في الإثم، أي من يفعل فاحشة إثمه ثابت؛ إلا إذا تاب لكن من وضع عائقاً، وكان سبباً في وقوع الفاحشة من الابن أو البنت، فهو كأنه شريكٌ له في الإثم، فاحذروا من ذلك.(40/27)
حكم من نذر الصيام ثم حصل له عذر
السؤال
نذرت زوجتي إذا شفاها الله أن تصوم خمسة أيام، وعندما شفيت من المرض حصل لها مرض ولم تتمكن من الصيام؟
الجواب
إذا شفيت إن شاء الله تصوم.(40/28)
حكم العمل في البنوك الربوية
السؤال
ما حكم العمل في البنوك الربوية، مع العلم بأنني لا أملك مالاً أستطيع أن أعيش به وأن أعمل عملاً آخر، فهل يجوز لي أن آكل هذا المال؟
الجواب
قضية أنني لا أملك عمل، هذا عجيب، فالكلية العسكرية تبحث، والأعمال التجارية تبحث، كم يمكن للبنك أن يوظف؟ ثلاثين موظف، فهل كل العالم هكذا، لا تعمل إلا البنوك، أليس من الممكن أن يستغني البنك عن هؤلاء الثلاثين؟ يمكن، فتجد العمل، وتجد الحلال بإذن الله عز وجل.(40/29)
حكم تارك الصلاة
السؤال
ما حكم تارك الصلاة، وهل يجوز الأكل معه، وإن كان معي في العمل ماذا أفعل؟
الجواب
تارك الصلاة إذا أصر على تركها فهو كافر، ولا بد أنكم تسمعون الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين والشيخ الفوزان وأكثر علمائنا اليوم، وكان كذلك كل الصحابة رضي الله عنهم، وأكثر الفقهاء يرون المُصرّ على ترك الصلاة كافر، وليس مسلماً، وإنما يمنع العلماء من أن يدفنوه في مقابر المشركين أو لا يصلون عليه، لأنهم لا يدرون أصلى أو لم يصلِّ.
لكن أنت لو تعلم إنساناً معيناً مصر على ترك الصلاة؛ لا يجوز لك أن تصلي عليه، ولا أن تحضر جنازته، ولو فعلنا هذا لارتدع تاركو الصلاة وخافوا، لكن نحن الآن متعاونين معهم، إذا كان معي في العمل يجب أن أنصحه، كذلك في البيت، أو في الشارع، وأن أنصح أيضاً المسؤول الذي يستطيع أن يؤثر عليه إن كان يمكن ذلك.(40/30)
حكم دعاء الرسول
السؤال
رجل ذهب إلى شباك قبر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسأل حاجته.
الجواب
الدعاء لا يكون إلا لله عز وجل، الدعاء هو العبادة، وهو مخ العبادة، والدعاء بيّنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنا، وبيّن الله كيف ندعوه، ولم يرد في شيء من هذا الأدعية أننا نتوسل بجاه الرسول أو ندعوه، والمجال لا يتسع أكثر من ذلك.(40/31)
تربية النفس بطرق الصوفية
السؤال
ألا تعتقدون أن هناك فائدة في تربية النفس من الطرق الصوفية المعتدلة؟
الجواب
من لم يعتقد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء بالكمال كلهُ وبطريق الخير كله، فهو لم يصدق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن منا يرضى ذلك، الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين لنا طريق الخير، والصحابة رضي الله عنهم تربوا أعظم التربية دون أن تكون هناك الصوفية، ولا طرق الصوفية، لا معتدلة ولا متطرفة، فكيف نقول نحن الآن نأخذ بالمعتدلة، وما هو معيار الاعتدال الذي تعرف به؟ إذا عرفت المعتدلة فمعناه أنك تعرف المتطرفة، إذاً اترك المعتدل والمتطرف، وانظر للسنة التي فيها تعريف المعتدل وغير المعتدل، فالسنة بين أيدينا، والعبادة لم يضيقها الله علينا، فاعبد الله كما أمرك عز وجل ويكفيك هذا.(40/32)
حكم تفضيل أنظمة الغرب على الإسلام
السؤال
ما حكم من اعتقد أن تعليم الغرب وأنظمته خير من الإسلام؟
الجواب
نعوذ بالله، هذا هو الكفر الأكبر، أن يعتقد أفضلية أي مذهب غربي، أو أي منهج أو أي فكرة، أو أي مبدأ، حتى لو كانت في جزئية صغيرة، لو اعتقد الإنسان أن شيئاً من سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كالسواك مثلاً- مفضول، وأن هناك من سنة الناس ما هو أفضل منه لكفر، فكيف بمن اعتقد أن هناك مذهباً أفضل من الإسلام كله، هذا -والعياذ بالله- عدوٌ لله ورسوله، وهذا لا ينبغي أن يوجد ولا أن يعيش بين المسلمين.(40/33)
حكم الأمر بالمعروف
السؤال
ما رأي فضيلتكم في الأمر بالمعروف؟
الجواب
هذا واجب.(40/34)
واجب الوالد تجاه ولده
السؤال
ما يفعل الوالد إذا كان ولده لا يصلي؟
الجواب
لا بد أن يجاهده، وأن يأخذه بالحسنى وباللطف، وبالترغيب وبالترهيب، حتى إذا بلغ الغاية؛ ولم يستطع، فلو أدى به الأمر بعد أن يبذل جميع الوسائل من الاستعانة بأصدقائه وبأقربائه؛ أن يطرده، فلا بأس، لكن ما دام في الأمر أمل فلا يضيعه؛ لأن الذي خارج البيت هو شر من داخله.(40/35)
احترام رؤساء العمل
السؤال
هل احترام الرؤساء في العمل يعتبر عبودية، وإذا كان كذلك فهل يترك المرء عمله؟
الجواب
عملك أيها المسلم يجب أن تتقنه، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرنا بإتقان العمل، وأمرنا أن نؤديه، لكن العمل لا يكون في معصية الله، فإذا كان رئيسك أخطأ وأمرك بشيء فيه معصية الله، فقل: هذا لا يجوز، وهذا حرام، فلا ينبغي لك أن تطيعه في معصية الله، فأي عمل فيه معصية؛ لا يجوز لك أن تطيعه فيه، لكن إذا أمرك في وظيفتك بطاعة فيجب أن تلتزم بها.
أما إذا كان العمل فيه معصية، فكيف توظفت في عملٍ فيه معصية؟ وكيف دخلته؟ لا يجوز للمسلم أن يبقى فيه، أو أن يدخل فيه من الأصل، نعم، قد يخطئ الإنسان، ويأمرك بشيء وهو معصية، فتبين له، فيتجاوب إن شاء الله عز وجل، وفي حالة عدم التجاوب -كأن يكون لم يفهم- يمكن أن تبلغ من هو أفهم منه، أو من هو أعلم منه، وبعد ذلك تفكر.(40/36)
الخشوع في الصلاة
السؤال
إن كثيراً من الناس لا تخشع جوارحهم في الصلاة، ويكثرون من الحركات مثل تعديل العمامة أو إلى غير ذلك.
فما الحكم؟
الجواب
قال بعض السلف: 'لو خشع قلب هذا، لخشعت جوارحه' الخشوع روح الصلاة ولبها، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الخاشعين، وإذا كنا نضيع العمر كله في اللهو، واللعب، والسخط فعلى الأقل؛ هذه الدقائق التي نقفها أمام الله؛ نحاول أن نجردها خالصة لله -عز وجل-، وأن نستغفر الله فيها؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شبَّه الصلاة بالنهر الذي يغتسل منه الإنسان، فبقدر ما تغتسل غسلاً نظيفاً، بقدر ما يذهب الوسخ، لكن لو ذهب وألقى نفسه في ماء غير نظيف، وما اغتسل، لا يذهب عنه الدرن، فيجب إتقانه.(40/37)
التقيد بغير المشروع
السؤال
نحن بعد صلاة الفجر نتحلق بقرآن يفسره الشيخ، وعند قراءة آخر آية نكررها جميعاً، ثم يدعو الشيخ ثم نؤمن، ثم نقول كذا بصوت واحد، ثم نقوم ونتصافح؟
الجواب
على كل حال لا ينبغي التقيد بشيء لم يرد، فلا نتقيد بوضع معين، أو نقرأ آية معينة، ونكررها، بعد ذلك نتقيد أننا بعد أن نؤدي هذه الآية نقول: آمين، ثم نصافح، هذه التقييدات كلها غير مشروعة، وغير واردة، وإنما نذكر الله عز وجل كما كان الصحابة رضي الله عنهم، أما أن يختتم بالدعاء، فلا بأس إن شاء الله، وإذا أمَّن الحاضرون إن شاء الله فلا بأس.(40/38)
حكم قول: فداك أبي وأمي
السؤال
هل يقول: فداك أبي وأمي؟
الجواب
لا تقال هذه الكلمة، ولا ينبغي.(40/39)
حكم حلق اللحية
السؤال
ما حكم حلق اللحية مع الدليل؟
الجواب
هناك شيء نريد أن ننبه عليه قبل الموضوع، وهو أننا نحاول أن نعطي أساسيات، فهناك عبادات جعلها الله عز وجل عبادات فردية، وأمانة مؤتمن عليها كل إنسان منا، هذه أمانتك، فخشوعك في الصلاة أمانة عندك، الوضوء هذا أمانة عندك، عندما يقيم المؤذن الصلاة نصلي، ويصلي الإمام بنا، لو صلّى شخص بدون وضوء لا ندري فهذه أمانته، لو شخص في رمضان وهو زميلي في العمل مفطر، لا أدري، هذه أمانة.
وهناك عبادات هي: شعائر، كصلاة الجمعة، هذه شعيرة من الشعائر وواجب عيني على كل مسلم، بها نعرف أن هذا البلد مسلم، أو هذه القرية مسلمة أو لا، كان الرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرسل الجيش، ويقول: {انتظروا إن سمعتم الأذان ارجعوا وإن لم تسمعو الأذان أغيروا عليهم} هذه تسمى شعائر، ومن ضمن الشعائر: إعفاء اللحية، هذه شعيرة ليست مما أؤتمن عليه الإنسان بينه وبين ربه، بل هذه شعيرة ظاهرة، تعرف بها المطيع من العاصي، وتعرف بها أن هذا المجتمع مسلم أو فاسق، هذه الشعائر أهم وأعظم في الوجوب من الجزئيات.
حجاب المرأة فوق كونه عبادة على كل امرأة، هو شعيرة، فكيف أعرف أن هذا المجتمع مسلم؟ أعرف بأنني إذا دخلت أرى النساء محجبات ولا أرى التبرج، فالشعائر أهميتها تأتي من أننا نعرف بها حال الإنسان أو حال المجتمع.
ولذلك كما هو معروف عند الفقهاء أنه لو اتفق أهل قرية، وقالوا: نحن لا نريد أن نصلي الكسوف، أو صلاة الاستسقاء، أو ركعتي الفجر، فقد اتفقوا على وجوب حربها، فيجب أن يقاتلها بقية المسلمين، وأعظم من هذا لو اتفقوا وقالوا: نحن نترك الأذان، ونصلي بدون أذان -مثلاً- أو لا نجهر بالأذان، فيقاتلون عليه، فهذه مما يقاتل عليها، وهم مسلمون، ومصلون؛ لأنها شعيرة، فهذه اللحية من الشعائر الظاهرة، وإذا كنت تحب محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قلبك، وتعلم أن هديه أعظم الهدي، وتعلم أن سنته أعظم السنن، وأنه دين أنقذك الله به، وأنقذ به العالمين من الظلمات إلى النور، ومن طريق النار إلى طريق الجنة، فيجب عليك أن تكون مثله، وأن تلتزم أمره، وأن تلتزم هديه في لحيته، وفي ثيابه، وفي خلقه، وفي سلوكه كله.(40/40)
الدول الشيوعية ومحاربة الإسلام
السؤال
ذكرت أن الشيوعية تقوم بكثير من الأعمال السيئة ضد الإسلام والمسلمين، حتى أن الأحذية تأتي من الصين الشيوعية مكتوب على باطنها (الله)، فما الذي توجهون به الشباب المسلم، وحكم من استعمل هذه الأحذية؟
الجواب
هم قد أهانوا الله عز وجل وحولوا المساجد إلى اصطبلات، وإلى مسارح ومراقص، ويجب أن نعلم أن أعظم المناطق الإسلامية التي فتحها قتيبة بن مسلم، والمجاهدون الأولون الآن هي تحت احتلال الصين، احتلال الشيوعية صينيةً أو روسيةً، هذه مناطق فتحت في القرن الأول، وهذه بلاد إسلامية عظيمة، وهي مصدر الخيرات العظيمة لهذه الدول نفسها، ولولا الخيرات الموجودة فيها؛ لما سيطرت الشيوعية عليها.
فأكثر مناطق الشمال ثلوج ما فيها شيء، فالبترول والخيرات في البلاد الإسلامية المستعمرة المحتلة، فيجب أن لا ننسى هذا، ويجب أن نعلم أنهم أساءوا إلى الله عز وجل بما يبثونه من الإلحاد ليل نهار، ويجب أن نعلم أن سمومهم قد تصل إلينا عن طريق الكتب والأفلام، وأي طريق من الطرق، فلنحذر جميعاً من هذه الأفكار، ونعرف أن ما أصاب هذه البلاد الإسلامية، هو -أيضاً- بسبب ذنوبهم -نسأل الله أن يعافينا وإياكم من موجبات عقوبته- غفلوا عن الله، وأعرضوا عن ذكر الله، فعوقبوا بهؤلاء المجرمين، يقتلون، وينهبون، ويشردون كما يشاءون، وبقية المسلمين غافلون، ثم اقتطعوا أفغانستان ونعوذ بالله لو ترك لهم مجال لربما فعلوا غير ذلك، ولا يردعهم شيء.(40/41)
حكم الالتزام بمذهب معين
السؤال
هل يلزم الإنسان المسلم باتخاذ مذهب من المذاهب الأربعة، وهل يأثم بعدم اتخاذ مذهب معين، وإذا اكتفى من كتب السنة وأخذ الأحكام والعبادات وغيرها، فما الحكم؟
الجواب
لست ملزماً، ولا أي إنسان ملزم إلا باتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما عليك إلا أن تسأل أهل الذكر، وأن تسأل العلماء لتعرف الدليل الصحيح وتعمل به، أما إذا كان الإنسان لا يستطيع التبحر في العلم، أو كان لديه كتب من كتب الفقه في الفروع على أي مذهب من المذاهب ويريد أن يعرف بعض الأحكام ويستنير بها، فلا بأس إن شاء الله، لكن إذا عرف أن حديثاً صحيحاً يخالف ما في هذا الكتاب، أو ما عليه هذا المذهب، فليترك ما في المذهب، وليلتزم بكلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكل واحد من الأئمة الأربعة قال: [[إذا خالف كلامي أو مذهبي الحديث فاضربوا بكلامي عرض الحائط]] ولولا ذلك ما عظمهم المسلمون، ولو أن أحدهم قال: قدموا رأيي على الحديث، ما عظمهم أحد، ولذلك لما سئل الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه عن أمر فقرأ الحديث، فقيل وما رأيك -بعد أن قرأ الحديث- فقال للرجل: [[أتراني في كنيسة، أترى علي زنار، أقول لك: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقول: ما رأيك أنت]]، فلا رأي أبداً مع كلام الله ومع كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(40/42)
حكم الحلف بغير الله
السؤال
ما حكم من يقول بشرفي أو بالنبي؟
الجواب
هذا هو الحلف بغير الله، {من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك}، كما جاء في الحديث الصحيح، فليجتنبها كل إنسان، ولو سبقه لسانه إذا كان في بيئة متعودة هذا، فليستغفر الله وليقل: أشهد أن لا إله إلا الله، ويُكَفِّر ذلك بشهادة أن لا إله إلا الله، وبالإصرار على التوبة.(40/43)
انتشار الصوفية
السؤال
هل الصوفية موجودة في السعودية؟
الجواب
إن شاء الله نرجو أن تُكبت أكثر، لكن البدع لا يخلو منها مكان، وربما في آبائنا نحن، وفينا بعضٌ منها ونحن لا ندري، فأين وجدت الخرافة فهي الصوفية أو مكان للصوفية.(40/44)
حكم إسبال الثوب
السؤال
ما رأيكم فيمن يسبل الثوب تحت الكعبين؟
الجواب
قلنا: إن هذا في النار.(40/45)
حكم التشبه باليهود والنصارى
السؤال
هل يجوز للإنسان المسلم أن يعيش مثل النصراني أو اليهودي -والعياذ بالله-؟ ويقلدهم في أعمالهم وأفعالهم ثم نقول: نحن مسلمون، ونقلدهم في حلق اللحية والثياب؟
الجواب
لا يجوز هذا أبداً، والله عز وجل يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، ويقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وكتب الذل والصغار على من خالفني، ومن تشبه بقوم فهو منهم}.(40/46)
حكم لعن المعيَّن وسبه
السؤال
هل يجوز سب أو لعن من لا يصلي بالذات، ومن يعبد مخلوقاً؟
الجواب
اللعن ليس من شيم المسلم على كل حال، لكن إذا لعنت عموماً؛ لعن الله من عبد غير الله، لعن الله من جاء بهذه الخرافة، لعن الله من ابتدع البدع، هذا اللعن المطلق جائز إن شاء الله، لكن لعن الشخص المعين الأولى أن يجتنب.(40/47)
حكم من مات وعليه صوم
السؤال
إن أمه كانت مريضة، وحضر عليها شهر رمضان، ثم توفيت، وهي لم تصوم هذا الشهر ولديها أولاد فهل عليهم صوم هذا الشهر، أم أنهم يتصدقوا؟ وماذا يفعلون بشأن قضاء ما فات من هذا الشهر؟
الجواب
بر أبنائها بها أن يصوموا عنها، ولهم الأجر إن شاء الله.(40/48)
السبيل إلى الجهاد
السؤال
تطرقت إلى ذكر الجهاد في سبيل الله، فكيف يتحقق ذلك لمن يريده؟
الجواب
ما أسهل ما يتحقق الجهاد في سبيل الله عز وجل، ليس هناك صعوبة في تحققه، على الإنسان أن يجاهد: الجهاد بالقرآن، والجهاد على طاعة الله، وأن يعد نفسه، ولو بالنية؛ كما في حديث {من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق}، {وإن استنفرتم فانفروا} كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعش في جهاد مع نفسك، وأنت تعد بالجهاد الكامل، أو ذروة الجهاد وهو قتال الأعداء في سبيل الله عز وجل، وفكر في هذا، واجتهد أن تطبق ما أمر الله عز وجل على نفسك، ومنها هذه العبودية، وإن شاء الله يتحقق ذلك.(40/49)
حكم التشبه بالغربيين
السؤال
شبابنا هذه الأيام ضائع لا يهمه إلا السيارات الفارهة، واللبس الخليع الشبيه بأحد المغنين الأمريكيين، واقتدوا به في قصة الشعر، وفي الملابس، والأحذية أليست هذه من العبودية؟ وعلى من تقع هذه المسئولية؟
الجواب
المسئولية علي وعليك، وهي عبودية، والمسئولية على كل مسلم، ومن لم يكن اقتداؤه بمحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبئس من يقتدي به! سواء كان هذا المغني الأمريكي، أو كائناً من كان، ويجب على كل مسؤول في كل إدارة أن يحرص على مثل هذه المظاهر، أن لا تنتشر على المدرس، أو الموظف، أو القائد، على كل مسؤول أن ينتبه لمثل هذه المظاهر؛ لأن هذه تخدش في الشعائر، وتجعل الشعائر الظاهرة الإسلامية تختفي، ويحل محلها شعائر الكفر.(40/50)
النزعات العلمانية
السؤال
ما رأيك في الرجل الذي إذا نُصِحَ قال للناصح: اذهب إلى المسجد؟ وهل هذا من أخلاق المسلمين؟
الجواب
لا، هذه العلمانية التي تقول: إن المسجد فقط هو مكان العبادة، الله عز وجل جعل المسجد مكاناً للعبادة، لكن كيف كانت عبادة الصحابة رضي الله عنهم؟ ففي المسجد كانت المحكمة، في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان ديوان الحكم، وكان معقد الجيوش، وكان خروجها، وكان كتابة المجاهدين، كان المسجد يؤدي كل شيء، لو كلامه كان بهذا المعنى، وقال: اذهب إلى المسجد، أي: اذهب هناك حتى تؤثر في الأمة كلها لهان الأمر، لكن ليس هذا المقصود، وإنما المقصود الآن أن الموعظة في المسجد، أما أنا في الشارع فخارج عن عبودية الله -والعياذ بالله- فمفهوم كلامه أنه في مكان خارج المسجد، وكأنه خارج عن عبودية الله عز وجل -والعياذ بالله- وهذا من التمرد ومن الاستكبار عن عبادة الله، والله عز وجل يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، أجارنا الله وإياكم من جهنم.(40/51)
حكم الكذب على مسئول العمل
السؤال
ما حكم الكذب على المسئول لتقديم العذر عند التأخر عن الدوام أو الاستئذان من العمل؟
الجواب
الكذب حرام، ولا يجوز الكذب إلا إذا كان هناك ضرورة لتحقيق مصلحة، لكن كذبت لتضيع الأمانة، أنت مسئول عن عملك، لكن نقول للإخوان المسلمين جزاهم الله خيراً: المسئول أيضاً عليه أن يراعي الظروف، وعلى الموظف أن يعرف الأمانة، وأن يتقيد بها، وإذا تعاونا على ذلك إن شاء الله لا يكون إلا الخير.(40/52)
حكم مشاهدة المسلسلات
السؤال
ما حكم مشاهدة المسلسلات والتمثيليات التي فيها نساء متبرجات؟
الجواب
لا يجوز النظر إليها، ففي الحديث: {العين تزني -إلى أن قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والفرج يصدق ذلك أو يكذبه} فكل عضو من بني آدم كتب عليه حظه من الزنا، وما شاعت الفاحشة وما انتشرت إلا بمثل هذه البلايا.(40/53)
حكم ترك الجمعة لعدة أسابيع
السؤال
ما حكم الذي يترك صلاة الجمعة ويخرج إلى البحر عدة أسابيع متوالية؟
الجواب
هذا قد أخبرنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يختم على قلبه والعياذ بالله.(40/54)
حكم المستهزئ بالدين
السؤال
ما حكم المستهزئ بشيء من شعائر الدين، أو سنن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتقصير الثوب أو الصلاة، أو إطالة اللحى ونحو ذلك؟
الجواب
أقل من هذا المنافقون في غزوة تبوك لم يستهزءوا بشعيرة من الشعائر، أو بسنة من سنن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، المنافقون استهزءوا بالقراء من الصحابة: عبد الله بن مسعود ومعاذ وأبي بن كعب قالوا: ما رأينا مثل هؤلاء أوسع بطوناً، فهم لم يتكلموا في الدين، فماذا قال الله عز وجل لهم؟ قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] فالجواب أن المستهزئ بأي شعيرة من شعائر الإسلام بلحية أو ثوب، وأكبر من ذلك الصلاة فهو كافر، كما كفَّر الله هؤلاء المنافقين، ولا يقبل عذره، حتى وإن ادعى، وقال: أنا لا أريد الكفر، فالمنافقون قالوا: ما أردنا الكفر، نحن أردنا فقط الضحك، لكي نقطع الطريق، فالله عز وجل لم يقل: أنتم أردتم الاستهزاء، وإنما أقرهم على أنهم يريدون الضحك والترويح عن النفس، لكن الترويح عن النفس لا يكون بالاستهزاء بالدين وأهله فهذا الكفر كما قال: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66] نسأل الله أن يعصمنا وإياكم من الكفر والضلال.(40/55)
فضل النفقة على العيال
السؤال
( الكادح على عياله كالمجاهد في سبيل الله) ما قولكم في ذلك؟
الجواب
نعم، ولكن من هو الكادح على عياله، الذي يجمع ما هب؟ الذي يأتيهم بالمحرمات؟ لا، الكادح على عياله هو المسلم الملتزم أيضاً بالأمور الأخرى، فهذه الأحاديث يضم بعضها إلى بعض دائماً، نعم من يكدح ليعف نفسه، ويصون أسرته، ويمنع امرأته من العمل، ومن الخروج، ويمنع ابنته من العمل، ومزاحمة الرجال، ويمنع الأبناء -أيضاً- من الأعمال التي قد تكون فيها حرام أو فسق، وينفق عليهم، فيتعلمون ما ينفعهم ويقربهم إلى الله، هذا كالمجاهد في سبيل الله -إن شاء الله- وينوي أيضاً الجهاد.(40/56)
من أحكام الطواف
السؤال
طواف الزيارة هل يكتفي الزائر بأقل من سبعة أشواط؟
الجواب
لماذا تريد أقل من سبعة أشواط؟ فهذه هي السبعة سبعة، إذا حصل ظرف طارئ، مثلاً أغمي عليه، أو مرض أو غيره يكمل فيما بعد، لكن لماذا يكتفي بستة أو خمسة؟(40/57)
حضور الموالد للمشاهدة
السؤال
هل حضور الموالد لكي يشاهد فقط عليه إثم؟
الجواب
العادة أن أكثر الناس متفرجين، لكنه بعد هذا قد يصبح من أصحابها، أما إن كان بصفة مسئول، أو بصفة مبلغ لمن يهمه الأمر من العلماء ليرى ذلك فلا حرج إن شاء الله.(40/58)
تحليل ما حرم الله
السؤال
بعض الناس يقول عن المحرمات: إنها ليست حراماً؟
الجواب
على كل حال من أحل شيء مما حرم الله عز وجل، فينطبق عليه قول عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه عندما جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو كان يدين بـ النصرانية، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجلسه وأخذ يقرأ آيةً يعرض به فيما كان عليه من الدين، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم قال له عدي: يا رسول الله: ما عبدناهم! فقال: ألم يحلوا لكم الحرام، ويحرموا عليكم الحلال فتطيعوهم؟ قال: بلى، قال فتلك عبادتكم إياهم} هذا نوع من أنواع العبودية كما أشرنا.(40/59)
حكم تأييد الكفار أو موالاتهم
السؤال
نرى بعض الذين لا يتذوقون حقيقة نعمة الإسلام، ولا يرون أنه شامل لكل مطالب الحياة، نراهم يؤيدون الدول الخليعة ويتمنون لو أنهم معهم ويعملون مثل أعمالهم، ما رأيكم في ذلك، وهل يناقض ذلك وجوده مع المسلمين؟
الجواب
هذا ليس منا، فكيف يقيم معنا، من يحتقر نعمة الإسلام، ويقول: إن الإسلام لم يأت بكل خير في كل أمر، ويؤيد الكفار، ويتمنى أنه معهم، هذا لم يعد موالياً لهم، بل لقد صار منهم، والله عز وجل يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51].(40/60)
الفرق بين العلمانية والماسونية
السؤال
ما الفرق بين العلمانية والماسونية؟ وأيهما أشد خطراً على الإسلام؟
الجواب
كلها خطر، العلمانية -كما قلنا- تقول: الدين في المسجد وتحصره بمجال معين.
الماسونية تنظيم سري ليست فكرة وليست مذهباً معيناً، بل تنظيم سري يظهر شعارات معينة تحت اسم الإنسانية، وأعظم شعار يتسترون به الإنسانية، والمحبة الإنسانية، والأُخوة الإنسانية، وعدم التفريق بين بني الإنسان في الدين، أو الجنس، أو اللون، المهم أن يحطوا من قدر الدين، فهذه مداخلها، وهي أنواع، ودرجات: ماسونية ملوكية، وماسونية عادية، وماسونية صغرى، فهو فكر هدام، سري، وهدفه هدم جميع الأديان في العالم لصالح إقامة دين اليهود.(40/61)
حكم عمل الموظف في مصالح رئيسه
السؤال
أنا موظف مرتبط برئيس يصرفني في أعماله الخاصة به طوال الدوام الرسمي فهل علي إثم، وهل راتبي حلال؟
الجواب
على كل حال الرئيس هذا آثم، إن كان هذا الكلام صحيح، فهو الذي يتحمل الإثم، وأنت لا يجوز لك القيام بذلك، لكن بلغ من هو أعلى منه، لعله ينتصح، وقل له أيضاً: إنني موظف عند الأمة جميعاً، وليس عندك شخصياً.(40/62)
محاربة العادات السيئة
السؤال
هل للعادات في المجتمع، لا سيما المغالاة في المهور فيما تجلبه من مفاسد، هل ذلك يعد نوعاً من العبودية؟
الجواب
نعم، فكل ما كان فيه خضوع، وكل ما كان فيه طاعة لوضع معين، وهو مخالف لأمر الله، وتعلم أنه مخالف لأمر الله، تترك أمر الله وتقدمه، فقد قدمت نوعاً من العبودية، وإن كان بعضها أكبر من بعض أو بعضها أخف من بعض.(40/63)
حكم التصوف
السؤال
هل المتصوفة المتمسكون بعقائد خرافية فاسدة يعتبرون من المسلمين؟
الجواب
المتصوفة كثيرٌ منهم خارجون عن الإسلام، ومنهم الجاهل الذي يمكن أن نقول: إنه من المسلمين، ولكن يجب أن ننظر إليهم نظرة أعم.(40/64)
أدلة الدين الحق
السؤال
هناك صورة قلب إنسان مكتوب عليه الله؟
الجواب
نقول: إن الله عز وجل وضع لنا الكثير من الآيات والأدلة التي تدل على أن دينه هو الحق، وعلى أن محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول الحق، وعلى أن القرآن جعل آيات ملء السمع والبصر، أينما نظرت {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] انظر ليدك، وانظر لعينك، وانظر لوجهك، انظر للسماوات، انظر للأرض،
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلسنا محتاجين إلى واحد يأتي يصور لنا القلب ثم يقول فيه: كلمة الله، سواءٌ صحت أو لم تصح، فالأدلة بالملايين، في كل شيء أمامك دليل على الله عز وجل، وعلى أن الله هو الحق، وأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الحق.
ولذلك الله عز وجل ضرب لنا أدلة مما نرى فقال: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} [الغاشية:17 - 19] هذه كلها أمامك انظر إليها، وآمن بالله عز وجل ولا تحتاج إلى شيء غير ذلك.(40/65)
وصية
السؤال
فضيلة الشيخ: هل من وصية أخيرة تقدمونها للمستمعين؟
الجواب
ليس هناك من كلمة إلا ما قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] فنوصيكم وأنفسنا جميعاً بتقوى الله عز وجل ومراقبة أمره ونهيه، والائتمار بأمره، والوقوف عند حدوده، ونسأله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يغفر لنا ولكم الزلل والتقصير وسهو اللسان، وسهو العمل، ويرحمنا برحمته، ويجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً إنه سميعٌ مجيب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(40/66)
الشرك قديماً وحديثاً
في هذه المادة تحدث الشيخ حفظه الله تعالى عن أهمية التوحيد وفضله، محذراً من الشرك وخطره، وعواقبه, ومبيناً أوجه الاختلاف والشبه فيه قديماً وحديثاً، ثم أورد تقسيمات للشرك، موضحاً العقاب المترتب على كل نوع منها.(41/1)
الشرك والتوحيد
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين, أما بعد: فإن مما كان ينبغي أن نتحدث عنه نماذج من حياة السلف الصالح ممن غلب عليهم جانب الرجاء أو عرفوا به؛ لنعرف الفرق بين الرجاء الإيماني الشرعي، وبين مجرد الغرور والأماني وترك الطاعة, لكن كما هو معلوم أن هذا الكتاب - شرح الطحاوية - مجموع من عدة كتب ونقول، وإضافات للمؤلف -رحمه الله تعالى- فنقصه شيء من الترتيب, وشيء من تجميع الموضوعات أو الجزئيات المتعلقة بموضوع واحد في مكان واحد، فالرجاء مثلاً: تكلم عنه المصنف هنا, ثم أدخل فيه الأَسْبَابَ التي تسقط العقوبة ولها علاقة بالرجاء, ثم بعد ذلك أتبعه فقرة أخرى, وهي قوله: 'والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام' فعاد فذكر الخوف والرجاء والمحبة أيضاً, وذكر كلاماً للهروي؛ فلذلك يحسن أن نؤخر بقية الكلام في الرجاء إلى حيث أخره المصنف رحمه الله في الفقرة القادمة إن شاء الله.
وها هنا موضوع عظيم جداً، وهو وإن جاء به المصنف رحمه الله تعالى ضمن الكلام عن الرجاء, فإنه باب عظيم، بل إنه أعظم أبواب العقيدة كلها، وهو يستحق الحديث عنه لذاته دون أن يكون تابعاً لأي موضوع آخر, بل كل موضوع في العقيدة فهو تابع له، وهو معرفة الشرك وخطره وضرره، وبالمقابل معرفة التوحيد الذي هو حق الله تبارك وتعالى على العبيد.(41/2)
أهمية التوحيد
التوحيد هو أعظم ما دعا إليه الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] وكل نبي بعثه الله تبارك وتعالى, وقص علينا ما جرى بينه وبين قومه, نجد أن أعظم وأول ما يدعو قومه إليه هو قوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65] فنوح وهود وصالح وشعيب دعوا إلى هذا، وكذلك دعا إليه موسى عليه وعلى نبينا صلوات الله وسلامه، وكذلك دعا إليه عيسى عليه السلام {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [آل عمران:51] حتى جاء داعية التوحيد الأعظم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فجاهد الناس جهاداً عظيماً على هذه الكلمة -كلمة التوحيد- وعلى ترك الشرك، ونبذ عبادة ما سوى الله تبارك وتعالى، ونبذ اتخاذ الأنداد من دون الله أو مع الله عز وجل، والمصنف هنا إنما ذكر الشرك ليبين من الذي لا يرجو رحمة الله، فالذي لا يرجو رحمة الله هو المشرك، أما من عداه فإنه وإن كان من أهل الكبائر فإن له أملاً ورجاءً في رحمة الله, ولا يجوز أن يقطع هذا الأمل.(41/3)
خطورة الشرك
أما الذين لا أمل لهم، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود:16] فهم المشركون؛ لأن أعمالهم لا تقبل أبداً، كما قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39] وقال سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] وقال تعالى: {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:18] فلا تقبل أعمالهم؛ لأن الشرك هو أقبح القبائح وأعظم الذنوب وأكبر الجرائم والكبائر, وهو الذي يحبط الأعمال كلها, ولا يقبل معه أيّ عمل من الأعمال كائناً ما كان، وإن كان صلاةً أو صياماً أو صدقةً أو دعوةً أو جهاداً أو أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر, مهما بلغ جهد من يجتهد, ومهما كانت عبادته, ومهما توسل إلى الله تبارك وتعالى بأي نوع من أنواع القربات وهو مشرك, فلا يقبل الله تبارك وتعالى منه صرفاً ولا عدلاً.
والمصنف رحمه الله تعالى يقول هنا: 'وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فالمشرك لا ترجى له المغفرة لأن الله نفى عنه المغفرة' لا ترجى له، ولا يرجوها لنفسه، ولا يرجوها أحد له مهما كانت قرابته أو صلته، فهذا عبد الله بن عبد المطلب أقرب قريب لأعظم رسول وحبيب, فهو أبو الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ومع ذلك لم تنفعه تلك القرابة, ولن يشفع له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم القيامة، كما جاء في صحيح مسلم قال: {أبي وأبوك في النار} وكذلك عَمُّه أبو طالب.
وإنما شفاعته له أن يخفف عنه العذاب, وليس أن يخرج من النار، كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] فهذا الشرك بابه عظيم, وشأنه جلل, وهو خطير, ولا بد من معرفته والحذر منه, والتنبه له: كبيره وصغيره، دقيقه وجليله.
ومن أوفى ما كتب في هذا الموضوع الكتاب الذي أشرنا إليه سابقاً, وهو الجواب الكافي لـ ابن القيم رحمه الله، الذي له عنوان آخر هو: الداء والدواء، والكتاب في الأصل هو جواب لسؤال عن كبيرة من الذنوب التي تأتي من قبل الشهوة وأسبابها، لأن الذنوب إما أن تأتي من قبل الشهوة أو من قبل الشبهة، والذنوب الشهوانية مرجعها إلى مرض القلب، وأعظم مرض يصيب القلب من جهة الشهوة مرض العشق.
فناسب أن يستطرد رحمه الله في الكلام على الذنوب وخطرها وضررها، فتوسع في ذلك إلى أن أتى على الذنوب التي لا يرجى معها خير أبداً وهو الشرك، لأنه إذا كانت الفواحش التي دون الشرك مثل الخمر والزنا والعقوق والنميمة وظلم الناس توعد الله عليها بما توعد، فما بالكم بالذنب الأعظم الذي ترجع إليه هذه الذنوب جميعاً؟! والذي لا ينفع معه عمل صالح كما تقدم؟!(41/4)
التوحيد والحكمة من خلق الإنسان
يقول ابن القيم في الجواب الكافي: 'إن الله أرسل رسله وأنزل كتبه وخلق السموات والأرض ليُعْرَفَ ويُعْبَدَ ويُوَحَّد, ويكون الدين كله لله، والطاعة كلها له' هذه قاعدة عظيمة، هذا الذي من أجله خلق الله تبارك وتعالى الثقلين, وأنزل كتبه, وأرسل رسله، والذي كثير من المسلمين قد يتكلم في كل شيء إلا هنا قال: 'ويكون الدين كله له, والطاعة كلها له, والدعوة له وإليه كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقّ} [الحجر:85] وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق:12] '.
فالمقصود أن يَعلم الناس صفات رب العالمين، وأن يعرفوه، وأعداء التوحيد يتهاونون في الأسماء والصفات, ولا يريدون أن يُعَرِّفوا الناس بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا أن يحببوا رب العالمين إلى العالمين, ولكن أهل السنة والجماعة من عقيدتهم أن أعظم شيء في هذا الدين أن يعرف الناس رب العالمين ويوحدوه، والاستدلال على ذلك جلي في كتاب الله؛ فأعظم سورة في كتاب الله هي الفاتحة, وهي تعريف بالله كما بينا فيما مضى، وأعظم آية في كتاب الله آية الكرسي؛ وهي أيضاً تعريف بالله وبصفاته، قال: 'وكما قال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ}، فعلل مرة أخرى {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة:97] ' فالذي لا يعلم ذلك لا خير فيه ولا في عبادته، وإنما شرعت هذه الشرائع, وفرضت هذه الفرائض؛ ليُعْرَفَ الله تبارك وتعالى, ويعبد وحده لا شريك له، قال: 'فأخبر سبحانه أن القصد بالخلق والأمر كما قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54] ' أي القصد والغرض والحكمة من خلق العباد ومن الأمر -من أمرهم ونهيهم- لأن الله تعالى لم يتركهم سدى، ومعنى سدى: لا يُؤمر ولا يُنهى، بل إنما خلقهم ليأمرهم وينهاهم، فيقول إن القصد من ذلك: أن يُعرف بأسمائه وصفاته، ويُعبد وحده لا يُشرك به، وأن يقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25].
فأخبر سبحانه أنه أرسل رسله, وأنزل كتبه؛ ليقوم الناس بالقسط وهو العدل، ومن أعظم القسط التوحيد، وهو رأس العدل وقِوامه، وإن الشرك هو أعظم الظلم كما في قول العبد الصالح لقمان الحكيم: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] فأعظم أنواع الظلم هو الشرك، كما أن أعظم أنواع الأمر بالمعروف الأمر بالتوحيد، لما قال الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41] فأعظم ما يؤمر به هو توحيد الله عز وجل، وأعظم منكر يجب أن ينهى عنه هو الشرك بالله عز وجل، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل:90] فأعظم العدل توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ثم بعد ذلك العدل فيما ولي الإنسان عليه حتى في بيته، وكل إنسان له ولاية بقدر حاله، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته} ولهذا كان {المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين}؛ لأنهم يعدلون في أهليهم وما ولّوا.
قال: 'فالشرك أظلم الظلم، والتوحيد أعدل العدل، فما كان أشد منافاة لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر' أي ما كان منافياً لما خلق الله تعالى من أجله الناس، وأمرهم به فهو أكبر الكبائر.
قال: 'وتفاوتها في درجاتها بحسب منافاتها له' يعني تتفاوت الكبائر بحسب قربها من الشرك، وكل معصية ترتكب فإنها تمس العقيدة بقدر ذلك الذنب وتلك المعصية؛ ولهذا فإن أعظم الذنوب التي تأتي الإنسان من جهة الشبهة والبدعة أعظم من التي تكون من جهة الشهوة؛ لأنها أقرب إلى الشرك، فمن هنا كانت أخطر من الذنوب التي لا يقترن بها شبهة ولا بدعة؛ على أن البدع درجات, كما أن الذنوب الشهوانية العملية أيضاً درجات, وقد نبهنا على هذا فيما مضى.
يقول: 'فتأمل هذا الأصل حق التأمل، واعتبر تفاصيله, تعرف به حكمة أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين فيما فرضه على عباده، وحَرَّمَه عليهم، وتَفَاوُت مراتب الطاعات والمعاصي'.(41/5)
عواقب الشرك
فلما كان الشرك بالله منافياً بالذات لهذا المقصود، كان أكبر الكبائر على الإطلاق، وحَرَّمَ اللهُ الجنة على كل مشرك، وأباحَ دَمَه ومالَه لأهل التوحيد، فالذي رفض وأبى واستكبر أن يكون عبداً لرب العالمين يستحق من العقوبة أن يكون عبداً لمن يعبد رب العالمين.
وهذا مما يدل على فضل التوحيد وأهله، وعلى إهانة الله تبارك وتعالى للشرك وأهله، فلا مُكرِم لهم, ولا قيمة لهم عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كائناً ما كان، وأما هذه المنظمات الدولية التي ترفع عقيرتها بالمناداة بحقوق الإنسان زاعمة أنه لارق في هذا القرن, ولم يعلموا لجهلهم أن أعظم الحقوق على الإطلاق هو حق الله على عباده بأن يُعبد وحده ولا يُشرك معه أحد, لأنه هو الذي من أجله خُلق الإنسان, ومن أجله قامت السماوات والأرض وبه قامت أما أن يكون من حقوق الإنسان -كما جاء في الميثاق الدولي لحقوق الإنسان- أنه يجوز للإنسان أن يغير دينه كما يشاء, ولايحق لأحدٍ منعه؛ فهذا الميثاق إضاعة لأكبر وأعظم حق, وهو حق الله تبارك وتعالى.
نعم أعطى الإسلام الحرية للإنسان ابتداءً في الدخول في هذا الدين {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] لكن بعد ذلك ليس له الرجوع عنه، وإن ارتد قُتل.
فهذا الدين دين الحرية الحقة, الذي يحرر الإنسان من الشهوات, ومن عبادة الشيطان, ومن عبادة الأنداد والبشر والأحبار والرهبان والكهان والأباطرة وغير ذلك؛ ممن ادعى الربوبية أو الألوهية مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهؤلاء لما تركوا القيام بعبودية الله, استحقوا أن يكونوا عبيداً لمن قام بحق العبودية لله وهم المؤمنون، ولذلك إذا ترك المؤمنون التوحيد, سُلِّط الكافرون عليهم عقوبةً لهم, ولأنهم عرفوا الحق وتركوه, وتنكبوا طريقه.
يقول: 'وأبى الله سبحانه أن يقبل من مشرك عملاً، أو أن يقبل فيه شفاعة، أو يستجيب له في الآخرة دعوة، أو يقيل له فيها رجاء، فإن المشرك أجهل الجاهلين بالله، حيث جعل له من خلقه نداً، وذلك غاية الجهل به كما أنه غاية الظلم منه، وإن كان المشرك لم يظلم ربه، وإنما ظلم نفسه' أعظم وأسوأ صفتين في الإنسان واحدة منها تكفي وإذا اجتمعتا فلا شر أكبر منهما، كما قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] غاية الجهل أن يجعل مع الله نداً، وغاية الظلم أن يسقط حق الله ويعطيه لغير الله -أي الشرك- فإذا اجتمع الظلم والجهل, فكل شر في الدنيا خَطَرَ على بَالِكَ فهو آت من قبل الظلم أو الجهل، فالمشرك جاهل بالله لأنه ما قدّر الله حق قدره ولهذا عَبَدَ معه غيره, وهو ظالم لنفسه أشد الظلم، لأنه يصرف حق الله الخالص ويعطيه لغيره من عبد مخلوق مثله فيكون كما قال فرعون وقومه: {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون:47] والمقصود أن أصل الشر والبلاء يأتي من قبل العابدين لا المعبودين من دون الله فهم أسماء سماها العابدون، ولم لم يعبدوهم ما كانوا شيئاً؛ فلو قال قوم فرعون لفرعون حين قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] لو قالوا: لا، أنت بشر مثلنا ما فعل شيئاً، فما بالك بالحجارة وغيرها، فالسبب العابدون، ولذا لا ينفعهم يوم القيامة أن يقولوا: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا} [الأحزاب:67] لأنه لولا هذا الجاهل ما تفرعن المتفرعن.(41/6)
أقسام الشرك
ثم يبين بعد ذلك أقسام الشرك يقول: 'الشرك شركان -وهذا من حيث الأصل- شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته, والآخر: شرك يتعلق بعبادته ومعاملته' الأول: في أسمائه وصفاته وأفعاله، أي فيما هو من خصائصه تبارك وتعالى، أما الثاني: فهو في معاملته وفي عبادته، وفيما يتقرب العباد به إلى الله عز وجل، يقول: 'وإن كان صاحبه -يعني النوع الثاني من الشرك-.
يعتقد أنه سبحانه لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله' ولذلك أهل الكلام من الأشعرية والمعتزلة وأشباههم ماذا يقولون في تعريف التوحيد؟ يقولون: التوحيد أن تعتقد أن الله واحد في ذاته وصفاته وأفعاله، أي اعتقاد أنه واحد ليس مركباً ولا مبعضاً وليس اثنين ولا ثلاثة، وهو واحد في ذاته, واحد في أسمائه, واحد في صفاته, واحد في أفعاله، ومعلوم أن هذا ليس هو التوحيد, بل هذا جزء من التوحيد، ويجب أن يُكَمَّل بأن يُعْبَدَ وحده لا شريك له ويُتَقَرَّبَ إليه وحده لا شريك له, فيكون إخلاصك ورجاؤك ويقينك ومحبتك وإنابتك ورغبتك ورهبتك وصلاتك وصيامك وحجك ونذرك كله لله.(41/7)
شرك التعطيل
قال: 'الشرك الأول -المتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته- نوعان: أحدهما: شرك التعطيل: وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون إذ قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] ' وليس هذا كما يقوله المتنطعون من أهل الكلام: إنه سؤال عن الماهية، أي أخبرني عن ماهيته, وكلام فرعون إنما هو على سبيل إنكار الرب سبحانه، بل زعم أنه هو {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] ولهذا قال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر:36 - 37] وهذا الكلام منه إنما هو على جهة الجحود, وإلا فهو مقر بالله باطناً؛ كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14] ولهذا قال له موسى عليه السلام: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:102] أي أنك تعلم يا فرعون أن الله تعالى هو الذي أنزل هذه الآيات وهذا الدين ففي الحقيقة أن فرعون يعلم أن الله هو الرب وحده، ولا يستطيع أحد أن يدعي أنه رب العالمين، لكنها الشهوات والملك والغرور {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} [الملك:20] وكذلك أن أتباعه كانوا لا عقول لهم، فاستخف بهم؛ كما قال الله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الزخرف:54] فالأمة الفاسقة المتحللة الضالة التي تميل إلى الإباحية والفساد وإضاعة الأوقات، يستخفها المجرمون الكذابون.
ثم قال: 'والشرك والتعطيل متلازمان, فكل مشرك معطل' التعطيل لغة: هو الإخلاء أو الإفراغ، وشرعاً: هو إنكار صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأسمائه، وكل مشرك معطل, وكل معطل مشرك، وتفسير ذلك أنه لما أشرك بالله عطَّل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, عطل أسماءه وصفاته، وعطله مما هو له من خصائص ذاته وكذلك كل معطل مشرك؛ لأنه لما ترك هذه الخاصية من خصائص الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, فإنه قد أشرك معه غيره، وغالباً ما يجعلون بعض هذه الصفات في غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
قال: 'لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل.
بل قد يكون المشرك مقراً بالخالق سبحانه وصفاته ولكنه عطل حق التوحيد' وهذا هو كحال أكثر الناس اليوم يقرون بالإيمان بالله لكنهم مضيعون لحقه.(41/8)
أقسام التعطيل
قال: 'وأصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها هو التعطيل, وهو ثلاثة أقسام: القسم الأول: تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه' أي تعطيل الخلق عن الخالق كما في قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] واعجباً لمن يرى المخلوقات أمام عينيه, ثم يقول: لا خالق لها!! فهذا وأمثاله عَطَّلُوُهَا عن خالقها, أي عن الله تبارك وتعالى.
لذلك فالذين يشركون بالله من الشيوعيين أو الملحدين أو الغربيين لا بد أن يجعلوا خالقاً غير الله في الحقيقة، وفي اللفظ يقولون: هذه لا تحتاج إلى خالق، والذي جعلهم يهربون من افتراض وجود خالق أنهم إذا قالوا الله أو الرب فالمقصود به عندهم هو البابا -صاحب الكنيسة- المكون من ثلاثة أقانيم، الذي تجسد في شكل إنسان, وصلب على الصليب, ثم صعد إلى السماء وغير ذلك مما يحكونه, فلا يمكن أن يكون هذا الذي خلق السماوات والأرض، فما كان لهم حلٌ إلا أن يقولوا: إنه ليس لها خالق!! وخاصة إذا كان هذا الرب الذي تذكره الأناجيل المحرَّفة, ويدعيه البابا وأتباعه, الإيمان به مقرون بالعنف وبالقوة وبالسيطرة, فإذا خالف أحدهم أي شيء من كلام رجال الدين, قالوا عنه: كافر وزنديق، حلال الدم والمال, فكان الإلحاد لهم أسهل، فعطلوها عن الخالق ثم افترضوا الطبيعة، ولكن الطبيعة هي المخلوقات، فتوقف بعضهم (كالربوبيون أو المألهون) وبعضهم قال لا أدري، وهم (اللاأدريون)، واليوم لا تجد عالماً في الطبيعة إلا يؤمن بخالق لكن ليس مثلنا فهم (الربوبيون).
ثم قال: 'والثاني: تعطيل الصانع' أو الخالق، وورد الصانع في حديث: {الله خالق كل صانع وصنعته} وفي قوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] فيطلق لفظ الصانع على الله, والأفضل أن يقال الخالق، قال: 'تعطيل الخالق عن كماله بتعطيل أسمائه وصفاته' هذا النوع الثاني من أنواع التعطيل، فهؤلاء لا ينكرون وجوده ولا أنه هو الخالق، لكن ينكرون أسماءه وصفاته ويعطلونه منها, كما يقول أهل الكلام: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا أنه يغضب، ولا يرضى، ولا ينزل يقولون: حتى لا نقع في التشبيه فينفون صفات الله ويعطلونها, ويثبتون شيئاً شبيهاً بالعدم أو هو العدم.
'والثالث: تعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد' وذلك يكون بالشرك الكلي أو الجزئي.
والكلي: كأن يعبد غير الله سجوداً وصلاةً وصياماً وغير ذلك، والجزئي أن يقع في الرياء مثلاً أو في صرف بعض الأنواع لغير الله في بعض الأحيان، أو في بعض الحالات.
فهذه ثلاثة أقسام من أقسام التعطيل، الأول: إ نكاره، والثاني: إنكار أسمائه وصفاته، والثالث: إنكار عبادته وحقوقه.
قال: 'ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود الذين يقولون ما ثم خالق ومخلوق، ويقولون: ما هنا شيئان بل الحق المنزه هو عين الخلق المشبه' كمثل جماعة محمود محمد طه وأمثاله، وهم من غلاة الصوفية الذين يقولون: لا ثمة خالق ولا مخلوق، والخالق عين المخلوق والمخلوق عين الخالق -والعياذ بالله- هؤلاء بلغوا من الكفر إلى حدٍ لا تستسيغه العقول، وقد قابلني أحدهم لكن ليس هنا، بل في بلاد الحرية، وكان المسجد مليء بالناس، فجاء يقول: إنه هو الله -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- قلت: كيف تقول هذا، ألست مسلماً؟ قال: بلى أنا مسلم، وهذا هو حقيقة التوحيد، فالنصارى كفرت لأنها جعلت الآلهة ثلاثة؛ لكن نحن نقول: كل شيء هو الله.
وهذا كما لقنهم شيخهم المخدوع الهالك، فالنصارى كفرت لذلك، وفرعون كفر لأنه قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] وكان عليه أن يقول: إنه هو وشعبه كلهم رب، نعوذ بالله من هذا الكفر.
وهذا الكفر هو شر وأقبح أنواع الكفر عند جميع أهل الملل.
كل من يعبد الله ويعرف الله، حتى اليهود يعتبرونهم كفاراً, ويوجد في اليهود بعض الحلولية والاتحادية , والنصارى عندهم الذي يزيد على الثلاثة كافر, وعند البوذيين والهندوس هذه النحلة كافرة، ومع ذلك يدعون أنهم هم أهل التوحيد -والعياذ بالله- وبالطبع فـ الجهمية الذين عطلوا صفات الله وأسمائه -كما ذكرنا- نوع من أنواعهم، هذا النوع الأول: شرك التعطيل.(41/9)
شرك الإلهية وأقسامه
يقول: 'والنوع الثاني شرك من جعل معه إلهاً آخر, ولم يعطل أسماءه وربوبيته وصفاته كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة' ويقصد شرك الأنداد، فهؤلاء لم يعطلوا أسماءه وصفاته, لكن قرنوا به غيره، فهم يرون أن الله عظيم وجليل وقدير وسميع وبصير, لكن يقولون: هذه الصفات للربِّ يسوع, ويسوع هذا ابنه أو الأقنوم الثاني, تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً!! ثم قال: 'ومن ذلك شرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور، وحوادث الشر إلى الظلمة' كما قال الله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النحل:51] فالمجوس جعلوا الإله إلهين: إله النور وهذا خير كله، وإله الظلمة وهو شر كله.
ثم قال: 'وشرك القدرية الذين يقولون: إن العبد يخلق أفعاله'.
وذكر من ذلك الشرك: شركَ الذي حاجَّ إبراهيمَ في ربِّه، ففرعون قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] والذي حاج إبراهيم في ربه، ما ادَّعى الربوبيةَ المطلقة, لكنه ادَّعى صفةً من صفات ربِّ العالمين سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, فقال: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] إبراهيم عليه السلام أراد أن يُعَرِّفَهُ بربِّ العالمين، بالصفةِ التي لا يشترك فيها معه غيره، فكان مدخل إبراهيم عليه السلام أفضل وأكثر وسيلة للإقناع (يحي ويميت) لكن جاء الرجل من باب المغالطة قال: أنا أحيي وأميت، فجاء إبراهيم عليه السلام من باب الإلزام, ولو شاء لقال له: إن إحياء الله من العدم, أما أنت فلم تحيه من العدم!! وهنا تتبين قاعدةٌ من قواعد مجادلة المشركين والمجرمين وهي أنه ليس شرطاً أن تردَّ على الكلمة بنفس الكلمة, وأحسن من ذلك أن تأتي بشيء واضح جداً, يدمغ به قول الخصم, كما قال بعدها: {إِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258] مع أن هذا الرجل لم يقل مثل ما قال فرعون: أنا ربكم الأعلى، إنما قال ما يفعله الله أنا أفعله، لكن الخليل عليه السلام جاء بشيء لا يمكن أن يأتي به فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258] فلم يستطع {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258].
إذاً: هناك نوع من أنواع المجادلة العظيمة التي علمنا الله إياها من خلال ما قصه عن إبراهيم عليه السلام ومن يعبد الكواكب ويعبد النار.
ثم يقول رحمه الله: 'ومنهم من يزعم أن معبوده هو الإله على الحقيقة، ومنهم من يزعم أنه أكبر الآلهة' وهذا الكلام الذي نحن نحكيه واقع في الغرب عند الذين يدعون أنهم أهل العقول وأهل الحضارة، فاليونان جعلوا لكل شيء إلهاً أو رباً! -تعالى الله عما يشركون- فالجمال له إله، والمطر له إله، والجبال لها إله، والنور له إله، والشمس لها إله، والشعر له إله، فأيُّ شيء تتصوره في بالك فله عندهم إله، ثم قالوا إن هذه الآلهة تتصارع، هذا الإله يصارع هذا الإله، وغير ذلك من الأساطير الخرافية التي توجد في تواريخهم وعقيدتهم.
فمع هذه الوثنية المنحطة التي يترفع عنها العقل تنسب إليهم الفضائل والحضارات والعلم! ثم ينقل هذا إلى بلاد المسلمين، مثل "فينوس" آلاهة الجمال، و"أبوللو" إله الشعر، و"أطلس" إله العالم الذي يقولون عنه أنه يحمل العالم على ظهره، فتستخدم وتطلق عندنا كما فعل الخبيث نجيب محفوظ في ثلاثياته التي أخذ عليها الجائزة الصهيونية -كما سماها هو قبل العالم الذي أخذها فيه؛ حيث قال: لا يأخذها إلا صهيوني- ففي هذه الثلاثية يذكر قصة مصرية قديمة وفيها أن الآلهة غضبت والإله رضي وهكذا ولا يتحرجون أن يقولوا: آلهه أو إله غير الله، ونحن المسلمين نقول: لا إله إلا الله, وهو شعارنا وكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) ولا تطلق هذه على أحد غير الله تبارك وتعالى.(41/10)
الشرك في العبادة
وأما النوع الثاني من أنواع الشرك فهو: الشرك في عبادته وحقوقه ومعاملته، يقول رحمه الله: 'فهو أسهل من الذي قبله وأخف -قال: فإنه يصدر ممن يعتقد أنه لا إله إلا الله, وأنه لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع إلا الله, وأنه لا إله غيره ولا رب سواه' فهذا أخف من حيث أن فاعله قد وقع في اللبس؛ كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] أي بشرك العبادة، فهذا مقر أنه لا إله إلا هو، ولا خالق ولا نافع ولا ضار إلا هو سبحانه، بل هو مؤمن بأسمائه وصفاته, لكنه غير مخلص لله تعالى في معاملته وفي عبوديته، بل يعمل لنفسه تارة، ولطلب الدنيا تارة، ولطلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الناس تارة، قال: 'فلله من عمله نصيب, ولنفسه من عمله نصيب, ولشيطانه من عمله نصيب' وهذا هو الشرك الأصغر أجارنا الله منه.
قال: 'وهذا هو الذي قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه فيما رواه ابن حبان في صحيحه، قال: {الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل, قيل: وكيف ننجو منه يا رسول الله؟ قال: قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم ' لأنه لا بد أن نقع فيه, فنستغفر مما لا نعلم، ونستجير ونستعيذ مما نعلم.
ثم قال: 'فالرياء كله شرك قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] وهذا الشرك في العبادة يبطل ثواب العمل' فلو صلى لغير الله أو حج أو زكى لغير الله، فهذا كافر مشرك لا شك فيه، لكن إذا صلى مراءاة من أجل الناس، ومن أجل أن يقال عنه مصلٍ أو يُثْنَى عليه بخير، وبعض الناس -والعياذ بالله- ابتلوا بهذا الابتلاء، كما يذكر العلماء مثالاً: أنَّ أعرابياً كان يصلي فدخل عليه بعض السلف فحسن صلاته، فقال هذا العالم: (أعرابيٌّ ويصلي هذه الصلاةَ الخاشعة!!) فلما سلم الأعرابي قال: (ومع ذلك أنا صائم)!! -عافانا الله وإياكم من هذا البلاء- فلا يأمن الإنسان على نفسه أبداً أن يكون من هؤلاء، ممن يحب أن يُحْمَدَ بما لم يفعل، ويراءون الناس، ومن علاماتهم أنهم لا يذكرون الله إلا قليلاً.
والمؤمن في باطنه مع ربه خير منه في ظاهره، أما أن يُذْكَرَ الإنسان بالخير, ويُثْنَى عليه بما هو فيه، فتلك عاجِل بشرى المؤمن، لكن لا يعمل من أجلها، فهناك فرق بين أن يعمل من أجل حصول هذه البشرى، وبين أن تقال عنه؛ ولا شك أن الإنسان لا يريدُ أنْ يقال عنه السوء, ويَأْلَمُ إذا قيلت عنه مقالة في عرضه أو دينه أو في إيمانه ولا ترضيه، لكن هذا أمر وذاك أمر آخر، فهذا يحبط العمل؛ كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه وأنا منه بريء}.(41/11)
شرك لا يغفر
ثم قال: 'هذا الشرك ينقسم إلى أكبر وأصغر' الشرك في المعاملة والعبودية ينقسم إلى أكبر وأصغر، ومغفور وغير مغفور، 'النوع الأول ينقسم إلى كبير وأكبر وليس شيء منه مغفور' النوع الأول شرك منه كبير، وشرك منه أكبر, ولا شيء منه أصغر، أما هذا النوع فمنه أكبر, كمن يصلي لغير الله أصلاً, أو كمن يكون رياؤه في أصل الدين، كالمنافقين الذين يشهدون أنه لا إله إلا الله رياءً، أما الذي يشهد أن لا إله إلا الله, وآمن بالله, وصدق بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبالقرآن عن حق, فرياؤه في بعض عبادته: (في جهاده أو في صلاته أو في دعوته) فهذا يدخل في الكبائر, وقد يحبط العمل وقد لا يحبطه, وذلك بحسب قوته, وهذا الذنب مغفور, وليس معنى قولنا مغفور: أنه لا يؤاخذ عليه، كلا! بل نقصد أنه داخل تحت المشيئة؛ بخلاف الشرك الأكبر، فإن الله تعالى لا يغفره، ثم ذكر بعد ذلك شيئاً من أنواع هذا الشرك، مثل: شرك الألفاظ, وشرك الإرادات, وشرك النيات إلى آخر ما ذكره رحمه الله تعالى مما بين به حقيقة هذا الذنب العظيم، نسأل أن يعافينا وإياكم والمسلمين من ذلك.
والله أعلم, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(41/12)
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم
تحدث الشيخ حفظه الله في هذا الدرس عن محبة الرسول صلى لله عليه وسلم بمقتضياتها ولوازمها، وذكر معنى المحبة وتعريفها، وفرق بين المحبة الشرعية ومجرد الميل العاطفي للقلب، ثم تحدث عن الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم، مبيناً عقيدة أهل السنة في النبي صلى الله عليه وسلم، وأقوال المبتدعة فيه، وتحدث عن أسباب الغلو، ثم ذكر الأوصاف التي وصف بها المبتدعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مختتماً حديثه بذكر بعض الأبيات من القصيدة النونية لابن القيم.(42/1)
المحبة الشرعية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: معنى المحبة في اللغة معروف، وهي في الشرع: أمر زائد على مجرد الميل الطبيعي للمحبوب؛ فمحبة الله تعالى، ومحبة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومحبة المؤمنين، ومحبة ما شرع الله من الدين، هي أمر زائد على مجرد الميل الطبيعي إلى شيء من ذلك؛ إذ لا بد فيها من جانب اختياري تكليفي.
وباصطلاحاتنا المعاصرة أقول: إن المحبة الشرعية ليست مجرد عاطفة متعلقة بالوجدان وحده، وإنما هي متعلقة بالوجدان والعاطفة، والعقل والإرداة، والعمل: عمل القلب، وعمل الجوارح؛ إذ أنها جزء مهم من الإيمان.
والإيمان عند أهل السنة والجماعة كما هو معلوم للجميع قول وعمل، أي: قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، كما هو مبين في مواضعه.
وعلى هذا فمن ظن أن محبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي مجرد الميل الطبيعي والوجداني له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو غالط غلطاً بيناً؛ لأن هذا الظن هو الذي أوقع طوائف من الأمة في التفريط في اتباعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وترك سنته، ونبذ شريعته، وترك تحكيمه، وترك التأدب معه، وأوقعهم في التقديم بين يدي هديه وحكمه، هذا مع تعلقهم العاطفي بذاته، وتغنيهم بشمائله، وإعجابهم بكماله، وربما بكائهم لتذكره، ولهجهم بالصلاة والسلام عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكذلك من قال: إن معنى محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي طاعته، وامتثال أمره، والتمسك بسنته، فهو مقصر عن إصابة كبد الحقيقة في هذا، إذ أن هذا هو تفسير لها باللازم والمقتضى.
فالطاعة والامتثال هو لازم المحبة ومقتضاها لا حقيقتها، ومعناها والتحقيق في ذلك: أنها أمر زائد على ذلك يجمع ويشمل ما ذكرنا آنفاً، فالمحبة بهذا الاعتبار أمر عظيم من أمور الإيمان.
وقد بين ذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله تعالى، يقول 'إذا كان الحب أصل كل عمل من حقٍ أو باطل، وهو أصل الأعمال الدينية وغيرها، وأصل الأعمال الدينية حب الله ورسوله كما أن أصل الأقوال الدينية تصديق الله ورسوله، فالعملان القلبيان العظيمان إذاً هما المحبة والتصديق، المحبة هي أصل جميع الأعمال والتصديق هو أصل جميع الأقوال الإيمانية'.
ويقول رحمه الله في موضع آخر: 'أصل الإيمان العملي هو حب الله تعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحب الله هو أصل التوحيد العملي وهو أصل التأليه الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، فإن العبادة أصلها أكمل أنواع المحبة مع أكمل أنواع الخضوع وهذا هو الإسلام'.
وقال: 'أصل الإشراك العملي في الله الإشراك في المحبة، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165].
' وكما هو معلوم أن تأليه الله تبارك وتعالى أو الشهادة بأنه لا إله إلا الله، قيل: إنها مشتقة من الأله أو من الوله، فالأله هو: العبادة، كما في الآية {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127] وأما إن كان من الوله فالمقصود بالوله هو: درجة عليا من درجات المحبة، وهي تعلق القلب بهذا المألوه الذي هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، المعبود وحده لا شريك له.
ومن هنا وقع شرك المشركين حين أحبوا غير الله، وتعلقت قلوبهم به، ونتج عن ذلك أن دعوهم واستغاثوا بهم وعبدوهم من دون الله سبحانه، وصرفوا لهم الحق الخالص لله عز وجل، وهذا المعنى الواسع العميق للمحبة عند أهل السنة والجماعة هو الذي يميز محبتهم عن المحبة العاطفية الهائمة، التي يدَّعيها الصوفية دون أي أساس من الشرع.
وهذه المحبة التي يدعونها هي شحنه عاطفية يمكن أن تفرغ بقصيدة من الشعر أو حفلة أو ذكر أو حضرة، أو بأي نوع من أنواع المتفرغات العاطفية وينتهي مفعولها، بخلافها عند أهل السنة والجماعة؛ حيث تشمل عمل القلب وعمل الجوارح التي ترتبط بعمل القلب، فيكون المحب في هذه الحالة مطيعاً وذاكراً ومتعلق القلب بالمحبوب.
وأما المحبة الصوفية أو المحبة البدعية الهائمة، فهي تلك المحبة التي عبَّر عنها السلف الصالح بأنها زندقة، حيث قالوا: 'من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو المؤمن' وهذا هو القول الصحيح، وقد عبَّر عن هذه المحبة الزنديقية تصديقاً لهذا القول القديم المأثور الشاعر الصوفي المشهور ابن عربي حين قال قاتله الله:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعىً لغزلان، وديراً لرهبان
وبيتاً لأوثان، وكعبةَ طائف وألواحَ توراةٍ، ومصحفَ قرآن
أدينُ بدينِ الحبِّ أَنَّى تَوَجَهَت رَكَائِبُه فَالحُبُّ ديني وإيماني
فلما أصبحت المحبة بهذا المعنى، وأصبحت محبة الله ومحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي هذا الهيام العاطفي الذي لا يحده ضابط ولا قيد؛ وقعت الأمة أو الطوائف التي اعتنقت هذه المحبة في الغلو العظيم، على ما سوف نوضحه -إن شاء الله- في الفقرة المناسبة له، وخرج بذلك عن حد المحبة الشرعية، وحقيقتها، وما ذلك إلا لجهلهم لهذه المحبة التي شرعها الله والتي لا يقبل الله تبارك وتعالى إلا هي.(42/2)
مقتضيات محبة الرسول صلى الله عليه وسلم
لوازم ومقتضيات محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثيرة جداً، نرجو الله تعالى أن يوفقنا لنظم أشتات الحديث فيها:(42/3)
تحقيق الشهادة له صلى الله عليه وسلم
وأعظم ذلك هو تحقيق الشهادة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه رسول الله، هذه الشهادة التي هي ركن التوحيد، والشهادة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرسالة التي تعني طاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل ما أمر، وتعني كذلك اجتناب كل ما نهى عنه وزجر، وتعني تصديقه في كل ما أخبر به، وتعني ألاَّ يعبد الله إلا بما شرع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ولهذا قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32].
فلا بد من اتباعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا بد من طاعته؛ وهذا الاتباع والطاعة يرث العبد بهما محبة الله فتورث محبة الله تبارك وتعالى بذلك، وهذه هي الغاية العظمى التي يسعى إليها كل المؤمنين، كما قال بعض السلف: 'ليست العبرة بأن تُحِبْ، ولكن العبرة بأن تُحَبَّ'.
فمن أحبه الله تبارك وتعالى، فقد وفقه لكل خير، وتحقق محبة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للعبد لا يكون إلا بأن يحقق العبد اتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] وبالطبع اتباع الله واتباع دين الله وشرعه.(42/4)
الاقتداء به صلى الله عليه وسلم
ومن ذلك الاقتداء به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتأسي به، كما قال عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] فلا بد من الاقتداء به والتأسي به في هديه وخلقه ومعاملته وكل أحواله في البيت، والمسجد، وفي الطريق، في السِّلْم، والحرب، وفي كل الأحوال، وهذا الاقتداء هو حقيقة أو هو علامة ولازم تلك المحبة، التي يجب أن تكون كما أشرنا.
وقد ورد حديث عن عبد الرحمن بن أبي قراد رضي الله عنه حسنه الشيخ الألباني بل ذكره في سلسلة الأحاديث الصحيحة في الجزء الذي لم يخرج، قال: {أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توضأ يوماً فجعل الصحابة يتمسحون بوضوئه وذلك تبركاً منهم بوضوئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما يحملكم على هذا -أي: لم تفعلون ذلك؟ قالوا: حب الله ورسوله، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من سره أن يحب الله ورسوله أو يحبه الله ورسوله، فليصدق حديثه إذا حدَّث، وليؤد أمانته إذا اؤتمن، وليحسن جوار من جاوره}.
ولو تأملنا خلق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوجدنا أنه أصدق الناس لهجة، وأنه أعظم الناس أمانةً، وأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحسن الناس جواراً، فهذا نوع وجزء من شمائله العظمى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجب الاقتداء به فيها، وهذا هو تحقيق محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولازمها ومقتضاها.(42/5)
تحكيمه في مواضع النزاع
ومن أعظم لوازم محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحكيمه في كل موضع نزاع، فلا يقدم قول أحد ولا رأيه ولا اجتهاده ولا نظره، ولا حكمه على قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحكمه، يقول الله تبارك وتعالى في هذا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
وهذه الآية كما ذكر ابن القيم رحمه الله في شرح المنازل، هذه الآية شملت مراتب الدين الثلاثه، ففيها المقامات الثلاثة: مقام الإسلام ومقام الإيمان ومقام الإحسان، فالتحكيم في مقام الإسلام {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء:65].
فمن لم يحكم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه لا يكون مسلماً، والإيمان في مقام نفي الحرج {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء:65] فمن انتفى عنه الحرج فهو مؤمن -أي: حكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وانتفى عنه الحرج بما حكم به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا هو المؤمن.
وأعلى من ذلك وأجل هو تحقيق مرتبة الإحسان وهي التسليم المطلق {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] فيسلم المؤمن تسليماً مطلقاً لما حكم به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولما أمر ولما أخبر به من خبر فلا يعرضه لا على عقله ولا على رأيه ولا على مذهبه ولا على قول شيخه، ولا على أي مخلوق أو أي فكر بشري.
وإنَّ مما يجب أن ننبه عليه في هذا المقام، هو ذلك المنكر العظيم الذي وقعت فيه الأمة الإسلامية أو طوائف كبيرة منها مع دعوى محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومع إظهار بعض الشكليات التي يظنون بها أنهم قد أدوا حقه وأظهروا محبته وزعموها، وذلك هو: تحكيم القوانين الوضعية في شئون حياتهم، ومعارضة سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهديه وحكمه وشريعته بتلك الأحكام.
فهذه جرأة على الله، وجرأة على مقام النبوة، بل هي إهدار وحط من مقام الرسالة؛ لأن معنى الشهادة بأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أن يشهد العبد أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أرسل هذا الرسول إلينا لنطيعه ونتبع أوامره، ونلتزم بكل ما يأمرنا به فيما هو إلا رسول مبلغ من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فالذين يرفضون حكم الله ورسوله ولا يقيمون شرع الله ودينه في أنفسهم ولا في مجتمعاتهم ولا في شئون السياسة أو الحكم أو الاقتصاد أو الاجتماع أو مناهج التعليم، أو أي ناحية من نواحي الحياة فلا ينفعهم أنهم يقيمون له الموالد أو ينشدون له الأناشيد، أو يحيون ذكريات بدعية في ليلة الإسراء والمعراج وما أشبهها، ويزعمون بعد ذلك أنهم مؤمنون وأنهم يعظمون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وربما ذهب بهم الشيطان إلى أبعد من هذا فَعَادوا من يُطبِّق سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويتمسك بها ويقتدي بهديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بحجة أنه مبغض للرسول، أو أنه خارج عن هديه، وينبزونه بأشنع التهم، والألقاب.
فهذا من أعظم المنكرات الدالة على أن هؤلاء الناس تركوا محبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يقيمون له وزناً، ولا لرسالته ولا لمقام نبوته ولا لمنزلته عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي فضله الله تعالى بها على العالمين أجمعين.
ولا شك أن هذا مخالف لحال المؤمنين من السلف الكرام والصحابة رضوان الله تعالى عليهم الذين حالهم كما قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51] فلا اعتراض، ولا منازعة، ولا مدافعة، ولا تردد، ولهذا قال: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51].
فلا يكون الفلاح إلا لهؤلاء الذين حكَّموا سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جميع أعمالهم وحركاتهم ولم تكن لهم الخيرة فيما يقضي به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].
فلا اختيار مع أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل التنفيذ والامتثال، هذه هي لوازم محبته وهذا هو تحقيقها، وقد أمر الله تبارك وتعالى تبعاً لذلك بالرد إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59] والرد إلى الله هو: الرد إلى كتابه عز وجل، إلى هذا الذكر الحكيم، والرد إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هو: الرد إلى سنته، بأن يُسأل في حياته ويرجع إليه في الأمور، وبعد مماته يرجع إلى دينه وسنته، وهديه، فلا يكون لأحدٍ إيماناً إلا بذلك، كما قال: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59].
فمن ادَّعى الإيمان والمحبة مع عدم الرد إلى الله ورسوله في مواضع النزاع والاشتباه في أي حال من الأحوال فقد نقض تلك المحبة وهو كاذب في دعواها، ولم يأتِ بلوازمها، ومقتضياتها.
وكما هو معلوم عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الثابت: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}، وقد أشار الشراح رحمهم الله إلى أن هذه اللفظة (عليه أمرنا) فيها الجار والمجرور متعلق بمحذوف يقدر بـ (حاكماً أو قاضياً)، من عمل عملاً ليس أمرنا حاكماً عليه أو قاضياً عليه أو خاتماً عليه فهو رد، فمعنى ذلك: أن أعمال العباد يجب أن تكون تحت أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتحت سنته وهديه وشرعه.
وكذلك في الحديث الآخر يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {فمن رغب عن سنتي فليس مني} فمهما ادَّعى من مدعي محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو راغب عن سنته فليس منه.
وأما صحابته الكرام الذين أحبوه ذلك الحب العظيم فإنهم رضي الله عنهم كانوا متمسكين بسنته، حريصين على التأدب معه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والاقتداء به والاهتداء بهديه، والتأدب معه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعدم التقديم بين يديه.(42/6)
عدم التقديم بين يديه وغضّ الصوت عنده
وأيضاً مما يجب لتحقيق هذه المحبة وهو لازم عظيم من لوازمها: التقديم بين يديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وغض الصوت عنده يكون في حياته كما هو معلوم بالنسبة لشخصه ولذاته، وبعد مماته يكون بالتأدب مع سنته وغض الصوت، فلا يرتفع صوت رأي، ولا فكرة، ولا مذهب، ولا قياس فوق سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد كان الصحابة الكرام، يدركون هذا المعنى غاية الإدراك كما ورد في صحيح مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: {كنا عند عمران بن حصين في رهط منا، وفينا بشير بن كعب، فحدثنا عمران يومئذٍ، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحياء خير كله -قال- أو قال: الحياء كله خير}.
الحديث المشهور المعروف {والحياء شعبة من الإيمان} والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {الحياء خير كله أو الحياء كله خير} هذا بلفظ عام لم يخصص بشيء، فقال بشير بن كعب: {إنا لنجد في بعض الكتب، أو الحكمة أن منه سكينة ووقاراً لله ومنه ضعف} يقول: نجد في بعض الكتب أو في بعض موروثات كتب الأولين أن من الحياء سكينةً ووقاراً ولكن أيضاً، أن منه ضعف.
{قال أبو قتادة: فغضب عمران حتى احمرتا عيناه، وقال: ألا أراني أحدثك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعارض فيه، ثم يقول أبو قتادة: فأعاد عمران الحديث، فأعاد بشير، فغضب عمران}.
ولا شك أن الغضب الثاني أشد من الغضب الأول، فلما رأى أولئك الرهط ثورة عمران، أخذوا يهدئونه قال أبو قتادة: {فما زلنا نقول فيه: إنه منا يا أبا نجيد إنه لا بأس به}.
يقولون: يا أبا نجيد، إن بشيراً هذا منا، إنه ليس من أهل البدع ولا من أهل النفاق ولا من أهل الزيغ والضلال، فما حصل منه هو عمل أهل الزيغ وأهل الضلال وأهل النفاق الذين إذا قيل لهم: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا: إن الأمر كذا، ولكن فلاناً قال كذا، ولكن العلماء قالوا كذا، ولكن المذهب فيه كذا، ولكن الشيخ الفلاني أفتى بكذا، إلى آخر ذلك.
ولذلك الإمام الشافعي رحمة الله عليه، عبَّر عن ذلك تعبيراً عظيماً حين جاءه رجل يسأله عن أمر من الأمور، فقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا -وتلا عليه حديثاً- فقال له الرجل: فما رأيك أنت؟ فغضب الإمام الشافعي رضي الله عنه، غضباً شديداً، وقال: أتراني في كنيسة؟! أترى عليَّ زناراً؟! أقول لك: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقول ما رأيك أنت.
فكانوا يعلمون ويدركون أنه لا رأي لأحد مع كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع هديه، ومع سنته.(42/7)
الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم
يجب أو ينبغي أن ننبه إلى أمر عظيم من لوازم محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الصلاة والسلام عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا الأمر العظيم قد جاء تفصيله في الشرع؛ فهناك مواضع تجب فيها الصلاة والسلام عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصيغة أو بالصيغ الشرعية الواردة في الأحاديث الصحيحة، وهناك مواضع تستحب فيها هذه الصلاة وتتأكد، وهناك أحوال بل نقول: إنها في كل حال، وفي كل وقت الصلاة والسلام على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي قربة وذكر ونافلة وعبادة من أعظم العبادات وأجلِّها.(42/8)
عدم أذيته صلى الله عليه وسلم
مما يجب أن يعلم أن من لوازم محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدم أذيته، كما تفضل الشيخ عبد الله في مسألة الاستهزاء؛ بل إن الله سبحانه بيَّن أن أذيته هي شأن المنافقين {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة:61].
فأي قول فيه نوع من التحقير، أو التقليل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو الحط من قيمته، أو الأذية له أو لسنته فإنه من عمل المنافقين وهذا النفاق هو نفاق أكبر -نسأل الله العفو والعافية- وما من قلب ينعقد على شيء من بغض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو كراهيته ويكون صاحبه مؤمناً قط.
نعم.
الناس يتفاوتون في محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفاوتاً عظيماً، ولكن المؤمن المسلم لا يخلو قلبه أبداً من شيء من محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن قل، أما أن يشتمل قلب أحدٍ من البشر بشيء من كراهيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهذا هو الكفر عياذاً بالله، ولا يجتمع الإيمان مع بغضه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبداً، ومن ذلك عدم إيذائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زوجاته، وعدم إيذائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صحابته الكرام.
فإن من آذاه في زوجاته أو في صحابته فكأنما آذاه في نفسه وفي شخصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الواحد من الناس أو الواحد من البشر من آذاه في زوجته أو في صديقه، أو في حبيبه فلا شك أنه آذاه هو، فكيف بمن آذى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء من ذلك؟! وهذا مما هو معلوم من جميع المسلمين -ولله الحمد- وإنما أحببنا أن ننبه فيه لأهميته، ولعله يأتي بعد ذلك ويزيده إيضاحاً بعون الله عز وجل.(42/9)
الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم
إن بسط هذا الموضوع يحتاج إلى مقام أكبر، وما ذلك إلا لكثرة ما وقع من الخبط والضلال في هذا الباب نسأل الله الهداية والعصمة والعافية، والناس في محبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طرفان ووسط، أما الوسط فهم الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة.
وقد تقدم الحديث عنهم فهم الذين ساروا على مقتضى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمر هذه المحبة، كما ساروا عليه في سالف أمور الدين الاعتقادية والعملية.
ومن ذلك أنهم لم يجاوزوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدره، ولم ينقصوه -أيضاً- حقه.
فمثلاً: الحديث المتفق عليه حديث عبادة بن الصامت الذي يقول فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل}.
هذا الحديث يعمل به أهل السنة والجماعة مع فهمهم لمدلوله وحقيقته، فقد نص على الشهادة بأن محمداً عبده ورسوله.
فعبده تقتضي: ألاَّ يرفع إلى مقام الألوهية، فهو مهما علت منزلته -وهي منزلة عليا بلا شك- وليس أعلى منه أحد من الخلق في المنزلة، مهما بلغ فهو لا يصل إلى مقام الألوهية أبداً فهو عبد، وكماله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما هو بتحقيقه لكمال العبودية لربه عز وجل.
فلم يحقق ذلك أحد من البشر مثلما حققه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو العبد الكامل المصطفى المجتبى الذي استحق أن يوصف بذلك في أعلى درجات التكريم، كما قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1].
فهو عبده، وهو رسوله، فكما أنه لا يزاد عن قدره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكذلك لا يعامل كسائر البشر؛ لأنه رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه ميزة عظمى، كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف:110] فالله تبارك وتعالى فضَّله بهذا الوحي وبهذه الرِّسالة.
فكونه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقتضي كل ما ذكرنا من اللوازم: من الاتباع، والطاعة، وامتثال الأمر، والوقوف عند حدود ما شرع، وأن لا يعبد الله إلا بما جاء به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن لا يقدم على قوله قول أحد كائناً من كان إلى آخر ما ذكرنا فهذا يقتضيه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(42/10)
منزلة النبي صلى الله عليه وسلم عند الناس
أهل السنة والجماعة -ولله الحمد- يثبتون ذلك فهو عبد الله ورسوله، فهم الذين يتمسكون بهديه في العبادة، وهم الذين يتبعون ما جاء به من الشرع والدين، فلا ينقصونه قدره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بل هم أعظم الناس له حباً وتقديراً وإجلالاً، كما سمعنا في محبة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ومن بعدهم، من السلف، وهم أيضاً في نفس الوقت لم يخرجوه عن حده.
فلم يقعوا فيما نهى عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما وقع فيه غيرهم، وهما الطرفان اللذان أشرنا لهما، وهذان الطرفان هما كما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله تعالى، عندما تعرض لهذا الموضوع، فذكر 'أن باب محبة الله ومحبة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس فيها طرفان فطرف أول وهم أشباه اليهود، أما أهل النظر والكلام والمنتسبين إلى العلم جحدوها وكذبوا بتحقيقها، وفريق من أهل التعبد والتصوف والزهد أدخلوا فيها من الاعتقادات والإرادات الفاسدة ما ضاهوا بها المشركين، فالأولون يشبهون المستكبرين وهؤلاء يشبهون المشركين، ولهذا يكون الأول في أشباه اليهود ويكون الثاني في أشباه النصارى'، وهذا من جامع وأدق الألفاظ التي تدل على حقيقة هؤلاء القوم.
أما الطائفة الأولى: وهم الذين فيهم شبه اليهود، فهؤلاء قساة القلوب، غلاظ الأكباد، لم تتخلل محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلوبهم، ولم تخالط شغافها، ولم تنعم وتسر قلوبهم لمحبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل تلك الغلظة والجفوة والقسوة ظاهرة بادية عليهم في تعاملهم معه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يكادون يذكرونه إلا قليلاً وإذا ذكروه لا يصلون عليه ولا يسلمون.
وأشد من ذلك وأشدهم في ذلك من تخلى عن سنته، وحارب أتباعه الداعين إلى التمسك بدينه والتحاكم إلى شريعته ووالى أعداءه الذين يكذبونه ويجحدون رسالته، كمن يوالي اليهود والنصارى والمشركين ويتبع قوانينهم وآرائهم ومناهجهم وأحوالهم وتقاليدهم.
هؤلاء أبعد الناس عن محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم الطرف الأول الذي كان بهذه الأمة فيما سبق شيئ منهم، أو نموذج لهم، وهم الفلاسفة والمتكلمون وغيرهم، ولكن بلغ هذا الأمر ذروته في هؤلاء المتخلين عن دينه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنهم منسلخين عن شرعه بالكلية، نسأل الله السلامة والعفو العافية.
والكلام في هؤلاء لا يحتاج إلى إطالة، فحسبهم هذه الأوصاف، حسبهم جفوتهم وغلظتهم، وإهدارهم لمقام نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأما الطرف الآخر: الذين هم أشباه النصارى وأشباه المشركين؛ فهم في الواقع طرائق شتى، ولهم في الانحراف أيضاً طرق شتى، وعامة المسلمين هم إما منهم أو من أتباعهم نسأل الله أن يردهم إليه رداً حميداً، فقد وقعوا فيما وقعت فيه النصارى من الغلو في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كما غالى النصارى في عيسى غلواً ذهب بهم ذات اليمين وذات الشمال، حتى إنه في بعض الأحيان يكون فيه تنقص لقدر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإهدار لمقامه وهم لا يشعرون، لقد ضلوا في فهم المحبة فجعلوها مسألة عاطفية وجدانية، ولهذا نجد غالبهم يجعلون محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مجرد ذكرى ترتبط بزمن معين أو حال معين، ولا يلقون ولا يسخون سمعا لأمره ونهيه فلا عمل القلب يتحقق ولا عمل الجوارح، وإنما هذه العاطفة الهائمة فقط.(42/11)
من مظاهر الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم
وهذا الغلو في الحقيقة له أسباب كثيرة، نذكر منها ما يلي: أن بعض أولئك الذين غلوا في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من مؤسسي الطرق ومدعي الكرامات وغيرهم، إنما أرادوا بذلك التوصل إلى تعظيم أنفسهم، أو مشايخهم وقدواتهم، ولهذا قال من قال من السلف: الناس يعبدون الله وهؤلاء يعبدون أنفسهم أو يعبدون الخلق لأنفسهم، ويطلبون حظ النفس ومتعة النفس فيما يعملون.
حتى محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطلبون بها حظ النفس من الشهرة، ومن الكرامات، ومن الخوارق وما أشبه ذلك، ولهذا وضعوا قاعدة معروفة عندهم، يقولون: كل ما ثبت للنبي معجزة فهو ثابت للولي كرامة، فيدعون للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكثير من الخوارق والمعجزات، والكرامات، غير ما أعطاه ربه عز وجل من الآيات البينات والكرامات، يدعونها ليضيفوها إلى شيوخهم فيما بعد، وليثبتوها له.
فإذا اعترض معترض لماذا تنسبون هذا للشيخ؟ قالوا: هذا قد ثبت للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأكثر الجهال يثبت ذلك ولا يعارض خشية أن يقال: أنت تنتقص مقام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه التهمة التي دائماً يتهمون بها أهل الحق -كما سنرى إن شاء الله فيما بعد- فيسلم لهم أن هذا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقولون: هو ثابت للأولياء الوراث -يسمونهم الوراث- وارثوا الحقيقة المحمدية كما يزعمون، هذا سبب ولا نطيل فيه.
السبب الثاني: هو التأثر بـ الرافضة قاتلهم الله، فإن الرافضة في غلوهم في حق علي رضي الله عنه، مع الصراع التاريخي المزمن بينهم وبين أهل السنة انتشر وباء التصوف والغلو في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مقابل غلو أولئك في علي رضي الله عنه.
فالمسألة أصبحت ردود فعل من العامة، وعواطف جيَّاشة لا تستند لا عند هؤلاء ولا عند هؤلاء على الدليل العلمي الصحيح والبرهان.
ولهذا آل الأمر إلى أن أسبغوا من أوصاف الألوهية وخصائصها للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مثل ما تسبغ الروافض على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وعلى آل بيته، والصلة بين التصوف والتشيع حقيقة قائمة يشهد بها التاريخ ولا سيما تاريخ الفرق، وليس بإمكاني الآن أن أوضح ذلك أو أن أطيل فيه.
والمقصود أن هؤلاء لما وقعوا في ذلك ناقضوا كتاب الله وصحيح سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فمثلاً: قول الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف:110] هناك كثير من الأدلة على أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشر، وإن أردتم التمثيل فلنذكر مثلاً: فرقة البريلوية.
يقولون: إننا نحن أهل السنة ومعاشر المسلمين نقرأ الآية بخلاف ما أنزل الله، فإن القراءة الصحيحة لها أن نقول: (قُلْ إِنَّ مَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) فهو تأكيد لنفي بشريته، يقولون: الآية تؤكد (إن) توكيد النفي (ما أنا بشر مثلكم) أي: فهو فوق البشر، وأمثال ذلك مما يحدثنا به كتاب الله سبحانه، ومثلاً قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم وإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله} كما تقدم من حديث عمر.
هذا القول وهذا النهي منه صلى الله عليه وسلم ضربوا به عرض الحائط، فغلوا فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غلواً عظيماً فاحشاً، وما أكثر ما نسبوا إليه من خصائص الألوهية، فجاروا بذلك وخرجوا من الملة.
مثلاً: ينسبون إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن بيده مقاليد السماوات والأرض، وأن له أن يقطع من أرض الجنة كما يشاء، وقالوا: إنه يعلم الغيب، وإنه يعلم سر الروح وحقيقة الروح، وإنه يعلم متى تقوم الساعة، وأنه يعلم الخمس التي ذكرها الله سبحانه في كتابه وهو مختص عز وجل بعلمها.
يقولون: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مطلع على ذلك وعالم بما فيه، كيف وقد قال قائلهم:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
فماذا بعد هذا الغلو من غلو نعوذ بالله من الضلال؟ فهكذا غلوا فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم يزعمون ويظنون أنهم بذلك يحبونه ويعظمونه.
السبب الثالث: ومن ذلك أيضاً من ما خالفوا به هديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مثلاً: ما ثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زيارة القبور، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} وقال في الحديث الصحيح الآخر: {لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى}.
فخالفوا أمره وناقضوه أعظم المناقضة، وشرعوا شد الرحل لزيارة قبره وفرضوه فرضاً، وقالوا: إنه وإن كان سُنة عند الفقهاء فمن زار مسجده صلى الله عليه وسلم، فإن زيارة قبره وشد الرحل إلى قبره عند الصوفية فرض، وأفردوا كتباً وافتروا أحاديث كثيرة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقَّولوا عليه ما لم يقل، وما أكثر هذه الأحاديث، وقد ذكرها العلماء وجمعها المؤلفون منهم في الأحاديث الموضوعة، ولم يكتفوا بهذا بل شرعوا لمن زاره ولغير زائر قبره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يستغيث به، وأن يدعوه، وأن يستجير به، ورتبوا لذلك أموراً، وهذا من أعظم الشرك؛ لأن كفر الجاهليين وشركهم إنما كان لأنهم يدعون غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويستغيثون به ويستجيرون به.
فأوقعوا هذه الأمة المحمدية في نقيض ما دعا إليه رسول التوحيد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أنه يدعى ويستغاث ويستجار به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجعلوا لذلك أوراداً وصلواتاً وأحزاباً كثيرةً جداً، مثل جامع الصلوات الذي جمعه النبهاني، فلا تكاد تجد فيه أي صلاة من تلك الصلوات إلا وفيها الشرك الصريح، وفيها الحلول، وفيها الاتحاد، وفيها وحدة الوجود.
كقولهم: إنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنسان عين الوجود، والسبب في كل موجود، وأنه مظهر وتجلي لصفات الله سبحانه، وغير ذلك مما وضعوه، وكما وضع البكري -وهو من أقطابهم المتأخرين قبحه الله- ذلك أشعاراً تردد وتنشد في الموالد وغيرها، كقصيدة اللامية التي ضاهت البردة في الشركيات، التي قال فيها:
ما أرسل الرحمن أو يرسل في ملكوت الله أو ملكه من كل ما يختص أو يشمل
ولا ورى من قادح زنده إلا وطه المصطفى عبده نبيه مختاره المرسل
وهو لما يقضي نيلها واسطة فيها وأصل لها يعلم هذا كل من يعقل
وعندما تزعج من مزعج فلذ به في كل ما ترتجي فهو شفيع دائماً يقبل
وعُد له صبحاً وعند العشي وعذ به من كل ما تختشي فإنه المأمن والمعقل
وليقل المكروب في كربه يا أكرم الخلق على ربه وخير من فيهم به يسأل
يقدم فيهم شافعاً كرة قد مسني الكرب وكم مرة فرَّجت كرباً بعضه يذهل
وأنت إن ناهضته مغمراً فبالذي خصك بين الورى برتبة عنها العلا تنزل
فحيث كنت الطب من مهلكي عجِّل بإذهاب الذي أشتكي وإن توقفت فمن أسأل
نسأل الله السلامة والعافية، أين الله إذا كان فإن توقفت فمن ذا أسأل، ورتبوا أنشودة مثل هذه الأناشيد أو حتى عند زيارة القبر أوراداً معينة يأتي الإنسان إلى القبر ثم يستقبله ثم يرفع يديه ويدعو ثم يتوب من الذنوب، ثم يقول بعد أن يدعو الأدعية التي يشرعونها:
يا رسول الله قد ظلمت نفسي ظلمًا كبيراً
وأتيت بجهلي وغفـ ـلاتي أمرًا كبيرًا
وقد وفدت عليك زائرًا وبك مستجيرًا
نسأل الله العفو والعافية، ويزعمون أنهم بهذا يُتَوِبون أصحاب المعاصي من المعصية وهم يوقعونهم في الشرك الأكبر الذي تهون معه كل المعاصي، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
فلو حققوا التوحيد لشملتهم مشيئة الله تعالى بالمغفرة بأن لا يعذبهم أصلاً، وإما بأن يعذبهم ثم يخرجهم من الجنة، أما من أتى بهذا الشرك الذي يلقنونه إياهم فإنه خالد مخلد في النار كما توعد الله به المشركين نسأل الله العفو العافية.(42/12)
الغلو في محبة النبي صلى الله عليه وسلم
وقد بلغ بهم أيضاً الغلو في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن زعموا أنه هو أول المخلوقات، وأنه خُلِق من نور الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولهم في ذلك أعاجيب ينقلونها ومن ذلك الطريقة القادرية، معروفة وهي أشهر وأكبر الطرق، تنتشر في إفريقيا والهند والباكستان والدول العربية انتشاراً عجيباً.
حتى قيل: إن أتباعها يقاربون (300) مليون من المسلمين مع الأسف، فهؤلاء الناس الذين حتى لو حجوا أو اعتمروا أو صلوا لا يرددون إلا أذكار هذه الطريقة، في أثناء الحج أو بعد الصلوات.
وينسبون كتاباً من كتب الطريقة اسمه سر الأسرار إلى عبد القادر الجيلاني، معي الآن مقطع منه فيما يتعلق بهذه الفقرة، يقول: ' اعلم وفقك الله لما يحب ويرضى، لقد خلق الله تعالى روح محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولاً: من نوره وجماله، كما قال الله عز وجل: خلقت روح محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نور وجهي -وهذا كذب لم يقله الله عز وجل- وكما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أول ما خلق الله روحي، وأول ما خلق الله نوري، وأول ما خلق الله القلم، وأول ما خلق الله العقل ' وهذا كله كذب باطل، إلا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أول ما خلق الله القلم}.
يقول: ' فالمراد منها -أي: من هذه الأحاديث المختلفة- شيء واحد هو: الحقيقة المحمدية '، والحقيقة المحمدية اصطلاح فلسفي يطلقه الصوفية على أول المخلوقات، وأول الكائنات، وهو في الحقيقة يقابل العقل الكلي الذي تدعيه الفلاسفة والباطنية، ويقولون: إنه أصل جميع الموجودات، وهؤلاء يسمونه الحقيقة المحمدية.
يقول: ' المراد من هذه الأحاديث شيء واحد هو: الحقيقة المحمدية، فالروح المحمدية خلاصة الأكوان، وأول الكائنات كما قال عليه الصلاة والسلام: أنا من الله والمؤمنون مني، وخلق الله الأرواح كلها منها في عالم اللاهوت وفي أحسن التقويم وهو الوطن الأصلي -انظروا كيف تحريف كتاب الله وتفسيره- فلما مضى عليها أربعة آلاف سنة خلق العرش من نور عين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبواقي الكائنات منه -يعني: من نور النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم ردت الأرواح إلى درك أسفل الكائنات '.
أي: الأجساد، لأن الأجساد في نظر الصوفية هي أسفل الكائنات، كما هي النظرية الهندوسية المعروفة في ديانة الهندوس الفناء: الجسد هو أدنى الدرجات، والإنسان يترقى ويفنى في الاتحاد حتى يتحد بالله عز وجل، تعالى الله عما يقولون.
يقول: ' كما قال الله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:5]-هذا من تفسيرات الصوفية - فلما تعلقت الأرواح وأنست في الأجساد نسيت ما اتخذت من عهد الميثاق في يوم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] فلم ترجع إلى الوطن الأصلي '.
الآن يعلل لماذا بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ يقول: بعث لأن الأرواح تعلقت بالأجساد ونسيت أصلها.
يقول: ' فترحم الرحمان المستعان عليهم بإنزال الكتب السماوية تذكرة لهم، بذلك الوطن الأصلي كما قال تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم:5]، أي: أيام وصاله بما سبق مع الأرواح '.
وهذا ليس بصحيح أبداً أيضاً بل هو من تفسيراتهم، ومثل هذا تفسيرات الباطنية.
يقول: ' حتى أفضت الرسالة إلى الروح الأعظم المحمدي خاتم الرسالة، والهادي من الضلالة، فأرسله إلى هؤلاء الناس الغافلين، ليفتح بصيرتهم، من نوم الغفلة فيدعوهم إلى الله تعالى، ووصله ولقاء جماله الأزلي ' نسأل الله العفو العافية.
نحن نقول: إن هذا الكلام المنسوب للجيلاني لا يعقل أن يقوله، ولم يثبت لدينا قوله، ولكن أصحابه ينسبون ذلك إليه، ولو قاله لما كانت له تلك المنزلة التي ذكرها العلماء عنه، مع ما ذكروا عنه من بعض جوانب البدع.
لكن نحن الآن لا نحاسبه كفرد ولكن نحاسب هذه الطائفة التي غلت في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى هذا الحد، وجاءت بأمثال هذه الخرافات والتي أصلها ما افتراه الزرادشتية والمجوس في أنبيائهم كما نقل ذلك الدكتور طلعت غنام وأمثالهم ممن بحثوا في أصول التصوف.(42/13)
دعوى خلق الكون لأجله صلى الله عليه وسلم
ومن ذلك أيضاً زعمهم -أي: من غلوهم في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن الكون إنما خلق لأجله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن ليلة مولده هي أفضل من ليلة القدر، ويزعمون أن روحه تحضر الموالد والمحافل التي يقولونها، فيزعمون أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حي باستمرار حياة كاملة، وأنه يحضر الموالد، وأنه يخاطب الأولياء، وأنه يكلمهم.
وكم افتروا على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وعلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أمثال هذه الأمور فشرعوا من الدين ما لم يأمر به الله، مثل ما شرع أحمد التيجاني، ومثل المهدي الذي في السودان ممن يفترون على الله الكذب والشاذلي الذي يقول: إن كل طريقة لها شيخ، وأما أنا فشيخي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخذ عنه في اليقظة مباشرة، وأمثال هذا من الغلو الذي يزعمونه.
ولا شك في بطلان ذلك -والحمد لله- لكل ذي بصيرة؛ ولكن العجب!! هو انتشار هذه الطرق، وفتكها لهذه الأمة في غفلة من دعاة الحق، وربما لإقرار أو لتعاون من دعاة الباطل من أصحاب القسم الأول أشباه اليهود الذين يحاربون سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإنهم يغضون النظر عن أمثال هؤلاء ويؤيدونهم، ويشجعونهم، ويعطونهم أعظم المناصب، ويحضرون احتفالاتهم أيضاً؛ لأنهم يعلمون أنها خارجة عن دين الله فهي لا تضرهم، وقد خرجوا هم عن دين الله ولكن من باب آخر، نسأل الله العفو والعافية.(42/14)
الغلو في نعله صلى الله عليه وسلم
والغلو هذا لا يقف عند حد الافتراء والكذب، حتى إن بعضهم افتعلوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشياء لا تزيد في قدره بل ربما يكون في بعضها منقصه له.
مثلاً: افتعلوا أن نعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علت على رءوس جميع الكائنات، وأنها أفضل من جميع المخلوقات، وجعلوا الأمر متعلق بنعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى قال قائلهم:
على رأس هذا الكون نعلُ محمد
سمت فجميع الخلق تحت ظلاله
لدى الطور موسى نودي اخلع
وأحمد إلى العرش لم يؤمر بخلع نعاله
ويقولون: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الإسراء أسري به لربه ولم يخلع نعاله، وأنه قرب من بساط الأنس وخاطبه ربه وكلمه، وأحياناً يقولون: رآه، وهو لم يخلع نعاله فسمت فوق جميع الكائنات، مع أن موسى أمر بخلع النعال في الطور وهو في الأرض، وأمثال هذا الكلام الذي لا دليل عليه.
وفي نفس الوقت لا يزيد إثبات مثل هذا من قيمة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما يقولون: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان القمل لا يؤذيه والذباب لا يقع عليه، فهذا فوق كونه من الكذب المختلق الذي لا دليل عليه، وهذا مما فيه غض ونقص من حق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان فيه قمل لكن لا يؤذيه، أو أن القمل عنده وعند أصحابه لكنه لا يؤذيه.
فما الذي يدعو إلى أمثال هذه الأقوال واختلاق هذا الإفك والله سبحانه قد فضَّله بالمقام المحمود في الآخرة، وقد فضله بالشرف العظيم في هذه الدنيا بالرسالة العظيمة الخالدة التي أعلاها وأظهرها الله سبحانه على جميع العالمين، ليس هنالك من داعي على الإطلاق لأمثال هذه الأمور.(42/15)
الرد على من يدعي أن أهل السنة يكرهون النبي صلى الله عليه وسلم
إن الأمر في هذا يطول والحديث يتشعب، لكن أحب أن أختم هذا بأمر مناسب وهو ما ذكره ابن القيم رحمه الله في نونيته المشهورة من أن أهل البدع يتهمون أهل السنة والجماعة بأنهم يكرهون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو يتنقصون من قدره وهذا هو الواقع في كل زمان ومكان، وهذا الافتراء وهذا الإفك قديم، وابن القيم رحمه الله يرد عليهم بأبيات عظيمة، يبين فيها حقيقة التوحيد وحقيقة الخلاف بين الطائفتين، فمعذرة إذا أطلت عليكم قليلاً وقرأت شيئاً من هذه الأبيات، يقول رحمه الله:
قالوا تنقصتم رسول الله واعجباً لهذا البغي والبهتان
عزلوه أن يحتج قط بقوله في العلم بالله العظيم الشان
عزلوا كلام الله ثم رسوله عن ذاك عزلاً ليس ذا كتمان
واستمر في بيان كلامهم في الصفات وفي غيرها إلى أن قال:
الرب رب والرسول فعبده حقاً وليس لنا إله ثان
فلذاك لم نعبده مثل عبادة الر حمن فعل المشرك النصراني
كلا ولم نغل الغلو كما نهى عنه الرسول مخافة الكفران
لله حق لا يكون لغيره ولعبده حق هما حقان
لا تجعلوا الحقين حقاً واحداً من غير تمييز ولا فرقان
هم خلطوا بين الحقين فجعلوا حق الله للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهكذا، يقول:
فالحج للرحمن دون رسوله وكذا الصلاة وذبح ذي القربان
وكذا السجود ونذرنا ويميننا وكذا متاب العبد من عصيان
وكذا التوكل والإنابة والتقى وكذا الرجاء وخشية الرحمن
وكذا العبادة واستعانتنا به إياك نعبد ذاك توحيدان
يعني هذان توحيدان:
وعليهما قام الوجود بأسره دنيا وأخرى حبذا الركبان
وكذلك التسبح والتكبير والتهليل حق إلهنا الديان، ثم يقول:
لكنما التعزير والتوقير حق للرسول بمقتضى القرآن
والحب والإيمان والتصديق لا يختص بل حقان مشتركان
فالحب والإيمان والتصديق مشتركان بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
هذه تفاصيل الحقوق ثلاثة لا تجهلوها يا أولي العدوان
إلى أن يقول:
ونظير هذا قول أعداء الـ ـمسيح من النصارى عابدي الصلبان
إنا تنقصنا المسيح بقولنا عبد وذلك غاية النقصان
لو قلتمُ ولد إله خالق وفَّيتموه حقه بوزان
وكذاك أشباه النصارى مُذّ غلوا في دينهم بالجهل والطغيان
صاروا معادين الرسول ودينه في صورة الأحباب والإخوان
فانظر إلى تبديلهم توحيده بالشرك والإيمان بالكفران
وانظر إلى تجريده التوحيد من أسباب كل الشرك بالرحمن
واجمع مقالتهم وما قد قاله واستدع بالنقاد والوزان
عقل وفطرتك السليمة زن هذا وذا لا تطغ في الميزان
فهناك تعلم أي حزبينا هو الـ ـمتنقص المنقوص ذو العدوان
أي: تعرف من الذي يتنقص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهم أهل السنة أو أولئك، إلى أن يقول رحمه الله:
والله أمركم عجيب معجبٌ ضدان فيكم ليس يتفقان
يقول: فيكم أمرين الأول: أنكم أنتم تغلون في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جمعتم أمرين:
تقديم آراء الرجال عليه مع هذا الغلو فكيف يجتمعان
كفرتم من جرد التوحيد جهـ ـلاً منكم بحقائق الإيمان
لكن تجردتم لنصر الشرك والـ ـبدع المضلة في رضا الشيطان
يقول: والثاني: أنكم أنتم تقدمون آراء الرجال والشيوخ والمذاهب على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا معروف من حالهم، ومع ذلك يغلون فيه ويؤلهونه بل يؤلهون حتى بعض آثاره كما سمعنا في الكلام عن الحذاء وأمثال ذلك، فيقول: كيف تجمعون بين هذا وهذا، يقول:
والله لم نقصد سوى التجريد للـ ـتوحيد ذاك وصية الرحمن
ورضا رسول الله منا لا غلوا الشرك أصل عبادة الأوثان
والله لو يرضى الرسول دعاءنا إياه بادرنا إلى الإذعان
والله لو يرضى الرسول سجودنا كنا نخر له على الأذقان
والله ما يرضيه منا غير إخلاص وتحكيم لذا القرآن
ولقد نهى ذا الخلق عن إطرائه فعل النصارى عابدي الصلبان
ولقد نهانا أن نصير قبره عيداً حذار الشرك بالرحمن
ودعا بألا يجعل القبر الذي قد ضمه وثناً من الأوثان
إلى آخر مابين فيه رضي الله عنه ورحمه.
نسأل الله أن يهدينا ويهدي ضال المسلمين إلى معرفة محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى التمسك بسنته واتباع هديه إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين.(42/16)
وصايا وقضايا
تحدث الشيخ حفظه الله عن بعض الوصايا والقضايا العامة، فابتدأ بالحديث عن التقوى وأهميتها، ثم انتقل إلى التحدث عن القول السديد، وإمدادات القلب، وبيّن أن اللسان يعبر عما في القلب من خير أو شر.
ثم انتقل إلى الوصية الثانية وهي الصبر مبيناً أهميته، وما أعده الله للصابرين من منازل، ثم ختم كلامه بالحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(43/1)
الوصية الأولى: الاعتصام بالتقوى
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه ومصطفاه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: حقيقة إنها لفرصة أن نتكلم استجابة لرغبتكم -أثابكم الله- وإلا فلا جديد عندي في هذه الساعة، إلا ما أحب دائماً أن أوصي نفسي وإخواني به، ولعله مما يناسب مثل هذا اللقاء -كما نعلم- هو أن أوصي إخواني جميعاً بتقوى الله -تبارك وتعالى- فإنها رأس كل خير، وهي التي أمر الله تبارك وتعالى بها عباده المؤمنين، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71] وكما في آيات كثيرة.
وهذه الآية السابقة لها دلالة ومعنى عظيم، جديرٌ بنا أن نقف عنده وأن نتأمله.
وهو أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- رتَّب على التقوى والقول السديد، أمرين عظيمين وفائدتين كبيرتين؛ فجعل هذه جواباً لتلك، لأن الأمر هنا في قوة الشرط، وكأنه قال: إن تتقوا الله وتقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم.
فما من مؤمن ولا مسلم إلا وهو يريد هذين الأمرين ويتمناهما ويسعى من أجلهما: أن يصلح الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عمله، وأن يغفر الله له ذنبه، وماذا بعد هذا من خير.
وهذا الخير العظيم يحصل بتقوى الله التي هي مراقبة الله تبارك وتعالى في السر والعلن، وامتثال كل ما أمر الله به، واجتناب كل ما نهى الله عز وجل عنه، وأن يطيع العبد الله على نور من الله، وهو يرجو نعمة الله ورحمته، وأن يجتنب ما حرم الله على نور من الله وهو يخاف عذاب الله، وهذا تفسير طلق بن حبيب للتقوى.
وأما علي رضي الله عنه فقد عرفها بأنها: [[العمل بالتنزيل، والخوف من الجليل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل]].
وفسَّرها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه تفسيراً آخر، فقال: [[اتقوا الله حق تقاته: بأن يُطاع فلا يعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يكفر]].
وكل هذه معانٍ واحدة ومتقاربة، والمهم أن يحصل هذا الأمر كما أوصى بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذاً بقوله: {اتق الله حيثما كنت} أي: في بيتك وأهلك وفي عملك؛ اتق الله وأنت وحدك تخلو؛ فإن الإنسان كما قال الشاعر:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيب
فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُطّلع عليك، ومن هنا اتق الله حيثما كنت كل منا في أي قطاع كان وفي أي مجال وفي أي ميدان؛ فهو عبد لله تبارك وتعالى، ويجب عليه أن يتقي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في هذا المجال وفي هذا الميدان؛ وإن بقي في مكان أو نقل أو سافر أو ذهب؛ فيجب عليه أن يتقي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويحقق الله له -بذلك- هذا المكسب العظيم الذي كل واحد منا يسعى إليه.(43/2)
القول السديد
وأما قوله تعالى: {وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [الأحزاب:70]، أي: أن أصل القول هو من التقوى، والقول هو أحد أنواع الإيمان، لأن الإيمان قول وعمل، فأحد ركنيه قول القلب وقول اللسان.
فخص اللسان؛ لأن هناك مصلحة وحكمة عظيمة، وهي: أن أكثر ما يضل به الناس هو حصائد ألسنتهم، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وهل يُكبُّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم}.
وكذلك بالمقابل فعندما يدعو الإنسان إلى الله تبارك وتعالى، ويبلغ كلمة الله ويجهر بالحق، وتتضح السبل؛ فكل ذلك يكون بهذا اللسان أي: (بالقول) فالقول شأنه عظيم, ولهذا قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [الأحزاب:70] والشيء السديد أو السداد: هو الصواب الموفق الذي يُوضع في موضعه، ويقع في موقعه.
فهو بمعنى: القول الحكيم الذي يكون مناسباً لمقتضى حال المخاطب، وينزل على الحالة أو النازلة كما ينزل الدواء على الجرح فيبرأ.
فيكون القول موفقاً صائباً، ويكون عدلاً، كما قال تبارك وتعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [الأنعام:152] أن يكون هذا كما ذكر بعض السلف من أن كل أقوال بني آدم تحصى عليهم، والسلف لهم قولان في المسألة - أي: في قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] وهما: هل يكتب الملكان كل شيء، أم يكتبان ما يتعلق بالحلال والحرام والحسنات والسيئات لأن عليها مدار الحساب؟! لكن الظاهر من لفظ العموم -والله أعلم- أنه ما يلفظ من قول -عامة- فإنه يُكتب.
إذاً فليراقب الإنسان قوله وليتق الله سبحانه فيه، فإذا اتقى الله في أعماله كلها؛ وعلى وجه الخصوص على هذا اللسان وجعله رطباً بذكر الله، وبقراءة كتاب الله سبحانه، بالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر، وبالإحسان، وبالدعوة إلى الخير، وصلة الرحم، والبشاشة في وجه أخيه المسلم، والكلام الرقيق الرفيق اللين الطيب الذي يجذب إليك القلوب، فتنيرها بعد ذلك بما يفتح الله به عليك من خير أو وعظ أو إرشاد، أو ما تريد أن توصله من حقائق الإيمان ومعرفة بالله سبحانه وأسمائه وصفاته، وسننه في خلقة، وما أعد للمتقين وما أعد للمجرمين كل هذه الأمور إذا وفق الله سبحانه الإنسان إليها وكان هكذا؛ فهو على خير عظيم وتتحقق له الفائدة المرجوة بإذن الله عز وجل.(43/3)
الإمدادات التي تمد القلب
جدير بنا أن نعلم ونعرف ما هي الإمدادات التي تمد القلب، واللسان بهذا؛ لأن اللسان يُعبر عما في القلب، بمعنى: أن الإنسان يتكلم في نفسه ثم يتكلم بلسانه.
إذاً فالمدد أو أصل المادة التي تمد القلب إن كانت خيراً ومثمرة ونافعة في صالح الإنسان؛ فإن ذلك يظهر على فلتات لسانه، ويظهر من أقواله؛ وإن كان غير ذلك -ونسأل الله العفو العافية- فلا بد أن يظهر الخبث من كلامه.
إذاً: كيف يمد اللسان القلب؟ إن الإنسان الذي يتكلم بالخير - كأن يقرأ كلام الله وكلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو كلام الصحابة والتابعين، وأهل الدعوة والإيمان والخير والصلاح - لا بد أن يظهر ذلك في كلامه هو؛ لأن القلب تغذَّى بهذا الخير، فيظهر أثر هذا الغذاء ثمرة على اللسان فتنطق بالخير، وينطق بالحكمة.
ولهذا تجدون حُفاظ كتاب الله حتى ولو كانوا صغار السن -سبحان الله- ينطقون بكلام درر، لأنه من خلال معايشته للقرآن.
فإذا اقتبسنا من ذلك التوجيه والتسديد الذي كان عليه الصحابة رضي الله عنهم والتابعون وسلف الأمة؛ رأيت العجب العجاب! إذاً: إذا أردت أن أقول الخير وأعتقده وأتكلم به فعليَّ أن أجعل المادة التي تمده خيراً فإذا قرأ الإنسان اللهو واللغط -فضلاً عن الحرام- لكن اللهو أكثر ما يُنشر الآن، وكل ما يقرؤه الناس غثاءً ولهواً؛ فلا بد أن يظهر على لسانه؛ فتكون أحاديثه لهواً ولغطاً ولا تثمر، وإذا اختلطت المادتان ظهر هذا وهذا؛ فتجد من الذي يخلط أنك تسمع منه الخير وتسمع منه اللغو، وهكذا؛ لكن المؤمن يعلم أن كل لفظ يلفظ به فهو مكتوب، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سوف يحاسبه.
حتى إن بعض السلف رضي الله عنهم جاءته ابنته -طفلة- تقول له: يا أبتاه! أريد أن ألعب.
فأعرض عنها!! فقالت: يا أبتاه! أريد أن ألعب.
فأعرض عنها! وكان عنده أحد العلماء -من جلسائه ورفقائه- فقال له: قل لها: العبي.
فقال: لا أريد أن أجد في صحيفتي لعباً؛ لأنه ما يلفظ من قول إلا ويكتب، فلو قال لها: العبي؛ لكتب عليه ذلك.
نعم! أناس كان عندهم هذه الحساسية، فتراه يُفكر في الكلمة لأنه سيلقاها مكتوبة، ماذا تكون؟ وأما نحن الآن فقلوبنا وأمتنا لاعبة، قطاعاتنا لاعبة؛ بل الآلاف المؤلفة من الأمة في لعب؛ فكم هو العمر؟ سبحان الله العظيم كيف يغتر الإنسان بهذه الحياة ويظن أن فيها فسحة لأن يلعب ويلهو، وأيضاً يعبد الله ويشيد ويبني! ولو فكَّر العاقل في هذه الحياة! لوجد أنه لا يوجد فيها متسع لعاقل أن يلهو عن ذكر الله حتى وهو في الطريق.
فلو أن الإنسان وهو ماشٍ في الطريق استغفر الله وحمده وأثنى عليه لكان ذلك خيراً كثيراً؛ لأن السنة -مثلاً- ثلاثمائة وأربعة وستون يوماً، واليوم مثل الدقيقة، والأسبوع مثل اليوم، والشهر مثل الأسبوع، والسنة مثل الشهر، فكل واحد عليه أن يحسب ذلك، فإن كان ممن كتب له الحياة فوصل إلى الستين أو تجاوزها إلى السبعين - وهذا قليل وخاصة في هذا الزمن - وإن كان في الثلاثين، أو الأربعين؛ فمعنى هذا أنه بقي في عمره عشرون أو ثلاثون سنة، فإن هذه كلها ستمر كلمح البصر.
فالحياة ليس فيها متسع حتى الخميس والجمعة لهو؛ فهذا تفرجة ولهو ولعب، وهذا جلوس مع اللاهين واللاعبين.
وأما اللعب في القرآن والسنة فإنه يشمل ما هو أعم من اللعب الذي نعيشه الآن، كما قال الله تعالى: {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:98] أي: يلعبون ويلهون، حتى في تجارتهم التي تلهي عن ذكر الله، كما ذكر الله سبحانه في آخر سورة الجمعة {تِجَارَةً أَوْ لَهْواً} [الجمعة:11] ومعروف سبب نزولها.
فالمشكلة أننا الآن نعيش لعباً حقيقياً في كل مجال كالذين يلعبون الكرة، ويتفرجون في الألعاب، فانشغلنا عن ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وشغلنا أنفسنا بهذا الضياع، أي ضياع الأوقات-؛ وهذا أبعد ما يكون عن المؤمن الذي يخاف الله ويتقيه؛ ولهذا فالشاهد هنا أنه يظهر على هذا اللسان، مما يكسب الناس منه، فمن لم يفعل ذلك -أي: القول السديد- تفوته مغفرة الذنوب وصلاح الأعمال، ومن فاته ذلك؛ فماذا يريد؟! وما فائدة وجوده في هذه الحياة الدنيا إذا لم تصلح أعماله ولم تغفر ذنوبه؟!! نسأل الله تبارك وتعالى العفو والعافية فما فائدته؟ وما قيمته؟ وماذا يرجو؟! متاع كمتاع البهائم ثم يضطر بعد ذلك إلى عذاب أليم والعياذ بالله! ما القيمة إذاً؟ إن الغرض هو أن يتفكر الإنسان ذلك، فهذه الآية وكم من آيات في كتاب الله سبحانه تدلنا على أمر عظيم كهذا الأمر، وهذه هي الوصية الأولى.(43/4)
الوصية الثانية: التمسك بالصبر
ووصيةٌ أخرى وهي أني أوصي نفسي وإخواني بالصبر.(43/5)
معنى الصبر
الصبر بمعناه الواسع ذكره الإمام أحمد يقول: ' تتبعت الصبر في كتاب الله، فوجدته في أكثر من تسعين موضعاً ' أي: أمر الله تعالى بالصبر وحث عليه وبيَّن فضله ومزاياه وما أعد للصابرين، في أكثر من تسعين موضعاً من كتاب الله.
انظروا حرص هؤلاء الأئمة على تدارس القرآن، وعلى تفهمه وتتبعه! أولئك هم الذين يتلونه حق تلاوته.
فإن الصبر أمره عظيم؛ لأنَّ كُلاً منا مبتلى، ولأن هذه الحياة كلها ابتلاء كما قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2]، وكما في الحديث القدسي: {إنما أرسلتك وبعثتك لأبتليك وأبتلي بك}، إنه الابتلاء! فحتى الأنبياء مبتلون! وكل الناس في هذه الحياة عرضة للابتلاء، فالخير والشر كله ابتلاء وفتنة.
إن أنعم الله عليك بالعافية والمال والصحة والمنصب فهذا ابتلاء، وإن كان ضد ذلك أو ببعض منه فهو ابتلاء، أينما كنت وكيفما كانت طبيعة حياتك؛ فأنت عرضة للابتلاء؛ لأن الدار كلها دار ابتلاء.
إذاً: لابد أن تحتاط لنفسك، وأن تحرص عليها وتسيجها بسياج الصبر.
حتى على النعم يصبر الإنسان، فقد يأتيك منصب أو رتبة أو مال أو أي إغراء؛ فعليك أن تصبر عليه كما تصبر على البلاء وما ينزل بك من مكروه، فكل إنسان في هذه الدنيا عُرضة لسماع ما يكره، والوقوع فيما يكره من حوادث الدنيا ومصائبها -نسأل الله تعالى أن يلطف بنا وبكم وبإخواننا المسلمين- ولا يخلو أحد منها مهما حاول فلابد من ذلك، فالصبر هو الحل في هذا كله.(43/6)
أنواع الصبر
الصبر على طلب العلم: فلا ندع الشيطان يلعب برءوسنا نحن طلاب العلم؛ فنضيع الأوقات، أو نجد في طلب العلم تعباً ومشقة، نعم.
هذا هو واقعنا، فلو سهرنا إلى آخر الليل نتكلم ليست مشكلة؛ لكن إذا أخذنا الكتاب لكي نقرأ فلا نجاوز منه ورقة أو ورقتين إلا وهذا تعبان وهذا يتثاءب، سبحان الله! لماذا؟ خذ نموذجاً لذلك: الصلاة، فالإنسان في صلاته يأتيه الشيطان؛ فيتحرك ويتذكر أشياء ما كان يتذكرها، لأنه وقت لله، ويريد أن يصرفك عنه.
انظر حتى في رمضان! التراويح عندنا طويلة جداً؛ فالواحد منا يتذكر طول السنة يتذكر إذا جاء رمضان! يتذكر تعب التراويح مع أن الناس -ونحن منهم- قد يقفون ويلهون ويتحدثون ربما لساعات ولا يشعرون، بل إن بعض الناس بعد التراويح يقف مثل ما وقف في الصلاة ليسلم على أحدهم ولا يشعر بالتعب، ولو طول الإمام أو زاد في التطويل، قال: متى يركع؟ ابحثوا لنا عن إمام من الميسرين، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {يسروا ولا تعسروا} إلى آخره.
سبحان الله! هذا دليل على أنه لا بد من الصبر على طلب العلم، فنطلب العلم ولا نستكثر في جلسة من جلساتنا في أن نحفظ آية، فهي نعمة وغنيمة كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألفٌ حرف، ولامٌ حرف، وميمٌ حرف} فهذا مكسب قد يفوت ومتى ما أتت الصلاة لابد أن يتسابق عليها الناس.
معنى هذا -أيضاً- أن هذه قاعدة عندنا؛ فإذا كان هناك مكسب واضح في الدنيا لا نبالي بأحد، وإن كان في الدين تركناه، فاحرص على آية من كتاب الله أو حديث من كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واحرص على أنك تنافس في كل مجلس، وليس شرطاً أنك إذا جلست في مجلس دنيا أن تعرف الناس ما فعل الناس من مشاريع، بل اجعل ذلك -أي: التنافس أو النظرة التنافسية- في شيءٍ من ذكر الله كما قال عليه الصلاة والسلام: {لا حسد إلا في اثنين} والمقصود هنا بالحسد الغبطة، فتغبط أخاك أنه حفظ حديثاً وأنت لم تحفظ، ودعا بهذا الحديث وأنا لم أدع، وأمر بالمعروف وأنا لم آمر، فتغبطه لأجل هذا.
إذاً: الصبر على طلب العلم والصبر على الدعوة إلى الله تعالى هذا لابد من ابتلاءٍ فيها، فلابد أن يُبتلى الإنسان حتى ولو بزوجته التي هي تحت قوامته؛ فقد لا تعينك على طاعة الله، أو لا تصبر وكذلك، أولادك فطبيعة الطفولة متعبة، فلابد أن تصبر على أبنائك حتى تعلمهم طاعة الله، وتصبر على نفسك لأنها شرودة، ولابد من الصبر عليها حتى تبلغ ما يرضي الله تبارك وتعالى؛ وتصبر على ما يقال عنك، ولابد أن يُقال عنك الكثير والكثير؛ على قدر ما تدعو إليه وهكذا.
إذاً فالصبر لابد منه، ولا يبالي الإنسان المسلم أياً كان موقعه، إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة.
كان في الحراسة، المهم أنه جندي لله تعالى، فلا يبالي فربما أن وضعه في الحراسة أفضل من أن يكون في المقدمة، وربما أن الله اختار له الخير ولو كان في غيره لافتتن به.
المهم أنه يُعتبر جندياً لله، فأينما وضعه الله وأينما استخدمه واستعمله فيما يرضيه، فهو راض بذلك وهذه نعمة عظيمة وراحة له، ثم يرجو بعدها -بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ما في قوله سبحانه له: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90](43/7)
منازل الصابرين عند الله عز وجل
قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] أي: أن غيرهم لا يأخذ ما يأخذوه من الأجر! لماذا؟ بقدر نقص الصبر فالذي يأخذ أجره كاملاً هو الذي صبر؛ لأنه ابتلي ومحص فصبر فأخذ أجر العمل كاملاً.
ولهذا إن أفضل الناس منزلة هم الأنبياء، ثم من هذه الأمة أفضلهم وهم الصحابة الذين صبروا وجاهدوا، والذين كانوا أيضاً في وقت المحنة والاضطهاد في مكة، فهم أعظم من الذين جاءوا من بعدهم، ولهذا أثنى الله عليهم: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100] وأيضاً: من أنفق وجاهد وقاتل قبل الفتح أفضل ممن جاء بعده، ومن رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجاهد معه خير ممن جاهد بعده وهكذا، والذين شاركوا في فتوح الشام والعراق أفضل ممن جاء بعدهم وهكذا؛ فبقدر ما تكون المسألة أكثر مشقة وأكثر استقامة للدين؛ يكون الأجر أعظم ويُوفى أصحابه الأجر الأعظم.
أما من جاء والأمور قد استقرت والدين قد أقيم - والحمد لله- فإنه بقدر ما تكون المشقة أقل والصبر أقل، يكون الأجر أقل، وهكذا فما بالكم بنا نحن الآن على أي شيء صبرنا؟ لم يحدث شيء - نسأل الله لنا ولكم العافية دائماً- لكن لابد أن يكون الابتلاء على قدر الدين الأمثل فالأمثل.
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وبالصبر في هذه الحياة الدنيا، وأن نُصبِّر أنفسنا فيما قد يصيبنا، أو ينزل بنا؛ لأننا أمرنا بمعروف أو نهينا عن منكر؛ فالحمد لله هذا خير، وربما يكون في ذلك رفع للدرجة عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
أما مراتب هذه الدنيا! فلو قيل لأحدهم كالأخ العسكري: ما رأيك في أن ننقلك أبعد منطقة في المملكة، ونعطيك أقدمية ورتبة؟ فسيقول: سوف أذهب فلا بأس.
لكن اعتبروا أن الدرجة والرتبة عند الله لمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وصبر واحتسب، ولو ناله ما ناله من أذىً في سبيل ذلك، هذه -والله- أعظم درجة لنا ولكم جميعاً، وبهذا لعلنا نقف عند هذا الكلام -سائلين من المولى القدير أن يوفقنا لما يحبه ويرضى- والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هناك بعض المشايخ الذين تركناهم في هذا الميدان يُصارعون الفساد والفتن بما أعطاهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من صبر عظيم إن شاء الله -ولا نزكي على الله أحداً- ونحن في بيوتنا لاهون وغافلون لا ندري عن كثير مما يعانون، وأشكر الله لي ولكم وجزاكم الله خيراً.
والحمد لله رب العالمين.(43/8)
كيف نعظم شعائر الله
تحدث الشيخ حفظه الله عن عدة أمور تتعلق ببيت الله الحرام، فبدأ بالحديث عن تعظيم شعائر الله، مستعرضاً لشيء من الخلاف في تفسير العلماء لشعائر الله، وبين القول الراجح في هذه المسألة، ثم ذكر أقسام الناس في تعظيم شعائر الله، وضرب أمثلة للبدع التي يقع فيها كثير من الناس في شهري رجب وشعبان، ثم تحدث عن الاستهانة بشعائر الله في البلد الحرام من قبل بعض الزائرين لهذا المكان المقدس، مختتماً حديثه بالتحذير من خطورة استمرار هذا الوضع، وأنه يجب تغييره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستغلال مواسم الخير لذلك.(44/1)
تعظيم شعائر الله
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل الله، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعلنا وإياكم ممن يعظم شعائر الله ويحفظ حدوده، ويقيم كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أقول: إن الله تبارك وتعالى قد حث وحض على تعظيم شعائره، ويكفي في ذلك قوله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] وقد أضيفت التقوى إلى القلوب؛ لأن القلب هو محل التقوى كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره} وإذا خشع القلب واتقى، خشعت سائر الجوارح، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح أيضاً.
فشعائر الله تبارك وتعالى لا يعظمها إلا من عظم الله واتقاه وعرفه تبارك وتعالى وقدره حق قدره، وهذا أمرٌ لا خلاف فيه بين المسلمين، وبين كل من يقرأ كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(44/2)
خلاف العلماء في تفسير معنى شعائر الله
ما هي شعائر الله؟ وما تعريفها عند العلماء أو عند المفسرين رحمهم الله كما وردت في الآية السابقة؟ وكما وردت في قوله تبارك وتعالى في أول المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً} [المائدة:2].
فسر بعض العلماء شعائر الله بأنها أوامره وفرائضه، ومعنى ذلك: أن كل ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما تعبدنا الله تبارك وتعالى به فهو من شعائره، فيدخل في ذلك الشعائر الظاهرة والباطنة؛ لأن الدين باطنٌ وظاهرٌ، ويدخل في ذلك الشعائر العملية والشعائر الاعتقادية، ويدخل في ذلك الأركان والواجبات والمستحبات، فكل ما شرعه تبارك وتعالى فهو من شعائره، والمسلم مأمورٌ بأن يعظمها وأن لا يحلها؛ وذلك بأن يمتثل أوامر الله ويجتنب نواهيه، وهكذا يكون التعظيم على هذا المعنى.
وقال بعض العلماء: إنَّ شعائر الله هي ما يتعلق بمشاعر الحج فقط من النسك؛ ولذلك فسرها بعض السلف بأنها: الصفا والمروة والبدن التي جاءت في كتاب الله تبارك وتعالى كما قال تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج:36] فقالوا: إذاً المقصود بها الحج أو ما يتعلق بمشاعر الحج وبعض أعماله، ومنه إشعار الهدي وهو: العلامة الذي توضع عليه.(44/3)
القول الراجح في معنى شعائر الله
إنَّ القول الوسط في ذلك، وربما كان الراجح إن شاء الله تبارك وتعالى أن شعائر الله هي: المعالم الظاهرة من دينه، التي جعل الله تبارك وتعالى بعضها زمانياً، وجعل بعضها مكانياً، فهذا قول وسط بين القولين، ومعنى معالم حدود الله: هي المعالم أو العلامات الواضحات التي يمكن أن نشتقها من المعنى اللغوي، فإن الشعور أو الإشعار في اللغة هو: العلم، شعر بكذا أي: علم به، والإشعار: هو وضع العلامة كما يوضع على الهدي علامة تدل على أنه هدي فلا يحله أحد.(44/4)
أعظم الشعائر المكانية
إنَّ الله -تبارك وتعالى- جعل لهذا الدين معالم وعلامات ظاهرةٍ تدل عليه، وبعضها -كما ذكرنا- مكاني وبعضها زماني، فمن الشعائر المكانية التي عظمها الله تبارك وتعالى وأمر بتعظيمها: الثلاثة المساجد مكة والمدينة وبيت المقدس.
فهذه الثلاثة من شعائر الله وكل مسجدٍ لله -أيضاً- كما قال عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] فالمساجد من شعائر الله، ورفع الأذان فيها من شعائر الله، وتعظيمها من تعظيم شعائر الله.
وأفضل المساجد هي المساجد الثلاثة التي ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لا تشد الرحال إلا إليها، والحرم كله معظَّم، ولا سيما في هذه البلدة الطيبة الطاهرة فهو من الشعائر المكانية.
وقد جاء في تعظيمه في كتاب الله وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأدلة ما لا يحصى، كما في قوله تبارك وتعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة:125] وفي قول الله عز وجل: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} [المائدة:97] وغير ذلك من الآيات، فهي كلها تدل على أن الله تعالى قد عظَّم هذا البيت وهذا الحرم وشرفه على سائر البلدان، وأنه من شعائر الله التي يجب أن تعظم.
وقد كان العرب في الجاهلية يعظمون البيت الحرام تعظيماً بالغاً، فعلى ما كانوا فيه من شرك وجاهلية وعبادة للأصنام إلا أنهم كانوا يعظمون البيت، وكان من ينتهكه منهم يعد عندهم من أفجر الفجرة وأكبر الظلمة ولا قيمة له سواء أكان فرداً أم قبيلة.
ولهذا جاء في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} [المائدة:2] أن الناس كانوا إذا جاءوا إلى مكة وخرجوا من الحرم، يأخذون من لحاء الشجر ولا سيما شجر السمر الذي يكثر في مكة ويجعلونه علامةً على رقابهم أو على دوابهم فلا يتعرض لهم أحد أبداً؛ لأن الناس كما تعلمون كانوا في الجاهلية يقطعون الطريق، فإذا قدم القادم ورأوا عليه هذا الشعار وهذه العلامة عظموا ذلك ولم يتعرض له أحد.
فكان هذا حالهم في الجاهلية، فلما جاء الإسلام زاد ذلك تعظيماً -ولله الحمد- وتشريفاً بأن أعاد إلى هذا البيت نقاء وطهارة التوحيد، الذي جاء به الخليل صلوات الله وسلامه عليه، والذي بنى هذا البيت أو جدد بناءه؛ ليكون كما أمر الله تبارك وتعالى مكاناً يعبد فيه عز وجل كما قال: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج:26].
فهذه هي ملة إبراهيم التي أمر الله تبارك وتعالى بها، وجددها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعظَّم الحرم أشد مما كان يُعظم في الجاهلية، ويدخل في ذلك ما ذكره بعض العلماء من الصفا أو المروة أو مزدلفة أو منى وكل ما قد عظمه الشرع.
وسنذكر إن شاء الله عندما نتعرض لأحوال الناس في تعظيم الشعائر ما ابتدعه الناس مما لم يعظمه الله ورسوله في هذه الأماكن، والمقصود أن أعظم وأشرف الشعائر المكانية هو البيت الحرام، وأن لتعظيمه أموراً وحقوقاً لا بد منها لعلنا نذكرها إن شاء الله تعالى بالتفصيل فيما بعد.(44/5)
أعظم الشعائر الزمانية
وأما الشعائر الزمانية فإنه كما أن الله تبارك وتعالى اختص بعض البقاع وشرفها على بعض، فهو كذلك اختص بعض الأزمنة وشرفها على بعض، ومن ذلك الأشهر الحرم وشهر رمضان.
فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد فضله وشرفه كما قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185]، وكفى بذلك شرفاً وفخراً.
كما أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عظَّم الأشهر الحرم فقال: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36].
وقد فسر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الأشهر الحرم كما في الصحيح من حديث أبي بكرة قال: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد الفرد وهو رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان} وهو الشهر الذي نعيش فيه -ولله الحمد- فنشكره تبارك وتعالى الذي بلغنا إياه، ونسأله عز وجل أن يبلغنا رمضان، وأن يتقبل منا عبادتنا وطاعتنا في سائر الأزمان.
وهناك من الناس من يعظم شعائر في شعبان لم يعظمها الله تبارك وتعالى وكما يقع -أيضاً- في غيره من الأزمنة، وهذا ينقلنا إلى ذكر أنواع الناس في تعظيم هذه الشعائر.(44/6)
شعائر لا بدع
من الناس -أيها الإخوة المؤمنون- من غلا في تعظيم شعائر الله، حتى أدخل فيها ما ليس منها سواء أكان تعظيماً للأمكنة أم تعظيماً للأزمنة.(44/7)
الغلو في تعظيم شعائر الله
فأما تعظيم الأمكنة بما لم يشرعه الله تبارك وتعالى، فمن ذلك ما يفعله بعض الحجاج والزوار أو العمار -كما ترون- من تعظيم أماكن مخصوصة لم يرد فيها شيءٌ عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عن السلف الصالح، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}.
فما يفعله بعض الناس من الذهاب إلى غار ثور أو إلى غار حراء ويصلون هنالك، ويتبركون في أماكن كثيرة من مكة، وربما كان أكثر منها في المدينة مما لا أصل له، فكل ذلك محدثٌ مبتدع ولا يجوز أن يقروا عليه أبداً.
وإنما يكتفى في ذلك بما شرعه الله تبارك وتعالى كما جاء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولا ريب أن كل من عظَّم ما لم يعظمه الله؛ فإنه لا بد أن يخل بتعظيم ما أمر الله تبارك وتعالى بتعظيمه سواء من الشعائر أم المعالم المكانية أم الزمانية.(44/8)
التفريط في تعظيم شعائر الله
أما القسم الثاني من الناس: فهم الذين لا يبالون بتعظيم حرمةٍ ولا شعيرةٍ، لا في هذا الشهر ولا في غيره من الشهور، ولا في هذا الحرم ولا في غيره من الأماكن، فلا يعظمون لله تبارك وتعالى مسجداً ولا حرمةً ولا شعيرةً من الشعائر، وهؤلاء قومٌ قد ضرب الله تعالى على قلوبهم الغفلة -نسأل الله تعالى العفو والعافية- وإن كان كثيرٌ منهم يعد نفسه من أهل الخير ومن عامة المسلمين، لكنهم يغفلون عن تعظيم ما أمر الله بتعظيمه من هذه الشعائر.(44/9)
الوسطية في تعظيم شعائر الله
والقسم الثالث: هم أهل الهدى، وأهل السنة هم القوم الوسط الذين عظموا ما عظم الله عز وجل، وتركوا ما لم يعظمه الله، واتبعوا سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاتبعوا ولم يبتدعوا.(44/10)
بدع شهر رجب
إذا نظرنا إلى هذا الشهر وما بعده من الشهور، فإننا نجد الأصناف الثلاثة في هذا الشهر، في تعظيمه أو عدم تعظيمه إما غلواً وإما تركاً أو اقتصاداً وعملاً بالسنة، فالأقسام الثلاثة نجدها متوافرةًُ فيما يتعلق بهذا الشهر -شهر رجب- ثم كذلك ما بعده.
فما يفعله بعض الناس في هذا الشهر من الذبح أو ما يسمونه الرجبية والاحتفال والتعظيم بهذا الشهر، والصيام الذي لم يأت فيه نص ولا دليل أو الصلوات المبتدعة، فكل ذلك يدخل في القسم الأول وهو قسم البدع.(44/11)
ذبيحة العتيرة
وقد كان الذبح واتخاذ يوم من شهر رجب عيداً يذبح فيه من شأن الجاهلية، والذبيحة التي كان الجاهليون يذبحونها تسمى العتيرة، وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {لا فرع ولا عتيرة}.
واختلف العلماء في ذلك فمنهم من رأى أن هذا ناسخٌ ومبطلٌ لما كان عليه أهل الجاهلية، فبعد أن قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا فرع ولا عتيرة} لا يجوز لأحد أن يحتفل أو أن يذبح في شهر رجب.
وقال بعض العلماء: إن النهي إنما هو للوجوب، فيظل ذلك استحباباً؛ لأن أهل الجاهلية -في نظره- كانوا يفعلون ذلك وجوباً ويعظمونه تعظيماً بالغاً.
ومنهم من حمله على الكراهة مستدلاً ببعض الآثار أو الأحاديث ولا مجال لتفصيل القول فيها.
ولكن القول الصحيح والراجح والذي عمل به الإمام أحمد -رحمه الله- وغيره من السلف المتبعين للأثر والسنة في هذا، هو ترجيح أن ذلك كان من أمر الجاهلية، وقد أبطله الإسلام، فلا يذبح في شهر رجب ولا يعظم، ولا يتخذ يوماً من أيامه عيداً يعظم.
ولعل الليلة التي يكثر السؤال عنها والتي يعظمها بعض الناس في هذا الشهر هي ليلة السابع والعشرين منه معتقدين أنها ليلة الإسراء والمعراج، وقد بينا أن هذا من البدع، وأنه لم يثبت، ولم يصح في هذه الليلة شيءٌ يعتمد عليه في تحديد تاريخها، وأنه لو ثبت وصح أنها في ليلة معينة أو في وقتٍ معينٍ بذاته لما جاز أن يحتفل بها؛ لأن ذلك لم يأتِ عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عن أحد من الصحابة.
وإنما أحدث ذلك المحدثون في القرون التالية للقرون المفضلة الثلاثة، ثم اختلفوا في ذلك اختلافاً شديداً جداً في تعيينها، وأكثر من يعظم هذه الليلة وغيرها من ليالي الشهر بالبدع هم الرافضة والصوفية، وكفى بذلك زاجراً للمؤمن عن مشاركة أهل البدع في بدعهم وأهوائهم وضلالهم، الذي لم يأت ولم يصح فيه شيء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(44/12)
صلاة الرغائب
من الناس من يصلي في أول جمعة من رجب صلاةً مخصوصةً ويسمونها صلاة الرغائب.
وهذه الصلاة باطلة موضوعة لم تصح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه الكيفية ولا في هذا الشهر؛ ولذلك يعلل الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى فيقول: لماذا لم ينكر هذه الليلة إلا العلماء المتأخرون كـ ابن الجوزي وأبي إسماعيل الهروي وأمثالهم؟ قال: لأنها لم تحدث إلا بعد الأربعمائة.
فهذه الليلة التي يصلى فيها صلاة الرغائب -كما تسمى- لم تحدث ولم تبتدع إلا بعد الأربعمائة، فلم يتكلم فيها السلف الأولون؛ لأنها لم تحدث في أيامهم وكفى بذلك دليلاً على أنها بدعة وعلى أنه لا يجوز لأحد أن يعمل بها.
وأما ما تزخر وتمتلئ به كتب الأذكار البدعية من رافضة وصوفية بالحديث عن هذه الصلاة وفضلها ووقتها وكيفيتها، وأنها في هذا الشهر في أول جمعةٍ منه إلى غير ذلك فكله من البدع التي لا أصل لها.(44/13)
صيام أيام من رجب
ومما هو منتشر -أيضاً- في شهر رجب، وقد رأيناه ولمسناه بين العامة أنهم يخصونه بأنواع من الصيام، فبعضهم يصوم الشهر كله وهذا منهيٌ عنه، ولم يصم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهراً بأكمله إلا رمضان، وثبت ذلك من وجوه كثيرة عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن الصحابة والتابعين من السلف أنهم نهوا أن يصام شهر كله إلا رمضان، وكان أكثر الشهور بعد رمضان صياماً من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة والتابعين هو شهر شعبان.
وأما رجب فلم يثبت ولم يصح في صيامه كله أو تحديد أيامٍ منه شيء، وبعضهم يحدد فيجعلها ثمانية أيام، وبعضهم يجعلها اثني عشر أو غير ذلك، وهذا التحديد كله -أيضاً- باطلٌ لا أصل له.
ولو أن الإنسان صام الإثنين أو الخميس أو الأيام البيض، أي: صام ما جاء وثبت وصح في رجب وغير رجب فلا بأس بذلك، لكن لا ينبغي له أن يخص رجب -فقط- بأن يصوم هذه الأيام فيه، لأن ذلك -أيضاً- يدخل في شيء من البدع، والإنسان إنما يتبع ويطمع في الأجر والفضيلة إذا كان في ذلك متبعاً وليس مبتدعاً.
فهذا -كما قلت- لمسنا انتشاره بين العامة نتيجة لما تأوله بعضهم أو نسبه إلى بعض كتب الفقه أو بعض العلماء ولا مستند لهم في ذلك، والله تبارك وتعالى إنما قال في تعظيم الأشهر الحرم: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36] وهذه الآية نستطيع أن نستنبط منها أن المطلوب من الإنسان في الأشهر الحرم أن يعظمها بأن لا يظلم فيها نفسه.
بمعنى أن أي عملٍ كنت تعمله في غير الأشهر الحرم من المعاصي أو الذنوب أو الفجور يجب عليك أن تكف عنه في هذا الشهر، وإن كان المطلوب منك أن تكف عنه في أي شهر، لكن في هذا الشهر مطلوب منك أن تكف عنه أكثر، فالطلب منك أقوى والحض أشد.
وكذلك لا زيادة في المأمورات، ولكن كل فعلٍ أنت مأمورٌ به في سائر الشهور والأيام، فاعلم أنك في الأشهر الحرم، وكذلك في الأماكن الحرم أو الأماكن المقدسة، مطلوب منك أن تعمله أكثر، بمعنى: أن مخالفتك بترك هذا الأمر في أي شهرٍ، -كشهر ربيع- لا يجوز؛ لأن الله تعالى أمرك به، ولا يجوز أن تخالف أمر الله، لكنك لو خالفت أمر الله في الشهر الحرام لكان ذلك أشد، أو لو خالفت وعصيت أمر الله في البلد الحرام، لكان ذلك أشد.
إذاً، لا زيادة في العبادة على ما شرع الله تبارك وتعالى، وإنما المطلوب هو زيادة الامتثال بفعل المأمورات وترك المنهيات، فالمقصود: أي لا تظلموا فيهن أنفسكم بترك المأمور وفعل المحظور، وإن كان من الفقهاء والمفسرين من حمل ذلك على البدء بالقتال، أي: فلا تظلموا فيهن أنفسكم بالقتال؛ لأن الشهر الحرام كما قال الله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة:217].
وهذا مما اتفق عليه أهل الإسلام وأهل الجاهلية بأن القتال في الشهر الحرام كبيرةٌ وعظيمة من العظائم، ولا يقدم عليها إلا من تجرأ على حدود الله، ولكن المشركين غفلوا عما هو أعظم من ذلك وهو الكفر بالله والصد عن المسجد الحرام.
والقول الصحيح في هذه المسألة: أنه يجوز للمسلمين الجهاد وبدء القتال في الشهر الحرام، وقد ثبت ذلك عن الصحابة بما لا يدع مجالاً للشك وهو متواتر تواترا ًعملياً، أن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين ومن بعدهم لم يتحروا أن لا يبدءوا قتال الفرس أو الروم أو غيرهم في شهرٍ حرام وإنما كانوا ينطلقون للجهاد، فأي شهر وافق أو أي يوم وافق فإنهم لا يبالون بأن يتحروا ذلك، وأما القتل أو الظلم أو الاعتداء أو البغي أو العدوان فهذا لا ريب أنه حرام في سائر العام، إلا أنه يتغلظ تحريمه ويتأكد ويشتد إذا كان في الشهر الحرام أو في البلد الحرام.
هذه هي القاعدة التي يخرج بها المرء المسلم المتبع لسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذا، وهذا الذي يجب أن يدعى إليه الناس وأن يحث عليه العامة والخاصة بالنسبة لهذه الأشهر.(44/14)
بدع شهر شعبان
وأما شهر شعبان فإن كثيراً من الناس في هذا البلد الحرام، يعظمونه بما لم يعظمه الله تبارك وتعالى به ومن ذلك تعظيمهم ليلة النصف منه، ويزعم بعضهم ويدعي أنها الليلة المباركة التي ذكرها الله تبارك وتعالى في قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:3] وذلك مردود بصريح كتاب الله تبارك وتعالى، فإن الله عز وجل يقول: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] ويقول: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1].
فدل ذلك على أن الليلة المباركة تكون في رمضان وأنها ليلة القدر، وهذا واضح جليٌ لمن تأمله إن شاء الله تبارك وتعالى.
على أن بعض العلماء يصحح في ذلك حديثاً، وهو أنه إذا كانت ليلة النصف من شعبان فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتجلى أو ينظر إلى المؤمنين؛ فيغفر لهم جميعاً إلا المشرك أو المشاحن -أي: صاحب العداوة والبغضاء من المسلمين- وهذا الحديث على فرض صحته وعند من يصححه لا يدل على اختصاص هذه الليلة بنوعٍ من أنواع العبادة، وإنما هذا تفضل من الله تبارك وتعالى وإن ثبت فهو دليلٌ من الأدلة الكثيرة على سعة رحمة الله عز وجل وفضله ولطفه بهذه الأمة.
فلم يشرع الله تعالى لنا عملاً معيناً نعمله في هذه الليلة، وإنما يعظم هذا الشهر استعداداً لشهر رمضان، وهذه هي القاعدة نفسها التي ذكرناها، وهي: أن تمتثل أوامر الله من صلاة الجماعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفعل الخيرات والطاعات، وكذلك بترك ما نهى الله تبارك وتعالى عنه.
وأما الصوم فقد ثبت أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كان أكثر صياماً في شهر بعد رمضان منه في شعبان، فالصيام في شهر شعبان هذا سنة، ومن صام منه ما استطاع فقد وافق السنة -إن شاء الله- وهذا ينفرد به شهر شعبان عن شهر رجب كما أسلفنا.(44/15)
تعظيم البلد الحرام
نأتي إلى أمر مهم وعظيم في تعظيم شعائر الله وتعظيم حرماته عز وجل، وهو ما يتعلق بالشهر الحرام والبلد الحرام، ونحن -والحمد لله- في البلد الحرام طوال العام، فمما يجب علينا من تعظيم حرمات الله، ومن تعظيم شعائر الله في هذا الشهر أو في هذا البلد ما يلي:(44/16)
تعظيمه عن الشرك
إن من أول وأعظم ما يُعظم به هذا البلد الحرام، أن يُجتنب فيه أكبر الكبائر وأعظم الموبقات وهو الشرك بالله تعالى، فإنه لا يليق بهذا البلد الطيب الطاهر، وهذا البيت الذي بناه الخليل -عليه وعلى نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل الصلاة والسلام- على التوحيد وعبادة الله وحده لا شريك له، لا يليق به أبداً أن يحدث فيه محدث، ولا سيما إذا كان الإحداث هو الشرك الأكبر عافاني الله وإياكم.
والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يحذر في كتابه، ولا في سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذنبٍ أعظم من الشرك، قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار} [المائدة:72] فهذا هو الداء العضال الذي بعث الله تبارك وتعالى الرسل جميعاً لينقذوا الناس منه، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] وقال: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين} [الزمر:65].
فلا يليق بهذا البيت المعظم المطهر أن يحدث فيه الشرك أبداً بأي حال من الأحوال، وقد بعث الله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتوحيد، وبتجديد ملة إبراهيم عليه السلام وتحطيم الأصنام، والقضاء على الشرك بكل أنواعه وأشكاله.
فمن جاء وأراد أن يحدث أو يعيد معالم الشرك وشعائر الشرك في هذا البلد؛ فقد ضاد ما أمر الله تبارك وتعالى به، وخان الله ورسوله والمؤمنين, وقد تخلى عن ملة إبراهيم الخليل التي أمرنا الله تبارك وتعالى باتباعها، وجاءنا ليجدد ملة عمرو بن لحي الخزاعي، الذي كان أول من سيب السوائب، والذي حرف الناس وأهل هذه الجزيرة من عبادة الله وحده لا شريك له على ملة إبراهيم إلى عبادة الأصنام والحجارة، كما كان يفعل أهل الجاهلية في الأرض، فهذا أول ما يجب اجتنابه.(44/17)
تعظيمه عن البدع
إن البدع هي أعظم المعاصي بعد الشرك بالله تبارك وتعالى، وكفى بها شؤماً، وشراً؛ لأنها ربما أحبطت العمل كله، بل بعضها لا شك أنه يحبط العمل كله، فلا تنفع الإنسان عبادة ولا قراءة ولا ذكر ولا جهاد مع هذه البدع.
كما صح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيحين وغيرهما في صفة الخوارج أنه قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية} وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وقراءتكم إلى قراءتهم}.
إن المخاطبين بهذا هم الصحابة الكرام، ومع ذلك فإن قراءة الخوارج، وعبادتهم أشد وأكثر من عبادة الصحابة، أي: أن الصحابة يحقرون قراءتهم وصلاتهم وعبادتهم عندما يرون قراءة الخوارج كما ذكر ذلك أبو سعيد.
وكما رأى ذلك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، لما دخل إلى معسكرهم، ومع ذلك فإنهم يمرقون من الدين، بل لا تتجاوز قراءتهم حناجرهم كما أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذلك بسبب ما ابتدعوه من البدع، وقد جاء -أيضاً- عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {لا يقبل الله من صاحب بدعة صرفاً ولا عدلاً ولا صياماً ولا صلاة}.
فماذا يريد صاحب البدعة بها، إذا كان الله تبارك وتعالى لا يقبل منه شيئاً، ولا تنفعه مهما كثرت ومهما تعبد واجتهد فيها؟! فكيف يجرؤ مبتدع أن يبتدع، ويرتكب هذا الإثم العظيم في بلد الله الحرام، الذي أمر الله تبارك وتعالى بتعظيمه؟!(44/18)
تعظيمه وتطهيره من المعاصي الظاهرة
يجب تعظيم وتطهير هذا البيت الحرام، وهذه البقعة الطيبة الطاهرة من المنكرات والمعاصي الظاهرة.
ونحن نشاهد في الأيام التي يسمونها أيام العطلة أو الإجازة -والتي يتوافد فيها الناس والحمد لله على هذا البلد الحرام- كثيراً من المظاهر التي تدل على أن هؤلاء الناس من المقيمين أو القادمين لا يعظمون شعائر الله، ولا يعظمون هذا البيت كما أمر الله تبارك وتعالى.
فبعضهم يأتي إلى هذا البلد الحرام وما يكاد يتحلل من عمرته حتى ينطلق في الأسواق، ويرتع في الملاهي وفي ترك الفرائض، وتبدأ النساء بالتبرج، والتهتك، وتكون من المصائب والأمور ما يضج بها المؤمنون، ويضج منها هذا البلد الحرام.
وهذه مأساة كبرى ومصيبة عظمى، مع ما هو معلومٌ من ضعفٍ في الهيئات أو المؤسسات القائمة على الإنكار، لكن يزيد الطين بلة أن تأتي هذه الجموع فتنتشر المحرمات من السفور والتبرج وترك صلاة الجماعة، فترى الناس أكواماً وجماعات حتى بالقرب من المسجد الحرام، وتقام الصلاة ولا يجدون من ينكر عليهم من أهل البلد، وهذه من المنكرات ومن المظاهر الدالة على أن هؤلاء لا يعظمون شعائر الله، ولا يعظمون ما عظم الله تبارك وتعالى.
وإنه مما يثير العجب أن يجد الإنسان أن هنالك مظاهر كثيرة كان بالإمكان أن تتدارك، ومن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو أننا أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، وكل من ذهب إلى الصلاة أمر وحث إخوانه عليها، وكل من كان في السوق وأقفل دكانه أمر ونهى إخوانه -أيضاً- بذلك وحثهم عليه، ولا يشترط أن يكون عضواً في الهيئة كما يتبادر إلى أذهان البعض، بل كل من رأى التبرج أو السفور أو الانحلال أو المغازلات أو ما أشبه ذلك من المعاكسات فإنه يبادر وينكر، لو فعلنا هذه الأمور لأحيينا هذا الأمر العظيم.
إن تركنا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو -أيضاً- من عدم تعظيم شعائر الله، فيتبلد الحس على المنكرات والمعاصي والذنوب، حتى تصبح مألوفةً نسأل الله العفو والعافية.
وأعظم من ذلك وأشد منه، وهو من المنكرات الدائمة في هذا البلد الحرام، في مواسم الخير وفي كل العام، وهو مما يدمي قلوب المؤمنين ويجرح مشاعرهم، ويتنافى مع تعظيم هذا البلد وتعظيم حرمات الله: أن نجد منارات أو علامات أو شعائر ما حرم الله تبارك وتعالى تنتشر في هذه البلدة الطيبة الطاهرة.
ومن أوضحها البنوك الربوية التي -كما ترون في هذه الأيام- يكتتب البعض في جلها، ويحذر العلماء وعلى رأسهم سماحة الشيخ الوالد عبد العزيز بن باز -رحمه الله- من هذا الاكتتاب.
والواجب في الحقيقة -كما تعلمون- وكما هو ظاهر من فتاوى علمائنا الأفاضل، وهو صريح كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ألا توجد هذه العمارات أو المنارات أو الشعائر -شعائر الضلال والفجور والمعصية- ولا يجوز أن تبقى في هذا البلد الحرام، في أي مكان، وفي أي زمان، فعندما يجد الحاج أو المعتمر أو المقيم أن هذه الأجهزة أو المؤسسات الربوية قائمة في هذا البلد ثم يسكت، فالذي يحدث -كما ترون- أن الناس يألفون هذا المنكر ويصبح لديهم أمراً مألوفاً، ثم بعد ذلك يصبح الإنكار على من أنكره، وهذا بلا شك من عدم تعظيم شعائر الله.
وفي الجاهلية -كما تعلمون- كانوا يستحلون المحارم ومنها الربا، ولم يكن العرب-أقول هذا بكل أسف- يعلنون الربا بمثل هذا الإعلان، وبمثل هذا الشكل الصريح الذي يفعله الإنسان في هذا العصر حول بيت الله الحرام، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يرفع هذا البلاء عن المسلمين إنه سميعٌ مجيب.
ويلحق بذلك مما يتنافى مع تعظيم شعائر الله ما يجده القادم إلى هذا البلد أو المقيم فيه من انتشار أماكن لبيع اللهو والفساد ومشجعات الرذيلة من محلات بيع الأفلام الخليعة الماجنة ومحلات الأغاني.
ويعجب الإنسان كيف توجد هذه الملاهي وهذه الدواعي إلى الرذيلة والدعارة والفساد في هذا البلد الحرام، وكيف استجاز أصحابها أن يفتحوها فيها، وكيف استجاز القائمون على الأمر أن يسكتوا عن وجود هذه الأمور.
والله إنها لمصيبة عظيمة أن يأتي الحاج من أقاصي الدنيا، وإذا به يجد الأفلام والأغاني التي يراها في أوروبا وأمريكا، تباع بجوار بيت الله الحرام، بل حتى في الأسواق، يعلقون تلك الملابس المتعرية الشفافة التي لمجرد رؤيتها تستثار الشهوة وتستحث الرذيلة- نسأل الله العفو والعافية- وكأنهم في مكان ما غير بلد الله الحرام، وكأن الأمر لا يهم هؤلاء الناس في شيء.
فهذه في الحقيقة من المنكرات الظاهرة العظيمة التي تتنافى مع تعظيم شعائر الله، وتعظيم هذا البلد الذي أمر الله تبارك وتعالى بتعظيمه.
ومن أكثر ما ينتشر في هذه البلدة الطاهرة -أيضاً- مما يجب أن ينبه عليه من المحرمات الأخرى: الغش في التجارة، الذي استغله كثيرٌ من الناس في المواسم، وفي أيام العطل أو غيرها مما يكثر فيه الناس؛ فيغشون في المعاملات، ويطففون في المكيال والميزان، ويخرجون ويبيعون ما قد انتهى تاريخه من البضائع ولا يتحرجون من ذلك، ويغشون في المساكن وفي أمور كثيرة جداً، ويقولون: هذا موسم! فيقال لهم: من أباح وأحل لكم -بما أنه موسم- أن تفعلوا هذا، وأن تنتهكوا شعائر الله التي أمر الله تبارك وتعالى بتعظيمها، وأن تقدموا على غش إخوانكم المسلمين الحجاج أو الزوار، أو من جاء لتعظيم شعائر الله؟! فأصبح المؤمن يجد الحرج الشديد والكرب العظيم في إنكار المنكرات؛ لأنها من كثرتها تستدعي جهوداً عظيمة وأجهزة متخصصة، وتعاوناً جدياً وثيقاً من طلبة العلم.(44/19)
واجب الدعاة في البلد الحرام
وإنني لأنتهز هذه الفرصة بدعوة طلاب العلم، وكلهم إن شاء الله من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر كما أمر الله تبارك وتعالىبقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104].
فعلينا أن نتعاون جميعاً في كل قطاع وفي كل مجال، نحن وكل من يأتي إلى هذه البلدة فضلاً عمن هو مقيم فيها، في أن ننكر هذه المنكرات جميعاً، وأن نحيي في الناس شعائر الله حقا، ً التي من أعظمها إحياء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك الشرك والبدع، وترك المعاصي والفجور، وأن نتعاون على ذلك في كل مكان، والوسائل في ذلك كثيرة ومتنوعة -والحمد لله.
فلو تصورنا أن كل إنسان يبيع هذه الملاهي أو يعمل في بنك ربوي، أو يفتتح محلاً للربا أو للحرام في هذا البلد، وكان كل من يمر به من حاجٍ أو معتمر أو زائر ينصحه وينهاه ويأمره، فلا شك أن المنكر سيتغير وإن لم يُزَلْ بالكلية فلا بد أن يتقلص، ولا يكتفى بالإنكار المباشر على أهل هذه المنكرات، بل يجب أن يكتب -أيضاً- إلى من يهمه الأمر بإلغائها وإخراجها من هذا البلد الحرام، فهذه المحرمات لا تجوز في أي مكان، فكيف بها في هذا البلد الطاهر؟! ولابد أن تدعم هذه المحاولات، فعندما جرت محاولاتٌ صادقة طيبة جادة -والحمد لله- من بعض المسئولين في أمانة العاصمة للقضاء على المقاهي أو إخراجها من البلد الحرام، وهي مما لا يليق به ولا بشرفه وفضله تراخى الناس في التعاون، وحدثت ملابسات، وإذا بالأمر يرجع ويعود إلى ما كان عليه، فيأتي الإنسان إلى هذه البلدة الطيبة الطاهرة ويجد المقاهي مفتوحة، والناس يسهرون فيها، أمام التلفاز أو غيره من المنكرات والملهيات، وكأن هذا البلد لا قيمة له، وكأنه كأي بلدٍ من البلدان.
فهذا الذي لا يجوز الاشتغال به في أي بلدٍ من البلدان، يعمل في هذا البلد بسبب ضعف التعاون، وضعف الهمة وقلة الإنكار.
فلو أن كلاً منا أنكر بما يستطيع كتابياً أو هاتفياً أو مقابلةً، وتعاونا على ذلك لاستطعنا -إن شاء الله تبارك وتعالى- أن نعيد إلى هذه البلدة الطيبة الطاهرة ما أراده الله تبارك وتعالى وما يرضيه من بقائها خالصة له عز وجل لا شرك فيها ولا بدع، ولا ضلال ولا فجور ولا تبرج ولا سفور ولا ربا ولا زنا ولا مخدرات، ولا فواحش ظاهرة أو باطنة، ولا غش في المعاملات.
فلابد أن نعظم هذه البلدة، وأن نقيم فيها أمر الله، ونقيم فيها حدود الله عز وجل وأن يشعر الإنسان بمجرد أن يقترب منها من بعيد أنه آتٍ إلى بلد الإيمان، بلد الطهارة وبلد الفضيلة، فيرق قلبه وتخشع جوارحه وتدمع عينه، ويأتي إلى هذا البيت وقد عزم عزماً أكيداً على أن يغسل كل ذنب قد أذنبه، وكل معصيةٍ قد فعلها من قبل، وأن يجدد العهد مع الله عز وجل، وأن يطيع الله ما بقي من عمره.
أما إذا جاء فوجد دواعي الشهوة والإثارة وحب الدنيا، والميل إلى ما حرم الله ماثلةً أمام عينيه، حتى داخل المسجد الحرام -كما يقع وكما شكا إلينا كثير من الناس كتابياً أو هاتفياً من هذا الشأن -فإن هذا والله مما لا يجوز أن نسكت عليه أو أن نقره، -والحمد لله- أننا سنجد التجاوب إن شاء الله- وهو موجود، ولكن التجاوب يكون مع مطلب وتحرك من أهل الخير، ومع حثٍ من أهل الفضيلة.
ومما يساعدنا -إن شاء الله تبارك وتعالى- على هذا الشيء أن ننشر الكتيب الإسلامي، وأن ننشر الشريط الإسلامي بين الحجاج، والمعتمرين وبين المقيمين، ويبين فيها ما يدل على تعظيم هذا البيت وعلى فضله، وإذا نشرنا بينهم الأذكار الصحيحة استغنوا بها عن الأذكار البدعية، وإذا بينا لهم أحكام هذه الشعائر المكانية والزمانية استغنوا بذلك عن البدع التي هم فيها.
والحمد لله أنه يغلب على من يأتي إلى هذه البلاد، أنه يطيع ويسمع ويتقبل، فهذا من فضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا أمرٌ مشاهد وملموس في الحج وغيره.
فإذا نشر بينهم الشريط النافع الطيب، ووجدوا أن في هذه البلدة من يستقبلهم من أهلها، ويهدي إليهم الخير، والنصح والمحبة، فإن هذا مما يفتح صدورهم وقلوبهم إلى الخير، ولو تأملنا في التاريخ لوجدنا أن كثيراً من دعوات التجديد والإصلاح والتوحيد التي قامت في أطراف الأرض إنما كانت بفضل من الله تبارك وتعالى، ثم بسبب هذا الحج.
حيث كان الحجاج يقدمون إلى هذه البلاد، فلما جاءوا بعد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- فوجدوا شعائر الله معظمة، ووجدوا حرمات الله معظمة، ووجدوا أن دين الله ظاهر، فأخذوا هذا العلم وهذه العقيدة فعادوا بها، فانتشرت دعوة التوحيد في الهند وفي جزر الهند وإندونيسيا وما حولها، وانتشرت في نيجيريا وفي كثير من الدول مثل الصومال وفي غيرها من المناطق، فانتشرت دعوة التوحيد من هذه البلاد انطلاقاً من الحج أو العمرة، من مكة أو المدينة، التي إذا صلحت صلح بقية العالم -إن شاء الله-؛ لأنه كما جاء في الحديث {إن الإيمان ليأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها}.
فيجب أن نحيي هذه الشعيرة، وأن نجعل الإيمان بارزاً ظاهراً، وأما أن يظل كلٌ منا في حدود نفسه، أو يعظم شعائر الله في قلبه ونحن نستطيع أكثر من ذلك فإن هذا مما نخشى أن يعمنا العذاب بسببه؛ لأننا نستطيع أن نفعل ما هو أكثر من ذلك، ونستطيع أن ندعو إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن نقيم الحجة في حدود قدرتنا.
إننا لواثقون -والحمد لله- من استجابة الناس في داخل هذه البلدة، أو من القادمين إليها إلى مثل هذه النصائح وهذه التوجيهات، خاصة مع قدوم شعبان ثم رمضان، وهنالك سيكون الزحام وستكون أمور عظيمة، ويليها الحج وما فيه كما تعلمون.
فأمامنا الأشهر التي تكون فيها شدة ازدحام هذا البلد، وشدة ظهور كثير من هذه المنكرات في هذا البلد فيجب علينا أن نعد العدة، وأن نبذل الجهد في سبيل القضاء على كل ما يتنافى مع تعظيم هذه البلدة الطيبة الطاهرة، التي جعل الله تبارك وتعالى الذنب أو العمل فيها ليس كغيره، قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم ٍ} [الحج:25].
قال بعض العلماء: 'لم يرتب الشرع أو يرتب الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-العقوبة على عملٍ بمجرد الإرادة إلا في هذه البلدة، أما في غيرها فإن الذنب إنما يترتب على الفعل لا على الإرادة، ولا غرابة في ذلك؛ لأن الله تعالى اختصها وشرفها بما تعلمون'.
نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينفعنا وإياكم بما نقول ونسمع، وأن يجعلنا ممن يعظم شعائر الله ويحفظ حدود الله، ويقيم دين الله عملاً بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والحمد لله رب العالمين.(44/20)
الأسئلة(44/21)
الفساد في مشاعر الحج
السؤال
يقول: إنَّ أهل مكة جعلوا عرفة ومنى ومزدلفة محلاً للخروج والفتن والطرب، وفيها أشياء أُخر؟
الجواب
في الحقيقة هذا لا يجوز، وهذا مما يتنافى مع تعظيم شعائر الله، وهذا أمرٌ ملموس، وقد خرجت مرةً فعجبت أن عرفة قد أصبحت ميداناً لما يسمونه بالتفحيط، وعلى مشهد ومرأى من المرور، ولا أدري أهو عجز أم ضعف؟! ولكن هذا هو الحال.
أما التبرج والفتن والسهر والطرب، فهذا -لا حول ولا قوة إلا بالله- كثير، وبعض الناس يركبون في سيارات الأجرة أو في غيرها، ويذهبون إلى هذه المشاعر ليتعرفوا عليها، والتعرف عليها لا بأس به إذا كان في حدود منضبطة؛ لأن أيام الحج قد لا يستطيع الإنسان أن يتعرف بسبب الزحام، أما أن يكون هنالك من التبرج والاختلاط وربما كانت بعض النساء من غير محرم، فهذه الأمور كلها لا تجوز.(44/22)
حدود الحرم
السؤال
ما مدى صحة كون وادٍ في الطائف حرماً، وهل عليه دليل؟
الجواب
هذا الوادي جاء عن بعض العلماء وأظنه في مذهب الشافعية أنه حرم، وهذا لا يثبت ولا يصح، وإنما الحرمان فقط هما مكة والمدينة، وحتى بيت المقدس ليست حرماً، وما يقوله بعض الناس عند قولهم: الحرم الإبراهيمي أو الحرم الأقصى هذا من الأخطاء العامة التي درج عليها الناس.(44/23)
بدع تقترف في المدينة المنورة
السؤال
ما رأيكم في الآثار التي في المدينة والتي منها ما يزار، وما هي حقيقة المساجد السبعة؟
الجواب
المساجد السبعة لا أصل لها فيما نعلم، ولا يجوز أن تختص تلك البقعة بأي نوع أو أي عملٍ من أعمال العبادة، وهذا يدخل في البدع أيضاً.
والبدع في المدينة كثيرة جداً -ولا حول ولا قوة إلا بالله- والأماكن البدعية كثيرة كذلك، وكما اقترح الأخ الذي كتب سؤالاً آخر ويقول: لماذا لا تمنع الكتب البدعية للمناسك؟ نعم، وحبذا لو تقوم الأمانة العامة للتوعية في الحج بذلك، بأن تطبع كتباً أو نشرات وتوزع، وهذا -والحمد لله- يحصل، لكن نريد شيئاً مخصوصاً بهذا لمن يدخل المدينة بالذات ليبين له الأماكن التي لا يجوز زيارتها، والتي زيارتها تعد من البدع، ولا يؤجر صاحبها ولا يثاب عليها، وهي كثيرة.
ولا نبالي بقول من يقول: دع الناس يطلبون الرزق، كما يقول كثير من الناس، وهذا هو الذي كنا نقابل به في المدينة، أي: من أهل سيارات الأجرة وأهل المطاعم، ممن يطلبون الرزق ويتكسبون بالبدع، وهذا مما لا يجوز.
فأقول: لعله -إن شاء الله- أن يكون من الكتب النافعة المصورة ما يوضح -مثلاً- صورة هذه المساجد، وصورة الأماكن الأخرى التي يعظمونها، وهي كثيرة منها ما نعلمه ومنها ما لا نعلمه، فتحل محل الزيارات البدعية، وفي الوقت نفسه تسحب الكتب البدعية، ويمنع من يسمون المزورين، وهم مزورون -فعلاً- يزورون الحقائق ويجعلون السنة بدعة والبدعة سنة، فيمنع هؤلاء من هذا العمل.(44/24)
حكم تعطيل شعائر الله للضرورة
السؤال
هل يجوز تعطيل بعض شعائر الله في بعض الأزمنة للضرورة كما يستدل بعض الناس أن عمر رضي الله تعالى عنه لم يقم حد القطع في عام الرمادة لما اشتد الجوع؟
الجواب
الأصل في شعائر الله تعالى أنها لا تعطل، وحدود الله لا تعطل لكن إذا اقتضى سببٌ شرعي لإيقافها في وقت معين أو عن أشخاص معينين، فما دام السبب شرعياً فلا بأس بذلك، ولكن هذا لا يعد نسخاً ولا يقاس عليه، فإن دين الله قد ختم وأكمل، ولا يحق لأحد أن ينسخه أو يقيس عليه.
وما يسمون -الآن- بالمدرسة العصرية الذين يرون إسقاط الحدود في هذا العصر لكثرة الفساد الاجتماعي والاقتصادي، ويستدلون بما جاء في السير عن عمر -رضي الله تعالى عنه- فنقول لهم: هذا قياسٌ فاسد باطل، ولا يصح ذلك.(44/25)
التوبة
السؤال
أنا شابٌ منحرفٌ، أريد الاستقامة وهذه أول محاضرة أسمعها، وأول مرة أحضر لدرس العلماء، وأنا أريد أن أتوب، مع أنني قد ارتكبت جميع المحرمات، ولي جلساء لا يخافون الله، كيف أستقيم، وكيف أرجع إلى الله وكيف أترك جلساء السوء؟ وأرجو أن تدعو لي ولمن مثلي!
الجواب
أولاً: نحتاج الدعاء من الجميع بأن يثبتنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جميعاً على الحق والخير والهدى والاستقامة، وادعوا -أيضاً- لأخيكم هذا، والحمد لله الذي هداه، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يهدي قلوب جميع شباب المسلمين.
ونوصيك يا أخي بالإقبال على كتاب الله، تلاوةً وتدبراً، والإقبال على مساجد الله، والمحافظة على الصلاة فيها، وحلقات الذكر، والانعزال والترك لكل جلساء السوء الذين أشرت إليهم في رسالتك، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذا أقبل عليه العبد بصدق وإخلاص؛ فإنه يعوضه الخير والأمن والطمأنينة.
وكما جاء في الحديث: {لله أشد فرحاً بتوبة عبده إذا تاب، من رجل كان في فلاة، فضاعت دابته وعليها طعامه وشرابه وسقاؤه، فلما رآها قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح}.
فالله تبارك وتعالى -وهو الغني عن العباد جميعاً- يفرح بتوبة التائب إذا تاب، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وقد وعد من يتوب ويستقيم بما يغري كل مذنبٍ أن يتوب، فقال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70].
فاطمئن يا أخي سيبدل الله تعالى سيئاتك حسنات، إذا تبت وآمنت وعملت صالحاً واستقمت، وأخذت ببعض ما أشرنا إليه من الأسباب التي تعينك -إن شاء الله- على الاستقامة فيما بقي.(44/26)
من أخطاء غاسلي الموتى
السؤال
هناك انتهاكٌ عظيم لحرمات الله من قبل المغسلين وإدارة شؤون الموتى حيث إنهم يشربون الشيشة ويشاهدون التلفاز بجوار القبور، وينتشلون الموتى قبل الموعد، ولقد رأينا ذلك في بعض منهم، وهم في الغالب من أهل البدع -ولا حول ولا قوة إلا بالله- فما رأيكم في هذا؟
الجواب
هذا والله من العجب! كما عبر بعض الناس وقال: موتى يدفنون موتى، فهم موتى ماتت قلوبهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نقول: الذي يغلب عليهم كما هو مشاهد لمن خبر أحوالهم، وبلغني من طرق كثيرة أن هنالك طائفةً كثيرة منهم ماتت قلوبهم فدخول الميت وخروجه ودفنه كأنه لا شيء عندهم، ومن المعلوم أن من تعظيم شعائر الله، أن تعظم حرمة الميت، وأن تعظم حرمة المقابر، وإذا كان القلب المؤمن لا يستحل ولا يستسيغ أن يشتغل بالغناء أو اللهو والطرب ومشاهدة التمثيليات في أي مكان، ولو كان في رأس جبل بعيد خارج جزيرة العرب، فكيف تكون قسوة هذا القلب، وغفلته وموته إذا كان يشاهد هذه المناظر، ويستمتع بهذه المحرمات، وهو بجوار أو في داخل المقبرة.
سبحان الله تجد منهم من هو جالس فوق المقبرة، والميت في الأسفل، وهذا يشاهد التلفاز في الأعلى، أو ما أشبه ذلك إلى آخر الليل، سبحان الله العظيم، أبلغت بنا الغفلة إلى هذا الحد؟ أبلغ بنا الانصراف عن الآخرة ونسيانها -وكأننا لسنا بميتين ولا محاسبين- إلى هذا الحد؟! أما كفانا أن المقابر لا تزار وأنا لا نعتبر بمن مات! أما كفانا أنا نقصر في الطاعات حتى نرتكب ونجاهر بمثل هذه المحرمات أمام أكبر موعظة، وكفى بالموت واعظاً، فيا سبحان الله، ما أغفل هذه القلوب؟! ثم إن الواجب على المسئولين في أمانة العاصمة، وفي هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإمارة منطقة مكة أن يقضوا على هذا المنكر، ومما يعجب له الإنسان أنه -فعلاً- تنتشل عظام ولحوم الموتى، وهم في حالةٍ لو رآها الإنسان؛ ما استطاع أن يراها أبداً، وهذه أمورٌ قد ثبتت عندي، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىأن يرفع عنا البلاء، وأن يرفع عنا هذه الغفلة، وأن يغيث قلوبنا ويوقظها بالإيمان، حتى تعرف قدره وعظمته، وتعظم ما عظم، ولا حولا ولا قوة إلا بالله.(44/27)
العمل في البنوك الربوية
السؤال
رجل سمع خطبةً في تحريم الربا وهو يعمل في بنك من البنوك، ويقول: بأن له ما يقرب من ثمان سنين وهو لا يعلم بأنه محرم إلا عند سماعه لهذه الخطبة فيسأل ويستفتي ماذا يعمل؟
الجواب
قبل الإجابة نقول: كيف يمكن أن يمكث المسلم ثمان سنوات ولم يسمع أن الربا حرام؟! وأن العمل في البنوك حرام، أليس هذا دليلاً واضحاً على تقصيرنا في الدعوة؟! ولا شك أن هذا الرجل مقصر؛ لأنه يعمل ولا يسأل عن عمله، والواجب على الإنسان أن يتحرى الحلال الطيب كما قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً} وقال: {كل جسد نبت من السحت فالنار أولى به}.
ولكن -أيضاً- نحن مقصرون؛ لأننا لم نبلغ الدعوة إلى هؤلاء، وهذا لا يعيش في واد منعزل، وإنما الذين يعملون في البنوك هم من إخواننا وقبائلنا وجيراننا وزملائنا، ونستطيع أن نكلمهم وأن نتعرف عليهم، ولو أن كل واحد منا مر ودخل البنك ووعظ، أو نصح أو ذكر أو أعطى كتيبات وبين الحق فإنه سيجد القبول، وأيضاً- نجد أنه يؤخذ منه الكتيب، أو الفتوى من فتاوى العلماء التي يعطيها لهم ليقيم الحجة عليهم، فهذا بالنسبة لواجبنا، أما واجب هذا الأخ الكريم فإنه يجب عليك -يا أخي- أن تجتهد من اليوم، ومن هذه الساعة أن تبحث لك عن عمل، فإن كنت تستطيع أن تعيش من غير دخل هذا البنك، فلتكن استقالتك منه غداً.(44/28)
الدعايات والإعلانات المعلقة في الشوارع
السؤال فضيلة الشيخ: ما قولكم في الدعايات التي تعلق في الشوارع؟
الجواب
إن ما ذكر في السؤال ليتنافى مع تعظيم شعائر الله، فالدعايات التي تعلق في الشوارع كعطر الأنوثة -التي سماها الأخ- العطورات، والإكسسوارات إلى آخر ما ترون من أمور تتنافى مع تعظيم شعائر الله في هذا البلد، وكذلك المجلات الخبيثة التي تباع في هذا البلد الطاهر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهذه الأمور كلها تتنافى مع تعظيم شعائر الله.(44/29)
واجبنا تجاه ديننا
في هذه المادة تحدث الشيخ حفظه الله عن قوة المسلمين لما تمسكوا بدينهم، وضعف جانبهم لما تغيرت نفوسهم، وتنكبوا شريعة ربهم، داعياً المسلمين بأن يعودوا لدينهم، وأن يكون العمل على رفعة شأنه هو همهم الأكبر، وأن يزيلوا عنه ما ألصقه به أعداؤه من تهم وشبهات عبر توفير المراكز المتخصصة لتخريج من يدافعون عن دينهم عبر وسائل الإعلام، وعن طريق الدراسة لهذه الشبهات والرد عليها بمنهجية صحيحة وواضحة.(45/1)
رحمة للعالمين
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله تبارك وتعالى أرسل محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهذا العالم الذي كان يموج بالجهالات، والضلالات، والفتن، والبدع، والخرافات، والظلم، واستعباد البشر، والطغيان الذي بلغ ذروته عند بعثته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأرسل محمداً بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أرسله الله ليقول للعالم: إن هذا الدين جاء لينسخ ما قبله، وأنه للناس كافة، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ:28].
وليقول لهم: إن الظلم والبغي والعدوان والطغيان وعبودية البشر من الأباطرة والملوك والأحبار والرهبان فكل ذلك قد انقضى زمانه، وولَّى على عقبيه بظهور شمس الهدى والتوحيد، وأعلنها صريحةً للعالم كله، أنه {إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله}.
أرسله الله تبارك وتعالى ليُحرر البشر من الأغلال التي رانت عليهم، ومن الشهوات التي أبعدتهم عن الله، وأنستهم اليوم الآخر، ومن الضلالات والدجل الذي تعوده قطاع الطريق إلى الله، فإذا أرادت الأمم والشعوب أن تهتدي إلى الله جاء قطاع الطريق ليقطعوا عليهم ذلك وليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم، فجاء مُحطِّم الطواغيت صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليعلم الناس -جميعاً- أنه لا كرامة للإنسان إلا بالإسلام، وأنه لا خير ولا حرية ولا فلاح للبشرية إلا بالإسلام، وأن كل دين قبله باطل؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19].
بعثه الله في هذه الأرض التي اختارها واصطفاها منذ أن أرسل إبراهيم عليه السلام وأمره ببناء هذا البيت العتيق، لتكون هذه الأرض مهوىً للأفئدة، مهبطاً للخير والحق، ومنبعاً للنور، ومشرقاً له في أنحاء العالم والمعمورة جميعاً.(45/2)
هذا الدين
شاء الله عز وجل أن يُحدث احتكاك وصراع بين هذه الحضارة وبين هذا الدين في كل أنحاء العالم، وهذا الدين بفضل الله ومنته هو الحق، إذ كلما غزاه الأعداء قوى واشتد ودخل إلى قلوبهم، جاء أجدادهم الصليبيون وغزوا العالم الإسلامي، وبقي منهم الكثير في بلاد الشام والعراق ومصر وغيرها مؤمنين بهذا الدين، ومن عاد منهم إلى أوروبا عاد وقد حمل قبساً من حضارة الإسلام، وجاء التتار واجتاحوا العالم الإسلامي، ثم كانت النتيجة أن دخلوا في دين الله أفواجاً، وهم إلى الآن من جملة المسلمين.
وفي هذه المرة نرجو الله تبارك وتعالى أن تعود الكرَّة، وأن يغزو هذا الدين قلوبهم، لأنه الحق، وفطرة الله التي فطر الناس عليها وأن يغزوَ قلوب العالمين أجمعين.(45/3)
وجوب الدعوة إلى الله
هذه الخاصية العجيبة لهذا الدين -وهو أنه يغزو القلوب- لا تعنينا، ولا تعفينا من أن نقوم بواجبنا في نشره والدعوة إليه، والله تبارك وتعالى لو شاء لآمن الناس كلهم جميعاً، ولكنه ابتعث محمداً -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيرَ خلقه وأفضلهم وأكرمهم على الله- ابتعثه وعانى ما عانى في بدر وأحد والأحزاب، وتبوك، وغيرها لكي يقام هذا الدين وينتشر.
فإذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل ذلك فنحن أتباعه ولا بد أن يكون لنا جهد ودور وبذل في نشر هذا الدين، فصاحب المال بماله، وصاحب العلم بعلمه، وصاحب الوجاهة بوجاهته وكلٌّ بقدر ما أهله الله تبارك وتعالى.
فإن الله إنما ميَّزنا وشرَّفنا وفضلنا بهذا الدين، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: [[نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]]، فهذه الشعوب التي جاءت إلى هذه البلاد إنما جاءت من أجل الدنيا، لا تحبنا ولا تعظمنا ولا تنظر إلينا إلا بمقدار ما تنال من كسب مادي في بلادنا، أما ما عظمنا الله وشرفنا به على العالم، فهو هذا الدين الذي لا تملكه أية قوة، ولو أن هذا الدين -بخلوده وعظمته وقيمه- يُشترى بالمال، لاشتراه الغرب، ولاشتراه الأمريكان، أو لاشترته أية أمة من الأمم التي تلهث الآن وتبحث عن مبادئ وقيم تعيش عليها.(45/4)
نقمة الكافرين على المسلمين
ولكن لما كان هذا الدين من عند الله، ومنعهم الكبر، والحسد، والحقد على هذا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه من ذرية إسماعيل، واليهود والنصارى حاقدون وناقمون وساخطون على الله عز وجل؛ لأنه لم يبعثه من ذرية إسحاق، فهذه قضية يجب أن نعلمها جميعاً، ولذلك ذكر الله في سورة الجمعة: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2]، فهذه ملة الإسلام.
ثم ذكر بعد ذلك -مثلاً- للذين من قبلنا -اليهود والنصارى ولا سيما اليهود- وضرب مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفارا، لأنهم لم يقوموا بأمانة الكتاب، فنقل الله تبارك وتعالى النبوة والاصطفاء إلى فرع إسماعيل عليه السلام، فكان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وانتقلت الأرض المباركة - أرض الأنبياء - من بلاد الشام إلى هذه البلاد الطاهرة المقدسة، ومنذ ذلك الحين والشرق والغرب يحسدوننا على هذا، كما قال تعالى: {حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة:109].
وذكر الله تبارك وتعالى هذه العداوة وهذا الحسد، وحذَّرنا منه في آيٍ كثيرة، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، وقوله تعالى: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً} [النساء:101]، ويقول عز وجل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة:120]، ويقول تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، ويقول تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]،ويقول تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:105]، إلى آخر الآيات.
فالآيات كثيرة جداً، ولعل المقام يطول بنا لو استطردنا فيها وفي تفسيرها، وكلها تدل على أن هذا العالم الغربي ينقم على هذه الأمة.
وهو الذي دفع بعضهم -بدون استحياء أو تورع- أن ينشر هذا الدين الممسوخ الباطل في بلاد التوحيد، وعلى مسافة قليلة جداً من بيت الله الحرام الذي بناه إبراهيم عليه السلام ليوحد الله وحده لا شريك له.
فلا بد لنا -ونحن على الدين الحق- من أن ندعو هذه الآلاف المؤلفة الذين هم بين جاحد بوجود الله أو عابدٍ للمسيح عليه السلام الذي جاء ليقول لقومه: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30]، {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} [آل عمران:51]، فكل هؤلاء أتوا إلى هذه البلاد، ولتقصيرنا وانشغالنا بدنيانا وإهمالنا لديننا، طمع أولئك المنصرون أن ينصروهم في بلادنا! فتجد أن الذي يأتي من كوريا أو تايلاند أو الفلبين إلى هذه البلاد يظل عشر سنوات أو أكثر ولا يحدثه أحدٌ عن الإسلام ولو بكلمة واحدة! ولكن الأمريكي أو الألماني من الممكن أن يحدثه، عن الإنجيل، والصليب وعن الدين الباطل، الذي لا يجوز أن ينشر في هذه البلاد، ولا في أي مكان في العالم لأن الله تبارك وتعالى أرسل المسيح عليه السلام إلى بني إسرائيل فقط كما قال تعالى: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيل} [آل عمران:49].
وفي الأناجيل الموجودة الآن، أن امرأةً سورية جاءت إلى المسيح عليه السلام، وقالت: 'يا روح الله! اهدني أو علمني، فقال لها المسيح عليه السلام: أيتها المرأة أأنت من بني إسرائيل؟ قالت: لا أنا سورية -الأناجيل تختلف- فقال: إنما بعثت إلى خراف بني إسرائيل الضالة'.
فهو يقول لها: أنا لم أبعث إلى الفينيقيين ولا إلى السوريين فضلاً عن الروم! ولكن هؤلاء وبعد أن حرفوا دينه، وجعلوه ديناً عالمياً ويُستنفرون في نشره ويبذلون المليارات لمئات الجمعيات بل للآلاف من الجمعيات، وللمعاهد والكليات، والمستشفيات، والمطارات، والمنشئات في جميع أنحاء العالم، فضلاً عن الإذاعات، واستخدام شبكات التلفزيون عن طريق الأقمار الصناعية، كل هذه الجهود لنشر هذا الدين الباطل المحرف، الذي لم يجعله الله تبارك وتعالى ديناً للعالمين في الأصل.
ونحن -مع الأسف الشديد، أقولها بكل ألم ومرارة- لم نفعل مثلهم إلا بعض الجهود المباركة -التي سيعزها الله تعالى، لأنه قد تأذن أن يعز من أعز دينه.(45/5)
الاهتمام بالدعوة لهذا الدين
إنَّ الواجب علينا أن تكون مراكزنا مناراتٍ عليا في كل بقاع العالم، ونحن أولى بـ اليابان وبـ كوريا وبغيرها من المنصرين الغربيين، نحن أولى بـ الهند، أن تكون كلها مسلمة، تستضيء بنور التوحيد والإيمان، وهذه صفة هذه الأمة، كما قال الله عنها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، ولكنا لما تخاذلنا ووصلنا إلى الصفر، غُزينا في عقر دارنا، وقد قال علي رضي الله تعالى عنه: [[ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا]] وهذا من الذل والهوان، إننا نحتاج إلى جهد جماعي إلى جانب الجهود الفردية، نحتاج إلى الإخلاص، وإلى القلوب الصادقة، إلى التضحية ولو بدرهم ولو بساعة من الوقت لوجهه الكريم وهو الذي يبارك هذه الجهود.
ولا شك أن الأمة -في مجموعها- قصرت في هذا الواجب العظيم -الجهاد والدعوة- فاحتجنا إلى أن نأتي بمثل هذه الحلول المؤقتة لأن الأصل أن لا يدخل في جزيرة العرب كافر على الإطلاق، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجلاهم وأخرجهم وما بقي إلا قلة من يهود خيبر ونصارى نجران، فأوصى عند موته بأن يخرجوا مع أنهم من أهل هذه الجزيرة وسكانها، وقال: {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان} فأجلاهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولم يبق فيها إلا مسلم.
حتى إن عمر رضي الله تعالى عنه لما احتاج المسلمون إلى بعض بضائع الروم والقبط وغيرها، جعل لهم ثلاثة أيام يأتون بظاهر الحرة في المدينة، بعيداً عن الحرم، ويبيعون لمدة ثلاثة أيام ثم يرحلون ولا يعطون إقامةً دائمة في هذه الجزيرة؛ لأنها جزيرة الإسلام والتوحيد.
فنحن تهاونا بإدخالهم، ثم تهاونا في دعوتهم، ثم أصبحنا في بلد الإسلام نشكو أن مدراء بعض الشركات والمصانع غير مسلمين! وما أوصلنا إلى ذلك إلا ذلنا وضعفنا وهواننا وتخاذلنا - مع الأسف الشديد - وإلا فهؤلاء كان الواجب أن لا يدخلوا أصلاً، فإن دخلوا للضرورة، فبذلة ومسكنة لا أن يتحكموا في نشر دينهم، أو أن يسيطروا على وسائل إعلامية عظيمة جداً، حتى إن الإذاعات باللغة العربية تذيع وتبث على المنطقة في الصباح وأحياناً في المساء رسالة يقرءونها من رجل يقولون: إنه كان طالباً في المدينة، وتعلم فيها ثم انتقل إلى مكة، ثم بعد ذلك تبين له أن هذا الدين باطل -يعني: دين الإسلام- ثم راسل جمعيته وأرسلوا إليه الكتاب المقدس، ثم اهتدى للدين الصحيح، -يعني النصرانية - فيبثون هذا علينا، وغيره من الأباطيل.
فلا بد علينا من أن نستفيد من هذه الهمم والجهود، ولا بد علينا من إنشاء المراكز الإدارية التي تدعو للخير، وعلى أصحاب المصانع أمانةٌ كبرى في مقاومة الشر، ونشر الخير بين المؤمنين، فالمسلم يحتاج إلى أن يُعلَّم دينه، لأنه قد يأتي وفيه بعض العادات السيئة والأخلاق الذميمة فيعلم وإلا فلا يصلح أن يأتي إلى هذه البلاد! فالكافر من باب أولى، بل هناك نصوص في تحريم دخولهم، فإذا كان دخولهم مفروض علينا فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لكن لا بد أن نُذكِّر بالأصل.
وأن الواجب علينا أن نبذل جهدنا بدعوتهم، وأن نتعاون -جميعاً- في ذلك، وأن نفتح مراكز في شركاتنا ومصانعنا للدعوة إلى الإسلام، وأن نستفيد ممن يجيد التكلم بأكثر من لغة، والحمد لله يوجد في جامعة أم القرى مدرسون وطلاب يجيدون لغات عدة وهم من أكثر من أربعين دولة منهم الإخوة الذين أسلموا حديثاً.(45/6)
مثال لقوة تأثير هذا الدين في الأشخاص
كان رجلاً يتقاضى شهرياً ما يقارب خمسة وعشرين ألف ريال، مع سكن وسيارة وتهيئة كاملة، كل ذلك ليصبح قسيساً كبيراً في بلادهم -في إحدى جمهوريات إفريقيا الوسطى زائير - ثم شاء الله تبارك وتعالى أن يذهب إلى روما، ليتمكن في الدين أكثر وأكثر، لكنه اكتشف أن الدين الذي هو عليه كذب، وأنها مؤامرات كما ذكر الله تبارك وتعالى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران:71]، مؤامرات ضد الإسلام! فرأى أن الكل يعلمون أن الدين الإسلامي هو الحق، وكلهم يعرض عن فكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا ناقشهم فيه وفيما جاء في الكتب عنه يعرضون ويتعجب، حتى اطلع بنفسه على المكتبة القديمة، ووجد الأناجيل القديمة، تصرح بذكر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن الله تعالى سيبعثه من أرضٍ ذات نخلٍ بين حرتين، وأن صفته كذا ولونه كذا، وخاتم النبوة بين كتفيه، وأشياء عجيبة جداً، فما ملك إلا أن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله في الفاتيكان! ثم جاء إلى هذه البلاد، ويريد أن يتعلم اللغة العربية وهو يعطى الآن مكافأة خمسمائة ريال.
لكن الكنيسة لم تتركه، بل أرادت أن تفتنه في دينه بمقارنة حالته الأولى وما كان عليه من النعيم والأموال وحاله بعد دخول الإسلام، لكنه ثابت مقتنع.
فهذا عرف الحق لما رأى الدلائل عليه، وما لتلك الدلائل من قوة فقد ثبت على هذا الدين.(45/7)
من أجل دعم هذا الدين
وللحاجة الشديدة العظيمة للناس بمعرفة الحق، ولمعرفة صدق نبوة محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأينا أن الواجب علينا أن نسهم بنشر كتابٍ يقضي على شبهات أعداء الله وأعداء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -من أهل الكتاب- قضاءً مبرما، وجواباً محكماً، وهو كتاب شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، وهو أربعة أجزاء، وقد يصل إلى ثمانية مع الشرح والتعليق، لأننا لا بد أن نتعرض للنصرانية بعد شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، وحالها المعاصر، وفرقها وما إلى ذلك، فهو عمل ضخم جداً ونريد أن نفرغ له مترجمين يترجمونه إلى كل لغات العالم، إذ لا تكفينا لغة ولا لغتان ولا عشر، لأنههم ترجموا الإنجيل إلى ألف ومائتي لغة، فهو عمل يستقطع من الجهود، والنفقات، والتكاليف، والأعباء الشيء الكثير، فإذا أخذنا نموذجاً واحداً فقط وهو ترجمته إلى اللغة الإنجليزية بعدد لا يقل عن خمسمائة ألف نسخة؛ لأن لدينا أكثر من عشرة آلاف جامعة وكلية في أمريكا وأوروبا، يجب أن يصل إليها الكتاب مجاناً، ولا يقل عن نسختين أو ثلاث لكل منها، فإن المبلغ قد يصل إلى ثلاثين مليوناً! وهذه للغة واحدة فكيف ببقية اللغات؟.
فهذه جهود تحتاج إلى عمل، وتضحيات وبذل، وهذا دين الله، وهذه أمانتنا، ويجب أن نضع هذه الأمة أمام مسئوليتها سواءً كانت حكومات أم شعوباً، أم شركات، أم مؤسسات، أم عمالاً، بل أي إنسان مسلم ينبغي أن نقول له: هذا دينك، إما أن تقوم بنشره وبدعمه وبكل ما تستطيع، وإلا فاعلم أنك أخللت بواجبٍ عظيم! إننا لم نخلق لنجمع المال ونشرب الشراب ونطعم الطعام ونترفه كما نشاء، خلقنا لأمر أعظم من هذا كله، فهذه وسائل نعيش بها، لكن خلقنا لنكون داعين إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
فلا يحقرن أحد منا جهده، لا بد أن نتعاون جميعاً، وأن نبدأ بالعمل، -والبدايات دائماً صعبة وشاقة ولكنها بإذن الله هي التي تكسب في النهاية- وهذه الأعمال لها أجر عظيم كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من دعا إلى هدىً فله أجره وأجر من عمل به إلى قيام الساعة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة فعليه وزرها ووزر من عمل بها} نسأل الله العفو والعافية.
فنريد -جميعاً- أن نحيي هذه الأمة، ونوقظ فيها روح الإيمان والتضحية، وأن تعرف عظمة دينها وعظمة رسولها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتحس أن واجبها كبير، وأنها هي التي ائتمنها الله على هذا العالم بقوله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143].(45/8)
إشعال حماسة الدين في الناس أجمعين
فلا بد أن نجعل المرأة العجوز، والشيخ الكبير، والغلام الصغير، وكل إنسان في المجتمع يشعر بواجبه كما شعر أجدادنا بواجبهم من قبل، وقبورهم شاهدة عليهم، فهذا أبو أيوب الأنصاري في القسطنطينية، وبعضهم في بلاط الشهداء في فرنسا، وبعضهم في خراسان، فهم خرجوا بأموالهم وأنفسهم يدعون إلى الله، وينشرون هذا الدين، فأعزهم الله وأظهرهم وأورثهم الأرض، وهذا فضل الله القائل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105].
فلو أن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- أرادوا أن يسابقوا الروم أو الفرس في الحضارة والصناعة والتقدم متى يلحقوا بهم؟ لكنهم أتوا من أقصر الطرق، من باب الهداية، فلما أتوهم من هذا الباب أورثهم الله حضارة أولئك القوم، وجاء ملوك الروم والفرس مصفدين في الأغلال مقيدين إلى مائدة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبيداً لهؤلاء القوم، لما قالوا: لا إله إلا الله بحق وبيقين، ولما آثروا الآخرة على الدنيا، جاءتهم الدنيا راغمة، حتى كان الرجل يخرج بصدقته فلا يجد من يأخذها منه.
وقد وقع ذلك في أيام عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، لكنا لما أردنا الدنيا، ما استطعنا أن ننافس أمريكا اليوم، أو حتى ولاية من ولاياتها حتى ما عندنا من مصانع وأشياء.
ففي الغالب أن كثيراً منها قد استورد استيراداً منهم! فنحن نسابق بطريق طويل، ولدينا طريق أسهل وأقل تكلفة، ولكنه أعز وأشرف وأعظم وهو اللائق بهذه البلاد.
لا نقول: أقفلوا المصانع، ولا تأخذوا من الحضارة المادية شيئاً، بل نحن أولى بها، لكن يجب أن نعلم الحكمة من خلقنا، ويجب أن تسخر هذه الجهود وهذه الإمكانيات لخدمة ديننا، ولا نقدم عليه شيئاً، فإذا تعارضت دنيانا مع الدين فإننا نقدم الدين، فالأصل الدين؛ والدنيا تبع له، فإذا كنا كذلك فإن الله لن يضيعنا، ولن يخيبنا، فسوف ننال السعادة والراحة والطمأنينة في الدنيا والآخرة، وأما من أعرض عن هذا الطريق، فإن الله تبارك وتعالى أخبرنا عنهم فقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا ً) [طه:124]، والله إنهم ليعيشونَّ المعيشة الضنك من الجرائم، والمخدرات، والانهيارات، والدمار الخلقي، وما لا يدخل تحت الحصر من سوء الحياة والمعيشة.
ثم لنا عليهم الفضل عند الله في الجنة، -وهي أعظم شيء- فالجنة هي الثمرة التي بايع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه الأنصار ليلة العقبة عنها، قالوا: وما لنا يا رسول الله؟ قال: لكم الجنة، قالوا: ربح البيع، لا نقيل، ولا نستقيل، في الجنة موضع سوط أحدنا -كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خيرٌ من الدنيا وما فيها، وخير مما طلعت عليه الشمس.
نحن الآن نتنافس ونتسابق على مساحة من الأرض قد تكون مائة ألف متر، أو مليون متر، لكن موضع السوط الذي هو خير من الدنيا وما فيها قليل من يتنافس من أجله، نحن الآن نتنافس على المشروعات التي تنتج بعد سنة ربح (20%)، أو (30%) لكن الجنة التي أخبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها أنها قيعان وغراسها ذكر الله، فإذا قلت: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، كان لك بكل كلمة من هذه الكلمات غرس نخلة أو شجرة في الجنة مثمرة، وليس كزرع الدنيا مع قلة من يشمر لها.
ولذلك يقول الله - تبارك وتعالى -: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46]، فالمال، والمؤسسات، والشركات، والثروات زينة الحياة الدنيا.
ثم يقول: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاًً} [الكهف:46]، جاء في الحديث تفسير لمعنى الباقيات الصالحات أنها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وهي خير من الملك، والوزارات، والشركات، وخير من الثروات، ولا تتعارض معها، لكن اجعل مع هذا المال الذكر كما أوصى الله تبارك وتعالى وبيَّن في وصية العباد الصالحين الذين نصحوا قارون فقال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77]، هكذا ينبغي أن يكون الإنسان المسلم في ماله.
وبين في آية أخرى، فقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32]، فالله تعالى لم يُحرمها على عباده المؤمنين، لكن يجب أن نسخرها لخدمة الخير والحق.
أسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا ممن يعز به هذا الدين، وأن يجعلنا جنوداً لدعوته وخُدَّاماً لدينه، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
والحمد لله رب العالمين.(45/9)
نقاط حول الصحوة
تكلم الشيخ حفظه الله في هذه المادة عن أهمية هذه المرحلة التي تعيشها الصحوة الإسلامية، في ظل المتغيرات التي تشهدها الأمة الإسلامية، مبيناً بعض الأسباب التي كان لها دور في التدهور الذي لحق بالمسلمين، وموضحاً ما تبع ذلك من المد الرافضي وأثره على الدعوة الإسلامية، مختتماً حديثه ببيان ما يجب على شباب ودعاة الأمة في هذه المرحلة.(46/1)
أهمية الموضوع
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا, إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, واجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهك الكريم.
أما بعد: فلا يخفى على أحد أن أمر الدعوة إلى الله هو أهم أمر يجب أن يشغل بال المسلم بعد همه، بأن يكون في نفسه وأهله وخاصته مستقيماً على أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, ولا يكون لك ذلك إلا بالاهتمام بأمر هذه الدعوة، وقد كان الإنسان عندما يتحدث عن أمر الدعوة, إنما يريد المحيط الذي يعيش فيه -المسجد وما حوله- ولكننا في عصر أصبح الكلام فيه كلاماً عن الواقع العالمي كله شئت ذلك أم أبيت.
إن الأحداث العالمية أصبحت تترابط, وإن الواجب الكبير الذي غفلت عنه الأمة الإسلامية بالنسبة للدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليحتم على كل من يستطيع ولو بشيء من التذكير أن يقوم بهذا الواجب, ومن هنا فإن طابع الحديث عن المرحلة المعاصرة للدعوة، سيكون طابعاً شمولياً لا يتحدث عن بيئة معينة، ولا عن وضع بذاته.
وإنما ننطلق جميعاً من أسس واضحة، وحول قضايا عامة لا تهمنا وحدنا بل هي الآن وحتى هذه اللحظات محل دراسة الشرق والغرب، ومحل اهتمام كثير ممن نعلم ومن لا نعلم.
ونحن وإن كنا -شباب الإسلام- في غفلة عما يراد بنا وعما يخطط لنا, فإن العالم من حولنا ليس غافلاً عنا, وإنما نحن نعتصم بحبل الله ونحن نتوكل عليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونحن كلنا نثق بأن الله سوف ينصر هذا الدين, ويظهره على الدين كله ولو كره الأعداء من الكافرين والمنافقين والمجرمين والمرجفين.
هذه المرحلة التي نعيشها وتعيشها الدعوة هي أخطر مرحلة مرت بها في التاريخ الحديث.
ونحمد الله أن تاريخنا دائماً مرتبط بالدعوة، فإن افتتاح الدعوة في العصر الحديث يبدأ بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ويبدأ تاريخنا الحقيقي في حياتنا كلها دائماً بالدين والدعوة وبتاريخ الإنسانية وبآدم عليه السلام، وهو نبي من عند الله، وكان على التوحيد هو وأبناؤه عشرة قرون, ثم الأب الثاني نوح وهو أول الرسل, ثم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي يبتدأ تاريخ هذه الأمة به.(46/2)
مرحلة مهمة في حياة الدعوة
ونحن في عصرنا الحديث يبتدأ تاريخنا بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، إلا أن الحقبة المهمة جداً التي يجب أن نتعرض لها ونكثر الحديث عنها -وكم يضيق الوقت دائماً عن استكمال جوانب مهمة من مثل هذه الموضوعات- هي الحقبة التي نعيشها الآن، والتي نرى آثارها في واقعنا المعاصر ونسمع أصداءها, بحيث إنك لو قرأت مجلة أو جريدة أو فتحت أي إذاعة في هذه الأيام تجد ما يدلك على هذا.
هذه هي مرحلتنا، ولحساسيتها ولقلة الكلام فيها يجب على من يستطيع أن يبين ولو شيئاً من المعالم حتى يبرأ إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأنه قد قال، أو أنذر، أو حذر.
ونحن -أيها الإخوة- نعيش بلا ريب صحوة إسلامية مباركة, وهذا فضل من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بكل المعايير وبكل الموازين مهما تكالب الأعداء فهي يقظة عجيبة, وهي رجوع لم يكن أحد يتوقعه ولا يحسب حسابه, وهذا فضل من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وللبداية الحقيقة لتقريري هذا أفصل في هذه الصحوة المباركة:(46/3)
حرب 67م آثار ونتائج
نبدأ من نقطة مهمة، حيث لا يجوز أن نغفل عنها، وهي الهزيمة التي حلت بالأمة العربية بعد العدوان اليهودي عليها في حرب صفر عام (1387هـ) أو ما يسمونه حرب يونيو (1967م) أو نكسة حزيران, أو النكبة، وغيرها من هذه المصطلحات.
المهم بعد هذه المعركة بدأت هذه المرحلة, وهنالك سقطت الأصنام وانكشفت الجيوش, وهنالك حطمت التماثيل التي ضل الناس يقدسونها ويعبدونها ليل نهار، كـ الاشتراكية، والقومية، والمزاعم التي جعلت الإسلام يقترن بالرجعية في أذهان أكثر الأمة.
فمكر الليل والنهار الذي كان يعمل دائماً حتى أوصل إلى القروي والفلاح، وإلى الرجل الذي في البادية أن الإسلام رجعية وتأخر، ولكن حلت الهزيمة وكانت معها اليقظة، وهذه سنة الله تعالى في هذه الأمة، فقد تعرضنا لذلك في محاضرات سابقة وقلنا: عندما تسقط الأمة إلى القاع تبدأ في الارتفاع، وهذه السنة في الحروب الصليبية وفي هجمة التتار، ثم في هذه الهجمة الجديدة استيقظ المسلمون -والحمد لله- وبدأت التباشير في الدعوة إلى الله تعالى من كل مكان.
فكانت العودة في أول أمرها عامة مجملة, وهذه الكتب بين أيديكم التي ألفت في تلك الفترة تتكلم عن الإسلام في عمومه, وتتحدث أنه لا خلاص للإنسانية إلا بالإسلام، وأنه لا حضارة تعادل حضارة الإسلام، وأنه يجب على المسلمين أن يرجعوا إلى الإسلام، وبعد ذلك لا تدخل في التفاصيل في الغالب، إنما هي دعوة عامة إلى إسلام عام لأن المرحلة مرحلة بدائل، أهي الاشتراكية التي طبلوا وصفقوا لها طويلاً أم هو الإسلام؟! فكانت الدعوة في تلك المرحلة تنادي بالإسلام مجملاً دون تفصيل، ولعل هذا يفسر ولا يبرر أبداً الضعف العلمي الذي انتاب الدعوة تلك الفترة, فكان علماء الدعوة أعني على مستوى العالم الإسلامي كله, وإلا فالحمد لله في هذه البلاد علماؤها كما ترون بقية من السلف ادخرهم الله تبارك وتعالى بفضله وكرمه ومنَّه لنا، وهذه نعمة من الله، ولكن على مستوى العالم، الضعف العملي بادٍ فيهم, فالشباب يتلقى أموره الدعوية من مشايخ ومن دعاة, ولكنه إذا أراد أن يستفتي، أو أن يبحث عن أمر فقهي، أو أي حكم شرعي, فإنه يذهب إلى العلماء الذين يعادون هذه الدعوة, أو من يسمونهم علماء، وهم ليسوا عند الله تبارك وتعالى كذلك، وهذا الضعف -مع الأسف- لم يتنبه إليه, ولم يتلاف بل أثمر وأنتج في الزمن الذي بعده، وأعقب نوعاً من الانتكاسة، وأمراضاً يجب أن تستأصل, ولعلنا نأتي للحديث عنها فيما بعد إن شاء الله.
فكانت البداية عامة مجملة ثم جاءت أحداث عظيمة، وأراد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يهز الأمة هزاً عنيفاً قوياً, وكان الحدث الكبير -إن صح التعبير- هو ثورة الرافضة.(46/4)
الأحداث المتوالية على الأمة الإسلامية
الحدث الأول: الذي حدث هو: ثورة الرافضة التي لا يخفى عليكم الزخم الإعلامي الهائل عند قيامها، وكانت امتحاناً عسيراً وصعباً في مقدرة الدعوة الإسلامية على مواجهة الحقائق, وغض النظر عن العواطف والانفعالات, ولم يصمد أمام هذه العاصفة الهوجاء إلا قلة قليلة ممن كانوا يعرفون منهج السلف الصالح ويتبعونه، ويزنون كل حركة وفرقة بميزان السلف الصالح.
انساقت الدعوة الإسلامية كلها -تقريباً- بزعمائها ودعاتها وراء تأييد هذه الحركة.
وليس المقصود أن نتهم ولا أن نجرح أحداً, بل المقصود أنها مرحلة مرت, ولكن يجب أن نأخذ منها من العبر.
هذا هو المهم, وأرجو أن يُفهم ذلك إن شاء الله فقد كان امتحاناً عسراً، ولم تكتشف لكثير من علماء الإسلام حقيقة هؤلاء.
والعبر التي كان يجب أن يتنبه لها من أول الأمر لم تكتشف إلا بعد سنوات -مع الأسف- بل لا يزال بعضهم إلى هذه اللحظة لم ينكشف له هذا الزيف، وهذه هي المصيبة في الواقع.
فالتآمر المجوسي اليهودي النصراني الشرقي والغربي على السنة وعلى أهل السنة وعلى الإسلام الحقيقي، لا تنسي هذه المعركة وهذا التآمر في زحمة وعنفوان العاصفة الهوجاء، فالأمر لم يتبين على الأقل، ولم يبحث، ولم يتأمل فيه, وهي مشكلة تعاني منها الدعوة، وللأسف أقول: ولا تزال.
الحدث الثاني: ثم كان الحدث الآخر وهو: دخول الشيوعيين المجرمين واحتلالهم لأرض أفغانستان مقبرة الغزاة.
ولا نعني بها أن الروس احتلت دولة إسلامية فقد احتلت بلاداً غيرها.
لكن الذي حصل في القضية الأفغانية: هو أن الأمة لأول مرة يرتفع فيها صوت ينادي بكلمة الجهاد لأجل إعلاء كلمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قبل ذلك لم نكن نسمع ذلك, بل كان عندنا منظمات التحرير, والمطالبة بالاستقلال، لكن الكلمة الشرعية لا تراد ولا تسمع، والهدف الشرعي لا يراد ولا يسمع, ولذلك تجاوبت الأمة شرقاً وغرباً لكلمة: الله أكبر، ولكلمة الجهاد، وإذا بها تلتف بها من كل جهة، بمشاعرها وبعواطفها، وتفوق كل التوقعات, وهذا أيضاً له جوانب إيجابية ولكنه في الوقت نفسه استدعى من أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تخطيطاً دقيقاً عميقاً.
أما المسلمون فكانوا منبهرين من غضبة العاصفة، ولم يحسبوا حساب كل مرحلة، ولم يحسبوا أن القوى الخبيثة تراقب هذا التوجه، وماذا تريد منا بعد ذلك؟ وهل تريد -فعلاً- أن يقوم في هذا البلد أو أي بلد دعوة إسلامية جهادية نقية؟! هذه أسئلة نضعها أمام الإخوة الكرام الدعاة.
الحدث الثالث: ثم كانت بعد ذلك المآسي الدامية التي حدثت في بلاد الشام من تدمير مدن السنة الكبرى حماة وطرابلس ومخيمات الفلسطينيين في لبنان , وهذه لم تدمر نتيجة أهداف عارضة عابرة، وإنما لأنها التجمعات الكبرى السنية ولأنها مرتكز أهل السنة , ولأن العدو يخطط تخطيطاً بعيداً, فهو يخطط وأمامه خارطة الحروب الصليبية, أمامه أحداث التتار, وأمامه ما جرى أيام الدولة العثمانية!! وهو يعرف العدو الحقيقي، ويعرف أين يضرب، ومتى يضرب، وكيف يضرب, لكن -مع الأسف- أقول: إن العاطفة، لا تزال هي التي كانت بمواجهة هذه الأحداث, وأضعنا فرصة ذهبية كبرى لا تعوض في تلك المرحلة، إذ كان بالإمكان لو أن معيار المواجهة دائماً هو معيار أهل السنة والجماعة , ومنهج السلف الصالح لتحولت المعركة تحولاً جذرياً في تلك المرحلة, ولكن قدر الله وما شاء فعل، كان في الإمكان أن نقول: إن المعركة بين السنة وبين الباطنية , ومهما قيل عن أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذين ذبحوا أهل السنة فإن أحداً لن يستطيع أن يقول فيهم أو يدمرهم ويفقدهم شرعية وجودهم، كما كتب شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية قبل قرون.
إنها فتوى شَيْخ الإِسْلامِ في النصيرية , لو أن الأحقاد المذهبية والتعصب لم يحل بينها وبين الناس, ونشرت في عامة الناس في شرق العالم الإسلامي وغربه، ووظفت لخدمة تلك المعركة، وتلك الأحداث لتغير وجه المعركة، ولتغير وجه التاريخ ولما كانت النتيجة تدهوراً هائلاً, الله أعلم متى تجبر هذه المصيبة، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يفرج عن المسلمين، ويجبر مصائبهم دائماً إنه سميع مجيب.
إنما العبرة من هذه المصيبة لا تزال، وهي أننا لأسباب -لا نريد التفصيل فيها- لم نستطع أن نوظف الموقف الذي وقفه علماء أهل السنة في الماضي، بل انشغلنا به في زحمة وخضم المعركة.
إن المنهج السليم هو منهج أهل السنة والجماعة , وإن المعيار في الحكم على أي أحد هو معيار أهل السنة والجماعة؛ لأنهم يرجعون إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ليس المقياس مقياس أرض فرط فيها، أو خيانة سياسية أو عسكرية، إن هذه الخيانات أعراض لمرض أساسي وهو فساد الاعتقاد.
ومهما استطعت أن تقنع الناس بما في خصمك من فساد, فإن ذلك لا يغني شيئاً عن أن تقنعه, وتبين له, أنك أنت على الحق وعلى المنهج الصحيح السليم الذي لا ينحو صاحبه في الدنيا ولا في الآخرة إلا به, وهذا هو خلاصة دعوة الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم، فالأساس في الدعوة هو التركيز على أن هذه الدعوة هي مناط نجاتك أنت أيها المدعو كائناً من كنت في الدنيا والآخرة.
وأن الالتزام في هذا المنهج نصر في ذاته, فالتمسك بالحق، والتمسك بدعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبما كان عليه أصحابه هو نصر، بل هو أعظم النصر بغض النظر ِعن أرض خسرناها، أو شهداء قدمناهم، أو معركة نكسبها أو لا نكسبها، هذا هو النصر ولو أشعرت الأمة بذلك وأنير لها الطريق, لكان الحال غير الحال.
ثم قدر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وتلاحقت الأحداث فيما بعد حتى كان الحدث الذي أربك الشرق والغرب، ونقول -مع الأسف-: إننا لم نقدره كما ينبغي حتى اليوم, وكان الواجب علينا أن ننظر إليه النظرة الشمولية التي تجعلنا نوضح ونفيد من كل حدث، لأن هذه أقدار من الله يسوقها لنا ونحن لا ندري, ثم نضطرب كيف ننزلها في معركتنا، وهذا من العجب! الحدث الرابع: وهذا الحدث هو ما يسمى بالانتفاضة، وهي بسيطة جداً بالنظرة التاريخية, وبالنظرة العسكرية والمادية, فالمسألة أن أطفالاً صغاراً يحملون الحجارة في مواجهة دولة يؤيدها الشرق والغرب بالإجماع، كما قال جوربا تشوف في كتابه إعادة البناء ' إننا أول من اعترف بإسرائيل، ونحن الذين أنشأناها '.
لا حاجة للكلام عن أمريكا ودعمها السخي لإسرائيل، فالشرق والغرب كله كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] كل الشرق والغرب مع هذه الدولة أو الدويلة وكنا نسميها عصابة حتى صارت إسرائيل الكبرى التي تملك الآن عشرين قنبلة نووية -هذا هو المعروف دولياً- ونحن لا ندري كم الطائرات التي تقاتل على أبعد مدى كالتي ضربت في تونس على بعد آلاف الأميال, وهددت بالضرب في كراتشي أو في إسلام أباد إن صُنعت قنبلة نووية في باكستان والتي ضربت العراق، فالمنطقة كلها تحت رحمتها.
وبالنظرة المادية المجردة فإنه لا يضرهم أطفال الحجارة، وهذا ما لم ننتبه له نحن، ولكن الشيطان يؤز أولياءه ليعرفوا خطر هؤلاء.
فالقضية ليست حجراً يواجه دبابة ولا صاروخاً ولا سيارة مصفحة؛ فليست هذه هي المسألة، فإن الصواريخ وطائرات الميج, التي كانت الإذاعات تغني "طائرات الميج تتحدى القدر" التي كانت مرتبطة بـ الاشتراكية والقومية والزعامات الشخصية لم تغنِ عنهم شيئاً، بل خانتهم أحوج ما يكونون إليها، أما الحجر فقد خرج من المسجد وانطلق بكلمة: الله أكبر, هذا هو السر, وهذا هو الخطر, مع أ، الحجر لا يحمل رءوساً نووية قطعاً, وليس فيه مواد كيماوية، فهو حجر فقط، لكن العالم كله انتفض وانزعج منه، بل صرح الرئيس الكاثوليكي المتعصب ميتران بأن خطر الانتفاضة قد يعم المنطقة كلها بوباء التعصب الديني سبحان الله!! هذا هو الذي أفزعهم ونحن لم نقدر هذا, ونحن لما رأيناهم انتفضوا واهتزوا -أي: الغربيين- بدأنا نفكر لماذا هذه الانتفاضة يخافون منها إلى هذا الحد؟ وهم الذين أشعرونا أنها خطر وليس الخطر في الحجر، ولكنه من كلمة: الله أكبر وفي المسجد.
إن هذه الأمة لو عادت إلى أصولها، وإلى كتاب ربها وسنة نبيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو جاهدت من أجل لا إله إلا الله وإعلاء كلمة الله، فمعنى ذلك تقويض الشرق والغرب، حتى يخسر موقعه، ولهذا كانت الآثار العالمية التي قد لا يصدق بعضهم أنها مترتبة ومبنية على آثار الجهاد الأفغاني، أو على آثار حركة الانتفاضة الفلسطينية وغيرها، كانت هذه المرحلة التي تسمعون عنها هذه الأيام -وما زلنا- هي من أشد مراحل الوفاق، هذا الاتفاق الدولي الكبير، حيث اتحد الشرق والغرب، وتوحدت ألمانيا ليلة عيد الفطر، وأول قرار يتخذه البرلمان بعد توحيده هو إدانة النازية واتهامها بدماء اليهود، فلهذا اتحدت أوروبا الشرقية من أجل إثبات أن النازية مدانة، ولأجل أن تتحمل ألمانيا شرقها وغربها الميزانيات والمليارات لإمداد اليهود، دفعاً لديات الذين قتلوا منهم، مع أنه قد قتل من الأوروبيين في الحرب العالمية أكثر من (60 مليوناً) ولم يدفع ديتهم أحد، حتى افتعلت معارك مع المقابر من أجل إحياء النعرة الدينية، ومن أجل توظيف الصليبية ضد العالم الإسلامي.
في ليلة عيد الميل(46/5)
كيفية مواجهة الحروب(46/6)
واجب الشباب في المواجهة
ويهمنا أن نتعرض إلى ما يجب علينا نحن شباب الإسلام، ودعاة الإسلام في هذه المرحلة:- أول ما يجب علينا -وقد رأينا أثره في كل الأحداث- هو الاستقامة على ما كان عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، هذا الذي به تنتصر الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، وهي سفينة نوح من ركبها نجا ومن تركها غرق، وهي ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه اعتقاداً -وهو أهم شيء- وقولاً وعملاً، وإقامة لأحكام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كل شيء، والتحاكم إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلى سنته وشرعه في كل أمر: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
ومن أخطر أعداء الصحوة واليقظة الإسلامية -شعر أو لم يشعر- هو الذي يريد أن نلتزم منهجاً غير منهج أهل السنة والجماعة وغير منهج السلف الصالح وغير منهج ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، هؤلاء يجب أن نحذرهم بالأساليب المتنوعة بحسب ما نعلم من مقاصدهم وأغراضهم، ولكن في الجملة يجب ألا نستمع لهم أبداً مهما زينوا ومهما زخرفوا، لأنهم بهذا العمل سيفقدوننا.
والحقيقة -ونعيدها هنا- أن المعارك السابقة كانت معركة غالب ومغلوب، منتصر ومهزوم، إلا المعركة الحالية فهي معركة وجود أو لا وجود، ومن هنا فالاستماتة فيها لا بد أن تكون نهائية، وليس غريباً ولا خفياً ولا سراً أن تعلموا أن الغرب يخطط بجد وبوضوح للتدخل في الوقت الذي يراه ضرورياً لاحتلال أي بقعة من العالم الإسلامي، لا سيما ما كان مجاوراً لدولة اليهود، وأكثر من (250 ألف) جندي أمريكي يتدربون على حرب الصحراء.
وقد ذكروا وأعلنوا أن الإنزال الذي تم في بنما إنما هو بروفة لأي إنزال عسكري سريع في أي بقعة من العالم، فالمعركة جدية، ولن ننتصر فيها إلا بالاعتصام بحبل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والتمسك بهذا الهدى، وهذا يقودنا إلى النتيجة الثانية.(46/7)
حقيقة الحرب مع الغرب
وهي أن المعركة ليست معركةً مع دولة، أو جماعة، أو حزب، أو أشخاص، بل المعركة مع الأمة الإسلامية بكاملها، ولذلك يجب علينا أن نبعث الأمة الإسلامية بأكملها، ولو استيقظت الأمة فلن يقف في وجهها -ولله الحمد- أي قوة من القوى.
وإن مما أفزع الغرب وجعله يعيد النظر في حساباته هو مظاهر الصحوة واليقظة التي أخذت طابعاً شعبياً وجماهيرياً، -وكما يقولون- أقظّت مضاجعهم، فالدعوة الإسلامية في الجزائر عندما أخرجت مئات الألوف من النساء والرجال يطالبون بحكم الله، وبتحكيم كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو أتيح للبلاد الأخرى مثل ما أتيح في الجزائر لكانت المطالبة مثلها أو أشد.
إذاً: هذه قضية أساسية، يجب أن نوظف ونجند الأمة كلها، ويجب أن نخرج من القوانين الجامدة والتقوقع والنظر الضيق إلى مرحلة يواجهنا فيها الأعداء مواجهة شاملة عامة.
فيجب على كل دعاة الإسلام أن يلتفوا أولاً: حول المنهج -كما قلنا - في الفقرة الأولى.
وثانياً: أن تكون لهم جهودٌ موحدة، وأن يقدروا الموقف حق قدره، وألا يضيعوا هذه الفرصة ما دامت الأمة؛ والحمد لله عروقاً تنبض، ومادام عندها هذا الاستعداد لأن تستثار، ولتوظيف الحماس والاندفاع في الأمة وفق المنهج العلمي الصحيح.(46/8)
الخلافات الداخلية مصالح شخصية
وهنا نعود إلى قضية العلم الذي ذكرناها فيما مضى.
أليس من المؤسف جداً أننا ما نزال -نحن دعاة الإسلام- نختلف حول قضايا الأسماء والصفات؟ وحول القرآن هل هو مخلوق أو غير مخلوق؟ سبحان الله قضايا انتهي منها!! وقضايا إجماعية لا تحتمل النقاش، فيها اتباع أو ابتداع، ولا تحتمل نقاشاً ولا جدلاً، ومع ذلك ما نزال نسمع من بعض الدعاة من يدافع عن التأويل، ويدافع عن التفويض لأنها عقيدة شيخه أو إمامه أو طائفته، سبحان الله!! فيجب أن نترفع عن مستوى هذه الخلافات، وأن نعد لمواجهة شاملة وعامة، ولن ينصرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها إلا بعودة صادقة إلى ما كان عليه السلف الصالح في الإيمان، والاعتقاد، والعبادة، وفي حب الشهادة في سبيل الله؛ وترك وكراهية الدنيا إذا أغرتنا الدنيا وأغفلتنا عما يقربنا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ولذلك فالعلم الشرعي مطلوب، ولن يقود الدعوة في مرحلتها المعاصرة إلا علماء ربانيون، أما قيادات المحترفين بالسياسة فقد انتهى دورهم، والأمة لن تسلم لهم الراية.(46/9)
الخطر القادم
الأمر الرابع: أن نحذر الفخ الجديد الذي ينصب الآن لاحتواء الصحوة الإسلامية، ويجب أن نقول ذلك، ولقد تعرضت في محاضرة سابقة كان عنوانها العلمانية في طورها الجديد لهذا الاتجاه ولخطره.
ففهمت على أننا نتعرض لبعض الدعاة، سبحان الله!! يا قوم! أنتم في وادٍ ونحن في وادٍ، والمسألة أكبر من أن فلاناً ذكر فلاناً أو علاناً والمسألة أكبر من أشخاصنا جميعاً، والمسألة أن فخاً كبيراً ينصب فيه شراك وتوضع لاحتواء هؤلاء الشباب، وليست المسألة دفاعاً عن فلان ولماذا يذكر فلان؟! وأضرب مثالاً للكلام على الأشخاص: الأستاذ محمد قطب حفظه الله وجزاه الله خيراً على ما كتب، وقدم، وعلى جهده وبذله، أُلف كتاب في الرد عليه وسمي باسمه الصريح في أكثر من مائة موضع، وطبع بآلاف النسخ، ولم يتكلم أحد ويقول: لماذا يتكلم في الدعاة؟ فلما أحرجنا أن نسمي بعض من ينطبق عليه هذه الأوصاف وذكرنا منهم فلاناً وفلاناً والله المستعان.
ومع ذلك فنحن نعاهد الله على ما بايع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه عليه؛ بأن نقول كلمة الحق ولا نخاف في الله لومة لائم، ونعوذ بالله أن يكون لنا في ذلك حظ أو مطمع شخصي كائناً من كان، نقول: هذا الفخ الجديد ينسج بأيدٍ بعضها أيدي دعاة يشعرون أو لا يشعرون، وبعضها بأيدي مجرمين وهم الأساس، والمهم أن الغاية والهدف من ذلك هو أن تضيع هذه الصحوة، ويتشتت طريقها وتضل سبيلها.
ولذلك من يشارك الأعداء في هذا الهدف -بغض النظر عن نيته وهدفه- يجب أن نقول: أخطأت، ويجب أن نقول: لا، ولن نوافقك على هذا، لأننا الآن في مرحلة؛ اليوم الواحد فيها يجب ألا نضيعه، بل ولا دقيقة واحدة، إن الزمن يتسارع ويتقارب والأحداث تتلاحق، ومن العبث أن نضيع أوقاتنا في أن فلاناً تكلم في فلان أو أن فلاناً ذكر فلاناً فالمسألة أكبر من ذلك.(46/10)
ندوة حول العالم الإسلامي
وبهذه المناسبة أقرأ لكم بعض ما وقع في ندوة كانت في الجزائر بعنوان (ندوة حول قضايا المستقبل الإسلامي) ولاشك أنه أمر يفرح ويسر أن تناقش قضية مستقبل العمل الإسلامي، ويعلم الله أنني فرحت وسررت أن هذه الأمور تناقش على مستوى الدعاة في مرحلة خطرة، وهم يرون الخطر يحدق بهم من كل مكان.
وكانت الندوة بعد محاضرة " العلمانية في طورها الجديد" بأكثر من شهرين، وسوف أنقل ما كتب عن هذه الندوة في جزيرة الشرق الأوسط العدد (194) تاريخ (28/شوال) (23/ 5م) يقول صاحب المقال: 'في هذه الجلسة التي ترأسها الدكتور حسن عبد الله الترابي -ثم يستمر في الحديث ويقول:- أولاً الدكتور فتحي عثمان يتحدث عن التجربة الإسلامية المعاصرة، والخطة التي تراد لمستقبل الدعوة الإسلامية والعمل الإسلامي -ثم ذكر الدكتور فتحي عثمان كلاماً طويلاً.
وملخص مداخلته هو الدعوة المسددة لعقلنة المشروع السياسي للحركة الإسلامية -يريدون بـ العقلانية والعصرانية معانٍ أخرى لا تخفى عليكم- وجعله يسير في الأرض وإفادته من كافة التجارب الإنسانية، فلا تقول: إن منهج أهل السنة يفيد من دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقط، لا، بل وتحقيق الاستفادة من شعبية الحركة وإيجابيتها والنضال السياسي -خاصة في قضية أفغانستان وانتفاضة فلسطين - إضافة إلى المرونة والمعاصرة التي أثبتها في مواقف كثيرة، ويعول الدكتور في نجاح خطته على ظروف الاستقرار الأيدلوجي التي تسود العالم بصفة عامة، والاتجاه إلى الواقعية والاعتدال في العالم العربي خاصة -إلى أن يقول:- وعلى الرغم من ذلك لا بد من التحذير من تجذر النزعة الصفوية التي تظهر بين الحين والحين' أي: التي يطالب بها الدعاة المخلصون للتمسك بالعلماء ومنهج أهل السنة.
يقول طارق البشري: 'فيما ذكره الدكتور فتحي عثمان هو التردي والتراجع للعلمانية والقومية، ومرد ذلك هو التأثر بالصراعات الدولية، وفي اعتقادي أن هناك تياراً اصطلح على تسميته بالعلمانيين الوطنيين، هذه المجموعة التي يجب أن نهتم بها ونتعاون ونتحاور معها، لأن العلمانيين فيما مضى وقعوا في أكبر أخطائهم وهي معاداة الحركة الإسلامية، وإنكار بعض الأمور الثابتة للمجتمع -مثل العقيدة- أما هؤلاء العلمانيون الوطنيون فإني أدعو إلى اقتراح السبل الكفيلة بهندسة الطريق، للاستمرار في مسيرتهم التي لا تضرنا كثيراً، وكذلك إخواني المفكرين'.
فهل لا حظتم من أين يأتينا الخلل؟ ففي الوقت الذي سفطت فيه الشعارات الزائفة كـ الاشتراكية والعلمانية، والشعوب بالملايين تتحرك في الساحة تنكرها، وتطالب بالإسلام مجرداً عن هذه الشعارات، وإذا بهم يقولون العلمانية الوطنية نأخذها، ثم من يحدد أن هذا علماني وطني، وهذا علماني أمريكاني؟! المهم تضييع بصيرة الصحوة في هذه المرحلة الحرجة.
ثم نذكر الشخص الثالث الدكتور: توفيق الشاص حيث يقول: 'أنا موافق على حديث الإخوة بضرورة تبني الأسلوب الفكري لتطبيق برنامج الحركة الإسلامية، بالرغم أنه يجوز لها أن تقاوم عدوان السلطة بالكيفية التي تراها، لكن ما دمنا نريد الحوار مع العلمانيين الوطنيين فلا بد من جهاز فكري يدير ذلك، وأؤيد بشدة اقتراح الدكتور القرضاوي لتكوين اتحاد للكتاب الإسلاميين لاستيعاب الطاقات الفكرية، ويمكن أن يكون الدكتور العوا هو المستشار الفكري على رأس اللجنة التي تعد لهذا الاتحاد ' من أجل ماذا؟ حتى يكون لدينا جهاز فكري للحوار مع العلمانيين الوطنيين؟! وهنا مثال آخر يقول صـ49ـ ' كما تناول الفصل الثاني الشرارة الملتهبة باسم عقيدة السلف، وحتى يدرك المتاجرون بالاختلافات أن الاختلاف بالتوسل وفي المتشابه من آيات الصفات وغير ذلك لا يعد خروجاً على عقيدة أهل السنة والجماعة أو اختلافاً في الاعتقاد '.
ثم يقول صـ112ـ: ' والاحتمال الرابع بخصوص الصفات هو تأويل هذه النصوص إلى المعاني التي تحتملها أوجه المجاز المعروفة في اللغة، وبالتالي أولوا اليد في قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] بأنها القدرة، وقد استعمل لفظ اليد مجازاً عنها، وهذا التأويل سار عليه كثير من أهل السنة والجماعة، الذين أرادوا تنزيه الله عن مشابهة خلقه بتأويل هذه الألفاظ وفق معاني اللغة إلى المعاني المقبولة في استعمال الناس ومفاهيمهم وتصوراتهم عن صفات الله ' وكأن هذا الذي ينقصنا الآن القضايا المنتهية المفروغ منها.
ثم في صـ163ـ تكلم عن الشباب ونحن لا نبرئ الشباب، وأنا من فضل الله في محاضراتي أكثر ما أركز فيه -والحمد لله- على أخطائنا نحن شباب السنة، وهذا الذي يهمنا في الدرجة الأولى، وهذه الأخطاء موجودة عند من ينتسب إلى منهج السلف من الشباب، أما المنهج فهو معصوم لكن هو يقول: ' وهؤلاء يجعلون تمسكهم بالسنة العملية كالمحافظة على الصلاة في الجماعة، والمحافظة على السواك واللحية هي مقومات كونهم الفرقة الناجية، فهم على مثل ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه أما غيرهم فالنار مثواهم، ولقد تناسى هؤلاء أن ترك هذه السنة لا يترتب عليه دخول النار -ثم ذكر كلاماً إلى أن يقول:- ولقد نسي هؤلاء أن المقصود بالملل أو الفرق التي تفترق عن الإسلام -أي: الثلاثة والسبعين فرقة- هي التي ترتد إلى الكفر ' مثل البهائية والقاديانية، والنصيرية، والإسماعيلية، أما الشيعة، والمعتزلة، والرافضة، والصوفية، فهذه ليست داخلة، والكتاب هو: شبهات حول الفكر الإسلامي المعاصر، وهو رد على الأستاذ محمد قطب، والمشكلة هي تضليل المسيرة، فإما أن نتبع قول الله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] فتكون النجاة والنصر، وإما أن نستمع لمن يريد أن يحرفنا عن هذه العقيدة مهما خالفها وإلا فمصيرنا إلى الانتكاسات التي جربناها وذقناها، ومع ذلك أنا أبشر الإخوة بأنه الصحوة في جملتها هي سنية سلفية -والحمد لله- وأنك لو نظرت وتأملت لرأيت العجب العجاب، حيث يأتينا طلبات ورسائل، بل وما نسمع وما نقرأ، أن الكل في الجزر البعيدة في أقاصي الدنيا، وفي العالم كله في أوروبا وأمريكا يطلب كتباً فتجد من جملتها الكتب السنية المحضة -والحمد لله- وإن طَلَبَ دعاة يطلب دعاة أهل السنة والحمد لله، فهناك في أصقاع نائية فما بالكم في أرض الإسلام والحمد لله.(46/11)
انتشار السنة
وقبل سنوات كانت بعض الدول المجاورة لا يمكن أن ينتشر لـ ابن تيمية رحمه الله فيها شيء، والآن يملأ الساحة كتبه -رحمه الله0 لأن كتبه تعبير عن منهج أهل السنة والجماعة، وهذه نعمة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، هذا هو التوجه الجديد الذي نريد -إن شاء الله- أن نحفظه وندعوه إلى زيادته، ونريد التأكيد على منهج أهل السنة وعلى اتباع الدليل واتباع الحق.
أما معاملة المخالف سواء كان من المسلمين أو من الغير فهذه مضبوطة -ولله الحمد- بمنهج أهل السنة نفسه، فهم أرحم الخلق بالخلق، وهم الذين تحتكم إليهم الفرق إذا اختلف بعضها مع بعض، فعندما يكفر النظام العلاف، والعلاف يكفر النظام وهم زعماء المعتزلة فإن الذي يفصل بينهما هم أهل السنة والجماعة، وعندما تخرج طوائف من الشيعة وتكفر الإثنى عشرية، والإثنى عشرية يكفرونهم، والذي يحكم بينهما بالعدل هم أهل السنة والجماعة فهم لا يشتهون في أحكامهم ولا في آرائهم، وإنما يتبعون السنة.
ومن أمر الله تعالى بحبه يجب أن يحب، ومن أمر الله تعالى ببغضه يجب أن يبغض وهكذا، وكل شيء بقدره، والإيمان عندهم يزيد وينقص، ومحبة الناس ومعاملاتهم تتفاوت بتفاوت إيمانهم، وهكذا.(46/12)
حاجاتنا في الدعوة
نحن أمام شرع منضبط، ونحن في الحقيقة وبالذات في هذه المرحلة ليس المجال مجال إثارة مشكلات ولا معارك على الساحة الإسلامية، لكن بقدر ما يتعرض المرجفون أو المخدوعون لتعمية مسيرة الصحوة الإسلامية، يجب علينا أن نقول لهم: قفوا، وألا نوافقهم، وهذا ليس افتراء أو افتعال معارك معهم، لا، ولا نقر ذلك إن وجد، وقد يكون موجوداً، لكن نحن لا نقره ولا نرضاه.
فالذي نريده هو أن هذه المرحلة تقتضي أن ندرأ عن هذه الصحوة الطيبة المباركة كل ما يعكر عليها مباركتها، ولذلك دائماً نركز على ألا يستعجل الشباب، وأن تكون أمورهم جميعاً بالحكمة، ويتحروا مناطات الأحكام، وأن يتحروا مقاصد الشريعة، وليس مجرد أن يجدوا نصاً أو نصين فيندفعوا هكذا، كل هذا مما يجب أن يكرر.
والحمد لله في الساحة بفضل الله من الدعاة من يتحدث دائماً عن هذه الأمور، ولكن نريد الحديث الإيجابي، الحديث البناء الذي يوجه هؤلاء الشباب ولا يصدمهم ولا يعنف عليهم، وخير هذه الأمة هم هؤلاء الشباب ولله الحمد والله إن الإنسان ليحقِّر نفسه عندما يرى أن هذه الصحوة المباركة تأخذ الدين كله وبقوة وبجد، فإن أخطئوا أو تعجلوا أو تسرعوا فلأننا لا نوجههم نحن، ويجب علينا أن نعلم كيف نوجههم نحن.
فيجب علينا أن نعلم أن مسئولياتهم علينا، وأن كل ما يرتكب من أخطاء فنحن المسئولون، ويجب أن نشفق عليهم فأطفالنا في البيت يخطئون ولكننا نحبهم ونشفق عليهم.
ولا ينسينا ما نرى فيهم من أخطاء ما يتكالب ويخطط عليه أعداء الله في كل مكان وزمان للإجهاز على هذه الدعوة، وحقيقةً -وهذه واضحة كالشمس- أنه لولا ما في هذه الصحوة المباركة الطيبة من تمسك ورجوع إلى منهج أهل السنة والجماعة وعقيدة السلف الصالح لما حوربت هذه المحاربة، ولما كانت تعاني ما تعانيه الآن ولكنه قدر الله وسنة الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] وصدق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال: {ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة ظاهرين} وفي رواية أخرى: {يقاتلون على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله}.
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعلني وإياكم منهم، وأن يقر أعيننا بنصرة دينه وإعلاء كلمته، وعودة هذه الأمة إلى كتاب ربها وسنة رسولها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنه سميع مجيب.(46/13)
الأسئلة(46/14)
المكر الخبيث
السؤال
هل صحيح أن الصحوة الإسلامية في هذا الوقت بالذات يُكَاد لها ويخطط للقضاء عليها وذلك بتصفية العلماء الجسدية وتشويه سمعتهم حيث إن مجلة المجتمع نشرت هذا في آخر عدد لها في الصفحة الأولى؟
الجواب
نعم لا ريب، وهناك أسلوبان: الأسلوب الأول: هو ما حصل في أيام الزعيم الخاسر وأمثاله، من السجون والمعتقلات، وما يزال ذلك في بعض الدول.
والأسلوب الآخر: هو ما يسمونه فن الدعاية السوداء، وتلطيخ وتشويه سمعة الدعاة بافتعال التهم والزج بهم في كل قضية يرون أنها يمكن أن تكرِّه الجماهير في دعوتهم وفيما يقولونه، وتتفاوت فنون هذه الدعاية من اتهامات بالعمالة لإسرائيل ولـ أمريكا أو الشرق، والتهم لا تقتصر على جانب واحد، ولكن هذه سنة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في ابتلاء الدعاة، وليبتلي الأمة أيضاً ليرى هل تسمع للمرجفين والمبطلين أم أنها تقف عند حدود ما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من التحري ومن التثبت.
وليس الدعاة معصومين، ولكن منهجنا -كما قلت- حتى مع المخطئ، والمخالف، وحتى مع من يقال عنه أنه أخطأ، المنهج ثابت منضبط، شرعه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كل قضية يمكن أن تثار، فتشويه الدعاة وتحطيم سمعتهم هذا هو الذي يريده أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لأن الصحوة لا تقوم إلا على قادة، وإذا دُمر القادة فلا شك أن من بعدهم سوف يسقط، وما تعرض له الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- من التهم، جزء من ذلك.(46/15)
معرفة الواقع
السؤال
كيف نعرف ما يدور على الساحة في العالم أجمع، وخاصة ما يحاك للصحوة الإسلامية، وما هي الجرائد والمجلات والإذاعات التي يمكن أن نعرف منها بعض ما يدور في العصر؟
الجواب
ليس هناك سرية في الموضوع، اقرأ أي مجلة أو أي صحيفة -مثلاً- قرأت العربي قبل أسبوعين على الغلاف صورة شباب ملتحين، ومكتوب: السلف الصالح بريء من هذه السلفية، وقبلها العربي كتبت السلفية هي النازية الجديدة، وهذه مجلة معروفة وليست مجلة خفية، وهناك مجلة نسائية طلعت اسمها نصف الدنيا، كل عدد تقريباً منها قائمة البدوي والسيدة نفيسة ومولد فلان والحسين، من أجل أن تتجه مشاعر الناس والصحوة الإسلامية إلى القبور، وتشبع رغبة التدين وفطرته بالقبور والأضرحة فيعيدونها إلى الشرك.
فهم يريدون نقلها من الاشتراكية إلى الشرك ولا يريدونها أن تعرف الإسلام، فهذا كثير جداً، لكن من يستطيع أن يعرف شيئاً عن هذا الخطر فلينبهكم ثم أنتم تجدونه واضحاً أمامكم، والمشكلة أحياناً أنك قد لا تدرك لأنك لم تنتبه إليها، لكن لو انتبهت وبدأت تقرأ وتجمع ستجدها أمامك، وهذا هو الهدف من مثل هذه المحاضرات.(46/16)
كلمة الانتفاضة في الميزان
السؤال
قرأت في كتاب للأشقر أن كلمة الانتفاضة كلمة غير صحيحة؟
الجواب
وكذلك الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد ولا مشاحة في الاصطلاح، وبالنسبة لما نريده نحن مع اليهود -إن شاء الله- في المستقبل يمكن هذه أن تعد مجرد انتفاضة فعلاً، لكن المعركة ما زالت.(46/17)
اهتمام المشايخ بتربية الشباب
السؤال
هل ترى أن الدعوة المعاصرة اهتمت بتربية الشباب؟ بمعنى آخر: هل ترى أن مشايخنا في الوقت الحاضر يقومون بواجب تربية الشباب، نرجو منكم التعليق على ذلك؟
الجواب
التربية موجودة إلى حد ما ولكنها ناقصة ويجب أن نستكملها، ولن تقوم الدعوة إلا بهذه التربية التي سماها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التزكية لأنه بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} [الجمعة:2] فالتزكية التي تسمى الآن تربية لا بد فيها من تزكية قلوبنا وأعمالنا، والمزكون قليل؛ لكن نحن لا ننتظر أن يأتينا من خارجنا، وإنما نتعاون ونتكامل على أن تكون التزكية موجودة، ومتابعة الشباب بمتابعة واقعية، نعم، بعض العلماء ليس لديهم ذلك؛ لكن لا نعيبهم، ونحن لا نريد أن نفتعل معارك ومشاكل ونتهم العلماء بأنهم مقصرون، العالم الذي يخدم الدعوة بعلمه -جزاه الله خيراً- وهو أهم مطلب في الدعوة، وأنا وأنت إن كان عندنا شيء من التربية أو التزكية فلنربي، فالمجاهد يجاهد، والآمر بالمعروف يأمر بالمعروف، وكل منا على ثغرة فكلنا متعاونون وكلنا على ثغرة.
ولا يشترط بالضرورة أن نكون جميعاً في قالب واحد، وعلى منوال واحد في الدعوة إلى الله، وحتى الدعاة مواهبهم متنوعة -وهذا فضل من الله- فهذا له جانب وهذا له جانب، فعلينا أن نستكمل نحن الجوانب جميعاً، لتكون الأمة متكاملة، خير أمة أخرجت للناس بإذن الله.(46/18)
سلبيات وتقصير
السؤال
اسمح لي أن أذكر بعض السلبيات التي في كثير من الإخوة المتمسكين: أولاً: يظل طالب العلم سنوات يطلب العلم، ويحضر المحاضرات، ولو طلب منه إلقاء خطبة جمعة أو موعظة بسيطة اعتذر أنه ليس أهلاً لذلك فإلى متى؟
الجواب
هذا واقع وأنا أقول معه إلى متى؟! فحقيقة أن من سلبيات الدعوة وهي كثيرة في الشباب أنهم متلقون ويتلقون، فمتى يخرجون؟ ومتى يتكملون؟ فمهما كانت الأمة فيها من دعاة أو علماء أو خطباء، لا بد أن يوجد جيل يخلف جيلاً، وانظروا الآن الفراغ الكبير الذي نحسه في الأمة جميعاً من ناحية العلماء -نسأل من الله تعالى أن يمد في أعمار علمائنا وأن يحفظهم- كل منا كيف يتصور لو لم يكن هؤلاء العلماء موجودين، فلو أنهم ماتوا -وكلنا مصيرنا إلى الموت- كيف سيكون الفراغ الهائل الذي سيكون من بعدهم؛ لأنه لا يوجد جيل يحمل هذا العلم ونحن مقصرون، ولم نجد المحاضن لهذا الجيل، وهذه سلبية واضحة وظاهرة.
ثانياً: الانشغال بالأمور الأسرية والدنيوية انشغالاً يضر بطلب العلم على الرغم من دنو الهمة في الطلب.
وهذا فعلاً واقع، والوسط والاقتصاد هو المطلوب، فبعض الناس ينقطع عن أسرته وعن والديه بحجة العلم أو غيره وهذا خطأ، والبعض الآخر فعلاً قد يشغل بأمور قد أقول بتعبير أدق: إنها ليست أموراً دنيوية وليست مجرد أنها أسرية، بل الشباب يشتغلون بالهرج -اسمحوا لي أن أكون صريحاً- فيجلسون الساعات يتكلمون من غير فائدة، ثم يذهبون إلى زيارة فلان أو علان، بينما لو أننا في هذه الجلسة قرأنا حديثاً واحداً، أو آية واحدة، أو جملة واحدة من قول السلف أو صفحة من كتاب علمي، لأفدنا فائدة كبيرة وملموسة ولا شك.
ثالثاً: الخجل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاصة لدى طلبة العلم أرجو نصحهم.
حقيقة أن التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر ظاهر وملموس أيضاً، ونشكر لهذا الأخ غيرته ونصحه، ونعترف جميعاً بهذا التقصير، والواحد منا قد يجمع من دقائق العلم ووسائله، ويزور الشباب، ويتعرف عليهم، ويذهب إلى المحاضرات، وجاره لا يصلي، وصاحب الاستريو (الغناء) بجواره، ويبيع الأفلام أمامه، والسوق من حوله فيه التبرج، فلو قدم كلمة فيها نصيحة أو موعظة بهدوء وبحكمة: (يا أخي، يا فلان، يا أخي في الله ونحوها) قليل من يقوم بهذا، فما ثمرة هذا العلم وما فائدته؟! فنحن مقصرون بجانب الأمر والنهي وهو الذي به كانت الخيرية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] والعلم ثمرته الدعوة، ومن الدعوة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألا تأخذنا في الله لومة لائم، وأن نصبر ونحتسب على ما نلاقي في ذلك.(46/19)
الجماعات الإسلامية
السؤال
ما رأيكم بالجماعات الموجودة على الساحة الإسلامية؟ وهل توجد فائدة بكثرة التعدد بهذا الشكل الملحوظ؟ وما هي أقربهم إلى الصواب؟
الجواب
وجود الجماعات الإسلامية هو أمر طبيعي، أمة كانت سفينة واحدة بربان واحد فتحطمت، فكان لا بد لمن استطاع أن يبني زورقاً فيجمع فيه من استطاع ويغرق من يغرق، فلا إشكال في أن تقوم جماعات إسلامية جهادية أو دعوية، بل يجب على المسلمين أن يجتمعوا، فإن لم يستطيعوا أن يجتمعوا جميعاً، فليجتمع منهم من فهم وفقه أهمية الاجتماع، لكن الإشكال هو على ماذا نجتمع؟ {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] إن هناك من يقول: لا تتكلموا في الناس أبداً، أي: في الأمة كلها، اجمعوا الناس جميعاً: رافضتهم وصوفيتهم ومؤلههم ومعطلهم، وكل شيء، وهذا الكلام غير صحيح لا عقلاً ولا شرعاً، لكن نحن نقول: يجب أن يجتمع أولاً: أهل السنة، وأن يكونوا يداً واحدة وكلمة واحدة.
ثانياً: تجتمع الأمة جميعاً، واجتماع أهل السنة هو لمصلحة اجتماع الأمة؛ لأنهم أبعد الناس عن التعصب، ولا يجتمعون اجتماعاً حزبياً بالمعنى المفهوم السائد في الساحة الغربية أو غيرها؛ لكن نقول: يجتمعون على الحق، وعلى أن يكون أمرهم شورى بينهم لنصرة هذا الدين.
والآن الواقع الإسلامي بحق وحقيقة، فجميع الجماعات وجميع الدعوات فاقت ونهضت، والآن الجماهير -كما يسمونها- تندفع وتطالب بحكم الله وشرع الله في كل مكان، ومستحيل أن تحتويها جماعة ولا جماعات ولا أكثر، فهي فاقت كل توقع وكل تصور، ومع ذلك فلا يزال بعضهم في تخلفه الضيق وقوانينه الجامدة، فيجب أن يتقدم الدعاة قلباً واحداً، اعتقاداً وقولاً وعملاً وتخطيطاً ويقودوا هذه الصحوة المباركة على منهج السلف الصالح، وهو منهج واسع -ولله الحمد- وأما غيره فهو ضيق محدود إذا خالفته قيل خرجت، أما منهج السلف الصالح فهو واسع جداً -ولله الحمد- لأن فيه حقيقة الدين الميسرة وتستطيع في كل بيئة أن توجد التجمع أو الجماعة الإسلامية الصحيحة الملائمة لها، ولواقع تلك البيئة أحياناً تكون الجماعة جهادية، كالحال في أرتيريا أو في أفغانستان جماعة جهادية على منهج السلف الصالح، وأحياناً تكون جماعة دعوية، وأحياناً تكون علماء يلتف حولهم الشباب وهكذا، وفي كل مكان يمكن أن تكون الصورة والشكل بما يوافق البيئة والمرحلة؛ لكن الهدف واحد والغاية والواقع واحد.(46/20)
حكم الدعوة إلى الله بالأحاديث الضعيفة أو الموضوعة
السؤال
ما حكم الدعوة إلى الله بالأحاديث الضعيفة والموضوعة؟
الجواب
لا يجوز الدعوة إلى الله بهذا، ولنضرب مثالاً لهذا: يروى حديث موضوع عن علي بن أبي طالب أنه قال: {دخلت أنا وفاطمة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوجدته يبكي بكاءً شديداً، فقلت: فداك أبي وأمي يا رسول الله! ما الذي أبكاك؟ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا علي ليلة أسري بي إلى السماء، رأيت نساءً عذابهن شديد، فأنكرت شأنهن لما رأيت من شدة عذابهن} ثم يذكرون حديثاً طويلاً بعض ألفاظه صحيحة، لكن بهذا الطول ليس بحديث ولا يصح.
والعبرة التي نأخذها نحن في واقعنا الآن من كلامنا هذا، أن الأمة بحاجة إلى العلم الشرعي الصحيح، وأنها لا يجوز لها أن تدعو بهذه الأباطيل، حتى لو دعوت إلى الله فلا تدعو إلا بما شرع الله، حتى لو جمعنا الناس إلى المسجد للصلاة بناء على حديث موضوع أو ضعيف كما يذكر أحياناً أحاديث تُعلق في المساجد، فهذا لا يصح، ويخطئون على ذلك؛ لأن الإنسان ترتبط هدايته بما اهتدى به، فإذا ارتبطت هدايته بحديث موضوع ظل يجله ويعظمه ويعتقد صحته، فيكون رجوعه إلى الحق ممزوجاً بذلك الباطل، وهو اعتقاد أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال شيئاً وهو لم يقله، فيكون ذلك من الكذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن القول على الله بغير علم.
فالدعوة -والحمد لله- في غنىً عن هذا، والموعظة من القرآن تكفينا، ولو قرأناه قراءة المتدبر المتأني المعتبر المتعظ لكفانا وأغنانا، ويضاف إليه ما صح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومواعظه موجودة في كتاب الرقاق من الصحاح وفي كتب الوعظ الصحيحة كما في صحيح الترغيب والترهيب -مثلاً- والحمد لله هي موجودة وميسرة، فلماذا نرجع إلى الأباطيل أو الضعاف أو الأمثال أو الحكايات أو الروايات؟ لا يجوز ذلك، وهذا من الخلل في منهج الدعوة، ومما يجب على الصحوة وشبابها أن يحذروه إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله الطيبين.(46/21)
نماذج من خوف السلف
تحدث الشيخ حفظه الله تعالى عن مسألة الخوف من الله، موضحاً منزلته وأثره في القلوب من الإنابة والخشية والمراقبة، مستعرضاً صوراً من أخبار السلف وطرفاً من أقوالهم في هذا الباب.(47/1)
نماذج من خوف الصحابة
نذكر الآن -إن شاء الله تعالى- بعض النماذج من حياة السلف الصالح الذين غلب عليهم جانب الخوف أولاً، ثم نثني -إن شاء الله- ببعض من غلب عليهم جانب الرجاء.
نذكر أسباب ذلك عند كلا الطرفين، وهي نماذج موجزة ومختصرة, والمقصود منها: هو أن نعلم أن أركان العبادة التي تحدثنا عنها، وهي: المحبة والخوف، والرجاء، -هذه الأركان الثلاثة- قد تغلب إحداها على بعض الناس، وقد تغلب الأخرى على آخرين, لكن لا يمكن ولا يصح أن يخلو الإيمان أو القلب من اجتماع هذه الثلاثة، فكانت حياة السلف الصالح -رضوان الله تعالى عليهم- نموذجاً لاجتماع الخوف والرجاء والمحبة, كما أثنى الله تبارك وتعالى على عباده الصالحين من المرسلين ومن اتبعهم في الآيات التي ذكرها الله، كقوله تبارك وتعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء:57] وقوله تبارك وتعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] ونحو ذلك.
والخوف -عموماً- هو سمة لأهل الإيمان الكُمَّل الخُلَّص من عباد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ ففي سيرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم النماذج لذلك، وكذلك في سير الخلفاء الراشدين.(47/2)
خائف يفرق منه الشيطان
ومن ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه سأل حذيفة بن اليمان الذي هو أمين سر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والذي أطلعه رسول الله على أسماء المنافقين، فقال له: 'أنشدك بالله! ألم يسمني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم؟! ' عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو ثاني رجل في هذه الأمة بعد أبي بكر الصديق من أتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وهو مبشر بالجنة, ما بينه وبين الجنة إلا أن يموت فيدخلها, وليست أية جنة، وإنما جنة المقربين والصديقين وأهل الدرجات العلى.
عمر الذي جاهد في الله حق جهاده؛ فبمجرد أن آمن وأسلم, أظهر الله - تبارك وتعالى - الإسلام وأعزَّه, ولما ولي الخلافة فتح الله على يده مملكتي كسرى وقيصر, وورثتهما هذه الأمة, وأنفقت كنوزهما في سبيل الله عز وجل على يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجنده.
وكان في سيرته من العدل والإيثار والشفقة والرحمة ومحاسبة العمال ما هو مضرب الأمثال في جميع العصور والأجيال مما لا يتسع له المقام؛ بل يحتاج إلى أن يكتب عنه المجلدات العظام، ومع ذلك فإنه كان يخشى ويخاف على نفسه من النفاق, ولم يكن ممن يُغلِّب جانب الرجاء رَغْمَ ما وُعِدَ به -وهو وعدٌ صادقٌ لا يتخَلَّف- من أنه من أصحاب الجنة, فكان يقول ذلك لـ حذيفة -رضي الله تعالى عنه- ويسأله أهو من أهل النفاق أم لا؟(47/3)
أبرار يخافون على أنفسهم النفاق
يقول ابن أبي مليكة وهو من التابعين كما في هذه الرواية التي ذكرها عنه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب الإيمان قال: [[أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, كلهم كان يخشى على نفسه النفاق, ولا يقول: (إن إيماني كإيمان جبرائيل وميكائيل)]].
يريد بذلك الردَّ على المرجئة الذي يزعم أحدهم أن إيمانه كامل, فيقول: أنا أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين لا شك في أنهم أكمل الأمة إيماناً، ومع ذلك كلهم يخشى على نفسه النفاق, وما كان أحد منهم يقول: (إن إيماني كإيمان جبرائيل وميكائيل) , حتى أتى أولئك المرجئة , فأخذوا يزعمون هذا الزعم, ويدَّعون أن الإيمان لا يتفاضل ولا يزيد ولا ينقص, ويدعون أن إيمانهم كإيمان جبرائيل وميكائيل: إما تصريحاً وإما لزوماً؛ فكلامهم يلزم منه تلك المساواة؛ لأن إنكار تفاضل الإيمان وزيادته ونقصانه يلزم منه مساواة أهله فيه.(47/4)
فقيه من الصحابة يخشى الله
ومن النماذج الكثيرة في الخوف وممن اشتهر عنه ذلك من الصحابة: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقد كان جالساً مع بعض تلاميذه, فقال رجل منهم: ما أُحِبُّ أن أكون من أصحاب اليمين, وإنما أحب أن أكون من المقربين -وهذه أمنية وليست أمنية ضائعة خاسرة -كما سيمثل الشارح رحمه الله للأماني والأحلام التي لا أساس له من الواقع- إذ أن تلاميذه وجلساءه -رضي الله عنه- كانوا من خيار الأمة حينئذٍ, وهذا تطلع وتشوق من هذا الرجل أن يكون من المقربين, ويرجو ذلك, ولم يقم به مانع يمنعه من أن يكون ممن يتمنى ذلك -وأراد عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أن يعلمهم كيفية الخوف, وأن الإنسان يغلب جانب الخوف والحذر، فقال: [[أما إن ها هنا رجلاً يتمنى أنه إذا مات لم يبعث-أي: نفسه- وقال: وددت لو أني شجرة تعضد]].
من شدة خوفه من حساب الله، ومن لقاء الله، ومن شدة خوفه من أن أعماله -مهما كانت صالحة- قد لا تقبل, وهو من الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، ومن اتهامهم لأنفسهم ولأعمالهم مع ما فيها من خير وصلاح يتمنون أنهم إذا ماتوا لم يبعثوا, فلا لهم ولا عليهم.
وهذا الأثر بقي في مدرسته التي كانت جامعة عظيمة تخَّرج منها خيار الأمة، وكل ذلك من غرس يده -رضي الله تعالى عنه- في الكوفة , ثم بعد ذلك انتشر علمها في أقطار الدنيا.
ومن الملاحظ في سير العلماء التي لو تتبعناها -وجدير بنا أن نتتبعها دائماً- لوجدنا أن من كان من العلماء أو من العباد الصالحين والزهاد في أول أمره مقارفاً للذنوب والمعاصي, ثم اهتدى فيما بعد, نجد جانب الخوف عنده أكثر, وقد تأملت بعض السير فوجدت هذا, وأظن أن السر والسبب في ذلك لا يخفى؛ لأن الذي نشأ من أصله في تقوى الله وفي طاعة الله لا يحس ولا يستشعر خطر الذنوب والمعاصي كالذي واقعها وقارفها ثم عرف خطرها.
ففي كل حين يأتيه وازع الإيمان في قلبه، ويقول له: كيف لو مت وأنت على تلك الذنوب؟! كيف لو كانت خاتمتك وأنت تفعل تلك المعاصي والفواحش والموبقات والكبائر؟! فلذلك نجد أن هؤلاء أشد خوفاً وخشية على أنفسهم من الذنوب والمعاصي من غيرهم ممن لم يكونوا كذلك.(47/5)
نماذج من خوف التابعين
وبرزت في بعض الشخصيات سمات الخوف أكثر مما لدى غيرهم ممن برزت عنده سمات الرجاء.(47/6)
هرم بن حيان
ومن ذلك ما ذكره ابن الجوزي -رحمه الله- في صفوة الصفوة وهو تهذيبٌ لـ حلية الأولياء.
يقول: 'خرج هرم بن حيان وعبد الله بن عامر يؤمان الحجاز فجعلت أعناق رواحلهما تتخالجان الشجر فقال هرم لـ ابن عامر: [[أتحب أنك شجرة من هذه الشجر؟ فقال ابن عامر: لا والله؛ إنا لنرجو من رحمة الله ما هو أوسع من ذلك، فقال له هرم: لكني والله لوددت أني شجرة من هذا الشجر أكلتني هذه الراحلة ثم قذفتني بعراً، ولم أكابد الحساب يوم القيامة]] ' أي: أنهما خرجا وكانا في العابدين الزاهدين يضرب بهم المثل في ذلك، فخرجا يريدان الحجاز فأخذت رواحلهما ترعى وتأخذ من الشجر, ولكن المؤمنين دائماً يعتبرون من كل قضية ومن كل حدث يرونه أمامهم، فقال أحدهما للآخر: لو أنك مجرد نبات تأكله الدابة وينتهي شجرة تعضد؟ فرد عليه: لا والله! إني لأرجو أن يكون لي عند الله خير ومنزلة.
فهكذا كان الخوف عند بعض العباد, فقد كان يستحضر في ذهنه الوقوف بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عندما يكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان.
يقول: [[إما إلى الجنة وإما إلى النار؛ ويحك يا ابن عامر إني أخاف الداهية الكبرى]] إما إلى الجنة وإما إلى النار! لا يدري ما يفعل به, ولا يدري أين مصيره, لكن لو كان شجرةً وأكلت, لعرف أن هذا هو المصير, وانتهى الأمر, فليس وراءه ما يخاف وما يحاذر من سكرات الموت، ومن ضغطة القبر، ومن سؤال الملكين, ثم النفخ في الصور, ثم الوقوف بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, ثم أخذ الصحيفة باليمين أو اليسار, ثم عبور الصراط أمور عظيمة جداً!! فأولو الألباب، وأصحاب العقول التي أيقظها الله تبارك وتعالى بالتفكر في هذه الأمور, وأصحاب القلوب التي أحياها الله تبارك وتعالى بذكره، يأرقون ويألمون ويفزعون لما يستحضرونه وما يستذكرونه من هذه الأهوال التي أمامهم, وليس منها مفر، وليس هناك حيلة ولا ملجأ ولامنجى من الله إلا إليه؛ فلذلك يغلب عليهم هذا وإن كانوا لا يستديمونه.
ولا يعني ذلك أن الإنسان يستديم هذا الشعور مطلقاً, لكن لا بد للنفس المؤمنة أن يأتيها ذلك ولو في حالات معينة، كما تأتيها حالات من الرجاء والفرح والأنس بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تجعل الإنسان يُحب لقاء الله، وكذلك تأتيها حالات من الخوف من الموت ومما أعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من اللقاء والحساب تجعل الإنسان ينقبض، ويتمنى مثل هذه الأمنية التي ذكرها هذا العابد الزاهد رضي الله تعالى عنه وأرضاه.(47/7)
وصايا مطرف
ومن شدة خوفهم من الله أورثتهم شدة الاجتهاد في العبادة, فهذا مطرف بن عبد الله بن الشخير رضي الله تعالى عنه كما روى عنه ثابت قال: كان يقول: [[يا إخوتاه! اجتهدوا في العمل؛ فإن كان الأمر كما نرجو من رحمة الله وعفوه, كانت لنا درجات في الجنة، وإن يكن الأمر شديداً، لم نقل: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37] بل نقول: قد عملنا فلم ينفعنا ذلك, حتى نعذر إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, ونعذر إلى أنفسنا]] فكانوا يوصون أنفسهم، ويوصون إخوانهم في الله وتلاميذهم بالاجتهاد، فاجتهدوا في طاعة الله واجتهدوا في العمل، ولا تركنوا إلى أعمالكم ولا إلى أنفسكم ولا إلى ما قدمتم؛ بل اجتهدوا في الطاعات واستكثروا منها ما استطعتم, فإن كان الأمر ما نرجو من رحمة الله وعفوه وما وعد به عباده المؤمنين، فإن ذلك يكون لنا زيادة في درجاتنا, وخير للإنسان أن يكون من أصحاب الدرجات العلى بدل أن يكون من أهل الدرجات الدنيا، فإن يكن الأمر بخلاف ذلك ولا ندري ماذا نفاجأ به لم نقل: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37].
لأن المجرمين والكافرين الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا، ولم يكونوا يرجون الله ولا يخافون الآخرة، وغرهم بالله الغرور، ورضوا بالحياة الدنيا كما ذكر الله تبارك وتعالى واطمأنوا بها، هؤلاء يقولون هذا القول: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37] يتمنون العودة {هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:44] هل إلى خروج من سبيل؟ ولكن لا ينفع ذلك، بل كما ذكر الله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28] كحالهم في الدنيا إذا كانوا في مرض وفي خوف وفي ألم وفي شدة, تمنوا أن يعافيهم الله, ويدعون الله ويتضرعون إليه قائمين وقاعدين وعلى جنوبهم أنه إذا عفا عنهم فسيفعلون ويفعلون من الطاعات ومن التقوى, فإذا مَنَّ الله تعالى عليهم بالنعم وأعطى الإنسان منهم ما كان يتمناه من عافية وخير وصحة, مرَّ كأن لم يدعنا إلى ضر مسه.
هذا حالهم في الدنيا, فكذلك في الآخرة لو عادوا إلى الدنيا لنسوا.
لكن المؤمنين المتقين لا يريدون لأنفسهم ذلك, فهم يقولون: لا نريد أن نقول: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37] , إنما نقول: قد عملنا واجتهدنا فلم ينفعنا؛ فنكون قد أعذرنا, أي: إذا كان الذي نخاف, وإن كانت الشدة, وإن كان قد أعدَّ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا ما ليس في حسابنا, وإن كانت هذه الأعمال الصالحات لم تتقبل, وإن كان الخوف أكثر مما نتصور, وإن كانت الأهوال فوق ما كنا نتوقع, وإن كانت منزلتنا عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أقل بكثير مما قد يُخيل إلينا, فإننا سنقول: قد اجتهدنا وبذلنا جهدنا وعملنا, وليس للإنسان إلا ما كتب الله, أما أن نهمل، وأن نفرط، وأن نضيع حق الله تبارك وتعالى, فأقل ما فيها الندم هنالك وتمني العودة, وليس إلى مرد من سبيل, أو إلى خروج من سبيل, فلا ينفع ذلك أبداً.(47/8)
حكيم التابعين الحسن البصري
الحسن رحمه الله تعالى في سيرته العجب العجاب من هذا يحيى بن المختار ينقل عنه أنه قال: 'إن المؤمن قَوَّام على نفسه يُحَاسِب نَفْسَه لله - عز وجل - قبل أن يُحَاسَبَ, ويَسْألها قبل أن يُسْأَلَ -هذا حاله مع نفسه- وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، فمن حاسبها في الدنيا خف عليه الحساب يوم القيامة، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة ' وتلقوا هذا الدين عادات, فوجد من قبله يصوم ويصلي, فأخذ يصوم ويصلي, وليس هناك من استشعار للخوف, ولا محاسبة للنفس، ولا تفكر هل هذا العمل قُبل أم لم يقبل؟ المهم أننا أديَّناها وانتهينا, إن كانت صلاة أو صياماً، أو حجاً, فعلنا كما يفعل الناس وانتهى الأمر، والتفكير والهم في حياته وشأنه وإقامته وترحاله في الدنيا، وهموماً، في المال، والولد، والوظيفة، والترف، والنعمة، وأمور كثير.
فالدنيا مشغلة ملهية, من يهرب منها فإنها تطارده, أما من يستسلم لها فإنها تقيده بحيث لا يستطيع إذا جاء الموت أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله, أو يقال له: يا فلان, بم توصي؟ هل توصي من مالك بشيء؟ وهل يُتَصدَّقُ عنك؟ وهل لديك وقفٌ توقفه؟ فبدلاً من أن يتكلم بالأفضل أو الأصلح, فإنه يتكلم في الشهوات والمعاصي والذنوب, وأخف منه الذي يقول: اطلبوا الدين الفلاني, وانتهوا من بناء العمارة الفلانية, واشتروا كذا, وافعلوا كذا, وخذوا مالاً من عند فلان, وافعلوا وهذا كثير قديماً وحديثاً, نسأل الله العفو والعافية! لأن هذا هو الذي كان همه في الدنيا فاستحضره في تلك اللحظة, فلذلك هذا حالهم؛ فالذين حاسبوا أنفسهم في الدنيا, وكانوا يخافون الآخرة, خف عليهم الحساب عند الله تبارك وتعالى؛ وأما الذين غفلوا ونسوا ذلك, فإنه يثقل عليهم الحساب يوم القيامة؛ لأنهم يفاجئون بما لم يكونوا يحتسبون.
وقال: 'إن المؤمن يفجؤه الشيء ويعجبه, فيقول: والله إني لأشتهيك, وإنك لمن حاجتي ولكن والله ما من صلة إليك, هيهات هيهات! حيل بيني وبينك! ويفرط منه الشيء, فيرجع إلى نفسه, فيقول: ما أردت هذا؟ مالي ولهذا؟ والله لا أعود إلى هذا أبداً!! إن المؤمنين قوم تفقهوا القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم '.
ولهذا كانت الدنيا سجن المؤمن, فليس كل ما يتمنى يأكل, ولا كل ما يشتهي وما يتطلع إليه يريده, ربما تدعوه نفسه إلى أمر من الأمور يشتهيه ويحلو له فيتذكر, ربما كان فيه شبهة، والناس اليوم يُذَكَّرون بالحرام فلا يرتدعون إلا ما رحم ربك, لكن من يخاف الله, ومن يخاف الآخرة فما فيه شبهة فإنه يتوقف وينزجر عنه, يتركه وهو من أحب الأمور إليه, وهو أشد شهوة وتعلقاً به, ويفوته الأمر هو أشد ما يكون حاجة إليه, فيقول: (لعل ذلك خيراً فالحمد لله على ما قضى وعلى ما قدَّر) , ولا تتطلع نفسه إليه، فإن كان خيراً فإنه يعلم أنه قد حرم منه بذنوب قد أصابها, وإن كان ذنباً أو معصية, فليحمد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الذي عافاه منه، وهكذا حال المؤمن هو حال المحاسبة بجميع الأحوال.(47/9)
وصية المحاسبة
وقال: 'إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله عز وجل' كما جاء عن بعض الصحابة رضوان الله عليه [[لو وضعت رجلي اليمنى في الجنة لما أمنت حتى أضع اليسرى]] فالمؤمن أسير في هذه الدنيا يسعى في فكاك رقبته، فمثله كمثل العبد المكاتب الذي كاتب سيده على أن يدفع له كذا وكذا لعتقه, فكل همه أن يجتهد ليعتق رقبته, فالمؤمن هذا حاله, كل همه في الدنيا هو الاجتهاد ليعتق رقبته من النار, ليخرج من هذا الأسر, ومن الذي أسرنا فيه؟! كما قال ابن القيم رحمه الله:
ولكننا أسرى العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
فالذي أسرنا وأنزلنا وأخرجنا إلى هذا التراب هو عدونا اللعين إبليس, عندما دعا إلى الشهوة وإلى المعصية, فكان ما كان مما قضى به الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وقدَّره، فجاء الإنسان في هذه الأرض ليبُتلى وليُختبر وليمُتحن، كما قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:2 - 3] فهذا امتحان وابتلاء من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وهذا الأسر إنما وقعنا فيه بسبب هذا العدو، فبالله! هل هناك عاقل في هذه الدنيا يأسره عدوه ويوثقه ويكتفه ويجعله في دار هوان ومذلة, بعد أن أخرجه من دار نعمة وكرامة, ثم يطمئن إلى هذا العدو ويصدقه ويحبه ويواليه؟!!! والله لا يفعل ذلك عاقل أبداً! ومع ذلك فهذا حال أكثر الخلق, فأكثر الناس اليوم منقادون وراء هذا العدو، وراء شهواته التي يزينها وراء غروره الذي يأتي به وراء أمانيه ووعوده! {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ} [النساء:120].
فالشيطان يأتي بالأماني البعيدة الزائلة التي لا خير فيها؛ ليصرف الإنسان عن واجب مما افترضه الله تبارك وتعالى عليه أو ليوقعه في شيء مما حرمه الله تبارك وتعالى عليه.(47/10)
بكر المزني وعظمة التواضع
إن سير الصحابة والسلف رضوان الله تعالى عليهم مليئة بهذا, وأعجبتني هذه الفقرة لـ بكر بن عبد الله المزني رضي الله عنه وهو من مشاهير العلماء المحدثين - يقول: 'إذا رأيتَ من هو أكبر منك, فقل: هذا سبقني بالإيمان والعمل الصالح؛ فهو خير مني، وإذا رأيت من هو أصغر منك, فقل: سبقته إلى الذنوب والمعاصي؛ فهو خير مني'.
هذا ينشأ في طاعة الله وفي تقوى الله, وأنا قد غلبتني الذنوب والمعاصي والغفلة والتقصير, فلا يبلغ مثل ما أبلغ أنا من العمر الآن إلا قد نال الدرجات العلى, وقد جمع من الكنوز ومن الغنائم ومن الأجر ما ياليتني أنا قد جمعته وهكذا دائماً والناس إما أكبر منك أو أصغر منك, فتوقع هذا وتوقع هذا؛ حتى يُؤدب الإنسان نفسه ويعلمها أن تحقر ما تعمل وإن كان من الطاعات.
قال: 'وإذا رأيت إخوانك يكرمونك ويعظمونك فقل: هذا فضل أخذوا به' ولعل مقصوده -رحمه الله- أن هذا فضل منهم أو هذا فضل من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَنَّ عَليَّ بِه وأخذوا به ولا استحقه.
أي: إذا رأيت إخوانك يحبونك ويعظمونك ويقدرونك, فلا يغرنك الشيطان, فتقول: الآن عرفوا قدري, وعرفوا منزلتي وعلمي وعبادتي واجتهادي! لا والله, فهذا من الغرور!! نسأل الله العفو والعافية.
لكن قل: هذا فضل أخذوا به, قُل: غرهم مني أنهم رأوني أقول: كذا وكذا وما علموا ما أغلق عليه بابي, كما كان عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- يقول: [[لو أنكم تدرون ما أغلق عليه بابي ما فعلتم كذا]].
والله إننا نعلم أنه رضي الله تعالى عنه لا يغلق بابه إلا على خير وعلى تقوى وعلى قراءة قرآن وعلى عبادة, لكن قال ذلك زاجراً لهم لما تجمعوا ليسيروا خلفه, وقال لهم: 'إنها ذلة للتابع فتنة للمتبوع'.
وأيضاً من مأثور كلامه رحمه الله يقول: 'لو أن للذنوب رائحة ما جالسني منكم أحد'.
سبحان الله! هؤلاء الناس هم أطهر الخلق بعد الأنبياء وأفضلهم بعد الرسل, يقول: 'لو أن للذنوب رائحة ما جالسني منكم أحد' رائحتها تنتشر ومن هذا المعنى أخذ الشاعر أبو العتاهية فقال:
أحسنَ الله بنا أنَّ الخطايا لا تفوح
فإذا المستور منها بين ثوبيه فضوح
نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح
لتموتن ولو عُمِّـ ـرت ما عُمِّر نوح
هكذا كانوا يشعرون! فليتأمل كل منا هذا المعنى, لو أن للذنوب رائحة! سبحان الكريم! سبحان الحليم! الذي بلغ من عفوه، ورحمته، ومن سعة رحمته، وفضله، وكرمه، وأنه الغفور الودود الحليم -أنه يقول- في حق الذين أحرقوا أولياءه بالنار الذين خدوا الأخاديد, وجاءوا بهؤلاء المؤمنين, وألقوهم فيها وهم أحياء- في سورة البروج: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:10] فيفتح لهم باب التوبة! يقبل التوبة ممن يفتن المؤمنين بسبب إيمانهم, ويلقيهم في النار وهم أحياء! فهذه توبته للمجرمين فكيف مع المحبين؟! وكيف مع الصادقين؟! وكيف مع المخلصين؟! فمن رحمته أن الخطايا لا تفوح, فكيف لو كان للذنوب رائحة؟! لكان بعض الناس يبتعد عن خلق الله آلاف الأميال, ورائحته تبلغهم أينما ذهبوا, لكن رحمة الله واسعة, ولذلك فإن من شر الناس منزلة عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المجاهرون, الذين يعمل أحدهم الخطايا والقبائح بالليل ويستر الله تبارك وتعالى عليه, ثم يأتي ويحدث الناس بها, ويقول: (عملت، وعملت) هؤلاء الذين يظهرون الروائح, والله تبارك وتعالى يخفيها ويسترها ويفتح باب التوبة لمن أعلن بها.
يقول بكر بن عبد الله المزني: 'وإن رأيت منهم جفاءً وانقباضاً فقل: هذا بذنب أحدثته" اتَّهمْ نَفْسَكَ, ولا تقل: ليس فيهم خير, بل قل: (هذا ذنب أحدثته) أطلعهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليه, وهم يشعرون أو لا يشعرون, فكانت هذه الجفوة, وكان هذا الإعراض عني, فالمتهم في كل الأحوال مع الصغير ومع الكبير, عند الإعراض وعند التكريم هو هذه النفس.(47/11)
من علامات الخائفين(47/12)
الاشتغال بعيوب النفس
طوبى لعبد شغلته عيوبه عن عيوب الناس! فلهذا قال قائلهم: 'إني لأرى أثر معصيتي -أو ذنبي- في خلق امرأتي ودابتي' سبحان الله! فهؤلاء يرون أثر المعاصي؛ لأن القوم لمَّا قلت ذنوبهم علموا من أين أتوا؟ ولذلك لو وقعت لواحد منهم مثل هذه الأمور: إما إعراض، وإما ظلم، وإما مشكلة، وإما فرية، وإما بهتان, فإنه يعلم من أين أُتي, فيقول: هذا بسبب ذلك ويعرفه, لكن الذي يجني ويحصد الذنوب ليل نهار, ووقعت له نازلة, فإنه لا يدري من أين أُتي؛ لا يدري: هل هي من الغيبة؟ أم من النميمة؟ أم من تضييع الصلوات، أم من هجر كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أم من أكل الحرام؟! أم من التعلق بالدنيا والغفلة عن الآخرة؟! فهو لا يدري من أين أتي، لكن الذي يعلم أنه ما أخطأ إلا تلك الخطيئة، وما أذنب إلا ذلك الذنب يعلم من أين أتي, فيتوب ويستغفر, فيكون قد أقفل هذا الباب, فيلقى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وقد غسل هذا القلب من الأدران والخطايا.
يقول موسى بن إسماعيل وهو من تلاميذ أحد العلماء المشهورين وهو حماد بن سلمة رضي الله تعالى عنه قال: 'لو قلت لكم إني ما رأيت حماد بن سلمة ضاحكاً قط صدقتم -أي: لو قلت لكم ذلك ما أكذِّبُكم فما رأيته ضاحكاً قط قال:- كان مشغولاً بنفسه إما أن يحدث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -لأنه كان من الرواة المشهورين كما هو معلوم -وإما أن يقرأ القرآن أو يقرأ العلم النافع, وإما أن يسبح، وإما أن يصلي'، كان قد قسم النهار بين هذه الأعمال؛ إن ترك القراءة فهو للصلاة, وإن انفلت من الصلاة فهو للتسبيح, وإن انتهى من التسبيح فللحديث وللعلم؛ فكل حياتهم هكذا إن كانوا في الجهاد، فجهاد ومنازلة كأقوى ما يكون الرجال، وإن انصرفوا من الجهاد فللحج والعمرة والصيام وقراءة القرآن، وإن خرجوا من المسجد, وقد أدوا الصلاة, فللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وإن دخلوا بيت أحد, فللزيارة في الله وللدعوة والنصيحة والتذكير بالله، وإن قرأوا ففيما ينفعهم, وإن تكلموا فبما يؤجرون عليه؛ فهؤلاء كانوا يعيشون قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36].(47/13)
عن اللغو معرضون
جاءت ابنة أحدهم إليه, تقول: يا أبتاه! أريد أن ألعب، وكان معه بعض جلسائه, فأعرض عنها, فأتت من هاهنا ومن هاهنا: يا أبتاه! أريد أن ألعب! قال أحدهم: قل لها: العبي, وتذهب عنك، قال: لا أريد أن أجد في ديواني لعباً؛ لأن بعض السلف يرى أن ذلك يكتب! وهناك خلاف في هذه المسألة بين السلف رضي الله تعالى عنهم؛ فبعضهم كان يرى أن كل شيء يقوله الإنسان يكتب عليه {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] فكل كلمة مكتوبة، وكل عمل مكتوب أياً كان, وبعضهم يقول: لا, إنما تكتب الحسنات أو السيئات, أما ما يدخل في المباح أو اللغو أو فضول الحياة, فهذه لا تكتب مثل قولنا: العب أو اذهب أو أي أمراض من أعمالنا اليومية التي لا علاقة لها بالإثم ولا بالحسنة, فالكلام المعتاد لا يكتب, والتصرف المعتاد لا يكتب؛ فكان هذان المذهبان من قديم عند السلف رضي الله عنهم، فبعضهم يقول: كل شيء يكتب؛ فإذا قلت: "العبي" وجدت يوم القيامة في ديواني مكتوب "العبي" وما أريد أن يكون ذلك في ديواني, ومن هنا ندرك مدى التنزيه الذي وصلوا إليه لأفواههم ولقلوبهم ولصحائفهم, مع ما هم عليه من الخوف!! فكيف بمن يلطخ لسانه وقلبه وصحائفه, فإذا سُئِلَ, قال: الحمد لله! ونحن إلى خير! ونحن كذا! وأخذ يثني على نفسه ويذكرها بما ليس فيها.(47/14)
حب العبادة
ومن السلف الصالح الذين غلب عليهم الخوف: عمرو بن قيس الملائي -رحمه الله- قال عمر بن حفص بن غياث 'لما احتضر عمرو بن قيس بكى, فقال له أصحابه: علام تبكي من الدنيا فوالله لقد كنت تبغض العيش أيام حياتك فكيف تبكي؟! فقال: والله ما أبكي على الدنيا وإنما أبكي خوفاً أن أحرم خوف الآخرة' فمن شدة حرصه على أن يتعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالخوف منه يبكي لأنه إذا فارق الدنيا ربما يفارقه الخوف من الآخرة، وهو يتعبد الله تبارك وتعالى بهذا الخوف، فكأن نوعاً من أنواع العبادة قد انقطع عنه، يقول: إن أَمَّنَني الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأدخلني جنته, ورضي عني, وقبل أعمالي, فسأكون قد انقطعت عن عبادة من العبادات كنت أحبها وأحرص عليها, وهي الخوف من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى!! لقد أصبح الخوف محبوباً عندهم حتى إنهم ليبكون خوفاً من فواته وهو خوف عند الاحتضار, وهي الساعة التي يُغَلِّبُ كثيرٌ من السلف فيها الرجاء على الخوف، وأمَّا مآثرهم فهي عظيمة وجليلة؛ كما قال بعض العلماء: 'إذا ذُكِرَ الصالحون افتضحنا' نسأل الله العفو والعافية! لأنه إنما يعرف الإنسان نفسه إذا ذكر هؤلاء.
أبو سليمان الداراني الذي ضرب به ابن القيم المثل في العبادة قال في المدارج: 'كان مضرب المثل في العبادة من أهل الشام مثل ما كان الحسن البصري في البصرة ومثل ما كان سفيان في الكوفة ' وهكذا كل مدينة يشتهر فيها عدد من الناس بهذا, فمن أعظم وأبرز أعلام أهل الشام أبو سليمان الداراني -رحمه الله- نسبة إلى داريا وهي قرية من قرى دمشق كان -رحمه الله- يقول: 'مفتاح الدنيا الشبع, ومفتاح الآخرة الجوع, وأصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله' ولهذا كانت مظاهر الخوف في سيرته -رضي الله تعالى عنه- أوضح منها في غيرها من ذلك.
يقول: 'لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، وما أحب البقاء في الدنيا لتشقيق الأنهار ولا لغرس الأشجار'.
مثلما قال الآخر: 'مساكين أهل الدنيا! خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها' مساكين! فلو مات أثرى أثرياء الدنيا الذين كانوا يتقلبون في أعطاف القصور والنعيم, وكل ما لا يخطر على أذهان الفقراء, ولا يدور في خلد المساكين -لو ماتوا وهم لم يذوقوا لذة مناجاة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والقرب من الله عز وجل, فهؤلاء مساكين- خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أحلى وألذ ما فيها، ولهذا كان للسلف الصالح كلام عظيم -لو جمع لكان جزءاً- في الليل وفي محبة الليل والثناء على الليل وتعلقهم بالليل؛ لأنه وقت الخلوة بالحبيب, ووقت المناجاة حيث لا يراهم أحد.
كان ليلهم غير ليلنا، نحن الآن في الليل والنهار -نسأل الله والعفو والعافية- لا نخلو ولا نأنس! لكن الحياة في الصدور الأول كان فيها الليل -فعلاً- ليلاً, كما كان آباؤنا -وهم قريبون من عصرنا- إذا صلّى الناس العشاء ذهبوا فناموا, فعندئذ يخلو الإنسان بربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قراءة وذكراً وقياماً وصلاة وتسبيحاً, فيحب الليل, فيقول: ' لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا ' فأحب الأوقات إليَّ هذا الوقت الذي أجد فيه اللذةَ التي من لم يذقها فهو مسكين! دخل الدنيا وخرج منها ولم يذق ألذ وأحلى ما فيها، ولم يتمتع بذلك, وهذا هو الذي قال فيه القائل الآخر إبراهيم بن أدهم رضي الله تعالى عنه ' لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف '! الأغنياء والمترفون والكبراء وأهل الدنيا أيما شهوة تبلغهم ذهبوا إليها!! والتاريخ مليء بذلك.
كان بعضهم يقال له وهو في بغداد: إن جارية بـ خراسان تغني فيطرب لها كذا وكذا, فيقول: اشتروها لي, فيقولون: إنها بمائة ألف دينار؛ فيقول: ادفعوا مائة ألف دينار وأتوني بها! أية لذة يسمعون عنها يأخذونها ويشترونها, فإن تعاسرت على المال, وحيل بينهم وبينها بالمال, جردوا السيوف لينالوها؛ سواء كانت لذة ملك أو شهوة أو أيّاً ما كان الأمر, يجالدون بالسيوف لينالوها, لكنهم مساكين!! لو يعلم من لم يكن عمله في طاعة الله, وجهاده ومجالدته في طاعة الله ما عند من يجتمعون على كتاب الله ومن يقرءون سيرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن يقرءون حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكلام هؤلاء الأئمة وحياتهم، لو يعلمون ما يجده هؤلاء في بيت من بيوت الله أو في بيت من بيوت أحدهم لجالدوا عليه بالسيوف، لكن لا يعلمون؛ لأن اللذات عندهم محصورة في الشهوات فقط, ولذلك لا يمكن أن يتطلعوا أو يفكروا فيما وراءها, ولو علموا أن اللذة الحقيقية هي لذة النجوى والأنس بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والفرح بما عند الله عز وجل وما أنعم الله به على الإنسان من الإيمان والتقوى -لو علموا ذلك- لسابقوا إليه، لكنهم لأنهم لم يعلموا ذلك فلم يسابقوا ولم يزاحموا عليه.(47/15)
المعصية سبب للهوان على الله
يقول أبو سلمان الداراني حكمةً عظيمةً من حكمه, وما أكثر حكمه وحكم أمثاله! يقول: 'إنما عصى الله -عز وجل- من عصاه لهوانهم عليه, ولو كَرُمُوا عليه لَحَجَزَهُمْ عن معاصيه'.
أي: عندما نرى أحداً يقترف محرماً أو ينتهك حرمات الله وينغمس في الشهوات, فإننا نعلم أنه من هوانه على الله أوقعه في ذلك كائناً من كان؛ لأنه لا يساوي عند الله -عز وجل- أن يمنعه, فلذلك هانوا عليه فتركهم ووكلهم إلى أنفسهم, فرتعوا في الحرام ووقعوا في الشهوات التي حرمها الله -تبارك وتعالى- أما من كرموا على الله, فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يمنعهم ويحجزهم ويحميهم فلا يقعون فيها.
ومن أعظم الأمثلة الدالة على صدق هذا الكلام ما ذكره الله تبارك وتعالى في القرآن عن الذي أُتيحت له كل الأسباب, ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حجزه ومنعه وعصمه, وهو يوسف عليه السلام، يقول الله تبارك وتعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23]، هذا في منتهى الشباب وغريب لا يعرفه أحد, وعادة الغريب أنه يكون أدعى إلى أن يفعل ما يشاء وأكثر ممن يكون بين قومه وأهله وذويه, فقد يقولون له: لم فعلت يا فلان كذا؟! وليس هو الذي طلب, بل هي التي راودته كما قال: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} [يوسف:26] وهي التي هو في بيتها، تملكه وتملك البيت, فهي سيدة البيت, بل هي سيدة البلد؛ لأنها امرأة العزيز, والعزيز هو ملك مصر، فهي التي راودته، وهي التي تملكه, وهو في منتهى الشباب والطاقة وفورة الشهوة, وهي في منتهى الجمال والفتنة والإغراء, ولا أحد يدري بذلك أبداً، ثم إنها قد عملت الوسائل التي لا محيص منها عن الشهوة؛ غلقت الأبواب, فلم يبق هنالك مجال أن يقول: أَخرج أو أُفِرُّ أو أَذْهَب, وقالت: هيت لك, إما بمعنى تهيأت لك أو بمعنى هيهات لك أن تفر، أو ألا تفعل؛ فكل داعٍ من دواعي الوقوع في الفاحشة كان متوفراً, ولم يبقَ هناك أيُّ ملاذ أو ملجأ لأي إنسان إلا من عصمه الله فحجزه {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24].
الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذا علم أن عبداً من عباده صادقٌ تقيٌ برٌ, فإنه يحجزه ويمنعه, فلكرمه على الله لا يفعل, وكان يوسف عليه السلام كذلك, كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام}.
وصلى الله وسلم على أولئك الأنبياء الذين من كرمهم على الله كانت لهم السير المعطرة الطيبة الزاكية, وكانوا يحجزون ويمنعون عن المعاصي؛ لأنهم كرماء على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أما الذين لا يساوون عند الله جناح بعوضة, فكما يشاءون؛ الشهوات متيسرة, والفساد مهيأ, فيفعل ما يشاء, فهو موكول إلى نفسه؛ لأنه هان على الله، كما قال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19] فإن فكَّر أو تكلم أو كتب أو جاء أو ذهب فيفعل ويتكلم في كل شيء ويخوض في كل شيء إلا نفسه.
يا مسكين! أما علمت أن أمامك موتاً، وأمامك قبراً، وأمامك آخرةً، وأمامك صراطاً وحساباً وجنةً وناراً، لكنه لا يفكر في هذه الأشياء بل يفكر في فلان وفي علان, وفي القضية الفلانية وفي الموضوع الفلاني, بل ربما يدعو بقلمه إلى ما حرم الله.
يقول: تحرير المرأة! والمرأة مسكينة! والمرأة مظلومة! والمرأة مضطهدة! فكر في نفسك يا مسكين! أنت المسكين المحروم، وليس المرأة هي المحرومة, أنت محروم من طاعة الله، وأنت محروم من قراءة القرآن, وأنت محروم من عبادة الله، وأنت محروم من الجلوس مع أولياء الله، وتقول: المرأة محرومة ومظلومة! وصدق الله إذ يقول: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19]، فترك الأمر الذي أمامه من طريق مخوف مفزع والذي هو واقع فيه, فلم يُفكر فيه، لم يحجزه ربه, لأنه هان عليه, فلما هان عليه, تركه يفعل ما يشاء.
ولهذا علينا أن نُقِّدر نعمة الله أن هدانا للإيمان، فإذا كنت ممن يتقي الله ويطيع الله، ولا يغفل عن ذكر الله ولا عن الآخرة, فاحمد ربك؛ لأنك كريم على الله, فإذا دعتك نفسك إلى معصية أو هيئت لك معصيةٌ من المعاصي.
فكففت عنها, فاحمد ربك لأنه لا يمنع ولا يحجز ولا يصرف عن السوء والفحشاء إلا من كان كريماً عليه وحبيباً لديه, فاحمد الله على هذه المنزلة ولا تسقط من عينه.(47/16)
منزلة الأخوة عند السلف
يقول أبو سليمان من درر كلامه رحمه الله -وهذه ليس لها علاقة بالخوف لكنني أحببت أن أذكرها لشدة حاجتنا إليها وإلى مثل هذه العبر- يقول: 'لو أن الدنيا كلها جمعت في لقمة -أي: أموالها وشهواتها ومتاعها وكل ما فيها جمع في لقمة- ثم جاءني أخ لي من إخواني في الله لأحببت أن أضعها في فمه'.
فالدنيا كلها لا تساوي شيئاً, فالأخوة في الله خير عندي من كل الدنيا, فلو جمعت الدنيا بكل شهواتها وملذاتها ومتاعها وما يطلبه الناس وما يتسابقون إليه منها في لقمة ثم جاءني أخ في الله, لأحببت أن أضعها في فمه! فهؤلاء هم الذين كانت الأخوة والمحبة في الله عندهم بهذه المنزلة العالية, ولذلك لو لم يدخلهم الجنة إلا هذا لكفى، فهذا من أعظم ما يرجو به الإنسان الجنة.
قال أنس -رضي الله تعالى عنه- عندما سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {يحشر المرء مع من أحب يوم القيامة، قال: فأنا والله أحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم} فهذه نعمة عظيمة، فلينظر الإنسان من يحب, ولينظر من يخالل, ولنعرف قيمة الأخوة في الله, والأخوة في الله ليست مجرد مشاعر أو عواطف تأتينا إذا التقينا وذهبنا وأتينا, بل الأخوة الصادقة أن تكون محباً ومؤثراً له, ناصحاً صادقاً في معاملته ووفياً, إذا احتاج إليك فإنك تنجده: ما استطعت، وتبذل له ما استطعت.
سأل بعض التابعين بعض تلاميذه: {{كيف محبتكم في الله؟ قالوا: الحمد لله, نتحاب ونتآخى في الله, قال: أيمد أحدكم يده إلى كُمَّ أخيه، فيأخذ منه ما يشاء ويدع ما يشاء؟ قالوا: لا, قال: إذاً أين المحبة؟}}.
هكذا تبلغ بهم المحبة، فيشعر الإنسان أن ما يملك فهو لأخيه, وما يملك أخوه فهو له من مال أو من مساعدة أو من خدمة يمكن أن يقدمها الإنسان لإخوانه في الله، فهذه هي حقيقة الأخوة.(47/17)
إصلاح القلوب
يقول أبو سليمان الداراني -لنعرف كيف كانت سيرته في العزوف عن الدنيا، والتعلق بالآخرة، والخوف من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قال: 'إذا كانت الآخرة في القلب جاءت الدنيا تزحمها، وإذا كانت الدنيا في القلب، لم تزحمها الآخرة؛ لأن الآخرة كريمة، والدنيا لئيمة، ولا يزاحم إلا اللئام'.
إذاً الذي ينبغي للإنسان أن يجعله في قلبه هو الآخرة، أما إذا كانت الدنيا هي التي في القلب فلننتبه، فلا بد من يقظة، ولا بد من عزيمة، ولا بد من عمل، فلا نتوقع أن تأتي الآخرة فتزحمها أبداً، فالإنسان لا بد أن يعلم ما الذي يضع في قلبه, فإن كانت الآخرة فليحافظ عليها من مزاحمة اللئيمة، وإن كانت اللئيمة, فليطردها وإلا فلن تخرج؛ والكريمة لن تزحمها ولن تدخل.(47/18)
لربهم يرهبون
وممن اشتهر عنه جانب الخوف -وهم كثير- رجلان عُرِفَا بذلك أكثر من غيرهما كما قال بعض السلف: 'أكثر الناس بعد الصدر الأول من الصحابة وكبار التابعين خوفاً رجلان هما: عمر بن عبد العزيز وسفيان الثوري كأن النار لم تخلق إلا لهما'.
فمن كان يتأمل ويرى حال عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه فإنه سوف يقول: (ما خلقت النار إلا له) فكأنه يشعر أنها ما خلقت إلا له, وحياته فيها الكثير من العجائب! ولذلك فإنّ ابن الجوزي رحمه الله -صاحب صفة الصفوة - لما تكلم عن سير الصالحين والعباد, أفرد الكبار المشاهير بكتب مستقلة, ومن الذين أفردهم ابن الجوزي بتراجم مستقلة- لأنهم كانوا أكثر وأشهر وأعظم من أن يحصرهم ضمن تراجم مع غيرهم عمر بن عبد العزيز، فله كتاب عظيم عنه, وله كتاب عن سفيان الثوري وهو -والله أعلم- مفقود, وما بلغني أنه موجود, وحبذا لو يظهر!! والثالث عن الإمام أحمد بن حنبل.
ومن حكمة الله أن يذكر غير الصحابة -أيضاً- في التحدث عن تلك الفضائل, فلو ذكر الصحابة فقط لقال الناس: "هؤلاء صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن يبلغ ما بلغوا؟ " لكن تأتي هذه النماذج, بعضهم في وقت الشدة ووقت الفتن ووقت البدع, وبعضهم في زمن الحجاج.(47/19)
عمر بن عبد العزيز والهمة العالية
عمر بن عبد العزيز الذي جاء في زمن الفتنة والشهوات, والدنيا قد أقبلت ومع ذلك فقد أُثِرَ عنه أنه لما كان أميراً على المدينة [[جيء له بثوب, فقال: كم ثمنه؟ قالوا: خمسمائة دينار, فقال: رخيص! فلما ولى الخلافة جيء له بثوب, قال: كم ثمنه؟ قالوا: عشرة دراهم, قال: هذا غالي!]] فانظر كيف تبدل حاله! قال بعض جلسائه: والله يا أمير المؤمنين! إني لأذكر؛ لأنه في أول شبابه كان مترفاً رضي الله تعالى عنه مرة عرض عليك الثوب بكذا وكذا دينار, فقلت: رخيص، فقال كلاماً عظيماً عجيباً جداً! قال: [[تاقت نفسي إلى الإمارة، فلما وليتها تاقت نفسي إلى الخلافة, فلما وليت الخلافة تاقت نفسي إلى الجنة]] فهذه هي الهمة العالية! لما ولي الخلافة، كان يحكم الدنيا, ولو أن رجلاً أقسم بالله أنه كان يحكم الدنيا ما حنث ولا أثم كما يعبر الفقهاء، إذ كان يحكم من جنوب فرنسا إلى بلاد المغرب وأفريقيا إلى بلاد الشام والعراق والترك وحتى حدود الهند والصين , وتدفع له الممالك من غير المسلمين الجزية, هذه هي الدنيا! أما الأمريكتان واستراليا فلم تكن معروفة, وأما أوروبا فإنهم همج ولو أُعْطِيَتْ لأحد ذلك اليوم لما قبلها, ولو قيل له: احكم أوروبا , لقال: ما أريد بها وهم همج رعاع لا خير فيهم.
إذاً فقد كان يحكم الدنيا, فتطلع إلى ما هو أعظم من الدنيا, فقال: (الآن تاقت نفسي، أي: اشتاقت نفسي إلى الجنة).
إن القيمة الحقيقية هي في الآخرة, أما الذي يُعظِّم الدنيا ويحبها ويريد ما فيها, فقد يحصل عليها ولو بأغلى الأثمان, لكنها سرعان ما تنتهي وتذهب, وهكذا الدنيا! ليس فيها شيء يدوم! بهرج وبريق كبرق السحاب الخلب, ثم تذهب وتنتهي أما النفوس العالية ذات الهمة العالية، فهي لا تنظر إلى مجرد المتاع كالهمم الدنيئة.
كما قال بعض السلف: 'القلوب نوعان: قلوب تطوف حول العرش, وقلوب تطوف حول الحش' أي: المرحاض, ويعنون بذلك أنَّ أهل الدنيا كل تفكيرهم في شيء نهايته إلى ذلك المرحاض: شهوة النساء، أو شهوة الأكل، أو شهوة كذا, فكلها في المرحاض وما حوله؛ لكن هناك قلوب تطوف حول العرش, فهي دائماً هناك! تفكر في آلاء الله، وفي صفات الله، وفي أسماء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وفي هذه المعاني العظيمة, تُفكر دائماً فيما عند الله, تفكر في جنات عدن التي سقفها عرش الرحمن، وهكذا يعيش الناس في دناءاتهم, وهم بهذه الهمة العالية.(47/20)
الورع وابن المبارك
ولشهرة هؤلاء أخذنا بعض النماذج الأخرى, ومنهم عبد الله بن المبارك -رضي الله تعالى عنه- الذي كان مجاهداً، وكان عابداً, جمع بين الجهاد وبين العبادة وبين الكرم, وسيرته عجيبة.
عبد الله بن المبارك -رضي الله تعالى عنه- كان في أصله من أولاد الملوك, وكان أجداده من ملوك فارس، وكانت أمه تركية, وعنده عجائب في الورع وفي الزهد.
يقول أحد تلاميذه: 'رأيت في منزل ابن المبارك حماماً -كما نرى نحن الآن في البيوت من الحمام الذي يربى في البيوت- فكأنه استغرب أنَّ هذا الحمام يتكاثر ولا أحد يأخذه, فقال عبد الله بن المبارك: قد كنا ننتفع بفراخ هذا الحمام, فنأخذها ونذبح ونطعم أبناءنا أو ضيوفنا, قال: فلم نعد ننتفع بها اليوم, قال: لماذا؟ قال: اختلطت بها حمام غيرها, فتزاوجت بها, فنحن نكره أن ننتفع بشيء من فراخها من أجل ذلك'.
سبحان الله! بخلاف هذا الزمان! فالواحد لو قُدِّر له أن يلتهم ما عند الجيران وما عند الزملاء وما عند الموظفين لأكل؛ مع أن المسألة ليست أن تشبع أو أن تكنز المال! فكِّر! فأمامك حساب، فهذه شدة حذرهم وخوفهم رضي الله تعالى عنهم.
وقد بلغ من شدة خوفه وتفكره مبلغاً عظيماً, قال سويد بن سعيد: رأيت عبد الله بن المبارك بـ مكة أتى زمزم فاستقى عنها ثم استقبل الكعبة، فقال: 'اللهم إن ابن أبي الموالي حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {ماء زمزم لما شرب له} وهأنا أشربه لعطش يوم القيامة'، فحين ترى ما يفكرون فيه، وهم يعملون الطاعات، إذ هو في عبادة وهو في حج، فإنك ترى فيهم مصداق قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60].
قال نعيم بن حماد: 'كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب الرقاق -والمقصود أي حديث في باب الرقاق- فكأنَّه بقرة منحورة من البكاء, لا يجرؤ أحد منا أن يدنو منه أو يسأله عن شيء'.(47/21)
التواضع عند ابن المبارك
ومن عجيب كلامه ما نقله عنه عبد الله بن خبيب 'قيل لابن المبارك: ما التواضع؟ قال: التكبر على الأغنياء'.
ولا يعني أن الإنسان يظلمهم أو ينظر أنه أفضل منهم, إنما الحكمة واضحة ومقصودة, وهو أن تشعر أنك بما عندك من إيمان وتقوى وعبادة خير من هؤلاء, فهذه حقيقة التواضع, وليس أن الإنسان إذا رأى أحداً من هؤلاء فإنه ينبغي له أن يتواضع, فليس التواضع أمام الأغنياء أو أمام الكبراء في كلمة الحق أمراً مرغوباً فيه شرعاً, بل قد يكون هذا التواضع داخلاً في باب آخر في باب الخوف من غير الله أو في باب محبة الدنيا؛ فلو رآك أهل الدنيا ومن لا خير فيهم تتواضع أمامهم, لقالوا: هذا يطمع فيما عندنا, وهذا يريد المال, وهذا يريد شيئاً! لكن لو رآك الأغنياء وأهل الدنيا وأنت تتكبر عليهم بأن يدعوك فلا تذهب, فإذا دعاك فقير طالب مسكين, لا يملك شيئاً من حطام الدنيا وأجبته, وذاك يرى ويسمع, لعلم أنك متكبر عليه، فهذا هو المقصود, وليس التكبر هنا أنك تغمطه فضله أو حقه, بل أن يعلم أنك لا تنظر إلى جاهه ولا إلى منصبه ولا إلى أي شيء, خاصةً إذا كان من أهل الدنيا الذين لا يريدون الله واليوم والآخر.
وليس كل من آتاه الله مالاً فهو كذلك, ليس هذا هو المقصود, إنما المقصود أن يرى الناس فيك هذه الصفة.
جيء إلى سعيد بن المسيب , والخطبة ابنته لولي عهد المملكة والخلافة الوليد بن عبد الملك , فـ عبد الملك خطبها لابنه الوليد فرفض وأبى, وَزَوَّجَها من ذلك المسكين طالب الحديث، ورفض أن يعطيها لـ ابن عبد الملك بن مروان الذي كان يحكم الدنيا من شرقها إلى غربها.
إذاً: فهذا هو التكبر على أهل الدنيا، وهذا هو التواضع.
وهذه حقيقة التواضع حتى لا يفهم بعض الناس من سير هؤلاء الأجلة والعلماء أن التواضع هو ما فهمه الصوفية من الاستخذاء والاستجداء, فهؤلاء لو راح الواحد منهم يريد أن يعمل دعوة، فأول ما يبدأ بالأغنياء, ويطرق بيوت الكبار؛ حتى لو أرادوا عملاً من أعمال الخير ولو كان موعظة أو تدريساً في مسجد فإنهم لا يذهبون إلا إلى مساجد الأغنياء وإلى مجالس المترفين! نسأل الله العفو والعافية, وهذا فهم الصوفية الذين تنقطع قلوبهم من حب الدنيا, وفي نفس الوقت يدعون أنهم من أهل الله, أما المؤمنون الصادقون الذين يؤثرون حقيقة الآخرة على الدنيا, فإنهم لا يبالون بهؤلاء, وإنما ينظرون إلى الإنسان من جهة إيمانه وتقواه، فيحبون لله ويوالون فيه {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22].(47/22)
الأسئلة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:(47/23)
الهوان على الله
السؤال
الشخص الذي كان غارقاً في المعاصي والذنوب, وكان هيناً على الله، ثم يتوب عن ذلك ويصلح, فيصبح غير هين على الله؛ فما هو أساس هذا؟ ثم أحياناً يكون عكس ذلك كالذي يتحول من ظاهر الصلاح إلى المعاصي؟
الجواب
الخيار بيد العبد، فإن أراد أن يكرمه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, فليتق الله، وليحفظ نفسه من المعاصي ومن الذنوب, وليصدق مع الله في ذلك، فإذا صدق مع الله، في إرادته الخير والهداية, أكرمه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بمزيد الفضل والإيمان ورفع الدرجة، وحجزه عن المعاصي والذنوب.
أما إذا تخلى عن ذلك, وكان إيمانه قليلاً أو ضعيفاً أو كان مدخولاً، وعصى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإنه يهان {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18] ولو كانت له ذلك منزلة عند الله عز وجل فيما يرى من نفسه ولو كان قبل ذلك على طاعة وعلى خير وإحسان وإخلاص في ظاهر نفسه, لكنه ارتد وانتكس! فهذا قد أهان نفسه، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لو علم فيه خيراً لحجزه ولعصمه بما قد سبق له، لكن لا بد أن في تلك الأعمال ما لا يقبله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, أو فيها ما لا نعلمه من المفسدات أو المحبطات, أو اقترن بها ما لم يجعلها تعطي الإنسان المراد والمطلوب من مثل هذه الطاعة.
فالمقصود أن الأمر بيد الإنسان, والله وسُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3]، {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] فمن أراد كرامة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فطريق الكرامة أمامه، ومن أراد غير ذلك فهو كما أراد، وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له}.
إن كان من أهل الكرامة والفوز والنجاح فهو ميسر له ذلك, وإن كان من أهل الشقاوة والغواية فإنه ييسر له ذلك, فلا تناقض في هذا.(47/24)
خشية الرياء من علامة التقوى
السؤال
إنني أحياناً في قيامي بعبادتي، وخاصة التي تكون أمام الناس أكون في صراع مع نفسي، هل أنا مراءٍ أم لا؟ وأذكر أحياناً دعاء كفارة الرياء؟
الجواب
هذا من جملة ما يقع لأكثر العبَّاد، ونرجو أن يكون ذلك من علامة التقوى، لأنه كما قال الحسن البصري رحمه الله عن النفاق [[ما أمنه إلا منافق، ولا خافه إلا مؤمن]].
والرياء يحبط الأعمال {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110]، والله تعالى يقول كما في الحديث القدسي الصحيح: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فهو للذي أشرك} أو قال: {تركته وشركه}.
فالله تعالى أغنى الشركاء عن الشرك، لذلك فإن كل عبد تقي يخاف الشرك الأصغر "الرياء" الذي يحبط الأعمال، وقد يكون الرياء شركاً أكبر كرياء المنافقين، أي: إذا كان الرياء في أصل الإيمان.
فالخوف من الرياء من سمات المتقين الصالحين، ولا ينبغي للعبد المؤمن أن يمنعه شبهة الخوف من الرياء أو أن الناس ينظرون إليه عن عمل من أعمال الخير أو الصلاح.
إن كنت تقرأ القرآن، أو تصوم، أو تصلي، أو تتصدق, أو تعمل أي عمل من أعمال الخير، تفعله أنت عن إيمان وعن محبة لهذه الطاعة، وتقرب إلى الله تبارك وتعالى, فلا يمنعنك من ذلك خشية كلام الناس، فتخشى أن تقع في الرياء، فتقول: لا أعمل الطاعة، فهذا باب من أبواب الشيطان التي قد يدخل بها على الإنسان، ولهذا قد ورد عن بعض السلف أنهم قالوا: 'العمل لأجل الناس رياء، وترك العمل لأجل الناس كفر'.
إذا كان الإنسان يعمل الطاعة من أجل الناس فهذا رياء, فإن تركها من أجل الناس لأي سبب من الأسباب فهذا كفر! نعوذ بالله منه.
إذاًَ: الإنسان لا يترك الطاعة، إنما يعمل الطاعة من جهة ويقاوم الرياء من جهة أخرى, ويستغفر الله إن كان قد وقع له منه شيء.
هذا هو الواجب، وإلا فالشيطان يُلَبِّس على كثير من الشباب في هذا، فبعض طلبة العلم ترك حفظ القرآن, لأن الشيطان أوهمه بأن حفظه جيد، وقراءته جميلة، فلو حفظت القرآن لافتنت.
وبعضهم ترك الصلاة في المسجد، يقول: (إنني إذا سمعت القرآن لا أصبر من البكاء من الخشوع وأصلي صلاة خاشعة, فخفت من الرياء) فجعل الصلاة في البيت! وهذا هرب من شيء محتمل, فوقع في ذنب مؤكد وخطأ محقق؛ فليس هذا هو التعامل الصحيح الذي سنه لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا صحابته الكرام, بل من الأعمال ما ينبغي أن يجهر بها الإنسان مع الحذر من الرياء، كالزكاة مثلاً؛ قال العلماء فيها: يحسن أن يخرجها علانية أحياناً لما في ذلك من المصلحة، ولهذا ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الحالين: السر والعلانية في الإنفاق خاصة، أما السر فحتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه؛ ليكون أبعد عن الرياء، وأما العلانية ففيها فوائد عظيمة منها: - أن يكون أسوة لغيره ليقتدي به.
- ومنها: -وهو مقصد شرعي.
وإن كنا قد نغفل عنه- دفع الغيبة عن نفسه, كأن يقال فيه: "هذا مع كثرة أمواله لم يطعم مسكيناً!! ليس فيه خير"، ويدخل في الإثم بسبب الغيبة، فأنت تدفع ذلك عن نفسك، لكن بشرط ألاَّ ترائي، فتنفق علانية, وليس كما يفعل البعض من أنهم يقفون ضياعاً ثم يكتبون عليه هذا وقف فلان بن فلان! يكفي أن يعلم الناس في المحكمة أن الذي بنى الوقف هو فلان أو يعلم الجيران في الحي بأن الذي بنى المسجد هو فلان, فلو علموا ذلك فلا بأس، وربما يكون ذلك مدعاة لأن يتنافسوا في الخير، بشرط أن تأمن أنت على نفسك من الرياء.
هذه حالات للقلوب، وكلٌ أدرى بقلبه وأعلمُ بنفسه، لهذا نجد السلف رضوان الله عليهم منهم من كان يعمل علناً، ومنهم من كان يعمل سراً، لماذا؟ لأن بعضهم كان يعلم من نفسه أنه لن يرائي، وأنه لا يهمه كلام الناس، فيفعل ما يشاء سراً أو علانية.
والبعض كان يخاف، لأنه يعلم أن نفسه ربما تقع في ذلك، فكان سره أكثر من علانيته أو ربما لا علانية له، أما أهل الدعوة والعلم ممن يقتدى بهم، فلا بأس أن تظهر منهم بعض هذه الطاعات لمصالح كثيرة من أهمها: الاقتداء، لكن مع الحذر من الرياء.
أما العبادة الخفية كعمل أعمال الطاعة في البيت، فلا يكون التحدث بها من غير داعٍ إلا رياءً, أما ما كان من أصله علانية فلا بأس أن يكون كذلك.(47/25)
التفكر في صفات الله
السؤال
هل التفكر في صفات الله صحيح؟ وما هو دورنا إذا وجدنا أي خطأ في كلامك يخالف الصواب؟
الجواب
أي خطأ تجدونه فردونا إليه، والإنسان معرض للغلط، فقد يتكلم في موضوع وينسى، فإذا كان حُفَّاظ القرآن أو السنة يخطئون، فكيف بمن يستنبط ويجمع من هنا وهناك؟! لا بد أن يقع منه خطأ فوجهونا جزاكم الله خيراً.
أما مقولة: (نتفكر في صفات الله وأسماء الله) فليست خطأ، فنحن لم نقل: نتفكر في ذات الله، وإنما قلنا: التفكر في صفات الله، فمثلاً التفكر في اسم الله الكريم، ومظاهر كرمه على الإنسان، ومما تجد برده على قلبك، وأذكر تجربة بسيطة: كنت أتفكر في كرم الله وفي حلم الله وعفوه، فلما ذهبت إلى أمريكا، وتحدثت مع بعض الإخوان, قلت لهم: الإنسان هنا يرى يقيناً أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حليم وكريم، سبحان الله ما أوسع رحمته! وما أوسع وأعظم حلم الله! فهؤلاء عندما يرى الإنسان حياتهم، وهم أحط وأرذل، ومن أخس البهائم المعروفة وأخس الوحوش, ومع ذلك يعيشون في نعيم، فجنات الدنيا عندهم، وكل ما يريدونه ميسر لهم، يأكلون ويشربون ويسرحون ويمرحون ويعبثون بالدنيا، العالم كله يكاد أن يكون تحت سيطرتهم، إن أرادوا إسقاط دولة أسقطوها، وإن أرادوا إقامة دولة أقاموها بعد إذن الله سبحانه، آتاهم الله من ملك الدنيا شيئاً عجيباً، وهم يعيشون أحط ما يمكن من الحياة الدنيئة الذليلة التي يترفع عنها لا نقول: عباد الله المكرمون بل البهائم! وهذا يدلك على قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:45] وقوله: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182] إلى آخر الآيات، فالإمهال والاستدراج تجدها أمام عينيك، ومهما حُدثت عنها، فلن تجد مثل ما ترى.
فتتفكر في ذلك، ثم إذا تفكرت في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47] , وحين تنظر إلى هذه النجوم والكواكب، وكيف خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذا الخلق، والاتساع الذي تعجز العقول عن إدراكه، وهم يتكلمون في هذه الحياة الدنيا، في حدود الوجود الدنيوي، أي: السماء الدنيا فما دونها, ولا يتكلمون عن السماء أصلاً، لا يعرفون السماء ولا يذكرونها، ويظنون أنها مجرد فراغ, لكن ما يتكلم به الفلكيون الكبار المتخصصون عن أبعاد ما بين هذه النجوم شيء مذهل جداً يحير العقل! فتعرف أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو المتصف بهذه الصفات، فيزداد عندك الخشوع لله والرغبة والخوف والرهبة منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
أضرب لكم مثالاً ولله المثل الأعلى: إنسان كنت تراه كل يوم في العمل أو في الشارع، أو جار لك يذهب ويروح بطريقة عادية, ثم جاءك رجل واحد, فقال: هناك رجل اسمه: فلان بن فلان، كان وزيراً وكانت لديه الأموال، واخترع مخترعات عجيبة، وفعل ما لم يفعله الكثيرون، وهو ساكن هنا, فتقول: "هذا فلان جاري"، ثم عندما تراه مرة أخرى تنظر إليه، وقد تغيرت معلوماتك عنه، وتكرر النظر، وتسعد بلقائه، وترجو لو تستضيفه، كان هذا بعد أن علمت منجزاته, فارتفعت قيمته عندك.
فكيف بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟! ولله المثل الأعلى! إذا عرفت صفات الله، وتذكرت هذا الإله الكريم العظيم الذي هذه عظمته وقدرته, ومع ذلك كان رحيماً, ومن رحمته مع كمال غناه -كما قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]-أنه لا تضره معصية من عصاه، ولا تنفعه طاعة من أطاعه, ومع ذلك ينزل إذا كان الثلث الأخير إلى السماء الدنيا، يخاطبنا نحن المساكين المحتاجين الفقراء: "هل من سائل فأعطيه؟! هل من مستغفر فأغفر له؟! هل من داع فأستجيب له؟! " فكلما تقرأ حديثاً عن الله، أو تعرف صفة من صفات الله في الكتاب أو السنة، فإنك تزداد -بإذن الله- تعالى إيماناً ويقيناً وحباً لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ورغبة فيما عند الله وخشوعاً لله.
ولهذا قال العلماء في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] أنهم هم العلماء بالله وبأسمائه وصفاته وما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه وبما يليق به وما لا يليق به.
ولهذا كان من أفضل الأذكار تنزيه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وتسبيحه وتقديسه.
فهذا ما قصدناه، وأما الخطأ فأكرر وأقول: كلنا عرضة للخطأ، ورحم الله امرأً أهدى إلينا عيوبنا!(47/26)
التآخي في الله والبغض لأعداء الله
السؤال
نرجو أن تسامحنا فقد تكلمنا فيك وبهتناك واغتبناك؟!
الجواب
غفر الله لكم! نرجو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن نلقى الله وليس في قلوبنا أي غلٍ على أي مسلم إن شاء الله أياً كان، ومهما أساء إلينا، ونحن كلنا عرضة للخطأ، ونرجو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن تكون عداوتنا وبغضنا وكلامنا في أعداء الله, حتى إذا لقينا الله يوم القيامة يكون خصمك عدو الله، لا رجلاً مؤمناً، وأنا أرجو من نفسي ومنكم جميعاً: أن نجعل عداوتنا وبغضنا وما في قلوبنا من مقت أو غضب أو كراهية دائماً هو لأعداء الله وأهل الشرك وأهل البدع ولأهل المعاصي المجاهرين المحاربين لله ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما المؤمن فمهما أخطأ عليك فهو أخ لك في الإيمان، وسيرده إليك إيمانه بإذن الله، وسيرجع إن كان فيه خير وإخلاص وإيمان، ولو بعد حين، ولنحذر أن يشكك الشيطان بعضنا من بعض, وأن يفرق بيننا بالنقولات ونحوها ولا نعين الشيطان بها، ولتكن القلوب سليمة، لأننا من أحوج ما يكون إلى قلوب متآخية، نقية، متصافية، سليمة.
أما أن تذب عن عرض أخيك، فهذا عمل عظيم قال صلى الله عليه وسلم: {من ذب عن عرض أخيه، ذب الله عنه النار يوم القيامة} , لكن لا تذهب إلى الآخر, وتقول: ذكرك فلان بسوء, فتزرع بينهما العداوة، بل دعهما متحابين، وفيما يظهر لهم، وأنت تقوم بواجبك دون أن يعلم أخوك.(47/27)
العلمانية وضوابط التكفير
السؤال
ما هي العلمانية؟
الجواب
العلمانية إذا كانت بمعنى اعتقاد الإنسان أن الدين مفصول عن الحياة، وأن الدين ينظم علاقة معينة بين الإنسان والله، ولكنه لا ينظم شئون الحياة, بل نلجأ ونرجع في تنظيم شئون الحياة إلى غير الله، وإلى القوانين الوضعية، والتقاليد والعادات والآراء البشرية، في الأمور الاجتماعية والاقتصادية والسياسة والتربية والتعليم وما أشبه ذلك، فهذا الاعتقاد كفر لا شك فيه.
وهو اتخاذ ندٍ مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو أشنع وأشد من كفر الجاهليين المشركين الذين جعلوا شيئاً من الحرث والأنعام لله، وشيئاً منها لغير الله كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنهم في سورة الأنعام، وما أشركوا به أيضاً من البحيرة والسائبة إلى آخر ذلك.
فهذا الاعتقاد شرك وكفر، لكن ليس كل من قال هذه العبارة أو تلفظ بها يكون كافراً مشركاً الشرك الأكبر.
لأن المعين لا بد في تكفيره من تحقق شروط وانتفاء موانع، فقد يقولها عن جهل، بغير قصد، وبتلبيس، وقد يقصد أمور الدنيا (أي: الأشياء العادية) مما قال فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أنتم أعلم بأمور دنياكم} أو شيئاً من هذا، فالتلبيس وارد على الناس في هذا الأمر.
فنحن عندما نريد أن نجلي حقيقة من حقائق الدين والشرع, فإننا نبينها ونقول: هذا الاعتقاد توحيد، ذاك الاعتقاد شرك أو كفر، ونوضحها بالأدلة.
أما الحكم على المعينين، فلا بد من استيفاء الشروط، وانتفاء الموانع.
فقد يتفق اثنان في كلمة أو في عمل، وأحدهما كَفَر وخرج من الملة، والآخر معذور.(47/28)
التفكر في آثار الصفات
السؤال
هل صحيح أن نقول: لا يجوز أن نتفكر في كيفية الصفات، ومطلوب أن نتفكر في معاني وآثار الصفات؟
الجواب
نعم، هذا هو المقصود، وأذكر فائدة هي أن شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمة الله عليه- قال في الاستدلال بصفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: إنه لا يمكن ولا يصح ولا يجوز أن يشرع أحد من دون الله؛ لأن المشرع لا بد أن تجتمع فيه صفات كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي} [الشورى:10] إلى أن قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11]، وما دام لا يوجد أحد فيه هذه الصفات, فلا يمكن أن يشرع أحدٌ إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فاستدل بمعاني هذه الصفات على هذا الأمر العظيم، الجليل.(47/29)
أرتيريا المسلمة
السؤال
ما هي الأحداث في إرتيريا؟
الجواب
هذه ورقة من المجاهدين الأريتيريين وأنا أوجزها: المعارك استمرت بينهم وبين الجبهة الشعبية التي يؤيدها العالم الصليبي كله مع الأسف، ونأسف لأن بعضاًَ ممن ينتمي إلى هذه الجبهة من المسلمين.
أما قيادتها فهي صليبية وتتمسح بالولاء للمعسكر الاشتراكي، ولكن أموالها ومددها وعلاقاتها من العالم الغربي الصليبي، ومن النصارى المتعصبين في الفاتيكان وغيرها.
وذكروا أنه في (5،17) من ذي الحجة، وقعت معارك بين المجاهدين وبين هذه الجبهة الصليبية الخبيثة, وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد نصر المجاهدين نصراً مؤزراً, والحمد لله على ذلك، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينصر المسلمين المجاهدين في كل مكان، وأن يرزقهم العزيمة الصادقة والإخلاص لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وهذا يستتبع منا واجباً عظيماً، وهو الدعاء لهم والتبرع لهم ومساعدتهم، مع أنهم لم يطلبوا ذلك، لكن أقول: واجب علينا أن ندعو وأن نتبرع، وأن نمد لهم يد العون، ونمدهم بما نستطيع إن شاء الله.(47/30)
نماذج من النشرات التنصيرية، وكيفية التعامل معها
السؤال
هناك نشرات تنصيرية ونطلعكم على بعضها، وكيف نتعامل معها؟
الجواب
هذه نشرات تنصيرية، وفي كل أسبوع أصبحت تأتي هذه النشرات وتنتشر, وأنا لا أريد أن أُبين إهمال الرقابة أو الجمارك أو التجار, أريد أن أبين إهمالنا نحن! لماذا؟ لا أخفيكم أنني اتصلت ببعض المسئولين بالجمارك، فقالوا: أين أنتم؟! أي بضاعة فيها شيء من هذا, فلا تقولوا: نصادر هذا القماش ونحوه, بل اكتبوا لنا عن البضاعة, وعن التاجر, ونحن نسحبها من جميع الأسواق، ونعاقب التاجر! ولهذا لا بد من إعانتهم.
هذه المسطرة -مثلاً- عليها رسومات: الرسم الأول مكتوب عليه: نحن نتعلم عن المسيح في الكنيسة، وفيها طلاب يمشون والكنيسة أمامهم مع الصليب.
الرسمة الثانية: نتذكر الصلاة كل يوم.
الرسمة الثالثة: أينما يقودنا المسيح فنحن وراءه.
والكتابة بالإنجليزي، لكن -أيضاً- يقرؤها الناس، والآن يطالب البعض بتكثيف الدراسة باللغة الإنجليزية, وكأنهم رأونا أقوياء في العربية والشرع, ولا ينقصنا إلا الإنجليزية؛ لنستقبل البث المباشر، ونفهم ما يقولون، فيجب على من رأى شيئاً من هذا، أو الأقلام التي فيها صور عارية, أو أي شيء من هذه البضاعة- أن يبلغ عنها, فعند شرائك إياها من المكتبة, خذ فاتورة من صاحب المكتبة, وأرفق البضاعة هذه مع الفاتورة إلى إدارة الجمارك, فإذا لم تستطع توصيلها إلى إدارة الجمارك فأوصلها إلى الهيئة، والهيئة ترفع بها إلى الجمارك، فتسحب البضاعة من السوق، وأيضاً ربما يكون هناك عقاب أو اكتشاف لمن أدخلها، وهو إما جاهل أو خبيث، قد يكون موظفاً نصرانياً خبيثاً أو متعاقداً أو عاملاً، وقد يكون غير ذلك.(47/31)
الهدي النبوي في الضحك
السؤال
هل يليق بطالب العلم الذي يأخذ من ميراث النبوة أنه إذا ضحك سمعت له قهقهة, نرجو أن توجهنا إلى أدب الضحك والابتسامة؟
الجواب
صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أكثر من موقف أنه ضحك حتى بدت نواجذه الشريفة، صلوات الله وسلامه عليه.
فالضحك والتبسم إذا كان لسبب يقتضيه، فإنه ليس مما يعاقب عليه، لكن المبالغة في الضحك، أو كثرته أو أن يتشبه بالفساق, كما هو حال بعض الناس ممن يضحكون كضحك الفساق، أو كضحك من يرونه على الشاشة من المجرمين الذين يسمونهم ممثلين، أو المبالغة التي تحصل عند بعض الناس, وهذه نقولها للطلاب خاصة, فبعض الشباب يجمعون النكات، وفي اليوم الثاني كل واحد يخبر الزملاء بآخر ما سمع! فأصبح الغرض هو الضحك.
بل بعض علماء النفس -كما يسمون- يقولون في علاجهم: حاول أن تضحك! مع أن الضحك بهذا الشكل لا يحل المشكلة، بل مثله مثل مجروح بجرح عميق غائر، فوضع عليه ما يغطيه عن أعين الناس فقط! لكن ليس عندهم إلا هذا، فهم لا يستطيعون معالجة أسباب القلق والاكتئاب واليأس, ويقولون: الضحك علاج! وأصبحنا نقرأ هذا في عدة مجلات طبية أو علمية! ومن الأدلة على غلبة الشقاوة على الناس بإعراضهم عن ذكر الله، أنك تجد هذا الكلام (ابتسم واضحك) غالباً في كل جريدة وفي كل إدارة وفي كل مكان، وخاصة الأمم التي لا تؤمن بالله تعالى.
ونحن هنا مع الأسف نستورد منهم كل شيء! ولذلك أصبحوا يضربون المثل بالابتسامة الغربية، أو الابتسامة الإنكليزية كما يسمونها! نحن أَدَّبنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأَدَبِ رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وهديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موجود بين أيدينا حتى في ضحكه وفي نومه وأكله وشربه، وهناك كتاب عظيم في هذا المجال ألفه الإمام ابن القيم رحمه الله زاد المعاد والذي يسمى: زاد المعاد في هدي خير العباد صلوات الله وسلامه عليه, فهذا الذي يجب أن يكون هدينا في أمورنا كلها عليه.(47/32)
معنى التطرف عند الغربيين
السؤال
جاء خبر يقول: إن الغربيين زاروا العرب ليبينوا لهم خطورة الجماعات، نرجو التعليق عليه؟
الجواب
رمتني بدائها وانسلت!! هذه تكملة هذا الخبر.
إن الغربيين الفرنسيين ما وجدوا عند من زاروهم الإلمام الكامل بخطورة هذه الجماعات! فجاءوا من هناك من باريس يعلمونهم خطورة هذه الجماعات، ويقولون: لا بد من الاهتمام بذلك، الله المستعان!! وذكروا أن الدول الأوروبية استضافت العديد من قادة هؤلاء الجماعات.
وقبل أيام سمعنا أن (600 مليون دولار) وقبلها (300 مليون دولار) أعطيت للجزائر , وهذه هي المكافأة! فأصبحوا يقولون: لا! إن الغرب يتعاون مع هذه الجماعات، وهي تهمة على كل حال.
عموماً ما يهمنا هو واجبنا نحن المسلمين، فواجبنا هو العدل ومعرفة الأمور على حقائقها، وأن نعلم أن هؤلاء كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [آل عمران:118] يوصون ويحذرون من خطر المتطرفين, وعندهم أن من طالب بإقفال مصنع للخمور, فهو متطرف! ولذلك في الغرب -كما في صحفهم- يعتبرون بلدنا هذه كلها متطرفة، ويقولون: بلد متطرف! لأن الزنا ممنوع، والخمر ممنوع، وإذا اكتشف أن امرأة زنت تعاقب، سواء في بيت الزوجية أم لا، ولا يكادون يصدقون هذا، لأن عندهم قانون نابليون الذي عمل به الغربيون والدول التي استوردت قوانينهم, أن الجريمة ما كانت على فراش الزوجية! وأذكر هنا قصة حدثت في مصر , وذكرها الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- أن أحدهم دخل بيته, فوجد رجلاً يزني بأهله, فأراد الزوج أن يقتله، ولكن الزاني سبق وقتل الزوج، فحكمت المحكمة بأن ذلك الرجل مضطر وأنه كان في حالة دفاع شرعي عن نفسه، أما الزنا فموضوع آخر! المتطرف هو الذي يرفض الزنا، وهذا أمر ليس بالغريب منهم، إنما الغريب والعجيب أن يقول هذا بعض أبناء المسلمين وفي بلاد الإسلام، هذه هي المشكلة!(47/33)
خادمات أم أخدان
السؤال
الخادمات أصبحن مشكلة! نرجو التنبيه إلى خطرهن؟
الجواب
نعم! وبعض ربات البيوت تقول: "الخادمة ضربت أبنائي، وعذبتهم بالنار" من الذي وكلها؟ من الذي جعلها خازنة على النار؟ وأخرى تقول: خادمتي كادت تقتلني بعد انتهاء دعوة العشاء، وهناك حوادث قتل, وغيرها من الأعمال الفظيعة، وعدة أمهات يقلن: تعلق طفلي بالخادمة، جعلها هي الأم وأنا الخادمة، والطفل معه حق في ذلك، فالخادمة هي التي تحمله وترضعه وتربيه، وأمه في العمل وفي الوظيفة، وفي المساء في الأسواق.
والإخصائية الاجتماعية تقول: إذا لم يقم الأبوان بدورهما الحقيقي، فلماذا نلوم الخادمة؟ الخطر هو الاعتماد الكلي على الخادمة، واستقدام الوثنيات والمسيحيات؛ وهذا كلام نشرته صحيفة عكاظ في صفحة: (هو وهي) عن هذه الظاهرة الخطيرة.
أساس الخطر هو استقدام الخادمة، وبغض النظر عن كونها وثنية -مع أنه لا يجوز للكافر من أي دين كان أن يقيم في جزيرة العرب وهذا معلوم- حتى ولو مسلمة، أين سفرها بلا محرم؟ وخلوتها بالرجل وأبنائه، وأين ما قد يكون في بعضهن من فسق، أو فجور تنقله من بلادها؟ وأين تكشفها؟ وأشياء كثيرة.
بعض الناس إذا دخل الضيوف عنده, قدمت الخادمة لهم القهوة, وهي كاشفة الساقين والشعر، ويقول: هي خادمة! وما يقع في خلوة الخادم مع أهله، وما خفي كان أعظم مما ظهر من الدواهي والبلايا، فالأصل أنه لا يستقدم إلا من كان لديه ضرورة أو حاجة، فليستقدم المرأة مع زوجها، وليسكنهما منفصلين، بحيث أن المرأة تخدم أهله, ولا يراها ولا تراه، والرجل يخدمه, ولا يرى أهله ولا يراهم ولا يخلو بالنساء.
وهذا ممكن ومعمول به، وإلا فأمهاتنا كن يعشن التعب والألم والشدة، ما كانت عندنا هذه المشكلة أبداً, كما أنه كان هناك تعاون بين الجيران فيما إذا مرضت المرأة أو نفست وهكذا، ولم تكن هذه المصائب والبلايا موجودة.
لكن عندما أتانا التوظيف، والمرأة أصبحت مديرة مستشفى وموظفة, أصبحت تستنكف أن تنظف أو تمسك الطفل وتمسك القذارة بيدها، ولو كان ولدها! لأن هذا لا يليق بمقامها، فأصبحت خادمة تتولى الرضاعة، وأخرى أعمال البيت! لقد أصابها الغرور، وظنت أن الأمومة عمل دنيء وحقير، وأنها -باعتبارها المديرة والموظفة الراقية- تترفع عن هذه الأمور, وبهذا انتكست فطرتها وتعاملها وأخلاقها، وخسرت أغلى ما يملك، وأفضل ما يُقتنى في هذه الحياة الدنيا.
وإذا سألت أم الطفل: هل يعدل هذا الطفل بالدنيا؟ فتجيب: وما هي الدنيا بالنسبة له؟! رغم تعبها وسهرها عليه، وهي سعيدة جداً، أما تلك فلا تدري المسكينة شيئاً, بل وحتى في أعمالها تخفق، فلا بد أن يظهر أثر هذه النفسية, لأنها حرمت نفسها من عاطفة الأمومة, وتاتشر -المرأة الحديدية كما سمتها الصحافة العربية والإعلام العربي- لما حدث الانفجار لولدها بكت، ووضعت يدها على خدها مثل أي أم تبكي في الشارع.
لكن الأمهات المؤمنات لا يبكين، ولا ينتحبن ذلك الانتحاب، يقال: إن ابنك قد استشهد، فتقول: الحمد لله الذي شرفني بشهادته.
وتلك نسيت أنها رئيسة وزراء دولة عظمى وأنها المرأة الحديدية، وصار الحديد ماءً، لأنها امرأة قبل كل شيء، امرأة في أفكارها ومشاعرها وعواطفها.(47/34)
حكم تداول العهود السبعة
السؤال
ما قولكم -فضيلة الشيخ- فيما يسمى بالعهود السبعة؟!!
الجواب
ما يسمونها بالعهود السبعة، فيها من الدجل والكذب على الله وعلى نبي الله سليمان عليه السلام وعلى التوحيد -الشيء العظيم, وهذه لا يجوز تداولها ولا بيعها ولا تصويرها.
بل يجب أن تصادر كل نسخة منها، وأن يبلغ عمن لم ينزجر عن نشرها بعد أن يبين له ما فيها من كفر وشرك، كما ذكر الله تعالى {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] فكيف ينسب إلى نبي الله سليمان عليه السلام هذا السحر؟! هذا تكذيب للقرآن، ومن صدق به فقد كذَّب كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(47/35)
الظلم التعسفي
السؤال
هل ما يأخذه الكفيل الذي يعمل عنده مكفول من ماله عنوة وتحت تهديد الخروج النهائي، أو بدعوى أنها تكاليف التعقيب، هل يعتبر هذا نوع من أنواع المكس؟
الجواب
المكس المقصود به العشور، أو الضرائب المأخوذة ظلماً، هذا إذا حددناه بالكلمة الشرعية, أما إذا أطلقناها بمعنى كل مال حرام، فهذا يدخل فيه الحرام.
لكن لا يهمنا الاسم, إنما الذي يهمنا هو الحقيقة والمضمون، فأحدهم يأتي (100 أو 50) عاملاً، ويتركهم في البلد يفعلون ما يريدون، ثم في النهاية يريد منهم مالاً كل سنة أو كل شهر، وإن لم يجد العامل عملاً فإنه يأخذها منه بالقوة، أو يطرده ويجمع ثروته من خلال هؤلاء، وهذا لا شك أنه سحت.
فلا بد من تقوى الله، كما في شرع الله لا كما في نظام العمل والعمال؛ لأن شرع الله أفضل وأرحم وأرأف وأرفق بالعامل وبالعمل مما في نظام العمل والعمال.
ومما يعلم أن أحد الثلاثة الذين أطبقت عليهم الصخرة ودعوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كان قد استأجر أجيراً، وذهب ولم يأخذ حقه، فنمَّاه له، فلما عاد بعد زمن قال: هذا مالك, وكان أوديةً من البقر والإبل والغنم، قال الأجير: يا عبد الله، أتهزأ بي؟ أتسخر مني؟ قال: لا، ولكنه مالك نميته، خذه بارك الله لك فيه, فلما دعا الله وتوسل إليه أنه إن كان عمل هذا العمل خالصاً لوجه الله الكريم، أن يكشف عنهم ما هم فيه، فكشف الله عنهم ما هم فيه! هذه العلاقة: هل يمكن أن يرقى إليها أي نظام، أو قانون، أو تشريع في الدنيا؟ لا يمكن أبداً؛ لأنها علاقة الأخوة والرحمة.
ولهذا نقول: الأصل أنه لا يأتي إلا بالمسلم، وليس أي مسلم، بل المسلم التقي، فإذا جئت به وكان مسلماً تقياً، فهذه المعاملة لا تليق بالمسلمين الأتقياء، قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:17]، وقال صلى الله عليه وسلم: {من لا يَرحم لا يُرحم} وقال صلى الله عليه وسلم: {ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء}.
لقد كان في سوء المعاملة للمكفولين مآسي منها: كثرة السرقات من المنازل خاصة أيام الحج، والإجازات ثم تقيد ضد مجهول, وهذا فيه تعكير للأمن، وتعطيل لرجاله، والسبب هم أصحاب السحت.
إن كل ما يرتكبه الجاني من جرائم فعليه وعلى صاحبه إثمها، وحتى وإن لم تعلم الشرطة، فالله هو العليم، وهو المطلع على كل شيء، لهذا يجب أن نتقي الله في العمال، وألاَّ نغتر بالأيام، فهي دول، كما قال الله: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] فربما يأتي يوم ونصير عمالاً عندهم.
ولقد جاءني أحدهم، وقال لي: لماذا لا تتكلمون عن الظلم؟ فقلت له: وما هذا الظلم؟ فقال: العمال! لهذا لا بد من التواصي بالخير والمعاملة الحسنة، وفي كل ذلك أجر, كما أنه لا تَنْتَصِرَ أمة لا يُنْتَصر لضعيفها من قويها.
وهذا لون ونوع من أنواع المآسي التي يعيشها الناس إذا ابتعدوا عما أمر الله به من التقوى والرحمة، ولهذا يأتي الشيوعي يقول للناس الكادحين: من الذي أكل مال الكادحين إلا هؤلاء الأغنياء؟! ومن الذي سحق الناس إلا هم؟ وكما قال لهم المجرم اليهودي المؤسس كارل ماركس: على ماذا تخافون أيها العمال؟ وأنتم لا مال لكم هيَّا إلى الثورة ضد الأغنياء الذين أكلوا أموالكم، ونوزعها بيننا.
وهكذا جاء الشيوعيين من هذا الباب، وأخذوا يطالبون بتوزيع الثروات وبالعطف على الناس، وبكفالة كل فرد في الدولة، وتركنا نحن المسلمين هذا الأصل العظيم، وهو من أصول ديننا نحن, فهل هم مقرون في كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعقيدة الإيمان باليوم الآخر {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} [الماعون:1] ثم قال: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:2 - 3].
عن ماذا يتساءل المؤمنون المتقون؟ يقول تعالى: {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:40 - 42] لماذا جئتم إلى هذا الجحيم؟ {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43].
وماذا بقي؟ قالوا {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:44] وهكذا كان جزاؤهم، لم يطعموا في الدنيا فكان عقابهم في النار كذلك، {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:45 - 46].
إذاً: الذي لا يعطف على الفقير والمسكين ولا يرحمه, فعمله عمل الذين لا يؤمنون بالآخرة، والذي يشفق على الفقراء والمساكين والأرامل والضعفاء, فهذا عمله عمل المؤمنين بالآخرة.
وهذا من ديننا, ونحن أولى الناس أن نطالب بالرأفة والشفقة وكفالة كل إنسان، وأن يُعطى كل إنسان ما يحتاج من ضروريات الحياة، وبدون أي مقابل وبدون أية منة.
فعلى المجتمع: القرية أو الحي أن يعملوا جمعية أو أي شيء آخر يحاولون أن يحلوا من خلالها مشاكل الحي كجار فقير أو شاب أعزب أو فتاة عانس، وإذا لم يفعلوا, فيجب على الدولة أن تعطيه من بيت المال، فلا يضيع أحد ولا يجوع أحد، ولا يفتقر أحد، ولا يعزب أحد، ولا تعنس فتاة.
فهذا من ديننا، ومن بدهياته التي لا يجوز أن ننساها أو نغفل عنها.(47/36)
التعامل مع بيوت الربا
السؤال
ما قولكم فضيلة الشيخ فيما صدر عن أحد الشركات, وقولها: انطلاقاً من حرص قطاع التوزيع بالمنطقة الغربية على راحة العاملين وتسهيل صرف رواتبهم، وبموجب الاتفاقية المبرمة مع البنك السعودي الأمريكي وما يقدمه من خدمات للعاملين، فإننا نهيب بجميع العاملين بفتح حسابات شخصية لدى البنك السعودي الأمريكي, مع العلم بأنه سوف يتم صرف الرواتب إلى البنك, لذا نأمل من الراغبين في فتح حساب شخصي، مراجعة فرع البنك وموقع العمل إلى آخره؟
الجواب
هذا ليس خدمة ولا تيسيراً ولا تسهيلاً! وإنما هو من باب التعاون على الربا, والله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].
والبنوك الربوية محاربة لله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا ساعدناها وأمددناها وأعطيناها وفتحنا فيها حسابات, فهذا إعانة لها وترسيخ وتثبيت لوجودها, وهذا حرام ولا يجوز، ونرجو أن تتراجع هذه الإدارة عن هذا القرار إن شاء الله.
أما ضرر الربا على البنوك، فإن بعضها يفلس كما حدث لـ أمريكا عام (1930م)، فقد أفلست كل أمريكا، وانتحر أكثر أصحاب البنوك, وقبل حوالي سنة أو أكثر قليلاً, كادت أن تقع نفس المشكلة وكاد أن ينتحر الجميع، لكن تحسنت أوضاعهم.
فالله تعالى يقول: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276]، نتيجة الربا هي المحق الكامل، والآن البنوك تشتكي، وتقول: الذين أخذوا منا القروض لم يعطونا شيئاً, وإن شكوناهم, فإما أن نشكو أناساً لا نقدر عليهم، أو أناساً يبلغون أعداداً هائلة! ولهذا أصبحت تأتي أسئلة كثيرة من بعضهم فيما يخص البنوك وتعاملاتها المريبة؛ كأن يبيع البنك ديناً بلغ قدره (مائة ألف) (بخمسين ألفاً) , والباقي مقابل الدعوى والخصومة، وهكذا تظهر أثر المعاصي، وماذا كانت نهايتها وعاقبتها.
ولذلك نحن ننكر هذا المنكر حتى لا يحيق المكر السيء إلا بأهله، وحتى لا يؤاخذنا الله بما فعله السفهاء منا.
والله يقول: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، وأي انهيار اقتصادي للبنوك يظهر أثره على الناس أجمعين.(47/37)
مظالم العباد
تحدث الشيخ حفظه الله عن أنواع الدواوين عند الله يوم القيامة، فذكر منها ما تتعلق بحقوق الله وما تتعلق بحقوق العباد.
محذراً من الظلم وعواقبه بذكر الأدلة الزاخرة من الوقوع فيه، ثم ذكر صوراً عديدة لظلم العباد بعضهم لبعض.
مبيناً ما يتوجب على المرء فعله لرد هذه المظالم والتوبة منها.(48/1)
دواوين الأعمال وتعلق المغفرة بها
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: " وفي معجم الطبراني {الدواوين عند الله يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان لا يغفر الله منه شيئاً، وهو الشرك بالله، ثم قرأ: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:116]، وديوان لا يترك الله منه شيئاً وهو مظالم العباد بعضهم بعضاً، وديوان لا يعبأ الله به، وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه} ' وقال المحقق وهو الشيخ ناصر: ضعيف ولم يروه الطبراني بل أحمد (6/ 240) والحاكم (4/ 575/276) وقال: صحيح الإسناد، ورده الذهبي بقوله: قلت: (صدقة ضعفوه، وابن بانيوس فيه جهالة).
الحديث كما ذكره الشيخ ناصر وراجعناه فوجدناه كما قال، فالحديث ضعيف في لفظه، لكن كون الدواوين ثلاثة تدل له جملة من الأحاديث والآيات.
فأما الديوان الأول: الذي لا يغفر الله منه شيئاً كما جاء في لفظ الحديث يدل عليه قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
وأما الديوان الثاني: الذي يتعلق بحقوق العباد التي لا يترك الله منها شيئاً، فهذا له أدلة كثيرة استنبط العلماء من مجموعها -وهذه عادة العلماء أنهم يستنبطون من مجموع الأدلة قواعد كلية عامة قطعية في الشريعة القاعدة التي تقول: ' إن حقوق الله مبنية على المسامحة أما حقوق العباد فهي مبنية على المشاحة'.
ومعنى ذلك: أن حق الله قد يغفره الله، ولا يؤاخذ فيه بالخطأ والنسيان والإكراه، ويقبل شفاعة الشافعين، ويتجاوز من غير توبة ولا استغفار لمن يشاء, ويقدر من المصائب ومن البلاء والهم والغم والنصب الذي يصيب المؤمن حتى الشوكة يشاكها، يكفر الله بها خطاياه ويكون له بها أجر.
وهذا -إن شاء الله- سنأتي في تفصيله عند الكلام عن الكبيرة، والتوبة، والموازنة بين الحسنات والسيئات، والكلام عن حقيقة التكفير التي تكفره الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والحج إلى الحج، والعمرة إلى العمرة.
أما حقوق العباد فهي مبنية على المشاحة؛ فلا تسقط كما تسقط حقوق الله، ولذلك يؤاخذ الإنسان فيها بالخطأ والنسيان وإن لم يؤاخذ عند الله، فإنه يؤاخذ عند الناس بأمر الله وشرعه، على تفصيلٍ في ذلك على ما يقتضيه الحال والمقام والأحكام وهي كثيرة، ولكن هذه هي القاعدة العامة التي استنبطها العلماء من هذا الشأن.(48/2)
التحذير من مظالم العباد
يجب على العباد أن يحذروا أَشَدَّ الحَذَرِ مِنَ المظالم، ومن الوقوع في حقوق العباد، والنيل منها، ومن ظلمهم والتعدي عليهم، والإساءة إليهم.
وهذا تشهد له جملة من الأدلة تقدم ذكر بعضها، عندما تحدثنا عن حديث المفلس، وبعضها نعرض له إن شاء الله تعالى، وهي كلها تدل على عظم حق المؤمن، بل في الحقيقة على حق العباد عموماً حتى لو كان الظلم واقعاً على غير مؤمن، فإن العبد مسئول عن هذا الظلم؛ لأن ديننا هو دين العدل والرحمة، فلا يجيز الظلم بأي حال من الأحوال حتى لو كان على كافر، وهذا مما فرط فيه كثير من الناس وأهملوه وتجرءوا على حدود الله بما يتعلق بحقوق العباد.
وفتح هذا الباب العظيم الرافضة قبحهم الله، والخوارج وحسبكم أن يكون هذا الباب إنما فتحته هاتان الطائفتان المارقتان؛ الروافض والخوارج بالطعن في خير الناس بعد الأنبياء وهم أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والافتراء عليهم ونسبتهم إلى ما ليس فيهم، مثل أبي بكر وعمر وبقية العشرة.
فهاتان الطائفتان فتحتا الأبواب لمن جاء بعدهم من أصحاب الفتن.
والخوارج لا يطعنون في الشيخين، ولكن يطعنون في بقية الخلفاء الراشدين وكثير من الصحابة.
أما الروافض فيطعنون في الجميع إلا الأربعة أو الاثني عشر على اختلاف درجاتهم واختلاف أصنافهم في الكفر والضلال، نسأل الله العفو والعافية.
فحق المسلم على المسلم عظيم، والله أمر المؤمنين بأن يكونوا إخوانا {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103]، فهذه الأوامر من الله وهي مِنَّةً على هذه الأمة كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وكونوا عباد الله إخواناً}.
ويقول تبارك وتعالى في حديث أبي ذر الصحيح: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا} فالله غني عن كل أحد، وهو الذي بيده كل شيء، وكتب على نفسه سبحانه الرحمة، وحرَّم عليها الظلم؛ مع أنه لو فعل بخلقه ما يفعل سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فليس بظالم؛ لأن الخلق خلقه، والأمر أمره، والعباد عباده، ومع ذلك يقول: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا}.
فالتظالم من أكبر أسباب العقوبة في الدنيا والآخرة، وقد صح أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال فيما رواه أحمد وغيره {من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره} وهو حديث عظيم اشتمل على أربعة أمور:(48/3)
الشفاعة في حدود الله
الحد الأول: من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره، لأنَّ أمر الله وشرعه أن تقام الحدود، وإلا فَلِمَ شَرَعَ الله حد الزنا والخمر والسرقة أو غير ذلك؟! وإن لم يكن من الحدود المعروفة في الاصطلاح الفقهي؛ لأن حدود الله إذا وردت في القرآن أو السنة، فهي أعم مما يذكره الفقهاء؛ فالتي يقصدها الفقهاء هي: العقوبات المقدرة؛ كل العقوبات وكل الأوامر والنواهي تسمى حدود الله، كما جاء في القرآن: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1] {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229] والمقصود به هو كل ما شرع الله تعالى.
ولذلك يشتمل هذا الحديث على التعزير وغيره من العقوبات المقدرة، وغير المقدرة وهي: التعزيرات؛ فمن حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره، إذ أن الله لم يشرعها إلا لتنفذ ولتقام، فمن حالت شفاعته دون قيامها فقد ضاد الله في أمره، وحاد أمر الله وعانده، وكفى بالمرء شراً ولؤماً وخبثاً وعناداً وكبراً أن يضاد الله تعالى في أمره.
وهذا له موضوع آخر، ولكنه أول ما ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث وبقيه الثلاثة الأمور التي تتعلق بحقوق العباد.(48/4)
خطورة عدم قضاء الدين
وأول ما ذكره الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك وهي أعظمها وأهمها الدَّين {من مات وعلية دين فليس ثم دينار ولا درهم، وإنما هي الحسنات والسيئات}.
وكثير من الناس يتهاون في أمر الدين، فيأخذ كما يشاء، ولا يبالي بالقضاء أو الأداء، فليتنبه إلى ذلك، فمن كان عليه دين من هذه القضية فإنه ليس ثَمَّ دينار ولا درهم، فيكون العطاء من الحسنات أو يؤخذ ويطرح عليه من سيئاتهم.(48/5)
المخاصمة بالباطل
ثم قال 'ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى يرجع'.
كثير من الناس دأبهم الخصومة بحق أو بغير حق، وهؤلاء شر الخلق عند الله تعالى، والألد الخصم هو المجادل الذي قال الله تعالى فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204]، والأصل أن هذه الصفة إنما تكون في الكفار ليس في المؤمنين.
وهذه الأيام تظل الدعاوى سنوات طويلةً، فكم سيظل هؤلاء في سخط الله؟! قديماً كانت الدعاوى والخصومات أن يذهب الطرفان إلى مجلس القاضي أو الأمير أو الخليفة فيقضي بينهما وينتهي الأمر، فلا شك أنه في غضب الله منذ أَنْ خاصم وجادل حتى يرجع، ولكن في زماننا هذا تستمر دعوى المدعي أشهراً أو سنوات طويلة، وفي كل هذه الأيام يظل في غضب الله تعالى؛ لأنه يخاصم بالباطل وهو يعلم.
وليس هذا شرطاً في دعاوى الحقوق التي يُحتاج فيها إلى القضاء، بل تكون في جدال أو في اجتهاد في قضايا علمية، فيخاصم ويجادل ويعاند فيها وهو يعلم أنه مبطل غَيرُ صادق، فإن ذلك يشمله حسماً لمادة النزاع والجدل؛ لأنها الحالقة التي تحلق الدين، كما وصفها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(48/6)
خطر الغيبة
في آخرها قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ومَن قال في مؤمن ما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج مما قال} وردغه الخبال هي: عصارة أهل النار.
وقد جاء الوعيد فيها لاثنين هما: شارب الخمر؛ فإنه يُسقى يوم القيامة من هذه العصارة وصاحب الغيبة، وبهذا يكون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قرن حد مدمن الخمر بالذي يفتري على المؤمنين ما ليس فيهم، بسبب ظنه السيئ بهم.
وقد حذر الله ونهى عن ذلك أعظم النهي، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12] ولم يقل إن كثيراً من الظن إثم، ومع ذلك حذَّر من كثيره لأنك لا تعرف أيها الإثم، وأيها ليس بإثم، إلا إذا اجتنبت كثيراً من الظن، وهذا الظن السيئ تأتي معه شبهاتٌ وأدلة لا أصل لها في الحقيقة.
فكيف إذا كان الأمر اختلاق وافتراء ومجازفة بغير علم وبغير برهان وبغير بينة؟! فكان جزاؤه أن يحبس في ردغة الخبال، وهي عصارة أهل النار.
والنار كلها عذاب، وكلها نتن، وكلها ظلمة وقسوة وشدة، لكن طينتها وعصارتها أخبث وأنتن وأجيف! إذاً الأمر خطير، والمسألة ليست كما يظن الناس؛ فلا يجوز للإنسان أن يقول في الناس ما يشاء، وأن ينسبهم إلى الضلال أو البدع أو الكبائر، فإنه يقول الكلمة لا يلقي لها بالاً فتهوي به في النار سبعين خريفاً كما في الحديث، ومثل هذه الكلمة التي يقولها الإنسان لا يكفرها إلا أن يستعفي ممن قال فيه، وأن يستغفر من ذلك، وأن ينشر ذلك كما نشر هذه الرذيلة، وهنا يكون الأمر في غاية الصعوبة.
ولقد كان السلف الصالح في هذه القضية على ضربين: فمنهم من نظر إلى حال من اغتابه وافترى عليه وتكلم فيه، ونال من عرضه نظرة الإشفاق والعطف، وقال: هذا مؤمن وهذا مسلم، ولا أريد أن أقف يوم القيامة بين يدي ربي مع مؤمن ولو ساعة أو لحظة، فقال: كل من تكَّلم في عرضي من المؤمنين فهو في حل.
ومنهم من كان على النقيض من ذلك، ومنهم سعيد بن المسيب كان يقول: 'والله لا أحل ما حرَّم الله، فالله حرَّم عرضي وحرم غيبتي فلا أحلها لأحد، فمن اغتابني فأنا أقاصه يوم القيامة '.
ولا سيما مع شدة حاجة الإنسان يوم القيامة إلى الحسنات، وربما كان هؤلاء المغتابون والطاعنون والمفترون من ذوي العبادة والجهاد والصلاة، ولكن وقعوا في أعراض الناس ولم يتنبهوا لهذه الديون، وهذا الخطأ الذي لا يتنبه إليه كثيرٌ من الناس، ولذلك يقول: أنا أولى بأن آخذ من حسناتهم مقابل ما أخذوا من عرضي في هذه الدنيا.
فلذا نرجو من الله أن نكون من أهل العفو والصفح، كما أمر الله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور:22] وهو ما يحثنا إليه.
ويحببنا إليه ولكن في مقام التحذير من الوقوع في أعراض المسلمين نقول لأنفسنا: من يضمن أن من اغتبناه أو افترينا عليه أو جرحناه يعفو عنا، فهو لا يدري أصلاً، فيأتي يوم القيامة وله حسنات مثل الجبال من أعمال الذين اغتابوه وهو لا يدري بذلك، فلذلك هو أمرٌ جلل وخطير، نسأل الله أن يعافينا منه.(48/7)
نصوص تزجر عن ظلم العباد
وقد ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحاديث كثيرة صحت عنه فيما يتعلق بهذا الشأن، ونعني به حقوق العباد.(48/8)
تحريم الهجر فوق ثلاثة أيام
ومن ذلك حديث أبي أيوب الأنصاري المتفق عليه وهو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يحل للرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام} ولا ينظر إلى ما كان من العداوة.
وهذه من حكمة الله بعباده؛ لأنه لا أحد يملك نفسه ألاَّ يغضب، وربما يوقع الشيطان النفوس بعضها ببعض، ولذلك أعطى الله النفس ما يكفيها لإشباع نزوة الغضب والهجر ثلاثة أيام؛ لأنه ما من نفس إلا وتغضب ويوقع الشيطان في النفوس ما الله به عليم، ولا يحل بعد الثلاثة الأيام الهجر، ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وخيرهما الذي يبدأ بالسلام} لأنه هو الذي كظم غيظه كما مدحه الله في كتابه، فقال: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134].
ولهذا حتى لا تحصل مثل هذه النزاعات فقد بَيَّن الله الطريقة المثلى لإبعاد هذا الأمر، فقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53] ولم يقل: يقولوا قولاً حسناً، أو: يقولوا الحسن؛ بل قال: التي هي أحسن وأفضل، فما يمكن أن يقال يقولوه في حالة وقوع العداوة والخصومة بين المؤمنين؛ لأن الشيطان ينزع بينهم، فلو لم تقل التي هي أحسن لأوقع الشيطان بينك وبين أخيك، وباعد بينكما، وزاد الأمر فرقة.
ولهذا أحلَّ الله الكذب في الإصلاح، وهذا من حكمة الله تعالى أن حرَّم الكذب إلا في ثلاثة مواضع، منها: إصلاح ذات البين {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] فهؤلاء أهل الخير والإصلاح كما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه الكرام يُصلحون بين الناس ويُقربون ما بين المتهاجرين من المؤمنين.
أما المرجفون والمنافقون والنمامون الذين قال فيهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يدخل الجنة قتات} وكفى بذلك وعيداً! فهم ينقلون ما قيل وربما زادوا عليه من عند أنفسهم، فالمصلحون يريدون أن يَصلوا ما أمر الله به أن يُوصل، وأما المفسدون فهم يَقطعون ما أمر الله به أن يُوصل.(48/9)
إن بعض الظن إثم
والحديث الآخر حديث أبي هريرة المتفق عليه، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث}.
وهي صيغة للتحذير، وكم من الناس يظن ويتوهم ويتخرص ويتعرض وفي النهاية يرى أن ذلك كله كان وهماً وسراباً لا حقيقة له، ويندم ولكن لات ساعة مندم {ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً} فما أعظم هذه التوجيهات النبوية للمؤمنين! فقد نهى عن الظن وهي قاعدة عامة، ثم فصل في أمور منهية وهي مما يعرض بين الناس (لا تحسسوا ولا تجسسوا) فمعناهما متقارب (ولا تناجشوا) مأخوذة من النجش وهو: الزيادة في السلعة وهو لا يريد أن يشتريها، وهذا سيأتي فيه حديث عظيم إن شاء الله بعد قليل.
(لا تحاسدوا) كما قال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] فالذي أعطاهم هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلماذا تحسده؟ فيما أعطاه الله من المال أو المكانة أو الشهرة أو ما أعجبك مما أعطاه؟ فما يدريك أن ذلك استدراج وأن ذلك فتنة وابتلاء وأن عاقبته تكون وبالاً؟ وأنك لو أعطيت مثله كانت عاقبتك السوء؟ فإنا نحمد الله تعالى على كل حال.
{ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا}.(48/10)
النهي عن البغضاء والشحناء
وقد ذكر الشيخ رحمه الله صاحب مشكاة المصابيح أحاديث في هذا الباب، عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا} فهذان عبدان صالحان مؤمنان صائمان مصليان لكن بينهما شحناء فتفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس، وهما اليومان اللذان كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتحين أن يصومهما، فيغفر الله للمؤمنين وترفع إليه الأعمال فيقبلها إلا رجلين بينهما شحناء، وهذه إحدى المفاسد والأضرار المترتبة على البغضاء، فيقال: {انظروا هذين حتى يصطلحا}.
وهناك حديث -أيضاً- قال فيه الشيخ ناصر: إنه صحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث -هذا كما في المتفق عليه- فمن زاد فوق ثلاث فمات دخل النار} وهذا من أحاديث الوعيد.
وعن أبي خراس السلمي أنه سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه}، قال: في إسناده لين، ولكنه في سلسلة الأحاديث الصحيحة، وذكر أنه رجع عن تضعيف الحديث وأنه حديث صحيح.
والحديث يدل على أنه إذا استمر الهجر سنة، فكأن الهاجر قتل الآخر وسفك دمه، فأي وعيد أشد من هذا؟!(48/11)
النهي عن إيذاء المسلمين
وهناك حديث عظيم جداً رواه الترمذي عن ابن عمر قال: {صعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المنبر، فنادى بصوت رفيع، فقال: يا معشر من آمن بلسانه ولم يُفْضِ الإيمان إلى قلبه} والخطاب موجه لمن لم يدخل الإيمان في قلوبهم؛ لأنهم أكثر من يتعرض لهذا الأمر، ولأن من أفضى الإيمان إلى قلبه، وغمرته التقوى، وأحياه الله بذكره ونوره بطاعته لا يمكن أن ينال من عرض أخيه المؤمن، ولا يتبع عورته، ولو فعل ذلك أو شيئاً منه فسرعان ما يعود ويتراجع، ويستغفر الله مما بدر منه، ويستحل أخاه مما نال من عرضه، لكن الذين يستمرون في ذلك، والذين جُبِلوا وطبعوا وتعودوا على النيل والطعن في المؤمنين ولمزهم وهجرهم فهؤلاء هم الذين يدعون الإيمان بأفواههم، ولم يفض الإيمان إلى قلوبهم؛ ولذلك قال: {يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم} والأذى عام بكل نوع من أنواع الأذى، سواء كان في عرضه أو ماله أو في بدنه أو في أي شيء يوصل إليه الأذى.(48/12)
أمثلة على أذى المنافقين للمؤمنين
وكان المنافقون والمرجفون في المدينة في الصدر الأول هذا حالهم، يتتبعون سقطات المؤمنين وزلاتهم ويجعلون ما ليس بعورة عورة، كما ذكر الله عنهم {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة:79] وأحياناً لا يجد المؤمن إلا شيئاً من التمر وربما كان منه نوعاً رديئاً، فيقول المنافقون: ' أما وجد غير هذا العذق الرديء؟ أليس لديه غير هذا الحشف يقدمه؟ ' ويسخرون منه ويلمزونه، وإن أتى بخير كثير وجاء بشيء من أجود ما يتصدق به وينفق، قالوا: لو كان فيه خير لترك هذا لعياله، فهذا حال المنافقين.
وحسبك أنَّهم افتروا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى أبي بكر وعمر.
فهذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قسم الغنائم يوم حنين وأكثر للمؤلفة قلوبهم، ولم يُعطِ المهاجرين والأنصار، فوجدوا شيئاً في أنفسهم من ذلك، فقال رجل والله إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله} فانظروا إلى هذا الإفك العظيم من هذا الرجل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: {ويحك ومن يعدل إن لم أعدل}.
فيطعنون في النيات والمقاصد.
وهؤلاء يطعنون في النيات والمقاصد؛ فهذا الرجل لو قال: يا رسول الله كيف تعطي فلاناً وفلاناً، للمؤلفة قلوبهم الألوف وتترك خيار المهاجرين والأنصار؟ لربما كانت لمقالة وجه، لكنه قال: {إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله}، فلما قيل له هذا القول تأسى بموسى، فقال: {رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر}.
وانظروا كيف يتأسى المتأخر بالمتقدم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69] وهكذا فيقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهؤلاء الذين يدعون الإيمان بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم {ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته} فإذا جعل إنسان نفسه مراقباً على أخيه المسلم، فيظل يسأل ماذا يفعل؟ فسيتتبع الله تعالى عورته، ثم قال: {ومن يتتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحلة} فالويل كل الويل لمن تتبع الله عورته فإنه يفضحه ولو في جوف بيته، فأي الناس لا يُخطئ، وأيُّ الناس لا يُذنب، كلنا لولا ستر الله.
أحسن الله بنا أن الخطايا لا تفوح فإذا المستور منا بين ثوبيه فضوح
فمن رحمة الله أنه يستر الذنوب والخطايا، وإلا فإن كل بني آدم خطاء، فأي وعيد يريدون بعد هذا الوعيد؟(48/13)
أربى الربا
وعن سعيد بن زيد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق}، وجاء في الحديث الآخر: {الربا سبعون باباً، أيسرهن مثل أن يأتي الرجل أمه} نعوذ بالله! وهل هناك وعيد أشد من هذا؟ ونهي وزجر أشد منه؟! ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد {درهم رباً أشد من ست وثلاثين زنية} فهذا حال الربا، وهذا وعيد الله في المرابين.
كما أن هناك نوعاً من أنواع الربا لا يفطن له الناس ويغفلون عنه، وهو الذي نبَّه عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وإن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق} وهذا من الوعيد الذي يزجر القلوب المؤمنة عن أن تنال من أعراض المؤمنين.
وفي حديث الإسراء يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم} وانظر أخي إلى هذه الصوة البشعة، ولو كان الذي يخدش هؤلاء هم الملائكة لكان أخف من خمشهم لأنفسهم، {فقلت: يا أخي يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس وينالون من أعراضهم} فهؤلاء كانوا في الدنيا ينهشون لحوم الناس ويتكلمون فيهم، فعقوبتهم يوم القيام أنهم ينهشون لحومهم.
وفي حديث المستورد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {من أكل برجل مسلم أكلة، فإن الله يطعمه مثلها من جهنم} فمن يتقرب إلى ذي سلطان أو غيره بالكلام في أخيه المؤمن، والافتراء عليه، وأن ينسب إليه ما لم يقل مقابل شيء يناله من الدنيا، فإن كان هذا الشيء أكلة، أطعمه الله مثلها من النار {ومن كسي ثوباً برجل مسلم، فإن الله يكسوه مثله من جهنم} وأيضاً لو كان الأمر مما يتعلق بالكساء والثياب فله مثل ذلك من النار {ومن قام برجل مقام سمعة ورياء فإن الله يقوم له مقام سمعة ورياء يوم القيامة}.(48/14)
الظلم المتفشي
ومن أعظم ما يقع فيه الناس بالنسبة لحقوق العباد الظلم، ولهذا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث المتفق عليه: {والظلم ظلمات يوم القيامة}، والله يقول: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً} [الكهف:59] والقرى أهلكت بالشرك {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، ولكن يدخل في ذلك ظلم العباد، والذي يشهد به التأريخ أن الدولة الظالمة يزيلها الله وينتقم منها ولو كانت مسلمة، وأن الدولة العادلة تبقى وتستمر أركانها وإن كانت كافرة، فالظلم وحده من أسباب محق الأمم والشعوب والأفراد.
وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته}.
وهذا من أسباب جرأة الناس على الظلم وهم لا يشعرون، فإن الله لا يؤاخذ على الظلم من أول مرة وإنما يملي لهم، فيظلمون ثم يظلمون ثم يتعودون على الظلم حتى تصبح أعمالهم كلها ظلماً، كما كان فرعون وهامان وأمثالهم ظلمة بطاشين لا يخافون الله تعالى، فإن كان في أهله فهو ظالم لزوجته ولأبنائه، وإن كان في إدارته فهو ظالم لمن دونه، فما تراه إلا ظالماً.
فهؤلاء ينسون أن هذا الإملاء سيعقبه انتقام من الله {حتى إذا أخذه لم يفلته} يأخذه أخذ عزيز مقتدر، ويجعله عبرة لمن يعتبر، ولكن العادة أن الظالمين لا يعتبرون، ولله في ذلك حكمة.
وهنا من أعظم ما يدل على أن من عقوبة الذنب الذنب بعده، فإنك ترى الظالم يظلم وقد انتقم الله من ظالم آخر، فلا يعتبر ولا يرتدع عن ظلمه، ومن تاب منهم كان لعدم رسوخه في الظلم بعد، ثم قرأ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] وهذه الآية وإن كان ظلم القرى المذكور فيها هو الشرك، فكذلك تدل الآية على أن ظلم العباد خطير، وهو داخل في الآية كما استشهد به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد بيَّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سوء عاقبة الظالمين وإن كانوا كافرين، وإن كان ذلك في الكفر، ما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفره إلى تبوك عندما مر بـ وادي الحجر قال: {لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم، ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى اجتاز الوادي، ولما علم أن بعض الناس قد أخذ من مائهم وطبخ به، أمر بأن تكفأ القدر بما فيها}.
وهذا كلام نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فيجب أن نأخذه ونعض عليه بالنواجذ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، ولنترك ما يقوله أصحاب الآثار، وأمثالهم المفترين على الله الذين يريدون أن يحيوا وأن يخلدوا هذه الديار ويصوروها وينشروها ويوزعوها، ويقولون: هذه مفخرة أن توجد في بلادنا، نعوذ بالله من الغفلة وطمس القلوب والأبصار! كيف تصبح أماكن نزول عذاب الله مفخرة تُعظم وتحُترم، ويطالب بأن تكون أماكن سياحية وترفيهية؟ وليس هذا من هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا من هدي الذين يخافون الله، ويعتبرون بمصارع الظالمين ومصائر الغابرين.
والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أشد وأعظم ما نهى عنه إضاعة المال، فلا يمكن أن يأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإتلاف شيء من المال إلا إذا كان في ذلك مفسدة عظمى تربو على مصلحة هذا المال المنتفع به، فإراقتها دليل على شدة ما فيها من المفسدة.(48/15)
محاسبة النفس
والحديث الآخر هو ما تقدم معنا من رواية البخاري عن أبي هريرة {من كان له مظلمة من أخيه من عرضه، أو شيء، فليتحلل منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إلا كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه}.
إذاً فتش نفسك يا عبد الله وفتشي نفسك يا أمة الله، وكل منا يفتش نفسه وينظر هل لأحدٍ من إخوانه المسلم مظلمة عنده من عرض أو مال أو من أي حقٍ من الحقوق، ولا تؤجلها إلى الغد فقد تموت الليلة، فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، فصلاتك وصيامك، وحجك، واعتكافك، يذهب لهذا المظلوم ويذهب هذا الجهد كله بهفوات من اللسان، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه، وهذا أسوأ من الذي قبله، وذلك أن يكون الرجل ممن يقع في حقوق العباد، فإذا كان هذا المظلوم لديه سيئات كالخمر أو الزنا وغير ذلك، فإنها تصبح في ميزان ذلك الظالم ويتحملها عنه؛ مع أنه لم يعملها، وذلك لأنه تكلم في عرض أخيه المسلم الذي يكون قد وقع في تلك السيئات.
ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك أيضاً لما قال لأصحابه: {أتدرون من المفلس}، وهذا الحديث فيه أسلوب ونوع من أنواع التعليم النبوي، وهو من أرقى وأفضل أساليب التربية والتعليم، في الوعظ والتعليم وذلك أن يسأل العالم المتعلمين: {أتدرون من المفلس}؛ فأذهان الناس -دائماً- تتجه إلى اصطلاحات معينة، فينبه العالم فيما يقصده الشرع.
وأن الحقائق ليست كما هو ظاهر في الحياة الدنيا، فينبههم إلى حقائق الشرع والآخرة التي بما غفلوا عنها، ولذلك قال الصحابة {المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع} وهم يعلمون بفطنتهم أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أراد مجرد سؤال عن الذي يعلمه الناس جميعاً.
فيقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إن المفلس من أمتي يوم القيامة من يأتي بصلاة وصيام وزكاة}.
وهذه أفضل أنواع العبادة، وهي أركان الإسلام الثلاثة بعد التوحيد، وأعظم شي يتقرب به العبد إلى الله بعد التوحيد هذه الثلاثة الأركان: {ويأتي وقد شتم هذا} وقد انتشر الشتم بين المسلمين انتشار النار في الهشيم.
وانظر إلى أصحاب الدكاكين والمدرسين -ولا سيما في المدارس- فبعض المدراء والمدرسين يشتم كل طالب ومدرس وكل فَرَّاش في الساعة الواحدة حتى إن بعضهم أصبح يشتم الجمادات، بل وربما بعضهم يشتم ويلعن نفسه ووالديه، فهذه قلوب ما هذبها الإيمان ولا روضتها التقوى.
{وقذف هذا} والقذف قد يكون أعم من معناه الشرعي مما يتعلق بالعرض، فيراد به القذف العام: وهو رمي الإنسان بما ليس فيه، أو يراد به القذف الخاص: وهو قذف العرض، وكلا المعنيين كثير بين الناس.
{وأكل مال هذا} وبعضهم لا يمنعه أن يأكل أموال المسلمين، وإن كانوا أيتاماً، وإن كانت من بيت المال إلا العجز والخوف أن يتفطن له الناس، ولا يخاف الله تعالى ولا يبالي بما أعد الله من الوعيد لمن فعل ذلك.
{وسفك دم هذا} وقد يصل به الحد إلى ذلك، {وضرب هذا} فكل أنواع الأذية تدخل في هذا الحديث، فيكون الجزاء بعد ذلك في يوم الخزي والندامة، {فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه} والمطالبون لا يزالون يقولون: يا ربي حقي فيأخذ من سيئاتهم بقدر تلك المظلمة.
{إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:40].
فبعد أَنْ كانت له حسنات مثل جبال تهامة كما في رواية أحمد صار مفلساً.(48/16)
أداء الحقوق
ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي رواه مسلم: {لتؤدنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء}.
وأكثرُ الناس لا يفطن لهذه الأمور، ولما مر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعنزين قال: {أتدري فيم تنتطح هاتان؟ قال: لا.
قال: ولكن الله يعلم، وسيقضي بينهما يوم القيامة} فكيف بالمسلمين؟! فَمِنْ عَدِلَ الله يوم القيامة أن يُؤدي الحقوق إلى أهلها حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء فهذا مثال وعبرة للناس.
وكل إنسان يناطح مما أعطي له، فبعضهم يناطح بالمال، وبعضهم يناطح بالجاه والمنصب، وإنما يناطحون من لا قرون لهم، ممن لا مال لهم ولا جاه ولا منصب.
ولذلك خيرٌ للإنسان في الدنيا أن يُظلم ولا يَظلِم، وخير له أن يُغتاب ولا يغتاب، وخير له أن يُسب ولا يَسب وهكذا.
وكن عبد الله المقتول أو المظلوم، ولا تكن عبد الله القاتل أو الظالم، فإن الحساب يوم القيامة، وإذا كانت البهائم تقاد بينها فما بالكم ببني آدم؟! وهناك فرق بين حال البهائم، وحال بني آدم في العاقبة، وذلك أن البهائم إذا اقتيد لبعضها من بعض يقول الله لها: كوني تراباً! أما أولئك فإنهم يؤمر بهم إلى النار، فإذا رأوا عذاب الله، ورأوا عاقبة أفعالهم وسوء المصير والخزي والندامة التي تحل بهم، وأنه لا يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو أفتدى به، تمنى أحدهم، وقال: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40]، فأحقر حشرات الدنيا، وأوهن البهائم وأمرضها التي تضرب وتهان، يتمنى الكافر يوم القيامة أنه كان مثلها -لأنه يقال لها: كوني تراباً- وأنه لم يكن، صاحب الجاه، أو الملك، أو السلطان، أو القوة الذي كان يستعلي على عباد الله تعالى ويظلمهم ويأخذ حقوقهم، فبعد أن يوقف للقصاص حتى يأخذوا حقوقهم كاملة يوم القيامة ويستوفوها بين يدي عزيز عليم، فإنه يؤمر به إلى النار.(48/17)
دعوة المظلوم
ومن هذا الباب -أيضاً- ما قاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث معاذ لما بعثه إلى اليمن {واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب}.
وكثير من الناس لا يأبهون بهذه الدعوة، وكم من ظالم أخذه الله، ونزعه من بين أهله وبنيه وانتقم منه، وجعله عبرة بدعوة مظلوم! لأن الله عز وجل يقول لدعوة المظلوم: {وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين} فينتقم الله له ممن ظلمه، ولو لم يكن من زاجر عن الظلم إلا أن يعلم الإنسان أن دعوة المظلوم مستجابة لكفى، وإن كان في ذلك المظلوم ما فيه فالإجابة لدعوته؛ لأنه مظلوم لا لشخصه، فكيف إذا كان المظلوم من أهل التقوى والخير والإصلاح؟!(48/18)
من عادى لي ولياً
وقد قال تعالى في الحديث القدسي: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب}، وفي بعض الروايات {إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب} والليث الحرب هو: الذي تشتد عداوته وتشتد شهوته للبطش والانتقام، فلا يعرض له عارض إلا وهجم عليه بأشد ما يمكن، وأنشب أنيابه وأظفاره فيه، فهذا يقال له: الليث الحرب، فالله يثأر وينتقم لأوليائه إذا تعَّرض لهم معترض كما يثأر الليث الحرب، ولهذا لم يُعادِ دعوة الله تعالى أحد إلا كبه الله على وجهه في الدنيا والآخرة، بالذل والخزي في الحياة الدنيا، وبالنار يوم القيامة.
فالذين يستهزئون بأولياء الله، والدعاة إليه، أو ينالون منهم، أو يقعون في أعراضهم، أو يؤذوهم بما هو أكبر من ذلك، فليستعدوا لمثل هذه العقوبة، وليعلموا أنهم إنما يُحاربون الله، وأن الذي سينتقم منهم هو الله تعالى؛ لأن الواجب على المؤمن أن يكون أخاً لأخيه المؤمن، وأن يكون له مؤازراً ومناصراً، وإن لم يكن كذلك فلا أقل من أن يكف عنه أذاه وشره.
أما أن يُصبح المؤمن عوناً على أخيه المؤمن ولا سيما إن كان من أولياء الله، ومن دعاة الحق، ومن أهل الذكر، وممن نفع الله بهم من العلماء والدعاة والفضلاء، فإن ذنبه أقبح وإثمه أعظم، وما عليه إلا ينتظر الوعيد الذي توعَّده الله به، ومن يغالب الله فإنه يغلب.(48/19)
الذنب الذي يغفره الله
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله صحبه أجمعين.
وبعد: تقدم الكلام حول الذنب الذي لا يغفره الله تعالى مطلقاً وهو: الظلم، والذنب الأعظم وهو: الشرك، وأرجو أن يكون الكلام قد اكتمل عن هذا الموضوع.
أما الذنب الذي لا يُبالي الله تبارك وتعالى به، بل يغفره لمن يشاء، فهو ما كان من تفريطٍ، وتقصيرٍ في حق الله تبارك وتعالى، مع تحقيق التوحيد.
وأما الذنب الذي لا يتركُ الله منه شيئاً فهو حقوق العباد، وقد تقدم ذكر الوعيد الشديد على انتهاكها.(48/20)
فضل الذب عن عرض المسلم
وينبغي بعد ذكر هذا الوعيد، أن نبشركم بشرى عظيمة من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي قوله صلوات الله وسلامه عليه: {من ذب عن عرض أخيه المسلم ذب الله عنه النار يوم القيامة} فكل واحد منا يتمنى ذلك، وغاية ما نرجوه ونتمناه أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحفظنا، ويحمينا، ويجيرنا من النار، وأن يدخلنا جنته، وينيلنا مرضاته، ويمتعنا برؤية وجهه الكريم.
فهذا المطلب العظيم غاية غالية، تحصل لك يا أخي المسلم بأمر ليس بكثير، وليس بكبير، بل هو هين، وميسور، وسهل لمن يسره الله تعالى له.
وهو أن تذب عن عرض أخيك المؤمن إذا ذكر بما ليس فيه وإذا اغتيب أو نيل منه وهو غائب وأنت حاضر، فما عليك إلا أن تقول: لا، اتقوا الله، وتبين أن هذا كذب، أو افتراء، أو حرام، أو إثم، وتذكر ما فيه من الخير، وما تعلم عنه من الصلاح، ولا تزكيه على الله تبارك وتعالى.
فهذا الحديث فيه هذا الفضل العظيم، لأن الناس قد لا ينتبهون له، وقد يجاملون غيرهم، وعادة أن الناس في مجالسهم يجامل بعضهم بعضاً، فإذا تكلم واحد، قالوا: صحيح والله، ولو أن المتكلم أثنى ومدح، لقال القائل: نعم صحيح هو كذلك.
وهكذا عادة الناس -مع الأسف- أن يجاملوا المتحدث، لكن المؤمن لا يجامل أو يثني على من لا يستحقه وإنما يقول الحق، ولذلك فإن المؤمن يرى بحسب المصلحة والمفسدة المترتبة، فيقول: لكن دينه كذا، وصلاته كذا حتى ينبه الحاضرين.
فلا نريد المجاملة من الحاضرين والسامعين للمتحدث، فإن كان الغائب رجلاً صالحاً، فقام أحد الحاضرين وقال: لا، اتقوا الله، ما علمنا فيه إلا خيراً، وهو كذا وكذا، وأثنى عليه بما فيه من الخير، وذب عن عرضه.
فليحتسب عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يذب الله عنه النار يوم القيامة، وكفى بذلك أجراً وكرماً من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(48/21)
الأسئلة(48/22)
حديث: (اعدل! إنها قسمة ما أريد بها وجه الله)
السؤال
أنبهكم أنكم عند شرحكم لتوزيع الغنائم في حنين وإعطاء المؤلفة قلوبهم قلتم: أن الرجل قال: اعدل، والذي أعرفه أنه قال: هذه قسمة لم يرد بها وجه الله، أما هذا القول فإنما قيل عند التحاكم إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التخاصم في ماء شراج الحرة، أما الذي قاله أحد الأنصار: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى لمن يعرفه في مكة أو كما قال، والراجح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا الأنصار وسألهم عن المقالة التي قالوها، وذكر الراوي أنهم كانوا لا يكذبون، ثم بشرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ولو سلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار} وأخبرهم، وبشرهم، فقال: {ألا يسركم أن الناس يرجعون بالدينار والدرهم، وأنتم ترجعون إلى المدينة بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} أو كما قال عليه الصلاة والسلام؟
الجواب
الأخ يذكر أن الحديث -إن كنت فهمت ما يريد- أن قوله: اعدل إنها قسمة ما أريد بها وجه الله، أنها قيلت في شراج الحرة، والذي اختصم فيه الزبير بن العوام رضي الله عنه مع غيره فقال الرجل: آن كان ابن عمتك يا رسول الله؟! وهذه أيضاً كلمة عظيمة، وأنزل الله تبارك وتعالى في حقها قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]، ويقول الأخ: إن قوله: {اعدل، إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله} أنها كانت هنا.
أما التي كانت في حنين فهي قوله للأنصار، ولا أظنه مصيباً جزاه الله خيراً.
وأريد واحداً منكم يراجع ذلك ويأتينا باليقين، وشكر الله لكل من استدرك علينا، أو وجهنا، فنحن محل الخطأ والنسيان.(48/23)
من ضوابط الهجر
السؤال
يقول ذكرتم حديث الوعيد لمن هجر أخاه فوق ثلاث فمات في الهجر دخل النار، فيقول كيف يكون الهجر؟ وهل لتجنب الهجر ينبغي أن أرى الأخ قبل الثلاثة الأيام؟ أم ترك الهجر يشمل الدعوة إليه والاتصال به تلفونياًَ والمراسلة؟
الجواب
رحمة الله أوسع فلا تشترط الرؤية، فلو كلمته واعتذرت منه هاتفياً أو بمراسلة، أو بأية وسيلة، أو أرسلت إليه رجلاً من إخوانك الصالحين أو المصلحين فإن ذلك يجزئ إن شاء الله تعالى.(48/24)
ضرب الأمثال ليس تشبيهاً
السؤال
ما نوع التشبيه في الحديثين الآتيين {لله أفرح بتوبة عبده إذا تاب من رجل أضل راحلته في فلاة} الحديث المعروف فقام فقال: {اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح}، والحديث الذي ذكرناه الآن هو أحد رواية الحديث المعروف {إن الله أشد انتقاماً} أو {إني لأثار لأوليائي كما يثأر الليث الحرب}؟
الجواب
هذا للتقريب، ليس فيه شيء من التشبيه المذموم الذي لا يليق بصفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذا الذي فقد دابته، وعليها زاده، وماؤه، في فلاة منقطعة، يفرح إذا قام وهي واقفة عند رأسه، فالله تعالى أشد فرحاً بتوبة العبد منه.
ففرح الله أشد فرحاً منه، وهذا لا يقتضي أن يكون فرح الله تعالى كفرح المخلوقين، ولا غضب الله تعالى كغضب المخلوقين، ولا شيء من صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كصفات المخلوقين.
وإنما المقصود أن يفهم الناس ذلك، ولذلك عبرَّ بهذا المثال الذي هو غاية ما يتصور الإنسان من الفرح بنيل المطلوب، وإدراك الشيء الذي هو غاية ما يرجوه الإنسان، وقد يحسب أنه فات، وأنه قد ذهب عنه.
فهذا لتقريب هذا المعنى في أذهان الناس، وإلا فإن الله ليس كمثله شيء، فلا اليد كاليد، ولا العين كالعين، ولا الوجود كالوجود، ولا الوجه كالوجه، ولا الفرح كالفرح، ولا الغضب كالغضب، ولا أي شيء من صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كصفات المخلوقين.
وكذلك في الانتقام فالمقصود أن الناس يعلمون إذا غضب الليث كيف ينتقم، وكيف يثور؟ وكيف يبطش بالفريسة؟ فليخافوا من بطش الله، وانتقامه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأنه يثأر لأوليائه مثل هذا.
فهذا مثل حسي، ليعلم الناس كيف يكون انتقام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولله المثل الأعلى.(48/25)
كفارة الغيبة
السؤال
هذا أحد الإخوان يقول: إنه قال فِيَّ كلاماً، ولو طلبتُ أن يقف أمامكم يعتذر لقام؟
الجواب
لا أريدك أن تقف وغفر الله لي ولك، وعفا عنا جميعاً، ونسأل الله أن يستر عيوبنا جميعاً في الدنيا والآخرة، وكما قلت لكم فيما مضى: لا أريد مثل هذا الاعتذار، بل أريد أن كلاً منا يدعو لأخيه المؤمن بظهر الغيب، فقد يخطئ كل منا ولا أحد يبرئ نفسه، فمن أخطأنا عليه أو أخطأ علينا، فأرجو أن نكتفي بأن ندعو له في ظهر الغيب، وأن يدعو لنا.
وأما من أساء أو تجاوز بأن نشر أو افترى افتراءً ونشره وأذاعه فلا أتكلم أنا فيه بشيء.
ولا أقول إلا كما قال فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله في محاضرته بعنوان (موقف أهل السنة والجماعة من الخلاف) فإنه قال: ' إنه من نشر شيئاً فعليه أن يكفر بمثل ما نشر إن كان كتاباً وإن كان شريطاً'.
لأن هذا قد لا يضر المقول فيه بشيء، ولكن ليبين بالنسبة للعامة وطلبة العلم والمخدوعين ما لبسَّ عليهم به إن كان وقع شيء من ذلك.(48/26)
ضوابط الشتم
السؤال
ما هو الشتم؟ وهل له ضابط؟ وهل الإنسان يحاسب على عموم الشتم حتى لو كان ذلك في مصلحة؟
الجواب
الشتم هو الشتم، يقول العلماء: توضيح الواضح من المشكلات.
أي أن توضيح شيء واضح صعب، وهو معروف، لكن هل قد يكون للمصلحة؟ وقد يقال لفاعل الذنب: يا فاجر يا مجرم، يا مخطئ، يا فاسق، فإن كان يستحق ذلك شرعاً فهذا قد يكون، وأما ما ورد فيه الوعيد فهو ما كان بغير حق، ولذلك لو أن رجلاً سب رجلاً فرد عليه فسبه لما كان معتدياً، لقوله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148] {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:60] {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:41] أي إذا انتصر الإنسان بعد ظلمه وعاقب بمثل ما عقوب به ورد السبة بسبة ولم يعتد، فهذا لا يُؤاخذ وليس هو المقصود، بل المقصود من سب، أو ظلم، أو سفك الدم، أو أخذ بغير حق، فنحن نتكلم على العرض المعصوم، أما من كان مستحقاً لذلك كأن يكون مِن مَنْ تجوز غيبته، كتارك الصلاة، وكأهل البدع الذين يحذر منهم لما فيهم من البدع، وليس من تظن أو تتوهم أنت أو يتوهم أحد أنهم من أهل البدع.
فهذه نفس القضية التي ندعي الافتراء أيضاً، فلنفرق بين الافتراء وبين الحقيقة.
فإن كان حقاً من أهل البدع أو من أهل الفجور الواضح المعلن به، فإن هؤلاء قد جعل الشرع ما يردعهم، ليس فقط أن يشتم أو يسب، بل يؤذى بما هو أكثر من ذلك من الهجر، أو التعزير بالجلد، أو الحبس أو غير ذلك من العقوبات التي قررها الشرع.(48/27)
نشر فتاوى ورسائل كبار العلماء
السؤال
هناك فتاوى ورسائل في الأفراح للشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظهما الله تعالى، هل ننشرها ونوزعها؟
الجواب
نعم، فهذه رسالة طيبة جداً، وحبذا لو يحتسب كل إنسان أن يوزع أو أن يطبع منها في هذه الأيام -بالذات- عند حصول الأفراح وفي المناسبات، ومن جملتها الفتوى التي تحدثنا عنها فيما مضى عن المنصة والكوشة، وقد قام بعضهم بطبعها فإن كانت مطابقة لما قلناه فلتنشر ولتعلق ولتوزع في المساجد.
وعلى كل واحد منا إن أراد أن يأخذ مثل هذه الأشياء فليأخذها بحقها، وحقها أن يصور منها الكثير، ويُوزعها في المناسبات، وحيثما تكون المصلحة إن شاء الله.(48/28)
أخلاق المصلح
السؤال
رجل دعوته إلى تحكيم أمر الله تعالى في مشكلة وقع فيها فأبى، وقال: حكم من وراء ظهري، مع أنه مخطئ، فقلت للذي يريد أن يصلح بين صاحب المشكلة وصاحبي: إن الرافض للتحكيم رجل متعصب للهوى، فهل هذا بهتان عليه أم أني أصبت؟
الجواب
أنت يا أخي جعلتني قاضياً، وفرق بين القاضي والمفتي، فمقام الإفتاء سهل، لكن مقام القضاء صعب جداً، والذي أخذه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على عبده داود عليه السلام أنه لما جاءه الخصم وتسوروا المحراب وشكا أحدهما {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} [ص:23] إلخ القصة، ولوضوحها قال: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص:24] يريد أخذ الواحدة من المسكين!! لكن لو أن الآخر تكلم لربما قال: يا نبي الله إن لي (100) نعجة وسرق هذا منها نعجة، ويريد أن يأخذها، ويمكن أن يكون الحق معه، ولهذا آخذه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ونريد أن ننصح الإخوة نصيحةً، ولا نفتي فيها، فننصح بعدم إساءة الظن ما أمكن وحمل الكلام على أفضل المحامل، فقل: لا يعنيني، وقل: لعله كذا، ولعل كذا، حتى لو رأيت أن فيه هوىً، فقل: لعل في نفسه هوى، ولا سيما وأنت إن شاء الله من المصلحين، فالمصلح ينبغي له أن لا يتحول إلى خصم.
وهذه الأشياء هي التي يجب أن يتحلى بها المصلح، ولهذا المصلحون دائماً أعطاهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الصبر والأناة والحلم دائماً، وإلا لم يكونوا مصلحين؛ لأن بعض الناس إذا توسط في خصام أو في مشكلة فبمجرد أن يسمع من أحدهم شيئاً يرفض أن يسمع من الطرف الآخر فيتشاجر هو والآخر، فكانت المشكلة واحدة فأصبحت مشكلتين، وما استفدنا شيئاً! فلا بد أن يكون المصلح ممن يتحمل حتى لو أساء إليه ذاك وطرده، أو رده، أو أخرجه، فيذهب ولا يشكو ولا يذكر، حتى تبقى المشكلة واحدة ما أمكن، ويحتسب ذلك عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وإن كان يصعب على النفوس أحياناً تحمل الظلم ومرارته، لكن أقول: المصلح لا ينبغي ولا يجوز له أن يتحول إلى خصم مهما أمكن.
وإن كان لهذه القاعدة من الاستثناء فهو أن بعض الناس قد يكون من المنفرين نسأل الله العفو والعافية، فقد يكون ممن لا يأتيه أحد إلا وعاداه وخاصمه، فهذا إن جاءه أحد وحصل منه هذا، فيكون ممن أراد الله أن يفضحه.(48/29)
الحكم الشرعي متعلق بفهم الواقع
السؤال
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في إعلام الموقعين عند شرح كتاب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: 'ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم، أحداهما: فهم الواقع والفقه فيه، والثاني: فهم واجب الواقع ' إلخ.
ولعلكم تشرحون لنا هذا وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أظنه لا يحتاج إلى شرح، لأن هذه مشكلة، أن تتكلم عن البدهيات، فينبغي للمسئول أو لمن يتكلم أن يربأ بعقول السامعين عن ذلك، فأحياناً لا يمنع الإنسان من الكلام في موضوع إلا بداهته، فمسألة معرفة الواقع وأهميته قضية بدهية لا نستطيع أن نحصي الأدلة عليها.
وهو أن الإنسان لا بد له مع معرفة الدليل أن يعرف الواقع ليقيم الدليل فيه، فعندما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأوامر كثيرة جداً في القرآن، إن لم تعرف الواقع لا يمكنك أن تقيمها، فأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الأمة -مثلاً- بقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] فهذا الحكم كيف ينفذ، فإنه لا يعرفه إلا من عرف واقع الحال، فهل هو زانٍ أو غير زانٍ؟ وما حقيقة الزنى؟ وهكذا في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] فلا بد أن تعرف الواقع والقضية وتتصورها لتحكم بالآية {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] ما معنى ذوي عدل منكم؟ لا بد أن تعرف من هو العدل، ولا بد أن تعرف حقيقته وهل هو من ذوي العدل أو ليس من ذوي العدل؟ وهكذا حتى في المحرمات الجليلة الواضحة -فمثلاً- الله تبارك وتعالى حرم الخمر، فإن لم يكن الإنسان يعرف الخمر فكيف يفتي! ولهذا انظروا إلى الأشياء التي فيها اشتباه تجدوا أنه يشكل على العلماء أن يجيبوا عليها، فمثلاً: لو سألوا عن الكلونيا: ما حكمها؟ لقال بعضهم: تبين لي أنها مسكر وأنها خمر فهي حرام، وبعضهم يقول: لا.
فيها نسبة قليلة، وبعضهم يقول: ليس فيها شيء، فكل أجاب بحسب معرفته لواقعها أو بحسب واقع هذا الشيء فهكذا لا يمكن معرفة أي شيء إلا بمعرفة واقعها.
أما الأدلة والنصوص، فهذه الكتب موجودة، وهذا كتاب الله وهو أعظم كتاب، وكتب الأحكام الفقهية ملأت الأرض والحمد لله، فمن الممكن أن يحفظها بعض الناس عن ظهر قلب، ويكون كما قال بعض العلماء: زادت في البلد نسخة.
فإن قيل له: إن فلاناً يحفظ كتاب سيبويه أو كتاب كذا، لقال: زادت في البلد نسخة، وهذه نسخة زايدة فقط، لماذا؟ إن لم بنبن على هذا الحفظ حفظ الأدلة ومعرفة الواقع الذي هو تحقيق مناط هذه الأدلة، لا يصلح الأمر.
فإذا جاءك رجل مثلاً وسألك عن أمر من الأمور وخاصة مما يتعلق بأحوال الناس، فإن لم تكن تعرف واقع المسئول عنه أو واقع السائل، فقلما تصيب، فلا بد من إقامة الأدلة كما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وذلك أن تنزَّل منازلها كما أمر الله تعالى وكما شرع، فكيف نعرف الظالم من العادل؟ وكيف نعرف البر من الفاجر؟ وكيف نعرف الحلال من الحرام؟ إلا بمعرفة الواقع، وليس المقصود من ذلك أن الإنسان يحيط بكل أمور الواقع فليس كذلك، لكن أمامنا أمران أو حلان: الأمر الأول: أنه يجب على المفتي كما ذكر هنا الشيخ ابن القيم رحمه الله تعالى أن يستطلع ما استطاع من أمور الواقع ليعرفها، ولهذا كان بعض الفقهاء ينزل إلى الأسواق ويرى كيف يتبايع الناس ليفتي.
فقد يأتيك إنسان ويقول لك: ما رأيك في شرائي أرضاً بالتقسيط من أحد الناس فماذا تفتيني؟ فهل بسرعة تقول: يجوز أو لا يجوز، إذا كنت تعرف أن هذا حيلة، وأن هذا كذا، وتعرف واقع الناس لتفتي في محله، وحتى تكون فتوى في محلها، أما إن أخذت بظاهر القول فربما تحرم حلالاً أو تحلل حراماً، وهكذا ينبغي لمن تصدر للدعوة والعلم والإفتاء أن يلم بالواقع ما استطاع.
الأمر الثاني: إن كل إنسان لا يستطيع أن يلم، بكل شيء فهذا أمر طبيعي، فقبل أن تفتي في مسألة، اسأل أهل الخبرة فيها وأهل الشأن، ولهذا كان عمر رضي الله عنه يجمع أهل الشورى، وهو أعلم الناس بالأدلة، وفقه عمر رضي الله تعالى عنه من أوسع وأعظم أبواب الفقه.
فيكفيكم أن تعلموا أن ما عند ابن عباس من العلم وكثير مما عند ابن مسعود وغيرهما رضي الله تعالى عنهما أخذاه من عمر ومن فقه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، ومع ذلك تنزل به النازلة، فيجمع أهل الشورى ويسألهم عن هذه الواقعة، فإن كانت من أمور الجهاد، فلا يفتي فيها بسرعة، حتى يسأل أهل الجهاد وأهل الخبرة في الجهاد، فإن كانت من أمور المال سأل أهل المال.
فكثير من الأسئلة التي يسألها الناس لو سألت من يعمل في البنوك لأراحك، لأنه يقول لك مثلاً: الاعتماد البنكي حقيقته كذا، وكذا، والتأمين حقيقته كذا وكذا، والقرض القصير الأجل كذا، والطويل الأجل كذا، فتكون الفتوى فعلاً في محلها.
إذاً نسأل أهل الخبرة، وهذا معلوم ليس بجديد، فهو معلوم من عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الآن، وأعني به الاستعانة بأهل الخبرة في شأن ما، ولهذا فرح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال القائل: {إن هذه الأقدام بعضها من بعض}؛ فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ بقوله؛ لأنه صاحب خبرة في القيافة وفي معرفة من يلحق بالنسب، فاستعان به وفرح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسره ذلك, واستشار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مواقف كثيرة من أجل هذا الشيء، وهذا أمر مقرر من سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فمثلاً لما جاء فقهاء الكوفة كان مذهبهم بالنسبة للأشربة خاطئ، حتى إن الإمام أحمد رحمه الله تعالى كتب من أجل ذلك كتاب الأشربة رداً عليهم، وفقهاء العراق، وأهل الكوفة كانوا لا يرون الخمر إلا ما كان من العنب، وأفتوا بذلك في أواخر عهد الصحابة رضي الله تعالى عليهم، فرد عليهم أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه كما في الصحيحين رداً عظيماً جداً، لأنه كان من صغار الصحابة وعاش حتى أدرك هؤلاء.
قال: [[لقد نزل تحريم الخمر، وما في المدينة عنبة، وإنما كان الخمر من كذا وكذا]] فقد رد عليهم بعلم الواقع، فهو يقول: ليس في المدينة عنب فإنه لما حرم الله الخمر وأراقها المؤمنون وجرت في سكك المدينة لم يكن عندنا في المدينة عنب، وإنما كان التمر والشعير وأمثالها، فهذا الرد من أقوى أنواع الردود في إبطال مذهب أهل العراق، في دعوى أن الخمر فقط ما كان من العنب، وأن غيره يقاس عليه، وهكذا يكون الاستدلال بالواقع المعاصر.
ولما قيل في حديث الحمام: إنه موضوع قالوا ذلك، لأنه لم يكن في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حمامات، وكذلك لما قالوا: حديث أجرة الطحان أيضاً، قالوا: الحديث ضعيف، أو موضوع، أو موقوف، فليس من كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث أنه لم يكن في عهده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يطحن ويستأجر.
وغيرها من الأشياء التي لا أستطيع أن أحصرها، فلو كتبت رسالة دكتوراه في ذلك لتبين من كثرة الشواهد والأدلة على أن معرفة الواقع أمر ضروري لا بد منه في الفتيا وفي الحكم.
أما أن الإنسان يفتي فتوىً مجردة فلا بأس.
فعلينا أن نُفرق بين من يقول: أنا وجدت أن الخمر حرام، ويفتي بفتوى الأدلة، وبين من يقول: هذا حلال، أو حرام في هذه القضية النازلة وهو لا يعرف حقيقتها، فهنا يكون التقصير في هذه القضية الواقعة.
أما القول بفتوى عامة فلا بأس، ولذلك تجد العلماء والمفتين -جزاهم الله خيراً- لو سئلوا هل هذا العمل حرام أو حلال؟ فإنهم يعطونك القاعدة بقولهم: إن كان كذا فهو حرام، وإن كان كذا فهو حلال، لأنه لا يعرف الواقع فأعطاك القاعدة، وأنت طبق على الواقع، لكن لو كان يعرف الواقع لما احتاج أن يقول لك: كذا وكذا ولاكتفى أن يقول: هذا حرام، أو هذا حلال وهكذا.
وحتى المصطلحات تختلف -وهذا أيضاً من فقه الواقع- ففي أصول الفقه مصطلحات للحنفية غير مصطلحات الأئمة الثلاثة، وأحياناً مصطلحات الأصوليين عامة غير مصطلحات أهل الحديث عامة، فهذا مصطلح وهذا مصطلح.
كما أن مصطلح بعض البلاد غير تلك البلاد؛ فالكلمة بالعراقي لها معنى غير الكلمة بـ المدينة ولذلك لو وجدنا فتاوى من علماء العراق كتلاميذ عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه وأمثاله، لوجدنا أنها غيرها -مثلاً- في المدينة أو في مصر ويكون لها معنى آخر وهكذا.
فإذاً: لابد من معرفة الواقع، ومعرفة اللفظ، ومعرفة المدلول.
فهذه أظن أنها أجلى من أن نحتاج أن نتكلم فيها، ومن سوء حظ هذه الأمة -والله المستعان- أننا وصلنا إلى حالة من الانحطاط الفكري وضيق النظر وضيق الفهم، فأصبحنا ننازع في البدهيات وأصبحت البدهيات موضع مناقشة وإلى إثبات وتحتاج إلى أدلة، والله المستعان.
مثل هذا الكلام تماماً قاله فضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم وغيره من العلماء الذين كانوا يشترطون في القاضي أن يكون بصيراً وعارفاً بواقع الناس وأحوالهم، ولهذا اختلف العلماء: هل يجوز أن يتولى الأعمى القضاء؟ مع أن الراجح أنه يجوز، لكن هذا خلاف قديم موجود في كتب الفقه القديمة لماذا؟ قالوا: لأنه قد لا يبصر، وقد يكون الأعمى من أعلم الناس، هذا معروف قديماً وحديثاً، لكن القضاء غير الفتيا، فكيف يقضي وهو لا يتصور بعض الأمور، ولا يراها ولا يعرف طبائع الأشياء مثلاً؟! فهذه وجهة نظر من قال بذلك.(48/30)
إعانة المجاهدين في أرتيريا
السؤال
كيف نمد يد العون لإخواننا المجاهدين في إرتيريا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
إخوانكم المجاهدون في أرتيريا نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينصرهم ويعلي كلمته، وأن يذل الصليبيين واليهود والنصارى والمجرمين أينما كانوا، فقد كشروا عن أنيابهم هذه الأيام، وأصبح المسلمون في كل مكان يرون هذه العداوة منهم واضحة وضوح الشمس.
سمعتم وقرأت عندنا في الصفحات الأولى من الجرائد أن إسرائيل تهدد بضرب المفاعل النووي في باكستان، انظروا إلى جرأة اليهود والنصارى على المسلمين، فلا يريدون أن يكون لهم أية قوة أبداً، بل يريدون أن يضعفوهم ويستعبدوهم، ولذلك هذه الدولة اليهودية الخبيثة تتجرأ على مفاعل نووي بعيد، بينها وبينه دول وأمم، فالآن الصليبية الخبيثة كشرت عن أنيابها في أفغانستان فأصبحت المسألة واضحة وضوح الشمس أن المجاهدين لا يحاربون روسيا وحدها كما كان يظن، وإلا فقد أذلها الله وأخزاها، لكنها سحبت جيوشها، وحولت القضية إلى الغرب كله وأمريكا ومن معها، وأصبحت الألاعيب تدار لوأد هذا الجهاد، وأصبحت داخل المجاهدين تزرع الفتن، وتقدم المساعدات الأمريكية والغربية من أجل التنصير وما إلى ذلك، أصبح أمراً مشهوداً في الفلبين وفي كل مكان.
الشاهد هنا حتى لا نخرج عن الموضوع أن مندوب حركة الجهاد الإسلامي الأرتيري، لشرح أحوال وأوضاع المهاجرين والمجاهدين كتب له فضيلة الشيخ الوالد محمد بن صالح العثيمين حفظه الله تعالى في 13/رمضان/1411هـ، هذه التزكية، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم إن الأخ عبد الوهاب بن يوسف الزياني معروف عندي وهو محل ثقة وله نشاط في شرح الجهاد الأرتيري والسعي في نجاحه.
ولا شك أن الجهاد في سبيل الله من أفضل ما بذل المسلم فيه ماله ونفسه، فنسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا من المجاهدين في سبيله المنتصرين به، وأن يجزي أخانا عبد الوهاب على سعيه خيراً.
كتبه: محمد بن صالح العثيمين في 13/ رمضان / 1411هـ ووضع ختمه حفظه الله.
- هذا ويوجد حساب في الراجحي لإخواننا المجاهدين والمهاجرين الأرتيريين برقم (291).
- وآخر لصالح الأيتام برقم (289) وكلاهما بفرع الشرفية (2) بـ عنيزة.(48/31)
قضاء الدين المجهول
السؤال
كيف أؤدي ديناً لآدميٍ نسيت من هو وكم هو الدين؟
الجواب
هذه مشكلة، فبعض الإخوان يهديهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، نسأل الله أن يمن علينا وعليكم جميعاً بالتوبة، وكثيراً ما يقول: إنني قبل أن أعرف الله حق المعرفة وأتوب، أخذت من فلان وفلان، وأضعت بعض الحقوق فلا أعرفها، ففي حالة ما إذا كان صاحب الحق مجهولاً، أو إن كان الدين -أيضاً- مجهولاً فلا يعلم مقداره، ففي هذه الحالة إن عمي الأمر من كل جهة، فعلى الأخ أن يتصدق، وأن ينفق بقدر ما يستطيع عن هؤلاء، وأن يستغفر الله ويديم التوبة، والاستغفار، والندم، ويتصدق بما يستطيع عن هؤلاء حتى يرى أنه قد أدَّى ما عليه.(48/32)
زيارة ديار العذاب
السؤال
ما ذكرتموه عن ثمود وقوم صالح كيف يجمع بينه وبين قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [النمل:69]؟
الجواب
لا تعارض بينهما، ففرق بين من يسير في الأرض ويتأمل أحوال الأمم وأخطارها، بين هذا الأمر العام، وبين أمر خاص في اجتناب مكان معين، فلو تأمل الإنسان وأراد الاعتبار، فكل ما أمامك فيه عبرة {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [النمل:69] والناس لا بد أن يسيروا بطبيعة الحال في الأرض، فأينما سرت فتأمل.
فنحن الآن في جدة، فلو كان لنا عبرة وعقول لتأملنا هذه المباني القديمة في جدة، التي كانت قبل زمن قريب ليس بكثير أعظم وأفخم ما في جزيرة العرب من القصور والمباني.
والآن لو تُهدى لأحدنا فلن يقبلها إلا من أجل مكان الأرض، أما غير ذلك فليس فيها فائدة، ولذلك لن يقبلها ولن يسكن فيها، وسيستوحش لو نام فيها.
فأينما تذهب تجد العبرة، سواء كانت ديار قوم مجرمين ومفسدين فلتعتبر ولتخف الله، وإن كانت -أيضاً- لقوم صالحين، فلتعلم -أيضاً- أن هذه عاقبة ونهاية الدنيا، حتى مع الأخيار الأطهار الأبرار، فهذه نهايتها وهذه عاقبتها، فأينما سرت تجد طرقهم، وتجد آثارهم، وتجد قراهم، وتجد البيوت الخاوية، وتجد المدن المهجورة، وتجد الحضارات المندثرة، فليتأمل الإنسان وليعتبر وليتعظ.
لكن لا يعني ذلك أن ينوي سفراً خاصاً لزيارة آثار منطقة معينة، فهناك نهي خاص عن هذا، ولا يجوز، أما الاعتبار العام والسير العام، أينما ذهبت.
فمثلاً: الآثار الرومانية موجودة في الأردن وسوريا وليبيا وتونس، وقرطاجنة، التي في تونس ما كان أحد يحلم أنها تفتح، وفتحها المسلمون والحمد لله، آثار عجيبة جداً، حتى ولو لم ترها إلا في صورة أو في كتاب أو في فيلم.
فأحياناً تجد في هذه الأفلام هذه الآثار، فنرى عجباً حيث أنها تبين لك كيف كان هؤلاء الناس، وكيف أنهم أثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمرناها، وكيف أن الأرض أخذت زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها، ونسوا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهم بالمرصاد، فأتاها أمره ليلاً أو نهاراً، فجعلها حصيداً كأن لم تغن بالأمس، فأينما تذهب تجد هذه الآثار.(48/33)
ضرورة إنكار المنكر
السؤال
ما رأي فضيلتكم في صحيفة الشرق الأوسط؟ وكيف نتعامل مع ما تنشره من أباطيل؟
الجواب
هذه الصحيفة تجعل الواحد منا يتعجب منها في مرات عديدة، ومنها أنها كتبت عن قرية في سينا وهذه القرية مشهورة نساؤها بالحجاب، فهذا يدل على أن الحجاب ليس غريباً على مصر ولا سينا، وهو الذي جعل هذه المجلة تكتب عنها مقالاً فقالت: 'إن النساء فيها يتحجبن' ونشروا هذا الخبر العجيب، وصوروا النساء وأجروا مقابلات، بأن المرأة لا يراها أحد ولا تكشف وجهها ولا يراها إلا المحارم، فما وجه الغرابة في هذا؟ كأن المفاهيم الغربية قد رسخت فينا حتى أصبح الحجاب غريباً، وأيضاً ينشر هذا الكلام في مجلة سعودية وأكثر ما تباع في المملكة.
يقال: هناك بلاد بعيدة في صحراء المرأة تتحجب، ونحن هنا -والحمد لله- نساؤنا محجبات، وهكذا إذا انتكست المفاهيم نسأل الله العفو والعافية.
أيضاً لهذه صورة لامرأتين لا يُرى منهما شيء، يقول هذا الكلام في عمان عام (1942م) صورة تُعبِّر عن الفتاة كما كان الحال في السابق، وإلا فهي كما هي في الصفحة الثانية مثل هذه العرايا، نعوذ بالله، فماذا يريدون منا ومن نحارب في هذه الحالة؟ هذا الكلام لو كتبته مجلة أمريكية أو فرنسية، ولو قلنا بعض الدول العربية فإن هذا يحتمل، لكن أن يكون ذلك مجلة سعودية، وتعلم أن الله تعالى قد فرض الحجاب وأمر به فهذا غريب.
كما أن أكبر سوق تباع فيها هنا، والقائمون عليها من أبناء هذه البلاد، وتتعجب أنه بقي من النساء من تحتجب، وتنشر هذا الخبر، وهذا والله مؤلم جداً، وهذا مؤذن بعقوبة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لا للمجلة هذه، فإن الله قد ابتلاها بعقوبات كثيرة لا يعلمها الكثير، حيث ابتليت بمدراء تحرير نهبوا أموالها، جمعوها من حرام فذهبت في حرام والحمد لله، وابتليت بمصائب كثيرة، ولكن نخاف نحن أن نُبتلى؛ لأن هذه الشركة سعودية، ولها ميزات وتخفيضات، وتشتريها الدوائر الحكومية، والمصالح والمؤسسات؛ ولها ميزات كما لكل المجلات المحلية، بل ربما أكثر، وفي نفس الوقت نسوقها ونروجها، ففي أية بقالة تلقاها، وهي تنشر مثل هذه السموم ومثل هذا الإفك.
فالمرأة المسلمة عندما تقرأ هذا، ترى أنها غريبة، فتقول: والله فعلاً أنا باقية أتحجب! فكأنها في عالم قد تحرر وانطلق وهي قائمة على أمر الله، محافظة لما فرض الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وهي الآن المرأة التي يشتاق العالم كله، ويتطلع إلى أن يرجع لما هي فيه من الخير والسعادة والعفاف والطهارة والفضيلة والحمد لله، لكن هؤلاء يريدون عكس هذه المفاهيم، فنأثم نحن عندما نبيعها، أو نروج لها، وعندما لا ننكر عليها.
بعض الإخوان يقول: لماذا نتعرض لمثل هذه القضايا؟ فنقول: والله إن لم تنكر هذه المنكرات ولو في مجلس واحد، أو في مسجد واحد، والله إننا نخشى أن يعمنا الله بعذاب من عنده، فهذه أحكام الله، وهذا كتاب الله يضرب به عرض الحائط، وهو ليس كلام فلان وعلان، فوالله ليس هناك دولة ولا حكومة ترضى أن تصدر أوامر ويهملها الناس بالكلية، أو يتجرأ عليها وتسب، فإذا كانت الدولة لا ترضى مثل هذا الكلام، فكيف برب العالمين شديد العقاب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الذي كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إذا عملت المعصية ولم تنكر كان من غاب عنها كمن شهدها}.
إذا لم ينكر المنكر فمن غاب عنه كمن شهده، فإذا لم نتكلم في هذه المنكرات فكأننا شهدناها وسكتنا وكأننا فعلناها، وهذا ما ذكره الله تعالى عن أصحاب القرية التي كانت حاضرة البحر من بني إسرائيل لما أخذ الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يعملون.
فلا بد أن ينكر المنكر، بل لا نستطيع أن ننكر المنكرات كلها لأنها منكرات عمت وطمت حتى أصبح الإنسان لا يتكلم إلا عن قطرة من بحر في هذه البحار، لكن أقل شيء أن تلقى ربك وتقول: يا رب! قد قلت، أما أن تلقى الله وأنت ساكت وأنت مداهن؛ فأعوذ بالله من أن نلقى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على ذلك.
ونحن إذا قال أحد كلمة في مجلس فإننا ننكرها، لكن أن تنشرها على مليون مجلة أو في تلفاز لم ننكرها، فهل هذا من المنطق؟ فالأولى بالإنكار هو المنكر المعلن، ويجب على الأمة أن تنكر المنكر المعلن بقدر إعلانه وجوباً.
ولذلك من تكلم فإنه قد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من لم ينكر بالمرة فيخشى أن يكون شريكاً لمن فعل.
لا بد أن يكافئ الإنكار المنكر، فإذا نشر المنكر في مجلة تطبع (100.
000) نسخة، فيجب أن ينشر بقدر ما يمكن حتى يصير (100000) أو أكثر رداً لإنكار هذا المنكر، وإن كان على جهاز إعلام يسمعه أو يراه الملايين، فيجب على الأمة بمجموعها أن تنكر المنكر بحيث يسمعه الملايين أيضاً.
فلا بد أن يتكافأ الإنكار بالمنكر، أما أن يظل المنكر ينشر بالملايين، والمنكرون ينكرونه إما (20) أو (100) أو (200) ومع ذلك يقال: كيف ينكرون؟ فهذا والله عجب، وهذا والله هو المنطق الأعوج الذي لا نرضاه لديننا ولا نرضى أن نلقى به ربنا.(48/34)
إيجابيات وسلبيات التسجيلات والتعامل معها
السؤال
الإخوان أصحاب التسجيلات جزاهم الله خيراً يقولون: عندما تكلمنا على حق المسلم وحفظ عرضه ونقل كلامه، يقولون: قد يلحقهم شيء من ذلك لأنهم يسجلون؟
الجواب
حقيقة بغض النظر عن الفتوى فيها، فالآن أنا أقول: إن من مصائب هذا العصر المسجلات، ففي العصر الأول كان العلماء في راحة وكان الدعاة والمفتون في راحة.
يقولون القول ويسمعه تلاميذهم، بل كان بعض العلماء يشترط ألاَّ ينقل عنه إلا تلاميذ معينون، وكثير من العلماء الثقات الجبال ما كان يسمح لأي أحد أن يروي عنه أصلاً أو ينقل عنه، لكن نحن الآن كل كلامنا يسجل فهي نعمة لا ننكرها، لكن كل نعمة تقابلها نقمة.
فمن نعم الله انتشار هذه الوسائل، فالإنسان يقول الكلمة، فبدلاً أن ينفع الله بها (100) أو (200) أو (1000) الذين حضروا في المسجد، فقد ينتفع بها (100000) بإذن الله ممن يسمع الشريط.
وأما جانب النقمة التي فيها فهي أن الخطأ قد ينتشر، وأن الكلمة قد تنتشر أيضاً.
فلو قال قائل: قال الله ويأتي بحديث، وهذا يقول: قال رسول الله ويأتي بآية، فالخطأ ممكن في أي شيء، فتكون فرصة للمتربص وللحاقد والنمام.
وأيضاً: قد يَضل أحد بناءً على كلام غير محرر، لأن الكلام المحرر المكتوب المؤصل غير الكلام الملقى، فالكلام الملقى دائماً يعتمد على ذاكرة الإنسان المعرضة للسهو، لكن ما يكتب ويراجع فإن السهو قليل فيه، ومع الأسف فإن الناس اليوم يستسهلون ما يسمعون من الفتاوى والمواعظ، أما الفتاوى المكتوبة فإنها لا تُنشر إلا قليلاً، مع أنها هي التي ينبغي أن نحرص عليها لأنها مكتوبة ومنضبطة بعكس الكلام الملقى، فقد يقول: رواه البخاري، وهو يقصد الترمذي، ويقول: ضعيف وهو صحيح، فينتج عنه شيء من المفاسد، وهو ما يجعل بعض الإخوان في التسجيلات يقولوا نحن السبب في ذلك؟ ونحن نقول لهم: اتقوا الله ما استطعتم، واحرصوا على أن تتأكدوا، والأمور التي قد تلبس أو تنشر الفتنة، أو شريط لرجلٍ ما غير معروف فلا تنشروها.
فلو دققنا وطبقنا تعامل السلف الصالح فبمجرد أن الشخص مجهول فإنهم لا يتعاملون معه، وانظروا في كتب الرجال كم بها من مجهول، فما قالوا: فيه شر، أو فاجر مبتدع ظالم، بل مجهول، فلكونه مجهولاً أقصي، فلو جاءك شريط لمجهول وهذا الشريط فيه طعن وسب وفيه فتاوى، فبمجرد أنه مجهول لا تعرفه ولا تعرف حقيقته فينبغي أن تتثبت.
إذا أخذت الآية قول المجهولين في المعروفين فمن يبقى؟ ولكان الكلام في العلماء سهلاً حتى من أصحاب المقاهي ونحوهم، فإذا ُصدِقَ الكلام وانتشر فمن يبقى لنا؟! فيقال: إن هناك شخصاً تكلم في المشايخ، فحين تسأل عنه لا تعرف سابقته ولا علمه ولا خيره ولا فضله، بمجرد أنه قال ما قال نشر قوله.
فينبغي لإخواننا أهل التسجيلات أن يتقوا الله وأن يتريثوا، وألا يكون الدافع المادي هو الهدف الأساسي، ولكنه موجود عند البعض على الأقل، أو مجرد أن هذا الشريط يشترى فنبيعه، وإن كان فيه أخطاء، ومادته العلمية ضعيفة، وفيه انحراف وجرح وطعن وتشويه للدعاة وضرر على الدعوة لكنه يشترى فنبيعه، فلا يجوز أن يكون الهدف المادي هو الأساس، لأن هذا علم مما يبتغى به وجه الله، فمن جعله وسيلة لكسب الدنيا الرخيصة ناله الوعيد.
فحقيقةً إن موضوع التسجيلات مالها وما عليها، وكذلك موضوع التسجيل ماله وما عليه يحتاج إلى ضوابط معينة في سماع الكلام وفي سماع الأشرطة، بخلاف الشيء المكتوب، فإذا نسبت إلى أحد ما كتبه وقاله وحرره، أو الكلام المكرر بالذات فلا بأس، بخلاف مجرد الكلام في شريط، أي: إذا كان للإنسان آراء تعلم أنه يعتقدها ويكررها ويدين بها ويقولها فلا بأس أن تأخذها، أما كلام في شريط مثلاً أو كلمة واحدة أو مقالة تحتمل عدة تأويلات، فتبني عليها قاعدة كبرى، وتترك القطعيات الواضحة في كلامه هذا لا يصح، وهي محتاجة إلى ضوابط لعل الله ييسر بها.(48/35)
هجر مرتكب الكبيرة
السؤال
كان لي زميل بيني وبينه عِشرة، وكنت أجهل ارتكابه لبعض الكبائر، وعند اكتشافي لذلك نصحته مراراً، وكان كل مرة يستجيب بلسانه ولكنه لا يكف، مما دعاني إلى هجرانه منذ أكثر من سنتين، حيث أنه لا يزال يقترف هذه الكبائر، وأنا أبتغي بهذا الهجران وجه الله، فهل أدخل -والحال هذا- في أحاديث الوعيد في هذا الباب؟
الجواب
لا يدخل المؤمن الذي يهجر لله، لكن نخاطبك يا أخي من باب آخر، وهو باب الحكمة في الدعوة، فإذا كان كل من عمل منكراً هجرناه فما فعلنا شيئاً، وخاصة إذا كثر أهل المنكر وقلَّ أهل الطاعة والتقوى، ولكن الواجب أن نصبر، وأن ندعو الله له وأن ندعوه ونزوره، ونحرص بكل ما نستطيع وخاصة إن كان قريباً تربطنا به قرابة، أو كان زميلاًَ في العمل، فليس بجيد لك هجرانه وألاَّ تكلمه ولا يكلمك وأنتم في إدارة واحدة، بل ينبغي أن تصبر، وأن تجتهد في نصحه، وكم من غاوٍ هداه الله بعد سنتين أو ثلاث أو أكثر!! أما إن كان من المجاهرين المعاندين الذين لا يسمعون ولا يرعوون فنعم، ففي هذه المسألة حالات، وهذا يرجع إلى تقدير الأخ الداعية، لأن الله تعالى قال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125] فالحكمة أن تضع الشيء في موضعه، والحكمة ليست هي الضعف ولا اللين ولا العفو فقط، فهذا جانب من الحكمة، ولكن الحكمة أن تضع الشيء في موضعه، وهذا شيء يرجع إلى تقديرك أنت، فاجتهد، واستعن بالله أن تقدِّر أن هذا يهجر، وهذا لا يهجر، ولذلك يفرق الإنسان بينهما.
وانظروا إلى سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف يفرق بين أحوال الذين تخلفوا في يوم بدر ويوم أحد، وبين من تخلفوا في يوم تبوك، فيوجد هناك في أشياء معينة ترجع إلى فقه الواقع -كما قلناه سابقاً- وإلى أمور معينة، فالذين هجرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -الثلاثة الذين خلفوا- لهم صفات ولهم وضع، فمن الحكمة أن يهجروا، بخلاف من قبلهم فهنا حال غير الحال، ووضع غير الوضع.
فالعالم أو الأخ الفاضل طالب العلم عندما يأتي بفاحشة أو موبقة أو ببدعة أو يخالط أناسا لا خير فيهم وتهجره، فهذا جيد، لأنه إذا هجره الأخيار وعنفوا عليه وعاتبوه، يرجى أن يكون هذا الهجر رادعاً له، لكن إذا ما اهتدى في أول الطريق وهجره الأخيار فإنه يستمر مع الفجار، فبينهما فرق لأن الأول نعلم ونطمئن أنه لن ينحرف بالكلية، لأننا إذا هجرناه فسيرتدع، أما ذاك إذا هجرناه فسينحرف، وهكذا توضع الأمور في نصابها.(48/36)
الفرق بين الولي والواصل عند الصوفية
السؤال
ما الفرق بين الولي والواصل عند الصوفية؟
الجواب
الصوفية بحر متلاطم، لا تستطيع أن تقول إن معناه كذا -فقط- عند الصوفية.
فالولي عند بعض الصوفية درجة فوق النبوة، وخاتم الأولياء عندهم مثل خاتم الأنبياء أو أعظم من خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، والولي عند بعضهم أو عند عمومهم مجرد العابد الذي له ميزات معينة، أما الواصل فهو اسم أو مصطلح لمن يمشي في طريق التصوف، فأول ما يبدأ يسمونه: المريد.
ثم ثانياً: يكون السالك، في الطريق، والثالث: وهو الأخير يسمونه الواصل، فهذا من الواصلين، أي: أصبح من خاصة الخاصة الذين لا يتوبون من الذنوب ولا يتوبون من التوبة، لكن يتوب من الإيمان، ويتوب من رؤية الإيمان، نعوذ بالله.
ومن أراد الاستزادة فهناك كتب كثيرة منها كتاب هذه هي الصوفية وكتاب التصوف بين الحق والخلق.(48/37)
توريث الزوجة التي لم يدخل بها
السؤال
أنا شاب متزوج، ولم أدخل بعد، وعلي دين، فماذا يترتب علي بالنسبة للزوجة إذا توجهت للجهاد وقدر الله بوفاتي؟ وهل يجوز أن أوصي سداد ديني مما أملك، مثل أن تباع سيارتي؟ وهل للزوجة ميراث أو وصية خاصة؟ وأسألك أن تدعو لي أنت ومن حضر، لعل الله أن يتقبلني شهيداً عنده وأن يجمعنا بكم في دار كرامته!
الجواب
بالنسبة للزوجة فنعم، فلها عليك أن تعطيها، وأن تحسن إليها، وأن تحسن عشرتها ما بقيت، فإذا ذهبت فعليك أن توصي بها خيراً لعلك تعود، وإن أنالك الله تبارك وتعالى الشهادة فإنها ترث منك.
وبالنسبة للدين فأول ما يخرج الدين {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:12] سواء كانت سيارة أو مالاً أو أي شيء يُباع ويخرج الدين منه، ثم بعد ذلك تكون أنصبة الورثة، والزوجة من جملة الورثة في مثل هذه الحالة، كما قدر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، واكتب وصية خاصة توصيها وتوصي أهلك وإخوانك بتقوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأما الفرائض فإنها تقسم كما قسمها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بين زوجتك وبين غيرها، فقد يكون لك أب، وقد يكون لك أم وإخوة.(48/38)
الفرق بين التحسس والتجسس
السؤال
ما هو الخلاف بين نهي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ولا تجسسوا}، وبين قوله تعالى: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يوسف:87]؟
الجواب
لا فرق بينهما، فالتحسس إذا كان لمصلحة كمصلحة هذا الأب الحزين الكئيب الذي فقد ابنه، فيرسل أبناءه ليتحسسوا عنه لعلهم يجدونه، فهذا لا شيء فيه.
وبين أن يكون لتتبع العورات والسقطات، فهذا يدخل في التجسس، وكما قلنا بأن لهما معنىً واحداً، مؤداهما ونتيجتهما واحدة، فلا تعارض يا أخي بارك الله فيك!(48/39)
ظلم العباد وكيفية التوبة منه
السؤال
إذا كان الإنسان يرى أنه قد ارتكب كل ما ذكرت في هذا الموضوع من أخطاء وسيئات، فما هو المخرج؟
الجواب
المخرج: التوبة والاستغفار، ورد الحقوق والمظالم إلى أهلها، والتحلل ممن تكلمت فيهم، أو اغتبتهم، أو أخذت مالهم، أو ظلمتهم، قبل أن يأتي اليوم الذي لا درهم فيه ولا دينار، كما أرشد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(48/40)
الفرق بين توضيح الخطأ وتتبع الأخطاء
السؤال
هناك من الشباب هداهم الله عندما يسمعون من العلماء المعاصرين خطأً في فتوى معينة يقولون: عقيدته فيها كذا، أي: إذا أخطأ في فتوى طعنوا في عقيدته؟
الجواب
سبحان الله! ما الذي أدخل هذا في هذا، فالاجتهاد الفقهي لا علاقة له في مسألة عقيدته، والبعض الآخر منهم يبحثون عن عقيدة العلماء المعاصرين، مع أنهم الظاهر عليهم أنهم من أهل السنة والجماعة، وبعضهم يتكلف ويتتبع، فإن بلغه أن أحد العلماء أو أحد الدعاة عنده مائة محاضرة فيجلس يسمعها كلها من أجل أن يجد فيها عشرة عيوب! أشغلك الله بهذا الإنسان إلى هذا الحد؟! ومن الذي كلفك بهذا؟! وماذا تريد من هذا؟! قال: أريد أن أنظر ماذا عنده من أخطاء حتى أنشرها! فإن نشرتها فماذا فعلت؟ نشرت بين الناس أن هذا الذي يثقون فيه ويحبونه ويسمعون كلامه، وهدى الله به قوماً كثيرين -إن شاء الله- يكون فيه كذا وكذا عيب لكن وبعدها ما الفائدة؟ فقد يرتد بعض الناس عن الخير والصلاح، وقد يفسق وتقل قيمته.
إذا قلت: قيمة العلماء والدعاة فإن هذا يعم الجميع، ولا نتصور فقط أن هذا ينحصر بواحد بعينه، لا، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعرض عنه، كما قال بعض السلف حكمة عظيمة جداً يقول: [[علامة إعراض الله عز وجل عن العبد أن يشغله بما لا يعنيه]].
فبعض الناس يقول: أريد أن أتتبع فتاوى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية لكي يبينوا ما فيها من أخطاء، سبحان الله! فما أحسن هذا عند أهل البدع وعُبَّاد القبور، والمجرمين، والملحدين، والمؤولين! أن تقول: ابن تيمية أخطأ في كذا، وكذلك إذا قال: سوف أتتبع عيوب الألباني، فهذا عند أهل السنة من أكبر الأخطاء، وهو منافٍ للحكمة في الدعوة، فنحن لا نقول: إن أحداً لا يُخطئ حتى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، لكن نبه عليه! فمثلاً: إذا كتبت موضوعاً أو تطرقت إلى موضوع في بحثك أو في فتوى فقل: وأما قول شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله فيبدو لي أن الصواب خلاف ما قال، مثل سماحة الشيخ ابن باز حفظه الله في كتاب الحج -مثلاً- عندما قال: وبعض العلماء يقول: إن المتمتع يكفيه طواف وسعي واحد، فإن ابن تيمية رحمه الله قال هذا الشيء وأخطأ، لكن عندما تكتب أو تتكلم عن قضية بذاتها، أو أمام طلاب علم، أو في بحث معين فلا بأس، وهذا موجود، ولا ينكره أحد، كأن تقول: إن ابن تيمية أو ابن القيم أو ابن حجر رحمهم الله في هذه المسألة على ما يبدو لي قد أخطئوا في اجتهادهم، أو أن الصواب خلاف ما قالوا رحمهم الله وتثني عليهم، فهذه لم يعترض عليها أحد.
لكن المشكلة هي أن تقول: أنا أجمع أخطاءه وأبينها للناس، فتقول له: لماذا؟ فيقول: إن الناس يقرءون الفتاوى كثيراً، فمن أجل أن لا يغتروا أُبين لهم ما أخطأ فيه، فهذه مصلحة، لكن نظرك قصير، فعندما تنظر لهذا النظر القصير تنسى المفسدة الكبيرة، لأنه قد يقول لك بعضهم إنه لن يشتري الفتاوى، لماذا؟ تجده يقول: نظرت إلى الكتاب الذي ألفه فلان عن أخطاء هذه الفتاوى فهذا الذي جعلني لا أشتري هذا الكتاب، والآخر ألف كتاباً في أخطاء ابن حجر ويقول الآخر لن أقرأ فتح الباري لماذا؟ لأن فيه أخطاء، جميل وماذا تقرأ؟ فإن تركنا الفتاوى وتركنا ابن حجر وابن القيم والألباني والشيخ ابن باز، فكل واحد -مثلاً- عنده أخطاء، فعندها لا بد أن نرجع ونقرأ لأهل البدع وإلا إلى أين نذهب؟! فهذا من فهم الأمور وعكسها على غير حقيقتها، ولهذا قس نسبة الخطأ الذي قاله وقس الحاجة إليه بالمفاسد المترتبة، وبما ينتشر في الأرض من منكرات وإلحاد وعلمانية وفجور ودعوة إلى ارتكاب أكبر المحرمات وهو الشرك بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فعندها تجد أن كلامك ليس له معنى وعملك لا معنى له أبداً، أما إن كان من الأحياء فاكتب له، وقل له، واسمع منه.
فأحياناً الإنسان يقول قولاً لسبب ما -وهذا مجرب لدى أكثر الناس- فمثلاً في خطبة الجمعة، قد تضطر إلى أن تقول في الخطبة كلاماً ولو سألك واحد بعد الصلاة لماذا؟ تقول هناك سبب معين، أو هناك شيء معين اقتضى أقول هذا الشيء؛ لأنه حدث كذا، ثم يأتيك بتفاصيل أسباب قوله هذا الكلام، فأنت إذا سمعت من أحد شيئاً فقبل أن تنكره، اسمع منه فقد يعطيك عذره ويجعلك تقتنع بغير ما قال، وهكذا.
ثم إذا وصل الأمر إلى أنه اجتهاد، فهناك قاعدة عند العلماء: 'الاجتهاد لا يبطل الاجتهاد' وشَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله له رسالة بهذا وقررها أعظم تقرير.
ولذلك لو أن قاضياً حديث عهد بالتخرج في أدنى مراتب القضاء، أفتى وحكم في مسألة باجتهاده فلا يجوز حتى لرئيس القضاء وأكبر عالم، أن ينقض الاجتهاد بالاجتهاد، لماذا؟ لأنه اجتهاد باجتهاد، أما لو كان خالف النص فإنه ينقض الاجتهاد بالنص، أما الاجتهاد الذي فيه قولان وفيها اجتهادان، فهذا قال بقول وهذا قال بقول، فلا ينقض هذا بهذا، ولا يقتضي ذلك عداوة، ولا بغضاء، ولا شحناء، ولكن لضيق الأفق فهو الذي يحول دون استيعاب هذا.
فمثلاً: الخوارج ماذا أخرجهم؟ أصل خروجهم أنهم قالوا: كيف يختلف الصحابة؟ وكيف يتقاتلون؟ وما الحل؟ فمثلاً: قالوا: نقتل علياً ومعاوية ونقتل عمرو بن العاص، ونريح الأمة من المشكلة، وفعلاً هذا الذي أرادوه، لكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يرد أن يُقتل أو يموت إلا علي رضي الله تعالى عنه فهل هذا حل، لأنهم اختلفوا أو تقاتلوا؟ فبدلاً من أن تقول: يا أمة الإسلام! اذكروا محاسنهم، وكفوا عما شجر بينهم، ولكل منهم اجتهاده وإن تقاتلوا فكذا وكذا، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، فقالوا: لا، الحل أن نريح الأمة منهم فنقتل الثلاثة وبعدها الأمة تختار خليفة وتجتمع عليه، ثم إنهم بعدها قتلوا أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه، وأما عمرو ومعاوية فاخطؤوهم، فهكذا بعض الناس يرى أن الحل هو القتل، وليس شرطاً القتل بسفك الدم، لكن أن تقضي على العالم الفلاني أو الداعية الفلانية لترتاح من شره، فليس في هذا راحة، بل بالعكس: هذا حل الذين لا يدركون الأمور ولا يقدرونها حق قدرها، وهو فهم ناتج عن ضيق النظر من عدم الصبر، ومن عدم معرفة فقه الاختلاف وأدبه بين العلماء قديماً وحديثاً.(48/41)
الإنكار والنصح عن طريق وسائل الإعلام
السؤال
لما تكلمنا عن واجب كل منا في إنكار المنكر في الجرائد ونحوها فقد كتبت نصيحة بذلك، فهل هذا يجزئ عني، وأني أديت ما علي؟
الجواب
شكر الله لك وأثابك ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يكثر من أمثالك، فهذا أخ فاضل لما تحدثنا فيما سبق عمن يحتسب عند الله أن يكتب لبعض الجرائد على ضوء نصيحة سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين أثابه الله التي قرأناها عليكم، فهي كلمة -والحمد لله طيبة- فيها التذكير، والنصح، والأمر بالعدل، ويطلب منهم أن يستقيموا وأن ينصفوا جزاه الله خيراً.
على كل حال، فهذا أدَّى ما عليه إن شاء الله تعالى، ولو أن كل واحد منا كتب أو تكلم بمثل هذا الأسلوب المشرق الطيب، لوجد إن شاء الله الاستجابة ولأقام الحجة.(48/42)
محاربة وسائل الفساد
السؤال
ما رأي فضيلتكم في انتشار مراكز الجمال والرشاقة -مثلاً- هذه الأيام علماً بأن من يقوم بها نساء؟
الجواب
ظننا أنها قد خفتت وإذا بها قد ظهرت، واستعيذوا بالله من الفتن -نسأل الله العفو والعافية- فمحلات الرشاقة والجمال تقول: لكل من تهتم بجمالها، فخدماتنا منزلية، (24ساعة) وبدون إجازات، تجهيز عرائس، قص، استشوار، وتشقير إلى آخره، فكل هذا خدمات منزلية و (24 ساعة) وبالتلفون، اطلب وتأتي المجملة، أو المزينة هذه إلى البيت، وهذا يحصل في أرض من؟ وعند من؟ في بلاد المسلمين، وتحت أنظار من يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقرؤون قول الله تبارك وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104] أصبحت هذه هي الشغلة، وهذه الطلبيات جاءت من باريس أو نيويورك هل تظنون أن الدول الغربية تبيح الدعارة بالشكل الذي قد يتصوره بعضنا.
إنه من السذاجة أن يظن ذلك أن هذا مكان للزنى، فقد كانت موجودة حيث كان هناك مكان معد للزنى وطبيب يشرف على الزانيات والزناة ويكشف عليهم، وبعد ذلك يدفعون الأجرة، والدولة تأخذ ضريبة على ذلك، فحورب البغاء بهذا الشكل حتى على مستوى الأمم المتحدة.
لكن البغاء الموجود الآن مثل هذا البغاء، اتصل وتأتي معها أدوات الزينة والتجميل إلى أين تذهبين؟ فتقول: أنا ذاهبة إلى فلان، لأنه طلبني وهذا كرت عملي، فماذا يكون من المفاسد؟ وماذا يترتب عليه؟ وهل يجوز أن يسكت على هذا؟ فهذه والله مصيبة وإن كان من كان أصحابها، فالمنكر لا بد أن ينكر، ولا فرق عند الله بين أصحاب الثراء وأصحاب الجاه وبين غيرهم، فسيبتلينا وسيعذبنا إن لم ننكر مثل هذا المنكر، وأنا أظن أن هذا المنكر إذا أنكر فإنه بإذن الله سيمنع.
لأنه منكر واضح، مهما كان صاحبه فسيمنع بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يمنعننا من الإنكار مهابة أن يقال: إن هذا لفلان أو فلانة، فإذاً ما معنى الإيمان بالله؟! وما معنى العقيدة التي نعتقدها؟! فهل هي عقيدة نظرية، أو كلام في الذهن؟ لا! وإنما عقيدتنا أن نتوكل على الله ونشرع في هذا، فكم من منكرات أكبر لأناس أكبر أزيلت والحمد لله.
فمن كان يقول: إن فندق البلاد يقفل، ولكن الحمد لله أنكر أهل الخير وتعاونوا حتى أقفل، فهذه أتفه من فندق البلاد، وأصحابها أتفه وأقل، فتوكلوا على الله وأنكروا المنكر، ولا تخافوا ولا تخشوا في الله لومة لائم، فهذه بيعة رسولكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في حديث عبادة بن الصامت {بايعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وعسرنا ويسرنا، وأن نقول الحق ولا نخاف في الله لومة لائم} قل كلمة الحق بدليلها وبأسلوب حسن وألقها، وستجد القبول بإذن الله.
ونحن في أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي مجتمع خير، فستجد من يقبلها في الإمارة أو الشرطة أو الهيئة أو في المسجد، المهم أن تقولها ولا تمنعك مهابة الناس من أن تقولها.(48/43)
ترك ما يؤدي إلى مفسدة
السؤال
إذا كان الصلح بين الأخوين يؤدي إلى مفسدة، فما الحكم؟
الجواب
كل شيء يترتب عليه مفسدة أعظم منه فيترك.(48/44)
اتهام النبي بسماع الغناء
السؤال
هل صحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يستمع إلى الغناء كما نشر في جريدة الأخبار؟
الجواب
آخر ما نختم به التنبيه على جريدة الأخبار وهي من الجرائد الذي تطبع أكثر من (1.
500.
000) يومياً تفتري على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعنوان كبير (النبي كان يستمع للغناء) -أعوذ بالله- ولا من حسيب ولا رقيب، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سمع الراعي، وضع يده هكذا، وهؤلاء يقولون: إنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يستمع الغناء، والذي يسمع هذا يعرف أنه الغناء الموجود الآن في الإذاعة وفي التلفزيون وهذا من الكذب والبهتان.(48/45)
واجبات الداعية
في هذه المادة يوجه الشيخ نصيحة للداعية إلى الله بأن لا تشغله الدعوة إلى الله عن مراجعة نفسه وتذكيرها، موضحاً أن التذكر والتذكير من المبادئ الإيمانية المهمة، مبيناً ما يجب أن يُذكِّر به الدعاة إلى الله عز وجل أنفسهم به من الإخلاص لله عز وجل، وطلب العلم الشرعي.
والصبر على الابتلاء.(49/1)
المذاكرة مبدأ إيماني
قال الشيخ: سفر الحوالي حفظه الله.
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على أفضل خلق الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فنشكر الله تبارك وتعالى على توفيقه وامتنانه وعفوه ونعمه.
من أصول ومبادئ التزكية الإيمانية، أن العبد المؤمن يتذكر ويُذكر، فالألفاظ لا جديد فيها، ولكن في المعاني يجب أن تُذكر وتتذكر، وإن كانت محفوظة ألفاظها عند السامعين، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى ومن عظيم التربية الإيمانية، والتزكية الربانية والنبوية، أن يُذكر الإنسان وأن يتذكر.
فالتذكير لا يشترط له بالضرورة أن يأتي بالجديد، لكن التذكير لا بد منه؛ لأن الإنسان إذا استغرق في العمل وانهمك فيه، ربما ينسى أو تخفى عليه أساسيات وضرورات، كانت حاضرة حية في قلبه وشعوره عند بداية العمل.(49/2)
مكانة الإخلاص
ومن ذلك الإخلاص لله تعالى في الدعوة، هذا كله لا يخفى علينا أهميته -والحمد لله- لكنه إذا انشغل في غمار الدعوة، واستغرق أوقاته فيها، وهي مشكلات كثيرة، وما من شيء تعطيه أوقاتك أو عمرك وما لديك، إلا وتجده يتسع، وخاصة الدعوة وطلب العلم، فمهما بذلت لها فهي أوسع وأعظم من أن يحيط بها جهدك أو وقتك.
ومع هذا الاستغراق وهذه السعة ينسى الإنسان من يذكره بالله تعالى، ويذكره بالإخلاص لله تبارك وتعالى، ومن هنا كان أول ما يجب أن يذكر به بعضنا بعضاً هو الإخلاص، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى}.
فالواجب علينا -جميعاً- أن نجعل أعمالنا وخطراتنا وسكناتنا وأقوالنا، وكل ما نأتي ونذر، خالصاً لله تبارك وتعالى لا تشوبه شائبة، وبذلك نحقق الروح التي تفرق بين الصورة والحقيقة، بين التمثال المنصوب وبين الإنسان الحي الذي خلقه الله تبارك وتعالى في أحسن تقويم.
فإن العمل بلا إخلاص سواء أكان تأليفاً، أم جهاداً، أم كان دعوةً، أم أي عمل آخر، فهو كالتمثال أو الدمية التي لا روح فيها ولا حياة، وإنما حياة الأعمال بالإخلاص لله تبارك وتعالى ومراعاة تقوى الله ومراقبته فيها.(49/3)
العلم الشرعي
والأمر الآخر الذي لا بد منه هو: العلم، فإن أساس الدعوة إلى الله تبارك وتعالى على منهاج النبوة، هو العلم.
ولهذا جعل الله تبارك وتعالى العلم قبل القول والعمل فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19].
فالعلم هو الأساس، ولا نعني أي علم وإنما العلم المقصود هو: العلم بكتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أولاً وقبل كل شيء، ثم العلم بسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم بآثار السلف الصالح ومنهجهم وسيرهم وحياتهم في الدعوة إلى الله، ثم ما كتبه الأئمة والدعاة المجددون، الذي أقام الله تبارك وتعالى بهم الحجة، وأظهر المحجة في أزمنة الغربة وعصور الانحطاط رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
وهذا لا بد منه، وما تشاهدونه وما تفرحون به إنما هو ثمرة من ثمرات الحرص على العلم، ولا سيما علم السنة النبوية المطهرة التي ضيعها كثير من المسلمين في هذا الزمن، ولولا هذه الصحوة الطيبة المباركة، وما قيض الله تبارك وتعالى لها من علماء وأئمة مجددين في هذا الفن، لكان الناس في شأن السنة في حال عجيب.
ففي القرن الماضي وما قبله اشتدت غربة علماء السنة جداً، حتى إنك تجد العلماء الكبار من أكبر جامعة في العالم الإسلامي يحفظون القرآن عن ظهر قلب في مراحل متقدمة من العمر، ولكنهم لا يكادون يميزون الضعيف من الصحيح من الموضوع، ولا يعلمون شيئاً في الحديث، وإذا تكلموا أو وعظوا أو كتبوا، خلطو الموضوعات والأباطيل بالصحاح، ولم يميزوا بين شيء منها، فكان في ذلك آفة ومدخل عظيم للشيطان.
إذا فسد العلم فسدت العقائد والأعمال، ولا خير فيها بعد ذلك، فالحمد لله الذي منَّ على هذه الصحوة الطيبة بهذا العلم العظيم، وأحيا في هذه الأمة الاهتمام بحفظ سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولاً وعملاً وقدوةً.
وما نشاهده في هذه الأيام من التمسك بالسنة في الصلوات في المساجد، وفي المظهر، لم يكن موجوداً قبل خمس عشرة سنة، ولو كنت ذهبت إلى مساجد جدة والرياض والقصيم، لا تجد التمسك بالسنة مثل هذه الأيام، وإنما تجد بعضاً من العلماء الذين لديهم تمسك بها على حال غربة.
أو تجد الذين يتمسكون بالمذهب، وخاصة مذهب الإمام أحمد رحمه الله والمنسوب له أقرب إلى السنة، لأن أصول الإمام أحمد هي أقرب المذاهب إلى موافقة السنة وكذلك في الفروع.
لم يكن عن اتباعهم للسنة مباشرة، ولكن كان عن اتباع للمذهب الحنبلي في الحقيقة، وعلى هذا كان كثير من العلماء رحمهم الله وجزاهم الله خيراً، لكن الحمد لله هذه الصحوة الطيبة أصبحت تتمسك بالسنة، ولا ننسى العلمين المجددين فيها وهما سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وفضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، ومن سار على نهجهما، فإنهم جددوا في هذا الجيل، إحياء السنة رأساً بغير تقيد بمذهب معين، وهذا من التجديد الذي نفع الله تبارك وتعالى به الأمة، والحمد لله على ذلك.(49/4)
الصبر على الابتلاء
والأمر الثالث بعد الإخلاص لله تعالى وبعد طلب العلم هو: الصبر على ما يُبتلى به الإنسان في طريق دعوته إلى الله تبارك وتعالى، فإن الله تبارك وتعالى يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31].
هكذا مضت سنَّة الله، ألاَّ يبعث نبياً إلا وجعل له أعداء، وقد قصَّ الله -تبارك وتعالى- علينا في القرآن من ذلك، مما جرى وحدث مع نوح عليه السلام أو هود أو صالح أو إبراهيم أو لوط أو شعيب أو موسى أو عيسى أو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كل من حدثنا الله -تبارك وتعالى- عنه أو حدثنا عنه رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا بد أنهم وجدوا من يعاديهم من الملأ المستكبرين، ومن الجهال الأغرار، ومن المستهزئين، الذين لا همّ ولا شأن لهم في الحق، ولا يريدون الحق، وإنما غاية ما لديهم الاستهزاء والعبث والاستخفاف بكل من يدعوهم إلى الله تبارك وتعالى.
فهم يرون دلائل النبوة وآياتها واضحة جلية، ومع ذلك يُعرضون عنها ولا يبالون بها، ويستهزئون بأنبياء الله ورسله الكرام.
هذا في الأنبياء، فليتأسَ بذلك الدعاة، وليتأسَ بذلك كل من سار على منهاج النبوة.
وأعظم الرجال في هذه الأمة وأفضلهم وخيرتهم هم: الشيخان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
ومع ذلك لو نقب الإنسان وقرأ في الكتب، ورأى في أحوال الأمة الذين ينتسبون للإسلام، لعجب كل العجب مما تقوله الخوارج والروافض والباطنية وأشباههم في حق هذين الشيخين الجليلين الصحابيين للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته، وخليفتيه بعد مماته، فماذا تتوقعون أن يقال فيمن هو دون هؤلاء؟! فالواجب الصبر، والواجب أن يتخلق الداعية بأعلى درجات العفو والصفح والحلم والتجاوز، وألاَّ ينتقم لنفسه، وإنما يعلم أنه إن أصيب من سلطة مسئولية أو من كان ذا كبر وشأن عند الناس، أو سفيه جاهل متطاول، أو من قريب أو بعيد أو حتى من الزوج أو الابن، فكل ذلك إنما هو امتحان وابتلاء، فليصبر على ذلك ليرفع الله تبارك وتعالى به درجته وليثبته على الحق، وليكفر عنه من خطاياه.
فإن العبد المؤمن لا يأمن على نفسه أن يعمل عملاً، فتكون فيه شائبة لغير الله -عز وجل- أو يقصر في أمر أو يدعو الناس إلى طاعة ولا يأتيها، أو يضعف ويفتر عزمه فيها، فكل ذلك يحتاج إلى المكفرات، وهذه المكفرات هي من نعمة الله -تبارك وتعالى- على العبد، ومن ذلك كما قال له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما يصيب العبد من هم ولا نصب ولا حزن إلا كان كفارة لخطاياه} أو كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيكفر الله تعالى عنه بهذه اللأواء وبهذه المصائب وبما يعرض له.
فلذلك لا يكرهها المؤمن ولا يحقرها، وإنما يحمد الله -تبارك وتعالى- عليها وعلى كل أحواله، وليجتهد في الدعوة إلى الله -عز وجل- على ما أمر الله {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
هذا ما أردت أن أقوله، وكل ما قلته لا جديد فيه، أسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا هداة مهديين صادقين خاشعين قانتين إنه سميع مجيب.(49/5)
الأسئلة(49/6)
دورنا في مواجهة التنصير
أجاب على هذا السؤال فضيلة الشيخ يحيى اليحيى:
السؤال
ما هو دورنا في مواجهة التنصير، وخاصة في هذه المدينة التي تعج بالنصارى، خاصة أنه في بداية عام ميلادي؟
الجواب
ما يتعلق بقضية التنصير فأنا أحيلك على شريط لفضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة ذكر فيه خمسين وسيلة وطريقة لمعاجلة التنصير.(49/7)
وسائل الدعوة اجتهادية
أجاب على هذا السؤال فضيلة الشيخ يحيى اليحيى: سؤال آخر: وسائل الدعوة هل هي توقيفية أو اجتهادية؟ وأما فيما يتعلق بأساليب الدعوة فقطعاً أساليب الدعوة ليست توقيفية، إنما هي اجتهادية تختلف على حسب الزمان، وعلى حسب المكان.
فالعلماء يجتمعون ويتشاورون فيما يرونه، ولهذا قال الله عز وجل: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] فمنطوق هذه الآية أن الأمور لابد لها من مشورة لأنها تتعلق بعامة المسلمين، ويفهم من هذه الآية أن بعض الأمور -والتي منها الأساليب الدعوية- ليست توقيفية، وإنما هي اجتهادية، فيجتهد العالم كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: {إذا اجتهد الحاكم فأصاب له أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد} والحاكم ليس هو الإمام الأعظم للمسلمين فقط، بل قد يكون الحاكم إماماً، وقد يكون الحاكم قاضياً، فلا بد لهذه الأمور من اجتهاد ليس فردياً بل جماعياً فنقوم بذلك وخاصة في هذا الزمن، والطرق والمناهج تختلف، ولكن الاختلاف هذا هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد.
هذا الذي أراه وصلى الله على محمد وآله وسلم.(49/8)
تعليق على عيد الكريسمس
يجب علينا الوقوف ضد أي مظهر مهما قَلْ من مظاهر الانحلال أو الفسق أو ترك السنن الظاهرة، فما بالكم كيف يكون الواجب في محاربة إعلان شعائر الكفر الظاهرة التي ينطبق عليها قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من تشبه بقوم فهو منهم}.
وقوله: {لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة} فهذا لا شك أن أعظم ما يجب على المسلم إنكاره.
والمنكر الأكبر الذي يجب أن ينكر هو الكفر وتوابعه، وشعائره، ومظاهره، وهذا من مظاهر الكفر، ولو سكت عنها لوجدنا أنفسنا لسنا بمسلمين ولا نصارى -والعياذ بالله- فيبقى عند الناس أداء الصلاة والإعلان بها، وبعض الأمور التي تدل على أنهم مسلمون، ولكن بتعظيم شعائر الكفر ورفع الصلبان، والاحتفال بأعياد النصارى، وما أشبه ذلك.
يكون فيهم أيضاً نوع من النصرانية، فتصبح الأمة المصطفاة التي قال الله -تبارك وتعالى- فيها {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32] حتى الظالم لنفسه في هذه الأمة داخل في الأمة المصطفاة، تصبح مسخاً تتخلق بأخلاق من أخلاق الأمم الكافرة التي تغزوها كل طائفة منها بشعيرة من شعائرها، حتى على الناقلات الصغيرة تجدون اللاصقات، يكتبون ( I LOVE) الفلبين أو تايلاند، ويصبح البلد مملوءاً بهذه الشعارات التي قد لا يفطن لها كثير من الناس، أو يظن أنها مجرد أمور شكلية عابرة، لكن في الحقيقة يصبح البلد بعد ذلك فيه كثير من مظاهر الكفر والشرك والعياذ بالله.
وهذا من أعظم ما يجب على المسلمين التعاون والتضافر لمحاربته، ورحم الله شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية عندما تكلم وألف كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم.
والحمد لله الجهود التي بُذلت قد أثمرت، فوزارة التجارة استجابت وأصدرت الأمر بمنع بيع بطاقات التهنئة، وهذا مكسب، ويجب أن نزيد عليه في الإنكار، ونجعله في الحيز الواقع.
ثم يجب علينا أن نحارب المظاهر التي قد تفشو وتنتشر في تلك المناسبات عندهم، من إيقاد الشموع، ووضع شجرات الميلاد على الشرفات وما أشبه ذلك، من الاحتفالات، وهذا من واجب الإخوان في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالتعاون معنا جميعاً.
ثم كل منا يجعل من نفسه عيناً وحارساً لهذا الدين وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأينما رأيت علماً من أعلام البدعة ارتفع فالواجب أن تبلغ عنه وأن تحذر منه سواء كان في شركة أم في مؤسسة أم في أي قطاع من القطاعات، خاصة قبل أن تقع، فإنهم يبدؤون يهيئون لهذه الأيام، لأنها عندهم وبالنسبة لهم فرحة العام كله.
فيبدؤون يهيئون لها من قبل ما لا يقل عن عشرة أيام، فلذلك يجب أن نحذر في هذه الأيام ونتنبه إلى هذا، فإذا بلغنا عن شركة أو مؤسسة أو إدارة أو مدير إدارة قد يكون مسلماً، لكن يحب أن يهنئهم أو يقرهم، فنبدأ من الآن في الإنكار، وليس إذا وقع فقط، لأنها ليلة أو ليال ولا نستطيع حينئذٍ أن نُوزع الجهود، فربما لا نستطيع أن نبين أو نتكلم، وإذا تكلمنا فلا يُستجاب لنا، وخاصة إذا كلمت بعض الجهات وجاءت المكالمات أن مائة شركة عندها حفل -مثلاً- تقول: والله لا نستطيع إيقاف مائة.
ولكن إذا بدأنا من الآن وما بقي إلا ما فات عنا ولم نعلم به، أو من يعالج فعادة يكونون قليلاً.
فإذا كانوا ثلاث شركات أو أربع تعمل والباقي التزم، فلا شك أن الباقي يهيئ من بيده الأمر، فيمنع من إقامة هذه الحفلات وإحياء هذه الشعائر الكفرية وأشياء أخرى لا تخفى عليكم -إن شاء الله- إنما المقصود أنه يجب على كل أحد منا أن يكون حارساً وعيناً لهذا الدين وشعائره وأعلامه وتعظيم ذلك، نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يُعظم شعائر الله إنه سميع مجيب.(49/9)
موقف المسلم تجاه المنكر
أجاب على هذا السؤال فضيلة الشيخ يحيى اليحيى:
السؤال
حديث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب ولكنه رضي بما تحقرونه من أعمالكم} رأينا التبرج في بعض الأماكن قد تفشى، والمنكرات وصلت الذروة، لا سيما العمالة الكافرة، خاصة النساء من العمالة الوافدة يكشفن الرأس والساقين، ونحن عندما نرى مثل هذا نقوم بإنكاره على الفور، ولكن سؤالنا هل إذا أنكرنا، ثم لم يلتزم هؤلاء النساء بالغطاء، والهيئات ليس عندهم أمر، فهل في سكوتنا بعد ذلك إقرار لذلك المنكر؟
الجواب
الحديث {إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب} هو حديث انفرد به مسلم عن البخاري من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ولفظه {إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن بالتحريش بينهم}.
أما ما يتعلق بموقف المسلم تجاه منكر لم يتغير، فهو موقف الرسول عليه الصلاة والسلام، عندما قال الله عز وجل له {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99]، فأنت في حكم الرسول؛ لأنك تبلغ عن الرسول عليه الصلاة والسلام، فما عليك إلا أن تبلغ هذا الحق للمرتكب للمنكر.
ثم أيضاً لا تبلغه إنكار المنكر مرة واحدة فحسب، وإنما تعود مرة أخرى لعله أن يتذكر أو يخشى، ثم مرة ثالثة تدعوه بالحكمة والموعظة الحسنة.
وإذا رأيت أنه معاند ومكابر فعند ذلك برئت ذمتك، وليس عليك شيء، ولا يتضمن هذا إقراراً عندما تترك هذا المرتكب للمنكر.
لكن متى يكون الإقرار؟.
عندما تراه يصول ويجول في المنكرات وأنت ساكت عنه.(49/10)
الشركات المعاصرة في ضوء الشريعة الإسلامية
في هذه المادة يتحدث الشيخ عن مبدأ ظهور الشركات المساهمة على مستوى واسع في الغرب، وارتباط ذلك بالاستعمار الأجنبي، وأثر ذلك في ظهور الاشتراكية وردة الفعل بعد ظهور الاشتراكية بتقنين الشركات، وإنشاء المؤسسات العامة، وتكلم عن كيفية دخول القوانين الغربية إلى البلاد الإسلامية، وحُكْم ذلك موضحاً لجملة من المآخذ على نظام الشركات، ثم ختم حديثه بذكر بعض الحلول المقترحة للتخلص من هذه المعضلات.(50/1)
أحكام الشركات الحديثة(50/2)
أهمية البحث عن أحوال الشركات
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن موضوعنا طويلٌ ومهم، فأرجو أن تحضروا أسماعكم وأذهانكم لتستوعبوا ما تستطيعون أن تستوعبوه، فهذا الدرس بمثابة انطلاقة وبدايةٍ لدراسةٍ أوسع وأشمل يقوم بها كل منا بالإضافة إلى بعض الجهات التي قد نقترح أن تقوم بواجبها في هذا الشأن.
أيها الإخوة: إن الشركات -ولا سيما الشركات المساهمة، وهي أهم الشركات التي ستكون دراستنا لها أكثر- قد انتشرت وتنوعت وتشعبت في مجتمعنا بسبب ما أنعم الله به علينا وفتح لنا من كنوز الأرض، حتى قل أن تجد إنساناً غير مساهمٍ في شركة أو سائل عن مساهمةٍ في شركة، ولا أستطيع أن أحصي الأسئلة التي تأتيني يومياً شفهياً أو خطياً أو هاتفياً عن هذا الموضوع، فكيف بمشايخنا وعلمائنا! لا شك أن هذا يدل على أن قسماً كبيراً جداً من الناس يريد أن يعرف حكم الله في هذه الشركات، وأحكامها وأنواعها، ولا سيما المساهمة منها كما ذكرت.
وهذا الذي دفعني إلى أن أبين وأوضح ما أراه وأعتقده في هذا الشأن، وهناك سبب آخر ربما كان أهم من الأول، وهو أن من يفتي أو يتحدث إلى الناس، أو يعظ أو يخطب متحدثاً عن أحكام الشركات، ومحذراً مما فيها من حرام، إنما هو في الحقيقة متكلمٌ عن حالات واقعة، وجزئيات معينة يسأل عنها السائلون فيفتيهم من خلال ما يعلم؛ ولذلك نجد أن هذا لا يعطي الحل الشامل الجذري.
ولقلة ما رأيت وما سمعت من معالجةٍ جذريةٍ لأصل موضوع الشركات، رأيت أنه لا بد أن أتحدث ببعض ما يوفقني الله تبارك وتعالى له، ثم أترك البقية لإخواننا المتخصصين في هذا المجال ممن جمع بين العلم الشرعي وبين الدراسة الاقتصادية، وفوق ذلك لعلمائنا الأفاضل الذين لا بد أن يدلوا بدلوهم، وأن يقولوا كلمتهم الفصل في هذه القضايا.
فالقضية ليست قضية جزئيات ومسائل متكررة يومية يسأل عنها الناس، ما حكم كذا؟ وما الحكم إن ساهمت في شركة كذا؟ وما حكم شركة كذا؟ ولو استمررنا على هذه الحالة سنظل إلى الأبد لا تتغير أمورنا وأحوالنا إلا تغيرات جزئية معينة بقدر ما يقتنع به بعض الناس؛ وكثيرٌ منهم لا يسأل، وكثيرٌ منهم قد يسأل ولكنه لا يمتثل لجواب المفتي.
إذاً لا بد من حل جذري لمسألة الشركات؛ وبيان حكم الله تبارك وتعالى فيها من واقع نظام الشركات السعودية وهو النظام أو القانون المطبق في هذه البلاد على الشركات.(50/3)
نشأة الشركات
قبل أن ندخل في تفصيل هذا الكلام؛ نتحدث عن نشوء الشركات، ولا سيما الشركات المساهمة في العالم، فنقول: إننا لا نستبعد أن يكون مجتمعنا الإسلامي قد عرف أنواعاً من الشركات المساهمة، أي التي يكثر فيها المساهمون؛ لأن الشركات وجدت في الجاهلية ثم في الإسلام، وفي أثناء توسع ونمو الحضارة الإسلامية وتعاملها مع الأمم وجدت الشركات المعروفة التي بينها وفصلها علماؤنا في كتب الفقه (كشركة العنان، وشركة المضاربة، وشركة المفاوضة، وشركة الوجوه) وذكروا منها (شركات الأبدان، وشركات الأموال إلى غير ذلك) فلا تجد كتاباً من كتب الفقه إلا وفيه أحكام لهذه الشركات.
فمن الطبيعي أن يوجد نوعٌ من الشركات المساهمة بأن يجتمع طائفة كبيرة من الناس ويكونوا شركة، ولا نستبعد أن يكون ذلك قد وقع؛ لأن هذا من الوقائع العادية التي لا تؤرخ؛ لكن هذا يختلف اختلافاً كثيراً عن الشركات في الواقع الغربي، وفي القانون الغربي الذي يحكم حياة الناس، والذي استوردناه وهو المطبق الآن في العالم الإسلامي مع الأسف الشديد.(50/4)
نشأة الشركات في الغرب
نشأت الشركات في الغرب نشأةً استعمارية، وأول ما يذكرون في تأريخها شركة تسمى (شركة المغامرين المكتشفين الإنجليز) ثم ظهرت فيما بعد شركة (الهند الشرقية) وهي شركة بريطانية احتكرت تجارة الهند، وأيضاً شركة الهند الشرقية وهي شركة هولندية، احتكرت التجارة في جزر الهند الشرقية - أندونيسيا وما والاها.
ثم ظهرت الشركات التي نشأت في مصر؛ لاستعمار مصر والقبض على تجارة القطن فيها؛ ثم شركات الرقيق التي كانت في إفريقيا والتي تبيع الرقيق لـ أمريكا وغيرها، ثم ظهرت شركات البترول وسيطرت -أيضاً- على بترول المنطقة، وتحكمت في إخراجه وتوزيعه وتسويقه بنسب معينة مع الحكومات.(50/5)
ارتباط الشركات بالاستعمار وآثاره
نلاحظ أن وجود الشركات المساهمة يرتبط تاريخياً بالاستعمار وبالاحتكار وبالمذهب الرأسمالي الذي لا يحل حلالاً ولا يحرم حراماً؛ وإنما هدفه الحصول على أكبر قدرٍ من الربح بأقل قدر ممكن من المال أو الجهد، ونتيجةً لانتشار هذه الشركات المساهمة؛ وما صاحبها من انتشار الاحتكار، وانتشار الغبن، والتفاوت الطبقي الفاحش بين الأغنياء وبين الفقراء، وما كان لهذه الشركات -أيضاً- من نفوذ على الدول يزيد من شدة التفاوت الطبقي ومن الظلم؛ نشأت الاشتراكية، والماركسية.
وليس الوقت مقام تفصيل في الاشتراكية، لكن نقول: كيف أثر نشوء الاشتراكية على المجتمع الرأسمالي والشركات المساهمة الكبرى؟!(50/6)
آثار ظهور الاشتراكية
أثر ذلك أن الدول الغربية في شمال غرب أوروبا بالذات خشيت على نفسها من الثورات العمالية الاشتراكية، فأخذت تضع قيوداً معينة على النظام الاقتصادي وعلى الشركات؛ ومن هنا ومع الزمن تحولت أكثر الشركات من شركات اتفاقية عقدية بين الناس إلى شركات قانونية يحكمها القانون ويحكمها النظام الذي تضعه الدولة، واحتاجت الدول الغربية إلى إنشاء ما يسمى بالمؤسسات العامة، وهو نوعٌ من أنواع الشركات، يدرأ عن الدولة خطر الثورات والاضطرابات العمالية؛ لأن العمال يساهمون فيها، وفي نفس الوقت تظهر الدولة بمظهر العدالة الاجتماعية مع المحافظة على النظام الرأسمالي في حقيقته وفي لُبِّه، وهكذا كانت الشركات المساهمة.
ولذلك فإن الذي يظهر وهو واضح جليٌ في إدارة الشركات المساهمة وفي أعمالها؛ أن الذي يقبض على زمام الأمور إنما هو مجلس الإدارة؛ فمليون من الناس أو أكثر يشعرون أنهم مساهمون في الشركة، وأن لهم حق التصويت كما يريدون، فهذا يعطيهم رضاً وقناعة بها، ومن المستحيل أن يثور أحد عليها؛ لأنه يساهم فيها ولو بسهم واحد، فيشعر أنها له، ولا يريد أن تخسر؛ لكن أعضاء مجلس الإدارة -وهم دائماً فئة معينة محدودة من الناس- تحتكر كل شيء وتعمل بكل شيء.
ولهذا يقول بعض الاقتصاديين: إن هناك أكذوبتين في القرن العشرين، أكذوبة الديمقراطية: وهي أن الشعب يحكم نفسه بنفسه والذي يحكمه هو في الحقيقة فئة متسلطة معينة باسم الديمقراطية.
والثانية: أكذوبة مجلس الإدارة في الشركة المساهمة أو في المؤسسات العامة، لأنه يتصرف في كل شيء، والمساهم لا يدري عن شيء.
فبهذا المنهج العملي كانت ظروف نشأة الشركات، وخاصة (الشركة المساهمة) في أوروبا.(50/7)
القوانين الغربية تغزو البلاد الإسلامية
ما القانون الذي يحكم هذه الشركات؟! أول ما عرف عن قانون مفصل مكتوب في أوروبا هو قانون (نابليون) الذي أظهره في مطلع القرن التاسع عشر من عام (1804م) إلى عام (1807م) تقريباً.
هذا القانون هو الذي استوردته البلاد العربية، ودخل مع الاستعمار عندما قدم البلاد العربية فعم أكثر أنحاء العالم الإسلامي، وكانت الدولة التي تحكم العالم الإسلامي دولة الخلافة وهي الدولة العثمانية، فالدولة العثمانية استوردت من القانون الفرنسي ومن غيره من القوانين أحكاماً كثيرة؛ منها (القوانين التجارية) وكان القناصل الغربيون يحكمون بأحكام القوانين الغربية في بلاد الإسلام، وفي ولايات دولة الخلافة كـ الشام ومصر، والعراق وغيرها، ونتيجة لذلك جاءت هذه القوانين إلى بلاد العالم الإسلامي.
زيادةً على ذلك؛ أن مصر وهي أهم وأكبر الدول الإسلامية في هذا الشأن أصدرت دستوراً وضعياً سنة (1923م)، وقبله أصدرت عدة مراسيم أو أنظمة للحكم لكن أهمها هو هذا الدستور، ثم بعد ذلك وضعت القوانين ومنها وضع القانون المدني المصري الذي هو أكبر وأهم القوانين في العالم العربي، وهو باعتراف واضعه الأكبر (السنهوري) ربيبٌ للقانون الفرنسي ومشتقٌ منه ومأخوذ عنه، وله اعترافات قالها -لا يتسع المقام لذكرها- في ضرورة أن تعود الأمة للشريعة الإسلامية، وأن تستمد من تراثها ومن عاداتها وعرفها أحكامها وقوانينها.(50/8)
صدور نظام المحكمة في المملكة
هذا القانون الفرنسي والذي أصبح مطبقاً في العالم العربي، ويسمى باسم (القانون المدني المصري) (والقانون المدني السوري) (والقانون المدني العراقي) (والقانون المدني الأردني) هو الذي اشتق منه نظام الشركات السعودي، ونكون الآن قد وصلنا إلى الحديث عن بداية نظام الشركات في المملكة وكيف صدر.
أصل نظام الشركات في المملكة في الحقيقة يرجع إلى نظام المحكمة التجارية الذي صدر عام (1350هـ) واسمه (نظام المحكمة التجارية)، وصدر في تلك الفترة وكان موافقاً في أكثر أوكل مواده لقانون التجارة العثماني، الذي هو منقول عن قانون التجارة الفرنسي.(50/9)
أسباب صدور نظام الشركات في المملكة
لما وضع قانون الشركات؛ أُلغي الفصل المتعلق بالشركات من نظام المحكمة التجارية، وأُحل محله نظام الشركات المعمول به حالياً، والذي أُخذ أخذاً مباشراً من القانون المدني المصري، ولا بأس أن نقرأ لكم المقدمة من " نظام الشركات " وهذا النظام موجود، ويباع بخمسة ريالات في وزارة المالية، لنعرف أسباب وضع هذا النظام:- يقول في المقدمة: ' بالرغم من أن الشركات التي أسست في تلك الفترة القصيرة -أي أيام الملك عبد العزيز وما بعده- من الزمن قد شملت في أعراضها كافة أوجه النشاط المالي والتجاري والصناعي، وبلغت رءوس الأموال المملوكة لها عدة مئات من ملايين الريالات، وزاد إقبال الدوائر الحكومية والأفراد على التعامل معها، فإن نصوص الأنظمة التي تحكمها لا تزيد حتى الآن على بضع مواد وردت في نظام المحكمة التجارية، لم تكن كافيةً لمواجهة كافة المسائل المتعلقة بالشركات، سواء عند إنشائها، أم خلال مزاولة نشاطها، أم عند انقضائها وتصفيتها، وإزاء هذا القصور، لجأ الأفراد لتأسيس شركاتهم ومعالجة أمورها إلى اقتباس القواعد المعمول بها في الدول الأخرى، فاختلفت السبل، واختلطت الأمور في كثير من الأحوال، اختلاطاً جعل مهمة الوزارة -أي وزارة التجارة- في مراقبتها والإشراف عليها عسيرة، ومن هنا بدت الحاجة ملحةً إلى وضع نظامٍ شاملٍ للشركات ينص على الأحكام الواجبة الاتباع في تأسيسها ومزاولتها نشاطها إلى آخره ' فالمشكلة التي شخصها النظام بنفسه هي أنه لا يجد عندنا تشريعاً يضبط الشركات مع تشعبها وكثرتها إلا بضعة مواد في نظام المحكمة التجارية؛ فلهذا احتجنا إلى وضع نظام شامل.
إذاً: فأول سؤال يتبادر إلينا جميعاً هو: أين الشريعة الإسلامية؟ وهل أحوجنا الله إلى هذه المواد القانونية؟(50/10)
كمال الشريعة الإسلامية في أبواب المعاملات
إن عندنا -ولله الحمد- الشرع الكامل المطهر، الذي أكمله الله تبارك وتعالى، كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] والذي ما ترك شاردةً ولا واردةً إلا ولها فيه حكمٌ؛ إما نصاً أو استنباطاً؛ والذي لا خيار لنا في أن نأخذ به أو أن نتركه أبداً، قال سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60] ولقوله أيضاً: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10] ويقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] وكل الآيات التي تذكر موضوع الكفر بالطاغوت كما ذكر الله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] أي: أن الكفر بالطاغوت ركن شهادة أن لا إله إلا الله.
فالقضية الأساسية ومدخل الخطر: أننا نظرنا إلى الوضع والحال المعمول به في البلاد الأخرى؛ فاستوردنا قوانينها واستوردنا مؤسساتها وشركاتها، وتركنا الرجوع إلى الشرع، وقد فصلت أحكام ذلك تفصيلاً؛ وأكثر من ذلك ألماً وأسفاً أن يقال كما في كتاب مبادئ القانون الذي يُدرَّس في كلية الاقتصاد والإدارة بالجامعة هنا في جدة وفي غيرها ' إن الشريعة الإسلامية لم تنظم المعاملات، بل تركتها للناس ' وإن أيَّ طالب علم يقرأ في المغني، أو في فتح الباري، أو في شرح النووي، أو أي كتاب من كتب الفقه أو شروح السنة أو التفسير، يجد أن آيات الأحكام وأحاديث الأحكام في المعاملات، تستغرق قسماً أكبر من القسم الذي يسمونه العبادات -أي الصيام والصلاة والطهارة والحج والزكاة والصوم- وفي الطبعة المحققة -الآن- من المغني وفي الجزء السابع فيه كتاب (الشركات) من (صـ109) إلى (صـ195)، هذا غير ما تتعرض له كتب الفقه من أحكام الشركة في أبواب الصلح، وفي أبواب البيع، وفي أبواب الميراث، وفي أبواب الشفعة، وفي أبواب كثيرة من أبواب الفقه التي لها علاقة بالشركة.(50/11)
حكم تحكيم القوانين
لم يتركنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هملاً ولا عبثاً، ولا أيتاماً ضائعين نبحث عما يقوله الغربيون أو نستورد ما يصدرونه لنا من فتات أفكارهم وقوانينهم.
ومن هنا انبرى سماحة الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم -رحمه الله تعالى- وتصدى لهؤلاء، وأصدر الفتوى الشهيرة التي هي بعنوان: تحكيم القوانين، ولعلكم قرأتموها جميعاً، وله مع سماحة الشيخ عبد العزيز ومجموعة من العلماء فتوى قريبة من هذه في ألفاظها وفي معناها، كلاهما موجود في الجزء الثاني عشر من فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم في كتاب القضاء منه.(50/12)
المآخذ على نظام الشركات
أصل الخلط الذي وقع، هو كون النظام ينص على: ' إننا لا نخالف الشريعة، وإن النظام لم يحل حراماً ولم يحرم حلالاً' فهذا غير صحيح، وسنبين كيف أنه خالفه ولم يلتزم به، بعد أن نبين الجوانب الأخرى من المآخذ على هذا النظام؛ وبعد أن عرفنا المأخذ الأول وهو أنه مستمد من القوانين الوضعية لا من الشريعة.
المأخذ الثاني: أن واضع نظام الشركات ليس العلماء، وليس لجنة شرعية، وإنما هي لجنة من القانونيين، إذاً استمداده ليس من الشريعة، وواضعه ليس من المتخصصين في علوم الشريعة.
المأخذ الثالث -وهو خطير ومهم جداً-: أن التحاكم إلى أحكام الشركات، والرد عند التنازع في أمور الشركات ليس إلى المحاكم الشرعية، وإنما إلى هيئةٍ قانونيةٍ خاصة كانت تسمى المحكمة التجارية، ثم غيرت عدة مرات وبعدة أسماء: هيئة حسم المنازعات التجارية، أو هيئة فض المنازعات التجارية، ثم خصصت لها هيئة باسم هيئة حسم المنازعات في الشركات، وتغيرت مراراً عديدة في تشكيلها وفي أعمالها.
ونقتصر على نص واحد من سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعرض فيه لنقد نظام الغرفة التجارية والمحكمة التجارية وهو موجود في (صـ251) من الجزء الثاني عشر من الفتاوى كما أشرنا.
يقول الشيخ رحمه الله: 'وقد انتهى إلينا نسخة عنوانها: نظام المحكمة التجارية بـ المملكة العربية السعودية المطبوع بمطبعة الحكومة بـ مكة عام (1369هـ) للمرة الثانية، ودرسنا قريباً من نصفها - (من) هذه من كلامي ليستقيم اللفظ- فوجدنا ما فيها نظماً وضعية قانونية لا شرعية، فتحققنا بذلك أنه: حيث كانت تلك الغرفة هي المرجع عند النزاع فإنه سيكون فيها محكمة، وسيكون الحكام فيها غير شرعيين بل نظاميون قانونيون، ولا ريب أن هذه مصادمة لما بعث الله به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من الشرع الذي هو وحده المتعين للحكم به بين الناس، والمستضاء منه عقائدهم وعبادتهم ومعرفة حلالهم من حرامهم، وفصل النزاع عندما يحصل التنازع، واعتبار شيء من القوانين بالحكم بها ولو في أقل القليل - لاحظوا عبارة الشيخ - لا شك أنه عدم رضاً بحكم الله ورسوله، ونسبة حكم الله ورسوله إلى النقص وعدم القيام بالكفاية في حل النزاع، وإيصال الحقوق إلى أربابها' وانظروا كيف نُسب ذلك النظام حكم الله إلى عدم الكفاية! يقول نظام الشركات في المقدمة: 'والواقع أن كافة أنواع الشركات التي تضمنها المشروع على تباين أشكالها وأحكامها لا تختلف عن الشركات التي كانت معروفةً في الماضي وقال: أما علة الاختلاف فترجع بأساسها إلى اتساع دائرة المعاملات عما كانت عليه في الماضي مع تنوع صورها وأشكالها على نحو لم يكن معروفاً أو متوقعاً'.
وهذا لا يجوز أن يقال عن الشريعة؛ لأنه لا يمكن أن يقع أي شيء إلا وله حكمه في دين الله، والواقع شاهد على ذلك.
أرجعوا الأمور إلى المحاكم الشرعية؛ تجدوا أنها تحكم -بإذن الله- في كل شيء أرجعوا وضع هذه الأنظمة إلى هيئات شرعية من العلماء؛ تجدوا أنهم يضعون لكم كل شيء مما يصلح حال هذه المشاكل وغيرها.
يقول الشيخ: 'وهذا فيه نسبة حكم الله ورسوله إلى النقص وعدم الكفاية في حل النزاع وإيصال الحقوق إلى أربابها، وحكم القوانين إلى الكمال وكفاية الناس في حل مشاكلهم -وكأن القوانين أكمل في حل المشاكل- واعتقاد هذا' أي ومن يعتقد أن القوانين تحل المشاكل، والشريعة لا تحلها، وليس فيها الكفاية في ذلك، قال الشيخ: 'واعتقاد هذا كفرٌ ناقلٌ عن الملة -فانظروا خطر ما يقع فيه بعض الناس أو يقوله، شعر به أو لم يشعر ثم يقول: والأمرٌ كبير مهم وليس من الأمور الاجتهادية -أي أن بعض الناس يقول هذه أمور ومشاكل تجارية اجتهادية ولا مانع من ذلك.
فيقول الشيخ:- والأمرٌ كبير مهم وليس من الأمور الاجتهادية؛ وتحكيم الشرع وحده دون كل ما سواه؛ شقيق عبادة الله وحده دون ما سواه' أي أنهما شقيقان أن يعبد الله وحده وأن يحكم شرع الله وحده.
قال: 'إذ مضمون الشهادتين أن يكون الله هو المعبود وحده لا شريك له، وأن يكون رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو المتبع، المحكم ما جاء به فقط، وما جردت سيوف الجهاد إلا من أجل ذلك، والقيام به فعلاً وتركاً وتحكيماً عند النزاع، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] ' إلى آخر كلامه -رحمه الله- ورضي عنه وأرضاه.
وهذه هي المآخذ المهمة أصله واستمداده ثم واضعه ثم جهة التحاكم فيه وكلها كما قد رأيتم مرجعها ومآلها إلى غير شرع الله هذا من حيث الجملة.(50/13)
نقد تفصيلي لنظام الشركات
يقع الخلل والخطأ، وتكثر أسئلة الناس اليوم، ويقعون في الحرج العظيم من جراء مساهمتهم في هذه الشركات، وذلك بسبب ما في هذا النظام من المخالفات الشرعية الواضحة، ومنها ما يلي:(50/14)
أولاً: عدم الشمولية
إن نظام الشركات غير شامل لجميع أنواع الشركات، فالشركات المعروفة في الفقه تشمل نوعين: شركات الأبدان، وشركات الأموال، ونظام الشركات هذا لم يتعرض لشركة الأبدان؛ لأن القانونيين لا يتعرضون لها، مع أنها جزء ونوع من أنواع الشركات، فلم يتعرض لها إلا إشارة إلى أن ما عدا هذا يجوز لكن لم يتعرض لأحكامها ولم يفصل فيها شيئاً، فمن هنا نلحظ أنه سار على المنهج القانوني لا على المنهج الشرعي في تقسيم أنواع الشركات.(50/15)
ثانياً: إجبار المتعاقدين على نمط معين
إن هذا النظام يحكم عقود الشركات، بحيث تصبح وكأنها ليست عقوداً اتفاقية بين الشركاء؛ فالأصل بين الشركات شرعاً؛ أنها عقود بين الشركاء؛ أما في الواقع الحالي، فإن النظام هو الذي يحكم وليس العقد، أي أن الشركاء يدخلون تحت نظام، وهم مرغمون ومجبورون على اتباعه، وإلا عوقبوا، وليس بإرادتهم هم وبتعاقدهم هم.(50/16)
ثالثاً: إلزامية عقد الشركة
إن الشركة المساهمة -حسب لوائح النظام- عقدٌ لازم وليس اختيارياً جائزاً، ولهذا تجدون كل واحد من الناس ساهم في أي شركة -سواء كان مكاناً ربوياً بحتاً مثل بنك الرياض، أم غير ربوي كصافولا وغيرها- لا يستطيع أن يسترد رأس ماله؛ فيقولون: بع سهمك، وهي في بعض الأحيان لم تفعل شيئا بعد، والأصل في الشرع أن الشركة عقد جائز، متى رأى الشريك أن يخرج أو يحل الشركة فإنها تحل وهذا لو كان على مستوى أفراد لهان الأمر، لكنه على مستوى أمة؛ فإذا وجد مليون مساهم وعرفوا أن هذا حرام، فأرادوا أن يتخلصوا من الحرام -والحمد لله مع وجود الصحوة الكبرى، والأوبة والتوبة والرجوع إلى الله، تجعل الناس يرون ضرورة التخلص من هذا الحرام- إذا اقتنع مليون أو ألف من الناس أن يتركوا هذا الحرام؛ فلا بد أن يضعوا مكانهم مليوناً أو ألفاً آخر، فلا يمكن التخلص منه، وهذا بسبب أن النظام يجعل الشركة عقداً لازماً لا يمكن أن ينفضَّ إلا بحكم النظام، وهذا أمرٌ مهم جداً.(50/17)
رابعاً: المخالفات الشرعية في الصكوك
الصكوك التي تصدرها الشركة المساهمة-ولنقرأها لكم كما هي في الفصل الرابع- وهي ثلاثة أنواع وهذه من أخطر الأمور التي يجب أن يتنبه لها المسلمون ويهتمون بمعرفة أحكامها: ' الفصل الرابع من نظام الشركات يبتدئ بالمادة 98يقول: الصكوك التي تصدرها شركة المساهمة: النوع الأول: الأسهم من المادة 98 إلى المادة 111.
النوع الثاني: حصص التأسيس من المادة 112 إلى المادة 115.
النوع الثالث: السندات من المادة 116 إلى المادة 122.
' وهذه الثلاثة الفروع لصكوك الشركة وأموالها، فهي إما أسهم، وإما حصص تأسيس، وإما سندات.
إذا كنتم عرفتم ذلك، فلنأخذها واحداً واحداً، ونبدأ بالأخير: -السندات: والسندات رباً وحرام قطعاً، ولا يشك في ذلك أي إنسان يعرف كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصرح بهذا حتى من القانونيين أنفسهم فيقول أحدهم: هذا مخالف للشريعة؛ لأنه سند بقرض وفائدته فيه معروفة ومعلومة، والسند هو عبارة عن قرض أو سندات بقرض يسمونها، وهذا حرام قطعاً ولا شك فيه إذن، هذا الفرع باطل كله ولا يحتاج أن نفصل فيه، لأننا لا نحتاج أن نبين أن الربا حرام.
- حصص التأسيس: وهي حرام أيضاً، لماذا؟! وما معنى حصة التأسيس؟.
نقرأ تعريفها من نفس النظام الذي يقول: ' هي براءة اختراع أو التزامٌ حصل عليه من شخص اعتباريّ عام، يكون مشاركاً بحصة تأسيس '.
فمثلاً: هذا رجل ليس عنده مال يقدمه، لكن عنده اختراع ينفع الشركة، أو خدمة معنوية للشركة يرى مجلس الإدارة أنها تصلح خدمة للشركة، فيعتبر صاحبها مؤسساً أو مشاركاً فيها وهذه تسمى حصة التأسيس، ويعطى بذلك صكاً من الشركة أنه يملك حصة تأسيس، وهذا لا يجوز شرعاً، لماذا؟ لأن فيه جهالة، وفيه غرر، ويترتب عليه مفاسد كثيرة، وكل من بحث المسألة يرى أن هذا حرام والأسوأ أن هذه الخدمة المعينة يفسرها مجلس الإدارة، ولذلك يمكن أن تكون رشوة.
فكيف تكون رشوة؟ تقدم -مثلاً- الشركة (شركة استيراد) ولدينا موظف في الجمارك في وزارة التجارة، فنعطيه حكم التأسيس في الشركة مقابل خدمة تسهيل استيراد أشياء بدون أن تتأخر، أو بدون أن تجمرك، أو كذا، وهذا يفتح مجالاً كبيراً للتزوير والخداع بطريقة نظامية للشركة؛ وإذا قيل: ما حصة فلان؟ قالوا: هذا عنده حصة تأسيس.
ويمكن أن يدخل فيها أنواع كثيرة من الخداع، والعالم الغربي اليوم يعيش هذا ويعلمه؛ فأكثر الشركات قائمة على الخداع، وعلى الغش، وعلى الرشاوى، وعلى التزوير، ويدخل ذلك من باب حصص التأسيس النظامي، والواقع في كل بلاد العالم شاهد بذلك.
إذاً وهذا النوع الثاني نوعٌ باطل، فلا يجوز أن يشترك إنسان بشيء معنوي مجهول في شركة مالية، لأنه -أصلاً- باطل؛ فكيف إذا دخله حرام.
- بقي النوع الأول وهو " الأسهم " ولا بد أن نفصل قليلاً- في موضوع الأسهم من حيث الموقف الشرعي من الشركات المساهمة.
فالأسهم نوعان -كما في النظام في المادة (99) - إما أن يكون السهم اسمياً، وإما أن يكون لحامله؛ فاسمياً يعني سهم فلان بن فلان، وأما لحامله فيعني كل من يملك الورقة فهو مالك للسهم، فالنظام في المادة (102) يقول: " تتداول الأسهم لحاملها بمجرد المناولة " أي حتى لو ضاعت على أحدهم ووجدها شخص آخر وأخذ السهم؛ فالأمر طبيعي جداً ولا يسأل عن ذلك.
فهذا النوع من الأسهم -وهو الأسهم لحامله- حرام، ولا يجوز إصداره شرعاً، لما فيه من إضاعة الحقوق، ولأن الجهالة هي جهالة الشريك ولا ندري من هو الشريك، وهذا يوقع في مفاسد ومحظورات شرعية؛ فإذاً هذا النوع باطل بقي أمر آخر في موضوع الأسهم، وهي الأسهم التي تضعها الشركات المساهمة -كما في نفس النظام- وهي إما أسهم عادية، وإما أسهم ممتازة.
ما معنى أسهم ممتازة؟ أي أن الأسهم أصحابها لهم ميزة، فنحن نعرف جميعاً أن الأسهم كلها متساوية، فالسهم قيمته -مثلاً- مائة ريال لجميع المساهمين؛ لكن الأسهم الممتازة حتى لو أفلست الشركة أو صفيت، فإنك تأخذ حقوقك كاملة، ولا تشترك في الخسارة، ويمكن أن تسحب مالك من أي وقت ولا تُطالَب بأي شيء، وأمامك فرص كثيرة جداً لأنك شخص ممتاز، مع أنك ما دفعت إلا المائة، أو ما تملك إلا سهماً واحداً؛ وهذه توضع لأناس معينين.
فهذه الأسهم الممتازة حرام بهذه الصفة؛ لأنها تعطي ميزات وتفاضلاً بغير حقٍ وبغير وجه شرعي، والأصل أن المساهمين جميعاً سواءٌ في الربح أو في الخسارة.
ومنها أنواع يسمونها (أسهم التمتع) وتنص على أن بعض الناس بعد مضي فترة من الزمن يسترد رأس ماله، ومع ذلك يظل في الشركة ويأخذ أرباحاً عادية؛ لأن لديه أسهم رأس المال أو أسهم تمتع!! أي أنه يأخذ رأس ماله ومع ذلك لا يزال يُعطى مثل ما يُعطى بقية الشركاء!! وهذا لا شك أنه حرام، فبأي حق يأخذ هذا المال، وقد استرد رأس ماله فهذا أيضاً نوع من أنواع الأسهم، وهو حرام قطعاً.
وأما ما عدا ذلك فهي الأسهم العادية وهذه لا تخلو من محظورات شرعية، بعضهم أوصلها إلى حد أنها تبطل الشركة، أي أن الشركات المساهمة من أصلها باطلة، وسبب ذلك هو أن الشريك يساهم ويشتري ويخرج دون علم الآخرين، فليس هناك شركة في الحقيقة.
وأكثر من هذا أن البورصات العالمية وبائعي الأسهم والدلالين والسماسرة يتلاعبون بعقول الناس بسبب هذه الأسهم، ويتلاعبون -حتى- بالسياسة الدولية، فيتدخلون في أمورٍ ويتحكمون بأكثر من قطاع وأكثر من مجال من مجالات الحياة والناس لا يعلمون.
مثلاً: حدثت حادثة: رئيس الوزراء في بريطانيا قدم استقالته قالوا: ارتفعت الأسهم، وإذا ذهب وزير خارجية أو اختطفت طائرة أو ارتفع البترول قليلاً انخفضت أو ارتفعت الأسهم في الدقيقة أو في الثانية لا بد من ملاحقة شديدة لها.
ويدخل في هذا النجش المحرم شرعاً كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ولا تناجشوا} وهو الزيادة ممن لا يريد الشراء، وكم أفلست من دول ومن شركات ومن مؤسسات، بسبب هذه الأسهم، وفوق كل ذلك إفلاس هائل جداً للناس الذين انهالوا على شراء الأسهم، فاشتروا وارتفع سعرها، ثم اشتروا وباعوا وفي النهاية فوجئوا بالإفلاس؛ وسنوات طويلة والدولة ما تزال تحاول أن تحل هذه المشكلة.
إذاً: عن هذه الأسهم نقول: على فرض أن الشركة المساهمة حلال، فإن من مشاكلها هذا البيع، وما يدخلها من غش وغرر ونجش ومعاملات محرمة، ولا يحصر أثرها في محاضرة ولا أكثر لأن أثرها وضررها عظيم، هذا بالنسبة لموضوع الأسهم.(50/18)
خامساً: اجتماع الأجرة مع نسبة من الأرباح
من المخالفات الشرعية: أن نظام الشركات السعودي أجاز أن يحصل الشريك بالعمل على نسبةٍ من الأرباح زائد أجرة ثابتة وهذا لا يجوز شرعاً؛ لأنه ربما استهلكت الأجرة الربح؛ كله فماذا يبقى؟! والثابت شرعاً أنه لا يعطى زيادة على نسبة الربح أجرة، ولعل فيما بعد يأتي الكلام عن مكافأة أعضاء مجلس الإدارة وما يتعلق بها، وهي قريب من هذا.(50/19)
سادساً: نسبة الخسارة ونسبة رأس المال
ثم إن من المخالفات التي هي مخالفة صحيحة لأحكام الشريعة أنه لم يجعل الخسارة على قدر رأس المال، ففي الشرع -وهذا موضع اتفاق بين العلماء- أن الخسارة على قدر رأس المال؛ ونظام الشركات لأنه مأخوذ من القوانين الغربية، فهم يجعلون الخسارة بحسب الاتفاق.
فيجوز أن تدفع مالاً أكثر، وتكون خسارتك أقل، وهذا أيضاً من الظلم ومن الإجحاف، ويولد الشحناء والبغضاء بين المساهمين.
ومع ما سبق من تحريم السندات؛ أجاز نظام الشركات السعودي تحويل سندات القرض إلى أسهم، أي أنه كان مقرضاً بفائدة، فقالوا: يمكن أن تحول إلى أسهم وتصبح مساهماً!! فهذا يزيد الطين بلة مصيبة على مصيبة وكل ما ترتب على باطل فهو باطل، وما بني على الحرام فهو حرام.(50/20)
سابعاً: تقييد المعاملات وتسلط الإدارة
وذلك كمنع الشركات الكبيرة الخاصة وتحويلها إلى شركة مساهمة جبراً، وتسلط أعضاء مجلس الإدارة واستئثارهم وشراء الأصوات.
وأذكر قصة حقيقية وقعت قبل أيام، وتضمنتها فتوى لسماحة الشيخ عبد العزيز -ولديّ صورة منها- جاء إلى منطقة الباحة رجل وزعم أنه يمثل شركة من الشركات وقال: كل شخص يحضر رقم الحفيظة أو رقم البطاقة، ونأخذ صورة منها، ونعطيه مائتي ريال -في منطقة من مناطق الباحة - وتعرفون الفقر الشديد هناك، وخاصة جهة البادية وجهة تهامة؛ فهناك فقر مدقع جداً.
أحد المساكين يقول: وماذا في ذلك؟! أعطيه رقم الحفيظة وآخذ مائتي ريال!! وتجمع الناس بالمئات أو بالألوف، ووزع عدة ملايين، وذهب فتذكرت لما كتبوا لسماحة الشيخ عن هذا ووقتها كنت في المعهد لا أدري في أي مرحلة بالضبط - بأنه جاءنا أناس من هذا النوع يمرون ويأخذون توابع الناس، ويعطونهم مالاً!! وإذا سئلوا: ماذا تريدون؟ قالوا: مساهمة، والناس لا يدرون أن رقم الحفيظة يسجل باعتبار أنك مساهم؛ لأن البنوك لها شروط، فنظام الشركات يفرض شروط المساهمة، فلو أتى إنسان وأخذ منك رقم الحفيظة فأنت بهذا تعتبر تابعاً، وبهذا يؤسس شركة مساهمة، ويرتب عمله بأسمائنا، ويكون مجلس إدارة بتصويت وهي انتخابات وهمية، ونحن لا ندري لماذا أخذ المبلغ ولا ماذا يريد!! هذه حقائق واقعة الآن؛ لأنه -كما قلنا- في مجلس الإدارة هناك من يقول: إنه وكيل، وهناك من يقول: إنه ينوب، واختلفوا كيف يكيفونه فقهياً، وهذا لا يحتاج تكييفاً.
اجعل القضية كلها على الشرع، ولن تحتار في تكييف أي شيء!! أكثر المساهمين -ويمكن أن تسألوا إن لم تكونوا مساهمين- لا يعلم شيئاً، ولا يعلم متى ينعقد مجلس الإدارة، ولا يعلم بعد ذلك ماذا يصير وماذا يدور!! إذاً: هذا يفتح باباً للتحايل، فكأنها تمثل الأمة كلها وهي في الحقيقة لا تمثل إلا أفراداً معينين.
فأي واحد منا وفقه الله وفتح منشأة تجارية، وكبرت حتى صار رأس ماله كذا مليار، بأي حق يحولها إلى شركة مساهمة وتعرض إلى الانتساب العام ويشترك فيها من هب ودب.
مثلاً: أنا جالس في بيتي، والآخرون في بيوتهم قاعدون، فلا ساهمنا ولا عملنا ولا تاجرنا، وهناك تاجر عنده شركة ضخمة يجبر على أن يحولها إلى شركة مساهمة، فأقوم أنا أشتري وهذا يشتري، وهذا يشتري، بأي حق ولماذا؟ قالوا: لأن هذا يمنع الثراء الفاحش!! ونحن نعلم من شرعنا أنه إن كان هذا الإثراء من طريق شرعي فلا حرج في ذلك ولو بلغ مليارات، وإن كان من طرق محرمة فنمنع الطرق المحرمة؛ فلا نعالج المشكلة بمشكلة أخرى.
ولما أجبرت الشركات الكبيرة على أن تتحول إلى شركات مساهمة، فما الذي فعل أصحاب الشركات الأصليون؟! التاجر يقول: هذا حقي أنا؛ فيشتري بطريقة احتيالية -كما سبق- فيعود إليه رأس ماله، وما استفدنا شيئاً ورطناه وورطنا الناس في معاملات كثيرة منها حرام، ورجع الأمر إلى صاحبه؛ لأن القضية من أصلها مبنية على غير أساس شرعي.(50/21)
ثامناً: الظلم والإجحاف
يقول النظام: أعضاء مجلس الإدارة لا تزيد مكافأتهم على (10%)، لكن الشرع منصف حتى لأعضاء مجلس الإدارة، وإن كانوا يظلمون المساهمين ويتحكمون فمكافأتهم -حسب النظام- لا تزيد عن (10%) بعد خصم كل المصروفات، وبعد أن يوزع من صافي الأرباح ما لا يقل عن (5%) على كل مساهم افترض أنه ما بقي لهم شيء، إذاً: هذا ظلم، أو افترض أنه بقيت مليارات، إذاً: هذه جهالة لا تصح؛ ولهذا فإن الشرع لا يريد أن نظلم لا مجلس الإدارة ولا المساهمين -وحاشا لله تبارك وتعالى- فهذه الشروط باطلة وهي منصوص عليها في نظام الشركات.(50/22)
تاسعاً: نظام التقادم
ومن المخالفات الشرعية في نظام الشركات أنه يسقط الدعوى بالتقادم كما في المادة (77)، ومعنى سقوط الدعوى بالتقادم: أنه إذا مرت مدة زمنية سقط حقك في الادعاء؛ فهم أعطوا للمساهمين أو لغيرهم سنداً وأعطوهم مدة سنة، فإذا سألتهم: وماذا يحدث إذا انقضت السنة؟ قالوا: لما عدا حالتي الغش والتزوير، تنقضي دعوى المسئولية المقررة للشركة بموافقة الجمعية العامة العادية على إبراء ذمة أعضاء مجلس الإدارة من مسئوليتهم، وفي جميع الأحوال لا تسمع الدعوى المذكورة بعد انقضاء سنة على تلك الموافقة، ولو اكتشفوا أن مجلس الإدارة أو واحداً منهم كان أكبر غشاش وأكبر مرابٍ وسرق ما سرق، ونهب ما نهب!! فالقانون يقول: انتهت المدة؛ وهذا مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية، وإن كان بعض الفقهاء يقولون: إن التقادم يسقط الدعوى فإذا مرت سنوات طوال ثم أتيت أدعي على بيت يسكن فيه إنسان من ثلاثين سنة أو خمسين سنة، وقلت: هذا البيت لي! وأنا جاره، وساكت طوال هذه السنين، يقول بعض الفقهاء: هذا دليل على أن الدعوى باطلة وأنها تسقط، لكن هل هذا يسقط الحق فيما بينه وبين الله؟ لا طبعاً، لكنْ! هم يتكلمون عن النظام فقط، وفيما يخص إلزام المحاكم الوضعية أو البشرية بهذا؛ أما ما بينه وبين الله فلا يسألون عنه.
إذاً: اشتمل على هذه المخالفة وهي سقوط الدعوى بالتقادم، وهو -أيضاً- حكم مخالفٌ للشريعة، وما عرفه المسلمون بهذا الشكل إلا عندما استوردوا القوانين الوضعية.(50/23)
عاشراً: مسألة البينة في إثبات الشركة
النظام نص على أنه يجوز إثبات شركة المحاصة بالبينة، وهي نوع من أنواع الشركات، فالشركات تتنوع: فهناك شركة محاصة، وشركة مساهمة، وشركة توصية -توصية بسيطة، وتوصية بالأسهم- وشركة تضامن إلى آخر أنواع الشركات وكلها متداخلة ومتقاربة، وبعض أحكامها تتقارب.
فيقول النظام: 'شركة المحاصة تثبت بجميع الطرق بما في ذلك البينة' ولماذا نص على أن شركة المحاصة يجوز أن تثبت بالبينة؟ أولاً: لأن المحاصة شركة مستترة؛ رجل يعمل والناس يعرفون أنه هو صاحب المحل، وهناك شخص آخر لا يعرفونه ساهم معه بشيء من المال؛ فهذه شركة المحاصة، ومفهوم ذلك أن الأصل في الشركات ألا تكون البينة هي مصدر الإثبات -البينة المعروفة شرعاً- فالمعتمد عليه عند القانونيين في البينة (الوثائق المحررة الخطية) أي أنك لو أتيت بعشرة شهود على شراكتك في شركة وهم عدول ثقات فلا يقبل منك هذا، أما لو أتيت بورقة خطية موثقة فإنها وحدها هي التي تقبل!! فبعض القوانين تجعل هذا ركناً من أركان الشركة، أي أن الشركة التي لا تكتب فملكيتها باطلة؛ لكن النظام والقانون السعودي لم يعتبره ركناً وإنما اعتبره شرطاً للشركة، كما في المادة العاشرة.(50/24)
الحلول المقترحة في الشركات
لقد أوجزت إيجازاً شديداً جداً في المخالفات التي بلغت إلى عشر مخالفات بالتفصيل، أما في الجملة فقد ذكرنا لكم الحكم العام في أحكام الشركات أو في نظام الشركات، بقي أن نتحدث عما هو أهم من ذلك كله، وهو: ما هو الحل في هذا الواقع؟ نقول: إن ما يمارسه بعض الدارسين من كونه يعرف نظام الشركات، ويدرسه من خلال الآراء الفقهية، ويقول: (هذه المادة توافق قولاً للمالكية، وهذه المادة قد تخرّج على قول عند الحنابلة، أما هذه المادة فهي حرام بالإجماع، وأما هذه فهي كذا فإن ذلك ترقيع لا يجوز، لأن ذلك إقرار بأصل الفكرة، وهي استمداد القوانين الغربية واستيرادها كما هي، وتطبيقها في بلاد المسلمين؛ ثم بعد ذلك: نعقد المقارنات والمشابهات!! ولو بقينا على هذا الشأن، فسنظل عقوداً أو قروناً، وأوضاعنا لا تصلح أبداً.
ويقال لهذا العمل: هذا هو التلفيق الذي قال عنه العلماء: 'من تتبع رخص العلماء تزندق' الموضوع في الأسهم يوافق رأياً عند المالكية، وموضوع توزيع الأرباح -فرضاً- يوافق رأياً عند الشافعية وموضوع كذا، وهذا تلفيق لا يقره من يعتني بتطبيق المذاهب الفقهية، كما كان حال الأمة، عندما كانت مقسمة إلى انتماءات مذهبية، ولا من يدعو إلى تحكيم كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو ما يجب أن يدعو إليه كل مسلم؛ فلا يجوز أن نستورد قانوناً وضعياً، ثم نبدأ نقارن: فقرةً فقرةً أو مادةً مادة، ثم نخرِّجها على مذاهب الفقه؛ لأن الذي جاء بهذا القانون ما أراد هذه المواد، ويقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنما الأعمال بالنيات} وهذا ما نوى أن يستمد من كتب الفقه، ولا قصد أن يكون هذا الشيء حلالاً أو موافقاً لمذهبٍ فقهي؛ وإنما أنت -أيها المسكين- الذي تخرج الأحكام بينت ذلك، فنقول: هذا العمل لا يصح؛ وإنما الحل الصحيح الذي يجب أن تجمع عليه الأمة إجماعاً، هو أن يلغى نظام الشركات القائم حالياً، كما يلغى غيره، وتلغى أنظمة البنوك الربوية، ويلغى أي نظام مخالف لشرع الله إلغاءً تاماً.
ثم تشكل هيئة أو لجنة علمية من علمائنا الأفاضل، أو ممن هم دون العلماء، والعلماء يراجعون في النهاية لزحمة أوقاتهم، فتشكل هيئة علمية شرعية مرموقة تضع الحلول في النوازل الواقعة التي قد تستجد، وترتب أمور الشركات عندنا على ضوء الشركات المعروفة في الفقه الإسلامي، وما زاد عن ذلك فهو محل اجتهاد.
وإذا كان الغربيون قد وضعوا هذه الأحكام من عند أنفسهم من غير شرعٍ ولا هدى من الله، وإنما بتجارب طويلة في الواقع؛ فكيف بنا ونحن عندنا -والحمد لله- أكبر وأعظم مصدر للتشريع بإجماع كل القانونيين في الدنيا وهو الشرع بما في ذلك الفقه الإسلامي الواسع الثري العظيم -والحمد لله- وعندنا العقول والطاقات المُبدِعَة.
فيجب أن يلغى نظام الشركات الحالي، وترتب أوضاع الشركات لفترة انتقالية، تقررها اللجنة، وتبين كيف يمكن أن نرجع جميع أنواع الشركات الموجودة إلى أصولها الشرعية، وتبعاً لذلك تلغى الهيئات القضائية التجارية، بما في ذلك هيئة فض منازعات الشركات ويكون الرجوع في كل القضايا المختلف فيها كالأسهم والأرباح وأي شيء من قضايا الشركات إلى المحاكم الشرعية كما ذكرنا في الآيات، وكما ذكر الشيخ محمد رحمه الله، وكما هو الواجب على كل مسلم فإنه بمجرد أن يعرف الشركاء وتعرف الشركات السعودية منها والأجنبية أن مرجعها إلى الشرع فسوف تتخلى تلقائياً عن كثير من المحرمات؛ لأن الذي يشجعهم الآن على الربا مثلاً أو التعامل به، أن الميزانية والأعمال والتحاكم لا ترجع إلى الشرع، فيصادق على الميزانية، وتعلن في الجرائد، مع أنها تشتمل على الربا، وفي كثير من الأحيان يكون صريحاً، ومع ذلك لا يحاسبهم أحد ولا يعاقبهم أحد.
فلو منعت وأحيلت إلى المحاكم الشرعية؛ لتخلصنا من هذا الداء -بإذن الله- ولأصبح الإنسان ملتزماً بأحكام سهلة مبسطة واضحة لديه، تنظم له أمور الشركات تنظيماً شرعياً صحيحاً، وفي نفس الوقت إن حصل خلاف فالحكم فيه للمحكمة الشرعية، فلا يتسرب الحرام؛ إنما يظل ما في النفوس من طبيعة الغش والاحتيال والطمع والشره إلا من رحمه الله، وهذا أمر طبعي في النفوس يعالج بنشر الدعوة إلى الله، ويعالج بنشر حب الخير، وحب الفضيلة، وما توعد الله به من غَشَّ، أو رابى أو تعامل بمحرم، أو ظلم، أو سرق، أو نهب، أو اختلس إلى غير ذلك، وبذلك يكون مجتمعنا مجتمعاً نقياً صحيحاً سليماً، فنرضي ربنا عز وجل ونتخلص من هذا الداء، الذي هو -كما قال الشيخ رحمه الله- أمر خطير كبير، يتعلق بالعقيدة، وبشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وليس من الأمور الاجتهادية.(50/25)
الفترة الانتقالية
وقد يقول الإخوان: وما الحل في المدة المؤقتة؟ قبل ذلك أنا أعرف كثيراً من الإخوان، يقولون: كيف؟! فأقول: لا يوجد شيء صعب -بإذن الله تعالى- ألسنا مسلمين؟! ألسنا نشهد صحوةً إسلامية كبرى؟! أليست الشركات المساهمة منا وفي مجتمعنا؟! أليس المساهمون من بلدنا؟! أليس من يطالبهم بإلغائها عن رضا منا ومن أهل بلدنا؟! فليس عندنا شيء مفروض علينا بقدر قاهر أو بقوة قاهرة أبداً!! إذاً: لماذا لا نطالب نحن كأفراد في المجتمع -كلنا- بفمٍ واحد أن يكون نظام الشركات وغيره من الأنظمة موافقاً لشريعة الله، ويشكل له هيئة من العلماء؟!! لا مانع من أن نتوقف الآن عن تأسيس أية شركة مساهمة؛ لأن نظام الشركات غير شرعي فلا تؤسس أية شركة مساهمة.
ونقول: لا بد أن المؤسَّس لا يؤسَّسْ إلا على الشرع، والقديم يحل بطريق اللجنة، فنطالب جميعاً كتابياً وخطابياً، في الدروس وفي الخطب وفي الكتابات، وبكل شكل من أشكال التأثير، بهذا التغيير، فيحصل -بإذن الله تبارك وتعالى- ولماذا لا يحصل؟ ومن الذي يمنعنا؟! فوالله لو طالبنا وصدقنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وخلصت النيات من الجميع، لا نعادي بذلك طرفاً أو نتهم طرفاً؟! لا التجار ولا غيرهم، ولا أصحاب الشركات ولا غيرهم المقصود أن نخلص أنفسنا جميعاً: الحاكم والمحكوم والشركة والمساهم من الإثم، ومن هذه المصيبة الكبرى التي عبر عنها الشيخ محمد بن إبراهيم، وأنا أرجو أن ترجعوا إلى الفتاوى وتقرءوا قريباً من هذه الصفحات، فأنا ما أحضرت إلا نموذجاً واحداً، والنماذج التي ذكرها -رحمه الله- كثيرة جداً والأمر خطير جلل، علينا أن نتخلص منه جميعاً، ونخلص الأمة منه؛ لننال رضا الله؛ وننال الفوز والنصر والتمكين في الدنيا، وننال منزلة الذين قال عنهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يَصلُحون إذا فسد الناس، أو يصلحون ما أفسد الناس}.
فالعالم كله: الغربي -ومن حذا حذوه ممن يعبد المال- يعبد المال والثروة ويجمعها من حلال أو حرام، فلماذا لا نصلح نحن إذا فسد الناس، وفسدت الدول والأمم من حولنا، ونقيم دين الله تبارك وتعالى كما أمر الله، ونستعين بالله، ولا يهمنا أية خسارة قد تقال بعد ذلك؟! إن الخسارة الكبرى هي ألا نطيع الله عز وجل؛ أما ما عدا ذلك فهو ربح وفوز في الدنيا والآخرة فهذا البديل الأساس، وكل واحد مطالب أمام الله -بعد هذا البلاغ- أن يبذل جهده وأن يطالب أو يكتب أو يحاول بأي شكل من أشكال التأثير؛ بأن تصحح أوضاعنا المالية، والاجتماعية، وكل وضع من أوضاعنا: في أنفسنا، وفي أسرتنا، وفي مجتمعنا، وفي تعاملنا العالمي، وفي كل شيء أن تكون موافقة لشرع الله كما قال سبحانه: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:123 - 124].(50/26)
حلول عملية
بقي أن نذكر ببعض الأمور العملية ومنها: تكوين الجمعيات بين الزملاء وبين الأقارب؛ وهذه الجمعيات نطمئنكم أنها حلال والحمد لله، وهي مفيدة جداً، للزملاء في المدرسة والموظفون في الإدارة، وللأقارب أيضاً، فكل واحد يدفع مبلغاً معيناً، أو يدفع ما زاد عن راتبه يتفقون على كيفيةٍ للدفع وللأخذ، ثم بعد ذلك تسد خلة كل واحد منهم، وبهذا لا نحتاج إيداعاً في بنك تبقى أمواله مجمدة، فهذا ماله مجمد، والآخر يقترض وهذا أعان البنك لأنه يعمل بماله في الربا، وهذا ظلم نفسه وأخذ الربا؛ بل نجمع الأموال في أيدينا نحن وننفقها في مصالحنا التي نراها، وهذه من الأساليب التي بدأت تطبق ونرجو أن تنتشر حتى نتخلص من البنوك ومن الشركات المساهمة والبنوك شركات مساهمة، ألم يقولوا فيها أنها شركات مصرفية؟! وغيرها شركات خدمات مثل: شركة النقل الجماعي، أو الغاز، أو الأسماك إلى آخره؛ وهناك شركات إنتاجية مثل الشركات الزراعية والصناعية، فالبنك شركة مساهمة، وكل كلامنا هنا عن الشركات المساهمة ينطبق على البنك، والبنك أشد حرمة منها.
أيضاً لا بد أن نحيي القرض الحسن في الأمة، ولماذا فقد القرض الحسن؟! فأنا مثلاً عندي مال فائض، فأقرض جاري أو أخي أو زميلي، وهو سيعمل ويدبر نفسه، ثم يعيد إليّ المال بدلاً من وضعه في البنك، أو من المساهمة به في شركة، بل ولي أجر عظيم في ذلك، لماذا أصبحت كل حساباتنا مادية؟! فبدلاً من أن أقرض فلاناً أساهم بذلك المال وأربح لماذا ننسى الربح عند الله؟! ولماذا ننسى ربح الآخرة وننظر فقط للمطمع الدنيوي؟! {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء:77] وكم من آيات وأحاديث، يمكن يأتي بها كل واحد منكم لإثبات هذه القضية!! والأمر الآخر هو شركة المضاربة: كثير من الناس اليوم في المجتمع عندهم طاقة عقلية إدارية، أو مهن، أو حرف، ولكن لا يجد المال؛ وكثير عنده رأس مال فيضعه في البنك أو يساهم به في شركة، وآخر السنة يعطى (4%) أو (3%) أو (5%).
فمع هذه المحرمات التي ذكرنا، نقول: اعط مالك لشريك مضارب تعرفه وتعرف أموره، وتتحكم في عمله وتشرف عليه وتطمئن إلى أن مالك بيد أمينة؛ فإن ربح فالحمد لله ربحٌ حلال، وإن خسر فاعلموا أن الخسارة في البنوك خسارة ولو ربحت، فكيف إذا خسرت؟! نسأل الله العفو والعافية.
البنك الوطني يشهد تدهوراً من قبل فترة وبنك القاهرة تدهور، وشركات مساهمة كثيرة تدهورت ولا تزال متدهورة إلى الآن، فالخسارة في المضاربة لا تجعلنا نترك المضاربة وهي حلال، وبإمكاننا أن نعملها جميعاً، ونتفق عليها مستفيدين من الطاقات الموجودة الآن في المجتمع.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.(50/27)
الأسئلة(50/28)
من أحكام الشركات المساهمة والبنوك
السؤال
يقول السائل: حديثكم عام وليس بخاص، فهل كل الأسهم غير جائز التعامل فيها، أو أن هذا خاص ببنك الرياض فقط؟ أرجو التكرم بالشرح.
المقدم: فضيلة الشيخ أظنه بسبب هذا الفهم عند الإخوان وردت أسئلة خاصة بذكر شركات معينة كشركة صافولا، سابك، والبنك العربي، وبنك الرياض، وشركة مكة للاستثمار، وطيبة إلى آخر ما هنالك من شركات، يسألون عنها وعن حكم المساهمة فيها، فنرجو التفصيل ما أمكن وحفظكم الله.
الجواب
نعم، هذا أحد الشواهد على ما قلت، انظروا كيف كثرت الأسئلة عن شركات معينة، أو عن تعامل معين مع شركات معينة، هذا -كما قلت لكم- أحد الأسباب في أن تلقى هذه المحاضرة؛ لأننا لو ظللنا ندرس كل فقرة من كل شركة وكل نظام في كل شركة وحده؛ لمضى علينا وقت طويل بدون أن نصل إلى أي نتيجة؛ ولهذا فقد جئتكم بنظام الشركات بأصله، وبينت لكم مخالفته للشريعة من هذه الأوجه إجمالياً وتفصيلياً، فيبقى بعد ذلك المخرج المعين في جزئية معينة في وقعة معينة، هذا قد بينه المشايخ، ولفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين، فتويان مطبوعتان في كتيب، ولسماحة الشيخ عبد العزيز فتوى كذلك.
وقد كان الكلام عاماً؛ لأننا أصلنا القضية من أساسها، ومثلت ببنك الرياض لأنه شركة مساهمة، علاوة على أنه بنك ربوي لا تجوز المساهمة فيه بحال، وإذا كنت أطالب بإيقاف كل أنواع الشركات الآن حتى تصحح أوضاعنا وتوافق الشريعة، فماذا تتوقعون أن أقول في بنك الرياض وهو يتعامل بالربا.
إذاً: القضية -إن شاء الله- واضحة لجميع الإخوة، وأن هذا العموم أردنا به تأصيل القاعدة في الشركات، وأن تصبح مطالبتك شاملة لتصحيح نظام الشركات من أساسها؛ ليوافق شرع الله، أما إذا كنت تريد أن تتخلص من موضوع معين، فلذلك جواب مفصل وموجود ذكره العلماء: وهو كيف تتخلص من الربا إذا عرفت نسبته وإذا لم تعرفها إلى آخر ما ذكروا، والمؤسسات الربوية الصريحة لا يجوز المساهمة فيها بأي حال من الأحوال.(50/29)
حكم وضع الأموال في البنوك من غير فائدة
السؤال
ما حكم وضع الأموال في البنوك بدون فوائد؟
الجواب
أحب أن أؤكد لكم أن وضع الأموال في البنوك حرام سواء كان بدون فوائد أو بفوائد؛ لأن وضع المال في البنوك ليس إيداعاً كما يسمونه ونتخيله، بل هو قرضٌ على الحقيقة لا على المجاز بمعنى: أنك أنت تقرض البنك مائة ألف، أو مليوناً أو المبلغ الذي تقول عنه أنك أودعته في البنك، والدليل على أنه قرض أنه لو جاءت أزمة -كما حدث في الأزمة الماضية- وقال كل واحد: أريد أن أسحب أموالي، فيقولون: لن نعطيك لأننا قد أدخلناها في مشاريع تجارية وفي كذا أو كذا من الأمور، ولن نعطيك كل مالك بل نعطيك (50%) أو (20%).
وأما الوديعة في الشرع فهي أن تضع مالك أمانة عند إنسان، ومتى احتجت إليه فإنك تأتي إليه وتأخذ هذه الوديعة، أما أن تعطي واحداً يشتغل فيه كهذه الشركات أو غيرها، فهذا إقراض فلماذا نقرض البنوك؟ إذا قال واحد منا: أنا أقرضهم من غير أن آخذ منهم شيئاً قلنا: زدت الطين بلة من جهة فأنت لم تأخذ حراماً، ولكنك أعنت على الحرام، والله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] ولا يدخل في هذا الحكم الضرورة، كأن تكون لا تستطيع أن تحمل مبلغاً معيناً، أو لا بد أن تضعه في مكان معين، هذه الضرورة لها أحكام، لكننا نتكلم عن الوضع العادي.(50/30)
الحاجة إلى التعامل مع البنوك
السؤال
يقول بعض الإخوان: لا آمن على فلوسي في البيت؟
الجواب
يا أخي إذا دخل المجرم فالعرض أغلى من المال، وكثير من الناس يقصد بالتسلق على البيوت الأعراض، وهي أغلى عندنا من المال هذا شيء؛ الشيء الثاني: أن هناك وسائل يمكن أن نحفظ بها المال -وقد أشرت إليها فيما مضى- ومن غير ذلك يمكن أن تُسْتأجَر صناديق معينة، أو أماكن مفصلة، ويضع فيها فرد أو مجموعة أفراد مبالغهم إذا كان لا بد أن تتجمع وأن تتكدس.
وفي الضرورة القصوى يضع المال عند أقل البنوك شراً، ولا نقول أفضلها؛ فكلها ربا، لكن عند أقلها شراً.(50/31)
بين إيجاد البديل الشرعي وإلغاء ما يحرم
السؤال
أحد الإخوان -جزاه الله خيراً- يقول: ألا ترون أنه من الأجدى قبل المطالبة بإلغاء القوانين الوضعية والأحكام المنظمة للشركات المساهمة؛ أن يكون قبل ذلك إعداد وإيجاد البديل من الأحكام الشرعية؟ وهل من الضرورة الانتظار إلى أن تلغى القوانين الوضعية أولاً أو أننا نوجد البديل الشرعي إلى آخر ما قال؟
الجواب
أنا ما قلت: نلغي النظام ونلغي القوانين الوضعية ثم بعدها نعد ونوجد البديل! بل يُصدر أمرٌ بإلغاء النظام وإيقاف العمل به ومع هذا الأمر يرفق الأمر بتشكيل لجنة شرعية لتصحيح أوضاعنا الاقتصادية، ومهمتها وضع نظام الشركات.
فلا أرى تعارضاً ولا توجد مدة فاصلة بين الأمر بالإلغاء وبين تشكيل اللجنة.
أما الخطوات العملية التي يجب أن نتخذها جميعاً، فقد أشرت إلى بعضها ولا ننتظر حتى يلغى؛ بل نسعى إلى أن يلغى ونطالب بإلغائه؛ لأن هذا من واجبات ديننا، وفي نفس الوقت نحاول أن نتخلص منه ما أمكن بالوسائل الشرعية المتاحة.(50/32)
مرجع الدراسات الاقتصادية
السؤال
الحقيقة أجبتم على السؤال الآخر وهو سؤال الأخ: أليست هناك دراسات موجودة حالياً في الكتب أو غيرها في هذه المواضيع للرجوع إليها؟
الجواب
نعم.
أحسنت! هو موجود وكيف لا يوجد؟! وعندنا هنا في جامعة الملك عبد العزيز كلية الإدارة والاقتصاد التي أصدرت عدة كتب قيمة ونافعة، وقد استفدت منها ولا زلت.
وفي جامعة الإمام محمد بن سعود، رسائل علمية موجودة سواء في الشركات أم في غيرها.
فالجهود موجودة -والحمد لله- لكن تشكيل لجنة بأمر من أجل تصحيح الأوضاع، وتفويض هذه اللجنة العلمية من المختصين بالرجوع إلى ما تريده من المصادر المهيأة لها، وسوف تبحث وتعمل، حتى تقنعنا وتضعنا على حكم الله، كما تجتهد إن شاء الله.(50/33)
إصدار حصص التأسيس
السؤال
ضربت مثلاً برجل الجمارك مع أن حصص التأسيس تقسم وتوزع قبل أن يكون للشركة شخصية اعتبارية؟
الجواب
لا أظن ذلك، ومن أين جاء الأخ بهذا؟ فكيف عرفها وهي جزء من الشركة؟ وقرأنا لكم من الفصل الرابع: الفرع الأول: الأسهم.
الفرع الثاني: حصص التأسيس من الصكوك التي تصدرها شركة المساهمة، وعنوان الفصل: الصكوك التي تصدرها شركة المساهمة، فإذاً قد أصدرت بذلك صكاً وهو حصة تأسيس، ولا يقال إنه حدث قبل أن تصبح لها شخصية معنوية، وأظن أنه لا يؤثر في كون الحكم حراماً أو حلالاً أو أن تكون الشركة قد اكتملت بالوضع القانوني أو لم تكتمل؛ المهم أنها قامت وأن حصة بعض الشركاء هي هذه الحصة المجهولة.(50/34)
الغرر في حصص التأسيس
السؤال
ألا تعتبر حصص التأسيس رأس مال يتاجر به، فهو معرض للربح والخسارة، فأين الغرر والجهالة؟
الجواب
المنفعة غير معلومة، يقول النظام: للشركة المساهمة أن تصدر حصص تأسيس لمن قدم إليها عند التأسيس أو بعد ذلك، أي بعد التأسيس وبعد أن تصبح لها شخصية اعتبارية تعطي براءة اختراع أو التزاماً حصلت عليه من شخص اعتباري فهو إذاً مجهول، ما هو الاختراع وما هي البراءة؟ وما قيمتها؟ فبعض الناس يخترع اختراعاً يوازي عشرة ملايين ريال، وبعض الناس يخترع اختراعاً لا يوازي مائة ولا ألفاً، ومن يقدره؟ وعلى أي اعتبار يساهم به؟ فواضح في هذا سببُ التحريم إن شاء الله.(50/35)
علماء السوء
السؤال
الحقيقة هنا إشكال ورد في عدة أسئلة وهو ما أصدره مفتي الديار المصرية من فتوى بجواز وإحلال الفوائد الربوية، فنرجو تعليقكم -جزاكم الله خيراً- لأن الأسئلة حول الموضوع هذا كثيرة؟
الجواب
نسأل الله العافية! فشر الناس من باع دينه بدنيا غيره -عافانا الله وإياكم من ذلك- وما أحبَّ مثل هؤلاء الناس إلى أهل الشر، وأكلة أموال الناس بالباطل، وأصحاب الطمع المادي الذين لا يبالون بحلال ولا بحرام؛ ليتمندلوا بأمثال هؤلاء الذين يفتون بغير علم، فيجعلونهم وقايةً -كما يزعمون ويظنونهم- وقاية لهم من النار، يعني وبالمثل العامي 'وكِّل بها عالم وامش سالم'! لا لا سلامة من الإثم ولا من الحرام أبداً؛ لكن اللوم ينصب على هؤلاء الذين يفتون بغير علمٍ، نسأل الله العفو والعافية.
لا نقول إنهم بالضرورة لا يعلمون الأحكام، ولكنهم في حقيقة الأمر ما علموا مما أحله الله وما حرمه الله لم ينفعهم في العلم بالله، ولو كان لديهم العلم بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لما حكموا بخلاف ما حكم الله عز وجل وفتحوا باب الشر في هذه المسائل العظيمة.
فإذا كان الربا حلالاً، فآيات الربا التي في القرآن ما معناها؟! أهي أحرف مكتوبة هكذا لا معنى لها؟! ما معنى تحريم الربا إذن؟ وما هو الذنب الذي توعد الله تبارك وتعالى عليه بقوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] وكتب الأحاديث التي فيها أبواب الربا في كتب الفقه جميعاً، ماذا تعني؟ وأقوال الفقهاء في كل كتب الفقه عن حكم المرتد، وقولهم 'والمرتد من استحل شيئاً مجمعاً على تحريمه، أو معلوماً تحريمه بالضرورة من الدين' ما معنى هذه القواعد، وهذه الأدلة، وهذه النصوص إذا كان الربا في صورته الجاهلية المقيتة حلالاً -كما يزعم هؤلاء الذين يفتون وهم مضلون؟! وصدق فيهم قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {حتى إذا هلك العلماء، اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علمٍ، فضلوا وأضلوا}.
وأكرر أنه قد لا يكون جاهلاً بالمسائل، ولكن يكفي أنه جاهل بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وجاهل بحق الله على عباده من الطاعة والاتباع، وجاهل بمقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي قال الله تعالى فيه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65].
وقد أنكر صلوات الله وسلامه عليه الربا إنكاراً شديداً.
وهذا المفتي جاهل بمصالح الناس أيضاً، فإن القانونيين في جميع أنحاء العالم ممن نظر نظرةً مجردة متجردة، قالوا: إن الربا آفة تدمر الشعوب، وتدمر الاقتصاد، بأي شكل من الأشكال، فهؤلاء المفتونون خالفوا المعقول، وخالفوا المنقول، نسأل الله العفو والعافية.(50/36)
حكم العمل في المؤسسات الربوية
السؤال
إذا كان الرجل يعمل في أماكن ربوية إما بنوك , وإما مؤسسات تتعامل بالربا، فكيف يتعامل القريب مع قريبه الذي يعمل في هذه الأماكن، سواء كان زوجاً أو ولداً أو والداً أو أخاً؟
الجواب
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، فيدخل في هذا كل من أعان بأي شكل من الأشكال على خدمة هذا الربا، وعلى خدمة هذا الجهات، أو المؤسسات الربوية، ولو كان فرَّاشاً، ولو كان حارساً، أو ما يسمونه أمين صندوق أو مراجع حسابات، أو كاتباً.
المهم كل ذلك داخل في هذا الحكم فهو حرام عليهم، ولا يجوز لأحدٍ أن يبقى وأن يظل يعمل في أي بنك من البنوك، أو أي عمل محرم -ولكن البنوك هي أظهرها- إلا للضرورة، أي بأن يَجِدَّ في البحث عن مصدر للرزق، فمتى وجده وإن كان أقل من ذلك، فيجب عليه أن يتركه، والله تبارك وتعالى سيعوضه خيراً بإذن الله، وهذا الكلام لا نحتاج إلى الإفاضة فيه؛ لأن فتاوى العلماء فيه وكلام الخطباء دائمة ومتكررة.
لكن الشق الثاني الذي قد يخفى على بعض الحاضرين، وهو: إذا كان الأب أو الزوج يعمل في بنك أو مؤسسة ربوية أو محرمة عموماً، فكيف يأكل الابن أو الزوجة؟ فنقول: إن الحرام لا يتعدى ذمتين أي أن المال الحرام لا يتعدى ولا ينتقل بين ذمتين؛ فالإثم والحرام إنما هو على الأب أو على الزوج أو على القريب الذي يأكل الحرام، أما من يعوله أو من يزوره فإنه لا يأثم بأن يأكل عنده.
ولكن مع ذلك نقول: إن الابن متى استطاع أن يستقل عن دخل أبيه من المحرم فليستقل عنه وسيغنيه الله عز وجل من فضله، وكذلك الزوجة لو استطاعت أن يكون لها دخل أو مصدر من غير مال الزوج فهذا خير وأفضل؛ لأن من الورع ترك ذلك، وما دامت هي لا تستطيع الإنفاق، والزوج هو الذي ينفق، وهي تنصحه وتحذره وتحاول أن تعينه على تركه وهو يأبى؛ فهي لا إثم عليها فيما تأكل من عنده.
أما الزائر فإنه لا حرج عليه أن يأكل من بيت ذلك الإنسان، ولا يحرم عليك إن كان يتعامل بالربا؛ لكن هذا لا يعني أن تتساهل معه فمن الورع أن يتركه؛ لأن فيه شبهة ويجب أن تنصح هذا القريب، وتبذل كل ما تستطيع من الدعوة ليترك البنك، فإذا زرته فإنما تزوره لتنصحه وتبين له خطر ما هو فيه إن ظل مصدر دخله من هذا المال الحرام، وهذه -تقريباً- أبواب يُسأل عنها كثيراً: الأب أو الزوج أو الزائر.
بقي الأجير: يسأل الأجير يقول: أنا أعلم أن صاحب العمارة يعمل في البنك، أو يأكل الحرام، فهل يجوز أعمل عنده، بأن أبني له بيتاً أو كهربائياً يعمل في كهرباء العمارة أو أي عمل، فنقول: أنت لا يحرم عليك ما ذكرت؛ لأنك إذا عملت عملاً حلالاً، وأخذت أجرتك أنت بوسيلةٍ حلال فلا يحرم عليك المال وإن كان صاحبه أخذه من حرام؛ لكن من جهة الورع لو أنك تورعت وقلت: لا أعمل إلا عند من أعلم أن دخله حلال، لكان في ذلك خير، لكن أن تسأل عن عمل المقاول أو صاحب العمارة: ما هو؟ وهل دخله حلال أم حرام؟ حتى تعمل عنده، فهذا لا يجب عليك من فضل الله وسعة رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إنما عليك أن تتقي الله في عملك، وأن تأخذ الأجرة التي تستحقها من حلال.
نعم.
لا يجوز الأكل من مال حرام، لكن هل هذا حرام؟ وعلى أية حال، المسألة -كما ذكرنا- من مسائل الشبهة والورع ولا نشك في هذا، لكن لا نقول: إنه حرام، فهذا الذي نهى الله عنه كما قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل:116] نتورع عنه، فقد يوجد من يقول بالتحريم كما قلتم، لكن أنا لا أعلم من قال: إنه يحرم.(50/37)
حكم العمل في البنك المركزي
السؤال
أخ يسأل يقول: إنه يعمل في مؤسسة النقد العربي السعودي، وعمله عدُّ النقود التي تودع في المؤسسة من قبل البنوك الربوية، فما حكم عمله؟
الجواب
هذا واضح أنه حرام، ما دام يعد النقود التي توضع من البنوك الربوية في المؤسسة، وهذا لا يحتاج إلى سؤال؛ لأن البنك المركزي في أي دولة أو بنك البنوك هو البنك الأساسي، والذي يسمى عندنا: مؤسسة النقد، الذي كل يوم يجبر بالمقاصة بين البنوك في التعامل؛ فكل يوم يأخذ من هذا ويعطي هذا إلى آخر هذه المعاملات، فمن هنا هو بنك البنوك، فهذا العمل عمل ربوي، وعمل محرم؛ لأنه يقر الربا، ويشجع عليه، ويخدم أهله؛ فأكبر خدمة تقدم للبنوك الربوية هو ما تقوم به مؤسسة النقد من المقاصة فيما بينها، ولولا هذه المقاصة لصعب عمل البنوك جداً، ولاحتاجت إلى عملية طويلة، لا تخفى على من يعرف هذا من أهل الخبرة، فالموظف في مؤسسة النقد وبالذات في هذا القطاع، لا شك أنه يدخل في عموم الحديث والأدلة التي ذكرناها في تحريم الربا، والعمل في المؤسسات الربوية.(50/38)
تعديلات في قوانين الشركات
السؤال
إخوان من الرياض يقولون: إن الشيخ عبد الوهاب الطريري حفظه الله بشرهم بأن الموافقة الثانية صدرت عن نظام إسلامي يختص بمعاملة البنوك، فهل فسرت لنا هذه البشارة وذكرت للإخوان هنا بها أثابك الله؟
الجواب
هذا الخبر مفرح جداً وسار -لا شك في ذلك- ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يكون حقيقة، لكني ليس عندي علم على الإطلاق لم أسمع بهذا إلا هذه اللحظة فلا أستطيع أن أؤكده ولا أن أنفيه، وإن غداً لناظره قريب، وإذا حصل فستعلمون وسينشر ونفرح به جميعاً.
ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يهدينا جميعاً، وأن يردنا إليه رداً حميداً، وأن يهديَ ضالَّ المسلمين، وأن يجعلنا جميعاً هداةً مهتدين، وأن يحيينا مصلحين، نسعى إلى تحكيم كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل صغيرة وكبيرة من أمرنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد.(50/39)
الشيوعية بين الانهيار والتجديد
تحدث الشيخ حفظه الله عن عملية إعادة البناء التي ينادي بها الشيوعيون الجدد والتي يُتوقع أن تُغير مجرى التاريخ، موضحاً حقيقة هذه العملية وما يتعلق بها.
ثم تحدث عن الصحوة الإسلامية والأخطار التي تنتظر هذه الصحوة، مبيناً حتمية المعركة بيننا وبين الغرب، وأنه لابد من عودة الأمة إلى كتاب ربها وسنة رسوله نبيها صلى الله عليه وسلم.(51/1)
الدوافع إلى الحديث عن الشيوعية
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
ثم أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الموضوع كما ترون هو من الأهمية بمكان، إذ لا ينبغي للأمة المسلمة وللشباب المسلم وللدعاة أمثالكم أن يظلوا بمعزلٍ عن أحداث كبرى يموج فيها العالم شرقاً وغرباً، وتحدد فيها مصائر أمم وشعوب، ولا بد أن يظهر أثرها على مصير الأمة الإسلامية التي يهمنا جميعاً أمرها وشأنها.
إن موضوع الشيوعية هو موضوع الساعة، والكل في العالم شرقاً وغرباً يتحدث عن هذه الثورة القائمة الآن في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية عامة، كل يأخذها من منحاه واتجاهه ومنزعه الفكري.
فالسياسيون يرون فيما يدور هنالك، وما يسمى بـ (عملية إعادة البناء) أحداثاً جديرة بالتحليل السياسي العميق؛ لأن مستقبل العالم السياسي يتوقف أو يتأثر كثيراً بالنتائج التي سوف تسفر عنها هذه العملية، والمحللون الفكريون أو الأيديولوجيون مهتمون للغاية، لأن مذهباً فكرياً من أكثر المذاهب العالمية سيطرةً وانتشاراً يتعرض لهذه العملية الهائلة، التي لم يكن في حسبان أحدٍ أن يتعرض لها.
والمحللون الاقتصاديون مهتمون جداً بمتابعة هذه الأحداث، إذ سوف يترتب على ذلك من الأمور الاقتصادية الشيء الكثير، وسوف تتغير موازيين كثيرة في أمور الاقتصاد والمال، وهكذا فإن كل إنسان وكل فكرة وكل تخصص يتطلع إلى معرفة الحقيقة عما يدور فيما يسمى (عملية إعادة البناء)، وأولى الناس بمعرفة حقيقة هذا الشأن هم المسلمون، وإن الخلاف القائم الآن في التحليلات الفكرية والسياسية والاقتصادية حول هذه المسألة لجديرٌ بأن نلم بجميع أطرافه ما أمكن، وإن كنا لن ندخل في التفاصيل العميقة والدقيقة لهذا الموضوع.(51/2)
اختلاف المحللين لعملية إعادة البناء(51/3)
الاتجاه الأول
إن الاتجاه الأكثر شيوعاً ولاسيما لدى المثقفين أو الدعاة الإسلاميين: هو أن الشيوعية تنهار وتنحسر وتتراجع.
ومع تسليمنا بأن هناك جانباً عاطفياً يتدخل في هذه النتيجة، وأن الشعور بالارتياح العام لدى الأمة الإسلامية، يؤثر في استنتاج هذه النتيجة، فإن لها قدراً من الصحة لا يخفى على أي متفطن.
أولاً: نحن المسلمون نؤمن إيماناً قاطعاً بأن كل ما سوى الإسلام باطل وزائل ومنهار، وأن هذه المبادئ التي أُسست على غير الإيمان بالله، وعلى غير تقوى الله، وعلى غير هدى من الله، فلا ريب أنها تنهار وتنحصر، ولكن هل ذلك يحصل الآن؟ هنا نقطة الاختلاف، فالذين يرون الانهيار يقولون: ماذا بعد سقوط هذه الدول دولة تلو الأخرى في شكلٍ مسرحي يثير الدهشة لدى كل المحللين؟ دولٌ كانت قلاعاً كبرى لهذا المبدأ، وإذا بها تتهاوى كبيوتٍ من الورق تلتهمها نار الثورة، أليس هذا انهياراً؟ أو ليست الشيوعية من طبيعتها الحتمية الثورة؟ فماذا تريدون أكثر من أن الشعوب تطالب بـ الديمقراطية، وتثور على الثورة وتنتصر عليها؟ والأعجب أن يكون قائد هذه الحركة هو الاتحاد السوفيتي نفسه، بل أن يكون قائده هو زعيم الشيوعية العالمية ميخائيل جورباتشوف، هو بنفسه المشرف على هذه العملية الضخمة التي توصف بحقٍ بأنها أكبر حدثٍ في تاريخ أوروبا أو في تاريخ العالم -كما يقال أحياناً- منذ الحرب العالمية الثانية.
أليست الدبابات الروسية قد دكت المجر في عام (1956م)، ودكت براز في تشيكوسلوفاكيا عام (1968م)، أليست روسيا والأحزاب الشيوعية وراء كل ثورة قامت في العالم وفي العالم الإسلامي بالذات من أجل إحلال الماركسية اللادينية محل العقيدة الصائبة والنظام الموجود؟ وماذا بعد هذا من علامات الانهيار؟ أو ليس الرئيس ميخائيل جورباتشوف قد أعلنها صراحةً -أو ظناً- بعد اجتماعه مع بوش في مؤتمر مالطا بأنه لن يتقاسم العالم مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا تراجع كبير، وهنالك كثير من الاستنتاجات بشواهدها الدالة على أن الشيوعية حقاً تتعرض لانهيارٍ شامل، وقد أفضى ذلك إلى الاعتقاد بأن الرئيس جورباتشوف ما هو إلا صنيعة رأسمالية أو دسيسة غربية أريد هدم الشيوعية به أو من خلاله، وبتزعمه أو بتسلطه على الحزب وعلى الدولة استطاع بتلك القبضة أن يفعل ما أراد، وأن يحقق هذا الهدف الذي يباركه الغرب في شتى قطاعاته وفي مختلف أنظمته وأوضاعه.(51/4)
الاتجاه الثاني
أما الاتجاه الآخر القائل بأن الشيوعية في مرحلة تجديد، وأن عملية إعادة البناء ما هي إلا تطوير للمذهب، وما هي إلا نقلة ضمن نقلات ومراحل مرت بها الشيوعية منذ تأسيسها، فإن هذا القول له شواهده وله مؤيداته.
وهذا هو ما ينادي به ميخائيل جورباتشوف بنفسه، فهو يقول في كتابه: عملية إعادة البناء ويكرر بأن المسألة: هي إعادة بناء كما سميت، وأنها تجديد للاشتراكية، ولعل المراد هو من العملية تطبيق الاشتراكية تطبيقاً صحيحاً، وإدارة الدول بأفضل وسيلة لتحقيق الأهداف الاشتراكية.
إن جورباتشوف ينتقد النهج الاستاليني بقوة، ولكنه لا يثور ولا يتعرض لمسألة فساد أو خلل الفكرة في ذاتها، فالأيديولوجيا أو العقيدة في ذاتها مقدسة عند جورباتشوف وإنما الإشكال عنده في التطبيق، بل هو يعتذر في مواضع من كتابه عن الخلل الذي حدث في أيام استالين، وبعض الخلل كما كان في مشكلة الشئون الاجتماعية والمرأة.
يقول: 'إن ظروف الحرب -أي الحرب العالمية الثانية- جعلتنا نتغاضى أو نتجاوز كثيراً في مسألة التطبيق أو الالتزام بالمبدأ، فكان هذا التجاوز لا بد أن يصحح يوماً ما، وهاهي ذي عملية إعادة البناء قائمة على ذاتها'.
ويؤيد جورباتشوف كلامه بأنه في كل اجتماعاته وهو ذلك الخطيب المفوه والمجادل المقنع مع الأدباء، ومع المفكرين، والسياسيين، والصحفيين، والمغنيين، والفنانين، والفلاحين، وكل قطاعات الشعب يقول: 'إن الكل يؤيد عملية إعادة البناء، ويرى أنها تمثل روح الثورة وحقيقتها، وأن الانحرافات الماضية، وألوان الفساد الإداري التي ظهرت جديرة أن تصحح وفقاً للمنهج الشيوعي الصحيح'.
ومما يؤيد به أصحاب الرأي الثاني: أن الشيوعية تتعرض لتطورٍ وتجديد لا لانهيار وتدمير أن الوضع الذي حدث في أوروبا الشرقية لم يكن للاتحاد السوفيتي نفسه، فكل ما حدث من انهيارات للنظم الديكتاتورية هو في أوروبا الشرقية التي يشرف عليها الاتحاد السوفيتي بطبيعة الحال، لكن ذلك لم يمس الجوهر الأساسي للشيوعية كما أخفق إلى حد ما في سقوط الشيوعية أيضاً.
كذلك يبررون هذا الموقف بأن ما حدث إلى الآن لم تظهر نتائجه كاملة في دول أوروبا الشرقية، لأن الأشخاص الذين اختيروا في أغلب الدول وفي كثير من الأحيان هم من النوع المسمى الشيوعيين الإصلاحيين، فلم يجمع الناس على الخروج عن المبدأ، وإنما الخروج على الفساد الإداري أو السلطة الإدارية القائمة، ولذلك فكل الأحزاب إما شيوعية إصلاحية وإما اشتراكية، والذين اختيروا في الغالب لا يرفضون الشيوعية منهجاً، وإنما يرفضون التطبيق الذي حدث في تلك الدول.
فهذا -أيضاً- مما يدعم موقف أولئك الذين يرون فيها تطويراً وتجديداً لا تدميراً وانهياراً، كذلك فإن الذين يقولون بهذا القول يرون أن الغرب يوجد فيه أحزاب شيوعية، ومنذ أن قامت ثورة شيوعية، ولو رجعنا للوراء قليلاً فالخلاف في حقيقة الماركسية وتطيبقها طويل.
وكل مذهبٍ ضال وكل مذهب منحرف عن دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فلابد أن يكون كذلك، التفرق في الأهواء والاختلاف والجدل، فقالوا: إنه منذ أن كان لينين وكان تروتسكي؛ المونشفيك والبولشفيك، البلولشفيك هم الأكثرية من البلاشفة، والأقلية هم المونشفيك الذين كان يمثلهم ترتوسكي وجماعته وجدت الدولية الثانية ثم الدولية الثالثة ثم الدولية الرابعة والبونشفيك أي: أن الشيوعية خارج الاتحاد السوفيتي كانت تمثل عدة اتجاهات.
ومنها: اتجاه كان يشتد في إنكاره على لينين واستالين، لأنهم أقاموا الشيوعية في بلدٍ واحد، والشيوعية مبدأ عالمي، والشيوعية كما يرون نظرية كونية عالمية، فكيف تطبق في بلدٍ واحد وهو بلدٍ زراعي -أيضاً- وليس بلداً صناعياً وهو روسيا، ولذلك يرون أنه لا بد أن تعم الثورة أوروبا جميعها، وأن تقوم في كل مكان دفعة لكن بأية طريقة؟! هنا اختلفوا، فمنهم من يرى التغلغل بالوسائل السلمية، ومنهم من يرى الثورة المسلحة كما قامت في روسيا تحت شعار الثورة الحمراء.
والذي حصل أن الأحزاب الشيوعية في العالم الغربي كانت تنشق وتتباعد شيئاً فشيئاً عن الاتحاد السوفيتي، وعن تطبيقات الشيوعية في أيام استالين، إلى أن برزت أحزاب شيوعية كبرى كـ الحزب الشيوعي الفرنسي، والحزب الشيوعي الإيطالي.
فمثلاً: الشيوعيون في فرنسا لهم قوة واضحة في السياسة، كما أن الأحزاب الاشتراكية تحكم في كثيرٍ من الدول الغربية، وهي قائمة وموجودة، ولها قوتها ونفوذها، فكأن ما يحدث الآن هو تأييد لنوعٍ من أنواع الشيوعية الدولية ضد التطبيق الأستاليني المنتهج عملياً في الاتحاد السوفيتي.(51/5)
نتيجة إعادة البناء على العالم الإسلامي
من هنا نصل إلى نتيجة لا يهمنا مقدار صحتها بقدر ما يهمنا الحقائق العملية التي تترتب عليها بالنسبة لنا نحن العالم الإسلامي.
فهذه النتيجة التي نستخلصها تقول: "إن أوروبا ككل تتجه نحو التقارب".
أي: أنه لو عدنا أدراجنا إلى القرن التاسع عشر، أو بالأحرى إلى بداية الثورة الشيوعية وإلى عهد لينين الذي حكم من عام (1917م) إلى عام (1924م)، نجد أن الفرق الواضح الجلي بين الشيوعية وبين الرأسمالية قد تلاشى، وقد تقاربت أوروبا شرقها وغربها.
الشرق لم يعد شيوعياً ماركسياً حرفياً، وكذلك الغرب لم يعد رأسمالياً إمبيريالياً حرفياً، ولاشك أن هذه حقيقة واقعة لا يجادل فيها أحد.
وبناءً عليه فإن ما حصل من عملية إعادة البناء للاتحاد السوفيتي هي اقتراب مما تطالب به الأحزاب الاشتراكية عامةً، بل والأحزاب الليبرالية في العالم الغربي، من ضرورة الموازنة بين سلطة الدولة والشعب، بين قيمة الفرد وبين قيمة المجتمع، أو حقوق الفرد وحقوق المجتمع، فبعد أن كانت الشيوعية مبدأً جماعياً محضاً، وكانت الرأسمالية مبدأً فردياً محضاً، يتجه كل منهما إلى نوع من حلول الوسط.(51/6)
وحدة العالم الغربي
هنا تكون نقطة التقاء، بمعنى: أن الأطروحات التي يطرحها ميخائيل جورباتشوف للاتحاد السوفيتي، وينادي بها الذين أحدثوا الثورات المتلاحقة في أوروبا الشرقية لا تتغير كثيراً عما ينادي به ويطرحه كثير من رؤساء الأحزاب الشيوعية والاشتراكية في أوروبا الغربية.(51/7)
حقيقة جرباتشوف
إن من يتتبع تاريخ هذا الرجل جورباتشوف يجد أنه قد رُبي بعناية، وقد أخرج وأبرز بعناية من الحزب الشيوعي نفسه وليس فقط -كما يرى البعض- أنه أبرز برعاية الغرب الرأسمالي، وذلك أن عملية إعادة البناء قد بدأت -في الحقيقة- في أيام يوري أندربوش، بل بيرجنيف بنفسه وهو الرجل المتصلب على حرفية الشيوعية كان يشارك في كثير من نقاط العملية، وقد أسهم إلى حدٍ ما في إبراز جورباتشوف، فرجل شاب نشط صاحب مواهب هُيئ من أجل أن يقوم بهذا الدور الخطير، الذي يمكن أن يؤدي إلى نتائج كُبرى في تاريخ الفكر والسياسة العالمية.
هيئت جميع السبل أمام جورباتشوف ليصبح زعيماً عالمياً عن دراسة من الحزب، فهو ليس رجلاً مستبداً متسلطاً أتى ليحكم -وإن كان ذلك ليس بغريب على الاتحاد السوفيتي - ولكن كان هناك إعداداً، من السلطة القوية للحزب، وكذلك الفروع يستحيل معها أن يأتي رجلٌ بمجرد أنه مستبد وخارج عن الحزب خروجاً كلياً، فيصل إلى أن يكون رئيساً للحزب ورئيساً للدولة في وقتٍ واحد، وهذا ما يُفسر أن الارتياح الغربي لوجوده يقابل بالشكوك، وبعض التحليلات الغربية ترى أنه قد يفشل، وبعضهم يرى أنه قد ينتهي، وبعضهم يتفاءل، وبعضهم يتمنى أن يطول هذا الأمد وهذا الحلم ليرى ما هي النتيجة التي سوف تنكشف عنها هذه المغامرة.(51/8)
أثر الوحدة الغربية على الاتحاد السوفيتي
نجد أن بعض الأمور أو الخطوات العملية -وهي التي أختصر لكي أصل إليها- وهي التي تهمنا نحن المسلمين أكثر فأكثر، فقد ظهرت وبرزت منذ عملية إعادة البناء التي نادى بها جورباتشوف.
من ذلك: أن أوروبا الغربية مقبلة على اتحاد، وأن تكون برلماناً واحداً، وأن يكون لها وجود وكيان اقتصادي واحد، والدول المتفقة على هذه الوحدة يبلغ مجموع سكانها (325) مليون، وهي بذلك تصبح أقوى بشرياً من أكبر تجمع غربي قائم الآن، وهو الولايات المتحدة الأمريكية فيصبح هناك ولايات أوروبية متحدة أكبر وأقوى بشرياً من الولايات المتحدة الأمريكية، وينتج عن ذلك سيطرة اقتصادية أكبر، ووقوف في وجه المنافسة مع أمريكا ذاتها أو مع اليابان أو غيرها.
هنا لا بد أن يقف الاتحاد السوفيتي في موقفٍ حرج للغاية أمام الانهيار الذي يُعاني منه اقتصادياً وعلمياً، والانهيار الاقتصادي الذي يعاني منه هو أحد الأسباب التي يُركز عليها جورباتشوف في كتاباته وفي محاضراته وفي لقاءاته عن عملية إعادة البناء، وهناك حادثتان للتمثيل عن ذلك: الحادثة الأولى: حادثة الإشعاعات النووية التي تسربت من تشر نوبل وهي -كما تعلمون- قد أثبتت عجز الاتحاد السوفيتي عن مقاومة أو تدارك أخطار هذه الإشعاعات.
الحادثة الثانية: حادثة زلازل أرمينية حيث عجزت الطاقة السوفييتية عن ملاحقة ومتابعة الحادث، مما اضطرهم إلى الاستعانة بالدول الغربية، سواء بانتشال الجثث، أو إيواء المشردين، بالإضافة إلى النقص الهائل في المواد الغذائية كالقمح والسكر وغير ذلك.
فكيف سيكون حال الاتحاد السوفيتي لو أن أوروبا وهي مقبلة على التوحد توحدت فعلاً؟! وأوروبا الشرقية إنما تعيش على معونات الاتحاد السوفيتي، والأحزاب والدول الشيوعية في العالم إنما تعيش على مساعدات الاتحاد السوفيتي؛ إذاً كيف سوف يكون هذا الوضع في حالة توحد أوروبا الغربية؟! وبالتأكيد فـ الولايات المتحدة الأمريكية بهيمنتها العسكرية سوف تربطها بـ أوروبا أقوى الروابط، ومعنى ذلك أن تجمعاً أوروبياً غربياً يشكَّل ويؤلَّف بإرادة ستمائة مليون أو أكثر، سيكونون قوةً كبرى سياسياً واقتصادياً تواجه الاتحاد السوفيتي، ومن هنا فإن جورباتشوف يعتبر أن عملية إعادة البناء هي في حقيقتها إنقاذ للاتحاد السوفيتي، وإنقاذ للشيوعية عموماً من الانهيار والاضمحلال.(51/9)
أثر وحدة الغرب على العالم الإسلامي
طلب الرئيس جورباتشوف من مجلس الأمن القومي الأوروبي أن يعجل تاريخ انعقاده وأن يدخله الاتحاد السوفيتي، فدول أوروبا الشرقية بعد أن تخلت عن الشيوعية الشكلية الرسمية المباشرة، أصبحت موسكو في حل من الالتزامات الاقتصادية والمالية تجاهها، وأصبح العالم الغربي يرى نفسه مرغماً أو ملزماً أدبياً بمساعدة هذه الدول؛ لأنها اتجهت إلى الديمقراطية، ومن جهة أخرى ليؤسس مؤسسات اقتصادية داخل هذه الدول.
ومقابل ذلك الاتحاد السوفيتي بقي الوحيد خارج هذا النطاق، ولذلك يرى كما طلب جورباتشوف تعجيل مؤتمر الأمن القومي الأوروبي، وأن يدخل الاتحاد السوفيتي ويشترك في هذا المؤتمر، ولو تم ذلك -والأمر يُرتب له- فسوف يصبح قوة أوروبية هائلة.
بمعنى أنه سوف تصبح أوروبا شرقها وغربها متحدة إلى حدٍ ما إن لم يكن اتحاداً كلياً -كما هو الآن مشاهد في أوروبا الغربية - فسيكون اتحاداً اقتصادياً، واتحاداً في كثير من المواقف السياسية والعملية، وسيترتب على ذلك خطرٌ داهم للعالم كله وبالذات على العالم الإسلامي، وهو العدو الوحيد المستهدف من الشرق والغرب دائماً.
الاتحاد السوفيتي يسكنه ما يقارب (280) مليون نسمة، والدول التي تدور في فلكه مع الدول الأخرى التي سوف تدور في فلك (الستمائة مليون) الذين يُكونون أوروبا الغربية وأمريكا، معنى ذلك كما هو واضح أن قوة بشرية تعدادها أكثر من (ألف مليون) سوف تكون موحدةً إلى حدٍ ما وبشكل ما من أشكال الاتحاد، وسوف يدفع ثمن هذا التوحد هو العالم الإسلامي! فهذا التوحد صليبي بلا ريب؛ لأن أكثر الدول حرباً للأديان وهي روسيا قد أعلن جورباتشوف إحياء القيم الروحية فيها، واحتفل بمناسبة بلوغ ألف سنة على إنشاء الكنيسة الكاثوليكية.
جورباتشوف بنفسه زار البابا في الفاتيكان وهي أغرب زيارة في العالم، لم يخطر على بال أحد أن يزور رئيس الدولة الإلحادية الكبرى زعيم العالم الروحي -كما يسمى- النصراني، وثورة بولندا باعتبار أن البابا بولندي الأصل أيضاً كانت تُبارِك من قبل البابا، وهي أول شرارة تفجرت في أوروبا الشرقية.
إذاً: ألف مليون -على الأقل- يتوحدون توحداً صليبياً، وهم يُشكلون أقوى قوة عسكرية في العالم بلا ريب، لأن القوة التي تضم أوروبا الغربية مع الولايات المتحدة الأمريكية مع القوة السوفييتية لن يكون هناك أقوى منها.
وعندما كانت الحرب سواءً كانت الحرب الباردة أو الساخنة، كان العالم في معسكرين مختلفين، كان هناك ما يمكن أن يستفاد منه من التناقضات الدولية بالنسبة للعالم الإسلامي، أما لو توحدت القوتان العظيمان، فإن العالم الإسلامي سيجد نفسه أمام أبوابٍ موصدة، إما أن يقاوم أو أن يستسلم، فهو أكبر منطقة يحرص الطامعون من الشرق والغرب عليها، بالإضافة إلى الحقد التاريخي القديم.(51/10)
أمثلة من آثار الوحدة الغربية على المسلمين
ونضرب مثالاً واحداً: قضية أفغانستان وهي القضية الحساسة المهمة جداً بالنسبة لنا نحن المسلمين، تأثرت بهذا التقارب الدولي العالمي تأثراً كبيراً، ولذلك أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي معاً الموافقة على إعادة الملك ظاهر شاه إلى حكم أفغانستان، وإجراء انتخابات، واتفقت الدولتان.
في حالة اختلافهما قد يكون هناك مدخل أو مبرر للمجاهدين في الدخول في اللعبة الدولية بنوع من الدراسة التي قد تُعطي بعض النتائج، لكن في حالة الاتفاق لا شك أن الموقف سيكون أصعب، والمواجهة ستكون أشد بالنسبة للمسلمين، وهذا مثال واحد وغيره كثير.
وهناك مثال واضح جداً لا يكاد يمر يوم إلا وتسمعون عنه وتقرءون عنه: وهو أن من إثبات حسن النوايا لدى جورباتشوف عموماً وأوروبا الشرقية خصوصاً، أنهم بادروا لإقامة العلاقات مع إسرائيل، بل الهجرة اليهودية من الاتحاد السوفيتي ومن أوروبا الشرقية إلى إسرائيل وأصبحت من الموضوعات الأساسية، وقد ناقشها جورباتشوف وبوش في مؤتمر مالطا، وأصبح واضحاً جداً، وقد اشتكى المسلمون واشتكى العرب، واشتكت منظمة التحرير من هذه الظاهرة، وهي هجرة اليهود من الاتحاد السوفيتي.
وقد نشرت دول أن الذين هاجروا من الاتحاد السوفيتي أكثر من (ثلاثة وسبعين ألف) يهودي، وهم طبقة مثقفة ونوعية معينة، وسوف تقام لهم مستوطنات، وسوف يكون ذلك على حساب السكان المسلمين الأصليين، الذين سوف يتزايد عليهم العبء ويتضاعف، ولا سيما مع التناقص العددي الرهيب والشديد الذي يقع الجهاد الفلسطيني فريسة له، إذ كل يوم يخسر أعداداً بشرية، حيث إن حالات الإجهاض التي تمت منذ قيام الانتفاضة أكثر من (ثلاثمائة ألف) حالة، ومعنى ذلك أن هناك إصراراً وتعمداً للاضمحلال البشري بالنسبة لسكان الأرض المحتلة الأصليين، وإحلال أولئك اليهود الشرقيين والسوفيتيين محلهم، وهذا -أيضاً- أحد المؤشرات الأولية، وما تزال الأمور في بدايتها.
وأمام هذا نقول: إن الخلاف بين الغرب والشرق مهما قيل عنه فإنه يظل محدوداً، ولا سيما أن أرض الواقع فرضت ذلك، والواقع أن الدول الغربية قد أسهمت كثيراً في تأمين العمال وترفيههم، وفي مشاركاتهم في الشركات والمؤسسات.
بمعنى أنها قطعت كثيراً من الطرق التي يمكن أن تتسرب منها الشيوعية الماركسية للتطوير والتغيير الكلي، وبنفس الوقت: فإن روسيا تراجعت في كثير من أمورها عن التطبيق الحرفي للماركسية، وأصبحت توائم وتوازن بين الملكية الفردية والملكية الجماعية، وأصبحت النظرة المتفق عليها بين كلا المعسكرين هي إيجاد القوة الاقتصادية لشعوبها، وتأخر إلى حدٍ ما موضوع العقيدة أو الأيديولوجية أو المبدأ أمام الضغط الاجتماعي والضغط الاقتصادي.
فإذا أضيف ذلك إلى أن الكفار وأوروبا جميعاً موحدة نفسياً وتاريخياً ضد الأمة الإسلامية، فسوف يبرز للعالم الإسلامي هذا العدو الجديد، وهو عملاقٌ ضخم لا يمكن أن يقاوم إلا بقوة تقوم في هذه الأمة، وهي -والحمد لله- تملك ذلك، لكن يحتاج إلى مقاومة ليست كأي مقاومة، ونحن نؤكد: أن النصر للإسلام، وأن الغرب مهما تجمَّع ومهما توحد فإنه مخذول بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(51/11)
مع الصحوة الإسلامية في المعركة
يجب أن نعلم أن المعركة سوف تطول، وأن نهايتها لن تأتي بسلام، وأن هذه الأمة ستدفع تضحيات كبرى من أجل أن تنتصر على هذا العالم الذي يتفوق عليها في كثير من الشئون والمجالات، ومن ذلك أن الأحزاب الشيوعية أو الاشتراكية في العالم الإسلامي إن جرت عليها عملية إعادة البناء؛ فإنها لن تجري إلا بتضيحات من المسلمين بطبيعة الحال ولن تدفع هكذا، ولو أن الأمة أرادت إعادة البناء لتبني دينها وإيمانها وإسلامها، فإنها سوف تكون في حالة مواجهة مباشرة مع هذا العدو الجديد، ومع (ألف مليون) صليبي يترصدون لها.(51/12)
الصحوة في الجزائر والعبرة منها
ظهرت حادثة -ومع الأسف الشديد- وقليل من كتب وحلل عنها، ولكنها بارزة ومهمة، ويجب أن نعيها تماماً، وهي الحادثة التي وقعت في الجزائر، فأحداث الجزائر فيها عبرة كبرى بالنسبة لنا المسلمين جميعاً.
قام الشيوعيون بإخراج (ثلاثة آلاف) امرأة في مظاهرة لإلغاء قانون الأسرة، لأنه مأخوذ من الشريعة الإسلامية جملة وكذا في كثير من تفصيلاته، ثم أخرجت جبهة الإنقاذ مليوناً ونصف امرأة، مع مليون من الرجال، خرجوا بمظاهرة يطالبون بالإسلام.
وكان ذلك الوجود الضخم الذي أزعج الصحافة الغربية والشرقية معاً، ولم يكن في الأمر أية غرابة، لماذا لم تصنف على أنها محاولة إعادة بناء؟! لماذا يحرم علينا نحن المسلمين فقط إعادة البناء؟ لماذا لا يقال: هذا من حقهم، كما أن من حق التشيكي والألماني الشرقي والروماني أن يثور، وأن يغير وأن يتراجع؟ لماذا لا تراجع هذه الأمة نفسها؟! الذي حصل مع التعتيم الإعلامي إن بعض الصحف الغربية أوردت تصريحاً لـ شيراك رئيس فرنسا الدولة الأولى التي يهمها موضوع الجزائر قال فيه: 'لو أن هؤلاء الأصوليين نجحوا في الحكم، لتدخلت في الجزائر كما تدخل بوش في بنما '.
وهذا يُعبر عن الحقيقة التي سوف يأتي يوم من الأيام، ونراها كواقع مشهود.
وهي أنه في حالة تضاؤل الأحزاب الشيوعية في العالم الإسلامي وهي متضائلة ومتهالكة -بإذن الله- وفي حالة عجز وفشل الأنظمة الموالية للغرب في العالم الإسلامي من احتواء الصحوة الإسلامية والقضاء عليها وتفكيكها، وهي عاجزة وفاشلة -بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وخائبة في ذلك، ففي هذه الحالة لن يجد الغرب بديلاً إلا أن يتدخل بنفسه عسكرياً في العالم الإسلامي، وهذا ليس بغريب عليهم، فلقد تدخلوا في أفغانستان وفي مناطق أخرى، وأحداث أذربيجان ليست ببعيدة، وإن كانت هي داخل الستار الحديدي، ومعاملة أذربيجان غير معاملة لتوانيا وجمهوريات البلطيق مع أن الحزب والدولة واحدة والنظام واحد، وخروج القوات الروسية من أفغانستان لا يتعارض واقعها مع هذه الحقيقة لأسباب منها: أولاً: أن الاتحاد السوفيتي أخرج القوة العددية الجسدية، لكن المساعدات والقوافل الضخمة من الأسلحة والعتاد تتدفق يومياً أو شبه يومي -متى ما استطاعوا- إلى داخل أفغانستان.
ثانياً: أن الوضع هو محاولة ترتيب وتخطيط لما سوف ينتج بالنسبة لمحاولة إثبات حسن النيات، كما تم حكم النيابة بالنسبة لـ أوروبا الغربية، وبعد ذلك عندما تتوحد النظرة إلى حدٍ ما في القضايا الدولية، فسوف نجد أن القرار لن يكون قراراً روسياً هنا، ولن يكون قراراً فرنسياً بالتدخل في الجزائر أو في غيرها وهنا الخطر! لأن القرار سيكون قراراً صليبياً تجمع عليه أوروبا شرقها وغربها والولايات المتحدة الأمريكية ومن دار في فلكها، وهم جزء من الغرب، وسوف يجمع هؤلاء على هذا القرار، سواءٌ كان احتلال أية بقعة من العالم الإسلامي أو أي تدخل مباشر في أي بقعة من العالم الإسلامي، وهذا يضاعف مخاطر مستقبل الصحوة الإسلامية، رغم يقيننا بأن النصر للإسلام -بإذن الله- ولا شك في ذلك.
ولكن هذا ليحفزنا إلى البناء الحقيقي، بناء العقيدة، والإيمان في القلوب، والمواجهة الجادة المخطط لها، لمواجهة هذا العدو الماكر القوي الخبيث.(51/13)
الصحوة والمعركة القادمة
نحن -في الحقيقة- لا نريد أن نُخطئ في تطبيق بعض الأحاديث النبوية على هذا الواقع أو غيره؛ لأن هذا من علم الغيب، لكن نحن نؤمن إجمالاً بما صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أنه في آخر الزمان سوف يغزونا الروم، وتكون الملحمة في بلاد الشام، جاء في أحد الأحاديث: {فسطاط المسلمين سوف يكون في الغوطة في مدينة دمشق} أي: أن مسرح الأحداث سيكون واحداً، فالحروب الصليبية استمرت قروناً، ومسرح أحداثها هو هذه المنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، وكذلك في آخر الزمان كما صحت الأحاديث في ذلك: {تقوم الساعة والروم أكثر الناس} ويقومون ويغزون المسلمين، وتكون المعارك في الشام أيضاً.
أي: أن المواجهة مع الغرب عسكرياً أمرٌ لا بد منه، والإعداد لها أمرٌ مطلوب ولا بد منه أيضاً.(51/14)
الإعداد للمعركة على نهج الكتاب والسنة
وهنا نقول: إنه أياً كان ما تتعرض له الشيوعية، سواءٌ كان انهياراً كلياً أو تطويراً وتجديداً، فإن المسألة تتطلب منا أن نكون واعين بأن مستقبلاً خطيراً يهدد الأمة الإسلامية، وألاَّ ندع مجالاً للعواطف التي تقول: إن هذا الانهيار سوف يتيح للإسلام نشر الدعوة! نعم! قد يسمح لنا أن نصدر الكتب، ونرسل المصاحف، وأقصى ما يمكن أن نصل إليه أن يكون الحال كما هو الحال في أمريكا، ولكن هل تسمح أمريكا بقيام دولة إسلامية؟ حقيقية كما لو قامت -إن شاء الله- في أفغانستان.
وهل ترضى أمريكا بأن يتسلم المجاهدون الحكم في أفغانستان؟! ستقف أمريكا بكل قوة وفي أي مكان، ولن تسمح بقيام دولة إسلامية نقية على منهاج الكتاب والسنة -أبداً- في أي بقعة من بقاع العام الإسلامي، فكيف إذا اتفق الغرب والشرق على ذلك وهو العدو المشترك لهما؟ كيف والأفعى اليهودية هي التي تحرك العالم شرقاً وغرباً؟! لا بد للأمة الإسلامية أن تعد العدة، والنصر قادم بإذن الله وقد قام عماد الدين زنكي ونور الدين وصلاح الدين في أوقات الانحطاط والضعف والفرقة في العالم الإسلامي وسيطرة الباطنية والروافض وأشباههم.
ومع ذلك كما قال شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله في أكثر من موضع في الجزء الثاني والعشرين من الفتاوى يقول: 'نََصَرَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نور الدين وصلاح الدين على قلة العدد والمال بالإيمان'.
لأنهم كانوا مخلصين في إيمانهم بإذن الله يقول: 'لأنهم كانوا لا يوالون الكفار، ولم يكونوا يوالون اليهود والنصارى '.
والغرب لا شك لن يسمح بقيام أمة لا تواليه، ولا تتشرب مبادئه، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى كون هذا العبء ثقيلاً يفرض علينا مضاعفة الجهود في الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وفي تحذير هذه الأمة وتنبيهها، وأن الحل الوحيد في كل مشاكلها لا يمكن أن يكون إلا بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فعلى أية دعوة تدعو إلى غير الكتاب والسنة أو تدعو وفي دعوتها دخن، فعليها أن تراجع نفسها، لأنها لن تقدم العالم الإسلامي، بل سوف تؤخره ولا ريب، لأنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
ولن يتوحد العالم الإسلامي -بإذن الله- إلا في ظل الكتاب والسنة، وفي ظل دعوة لا ترتبط على الإطلاق بالأشخاص ولا بالنظرات الضيقة، بل هي دعوة لكل (الألف مليون) مسلم إلى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، منهاج واضح: علم، وجهاد، ودعوة، وأمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر، وهذا ما سوف يقوم، وقد بدت بشائره -والحمد لله- واضحة في الجهاد الأفغاني، وفي الجهاد الإرتيري، وفي الجهاد الفليبيني، وفي مناطق كثيرة شملتها الصحوة الإسلامية، كما أشرنا في أحداث الجزائر، وكذلك في ليبيا وتونس، وكل بلد -والحمد لله- توجد فيها هذه الصحوة الإسلامية، أو بشائر لها يجب أن تستمر، وأن يكون الكتاب والسنة هو منهاجها الوحيد، وكذلك فهم السلف الصالح نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يحقق ذلك، إنه سميع مجيب.(51/15)
الأسئلة(51/16)
الاستفادة من الأحداث
السؤال
لماذا لا يستفيد الإسلاميون من هذه الأحداث؟ وما هي أوضاع المسلمين في الجمهوريات الإسلامية؟
الجواب
نحن الإسلاميين لم نستطيع أن نفهم الأحداث، فكيف نستفيد منها؟! إذا لم نعرف لمصلحة من تدور هذه الأحداث، وما هي عاقبتها، فكيف نستطيع أن نفعل شيئاً؟! المتوقع -الآن- ظهور كتلة عالمية قوية متحالفة يعبر عنها البعض الشمال ضد الجنوب، وليست فكرة شمال ضد جنوب، بل هي الصليبية ضد الإسلام، فهذا الواقع، وهذا هو المسار.
أما الجمهوريات الإسلامية فهناك تعتيم كامل من جهة الاتحاد السوفيتي، وأيضاً: من جهة إعلام بعض الدول الإسلامية، ونتوقع أن يكون لهم شأن- سواءٌ من كان منهم على المنهج السليم الذي سوف ينتصر -بإذن الله- أم أي أقلية أخرى، نتوقع أن يكون لهم دور، وأن ينتهزوا فرصة الخلخلة ما بين الديكتاتورية السابقة وعملية إعادة البناء، ولكن ليست هذه النتيجة أو القصد، فالقصد هو أن المسلمين في عمق العالم الإسلامي يحتاجون إلى الفهم الصحيح للدعوة والإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فكيف تتصورونهم في ظل الشيوعية الملحدة التي أبعدتهم عن معرفة حقيقة دينهم؟! أي: لا يمكن أن يحقق النصر إلا على ضوء منهاج واضح، وهذا المنهاج مفقود أو غائب في الواقع إلا من الناحية العلمية النظرية في عمق العالم الإسلامي، فكيف تتوقعونه في تلك الأصقاع؟!(51/17)
ضرورة الاهتمام بالأحداث
السؤال
كثير من الشباب المسلم لا يهتم بهذه الأحداث العالمية وتأثيرها على العالم الإسلامي والدعوة الإسلامية، أو باختصار لا يهتم بعلم الواقع والفكر، فبماذا تنصحهم؟
الجواب
ننصحهم بضرورة الاهتمام، فنحن جزء من هذه الدنيا المائجة الهائجة، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم}، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى}.
نحن يجب أن نكون كالبنيان المرصوص جميعاً في كل مكان، فهذه الأحداث الآن أصبحت تلاحق الفرد وليس الأمة، الفرد في بيته مغزو، فابنك أو أي شخص في البيت يشاهد -مثلاً- الأخبار في التلفزيون كما تعرضها وكالات الأنباء الغربية، ويرى جورباتشوف وأين يذهب، وماذا يفعل، سوف يتأثر هو بنفسه، ويستوعب النظرية الغربية أو عملية إعادة البناء سلباً أو إيجاباً، وفقاً للمفهوم الذي رآه، فلابد أن يكون لك دور، أما مجرد سلبية مطلقة أو نفي مطلق فلا يمكن أن يعقل هذا لا ديناً ولا عقلاً.(51/18)
ظهور ما يسمى بالإسلام العصري
السؤال
إن موجة الحرية التي تسود في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي ستدفع الناس إلى التخلي عن فكرة الإلحاد والبحث عن هوية دينية، فهل للمسلمين دور في تعريف هؤلاء الناس بالإسلام وإرشادهم إليه؟
الجواب
نعم هذه حقيقة، الفراغ الروحي قائم، لكن الكاثوليكية تريد أن تحل محله.
وأيضاً: قد يسمح للمسلمين بالدعوة الفردية، وهذا ما يؤثر كثيراً على الأحداث، وسوف تزرع -وقد زرعت- أنواع من تفسير الإسلام تفسيراً جديداً، وهذا خطر موجود وقائم في أمريكا بشكل واضح في الاتجاه الجديد الذي يريد تطوير الإسلام كما يزعمون! الاتجاه العصري إسلام مرن، إسلام يقول: نريد الاحتشام ولا نريد الحجاب، إسلام يبيح الغناء والرقص والحياة الغربية بدون أي إشكال.
الاقتصاد يقوم على الربا، ويقولون: الربا والبنوك الغربية هي الاقتصاد الحر، والاقتصاد الحر لا يتعارض مع الإسلام.
ويقولون: إذا كانت الدولة برلمانية ديمقراطية فهذه شورى إسلامية، وهذا لا يتعارض مع الإسلام.
يقولون: لم يعد هناك دار إسلام ودار كفر، فكل العالم الآن دار واحدة تجمعها النظم والقوانين الدولية وهكذا.
ويقولون: لا بد من إعادة النظر بين علاقة المسلم بالكافر؛ لأن الفقهاء كتبوا تلك الكتب في الفقه في ظل الحروب الصليبية وعصور الإيمان، أما الآن فالعالم يتجه نحو الإنسانية، ويجب أن ننبه المسلمين لهذا كما يقولون: لا فرق بين المسلم والكافر، الكل إنسان، وهذا له حقوق، وهذا عليه واجبات!! مبادئ خطيرة جداً، ولها مدارس كثيرة، وبالذات في أمريكا، وقد صدَّرت إلى الشرق الهجوم على العلماء الإسلاميين، والهجوم على الدعوات الإسلامية القديم منها والحديث، ومحاولة للتجديد -كما يسمى- ولكن بأسلوبٍ يناسب أو يطور الإسلام -كما يزعمون- ليلائم الفكر الغربي.
هذا أيضاً سوف يوجد وسوف يُدعم، فلو انتشر هذا النوع الذي يُسمى إسلاماً، فلن يؤثر على العملية التي يريدون.
وحين أتى الصليبيون في الحملات الصليبية أتوا معهم الباطنية والروافض الذين ينتسبون للإسلام، وأتباع الدنيا أيضاً كانوا معهم، وبعض ملوك الشام قدموا لهم قلاعاً بأكملها وسلاحاً بأكمله، لأنهم لا يعرفون مبدأ الموالاة والمعاداة، ولا يؤمنون بعقيدة الولاء والبراء، فوجود مثل هؤلاء الناس -وإن كانوا مسلمين- لا يتنافى مع الأهداف التي يريد الغرب أن يحققها، فهو غير دين الإسلام الحقيقي الذي سوف يقفون بقوة لمحاربته.(51/19)
اتحاد العالم الإسلامي
السؤال
ما هو موقف العالم الإسلامي في مواجهة هذا الاتحاد الصليبي، وهل يمكن للعالم الإسلامي أن يتحد؟ وما هي الخطوات التي يمكن أن يتبعها لتحقيق هذه الاتحاد؟
الجواب
العالم الإسلامي حقيقةً لا يمكن أن يتحد بهذا الوضع الحالي أبداً، فأما الدعاة فيجب في كل مكان أن يتحدوا على الكتاب والسنة وهذا هو بداية النصر، أما الواقع العام فإن الهيمنة الغربية تسيطر عليه إما شرقاً وإما غرباً، وهناك أوضاع كثيرة سوف تحول دون هذا الاتحاد، أي: الاتحاد الذي سوف يواجه الغرب.(51/20)
خطر المذاهب الكفرية على الإسلام
السؤال
أيهما أخطر على الإسلام الشيوعية أم الماسونية؟
الجواب
الشيوعية مبدأ ومذهب مطبق واقعياً، أما الماسونية فهي مؤامرات خفية تتغلغل في كيان الأمم وفي داخلها وتخطط للشيوعية ولغيرها، والكل يجمعه أنه في النهاية يعمل للهدف اليهودي، وما يدل عليه هو أن ماركس يهودي، تروتسكي يهودي، ولينين يهودي، واستالين يهودي، وخريتشوف يهودي، وبريجنيف يهودي، فهذه حقائق معروفة، وجورباتشوف قد تظهر هويته يوماً ما، وكذلك في العالم الغربي هيمنة اليهود واضحة، فالخاسر أو العدو سيظل هو الأمة إن لم تستيقظ.(51/21)
الحركة اليسارية
السؤال
كثيراً ما نسمع عن الحركة اليسارية، فهل هذه الحركة من ضمن الشيوعية وقد قال كثيرٌ من المفكرين بأن هذه الحركة هي حركة منشقة عن الشيوعية؟
الجواب
اليساريون تعبير يطلق على الشيوعيين والاشتراكيين وأشباههم، وهي أيضاً تدور ضمن الفلك الشرقي في الجملة.(51/22)
الفرق بين الرأسمالية والشيوعية
السؤال
ما الفرق بين الرأسمالية والشيوعية؟
الجواب
الفرق بينهما هو أنهما وجهان لعملة واحدة، وآرثر كوستوار خبير أوروبي كبير حائز على جائزة نوبل، سُئل هذا السؤال فقال: 'بعض الناس يفضلون الشيوعية، وبعض الناس يفضلون الرأسمالية، أما أنا فأقول لعن الله كليهما' فنحن المسلمون نعلم أن كلاهما كفر، وكليهما ملعون بلا ريب، والفرق فكرياً: أن هذا ينحو منحى فردياً وذلك ينحو منحى جماعياً.
وبناءً على ذلك ترتبت الخلافات في ساحة الواقع.(51/23)
معرفتنا بواقع المسلمين
السؤال
متى دخل الإسلام أذربيجان؟ وما هو رأيك فيما ينبغي أن يصنعه المسلمون؟
الجواب
أذربيجان دخلت الإسلام في أيام عثمان رضي الله عنه، ولا أستطيع أن أقول رأيي حقيقة، أين الأخبار التي نستطيع من خلالها أن نتكلم؟ تكلم في إحدى الجرائد كاتب إيراني شيعي بلا شك تكلم وكتب حلقات، لكن معرفتنا بالعالم الإسلامي مفقودة، فنحن لا نعرف شيئاً، ولا ندري بالضبط عن حقيقة الأوضاع هناك، ولهذا نحتفظ برأينا -كما يقال- حتى نتبين، لكن أنا قلت في الجملة وفي الإطار العام لا بد أن الخلخلة تحدث حركةً في الجنوب وفي المناطق الإسلامية، ولا بد من صراع، وإن لم يهتدِ المسلمون إلى الحل الصحيح للنجاة وللنصر، فإنهم سيقدمون ضحايا وراء ضحايا، وفي النهاية لن يحصلوا على شيء، إلا إن شاء الله شهادة من يموت أو شيءٌ من ذلك، لكن الهدف النهائي الذي نريده لا يحصل بهذه السهولة.(51/24)
الموقف من التقدميين
السؤال
يقول بعض المراقبين التقدميين: إن هذا الانهيار الذي تواجهه الشيوعية ليس انهياراً وإنما هو تخطيط من الشيوعيين أو تكتيك لا يعرف مداه أحد؟
الجواب
نحن أشرنا إلى كلا الوجهتين، لكن المشكلة أن التقدميين في العالم العربي كما قال فيهم الشاعر:
ويقضى الأمر حين تغيب تيمٌ ولا يستأمرون وهم شهودُ
فلا أحد يعتبرهم، ولا يأخذ أحد رأيهم، لا أولاً ولا آخراً، فهم الذين أضاعوا دينهم، وأضاعوا أمتهم، وخدموا عدو الله وعدوهم، والآن يقضى الأمر بغيرهم، وإن اقتضت اللعبة أن يُنحوا، فإنهم يُنحون بأي شكل.
ولا شك بأن وجودهم الآن يعيق عملية إتمام اللعبة؛ لأنهم متلطخون بالعار والخزي أمام الشعوب، فمستحيل أن يقوموا بأي دور، ولهذا يعللون أنفسهم بأن الأمر مجرد تكتيك، وسوف تنتبه لهم روسيا، وتعرف قيمتهم، ولكن الأمر قد قضي، وهذا جزاء من ربط نفسه ومصيره بأعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل خسر دنياه وآخرته، وشر الناس من يبيع دينه بدنيا غيره.(51/25)
نجيب محفوظ وعلاقته بالشيوعية
السؤال
نجيب محفوظ هل له علاقة بـ الشيوعية؟
الجواب
له علاقة بالاتجاه الغربي الصليبي عموماً، أما بـ الشيوعية فلا نستطيع أن نقول: إنه اتجه هذا المنحى، ونجيب كغيره من الأدباء مثل توفيق الحكيم كتب عودة الروح، وبعدها كتب عودة العقل، ولو جاء زعيم ثالث، وأتى بعملية أخرى واضطهاد جديد، فربما كتب عودة الحكمة، عودة المنطق وهكذا، حسب الوضع يعود أية عودة! فهم يكتبون من خلال التوجه العام، فكانت الاشتراكية في الستينات تجعجع بها الإذاعات والصحافة، وكانوا مع تيارها ثم لما انتهت وانتعشت الرأسمالية والانفتاح ساروا في ركبها، فهم صورة لمن يكون بيده الأمر.(51/26)
معنى كلمة الحداثة
السؤال
سبق وأن قلتم في إحدى المناسبات: إن الحداثة هي من برنامج عملية إعادة البناء، فهل رموز الحداثة في البلاد الإسلامية يعون ذلك، أم أنهم يسيرون حسبما يرسم لهم من دونه وعي؟
الجواب
الحداثة أسسها الشيوعيون الغربيون في فرنسا، وفي إيطاليا وفي بريطانيا وغيرها وهم ينصون نصاً أن الحداثة جزء من التغلغل الشيوعي عن طريق الحركة الذاتية داخل المجتمعات الغربية، من أجل الوصول إلى الشيوعية الكبرى، حيث تضمحل الدولة، ويسود المجتمع العالمي، ويمكن الوصول إليه لا عن طريق الثورة الحمراء، ولكن عن طريق الفكر، والحداثة بما أنها تقويض لكل المؤسسات، ولكل الآداب، وتقويض لكل المتعارف عليه، فهي سوف توصل إلى وجود الشيوعية النهائية.
ولهذا يقول هنري كروستوفر أحد قادة الحزب الشيوعي الفرنسي: 'إن الحداثة هي ظل الثورة الغائبة هنا -أي: في باريس - والناقصة أو غير المكتملة هناك -أي: في موسكو -" الحداثة.
ظل الثورة التي لم تقم في باريس والتي لم تكتمل في موسكو، فإن الاكتمال لا يكون إلا إذا سيطرت الشيوعية وحكمت العالم، وقضت على الدولة، وقام المجتمع البيروليتاري.(51/27)
العلاقة بين الرافضة والشيوعية
السؤال
ما حقيقة العلاقة بين الرافضة وبين الشيوعية؟
الجواب
العلاقة بين الرافضة والشيوعية قوية، وهناك شواهد على ذلك: أولاً: عندما قامت ثورة الرافضة فإن حزب توده الشيوعي هو الحزب الوحيد الذي ظل محتفظاً بكل قواه ومؤسساته.
ثانياً: العلاقات القائمة بين الرافضة والاتحاد السوفيتي من الوضوح والزيارات المتبادلة بشكل واضح.
ثالثاً: منطقة أذربيجان: أيام الصوفيين الرافضة القدامى قتلوا -كانوا معاصرين للدولة العثمانية- انتقاماً لقتل الدولة العثمانية للرافضة في العراق وإيران بلاد فارس انتقاماً لذلك تذكر بعض المصادر أن دولة الصوفيين الروافض قتلت في أذربيجان وما حولها أكثر من مليون من أهل السنة! الهدف مشترك دائماً، وشَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله وابن القيم ذكروا أن كل عدوٍ للإسلام كان الرافضة معه دائماً في جميع عصورهم، ولم يشذوا عن هذه القاعدة في أي عصر، كانوا مع الصليبيين في مراحلهم المتعددة، كانوا مع التتار في هجمتهم، ثم هم مع العدو وإن كان شيوعياً أو أمريكياً.
والحمد لله رب العالمين.(51/28)
قراءة في الدساتير القومية
تحدث الشيخ حفظه الله عن خطورة القوانين الوضعية على الأمة العربية والإسلامية، وسرد نماذج من صور التشريع والتحليل والتحريم في البرلمانات والمجالس النيابية، ونوّه إلى تصور القوانين الوضعية لمسألة السلطة والسيادة، ثم بيّن كيفية دخول القوانين الوضعية إلى الدول العربية والإسلامية، وتحدث عن الغزو التشريعي ونظام الحكم في بعض الدول العربية والإسلامية، وبين فساد هذه القوانين والدساتير ومخالفتها للإسلام، حيث أنها تعطي للحاكم حق التشريع والتصديق والاعتراض، مختتماً حديثه ببيان خطورة هذه القوانين على الدول، ومركزاً على ضرورة نصرة هذا الدين والصبر على ذلك.(52/1)
القوانين الوضعية وحق التشريع في البرلمانات
نذكر هنا نماذج تدل على أن هؤلاء الذين في البرلمانات ونحوها يرون أن لغير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق التشريع والتحليل والتحريم وإصدار القوانين، بغض النظر عن كونها موافقة لما أنزل الله أو مخالفة له، فلا فرق بين أن يوافق البرلمان على حكم الله أو أن يرفضه؛ لأننا لا ننظر إلى النتيجة، ولكن إلى كيفية عرض حكم الله على الناس وأخذ رأي المخلوقين في حكم الخالق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالمبدأ موجود من الأصل، فعندما يعرض تحريم الخمر على البرلمان لاتخاذ قانون بذلك، فمعنى هذا: أنهم يجعلون حكم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى القطعي الذي جاء في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتحريم الخمر حيث يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] إلى آخر الآيات، فهو حكم قطعي صريح، وسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القولية والعملية صريحة وقطعية بذلك، يجعلونه موضع نظر عند من يملك حق التشريع الذي خوله القانون أو الدستور بأن يشرع وأعطاه حق التشريع والتحليل والتحريم، فالبرلمان إن رأى أن يوافق شرع الله، واتخذ بذلك قراراً بالإجماع أو بالأغلبية، أصبح شرع الله هو الناتج، وإن رأى البرلمان غير ذلك لم ينفذ ما أنزل الله! فمجرد أن يعرض هذا على الناس وعلى البشر، فإن هذا في حد ذاته هو الكفر بعينه -نسأل الله العفو والعافية- وفيه إعطاء حق الله الخالص -بأن يكون وحده هو الحكم- لهؤلاء البشر حتى وإن وافقوه فيما بعد؛ فإنهم لم يوافقوه لأنه حكم الله، بل يوافقونه لأن من يملك السلطة التشريعية أقر هذا القرار وأصدره، ولذلك فالمعروف عند قضاة المحاكم الوضعية عموماً أنهم يعملون به بناءً على التشريع الرسمي المكتوب، وليس على التشريع الإلهي الذي نزل به جبريل عليه السلام على نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا يدل على خطر وضرر هذه القوانين بغض النظر عن كون النتيجة ربما تكون أحياناً لصالح الإسلام أو لصالح الحكم الشرعي، فالقضية هي إعطاء حق التشريع لغير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وسلب هذه الصفة وأخذها ونزعها من مستحقها الذي له الحق الخالص فيها، وإعطاؤها للمخلوقين المربوبين، وقد قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، وأمروا جميعاً بلا استثناء بأن يردوا كل شيء تنازعوا فيه إلى الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ونعرض لكم بعض هذه النماذج: الإخوة الذين يدرسون في كلية الإدارة، وبعض الكليات الأخرى -بل وفتح قسم خاص يسمونه قسم القانون- وكذلك من يدرسون في قسم العلوم السياسية وقسم الاقتصاد، هذه الأقسام تدرس القانون دراسة متخصصة أو تدرس مبادئ القانون كما يسمونها.
والذين درسوا خارج المملكة في كليات الحقوق، أو اطلعوا على الكتب القانونية، فهذه الأمور بدهية عندهم؛ لكن لأن بعض الإخوة لم يطلع على هذه الدراسة، ولم يدرسها فإننا نذكر نبذة مختصرة عن مسألة السلطة أو السيادة كما تصورها القوانين الوضعية.(52/2)
السلطة في منظور القوانين الوضعية
كان الناس في أوروبا في فترة القرون الوسطى -وهي بالنسبة لهم عصور مظلمة- يسيطر عليهم فيها رجال الدين والملوك الظالمون الجائرون والإقطاعيون وكل أنواع الطواغيت، والتي يقابلها في التاريخ الإسلامي عصور سيادة الإسلام وغلبته على الأرض، ففي تلك العصور إلى أن ظهرت الثورة الفرنسية كان الناس يعتقدون في الغالب أن للملوك أو الأباطرة حقاً إلهياً مقدساً، فهم يحكمون نيابة عن الله، والبابوات يصححون لهم هذا، فكل ما يتخذونه من أحكام وما يصدرونه من قرارات هو في قوة الوحي المنزل الذي لا يقبل النقاش، فالسيادة وحق التشريع كان لهؤلاء الملوك أو الأباطرة أو الإقطاعين، ومعهم رجال الدين، الأحبار والرهبان الذين قال الله تعالى فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] وقد وضح هذه الآياة ووضحها حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، وفيه أنهم كانوا يطيعونهم ويتبعونهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام، فالحق لهم كان حقاً إلهياً مقدساً، فيشرعون ما شاءوا، وهذا التشريع مستمد من الله، ويسمونها نظرية الحق الإلهي، وهذه النظرية هي النظرية التي كانت سائدة في أوروبا.(52/3)
منشأ القوانين الوضعية
ظهرت نظرية أخرى وهي نظرية العقد الاجتماعي، ونظرية العقد الاجتماعي كما فسرها جان جاك روسو تقول: ليس لأحد حق إلهي على أن يحكم أحداً أو يسيطر عليه، ولكن الأفراد متعاقدون مع الحكومة أو مع السلطة أياً كانت السلطة، فالسلطة متعاقدة مع الأفراد، والأفراد متعاقدون معها، فهو عقد بين الطرفين، وهو الذي يسمونه العقد الاجتماعي، والسلطة بموجب هذا العقد تتنازل عن أشياء وتلتزم بأشياء، والرعية بموجب هذا العقد الاجتماعي تتنازل عن بعض حقوقها للسلطة لتتصرف فيه وتأمر وتنهى، وفي نفس الوقت تطالب بحقوقها بمقتضى العقد، فهي قضية حقوق وواجبات أو التزامات على السلطة من جهة وعلى الشعب من جهة أخرى.
والغربيون اعتبروا هذا فتحاً عظيماً، وإن كان ظهر من الغربيين أنفسهم من يفسر العقد الاجتماعي لمصلحة الاستبداد، وذلك بحجة أن العوام لا حكم لهم، ولا يعرفون الخير من الشر، فيجعل الحاكم مخولاً بأن يفعل كل شيء، ففسروه من خلال العقد، ولكن جعلوه لمصلحة الأمر الواقع، وهكذا كان الخلاف الشديد بين المفكرين والفلاسفة في أوروبا.
ولما قامت الثورة الفرنسية قبل أكثر من مئتي سنة من الآن، كانت مستندة على نظرية العقد الاجتماعي، وليس على نظرية الحق الإلهي، وأعطي ولأول مرة في تاريخ الإنسانية حق السيادة والتشريع والتحريم للشعب، والشعب يختار سلطته ويعقد معها هذا العقد، ثم هي تشرع ما تشاء وتحل ما تشاء وتحرم ما تشاء.
والصورة الوحيدة التي وجدت قبل هذا الحكم -الذي هو: إعطاء هذا الحق للبشر بشكل صريح منقطع عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعن الأديان هي- ما حدث في نظريات أرسطو وأفلاطون وأمثالهما، حيث تخيلوا المدينة الفاضلة.
فـ أفلاطون في كتابه الجمهورية جعلها نظرية مقررة، ولذلك يقول بأن الفلاسفة هم الذين يحكمون، ولهم حق التحليل والتشريع والتحريم؛ لأن العوام لا يفقهون شيئاً فلا حكم لهم، وكل هذه النظريات مبنية على أساس الكفر بالوحي، وأن الله تبارك وتعالى خلق الناس وتركهم هملاً، ولم ينزل عليهم كتاباً، ولم يرسل إليهم رسلاً، فذلك لا يردون ما تنازعوا وما اختلفوا فيه إلى ما جاء به هؤلاء الرسل من الوحي، فهؤلاء الفلاسفة يكفرون بالوحي نهائياً، فإذا كفروا بالوحي لم يبق إلا البشر، فإما أن يقولوا: إن الحكم للجميع، وهذا ما كان يحدث في بعض المدن اليونانية، وهذا ما يسمونه السيادة الشعبية المباشرة، أو الحكم الشعبي المباشر، فالقرية أو المدينة التي سكانها ألفاً -مثلاً- من البالغون والعقلاء والذكور، فهؤلاء الألف يجتمعون في كل مرة، ويصدرون قانوناً، ويحكمون أنفسهم بأنفسهم.
وهذا الحكم المباشر اعترض عليه الفلاسفة، فقالوا: الناس همج رعاع إلا الفلاسفة، فاقترحوا حكومة الفلاسفة النخبة، فهم الذين يحكمون ويقررون، وبقية الناس يخضعون، وهذه الصورة بقيت مطموسة على مر القرون حتى جاءت الثورة الفرنسية، فقالت: الحق والسيادة للشعب، وظهر في مقابلها أنصار الملكية التي كانت قائمة والتي ثارت عليها الثورة الفرنسية، وكانوا يرون أن السيادة يجب أن تظل محفوظة للامبراطور أو للملك.
وفي بريطانيا ظلت الفكرة واضحة، وهي: أن هذه السيادة وهذا الحق يعطى للملك، وهو الذي يعين مجلس اللوردات أو مجلس الأعيان، وهؤلاء مع المجلس الآخر الذي ينتخبه الشعب هم الذين يشرعون ويحللون ويحرمون، فكان الصراع هناك صراع بين هاتين النظريتين.(52/4)
القوانين الوضعية في العالم الإسلامي
لما استورد العالم الإسلامي القوانين الوضعية -كما ذكر الشيخ أحمد شاكر - جاءت هذه القوانين وأخذوا يطبقونها، فبدأت تركيا ثم مصر ثم تلتها دول أخرى.
وكان مما أخذوه: إعطاء حق السيادة والتشريع وإصدار القوانين وتنفيذها لغير الله، كأن يكون لرئيس الدولة دائماً أو في حالات معينة، وقد يكون بعد ذلك لمجلس الشعب أو البرلمان، وقد يكون لمجلس قيادة الثورة أحياناً.
ويقصدون بالشعب: أن الشعب عليه أن يختار ممثليه وهم الذين يحكمون الناس باسم الشعب، لأن الشعب هو الذي اختارهم ورضي بهم، ولذلك كان كل من يحكم بغير ماأنزل الله مع اختلافهم يدَّعون الديمقراطية حتى أشد النظم ديكاتوريةً واستبداداً تدعي الديمقراطية، لأنهم يرون أنه حكم الشعب لنفسه، أو حكم الشعب بواسطة الشعب، إما مباشرة، وهذا غير موجود الآن في الوقت الحاضر، وإما عن طريق ممثلي الشعب الذين هم المجالس التشريعية.(52/5)
تقسيم السلطات التشريعية
وبالنسبة لتقسيم السلطات التي تملك السيادة فيقسمونها إلى ثلاث سلطات، وهذا التقسيم ظهر لأول مرة في فرنسا ودعا إليه بعض الفلاسفة بقوة، ومنهم الفيلسوف مونتيسكيو وغيره الذين دعو إلى الفصل بين السلطات، وإلا فإن إحداها يمكن أن تستبد بالأمر دون الأخرى.
فقالوا: السلطة الأولى: هي السلطة التشريعية ووظيفتها التشريع وسن القوانين المختلفة.
والسلطة الثانية: هي السلطة القضائية، وهي بالنسبة للتشريعية عبارة عن سلطة تنفذ ما تقرره السلطة التشريعية، فالتشريع يسن ويقرُّ أولاً ثم ينتقل إلى المحاكم فينفذ على آحاد القضايا، والقاضي إذا خالف ما سنته السلطة التشريعية فإن حكمه يكون باطلاً غير شرعي.
وقد حكم أحد القضاة في قضية شرب الخمر بما أنزل الله، فأبطلوا حكمة وفصلوه من القضاء؛ لأنه مخالف للدستور الرسمي المكتوب!! وأما السلطة التنفيذية فمهمتها أن تنفذ ما يحكم به القضاء واللوائح وتلتزم بالدستور وتتعهد بالمحافظة عليه وتقسم اليمين الدستورية لتنفيذ الدستور الذي هو القانون الأساسي الذي تقره السلطة التشريعية.
ويحدث أن تأتي حكومة تنفيذية -مجلس الوزراء- فتقدم استقالتها، فمثلاً: في الجزائر قبل أيام استقالت الحكومة، ويحدث كثيراً في بعض الدول أن السلطة التنفيذية تمسك بالأمور جميعاً، فيصبح التشريع حقاً لها، ويصبح القضاء تابعاً لها، وهذا هو الواقع في العالم الإسلامي، وهذا هو الاستبداد، حتى إن السلطة التنفيذية هي التي تملك كل شيء، ولا يوجد فصل بين السلطات إلا نظرياً، ولكن حتى لو فصلوا فإن، حق التشريع والتحليل والتحريم يعطى لغير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وذلك لا يجوز أبداً.
ففي الواقع تحدث مخالفات، لكن في الجانب النظري نجد أن القوانين والدساتير في البلاد العربية أو الإسلامية عموماً -بحكم الانتماء الجغرافي أو التاريخي- تنص على إعطاء الحق لغير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وسوف نستعرض بعضها حتى نعلم خطورة هذا الشرك العصري، ولنعلم أن من قام مجهادها بما استطاع فقد قام بواجب على الأمة، وهو مأجور على ذلك، ويجب أن ينصر ولو بالحجة العلمية؛ فهذا شرك خبيث جديد لم يقع في تاريخ الأمة إلا في أيام التتار كما ذكر أحمد شاكر، وقد رفضته ولفظته الأمة آنذاك، ولكنه الآن أصبح هو السائد والرائج والمنتشر، وإذا اعترض عليه أحد اتهم بأنه أصولي متطرف ويرغب في السلطة ويريد الحكم، واقرءوا الصحف التي تتعرض لما يحدث في تونس أو الجزائر أو غيرها، فبمجرد أن يكون كان هناك دعاة أو شيوخ يطالبون بإلغاء هذه الدساتير فإنهم يتهمونهم ويقولون: هؤلاء أصوليون ومتطرفون، وغرضهم السلطة، ولا يريدون إلا الحكم، ويجرون البلاد إلى الهاوية وإلى الدمار وإلى الفساد، كما اتهم الرسل من قبل.
نحن الآن أمام من يقول: نريد حكم الله، ومن يريد حكم الجاهلية، فكيف تنحاز الصحافة ضدهم، وتجمع على أن هؤلاء الذين يسمون بالإسلاميين يستحقون أن يكبتوا ويسجنوا ويُنَكَّل بهم؛ لأنهم يريدون تغيير السلطة، ويرغبون في الوصول إلى الحكم؟! بينما لا يتجاوز الأمر في كثير من الأحيان مجرد الإنكار على هؤلاء الذين يحكمون بغير ما أنزل الله؟! وهذا الأمر واجب، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {ما من نبي بعثه الله قبلي إلا كان له حواريون وأصحاب يقتدون بهديه، ويهتدون بسنته، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقتدون بغير هديه، ويهتدون بغير سنته، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل}، فلا بد من مجاهدتهم ولو بالحجة العلمية، وأن يقال للناس هذا كفر بواح، كما فعل الشيخ أحمد شاكر في كتابه عمدة التفسير.(52/6)
تحكيم القوانين الوضعية في الدول الإسلامية
سوف نستعرض ما يدل على هذا في واقع هذه الدول التي تدَّعي الإسلام.(52/7)
الغزو التشريعي في جمهورية مصر العربية
أولاً: مصر وهي أهم دولة عربية، وأكثر دولة عربية تعرضت للغزو التشريعي، وأصبحت مرجعاً للدول الأخرى في هذا، ويوجد في العالم نوعين من أنواع التشريع: 1 - التشريع المكتوب.
2 - التشريع بنظام العرف والسوابق.
والاتجاه الفرنسي يأخذ بالتشريع المكتوب وبالتقنين، ومصر ومثلها سوريا ولبنان نقلت قوانينها عن القانون الفرنسي، ثم نقلت عنهم بقية الدول العربية، ومن العجب أن السنهوري وهو أكبر قانوني ظهر في مصر، والذي كتب من المجلدات في القانون ما يعدل حمل بعير -نسأل الله العفو والعافية- ولو أنه بذل هذا الجهد الكبير، وأنفق هذا الوقت الكثير في تعلم دين الله وكتاب الله وسنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لنفع الله به نفعاً عظيماً، ولكن {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18] فاختار أرذل الأمر، وأخذ يبحث في هذه القوانين حتى أصبح كبير القانونيين، وهو الذي وضع القانون المدني المصري، يقول في أول كلامه عن وجود القانون في مصر 'إن واضع القانون المدني المختلط الذي هو أصل القانون المدني المصري هو محامي فرنسي وضعه بطلب من نوبار باشا ' إلى آخر هذا الكلام.
وسوف نقف عند هذه القضية: نوبار باشا رجل ماروني نصراني، وصل به الحال إلى أن يكون رئيساً لوزراء مصر بحكم نصرانيته وصليبيته وحكم ولائه للغرب فإنه قد أتى بمحام فرنسي، فوضع له القانون المدني، ثم يأتي بعد ذلك المنتسبون إلى الإسلام أو من يدَّعون الانتساب إلى الإسلام، ويطورون هذا النظام، ويطعمونه ببعض القوانين الانجليزية والفرنسية والألمانية إلى أن أخذوا من قوانين أمريكا اللاتينية، وأصدروا التقنين الجديد الذي يرون أنه أفضل تقنين وضع، وأصل هذا القانون هو المحامي الفرنسي.
فأمة تترك كتاب الله وتترك سنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتعرض عما جاء فيهما، وعما استنبط العلماء وتوسعوا فيه من مباحث فقهية عظيمة لا نظير لها في الدنيا على الإطلاق، وتتحدى أحداً أن يأتي بما يناقض هذا الشيء، فتترك هذا كله وتتبع نوبار باشا ومحاميه الفرنسي الذي وضع هذا القانون نقلاً عن القانون الفرنسي حرفياً، وجاء السنهوري ومن معه، وأضافوا إليه، وصار هذا هو القانون المتبع في مصر مع الأسف، ثم من مصر اشتقت أكثر الدول العربية تشريعاتها، والذي لم يؤخذ من مصر أُخِذَ من سوريا ولبنان، وهذه هي المصيبة العظمى التي حاقت بالمسلمين.
يقول دستور جمهورية مصر العربية المادة (109) بالنسبة لسن الأنظمة: {{لرئيس الجمهورية حق اقتراح التشريع}} كأن يقترح أن يشرع تنظيماً للزنا أو للاغتصاب والمادتان (112،113) تنظمان حق رئيس الجمهورية في التصديق على القوانين والاعتراض عليها، وبعد أن يقر رئيس الجمهورية القانون إما أن يُصَدِّق عليه، فيصبح شرعاً نافذاً، وإما أن يعترض عليه ويرده ويطعن فيه، فالذي يملك حق التشريع هو رئيس الدولة.(52/8)
التشريع في الدستور السوري والليبي والمغربي
أما الدستور السوري الذي صدر عام (1973م) وحصلت بسببه مشكلات كثيرة جداً واكتفى في أن يرضي الناس بقوله: {{إن رئيس الدولة يجب أن يكون مسلماً}} إسكاتاً وإرضاءً للناس لمطالب بعض من الناس والشعب والدعاة لتحكيم الشريعة، فالكثير في هذه الأمة يريدون حكم الله، فقالوا: نجعل رئيس الدولة مسلماً! وهذه الأمة مصائبها مركبة فليست مصيبة واحدة، لأن هذا الرئيس المسلم الذي أرضوا الناس به هو باطني نصيري، والنصيرية مرتدون كفرة لا يعدون من المسلمين لا في قليل ولا في كثير، ولكنهم أرضوا وأسكتوا الناس حيث جعلوا مادةً تقول: إنه مسلم، ثم لو فرضنا أنه من أهل السنة وأبوه وأمه ينتسبون كابراً عن كابر إلى أهل السنة وإلى آل البيت، أو إلى آل أبي بكر أو إلى آل عمر، وكلهم على السنة والجماعة، ولكنه التزم هذه التشريعات والقوانين، فهل يكون مسلماً؟ فالمصيبة مركبة من جهة الأصل، حيث إنه باطني خبيث، ومن جهة الحكم بغير ما أنزل الله والتشريع والتحليل.
ومع ذلك فالمادة (110) أعطته أيضاً حق اقتراح القوانين، والمادة (98) أعطته حق إصدار القوانين والاعتراض عليها، فالمقصود أن الحكم عندهم لهذا الرجل! نسأل الله العفو والعافية.
وكذلك الدستور المؤقت للجمهورية الليبية بعد ما قامت الثورة المجنونة، وقالوا: نغير بعض الأشياء، فضحكوا على بعض العلماء، وجاءوا بالشيخ محمد أبو زهرة، وجاءوا بغيره من المشايخ، وقالوا: نجعل للدولة دستوراً مؤقتاً، ثم بعد ذلك يكون هذا خطوة لتطبيق الإسلام، وأعلنوا أن النظرية الثالثة التي وضعها هذا العبقري الملهم في كتابه الكتاب الأخضر التي تقول: لا شرقية ولا غربية، لا النظام الرأسمالي ولا النظام الشيوعي، وهذه نظرية جديدة تقوم على الإسلام وهو مرتَكز لها، لكنها نظرية جديدة مطورة، فهي عندهم أعلى حتى من الإسلام ومن الاشتراكية ومن كل شيء، وإنما الإسلام مرتكز لها، فوضع دستوراً ووسموه بأنه دستور مؤقت حتى تتفتق العبقريات ويأتي الوحي في النهاية، وصار الأمر إلى كفر أشد من هذا.
فيقول هذا الدستور المؤقت في المادة (20): {{إن مجلس الوزراء يدرس ويعد مشروعات القوانين}} فهو قد أعطى الحق للسلطة التنفيذية، وأخذ حق السلطة التشريعية وأعطاها للسلطة التنفيذية، وهذا موجود في كثير من الدول العربية، والمادة (18) تقول: {{إن مجلس الثورة هو الذي يوافق على التشريعات ويصدرها}} فحق التشريع لم يعط لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولم يرجعوا إلى حكم الله وإنما إلى مجلس الثورة، فإن أقر مجلس الثورة شيئاً مما أنزل الله عملوا به؛ لأن مجلس الثورة أقره، وإن لم يقر شيئاً مما أنزل الله وخالفه ولو كان صحيحاً صريحاً في القرآن أو صريحاً قطعي الدلالة في السنة، فإنه لا يعمل به؛ لأن مجلس الثورة الذي يملك حق التشريع أو الاعتراض عليه لم يوافق عليه.
وكذلك دستور المملكة المغربية الصادر سنة (1972م) حوالي سنة (1392) هـ في الفصل رقم (26) يقول: {{للملك حق إصدار القوانين والتشريعات}} فالمرجع والحكم عندهم هو شخص هذا الحاكم، ثم قال في الفصل (66، 87) من الدستور المغربي: يعطى للملك ثلاثة حقوق وهي: الحق الأول: أن يصدر التشريعات.
والحق الثاني: إعادة النظر في التشريعات، الذي يسمونه قراءة القانون من جديد.
والحق الثالث: طرح القانون للاستفتاء الشعبي وأخذ الموافقة عليه، فيقوم باستفتاء الشعب كما هو الآن في بعض الدول، فيقولون: إن الشعب يريد الدستور، ولأن الشعب قد اختار الدستور فإنه يحكم بين الناس بغير ما أنزل الله -نسأل الله العفو والعافية- فالحاكم له حق في إصدار التشريعات الجديدة وأن يغير ما يشاء، وله حق أيضاً في طرح ذلك للاستفتاء الشعبي.(52/9)
التشريع في الدستور الكويتي والأردني والتونسي
دولة الكويت في المادة (65) أعطت للأمير حق التشريع بالرغم من أن الكويت قبل الحرب، وعندما اجتمعوا في جدة أجمعوا على مشروع دستور برقم (63)، والآن حتى من بعض الدعاة الإسلاميين من يطالبون بتطبيق الدستور، سبحان الله! إذا لم تستطع أن تقول: نريد كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا تقعد ولا تحضر معهم ولا تشاركهم، وأيضاً فبإمكانك في المؤتمر الذي عقد في جدة أو الآن أن تقول: نريد كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن هناك أناس ينسبون أنفسهم إلى الدعوة الإسلامية، ويقولون: نحن نطالب بدستور (63) الذي يكفل الحريات والحقوق والانتخابات، وبعضهم يتأول ويقول: إذا طبق هذا الدستور، وعرض للاستفتاء وعرض أمر القوانين والدساتير وأمر الشريعة الإسلامية على الشعب، فالشعب لن يختار إلا الإسلام.
وهذا كلام يقال في الخيال لكن الواقع غير ذلك، وحتى لو عرض الشرع على الناس، فلن يختاروا إلا الشرع؛ فهل حكم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على سبيل التخيير؟!! فنقول: نحن على ثقة أن الناس سيختارون حكم الله، وأيضاً لو فرضنا أن الناس لم يختاروا شرع الله، فنكون قد جعلنا حكم الله للتخيير وهذا كفر -عياذاً بالله- لأنهم لا يقرون بشهادة أن لا إله إلا الله، والرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54]، فهم معترفون بأن الله هو الخالق، ولكنهم يجعلون الأمر لغيره، فجعلوا حكم الجاهلية هو الحكم، فإذا اعترض معترض، وقال: لا نريد حكم الله ولا نريد حكم الشريعة -نسأل الله العفو والعافية- فإنه لا يعاقب؛ لأنه مارس حقاً قانونياً له، والدستور يعطي كل مواطن الحق في أن يختار ما يريد، ولو لم يكن في المليون إلا رجل واحد يقول أريد غير حكم الله! كل الخلق ملزمون ومتعبدون ومأمورون بأن يتبعوا حكم الله وحده وإلا فليسوا بمسلمين، ومعنى كلمة الإسلام هو هذا، ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]، والسلم: هو الإسلام، وقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]، كله لا بد أن يكون لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإذا كان كذلك فلا تخيير: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم} [الأحزاب:36].
وكذلك دستور الأردن؛ حيث إن المادة (31) تعطي للملك حق التصديق وحق الإصدار.
وأما في تونس ففيها العجب العجاب؛ لأن رئيسهم هو المجاهد الأكبر -كما يسمونه- ولكنه لم يكن مجاهداً في الله، وإنما كان يجاهد المؤمنين، ويجاهد لتكون كلمة فرنسا وقوانينها هي العليا، فقد أصدر قانوناً ينص على أن حق الاقتراح والفصل في أمور التشريع والاعتراض هو لرئيس الدولة.(52/10)
نظام الحكم في لبنان
أما لبنان فإن المادتين (56،18) تعطي حق الاقتراح والاعتراض لرئيس الدولة، فمصيبتها كمصيبة سوريا، ولكن من نوع آخر، حتى المسلمين هناك من أهل السنة يطالبون بأن يوافقوا ويقروا المصالحة الوطنية التي تنص على أن رئيس الدولة يكون مارونياً، ورئيس الوزراء يكون مسلماً سنياً، ورئيس مجلس الشعب يكون شيعياً، والمليشيات مقسمة، فتكون هناك مليشيات للدروز، ومليشيات للموارنة، والصليبيين والنصارى ينقسمون إلى عدة فئات، ففئةٌ مع فرنجيه وفئة مع شمعون، وفئة مع الجميل.
وذكرت بعض الإحصائيات في مجلة لبنانية: أنه في لبنان خمسمائة نحلة، أي: أن كل الأديان في العالم تقريباً موجودة في لبنان، حتى البهائية والقاديانية والشيوعيين والناصريين والبعثيين والقوميين والشيعة، والباطنية موجودة بجميع أنواعها، فكل نحلة وملة تخطر على بالك تجدها في لبنان ولو مجرد شخص أو اثنان أو ثلاثة أو عشرة من أصحاب هذه النحلة، فيقال: كيف يجتمع هؤلاء على الدستور الذي ينص على المصالحة الوطنية ويطلب حتى من المسلمين أن يقروه ويقر هذا بعض علمائهم هنالك أو في غيرها من الدول أحياناً، فيقرون لهذا الحكم الذي بموجبه يكون رئيس الدولة نصرانياً، وتخضع للرافضي الذي يرأس مجلس الشعب، وهذا السني الذي في الوسط التنفيذي -رئيس الوزراء- يعتبر شكلية إدارية، لأن الوزراء تجدهم على هذا النمط وزيراً من حزب الشيطان والذي يسمى بـ حزب الله، ووزيراً شيعياً من الأمل ووزيراً درزياً وهكذا.(52/11)
ضرورة الصبر والتضحية لنصرة الإسلام
إن الناس إذا أرادوا دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وشرعه، فهو لا يقوم إلا بالجهد وبالدعوة، وبالصبر والتضحيات، وربما أدَّى إلى الجهاد وإراقة الدماء حتى يقوم هذا الدين كما هو الآن في أفغانستان وإرتيريا، لأن هذا الدين لا يقوم إلا بالجهد والجهاد الحقيقي الذي لا جدال فيه، ولكن لو أرادوا غير ذلك كـ الديمقراطية -مثلاً- فهل يحصلون عليها بلا تعب؟! رومانيا لما أرادت الديمقراطية ماجاءتها إلا بعد حمامات الدم التي أرعبت العالم، وأوروبا الشرقية لما أرادت التخلص من الديكتاتورية والاستبداد لم يأخذوها إلا بالجهد والتعب.
فالشعوب والأمم التي لا تجاهد ولا تضحي من أجل إقامة دين الله، فسوف يعاقبها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأن تضحي وتجاهد وتتعب وتخسر وتريق الدماء من أجل الطواغيت والمجرمين والأنظمة الكافرة المرتدة، فـ حزب البعث في العراق وسوريا، خسرت هذه الشعوب خسارات عظيمة جداً من أجل أن يبقى هؤلاء الزعماء المجرمون، ويبقى هذا الحزب المرتد مسيطراً على البلاد، ولو أن هذه الخسارة في الأرواح والأموال والأنفس والمطاردين والمهاجرين -ومصائب لا يعلمها إلا الله- بذلت لإقامة دين الله لقام هذا الدين في العالم كله، ولو بذل بعض منها لإقامة الدين في تلك البلاد لقام، ولكن الناس ضحوا وبذلوا من أجل بقاء هؤلاء المجرمين، فكانت العقوبة أن يسلطهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم أكثر.
وهكذا في كل مكان؛ إما أن يدفع الناس ضريبة الإيمان وضريبة العزة، ولا تنال العزة الإيمانية إلا بجهد، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، ولذلك فقد جاهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والرسل من قبله، وصبروا وصابروا ورابطوا، وكذلك جاهد العلماء الذين جددوا دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كالشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ومن المعلوم أن الحكومة السعودية الأولى لم تقم على التوحيد الخالص النقي مجاناً، بل بجهادٍ وجهد شديد حتى تأليت عليها القوى الطاغية المجرمة وقضت عليها.
وهكذا الدعوات دائماً لو لم تجاهد في سبيل الله فإنها تقدم تضحيات وجهود عظيمة في سبيل الشيطان وتدفع ضريبة الذل، أما ضريبة العزة فكل قطرة دم تراق في سيبل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للجهاد ومن أجل إعلاء كلمة الله -كما هو في أفغانستان أو غيرها- لها موقع عظيم عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهي -إن شاء الله- لبنة من أجل الوصول إلى هذا الأمل الكبير بإذن الله مع تصحيح المسار، وتنقية الصف إلى آخر الشروط الأخرى، ولو فرضنا أن أفغانستان رضيت بالحكم الشيوعي لقامت بقتلهم وانتهاك أعراضهم وأخذ أموالهم كما فعلت في اليمن الجنوبي، وليبيا وغيرها، وكما فعل البعثيون في العراق وسوريا.
وكان المسلمون الأفغان سيقدمون تضحيات أكثر وأعظم وهم في ذلة أجارنا الله وإياهم منها! إلى الآن قد خسروا أكثر من مليون شهيد، لكنها بعزة وثمنها والحمد لله عظيم جداً، ولو لم يكن فيه إلا أن الناس أيقنوا أن بإمكان أي شعب أعزل -إلا من الإيمان بالله- أن يقاوم أقوى دولة في العالم، فكيف لو استكملنا الشروط الشرعية، وتجنبنا الموانع الشرعية لتحقيق النصر الكامل، من الوحدة وتوحيد الصف والاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعدم التفرق كما أمر الله بتوحيد المجاهدين والدعاة والمسلمين في كل مكان، فيتوحدون على كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنهج السلف الصالح والتواصي بالحق وبالصبر، ويكونون يداً واحدة كما أمر الله تعالى حيث يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، وقال في الآية الأخرى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] فهذا سبب من أسباب النصر.
والأمر الآخر هو: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] فلم يكلفنا الله مالا نطيق، فلا يأت قائل ويقول: روسيا لديها قنابل نووية، ونحن لا يوجد لدينا إلا بنادق، فنقوم بترك الجهاد، فهذا هو الخطأ بعينه، ولكن علينا أن نعد العدة، فإذا وجدنا أننا يمكن أن نقاوم ووجد لدينا بعض التكافؤ، فنقول: باسم الله! يا خيل الله اركبي، فيكون النصر بإذن الله.(52/12)
التشريع في الدستور العراقي والسوري
كذلك في العراق في المادة (51،42) فهؤلاء البعثيون يقولون: {{إن مجلس قيادة الثورة يقترح مشروعات القوانين ويصدرها}} فأعطوا حق التشريع لمجلس قيادة الثورة كما هو في ليبيا، وأما المادة (44) فتقول: {{إن رئيس مجلس قيادة الثورة يوقع القوانين الصادرة عن المجلس وينشرها}} فهو الذي يعتمدها وإذا اعتمدها أصبحت ديناً ووحياً وكتاباً منزلاً -والعياذ بالله- فلا يحيدون عنه ولا يتركونه، وهذا من أسباب وقوع البلاء على هذه المجتمعات والشعوب التي رضيت بتسلط هؤلاء المجرمين، ومكنتهم حتى لعبوا بدينها ودنياها وعبثوا بطاقاتها ومقدراتها، ولم يقم فيهم قائم لله بالحق، ولم يجدوا من يجاهد، بل قام عدد قليل من العلماء، فكبت من كبت، وطرد من طرد، وانتهى الأمر، وخضعت الأمة، فكانت النتيجة لهذا الحزب الصليبي.
ونحن لا نفرق أبداً بين عداوة البعثيين الصليبيين وبين عداوة الغرب للإسلام والمسلمين، فالقضية واحدة، وهما وجهان لعملة واحدة؛ لأن هذا الحزب هو حزب صليبي نصراني، ومن أعظم أسسه التي قام عليها هو تقديم النصارى باسم أن رابطة الدم هي التي تربط العرب، فهي أمة عربية واحدة، وإقصاء المسلم إن كان هندياً أو تركياً أو كردياً أيّاً كان قدمه في الإسلام، فلا قيمة له عند البعثيين؛ لأنه ليس قومياً.
أما النصراني فمقدم؛ لأن المؤسس هو ميشيل عفلق والنائب هو طارق عزيز، وكان أيضاً في سوريا قبل الحكم البعثي فارس الخوري رئيس الوزراء.
فهؤلاء القوميون عموماً والبعثيون خصوصاً لا يوالون إلا في هذه العقيدة الكافرة التي تجعل الكافر الصليبي النصراني مقدماً على غيره.
فأقول: الإسلام لا يفرق بين الغرب والبعثيين مهما اختلفوا -وقد يختلفون أحياناً ونحن لا ننكر ذلك- ولكنهم بالنسبة للمسلمين عدو واحد وصف واحد، حتى ولو اختلفوا أو ظنوا أنهم يستطيعون أن يتمردوا على الأسياد في الغرب، فهم في الحقيقة يخدمون أهدافهم، ولن يخرجوا عن هذه الأهداف، لأنهم كلهم يجمعهم الصليب، وتجمعهم العداوة والحقد على الإسلام والمسلمين.
وفي السودان أيضاً المادة (155) تعطي رئيس الجمهورية حق الاقتراح، وفي المادة (157) يعطونه حق التصديق، وفي المادة (107) يعطونه حق الاعتراض، فالرئيس هو الذي يصدر القانون، ويعترض ويوقع، فماذا بقي لرب العالمين وخالق الأولين والآخرين؟!(52/13)
التشريع في الدستور اليمني
أما دستور جمهورية اليمن الديمقرطية الشعبية التي كانت سابقاً، فالمادة (92) تقول: {{إن مجلس الرئاسة يقترح مشروعات القوانين ويصدرها ويأمر بنشرها}}، فله حق الاقتراح وحق الإصدار والنشر، لأن عندهم في القوانين لا يكون القانون ملزماً إلا بعد أن يمر بصفة النشر، فلا بد أن ينشر، وإلا فسيكون في إمكان أي إنسان أن يطعن أو يعترض بعدم نشر القانون، فترفع عنه الجناية أو التهمة القانونية، وهذا الدستور اليمني قد ألغي، وصوتوا قبل أيام أو أسابيع على الدستور الجديد الذي أحدث هذه الفتنة، التي نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يقي هذا الشعب المسلم شرها، وأن يجمع قلوبهم على كتاب الله وعلى سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا الشعب هو كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الإيمان يمان والحكمة يمانية}، ويكفيهم فخراً أنهم لم يفتحوا بجيش، وإنما انقادوا وأسلموا بلا قتال، وطلبوا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يرسل إليهم من يعلمهم الخير، فأرسل إليهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري وعلي بن أبي طالب، ولما ظهر فيهم المرتد الخبيث الأسود قتلوه وقضوا عليه، فدخلوا في الإسلام طواعية، ثم عندما ارتد العرب أو أكثر العرب قضوا على الردة هم بأنفسهم دون أن يطلبوا من الصديق جيشاً يرسله ليقضي على المرتدين، وهذا دليل على أن الخير والرقة التي ذكرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم: {هم أرق قلوباً وأفئدة} فالرقة فيهم موجودة، والخير فيهم موجود، فهذا الشعب المسلم يؤتى إليه بقوانين فيعبد ماركس ولينين، والمصيبة أنه بعد الوحدة الذين قبضوا على الأمور هم الذين ينتمون إلى الجنوب لأنهم حزبيون، وهؤلاء الحزبيون هم من أخبث خلق الله إن لم يكونوا أخبث من على وجه البسيطة، لأنهم تغذوا ورضعوا لبن الأفكار الخبيثة وتشربوها، وعندهم مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة)، ومستعدون أن يصلوا إلى هدفهم ولا يبالون أبداً، ولذلك رأوا أن من مصلحتهم أن ينضموا إلى الشمال بما فيه من طاقات بشرية وموارد خيرة اكتشفت أخيراً.
وعندما ضموا الشمال إلى الجنوب أصبحت السيطرة لهؤلاء المجرمين الحزبيين، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يكفي المسلمين شرهم، وأن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وأن يرجع هذا البلد وكل بلاد الإسلام إلى الاحتكام إلى كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(52/14)
السيادة في الدستور الجزائري والتونسي والسوداني والبحريني
أما دستور جمهورية الجزائر الصادر عام (1976م) فيقول: إن رئيس الجمهورية يصدر القوانين كما في المادة (154)، وله حق طلب مداولة ثانية، أي: إعادة القراءة في القانون، ويتعين حينئذٍ الموافقة على القانون بأغلبية الثلثين، فـ الجزائر تعطي حق التحليل والتحريم لرئيس الجمهورية حسب الدستور، وهذا الذي دفع الإسلاميين والدعاة إلى أن يطالبوا بتحكيم الشرع.
وبهذه المناسبة -لأن الكلام الآن عن الجزائر - كنا نود أن تتاح فرصة، لنعطي الإخوة فكرة أوسع عن هذا البلد أولاً: لأن همَّ المسلمين واحد، وهم كما قال صلى الله عليه وسلم: {كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى}، وبعض الناس يقول: هذه مناطق بعيدة، وليس بشرط أن نعرف أحوالها، نقول: قد لا يكون شرط باعتباري أنا كفرد، ولكن باعتبار ذلك كأمة لا بد أن نعرف أحوالها.
ثانياً: إن وسائل الإعلام الشرقية والغربية لم تتركنا جهلة.
أي: أنه لا يتكلم حولها مطلقاً في الإذاعة والتلفزيون، ولا يهمل نهائياً.
نقول هذا؛ لأن البعض يفهم الإخوة خطأً ولا يدري ما حقوقها، فلا بد من معرفة أحوال المسلمين وواقع الأمة، وإعطاء الحلول لها والنظر إلى مشاكلها، ويومياً يصب الإعلام على الناس صباً، والناس يقرءون الجرائد ويسمعون الأخبار عن أحداث الجزائر، وما تقوله وسائل الإعلام الغربي وحتى الإعلام العربي التابع للغرب، يسمعونه منها: الجزائر: المتطرفين الأصوليين إلى آخره.
إذاً: أمام هذا الزخم الإعلامي الهائل، فلا نستطيع أن نسمعهم -نحن- كلمة الحق! هذا تقصير منا، وقد نأثم بذلك لأن في ذلك تلبيس للأمة وغش لها، وقبل فترة تقول جريدة عكاظ جبهة الإنقاذ تريد جر الأمة إلى الدماء، ما شاء الله! كم من الناس عندنا هنا بالآلف، بل مئات الألوف يكرهون هذه الجبهة لأنها -على حسب فهمهم- تؤدي إلى دمار الأمة، فيكرهون المطالبة بحكم الله، لأنهم قرءوا هذه الجريدة، ويقولون: هذه جريدة سعودية في بلد مسلم -والحمد لله- ولا يخطر على باله غير ذلك، وخاصة إذا لم يعترض عليها أحد، لا من العلماء ولا من الدعاة، -إذاً- هذا كلام صادق.
أيها الإخوة: القضية ليس فيها تكافؤ، فلا مقارنة بين ما يتكلم به أعداء الإسلام في وسائل الإعلام وبين ما يتكلم به الدعاة عن هذه القضايا، بل الإعلام يجد له صدى عندنا هنا في الداخل؛ وبهذا يضللوا الأمة عامة عن أحوال المسلمين، ولو أن واحداً يقوم في مكان ما في مسجد ما، ويقول أمام مائة أو مائتين أو ألف -مثلاً- فيذكر لهم الحقائق الصحيحة التي حلت بالأمة، ويحذر من المفاهيم المغلوطة -وهذا الكلام بين أفراد معدودين وليس بين الملايين- يراد له ألا يتكلم عن هؤلاء، وهذه مصيبة وجناية.
أقول: من هذا الباب كنت أريد أن نخصص محاضرة عن الجزائر نعرف ما هي أصل القضية، وأنا أتوقع أنه لا يوجد أحد في الشرق أو في الغرب اطلع على تاريخ الجزائر أو سمع الأخبار عنها، إلا ويشعر أن الأمر فيه شيء غريب، وأظنكم كلكم تشعرون بهذا الإحساس، وهذا الإحساس والشيء الغريب هو: أن البلد بلد مفرنج، أو مفرنس بالأصح، مائة وعشرين سنة من الاستعمار الخبيث؛ حيث دمروا وأزالوا فيها كل ما يَمُتْ للإسلام بصلة، حتى اللغة غيروها، وبعد فترة وإذا بالعاصمة وحدها يأتي منها مليون شخص، يقولون: نريد الإسلام، رجالاً ونساءً، شباب ملتحين ومظهرهم إسلامي، ونساء محجبات، يريدون الإسلام، ما السر؟ لماذا لا يظهر في تونس، أو المغرب مثل هذا الشيء؟ ما هو السر؟ أيها الإخوة: إن الجزائر يشبه هذه البلاد بالدعوة، لأن أصل البلد فيه دعوة سلفية، قضي عليها لكنها لم تَمُت في قلوب الناس، والمتأمل إلى دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه يجد أنها متميزة في جزيرة العرب، ولا شك أنها متميزة في التاريخ كله، لكن على غرارها وعلى منهاجها مع اختلافات -لكن المنهج والهدف واحد وهو الرجوع إلى الكتاب والسنة- فقامت هذه الدعوة على يد الشيخ عبد الحميد بن باديس في الجزائر، وانتهج الشيخ عبد الحميد بن باديس منهجاً علمياً، وهذا الذي نقوله دائماً: العلم العلم! فلا يأتي من يقول: نترك الجهاد، ونترك الدعوة من أجل العلم، لا، بل العلم أساس الدعوة، والعلم أساس الجهاد، ولكن أي علم؟ العلم الذي على عقيدة السلف الصالح.
يقول الشيخ عبد الحميد: لا يمكن أن نبدأ بجهاد الفرنسيين وإخراجهم من البلاد لسببين: أحدهما: لتمكنهم ولسيطرتهم، وهناك سبب آخر هو الأهم وإن كانت تلك من الأسباب المهمة، لكن لأننا لما تركنا العقيدة الصحيحة، وأصبح الناس يتبعون طرق الصوفية والخرافات والشركيات والبدع، وجهلوا الكتاب والسنة، ولأن الأمة ليست لها علماء يوقظونها، ويحركون ضميرها، ويجاهدون بها، فإننا لو أردنا الجهاد، لقادنا فلان وفلان من المجرمين، ومن العلمانيين.
إذاً: ما الفائدة؟! قال: أولاً: نؤسس العقيدة في قلوب الناس، ونؤسس العلم الشرعي الصحيح، ثم بعد ذلك يكون -إن شاء الله- الخير، فالشيخ عبد الحميد بقي أكثر من اثنين وعشرين سنة يفسر القرآن، ويدرس العقيدة في أحد المساجد، ويحضر عنده عدد معين من الطلاب، قد يصلوا إلى مائة وخمسين أو مائتين طالب -تقريباً- وكان يتجول أحياناً ويسافر، ويذهب إلى بعض المناطق، فإذا التمس من شاب في الأقاليم المختلفة أنه طالب علم، وفيه نباهة ونبوغ، وفيه خير، أتى به عنده ويصرف عليه من الأوقاف، ويجلس في الحلقة ويتعلم عشرين سنة، فأصبح عنده عدد كبير من العلماء من أقاليم مختلفة، ثم بثهم الشيخ في الأقاليم، يدعون الناس ويعلمونهم السنة، ويحاربون البدع، منهم الشيخ العقبي ومنهم الشيخ الميلي الذي ألف كتاب الشرك ومظاهره، وغيرهما، وبعضهم لهم كتب موجودة، إما زملاء للشيخ أو تلاميذ له، المهم: اتفقوا على هذا الشيء الواحد، وبعد العشرين نظروا وإذا الحمد لله الدعوة والعقيدة قد انتشرتا كل مكان، والفرنسيون: قابضون على البلاد قبضة شديدة، فقال الشيخ وزملاؤه: لا بد أن يكون هناك رابطة علمية، لا سياسية، ولا حزبية، حتى لا يقال: هؤلاء يريدون السلطة -مثلما تتهم مؤسسات الشرق الأوسط بجميع مجلاتها أصحاب الدعوات أنهم يريدون السلطة- ونسميها رابطة علماء السلف، فاجتمع العلماء والمشايخ من كل إقليم من أقاليم الجزائر وكونوا رابطة موحدة على منهج واحد وهو الكتاب والسنة.
وهذه -والحمد لله- ميزة، إذا وجد في أي بلد وحدة المنهج، فهذه نعمة عظيمة، كما نحن في هذا البلد، منهج الاستدلال واحد -والحمد لله- وهذا يوفر كثيراً جداً على الدعوة؛ لأنك لا تضطر لأن تقول للشيء: إنه بدعة، والعلماء يقولون: إنه سنة أو العكس، فمنهج الاستدلال على الأقل واحد، وهذه نعمة، أن يكون المنهج هو منهج السلف، كذلك كان الحال في الجزائر، المهم أنهم لما اجتمعوا إذا بهم كلهم منهجهم في الاستدلال واحد، وقالوا: نريد أن ننشئ مجلة ونبدأ نبث وننشر دعوتنا على الأمة، ونطالب الأمة بأشياء، ونطالب الفرنسيين بأشياء، فتحركت الأمة كلها -طبعاً- وهل يعقل أمة يجتمع علماؤها ويصدرون مجلة، ولهم صوت مسموع، ولا تلتف حولهم الأمة؟! لا يمكن، وهذه من نعم الله، والأمة هذه فيها خير كثير جداً.
لو اجتمع العلماء والدعاة في أي بلد على أمر واتفقوا عليه، واستمروا فيه، فإن الأمة تجتمع حولهم؛ لأن العلماء هم ضميرها المعبر، وهم الذين تثق فيهم؛ لأنهم يقولون: قال الله، قال رسوله، وتعرف أنهم لا يريدون الدنيا، ولكن لو أن أحد العلماء طالب بمنصب أو غيرها من أمور الدنيا لا تهموهم الناس، لكنهم لا يريدون إلا ما عند الله، فالناس لثقتهم في صدق نياتهم وسلامتهم، وأنهم يقولون كلمة الحق التي تغضب أكثر الناس عليهم التفوا حولهم.
إذاً: الأمة الجزائرية، التفت حول رابطة علماء السلف، ولما التفت حولها، بدءوا بالجهاد، وهنا كانت سنة من سنن الله أن الغرب أذكى وأقوى وأكثر بما لا نسبة بينهما، فاستطاعوا أن يقطفوا الثمرة، ويأتوا بالاشتراكيين والخبثاء، ومن قبلهم الوطنيين -كما يسمون- وقطفوا الثمرة وحكموا البلد، ومسخت مسخاً كاملاً؛ حتى صارت اشتراكية، ثورية، ديمقراطية، شعبية، والاختلاط الذي كان الفرنسيون يخافون من تعميمه، عمموه هم، فقد كانت المرأة الجزائرية حتى في المدارس الفرنسية تلبس لباساً أشبه ما يكون بالحجاب، أو قريباً من الحشمة، ولما جاءت الثورة -مع الأسف- استوردوا لهم مدرسين ومدرسات من بعض الدول العربية المعروفة بالتبرج، فنشروا التبرج، مع أنهم لم يأخذوا من الفرنسيين التبرج، لكن لما جاء هؤلاء المسلمون أخذوا منهم التبرج، وهكذا حتى حكمت البلاد بـ العلمانية، وبـ الاشتراكية.
ولما أراد الله سبحانه وتعالى لهم الخير، وجاءت الصحوة الجديدة عادت من جديد، والمجتمع فيه بقايا الخير، وفيه آثار الدعوة السابقة، الشيخ سحنون ما زال حياً -إلى الآن- وهو فوق الثمانين، فشكلوا رابطة علماء السلف، فاجتمعت الأمة حول هذا الشيخ وغيره من المشايخ، وقامت الدعوة مرة أخرى، ويريدون -أيضاً- أن تكون هناك دعوة سلفية، ويريدون أن يكون الحكم لله وحده، وبدون أي مقدمات، وبدون أي تكلف، وبدون أي نشاط حزبي قديم؛ وإذا بالملايين الجزائرية معهم لأن الأصل أن الخير موجود، والسلطة التي كانت تفرض عليهم الكفر ضعفت أو اختفت، أو أعطتهم حرية أنهم يقولون: ما يشاءون، فوجد هذا الزخم الهائل، واجتمعت أوروبا عدة مرات، كان آخرها(52/15)
خطر التقنين على الأمة الإسلامية
الغرض مما تقدم أن نعرف أن هذا شرك عام وكفر طام، وأنه لن يقوم بدين الله إلا من أقامه وأحاط به من جميع جوانبه، فتوحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالعبادة وبالذبح والنذر والخوف والرجاء كما دعا إليها الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم وغيرهم من الدعاة الكرام الذي هو توحيد الألوهية يجب أن ندعو إليه في كل زمان ومكان ولا ننساه أبداً، ولكن مع ذلك فإن الدعوة إلى أن يكون الحكم لله هو جزء منه، وليس خصماً للدعوة ولا لتوحيد العبادة، ولا نقول: إما أن نأخذ هذا أو هذا، بل نوحده سبحانه ولا نبتغي غيره إلهاً، وكذلك لا نبتغي غيره حكماً -كما ذكر الله تعالى في سورة الأنعام- ولا ولياً ولا رباً.
ولذلك يجب على المسلمين أن يعرفوا الحق ويعتقدوه، ثم يلي ذلك أن يجاهدوا لإقامته ولو بالدعاء ولو بالحجة العلمية كما أمر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بقوله: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:1 - 3] أي: عرفوا الحق واعتقدوه وعملوا به: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] أي: دعوا إليه.
والصحوة الإسلامية اليوم في كل مكان هي في الأعم والأغلب صحوة سلفية أثرية، وهذه من نعم الله على هذه الأمة، ومن أوجب ما يجب علينا أن نجمع كلمة المسلمين على هذا المنهج -منهج السلف الصالح - وكل من أعلن أنه ينتمي إلى هذا المنهج نفتح له صدورنا ونقبله، وإن وجدنا فيه نقصاً أو خللاً سددناه ووجهناه.
المقصود: أن الدعوات التي تقوم على كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا وجد فيها خطأ نرده وننصحها ونوجهها.
والدعوات الرافضية والقائمة على منهج علم الكلام -كـ الأشعرية - مرفوضة، وإذا قامت دعوة قبورية شركية، فهذه لا نقبلها أصلاً، بل هي من ألدَّ الأعداء، فلا بد أن نكون جميعاً يداً واحدة على كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا نسمح لأعداء الإسلام أن يدخلوا بيننا الفتنة.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(52/16)
قضايا وأحداث معاصرة
تناول الشيخ حفظه الله في هذه المحاضرة عدداً من الموضوعات: فكان الموضوع الأول يتعلق بمسألة استخدام السلاح ضد الحكومة في اليمن, موضحاً أن ذلك سوف يضر أكثر مما ينفع.
وأما الموضوع الثاني فقد تناول فيه مسألة إطلاق كلمة السلف بدلاً من كلمة أهل السنة والجماعة؛ بغرض التميز بين من يتبع الكتاب والسنة وبين غيره، وقد بين خلال ذلك الفرق بين العبارتين.
وأما الموضوع الثالث: فقد علق فيه على من زيارة بابا الفاتيكان لدولة السودان وغيرها من الدول الإسلامية، وبين أن ذلك دليل على ضعف عقيدة الولاء والبراء لدى المسلمين، وأنه لا ينبغي تشريف ذلك النجس بشرف زيارة الدول الإسلامية تحت أي تأويل.(53/1)
واجب دعاة اليمن تجاه الأحداث
السؤال
ما هو واجب الدعاة في اليمن، هل هو العمل الديمقراطي أم الجهادي؟(53/2)
اعتذار
ليسمح لي الإخوة بدقائق في موضوع مهم وحقيقة أنني أراه مهماً, وأنا مهتم بهذا الموضوع، وأنا أطلب المعذرة من الذين سألوني عنه مراراً وما منعني إلا أنّ الوقت لم يسعفني لأن أخصص له موضوعاً منفرداً، وأرى أن هذا الموضوع يتعلق بطرف آخر، وأريد أن أسمع منه، فلم أستطع أن أسمع منه حقيقة، لكن لا بد أن أتكلم وأن أقول نصيحة ينفع الله بها -إن شاء الله- ثم بعد ذلك لا بأس من الاستدراك أو من سماع رأي الطرف الآخر كعادتنا هنا، والحمد لله، اليمن في قلوبنا، هذا السؤال المهم يتعلق بالبلد الذي نحبه ويحبنا, والشعب الذي نحن منه وهو منا، وهم إخواننا الدعاة وإخواننا المؤمنون في الشعب اليمني الشقيق، الذي أراد الله له أن تكون حياته سلسلة من المآسي والفتن، لا يبعد فيها عن كثير من أقطار العالم الإسلامي، فقد تولى عليه الروافض في أول الأمر منذ نهاية القرن الثالث تقريباً، ثم تولت عليه الباطنية بعد ذلك، ثم في العصر الحديث -كما ترون- وبعد جهاد وكفاح طويل مع الباطنيين، انتصر عليهم الترك، ثم أخرج الترك، ثم جاءت الثورة المزعومة، وجاء عبد الناصر، وفعل بهم ما فعل، جزاه الله وعامله بما يستحق، ثم كانت المآسي والفتن التي لا تخفى عليكم إلى اليوم.
هذا الشعب المؤمن، الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية، وهم أرق قلوباً وألين أفئدة وأقبل للبشرى، وهم الذين سيكونون المدد لهذه الأمة -بإذن الله-في حروبها مع الدجال، وفي ملاحمها مع الروم، كما جاءت بهذا الأحاديث، نقول: إخواننا هنالك في حاجة شديدة إلى أن ينصحوا فيما يتعلق بالعمل الدعوي الذي يسيرون فيه، وذلك أن كثيراً من الإخوة أخبروني، وكتبوا لي بأن هنالك من يريد أن يعلن الجهاد المسلح في هذا البلد؛ نظراً لتردي الأوضاع ولفساد أحوالها، ولا يخفى علينا هذا، وبالمقابل هنالك بالطبع -وهم الأكثر- من يخالفهم في هذا القول.
فأحببت أن أقدم نصيحة لإخواني هنالك وهي لكل مسلم:(53/3)
مضمون النصيحة
إخوتي الكرام: إن الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى واجب علينا جميعاً، ولا يخفى على أحد منا فضلها وأهميتها, ولكن يجب علينا أن نضبطها بمنهاج النبوة، حتى تكون الدعوة على منهاج النبوة وعلى سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل حتى تكُون موافقة لسنن الله تعالى في المجتمعات، وفي الكون؛ فإن لله تعالى سنناً، وهذه السنن اتبعها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دعوته، فكانت مراحل كما تعلمون.
ومن ذلك أن الجهاد إنما يأتي في مرحلة تالية، في مرحلة تكون السُنَّة الربانية فيها أقرب إلى التحقق، ولسنا أياً من كنا بأشد شوقاً وأكثر تلهفاً إلى الجهاد في سبيل الله، وإقامة دين الله من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع ذلك كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمرهم في أول الأمر بكف اليد، ويقول: إني لم أؤمر بذلك، حتى هيأ الله تعالى له ما أراد بالهجرة، وما يسر له من إقامة الدولة، وأن يكون هو رأسها وسيدها، فعندئذ أنزل الله تبارك وتعالى قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39]، وهكذا كان ابتداء الجهاد إذناً وليس أمراً، والإذن إنما يكون بناء على طلب، وتلهف، وتشوق من الناس إليه، وهذا ما حدث في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفضل الجهاد وأثره العظيم لا ينكر، ولو خصصنا محاضرات وكتب في فضله وفوائده للأمة ما أتينا عليها، لكن هذه كلها يجب أن لا تنسينا حقائق لا بد من معرفتها ونحن نتعامل في حقل الدعوة إلى الله، وهي أن مرحلة الصبر والبلاغ والدعوة، والنذارة، هذه مرحلة لا بد أن تسبق ذلك كله، وهذه مرحلة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتجاوز، وهي التي قال فيها رسل الله لأقوامهم: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا} [إبراهيم:12].
حتى لو آذونا وسجنونا، وسجنوا من سجنوا، وآذوا من آذوا، لا عمل لنا إلا الصبر والبلاغ وإقامة الحجة، حتى يفتح الله تعالى بيننا وبينهم بالحق وهو خير الفاتحين، أما استعجال سنن الله تبارك وتعالى، وتوريط الأمة في مشاكل لا ندرك ولا نضمن عاقبتها، فهذا شيء يجب أن ندركه جميعاً، لا أقول في اليمن وحده، بل في كل مكان، ويجب أن نعلم أن هناك عقبات لا يصح معها أن يعلن الجهاد المسلح في هذا البلد الذي نحن حريصون كل الحرص أن يحكمه الإسلام في أقرب لحظة، وهذا الذي ندين الله تعالى به جميعاً، وهذا ما نريده لكل بلد في هذه الأرض ألا يحكم إلا بما أنزل الله.
لكن لا بد من التنبه إلى الأوضاع الدولية، والنظر إلى العقبات الخارجية، فهل تسمح الأوضاع الدولية الآن بوجود جهاد مستقل؛ لإعلاء كلمة الله وإقامة دينه، وسوف يكون التعاون بين الحكومة القائمة وبين الشرق أو الغرب، بين قوى نعلمها ولا نعلمها في سبيل القضاء على هذا الجهاد، لأن الغرب والقوى الدولية لا يريدون أن تتكرر مأساة أفغانستان أو إرتيريا , فهم حريصون على طمس هذا الجهاد هنا وهناك، في الفلبين أو في غيرها، هل يسمحون بالجهاد أن يكون في بلد مهم له موقعه المهم كـ اليمن، لا يكون ذلك أبداً.
أهم من ذلك -في نظري مثلاً- هل إمكانيات الدعاة ووسائلهم تتيح لهم ذلك، لنكن موضوعيون فيما نعلم وما يظهر لنا، الدعاة لا يملكون العدد الكافي، والدعاة -أيضاً- لا يملكون الإعلام والجيش الكافي، وكثير من الناس لا يعلم عنك أي شيء، وكيف يتعاطف معك وهو لا يعلم عنك أي شيء.
والدعاة -أيضاً- لا يملكون الاقتصاد والمال اللازم، وهكذا أمور كثيرة، على أن أهم من ذلك أيضاً أن نقول ما المقصود بالجهاد؟ إن كان المقصود به إعلاء كلمة الله؛ فإن أهم ما تعلى به كلمة الله تبارك وتعالى هو تصحيح العقيدة في قلوب الناس، كما بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذاً إلى اليمن فقال له: {فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله}، وفي رواية: {إلى أن يوحدوا الله}، إلى أن يعبد الله وحده لا شريك له، هذه أول دعوة، أن نعلم الناس العقيدة الصحيحة، ونفهمهم إياها حتى يتفقهوا فيها، ويعرفوا من يوالون ومن يعادون فيها، وحتى نضمن أنهم إن جاهدوا جاهدوا لله لا لغرض أو مطمع دنيوي.
ولا سيما في بيئة معقدة متشابكة كبيئة اليمن، فيها نواحي قبلية ونواحي طائفية، ونواحي مذهبية، وفيها أمور لا يستطيع الإنسان معها أو لا يضمن فيها ولاءً من أحد، وأيام الحرب بين الملكيين والجمهوريين، كان الأمر كان واضحاً، فالقبيلة إن أعطاها الملكيون المال انضمت إليهم، وإن أعطاها الجمهوريون انضمت إليهم، فالنفوس إن لم تكن صادقة متربية مزكاة بتقوى الله، كيف نضمن أنها تقف معنا، وإن وقفت في أول الأمر، أو جاءت بعض الأسباب التي نراها تشجعنا أن نجاهد أو أن نبدأ الجهاد، نحن نخشى أن تتحول العملية -لو قامت وإن شاء الله لن تقوم إلى العكس بل سيفكر الإخوة كثيراً في ذلك- إلى جاهلية وقبلية عنصرية، لا ندري، فقد ينفرط الحبل والزمام، ولا يكون بمقدورنا أن نسيطر عليه، وتتدخل القوى العظمى الخبيثة، لصالح طرف على طرف، أو تتحول اليمن إلى لبنان أخرى، أو أي بلد وهي حريصة على ذلك كما هي حريصة أن تفعل ذلك في السودان وفي أثيوبيا وفي غيرها.
فمن المشاكل التي سوف تترتب على قيام مثل هذا: الفرقة بين المسلمين، وكفانا فرقة, وأكثر الدعاة، والمسلمين لن يوافق على هذا الأمر، فسوف يكون هناك من الفرقة بين المسلمين ما نحن في غنى عنه في هذه اللحظة، ولن تكون إلا الفرقة، ولن يكون مثل هذا العمل الذي يختلف الناس إلى نقيضين إلا عند غياب الشورى، فلو كانت الشورى بين الدعاة في الأمور الاجتهادية, ثم الرجوع إلى العلماء في الأمور النصية، ومشاورة أهل العلم في كل مكان لأن الدعوة تهم الجميع في كل مكان؛ فهذا هو الذي يجمع الأمة ويوحد رأيها.
أما أن ينفرد أحد برأيه بجهاد أو حتى بدعوة، ويرى الآخرين رأياً آخر، ولا يكون هناك تواصل وشورى لأخذ هذا الأمر وهم في بلد واحد، فإن هذا يؤدي إلى تفريق الأمة، وإلى تمزيق كلمتها، ونحن نعلم من واقع اليمن وهذا يؤلمنا ولكن هذا واقع أكثر العالم الإسلامي -أن القبيلة أو المحافظة أو اللواء قد لا يكون فيها عالم، بل ربما طالب علم، لا يدرك إلا بعض ما يؤدي به الواجب، فالجهاد إذالم يكن هناك علماء يقودونه ويوجهونه، كيف نضمن له أن يستمر، وكيف نضمن له أن ينتصر؟! فالمربي مفقود، بل أكثر من ذلك القائد وهو الذي يكون مربياً وزيادة مفقود، إذ من المربين من لا يكون على قدر من العلم يؤهله في أن يقود طائفة، أو يربي جماعة في مسجد، أو جماعة من الشباب، أو حلقات علم، كيف يربي أمة؟! هذا أمر ليس بالأمر الهين، فحينئذ تضيع الأمور، ويأتي علماء السوء أو من أمثالهم، فيفتوا ضد هذه الأعمال، فتكون المأساة التي نسأل الله تعالى ألا تكون.
وقد يقول البعض إلى متى نظل نربي؟ فنقول: نحن لا نستعجل أمر الله، نحن واثقون بوعد الله بالنصر لمن قام بهذا الدين، وكما جاء في الحديث الصحيح: {رأيت النبي ومعه الرجل والرجلان والرهط، ورأيت النبي وليس معه أحد} بعض الأنبياء ما آمن به أحد، وما تبعه أحد، فعلينا ألا نستبطئ نصر الله، ولا نستعجل وعد الله، وأن نستمر في التربية والتزكية، والتفقه في الدين، وتصحيح العقيدة، والصبر على المخالفين في العقيدة، وفي المنكرات التي يجاهرون بها، حتى يفتح الله سبحانه قلوبهم للخير، وحتى تتكون قاعدة عريضة يمكن أن تقوم بدين الله سبحانه ولا تحوجنا إلى هذه الجهود التي لا ندري كيف تكون نهايتها, أو ما هو مصير هذه الأمور لو قامت؟! وأنا أرى أن القياس على أفغانستان أو على غيرها في غير محله، لأن أفغانستان العدو واضح، هو روسي شيوعي جاء بدباباته واحتل البلد، أما هنا فإن القضية ملبس عليها، فإن الحكومة تدعي أنها إسلامية, وتقول إن الدستور إسلامي، ومن العلماء من يؤيدها؛ فلا نقيس ذلك على أفغانستان، ولا على غيرها ولا ما أشبهها.
وقد يقول البعض: ما هو البديل؟ هل ننضم للأحزاب السياسية وندخل البرلمان، ونتحول للعمل السياسي؟ فنقول: لا أيضاً, فليس هذا المقصود، إنما نريد دعوة على منهاج النبوة تبدأ بتصحيح العقيدة، وتفقيه الناس في دينهم وتعليم سنة نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتفتح هذه الحلقات الطيبة المباركة، من توعية الناس وتعليمهم وتثقيفهم في المحافظات، في الألوية، وفي القرى، وفي كل مكان بقدر الاستطاعة، وعن طريق المعاهد، وعن طريق تحفيظ القرآن، وعن طريق نشر الأشرطة، ونشر الكتيبات وتوعية الناس، دعوة تقوم وتحتسب وتصبر على الأذى, فهذه هي القاعدة الأساسية التي نريدها.
أما ما يتعلق بالعمل السياسي وما تورطت فيه بعض الأحزاب من العمل السياسي، فنقول يجب أن تكون الأمور شورى، أن يستشيروا بعض، ويتشاوروا ويتباحثوا في مفاسدها ومصالحها، وهذه مسألة أخرى تحتاج إلى تفصيل وإلى بحث طويل، لأن هذه المشاركة قد يكون فيها بعض المصالح، ولكن في نفس الوقت فيها مفاسد واضحة لا تخفى على أي أحد.
فلا بد أن تدرس هذه الأمور بعناية.
وأسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا للعمل الصالح وللصواب، وأن يجعل دعوتنا كلها خالصة لوجهة الكريم، إنه سميع مجيب.(53/4)
تغير المصطلحات
السؤال
يقول: لماذا لا نستخدم عبارة السلف بدلاً من أهل السنة والجماعة؟
الجواب
لماذا لا تستخدمها أنت إذا كان أحد لا يستخدمها؟، وأنا أسأل هذا السؤال: وأقول: هل هناك فرق بينهما؟، في الواقع أنه لا يوجد أي فرق بينهما.(53/5)
الفرق بين السلف وأهل السنة والجماعة
السلف هم أهل السنة والجماعة بلا شك، لكن أهل السنة والجماعة هم السلف وأتباع السلف، فنحن نقول: نحن من أهل السنة والجماعة لكن هل نحن من السلف؟ لا لسنا من السلف، فـ السلف وأتباعهم هم أهل السنة والجماعة، وأخص من يطلق عليه اسم أهل السنة والجماعة وأولى من يطلق عليه هذا الاسم هم السلف الصالح، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال، {تفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا من هي؟ قال: هي الجماعة} وفي رواية أخرى، قال: {هي ما أنا عليه وأصحابي} فهذا كلامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهم الجماعة وهم الصحابة، وهم السلف، وفي الحديث {خير الناس قرني, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم} فالقرون الثلاثة المفضلة هم السلف وهم أهل السنة والجماعة.
وإن القرن الثالث يعد القرنين الأولين هم السلف بالنسبة له، والقرن الثاني يعتقد أن القرن الأول هو السلف، وهذا حق فأن كلمة السلف هي كلمة نسبية، لكن إذا قلنا أهل السنة والجماعة؛ فإنه يشمل كل ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلى قيام الساعة، فيدخل في ذلك دخولاً أولياً الصحابة، فهم أولى الناس وأولهم، ثم التابعون، ثم تابعو التابعين، ثم من سار على هذا المنهج إلى الغرباء، الذين يكونون نزاعاً من القبائل في آخر الزمان، كل هؤلاء هم أهل السنة والجماعة.
والعلماء عندما كتبوا كتباً مثلاً: أصول أهل السنة والجماعة فهم لا يعنون إلا غير أصول السلف، ولا يعنون شيئاً غير هذا، والإمام أحمد عندما كتب كتاب السنة، فهو يريد عقيدة السلف، أو الإمام عبد الله بن أحمد كذلك وهو ينسب له وأكثره عن أبيه.
إذاً كل ما كتب وكل ما يقال عن السنة أو عن أهل السنة والجماعة فأول من يقصد به السلف الصالح، ومن سار على نهجهم، ولا تستحق المسألة أن تكون مشكلة عند أدنى طالب علم مثلاً.
ويأتي الإشكال عند بعض الدعاة وبعض طلبة العلم، مثلاً يقول: إن بعض أهل البدع يدعي أنه من أهل السنة والجماعة، فنستخدم عبارة السلف حتى نخرجهم، فنقول: من يدعي أنه من أهل السنة وليس منهم، فهو قادر على أن يدعي أنه من السلف أو من السلفيين وهو ليس منهم، ثم هل نترك نحن كلمة شرعية عظيمة جاءت في كتاب الله استنباطاً كما قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} [الأنعام:153] وفسرها العلماء، أن (الصراط المستقيم) قالوا: السنة، ونترك ما جاء في الأحاديث وهي كثيرة جداً {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين} وفي حديث آخر قال: {هي الجماعة} وكلام السلف في هذا يعد بالمئات، بل يمكن القول: إن الآلاف من الآثار ممن يستخدم مثل هذه الكلمة كلمة أهل السنة، فنترك كل هذه النقول من أجل هؤلاء المبتدعة، من أهل الكلام سواء كانوا صوفية أم معتزلة أم أشعرية، أم عصرانية، أم عقلانية، أو أشباههم يقولون: نحن من أهل السنة، نترك الكلمة الشرعية، من أجل إدعاء المدعين.
فنقول: لا، السنة لستم من أهلها، فأنتم عقيدتكم كذا، وأهل السنة عقيدتهم كذا، كما ظهر قبل فترة من يقول إن الأشاعرة هم أهل السنة، والحمد لله تصدى لهم من بين أن أصول الأشعرية كذا وكذا، أما أصول أهل السنة والجماعة فهي بخلاف ذلك، فتبين أن الأشاعرة ليسوا من أهل السنة والجماعة، بل هم من أهل البدعة والضلالة.
فنحن بهذا نكون قد حررنا الأصول وميزنا فيما بينها، ووضعنا ضابطاً منهجياً علمياً نعرف به هذه المسألة، فلا تشكل علينا إن شاء الله.
وعندما أتينا على شرح مسألة التفاضل بين الملائكة وبين بني آدم، فلما وجدنا عبارة لـ شَيْخ الإِسْلامِ قال: 'وكنت أحسب أن هذا الأمر محدث، فإذا بها قضية سلفية ' فقلت لكم: أنا أفرح عندما أجد هذه الكلمة في كلام الفقهاء الأولين، لأننا -والحمد لله- نحبها ونريد أن نعممها، وننشرها، لكنها فعلاً قليلة، لكن معناها واضح، والمعنى: هو أن ما كان عليه السلف الصالح من دين وعقيدة هو مذهب أهل السنة والجماعة، وهذا المصطلح لا يخفى على أحد من الناس.(53/6)
المعنى العام والخاص لأهل السنة والجماعة
وهنا ملاحظة لابد من التنويه إليها، وهي أنه يوجد فرق بين أهل السنة بالمعنى العام، وأهل السنة بالمعنى الخاص، أو نقول: أهل السنة المحضة، وأهل السنة العامة.
قد يطلق أهل السنة أحياناً بما يقابل الروافض، وقد تقول: أهل السنة ويقابله المعتزلة، أو أهل السنة ويقابله المتكلمون، عامة، أو أهل السنة ويقابلهم الصوفية، فلماذا اختص بمقابلة الرافضة ومقابلة الشيعة، فيقال شيعي وسني؟!
الجواب
لكثرة ظهور مذهب التشيع وانتشاره, ولأنه من أجلِّ البدع، كما قال شَيْخ الإِسْلامِ فأصبح كأنه علم على البدعة ' فيقال: هذا الرجل إما سني وإما شيعي، مع أنه قد يكون مقصراً غير شيعي محض، ولكن هذا هو المعنى العام، فالناس الآن مثلاً في الخليج أو في العراق أو في بلاد الشام نقول هم إما أهل سنة وإما شيعة، لكن هل يعني هذا أنهم من أهل السنة المحضة، وأهل الاتباع المتبعين لمنهج السلف الصالح؟ لا، نعني فقط ليسوا شيعة، هذا المعنى الأعم.
المعنى الأخص: أن تقول أهل السنة وتقصد في المقابل أهل البدعة، فتقصد بـ أهل السنة أهل الأثر , وأهل الاتباع الذين يأخذون ما جاء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصحابته، إيماناً واعتقاداً, وقولاً وعملاً, ولا يعارضون عن ذلك المنهج بأي منهج من المناهج البدعية، ولا بأي رأي من الآراء البشرية، فهم متبعون لا مبتدعون.
فهم مقابل ما يسميه العلماء بـ أهل الحديث، أو أهل الأثر، أو أهل الاتباع، أو أهل السنة إلى غير ذلك من الألقاب، هذا هو المقصود بـ أهل السنة في هذا المعنى، عادة أن المقابل لهم هو أي مبتدع كان، وإن كان غير رافضي، فإذا كنت تريد أن تميز فرداً أو شعباً أنه ليس من الرافضة، فتقول: أهل مصر أهل سنة، بمعنى أنهم ليسوا شيعة، هذا وارد، وإن كنت تريد التزكية ليس مجرد التمييز فتقول: فلان من أهل السنة، أي أنه على منهج السلف الصالح، وليس من أهل البدع، لأن البدعة: هي ما أحدثت ولم يكن معمولاً بها ولا معروفة عند السلف الصالح.
وأظن أن سبب الإشكال هو دعاوى أولئك، وإلا لم تثر هذه المسائل من قبل، ولذلك لا نجد أن العلماء المتقدمين قالوا: نحن السلفيون -بهذا اللفظ- لكن حقيقتهم هي أنهم كانوا سلفيين قولاً وعملاً واعتقاداً, ظاهراً وباطناً, وخاب وخسر من لم يكن سلفياً في قديم الدهر أو في حديثه لا شك في هذا، لكن هل نجعل أهل السنة والجماعة قسم والسلفيون قسم آخر، ونميز بينهما؟ هذا لا يصح لمجرد أن المبتدعة يدعون أنهم من أهل السنة، بل يوجد من أهل البدع إلى الآن من يقول أو يدعي أن دعوته سلفية، فهل نقره على هذه الدعوى؟ لا، يقر أبداً، فنقول إذاً: لا عبرة بدعوة المدعي وإنما العبرة بالحقيقة نفسها.(53/7)
بابا الفاتيكان يزور دولة مسلمة
السؤال
تناقلت الأخبار والإذاعات نبأ زيارة بابا الفاتيكان للسودان الشقيق والترحيب والاستقبال له من حكومة السودان، وعلى رأسهم الفريق البشير والترحيب بقوله أنت هبة الله، وحسب ما تناقلته الصحيفة أن البابا أقام الصلوات المسيحية النصرانية على أرض السودان، فينبغي لنا نحن المسلمين أن نستنكر ذلك، باعتبار أن بلاد السودان بلاد إسلامية، نرجو رأيكم وما هي النصيحة في ذلك؟
الجواب
من عظم البلاء وعظيم الفتنة على المسلمين أن يتسابقوا لاسترضاء زعماء الكفر، وأن يتنافسوا على ذلك, وهذه لا شك أنها أحد مظاهر ضعف عقيدة الولاء والبراء, وانحراف المناهج الدعوية التي تشهده الأمة في هذا العصر.
فالبابا في الفترة الأخيرة هو بين من يزوره وبين من يستزيره، والكل يخطب وده من حكومات العالم الإسلامي، والكل يشيد بدوره، ويتمنى له دوراً أكبر في حل مشكلة السلام، وفي إرجاع الحقوق الفلسطينية وفي غير ذلك، وكل واحد منهم يدعي أن له تأويلاً في ذلك.
فهذا يقول نريد أن نؤيد البابا والنصارى، ونستظهر بهم على العدو الصهيوني، والآخر يقول: نحن نريد -كما هو حال السودان - أن نكسر حاجز العزلة، أو الحصار الذي يريد الغرب أن يفرضه علينا، فهذا إمامهم وزعيمهم الروحي يأتينا ونريد أن نثبت لهم أننا لسنا ضد حقوق الإنسان، وحتى لا يقول النصارى في الجنوب لماذا تقاتلونا؟ وغير ذلك، أنا أقول في الحقيقة كل هذه التأويلات مردودة ومرفوضة.(53/8)
حقيقة البابا
البابا هذا عدو الله، وعدو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعدو المؤمنين، ومن زاره، أو استزاره، وجامله، فهو لا شك مخالف للعقيدة الصحيحة، ولا شك أن هذا منحدر خطر، يقع فيه كل من فعل هذا العمل أياً كان، ولا يقبل أي تأويل ولا أي تعليل لمثل هذا الأمر، وخاصة أن يأتي إلى السودان وأن يقيم فيها الصلاة والقداس -كما يزعمون- هذا في الحقيقة منكر يجب أن ينكر ويعلن إنكاره، وأن يصل هذا الإنكار إلى من يهمه الأمر في السودان، فنحن جميعاً رحبنا وفرحنا بالخطوات التي قدمت والتي بذلت من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية، ومن أجل بناء دولة إسلامية في السودان، وهذا الذي نحن رحبنا به، وفرحنا به ولا زلنا نأمل فيه الخير -إن شاء الله- فلا يصح بأي حال من الأحوال أن يأتوا بمثل هذا العمل الذي لا يمكن أن يقرهم عليه أي مسلم.
وأنا أنصح كل مسلم -عموماً- بما أمر الله تبارك وتعالى به من وجوب عداوة هؤلاء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] فيجب أن نعاديهم، وألا نأمنهم، وأن نعلن عداوتهم، ونحذر مكرهم وخططهم، ومهما ظننا أننا نستفيد من زيارتهم لنا، فالحقيقة نحن خاسرون، هم أمهر منا في السياسة، وأعلم منا بالفائدة المرجوة المتحققة.(53/9)
نصيحة لدولة السودان
إنني أنصح بصفة خاصة الحكومة السودانية بأن تستقيم على أمر الله، هي وغيرها من الحكومات، لكن أنصحها هي بالذات لأنها ترفع هذا الشعار، أن تستقيم على أمر الله وتعلن الولاء مجرداً لله ولرسوله وللمؤمنين, وتعلن تطبيق الشريعة الإسلامية بكل صراحة وبكل وضوح.
وعلى جميع الناس أن يعلموا أنها إذا فعلت ذلك فسوف تخسر الغرب, ولكنها سوف تكسب -أولاً- رضا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهذا أهم شيء في الدنيا، ثم سوف تكسب مشاعر وتعاطف المسلمين، وكثير من المسلمين مترددين في تأييدها؛ لأنها لم تعلن بقوة وبوضوح وبصراحة معاداة هؤلاء الكفار، ولم تطبق الشريعة الإسلامية تطبيقاً كاملاً، فهناك نوع من التردد، بل نوع من العداوة، ونحن لا نقر أن يعادى أي مسلم على أية حال، لكن موجود هذا في صفوف بعض الإسلاميين، نظراً لهذا التلكؤ والتباطؤ وتمييع بعض الأمور، وللخلل الفكري الذي نحن نعرفه، والخلل في المنهج الدعوي الذي يتبناه الدكتور حسن الترابي ومن معه، فنحن ننصح الحكومة السودانية أن تعرض عن كل عقيدة تخالف عقيدة السلف الصالح وأن تتبنى عقيدة السلف الصالح ومنهج الكتاب والسنة، منهجاً تدعو إليه وتعمل به، وإذا فعلت ذلك؛ فإن الله تعالى سوف ينصرها -هي وأي حكومة- سوف ينصرها ويعينها على الغرب وعلى غيرهم.
أما إذا كانت قضية العقيدة قضية عامة أو مائعة، والتقدم إلى الإسلام أو إلى تطبيقه استحياء، وأن هذا نوع من المجاملة، وهذه قضية سياسية، وهذه قضية مصلحية، وهذه قضية كذا وكذا، ضاع الأمر الذي من أجله قامت الدولة، وقامت الحركة واستبشر المسلمون بقيامها، وإن كانت لم تحقق حتى الآن مما يدعو إلى التفاؤل الكبير، ولكن لا يشك أي إنسان أنها حققت أموراً وأشياءً كانت غير متحققة في السودان فيما يتعلق بالجهاد -جهاد النصارى- وبإحياء بعض الشعائر الإسلامية، وتعديل بعض المناهج، وهذه كلها أمور تشكر لهم، ولكن نريد منهم الاستقامة الكاملة والاعتصام بحبل الله والتوكل على الله، وترك هذه المجاملات، ونرجو أن يبلغهم استنكارنا الشديد لمرور البابا في السودان.
يجب أن يعلم كل مسلم، أنه لا مكان للبابا ولا لأحد من أعوانه على أرض الإسلام، ولا يجوز أن يمسها ولا لصاحب قداسة، بل لا يجوز أن يعتقد أحد أن هذا الوصف صحيح، أن يقال له: صاحب قداسة، فهؤلاء أعداء الله، وهو زعيم الكفر في العالم، وزعيم الأمة الضالة، التي وصفها الله تبارك وتعالى بالضلال والكفر، فقال {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] , وقال {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:72] فكيف تكون له قداسة، وكيف يصبح له ذلك في بلاد المسلمين.
أما وجود نصارى في السودان أو في مصر أو في غيرهما فيجب أن تقام عليهم أحكام الإسلام كاملة، والآيات التي أنزلت في سورة المائدة، آيات الحكم وسبب نزولها -كما تعلمون- هو اليهودي واليهودية اللذان زنيا في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأقام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحد عليهما مع أنهما يهوديان، فلا يقال إن الشريعة لا تطبق إلا على المسلمين، بل لا بد أن تطبق على كل أحد ما دامت الحكومة حكومة إسلامية، وما دامت الدولة دولة إسلامية.
ونسأل الله سبحانه أن يرد هذه الأمة إليه رداً حميداً، وأن يبصرنا بحقائق هذا الدين، وألا يجعل للمنحرفين في مناهجهم الدعوية أو الفكرية سبيلاً إلى تضليل هذه الأمة، وهذه الجماهير المسكينة التي يلبس عليها دينها هاهنا وهاهنا، والله المستعان.(53/10)
مقاطعة سلع الأعداء
السؤال
هل نحن أيضاً نطالب بعدم شراء ثمار الرافضة؟
الجواب
مقاطعة السلع الإيرانية وغيرها من بضائع الرافضة واجب، حتى لو لم يفعلوا ذلك، يجب أن نستغني عن بضائع الروافض واليهود والنصارى والمجوس والهندوس، وكل ما يدر مالاً أو دخلاً نتيجة تعامله معنا، وهو عدو لله ولرسوله وللمؤمنين، يجب أن نستغني عنه بقدر الطاقة، وهذا التفاح يغنينا الله بأنواع أخرى من التفاح موجودة كثيرة من غير هذا الفعل، فكيف إذا فعلوا هذا الفعل؟! لو أنها شركة لأناس صالحين وطيبين ومسلمين، وداخل هذا البلد وعملت هذا العمل؛ لقلنا لا بد أن تقاطع، حتى لو جاء رئيسها واعتذر بعدم العلم، أو أن عندي عمال هندوس لا يعلمون، فلو قوطعت البضائع، ولو لفترة حتى يشعر الناس بأهمية، وبعظمة هذا القرآن وباحترامه وبقدسيته، فكيف والحال كما ذُكر.(53/11)
الصلاة خلف أهل البدع
السؤال
رجل دخل المسجد فوقع نظره على الإمام فإذا به من الأشاعرة المتعصبين, فخرج وأدرك الصلاة في مسجد آخر؟
الجواب
ليس عليك شيء، ما دمت عرفت الرجل بعينه وأنه من أهل البدع، وتركته إلى إمام آخر، فنقول بل أنت مأجور، ومشكور على هذا العمل، فمستور الحال -أي من لا يعلم حاله- يصلى خلفه، أما إن علم أن هذا مبتدع متعصب ومصر على بدعته، فهذا لا يصلى خلفه، ولا يتعمد ذلك.(53/12)
كتب أحاديث الاحتجاج بخبر الآحاد
السؤال
هناك كتاب للشيخ عبد الله بن جبرين بعنوان: أخبار الآحاد في الحديث النبوي، حجيتها، مفادها، العمل بموجبها ينصح الإخوة بالقراءة والاطلاع عليه؟
الجواب
الكتب كثيرة في الحقيقة، ونحن عندما اعتمدنا على الصواعق المرسلة، كان هناك سبب, وهو أن نناقش المتكلمين ونرد عليهم ونبسط شبهاتهم، ثم الإسهاب في ردها تفصيلاً، وأكثر من رد عليهم فيه هو شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في نقض التأسيس , ومع الأسف أن الجزء المتعلق بهذا الموضوع مفقود كله -أو أغلبه- من الطبعة الموجودة الآن، أما في المخطوط فهو موجود، لكن ابن القيم -رحمه الله- أجمل ذلك، وهذبه واختصره وفضله في الصواعق بكلام عظيم نافع جداً، وأنتم -إن شاء الله- أهل لأن تفهموا كلام ابن القيم، لكن ما كتبه هو أو الشيخ الألباني حفظه الله، أو غيرهما فهذا من الاحتجاج بخبر الآحاد في العقيدة من كتب أو كتيبات أو حتى أشرطة، فالكل نافع وموجود، إن شاء الله، لتصحيح وتأصيل هذا الأصل العظيم من أصول أهل السنة والجماعة.(53/13)
السؤال عن صفات الله
السؤال
هل صحيح -كما يذكر بعض العلماء- أن السؤال في أمر الصفات من الأمور المحدثة، وأن الصحابة لم يكونوا يسألون عنها؟
الجواب
هذا كلام مجمل، يجب أن يفصل، إن كان القائل يريد أن يقول: إن الصحابة لم يسألوا عن صفات الله مطلقاً، ولم يسألوا عن معرفة الله، ولم يستوضحوا شيئاً يزيدهم معرفة بالله، فهذا باطل، بل سألوا أسئلة كثيرة في هذا.
وأما إن كان مراده أن الصحابة رضي الله عنهم آمنوا بأحاديث الصفات وآياتها، ولم يسألوا عنها ولم يجادلوا فيها ولم يخوضوا في كيفيتها، بل لما قال رجل للإمام مالك أو لـ ربيعة: كيف استوى؟! قال: إنك رجل سوء.
وطرده من المجلس، نقول: إن كان هذا فنعم، فالصحابة رضي الله عنهم أجل وأعظم وأقرب إلى الله تبارك وتعالى، وأعرف به من أن يسألوا عن كيفية صفات الله أو أن يجادلوا فيها, أو يخوضوا بما لا علم لديهم ولم يقفوا به علماً، إذاً هذه المسألة.
أما سؤالهم عن شيء يتعلق بالله فقد كانوا يسألون، فقد سألوا عن أفعال الله وعن أمور عظيمة جداً ومن الأمثلة على ذلك، مثل قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] سأل الصحابة عن ربهم سبحانه: أقريب -ربنا- فنناجيه أم بعيد فنناديه؟! سألوا عن الضحك، سألوا عن رؤية الله سبحانه، حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، لما جاءه أهل اليمن، قالوا جئنا نسألك عن أول هذا الأمر كيف كان؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كان الله ولم يكن غيره شيء، وخلق السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء}.
هذا أعظم سؤال في تاريخ البشرية، لا يوجد سؤال يسأل عنه الناس أكثر من هذا السؤال، حتى الكافرون والملحدون يسألون عن نشأة الكون كيف بدأ، الشيوعيون الذين لا يؤمنون بخالق يبحثون بحثاً طويلاً عن نشأة الكون، وهذا العالم الكبير جداً -عالمهم أوبا ريل -حاول أن يضع لهم نظرية في نشأة الكون وغيره وغيره، فأهم قضية هي كيف نشأ هذا الكون؟ وهؤلاء ليسوا من خلص الصحابة أيضاً، إنما هم من أهل اليمن، وفد جاءوا ليسلموا وجلسوا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقبلوا البشرى -بعد أن ردها بنو تميم- {اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، قالوا: قبلنا يا رسول الله} فجاءوا وجلسوا وسألوه عن هذا يدل على أن أذكى وأعقل الناس وأبعدهم الناس نظراً، وأعمقهم فكراً هم الصحابة رضي الله عنهم.
أما المبتدع في الإسلام فهو يسأل أسئلة تحير الفلاسفة وتقض مضاجعهم, وهم يعلمون أن الجواب الشافي الكافي يأتي من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا: جئنا نسألك عن أول هذا الأمر كيف كان؟ وهذا سؤال عظيم جداً، فبين لهم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الأول الذي ليس قبله شيء، ثم إنه خلق القلم -وهو المقصود بكتابة الذكر- وأمره أن يكتب كل شيء، فكتب كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم خلق الإنسان، خلق آدم ومنه جاءت الذرية، فعرفنا الجواب الذي يخوض فيه الخائضون ولا ينتهي خوضهم.
أما الكيفيات الأخرى، كنظرية الانفجار العظيم، وهي أكثر نظرية يدرسونها في علم الفيزياء وكيف نشأ الكون؟ وأن انفجاراً عظيماً أوجد هذا الكون ابتداءً، كما ذكر في ستة أيام والأيام عند الله سبحانه لا ندري ما هي بالضبط ولا يهمنا منها شيء، قال تعالى {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] المهم أنه هو الذي خلقها وأن يقر الأمر هذا كما أخبر في كتابه، وكما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن التفاصيل التي يسيرون عليها ويتيهون ويضيعون فيها، لا يهمنا كثيراً، قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} [العنكبوت:20] المهم أننا نصل إلى أن الله تعالى هو الخالق والموجد، وهو الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً، وهو الذي وضع كل شيء بميزان، هذا هو الذي يجب أن نؤمن به، وهذه خلاصة المتكلمين والمتفلسفين والباحثين في هذه القضايا.
الصحابة رضي الله عنهم سألوا حتى عن القدر، قالوا: الأمر أُنف أم بما نستقبل ونستدبر؟ قالوا: يا رسول الله! أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فأجابهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الأمر ليس أُنفاً وإنما قد كتبه الله كما في الحديث المعروف الذي رواه أبو بكر وجابر وعلي وأبو هريرة وأبو الدرداء وجمع من الصحابة رضي الله عنهم وهو أنه لا بد من العمل قال: {اعملوا فكل ميسر لما خلق له وقرأ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:4 - 9]} إذاً كل ميسر لما خلق له، ولكن هذا بناءً على عمل.(53/14)
حوار مع الشيخ الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي
في هذا الحوار تناول الشيخ حفظه الله مسألة الخلاف وحكمه في الإسلام، مبيناً الجوانب التي يسوغ فيها الخلاف، والجوانب التي لا يسوغ فيها، كما شدد على الضوابط التي يجب التقيد بها عند ورود الخلاف.
ثم بين دور العلمانيين ومن شاكلهم في الطعن على من ينتسبون إلى منهج أهل السنة والجماعة، عاقداً خلال ذلك المقارنة بين نهج أهل السنة في التعامل مع مخالفيهم ونهج من سواهم ممن ينتسبون إلى المناهج الأخرى.
كما بين خلال هذا الحوار المنهج القويم الذي يجب على أهل السنة التقيد به في سعيهم إلى التغيير.(54/1)
ضوابط الإنكار في مسائل الخلاف
السؤال
هناك من يقول: لا إنكار في مسائل الخلاف، فهل هذه القاعدة صحيحة، وتؤخذ على إطلاقها؟ ولماذا يتكئ عليها دعاة العصرنة اليوم؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فإن القول بأنه لا إنكار في مسائل الخلاف، هو قول قديم مأثور، تداوله بعض العلماء من قبل، ولكنه يستخدم الآن لأغراض خبيثة أوسع وأبعد مما كان من قبل، كغيره من المصطلحات، ومن القواعد التي توسع فيها في هذا الزمن لغرض إفساد هذا الدين.
ولا شك أن هذا المصطلح أو هذه القاعدة ليست على إطلاقها، فإنه ليس كل خلاف يعتبر كما ذكر ذلك العلماء الثقات من علماء أهل السنة والجماعة.
فالخلاف قد يكون غير جائز، كمن يخالف نصاً من كتاب الله أو سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو إجماع السلف الصالح، فإذا كان الخلاف بين رأي أو اجتهاد أو شيء من ذلك، فإن هذا الخلاف لا يعتبر، ولذلك قال بعض العلماء:
وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلاف له حظ من النظر
فما لم يكن له حظ من النظر في الأدلة الصحيحة، كأن يكون الخلاف في مفهوم حديث أو آية، فهذا معتبر، وما لم يكن كذلك فإنه لا يعتبر.
وإذا كان الخلاف بين نص عام ونص خاص، فلا شك أن الخاص يخصص العام ويقدم عليه.
فعلى هذا -أيضاً- لا ينظر لمن خالف متمسكاً بأدلة العموم في مقابل من تمسك بدليل خاص، أو من تمسك بدليل مطلق في مقابل من يتمسك بالدليل المقيد له.
وهذه كلها قواعد مضبوطة عند العلماء في علم الأصول وفي غيره.
وكذلك إذا كان المخالف يعتمد على دليل غير ثابت، كمن يستدل بحديث ضعيف أو موضوع أو قياس فاسد، فكل ذلك لا يعتبر، وإن كان هو في الحقيقة خلافاً.
وهذا لا يعني أن المخالف نفسه لا يكون مأجوراً، بل قد يكون المخالف مأجوراً؛ لأنه بذل وسعه وطاقته وجهده في الوصول إلى الحق، ولكن هذا هو غاية ما وصل إليه بحثه ونظره واجتهاده، لكن لا يجوز لمن علم أنه لا دليل له إلا هذا أن يخالف الدليل الصحيح الثابت، أو إذا كان الخلاف في الدلالة، فلا يجوزله أن يخالف الدليل القطعي الدلالة، لوجود خلاف سابق، ويقول: إن المسألة خلافية، فالرجوع عند الخلاف إنما يكون إلى كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأما هؤلاء العصريون وأمثالهم، فهؤلاء ينطبق عليهم أكثر ما ينطبق المقولة السابقة، وهي: أنه من تتبع رخص العلماء تزندق، فهؤلاء يأتون إلى كل مسألة من مسائل العلم، ويقولون هذه خلافية، وهذا فيه خلاف.
وتتشعب هذه الأمور حتى لا تنتهي الأمة إلى شيء.
وهذا يذكرني بما يأتي في ديباجة بعض القوانين الوضعية أو الدساتير، فبعد أن يذكروا نصوص القانون فيما يسمونه المصادر الاحتياطية للتقنين، يقولون: يرجع إلى الشريعة الإسلامية على اختلاف بينهم، فبعضهم يجعلها الثالث أو الثاني من المصادر الاحتياطية، فيقولون: يرجع إلى الشريعة الإسلامية دون التقيد بمذهب معين، بل بما يتفق مع روح هذا القانون، دون التقيد بمذهب معين، حتى ولو كان زيدياً، أو رافضياً، أو ظاهرياً، ولو كان قولاً ضعيفاً أو أثر من قبل.
وهذه تفتح باباً عظيماً من أبواب الضلال على الأمة، وتشتت وحدتها العملية، كما أنها شتتت وحدتها الفكرية والنظرية.(54/2)
أنواع الاختلاف
السؤال
ولكن يا شيخ! مفهوم هذا أن الخلاف لا بد أن يبقى في الأمة، فهل يمكن أن نقول: إن هناك مواضيع يجوز أن يحدث فيها الخلاف، ومواضيع لا يجوز أن يحدث فيها الخلاف؟ الجواب: نعم.
الخلاف باقٍ كما قال الله تبارك وتعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود:118] سواء أكان في العقائد، أم في الفروع، وكلامنا نحن الآن في الفروع، في الاستدلال.
الخلاف باقٍ؛ لكن يسوغ ويصح ويجوز في موارد الاجتهاد، وهي كثيرة جداً، فيما يسميه -علماء الأصول- تحقيق المناط، وهذا وارد بأن نتفق جميعاً على النص الشرعي من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الصحيح.
أيضاً قد نتفق على هذه، ولكن نختلف في تحقيق مناط هذا الدليل الصحيح سواءٌ كان كتاباً أو سنةً أو قياساً أو إجماعاً، فهذا سائغ ووارد، ولا بد أن تختلف فيه الأنظار، وهو طبيعي، وهذا من حكمة الله تبارك وتعالى.
وكذلك يمكن أن يأتي الخلاف في مسائل تتعلق بالدلالة، كما أشرنا بأن يفهم البعض أن هذا يدل دلالة صريحة، والآخر لا يفهم ذلك، وهذا واقع حتى بين الصحابة -رضوان الله عليهم- ومن بعدهم من العلماء فهذا حق، وهذا واقع، لكن هذا شيء وما يستدل به أولئك -كما أشرنا- شيء آخر.(54/3)
الخلاف في الأصول والفروع
السؤال
بالنسبة للتفريق في مسائل الخلاف بين الخلاف في الفروع والخلاف في الأصول.
كأني أفهم أنك تميل إلى أنه لا يقبل الخلاف في الأصول، فهل هذا القول على إطلاقه؟ الجواب: ينبغي أولاً: أن نوضح معنى الأصول، فنحن نقصد بالأصول: الاعتقادات، أي: الأصول الاعتقادية، وهي ما أجمع عليه السلف الصالح -رضوان الله عليهم- من أبواب الإيمان والعقيدة وهي كثيرة، فهذه مجمع عليها والمخالف فيها لا يكون مجتهداً، وإنما مبتدعاً أو قد يكون مخطئاً إذا كان من أهل السنة والجماعة وخالف في مسألة لم تبلغه أو لم يستطع أن يحيط بها علماً وما أشبه ذلك، ولا يعتبر خلافه ولا يعتد به غيره.
ولا شك أن الأصول التي هي العقيدة فيها مسائل فرعية ضمن مسائل العقيدة، مسائل فرعية من فرعيات العقيدة أو هي مما يترتب أو يستنتج من الأصول، وهذه يسوغ فيها النظر كما يسوغ في الفروع العملية.
ومن الأصول أيضاً غير قضايا العقيدة: أساسيات الأحكام أو أصول الأحكام، كالأمور المعلوم وجوبها من الدين بالضرورة، أو الأمور المعلوم من الدين تحريمها بالضرورة، فإن الإيمان بها ومعرفتها يدخل في موضوع الأصول، ولا يجوز بحال من الأحوال الخلاف فيها، ولكن قد يقع الخلاف في فروعها، كما ذكرنا في فرعيات أو جزئيات العقيدة.(54/4)
العصرانيون ومسائل الخلاف
السؤال
أيضاً: بالنسبة لموضوع مسائل الخلاف خاصة في الفروع وهي التي يكثر الدندنة حولها من قبل العصرانيين في هذا الزمان، نجد أن هذه المسائل التي يشيرون إليها منها ما كاد يكون الإجماع يتم عليه وإن كان هناك من خالف، لكنهم قلة ويُعتبرون شواذ، وهناك مسائل الخلاف فيها دائر، ونجد أهل السنة منقسمين فيها، فهل هناك فرق بين هذا وذاك؟ فمثلاً مسائل الغناء نجد من خالف فيها مثل إبراهيم بن سعد أو ابن حزم وهم شواذ، فليست هذه المسألة من المسائل التي يكثر فيها الخلاف؟
الجواب
في نظري أنه ينظر للأمر من زاويتين: الأولى: أن هؤلاء إنما يريدون الطعن في مصادر التشريع الإسلامي بإطلاق، ولذلك يطعنون في الإجماع توصلاً بذلك إلى الطعن في بقية المصادر، لأن الإجماع أقوى الأدلة - كما تعلمون - لأنه لا بد أن يستند إلى نص من الكتاب أو السنة، فمع دلالة النص يضاف إلى ذلك الإجماع في فهم النص ودلالته، فيطعنون في الإجماع، ويطعنون في القياس مهما كان جلياً في الجملة، ويطعنون في دلالة نصوص الكتاب [[والقرآن حمّال وجوه]] كما أُثِرَ ذلك عن السلف - ثم يأتون إلى السنة فيطعنون في ثبوتها، إما جملة وإما بعضها دون بعض على اختلاف مشاربهم ومواردهم، فهم يريدون هدم مصادر التشريع من جهة، فهذا جانب.
والجانب الآخر: أنهم يأتون إلى خلاف حقيقي وموجود كما ذكرتم في مسألة الغناء، لكن يتناولون هذه القضية كما تناولها العلماء من قبل بأن يقال: هذه مسألة فيها قول ونحن نرجحه ونميل إليه، وليس هذا فقط.
فمثلاً كتب أحدهم كتاباً مستقلاً عن هذه المسألة وبعض المسائل الأخرى، سماه آراء تقدمية في الفكر الإسلامي، فاعتبر أن قول ابن حزم وأمثاله في مسألة الغناء أنه حلال، وأنه رأي تقدمي عصري، ومساير لروح العصر والحياة، وأنه سبق من أتى من بعده من المتأخرين، ورأوا أن هذه الموسيقى والغناء ضرورة عصرية، فرأى أن هذا هو التقدم العصري والرأي التقدمي، وأن تحريم الغناء هو رأي -بالمقابل- رجعي، مع أنه هو الثابت وهو الصحيح، وهو الذي دلت عليه النصوص.
فليست المسألة ترجيح قول أو أخذاً لقول دون قول، وإنما تقديم لقول مرجوح، وبشكل يزري ويطعن في الرأي الآخر جملةً وتفصيلاً، فهذا خطر كبير، ولا شك أنه يترتب عليه آثار تصل إلى حد التقديم بين يدي الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورد النصوص بمجرد الرأي والهوى نسأل الله العفو والعافية.(54/5)
مسائل الخلاف ومسايرة العصر
السؤال
إذاً: هذا يفضي إلى الطريقة التي يرجحون بها في مسائل الخلاف، وهذه الطريقة بحسب معرفتي هي طريقة لم يسبق إليها أحد من العلماء، وهي أنهم ينظرون في مسائل الخلاف، ويرون الأنسب لما يزعمونه من أمور العصر، والحقيقة أنه الذي يوافق الهوى، فإن طريقة العلماء السابقين أنهم يوازنون بين الأدلة من حيث قوتها وضعفها وبمرجحات أخرى كما بلغت عند العلماء أوجهاً كثيرة، فهل هذه الطريقة التي يرجحون بها يمكن أن يحكم عليهم من خلالها بأنهم مبتدعة وأنهم خالفوا سبيل المؤمنين السابقين؟
الجواب
لا شك -كما أشرنا وكما ذكرتم- أن القضية هي قضية المعيار، فالمعيار لديهم ليس معياراً شرعياً، وليس هو معيار العلماء الذين ينظرون في الأدلة ويُرجحون بينها بناءً على مرجحات، وعلى نظر صحيح واجتهاد سائغ، وإن كان أحياناً خطأً، إنما المعيار لديهم هو الهوى واتباع المتشابه وترك المحكم كما ذكر الله تبارك وتعالى، فهذا هو الأصل عندهم.
فهم يقدمون النصوص المتشابهة على المحكمة، ويأخذون بالأمور والنصوص المجملة ويقدمونها على المبينة، ويقدمون الآراء الشاذة الغريبة على الإجماع، كما في نظرية الطوفي وغيره، وهي تقديم المصلحة على النص، وهذا رأي شاذ لم يسبق إليه ولم يقل به أحد قبل الطوفي في القرن الثامن.
ومع ذلك، فإن هذا هو أكبر ما يعتمدون عليه الآن، ولو تأملنا حقيقةً لوجدنا أن الهوى هو الدافع الأساسي، وهو مسايرة روح العصر، وهذا هو الأصل عندهم، ثم بعد ذلك أخذوا ينقبون، فإن وجدوا قولاً شاذاً أو ضعيفاً أو مغموراً، أو أن هناك احتمال شبهةٍ أو شذوذٍ أخذوا به، ولهذا يرجعون إلى عموم الآيات التي يمكن أن يتسع مفهومها لمعانٍ واسعة جداً، فيعارضون بها الأدلة الصحيحة الصريحة الأخرى.
فمثلاً: عندما ينظرون إلى الميراث ومعاملة المرأة -مثلاً- يستدلون بقوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
ولا يشك أحد أنها آية عظيمة في كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتضع معياراً ومنهجاً في التعامل بين الناس؛ لكنهم يعارضون بها أحكام القوامة -قوامة الرجل- وأحكام الميراث، وأحكاماً أخرى كثيرة وهكذا قس على ذلك بقية الأمثلة، فهم بلا شك مبتدعة، وهذا هو منهج ما كان عليه أهل البدع من جهمية وخوارج ومرجئة ولو تأمل المتأمل، فإنه يجد أن العصرانيين هم خليط متمازج من هذه المذاهب القديمة، وأيضاً من آراء الباطنية وإخوان الصفا وأشباههم، ثم أضافوا إليه زبالة وحثالة الفكر الغربي الذي أخذوا منه، من هنا وهناك، ودرسوه، ولذلك لا نجدهم يجتمعون على أصول وقضايا محددة، كل ما يجمعهم هو نسف هذه الأصول، وهذه المصادر، وهذا التراث، ثم بعد ذلك يطلق العنان للشهوات، والآراء، والشبهات، حتى تذهب بالأمة يمنة ويسرة.(54/6)
العصرانيون واجتهاداتهم في مسائل الخلاف
السؤال
فإن قالوا: نحن مجتهدون، وهناك قاعدة تقول: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، فماذا نقول؟
الجواب
أما القول بالاجتهاد فهذه دعوة مردودة، فإن المجتهد له شروط، والعلماء بينوا شروط الاجتهاد من العلم بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولغة العرب، ووجوه الخلاف، والاطلاع على كلام الأئمة في هذا الشأن، سواء كان الاجتهاد اجتهاداً مطلقاً أو اجتهاداً في قضية معينة.
فالاجتهاد له شروط، وبعض هؤلاء -ونحن نعرفهم شخصياً ونعرف كتبهم- يجهلون الكتاب والسنة جهلاً فاضحاً، وإن عرفوا شيئاً فإنما عرفوا نُتفاً من الكلام، جمعوها من هاهنا وهاهنا، وإن أجادوا أو أتقنوا شيئاً فهو من شبهات المستشرقين، وآراء المفكرين الغربيين، فهذه هي بضاعتهم التي يؤثرونها ويقدمونها، ويقيسون عليها بعد ذلك ما يجدونه في تراث الإسلام، فلا يحق ولا يصح لهم ولا لمن كان غير أهلاً للاجتهاد أن يدَّعي أنه من أهل الاجتهاد.(54/7)
من صفات أهل السنة والجماعة
السؤال
لعل هذا الحديث يجرنا إلى الحديث عن منهج أهل السنة والجماعة وهي الطائفة المنصورة بنص حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهل يمكن أن نحصل على أهم ملامح لمنهج هذه الطائفة؟
الجواب
هي كثيرة، ويمكن أن نجملها في أنها متبعة للكتاب والسنة، أي: ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، كما جاء في بعض روايات حديث الافتراق.
وأنها تحيي الدين وتجدده، بل وتقاتل عليه كما جاء في بعض الطرق الصحيحة: {لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على أمر الله ظاهرين لا يضرهم من خالفهم} فهم يحيونه أمراً بالمعروف، ونهياً عن المنكر، وجهاداً في سبيل الله عز وجل.
هذا أعظم ما يميزهم أنهم أهل اتباع، وليسوا أهل ابتداع، وأنهم أهل دعوة كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108].
فهم أهل دعوة وأهل أمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، وهم أولى الناس بقوله تبارك وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].
ويتجلى أمرهم ودعوتهم في بيان الحق وتبيلغ السنة وإحيائها، سواء منها السنة الاعتقادية أو العملية أو القولية، إلى أن يصل الأمر إلى إنكار المنكر باليد، ثم إلى أن يصل إلى جهاد الكفار والمنافقين، وهو أعلى درجات الجهاد، كل ذلك من صفات أهل السنة والجماعة.
كما أن من أعظم ملامحهم صفاتهم: التأسي برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحابته الكرام في التخلق بأخلاقهم، والتأدب بآدابهم، فهم يجمعون بين صحة الاعتقاد وصحة المنهج الدعوي، واستقامة الأخلاق، والسلوك والمعاملة مع الخلق.
ويترتب على ذلك أنهم أعدل الناس مع الناس، ولو اختلفت جميع الفرق فإن الذي يحكم بينهم وينصف بينهم هم أهل السنة والجماعة، لأنهم أعظم من قام بقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152]، فهم أعدل الناس، وهم أرحم الناس بالناس، ولذلك من عدلهم ورحمتهم أنهم يُخطِّئون ولا يكفرون إلا من كفَّره الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وثبت عنه ذلك، وتوفرت فيه الشروط وانتفت عنه الموانع.(54/8)
منهج أهل السنة وشمولية الدين
السؤال
بعض الناس يظن أن أهل السنة والجماعة ينبغي أن يقتصر كلامهم على العقائد والأحكام والوعظ ونحو ذلك، وأنهم لا دخل لهم في أمر الواقع وبخاصة الكلام في السياسة وما يهم واقع المسلمين من جميع الجوانب السياسية، والتي تجعلهم ضعفاء في أوساط هذا العالم المتلاطم الأمواج، ويقصر مفهوم أهل السنة والجماعة على ما أشرنا إليه سابقاً وينحيهم عن الكلام في هذه المواضيع، فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
هذا لا شك أنه خطأ، وربما يكون انحسار عقيدة الإسلام، ومفهوم الدين، ومفهوم أهل السنة والجماعة، وتخلف المسلمين في الواقع هو الذي جعلهم يبررون هذا الواقع بمثل هذه الدعاوى، وإلا فإذا نظرنا نظرة حقيقية علمية منصفة، وفي نظري لو نظرها أي إنسان غير مسلم فضلاً عن المسلم، فإنه يجد أن عقل المسلم هو العقل الوحيد المفكر في هذا الكون تفكيراً شمولياً عالمياً.
أي عقل في الدنيا أو مذهب أو مبدأ يمكن أن يُفكر في هذا الوجود من أوله إلى منتهاه، ويمتلك أدوات التفكير الصحيحة، لا يوجد غير عقل المسلم.
فنحن -والحمد لله- نؤمن ونعلم -بالتفصيل-بداية هذا الكون، وكيف نشأ، وما الذي حصل، كما في حديث وفد اليمن المروي من حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه- الذي أفرده شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية بشرح مستقل {جئنا نسألك عن أول هذا الأمر كيف كان}.
نحن نعلم بالتفصيل ما حار وما تحار فيه عقول أكبر العلماء -علماء الطبيعة-ولن يصلوا إلى شيء من ذلك من نشأة الكون ونشأة الإنسان.
فنحن نعلم -بالتفصيل- الأبعاد الزمانية والمكانية لهذا الكون، ولا يمكن أن يعلم غيرنا ذلك إلا التخمينات والظنونات، فأخبار أبينا آدم عليه السلام ثم ما بعده من الأمم، كنوح عليه السلام وماذا حصل له، ثم عاد، ثم ثمود إلى إبراهيم عليه السلام.
أما أهل الكتاب فإنما تقتصر معلوماتهم على إبراهيم عليه السلام وما بعده، وأما ما قبل ذلك فلا يعلمون شيئاً إلا عن آدم عليه السلام، وأما نحن -أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنملك التصور الكامل في الماضي.
ثم ننتقل إلى المستقبل فنجد أننا نملك تصوراً سليماً عنه كأننا نرى هذه الأحداث أمامنا، نعلم أن ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الفتن، ومن أشراط الساعة، ومما يقع في آخر الزمان، ثم كيف يكون النفخ في الصور، ثم الحشر، ثم البعث إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فكل هذه الأبعاد الزمانية لا يمكن لأي عقل بأن يصل إليها، ولكن الإنسان المسلم يجد ذلك، بل العجوز المؤمنة تشعر بذلك، وهذا دليل واضح على أن عقل المسلم هو الذي يُفكر تفكيراً شمولياً، وتفكيراً عالمياً.
وقد جاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا الدين من عند الله، فنقل العرب من محيط التفكير القبلي المحدود، حيث كان الشاعر يتغنى في معشوقته، وفي ناقته، وفي أمجاد قبيلته، إلى التفكير العالمي، حتى أصبح العرب يتحدثون عن الفرس والروم وعن مصائر الأمم.
يجلسون المجلس ويتكلمون عن التأريخ السحيق، عن عاد وثمود، أو يتكلمون عن المستقبل البعيد، عن أحداث آخر الزمان، كيف سيكون الروم، كيف ستكون الملاحم، بل ويتحدثون -أيضاً- عن واقعهم، كيف ستكون أحوالهم؟ حتى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما تعلمون- في الصحيح لما ولى الفرس ابنة كسرى، قال: {لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة}.
وهكذا أحداث عالمية كانت تقع ويتفاعل معها الواقع في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة الكرام، كما في أول سورة الروم، بشارة الله تبارك وتعالى أنه من بعد غلبهم سيغلبون وهكذا.
فعندما نتأمل مثل هذه الأمم، نجد أن الأصل في التفكير الإسلامي العادي هو هذه الشمولية، فكيف بالدعاة الذين يتصدرون لإصلاح أوضاع الأمة، وهم في وضع معقد، متشابك، متداخل الفكرة، أو المبدأ.
إذا حدث أمر بالمسلمين في باريس أو موسكو أو نيويورك تكون لدينا ويراها الملايين من أبناء هذه الأمة، فكيف يليق بنا عملياً ولو لم يكن نص على ذلك؟ من الناحية العملية، على الأقل، من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، لا بد أن نعرف هذه الأمور، وأن نعرف كيف نقاومها، ونعرف كيف نواجهها، وعندنا نماذج من هذا التفكير، والحمد لله هذا الإمام أحمد رحمه الله، عندما نستعرض سيرته، ونستعرض كتبه ككتاب الإيمان، وكتاب الأشربة، وكتاب الزهد وغيرها، نجد العجب العجاب.
كان الإمام أحمد رحمه الله له معرفة ودراية وبصيرة بالرجال، فيعرف مذاهبهم وآراءهم واعتقاداتهم، وهذا مذكور في كتب الجرح والتعديل وهو معلوم للجميع.
كذلك كان رحمه الله على اطلاع واسع وعجيب.
فمثلاً: بالنسبة لأحوال الناس المعيشية، كان يسأل عن بعض النواحي من بغداد، فيقول: هذه الأراضي كانت وقفاً، وهذه اغتصبها الظلمة، أخذها بنو فلان، فهذا التفكير شمولي، ومستوى عالٍ، وهو إمام أهل السنة والجماعة بإجماع العلماء رضي الله عنه وأرضاه.
أيضاً بالنسبة للفرق، كان بصيراً بمآخذهم وأسباب ضلالهم، وفي كتاب الإيمان نجد نوادر عجيبة عنه مما ذكر الخلال، وفي المسند نجد أموراً عجيبة جداً تدل على فقهه وفطنته رحمه الله، حتى إن شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله، في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم ذكر عن الإمام أحمد، أموراً عجيبة في مسألة المشابهة، وكان يعرف أن هذه من عادات المجوس، ومن عادات النصارى، وهذه من عادات كذا، مما لا نعرفه نحن مع الأسف -الآن- بل قد يكون في بيت أحدنا أمور من شعائر النصارى، أو المجوس، أو ربما تكون في ملابس أهله، أو مع أبنائه، وهو لا يدري، ولا يعلم بها، هذه ليست أبداً من منهج أهل السنة والجماعة.
وإذا انتقلنا إلى مثال آخر، وهو شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، وقد ضرب في كل علم بسهم، فعندما يسأل عن مسألة جزئية، يبتدئ حديثه من كلام اليونان فيها، فينقض كلام أرسطو، وأفلاطون، ومن بعدهم، ثم يعرج على الفلاسفة الآخرين من الهندوس وغيرهم، ثم يعرج على الفلاسفة الذين يسمون بالإسلاميين، ثم يأتي على المعتزلة، ثم على الرافضة وهكذا حتى يبين الحق ويرد على أهل الباطل في هذه المسألة.
هذا منهج واضح، وهذه الكتب والمجلدات - التي ألفها- وهي كتب نفيسة، متعمقة، عظيمة، ويمكن أن نستخرج منها شتى أنواع العلوم: في الفلك، والطبيعة، والرياضيات، والأحياء، والسلوك، وعلم النفس، وعلوم أخرى كثيرة، وكثير من الباحثين في الغرب والشرق لم يتوصلوا إلى مثل ما توصل إليه شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية -رحمه الله- في هذه العلوم، وفي هذه القضايا، فإنه إذا تكلم عن أي فن، فإنك تشعر وكأنه من أهله، حتى عندما تكلم عن الخرافات، وانحرافات المشعوذين، والسحرة، فإنه يتكلم عنها كلام البصير، العارف كيف يستحوذون على عقول العامة بهذه المخاريق الكاذبة، حتى دعوى النصارى للمعجزات التي يسمونها المعجزات، يبين بالأدلة العلمية كيف أنها ما هي إلا حيل شيطانية ويذكرها بكلام لا يدركه أحد من الناس إلا من كان متخصصاً في الكيمياء أو في الفيزياء أو نحو ذلك.
وأما النموذج الثالث وهو: الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- مع أن دعوته كانت محدودة الاطلاع من ناحية الصلات الخارجية، لكنها كانت عالمية المنحى والتفكير والمنهج، وكانت مستوعبة لواقعها في الجزيرة استيعاباً كاملاً كما كانت تتلمس المصادر عن العالم الخارجي، ولذلك انتشرت -والحمد لله- في أطراف إفريقيا وغيرها، والهند، وغيرها.
فكانت دعوته منطلقة من واقع معرفته ودراسته وخبرته.
في الحقيقة أن القول بأننا لا نفقه الواقع، أو أنه لا ينبغي معرفته، أو أنه لا تجب معرفته، هذا مخالف لما هو مقرر بالبداهة في العقيدة الإسلامية الصحيحة، التي هي العقيدة، والدعوة العملية التي تسعى إلى إقامة هذا الدين، والذي لن يقوم أبداً إلا برجال يدركون هذه الأمور إدراكاً صحيحاً واعياً.(54/9)
أهل السنة والجماعة وتكوين تنظيم لهم
السؤال
نعود للحديث عن الفرقة الناجية، فرب سائل يسأل ويقول: كثر الحديث عن أهل السنة والجماعة، وكل يأمل أن يكون من أهل السنة والجماعة، ويسأل أين هذه الفرقة الناجية لكي ننضم إليهم؟ فما الجواب يا شيخ؟
الجواب
إن فإن الوصية من الله تعالى ورسوله بالجماعة والاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يلزم منه أمران: الانضمام إليهم عضوياً، وهذا هو الذي يشكل على الناس اليوم.
يقول: أين هم كأعضاء؟ وكيف أنضم إليهم عضواً وفرداً؟ ولكنه يشمل -أيضاً- ما هو أهم من ذلك، وهو الانضمام إليهم معنوياً، أي أن يكون الإنسان على منهجهم، ومتبعاً لآثارهم، ومقتدياً بهم، وهذا هو الأصل.
فالمنهج هو الأصل، والاجتماع إنما يكون على المنهج، فالأفراد يجتمعون وفق المنهج، وعلى هذا فمن جهة المنهج فإنه موجود والحمد لله، وهو محفوظ بحفظ الله عز وجل، وهو ميسر لمن أراده.
أما الأفراد، فإنه لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، ولا تخلو الأرض من أهل السنة والجماعة؛ بل هم موجودون ومنتشرون، لكن الذي قد يخطئ فيه بعض الناس، تصورهم أن أهل السنة والجماعة لا بد أن يكونوا بالضرورة حزباً سياسياً معيناً أو حزباً من الأحزاب الموجودة على الساحة، وأن الذي ينضم إليهم يكون منهم، والذي لا ينضم إليهم لا يكون منهم.
وهذا غير صحيح؛ لأن صور التجمع العضوي تختلف بحسب العصور والأحوال، وأما الاجتماع في ذاته، فإنه مطلوب ولا شك، لكن تختلف صورته بحسب مقتضيات ذلك الاجتماع، فقد يجتمعون في عمل من أعمال الخير والدعوة، وقد يجتمعون اجتماعاً عضوياً متكاملاً، فيما لو اقتضى الأمر أن يكونوا كالجسد الواحد فعلاً، للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الجهاد في سبيل الله عز وجل، كما يكون في بعض المجتمعات وأن يكون تحت إمارة واحدة، وجهاد واحد في سبيل الله عز وجل.
والحمد لله، نحن نرى بوادر الخير في العالم الإسلامي، من وجود هذه التجمعات أو المدارس على اختلافها، وكلها -والحمد لله- على منهج أهل السنة والجماعة، الذي هو الأساس، مع أن بعضهم لهم نوع اجتماع يختلف عن الآخرين، بل أنواع مختلفة من الاجتماع، كمدرسة, أو جامعة، أو عمل دعوي، أو غيرها، فهذه كلها موجودة، ونرجو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يُبارك هذه الجهود، وتكون نواة للاجتماع العام الكبير المنشود لـ أهل السنة والجماعة في هذه الدنيا، حتى يكونوا يداً واحدة من شرق الدنيا إلى غربها، يحاربون أهل الشرك والكفر، وأهل البدع والضلالة.(54/10)
أهل السنة بين المسميات والتحزب
السؤال
في هذا العصر يُسَّمى الدعاة أعمالهم بأسماء مختلفة، ربما اقتضى الأمر والحاجة إلى ذلك، فهل مجرد هذه التسمية تعني الانضمام أو عدمه في طائفة أهل السنة والجماعة؟ وهل يمكن أن تشمل الطائفة كل هذه المسميات التي نسمعها في هذا العصر أو بعضها؟ الجواب: المسميات منها المحمود ومنها المذموم ومنها ما لا مشاحة فيه، والأساس هو المنهج والاتباع.
فإذا كانت التسمية لا تحمل أي مفهوم للتحزب على غير ما أمر الله به ورسوله، ولا تحمل مفهوماً اعتقادياً معيناً، أو اقتداءً أو انتماءً لأحد غير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بحيث يؤخذ أمره ويطاع ويتبع منهجه دون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أقول: إذا لم تكن كذلك، وكانت مجرد اصطلاح فلا حرج فيه، وقد وجد في التأريخ الإسلامي مثل هذه الأسماء، ومثل هذه المصطلحات.
لكن كما نرى من خلال الواقع، أن من مفاسد ذلك: أنه قد ينجم عنه سوء الظن، أو قد ينتج أيضاً عنه: التحزب والتعصب أحياناً، فنرى أن الأولى البقاء على الاسم العام، اسم الإسلام واسم السنة، إلا إذا كان الاسم مجرد اصطلاح على نوع من أنواع العمل، أو نوع من أنواع الاجتماع التي لا تُثير شيئاً مما ذكرنا.(54/11)
كيفية الانتساب لمنهج أهل السنة والجماعة
السؤال
في بعض هذه التجمعات شيء من الخلل، هل يُخرجون من مسمى أهل السنة والجماعة؟
الجواب
نعم، العدل في هذا الأمر هو كما نعلم من منهج وطريقة السلف الصالح -رضوان الله عليهم-في الجرح والتعديل وهو أن الاعتبار إنما يكون بالمسلك والمنهج وأصل الطريقة والتمسك والاتباع، فمن كان متبعاً لكتاب الله ولسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللسلف الصالح في الجملة والأصل، متحرياً للحق، مجتهداً في اقتفاء آثارهم، فإنه يكون منهم، أي: من أهل السنة والجماعة ومن أتباع السلف الصالح، وإن أخطأ.
وليس مجرد انتساب الإنسان لـ أهل السنة والجماعة أن يكون معصوماً، بل لا يزال كل بشر عرضة للخطأ، فمهما أخطأ في بعض الأمور، فإنه يظل من أهل السنة والجماعة، أما إذا كان الخلاف عن اتباع لأصل من أصول أهل البدع، فإنه يلحقه ما يلحق أهل ذلك الأصل، من الذم، أو اللوم، أو القدح، أو الطعن.
ومن الاتباع ما قد يكون مخرج من الملة -نسأل الله العفو والعافية- ومنه ما يكون صاحبه مبتدعاً ضالاً مذموماً بحسب درجته، والمقصود هو أن نُفرق بين الخطأ الذي لا يؤثر على المنهج وبين قصد مخالفة المنهج، وهذا واقع في القديم والحديث، ولنضرب مثالاً بالواقع، حتى يتضح الماضي: الآن من دعاة الإسلام من يقول: إن في الإسلام اشتراكية، أو يقول: إن الإسلام لا يتعارض مع القومية؛ لكنك لا تستطيع أن تقول: إن فلاناً اشتراكي أو قومي، بمعنى أنه مثل دعاة الاشتراكية المستوردة من الدول الشرقية، أو من أتباع الحركة القومية المعروفة، لكنه متأثر بهم، يميل إليهم في بعض آرائهم وهكذا، فإن هذا قد يقع في القديم، مثل ما يُقال: في فلان تشيع، فيه إرجاء، أو أنه قال قولاً موافقاً لإحدى الطوائف البدعية، ولكن ذلك لا يخرجه عن دائرة أهل السنة والجماعة، وقد يوافقهم في بعض الأمور عن اجتهاد وخطأ، بل إنني وجدت من خلال قراءتي عجباً في هذا.
بعض الناس يقول: أنا أشعري، ويظن أنه بذلك يمدح معتقده لأن الأشعري -في نظره- هو صاحب الإبانة، التي قال فيها: نحن على ما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل بخلاف الآخر الذي يقول: أنا أشعري.
ويقصد معنىً بعيداً جداً وهو المذهب الكُلامي الكلابي الذي تبرأ منه الإمام أبو الحسن الأشعري في الأخير وهكذا.
ولذلك -في الحقيقة- ليس العبرة بمجرد الانتساب أو مجرد الأسماء، بل لا بد أن ننظر لحقيقة الرجل وإلى منهجه، ومن غلب عليه الصواب والحق، فنرجو أن الله سبحانه يُكفر عنه خطاياه التي أخطأ أو تأول فيها، أو كانت لديه فيها شبهة، أو ما أشبه ذلك، ولا سيما في العصور المتأخرة عندما تكاثرت الفتن وضعف أهل السنة، ولـ شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله كلام قيم في مسألة ضعف أهل الحديث وضعف أهل السنة أو كثير منهم -في العصور المتأخرة- عن إقامة الحق.
بل الذهبي -رحمه الله- عندما تحدَّث عن ابن عربي، وقال: إن الذي جعل ابن عربي وغيره من أهل الزندقة يتطاولون أنهم نشئوا في عصر، والمحدثون فيه أمثال فلان وفلان، وذكر أسماءهم لكن الذين عاشوا في أيام الإمام أحمد، وعلي بن المديني، ويحي بن معين، وعبد الله بن المبارك، وسفيان ووكيع، وشعبة، وغيرهم من الأئمة الأعلام، ما كان أحد منهم يستطيع أن يجاهر بمثل هذا الكلام، فظهور آثار النبوة والرسالة له ميزة في الحكم على الناس فيما بينه وبين الله.
فنحن تعبدنا الله باتباع الحق ومعرفته والسعي إليه، ثم بعد ذلك بالنسبة للحكم على الناس تعبدنا الله تبارك وتعالى، وأمرنا بالعدل والإنصاف في هذا الأمر.(54/12)
المعاملة بين أهل السنة ومن خالفهم
السؤال
كيف تنظر طائفة أهل السنة والجماعة للاثنين وسبعين فرقة الأخرى؟ وكيف يحكمون عليها؟ وكيف تكون علاقتهم بها؟
الجواب
الحديث واضح الدلالة، على أن الطائفة الناجية واحدة، وأما ما عداها فغير ناجٍ أو أن ماعداها يمكن أنه ينجو ومن الممكن أن لا ينجو.
وحتى لا نفهم العبارة خطأً، يقول شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: معناه إن الحديث بيَّن الفرقة الناجية، وما عداها، فهو لم يحكم عليها بالهلاك مطلقاً؛ لأن المقصود منه بيان طريق النجاة، وأنه في الكتاب والسنة بمعنى النجاة في الدنيا من الضلال، والنجاة في الآخرة من النار، لكن لو أن أحداً انتسب إلى منهج آخر، فلا يعني ذلك أنهم لا بد أن يكونوا هالكين وأنهم لا بد أن يكونوا جميعاً من أهل النار ولا ينالون النجاة، هذا أمر آخر.
وسبب ذلك أن الناس لهم حسنات ولهم سيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته -كمن كان يعتقد بدعة اعتقادية- كما نعلم ممن يؤولون في الصفات أو لديهم شبهة في باب القدر أو ما أشبه ذلك، ولكن له فضل علم ودعوة وجهاد وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فعند الله تبارك وتعالى تنصب الموازين، وهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -كما ذكر: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس:44]، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يظلم أحداً، وإن تك مثقال ذرة يضاعفها.
فهذا لا يضيع الله تبارك وتعالى عبادته، وما وافق فيه الحق والسنة فإنه يُثاب على سعيه واجتهاده وهكذا، لكن الناجي بإطلاق المقصود منه هو من تمسك بهذا المنهج بإطلاق، أما البقية من الفرق فالقول الصحيح والراجح أنها ليست خارجة عن أهل القبلة، فالاثنتان والسبعون فرقة هم من أهل القبلة.
فبهذا الاعتبار وهذا المفهوم فإن من خرج من أهل القبلة فإنه خارج عن الاثنتين والسبعين فرقة، بمعنى: أن الثنتين والسبعين فرقة تشمل من هو في دائرة الإسلام من أهل القبلة وتشمل غيرهم، ولكن الصحيح والمعيار والضابط هو أن الأمة التي هي أمة الصلاة وأمة القبلة هي ثلاث وسبعون فرقة، وأن من عداهم فهو خارج عنهم، كما خرجت الباطنية، فلا تعد من طوائف الأمة الاثنتين والسبعين فرقة.
وبهذا الاعتبار فإن الثنتين والسبعين فرقة يدخل فيها أهل الكبائر مادمنا قد حكمنا أنهم من أهل الصلاة، وأهل القبلة ومن المقرر في أصول أهل السنة والجماعة أن الكبيرة قد تكون اعتقادية كما هو في أهل البدع وقد تكون كبيرة عملية كما هو في أهل المعاصي والفجور، ويكون التعامل في الآخرة بناءً على هذا الأساس.
فإذا قررنا هذا الأصل، واعتبرناهم مسلمين، فإن لهم الحق الذي هو لكل مسلم، ولكنهم -أيضاً- يبغضون ويرد عليهم، وتكره وتحارب بدعهم وضلالاتهم، وتحذر الأمة منهم، ولكن لا يهدر حقهم بالكلية كمثل الكفار، ولا يعطون الولاء الكامل كمثل من كان على الكتاب والسنة، أما على الاعتبار الآخر، إذا قلنا: أن أهل البدع والضلالة خارجون عن الملة، فهؤلاء يأخذون حكم الكفار غير حكم أصحاب البدع المغلظة، كبدع الخوارج -مثلاً- وما أشبهها.
فهؤلاء جاء فيهم النص عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتالهم، وهذه قاعدة وأصل عظيم، يندرج فيه قاعدة التعامل مع أهل البدع، وأنهم يقاتلون ويهجرون، وهذا كله وارد؛ لكن لا يضيع مالهم من حق الإسلام ماداموا مسلمين، كما قال علي رضي الله عنه لهم، لما قالوا: لا حكم إلا لله، قال: [[إن لكم علينا ثلاثاً: ألاَّ نمنعكم من مساجد الله، وألاَّ نمنعكم من فيء الله، وألا نبدأكم بقتال]] وهذا كله مع كشف شبهته وبيان ضلاله وخطئه وردعه وهجره بالأسلوب الشرعي المناسب.(54/13)
أسباب هجوم العالم الغربي على أهل السنة والجماعة
السؤال
العالم يشهد هجمة شرسة على أهل السنة، ويوصفون بأوصاف فيها شيء من التنفير، إذا ما ارتبطت ببعض الهيئات التي تصدر من بعض الأفراد أو الجماعات، وتجسد هذه الأخطاء، ومن ثم يوصف الجميع بهذا الوصف رغبهً في التنفير منهم، فمن هذه المسميات التي يوصف بها أهل السنة الأصولية.
فما أسباب هذه الهجمة؟ وما سر اختيارهم لهذا التوقيت في هذه الفترة من تاريخ المسلمين؟
الجواب
هذه من الابتلاءات، وهي من السنن الربانية، والله تبارك وتعالى يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31]، وما من نبي بعثه الله إلا أوذي، وقد قال ذلك ورقة بن نوفل -رضي الله عنه- لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند أول نزول الوحي -كما تعلمون-: {ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي} هذه سنة جعلها الله للرسل ولأتباع الرسل أن يبتلوا وأن يؤذوا، ومن الأذى: أن ينبزوا بمثل هذه الألقاب في القديم والحديث، ولو قرأنا التاريخ لوجدنا العجب! كيف كان ينبز أهل السنة والجماعة، ويقال لهم: الثابتة، المجسمة، الحشوية إلخ.
كانت كثير من التهم توجه إليهم، بل لا نقول: إن التهم من أهل البدع فقط، بل وقع في ذلك بعض المؤرخين ممن هم من أهل السنة عن حسن نية، وعن متابعة غير مقصودة، وهذه سنة ربانية، وقد لقبت قريش النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأتباعه بالصباة وهكذا.
والآن -في هذا الزمن- اشتدت الهجمة والحملة لأسباب: 1.
أن ذلك امتداد لهذه السنة، وهذا لا غرابة فيه.
2.
أن العالم الغربي الآن يعيش نوعاً من الرعب -إن صح التعبير- أو من التخوف من هذا العملاق لو أنه استيقظ.
العالم الغربي -ولا سيما بعد الأحداث الأخيرة في أوروبا الشرقية - بدأ يدرك أن المواجهة ستكون مع عدو آخر.
وكما عبر بعضهم بأن الصراع هو صراع بين حضارتين: الحضارة الإسلامية وبين الحضارة المسيحية، ولذلك هم يتخوفون جداً من هذه الأمة التي تمتلك من وسائل القوة البشرية والمادية والمعنوية ما لا تملكة أية أمة أخرى.
ولو نظرنا -مثلاً- إلى الصين -كمثال- كتكتل بشري ضخم يوازي في عدده تقريباً عدد المسلمين، ودين مستقل مخالف للدين الغربي، وأيضاً تمتلك قوة نووية.
لو نظرنا إلى نظرة الغرب إلى الصين ونظرتهم إلى العالم الإسلامي، نجد الفرق كبير جداً يتعامل الغرب مع الصين كأي دولة، ورغم حساسية الغرب منهم لكنها لا ترقى إلى معشار النظرة إلى الأمة الإسلامية، التي لو ظهرت فيها حركه صغيرة طلابية في إحدى جامعاتها في إحدى عواصم دولها أو دويلاتها، لأثارت الصحافة الغربية، وتحدثوا عنها على أنها بعبع وعملاق، وخطر يهدد المصالح الغربية في المنطقة، هذا الرعب هو سببه -والله تعالى أعلم- أن لديهم إحساساً وشعوراً بأن حقيقة الصراع هي مع هؤلاء، وهذا الإحساس ليس مأخوذاً من مجرد النظر والتخطيط، وهم أهل تخطيط بعيد، لا، بل نؤكد ونقول: حقيقة يجب أن يعلمها المسلمون، وهي أن هذا مأخوذ من كتبهم الدينية.
ولهذا فإنهم بعد الأحداث الأخيرة تكلموا ونشروا في إحدى المجلات المشهورة جداً في أمريكا، التي يقرؤها الملايين أن المعركة من أجنادين إلى هرمجدون، وأجنادين هي المعركة التي خاضها عمرو بن العاص رضي الله عنه مع الروم، وبعدها دخلوا فلسطين، وهرمجدون هي المعركة التي تكون في فلسطين في آخر الزمان، حيث يأتي المسيح، ويقتل الوثنيين وهم -بحسب زعمهم- المسلمون، وأنه يقدر عدد الجميع بمائتي مليون كما ذكر في بعض شروحهم، وأنهم يبادون ويموتون، ويرفع المسيح النصارى فوق السحاب وينجون، والمقصود أن إحساسهم بالعداوة للأمة الإسلامية هي حقيقة تؤكدها أديانهم وآراؤهم الاعتقادية، كما تؤكدها دراساتهم وتخطيطاتهم المستقبلية، وهي بالنسبة لنا أمر طبيعي جداً، لأن الله تعالى أخبرنا بها، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أطلعنا عليها.(54/14)
نظرة المسلم للمستقبل
السؤال
في هذا العصر الذي تسود فيه هذه الدول الغربية على كل أنحاء البسيطة تقريباً، وينظر المسلم ويعلم أن ما هو عليه هو الحق، وأن أولئك ما هم عليه هو الباطل، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ابتعث هذا الدين ليكون للناس كافة، فكيف تكون نظرته لواقعه ولمستقبله، ومستقبل الإسلام؟
الجواب
الإجابة في هذا تطول، لكن نقول: أهم ما ينبغي أن يعلمه المسلم: أن سيطرة الكفار وعلوهم في الأرض واستكبارهم إنما هو أمر موقوت محدود، وأن لهم نهاية ولهم عاقبة، كما ذكر الله تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً} [الكهف:59].
فكل أمة لها نهاية، وإنما قص الله تبارك وتعالى علينا أخبار عاد وثمود وفرعون وأشباههم لنعلم ونعتبر، قال تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2] ولنعلم أن مصير هؤلاء هم كمصير أولئك، وأن هذا من الاستدراج، قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:44] وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً} [يونس:2]، وهكذا آيات كثيرة تدل على أن مصير هؤلاء لا بد أن يندرج تحت هذه السنة، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سوف يهلكهم ويزيلهم.
في المقابل -أيضاً- نجد أن الاستضعاف الذي يعيشه المسلم والغربة التي يشعر بها، هي -أيضاً- مقدمة بإذن الله تعالى إلى الاستخلاف والتمكين، كما ذكر الله تبارك وتعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5 - 6].
هذه قاعدة عامة، وقد تحقق ذلك لبني إسرائيل، كما وعد الله تبارك وتعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:137]، وكذلك هذه الأمة المؤمنة استضعفت وأوذيت في أول أمر الدعوة حتى هاجر من هاجر إلى الحبشة، وأوذي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضيق عليهم حتى كادوا أن يتخطفهم الناس، ثم شاء الله تبارك وتعالى أن ينعم عليهم، فجاءت السنة الربانية بالاستخلاف والتمكين، وأظهر الله تبارك وتعالى دينه على العالمين.
ونرجو -وهذا وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نؤمن به ونصدقه- أن هذه الأمة ستعود -بإذن الله تبارك وتعالى- إلى الاستخلاف والتمكين والقوة، وسوف يديل الله تبارك وتعالى هذه الدول، وينالها كما نال الأمم قبلها، لكن لله تبارك وتعالى سنة، وهي أنه لا بد أن يكون هذا بجهد منا نحن البشر وبعمل منا، وهذا ما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه كما في غزوة تبوك وفي غيرها، وكانوا في الفتوحات يواجهون هذه القوى، ونصرهم الله تبارك وتعالى عليها، وأعدوا لها العدة بقدر ما استطاعوا، وهزموا في بعض المعارك، وقُتِل من قتل من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في فتوح الشام وفارس وفي النهاية أظهر الله تبارك وتعالى هذا الدين.
فلا بد لنا مع هذا اليقين في وعد الله تعالى وعدم اليأس، أن نتوكل على الله ونعد العدة، وأن نقاوم به هذه القوى الطاغية المستكبرة في الأرض، وحينئذٍ ينصرنا الله عز وجل كما وعد.(54/15)
نظرة إلى التجربة الجزائرية
السؤال
بالنسبة لموضوع الأصولية، وكما طُرِحَ قبل قليل بأنه تستغل بعض الأخطاء التي تصدر من بعض الحركات الإسلامية، ومن ثم تُشوه بها سمعة هذه الصحوة على وجه العموم، ولدينا تجربه مثل الجزائر وغيرها من البلدان، فكيف تقيمون التجربة الجزائرية؟ وما هي في نظركم الإيجابيات والسلبيات التي برزت من خلال ممارسة الحركة الإسلامية في الجزائر.
؟
الجواب
أما تضخيم الأخطاء أو النفاذ منها إلى الطعن في الدعوة الإسلامية فهذا أمر واقع، ولكن ما هو الخطأ؟ الخطأ في نظرنا نحن الذين نزن الأمور بميزان الكتاب والسنة، شيء، والخطأ في نظر الغرب وأتباعه شيء آخر، قد يكون العمل صحيحاً وسليماً ومستجمعاً لشروطه الشرعية الصحيحة، ولكنه يكون عند أعداء الدين خطأً، ويستغل ويضرب باسمه العمل الإسلامي والدعوة الإسلامية.
لكن على مفهومنا -نحن- للخطأ نقول: نعم الدعوة الإسلامية وقعت في أخطاء، وتقع في ذلك، ولا أرى غرابة فيه؛ لأن أمة نامت بضعة قرون في غفلة، وبُعدٍ عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وخيم عليها الاستعمار البغيض، أو الاستعباد الكالح البغيض، وأراد أن يمسخها ويطمس هويتها، لا نتوقع منها أن تفيق في أيام معدودات أو بضع سنوات، والصحوة في الجزائر أوضح مثال على ذلك، فهو شعب مسلم -والحمد لله- متدين بفطرته، وغيور وشجاع ومقدام بطبيعته وبفطرته.
ولكن هل مرت هذه الدعوة بمرحلة التمحيص والتربية على منهج علمي، عقدي، دعوي، متوازن شامل، كما مرت غيرها من الجماعات الإسلامية كدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، عندما أخذت واهتمت أولاً بجانب العقيدة والعلم الشرعي، ثم بدأت قليلاً قليلاً، وكان الاعتماد والتركيز على ترسيخ مفهوم العقيدة الصحيحة في القلوب، وتحويل هذا الاعتقاد إلى طاقة عملية؟ في الواقع أن الوضع في الجزائر كان فيه نوع واضح من التعجل في قطف الثمرة، وربما كان هناك -أيضا-ً شيء من الإعجاب بهذه الجماهير المتجمعة التي لا ينقصها الحماس، ولا نشك -إن شاء الله- في حماسها، لكن الحماس وحده لا يكفي، فلا بد من المرور بهذا المنهج والتمحيص، ولذلك نجد من نكص على عقبيه، وخرج من الصف الإسلامي بالكلية، ومن باع نفسه للسلطة، ومن فعل أفعالاً كثيرة تدل على أن الصف لم يمحص في الأصل.
ومن حكمة الله تعالى كما نجد في سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما تعلمون- في آيات غزوة أحد من آل عمران وغيرها، نجد أن هناك تمحيصاً وابتلاءً وتنقيةً للصف في النهاية، ما كان أصحاب الضرار إلا فئة معدودة محصورة من المسلمين، وبقيت قلة قليلة ضئيلة من المنافقين تعيش في غمرة المجتمع الضخم الكبير، ويعرف المسلمون بعضهم ببعض علاماتهم، ويعرف القلة من المنافقين حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يعرفهم بأسمائهم، فما لم نصل إلى دقة التربية مع ترسيخ مفاهيم العقيدة وتصحيحها في الناس إلى مثل هذا، فإنه لن نتوقع إلا نتائج سريعة، وهذه النتائج السريعة تتعوض سريعاً.
وهنا أرى أنه يجب أن أؤكد على أمر، وهو: ألاَّ يصيبنا ذلك بإحباط أو خيبة أمل، فهذه ليست إلا محاولة تخفق وستنجح، وإنما نجاحها مرهون بتطبيق الكتاب والسنة وفهمهما فهماً صحيحاً، والدعوة إليهما على منهاج النبوة، ومنهج السلف الصالح، هذا هو الذي يجب أن يكون، وهو العبرة الكبرى التي تؤخذ من هذه الأحداث.
وأنا -في الحقيقة- أعتبر أن ما حدث في الجزائر وغيرها، هو تقدم بالنسبة للعمل الإسلامي لو لم يكن فيه إلا التجربة.
وأنا أقول أيضاً بالإضافة إلى التجربة فهو تقدم في بعض المجالات وحسبك أنك ترى أن الأمة الإسلامية وأن الشعب في كل الولايات يشعر شعوراً عاماً وإسلامياً موحداً، هذا أمر يُعد تقدماً بالنسبة لأمة كان يراد لها أن تمسخ وأن تصبح قطعة من الأمة الفرنسية لا دين لها ولا عقيدة.
فلاشك أن هذا تقدم، وأن هذا الشعور وهذا الحماس وإن خمد، فإنه بإذن الله قابل لأن يعود في المستقبل، ولهذا لم يذهب سدى؛ بل تخوف الاستعمار منه والغرب، فلقد أوعزوا إلى المغرب، وليبيا، وتونس، أيضاً أن يقوموا بضربات مماثلة.
وأظننا سمعنا قريباً في هذه الأيام ما حدث في تونس وما يحدث في دول أخرى من مثل هذه الأعمال، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تعهد فقال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُه} [الحج:40].(54/16)
منهج أهل السنة والجماعة في التغيير
السؤال
هل يمكن أن نحدد في نقاط معينة منهج أهل السنة والجماعة في التغيير؟
الجواب
هذا صعب جداً، ويمكن إجمالها فيما يلي: 1.
التمسك بالكتاب والسنة في المنهج.
2.
الصبر على الابتلاء، وهذا لا بد منه.
3.
الدقة في رصد الأحداث والتخطيط للمستقبل.
4.
الأناة وعدم العجلة في قطف الثمرة؛ بل لا بد من التريث والتأني حتى تتمكن الدعوة ويصلب عودها وتقوم.
5.
الثقة، وهي في نظري ضرورية جداً، أن تكون الدعوة في كل مراحلها -حتى في أشد مراحل الاستضعاف والأذى- واثقة من نصر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإظهار دينه، واستخلاف هذه الأمة في الأرض.
6.
التعاون بين جميع فئات الأمة، وألاَّ تنحصر الدعوة في طائفة منها دون طائفة، فالدعوة تحتاج إلى العامل والتاجر، وتحتاج إلى الجندي والموظف وأصحاب المهن، وكل من يهمه أمر هذا الدين، وهم محتاجون إلى أن يؤمنوا بهذه الدعوة وأن ينشروها كل في محيطه، وأن يقوم بها، وكل ما يمكن أن أقوله، فهو راجع إلى سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما ذكر الله تبارك وتعالى أيضاً من سير الأنبياء من قبله، ففيها النبراس، وفيها المنهاج الواضح.(54/17)
السلام العالمي الجديد وتأثيره على العالم الإسلامي
السؤال
نحن نلمس أن أي تحرك لأي اتجاه إسلامي في أية بقعة من بقاع الأرض يضرب بشدة، وتخشى الدول الاستعمارية من أن تقوم للمسلمين قائمة، وما حدث في الجزائر وغيرها من البلدان من أكبر الأدلة على هذا، ونحن نجد أنهم الآن يتوجهون بدعوة براقة، وهو ما يسمى بالسلام العالمي، والنظام العالمي الجديد، فما رأيكم في مدى تأثير هذه الدعوة على العالم الإسلامي؟
الجواب
الغرب له تجاربه وله خططه في هذا المجال، وما يُسَّمى النظام الدولي الجديد أو السلام العالمي الذي سيحل في هذا النظام هو شعار غامض، كما صرح زعماء الغرب.
أي: أنه ليس فكرة محددة، وإنما هو بهرج وستار لأحداث معينة بدأت بعض بوادرها تظهر، والبعض الآخر سيظهر مع الزمن.
النظام العالمي أو النظام الدولي الجديد هو في حقيقته تمكين للعالم النصراني بزعامة أمريكا من السيطرة على العالم.
وكما ذكرت أن له تجاربه في ذلك، ونستعرض تجربتين قريبتين: التجربة الأولى: أنه عندما قامت الحرب العالمية الأولى وكان يراد بها تقويض الدولة العثمانية وما يتبعها من الدول، وكان معظم العالم الإسلامي ومنطقة ما يسمى بالشرق الأوسط تابعة لها، فقوضت الدولة العثمانية وهدمت، وتمت سيطرة أوروبا على المنطقة بحجة الانتداب، والانتداب هو: أن تنتدب عصبة الأمم دولة معينة على دولة معينة، فانتدبت إيطاليا مثلاً على ليبيا، وانتدبت بريطانيا العراق وفلسطين، وانتدبت فرنسا على بلاد الشام، والصومال قُطِّعت، فكل دولة انتدبت على جهة، وسموه الانتداب.
وقالوا: إن المقصود من الانتداب أن هذه الدول إلى الآن عاجزة أن تدير شؤونها بنفسها، وتحت المظلة الدولية التي هي عصبة الأمم في ذلك الزمن تتم إدارتها انتداباً حتى تقوم على ساقها وتنهض، وكما نعلم جميعاً أن هذا هو الاستعباد الذي يسمونه الاستعمار، هذه هي حقيقته، انكشفت الحقيقة وتجلت واضحة للدول كلها في العالم كله، فقامت الحرب العالمية الثانية وأريد التخلص من هذه الصورة من صور الاستعباد.
وجاءوا بفكرة تقرير المصير، وتغيرت اللافتة الدولية من عصبة أمم إلى هيئة الأمم وميثاق سان فرانسيسكو، وقالوا: لا بد من إعطاء الشعوب حق تقرير المصير، الذي تطمح إليه كل الشعوب، بمعنى أنها تستقل وتتحرر، ولكن تقرير المصير هو مشروط بأن تكون في المسار الديمقراطي وهو ظل الشرعية الدولية التي هي عصبة الأمم، فالحلفاء هم الذين يمثلون الديمقراطية، وأعداؤهم يمثلون الاستبداد والديكتاتورية الخ.
وقامت الأمم المتحدة بناءً على هذا الشعار، وتسلط الطواغيت الخمسة الكبار على مجلس الأمن الدولي وعلى بقية العالم.
وكان أكثر تركيز للعداوة هو على العالم الإسلامي الذي استبعد كلياً أن يكون له وجود دائم في مجلس الأمن؛ بل هو مطمع الدول جميعاً، وهو مطمح أنظار كل الغاصبين والمعتدين والمجرمين لنهب خيراته وثرواته وتقطيع أوصاله ومنعه من القيام بأي دور حضاري أو رسالي في هذه الحياة.
وعندما برز العملاق الشرقي كما كان يُسمى، وجد الغرب أنه لا بد أن يقضي عليه، وعملوا لذلك، وأثمرت هذه الجهود فيما نراه هذه الأيام من هذا الانهيار المتسارع في تلك الامبراطورية الضخمة.
احتاجوا إلى شرعية -كما يسمونها أي: مسوغ ومبرر جديد- للسيطرة على العالم ولا سيما على هذه المنطقة التي أصبحت تمثل العدو الحقيقي في المستقبل للغرب.
فجاءوا بشعار جديد هو شعار الشرعية الدولية والنظام العالمي الجديد، هذا النظام تكون أمريكا هي الشرطي الوحيد فيه الذي يكون مدججاً بكافة أنواع الأسلحة، والبقية هم من السكان الذين لا يختلفون، وإن اختلفوا فهذا الشرطي يأتي ويقمع هذا، ويردع هذا، ويسجن هذا، ويضرب هذا، ولكن تحت مظلة الأمم المتحدة والشرعية الدولية والنظام العالمي الجديد.
والمستفيد الأكبر من هذه الشرعية المزعومة التي لا شرع لها -لأن الشرع في الحقيقة هو ما شرعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو الشرع الذي نؤمن به نحن المسلمين- والمستفيد الوحيد منها هم اليهود بالدرجة الأولى في هذه المنطقة وأمريكا عموماً بالنسبة للسيطرة على العالم وامتلاك ثرواته ومقدراته وفرض هيمنة الإنسان الغربي الدينية والأخلاقية والفكرية والحضارية عموماً على بقية شعوب العالم.(54/18)
فكرة توافق مصالح الإسلام والغرب
السؤال
يقول البعض: أنتم تبالغون في النظرة نحو الغرب بأنه يكره الإسلام والمسلمين ويخطط للقضاء عليهم، وإنما هي توافق مصالح، فأرى أن مصالحه الآن تتوافق مع الإسلام ومع المسلمين فنسعى نحو هذا التوجه، فما رأيكم؟
الجواب
نعم، هذه التهمة تُقال، وقد وجهت إلينا كثيراً وإلى من يشاركنا في هذا، ولكن نحن نقول: أولاً: حقيقة إن هذه التهمة ليست موجهة إلى الأشخاص الذين يتحدثون عن خطر العداوة اليهودية والنصرانية بقدر ما هي موجهة إلى أصل العقيدة وإلى أصل نظرتنا إلى اليهود والنصارى، كما جاءت في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فالله عز وجل هو الذي أخبرنا في كتابه الكريم أنهم سيظلون أعداء لنا وأنهم سيعادوننا في آيات كثيرة جداً.
كما ذكر الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة:109]، وآيات كثيرة لا نستطيع أن نأتي عليها ولا على بعض منها أو بعض من الأحاديث في هذا الشأن، أما التاريخ فهو شاهد كبير وواضح جداً على هذا.
لكن ننتقل إلى الواقع المعاصر الآن نقول إن كانت المسألة مسألة مصالح، فلنأخذ بعض الأمثلة: اسأل أي مثقف أمريكي: ما مصلحة أمريكا من إسرائيل؟ مع أنها هي الأمة المادية التي لا تؤمن إلا بالدولار.
ولا تعبد إلا الدولار، كل فرد في أمريكا لو تأمل لوجد أنه يدفع الضرائب من دخله الفردي الخاص لهذه الدولة.
وأنه يعطيها أرقى أنواع الأسلحة، وأن إسرائيل تشترط أن كل سلاح يصبح قديماً فإنها تعيده إلى أمريكا وتأخذ بنفس ثمنه السلاح المطور، وأن إسرائيل خارجة خروجاً واضحاً عن كل ما تلزم به أمريكا دول العالم الأخرى، بل حتى ما تلتزم به أمريكا لا تلتزم به إسرائيل.
وهذا تدليل عجيب ظاهر، مع أن مصالح أمريكا توجد في العالم الإسلامي، مثل: البترول وهو أهم مصالحها، وكذا المصالح الاقتصادية، والثروة السكانية، أو التجمع السكاني الكبير الاستهلاكي، الذي يستهلك كل المنتجات الأمريكية هو يوجد في العالم الإسلامي وهكذا، الولاء من الحكومات العربية أكثر من ولاء حكومات الدول الأخرى، ومع ذلك كيف تنظر أمريكا إلى هذه الدول؟ وكيف تنظر إلى هذه الشعوب التي فيها الطاقات المخزونة، وفيها سوق الاستهلاك والإنتاج، وفيها أيضاً الحكومات والأحزاب العلمانية الموالية لها؟ إنها تنظر إليها نظرة مجحفة تماماً، فهي لا تعدها شيئا ولا تنظر لها ولا تعتبر لها أية قيمة، مع أنها تشكل تكتلاً بشرياً وجغرافياً هائلاً جداً، وإسرائيل قطرة في هذا البحر! كيف يمكن أن يفسر هذا إذا نظرنا إلى الأمور نظرة مادية مجردة؟! المثال الآخر: ننتقل إلى مثال آخر غير أمريكا، وهو الاتحاد السوفيتي، والذي يهمنا هو سؤال واحد: لماذا تكون مسألة المهاجرين اليهود من الاتحاد السوفيتي هي أعظم وأهم المسائل التي يبحثها الرئيسان في عدة اجتماعات؟ والتي بناءً عليها جعلت أمريكا الاتحاد السوفيتي الدولة التي تعامل معاملة الأفضل بشرط السماح بهجرة اليهود إلى إسرائيل، والنظر إليها على أنها قضية إنسانية مع أنها حتى الجانب الإنساني مفقود؛ لأن حشر مجموعة من الناس بالقوة وتحديد مسارات معينة لهجرتهم ولرحلتهم إلى مكان معين وينزلون فيه بالقوة، ثم منعهم من الخروج من هذا البلد بالقوة، هذا لا يمكن أن يقال بأنه عمل إنساني، ومع ذلك فإن هذا هو الواقع أيضاً بالتعاون بين أمريكا وبين روسيا.
ثم ننظر إلى كيفية تعامل روسيا وأمريكا والغرب مع الصين أو كيف يعاملون الهند؟ نجد أن التعامل يختلف جداً، فلا شك أنها عداوة دينية كما ذكر الله تبارك وتعالى وكما يشهد بها التاريخ، وكما يشهد بها العاقل المنصف المتأمل في الواقع المعاصر، وأنه لو حدثت مبالغات من بعض الناس أو بعض العبارات، فالمبالغة لا تعتبر، لكن الأصل يظل صحيحاً وسليماً.(54/19)
كلمة توجيهية للصحوة الإسلامية
السؤال
في ختام هذا اللقاء، لو كان هناك كلمة في ترشيد هذه الصحوة الإسلامية وتحذيرها من الانزلاق في متاهات أو في شراك تقاد إليه، وربما كان ظاهر هذه الانزلاقات براقاً، ولربما وضعت عليه شعارات أيضاً تشترك معها ظاهراً، وتحتها السم الزعاف، فلو كان منكم كلمة حول هذا المعنى بارك الله فيكم؟
الجواب
ما دمنا نتكلم عن الصحوة في الجملة، ولا نخص مكاناً أو وضعاً دون وضع، فلتكن النصيحة عامة، وهي ما نوصي به أنفسنا وإخواننا في الله في كل مكان وهو: أولاً: التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولاً وعملاً واعتقاداً، واتباع منهج السلف الصالح، وأن نعتقد اعتقاداً يقينياً جازماً أن منهج السلف الصالح هو سفينة نوح، التي من ركب فيها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى، وأنه لا يمكن أن نصل إلى عمل، ولا دعوة، ولا استخلاف، ولا تمكين، ولا خير أبداً، لو تركنا هذه العقيدة الصحيحة، وتمسكنا بأي منهج آخر.
ثانياً: العلم، فإن العلم هو الذي يُضيء لهذه الصحوة طريقها، وهو الذي يُحول الحماس إلى طاقات منضبطة تعرف كيف تعمل، وأين تعمل، وهو الذي يوجه هذه الطاقات، ويسدد مسيرتها، فلا بد من العلم الشرعي، وهو العلم الذي أمر الله تبارك وتعالى به، وأوله وأصله: العلم بالله ومعرفة أسمائه وصفاته، وحقه على العباد، وتقديره حق قدره تبارك وتعالى، وكذلك برسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعرفة سيرته وسنته وأحواله للاقتداء به، وكذلك معرفة ما يجب على الإنسان أن يعرفه في حدود ما أتاح الله له، مما يتعبد به لربه حتى يعبد الله على بصيرة وبينة وبرهان.
وكذلك مما أوصي به، وأرى ذلك من ضرورات ترشيد هذه الصحوة: الآداب والأخلاق الإسلامية التي هي مطلوبة من كل مسلم، وحاجة الدعاة إليها أشد وهم إليها أحوج، ومن ذلك العدل.
وأنا أعجب! عندما نجد العدل يكاد يكون مفقوداً أو مختلاً لدى كثير ممن يمثلون هذه الدعوة وهذه الصحوة الإسلامية في كل مكان: العدل في الأقوال، والعدل في الأعمال، وكذلك التخلق بالأخلاق النبوية، أخلاق الأنبياء التي عَّلمنا إياها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتي بها فتح المسلمون العالم، فإن حقيقة الأمر أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم إنما فتحوا قلوب العباد، ولم يفتحوا مجرد الأراضي، فتحوا قلوب العباد بأخلاق النبوة، يرون فيهم أخلاق الأنبياء.
لأنهم كانوا يقتدون ويتأسون برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أخلاقهم، ويجدون من رحمته وشفقته وحسن رعايته ولطفه وإنصافه ما يجعل العدو يضطر أن يحترمه ويقدره ويحبه.
ونحن نلحظ نوعاً من الجفوة في التعامل بين كثير ممن ينتسبون إلى هذه الصحوة الإسلامية سواء فيما بينهم أو مع الناس، وهذه كلها مما يؤثر ويضر بالدعوة إضراراً كبيراً، ولنعلم أننا إن لم يكن لنا جسر إلى قلوب الناس بهذه الأخلاق العليا -التي أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بها كما قال: ((ِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79] فلتكن صفتنا هي الربانية في الإيمان، في العلم والخلق- فإن ذلك لا يمكن أن يؤدي إلى الثمرة المطلوبة المرجوة منهم.
كما نُحذِّر هذه الصحوة، أشد الحذر من كيد الأعداء، فإن الأعداء في الداخل، والخارج، وفي كل مكان، يكيدون ويخططون، ويسعون إلى احتواء هذه الصحوة في أي شكل من أشكال الاحتواء وتضليل المسيرة وتفتيت الجماعة التي تسير على هذا الطريق، وتمزيق الصف المسلم في كل مكان، هذا أمر يجب أن نتنبه له، وأن نتفطن له، وهو من أعظم أساليب الأعداء الملتوية، أنهم يجتهدون له، وهذا يريحهم من المواجهة المباشرة التي تجلب تعاطف الجماهير مع الدعاة، وتعطيهم زخماً واقعياً كبيراً.
وكذلك يتنبه الدعاة من المنافقين، لأنهم يندسون في الصف، وعن طريقهم تخترق الدعوة، وعن طريقهم يمكن أن يُحقق الأعداء أعظم المكاسب، فهم مثل الألغام الموقوتة التي تدخل في داخل الأبنية، أو في داخل أية سيارة، أو في أي شيء يراد تفجيره، وفي اللحظة المناسبة يقومون بتفجير هذا الوجود، وهذه الصحوة.
وهذه الأحداث الأخيرة التي حصلت في واقع الدعوة الإسلامية تبين وتدل أن هذا من أهم ما يجب أن تتنبه له الصحوة الإسلامية، وهو تمحيص الصف، والتحرز الشديد من أن تخترق من داخلها.
وكذلك يجب على حملة هذه الصحوة الإسلامية أن يحذروا مما يوقعه أعداء الإسلام من المنافقين أو اليهود وأمثالهم من التحريش فيما بينهم، فإن أهل الإسلام في الجملة يجمعهم ويربطهم من أسباب التعاون والأخوة الشيء الكثير، والواجب أن يكونوا جميعاً كذلك، مهما اختلفوا، فكيف بـ أهل السنة وخاصة الدعاة منهم؟ وأي خلاف فإنه يُحَلُ وفق هذا المنهج، وقد فصَّل الله تبارك وتعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك تفصيلاً: كيف يكون الرجوع عند الخلاف؟ وكيف يمكن التحاكم إلى المنهج؟ بل إنه لو تغاضى طرف عن طرف، بأن سكت طرف عن هجوم الطرف الآخر وتشنيعه والتشهير به ولومه واتهامه، مهما كان جائراً، مهما كان جاسراً، لو سكت الطرف الآخر واحتسب ذلك عند الله، فإن ذلك خير له وللدعوة.
وإن الدخول في هذه المهاترات والردود لا يجنى ثمرته إلا أعداء السنة وأعداء أهلها، ولذلك نوصي بأن يكون أهل السنة والجماعة يداً واحدة، علماء، وطلاب علم ودعاة وعامة.
ومن أخطر ما يجب أن نتنبه له الحذر من أن يدخل المنافقون أو المفسدون فيحدثوا فجوة بين أهل السنة وبين علمائهم، بين العامة وبين الدعاة بألوان وأنواع من الكيد، يدخلون بها لإحداث هذه الفجوة، وعند ذلك يقطعون الرأس عن الجسد، ويتمكنون من السيطرة على هذه الصحوة وتضليلها.
كذلك أحذر وأؤكد على عدم العجلة والاستعجال في أمور الدعوة، لأن هذه العجلة تجعل أعداءنا يعرفون كيف يستفزونا بمواقف معينة، ويعلمون أننا نتعجل ونتسرع، فنقع في الفخاخ والشراك التي ينصبونها لنا.
ثم بعد ذلك يكون ضرب الدعوة بناءً على هذه المبررات، ويقولون: هذا ما وقع، وهذا يستحق العقوبة؛ فلذلك يجب أن ينتبه المسلمون والدعاة من أن يُجروا إلى مواقف معينة تبرر القضاء عليهم وتبرر ضربهم من قبل أعدائهم، وأن يعتصموا بعد كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشورى، فيما بينهم، وألاَّ يتصرف فرداً بأي موقف قد يجر المصيبة والبلاء على الأمة كلها، بل يجب أن يكون أمرهم شورى بينهم، وأن يتباحثوا في أي شأن من الشئون، حتى يكونوا يداً واحدة، وموقفاً واحداً ما أمكن، فإن كان هناك اجتهاد فليتح لكل إنسان أن يجتهد في مجاله، لكن دون بغضاء ولا تحرش ولا اتخاذ موقف يكون سبباً لأن يقضي عليهم أعداء الله تبارك وتعالى.
ونختم هذه الوصايا بوصية الله تبارك وتعالى إلينا وإلى من قبلنا: أن نتقي الله في أقوالنا وأعمالنا وسرنا وعلننا، وأن نخلص أعمالنا لوجه الله، ولا نبتغي بأي عمل من الأعمال أحداً سواه تبارك وتعالى، وأن نكون كما أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن}.(54/20)
احفظ الله يحفظك
لقد أوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، وعندما أردف ابن عباس وراءه على دابته حدثه بكلام موجز عظيم لخص به معاني الإيمان وثمراته، وفي هذا الدرس تناول الشيخ حفظه الله هذا الحديث بالبيان والشرح، ووضح معنى حفظ العبد لربه ومعنى حفظ الله لعبده، وارتباط ذلك بتوحيد السؤال والاستعانة، والإيمان بالقضاء والقدر، وأتبع ذلك ببيان اقتران كل من العسر واليسر، والفرج والكرب، والنصر والصبر، موصياً الحاضرين بالدعوة إلى الله.(55/1)
وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه، أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: نحمد الله تبارك وتعالى ونشكره على ما أنعم وتفضل به علينا من مجالس الذكر والعبادة والإنابة.
ونسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبل منكم ومنا جميعاً، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إنه سميع مجيب.
تحدثنا في الدرس الماضي عن الوصية الأولى من حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الطهور شطر الإيمان}.
واليوم سنتحدث عن الوصية الثانية وهي حديث عظيم من كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما أعظم وصايا هذا الرسول! وكيف لا، وهو الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؟! الذي أخرجنا الله تبارك وتعالى به من الظلمات إلى النور فما أجدره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نتأمل وأن نتدبر كلامه ومواعظه ووصاياه!(55/2)
نص الحديث
وهذا الحديث الذي هو الوصية الثانية، قال عنه بعض العلماء: تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش' فالله أكبر! القلوب التي تتدبر وتتفكر وآتاها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قوة الفهم والمعرفة واليقين لا تحتمل بعض الأحاديث أو بعض الآيات، بل تكاد تطيش.
وهذا الحديث هو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وصيته المشهورة، للغلام النبيه النجيب الذكي، الذي نوَّر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قلبه بالإيمان، وجعله حبر الأمة وترجمان القرآن.
عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه وعن أبيه عندما أوصاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف}، وفي رواية أخرى: {تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً}.(55/3)
السلف الصالح والتفكر
وتحت كل جملة من هذه الجملة عبر ومعانٍ عظيمة لا نستطيع أن نأتي عليها، وإنما نشير بما فتح الله تبارك وتعالى به علينا، حاثين أنفسنا وإخواننا جميعاً على تدبر كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا سيما هذه الوصايا الجامعة المانعة.
ولا نتعجب من قول ذلك العالم في هذا الحديث، فقد قرأت منذ أمد ليس بالطويل أن الإمام العابد الزاهد أبا سليمان الداراني -رحمه الله تعالى- نادى غلامه أحمد بن أبي الحواري فقال له: ائتني بماء، فجاءه بماء ليتوضأ لقيام الليل، يقول أحمد بن أبي الحواري: [[فلما أذن الفجر، أذن وهو على حاله، ويده في الإناء ولم يرفعها ولم يتوضأ! فقلت له: الصلاة رحمك الله! أذن الفجر]] أي أنه طوال كل هذه الليلة كان يتفكر في حاله مع الله عز وجل، تفكر فنسي واستغرق ولم يفعل شيئاً، وهذا التفكر هو عبادة.
أقول: لا نستغرب أن من تدَّبر وتفكَّر وأمعن النظر قد يحدث له شيء من هذا، فمثلاً: عندما تأملت هذا الكلام وتعجبت منه تذكرت أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما ذكر قصته مع ابن عبد ياليل وما جرى له من الأذى، فقال: {انطلقت هائماً على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بـ قرن الثعالب!}.
وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقوى الناس زماماً، وأثبتهم نفساً، لكن الهمّ الذي ركبه واستغراق التفكير جعله يمضي وينطلق ولا يفيق إلا وهو في قرن الثعالب، واستغراق التفكير في المشي والسير أعظم منه والإنسان جالس.(55/4)
ثمرات التفكر
أقول هذا لأنبه الإخوة لعظم التفكر في آية، أو في حديث، أو في عبرة، أو في حكمة؛ فهذا التفكر ثمرته عظيمة جداً؛ لأنه يورث لك علماً عظيماً جداً؛ بحيث إنك كلما قرأت، أو تعلمت، أو رأيت أيَّة عبرة وأخذتها بهذا العمق بالتفكير والتدبر والتأمل، فإنها تفيدك كثيراً جداً، وما ميَّز الله تبارك وتعالى أهل التقى السابقين -وعلى رأسهم الصحابة رضوان الله تعالى عليهم- بكثرة الرواية، ولا بكثرة المسائل في العلم، ولكن بهذا العمق في الفهم واليقين والتدبر.
إن عامة الصحابة رضي الله تعالى عنهم لم يكونوا يحفظون كتاب الله، وإنما حفظه نفرٌ معدودون منهم، والحديث كذلك لم يكن يجمعه أو يجمع أكثره والآلاف منه إلا نفر معدودون، لكن كان اليقين يقر ويثبت في قلوبهم بآية واحدة أو بحديث واحد.
فهذا اليقين يستغرق قلبه، ويفتح الله تبارك وتعالى به عليه معارِفِ عظيمة، فيلج على قلبه من الحقائق الإيمانية والمعارف القرآنية ما يجعله ينسى كل شيء في هذه الدنيا، فحكمة واحدة يأخذها ردة واحدة يردها إلى كتاب الله أو إلى سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى هذا النعيم الصافي العذب، تروي قلبه، وتنبت فيه شجرة الحكمة، فيجني ثمارها هو ومن بعده.
لذلك انظروا إلى كلامهم! ورحم الله الحافظ ابن رجب حيثن كتب كتاب " فضل علم السلف " فقال: 'الكلمة الواحدة من كلام السلف تزن مجلدات من كتب الخلف' وما أكثرها الآن في المكتبات! وما أكثر المحاضرات والكلمات، لكن أين كلامنا وأين علمنا وأين خطبنا ومحاضراتنا من كلمة واحدة من كلام السلف؟! فالسلف رحمهم الله أخذوا هذا الدين عن إيمان ويقين.(55/5)
معنى"احفظ الله يحفظك"
إخوتي الكرام: تدبروا هذا جيداً، وتدبروا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {احفظ الله يحفظك} من الذي لا يسعى في دنياه إلى أن يحفظه الله تبارك وتعالى من أي سوء؟! يجتهد الناس في هذه الحياة الدنيا إما لجلب النفع أو دفع الضر، وإذا تأملنا هذا الحديث وجدنا كل ما جاء فيه متعلقاً بهذا الموضوع.
فكل الناس في هذه الدنيا إنما يسعون ويجتهدون ويعملون من أجل أن يحققوا لهم في أنفسهم ما ينفعهم في العاجلة أو الآجلة، ويدفع عنهم ما يضرهم، ومحور ذلك وجماعه كله في هذه الوصايا التي أوصى بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (احفظ الله يحفظك) أي: في دنياك وآخرتك.(55/6)
مجالات حفظ العبد لربه
احفظ الله كما ذكر الله تبارك وتعالى وبيَّن في كتابه.
فعندما ذكر صفات المؤمنين، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة:111] فجعل من صفاتهم: الحافظون لحدود الله، أي أنني أحفظ الله بأن أحفظ حدود الله.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:5] فاحفظ هذه الآلة، وهذا العضو، وقد بيَّن صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطورة هذا العضو وضم إليه عضواً آخر، فقال: {من يضمن لي -أو من يحفظ لي- ما بين لحييه ورجليه أضمنْ له الجنة}.
احفظ اللسان، واحفظ الفرج، فالله تعالى استودعك هذين العضوين، وما أكثر من دخل النار بسببهما! فإذا حفظتهما فهذا من جملة ما تحفظ.
ومن أعظم المحافظة التي أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بها المحافظة على الصلوات: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، فحافظ على الصلاة؛ فمن حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة.
والمحافظة على هذه الأعضاء، كما قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] وهل تظن أنك يا عبد الله في هذه الدنيا تقول ما تشاء، وتصنع ما تشاء، وتنظر إلى ما تشاء؟! لا والله! إن السمع والبصر والفؤاد، حتى الفكر وهمُّ القلب وخطراته وما يأتي فيه لا ينبغي أن يكون إلا لله وقد تجاوز الله لنا عما حدثتنا به أنفسنا ولم نعمل به، لكن لا يجوز ولا ينبغي لنا أن نعزم على معصية؛ لأن العزم مقدمة العمل.
بل يجب علينا أن نعلم أن هذه ودائع استودعنا الله تبارك وتعالى إياها، فلنحفظها ولنحافظ عليها، فإذا حفظ العبد جوارحه، وحفظ حدود الله، وحفظ ما أمر الله تبارك وتعالى به وامتثله، وحفظ ما نهى الله تبارك وتعالى عنه فلم يقربه، نال النتيجة، وهي حفظ الله له.(55/7)
حفظ الله للعبد
إن رحمة الله تعالى أوسع من أعمالنا وأعظم من ذنوبنا، قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] ولو تدبر الواحد منا إلى كيفية حفظ الله له، ثم نظر إلى حاله مع الله: هل هو محافظ على ما أمر الله به؟ هل هو حافظ لحدود الله؟ لرأى الفرق، ورأى العجب العجاب! الله تعالى يحفظنا بالمعقبات، أي: الملائكة كما فسرها الصحابة ومن بعدهم، وهي ملائكة وتحفظنا من الشياطين، تحفظنا من أن يصيبنا شيء، إلا ما قدَّره الله علينا وكتبه فلا بد منه.
فالله تعالى يحفظنا من الشياطين، وما أكثر ما تحاول الشياطين أن تتخطفنا وأن تغوينا! ولكنه يحفظنا في أبداننا، وفي إيماننا من هذه الشياطين، فالله عز وجل يحفظنا بحفظه حياتنا، وإلا فمن الذي يرعانا؟! ومن الذي يربينا بنعمه؟! ومن الذي يغذينا بآلائه؟! أين نحن من هذا كله؟! الواحد منّا همه أن يطعم الطعام وينام، فمن الذي يسيره ويدبره ويُصّرفه فينال كل عضو منه ما كتب الله له أن يناله الطعام أو الدواء أو الماء.
فالله عز وجل هو الذي يحفظنا، حتى أنفسنا لا نملكها ولا نستطيع أن ندبرها، ولو وكل الله إلى واحد منا أن يدبِّر عينه فقط، لما اشتغل في الدنيا إلا بعينه، ولو وكل إليك أن تدبِّر معدتك أو قلبك حتى يتحرك، لذهب عمرك كله وأنت تحرك القلب أو تحرك المعدة أو تحرك الكبد أو المرارة أو إلخ.
انظروا هذا الصنع العجيب: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] من الذي يُدَبِّر هذا الخلق العجيب، خلق الإنسان؟! ومن الذي يسيره؟! ومن الذي يسخره؟! {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة:59] أنحن أم الله؟! الله عز وجل منذ أن وضعت النطفة فالله هو الذي خلقه، ونحن لا نخلق ولا نرزق ولا نعطي ولا نهب ولا نمنع، وكل شيء إنما هو بقدرة الله تبارك وتعالى وبتدبير الله.
فيجب علينا أن نحفظ الله ليحفظنا، لكن قد يقول قائل: كيف يحفظني الله؟ هل يحفظني فلا يصيبني أذى، ولا يصيبني بلاء، ولا يصيبني مرض أو مصيبة أو نكبة؟ فنقول: هذا جزء من الحفظ، ولكنَّ هناك حفظ أعظم من هذا كله! إن الله عز وجل إذا حفظته فإنه يحفظك في دينك، وفي إيمانك، وعقيدتك، وفي يقينك، ومعرفتك بالله عز وجل، وهذه هي أغلى شيء في هذه الدنيا، فأعظم شيء في هذا الوجود ليس هو الدنيا فقط أو الأعراض الفانية، فهذه كلها تذهب ولا تنفع.
فمن حُرِمَ لذة معرفة الله تبارك وتعالى فقد حرم ألذ الأشياء، كما قال بعض السلف رضي الله تعالى عنهم: [[مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها ولم يذوقوا ألذ ما فيها، قيل: وما ألذ ما فيها؟ قال: ذكر الله عز وجل ومعرفة الله]].
إذا طعمت أكلة لذيذة من ألذ الأطعمة، وأكثرت منها وزدت، فإنك تجد تعباً ومغصاً وتتمنى أنك ما أكلت، وذهبت تبحث عما يُسَّمى بالمهضِّمات! وقد تعجب الصحابة رضي الله تعالى عنهم من ذلك، وقالوا: [[أمرنا بأن يكفي أحدنا لقيمات، وأنتم تحدثونا عن المهضمات!]] هذا شيء عجيب! وألذ متعة يتلذذ بها أهل الدنيا هي متعة النساء، والذي يحفظ الله يحفظ الله له هذه المتعة، أما الذين يزنون -والعياذ بالله- ويهدرون شبابهم في الزنا، فهؤلاء هم أقل الناس تمتعاً بالحلال إن تزوجوا بعد ذلك.
والذين يمارسون هذه الفاحشة القبيحة سواءٌ أكانت زناً أم لواطاً -وهو أقبح وأخبث- يبددون قوتهم، ويبددون متعتهم، ويهدرون طاقتهم، ولذلك لا يتمتعون إلا فترة قليلة من عمرهم! وقد أجريت مقابلة في أحد الكتب مع رجل ممن أصيب بالهربز، فقيل له: كم تمتعت؟ فقال: خمسة عشر سنة -أي أنه: كان يزني والعياذ بالله ويرتكب الفواحش خمسة عشر سنة- ويقول: هذه مدة تعتبر كافية! فهذا مسكين والله! أيها الإخوة: انظروا إلى سير الصحابة -رضي الله عنهم- يبلغ أحدهم الستين والسبعين عاماً وربما أكثر، وهو متزوج ولا يزال يولد له، وعنده الإماء وهو في أحسن الصحة والعافية سبحان الله! يحفظون الله فيمتعهم.
والأمثلة على هذا كثيرة، فالشهوات الظاهرة البدنية لا يتذوقها ولا يجد طعمها -على الحقيقة- إلا من حافظ على حدود الله، فما بالك باللذة والنعمة التي لا تقاس بهذا كله؟! بل هي أعظم وأعظم، والتي يحرمها أهل الدنيا، وهي معرفة الله والأنس به ولذة الضراعة إليه ولذة دعائه عز وجل.
وكثير من الناس لا يعرف هذه اللذة! ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله وذكر ذلك ابن تيمية وغيره ممن أشاروا إليه: 'بعض الناس تصيبه المصيبة فإذا أصابته أخذ يدعو الله، ويتضرع إليه، ويستغيث به، فيجد من لذة الدعاء والضراعة والاستغاثة إليه والانكسار بين يديه ما ينسيه تلك المصيبة بالكلية، فتكون المصيبة خيراً، فقد فتحت له باباً عظيماً ما كان يعلمه، وتراه يقول: الناس مساكين ما عرفوا هذه النعمة! ومن أين عرف هذه النعمة؟ عرفها بهذه المصيبة! ومن هنا لا يكره الإنسان المصائب، ولا يجزع ولا يقنط من القدر'.(55/8)
قدرة الله النافذة
ولذلك قال عقب هذا مباشرة: {واعلم أن الأمة لو اجتمعوا} لو اجتمع كل من فوق الأرض على أن ينفعوك بأي شيء تتخيله لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، فهو الذي يُدبِّر، يُسيِّر، ويُسيِّر ويسخِّر.
والخلق مساكين ينقطعون عند الأسباب الظاهرة الحسية الموجودة، كما ضرب لهم مثل بمن رأى الناس يشربون الماء، فرأى ماسورة فيها حنفية يفتحها أحدهم ويشرب ويغتسل ويتوضأ، فذهب واشترى ماسورة، وركَّبها في الجدار، ثم فتح الحنفية فلم يجد ماءً لأنه ظن أن الناس يأخذون الماء بهذه الطريقة، ولم يعلم أن هناك أسباباً أخرى خفية لا يراها ولا يعلمها، وهذا الذي يراه إنما هو سبب ظاهر فقط.
بعض الناس يظن أن الوظيفة بيد فلان المسئول، وأنه لو وافق فسيُوظَّف، فهذا سبب آخر من الأسباب الظاهرة، أما الأسباب الخفية الحقيقية فهي بيد الله عز وجل.(55/9)
الدعاء حقٌ من حقوق الله
ولذلك لاحظوا ترابط الحديث، قال: {إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله} فلا يملك المخلوقون شيئاً، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي يملك كل شيء، فلا تهن نفسك ولا تذلها لأحد غير الله عز وجل ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، ومن آمن بقدر الله فلن يسأل غير الله ولن يستعين بغير الله، وسيطمئن غاية الاطمئنان إن كان في حال النفع وإن كان في حال الضر؛ لأن الأمر قد قضي: {رفعت الأقلام وجفت الصحف}.(55/10)
الإيمان بالقدر وأثره
كل شيء قد كتب كما بيّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {كتب الله مقادير كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة} ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] من قبل أن يخلقها، بل من قبل أن يخلقكم، بل من قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة! فلابد أن يكون موقفنا مما يقع هو: الرضا والتسليم لله تبارك وتعالى والصبر والاحتساب؛ لأنه من عند الله، ولهذا كان بعض السلف يقول: [[لا أبالي بأي شيء أصبت]]، لا أحد يتمنى أن يصيبه مكروه، لكنه يقول: من أين يأتي ذلك؟ ومن الذي يقدره عليه؟ هذا الأمر الذي أكرهه أنا وأغضب وأجزع منه، من الذي كتبه وقدَّره؟ أليس الله عز وجل؟ فالرضا يكون من جهة أن الله تعالى لا يقدر إلا الخير.(55/11)
ملازمة الخير للمؤمن
وأمر المؤمن كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكانت له خيراً، وإن أصابته ضراء صبر فكانت له خيراً.
فاحمد ربك، وأيقن واصبر، واعلم أن كل شيء قد قضي، ولا يضرك ما يكيد لك الخلق، وما يمكرون أبداً، والله تعالى سلَّى هذه الأمة فقال: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120].
فما أكثر ما يُكاد لهذا الدين الآن في كل البلاد! كما ترون في البوسنة وفي الفلبين وفي إرتيريا وفي الصومال وفي عدة دول، حتى تنتهي الأمة الإسلامية ودولها وطوائفها.
وكم يُكاد لهذا الدين من اليهود، والنصارى، والمنافقين، ومن الفجار، والمفسدين، ومن كل عدو لهذه الدعوة ولهذا الدين!(55/12)
واجبنا تجاه مكائد الأعداء
الواجب علينا ألا نشتغل عن التقوى والصبر بالحديث عن كيد العدو وتتبعه.
لا تشتغل بعدوك وتحمل هم عدوك أكثر مما تحمل هم السلاح الذي تتقي به عدوك، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله وهو يتحدث عن كيفية المعالجة من الحسد ومن العين وما أشبه ذلك: 'من أعظم ما يُعالَجُ به ذلك توحيدُ الله عز وجل، وأن تحفظ الله وأن تراقب الله وأن تحفظ جوارحك عن معصية الله، وهذا إذا اشتغلت به كفاك الله تبارك وتعالى كل مؤذٍ وكل شرير وكل حاسد وكل كائد، ولكن إذا اشتغلت بكيد الأعداء وانقطعت عن الصبر وعن اليقين لم ينفعك اشتغالك إلا هماً وغماً'.
وهذا ينطبق على واقعنا الآن؛ فمن يشتغل بخطط الأعداء وكيدهم ومكرهم دون أن يكون له زاد من الصبر واليقين، فإما أن يقنط، وإما أن يجزع، وإما أن يهتم ويغتم ولا نتيجة ولا فائدة، لكن يجب علينا التحلي بالصبر واليقين والتقوى مع معرفة كيدهم ومكرهم، مع أنه لا يشترط أن يعرف مكرهم وكيدهم كل أحد، لكن ينبغي ألا يضيع في الأمة؛ لأنه فرض كفاية.
أما الأساس الذي يجب أن يكون لدى كل واحد في هذه الأمة فهو الصبر والتقوى التي ندفع بهما بإذن الله تبارك وتعالى هذا الكيد وهذا المكر.
ولذلك لا يبالي المؤمن بأذى الخلق؛ فهم لو اجتمعوا على النفع أو على الضر، لم يضروك ولم ينفعوك بشيء من عند أنفسهم استقلالاً، فإن نفعوك بشيء فقد كتبه الله لك قبل أن تُخلق، بل قبل أن يُخلق هذا الكون بخمسين ألف سنة، وإن كان شراً فكذلك.(55/13)
عواقب سؤال غير الله
إذا أيقنا بذلك، أيقنا أن المستحق أن يسأل وأن يستعان به، وأن يشكر هو الله وحده لا شريك له، الذي إليه المنتهى، والذي عنده خزائن كل شيء، والذي يعطي من يشاء ويحرم من يشاء، ويُضحِك من يشاء ويُبكِي من يشاء، ويحيي من يشاء ويميت من يشاء، ويُدبِّر ملكه كما يشاء.
وهذا يزيد المؤمن إيماناً وتوحيداً، ويعطيه قناعة عظيمة، وكما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: {وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر} وكما قال في الحديث الآخر صلوات ربي وسلامه عليه: {إن الغنى غنى النفس} فإذا أغناك الله عز وجل وأعطاك الصبر، فقد أعطاك من الخير ما لم يعطه أحداً غيرك، فاحمد الله تبارك وتعالى عليه، ومن هنا إذا سألت فاسأل الله.
وقد أوصى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جملة من الصحابة ألا يسألوا أحداً، منهم: أبو بكر وثوبان وأبو ذر رضي الله تعالى عنهم، حتى كان الواحد منهم إذا وقع سوطه، لا يقول لأحد: "ناولني السوط" ولكن ينزل فيأخذه بيده، وإذا انفلت منه خطام ناقته لا يقول لأحد: "أعطني" لكنه ينزل ويأخذه حتى لا يسأل أحداً إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأن السؤال -مهما كان- فيه ذل وفيه إشعار بالاحتياج.
ولا ينبغي لك -يا أخي المسلم- أن تسلِّم نفسك إلا لله، وألا تشعر أحداً أنك محتاج إليه إلا الله عز وجل، إلا إذا اضطررت فهذا أمر آخر، فالناس للناس، والكل بالله عز وجل.
فليكن الأصل الذي تسير عليه هو ألا تسأل الناس وألا تتشكى، وألا تتسخط لديهم.
ولهذا كان بعض السلف عندما يرى بعض الناس يشكون، يقول له: أتشكو الخالق إلى المخلوقين؟! فبعض الناس إذا أصابه مرض ذهب واشتكى للناس، وهؤلاء -نسأل الله العفو والعافية- يحرمون أنفسهم من الأجر ويتألمون؛ لأن الشكوى يصحبها عادةً الألم، فتكون المشاكل عندك غير موجودة، فإذا شكوت إلى أحد منهم فإنك تتألم ثم تتألم، فالذين يشكون ويتسخطون عند الناس يعاقبون بالألم ويُحرمون من الأجر، وهذا كما جاء في الحديث: {فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط}.
فينبغي للمؤمن أن يتدبر، وأن يتفطن، لهذا ولذلك قال عبد الله بن المبارك رضي الله عنه: 'من صبر فما أقل ما يتحمل، ومن سخط فما أكثر ما يجزع' فإذا صبرت فما أقل ما تتحمل، ولو صبرت العمر كله، فالعمر كله قليل، وما أقل هذه الدنيا بالنسبة للآخرة! كما قال تعالى: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] فالعمر كله قليل، فما بالك والأمر ليس كذلك؟! فلن تصبر عمرك كله؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل للكرب دواءً، وللعسر شفاءً، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {واعلم أن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً}.
فإذا أصابك أمر فاعلم أن الله تبارك وتعالى سيجعل لك معه يسراً وسيجعل لك منه مخرجاً.
وعندما يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله} فهذا من أعظم التوحيد، ولذلك نقرأ في صلاتنا هذه السورة العظيمة السبع المثاني الفاتحة في كل ركعة، ونقرأ فيها: إياك نعبد وإياك نستعين.
والدعاء يشمل العبادة بل هو العبادة كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فندعو الله تعالى في كل ركعة ونقول: "ندعوك وحدك"؛ دعاء المسألة ودعاء العبادة، فدعاء المسألة داخلة فيها، "ونستعين بك وحدك" إياك نعبد، أي: نعبدك وحدك - كما هو معلوم في اللغة العربية.
وإياك نستعين، أي: نستعين بك وحدك؛ فالاستعانة والعبادة لله وحده لا شريك له، فنجد أننا بذلك نرقى بدرجات عالية، ولا نكاد نحلم فيها أو نتخيلها إلا إذا حققنا ذلك فِعلاً في حياتنا، فالغنى عن المخلوقين يورثك عزاً تجد حلاوته.
ولهذا قالوا: 'اسأل من شئت تكن أسيره' أي: اسأل من شئت أن تطلبه تكن أسيره لأنه يأسرك بما يعطيك ويقدم إليك.
'واستغن عمن شئت تكن نظيره ' فأي إنسان تراه كبيراً عند أهل الدنيا استغن عنه تكن نظيره؛ لأنك مُستغنٍ عنه وهو مستغنٍ عنك؛ فأنتما في مستوى واحد وإن كان الناس يرونه كبيراً، فما دمت مستغنياً عنه فأنت نظيره.
' وأعط من شئت تكن أميره ' فإن أعطيته كنت أميره؛ لأنه أصبح أسير نعمتك وعطائك.
وهذا لا يعني أن الإنسان لا يسأل إذا احتاج، وإنما المقصود أن يكون أصل نظرتك في الحياة وأصل منهجك الذي تسير عليه كذلك.
لأن بعض الناس يذل نفسه من أجل علاوة قد تأتي وقد لا تأتي، أو من أجل مبلغ بسيط، أو من أجل شيء من الدنيا لا يستحق أن تذل نفسك من أجله أبداً.
أما الضرورة فهي أمر آخر.
لكن عندما ترى حال المسلمين اليوم -بل حال كثير من طلاب العلم- تأسف وتألم لما يذلون به أنفسهم من السؤال وإظهار الفقر والحاجة إلى المخلوقين، ولهم في الله عز وجل الغنى كل الغنى.(55/14)
عاقبة ذكر الله في الرخاء
ولذلك قبل هذا يمكن أن نأتي بالعبارة التي وردت في الرواية الأخرى التي رواها الإمام أحمد وغيره، قال: {تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة}.
يقول الضحاك بن قيس رحمه الله: [[اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة -كأنه يشرح الحديث، ثم ذكر مثلين فقال: إن يونس عليه السلام لما كان يذكر الله تعالى في الرخاء ذكره الله تعالى في الشدة، فقال تعالى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144]]] فلما دعا بهذه الدعوة العظيمة التي هي من أعظم أدعية الكرب، والتي قيل: إن فيها اسم الله الأعظم، وهي: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) دعا بها يونس عليه السلام في الظلمات: ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، دعا فاستجاب الله تعالى له فأنجاه وأخرجه وألقاه الحوت في الساحل، ثم ذكر الحالة الأخرى، حالة الذي لم يعرف الله وقت الرخاء، فقال: [[وانظروا إلى فرعون كان غافلاً عن ذكر الله، مستكبراً على الله، فلما أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، فقيل له: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91]]].
فيونس أنجاه الله، وفرعون لم ينجه، وكلاهما في حالة متشابهة؛ لأن ذلك كان يعرف الله في الرخاء، فعرفه الله تعالى في الشدة، وكان معه، وهذه هي المعرفة الخاصة والمعية الخاصة كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] فالمعية الخاصة هي معية النصر والتأييد، والمعرفة الخاصة هي أن يعرفك الله تعالى المعرفة الخاصة، وإلا فهو العليم بكل شيء، لكن المعرفة الخاصة لأوليائه أن يقضي حوائجهم، وأن يستجيب دعاءهم، وأن يكشف كرباتهم وما يهمهم وما يغمهم.(55/15)
طريق الدعوة
الدعاة إلى الله اليوم هم أحوج ما يكونون إلى أن يتعرفوا إلى الله تبارك وتعالى في الرخاء؛ لأن الدعوة إلى الله لا تقوم إلا على الشدة والابتلاء والامتحان والمشقات.
إن واقعنا نحن شباب الصحوة وشباب الدعوة عجيب؛ فأكثرنا يرى العمل ببعض الواجبات الظاهرة، أو التمسك بالسنن -وهذه نعمة- ويرى أنه في نعمة وفي عافية، ما أراد أن يحضره من المحاضرات حضره، وما أراد أن يسمعه من الندوات سمعه، وما أراد أن يشتريه من الأشرطة اشتراه، والذي لا يناسبه من هذه الأمور فإنه يتركه، وهو في وظيفته وفي عمله مرتاح، وله إخوة في الله يزورونه ويزورهم، فيجد فيهم العوض عن أهل الشر.
ولا شك أن هذا خير وأن هذا من بركة الهداية وأنه قبل ذلك لعله كان في رفقة السوء، وكان في بلية وفي ضيق وضنك.
لكن ألهذا الحد نقف؟! وهل هذا هو المطلوب منا فقط؟! أيقوم الدين ويقوى عوده، ويدحر الله تبارك وتعالى أعداءه وأعداء دينه بهذا فقط؟! أم أن هناك واجبات ومهمات ومشقات؟! إن طريق الدعوة شاق؛ فكيف نقوى عليها؟! فأحياناً عند أول ابتلاء يمس الوظيفة، أو يمس السمعة، أو بمجرد أن يتكلم فيه الناس والأقارب والأرحام والأصدقاء ترى الداعية بدأ يهتز، ولو جاءت محنة أشد قليلاً، فإنك تراه يكاد يطير، ولو جاء سجن أو شيء آخر، فيمكن والعياذ بالله أن يذهب دينه كله! وهذا لأننا قد نتكلم عن طريق الدعوة، لكن لا نتكلم عن الزاد، ولا نحمل همَّ الزاد، ولا نتزود من هذا الزاد -زاد التقوى واليقين- الذي يعينك فتمضي في هذا الطريق.(55/16)
سنة الابتلاء
ولهذا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على قدر دينه} وفي إحدى رواياته قال: {الأنبياء ثم العلماء ثم الصالحون}، فالعلماء لأنهم ورثة الأنبياء يقومون مقام الأنبياء.
وانظروا كيف كان صبر الإمام أحمد، وشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، وابن القيم، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، وغيرهم من الدعاة والعلماء قبلهم وبعدهم.
فكل من دعا إلى الله من العلماء بحق وحقيقة وقال كلمة الحق، ولم يخش في الله لومة لائم، فلابد أن يُؤذى وأن يبُتلى، وأن يُمتحن، وهذه علامة على أنه على الطريق، فلا تقنط، واحمد الله أنك على الطريق، واسأل الله السداد، واصبر على ذلك.
ولذلك نقول: هذا الحديث عجيبٌ جداً، وكل عبارة آخذة بعنق ما بعدها، فلذلك قال: {واعلم أن النصر مع الصبر} فإذا أردت أن تنتصر فاصبر.
اصبر أولاً على نفسك، هذه الدابة الحرون التي تجمح بك يميناً ويساراً، لو أطعتها ألقتك في النار، فاصبر على ترك ما تريده من رغبات ومن شهوات، وأقل شيء تريده منك أن تنام وتؤخر صلاة الفجر، وهذا الذي قد يحدث لكل واحد منا، وتريدك أن تتغدى وتنام وتؤخر صلاة العصر.
وإذا جئت تذكر الله أو تقرأ القرآن جاءك التعب وجاء التثاؤب، وإذا جئت تحمل نفسك على الذهاب إلى الدرس أو إلى حلقة من حلقات العلم والذكر تثاقلت، وجاءتك الهموم والمشاكل والارتباطات، فانتصر على النفس التي هي العدو الذي بين جنبيك، ثم على الشيطان ثم على أعدائك، وما أكثرهم! اصبر، فالنصر على العدو أياً كان إنما هو بالصبر.
فهذا عمر رضي الله تعالى عنه وهو الحكيم الذي أعطاه الله تعالى الحكمة، جاء إليه وفد من بني عبس، من قوم عنترة، فقال لهم: بم كنتم تغلبون العدو؟ قالوا: بالصبر.
وهو يريد أن يُعلِّم، أما هو فيعلَم ذلك، فمعنى قولهم: إننا نألم كما يألمون لكن نصبر.
وعنترة بن شداد هذا الفارس المشهور في الجاهلية ما جالد رجلاً إلا غلبه، إما أن يقتله أو يفر، فبعض الناس يظن أن عنترة لا يخاف من شيء أبداً، فسألوه: كيف تغلب أعداءك؟ فقال عنترة " بالصبر! كلما أردت أن أفر أقول: أصبر قليلاً لعله يفر هو، فيفر فأدركه فأقتله، أو يهرب فأنتصر عليه" فكل الناس عندهم نوازع الخوف، وما يميز بينهم إلا الصبر.
والعمر هو هذه الأيام والليالي فقط، قد تموت الليلة، وقد تموت غداً، وقد تموت قريباً، وقد تتأخر فاصبر، كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه: [[الموت عقبة كئود، وسوف تعبرها]] فتحمل هذا اليوم وغداً وبعد غد، وإذا بك تحمد صبرك، كما يقال في المثل: ' عند الصباح يحمد القوم السرى ' أي": أنهم يتعبون في مشيهم بالليل، فإذا جاء الصباح نظروا، فرأوا أنهم قد قطعوا مسافة كبيرة بالليل ففرحوا بسراهم بالليل عندما جاء الصباح، وآخرون ناموا بالليل، فإذا هم في الصباح متخلفون عن أولئك، فتراهم في حزن يقولون: هؤلاء قد وصلوا ونحن منقطعون.
فاصبر واعلم أن النصر مع الصبر، لا ينفك أحدهما عن الآخر ويوضح ذلك قوله بعد ذلك: {وأن الفرج مع الكرب}.
ورحم الله من قال:
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرجُ
فغالباً ما يأتي الفرج بعد الضيق والشدة والكرب، ويأتي النصر بعد أن تعاني ما تعاني، وما أكثر الأمثلة على ذلك! ولو بقينا في الأمثلة لاحتجنا إلى لقاءات طويلة في ذكرها.(55/17)
نماذج من صبر الأنبياء
أول الرسل نوح عليه السلام: عانى الكرب! ولهذا يقول الله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات:76] قضَّى ألف سنة إلا خمسين عاماً كلها دعوة، ثم أمره الله عز وجل بعد يأسه من قومه, أن يصنع الفلك {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود:38].
وتلك مرارة عظيمة أشد من الرجم أحياناً، وكانوا يقولون: كان نوح رسولاً، والآن أصبح نجاراً، يقطع الخشب ويأتي بالألواح والدسر، ماذا تريد يا نوح؟! وهذا يسخر، وهذا يضحك قد أحاط به الكرب، وبعد ذلك نجَّاه اللهُ من هذا الكرب.
إبراهيم عليه السلام: جُمع له الحطب الكثير، وأوقدت فيه النار العظيمة، وجيء بالمنجنيق ووضع الخليل فيه، وقذف به، فلما ألقي فيها: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69].
وصبر إبراهيم عليه السلام على كل ما نزل به، ولم يأتِ الفرج إلا بعد الكرب والشدة، عندما انتهى الأمل في نصر البشر، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف:110].
أي: أن النصر يتنزل على الرسل في أحلك الظروف، وذلك إذا استيئسوا وظنوا أنهم قد كذبوا، وانتهت كل الأسباب المادية، فإبراهيم قد ارتفع في الهواء، وما بقي إلا أن يقع فتحرقه النار، وإذا بها برد وسلام.
وإسماعيل عليه السلام: كذلك أنجى الله إسماعيل من الذبح، قال تعالى:: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] فقد تله للجبين، وأمرَّ السكين، وبلغ الكرب غايته بالأب والابن، فالأب قد استسلم لما أمره به ربه، وإسماعيل لما عرض عليه أبوه الأمر {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَر ُ} [الصافات:102] فلما صبرا كان لهما هذا الجزاء من الله تبارك وتعالى، مع شدة الكرب فجاء الفرج من الله، وفداه بذبح عظيم.
فلا تكره شدة الكرب أيها الداعية؛ لأن الفرج مع الكرب، بل إذا كنت ما زلت في أول الطريق فاحمد الله واصبر، فإذا اشتدت وجاء الكرب، فسوف يأتي الفرج بإذن الله.
وموسى عليه السلام: بغى فرعون وطغى، وأفسد في الأرض، كما أخبرنا الله تبارك وتعالى عنه في سورة القصص وفي الفجر وفي الأعراف وغيرها، وفعل الأفاعيل العظيمة المنكرة بهذه الطائفة الذين هم بنو إسرائيل، وسلَّط الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على فرعون وقومه الجراد والقمل والضفادع والدم لعلهم يتوبون ويؤمنون، ولكنهم ظلوا في عنادهم وكبرهم.
ثم قال موسى لقومه: إن الله قد أمرنا أن نخرج، فخرجوا ولحقهم فرعون وجنوده، {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] وكأنهم يقولون: "يا موسى! ليس لنا الآن حيلة، قد أدركَنا جيشُ فرعون الذي أو لم يقهر، ولا حيلة ولا مهرب؛ فالبحر أمامنا وهذا فرعون وجنوده خلفنا! وانتهى كل شيء.
فيأتي الفرج من الله عز وجل مع هذا الكرب الشديد، ومع استحكامه! وعيسى عليه السلام: لما مكر به اليهود وأحاطوا به، وما بقي إلا أن يقتلوه ويعلقوه على الصليب، رفعه الله تبارك وتعالى إليه، وألقى الشبه على الذي نمَّ ودل عليه، فوضع مكانه وصلب!(55/18)
نماذج من السيرة النبوية
أما رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما أكثر ما مر عليه من الكروب صلوات ربي وسلامه عليه، وهذه سيرته بين أيدينا.
في يوم الغار يقول أبو بكر رضي الله تعالى عنه: {يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدمه لرآنا} ولا حيلة لهما، فهما اثنان، وصناديد قريش بعدتهم حول الغار، وقد أغروا من يأتيهم بمحمد أو بـ أبي بكر حيين أو ميتين بمائة ناقة، وهي أعز وأعظم مال عند العرب كرب شديد، إذا دخلوا عليهم الغار، فأين المهرب؟! فيقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لـ أبي بكر: {ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟! ويقول له أيضاً: لا تحزن إن الله معنا!} سبحان الله! فعند شدة الكرب يأتي الفرج من الله، وانصرفوا عنهم، بل قيَّض الله لهم من يصرف الناس عنهم بعد أن كان طامعاً في قتلهم، فكان سراقة يقول لهم: {أما هذا الجانب فقد كفيتموه} اطمئنوا فليسوا هنا أبداً، ابحثوا في مكان آخر، فلقد أراد الله أن يصرف عنه السوء حتى يصل إلى المدينة.
واشتد عليه الكرب صلوات ربي وسلامه عليه يوم أحد كما تعلمون، ثم جاءه الفرج من عند الله، ونزلت ستون آية عظيمة من سورة آل عمران تُبَيِّنُ الحِكَمَ العجيبة والنعم الباطنة الخفية ضمن هذه الحادثة المؤلمة.
ويوم الأحزاب تألبوا واجتمعوا عليه حتى قال المنافقون: "يعدكم محمد بملك كسرى وقيصر، ولا يستطيع أحدكم أن يقضي حاجته!! ".
والمنافقون هذا شأنهم في كل زمان ومكان! فهم الآن يقولون لنا: أنتم تزعمون أن الله ينصر الإسلام ويعز الدين، فهاهم المسلمون في كل مكان يقتلون ويهانون! وهذا كلام المنافقين؛ لأنهم رأوا الجولة الأولى، والشوط الأول فقط! فنقول لهم: انتظروا! ما زالت المعركة طويلة لم تنته بعد، فلا تتعجلوا! ثم استحكمت حلقاتها بنقض بني قريظة للعهد، والمدينة محاصرة، وجميع قبائل العرب ضدهم، وإذا ببني قريظة -وهم من أهل العهد والذمة، وهم بداخل المدينة - ينضمون إلى الكفر وإلى العدو المحاصِر، فماذا بقي؟! ويأتي الله عز وجل بالنصر، ويأتي بالفرج من عنده، ويرسل عليهم ريحاً وجنوداً لم يروها ويذهب كيدهم ومكرهم، ويهزم الله الأحزاب وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فله الحمد وحده، فهو الذي نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وكم من أحداثٍ عظيمة في السيرة النبوية!(55/19)
بشائر الفرج لأهل الابتلاء
كلما استحكمت حلقات الضائقة، وكلما اشتدت الكروب، وكلما رأيت أن لا مخرجَ ولا حيلةَ، فاعلم أن الفرجَ قريب.
وفي الحديث الذي تقدم معنا في أحاديث الصفات، يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يضحك ربنا عز وجل من قنوط عباده وقرب غيره} إذا امحلو حطوا وأجدبوا.
وترى الناس كما قال تعالى: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} [الروم:49] تراهم مبلسين يائسين، قانطين جزعين؛ فلا ماء، والدواب قد هلكت، والأرض قد يبست، والرياح تعصف بأراضيهم الغبار، ففي هذه الحالة يضحك الله تعالى لما يرى من قنوطهم وجزعهم وإبلاسهم، وقرب غيره، إنه قريب، ولكنهم لا يدرون إنما هي أيام أو أسابيع، وإذا بالغيث والنعمة المنشورة والرحمة تأتي من كل مكان! وإذا بالخضرة! وإذا بالورود والأزهار والطيور والخيرات والبركات! ثم تأتي إلى هؤلاء فتقول لهم: أتذكرون تلك الأيام، فيقولون: يا شيخ! لا تذكرنا بتلك الأيام، فقد مضت.
لا يريدون أن يتذكروا تلك الأيام، وكأن هذا هو كل شيء!! يضحك الله عز وجل من قنوط البشر مع أن رحمته قريبة تبارك وتعالى.
ولذلك قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وأن مع العسر يسراً} وهذا كما في كتاب الله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5 - 6].
ومن أعظم نعم الله عز وجل -وقد عبَّر عنها جماعة من السلف، كلٌ منهم بأسلوبه: الصبر واليسر والرضا.
من أعظم نعم الله عز وجل على الإنسان أن يذيقه حلاوة الصبر، باستشعاره أن مع العسر يسراً، فمهما نزل به من كرب، ومهما ألمت به من مصيبة، ومهما يرى أنه قد أحيط به، فإنه يعلم أن مع العسر يسراً، فيبرد ذلك قلبه، ويخفف لوعته، ويطفئ مصيبته، ويستيقن أن الله عز وجل لن يضيعه.
فالنصر مع الصبر مقترنان لا يفترقان، والفرج مع الكرب مقترنان لا يفترقان، فبإذن الله لا يقع هذا إلا مع هذا، ولو جاء النصر من غير صبر لما كان له طعم.
فلو ذهبتم لتقاتلوا عدواً، فلما أشرفتم عليه هرب، وأخذتم الغنائم ورجعتم، لما كان لذلك طعم، كما إذا قاتلتم أياماً وليالٍ مثل أيام وليالي القادسية، والتي كانت شديدة على الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ثم جاء نصر الله عز وجل؛ فالنصر بعد التعب له لذة وحلاوة.
وكذلك الفرج لا يأتي إلا بعد الكرب، فليتحمل الإنسان ذلك، وكذلك اليسر أو اليسران، فهما يسران يأتيان بعد العسر ومعه، فإذا تضرع الإنسان واستعان بالصبر، نال النصر، والفرج، واليسر بإذن الله، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:2 - 3] أي: كافية من كل شيء تبارك وتعالى.(55/20)
الواجب بعد سماع الوصية
إخوتي الكرام: قد أجملنا إجمالاً، وأشرنا إشارات لما يتضمنه هذا الحديث الشريف العظيم، من الوصايا الجامعة المانعة والحكم العظيمة التي نريد أن تكون بإذن الله زاداً لنا في حياتنا.
فأوصي نفسي وأوصي إخواني جميعاً: أن نعمل بهذه الوصية وأن نهديها إلى كل من نحب، وأن نكون من المتدبرين لهذه الوصايا فهماً، والممتثلين لها عملاً، والداعين إليها، والموقنين بما فيها، وأن نوقن بها حق اليقين.
فهذا كلام رسول رب العالمين صلوات ربي وسلامه عليه، وهذه وصيته، لم يوص بها عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه وحده، بل هي لنا جميعاً؛ ولهذا تحدث جمع من الصحابة عن هذه الوصية التي أوصاها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهي لكل من يريد الخير من هذه الأمة، أن يكون حافظاً لحدود الله، وأن يكون راضياً وصابراً على أقدار الله عز وجل، وأن يتعرف إلى الله في الرخاء ليعرفه الله في الشدة، وألا يسألَ إلا الله، وألا يستعين إلا بالله تبارك وتعالى، وأن يصبر ويعلم أن عاقبة ذلك هو نصر الله تبارك وتعالى له وتوفيقه وتأييده وحفظه ورعايته في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فالحمد لله، كما هو مشاهد وأقول لإخواني دائماً: لا تنسوه، فوالله إنكم تعيشون وتتقلبون في نعم يحسدكم عليها أهل الدنيا الذين حرموها وأنتم لا تشعرون بها.
وهم إما أنهم لا يعلمون بما نحن فيه، ولو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف، أو أنهم يعلمون ولكن لا يستطيعون نيله؛ لما حجبوا به من الشبهات والشهوات.
أنتم والله في نعم عظيمة، فأنتم تقرءون كتاب الله، والحرف الواحد منه بعشر حسنات، أليستْ هذه نعمةً عظيمة؟! أنتم -والحمد لله- عرفتم العقيدة الصحيحة التي ينجو بها العبد عند الله، أليست هذه نعمة عظيمة؟! أنتم عرفتم طريق الدعوة إلى الله، وكثير من الشباب في العالم الإسلامي يتمنَّى أن يأتي إلى هذه البلاد منحة أو دراسة أو بأي شكل؛ ليتعلم هذا العلم ويدعو إلى الله، وقد وفقكم الله لهذه النعم كلها، فاشكروه عليها، واعلموا أن الله سائلكم عنها.(55/21)
الإبلاغ والتذكير
ومن الواجب أن ندعو إلى الله عز وجل وأن نذكر أنفسنا وإخواننا بهذا؛ وإلا فلماذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه}؟! إذا بلغك حديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبلغه لأخيك، وأحب له ما تحب لنفسك.
فإذا قرأت أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {"لا حول ولا قوة إلا بالله" كنز من كنوز الجنة} واستبشرت بالكنز، فدل أخاك عليه، وأخبر جماعة المسجد وقل لهم: هناك كنز عظيم ثمنه كلمة! فوالله لو قلت لبعض الناس: " هناك كنز في مكان بعيد لم يعرفه أحد بعد، ولو حفرتم لوجدتم الذهب، لرحلوا معك ولو إلى آخر الدنيا! دلهم على كنز عظيم أن يقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله! ودلهم على شيء خير من الدنيا وما فيها: ركعتا الفجر! ودلهم على شيء لا يجدون عنه عوضاً في دنياهم، لو قال الواحد منهم: "سبحان الله وبحمده" مائة مرة غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر، وما أحوجنا إلى هذا! يجب علينا أن نستشعر أهمية الدعوة، وأن ندعو الناس إلى الله عز وجل، وألا نكتنز هذا العلم والخير وهذه المعارف والحقائق لنا، وندع الناس في غفلتهم وفي لهوهم وفي مشكلاتهم.
لا تغركم مظاهر الناس؛ فإنك تجد الواحد منهم في القصور أو في الفلل، وتجد السيارات والحشم والخدم والرواتب والوظائف، فإذا دخلت إلى أعماقهم فإنك تجد الكرب والحزن، وتجد الزوجة تخاصمه، والأبناء في عقوق له، والبنات أيضاً لا يسمعن له، والسائق يغشه، ومدير العمل يخونه، وفلان يغضبه، والموظفون يكرهونه.
سبحانه الله! ادخل إلى قلوبهم فوالله لن تجد إلا النكد والألم! وكل من تعلق بغير الله وكل إليه، فمن تعلق بالدنيا وُكِل إليها، ومن تعلَّق بمخلوق وُكل إليه.(55/22)
التحلي بمشاعر الحب
أيها الإخوة: لا يكفي أن نتعلق بالله -ونسألُ الله تعالى ذلك- ونتعلق بحب الله وما أضعفنا في ذلك، ثم نترك الناس يتعلقون بما شاءوا ويحرمون من هذا الخير، بل نحبه لأنفسنا، ونرثي لحالهم، فهم والله مساكين، كما قال هذا العالم من السلف: (مساكين الذين ما عرفوا الله).
والله! إن الذي تفوته حلقات الذكر مسكين، والذي تفوته الصلاةُ جماعةً مسكين، والذي لا يحجب زوجته وبناته ويمنعهن من النظر إلى ما حرم الله مسكين، هذا يستحق الرثاء.
ولذلك كان بعض السلف يستعين على دعوته، برثائه للخلق وبرحمته لهم، وله أسوة برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمسح الدم عن وجهه، ويقول: {اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون!} إن الناس لا يعلمون أننا نُحب لهم الخير، فتراهم إذا نظروا إليك أحياناً يكادون أن يزلقوك بأبصارهم وأن يبطشوا بك، وأنت لا تريد لهم إلا الخير، حتى الذي ترى أنه أعدى عدو لك، أو أنه يمكن أن يتسلط عليك ويقتلك ويفعل بك ما يشاء، فإنك تحبه وتريد له الخير، وتقول له: إذا تبتَ وآمنتَ فأنا أغفر لك وأسامحك من كل شيء، حتى وإن كنت قد فعلت بي ما فعلت وأسأت إليَّ ما أسأت، فما دمت قد عرفت الله وتبت إليه، فغفر الله لك! ونحن من اليوم إخوة أحبة في الله، فنحن لا نريد منهم شيئاً.
لكن هل يعلمون أننا نُكِّنُ لهم هذا الشعور؟! ما أظن كثيراً منهم يعلم بذلك، لأننا ما أشعرناهم بذلك وما أعلمناهم به، وما رأوه منا، ولهذا يتصور كثير من الناس أن هؤلاء الدعاة وهؤلاء الشباب وحوش، ينتظرون الفرصة لينطلقوا عليهم ويفتكوا بهم ويعبثوا بهم، كالذئبين الجائعين إذا فتكا بفريسة! ونحن لا نريد لهم إلا الخير فدنياهم هذه التي يخافون عليها لن ننافسهم على شيء منها، ولو كانت أضعافاً مضاعفة! فلا نبالي بشيء منها ولا نريدها، إنما نريد وجه الله، ونريد ما عند الله، ونريد أن يحرروا أنفسهم من العبودية لغير الله؛ فالدراهم والدنانير والزوجة والمجلة والفيلم والشهوة كلها عبوديات.
فأقول يا إخواني الكرام: ليجعل كل واحد منا له ورداً من كلام الله وكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا وردت هذا المورد العذب الزلال، وتنعَّمت بهذه النعمة، فاقطف من ثمراتها شيئاً، وقدمه لجيرانك ولإخوانك ولزملائك في العمل ولمن تحب ولمن تستطيع أرسل به رسالة إلى واحد في آفاق الدنيا، واصرف في ذلك من مالك؛ سواءٌ كان في أمريكا، أو في الشرق، وفي الغرب، وبين له هذا الخير وهذا النور، فقد يفتح الله على يديك ما لا تعلم.
نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا وإياكم لهذا، إنه سميع مجيب.(55/23)
الأسئلة(55/24)
حدود الله عز وجل
السؤال
ما هي حدود الله التي أمر بحفظها؟ وما معنى " احفظ الله تجده تجاهك"؟
الجواب
حدود الله: هي كل ما شرعه الله وحفظ حدود الله يكون بامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، والصبر على طاعته والصبر عن معصيته، والصبر على قضائه وقدره، فهذا كله من حفظ الله ومن حفظ حدوده.
أما معنى " احفظ الله تجده تجاهك " فهي تعني المعية الخاصة.
" احفظ الله تجده تجاهك " أي: معك معية خاصة؛ لأن من الصفات الثابتة لله المعية، وهي نوعان: المعية العامة: وهي معيته للخلق أجمعين، كما قال تعالى {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] فهذه لكل الناس فهو معهم كلهم.
وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق:16 - 17].
فهذه معية عامة لله تعالى، فهو مع كل الناس بعلمه، وهو تبارك وتعالى مُطِّلعٌ على أحوالهم، ولا تخفى عليه منهم خافية.
والمعية الخاصة: وهي المقصودة في الحديث، وهي مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153].
هذه المعية الخاصة كما قال الله تعالى لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تحزن إن الله معنا} أي: يحفظنا وينصرنا ويرعانا ويوفقنا.
وهنا نشير إشارة فاتتنا من قبل، فنقول: إن من أعظم نصر الله، وتوفيقه ومعيته، وحفظه لك أن يحفظك عن الذنوب والمعاصي، ولهذا قال الحسن البصري، وقال أبو سليمان الداراني وغيرهما من الأئمة الذين تكلموا في هذا الموضوع العظيم، موضوع الإيمانيات والرقائق: "إنما عصوه لهوانهم عليه -أي: أن أهل المعاصي هؤلاء، إنما عصوه لهوانهم عليه- ولو كرموا عليه لحجزهم" أي: لو كانوا كرماء على الله لمنعهم من الوقوع في المعاصي، لكن من هوانهم على الله تركهم يقعون في الذنوب والمعاصي، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18].
فكل من عصى الله فلهوانه على الله عز وجل، ولو كرم عليه لحجزه ولعرَّفه به تبارك وتعالى، وإذا عرف الله وعظَّم الله لم يعصِ الله عز وجل، فهذا من أعظم ما يجده العبد من أنواع المعية الخاصة.(55/25)
حكم الواسطة
السؤال
كثير من الناس إذا أراد عملاً أو وظيفة في مكان ما، يبحث عن واسطة، ويقول بعضهم: لا بد من واسطة، فهل هذا ينافي التوكل التام على الله تبارك وتعالى؟
الجواب
الأسباب لا بد منها، وهي لا تنافي التوكل، وهذا موضوع آخر غير الموضوع الذي نحن فيه، لكن الآن الكلام جرَّنا إلى الحديث عن الواسطة، فلابد أن نشير إلى شيء مهم، وهو أن الناس كلما أحدثوا ذنوباً أحدث الله لهم عقوبات، يعلمونها أو لا يعلمونها، فالواسطة عقوبة من العقوبات، أن بعض من تولَّى لم يتق الله فيما تولاه من عمل، فمن تولى على شركة أو إدارة أو وزارة أو مصلحة معينة، لو اتقى الله ولو توكل على الله؛ فمن جاء إلى وظيفة، فلن يحتاج إلى الواسطة؛ لكن لأن المسؤول لا يتقي عقوبة الذنوب التي عليه وعلى من تولى؛ ولأن السائل ضعيف اليقين وضعيف التوكل، فإنه احتاج إلى هذه الواسطة.
حتى إن بعض الناس يقولها لك بصراحة: عندك واسطة؟! أنت تأتي بالأوراق كاملة وهو يقول: عندك واسطة؟! وهو في نفس الإدارة التي تذهب إليها! ما الذي أحوجنا إلى أن نتوسط بالمخلوق إلى المخلوق الضعيف؟! نحن نشتكي من الضعيف إلى الضعيف، ونستشفع بالفقير إلى الفقير، ونستدل بالأعمى على الأعمى، ضعف إيمان مشترك من الطرفين، ولو صدق يقيننا في الله لرزقنا، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً} فليس لدى الطيور مستودعات ولا ثلاجات ولا خزانات ولا إلخ لكنها كل يوم تروح في أرض الله خماصاً خاوية البطون، وترجع بطاناً قد أشبعها الله من فضله، لكننا نحن في طمع وشره، فالمسئول يريد الواسطات؛ لأنه لو جاء صاحب الطلب وأوراقه مكتملة، ومشى أمره، فلن يستفيد من ورائه مصلحة أما في حالة الواسطة فإنه يستفيد؛ إذ إن هذا الواسطة يبادله بمصلحة مماثلة عند الاحتياج، ويخضع له ويحترمه.
وهكذا النفوس إذا خوت من مراعاة تقوى الله؛ وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته} فلو أن كل إنسان اتقى الله وعرف هذا الحديث فلن نحتاج بعد ذلك إلى الواسطة.
فأول ما بدأ قال: {فالإمام راعٍ وهو مسؤول عن رعيته} فذكر أكبر ولاية، ثم ضرب مثالاً لأصغر ولاية فقال: {والخادم راع في بيت سيده} وهي ولاية الخادم.
فما بين الولايتين كلهم مسؤولون، فعليهم أن يتقوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأنه سائل كل راع عما استرعاه؛ فإذا اتقوا الله فلن نحتاج بعد ذلك لا إلى واسطة ولا إلى غيرها.(55/26)
علامات قبول التوبة
السؤال
كيف يعرف العبد إذا ارتكب معصية أن الله تاب عليه؟
الجواب
هذا سؤال عظيم، فكثير من الإخوان من يقول: أنا تبت، فكيف أعرف أن الله تاب عليَّ؟ فاعلم يا أخي الكريم أن من علامات قبول الحسنة أن تفعل الحسنة بعدها، فإذا أديت الحج، فإن علامة قبوله أن تكون في محرم وفي صغر في طاعة الله، فتكون قد انتفعت بذلك الحج فاستقمت، وإذا صمت رمضان فإنك تكون في شوال مستقيماً على الطاعة ومحافظاً عليها وهكذا.
فعلامة قبول التوبة الاستقامة على أمر الله، فإذا استقمت فاعلم أنك قد كرمت عليه، فلما كرمت عليه بالتوبة حجزك ومنعك عن العودة إلى المعصية، لكن لو رجعت إلى المعصية فأنت عليه هين، فلم يحجزك ولم يمنعك، فارجع إليه، ولا تمل بابه؛ فهو الكريم الذي لا يجوز أن نمل سؤاله أبداً، ولا ملجأ لنا ولا منجى إلا إليه.
وقد ذكر بعض العلماء قصة الصبي، وهي تدعو إلى التفكر والتدبر، وهناك من ينظر ويأخذ العبر، وهناك من لا يأخذ العبرة.
رأى بعض العلماء صبياً خرج من بيت أمه وقد أغضبها، فتوعدته، فخرج من البيت ثم لما جاع وذاق حر الشمس، إذا به يرجع ويدق الباب وينادي أمه: " يا أماه افتحي"، ففتحت له أمه واحتضنته، وقالت: ألم أقل لك يا بني: لا تذهب ولا تبعد عني؟! وأنا رحيمة بك وأنا أعطيك، وأنا كذا، قال: فتذكرت على الفور رحمة الله عز وجل، وباب الله عز وجل! أيها الإخوة: الواحد منا يشرد بالمعاصي والذنوب عن الله، وباب الله تبارك وتعالى مفتوح فقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار} يبدل السيئات حسنات لمن تاب، لكنَّ الذي يهرب والذي يشرد إنما هو نحن، فإذا هربنا فإلى أين؟! وإلى متى؟! إننا سوف نرجع إليه وندق بابه مرة ثانية! فيجب علينا ألا نهرب ولا نبتعد عن الله عز وجل، ولا نتبغض إلى الله بالمعاصي، بل نتحبب إليه بالطاعات ليفيض علينا جزيل النعم، ومهما هربنا فلابد أن نرجع إليه، فلنعد إليه ولا نبتعد عن طريقه ولا عن بابه الكريم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(55/27)
حقيقة النصر
السؤال
النصر للداعية والدعوة قد يكون بانتقال الداعية إلى الله، فتبقى الدعوة ويأتي النصر لمبادئ الداعية، أليس كذلك؟
الجواب
بلى! فهذا ممكن، كما فعل الملك الظالم بأصحاب الأخدود حفر الأخاديد وأجج النيران وألقاهم فيها، وانتهت القصة كما في سورة البروج، وإذا قرأنا سورة البروج، فليس فيها ذكر لانتقام الله من الظالمين، ولا يوجد في القرآن في موضع آخر أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى انتقم من صاحب الأخدود ونجَّى أولئك فتتعجب! إنما قتل أتباع الغلام وأُحرقوا، والملك باقٍ ولكن في الحقيقة انتصر الغلام، وانتصر الذين أحرقوا وخدّت لهم الأخاديد، انتصاراً عظيماً وبقي التوحيد، ولو لم يظهر الله عز وجل نصرهم إلا بأن يبعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك بمئات السنين، وينزل عليه هذه السورة العظيمة، ويظهر لنا انتصارهم، ونقرأ هذا القرآن إلى قيام الساعة، ثم نتحدث عن انتصارهم على الكفر وعلى الشرك وعلى نار الدنيا، وأن الله تعالى وعدهم بالفوز الكبير في الآخرة.(55/28)
بشائر النصر
السؤال يقول: هل الأحداث والكروب التي تحدث للمسلمين في زماننا هذا؟
الجواب
نعم! فقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب} فهي بشرى خير، لكن يجب أن نكون أهلاً لنصر الله، انظروا البوسنة كمثال، ولا أريد أن أطيل عليكم بها، كان المسلمون في البوسنة والهرسك لا يعرفون الله، واسألوا أي إنسان من إخواننا هناك، لكن لمّا جاءت هذه المحن وهذه الكروب بدءوا يعرفون الله، ويعرفون الدين، ويعرفون الفرق بين المسلم والكافر! فالصليبيون من الصرب والكروات والغرب ومن وراء الغرب ومن مع الغرب ومن يعطي للغرب الأموال، كل هؤلاء حفروا جرحا عميقاً في الجسد الأوروبي لن يندمل أبداً.
نحن موقنون أننا بإذن الله سنفتح روما، وهذه الأحداث مقدمة لفتحها، وهؤلاء حتى لو وقعوا الصلح واتفقوا كلهم، فالمجاهدون لن يضعوا السلاح -تأكدوا من هذا- وسيستمرون، وهذه المآسي والكرب والاغتصاب والانتهاك سيندم عليه الصليبيون ندماً عظيماً، لكنهم لا يدركون الآن ذلك، إذا كانوا نادمين؛ لأنهم تورطوا في الصومال، فما بالكم بـ البوسنة؟! لكن نظرتنا قاصرة، نولول ونقول: انتهى كل شيء انتصروا، دمروا، فعلوا! هذه عقوبة الذنوب أصلاً، لكن سيأتي الفرج بإذن الله تبارك وتعالى، وما يحدث في فلسطين وفي أي مكان، فلا يأتي هذا الكرب وهذا الأذى وهذا البلاء، ونصبر ونحتسب إلا وبعده النصر بإذن الله، فإن أبطأ النصر فنحن السبب، كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165].
إن وعد الله لا يتخلف، كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] في الحياة الدنيا، وليس فقط في يوم القيامة.(55/29)
حكم شكوى الهموم إلى المخلوقين
السؤال
قلتَ: إنه لا يجوز أن تشكو لأحد همك، ونلاحظ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يشكو هم قومه إلى زوجه؟
الجواب
الأصل أن لا تشكو إلا إذا اضطررت أن تسأل مخلوقاً أو تستعين بمخلوق كأن تشكو إلى طبيب ليعالجك فهذا بقدره، لكن الأصل ترك الشكوى إلا إلى الله تبارك وتعالى.
ونختم بسؤال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو الجواد، المنان، ذو الفضل العظيم، واسع العطاء، واسع الرحمة أن يغفر لي ولكم ما قدمنا وما أخرنا، وأن ينفعنا بما قلنا وما سمعنا , وأن يجعلنا من عباده المخلصين، وأوليائه المتقين، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله.(55/30)
واجب المسلم تجاه مجتمعه
بدأ الشيخ حديثه بذكر أهم الواجبات التي تقع على عاتق المسلم تجاه مجتمعه، مدعماً ذلك بذكر بعض الأمثلة من واقع الصحابة ومن واقعنا، ومؤكداً على ضرورة تطبيق الأخلاق الإسلامية، في واقع الحياة، موضحاً أن صفة الخيرية لا تزال ملازمة هذه الأمة حتى قيام الساعة.(56/1)
الحقوق الواجبة علينا
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا إنك أنت العليم الحكيم.
إن الموضوع الذي نريد أن نتذاكر وإياكم حوله ما هو عليكم بجديد، وإن كان الناس في هذا الزمان قلَّ أن يتحدثوا عن الواجبات ولا سيما عما يجب عليهم هم.
فكما ترون الواقع اليوم: أكثر الناس إلا من رحم الله من أهل العدل -وقليل ما هم- هم الذين يتكلمون عما يجب عليهم، وعما يجب لهم، فإنما يتكلمون عما يجب لهم فقط ولا يتحدثون ولا يبحثون ولا يفكرون فيما يجب عليهم نحو أصحاب الحقوق الأخرى.
فمثلا: نجد أن الرجل أو الزوج كثيراً ما يتحدث عن حقوقه على الزوجة، ونجد الزوجة كثيراً ما تتحدث عن حقها على الزوج، ولكن قل من الرجال من يتحدث بإنصاف عن حق المرأة على الرجل، وكذلك قلَّ من النساء من يتحدثن بإنصاف عن حق الرجل أو الزوج على المرأة.
كما نجد أن الآباء أكثر ما يتحدثون عن حق الآباء على الأبناء، وقلَّ من الآباء من يتكلم عن حقوق الأبناء على الآباء.
ولو نظرنا إلى ما هو أكبر من ذلك، فإنا نجد أن الحكام أكثر ما يتحدثون أو يتكلمون عن حق الحاكم على المحكومين، ولكن يندر أن تجد من الحكام من يتكلم عن حق المحكومين على الحاكم.
وكذلك إذا نظرت إلى الرعية، فإنك أكثر ما تجد الناس يتكلمون دائماً عن حقهم على الحكام، ولكن هل تكلموا عن حق الحكام عليهم هذا قليل.
وهكذا حال الناس إلا من رحم الله تبارك وتعالى، وذلك لما ركب في طبع الإنسان وخلقته من الظلم والجهل الذي لا يعصمه منه، إلا أن يستمسك بهدى الله -تبارك وتعالى- كما قال عز وجل: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72].
ولذلك يجب على الإنسان المؤمن أن يعيد الأمر إلى نصابه، وأن يكون قواماً بالعدل قواماً بالقسط.
وإن تحدث فليكن أكثر ما يتحدث فيه عما يجب عليه؛ لأن الذي لك إن لم تأخذه في الدنيا فسوف تأخذه في الآخرة، لكن الذي يجب عليك، سوف تسأل عنه في الدنيا وفي الآخرة.(56/2)
مجتمعات اليوم وأسلوب تعاملها مع الفرد والمجتمع
نحن نجد اليوم أن المجتمعات في هذه الأرض، وفي هذا العالم المزدحم بالأمواج من الفتن والآراء والأهواء والنظريات والفلسفات، على فريقين: الفريق الأول: مجتمعات أو أمم تهضم حق الفرد، فلا ترى للفرد حقاً ولا تكاد تقيم له وزناً، وهي الدول العقائدية، أو الدول التي قامت على نظريات فلسفية منذ القدم، منذ أن نَظَّر أفلاطون لجمهوريته، وإلى الماركسيين المعاصرين في كثير من دول العالم، وكذلك الحكومات القومية في العالم الإسلامي وغيره، هذه كلها مجتمعات تجحف حق الفرد وتتناساه، وتربي الناس على حق الأمة وواجب الأمة وما ينبغي للأمة.
الفريق الثاني: المجتمعات الرأسمالية، وهي إنما تنزع إلى إحياء وبعث وتعميق النزعة الفردية، فالحق عندهم للفرد، ولا ينظرون إلى المجتمع إنما المهم هو الفرد والإنسان في ذاته.
وهذا -أصلاً- موجود في الفطرة فالإنسانية، الإنسان محببٌ إليه أن يسعى وأن يعمل لذاته وحدها، ولكنَّ ذلك أُصِّل وفق نظريات ومناهج في العالم الغربي الرأسمالي منذ أيام الرأسماليين الأوائل مثل آدم إلى ريكاردو وإلى الآن.
فإن الواقع الذي تعيشه الامبراطوريات المالية -كما يسمونها في العالم الغربي- نجد أفراداً أو قلة قليلة تتحكم في أكثر من ثلثي أو ثلاثة أرباع ثروة المجتمع ومُقدراته وإعلامه ورأيه وفكره.
وهكذا نجد أن الظلم الذي نجده في أنفسنا نحن المسلمين أو الجانب الذي نحاول أن نحاربه في أنفسنا ونشعر به، نجد أنه على مستوى العالم الآخر يكون كأشد ما تكون حالات الظلم وضوحاً وتجلياً، وما ذلك إلا للانحراف عن هدى الله، ومنهجه -تبارك وتعالى- الذي أنزل علينا الكتاب مفصَلاً، والذي تمت كلماته صدقاً وعدلاً، والذي أعطى كل ذي حق حقه، فلا يجور الفرد على المجتمع، ولا يجور المجتمع على الفرد، وإنما لكل منهم حقه المشروع، فلا تتصادم الحقوق ولا تتعارض، ولكن تنسجم وتتلاءم، وكلها فيما يرضي الله -تبارك وتعالى- فينال كل ذي حق حقه بالقسط، دون أن يحيف أو يجور في حالة من الحالات.(56/3)
الحقوق الواجبة علينا تجاه مجتمعنا
نرجع إلى أصل قضيتنا: وهو أنه لا بد للواحد منا -والمقصود بالمسلم عندما نقول: "واجب المسلم" نحن طلبة العلم خاصة- أن يتذكر دائماً أن لهذا المجتمع حقاً علينا، أن المجتمع الذي تعيش فيه سواء كان مجتمع الحي الذي تقطنه، أو القرية التي تسكن فيها، أو المدينة التي تعيش فيها، أو البلد أو الأمة بأكملها، فإن عليك حقوقاً وواجبات تجاهها لا بد أن تُفكِّر فيها، وأن تعمل على أدائها بما يعينك به الله تبارك وتعالى.
وهذه الحقوق لا نستطيع أن نستعرض كل ما جاء فيها من نصوص وأحكام، فهي كثيرة جداً، لكن لابد أن نعلم -جميعاً- القاعدة التي تعلَّمناها من خلال اطلاعنا ومعرفتنا بالمصطلحات والألفاظ في البيان القرآني، أو في البيان النبوي، أن هناك جملة من الألفاظ والمصطلحات والمفردات، وإن تنوعت دلالتها عند الاقتران، فإنها لا تختلف عند الإفراد، مثل: البر، والتقوى، والخير، والهدى، والصلاح وأشباه ذلك، فإنها تُؤدي -جميعاً- إلى حقيقة واحدة ومؤدى واحد، وهذا من بلاغة البيان القرآني والبيان النبوي، وسمو وجمال اللغة العربية التي اختارها الله تبارك وتعالى، لتكون أداة لحمل هذا الدين، ولله الحمد.(56/4)
النصيحة
يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جانب المعاملة وجانب الحقوق: {الدين النصيحة} انظروا! كيف كانت الجملة! مبتدأ وخبر، مسند إليه ومسند، بأبلغ وأوجز ما يمكن من العبارات، ولكن ذلك يشمل الدين كله، والخير كله، والبر كله، ولهذا لما قال أصحابه صلوات الله وسلامه عليه وعليهم جميعاً: لمن يا رسول الله؟ قال: {لله ولرسوله ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم} أي: وكأن الدين كله تجمعه كلمة واحدة، وهي كلمة النصيحة، فلا بد أن يكون المسلم ناصحاً.
والنصيحة تجمع أمرين: تجمع الإخلاص، وتجمع الصدق، فكأنك بهذه الكلمة تقول: كن مخلصاً وكن صادقاً، فإن الرجل إذا نصحك، ولو كان كلامه، وتوجيهه وإرشاده لك حقاً، ولكن لم يكن عن إخلاص، فإنه لا يُسمى ناصحاً، وكذلك لو كان مخلصاً في قوله، ولكن لم يكن صادقاً فإنه لا يُسمَّى ناصحاً.
فحقيقة النصيحة ما يجمع معنيين: الإخلاص والصدق، ولهذا قال الرسل الكرام: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ} [الأعراف:62] {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف:68] فكأن عمل الدعاة يتلخص في أن الواحد منا يجب أن يكون ناصحاً أميناً، ينصح لهذه الأمة، كما بيَّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ينصح لله أولاً، ولكتاب الله تبارك وتعالى، ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم للأمة خاصتها وعامتها، فلا بد أن يسأل الإنسان نفسه عن ذلك: هل أنا ناصح فعلاً؟ وهل نصحت؟ وهل قمت بهذا الواجب؟ هذه أسئلة لا بد للإنسان منا أن يتأملها مع نفسه ومع إخوانه في الله، لينظر ما موقعه من هذا الحديث الشريف العظيم، الذي هو من جوامع كلمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(56/5)
أحب لأخيك المسلم ما تحبه لنفسك
ومثله وقريب منه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه} هذا كلامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونأخذ من الحديث أهمية المحبة، وهذه المحبة لا تتعارض مع النص بل تقتضيه ويقتضيها، أن أحب لأخي ما أحب لنفسي.
والمقصود هو: أخوك المسلم، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {المسلم أخو المسلم}، وكما قال: {وكونوا عباد الله إخواناً}.
إذاً: لا بد أن تعلم أن أخاك المسلم يجب عليك أن تحب له من الخير مثل ما تحب لنفسك، فإن كنت تحب الجنة، فلابد أن تسعى لتجعل أخاك ممن ينالها ويسعى في طريقها، تريد أن تنجو من النار، فأحب لأخيك أن ينجو من النار، تحب أن تؤتى الخير، وأن تعطى من الدنيا أو من خير الدنيا أو خير الآخرة، فأحب ذلك لأخيك المسلم، تحب أن يُسمع لك، فاسمع لأخيك المسلم، تحب أن تُطاع فأطع أخاك المسلم، تحب أن تُحترم، فاحترم أخاك المسلم وهكذا ضع نفسك مكانه وليكن ميزانك ميزان العدل والقسط.
فحينئذٍ تجد أنك تحقق -بإذن الله- هذا الواجب العظيم، الذي قلَّ من يرتقي إليه من المسلمين، وبذلك تصبح ممن يعيشون في درجة عالية، وعظيمة جداً، يغبطك عليها أكثر الخلق وأنت لا تشعر بها؛ لأنه ليس في هذه الدنيا من هو أكثر سعادة في حياته من الإنسان الذي سلم قلبه من الغل والحقد والحسد والغش لإخوانه المسلمين أبداً، هذا هو الإنسان الذي يعيش في اطمئنان.
إنْ كَثَّر الله خير إخوانه المسلمين وعافيتهم وأرزاقهم، فرح بذلك واطمأن، وإن ضاقت عليهم الدنيا ورأى من حالهم ما لا يرضى فإنه لا يشمت بهم، مهما آذوه، وإن كان بينهم أشد ما يكون من الخلاف، بل إنه يسأل الله تبارك وتعالى أن يعافيهم وألاَّ يبتليه، فيعيش مطمئن البال قرير العين مما وصل إليه من هذه الأمانة وهذا العدل، لأنه تحمل الأمانة حق التحمل، حتى أصبح يزن بميزان العدل الذي قلَّ من يتمسك به، ولا سيما في أواخر الزمان.
فالإنسان المسلم يستشعر هذا الواجب دائماً، الجار يشعر بواجبه الذي عليه لجاره، وكذلك الجار الآخر وهكذا نجد جملة من الحقوق تنظم حال المسلم ودنياه.(56/6)
الرسول صلى الله عليه وسلم والاهتمام بمن حوله
الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحابته الكرام هم المثل والنموذج الأعلى في أداء الحقوق، فكيف كانت حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ كان هو معلم الأمة، وكان هو الحاكم والوالي فيها، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الزوج الذي قام بحقوق الزوجية كاملة، وكان هو القائد الذي يقود الجيوش في المعارك، وكان هو المربي، وكان هو الشفوق والعطوف الحنون على الفقير والمسكين والأرملة، وهكذا جملة عظيمة من الحقوق قام بها صلوات الله وسلامه عليه خير قيام، مع أنه صاحب الفضل على هذه الأمة جميعاً، فهو الذي أخرج الله تبارك وتعالى به الأمة من الظلمات إلى النور.
كيف كان أصحابه الكرام؟ هل تعلمون أحداً من الصحابة أو حتى من العلماء التابعين أو تابعي التابعين كان يعيش هو وطلابه وحدهم منعزلين، يجتهدون فيما ينفعهم وحدهم، ولا يفكرون في حال الأمة ولا ينصحون لها، ولا يحسنون إليها، ولا يشفقون عليها؟! لا تجدون ذلك أبداً، بل هم أشفق وأرحم الناس بالناس، هم الذين إن وجدوا الضعيف، وإن وجدوا الأرملة، وإن رأوا المحتاج أو المعتوه أو الأسير أو الفقير، فهم أول من يبادر إلى بذل الخير له والإحسان إليه، وحث الخلق على ذلك.
هم الذين بلغ بهم ذلك الموقف الإنساني الرفيع حداً لا يصدق، حتى كان الواحد منهم إذا اكتسى حلة يكسو غلامه، ويقول: هكذا علمنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هكذا كان في عصر كانت الشعوب يستعبد بعضها بعضا، ويستذل بعضها بعضاً.
وأما اليوم فهل سمعنا عن بعض أرباب العمل وأصحاب الشركات والمؤسسات -مثلاً- من يشعر بالشفقة نحو عماله إلى حد أنه إن أكل أكلاً لذيذاً أو لبس لباساً نظيفاً، يتمنَّى مثل ذلك لعماله ولو أمنية بالقلب إلا من رحم الله؟! هؤلاء قوم لم يكونوا يتخطون أقرباءهم ولا جيرانهم ولا من حولهم من المجتمع، إلى من ورائهم، وهم إنما يتخطونهم بالخير والهدى والنور، ولكن نورهم وعلمهم شمل تلامذتهم، وجيرانهم، ومجتمعاتهم، وشمل حكامهم ومحكوميهم، حتى أصبحت حياتهم كلها خيراً ويمناً وبركة! الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تستوقفه المرأة العجوز في الطريق فيتنحَّى لها، ويقف ويستمع حتى يقضي حاجتها، ثم ينصرف.
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجلس، وتأتي إليه المرأة تجادله في زوجها، وينزل الوحي من السماء: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1].
انظروا! إلى هذا الاهتمام بأحوال الناس، وبواقع حياة الناس، لكي يأخذ بأيديهم صلوات الله وسلامه عليه إلى الطريق القويم، وربه تبارك وتعالى من فوق عرشه العظيم يوحي إليه ويسدده ويوجهه ويبارك خطواته وأعماله وأقواله، وهكذا كان أصحابه الكرام.(56/7)
الصحابة والقيام بالحقوق
كيف عاش عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ هل عاش عمر بن الخطاب لنفسه أو لأهله؟ لا! أمَّا ما بين العبد وربه، فقد قاموا بحق الله -تبارك وتعالى- خير قيام.
وحسبهم أن يثني الله -تبارك وتعالى- عليهم: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]، وغير ذلك من الثناء: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] وهكذا أثنى الله تعالى عليهم، وزكَّاهم فيما بينهم وبينه، وما بينهم وبين غيرهم من الناس، لذلك نقول: عبادتهم لله قمة لم نصل إليها، لكن كيف كانوا في معاملتهم لعامة الخلق؟! كيف كان عمر رضي الله عنه مع الأرملة؟! كيف كان مع العجوز؟! كيف كان مع الذمي الذي يراه هرماً كبيراً؟ فيقول: [[ما أنصفناك أخذنا منك الجزية شاباً وتركناك كهلاً]] فيصرف له من بيت المال ما يكفيه! وحتى العلماء والصالحون كان تعاملهم بالبر، وكان الواحد منهم مع شدة حاجته وما يعتريه من العوز، يتصدق بالصدقة يعطيها أخاه، فيأخذها الأخ فيعطيها أخاه، فيأخذها الآخر فيعطيها أخاه، فلا يدري الأول إلا وقد رجعت إليه، ومن كثرة تعاونهم حققوا قول الله تبارك وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].
حققوا معنى الأخوة الإيمانية، وكما كانت بعثته صلوات الله وسلامه عليه، ودينه رحمة للعالمين، كانت حياتهم وأخلاقهم وتعاملهم رحمة للعالمين!(56/8)
واقعنا في الاهتمام بمن حولنا
أقول: لو استطردنا في هذه الأمثلة لوجدنا العجب العجاب، ولكن ما واقعنا نحن؟ وكيف حالنا في مثل هذه الأحياء التي نسكنها ونعيش فيها؟ مع الجيران والأهل والجماعة ومع القبيلة والزملاء في العمل وغير ذلك؟ هل نحن على هذه المثل والقيم الرفيعة العظيمة التي علَّمنا إياها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه وعلماؤنا الأجلاء، أم نحن دون ذلك؟ الملاحظ أن بعض الشباب، وبعض طلبة العلم همَّه نفسه، يتعلم العلم ولا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فيعلمه ذلك العلم، لا يعلم الزوجة ذلك العلم، ولا يعلم جاره ذلك العلم -ولو شيئاً منه- حتى أبناءه أحياناً! وتتراكم لديه المسائل، ويجمع المسائل والأحكام بعضها فوق بعض، إلى أن يُذهِب آخرها أولها، وينسي بعضها بعضاً، ولم يخرج ولم ينفق منها شيئاً.
يرى الناس يتهافتون على المعاصي، ويراهم يتسابقون على طريق النار والعياذ بالله، يراهم تفتك بهم الفتن والمحن والأهواء والشهوات من كل جهة، وهو مطمئن بما أعطاه الله من العلم والهدى والخير، وغاية ما يقول: الحمد لله الذي عافاني من هذا الأمر الذي وقع فيه كثير من الخلق! نعم! الحمد لله على ذلك، ولكن ما الذي فعلت؟ ما واجبك نحوهم؟ الحمد لله الذي وفقك فعرفت حق الله عليك في صلاة الجماعة، لكن ما واجبك نحو جارك الذي لا يُؤديها جماعة، وربما لا يؤديها مطلقاً.
الحمد لله الذي علَّمك أن تُطعم الفقير والمسكين، لكن هل بذلت مثل هذه النصيحة لجارك أو زميلك صاحب المال -صاحب العمل- صاحب المؤسسة فيمد يده بالخير إلى المحتاجين والمحسنين الآخرين، أم أنك أنت تؤدي ما عليك إن أديته، ولا تبالي أن يؤدي الآخرون؟ وهكذا؛ وبذلك وقع التخلخل في المجتمع.(56/9)
نظرة الناس إلى طالب العلم إذا لم يهتم بهم
أصبح الإنسان المسلم ينظر إلى طالب العلم ويتأمل، أو يظل يُفكر ماذا يريد مني؟ الآن لو أن أحدنا قدم على جماعة من الناس ورأوه: ماذا يتوقعون؟ يفكرون بماذا سوف يأمرنا وماذا سيطلب منا! وكأنا أصبحنا نأمر فقط ونطلب، لكن ماذا نعطي؟! وماذا نقدم؟! كان الناس إذا رأوا أحداً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبشون وتتهلل أساريرهم ويفرحون، لأنه جاء يعطيهم، ويبث لهم من هدايا الخير وعطاياه، يعطيهم آية من كتاب الله تبارك وتعالى، يُعلمهم سورة من القرآن، يُعطيهم حديثاً عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ينصح لهم، بل ربما أعطاهم من ماله.
أما نحن فيتوقع منا أوامر، يتوقع منا إنكاراً، وغلظة وشدة.
فإذا رآك ليناً هيناً، فرح واستبشر واطمأن، وقال: يا أخي! بارك الله فيك، يا ليت الناس كلهم مثلك! يا ليت طلاب العلم يعاملونا هذه المعاملة! قد شعر بأنك غريب ومعاملتك غريبة؛ لأنه لا يوجد أحد يُشعر الناس حقيقةً بهذا الخير الكامن في قلوبنا، لم نحوله إلى واقع، وعمل، إلى محبة، وتآلف، أصبح الشاب المسلم إذا اهتدى، كأنه مثل الذي نجا في جزيرة من الجزر بنفسه ونأى بحاله، فلا يريد أن يمد جسراً إلى الآخرين لينجوا، كلما رآهم يغرقون يفرح، وربما يشمت بهم وهم يغرقون! مُدَّ إليهم الحبال! مُدَّ إليهم جسور الخير! عَبِّدِ الطرق كي ينجو إخوانك كما نجوت!(56/10)
طرق الاهتمام بالمجتمع وفعل الخير
كثير منا لا يفعل ذلك: وكثير منا يقول: وماذا نفعل؟! وماذا نصنع؟! هل ضيق الله تبارك وتعالى علينا طرق الخير ووسائل الخير التي بها نحقق هذا الواجب علينا؟ لا! يقول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].
أليس سبيل الله واحداً؟! قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153].
إذاً: طريق الله واحد، وسبيله واحد، فعندما يقول هنا: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، هذه طرق الخير، فالخير له طرائق كثيرة! والجنة لها ثمانية أبواب، ومن الناس من يدخل من باب، ومنهم من يدخل من آخر، فلم لا تعمل يا أخي المسلم لكي تُدعى من أكثر أبوابها، إن لم يكن من أبوابها كلها؟! ابحث عن السبيل الذي أهّلك الله به ومكنك منه أن تدخل إلى الخير، وإلى رضا الله وإلى إصلاح حال هذه الأمة، فلا تتردد فيه ولا تدع الفرصة تفوتك منه.
اغتنم شبابك وعمرك ووقتك وما أُهِّلت له، لتدخل من هذا الباب إلى رضوان الله -تبارك وتعالى- وهداية الخلق، واعلم أن رجلاً واحداً يهديه الله -تبارك وتعالى- على يديك خيرٌ لك من حمر النعم، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.
واعلم أن {موضع سوط أحدنا في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس} كما أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذن: لماذا لم تبادر إلى أي عمل من أعمال الخير؟ لا تقل: ليس عندي إلا القليل من العلم! إن كنت طالب علم فابذل من هذا العلم، فما لديك فابذل منه، وتوقع أو تخيل أو تصور أنك أنت طالب العلم الوحيد في هذا الحي! أو أنك أنت صاحب المال الوحيد في هذا الحي، أو أنك أنت الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الوحيد في هذا الحي، لكي تعمل كثيراً ولا تستكثر أي عمل تعمله.
وإذا عمل كلٌ منا كذلك رأينا الخير -بإذن الله تعالى- يعم وينتشر في المجتمع كله، ولكن انظر إلى واجبك أنت، واعلم أنك لو لم تنفق إلا ريالاً واحداً، فلعلك تضع هذا الريال في يد رجل يرفع يده إلى السماء ويقول: اللهم بارك له، اللهم ارزقه، اللهم وفقه، فيبارك الله -تبارك وتعالى- لك في مالك وأعمالك، ويدفع عنك شراً عظيماً جداً بهذا الريال الذي وضعته وأنت لم تلق له بالاً، وربما قلت كلمة، فهدى الله تبارك وتعالى بها من لم تكن تطمع ولا يطمع غيرك أن يهديه الله تبارك وتعالى.
وليس شرطاً أن ترى ثمرة كلمتك الآن، ربما رميت الحبة وأنت تحرث أو تبذر الزرع فوقعت على حجر ولم تنبت شيئاً، ولكن قد يأتي بعد شهور أو أيام وتأتي الرياح وتأتي الأمطار وتدحرج تلك الحبة وتلقيها في الأرض وتنبت وتثمر وتصبح شجرة عظيمة، وجناها وثمرتها لك، وأنت لا تعلم، وأنت لا تدري متى ألقيتها وأين ألقيتها، لكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وهو الذي ينمي ويربي الخير ويزكيه، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة من فضله وجوده تبارك وتعالى.
فلا تحقر شيئاً من الخير، ولا تحقر شيئاً من المعروف، ولو أن تلق أخاك بوجه طلق، تقول له: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وتصافحه؛ فتتحات ذنوبكما كما يتحات ورق الشجر، سبحان الله العظيم، فلماذا نفوت هذا الخير؟!(56/11)
تنافس الصحابة الكرام على الخير
اشتكى الصحابة رضي الله عنهم عندما جاءوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والذي هو بالمؤمنين رءوف رحيم، فقالوا: {يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور} وهذا التنافس ليس هو تنافس الفقراء والأغنياء، كما صورته الرأسمالية والشيوعية الكادحون، والطبقات البرجوازية ضد الطبقات الرأسمالية! لا، بل تنافس في الأجور: {ذهب أهل الدثور بالأجور} أي أهل الأموال، ثم قالوا: {يُصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم} أي: زادوا علينا بالصدقة، ونحن لا نملكها، فعلمهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: {تُسبحون الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمدون ثلاثاً وثلاثين، وتكبرون ثلاثاً وثلاثين}، ففعلها أولئك، وقالوا: الحمد لله! وجدنا باباً عظيماً من أبواب الخير نسبق به إخواننا.
فلمَّا فعل إخوانهم ذلك، جاءوا وشكوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -انظروا التنافس إلى الخير- فقالوا: {يا رسول الله! قلنا ذلك فقالوا كما قلنا -أي: ما الحل؟ - قال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء}.
ابتلاكم لتصبروا بالفقر، وابتلاهم ليشكروا بالمال وبالنعمة، لكن هذا هو الواجب أن نتنافس -جميعاً- في هذا الخير وأن نذكر الله، وإن لم نجد شيئاً فلندع الله تبارك وتعالى.(56/12)
الاهتمام بالمسلمين والدعاء لهم
من منا لا يألم عندما يرى هذا الواقع المحزن المؤلم لهذه الأمة من أقصاها إلى أدناها؟ ويتذكر أن الدين النصيحة، ويتذكر أنه {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه}، ثم يقول: لا أملك شيئاً، لا، بل أنت تملك ما لا يستطيع أي عدو للإسلام أن يملكه، وما ليس في إمكان أية قوة في الدنيا أن تملكه، وهو الدعاء، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {رب أشعث أغبر ذي طمرين، لو أقسم على الله لأبره}، الله أكبر، يقسم على رب العالمين، ويبره رب العالمين! لله سبحانه أولياء، وله عباد صالحون لهم عنده من الشأن والمنزلة ما الله به عليم، فلِمَ لا ترفع يديك؟ ارفع يديك وتضرع إلى ربك تبارك وتعالى بسجدة في جوف الليل لا يراك أحد، قبل السلام في كل الصلوات، وأنت ذاهب إلى بيت من بيوت الله, وأنت تضع اللقمة أو الريال في يد فقير أو محتاج، وأنت ترأف بمسكين أو تشفق عليه.
ادع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كم من هؤلاء الذين إن شفع فهو جديرٌ بألاَّ يُشَّفع، وإن خطب فهو جدير بألا ينكح ولا يُزوَّج، وإن طلب فهو جدير بأن يرد ولا يعطى، ولكنْ بينه وبين الله باب مفتوح، لو رفع إليه يديه بصدق وضراعة لحصل الخير، كما يريد الله تبارك وتعالى.
إذاً: ارفع يديك وادع الله، واعلم أنك لو دعيت لنفسك فربما يستجاب لك، وربما لا يستجاب لك، وإن كنت على أية حال لست بخاسر أبداً، لأنه كما جاء في الحديث: {إن ربكم حي كريم يستحيي من عبده أن يرفع إليه يديه فيردهما صفراً}.
أي: يردهما خاليتين، فلا يمكن ذلك ولو ذهبت إلى أي كريم من الناس وطلبته وأنت تعرف كرمه، واجتمعت فيه الصفتان الكرم والغنى، هل يردك؟ يستحيل على كريم غني أن يرد أي واحد يأتيه، ولو بشيء بسيط، فكيف بمن له الغنى المطلق والكرم المطلق، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، الذي طلب منا أن ندعوه، والذي يصدق فيه ما قال الشاعر:
الله يغضب إن تركت سؤاله وبُني آدم حين يُسأل يغضبُ
وقد قال الكريم الغني المفضال تبارك وتعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، يريد أن ندعوه، ادعه، ولن تكون خاسراً، بل أنت كاسب في أي حال من الأحوال، لكن ربما يحول بينك وبين الإجابة شهوات أو شبهات، أو ارتكاب لذنوب، أو محرمات، أو أكل مال حرام، أو أي حائل من الحوائل، لكن إذا دعوت لأخيك يستجاب لك بإذن الله تبارك وتعالى، لأنها دعوة عن إخلاص، لأن ذنبك أنت وتقصيرك لا ينسحب عليه فتدعو الله تبارك وتعالى له، فيقال: آمين ولك مثل ذلك! إذن لماذا نترك هذا الدعاء؟!(56/13)
ما يمكن أن نعمله من أعمال الخير
نستطيع أن نعمل ما هو أكثر من الدعاء؟! ألسنا نستطيع في كل حي من الأحياء، بل في كل مسجد أن نوجد لجنة أو أكثر من اللجان، للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وللخير وللإحسان وللشفقة، ولنتواصى بالمرحمة كما أمر الله تبارك وتعالى، لنحنو على ضعيف أو مسكين، أو إنسان استهوته الشهوات أو الشبهات، فتاه وضل عن الطريق المستقيم، ألا نستطيع؟ ألم يعمل الإخوة الكرام -بارك الله فيهم- لجنة لمكافحة التدخين؟ هل أثمرت أو لم تثمر؟ ما رأيكم؟ أثمرت نجاحاً عظيماً جداً، كم من صاحب محل الآن يكتب نحن لا نبيع الدخان، عندما تجلس معه يقول: الله يجزيهم خير! الحمد لله، أنا أصلي وأصوم وأحب الخير، وإذا رأيت الإنسان من بعيد لا يدخن، حمدت الله، وإذا رأيته يدخن استعذت بالله منه، وابتعد عن طريقه، وهو الذي كان بالأمس إذا رأى المدخن استبشر، وكان إذا قلت له: لا تبيع الدخان، قال: الزبائن لا يأتون إلا من أجله، لو لم أبعه فلن أعمل، لكن كيف تحول، كيف تغير؟ لما وجدت لجنة ودعوة ونصيحة، انتفع، ولله الحمد.
لجان للفقراء، لجان لمناصحة أصحاب المنكرات في الأحياء، وأنا أطالب الإخوة أن يتركوا الأسماء هذه، لا يهم سموها لجنة أو جمعية، أم لم يسموها شيئاً، لا يهم هذا، المهم يكون منا ثلاثة أو أربعة أنفار يذهبون ويمرون على صاحب المحل: ماذا تبيع؟ يقول: عندي أغاني، يقال له: يا أخي الكريم! اتق الله، يقول لك: عندي تصريح، قل له: ما أتيت أخاطبك للتصريح ولا نحن من موظفي الإعلام، نحن جئنا نقول لك: إن هذا حرام، يفتح الله له نور قلبه، وتستنير بصيرته ويتوب قبل أن يدركه الموت، وهو على هذه المعصية.
إنسان آخر يتهاون بصلاة الجماعة، فهل الذي يعد نفسه آمراً بالمعروف، يخبر الهيئة ليوقفوه؟! ليست مهمة الهيئة أن يأتوا ليأخذوه، اذهب أنت في ثلاثة نفر، وقل له موعظة يخشع لله، ويرق قلبه، ثم يأتي معك إلى المسجد، فتكون قد كسبته إلى الخير، وبعد ذلك تكسب به من وراءه إن شاء الله.
وهكذا إذا كان معك في كل حي أو في كل مسجد أو جماعة أو قبيلة أو مجلس تجلسه فيه شيء من هذا التعاون والتواصل، بدلاً من أن تضيع الأوقات أو يتشتت المجتمع، إما أن نضيع أوقاتنا في لهو ولعب وغيبة ونميمة، وإما نتشتت فلا يلتقي منا اثنان كل مشغول في دينه، والخير في هذه الأمة مهمل ومنسي.(56/14)
خيرية الأمة الإسلامية وضمانات البقاء
اعلموا أن هذه الأمة فيها خير عظيم, خير لا نكاد نتصوره نحن، ربما وجدت ذلك الإنسان الذي مظهره من بعيد يشعرك بالمعصية -مثلاً- أو يشعرك بالتقصير، ربما لو قدحت هذا الخير الذي في قلبه لأصبح نوراً عظيماً يشع ويضيء للحي كله، أو للبلد كله، ولكن من الذي قدح ذلك الخير؟ من وعظه؟ ومن ذكره؟ ومن جالسه؟ ومن صاحبه؟ ومن أهدى إليه؟ أهد إليه هدية: كتاباً، شريطاً أهد إليه هدية من هدايا الدنيا، أشعره أنك تحبه، ثم خاطبه من جسر المحبة.
أمتكم -الحمد لله- على خير! هذه الأمة فيها الخير إلى قيام الساعة، لا تظنوا أن ما وقع فيها من شهوات أو شبهات، سيمحو منها الخير.
إن ما انتشر في المجتمع الإسلامي من فواحش أو رذائل أو موبقات إلى غير ذلك، إنما هو بفعل الشهوات النفسية والشيطان، والاحتكاك بالغرب، لكن لا تزال المجتمعات الإسلامية اليوم، هي أفضل أنواع المجتمعات وأكثرها تواصلاً ولله الحمد، فالمجتمعات الأخرى تفككت ولا يرتبط بها أحد بآخر.
قد يكون هناك تماسك في المجتمع، لكن الصلات الأسرية مفقودة تماماً، ونحن -والحمد لله- لدينا الكثير من طرق الخير.
انظروا كيف كنا قبل رمضان، فلما جاء رمضان اجتمعنا في بيوت الله، واستمعنا إلى ذكر الله، وتسابقنا إلى الصناديق لنتصدق وننفق، وأخذنا نتساءل: كم عندكم في الحي من أرامل؟ كم عندكم من محتاجين؟ هل فعلتم كذا؟ هل جمعتم كذا؟ وإذا بكل واحد منا يدل الآخرين على الخير، ثم ذهب رمضان فتراخينا، وإذا بنا الآن نقول: ما هو الحل؟ فجاء الحج وهو موسم جديد، وفيه خير، وفيه وفيه وهكذا، ولا يأتي موسم إلا وبعده موسم تتحرك الأمة فيه.
فالأمة الإسلامية بنيان، لكن على ماذا يقوم هذا البنيان؟ لا يقوم على اللبن، أو الحجارة، ولا يقوم على أي شيء، ولكن الحديد الذي بداخله هو أساس قيامه، وهم طلبة العلم وأهل الخير في هذا الحي أو في أي حي، هم مثل الحديد، إذا قام الحديد وقوي، فسيجتمع عليه بعد ذلك ما يوضع من البناء، ويكون كله قوياً بإذن الله تبارك وتعالى.
فالواجب علينا رجالاً ونساءً صغاراً وكباراً، أياً كان موقعنا، أن نتذكر هذا الواجب وأن نسعى إلى نشر هذا الخير، وأن يعلم كل منا أنه مسئول أمام الله تبارك وتعالى في حدود ما يستطيع، وأن الواجب علينا أن نكون أمة داخل الأمة، أن نكون كما أمر الله تبارك وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] هذه الأمة وهذا عملها داخل الأمة التي قال الله تبارك وتعالى فيها: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، وكما قال تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143]، فنحن طلبة العلم ورواد بيوت الله، والذين نحب الخير أمة داخل الأمة الإسلامية الكبرى، نحن مجتمع داخل هذا المجتمع، لا ننفصل عنه ولا ننعزل، لكن نقوم بواجب القِوامة والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيهدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بنا هؤلاء ونكون ممن يدعون الناس، فهم بعد ذلك يستجيبون لله وللرسول إذا دعاهم لما يحييهم، ولمن يدعوهم إلى الله تبارك وتعالى من دعاة الخير والهدى والإصلاح في المجتمع.(56/15)
من مظاهر التعاون على البر والتقوى
أقول: أي شكل من أشكال التعاون لا تضيعوه، لا تفتقدوه فيما بينكم، واعلموا أن كل حي فيه الكبير في السن الذي له قيمته، والذي لديه وجاهة عند الناس، وفيه الموظف الذي يُمكن أن يؤثر على الحي وعلى غير الحي، فيه التاجر الذي يمكن أن ينفع الله بماله في هذا الحي، فيه الشيخ أو طالب العلم الذي ينبغي أن ينفع الله تعالى بعلمه في هذا الحي.
فيجب أن نتعارف، كثير من الإخوان يقول لي: لماذا لا نتعاون؟ وأقول: لأننا أصلاً لم نتعارف؟! فكيف نتعاون ونحن لم نتعارف، ونحن في شبه غيبوبة عن العلاقات التي أمرنا الله بها، لكن عندما نتعاون ونتعارف ونتحاب، ونشيع الخير فيما بيننا؛ فإن ذلك مما يرفع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به رءوسنا ويعزنا، ونشعر بحال أمتنا خارج حدود حيناً أو مدينتنا، سنشعر بأحوال إخواننا المسلمين الذي يقتلون في كل مكان.
وأحياناً نقول: لماذا -نحن أهل هذا الحي- لا يكون لنا عمل معين في بلد من بلدان المسلمين، لماذا لا يكون هناك مركز إسلامي دعوي -مثلاً- في مدينة من مدن الصومال أو كشمير، أو البوسنة لهذا الحي، وباسم هذا الحي؟ لماذا لا يكون باسمنا -نحن أهل الحي- طبع كتاب دعوي خمسين ألف أو مائة ألف نسخة وترسل إلى أنحاء العالم؟ حينئذٍ نفرح ويهنئ بعضنا بعضاً: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
لو نجحنا في إيجاد شبكة مجاري أو مياه أو شبكة هاتف -وهذا أمرٌ مطلوب- فإننا نفرح ونقول: ما شاء الله! مجلس الحي حقق هذا المشروع ولكن لماذا لم يجتهد -أيضاً- في أمر آخر من أمور الدعوة؟ لماذا لا يكون هناك أشرطة كل أسبوع توزع؟ إن كان حجاً عن الحج، وإن كان صياماً عن الصيام، وهكذا إذا توكلنا على الله فعلاً وفقنا الله لذلك.
بعض الأحياء يكثر فيها الفقر، وبعض الأحياء يكثر فيها العمال، وبعض الأحياء يغلب عليها الترف والبطر، وهكذا تختلف الأحياء في كل مكان بمقتضى حالنا وواقعنا، فمن يعالج هذا الواقع وهذا الحال بالعلاج الرباني؟ وبهذا الدين الذي أعطانا الله؟ وكل الإخوة في حيهم يستطيعون أن يضعُوا بنفس التفصيل الأعمال الخيرية للحي، والتخصيص يترك لهم، ولا أستطيع أنا أو الأخ أو الشيخ فلان بن فلان، لأنهم أعلم بالحي وأعلم بظروفه وأعلم بواقعه.
أرجو ألاَّ أكون أطلت عليكم، وأرجو أن يجعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذا اللقاء مذاكرة فيما بيننا ليشعر كل منا بواجبه، ويستشعر ما ينبغي أن يفعله تجاه إخوانه حتى تكتمل -أو تقارب الكمال- صورة ونموذج المجتمع المسلم الحي الذي يشد بعضه: {كالبنيان يشد بعضه بعضاً} كما ضرب المثل بذلك الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن كان من أسئلة حول هذا الموضوع خاصة فيمكن أن نستعرضها إن شاء الله، وأرجو ألاَّ يخرج أي واحد منا إلا وقد وضع في ذهنه أي تصور، حتى لو لم تستطع أنت أن تفعل شيئاً من هذا ضعه في يد مندوب الحي، قدمه إلى إمام المسجد، أو إلى خطيب الجمعة، أو إلى مدير مركز الدعوة، أو إلى داعية من الدعاة، قدم له ما تراه من مثال أو نموذج لكي يكون المجتمع متآخياً مترابطاً، ويحقق كل أخ لإخوانه المسلمين ما ينبغي أن يكون بإذن الله تبارك وتعالى.(56/16)
الأسئلة(56/17)
الوالد الذي لا يصلي
السؤال
ما واجب المسلم نحو والده الذي لا يصلي ولا يطيع الله ورسوله، ويشتم الدين الإسلامي، ولكنه يصوم رمضان ولا يصلي؟
الجواب
حسبنا الله ونعم الوكيل، نعوذ بالله، اعلموا أن حق الوالدين عظيم -ولو كانا مشركين؛ لأن الله -تبارك وتعالى- يقول: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] لا تطعهما فتشرك بالله أو تعصي الله سبحانه، ولكن مع ذلك قال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15].
أي: بأن تحسن إليهما، وترعى شئونهما، وتقوم بحقوقهما، وتشتري لهما كل ما يحتاجان إليه، وما طلباه من الخدمة تقوم به، ومع ذلك تجتهد بأن تنصح للأب أو للأم أو كليهما، اجتهد أن تنصح لهما، ولكن لا تطعهما في معصية الله.
وإنَّ من معصية الله عز وجل، والتي يغفل عنها كثير من الناس في باب الحقوق والواجبات، أن بعضهم يقول: إن من واجب الأب عليه إذا أمره أن يظلم زوجته أو أخاه أو جاره، أن يفعل ذلك! ويقول: أبي أمرني، أو أمي أمرتني!! لا يا أخي الكريم! لا يجوز لك أن تعصي الله تبارك وتعالى براً بأحد وتقول بأنك تبر بأحد، لكن أنت من واجبك أن تتحمل أنت لأمك أو لأبيك، أما أن تظلم أخاك أو زوجتك أو جارك بأمر من أبيك، فلا يجوز ذلك، فتنبهوا لهذا، جزاكم الله خيراً.
أما كونه يصوم رمضان ولا يصلي، هذا لا ينفعه ولا يتقبل منه، وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم وهم خير القرون، وهم الذين إجماعهم هو آكد الاجماعات، أن تارك الصلاة كافر، ولم يكن الصحابة رضي الله عنهم يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر سوى الصلاة، وقد ثبت ذلك بالإجماع عن بعضهم وعن بعض التابعين، أن ترك الصلاة تركاً مستديماً بحيث لا يصلي لله تعالى فريضة، أن فاعل ذلك كافر، لا حظ له في الإسلام، ومستند ذلك الإجماع قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} وغير ذلك.(56/18)
الاهتمام بالعلم وترك الدعوة
السؤال
إنني أسكن في حي من أحياء جدة وفي الحي طلبة علم كثير، ولكن لا ينصحون ولا يذكرون ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، وهمهم فقط حضور الدروس العلمية والتجمعات في المساجد والمنازل، وليس لديهم مجهود يذكر لحيهم، يقول: وإني في الحي وحيد، أذهب إلى مساجد كثيرة، وأسمع أكثر من خمس مواعظ وألقيها في الأسبوع، وألاحظ أن الناس بحاجة إلى المواعظ، وتذكيرهم بدينهم، والشيطان يثبطني أحياناً، ويقول: انظر إلى الشباب مستريحين، وأنت تدور على المساجد، وأحياناً يقول لي: إنك ليس لديك إخلاص، وأنا أخاف الرياء؟
الجواب
هذه مصيبة عندما توجد مثل هذه الشكوى، انظروا كيف هذا الأخ المسكين، من غربته في الحي بدأ الشيطان يشككه، ويوسوس له: أنك تعظ إلا لأنه ليس عندك إخلاص، تريد الناس أن يمدحوك، وهذا من الشيطان نعوذ بالله منه، ويريد أن يدخل منها إلى قلب هذا الأخ، نسأل الله أن يثبتنا وإياه على الحق.
الواجب على الإخوان في كل حي، أن يتآزروا ويتعاونوا، ويتعاطفوا، وأرجو من الإخوان أن يجربوا، وكثيراً ما نتكلم، ولكن ربما لو جربنا لرأينا ثمرة ذلك.
بعض الأحياء جربت أن ما يمر واحد منهم إلا ويقول "الصلاة"! ينبه كل أهل المحلات في الطريق، كل من يراه جالس من الناس في دكان يقول له: "الصلاة الصلاة"! جربوا شهرين أو ثلاثة أشهر، وبعد ذلك مُرَ ولا تتكلم، فمن بعيد يراك ويقول لك: "طيب طيب" مع أنك لم تتكلم؛ لأنه تعود منك هذا الشيء، ولأنك أحييت شعيرة من الشعائر، ولك أجرها وأجر من عمل بها.
لكن إذا سكتنا، وأصبحوا يروننا مع بعض نقول: ما رأيك في الكتاب الفلاني؟ ما آخر شريط؟ ما آخر محاضرة؟ ونتحدث ونمر على الناس، وهذا لاهي، وهذا يسمع الغناء، وهذا فاتح الدكان وقت الصلاة، وهذا ينظر إلى امرأة، وهذا يتفرج التلفزيون، وكأن الأمر لا يهمنا أبداً، وتعودوا هذا منا.
أصبحوا يقولون: والله لا ندري ما عندهم هؤلاء؟! دائماً كلام كلام! فما علموا منا إلا هذا الشيء المبهم الذي لا يعلمونه وتأتي الأجهزة الإعلامية الشيطانية من أمريكا ولندن ومن الشرق والغرب، وتقول: المتطرفون، الأصوليون، الإرهابيون، فيقولون: انظروا هؤلاء، والله مثل صورة ذاك الإرهابي الذي رأيناه ذاك اليوم! لأنه ما رأى منك إلا هذه الصورة، لا تقل: لماذا ينظر لي هذه النظرة؟ فماذا علمته أنت غير هذه النظرة؟! هذه شكوى، وليست من هذا الأخ وحده، وإنما -كما أتوقع- من أحياء كثيرة، ومن طلبة علم كثيرين.(56/19)
الشباب الذين يعبثون أثناء الصلاة
السؤال
أرجو أن تقدم لهؤلاء نصيحة، وهي أن بعض الشباب يكثرون من العبث بالغترة والعمامة في الصلاة، نرجو النصح وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
الصلاة يا إخوان روحها الخشوع، وكما قال بعض الصحابة: [[لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه]] وكما علم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرجل المسيء صلاته إذا ركعت فاركع حتى تطمئن راكعاً، واسجد حتى تطمئن ساجداً، علمه الطمأنينة في الأركان.
فلا شك أن الإنسان الذي يعبث بالغتره أو بالمنديل أو بالساعة، أو يتأمل في الزخارف أو غيرها، أنه يفقد من صلاته بقدر ما يفقد من الخشوع، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يتقبل منا ومنكم عبادتنا، وأن يرزقنا فيها الإخلاص والخشوع؛ إنه سميع مجيب.(56/20)
القرى المليئة بالمنكرات
السؤال
إني أسكن في قرية مليئة بالمنكرات والمعاصي، وإن أغلب أهلها لا يصلون -حسبنا الله ونعم الوكيل- حتى الصلاة المكتوبة، ولا يدخلون المسجد إلا في الجمعة، وقد لا يحضرونها، بل وهم مقيمون على السهرات والرحلات والمجالس المليئة بالمنكرات، وهم يستهزئون بالشباب الملتزم وهم قلة في هذه القرية، فما العمل؟
الجواب
أنا لا يهمني كثرة المنحرفين أو الغافلين، هكذا الحال! كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، وكما قال: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} [الصافات:71]، هكذا أخبرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالأكثرية ليست المشكلة، لكن المشكلة هي ما الذي يمكن أن تعمله هذه القلة من طلبة العلم في هذه القرية وما حولها من القرى؟ لماذا لا نوصل الخير إليها، عندما لا يكون فيها من يوصل إليها الخير؟ لماذا عندما يتخرج الواحد منا يقول: عينوني داخل المدينة، فإذا عينوه داخل القرية آثر الراحة على العمل! وهذه مشكلة فعلاً، وكأننا لا نريد إلا الراحة، ولا شك أن الإنسان من حقه أن يطلب الراحة، ولكن لماذا لا نطلب الراحة العظمى عند الله؟ لماذا لا نضع سير الخطط والبرامج لتشمل هذه القرى؟ الإخوان في مركز الدعوة لا يقصرون، والبرامج الدعوية مهيأة من الرئاسة، ونسأل الله سبحانه أن يوفق الوالد سماحة الشيخ عبد العزيز -حفظه الله- فهو يبذل جهداً من البند الخيري، ومن البند الرسمي، ومن جهده الخاص، لكي تنتشر الدعوة في القرى والمناطق النائية، ويحثنا على ذلك كلما لقينا، والحمد لله سبل الخير موجودة؛ فرتبوا البرامج وأعينوا إخوانكم في هذه القرية وفي أي قرية فإذاً: يجب أن تصبر أنت وإخوانك في القرية وأن تتحملوا، وأن تُشعر الإخوان أين تقع هذه القرية ليدرسوا أحوالها، ويبتعثوا إليها.(56/21)
الذي لم يجد أثر النصيحة
السؤال
إذا أنا نصحت جاري بالصلاة، ولكنه لم يصل، فهل يلزمني شيء بعد ذلك؟
الجواب
ليست النصيحة مجرد السلام والأمر بالصلاة فقط، بل اسمع له، وزره، وسلم عليه، وقدم له هدية، وارفق به، فقد يهديه الله سبحانه فيصبح قوياً في الحق وكل قلب له مفتاح، فانظر مفتاح قلب هذا الرجل من أي نوع، فإن كان مفتاحه الغيرة فذكره بالغيرة، وإن كان عنده غفلة فأعطه موعظة يصحو ويفيق، وإن كان الشيمة فحدثه عن الشيمة، وإن كان المروءة والأخلاق، فخاطبه باللغة التي تظن أنها توصل الخير إلى قلبه، بأسلوب طيب.
حاول أن تظهر له أنه قريب من الخير وأعرض عليه هل يريد خدمة أو طلباً فقدمه له.
قدم الدعوة مع شيء من الخير، بعد ذلك إذا رفض فما عليك إلا البلاغ، لأن هذا ما أوجبه الله على الرسل وهم خير منا، لكن ثقوا تماماً أننا نستطيع أن ندعو كثيراً من الخلق إلى الله، فيهتدوا -بإذن الله- إذا نحن أصلحنا أساليبنا في الدعوة، ووسعنا أنفسنا ومداركنا، وتبقى القلة الضئيلة التي لا تستجيب، فهذه موجودة في كل زمان ومكان.(56/22)
الحزبية
السؤال
تعلم أن المسجد هو خير مكان تنطلق منه توعية الناس ونصحهم، ونحن في حي مزقته الحزبية، أئمة المساجد جميعهم متحزبون، لذلك قد حرم سكان الحي الخير، رغم أنك إذا زرت ذلك الحي ترى كثيراً من السكان ظاهرهم الصلاح، ولكن لا نشاط لهم في الحي، والله المستعان؟
الجواب
هذه الأمة كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فتنتها المال وعذابها الفرقة} عذابها الفرقة والاختلاف، والتحزب: تحزب قبلي، تحزب في العمل الدعوي، التحزب في الآراء، التعصب المذهبي، في كل شيء تجدها أحزاباً، والله سبحانه نهانا عن هذا فقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} [الأنعام: 159] نهانا الله سبحانه عن ذلك: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153].
فالواجب على الإنسان أن يتبع الحق، وأن يتحزب للحق، وأن يكون من حزب الله، فحزب الله هم أهل الحق، أينما كان الحق وعلى أي لسان قيل، لا يكذب ولا يجور على مخالفه، ولكن لا يتعصب أيضاً لرأيه، وإنما يقبل الحق أينما كان، والقضاء على الحزبية لا يكون بحزبية مقابلة، وإنما يكون ببذل النصح للجميع، بمحبة الجميع، بإيجاد ترابط وعلاقات من الجميع وإلى الجميع وتذكيرهم وتخويفهم بالله تبارك وتعالى، وأياً كان مصدر هذه الحزبية فهي شر ووبال ودمار، ولا سيما في العمل الدعوي بين الشباب.(56/23)
واجب المسلمة نحو مجتمعها
السؤال
ما واجب المسلمة نحو مجتمعها المسلم، وهل تنحصر في بيتها فقط؟
الجواب
المسلم يخاطب أكثر من المسلمة، لأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لم يجعل لها من الوسائل ويمكنها من الإتصال بالناس ما جعل للرجل، فأعظم واجب عليها هو بيتها، لكن من بيتها تستطيع أن تعمل الكثير، أن تزور وأن تستزير، أن تصلح أبناءها، وجاراتها وقريباتها وهكذا، وإن كانت ممن تعمل في التدريس -مثلاً- فكذلك تصلح مدرستها وطالباتها، ويمكن أن تكتب الرسائل النافعة، والآن الحمد لله تنشر بمئات الألوف رسائل كتبتها واحدة في قعر بيتها والحمد لله.
فالأخت المسلمة عليها نفس الواجب، إلا أن الوسائل في حقها تنحصر في الوسائل الشرعية اللائقة بكرامتها وفكرها وصونها.(56/24)
دور المسلم في البلاد التي لا يطبق فيها شرع الله
السؤال
ما واجبي الحقيقي نحو مجتمعنا المسلم الذي تصيبه الأوبئة الجماعية والأمراض، وهل هي ابتلاء أم حياة ضنك تصيب مجتمعنا، وما دوري كإنسان عادي خاصة إن لم يطبق الشرع الإسلامي في هذا المجتمع؟
الجواب
كأن الأخ يتحدث وكأني أشعر أنه من إحدى البلاد الإسلامية التي نكبت به الأوبئة والأمراض والحياة الضنك، وعدم تطبيق شرع الله سبحانه، نسأل الله سبحانه أن يرفع عنا البلاء، فما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة.
واجبك يا أخي أن تكون كراكب السفينة إذا استطاع أن ينصح لها ولربانها وركابها فليفعل، فإن لم يكن ذلك فليستقل بنفسه ولو على خشبة، ولينج هو وأهله ومن يستطيع؛ إما داخل المجتمع الذي هو فيه، أو يهاجر إلى خارجه، إلى أي مجتمع آخر من مجتمعات الخير.
أما المجتمعات التي يُحارَبُ فيها الإسلام علانية بقوة الحديد والنار، كما في الجزائر وتونس وليبيا ومصر وسوريا والعراق وغيرها فلا.
وهذه المجتمعات نفسها فيها الخير الكثير والحمد لله، فيها قبول، واستجابة، وكأنني أتأمل وأرى هؤلاء الظالمين والمجرمين والعلمانيين والاشتراكيين، الذين يُمسكون بأزمّة الأمور في هذه البلاد، أو عملاء اليهود والنصارى وإن لم يكن لهم راية ولا مذهب، وهم يتحسرون على ما قبل عشرين سنة مضت حينما كان في إمكانهم أن يبطشوا، وأن يفعلوا ما شاءوا وهم في أمن.
أما الآن فالحمد لله، وأنا أبشركم بهذا وأنا مطمئن (العملاق قد خرج من القمقم) كما يقولون، ولم يعد بإمكانه أن يرجع إليه.
العملاق الإسلامي بدأ يفيق وينتشر ويستيقظ وتقوى عضلاته يوماً بعد يوم.
الآن يستحيل أن تحشر الأمة بالحديد والنار، لكي ينصرفوا عن دين الله وعن تطبيق شرع الله!! فليفعلوا ما شاءوا، في مصر أو الجزائر أو تونس أو أي مكان، فنهايتهم خسارة، وكانوا كلما حدثت أشياء في مصر يقولون: سنة الحسم مع الجماعات الأصولية، ويحسمه الله ويذهب ويأتي غيره، والإسلام باقٍ والحمد لله؛ لأنه ليس قضية جماعات كما يقولون.
ولكن يجب أن نصبر كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] وكما قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]، وكما قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49] (وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه:132]، العاقبة لنا بإذن الله، يستحيل أن يُقَاوَمَ هذا الدين.
في جمهوريات الاتحاد السوفيتي -كما يُسمى- ظنوا أنهم طمسوا هذا الدين ومحوه، ومع ذلك يأتون إلينا يحفظون كلام الله، ويتكلمون العربية الفصحى، ويطلبون منا كُتباً ما كنا نظن أنهم يعرفونها!! من يستطيع أن يحارب الله؟! ولكن كما قال تعالى: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} [الملك:20] يظن الكافر أنه قد يقضي على كل شيء فيحدد موعداً معيناً، ويعقد المؤتمرات.
يقول من خلالها: هدف المؤتمر أو هدف الزيارة القضاء على الإرهاب، أو القضاء على الأصولية! غرور فقط!! وفي النهاية يذهب ويذهب سيده، ويذهب مؤتمره والحق باقٍ، والحمد لله.
فاطمأنوا فنحن لا نخاف -والحمد لله- بعد اليوم على هذا الدين، إنما نخاف على أنفسنا من ذنوبنا، من أخطاء الدعاة، ومن عيوبهم، وعدم صبرهم، وعدم تمسكهم بالحق، وتناصحهم فيما بينهم، ومن عدم التخطيط الواعي الجيد لمواجهة هذه الأحداث، فهذا الذي نخشى وهذا الذي نخاف.
أما أن نقول: {إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض}، فهذه لا تقال الآن؛ لأن صحوة الأمة كلها في كل مكان، لو عذبت طائفة فطوائف كثيرة تقوم بالواجب؛ فاصبر يا أخي في مجتمعك وادع الله.
وأنا أقول لكثير من الإخوان: لأن تكون في هذا المجتمع داعيةً، صابراً، مجاهداً، ولو مسجوناً، خير لك من أن تهاجر إلى بلد تبحث عن عمل، أو تأوي إليه، فتهان وتضطهد ولا تعرف قيمتك، لأن قيمة كل إنسان في بلده، مهما كان، ونحن أمةٌ واحدةٌ وبلد واحد بلا شك، ولكن قيمتك في بلدك وبين عشيرتك، ولو كنت مسجوناً فستظل عندهم قضية هذا الدين قضية حية، لكن إذا غبت وابتعدت، وغيرك ابتعد، تركنا الأمة فريسة للإعلام المفسد الضال المضل، فتعود بعد سنين إلى بلدك، وتجدهم قد ابتعدوا كثيراً، وانقطعوا عن طريق الله المستقيم.(56/25)
مراتب الإنكار
السؤال
كثير من الناس يلومون بعض الدعاة على إنكاره بعض الأمور، ويقولون: يكفيك أن تنكر بقلبك، فأرجو أن توضحوا مراتب الإنكار باليد واللسان والقلب، وكيف يكون مراتب الناس على حسب أحوالهم؟
الجواب
الذي يلوم هو محاد لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من رأى منكم منكرا فليغيره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه} شاء ذلك أم أبى!! فهو يحاد قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي رتَّب الإنكار بحسب الاستطاعة، أنت في بيتك يجب أن تنهى وتأمر بيدك، لأنك في بيتك، أنت في إدارة المدرسة أو رئيس الإدارة فلتغير المنكر عملياً، فإن لم يكن كذلك كأن تكون فقط إماماً في الحي، ولا تستطيع أن تغير فيه إلا باللسان، فيجب أن تنكر بلسانك، أما الإنكار بالقلب فهذا أدنى المراتب، وهو لمن لم يستطع المرتبتين الأوليين، ولهذا قال: {وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل}.
ثم ما معنى الإنكار بالقلب؟ الإنكار بالقلب ليس معناه: أن أعلم أنه حرام، وأن أعلم أنه منكر، فهذه معرفة القلب، وهناك فرق بين مجرد المعرفة وبين الإنكار، الإنكار معرفة مع شعور بالواجب وإحساس بالألم، كما قال بعض السلف: [[وددت لو أن جسمي يقرض بالمقاريض، وأن أحداً لم يعص الله عز وجل]]، يتمنى أن يقرض جسمه ولا يرى معصية.
فيجب أن تكون لديك غيرة على محارم الله، وغيرة على حدود الله، يتقطع قلبك ويتألم أن ترى المنكر، ولكن لا تستطيع أن تقول: إنه منكر، ولذلك تغضب ويتمعر وجهك، وتدعو الله أن يزيل هذا المنكر، وتبحث عن وسيلة لكي تستطيع أن تغير باللسان وهكذا.
هذا الإنكار بقلبك، ليس كإنكار الغافل الذي يمر على المنكر ويقول: أعلم أنه حرام، ثم يذهب، فهذا حال أدنى المراتب؛ فما بالك بما فوقها من المراتب؟! د فالإنكار هو على هذا المنكر هداه الله.(56/26)
قراءة سورة معينة عند الحج
السؤال
لقد ظهر في قريتنا بل على المناطق ظاهرة، لا أدري هل هي مبنية على دليل، وهي قولهم: إذا ذهبت الحج فاقرأ سورة يس أو غيرها من القرآن سبع مرات، فهل هذا صحيح، وهل يعمل به؟
الجواب
لم يصح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه علّم ذلك أصحابه، والقرآن لا شك كله خير، وكله بركة، ولكن تخصيص سورة معينة وتقرأ بعدد معين، لا نعلم من ذلك شيئاً، إلا أن الواجب أو ينبغي على المسلم إذا خرج أن يدعو بأذكار الخروج وأذكار الطريق، وأن يسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دائماً من فضله، يدعو في الصباح بأذكار الصباح، ويدعو في المساء بأذكار المساء، ويقرأ القرآن، والله -سبحانه- سوف يبارك له في ماله وفي وقته، ويستجيب له بإذن الله.(56/27)
نصيحة للمعلمين
السؤال
إن للمعلم دوراً في المجتمع، فهل من نصيحة لإخواننا المدرسين؟
الجواب
المعلم هو أكبر المربين في المجتمع هذه الأيام، لأني أنا وأنت والأخ الآخر، لو حسبنا كم نجلس مع أبنائنا، لوجدنا أن المعلم يجلس معهم أكثر مما أجلس أنا وأنت، وأنا لو كنت معلماً لجلستُ مع أبناء الناس أكثر مما أجلس مع أبنائي! إذاً هذا واجب عظيم ودور كبير على المعلم، فليكن أباً، وليكن واعظاً، وليكن معلماً، فلا يجعل من التعليم فقط أداء المنهج، إنما أب شفوق حنون عطوف، وواعظ يذكر طلابه ويرشدهم ويوجههم، ومعلم يعلمهم الخير ويعلمهم العلم الذي وُكل إليه أن يعلمهم إياه؛ لينال أجره حلالاً طيباً بإذن الله تبارك وتعالى.
وأيما أمة صلح معلموها وصلحت مناهجها، فاعلم أنها إلى الصلاح أقرب، وصلاح المعلم به يصلح المنهج؛ لأن المعلم يستطيع أن يعلم أبناءه الحق، حتى ولو كان في المنهج خلل، فلو وجد خلل في المنهج ولكن المعلم داعية حكيم، فإنه يستطيع أن يوجه طلابه إلى ذلك، لو كان يعلم علماً لا منفعة له في الآخرة، فإن في استطاعته -أيضاً- أن يعلم أبناءه الخير وما يقربهم إلى الله وإلى الدار الآخرة، فلا شك أن واجبه كبير، ولا تتسع لتفصيله هذه الدقائق.(56/28)
أهمية إقامة الداعية في بلده
السؤال
تحدثت عن بقاء الداعية في بلده وبين عشيرته من أجل دعوتهم، وعدم الهجرة إلى أي بلد آخر لما يلاقيه من ذل واضطهاد، هل يكون ذلك إذا قدم إلى بلاد الإسلام الطاهرة، ليتعلم أمور دينه، في بلد الحرمين وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
إذا كان خروجك لطلب العلم في هذه البلاد أو غيرها، ثم تعود، فلا بأس؛ فإن هذا كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] لكن أنا أتكلم بصفة عامة لئلا يفهم الناس أنه إذا وقعت محنة أو فتنة أو أزمة على الدعاة أن عليهم أن يخرجوا ويفرغوا البلد للمفسدين، وأن يقيموا في بلاد أخرى بلا إقامة، وبلا وسائل معيشة، وبلا أمور تعينهم على الحياة، فيهربون من ذل إلى ذل دون أن يحققوا الهدف المنشود.(56/29)
منكرات الزواج
السؤال
يسأل عن منكرات الزواج.
الجواب
منكرات الأعراس كثيرة، خذوا نموذجاً من حياتنا، الزواج في الإسلام وإلى عهد قريب من حياة آبائنا كان الزواج في أيامهم أمراً يسيراً، يخطب الرجل المرأة من أبيها وهما جالسان.
يقول لأبيها: هل تزوجني ابنتك؟ فإذا وافق، يأتي العاقد فيعقد بينهم، ثم يعملون حفلة بسيطة، وتأتي النساء التي عندها ثوب تلبسه، والتي ليس لديها تستعير، وذهبوا بها إلى العروس وانتهوا! أمور ليس فيها تعقيد، سهلة ميسرة، وكانت الأمة تعيش بهذا الوضع، جئنا الآن فجعلنا عقبات كبيرة بحيث لو اتفق على الزواج؛ لا بد أن يتفق الآن على أن الزواج في العطلة الكبيرة.
ونبدأ في التأثيث، وفي التعقيدات، والمطبلات، ثم ليلة الزواج أو قبلها أو بعدها، الروتين الطويل والمراسم الطويلة العريضة، وكأن الزواج شيء نادر لا يقام في البلد إلا مرة في السنة مثل العيد، كل الناس يتزوجون، وكل الخلق الذين أمامك هم إما ذكور وإما إناث، وكل واحد سيتزوج ما كتب الله له، لماذا التعقيد، والمفاخرة والمباهاة والترف والديون العظيمة؟! وغالباً ما تكون القطيعة وتكون المخاصمة بين الأرحام في ليلة الحفل، لأننا لا نخالف سنة من سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا وجدنا عاقبة ذلك خصاماً وخسارة وذلاً في الدنيا قبل الآخرة، ولو أقمنا سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أنفسنا وأحوالنا كلها، لرأينا الخير والسعادة، والراحة والنعمة بإذن الله سبحانه.
فمنكرات الأعراس كثيرة، وتعقيداتها كبيرة، وما ذكر الأخ إلا واحدة منها فيما يتعلق باستئجار المطبلات وغيرهن، نسأل الله أن يكفي المسلمين شرهن، وهذا من أخبث الكسب والعياذ بالله أن يكون كسب الإنسان كذلك.(56/30)
حكم العمل في البنك الربوي لمن لم يجد عملاً
السؤال
بحثت وأنا أعول أسرة ولم أجد أي عمل مناسب إلا أن أعمل في بنك القاهرة السعودي، هل أقبل هذا العرض؟
الجواب
لا تقبل العمل في أي بنك من البنوك حتى يلتزم بأمر الله، ويقيم دين الله، ويترك محاربة الله بهذا الربا، وأرجو أن يعوضك الله تبارك وتعالى خيراً، واصبر ولا بد بإذن الله أن تنال الخير، فعليك أن تصبر وتحتسب، وأن تبذل وتجتهد في أبواب الرزق وهي كثيرة، وهذا نتيجة تقصيرنا في التعاون، وهذا من الأشياء التي أقول: إنه لا بد أن ندرسها في الأحياء، وأن نوجد فرص عمل، لأي أخ في الحي، لا يشترط أن يكون مثل هذا الأخ، يمكن أن يكون عاملاً قادماً من بلاده في غربة ولا عمل له، ويحاول أن يجد فرصة ليعمل.
فنقول لهذا الأخ: لك أن تعمل في أي عمل مفيداً فإن أكثر الشباب اليوم الوظيفة عنده هي المصدر الأساسي، فيبحث عن الوظيفة مع أن هناك وسائل أخرى غير الوظيفة، ولو اتبعتها لفتح الله عليك، ولأصبح بعد سنوات صاحب الوظيفة يقول: ياليتني عملت مثل علمك، وكثيراً ما يفتح الله بمثل هذا، لكن نحن ضيقنا على أنفسنا.
الحمد لله بلد مثل هذا البلد، فيه خير كثير، وفيه كثافة سكانية كثيرة، وفيه مجالات عمل كثيرة، لا تنقصنا مجالات عمل أبداً، لكن ينقصنا تفكير في وسيلة عمل تكون مناسبة، فإذا كان لا يستطيع أن يفكر، أو يخطط، نفكر له نحن، جمعية الحي وجماعة المسجد في إيجاد فرص عمل، فأرجو من هذا الأخ أن يتقدم إلى مندوب الحي أو جماعة المسجد، ويفكروا ويتشاوروا في حال اجتماعهم في الحي في إيجاد هذا العمل وذلك إعانة له.(56/31)
من عليها قضاء صيام، وتريد صيام الست من شوال
السؤال
امرأة عليها قضاء صوم عدة أيام من رمضان، هل تستطيع أن تصوم الست قبل القضاء، وإذا صامت وكان نيتها بالصوم القضاء، وبعد ذلك غيَّرت نيتها فأرادت صيام الست قبل القضاء فما الحكم؟
الجواب
الأفضل أن تتم ما عليها من قضاء شهر رمضان، ثم تعقب على ذلك بصيام الست من شوال، أما تغيير النية بأن تصوم قضاء ثم تنوي أنها الست، فلا يصح ذلك؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {إنما الأعمال بالنيات}، فما نوته قضاء فهو قضاء، وإن كانت قد نوت الست من شوال، فإنما صامت الست من شوال وليس القضاء، ولا تغير النية بعد أن تكون قد صامت، ويجوز لها أن تقضي إلى رمضان القادم، كما قالت عائشة رضي الله عنها: {كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان} أي: الذي بعده، فلا بأس بذلك -إن شاء الله- على القول الآخر للعلماء، فبعض العلماء يرى أنه لا بأس أن يصوم الإنسان الست من شوال، ثم يتم قضاء ما عليه من رمضان؛ لأن النافلة وإن كانت نافلة وهي مؤخرة عن الفريضة، إلا أن النافلة إذا كان وقتها مضيقاً، فلا بأس أن يؤخر قضاء الفريضة إذا كان وقت القضاء موسعاً، وهذا على كل حال اجتهاد، وكل واحد من العلماء نظر نظرة، والأولى وهو ما يفتي به كبار علمائنا هنا في هذه البلاد، هو أن الأولى البدء بالصيام الواجب، ثم بعد ذلك يعقب بصيام التطوع، أو الست أو غيرها.(56/32)
صحون البث الفضائي
السؤال
أنا إمام مسجد، وبعض أهل الحي لا يصلون في المسجد، والبعض قد ركب دشوش على منازلهم فما هو واجبي نحوهم؟
الجواب
الصلاة أمرها هو كما بينا من قبل، وهذه الدشوش: هي تعبير عن شيء داخل في النفس، إذا رأيت هذه الصحون على العمائر، فهي تعبير عن انفتاح القلوب، واستعداد القلوب لاستقبال أي شيء يأتي من الخارج، فليست المشكلة الحديد والشبكة الصغيرة هذه، المشكلة استعدادنا من داخلنا للاستقبال، وإذا لم نقطع الاستعداد الداخلي، لاستقبال ما يبث علينا من أعداء الله، فيمكن أن نستقبله ولو من تحت الأرض، ليست المسألة مسألة الدش، فإنما هو وسيلة، إنما نحن أمة ضعفت عندها مفاهيم الإيمان والعقيدة، والتربية الإيمانية ضعفت: في وسائل الإعلام، في المساجد، في الأسواق؛ فبقدر هذا الضعف، نجد استقبالنا لما يبثه الكفار علينا.
يا أخي الكريم: المسلم المعتز بإيمانه وعقيدته، لو يعرض عليه المفسد أو الكافر أن يعطيه المال ويركب له الدش ويدخل عليه التلفزيون، لقال له: ما أقبل أبداً، فكيف أنا أشتريه بمالي وربما أتدين حتى آتي بهذا الفساد! هذا يدل على الخواء الداخلي في القلب والاستعداد للاستعمار.
ألم نقل نحن الآن: الاستعمار فعل بنا؟ ما ذنب الاستعمار، نحن لدينا قابلية للاستعمار الفكري أو المادي، والقابلية الموجودة لدينا جعلته يفعل فينا ما يشاء، يرسم مجلة، يبعث خطاباً، يبث أغنية ماجنة فيتلقفها الناس ويتتبعونها، فهل الذنب، واللوم عليه وحده، أو من يتلقفها ويتقبلها؟ إذاً: نحن الآن نفتح صدورنا، ونقول: يا أعداءنا افعلوا بنا ما شئتم! ونرحب بالتنصير والمجون والدعارة والفساد! افعلوا ما تشاءون فنحن مستعدون، وقلوبنا مفتوحة لكم بخوائها من معرفة الله ومن العقيدة الصحيحة ومن الموالاة والمعاداة.
ولذلك نُذَّكِر الأمة بالموالاة والمعاداة ووجوبها، حتى تعرف أن عدوك لا ينالك منه خير، ألم يوقف البث المباشر سنوات في أوروبا حتى تستطيع أوروبا الغربية، أن تواكب المحطات الأمريكية خشية وخوفاً على الغرب من أمريكا! باريس تخاف من فساد أمريكا! وما الفرق بينهما؟! مكة هي التي يجب أن تخاف الأرض الطاهرة هي التي يجب أن تخاف من الفساد العالمي، أما هم فما الفرق بينهم؟! هم يقولون: هذا غزو حضاري وتدفق حضاري مدمر، يدمر القيم، وهانحن نستقبله! وأنا أريد بهذا الكلام أن تخاطبوهم وتذكروهم بالله وتخوفوهم به من هذه الفتنة ومن غيرها، فإذا قطعت شجرة حب الدنيا والشهوة، فالعصافير المضللة تصبح ولا تجد ما تقع عليه؛ لأن الشجرة من أصلها استأصلت، فيجب أن تقطع شجرة الشهوات من قلوب الناس، وإلا فماذا يستفيد من يرى هذه المناظر؟! لا يستفيد شيئاً والله.(56/33)
الرجولة
تحدث الشيخ عن أهمية الرجولة، وأنها ذكرت في القرآن وصفاً للأنبياء، وبيَّن أن الرجولة الحقة تتمثل جلية في أعظم -الرجال محمد صلى الله عليه وسلم- ثم أجاب عن تساؤل طرحه وهو (أين محضن الرجولة؟) فبيَّن أنه المسجد، وتحدث عن بعض المحاضن الأخرى مبيناً أنها لا تغني عن المسجد، بل ذكر بعض مساوئها، ثم عقد مقارنة بين دور المسجد في العهد النبوي، ودوره في عصرنا الحاضر، وأرشد إلى ما ينبغي أن يكون عليه المسجد، داعياً إلى تعظيمه وتفعيل دوره الحقيقي في قيادة الأمة وتسيير شئونها.
ثم اختتم حديثه بالتبشير بظهور ملامح الرجولة الحقيقية في جيل الشباب، داعياً إلى تبنيها توجيهاً وترشيداً لتستفيد منها الأمة.(57/1)
أهمية الرجولة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ اللهم بك من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فالرجولة أصل عظيم من أصول التربية على هذا الدين والإيمان به والدعوة إليه، وإنه حيثما توجد الرجولة، وحيثما تكون البطولة، فإنه يكون عزالدين ومنعته، وغلبة الحق وقيام الدعوة إلى الله، وإحياء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويجب أن نفرق بين مجرد الذكورة وبين الرجولة؛ فإن الله عز وجل خلق الزوجين الذكر والأنثى، فجعل بني آدم زوجين إما ذكر أو أنثى، لكن ليس كل الذكور رجالاً.(57/2)
الرجولة في القرآن
الرجولة في القرآن وصف آخر فيه زيادة على مجرد الذكورة؛ فالله تبارك وتعالى بدأ بأنبيائه في هذا المنصب، فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء:7] والله تبارك وتعالى أرسل رجالاً مواقفهم الرجولية واضحة لمواجهة الفساد، والشرك، والطغيان، والانحراف، والجور، والظلم وكل ما من شأنه أن يخدش أمراً مما أنزله الله، ولذلك كانت تلك المواقف البطولية، التي لا يقفها إلا أعظم الرجال وأقواهم وأشجعهم: مثل وقوف إبراهيم الخليل عليه السلام أمام النمرود، ووقوف موسى عليه السلام أمام فرعون، ووقوف نوح عليه السلام أمام أمة عاتية ماكرة ألف سنة إلا خمسين عاماً، ووقوف هود عليه السلام أمام أمة مستكبرة متجبرة يبنون بكل ريع آية يعبثون، وإذا بطشوا؛ بطشوا جبارين، كما أخبر الله عنهم على لسان نبيه هود عليه السلام، وكل الأمم لا يقف لدعوتها ويتصدى لجبروتها إلا رجال.(57/3)
بطل الأبطال وأعظم الرجال
وإن أعظم هؤلاء الرجال هو خيرة الله ومصطفاه من خلقه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو استعرضنا المواقف الرجولية لانقضى الليل كله وما زلنا نتحدث عن موقف واحد من مواقفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! يكفيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مواقف الرجولة أن يقف وحده، والناس كلهم قاموا ضده، وأن يدعو إلى الله ويحطم الأصنام جميعاً، ترتجف قلوب ملوك الروم والفرس منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يجف مداد صلح الروم بعد! كما ثبت ذلك في الصحيح وفي قصة هرقل.
أية رجولة هذه التي عُلِّمَها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ربه، وخَلَقَه وَجَبَلَه عليها، ثم عَلَّمها أصحابه من بعده صلوات الله عليه وعليهم أجمعين؟! أية رجولة أعظم من قيامه على الصفا لينذر عشيرته الأقربين؟! ثم ذلك الموقف الشجاع العظيم الذي وقفه في هجرته.
مواقفه العظيمه في الجهاد في سبيل الله إذ يخبر أصحابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لولا أن يشق عليهم لما بقي خلف سرية تخرج في سبيل الله، ولما تخلف عنها قط!! وقال أصحابه رضوان الله عليهم [[كنا إذا حمي الوطيس (اي اشتدت المعركة) احتمينا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]] وقد تمثل هذا الأمر يوم حنين إذ أقبلت هوازن وما أدراك ما هوازن؟! وقد أعدت وأجلبت؛ حتى قال بعض مسلمة الفتح ممن لم يتمكن الإيمان في قلبه: لن يردهم اليوم إلا البحر! وقال الآخر: بطل السحر اليوم! ومع ذلك وقف -صلوات الله وسلامه عليه- وقد كاد أن يتولى أكثر المسلمين، وقف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ينادي: يا أصحاب بدر! يا أصحاب الشجرة! حتى اجتمعوا إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ثابت في مكانه، ثم تحولت المعركة لصالح المسلمين، وانتصروا بفضل الله.
وهناك مواقف عظيمة في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحياة أصحابه الكرام في اليرموك، والقادسية، ونهاوند، وغيرها، لا تعد ولا تحصى، ولكننا سنضطر أن نتجاوزها كلها، لنتحدث عن أمر يجب أن يتنبه له المربون والدعاة الوعاظ فيما يتعلق بالرجولة، وهو من أين تنبع الرجولة؟ وأين توجد الرجولة؟ وكيف نربي في شبابنا الرجولة؟ كل منا يوصى ابنه كل يوم (كن رجلاً) (نريد أن تكون رجلاً) باختلاف اللهجات والمقصود منها واحد؛ فأين يكون محضن ومهد هذه الرجولة؟ وكيف نربيها؟ وكيف ننميها؟(57/4)
منبع البطولة
الله تبارك وتعالى عندما بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، استجاب له الشباب، وكفر به الشيوخ؛ وإذا أردت أن تعرف دليلاً واضحاً على ذلك، فانظر كم عاش أصحابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بعده، عاشوا أربعين سنة وخمسين سنة ونحو ذلك، فهذا دليل على أنهم لو كانوا من جيله أو قريباً من جيله (كـ الصديق رضي الله عنه) لتوفي أكثرهم في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بل كان أكثرهم شباباً! بل المساجد إنما يرتادها ويكثر فيها من المصلين في دهره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلى اليوم الشباب، ممن نقول إنهم الأطفال على سبيل التجوز وإلا فليسوا بأطفال، لماذا؟ لأن الله تبارك وتعالى عندما وصفهم، وصفهم بأنهم رجال فقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:36 - 37].
لو أن كل واحد منا صحب أبناءه إلى المسجد لوجدنا أن أكثر من ثلاثة أرباع المسجد من الأطفال أو الشباب! أليس كذلك؟! إذا كان كل منا عنده أربعة أو ثلاثة أو اثنان أو خمسة، فيكون الأكثرية كذلك، فينطبق عليهم أنهم رجال، كيف خرجوا من الطفولة إلى الرجولة؟ هل هو بالانتقال إلى المرقص أو الملهى أو الملعب؟ لا والله؛ بل هو بالانتقال من البيت إلى المسجد، ينتقل هؤلاء من وصف الطفولة إلى وصف الرجولة كما دلَّ عليه كتاب الله.
إذن الرجل -أولاً- يتلقى مبادئ الرجولة من المسجد، انظر إلى من تراه رجلاً بجثته؛ لو قلت له: قم أمام الجماعة في قرية فقط وألقِ كلمة، أو تقدم صل بالناس (وهو مجرد ذكر ليس برجل) يخاف ولا يستطيع!! لكن لو أتيت إلى رجل من هؤلاء الرجال -حفظة القرآن- فإنه يتقدم ويصلي بنا ويقرأ الأجزاء الطويلة! أليس هذا رجلاً؟! هذه الرجولة من أين تعلمها؟ من المسجد، ولو قلت له: قم اخطب الجمعة، لقام وخطب! وهكذا تربى الصحابة الكرام على هذه الرجولة، وتنافسوا فيها.
وأبناء الصحوة الإسلامية المباركة كل من كان في ميدان من ميادين العلم والجهاد والدعوة، هؤلاء يجب علينا -نحن المربون- أن نعيد فيهم هذه الرجولة، ونربيهم على هذه الرجولة؛ إذ لا رجولة غيرها، وكل ما عداها فهو لهو، وعبث، وتضليل، بل ربما كان فتنة لهم، بل ربما كان إخراجاً لهم من دينهم وإيمانهم وعقيدتهم؛ فالرجولة إنما تنمو إذا اقترنت بإحياء المساجد، وبإقامة الدين، وبتحفيظ كتاب الله تبارك وتعالى، وبالأمر بالمعروف، وبالنهي عن المنكر، وبالدعوة إلى الله عز وجل، هنالك يكون محضن الرجولة، وهنالك يصبح الصغير رجلاً، ويصبح بطلاً؛ كـ محمد بن القاسم، وطارق بن زياد، وأمثالهما من الفاتحين الذين فتحوا أمماً عظيمة، وهم في سن لا نقارنه ولا نقيسه إلا بشباب ما يسمى بالثانوية!(57/5)
التربية على الرجولة
وإنها والله مأساة، أن يكون أبناؤنا الذين لآبائهم ماضٍ عريقٍ في الجهاد والعلم والدعوة محرومين من التربية على تلك الرجولة؛ عندما تريد أن تتأكد وتطلع على هذا الحرمان فانظر على أي شيء يربى الطفل لو لم يربط بالمسجد، انظر إلى ذلك، وأين البطولة فيه؟ انظر إلى طفل نشأ في أحضان والدين غير متعلمين -لا نقل جاهلين؛ لأن هناك فرقاً بين الجهل وعدم العلم! الجهل من جهل الله عز وجل، وليس الذي لا يحسن القراءة والكتابة- وهما يريدان له الخير، ولكن الله لا يكلفهما ما لا يطيقان، هما لم يتربيا ولم يتعلما، فكيف يدعوانه إلى الله؟! مع أننا نعلم أنه لا يوجد أب وأم لا يدعوان ابنهم إلى الصلاح، إلا من مسخ الله!! فكلنا يتمنى أن يكون في ابنه من الخير والصلاح والهدى والاستقامة ما يجعله مضرب المثل في قريته وقبيلته، هكذا يريد منا آباؤنا وأمهاتنا لكنهم معذورن، فلا يجد الأبناء من يربيهم على هذه الرجولة.
فتتلقفهم المدرسة، أليس حراماً أن يمضي الطفل اثنتي عشرة سنة: ست في الابتدئية، وست في متوسط وثانوي، ثم يتخرج ولا تستطيع أن تصفه بأنه رجل! سبحان الله! أية تربية هذه؟! أين كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يربون؟! اثنتي عشر سنة كفيلة أن تحوله إلى طاقة، إلى شعلة، إلى قائد، إلى مجاهد، إلى عالم، إلى مفتٍ، إلى محدث، إلى فقيه، إلى نحوي، إلى لغوي، واقرءوا سير العلماء، في أي سن كانوا عندما بلغوا مبلغ الفتوى، والعلم، والحفظ، والجهاد، والدعوة؟! أي ظلم يُظلَمُه الفتى المسكين؟! الذي ولد وله نفس العقل الذي كان لأولئك، وفي نفس البيئة، ولكنه ظلم بأن يظل يدرس، ثم يدرس، وتمضي عليه هذه السنوات، ثم لا يكون مستحقاً أن يقال عنه رجل إلا القليل! وقد يقال: إنه ربما يعوض ذلك الإعلام، وربما يعوض ذلك المجتمع؛ وأظن أن الحديث في الإعلام أصبح من الكلام المكرر، والكلام فيه أشبه باللغو؛ لأنه لا يمكن أن يربي على خلق ولا على فضيلة ولا على جهاد، ولا تربى عليه نشء إلا نشأ في أودية أخرى!! لا نريد أن نتحدث عنها أصلاً؛ لأنها بعيدة عن الله واليوم الآخر والدار الآخرة، فهي لن تربطه بالله ولا بتقوى الله ولا بطاعة الله! إن قلب المجتمع النابض، إن حقيقة المجتمع، إن انتماء المجتمع مرتبط بأصل أصيل وركن ركين، وهو {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] إنه مرتبط بالمساجد هذا هو الأصل، وهذا هو المنطلق {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108] سبحان الله! هكذا الرجولة، الرجولة مرتبطة ببيوت الله، بالطهارة، بالبيوت التي أسست على تقوى من الله، والتي رفعت بذكر الله، والتي هي لله عز وجل.(57/6)
المسجد مدرسة الرجولة(57/7)
دور المسجد في العهد النبوي
كان مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو دار الحكم، ودار القضاء، ومقر القيادة العسكرية، ومقر الفتوى، والعلم، ومقر ذوي الصدقات، والتبرعات، وغيرها، عدِّد ما شئت من ضرورات الأمة وأساسيات حياتها، أين تجدها؟! إنها في المسجد!! وهكذا كان الصحابة الكرام، من أين تخرج العلماء الذين درسوا على يد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وعبد الله بن عباس رضي الله عنه، والذين حفظوا هذه الآلاف المروية عن أبي هريرة رضي الله عنه الدوسي الجهراني ومعاذ؟ أين تعلموا؟ ثم العلماء من بعدهم الإمام أحمد ومالك والشافعي، وأولئك الأئمة الأعلام في الحديث وغيره، حتى اللغويون (علماء اللغة) أين كانوا يعلمون اللغة؟ سبحان الله! كل شيء كان ينطلق من المسجد! ولهذا نقلل من قدر المسجد جداً إذا سميناه جامعة! مع أن جامعاتنا ومعروفة الآن! ومعروف ماذا تخرج!! فلا أريد أن أقلل من شأنه، وأقول: "كان جامعة" إلا على سبيل التجوز، يؤخذ فيه كل أنواع العلوم فهو جامع وجامعة، ومقر قيادة، وإمارة، وحكم، ودعوة إلى الله عز وجل.(57/8)
المسجد في عصرنا
لكن اليوم، أين مساجدنا؟! أين دورها في التربية والرجولة؟! لماذا أقفرت المساجد من المواعظ؟ لماذ أقفرت من حلقات العلم،؟! أين ذهبت حلقات تحفيظ القرآن الكريم؟! أين المربون، والمعلمون، والمفتون، والموجهون؟! أم أن المسجد للصلاة فقط؟! وحتى هذه قصرنا فيها!! نصلي مع تأخرٍ أحياناً أو تقاعس وتخلف، نصلِّى فيها ثم تقفل سبحان الله! ولذلك يعشعش في الأذهان ما يريد العلمانيون والمفسدون أن ينشروه من أن الدين لا علاقة له بالحياة، إذا كنت متديناً فصلِّ واخرج، وبعد ذلك إن أردت الربا فتعامل به! وإن أردت الاختلاط فهو ميسر! وإن أردت اللهو واللعب فله مجالاته! وله ميادينه ومؤسساته! أي لا يمكن أن تظل متديناً أو مرتبطاً بهذا الدين إلا بالارتباط بالمسجد!! والبعض لا يأتي إلا يوم الجمعة!! فبالله عليكم أية رجولة في أمة هذا حالها؟! إنها أبعد ما تكون عن حقيقة الرجولة؛ فيها ذكورة، ولكن الرجولة فيها قليل، هذا حالنا، وهذا حال مساجدنا؛ عندما حصرنا الدين بمعنى واحد هو جانب من جوانبه، وحصرنا عمل المسجد في ذلك، ثم نرجو خير الدنيا والآخرة!! كيف يأتي خير الدنيا من المطر والنعمة والغيث ودوام المال والرفاهية والصحة؟! وكيف نريد الجنة، ونريد الفوز برضا الله، ونريد أن نرى وجه الرحمن تبارك وتعالى، وهذا مقام بيوت الله عندنا؟!(57/9)
المسجد وتعظيمه
الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام ذات يوم فافتقد امرأة -جارية سوداء- ليس لها أية قيمة في المجتمع؛ ولو ذكر الناس جميعاً، فإنها تنسى ولا تذكر، ماذا كانت تعمل؟ كانت تقمُّ المسجد، كانت تجمع النوى والعيدان من المسجد كما جاء في الحديث! هذا عملها فلم تكن تعظ في المسجد ولا تذكر ولا تعلم ولا تفتي؟ فافتقدها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأل عنها، {قالوا: يارسول الله! إنها توفيت البارحة.
قال: وماذا فعلتم بها؟ قالوا: دفناها قالوا: كيف نزعج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الليل من أجل جارية أمة سوداء!! ما كان لها من عمل إذا خرج الناس من المسجد إلا أن تأتي فتجمع القمامة! فالصحابة حباً للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإيثاراً لراحته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأوا أن الأمر قد قضي، ويكفي {قال: هلا آذنتموني، أين قبرها؟ فانطلق وانطلق معه أصحابه، فصلى عليها صلوات الله وسلامه عليه!} انظروا {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، وهو إمام المتقين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والله! إن من يقم المسجد هو خير عند الله ممن يسكن القصور في معصية الله عز وجل! لكن كيف نعرف؟! مشكلتنا أننا كبَّرنا وعظَّمنا الدنيا وأهلها، وأصبحنا نتفاخر، يقول الله في القرآن: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1] زينة وتفاخر وتكاثر!! وأصبحنا نقول: فلان عنده وعنده!! ومات فلان صاحب الأموال والمؤسسات وصاحب الملك! لكن لو مات واحد من السودان كان ينظف المسجد، قلنا: الله يرحمه، قال: ماذا كان عمله؟ وماذا كان عنده! والله لو أعدنا المعايير الشرعية كما في كتاب الله وكما تربى عليها الصحابة، لعظمنا بيوت الله، وعظمنا كل شيء يتعلق ببيوت الله عز وجل، يكفي أنه: {من بنى مسجداً لله كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة} الله أكبر، بيت في الجنة! سبحان الله بيوت الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة، الشجرة فيها يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها!! هذه بيوت الجنة! لو عُظِّمت بيوتُ الله، لبنيت ورفعت وشيدت، كيف ترفع؟ ترفع حساً وترفع معنىً؛ أما رفعها حساً، فتكون أجمل وأنظف وأفضل، بشرط أن يخلو ذلك عن الأمور التي قد تدخل في المكروه والبدعة، ولكن تعظم ويختار لها الموقع المناسب، فيختار لها البناء الجميل والفرش الممتاز، وكل ما يخدم المرافق والمصالح والمنافع التي تتعلق بها، ثم ترفع معنىً (وهو المهم) ترفع في القلوب، وتعظم، ويُجلُّ كلُّ من كانت حياته وقيمته مستمدةً من هذا المسجد، وفي هذا المسجد؛ من جاء ليعلم أو يتعلم، من جاء ليعظ أو يستمع لذكر الله ويُوعَظ، فهذا هو الذي نحبه وهذا هو الذي نعظمه، وهذا هو الذي نقدره؛ كما عَظَّمَ صلوات الله وسلامه عليه شأن هذه الجارية ولم يستهن بعملها.
أكثر ما يشغل بال الشباب الزواج! ولا سيما مع هذه المصائب والفتن والمغريات والملهيات والمثيرات التي تريد أن تقحمهم إقحاماً في الرذيلة، والدعاة المضلون كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {دعاة على أبواب جهنم} ينعقون في كل إذاعة ومنبر ومجلة وصحيفة يريدون أن يغروهم بالرذيلة، هؤلاء الشباب ألم يفكروا في الجنة وما فيها من الحور العين؟ ألم يسألوا، ما هو مهر الحور العين؟ ألم يعلموا أن كنس قمامة المسجد هو المهر؟! كنس القمامة من المسجد هو مهر الحور العين، لماذا؟ هب أنني شاب نظيف ولا أريد أن أظهر أمام الناس إلا بأنظف مظهر، ولكنني من أجل بيت الله أذللت نفسي! ولكن لمن؟ لله، أما غير الله فلا نذل له، نذل لله ولكل من أمرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن نذل له من الطاعة، والمراد به وجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإذا أتيت لأقم المسجد فأنا بهذا العمل أدفع مهر الحور العين.
ولذلك من عرف الله عز وجل، ومن عرف الجنة، والنار، ومن عرف قيمة ذكر الله، فليسابق إلى مثل هذه الأمور، إلى التنافس لإحياء بيوت الله، وإعمار بيوت الله، وإحياء ذكر الله تبارك وتعالى في كل مكان، أن يرفع النداء!! النداء الذي نسمعه، ولكننا نغفل عن معناه! من منا لا يسمع (الله أكبر)؟! من منا لا يسمع: (أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله حي على الصلاة وحي على الفلاح؟!) نسمعها لكن هل تدبرنا ووعينا معناها ومدلولها في حياتنا؟! كيف نقول: الله أكبر، ونسمع الله أكبر، ونأتي إلى بيت الله، ثم لا نُعظِّم بيت الله، ولا من دعا إلى الله، ولا من قام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مِن أبنائنا وممن يُعلِّم أبناءنا، لا لذاته ولا لشخصه، ولكن لارتباطه بهذا الدين، لأنه يدعو إلى الله وهو أكبر تبارك وتعالى من كل شيء؟! يجب أن يكون كل ارتباط في سبيل الله، وكل ما أريد به وجه الله أكبر عندنا من كل شيء، وأعظم من كل شيء! نحب أبناءنا إذا حفظوا كتاب الله، من يحفظ شيئاً من القرآن، يكون أحب الناس إليك في القرية أو في المدينة! وكذلك من يدعو إلى الله، ومن يعظ، ومن يذكر، تحبه لله، وفي الله، يرتبط قلبك بقلبه كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الأرواح جنود مجنده، ما تعارف منها ائتلف، وماتناكر منها اختلف}، يراك فيشعر أنك تحبه، وتشعر أنه يحبك؛ لأنه من جنود الله، ولأنه من أولياء الله، ولأنه ممن يأوي إلى بيت الله، ولأنه ممن يرفع ويعظم شعائر الله، هكذا يجب أن تكون أواصرنا القلبية، ومن هنا تعود إلينا البطولة فيصبح طفلنا وذكرنا وأنثانا وشاعرنا وفقهينا وعالمنا ونحوينا كلهم في ميزان واحد، وهو ميزان التقوى، ويصبح لهذه الأمة معنى آخر، وتنال موقعاً لا تستطيع أن تناله أية أمة في التاريخ.(57/10)
حياة القلوب وميزان التقوى
إن الله إنما يرفع الناس وإنما يضعهم بهذا الدين، هذا هو المعيار! الارتفاع والاتضاع بذكر الله، وبالتقرب إليه، وبعبادته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وبالجهاد في سبيله، وفي بذل النفس والنفيس من أجله وحده لا شريك له، وإن غضب الناس فلا يضروك والله.
أبشركم وأطمئنكم أنه لا يدعو أحد إلى الله خالصاً من قلبه، مجتهداً في النصح لهذه الأمة، يريد لها الخير إلا ويلقي الله تبارك وتعالى محبته في قلوبها! هذه قاعدة! وهذه من أسرار القلوب التي لا تدخل تحت أنظار أهل الموازين الدنيوية، ولا يستطيعون أن يدركوها، بل هم أنفسهم يعجزون عنها، لماذا؟ لأن سرها عند الله عز وجل، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الله إذا أحب عبداً، نادى جبريل عليه السلام ياجبريل، إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه؛ فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض} وأنت بحسك البسيط، وبنظرتك الأولية، انظر إلى وجوه اجتمعت على ذكر الله في بيت من بيوت الله، من القسمات من التعبيرات والعيون ترى الصفاء والخير والنور!! ثم انظر إلى وجوه قوم اجتمعوا على غير ذلك! ماذا تجد؟! المؤمن ينظر بنور الله، وغير المؤمن لا يستطيع أن يميز، لا يستطيع أن يرى؛ لكن الذي آتاه الله البصيرة والفراسة يميز بين الوجوه.
والله! إذا عرض عليك اجتماع تستطيع أن تقول هؤلاء يجتمعون على ذكر الله! أو تقول: هؤلاء يجتمعون على معصية الله! لماذا؟ لأن كل إناء بما فيه ينضح، لأن القلوب وما يعتلج فيها يظهر على صفحات الوجوه!! هذا سر أودعه رب العالمين لا يستطيع أحد من الناس أن ينفك عنه، بل السعيد من اكتشفه، ومن عرفه، ومن آتاه الله البصيرة، لكي يدركه ويستمتع به ويحمد الله تبارك وتعالى على هذا.(57/11)
جواذب القلوب
كل منا مر بهذه التجربة، لكن البعض أكثر من بعض، لماذا؟ لأن منا من نشأ مهتدياً وفي بيئة من الخير والإيمان، يأتي عليه العارض أو ماسماه الله تعالى {طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ} [الأعراف:201]، فيقع في ظلمة، فيحضر مجتمعاً للخير، فتنجلي عنه الظلمة، فيحمد الله عز وجل، والبعض قد يكون ممن مرت به حالة مظلمة جداً، ثم يرى شيئاً آخر، وأذكر تعبيراً عبر به رجل كان مغنياً مشهوراً ثم اهتدى!! حدثني أحد الإخوة من الدعاة، فقال: ذهبت إلى منطقة من مناطق المملكة، فدخلت إلى محل غناء لأعظ صاحبه، فإذا بفلبيني نصراني يريد شريط لـ كات استيفن، والكآبة تخنقه، فقُلت له: هل تعرف استيفن؟ فقال: نعم، فقلت: أتدري ما حصل له؟ قال: لا، فقلت: أسلم، قال: فأنا مسلم من الآن، ولا يدري ما هو الإسلام وذلك من شدة إعجاب الناس به! يوسف إسلام لما سئل: كيف شعورك؟ قال: لا أستطيع أن أعبر إلا أن أقول: إنني كنت في ظلمات بعضها فوق بعض، وخرجت إلى نور لا نهاية له.
سبحان الله!! الليلة الواحدة بملايين الجنيهات وبمئات الألوف من الجنيهات، والجماهير تعلق صورته على الصدور وفي كل مكان، وصاحب الدخان يقول: ضع سيجارة شركتي في فمك فقط وخذ كذا ملايين! وصاحب السيارة يقول: قف جوار السيارة، وضع يدك عليها، لنأخذ لك صورة وخذ كذا ملايين.
أدنى حركة يمكن أن يتحدثوا عنها؟! كيف حذاؤه! وهل يحب البطاطس؟! هل يأكل البيض؟! كل فعل يريدون أن يعرفوه! يعبدونه كما يعبدون الأصنام!! وهو يقول: والله مع هذا الشعور عند الناس، أنا أحتقر نفسي وبعد أن يغني يذهب إلى البيت لينعزل عن الناس كلهم بنفسه، يشعر بالنقص والاحتقار! ومن النماذج: امرأة أوروبية مشهورة، وإن كانت لم تسلم بعد، ونحن ما نزال في تواصل معها لتسلم ولكنها اعتزلت الفن كلياً؛ تقول: كلما أرجع إلى أي فيلم من أفلامي أقول: كم كنت سخيفة جداً عندما أمثل هذا! وكم قالت لي ابنتي الصغيرة أما كنت تستحين يا أماه وأنت تمثلين هذا الدور؟! سبحان الله!(57/12)
المحاسبة والرجولة
الذل داخل الأعماق!! لكن من الذي يراه؟! لا بد أن يحاسب الإنسان منا نفسه ويتفقد موازينها؛ حتى يكون رجلاً، انظر إلى نفسك، إلى قلبك، معيارك وميزانك بين جنبيك، بين أضلاعك، انظر إلى قلبك، إلى إيمانك متى يزداد؟ متى ينقص؟ انظر في قلبك وإلى منزلة شعائر الله والقائمين بها في هذه الأرض، واعلم أن موقعك عند الله من كرامته ومنزلته عندك، من الإقبال لتعظيم شعائر الله، ومن إحيائك لذكر الله، ومن حبك لبيوت الله، ولحلقات تحفيظ القرآن، ولندوات العلم والخير والهدى والصلاح.(57/13)
فقدان الرجولة
ومن أراد أن يفقد معاني الرجولة فلينظر إلى الطرف الآخر، انظر إلى أصحاب اللهو، والغناء، والسكر، والعربدة، والفجور، هل يمكن أن يتصفوا بهذه الصفة النبيلة، صفة الرجولة؟؟ إن الرجولة تجمع صفات الغيرة، أو الشجاعة، والكرم، والنبل، فهل يتصف بها أصحاب اللهو والغناء والسكر والفجور؟! هيهات! إن أحد هؤلاء إذا شرب المخدرات أو إذا سهر من أجل المجون والخلاعة، جاءت الدياثة في بيته! فرضيها أو لم يعلم عنها!! هكذا واقعهم، تُفقَد الرجولة!! يمسخ الإنسان! كما أنه يفقد صفة عظيمة من صفات الرجولة وهي الكرم، والكرم لا يتصف به إلا الرجال، هل عند هؤلاء السكارى والعرابدة كرم؟! لا، بل هم أبخل الناس.
إن المضيع للصلاة ولطاعة الله يبخل حتى على أبيه وعلى أمه بالريال أو بالدرهم، فإذا جاءه الصاحب في الخبث والفجور، يدفع ويتبرع ويستدين وأكثرهم مَدِين من أجل اللهو والفساد! لا ينفقه على أهله وأولاده!! بل يضيعهم ويحرمهم من ضرورات الحياة من أجل متعة محرمة، أين الرجولة؟! لا عرض، ولا غيرة، ولا مسئولية، ولا كرم! أين الرجولة؟ إنهم يفقدون حتى معاني الرجولة المعروفة لدى الجميع والبدهية لدى الجميع، والتي هي أقل من الرجولة الحقيقية التي يعرفها المؤمنون.(57/14)
الرجولة الحقيقية
إن الرجولة الحقيقية بمعناها العميق العظيم والتي يتصف بها المؤمنون هي: إيقاظ القلب، وتحريك الجوارح، وابتعاث الهمة؛ لإعلاء دين الله تبارك وتعالى، وإرغام أنوف الكافرين والمنافقين والجاحدين والمعاندين من أجل كلمة الحق، من أجل (الله أكبر)، من أجل (لا إله إلا الله)، هذه هي الرجولة التي يجب أن نتربى عليها ويجب أن نتعلمها.(57/15)
بشائر الرجولة
وإننا لنحمد الله عز وجل، ونفرح ونفخر بأن هذه المعاني بدأت تنغرس في القلوب، بدأنا نشاهد حلقات التحفيظ، نشاهد الاجتماعات الخيرة الطيبة، نشاهد احترام العلم، وافتتاح مكتبات وتسجيلات إسلامية، انتشار الكتيب الإسلامي بل الكتاب الإسلامي، انتشار المؤسسات والمدارس الخيرية، والأعمال التعاونية في كل مكان، ونتفاءل بقول القائل:
إن الهلال إذا رأيت بدوه أيقنت أن سيصير بدراً كاملا
ويقول الآخر: أول الغيث قطرة؛ فأصبحنا نرى من أبناء أمتنا من تخرج وتعلم، وإذا به منارة في منطقته وفي قريته! وإذا الناس كلهم -شيخ القبيلة أو شيخ القرية والأمناء والإمام والناس- يحبونه بينما تراهم يكرهون ذلك الفاجر العاصي الذي يتبع اللهو واللعب، ويرتكب ماحرم الله.
لكن يحتاج الخير منا إلى دعم، وإلى تشجيع، وتأييد، ومساندة، وأن نشترك في الخير، ونتسابق إليه، ونتنافس عليه، كل منا بقدر ما يستطيع، من لم يجد إلا الدعاء فليدع، فليحب الدين والخير والصلاح والإيمان والتقوى والفضيلة، وحفظة كتاب الله عز وجل، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، أَحِبَّهم، ادعُ الله لهم؛ فهذا وحده خير عظيم.
وإن استطعت أكثر من ذلك فافعل، لماذا؟ لأن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، ومقام الرجولة يقتضي منك أكبر من ذلك، لكن أقل شيء أن تحبهم، وأن تدعو لهم، وأن تعلم أبناءك، وأن تغبط من الآباء كل من كان ابنه حافظاً لكتاب الله ومقيماً لحدود الله نسأل الله أن يوفقنا جميعاً لما يحب ويرضى إنه جواد كريم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(57/16)
المستقبل للإسلام
بدأ الشيخ حفظه الله حديثه عن مستقبل الإنسانية، ثم تطرق إلى حضارة الرجل الأبيض كما تسمى مبيناً أنها زائلة، باستقراء أحوال الحضارات الماضية، ومستدلاً بكلام كبار فلاسفة الغرب وأدبائهم.
ثم تحدث عن معارك آخر الزمان بين المسلمين والنصارى واليهود، وبشر أن النصر سيكون للإسلام.
ثم سلط الضوء على شيء من عدالة الغرب المزعومة، موضحاً أن العدل كل العدل في الإسلام، وأن الإسلام هو الدين المسيطر والمهيمن على ما سواه، وداعياً إلى الوثوق بموعود الله تعالى لأهل دينه.(58/1)
حضارة الغرب في الميزان
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ونحمد الله تبارك وتعالى الذي وفقنا لنتحدث عن أمرٍ عظيم جليل يهم كل مسلم ومؤمن وغيور وداعية، ألا وهو مستقبل الحضارة الإنسانية، ومستقبل الجنس البشري على هذه الأرض.
لمن سيكون المستقبل في هذا العالم الذي يموج ويضطرب بالأحداث ويتفاعل بالقضايا؟ حتى أصبح هذا الكوكب الأرضي مسرحاً ومعتركاً للأفكار والآراء، وللحروب والعقائد المختلفة، فمن الذي سيفوز في النهاية؟ وأي دين أو جنس أو مبدأ سوف يسيطر على هذه البقعة من كون الله وخلقه؟ إن الحديث عن المستقبل لا بد أن يسبقه حديث عن الحاضر، فالحاضر هو الطريق إلى المستقبل، بل هو جزء منه في الحقيقة؛ لأنه بدايته، إذاً لا بد من النظر إلى الحاضر الذي نعيشه اليوم.
فمن الذي يقود الإنسانية؟ ومن الذي يتحكم في الجنس البشري؟ ومن الذي يسيطر -ولو ظاهراً- على هذا الكوكب؟ لننطلق بعد ذلك لمعرفة المستقبل، ولمن سيكون، والغيب عند الله تبارك وتعالى، ولكن الله قد أظهرنا على شيء منه فيما يتعلق بهذه القضية، وأودع سنناً كونية من تأملها، وكان لديه بصيرة بعواقب الأمور عرف ما ستؤول إليه الأحداث.
إن الحاضر الذي نعيشه اليوم لا يخفى على أحد ذي اطلاع في هذه الدنيا أن الحضارة المتحكمة في هذا الزمن هي الحضارة الغربية، ونحن عندما نتحدث عن أوروبا أو الحضارة الغربية فإننا نعني بذلك الامتداد الطبيعي، أو الفكري للقارة الأوروبية، أي: الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي بكلا النظريتين، وبجميع الدول التي تخضع لهاتين الفكرتين.(58/2)
حضارة الرجل الأبيض
هذه الحضارة الغربية هي التي تتحكم اليوم في الجنس الإنساني فكرياً ومادياً - ولو ظاهراً - وهي التي عبر عنها الفيلسوف الغربي الكبير برتراند رسل حين سماها: قيادة الرجل الأبيض، أي: الجنس الذي سماه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في القرآن، وسماه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الروم) أو الجنس الرومي، كما سيتبين لنا من الأحاديث التي تطلق في الكتاب والسنة على هذه القارة اسم الروم.
لأن الامبراطورية الرومية والتي كان زعيمها هرقل، هي التي كانت تتحكم في هذه المنطقة من العالم، بل في بلاد الشام ومصر قبل أن يفتحها المسلمون، فكلمة الغرب أو الحضارة الغربية أو أوروبا هي التي ترِد بمعنى الروم.
فالحضارة الغربية هي التي تتحكم اليوم في قيادة العالم مادياً وفكرياً، فهل هنالك من ضمانات لاستمرار هذه القيادة؟ أم أن هنالك مؤشرات وعوامل واضحة للانهيار، وبناءً على ذلك يكون بلا شك مستقبل البشرية؟ الواقع أننا لا نتكلم كلاماً عاطفياً، فلدينا الأدلة الصحيحة الصريحة على أن المستقبل للإسلام، وإن غَضب الروم، وإن كَثروا، وإن قَووا.(58/3)
مؤشرات انهيار حضارة الغرب
نحن لن نتكلم بمجرد العاطفة، أو بمجرد التفاؤل، إنما نتكلم بمنطلق النظر في هذه النصوص الشرعية، وهي كافية وفيها الغنى بلا شك، ولكن لكي يكون الإقناع التام، ولكي تكون الفكرة الواضحة، لننظر ولننتهج المنهج العقلي الحيادي المجرد ونحن نبحث في هذه المسألة.
يقول برتراند رسل: "لقد انتهى دور الرجل الأبيض"، وقبله كتبت كتابات لم يكتبها أشخاص متشائمون، وإنما فلاسفة الغرب، وعباقرة الغرب بأنفسهم قرروا وكتبوا عن مصير الحضارة الغربية والأمثلة على ذلك كثيرة.
ومن أوضح الكتب على ذلك كتاب أُلف في العشرينات من هذا القرن، وهو كتاب (انحطاط الغرب أو سقوط الغرب) الذي ألفه الفيلسوف والمفكر الألماني رسوالد شبنجلر وهو كتاب ضخم ترجم للغة العربية باسم تدهور الحضارة الغربية ترجمه أحمد الشيباني، وملخص ما ورد في هذا الكتاب، على طوله وسعته، أن هنالك عوامل ومؤشرات معينة إذا ظهرت في أي حضارة من الحضارات فإن مآلها إلى السقوط.
فقد درس هذا المفكر الحضارة المجوسية، والحضارة اليونانية، والحضارة الرومانية، وإلى حد ما الحضارة التي يسميها العربية وهي الحضارة الإسلامية، ثم الحضارة الغربية فوجد أن كل عامل من عوامل الانهيار في أي حضارة من الحضارات المنهارة البائدة موجود ومتحقق في الحضارة الغربية، ودرس ذلك كثير من الأدباء، منهم على سبيل المثال (جورج أورويل)، بل ظهرت طبقة من الأدباء الغربيين هي الطبقة التي سماها كولن ولسن اللامنتمي، وهم مجموعة من الأدباء من السويد والنرويج وبريطانيا وفرنسا وغيرها وهؤلاء يطلق عليهم اسم اللامنتمي، وهؤلاء كلهم ينذرون بانهيار الحضارة، ومتشائمون بإفلاس الحضارة الغربية إفلاسا مريعاً ذريعاً.
ولعلنا نستعرض قضيه واحدة، وما أكثر القضايا والمؤشرات التي تدل على إفلاس الحضارة الغربية، لكن هناك قضية واحدة قد تعجبون لها، وهي فعلاً جديرة بأن يتعجب لها.
يقول (شبنجلر) لما نظر إلى الحضارات جميعاً وجد أن هناك عاملاً مشتركاً، بمثابة القاسم المشترك الذي تنهار الحضارات به، فما هو هذا العامل؟ قال: إذا خرجت المرأة من البيت -إذا تركت المرأة دورها كأم- لتعمل وخالطت الرجال؛ ونافستهم فيما خلقوا له، فإن ذلك من عوامل انهيار الحضارات، فيقول: إن هذا قد وجد في الحضارة اليونانية، ووجد في الحضارة الرومانية، ووجد في الحضارة المجوسية، وهو الآن متحقق في الحضارة الغربية.
وهو يكتب هذا الكلام في بداية الثلث الأول من هذا القرن، قبل أن يصل خروج المرأة إلى الحال الذي وصل إليه الآن، وقبل أن يتحقق الأمر الذي ربما لم يجر له على بال.
فهو يقرر هذه القاعدة، فالرومان انهارت حضارتهم في الوقت الذي كانت فيه المسارح الرومانية المختلطة في قوة المجد والأبهة والنشاط، فكان ذلك أحد العوامل في انهيارها، وكذلك الحال في الحضارة الغربية، ويستدل على ذلك بشواهد من كلام الأدباء والمؤرخين الأوروبيين في عصره، على أن الحضارة الغربية سيكون مصيرها إلى السقوط والانهيار، وأن أحد هذه العوامل الواضحة الجلية هو خروج المرأة من البيت ومشاركتها للرجل في العمل.
وحقيقة المسألة هي: أن الأمة التي تكون المرأة فيها أماً، هي أمةٌ متجددة الشباب بطبيعة الحال، ولهذا يلاحظ أن الأمم الشرقية عامة كـ الهند والصين، ممكن أن يتجدد شبابها في أي قرن وفي أي مرحلة من المراحل، أما الضعف التكنولوجي فيمكن أن يعوض وأن يأتي جيل جديد ويستوعب التكنولوجيا وينطلق ويحقق تقدماً حضارياً، لكن الأمة التي تخرج المرأة فيها من البيت وتشارك الرجل في العمل هذه أمة هرمة، ستهرم بعد جيلين أو بعد ثلاثة، فمهما يكن فإنها ستهرم.
وكما قال المؤرخ الإنجليزي العالمي المشهور أرنولد توينبي حينما ذكر هذه القضية، واستدل عليها بحقيقة تاريخية إحصائية، وهي أن العالم الغربي - أوروبا - كانت أكثرية في القرن التاسع عشر، وما تزال هي من أكثر بلاد العالم بالنسبة للكثافة السكانية، وإذا استمرت الحياة في الغرب على هذا النمط، فإن أوروبا ستصبح بعد أجيال أقلية بالنسبة للعالم، بل نص هو على ذلك فقال: إن نسبه التوالد عند المسلمين هي ضعف أو أكثر منها عند الأوروبيين، ومعنى ذلك أنه بعد أجيال سوف يصبح العالم الغربي أقلية بالنسبة للعالم الإسلامي بالذات.
وأضاف أرنولد توينبي نقطة أخرى فيقول: "إن العالم الغربي ستفتك به المخدرات والخمور، في حين أن العالم الإسلامي لا يشرب الخمر"، وهذا وضعه كعامل من العوامل، إذا نظرنا إلى أمة شابة فتية يتضاعف سكانها، ونظرنا إلى أمة تهرم مع الزمن، وكلما يأتي جيل يكون عدد سكانها أقل، وفي نفس الوقت تتعاطى المهلكات كالخمور والمخدرات، فبلا شك -على نظره السطحي الظاهري وإن كان له حقيقة- أن العاقبة ستكون لتلك الأمة ولن تكون لهذه الأمة، فالعالم الغربي يتفوق اليوم بأسباب واضحة أعظمها وأجلاها هو التفوق العلمي الصناعي التكنولوجي.
وقد أثبت الباحثون والمفكرون ذلك نظرياً، وثبت - الآن- واقعيا أن التقدم التكنولوجي ليس بتلك المعجزة التي يعجز عنها خلق الله الآخرون، كما كان يزعم بعض الغربيين، فقد استوعبت الحضارة الغربية والتكنولوجيا الغربية شعوب شرقية، واستطاعت أن تقف على ساقيها وأن تنافس العالم الغربي في صناعاته، فـ اليابان أصبحت تنافس هذه الدول منافسة جلية واضحة حتى غزتها في عقر دارها، وهي محافظة على تقاليدها وبوذيتها ومجوسيتها.
وبإمكان الهند أو باكستان أن تستوعب القنبلة الذرية، وهي سر قوة الغرب وتستمر أكثر من ذلك، والصين قطعت خطىً لا تقل عن خطى روسيا جارتها الشيوعية، وكذلك الكوريون فكما يقال: الكوريون قادمون، أيضاً تايوان (الصين الصغرى) ودول كثيرة وكذلك العالم الإسلامي، وإن كنا سنؤخر الكلام عنه.
كل ذلك يثبت أن التفوق التكنولوجي ليس تلك المعجزة التي ستظل حكراً على الإنسان الغربي إلى الأبد، وإنما في إمكان الشعوب الأخرى أن تشارك، ففي أول الأمر تتعلم ثم تشارك ثم تنافس وفي النهاية سوف تتفوق، وهذه قضية أصبحت تُخيف العالم الغربي بشكل مزعج جداً، لكن السنن الربانية لا يمكن لأي أحد أن يدفعها، إذاً هذا جانب.
الجانب الآخر من جوانب تفوق الغرب هو: تفوقه الحضاري الفكري؛ فبلا شك ولا ريب أن العالم اليوم خاضع إلى حد كبير إلى الفكر الغربي، بمعنى أن اللغات الغربية، الانجليزية أو الفرنسية تكاد تكون لغات التخاطب العالمية، وأن مناهج تعليم الأفكار والأنماط السياسية كـ الديمقراطية والاشتراكية وأمثالها كلها شعارات وأفكار وثقافات ونظريات غربية، وهي التي تكتسح معظم العالم اليوم، لكن حتى هذه ليست بتلك الأزلية الثابتة أبداً.(58/4)
مستقبل التدين في الغرب
يتبين من الإحصاءات التي تجري سنوياً أن الذين يدخلون في الهندوسية والبوذية وحدها -فضلاً عن الإسلام- من الأمريكان والأوروبيين يتزايدون آلافاً مؤلفة سنوياً، ومعنى ذلك أن الثقافة الأمريكية والحضارة الغربية سوف تنطبع حتماً بطابع جديد وبمؤثرات جديدةٍ عليها، لأن الإنسان الأمريكي أو الأوروبي مهما كان فقناعته بحضارته وبثقافته نظرياً، فهو حينما يذهب يلهث وراء أي دين من الأديان.
وحينما يذهب إلى نيبال أو إلى سيام أو بورما ليبحث هنالك عن الدين ويعتنق أي دين فإنه يعبر تعبيراً صارخاً عن إفلاس الحضارة الغربية عقائدياً وفكرياً، وبالتالي فإنه لا بد أن تظهر بصمات واضحة وآثار جلية في الحضارة الغربية سوف تخسر بها كثيراً من نظرياتها التي يزعم أو يتوهم أصحابها أنها خالدة، وأنه لا يمكن لأحد أن يغيرها ولا أن يزحزحها.
فالتفوق الفكري للعالم الغربي ليس بذلك الذي لن ينقضي إذا ما قارناه بالثقافات المجوسية وبالثقافات البوذية والهندوسية، وهي ثقافات بشرية وضعية وثنية قديمة منحطة تتنافى كل المنافاة مع واقع الإنسان الغربي، ومع ذلك فإن الكفة الآن تميل لصالح الإنسان البوذي ضد الإنسان الغربي، وإن كانت الأفكار الغربية اجتاحت الهند والصين، إلا أنها أفكار جاءت عن طريق حكومات علمانية أو شيوعية تسيطر على تلك الملايين المؤلفة من البشر، وتفرض عليهم نظاماً غربياً، إما العلمانية في الهند وإما الشيوعية في الصين على سبيل المثال.
ولكن الشيء الثابت والأساس هو أن الأفراد الغربيين أنفسهم بدءوا هم يدخلون في الدين البوذي، في حين أن المثقفين الهنود والصينيين بدءوا يعيدون النظر في موقفهم من الحضارة الغربية، ويقولون: ليس للغرب أية ميزة، ونحن لنا حضاراتنا ولنا أمجادنا، فإن الشيوعية التي تسيطر بقوة الحديد والنار في الصين قد حدثت فيها عدة انتفاضات ضدها، وبدأ الإنسان الصيني يراجع نفسه ويقول: لا بد أن نرجع إلى البوذية، لا بد أن نرجع إلى ديننا إلى دين الآباء والأجداد، ولماذا نأخذ نظريات ماركس ولينين وأمثالهما، ونحن عندنا أفكار بوذا فيها ما يغني وفيها ما يكفي وفيها ما يضمن لنا الحياة المستقرة الهادئة المطمئنة؟ مع أن كلا الحضارتين وكلا النظريتين باطلٌ ووثنيٌ جاهلي، إلا أن هناك رجحان في كفة هذه على تلك.(58/5)
دعوة الأمة إلى الأخذ بأسباب التوبة
إذا كان هذا بالنسبة لتلك الأمم فما هو الحال بالنسبة للعالم الإسلامي وللأمة الإسلامية؟ الأمة الإسلامية اليوم تشهد صحوة ويقظة، وإذا استخدمنا التعبيرات الشرعية -وهي الأصح والأولى- فإننا نقول ونسميها توبة، فالعالم الإسلامي اليوم يعيش بداية توبة وإنابة ورجوع إلى الله تبارك وتعالى، وذلك لعدة أمور:- أولاً: أن من داخل العالم الإسلامي حركات ودعوات ضمير يحرك العالم الإسلامي للعودة إلى الدين نقياً سليماً صافياً، وهذا الضمير الموجود في هذه الأمة يعبر عنه وجود طائفة من هذه الأمة لا تتزحزح ولا يتزعزع إيمانها مهما ذهبت بقية الأمة؛ ومهما انحرفت ومهما انجرفت مع التيار، وهي الطائفة التي أخبر عنها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق حين قال: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله}.
وأمر الله هو الريح الطيبة التي تهب قُبيل قيام الساعة فتقبض أرواح المؤمنين، فلا يبقى إلا شرار الناس وعليهم تقوم الساعة، عافانا الله وإياكم من ذلك.
إذاً: فهذه الطائفة المنصورة موجودة وجوداً حقيقياً حسياً وموجودة وجوداً علمياً، فالقرآن -ولله الحمد- موجود وكأنما أنزل اليوم، وسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موجودة، بل ظهر من الاعتناء بها في هذا العصر الشيء الذي لم يظهر مثله في قرون كثيرة مما سبق، وكتب السلف الصالح ودعاة الأمة والمجددين موجودة بين أيدينا، وتجاربهم موجودة بين أيدينا.
فإذاً هنالك عامل ورافد من روافد العودة والإنابة والتوبة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى موجود في قلب الأمة الإسلامية أو في ضمير الأمة الإسلامية وهذا لن يموت، ولن يخفت بإذن الله تبارك وتعالى.
والأمر الآخر: أنه بقدر ما يظهر إفلاس الحضارة الغربية، وانهيار الحضارة الغربية وانحطاطها وتدهورها والسفول الأخلاقي البهيمي الذي تعيشه، بقدر ما يوجد لدى المسلمين -كما وجد لدى غيرهم من الشعوب- القوة والاعتزاز بالنفس والشعور بالانتماء وبالذات، ورفض التبعية والتقليد والانتماء لتلك المناهج التي أعلن أصحابها إفلاسها، وأعلنوا حيرتهم وضياعهم وشقاءهم.
فكل من هذين العاملين كلاهما يؤيد الآخر في أن الصحوة الإسلامية أو العودة والتوبة، أصبحت حقيقة واقعة يراها الإنسان في كل مكان من بلاد العالم الإسلامي.
والذي يبشر بالخير أكثر فأكثر: أن هذه العودة هي عودة إلى المنابع الأصلية، إلى القرآن والسنة وإلى سير السلف الصالح، فلم يشهد عصر من العصور انتشاراً لكتب السلف الصالح وأئمتهم ودعاتهم وعلمائهم كشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وابن القيم، والشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله أجمعين- كانتشارها في هذا العصر في شتى البقاع، وبلغات شتى، وفي هذا دليل على أن الأمة الإسلامية بدأت تعرف أين هو، وما هو المصدر الحقيقي الذي تكون الانطلاقة منه صحيحة وسليمة؟ ولا بد أن تتحقق النتيجة بإذن الله تبارك وتعالى.(58/6)
الأدلة على سقوط المنهج الغربي
وما سبق إنما هو بالنظرة المجردة للواقع، كواقع بالنسبة للعالم الغربي وبالنسبة للعالم الإسلامي، لكن إذا ما نظرنا إلى النصوص وإلى الأدلة الشرعية فإننا نجد ما يؤيد ذلك تأييداً قوياً جلياً صريحاً.(58/7)
سقوط الكنيسة الشرقية وملك فارس
يقول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عندما سأله أحد التابعين قال له: {يا عبد الله أيُّ المدينتين تفتح أولاً: مدينة هرقل أم روميا؟ -يعني القسطنطينية تفتح أولاً أم روما - فأخرج عبد الله بن عمرو كتاباً من صندوق كان لديه، وفتحه وقرأه وقال: أخبرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -ونحن نكتب- أن مدينة هرقل تفتح أولاً}.
ما معنى ذلك؟ إذا تحدثنا بالنظرة الفكرية بغض النظر عن القضية الجغرافية، فإن العالم النصراني ينقسم إلى كنيستين كبيرتين: الكنيسة الشرقية، والكنيسة الغربية، والعالم الصليبي هو أعتى وأقوى أعداء الإسلام، وهو الذي -كما سنعرض في الأحاديث- سيظل العدو اللدود للإسلام إلى قيام الساعة.
هذا العدو ينقسم إلى كنيستين: الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية.
الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية ومقرها القسطنطينية، والكنيسة الغربية الكاثوليكية ومقرها روما، وعبد الله بن عمرو يُسأل فيقال له: أي المدينتين تفتح أولاً؟ ونلاحظ من هذا السؤال أن التابعي ليس لديه شك في أن كلاً من القسطنطينية وروما ستفتح، وما سأله هل ستفتح روما وإنما سأله أي المدينتين ستفتح أولاً؟ فعنده يقين بأن المدينتين ستفتحان لكن أيهما تفتح أولاً؟ فقال له عبد الله بن عمرو عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مدينة هرقل تفتح أولاً.
فالكنيسة الشرقية هي أول ما ينهار في طريق الزحف الإسلامي المظفر، وقد حصل ذلك، وقد اجتاحها المسلمون فبدءوا بـ بلاد الشام، وقد كانت قاعدة حكم الامبرطورية الرومانية لـ هرقل، وقد أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث الصحيح: {إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل} وقد أنفقت كنوزهما في سبيل الله عز وجل.
ولما أن كانت القصة المعروفة المشهورة -التي رواها الإمام البخاري في أول الصحيح- ولم يؤمن هرقل ولكنه كاد أن يسلم ثم بقي على دينه، فلما أن جاء الزحف الإسلامي وتقدم إلى دمشق ففر هو إلى حمص، فلما تقدم الزحف الإسلامي إلى حمص، قال هرقل الكلمة المشهورة: سلاماً عليك يا سوريا، وداعاً لا لقاء بعده.
فقد علم بذلك من قَبل لما جاءه كتاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: {والله ليبلغن ملكه ما تحت قدمي هاتين} فقد كان يعلم ذلك، فهم يعلمون أن هذا الدين سيظهره الله على الدين كله ولو كرهوا وقاوموا، فانسحبت جيوش هرقل.(58/8)
سقوط الكنيسة الغربية
أما الكنيسة القبطية التي في مصر فقد اضمحلت -ولله الحمد- وتلاشت إلا ما بقي من الأقباط، وبدخول محمد الفاتح إلى القسطنطينية سقط معقل الكنيسة الأرثوذكسية، أي النصف الشرقي من العالم الصليبي النصراني، سقط في أيدي المسلمين وبقي من العالم القسم الغربي وهو الذي قاعدته روما.
يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي رواه الإمام مسلم: {تغزون جزيرة العرب فيفتح لكم، ثم تغزون فارس فيفتح لكم، ثم تغزون الروم فيفتح لكم، ثم تغزون الدّجال فيفتح لكم}.
وبهذا الترتيب نجد أن الذي وقع فعلاً هو ذلك، فـ جزيرة العرب فتحت في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وانتهى أمرها، وثبتت في أيام أبي بكر بعد القضاء على المرتدين، وظلت وستظل بإذن الله قاعدة للدين الإسلامي {لا يجتمع فيها دينان} كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا خبر ولكنه حكم يجب أن لا يجتمع في جزيرة العرب دينان، فلا يبنى فيها كنيسة ولا معبد لأي دين من الأديان، ولا يقيم فيها غير مسلم إلا الإقامة المؤقتة، لا يسكنها ولا يقيم فيها اليهودي ولا النصراني إلا بصفة مؤقتة للضرورة، وإلا فهي معقل الإسلام الذي يجب أن يصان عن رجس الشرك.
{ثم تفتح فارس} وقد فتحت فارس فتحاً كاملاً، اجتاح المسلمون ملك كسرى إلى أن وصلوا إلى حدود الصين، فكسرى مزق كتاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يمزق ملكه، فمزق الله ملكه ولم يبق منه شيء، وهرقل احترم كتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -هذه إحدى الدلالات البينات من دلائل النبوة، وكاد أن يسلم كما أشرنا- فبقي له جزء من الامبراطورية الغربية بعد أن تقدم المسلمون إلى بلاد الشام وإلى أن حاصروا القسطنطينية في أيام معاوية بن أبي سفيان، ثم من بعده رضي الله عنهم.
قال: {ثم تفتح الروم} والفتح الحقيقي للروم كما يظهر من الحديث -لأنه قال {ثم الدجال} - يكون إذا فتحت المدينة الأخرى وهي مدينة روما، وحينئذ تكون الكاثوليكية أو بمعنى آخر: تكون قاعدة الدين النصراني الكبرى قد سقطت هي الأخرى في أيدي المسلمين كما سقطت من قبل مدينة هرقل وهي قاعدة الكنيسة الشرقية، ونتيجة لذلك لن يقوم للنصرانية قائمة بعد ذلك بإذن الله تبارك وتعالى.(58/9)
ملحمة آخر الزمان
بقي لدينا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قال كما في الحديث الذي رواه مسلم وكان بحضرة عمرو بن العاص وشهد له {تقوم الساعة والروم أكثر الناس}.
وفي الحديث الآخر الذي جاء من عدة طرق وروايات: {أن الروم يقاتلون المسلمين ويغزوهم حتى ينزلون بـ الشام} وهذا يدل على أن هناك كرةً أخرى سوف تستعيد فيها أوروبا قوتها ونشاطها وتغزو العالم الإسلامي، حتى أنها تنزل بـ الأعماق في أرض الشام وهناك تكون الملحمة المشهورة التي في أرض الشام.
هذه هي الملحمة النهائية الفاصلة التي لا قيامة بعدها للروم، وفيها تكون المعركة الحاسمة، حتى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفها وذكر أيامها وأهوال هذه الحرب، وبعد انتهاء الملحمة بهزيمة الروم يكون تفوق العالم الإسلامي، وتفوق المسلمين النهائي على العالم الغربي، رغم أنهم قد يكونون أكثر منهم مناعةً وقوةً وعتاداً وسلاحاً.
فالمهم أن هذه الملحمة لا بد منها، ولا بد من أن تتفوق وتنتصر فيها الأمة الإسلامية ولا تقوم بعد ذلك للروم قائمة، وفي نفس الوقت نجد أحاديث صحيحة تدل على أن المسلمين سوف يقاتلون اليهود وينتصرون عليهم انتصاراً ساحقاً، كما في الحديث: {حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله}.
وتصوروا كيف تكون حالة العالم إذا قضى المسلمون على اليهود وقضوا على النصارى، ما الذي سيبقى؟ العالم الغربي -الآن- أشبه بوحش كبير جداً يسيطر على الدنيا ومنها العالم الإسلامي، وهذا الوحش على رأسه تلك الأفعى اليهودية توجهه يميناً وشمالاً، تمتص خيرات هذا العالم، وتوجهه ليحارب من شاء ويترك من شاء، فإذا قضى المسلمون على اليهود والنصارى -كما بشر بذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنه لن تقوم حينئذ للعالم الغربي قائمة فيندحر بذلك ويندحر أقوى وأعتى أعداء الإسلام، ويتحقق قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار} ويدخلون في دين الله أفواجاً.
هذه نظرة عجلى على النصوص التي تدل على أن المستقبل -بإذن الله تبارك وتعالى- للإسلام، وأن الحضارة الغربية هي بلا ريب وبلا شك مآلها إلى الانهيار والدمار.(58/10)
بين عدالة الغرب وعدالة الإسلام
إذا عدنا إلى المستقبل القريب الذي يعيشه العالم اليوم، وأردنا أن ننظر إلى بشائر العودة إلى الله والإنابة والتوبة إليه من جهة، وإلى واقع العالم الغربي من جهة أخرى، فإنه تتعارض لدينا قضيتان.
القضية الأولى: التفوق العلمي، والتفوق التكنولوجي والمادي الذي يعيشه العالم الغربي، بحيث إنه يمتلك من العتاد والسلاح والأساطيل والصواريخ والقوى ما يجعل مجرد التفكير في حربه ومقاومته -كما يبدو ظاهراً- أمراً صعباً ومريعاً للغاية، أو مستحيلاً لا يمكن أن يفكر فيه إلا مغامر مهووس لا يقدر العواقب والأمور، كما يتصور ذلك العالم الغربي على الأقل.
لكن في نفس الوقت نجد أن هذا العالم الغربي لديه الخواء النفسي والروحي الرهيب، فلديه الذعر الذي يسيطر عليه من داخله، وتسيطر عليه الجريمة، والإدمان بجميع أنواعه، والانهيار الاجتماعي وتفكك الأسرة من الداخل.
إذاً كما قال المفكر الإنجليزي (جود): 'نحن مثل الذي يملك قوة العفاريت ولكن بعقول العصافير، هذا العالم قوة عفاريت ولكنها بعقول العصافير'.
فإذا فقد الروح هذا الهيكل العظمي الحديدي الذي يتمثل في الأساطيل وفي الصواريخ وفي الصناعات، إذا فقد الروح فإنه مهما كبر فلن يؤدي أي دور على الحقيقة، بل هناك نظرية معروفة الآن على المستوى السياسي والدفاعي وهي ما يسمى بنظرية "توازن القوى" بمعنى أن الأمة التي تمتلك قنبلة ذرية أو هيدروجينية متفوقة على الأمة الأخرى، فإذا امتلك الخصم قنبلة مناظره أو مقابله معنى ذلك: أن كلا الطرفين لن يستخدم السلاح النووي، فسيضطر الطرفان أن يعقدا الاتفاقيات للحد من الأسلحة النووية، لأنه لا يمكن أن يستخدمها لا هذا ولا ذاك في المعركة؛ لأن كلاهما خاسر في المعركة فيها، فتعود الأمور إلى الأسلحة التقليدية.
وهناك ما هو أعظم من ذلك حين تعود المسألة إلى المعنوية النفسية، وهذا أمر مشاهد، فالإفلاس عند الإنسان الغربي في ضميره وروحه وأخلاقه، فكيف كانت أحوالهم وهم يحاربون في فيتنام بل وإلى الآن، فقد نشر أن في القواعد الأمريكية في بريطانيا قد يصبح الشخص مدمناً على المخدرات بحيث إن بقاءه في القواعد لا يصلح، وهذا يؤدي إلى أن يطرد يومياً شخص على الأقل ما بين ضابط إلى صف ضابط إلى آخره.
وانظروا إلى هذه العوامل إذا استمرت كيف يكون الفتك، وكيف إذا انتشرت الأوبئة والأمراض التي أصبحت حديث العالم وهَمَّ العالم، وهي منتشرة بلا شك بين العالم الغربي، ومنه جنوده هؤلاء، فنقول: إن عوامل الانهيار الذاتية في العالم الغربي تجعله يوماً من الأيام يستسلم ويركع أمام أي عدو.
فكيف إذا كان الخصم المقابل هو من يملك النور والهداية والبرهان والحق المبين، والعالم الغربي يفتقر اليوم إلى العدالة، ومن الذي يملك العدالة؟ فالعالم الغربي أحوج ما يكون اليوم إلى العدالة، فلا تغرنا مظاهر ما يسمى بـ الديمقراطية أبداً، فإن هذا عالم يحتاج إلى العدالة.
يقول (تومبي): "إن الديمقراطية -المزعومة بشعاراتها الثلاثة البراقة (الحرية، الإخاء، المساواة) - شعار براق لأن حياة الغرب في الحقيقة ما هي إلا صراع بين مبدئين: الحرية والمساواة"، كيف هذا؟ هذا كلام قد يستغربه بعض الناس، فيقول: إن حقيقة الديمقراطية ليست هي الحرية والإخاء والمساواة! بل إن فإن حقيقتها أن العالم الغربي يعيش في صراع بين مبدئين، وهما نفس المبدئين اللذين جاءت بهما الديمقراطية، بين مبدئي الحرية والمساوة، ولا يمكن على الإطلاق أن تتحقق المساواة مع الحرية، ولا أن تتحقق الحرية مع وجود المساواة أبداً، فكيف يأتي هذا المبدأ ويرفع شعارين متناقضين في وقت واحد، ويؤمن به العالم الغربي، وهو يعاني هذا الصراع.
ويقول: الكسس كاري في كتابه (الإنسان ذلك المجهول): إني أتعجب كيف تصبر الإنسانية على هذا الشعار السقيم أو العقيم، ولن يدوم صبر الإنسانية على هذا الشعار -يعني الديمقراطية - لماذا؟ يقول: لأنها تقضي على الفرد الممتاز، فـ الديمقراطية والمساواة المطلقة في أي وقت وزمان تقضي على الفرد الممتاز المتفوق؛ فبالتالي فإنها تحشر الناس قوالب كبيرة جداً في أطر معينة، فإن فتح المجال للحرية ظهر التفاوت الكبير الذي لن تتحقق معه المساواة.
فالعالم الغربي يفتقد للعدل، يقتل عدد من رؤساء الدول أو رؤساء وزراء الدول بتدبير من شركات السلاح، وتستمر القضية (20 سنة) وأكثر ولا يعلم القاتل، أين العدالة؟ إن هذا ليس بشراً عادياً، إنه هذا رئيس الدولة، ولا يعلم قاتله، ولا تقتص العدالة من الجاني، إذاً هذا العالم يعاني الإفلاس الرهيب من العدالة، فأين توجد العدالة؟ وأين يوجد العدل؟ وأي أمة على ظهر الأرض تملك العدل؟ هل في الطرف الآخر الشيوعية؟ كاتب غربي مشهور يدعى (آرثر فوستلر) جرب الشيوعية وجرب الرأسمالية، ثم كتب عن ذلك كتاباً يقول فيه: كثير من الناس يتكلمون عن مساوئ الشيوعية وينسون مساوئ الرأسمالية، وكثير منهم يتكلم عن مساوئ الرأسمالية وينسى مساوئ الشيوعية، أما أنا فأقول: لعن الله كليهما.
يقول: إن الاثنين كلاهما مفلس، وهذا كاتب كبير على مستوى العالم، وأظنه فاز بجائزة نوبل، يقول: إن الاثنين ملعونين، وإنهما سواء ليس هناك من عدل.
إذاً: فمن الذي يملك العدل؟ إنها الأمة الربانية التي تملك شريعة الله التي لا تحابي ولا تجامل أبداً، الأمة التي علمت الناس العدل.
ونضرب مثالاً واحداً على العدل، وما أكثر الأمثلة على ذلك العدل وغيره.
كانت مصر مستعمرة للدولة الرومانية، التي هي قبل الحضارة الغربية في سلم التسلسل الأوربي للحضارات، وكان الروم طبقتين -نفس الشعب على طبقتين- طبقة الأسياد، وطبقة العبيد، وطبقة العبيد في الدولة الرومانية يتحكمون في أبناء الشعوب المفتوحة مثل مصر والشام، فكانت منزلة الإنسان المصري أو السوري هي طبقة عبيد العبيد للامبراطورية، وما الذي حصل عندما دخلوا في دين الله عز وجل؟ بعد أن فتح المسلمون مصر ودخلوا فيها، وأتى - ابن عمرو بن العاص ابن القائد الفاتح الذي يحكم مصر - فلطم أحد أبناء الأقباط، فما الذي وقع؟ يأتي هذا القبطي ويشد رحله -ناقته- ويسير المسافات والأيام إلى أن يصل المدينة ويقول لـ عمر: إن ابن فلان لطمني، ودعونا من عدل عمر المعروف، ثم دعونا من قضية الإسلام، وأنه لا يُقر لأحد أن يعتدي على أحد، مهما كان هذا المعتدي كبيراً أو ابن كبير، فهذا منكر وجريمة لا يقرها الإسلام، وهذا معروف، لكن انظروا ما الذي جعل القبطي يثأر لكرامته، ويرحل هذه المسافات البعيدة ليقتص ممن لطمه، وهو منذ سنوات كان هو وأعظم شخصيات بلده عبداً لعبيد الامبراطورية الرومانية، فهذا الانقلاب الكبير أحدثه الإسلام، وأحدثته عدالة الإسلام.
يفتح جيش قتيبة بن مسلم الباهلي رحمه الله وهو من كبار قواد المسلمين، وكما في تاريخ الطبري، وابن كثير من قرأ فيهما يجد ما لقي المسلمون من عنت شديد من أهالي سمرقند وما حولها من البلاد، يصالحون ثم يغدرون، ويصالحون ثم يغدرون، حتى تعب المسلمون وخسروا أبطالاً عظاماً.
فـ قتيبة بن مسلم رضي الله تعالى عنه ورحمه صالحهم، ولما صالحهم وهو يعلم أنهم سيغدرون بدأ بهم فهاجمهم؛ فتمكن منهم فقضى عليهم، فجاءت العدالة التي لا يؤمن بها أولئك الوثنيون ولم يسمعوا عنها، فقالوا: لا بد أن نذهب ونشتكيه؛ لأن هذه أمة لا ترضى الظلم، فذهبوا إلى الخليفة.
وكان الأمر قد آل من سليمان بن عبد الملك الذي أرسل قتيبة إلى الخليفة العادل الراشد عمر بن عبد العزيز، فقالوا: يا عمر إننا قد صالحنا جيشك ثم غدروا بنا، ونحن جئنا نشكوهم، فقال: أهكذا كان؟ قال المسلمون: نعم -فليس لدينا كذب فنحن أمة العدل- لماذا؟ قالوا: لأنهم غدروا بنا مرات، فقلنا: لابد أن نصالحهم ثم نغدر بهم وتمكنا منهم فقال: لا، وأمر الجيش بأن يخرجوا وأن يبقى الصلح.
فليغدر عدونا ما شاء وليكذب ما شاء، فنحن لا نكذب لأننا أمة العدل، إذا أردنا أن نحاربهم ننبذ إليهم على سواء، ونقول لهم: انتهى الصلح الذي بيننا وبينكم فاستعدوا، فلما رأوا ذلك تعجبوا وظنوا أن الأمر كذب وإذا به حقيقة، وإذا بالجيش ينسحب، فما كان منهم إلا أن أسلموا عن حق وحقيقة ودخلوا في دين الله، وبقيت معقلاً من معاقل الإسلام، ونسأل الله تبارك وتعالى أن تعود كذلك.
هذا من ناحية إفلاس العالم الغربي في العدالة، وإفلاسه في القيم، والأمن، والأسرة المتماسكة.
هناك أيضاً قضية مهمة جداً وهي: أن الوهم الذي كان يسيطر على العالم، وهو أن العالم الغربي لن يستطيع أن يقاوم صواريخه وأساطيله أية أمة من الأمم، هذا الوهم قد تبدد وتبخر بنموذج إسلامي حي معاصر وهو أفغانستان، شعب أعزل يحارب بالبنادق المصنوعة في القرن التاسع عشر، على نمط البنادق القديمة التي تحاربت بها النمسا وفرنسا في القرن التاسع عشر -قديمة جداً- يسلب من عدوه الرصاصة الواحدة، ليعيدها إلى صدر عدوه، ومع ذلك يحارب أعتى دولة في القسم الشرقي من العالم.
وتعلمون جميعاً -ولله الحمد- كيف آلت أمر هذه الحرب، وبدون أية مساعدة وتدخل عسكري من أي دولة إسلامية أخرى أبداً، هذا الشعب الأعزل بمفرده يقاوم هذه المقاومة العنيدة الأبية الصامدة مع ضعف في التربية بلا شك، ومع تفرق ابتليت به الأمة الإسلامية، ومع عوامل كثيرة لا يهمنا الآن أن نعددها، ولكن الذي يهمنا هو أنه مع هذه العوامل(58/11)
الخاتمة
بقي أن نقول كلمة بين يدي ختام هذا الحديث وهي: هل يقيننا وإيماننا الذي لا يتزعزع ولن يتزعزع -بإذن الله- بأن المستقبل للإسلام، هل يعني ذلك الركون والدعة والتكاسل؟ وهل يعني ذلك أن هذا العدو اللدود -ولاسيما العالم الغربي- سوف يستسلم لنا بسهولة ويخضع لنا بسهولة؟
الجواب
إنه لا يمكن أبداً، بل سوف تكون المعركة على أشد ما تكون، وهذا يستدعي من كل واحد منا أن يجعل نفسه فعلاً على ثغر من ثغور الإسلام، والله الله أن يؤتى الإسلام من قبله.
احم بيتك من تأثير هذه الحضارة الفاسدة الكاسدة، احم أبناءك من سمومها، احم نفسك من ذلك، وقاومها ما استطعت أن تقاوم، لتبدأ الطريق من أوله، وإذا كان غاندي رفع شعار المقاومة السلبية التي تعني ألا تشتري من الإنجليز ولا تركب في مواصلاتهم إلخ كلها مقاومة سلبية، وحقق الانتصار لبلاده، فكيف المسلمون؟ كيف لو حققنا أو بدأنا ببيوتنا فنظفناها، وبدأنا بأموالنا فحفظناها من أن نبذرها على شهواتنا في تلك البلاد؟ بل حتى الأمور الحاجية، فلا نأخذ إلا الضروريات ونقف عند شيء من الحاجيات، فضلاً عن الكماليات، فضلاً عن المحرمات.
يجب علينا أن نعرف أننا أمة مستهدفة ومحارَبة وهي أيضاً محارِبة، فلابد أن نبدأ الطريق من الآن، ولا بد أن نهيئ أنفسنا وشبابنا بالإيمان القوي، لأن هذا العالم الكافر العنيد القوي لن يقاومه إلا من آمن بالله تعالى حق الإيمان.
كما كان المؤمنون في أيام اليرموك، وفي فتوح فارس، يأتي المئات من جنود الروم أو الفرس مسلسلين بالسلاسل بعضهم مع بعض ويتقدمون صفاً واحداً حتى لا يتزحزحوا، ويأتون معهم بالفيلة، ومعهم الرماح الطويلة، ويهجم المسلمون حتى أن بعض المسلمين كـ عبد الله بن الزبير رضي الله عنه ألقى الدرع، وأخذ يواجه هذه الكتائب المسلسلة وهذه الفيلة بصدره وهو حاسر، وتقدموا وثبتوا حتى نصرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
يجب أن يكون شبابنا قوياً في إيمانه، ويجب أن يكون قوياً في جسمه، فسموم الحضارة الغربية وشهواتها تفتك بشباب المسلمين في جسده، وفي عقله، وفي إيمانه، وفي كل شأن من شئونه، بل حتى في ماله، فلا بد أن نخلص شبابنا من ذلك، وهذا هو بداية النصر، وهذا هو بداية المعركة.
والمعركة الآن قائمة معلنة من طرف واحد، وهو طرف العالم الغربي ونحن غافلون.
وانظروا -وأنا أذكر مثالاً من قضايا كثيرة- ماذا تكتب وسائل الإعلام والصحافة في العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه عن العالم الغربي من اختراعات وبطولات عظيمة، حتى الجريمة الغربية تكتب وكأنها شيء جديد وحضاري، ولكن انظروا ماذا يفعل الغرب لو حققنا أعظم إنجاز، ما يكتب عنه الغرب إلا على سبيل الاستهزاء، أو الشماتة، أو التشاؤم، أو التحقير، وهذه الصحف الغربية أنتم أعلم مني قطعاً بها؛ لأنكم تقرؤونها بلغتها، وربما منكم من يقرأها يومياً، فلا يمكن أن تكتب عنا خيراً، لا صحافتهم ولا تلفازهم ولا وسائل إعلامهم.
فإلى متى يا شباب الإسلام؟ إلى متى تظل الحرب قائمة ومعلنة من طرف واحد والطرف الآخر مستسلم؟ نحن نقول هذا على مستوى الأمة الإسلامية ككل، وعلى مستوى الشباب المتنبه والغير متنبه، يجب أن نكون جميعاً أمة الإسلام يداً واحدة نقاوم هذا العدو، ونبدأ المعركة ونستشعرها -أقل ما يكون- في شعورنا الذاتي الخاص، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا وإياكم إلى ما يحب ويرضى.(58/12)
مشاركة من طالب أمريكي
هناك أحد الإخوة يريد أن يعرض علينا بعض ما سماه (نبذة عن تدهور الغرب) من خلال واقع عاشه أثناء دراسته في أمريكا، فليتفضل: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه.
أنا آسف لأني قد أخذت من وقت المحاضر، ولكن هناك بعض الأمور تدور في خاطري فأحببت أن ألقيها على مسامعكم، فأسأل الله عز وجل أن ينفع بها.
في الواقع إن لما سأذكره صلة بالموضوع وإلا لما طلبت ذلك، ففي أثناء دراستي للماجستير في الولايات المتحدة كان هناك من المواد التي درستها مادة اسمها (الإعلام)، وأتى المحاضر بشريط فيديو وعرض علينا هذا الشريط واستمر العرض لمدة ساعتين، وكان يعرض فيه جميع أنواع الإعلانات في التلفزيون الأمريكي، وطلب منا كطلبة أن نأخذ ملاحظات على كل إعلان من هذه الإعلانات، فعندما أتاني الدور وقال لي البروفسور: أعطني ملاحظاتك على ما رأيت من إعلانات، فقلت له: لدي ملاحظتان فقط: الملاحظة الأولى هي: سوء استخدام المرأة في الإعلان، وما أن انتهيت من كلمتي هذه إلا وقلن البنات اللاتي كن في الصف: هو محق نحن مظلومات في هذا المجتمع، المرأة تستخدم استخداماً سيئاً في هذا المجتمع، وما يقوله نحن نعانيه، فإذا بأحد اليهود -وهو من الطلبة وقد كان جالساً معنا- ضج لهذه القضية، وكأنهم سبحان الله العظيم هم وراء هذا، فما استطاع أن يمكث في الفصل وخرج، ثم ضج بعد ذلك الفصل وأخذوا يتكلمون بين معارض ومؤيد، ولكن البنات أجمعن على أن ما تحدثت به هو الحق، وأن المرأة تستخدم استخداماً سيئاً في الإعلام.
وحتى ألطف الجو قلت له: أريد أن أنقد إعلاناً آخر من الإعلانات التي رأيتها، وهو يدل على تدهور الحضارة الغربية، وهو أن هناك إعلاناً يأتي على الشكل التالي: تأتي إحدى السيارات تنحرف يميناً وشمالاً، ثم تأتي سيارات الشرطة من كل جانب لتحيط بهذه السيارة وعنوان هذا الإعلان: ' if you drink its your business but if you drink and drive its our business' ومعناه أنك تشربت الخمر بحريتك، لكن إذا شربت الخمر وقدت السيارة فإننا سوف نمسك بك.
فالحاصل أن هذا الإعلان لا يؤدي دوره، لأن الذي يشرب الخمر يفعل الأفاعيل، فقد يزني بأمه -والعياذ بالله- وقد يقتل أمه وقد يقتل أباه، فما بالك بمن يركب السيارة ويسوق، فأنت لم تعالج قضية شرب الخمر بل عالجت ظاهر القضية وهي أنه إذا شرب الخمر لا يركب السيارة وهذا شيء غير صحيح، فتلطف الجو عندما ذكرت هذا النقد الثاني.
والحقيقة أن التجارب التي رأيناها كثيرة، وهي التي أثبتت فعلاً أن المستقبل لهذا الدين، وأبشركم بشارة أنه لا تكاد تخلو مدينة في الولايات المتحدة الأمريكية من وجود مسجد يُعبد فيه الله عز وجل، بل إن هناك إحصائية قالها أحد المسلمين وهو بروفسور في جامعة نيويورك قال: إنه لا يوجد مسافة أطول من خمسين ميلاً في الولايات المتحدة في جميع الاتجاهات إلا ويوجد فيها مسجد، فهذه من البشائر التي تدل على عودة هذا الدين، أقول قولي هذا واستغفر الله.
قال الشيخ سفر: شكر الله للأخ، وأنا واثق ثقة تامة أن كل من عاش أو ابتعث إلى الغرب -وهم منكم كثير بحكم عملكم- فإنه لو وقف هنا لجاء بمثل ما ذكره الأستاذ عبد الرحمن، وأكثر العجائب والغرائب لا تنتهي في تلك البلاد، وكلها -ولله الحمد- دلائل ومبشرات ومؤشرات على أن المستقبل هو لهذا الدين، وعلى أن التبعة علينا نحن المسلمين عظيمةً جداً في إصلاح الإنسانية وفي قيادة الإنسانية، وأنه قد آن الأوان لنا أن نقود الجنس البشري:
قد هيئوك لأمر لو فطنت له فأربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
.(58/13)
الأسئلة(58/14)
حديث (إن الله زوى لي الأرض)
السؤال
ورد في الحديث أنه سيبلغ حكم أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما زوى له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأرض متى يتم ذلك؟ وكيف؟ وهل نحن على أبواب ذلك؟
الجواب
متى، العلم عند الله تبارك وتعالى، لكن هذا الحديث من جملة الأحاديث التي تبشر بأن المستقبل للإسلام وهو يتظافر مع ما ذكرنا من أحاديث، وأن ذلك كائن لا بد، أما متى فالله أعلم، ولا يهمنا متى بقدر ما يهمنا أنه آتٍ، وهل نحن على أبواب ذلك؟ الحقيقة أن الغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل، لكن الله عز وجل أعطانا نحن من الأسباب ما لو بذلناه لو شئنا لبدأنا من اليوم على أبواب ذلك.
فنعود إلى الله تعالى عودة صادقة، وندعو إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، نُحكِّم كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنكون على الأبواب؛ لأن هذه هي الضمانة، وهذا هو المنطلق، فإن أخرنا ذلك فالتأخير منا، كما أن الإنسان بإمكانه أن يبادر إلى الصلاة أو يتكاسل عنها -والعياذ بالله- وهذا بإمكانه، فإن النصر آتٍ آت.
ولكن بيدنا نحن إن شئنا بعد توفيق الله عز وجل وبعد مشيئة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بلا ريب، وإن بقينا هكذا فسوف تتأخر بالنسبة لنا فقط، وإلا فإن الله تبارك وتعالى يقول: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] إذا تخلى العرب سخر الله العجم أو البربر أو الزنوج أو حتى الفرس أو أية أمة، ولا يهم ذلك المهم أنها تقوم بدين الله فتستحق بذلك الوراثة في الأرض وقيادة البشرية.(58/15)
نظرية سقوط الحضارة بسبب خروج المرأة من منزلها
السؤال
قلت مؤكداً نظرية الفيلسوف الألماني بأن نزول المرأة من منزلها، وملاحقتها بالمساواة مع الرجل من علامات انهيار حضارة الأمة الغربية، فما رأيكم وقد أصبحت كثير من الدول العربية والإسلامية يحدث فيها مثلما قال الفيلسوف الألماني، أليس هناك من خطر في ذلك علينا كعرب ومسلمين؟
الجواب
بلى هو الخطر الماحق، إذا كانت الأمم القوية المتفوقة في الحضارة المادية تنهار إذا وجدت فيها عوامل الانهيار، فكيف تتصورون الأمم التي ما تزال تحبو في بدايات النمو، وفي بدايات التقدم المادي، بلا شك أنها ستنهار وهي في أثناء الطريق إلى التفوق، فإذا كانت الأمم المتفوقة تنهار فالأمة التي لا تزال تطمح وتطمع بأن تتفوق بلا شك أنها سوف تنهار إذا هي أخذت بأسباب الانهيار، ومن ذلك خروج المرأة، فالمكان الصحيح للمرأة هو البيت، قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33].
هذا هو المكان الأصلي، وكل ما عدا ذلك من الاستثناءات، كأن تعمل في مدرسة أو طبيبة أو في أي عمل مما يلائم فطرتها فهو استثناء، أما أن تعمل عملاً لا يلائم فطرتها فلا يجوز بأية حال من الأحوال، ولا في أي زمن من الأزمان، ولا يجوز شرعاً ولا يصح ولا يجوز واقعاً، وهذا الكلام الذي نقوله الآن بعبارات قليلة معدودة هو خلاصة ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جهة، وخلاصة ما جربه وذاقه الغربيون وطبقوه لمدة قرنين أو أكثر من جهة أخرى، ومن أراد الحق فهو واضح جلي، ومن أراد وأبى إلا مصادمة الفطرة، فإنه لا بد أن ينهار.
الكسس كاري قال: إن الحضارة الغربية لا بد أن تنهار لأنها حضارة لا تلائم الإنسان، وكل أمر مخالف للفطرة لا بد أن يدفع ثمنه، ولا بد أن تدفع ضريبته.
فكل شيء مخالف للفطرة فإن هناك عقوبات شرعية، وهناك عقوبات كونية، فالعقوبات الشرعية: إذا خلا الرجل بالمرأة يعزر، وإذا زنى بها يجلد أو يرجم.
والعقوبات الكونية ما هي؟ إذا خلا بها أو زنى بها تنهار الأمة، ويضعف الاقتصاد، ويهبط مستوى التعليم، وتتحطم الأسرة، وتنتشر الجريمة، فهذه عقوبات قدرية وكل من العقوبات تتحقق في المسلم الذي يفسق أو يخرج عن دين الله، فرداً كان أو مجتمعاً.(58/16)
أحاديث معركة آخر الزمان
السؤال
في أي كتاب نجد أحوال المعركة التي ستكون بين المسلمين والروم في الشام؟ ثم إنكم ذكرتم أحاديث تخبر بأن المستقبل لهذا الدين، فماذا عن صحة هذه الأحاديث هل كلها صحيحة؟
الجواب
الأحاديث كلها صحيحة، ومن ضمنها حديث المعركة التي ستكون بين المسلمين والروم في أرض الشام، وهو حديث رواه الإمام مسلم، ورواه غيره والذين شرحوا هذه الأحاديث كـ النووي والقرطبي والقاضي عياض قد أفاضوا في شرحها، وكذلك ذكرته الكتب التي تتكلم عن الفتن، ففي الإمكان أن تراجع في جامع الأصول فستجد مجموعة منها هناك.(58/17)
صحة حديث: (ستكون النبوة ما شاء الله أن تكوة)
السؤال
ما مدى صحة الحديث الذي يخبر بأنه سيكون الحكم خلافة راشدةً ثم وراثة ثم جبرية؟ الجواب: {ستكون النبوة ما شاء الله أن تكون، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله أن تكون، ثم يكون ملك جبرياً، ثم يكون ملك عاضاً، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة} هذا حديث صحيح في أول سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني، وقد ذكر بعض ما ذكرت أنا من هذه الأحاديث بنفس العنوان.
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى والحمد لله رب العالمين.(58/18)
الكيد للدعاة
السؤال
هذه الأيام بدأت التوبة أو الصحوة بأوسع أبوابها، وهذا من فضل الله ونسأل الله المزيد رغم كيد الكائدين وعدم رضاهم عن هؤلاء التائبين، وهؤلاء الكائدين هداهم الله كثيراً ما يوجدون في الشركات، وهم ضد كل شاب يبدأ ويلتزم ويحاولون إلخ؟
الجواب
الأخ يشتكي شكوى بأنه يوجد من يكيد للدعوة.
في الحقيقة يجب أن نعلم أنه ليس هناك أية غرابة في أن يوجد للمسلمين ككل أعداء، وفي أن يوجد للشاب المسلم بفرده عدو أو خصم، فإبراهيم عليه السلام كان أبوه عدو له، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان عمه عدواً له، وكثير من أقربائه، يقول الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] فقد يضايقك أبوك أو أخوك أو زميلك في العمل، وربما رئيسك، لكن لا بد من الصبر ومن التحمل، ولا بد من الدعوة بالحكمة، ولا يحملك شدته عليك أو معاداته أو كيده على أن تخرج أنت عن منهج الدعوة الصحيح ولكن ارفق به، فربما أن هذا الأب أو الأخ أو الرئيس أو المسؤول أو الموظف لو عرف من الحق والنور ما عرفت لكان أكثر تمسكاً به منك، وما أكثر من انقلب فأصبح مؤيداً للحق بعد أن كان عدواً له.
ففي عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان خالد بن الوليد رضي الله عنه وحمزة بن عبد المطلب وعمرو بن العاص رضي الله عنهم كل هؤلاء كانوا أعداء ألداء للإسلام، ثم أصبحوا جنوداً له، فلا نيأس ولا نجزع إذا عودينا بل نصبر، ونعلم أن هذه بداية النصر والطريق بإذن الله تبارك وتعالى، وإذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قال لأصحابه: {ولكنكم قوم تستعجلون} فوالله لنحن أعجل منهم، أعجل وأعجل بكثير، يجب أن نأخذ الأمور على مهل وبتؤدة، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن تكون العاقبة للمتقين، وإنها كذلك بإذن الله.(58/19)
أسباب انحطاط العالم الإسلامي
السؤال
ما هي الأسباب التي كانت سبباً في انحطاط العالم الإسلامي؟ وما هي الأسباب التي تساعد في إعادة الحضارة الإسلامية على ما كان عليه السلف الأول والقرون الأولى؟
الجواب
يقول الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وهذه هي القاعدة الذهبية في هذا المجال، وهي ما ذكرت من قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أخبر عن الفرقة الناجية، فقال: {ما أنا عليه اليوم وأصحابي} فإذا كنا على ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه فالعاقبة مضمونة والنصر مضمون بإذن الله.
لماذا انحططنا؟ لأنا خالفنا ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فمن ذلك: التفرق في الدين، كان المسلمون أمة واحدة على السنة فخرجت الخوارج والشيعة والمعتزلة والجهمية وغيرها من هذه الطوائف المنحرفة، ثم تلتها الصوفية فيما بعد، وهذه فرقت المسلمين عن دينهم وصرفتهم عن كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت مع العدو الذي جاء إلى بلاد المسلمين، فكانت من عوامل الانحطاط.
لم نفهم معنى العبادة وحقيقة العبادة، وظننا أن العبادة هي أن يؤدي الإنسان بعض الركعات ثم يذهب يسرح ويمرح في دنياه كما شاء، ولم نأخذ بأسباب القوة المادية التي أمر الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60] وفهمنا التوكل على أنه تواكل.
لما حصل هذا للأمة الإسلامية وفهمت التوكل على أنه تواكل، وتركت العمل كانت الهزيمة، انحطاط علمي وانحطاط في الأوضاع العامة، وفي الحياة الاجتماعية، وفي كل مجال، فهذا كله حصل نتيجة البعد عن تطبيق الأحكام الإسلامية وعن التمسك بالسنة القويمة والمنهج السليم.
ففي كل زمان سبب الانهيار هو البعد عن الكتاب والسنة، وعن الدعوة إلى الله، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسبب التقدم والعودة والتفوق هو إقامة كتاب الله، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعدم التشبه بالكفار، فكل هذه الأمور هي التي تضمن لنا بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى العودة والنجاح.(58/20)
دور أبناء الإسلام
السؤال
يعيش الشباب الأمريكي والأوروبي منذ فترة حالات من الضياع والحيرة، وكل يوم نسمع عن (تقليعة) إن صحت الكلمة تعبر عن هذا الضياع، والملاحظ أن كثيراً من شباب الإسلام يقتدون بهذه (التقليعات).
فما هو الدور الملقى على أبناء الإسلام خصوصاً عندما يجد هؤلاء الأوروبيون ذلك النور الإلهي؟
الجواب
يقول الشاعر:
ومن جعل الغراب له دليلاً يمر به على جيف الكلاب
الإنسان الأوروبي حائر أعمى لا يعرف إلا الجيف في حياته كلها، فإذا اقتدى به هؤلاء الشباب فإن حالهم لن يكون أحسن من حالهم، فالأعمى إذا اقتدى به أعمى مثله ضاعا، ولذلك فإن الإنسان الأوروبي يصيح ويبحث عن دليل، فهم يسافرون إلى نيبال، وقد رأيت صورهم، وأخبرني عنهم بعض الإخوة، ولماذا خصصت النيبال؟ لأن نيبال تعتبر أحط دولة في العالم من ناحية الحضارة، ليس فيها أي أثر من آثار الغرب إلا العجلات -كما يقولون- التي يركبون عليها وتقودها الدواب، يقولون: نريد أن نذهب إلى بيئة بعيدة كل البعد عن الغرب وعن تأثير الحضارة الغربية، لا يحمل معه ساعة ولا قميصاً من صناعة غربية أمريكية، ولا أي شيء غربي أبداً، يذهب هناك يقول: أبحث عن الفطرة.
هذا الأعمى الضائع الحائر يأتي الشباب المسلم الذي بين يديه كتاب الله وسنة رسوله الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويلقي بهذا النور جانباً، ويمشي وراء هذا الأعمى في الظلام فأين سيذهب به؟ لا شك أنه سيؤدي به إلى الهلاك والدمار، ومن هنا وجب علينا أن نبدأ بهذا الشباب، فمسئوليتنا الأولى هي تصحيح حال هذا الشباب المسلم، ثم الانطلاق إلى الشباب الغربي الحائر هناك.
فالمسلم إذا عرف دينه تحول إلى رسول هداية إلى ذلك الضال الحائر المسكين، هذا هو الذي يجب أن يكون بإذن الله، أما (التقليعات) فلن تنتهي ولا تنتهي إلا بالعودة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فكلما خفت حدة أمر من الأمور جاءت أمور أخرى، وصنع أعداء الله وأعداء الإنسانية تقليعات وصراعات وفتن جديدة.(58/21)
الصلاة لمن يعمل في أماكن خطيرة
السؤال
إذا كنت أعمل في منطقة خطيرة ينبغي فيها الحرص الشديد وذلك أثناء نوبتي في مصفاة بترومين، ودخل علي وقت الصلاة ولا أستطيع مغادرة هذه المنطقة، هل أؤدي الصلاة على أية حال كنت فيها؟ وهل هذا يجزي.
أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
الحقيقة لا ينبغي الإجابة على هذا السؤال المتسرع بسرعة من خلال هذه الكلمات، ولابد من التفصيل عن حالة هذا الإنسان، وحالة هذا الموقع، وهل بإمكانه أن يغادر مكانه أو لا، وهذا الشخص لا بد أن يتوضأ قبل أن يأتي المكان، ثم هل لا بد أن يكون منحرفاً عن القبلة، وهل يؤثر ذلك في ركوعه وسجوده، وهل يؤثر في عمله، إلى غير ذلك من الأمور التي لو بسطها هذا الأخ في رسالة، وبعث بها إلى هيئة كبار العلماء أو اللجنة الدائمة للإفتاء، لنفع الله بها إخوانه؛ لأنه ليس هو الوحيد في هذا العمل.
فمثله إخوة كثير في شركات أخرى، وفي قطاعات كالجيش وأمثاله، أو الخطوط، فإذا كان الجواب من هنالك فسوف يكون أعم وينشر بشكل أعم وأفضل للجميع -إن شاء الله- ولكن عموماً ومبدئياً {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ليتق الله الأخ هذا ما استطاع، ولو أن يؤخر الصلاة قليلاً أو يقدمها، ويتق الله بقدر ما استطاع من ناحية السجود والركوع والاتجاه إلى القبلة، وبحسب الضرورة التي يكون فيها، ويمكنه أن يخبر مدير الشركة، ونحن لا ندخل في الحلول؛ لأن هذه القضية تطول، لكن يمكن أن يوضع في هذا المكان من الكفار الذين يعملون في هذه الشركات؛ ويوضع المسلم في مكان آخر، ولو لمدة الصلاة فهي دقائق معدودة إلى غير ذلك من الحلول، ونحن في الحقيقة نرجو أن يبقى السؤال مفتوحاً، لأنه قد توجد مناطق لا يكون فيها إلا مسلم، ولكي نعرف الجواب بدقة.(58/22)
الدعوة في أثناء العمل
السؤال
هل الدعوة إلى الله داخل منطقة العمل لا تجوز؟ وإذا كان الداعية في عمله محافظاً على عمله على الوجه الأكمل فهل للمسئول الحق في منع الداعية من الدعوة داخل العمل، ويقول: الدين داخل المسجد وليس في العمل؟
الجواب
لا يوجد مسئول مسلم يقول: لا تدعو إلى الله إلا في المسجد، إلا إن كان لا يعرف حقيقة الإسلام، لكن لا بد أن ننظر إلى الموضوع دائماً في كل أمورنا نظرة الإنصاف ونظرة الاتزان، بمعنى: أننا كما نقول للمسئول لا يا أخي كيف تقول له: لا يدعو إلى الله، نقول أيضاً لهذا الأخ: ما معنى الدعوة إلى الله؟ تمسك كتاباً وتقرأ في أثناء العمل؛ وتقول: هذا من الدعوة إلى الله؟ وتطيل النقاش مع إنسان في قضايا فقهية وعلمية وتقول: هذا من الدعوة إلى الله، وأنت مكلف بهذا العمل؟ فلا يجوز الإفراط ولا يجوز التفريط لا من المسئول ولا من الموظف، وإنما يجب أن نكون جميعاً يداً واحدة، نؤدي مصلحة العمل ونؤدي مصلحة الدعوة، وهذا هو الذي يجب أن يكون فنقتصد جميعاً.
فلا أظن أن مسئولاً مسلماً يؤمن بالله واليوم الآخر ينكر الدعوة إطلاقاً، ولن يستطيع أن يكمم فمك لأنك ستتكلم مع زميلك ومع جارك، لكن لو أنك أنت أسرفت في ذلك وتركت العمل، فمن حقه حينئذٍ أن يتدخل لأنه مسئول، فيجب أن يكون من الطرفين مراعاة للعدل والاتزان ويكون الهدف للجميع هو رضا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(58/23)
ليلة النصف من شعبان
السؤال
ما صحة الأحاديث التي جاءت في فضل ليلة النصف من شعبان؟
الجواب
لم يصح في تخصيص ليلة النصف من شعبان أي شيء، أي: أنه لم يصح في تخصيصها بعمل من الأعمال أية رواية ولا أي حديث، وإنما هناك بعض روايات ضعيفة تدل على أن لها فضلاً -فقط- وهو أن الله تعالى يغفر فيها الذنوب إلا للمشرك والمشاحن، وهذا فضل وليس عملاً معيناً خاصاً بها، وهذه الروايات ضعيفة فلا يعمل بها.
وبعض العلماء يقول: هذه الروايات يجبر بعضها بعضاً، فتكون النتيجة أن لهذه الليلة هذه الميزة، أن الله يغفر فيها إلا للمشرك وللمشاحن، وهذا أكثر ما ورد فيها، وأما تخصيصها بعبادة أو بعمل أو بدعوة أو باحتفال فهذا كله بدعة، ولسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رسالة مستقلة في ذلك، لكن أحببنا أن ننبه عليها لاقتضاء المقام ذلك.(58/24)
نصيحة لكل مسلم
السؤال
نطمع منكم أن توجهوا النصيحة إلى منسوبي بترومين، راجياً من الله أن يوفقكم وإياهم لما يحب ويرضى؟
الجواب
ليس هناك من نصيحة تخص إخواننا في هذه الشركة، إلا ما ننصح به أنفسنا وننصح به إخواننا المسلمين دائماً، وهو وصية الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للأولين والآخرين حيث قال جل شأنه: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] فتقوى الله هي خير وصية نوصي بها أنفسنا ونوصي بها إخواننا في بترومين وفي خارجها.
وأسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى وأن يختم بالصالحات أعمالنا، وأن يوفقنا لأن نكون هداة مهتدين، ودعاة إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على ما يحب ويرضى، إنه سميع مجيب.(58/25)
لقاء مع طلبة الجامعة
تحدث الشيخ حفظه الله تعالى عن بعض الآداب والأخلاق التي يجب أن يتحلى بها طالب العلم، فذكر أهمية الإخلاص فيه، ثم بين وجوب الحرص على الوقت وتنظيمه واستغلاله أثناء الطلب.
مركزاً على أهمية الأخوة والمحبة بين طلاب العلم, ثم أجاب عن بعض الأسئلة المتعلقة بطلب العلم, ومنهج السلف في العقائد, مختتماً الحديث بالكلام عن بعض المذاهب الفكرية المعاصرة.(59/1)
نصائح في طلب العلم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: أيها الإخوة الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ونسأل الله تبارك وتعالى بفضله وكرمه أن يكتب لنا جميعاً أجر هذا الدرس، وأن يجعلنا من المقبولين، وأن يثيبنا، وأن يرزقنا حسن الاستماع والقول، وأن ينفعنا بما نقول ونسمع؛ إنه سميع مجيب.
أحب بين يدي هذا اللقاء بكم والسماع إلى بعض استفساراتكم أن أتقدم أولاًَ بكلمة أرجو الله أن ينفعنا جميعاً بها.
نحن ننتمي -ولله الحمد والشكر- إلى طلب العلم، ولم يجمعنا إلا رباط العلم، وهو علم قائم على كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه نعمة عظيمة أن يُهيئ الله تبارك وتعالى لنا أن نطلب العلم في البلد الأمين، وأن يُكثر لنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما ترون من الوسائل والتسهيلات التي تمت بفضل منه عز وجل، ثم بجهود الإخوة القائمين على هذه الأنشطة والوسائل، وهذا يستوجب منا شكر الله تبارك وتعالى، ويستتبع واجبات يجب أن نعلم أنها مُلقاة على أعناقنا.(59/2)
الأمانة الملقاة على طالب العلم
إن كثيراً من الناس يريد أن يطلب العلم في هذه البلاد وفي بلاد أخرى، ويتمنى ويحرص على أن يأتي إلى هذا البلد الأمين, ويطلب العلم ويتلقاه من هذه المنابع النقية الصافية، ولكن لا يتاح له ذلك، وهذا يوجب على من أنعم الله عليه بهذه النعمة أن يُعطيها حقها من الشكر، والإخلاص لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في طلب العلم, ومن الدعوة إلى الله عز وجل ونشر هذا العلم، وتحقيق ثمرته، ومن التعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر، في سبيل نشر هذا الدين؛ الصبر على طلب العلم، والصبر في سبيل الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وإن مما ينبغي لطالب العلم أن يعلمه: أمر الأمة الإسلامية وحالها لا يخفى على أحد منكم، وأنتم خلاصة مختارة، وصفوة منتقاة من هذه الأمة، والآمال بعد الله تبارك وتعالى معلقة عليكم, سواءٌ كان الواحد منكم من المملكة أومن خارجها، فلا بد أن وراءه من ينتظره؛ المدرس تنتظره مدرسته، وتنتظره مدينته، أو بلدته، أو قبيلته، وأي عمل من الأعمال فالآمال تعلق على شباب جاءوا لطلب العلم, ويريدون وجه الله تبارك وتعالى, ويراد منهم أن ينفعوا هذه الأمة التي تعاني -كما ترون جميعاً- من نقصٍ في المتخصصين في العلم الشرعي الداعين إلى الله تبارك وتعالى على بصيرة وبينة.
إنّ أمتكم -ولله الحمد- في إقبال وهذه بشرى، ونحمد الله الذي منَّ بهذه الرجعة والأوبة والتوبة إلى الله، فالأمة الإسلامية في حالة غليان، وفي حالة توبة وأوبة وعودة إلى الله عز وجل، ولكن من الذي يرسم لها معالم الطريق؟! ومن الذي يأخذ بيدها إلى النهج القويم؟! ومن الذي يرشد هذه المسيرة والأوبة والتوبة؟! إن الأمانة -بلا شك- مُلقاة على طلبة العلم من أمثالكم، وهذه الأمانة لا يقوم بها إلا من بدأ يعد العدة للقيام بها، ويجب أن نعلم أن هذا الإعداد مُتنوِّع وثقيل, ولكن لا بد منه, وإلا فليتهم الإنسان نفسه.(59/3)
الإخلاص في طلب العلم
نحن نخشى على أنفسنا -جميعاً- من النفاق, ولا نستنكف ذلك؛ فإن أحد التابعين وهو ابن أبي مليكة رضي الله عنه يقول: [[أدركت ثلاثين -وفي رواية ثمانين- من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلهم كان يخشى على نفسه النفاق]] عافنا الله وإياكم من النفاق! فطلب العلم إذا كان خالصاً لوجه الله تبارك وتعالى, وصاحبه يريد أن يدعو إلى الله، وأن يحقق ثمرة هذا العلم؛ فإن علامة ذلك وآيته: أنه يعد العدة من الآن لهذا العمل الجليل، والله تبارك وتعالى قد أخبرنا بحال المنافقين حينما أخذوا يعتذرون إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويحلفون في غزوة تبوك، فقال: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:46].
فبيَّن الله تعالى كذب المعتذرين الذين تخلفوا وخُذلوا عن القيام بأمر الله -عز وجل- مهما حلفوا من الأيمان، ومهما ظهر عليهم أو أظهروا من علامات البراءة والصدق, فأبطل الله -تبارك وتعالى- دعواهم هذه بحقيقة مهمة جلية، وهي: أن الذي يريد الحق وسعى إليه ثم حال دونه عذر، فإنه يعد العدة، ولكن يمنعه العذر.
أما هؤلاء فإنهم لم يعدوا العدة لذلك {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ} [التوبة:46]، أي: لو كانوا حقاً يريدون الخروج لأعدوا له العدة، ولكنهم كانوا متخاذلين متكاسلين إلى أن انتهت الغزوة وعاد الجيش, فأخذوا يقسمون الأيمان ويحلفون أنهم صادقون، وأنهم يريدون الخروج.
فالإخلاص في طلب العلم لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو أول ما يجب على طالب العلم؛ وكما تعملون أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة -كما ثبت ذلك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومنهم: العالم المرائي أو القارئ المرائي طالب العلم الذي تعلم رياءً أو طلب العلم من أجل الدنيا.
وقد عقد الشيخ الداعية المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه في " كتاب التوحيد " باباً بعنوان (باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا)، وذكر فيه قول الله تبارك وتعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود:15 - 16] أي: ليسوا من أهل التوحيد أهل المعاصي, لأن المؤمنين الموحدين من أهل المعاصي ما داموا على التوحيد والإيمان، فإن لهم في الآخرة الجنة وإن دخلوا النار، لكن الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار هم الذين تمحَّضت قلوبهم ونياتهم وتجردت عن الإخلاص، وتمحَّضت لغير الله تبارك وتعالى, وذكر بعد ذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {تعس عبد الدرهم! تعس عبد الدينار! تعس عبد القطيفة} إلى آخر الحديث، وفيه الزجر والوعيد لمن يسعى ويعمل ويكدح من أجل الدنيا ومن أجل طلب هذا المتاع الفاني.
فأوصي نفسي وإخواني بالإخلاص في طلب العلم لوجه الله تبارك وتعالى، وبتقوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التي هي وصية الله للأولين والآخرين.(59/4)
الحرص على الوقت
وإن مما يجب أن أوصي نفسي وإخواني به: أن نَجِدَّ في طلب العلم، وأن نحفظ أوقاتنا, فما أكثر ما تضيع الأوقات للأسف الشديد!! يجب علينا أن نضيِّق الأسباب المضيعة لأوقاتنا، سواءٌ منها ما كان متعلقاً بالنظام، أو ما كان منها متعلقاً بالسكن وبظروف الحياة؛ فإن هذه ولا شك تقتطع من وقت الإنسان جزءاً غير هين.
لكن يجب أن نغالب هذه الأسباب, ونبذل جهدنا لكي تكون أوقاتنا معمورة دائماً بالخير والنفع، وبما يقربنا من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن تكون مجالسنا في السكن وفي الجامعة مجالس خير وذكر ومساءلة وطلب علم وحرص ومحبة لبعضنا بعضاً، وأن نستفيد من هذه الفرصة المتاحة لنا، وهو أننا طُلاَّب وما نزال في مرحلة الطلب, وكلنا إخوة ولا يعاب على أحدٍ أن يسأل مهما بلغت منزلته من العلم، أو أن يقول: الله أعلم؛ فهذا من أصول السلف الصالح ومن آدابهم، لكن مع ذلك طالب العلم وهو ما يزال في مرحلة الطلب هو الذي لا يجد غضاضة في أن يسأل وأن يناقش وأن يبحث، فهذه فرصة مهيأة.
والإنسان إذا تصدَّر للحياة فيما بعد التخرج سيجد نفسه تجد أن السؤال ثقيل، وقول: الله أعلم تجده ثقيلاً، وهذا من أمراض النفوس التي يجب أن تُحارب، لكن ينبغي لنا ألا نتيح الفرصة لهذه النفس ولهذا الشيطان الماكر؛ فالشيطان يمتلك الكثير من الوسائل لأن يوسوس وأن يخدع ويغرر بهذه النفس، فينبغي أن تكون أوقاتنا دائماً كذلك، وأن يسأل بعضنا بعضاً، وأن نسأل أساتذتنا الكرام ومن نثق بعلمه لنستفيد جميعاً.(59/5)
المحبة والأخوة أهمية الأخوة لطالب العلم
وهناك أمر أرى أنه لا بد أن أنبه إليه, وهو: أن تكون علاقة بعضنا ببعض علاقة الأخوة والمحبة والنصيحة, فالأمر المؤلم والمؤسف أن يوجد -أحياناً- إخوة في كلية واحدة، وفي سكن واحد ولا يتعارفون, وأشد ألماً أن يكونوا غير متحابين وغير متوادين, فهذا أمر لا ينبغي، فنحن يجب أن نكون إخوة في الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن يحب بعضنا بعضاً، وأن نتناصح، فالأخ المقصر نعامله بالرحمة والشفقة، وكل منا يتودد إليه وينصحه ويتحبب إليه، وكُلٌّ بأسلوبه الخاص، ولعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينقذه مما هو فيه.
ولنعلم -جميعاً- أن الأمر هو كما قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء:94]، فنشفق ونرفق بالأخ الذي فيه تقصير دون أن نجامله ونداهنه ونقره ونرضاه على معصيته, لا! أخ يتخلف -مثلاً- عن صلاة الفجر، أو عن بعض الصلوات!! لا نقره على ذلك, ولكن نخاطبه بالمحبة وبالمودة، وكذلك أخ فيه معصية أو منكر يجب علينا أن نتعاون -جميعاً- قبل أن يصل الأمر إلى الجهات المسئولة في الجامعة أو في غيرها نحاول أن نتدارك هذا الأخ، ولا نعين الشيطان على أخينا، وإذا نصحناه وبذلنا الجهد، ثم بعد ذلك حصل له ما حصل، فإننا لا نلوم أنفسنا, ولكن أرأيتم إذا وقع إنسان في أوحال المعاصي, أو قبض عليه, ونحن لم نعذر إلى الله بالنصيحة, كيف يكون شعورنا بالألم؟! لا شك أن كلاً منا يقول: يا ليتني نصحته! وربما لو نصحته لانتصح! وكذلك ما قد يوجد من بعض الأفكار أو الآراء أو بعض البدع التي قد توجد سواء بيننا أو خارجنا, فنحن لا نستغرب أن يوجد أمثال هذه لأننا أمة أصيبت بعلل وبأمراض, ولكن نحن الأساتذة والأطباء الذين نعامل الناس بالرفق، ونحن أحرص ما نكون أن نستأصل هذه الأمراض بالأسلوب الطيب، وهذا واجبنا جميعاً.
فيرفق بعضنا ببعض, وينصح بعضنا بعضاً، ويُحب بعضنا بعضاً، وأرجو ألَّا يكون للشيطان بيننا مجال بتشهير أو ببغضاء أو شحناء، فإن هذا أفضل ما يتمناه عدو الله.
ولا ينبغي أن نعطي له الفرصة لينزغ فيما بيننا.
وتأكدوا وثقوا أن كل عملٍ خالصٍ لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, فإنه لن يجد الإنسان نفسه به إلا في محبة لإخوانه, ولن يجدها على أهل الشر والبدع والفسق إلا مشفقةً عليهم راحمةً لهم حريصةً على هدايتهم.
وفي رسول الله صلى الله عليه سلم أسوة حسنة كيف كان صلى الله عليه سلم؟ كيف قابله المشركون بصنوف الأذى والتهم؟ ولكن رسول الله صلى الله عليه سلم كان يقابلهم بالصبر الجميل, بالهجر الجميل, ويقابلهم بالإعراض، وإن أعرض كان إعراضاً لا قطيعة معه، ولكنه ترفع عن سفاهتهم وعن إيذائهم.
فهذا ما أحببت أن أنصح به نفسي وإخواني، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينفعنا جميعاً بما نسمع وبما نقول, وأن نكون طلبة علم مخلصين لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, داعين إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة, والحمد لله رب العالمين.(59/6)
الأسئلة(59/7)
الحكمة من اقتران الإيمان باليوم الآخر مع الإيمان بالله
السؤال
أغلب النصوص القرآنية التي تتحدث عن الإيمان باليوم الآخر، تربطه بالإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, فما الحكمة من اقتران الإيمان باليوم الآخر بالإيمان بالله؟ ولماذا لم يذكر أي ركن آخر من أركان الإيمان مع الإيمان باليوم الآخر؟
الجواب
قد ورد في غيرما آية من الكتاب ذِكَر الإيمان باليوم الآخر مع الإيمان بالله عز وجل، ولكن أيضاً قد وردت أركان الإيمان الأخرى مع الإيمان بالله كالإيمان بالملائكة والكتب والرسل.
فليس الأمر على إطلاقه، وأما الحكمة فنحن نتلمس ونحاول, ولكن قد لا يكون ما نقول هو عين الحكمة؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنزل القرآن، وفيه من الحكم والعبر والعظات ما لا يطيقه كل أحد وما لا يستطيع أن يستوعبه أو يفهمه كل أحد، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي منَّ علينا بهذا القرآن، وأنزله شفاء ورحمة وهدى، وأمرنا أن نتدبره ونتفكر في آياته الكونية والمحسوسة، وأيضاً آياته المنزلة وهو كلامه الحكيم.
ذكر الإيمان باليوم الآخر مقروناً بالإيمان بالله, لأن الإنسان الذي لا يؤمن باليوم الآخر لا يكون مؤمناً بالله -تبارك وتعالى, والإنسان إذا لم يؤمن باليوم الآخر, فلا معنى لكونه يكون مؤمناً بالله في هذه الحياة الدنيا؛ لأن العمل في الحياة الدنيا يرتبط أساساً بالإيمان بالآخرة.
وأيضاً لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غيب، وكذلك اليوم الآخر من أمور الغيب؛ فذات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الغيب, وإنما أخبرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بصفاته، وعرَّفنا بنفسه عز وجل، وكذلك عرَّفنا باليوم الآخر وبأحواله.
وأيضاً لأن أول علامة للمؤمنين أنهم يؤمنون بالغيب، وهذه أول ميزة وعلامة, ثم تتفرع عنها بعد ذلك كل أمور وشعب الإيمان؛ والذي لا يؤمن بالآخرة لا يمكن أن يعيش الحياة الإيمانية، وإن قال: أنا أومن بالله؛ فإن ذلك لن يكون إلا فكرة في عقله أو خاطرة في فؤاده، ولا يكون حقيقة واقعة في حياته.
ومن هنا نعلم أهمية الإيمان بذلك اليوم, والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُذكِّرنا بذلك -أيضاً- في هذه السورة العظيمة في السبع المثاني، والتي أنزلها الله تبارك وتعالى على نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي أعظم ما أنزله الله تبارك وتعالى في الكتب جميعها, وهي سورة الفاتحة, وفيها عرفنا الله تبارك وتعالى بنفسه، وبأنواع التوحيد {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] توحيد الربوبية.
{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] توحيد الأسماء والصفات.
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] فيها الإيمان باليوم الآخر.
ثم بعد ذلك {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] توحيد الألوهية، الذي هو أول واجب على العباد، والذي بعث الله تبارك وتعالى به الرسل، وأنزل به الكتب.
فيأتي الإيمان باليوم الآخر بين ثنايا أنواع التوحيد، وبأنه تعالى مالك يوم الدين، لأن من لم يؤمن باليوم الآخر وبأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو مالك ذلك اليوم العظيم، فإنه لا ينفعه إقراره بربوبية الله أو بأسمائه، أو بأن الله وحده هو المعبود، وبالتالي فلا يرجو ثواب الله وما عند الله في اليوم الآخر.
ولهذا قال السلف الصالح رحمهم الله تعالى تلك العبارات العظيمة: [[من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق -الذين يقولون: إننا نعبده لذاته ولا نرجو الآخرة، ولا نطمع في الجنة، ولا نخاف من النار فهؤلاء زنادقة- ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري -أي: خارجي- ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو المؤمن]] نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المؤمنين!(59/8)
الإمامة في الدين
السؤال
كيف تنال الإمامة في الدين؟
الجواب
قد ذكر الله تبارك وتعالى في كتابه الحكيم بما تنال الإمامة فيما أخبرنا به عن بني إسرائيل، حين قال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، فهذان شرطان أو ركنان عظيمان لتحقيق الإمامة في الدين.
والإمامة في الدين لا تكون إلا بهما: الصبر واليقين، فالصبر يشمل الأنواع التالية: الأول: الصبر على طاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ الصبر في طلب العلم، الصبر على أداء ما افترضه الله وما أوجبه.
والثاني: الصبر عما حرم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كالصبر على غض البصر عن غير المحارم، الصبر على كف اللسان عن الغيبة والنميمة، الصبر على كف القلب عن الغل للمؤمنين وعن الحسد وما أشبه ذلك.
والثالث: الصبر على أقدار الله الكونية؛ فإن هذه الدنيا مليئة بالمصائب والمتاعب، فلا بد من الصبر عليها.
أما اليقين، فإنه يشمل العلم، إذ لا يقين لمن لا علم لديه، فهو يشمل العلم ويشمل حسن الظن بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا يقين لمن ليس له ظَنٌ حسنٌ برب العالمين سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وصدقٌ ويقين بوعد الله الصادق له, واليقين هو عمل قلبي يكون تحقيقاً للدرجة أو للمرتبة العليا من مراتب الدين، وهي مرتبة الإحسان؛ أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
فهذه عبادة الموقنين جعلنا الله وإياكم من الصابرين والموقنين، ورزقنا الإمامة في الدين! فعندما نعرف أن هذه الدعوة لا تكون إلا لمن حقق هذه الشروط العظيمة، وما يتبع ويدخل ضمن كل شرط منها من فروع بالغة الأهمية؛ فإن ذلك يوجب علينا أن نجتهد وأن نكدح وأن نسعى، وندعو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يحقق لنا ذلك، وما ذلك عليه بعزيز.(59/9)
ترك الطاعات خوفاً من الرياء والعجب
السؤال
أحد الإخوة يقول: عندما آتي لأنصح أحد الإخوة يأتي الشيطان ليلقي في نفسي العُجب؛ فعند ذلك أترك النصيحة؟
الجواب
العُجب داءٌُ خبيث، والشيطان لا يبالي بأي وادٍ هلك الإنسان؛ فإن أهلكه بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فحسن, وهذا ما يريد, وإن غلبه الشاب التقي، وقال: لا يمكن أن يخدعني الشيطان، لابد أن أدعو إلى الله وأن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، كيف والدين النصيحة؟! كيف والله تعالى أمرنا {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104]؟! إذًا أنا لا أطيع الشيطان في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله.
ولكن إذا أخذ يدعو إلى الله أتاه الشيطان بأمراض القلب؛ أتاه بالعجب والغرور والرياء, وليس ذلك حرصاً منه على علاج قلبك من هذه الأمراض, ولكن ليقول لك: إن دعوت إلى الله فإنك ستعجب بهذا العمل، ويدفعك ذلك إلى الرياء، فخير لك أن تسكت وألاَّ تدعو, فهو يأتي من باب الناصح المشفق المحب، ومتى كان عدو الله ناصحاً مشفقاً؟! ألم يقاسم أبوينا في الجنة إنه لهما لمن الناصحين، وإنه مشفق، وإنه يريد لهما النعيم والملك الذي لا يبلى، وأن يكونا ملكين وغيرها من الوعود والغرور الكاذب؟! ولهذا نقاومه من الجهتين:- - من جهة أننا لا نترك الدعوة إلى الله، ولا طلب العلم، ولا عبادة ربنا عز وجل من أجله.
- ومن جهة أننا إن جاءنا فقال: اتركوا هذه الطاعات خشية الرياء, فإننا لا نطيعه.
لكن مع ذلك لابد أن نحذر من العجب والرياء, ونحذر من كل ما يحبط أعمالنا، لأن هذه المحبطات تجعل أعمالنا هباءً منثوراً, وما قيمة العمل والجهد إذا كان هباءً منثوراً؟! وما قيمته إذا كان لغير لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟! فنحن نقاوم ونحارب العجب والغرور والرياء، ونعمل, ولكن لا نثق في أن هذا العدو ينصحنا ويحذرنا من العجب, فتكون نتيجة ذلك أننا لا ندعو إلى الله ولا نأمر بالمعروف ولا ننهى عن المنكر.(59/10)
كيفية تصحيح النية في طلب العلم
السؤال
إن الإنسان عندما يبدأ بطلب العلم لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خالصاً يلاحظ دخول الرياء بين فترة وأخرى على نفسه، وأيضاً يجد أنه يريد شيئاً غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من طلب الشهادة والوظيفة والمكانة؛ فكيف يصل إلى تصحيح النية في طلب العلم الشرعي؟
الجواب
الذي جاء وبدأ في طلب العلم أو في أي عملٍ من أعمال الطاعة، وهو لا ينوي بذلك وجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن عليه أن يتوب وأن يستغفر الله وأن يصحح نيته ويحولها لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وأما الذي وُفِّق من أول الأمر لأن تكون نيته لله, ولكن يسأل: كيف يثبت تلك النية ويجردها لله؟ فليعلم أن حالنا مع أنفسنا كحالة جهاد عدو لا يفتر؛ عدوٌ أعطاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ومكَّنه من قلوبنا يجري منا مجرى الدم, ونفسٌ أمارة بالسوء تحب أن تخلد إلى الأرض, وشهوات ومغريات من كل جانب, ودعاة على أبواب جهنم يريدون إلقاء الناس فيها.
فلا يكفي أنني أبتدئ بالعمل وأنا مجرد للنية خالصة لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأن هؤلاء الأعداء لا يتركونني أبداً، أنا في طريق قُطّاعه كثير، وعقباته كثيرة, ومفاوزه مهلكة موحشة، ولا سبيل إلى الاهتداء إلى هذا الطريق إلا بالحذر واليقظة؛ بأن يكون القلب يقظاً في كل حين ألَّا يخرج ولا يحيد عن الإخلاص, وعن طلب العلم لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وعن طلب الحق والدعوة إليه كما أمر الله وكما شرع؛ فلا بد من الجهاد.
والنفس قد تغلب تارة, والشيطان قد يغلب تارةً أخرى, ولكن نحن نغلبه -بإذن الله- بالاستغفار وبالتوبة وبتصحيح النية وبتجديدها، وكما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب}.
فلا بد من تجديد الإيمان, ونعلم أنه إذا كان يبلى ويضمحل إلى أن يتلاشى، فلا بد أن نجدده في كل وقت، ولهذا من نظر إلى عبادتنا, وجد أن الله تبارك وتعالى شرع هذه الصلوات الخمس، لنجدد إيماننا في كل يوم وفي كل حين؛ كل يوم خمس صلوات، وشرع الله لنا حلقات الذكر, ومجالس العلم وقراءة القرآن, والتفكر في الآخرة, وما أشبه ذلك؛ كل ذلك ليتجدد الإيمان في قلوبنا.
وإلا فقد كان يكفي أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقولوا: "لا إله إلا الله" وقد قالوها بصدق وحق وإخلاص ثم ينطلقوا، ولا شيء عليهم بعد ذلك!! لكن كم عانوا! وكم عانى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعب في تربيتهم حتى استكملوا الإيمان، ووصلوا إلى الدرجة العليا التي أثنى الله تبارك وتعالى عليهم بها! ونسأله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يلحقنا بهم, إنه سميع مجيب.(59/11)
الرد على من نسب التأويل والتعطيل للسلف
السؤال
أحد الإخوة يسأل عن تفسير قول الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]، وذكر بأن ابن كثير قال: 'عن ابن مسعود وابن عباس والشك من ابن جرير {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42] قال: عن أمر عظيم، كقول الشاعر:
أصبر عناق إنه شر باق قد سن قومك ضرب الأعناق
وقامت الحرب بنا على ساق
وقال صاحب التفسير: قال العوفي عن ابن عباس في قوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42] يقول: حين يكشف الأمر وتبدو الأعمال، وكشفه دخول الآخرة، وكشف الأمر عنه' فما رأيكم في هذا التأويل؟ وكيف نوفق بين ذلك وبين من ينفي وجود التأويل بالنسبة لآيات وأحاديث الأسماء والصفات عند السلف رضوان الله عليهم؟
الجواب
الحمد لله! هذا ليس بتأويل، ويجب أن نعلم جميعاً أن السلف الصالح رضوان الله عليهم ولا سيما أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يمكن أبداً أن يكون فيهم مبتدع، ولم يوجد في أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبتدع ولا مؤول، ولا معطل، ولا خارجي، ولا مرجيء، ولا جهمي، ولا شيء من هذه البدع، والحمد لله رب العالمين، فهو جيل مطهر نقي من هذه البدع والضلالات، بل هم الذين حاربوها وأنكروها.
ولكن هل كل واحد من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معصوم عن الخطأ؟ لا.
وهل كل واحد من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حوى العلم كله؟ طبعاً لا.
فقد يخفى على أحدهم شيء من العلم, وأيضاً قد يقع آحاد منهم في الخطأ.
فهذه الآية صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن معناها (يكشف الرحمن عن ساقه عز وجل) فهل هذا الحديث بلغ كل صحابي؟ لم يقل أحد من العلماء أنه لا بد لأي حديث أن يبلغ جميع الصحابة أبداً، فعندما قال هؤلاء الصحابة عن الكشف عن الساق: أنه الهول والكرب والشدة هل قالوا ذلك تأويلاً؟ الصحيح لا, وإنما قالوا ذلك استناداً إلى لغة العرب، فلغة العرب هي أحد المصادر التي نعرف بها التفسير، ولكن نستعمله إذا لم نجد من كتاب الله ما يفسره، ثم من سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعد ذلك أقوال الصحابة، ثم اللغة, وهم يجتهدون حسب اللغة؛ لأنهم أهل اللغة المتمكنون فيها، وفي لغة العرب لا يُسمى هذا تأويلاً, لأن الكناية يعلم من درس منكم ذلك في لغة العرب لا تقتضي نفي الحقيقة, وهم يمثلون في البلاغة بقول الخنساء في أخيها:
رفيع العماد طويل النجاد ساد عشيرته أمردا
وإذا قلنا: إن فلاناً كثير الرماد, فهذه كناية عن الكرم, فبدلاً من أن أقول: فلان كريم، أقول: فلان كثير الرماد، فالعرب تمدح بعض الناس أنَّ كلبه لا يهر, أي من كثرة ضيوفه, وهذه كناية عن الكرم، لكن الكناية لا تقتضي نفي الحقيقة، فإن وصفي إياه بأنه كثير الرماد لا يقتضي ذلك أنه لا رماد عند بيته أو أنه ليس عنده كلب، أو أن كلبه لا يهر، فقد يكون فعلاً كثير الرماد -حقيقة- بأن يكون هذا الرماد موجوداً عند البيت، وأيضاً قد يكون كلبه لا ينبح لأنه كريم, لكن أنا لم أقصد هذا المعنى الذي يتبادر من ظاهر اللفظ، وإنما قصدت لازمه الذي كنيته عنه أنه كريم، وكذلك لا يلزم من أن يكون الكشف عن الساق كناية عن الشدة وعما في ذلك اليوم من مواقف رهيبة، لا يلزم من ذلك نفي الصفة وأن نقول: ليس لله تعالى ساق.
نلخص ونقرب ذلك ونقول: هل قال ابن مسعود أو ابن عباس: (إنه ليس لله تعالى ساق أو ليس لله يد)؟ لم يقولوا ذلك كمثل المعطلة والمؤولة الذين قالوا: 'ليس له ساق' فهذا فرق عظيم بين القولين، بين من نظر أن الأمر كناية أو لم يبلغه الحديث، وبين من نفى نفياًَ مطلقاًَ هذه الصفة التي صح بها الحديث.
وليس في الصحابة ولا في السلف مؤول؛ ولهذا نقول: ليس من مذهب السلف التأويل, وكل ما يقال: إن فيه تأويلاً، فإن هذا إنما أتي القائل به من سوء فهمه للغة العرب ومن سوء فهمه لعقيدة السلف، ومن بدعته إن كان من أهل البدع، أو بالخطأ في ذلك إن كان من أهل السنة , ونعيد هذه القاعدة ونقررها لا نقول: إن كل واحد من أهل السنة معصوم، ولا أن كل أحد من الصحابة معصوم عن الخطأ حتى في العقيدة, لكن العبرة بأنهم إذا أجمعوا فإنهم لا يجمعون على ضلالة ولله الحمد, وكل من أخطأ فإنه يرد إلى الأصل وإلى المنهج القويم، وهو كتاب الله، وسنة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما أجمع عليه السلف الصالح.(59/12)
كيفية قراءة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وفهمها
السؤال
كثير من الإخوة يسألون عن كيفية الوصول إلى فهم كتب شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وما هي الكتب التي تعين على ذلك؟ وكيف يمكن التعرف على عقيدة أهل السنة والجماعة؟
الجواب
بالنسبة لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية (ولا نقول ذلك تعصباً، ولا نقوله مجرد عاطفة، ولكن نقول ذلك حقاً وصدقاً) نقول: إن هذا الرجل نابغ وفذ, ولو أن شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية كان لدى أية أمة من الأمم, بل أنا أحدد وأقول: لو أن شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية ظهر في أوروبا , وظهر منه فقط ما يتعلق بالفلسفة والمنطق، لألَّهه الغربيون ولعبدوه؛ لأنهم أمة جاهلية، ألهت " نيوتن ".
يسمون " نيوتن " إله العلم.
ويسمون " دارون " إله العلم.
ويسمون " هيجل " إله العلم.
هكذا يطلقون عليه عياذاً بالله! ولا إله إلا الله! ونحن أمة لا تؤله إلا الله، عندنا لا إله إلا الله حتى رسول الله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو عبد ولا نؤله أحداً غير الله.
لكن نقول: هذه الأمة التي تعبد عظماءها ومفكريها، لو أن هذا الرجل كان منها لعاملته أشد من أولئك، لأنه سبق هؤلاء جميعاً في مسألة نقد الفلسفة والمنطق اليونانيين اللذين لم تقفز أوروبا وتنهض من كبوتها وتدخل في عصر النهضة إلا عندما تخلصت من الفكر اليوناني، ومن المنطق الصوري الذي فرضه أرسطو ومنهجه، ومن الفكر الفلسفي الذي فرض على أوروبا تقليدها وتبعيتها للفكر الإغريقي ولليونان وللجاهلية القديمة.
فيجب على كل طالب علم أن يحرص على اقتناء الكتب، ويبذل جهده لفهمها، ومع أن العصر، والأسلوب، والموضوعات كلها تختلف، ولكن كل شيء يستعان عليه بالمران وبالمراس؛ فمن قرأ له مرة ثم مرة، فإنه سيجد أسلوبه سهلاً شيقاً.
بل من يقرأ لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله, ثم يجد من ينقل عنه ولم يشر إلى هذا النقل، فتقرأ في ثنايا الكلام سطرين أو ثلاثة أسطر، فيقول لك قلبك: هذا من كلام شَيْخ الإِسْلامِ , وإن كان الرجل لم يذكر ذلك؛ لأن له أسلوباً متميزاً جداً في غاية القوة من الناحية اللغوية وبالمعاني العظيمة التي يتضمنها أسلوبه, ولا غرابة في ذلك؛ لأن الغذاء الذي تغذَّى به قلبه وفكره وعقله هو كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكلام السلف الصالح.
فالفضل إذاً لذلك المنهج الذي أخرج ذلك الرجل وأمثاله، وسيخرج أمثاله بفضل الله تعالى الذي منَّ علينا بهذا المنهج الذي هو كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكلام الصحابة والتابعين والسلف الصالح رضوان الله عليهم.
وبهذه المناسبة أكرر وأقول: إن بعضاًَ من كتب شَيْخ الإِسْلامِ ومن آرائه العظيمة التي ألفها تكاد تكون شروحاً لعبارات الإمام أحمد رحمه الله، وتعلمون ما أعطاه الله من الفضل، المنزلة، الكرامة، الإمامة في الدين.
فمن أراد الخير والحق والهدى، فليتعلق بهذا المنهج الكريم وبهؤلاء الرجال الأفاضل، وليأخذ من حيث أخذوا، وليتبع آثارهم وليقتد بهم، وسيكون -بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فاهماً لكلامهم، وداعية إلى ما دعوا إليه، وعاملاً كما عملوا وكما جاهدوا.
وأما الكتب التي تطلبون فهي معروفة لديكم, وأول كتاب أوصي به إخواني في الله هو كتاب الله عز وجل، كتاب الله: العقيدة، الأحكام, الإيمان، اليقين، الإخلاص، الإخبات الذي تحتاجه قلوبنا، الإنابة، التوكل، الرغبة عن الدنيا والرغبة في الآخرة، كل ذلك نحصل عليه وأضعافه إذا قرأنا كتاب الله عز وجل قراءة المتدبر المتفكر المتعقل، وقرأنا في تفسير السلف الصالح رضوان الله عليهم من التفاسير الموثوقة، وكذلك سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فقد حفظ لنا أئمة السنة رضي الله تعالى عنهم أبواباً عظيمة أو كتباً ضمن السنن؛ كتاب الإيمان -كتاب القدر- كتاب التوحيد, وكتاب الرد على الجهمية وغير ذلك من الكتب الموجودة في الصحيحين وغيرهما, هذه المصادر الأساسية وما تبعها من شروح ومن كتب ككتب شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وابن القيم , وكتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله أجمعين, وكتب الشيخ حافظ حكمي رحمه الله, فهذه مما تعينكم بإذن الله على معرفة العقيدة الصحيحة التي كان عليها السلف الصالح، جعلنا الله وإياكم من أتباعها.(59/13)
أخذ العلم والرواية عن أهل البدع
السؤال
حول كتاب أهل السنة والجماعة معالم الانطلاقة الكبرى وما ذكر في كيفية معاملة أهل البدع, وقد يكون لبعضهم من لديه شيء من العلم، هل يؤخذ عنه العلم الشرعي؟
الجواب
بالنسبة للكتاب، هو كما ذكر صاحبه أنه جمعه من كلام شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية , وهو يحتوي على فوائد طيبة، منها هذا الجمع، ومنها ما ذكره فيما بعد من كلام حسن, وجدير بنا أن نقرأه.
وأما بالنسبة للبدعة فقد يقع ذلك, والأمة -كما تعلمون- تتمحض للخير وتتمحض للشر, وبين ذلك أمور متفاوتة، والحال أنه وقع في هذه الأمة في العصور المتأخرة أن التمحض للخير قليل, فلا بد أن يؤخذ شيء من الحق إذا أريد أن يؤخذ الحق ومعه شيء من الباطل, ولكننا نرفض الباطل ونأخذ الحق وحده بحسب المستطاع, وهذا بعد أن نكون عرفنا أن هذا الرجل مبتدع فعلاً، أي أن هذا الكلام مما ثبت عنه.
وهنا أنبه إلى قضية أخرى قد يتعلق بها بعض أهل البدع، وهي قضية الرواية عن أهل البدع، وهو أمر آخر غير تلقي العلم عنهم، لأن الرواية أساسها هو الضبط والثقة والصدق، ولهذا قد يُروى عن أهل البدع الذين لا يكذبون، وكذلك الذين ليسوا من الغلاة في بدعهم والذين ليس لما رووه أثر في بدعتهم، فقد يروى عن بعضهم لضبطه ولثقته, ونحن أهل السنة أمة الإنصاف, وإن لم ينصف أهل السنة فمن ينصف؟ أهل البدعة؟! وإن لم يعدل أهل السنة فمن يعدل؟ أهل البدعة! فنحن إن كان للإنسان فضل من علم أو ضبط وحفظ وإتقان أو زهد وعبادة وفيه بدع, فإننا مع تحذيرنا من بدعته وعلمنا بها لا ننكر فضله فيما له فيه فضل, هذا لا بد منه.
أما من تمحَّض في الشر كـ غلاة الرافضة أو غلاة الخوارج الذين أنكروا بعض سور القرآن، أو كان من الباطنية وأشباهها، ممن ارتد عن الإسلام وتمحَّض للشر وللكفر، فإن هذا لا تقبل روايته، لا يروى عنه ولا يقبل علمه، ولا يُتلقى عنه العلم مطلقاًَ، هذا ما أستطيع أن أوجزه.
والله أعلم.(59/14)
منشأ الحداثة وغيرها من المذاهب الفكرية المعاصرة وكيفية علاجها
السؤال
نسمع كثيراً عن الحداثة والحداثيين، فما المقصود بـ الحداثة؟
الجواب
الكلام عن الحداثة لا نستطيع أن نستوفيه، لكن نحن نضع الأصل الذي تعرفون به هذه الفكرة وغيرها من الأفكار، وهي أن هذه الفكرة لم تنبت ولم تخرج من بلاد الإسلام ولا من التراث أو الفكر أو العلم الشرعي الإسلامي أبداً، إنما هي فكرة غربية، وحسبنا أن نعلم أنها غربية, وأية فكرة وافدة، فالواجب علينا أن يكون موقفنا حيالها أياً كانت قبل أن نؤمن بها أو نعتقدها أو نعمل بها أن نشك ونتوقف فيها؛ لأن مصدرها هم هؤلاء الكفار الغربيون.
وما وصل إلينا في مجتمعنا من الحداثة ما هو إلا الفقاقيع, لأن الأصول الفكرية أصلها في الغرب منذ قرن أو قرنين, وأصل هذه الفكرة أنها تستمد من النظرية الداروينية نظرية " دارون ", وتستمد من " الفرويدية " نظرية " فرويد " في حيوانية الإنسان, وتستمد من الماركسية , وتستمد أيضاًَ من المذاهب الأدبية الأوروبية التي عانى منها الغرب مثل المذهب الرومانسي كردة فعل له أو متأثرة به والمذهب الرمزي الذي ظهر في القرن التاسع عشر وهو مذهب أدبي رمزي -أيضاً- طوره البعض وطعنوا في تلك النظريات وأصبحوا يدعونه ويسمونه بهذا الاسم, والحقيقة أن هذا المصطلح هو مصطلح عام يشمل عدة مدارس وعدة اتجاهات هناك في الغرب ومعظمها في فرنسا بالذات، ويصعب حصرها حتى أن بينها من الشقاق ومن العداء ومن الاختلاف الشيء الكثير.
هنالك الاتجاه الوجودي أو ما تطور عن الوجودية وهؤلاء لهم اتجاه, الماركسيون الشيوعيون هؤلاء لهم اتجاه, والشيوعيون أنفسهم لهم أكثر من اتجاه, وهناك أيضاً الاتجاه الكاثوليكي الذي ظل متمسكاً بالتراث، أي الاتجاه الشيوعي المتمسك بمبادئ لينين وماركس.
وهناك الاتجاه الشيوعي المتطور، الذي كان من دعاته " رجاء جارودي " الذي ألف كتاب " ماركسية القرن العشرين " وقد اعتنق الإسلام بعد ذلك, أي أن هناك عدة اتجاهات فكرية، وذلك نتيجة مجتمع لا يؤمن بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، نتيجة مجتمع غلا في الجاهليات وأشبع بها من قرون.
تصوروا أن هناك جماعة من هذه الجماعات في باريس واسمها جماعة الضفادع وجماعة الخنازير، وهذه جمعيات أدبية ويجتمعون ولهم فكر، ولهم شعر مختلف عن الآخرين، فضلاً عن البنيوية ومؤسسها رجل يهودي، وأيضاً من المؤسسين لمذهب الحداثة في الاتجاه الشيوعي رجل شيوعي معروف اسمه " رولانده " وآخر اسمه " لفيفر ", وكلهم دعاة للشيوعية، وهم مكشوفون ومعروفون في بلادهم.
وقد جاءتنا إما لأن فينا سماعين لهم، وإما لأسباب كثيرة غيرها أدَّت إلى أن يتأثر بهذا الغزو الفكري شواذ من الشباب, وهذا يجب أن نحسب حسابه كأحد المؤثرات للاحتكاك الفكري مع الغرب؛ فالصراع الفكري مع الغرب أحد الأوجه للغزو الوافد إلينا, ووجه من الوجوه الكثيرة جداً.
وبهذه المناسبة أذكر ما حذر منه وزير الثقافة الفرنسي منذ سنوات حيث وقف يحذر أمته وبلاده فرنسا من خطر السيطرة الفكرية الأمريكية يقول: 'إن الذوق الفرنسي أصبح أمريكياً والهدف الفرنسي أصبح أمريكياً والأفلام تأثرت بأفلام هوليود ' وهكذا رجل في باريس يحذر من هوليود!!! ولا فرق بينهما عند المؤمن.
وإذا كانت هذه الأمم تحافظ على أصالتها كما تزعم، وترى أن أصالتها لا تكون إلا بأن تحمي نفسها من خطر الغزو الفكري القادم إليها من أمم غربية مثلها لا تختلف عنها من حيث المادية عدم الإيمان بالله إنكار الدين ومن حيث الإباحية والانحلال، فكل ذلك سواء هنا أو هناك, لكن يرون أن ثقافتهم لا بد أن تتميز، فما بالكم بالمسلم الذي يؤمن بالله، والذي يستمد إيمانه وعلمه وفكره وثقافته من كتاب الله ومن سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعلم الشرعي الصحيح؟! كيف تكون مقاومته؟! وكيف يكون تحذيره من هذه الآراء؟! فهي موجة من موجات الغزو الفكري الوافد, ولا بد أن تنحسر, وتأكدوا أنه لا بد أن تنحسر، لكن لا بد -مع ذلك- من التنبه لهذه الأخطار جميعاً.
وإذا أردنا أن نعالجها, وأنا أقول هذا لأنني أمام إخوة -ولله الحمد- على مستوى العلاج, كيف نعالج هذه الظواهر السيئة؟ ابدءوا بالوقاية، انشروا العقيدة الصحيحة، والعلم الصحيح، والدعوة إلى الله, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع، وأنتم بذلك تجعلونه في وقاية محصنة تامة عن أية فكرة وافدة, لكن إذا اشتغلنا بفكرة ما، قد يشغلنا بها أعداء الله لمدة عشرين أو ثلاثين سنة ثم يغيرونها، كما يغيرون من الإباحية إلى الشيوعية ومن الشيوعية مثلاً إلى الحداثة، وهكذا وقد يغيرون ويغيرون، ولا ننتهى أبداً من الجهل، لكن إذا نظرنا إلى الأصل الوقائي, فلا بد منه لنا لكي نكون مؤمنين ومسلمين حقاً، وهو أن نعبد الله على علم وبينة وبصيرة, وأن ندعو إلى الله على بصيرة وأن نوعي أمتنا, بحيث لا ترتكب معصية ولو صغيرة فضلاً عما ترتكب من الإلحاد، فإن هذا يعطيها وقاية عامة، ولولا الخواء الموجود لدى شباب العالم الإسلامي من العقيدة الصحيحة، ما تقبلوا أفكار الغرب وما رضوا بها، وهم يعلمون أن وراءها الأيدي الهدامة، وأن وراءها اليهود، وأن وراءها المستشرقين والمبشرين.
إذاً محاربة هذا الخواء هو بتعبئة هذا الفراغ الروحي بالإيمان الصحيح بالله والعقيدة الصحيحة، هذا الذي به نقاوم جميع العلل وجميع الأدواء بإذن الله تبارك وتعالى، ومع ذلك فإن وجد فينا متخصصون في الرد على هذه الضلالات وكشف زيفها بالتفصيل، فهو أفضل.(59/15)
مقتضيات ولوازم الأخوة
السؤال
أحد الإخوة يسأل عن حد الأخوة، وما هي المقتضيات العامة لها؟ لأنها تستخدم كشعار عند كثير من الإخوة عندما يكون له رغبة ومراد في بعض الأمور التي يسعى لتحقيقها؟
الجواب
الأخوة المطلوبة هي الأخوة الإيمانية التي تقتضي أن يكون المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، وتقتضي أن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه، وتقتضي أن ينصحه لأن الدين النصيحة، ومن ذلك النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، وتقتضي حسن الخلق مع المؤمنين جميعا، ً والتعاون على البر والتقوى، وتقتضي عدم الشذوذ عن أهل الإيمان والخير والصلاح، الشذوذ إما ببدعة أو برأي أو بتخاذل عنهم، وهكذا مقتضيات واضحة جاءت في الكتاب والسنة.
نعلم بها أن الأخوة الإيمانية هي تحقيق لموالاة المؤمنين، والبراءة من الكافرين ومن المعاصي والفجور وأصحابها.
فكون بعض الناس قد يستغلها سُلَّماً أو ذريعة لغرض غير شرعي، نعم! قد يوجد، لكن ذلك لا يجعلنا نتخلى عنها، المؤمن الشاب التقي -جعلني الله وإياكم كذلك- الذي يتقي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتخلق بأخلاق المتقين، بأخلاق أولياء الله وعباده الصالحين، ولا يبالي أن غيره يستغل ذلك الأمر.
نعم! المؤمن فطن وحذر، ولكن ربما يكون في أخلاقك وتمسكك بالدين ما يردعه ويعلمه تعليماً عملياً أن يكون مثلك بإذن الله عز وجل، فالأصل في هذا أن تُقَابِل الإساءة بالإحسان، وأن تُقَابِل الجهل بالحلم، وأن تُقَابِل الاستغلال أو الانتهازية بالإخلاص لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وما دمت تحتسب ذلك عند الله فلا تُبالِ بأهداف المخلوقين ومآربهم وبأغراضهم.
لكن لو شعرت أو رأيت أن إنساناً ما؛ إما صاحب هوى أو بدعة أو معصية ليس غرضه إلا أن يصل إلى ما أراد، وأنت عرفت ذلك يقيناً, فإنه لا يصح أن تتخلى عن هذا الخلق مع غيره من الناس, لكن معه ينبغي لك أن تحذر منه وألاَّ تتيح له فرصة, ومع ذلك لا تكف عن الدعوة له، ولو بدعاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له أن يهديه وأن يوفقه للحق, كيف ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو للمشركين أن يهديهم الله وأن يأتي بهم مؤمنين وأن يسلموا؟! فكيف بنا نحن مع المؤمنين؟! فيجب أن يكون خلقنا أرفع وأسمى من كل هذه المؤثرات، وفي نفس الوقت أن يكون منهجنا في الدعوة هو التعامل على السنة الصحيحة التي لا محاباة ولا مداهنة ولا مجاملة فيها في الحق، ولا تحريف للحق من أجل إرضاء أي إنسان كائناً من كان, لكن التعامل شيء آخر, فإن التعامل قد يتغير بسبب المواقف، أما التمسك بالمنهج فهو شيء آخر, التمسك بالحق مبدأ, والمبادئ ثابتة لا تتحول ولا تتغير.(59/16)
الجمع بين قول الله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) وحديث (كل مولود يولد على الفطرة)
السؤال
يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2] والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه}، فكيف نأخذ من ذلك كون الإنسان يولد على الفطرة مع أن الآية تبين أنه على الدين؟
الجواب
ليس بين الآية والحديث منافاة -ولله الحمد- بل صريح القرآن يدل على الحديث، وهو قول الله تبارك وتعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]، فإن الله خلق النفوس على هذه الفطرة النقية التي هي الإسلام، وهي التوحيد، وهي هذه الملة القويمة، وكما أوضح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إحدى روايات الحديث: {كما تنتج البهيمة جمعاء هل ترون فيها من جدعاء}، أي: البهيمة تلد بهيمة مستوية كاملة الخلقة, ليس فيها جدع ولا شعار ولا إشارة, وبعد ذلك يضع الناس هذه الرموز وهذه الإشارات وهذه العلامات للانتماء لشيء ما.
أما الآية {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2] فهذا إخبار من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن حال الناس أن منهم المؤمنين وأن منهم الكافرين، وأنه خلقهم جميعاً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وحكمته وقدره بالأزل اقتضى أن يكون منهم مؤمنون وكافرون, مع أن كل مولود يولد على الفطرة، ولكن أبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، فيصبح الخلق على نوعين: كافر ومؤمن, مع أن كلاً منهما قد ولد على الفطرة, فلا منافاة إذن بين الآية والحديث، والله أعلم.(59/17)
حكم الاستثناء في الإيمان
السؤال
ما حكم الاستثناء في الإيمان، وما هو قول أهل السنة في ذلك؟
الجواب
الاستثناء في الإيمان هو أن يقول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الله, وخلاصة القول فيه بإيجاز: إن أراد الإنسان أن يبعد عن نفسه شبهة التزكية، كما قال تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32] فيقول: "أنا مؤمن إن شاء الله", فإنه لا بأس بذلك، ويقصد بذلك كمال الإيمان، أي: أنه مؤمن الإيمان السلفي الذي هو أعلى من درجة الإسلام, الذين وصفهم بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2].
فمن السلف من كان يتحرج عندما يقرأ هذه الآيات ويُسأل أمؤمن أنت؟ وقد سُئِلَ الحسن البصري رحمه الله عن ذلك فقال: 'إن كان من هؤلاء الذين وصفهم الله بقوله: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال:2] إلى آخر الآيات في وصفهم فلست منهم، وإنما أرى نفسي ممن قال الله عز وجل فيهم: ((وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [التوبة:102] '.
فهذا من باب حط النفس واتهامها وعدم تزكيتها، وأما بالنظر إلى كمال الإيمان وتحقيقه فإنه جائز، وأما إن قالها على سبيل الشك عياذاً بالله، ويقصد بالإيمان الإسلام أنه مؤمن إن شاء الله - يعني أنه شاك في إسلامه- أي: أنا مسلم إن شاء الله، على سبيل الشك، فذلك لا يجوز.
وهذا يجمع ما ورد عن السلف من الاستثناء وما ورد عنهم من النهي عنه, فمن نظر إلى كمال الإيمان وإلى التزكية استثنى، ومن لم يستثن فإنه نظر إلى أن المؤمن لا يشك في دينه، كما قال قائلهم: أشك في كل شيء إلا في إيماني، فأنا مسلم، ويقصد من ذلك أنه لا شك عندي بأن الله حق وأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فكيف أستثني وأقول: أنا مسلم إن شاء الله بنية الشك، وبهذا يجمع بين القولين ولا منافاة بينهما، ولله الحمد.(59/18)
وحدة المسلمين تكون بالاجتماع على الكتاب والسنة
السؤال
ألا ترى بأن التركيز على منهج أهل السنة يعتبر معاداة للملل والفرق الأخرى، وبالتالي فإنه يؤدي إلى نبذ الوحدة بين المسلمين, واليوم نحن في حاجة إلى الوحدة وهدم الخلاف وترك التشكيك في بعضنا؟
الجواب
لا خيار لنا في أن ندعو إلى السنة، وهذا الأمر ليس من النوافل ولا من التطوعات, بل هو الواجب الذي يجب على طلاب العلم جميعاً وعلى الدعاة إلى الله وعلى كل مسلم أن يدعو إلى السنة وإلى منهج أهل السنة والجماعة، ليس لنا خيار في ذلك؛ لأن ما عدا السنة هو البدعة وهو الضلالة, أما أن ذلك يفرق فننظر يفرق بين من؟ إن كان يفرق بين أهل السنة، فإن هذا لا يتصور, لأن أهل السنة إنما يريدون السنة ويريدون الحق، فلا يمكن أن يفرق بينهم من يدعوهم إلى السنة، وليس عند أهل السنة شيء أفرح من أن يظهر فيهم أو يدعوهم أحد إلى السنة، ويبينها لهم ويعرف أنهم كانوا على خطأ، ثم ظهرت لهم السنة، أو كانوا على بدعة فبانت لهم السنة، هذا أحب شيء إلى نفوس أهل السنة، فلا تفريق بين أهل السنة الراغبين في الحق وفي الكتاب والسنة أبداً.
وأما إن كان القصد أن يفرق بين الأمة، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أخبرنا في الحديث الذي يُروى عن كثير من الصحابة عن أبي هريرة، وأنس، ومعاوية {أن هذه الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل من هم يا رسول الله ما أنا عليه وأصحابي} وهم أهل أهل السنة.
إذاً الفرقة الناجية والطائفة المنصورة هم أهل السنة، وكلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يتخلف {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:2 - 3]، لا بد أن يقع التفرق, فلو قال قائل: نريد أن نجمع هذه الثلاث والسبعين وندمجها لتكون سبعين؟ نقول: لا تستطيع أبداً؛ لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: على ثلاثٍ وسبعين.
فالتفرق حقيقة قائمة، أي لا يمكن لنا واقعاً أن نجعل الأمة الإسلامية كلها واحدة، كما أننا مأمورون أن ندعو أمم الأرض جميعاً إلى الإسلام، ولكن في الواقع هل نستطيع أن نقضي على اليهود والنصارى والمشركين مع أن ذلك واجب علينا ونحن نسعى إليه، ونحبه، ونبذل جهدنا فيه؟ هذا الواقع لا يكون إلا إذا أنزل الله عيسى عليه السلام، وخلت الأرض من الشرك نهائيا، ً هذا أمر آخر، لكن في واقعنا نحن الآن لا نستطيع ذلك, ومع ذلك ندعو إليه ونحبه.
فكذلك السنة ندعو بأن تكون أمة الإسلام أمة واحدة, ونحرص على إزالة كل سبب يفرق ويباعد بينها, ونبذل جهدنا لئلا تتفرق, لكن الواقع أن الأمة ستظل متفرقة, فهل نقول: نضحي بالعقيدة الصحيحة وبالمنهج الصحيح من أجل أن تجتمع الأمة, وهي لن تجتمع أصلاً، هذا عكس ما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، فالتفرق واقع، والمأمور به أن نعتصم بحبل الله, وحبل الله هو: منهجه وطريقه وسبيله، وهو الكتاب والسنة، نعتصم بالكتاب والسنة ولا نتفرق.
فندعو الأمة -جميعاً- أن تتحد على الكتاب والسنة، ومن الخطأ أن نقول: اللهم اجمع كلمة المسلمين فقط, بل نقول: اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق، فما الفائدة على أن يجتمع المسلمون كلهم على أن يكونوا خوارج أو روافض أو صوفية -عياذاً بالله- فعند أهل الحق الاجتماع ليس مطلباً في ذاته, إنما الاجتماع على الحق هذا هو الصحيح.
والواقع أنه لا يجمع المسلمين شيء غير الكتاب والسنة أبداً، لأنك لو دعوت الناس إلى مذهب فلان من الناس، فإنه سيقابلك آخر برأي آخر، فيرى أن مذهب فلان الآخر هو الأفضل، وبهذا لا يمكن أن نجتمع، لكن إذا قلت لهم: الكتاب والسنة فسيوافقني -ولله الحمد- كثير من الناس, فالذي يجمع الأمة الإسلامية الكتاب والسنة, وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة ومن شذ عنه فلن يشذ عن إمام أو طائفة أو شيخ طريقة أو فرقة أو أمير دعوة وإنما سيشذ عن الكتاب والسنة.
فقد حكم على نفسه بالشذوذ, وأخرج نفسه من أهل الحق، وسوف يحاسب يوم القيامة على ذلك، لم يخرجه أحد بل هو أخرج نفسه, لكن أي شيء يجمع المسلمين غير ذلك؛ فإنه قد يخرج عنه من هو من أهل التقى والإيمان والحق، وقد يدخل في ذلك الاجتماع من هو من أهل الفجور والضلال والباطل، لأن المعيار وهو اتباع الكتاب والسنة، فلا أحد أحرص في هذه الأمة على المحبة بين المسلمين والألفة والاتفاق من أهل السنة والجماعة.
لكن لا يكون ذلك بالتضحية بالعقيدة الصحيحة والإيمان الصحيح أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والموالاة في الله والمعاداة في الله, وذلك لا يكون أبداً, وإلا فسنكون أضعنا هذه الأهداف العظيمة, وعصينا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وخالفنا أمره؛ لنحقق هدفاً نحن صنعناه، ولن يتحقق في الواقع أبداً.(59/19)
ضابط الأصول والفروع في الدين
السؤال
ما أصل ضابط كل من أصول الدين وفروعه؟ وكيف نعرف الأصول من الفروع؟
الجواب
بالنسبة للأصول والفروع عامة، لا نفترض فيها الضبط المنطقي الدقيق حسب الحدود المنطقية الدقيقة، لكن ما كان متعلقاً بأمور الاعتقاد -العقائد والإيمان- فهو من الأصول، وأما الأعمال والشرائع العملية فهي من الفروع، ثم بعد ذلك العقيدة نفسها فيها أصول ويتبعها فروع لنفس الأصول التي هي الاعتقادات.
فمثلاً: الإيمان عند أهل السنة والجماعة هو من الأصول، لكن -مثلاً- من الفروع مسألة الاستثناء في الإيمان، وأن ننظر إلى فلان والتطبيق الواقعي له.
من الفروع أن ننظر إلى بعض الأمور التي اختلف فيها السلف في مسائل واقعية أو عملية تتفرع عن مسألة الإيمان أو القدر أو الصفات أو ما أشبه ذلك.
فمثلاً: الأصل العام في الصفات أننا نثبت لله عز وجل ما أثبته لنفسه من غير تحريف ولا تكييف ولا تعطيل ولا تمثيل، قد يكون من الفروع لها ما هو صفة من صفات الله عز وجل ورد بها حديث رأى بعض العلماء صحته ورأى بعض العلماء عدم صحته، هذه من الفروع، لكن -مثلاً- من يرى أن الحديث صحيح فيجب عليه ألَّا يؤول هذا الحديث, لأن ذلك يُعتبر نقضاً للأصل، أما الإنسان الذي يقول: "أنا الآن لم يثبت عندي" وهو عالم متبع للحق وللسنة, فهذا من الفروع.
مثلاً: إثبات رؤية الله يوم القيامة للمؤمنين هو أصل من الأصول، والمخالف فيه ضال مبتدع, لكن مسألة هل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه ليلة الإسراء أو لم يره، هذا من الفروع، وهكذا.
الخلاف في مسائل الفروع فيها الراجح والمرجوح، فالأمر فيها دائر بين الخطأ والصواب، أما المخالفة في الأصول فهي دائرة بين السنة والبدعة، بين الهدى والضلال، ولذلك يجب علينا أن نعرف أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يضيع الأصول بحجة أن بعض الفروع فيها خلاف.
مثال: بعض السلف لم يثبت صفة الساق فهل نهدم أصلاً كبيراً وهو توحيد الأسماء والصفات وما يبنى ويترتب عليه لهذا السبب؟! لا.
لو أن الخلاف في الأصل نفسه، لكان المخالف مبتدعاً لا يُعتد بخلافه أصلاً، أما إن كان من الصحابة أو من أهل السنة في مسألة من فروع العقيدة فإنه يحتمل النظر والاجتهاد، فإن هذا يجعل المسألة تدور بين الصحة والخطأ -كما قلنا- ولا يتعدى ذلك إلى إبطال الأصل، في أي حال من الأحوال، ومن فعل ذلك فهو إما جاهل وإما ملبس يريد أن يلبس على المسلمين ويفسد عليهم عقيدتهم متعللاً بما قد يتعلق بهذه الأمور، ويقول: إنها كلها أصول.(59/20)
إثبات أن الأراضي السبع هي غير السموات السبع
السؤال
هل كل سماء هي أرض بالنسبة لما فوقها؟
الجواب
القول بأن كل سماء هي أرض لما فوقها هو قول خاطئ ليس بصحيح, والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق:12] السماء الدنيا هي سماء من الناحية الاعتبارية المجردة.
لكن لا تسمى أرضاً بالنسبة لما فوقها من سماء، فما كان من السماء الدنيا جهة الأرض فهو سماء، وما كان منها جهة السماء لا يُسمى أرضاً.
والأنبياء الذين قابلهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الإسراء والمعراج في السماء الأولى، ثم في الثانية، ثم في الثالثة، وجبريل يستفتح له ويفتح له الباب، ولم يقل أحد: إنه قابلهم في الأرض -أي: في الأرض التي بالنسبة للسماء- فلا يصح هذا, هؤلاء في السماء وهم مرفوعون عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهذا هو الملأ الأعلى.
وإنما قصد بعض الناس التخلص من مسألة كيف نقول: إنها سبع أراض, بينما ليس هناك إلا الأرض هذه وهي واحدة, والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يقل: إن الأرض سبع أراض, وإنما قال: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق:12] , هذا شيء.
الشيء الثاني: أن الحديث يدل على ذلك وهو: {من ظلم شبراً من الأرض طوقه من سبع أرضين} لأنها كلها تحت بعضها، حتى استدل بها العلماء -كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح - على أنه من ملك شيئاً فإنه مباشرة ملك باطنه وأرضه، لأنه إذا أنت ملكت قطعة من الأرض، فلك أن تحفر بئراً إلى الأعماق, فأنت تملك ذلك، فالمسألة إذاً هي كونها من السبع الطبقات، هي السبع، التي يقول علماء الجيولوجيا أو سبع أو خمس ولا يهمنا هذا وهي قضايا نظرية، لكن يهمنا أن الله جعل من الأرض مثلها -أي: سبعاً- كما ورد في الحديث، وكما دلَّ عليه ظاهر القرآن، ويكفينا أن نقف عند هذا.(59/21)
العرش وإحاطته بالكون
السؤال
قرأت أن العرش كمثل القبة على السماوات والأرض.
فكيف ذلك؟
الجواب
بالنسبة للأرض فهي من جميع الجهات محاطة بالسماء وهذا معروف، لكن لعله حديث: وما نسبة السماوات السبع جميعاً إلى الكرسي، وما نسبة الكرسي إلى العرش، والعرش شكله كالقبة، كما ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشبَّك بين يديه هكذا، نحن الآن أصبحنا نتكلم في خيال، فنحن عندما نُفكر في الكيفية نفسها، فإن الكيفية خيال محض، لا نستطيع أن نتصورها على الإطلاق، العقل يتقاصر عن الكيفية, لكن من فضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علينا أن الله أوحى إلينا أننا نعرف ذلك على سبيل التقريب, نعرفه نظرياً، لكن كيفيته؟ لا نستطيع أن نعرف ذلك، والقائل بهذا القول ينبغي أن يُبين له إن شاء الله، ولا يدخل في ضمن الابتداع إن شاء الله.
والسماوات مثل سبعة دراهم ملقاة على ترس بالنسبة إلى الكرسي -أي: أعظم منها وأكبر وسعاً- ولا يشترط أن يكون وسعها بأنه يتضمنها ويحويها، ولكن يكفي أن يعلم أنه أعظم منها، وهذا يكفي، وسعه أعظم منها بكثير، كما تقول العرب: وسع حلم فلان جهله، بمعنى أنه اتسع عنه فاستوعبه، وليس هو شرط الإحاطة الحسية.
وفي الرسالة العرشية لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية المجلد السادس من الفتاوى، ذكر فيها مسألة العرش والأفلاك وشكل الكون، والله أعلم.(59/22)
حكم تحديد أسماء الثلاثة والسبعين فرقة
السؤال
هل الثلاثة والسبعين فرقة هي فعلاً ثلاثة وسبعون أم أن الرقم لغرض التكثير فقط؟
الجواب
قد يحتمل التكثير وقد يحتمل العدد نفسه، لكن عندما ننظر في الحديث أن اليهود افترقوا على إحدى وسبعين، والنصارى اثنتين وسبعين، وهذه الأمة على ثلاث وسبعين، فهذا يجعلنا نرجح أن الرقم محدد، لكن أيضاً هذا لا يعني أن نفعل كما فعل بعض المصنفين، يقول: ثلاث وسبعين ويقسم الخوارج ويقسم المعتزلة ويقسم كذا، حتى ينهي ثلاثاً وسبعين، وبعد قرن -مثلاً- تظهر فرقة جديدة.
فلا يقال: إن هذه الفرقة هي كذا وهذه رقمها كذا إلا بدليل، هذا لا يمكن؛ لأن أحداً لا يعلم الغيب، ولا يعلم ما سيكون من الفرق وما يظهر منها، فنفهم من هذا أن الثلاث والسبعين هي عبارة عن ثلاث وسبعين سبيلاً ومنهجاً، وقد يدخل في الفرقة الواحدة عدة فرق، لكن طرقها ومناهجها ومناحيها هي كذلك، وهذا يريحنا من التكلف في أن نعين ونعد ونحدد كل فرقة وكم رقمها والله أعلم.(59/23)
التوحيد وعلم الكلام
السؤال
ما صحة من يقول: إن علم الكلام هو علم أصول الدين وعلم العقيدة؟
الجواب
من يقول: إن علم الكلام هو علم أصول الدين والعقيدة فهو مخطئ، هذا الكلام غير صحيح، ونرد عليه بما رد عليه السلف الصالح، الذين أنكروا علم الكلام، فمثلاً في أول شرح العقيدة الطحاوية ذكر الإمام ابن أبي العز رحمه الله كلام الإمام أبي حنيفة وكلام الإمام الشافعي وكلام القاضي أبي يوسف رحمه الله وغيرهم من الأئمة.
يقول الشافعي: 'حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في الأسواق، ويقال: هذا جزاء من خالف الكتاب والسنة'.
وكيف يكون علم الكلام هو علم التوحيد، وكلامه هذا غير توحيد، ولو رجعنا إلى كتب وشروح أصول أهل السنة والجماعة ككتاب اللالكائي وغيره من الكتب، نجد الذم والنقد لمن تعلم علم الكلام.
وكل الكتب التي كتبت في بيان العلم: ما هو العلم الصحيح الشرعي، ككتاب فضل علم السلف على علم الخلف , وهي كتب كثيرة من كتب الأئمة الذين يُقتدى بهم، والذين عاصروا علم الكلام يعتبرون الكلام ليس من الدين.
وتجدون -أيضاً- المتكلمين ليسوا من العلماء، بل في فتاوى الحنفية وغيرها يقولون: لو أن رجلاً أوقف مالاً أو أوقف وقفاً وقال: هذا الوقف للعلماء لم يدخل فيه أهل الكلام، هذه عقوبة لأنهم ليسوا من العلماء، فكيف نقول: علم الكلام هو علم التوحيد؟! هذا إن كان القائل بهذا لمجرد أنه أخطأ أو أنه تربى أو تعلم في مكان ليست السنة منتشرة فقد يُعذر، لكن أن يقول: إن علم التوحيد هو علم الكلام!! هذا لا يجوز.(59/24)
فرقة الإباضية
السؤال
فرقة الإباضية ما هي علاقتها بـ الخوارج؟
الجواب
الإباضية في هذا العصر هي الإباضية التي في كل العصور، فليس هناك أي تناقض، وهم فرقة من الخوارج.
وبالنسبة لتصنيف الخوارج نجد أن الإباضية هي أخف الخوارج غموضاً، فأكثر الخوارج غموضاً هم الأزارقة يرون من عداهم من الأمة أنهم كفرة حتى من كان من الخوارج وهو مقيم في دار المسلمين يعتبرونه كافراً، بل أشد كفراً من اليهود.
وأخف منهم بقليل النجدات أتباع نجدة بن عامر قال: هؤلاء المسلمين كفار لكن من كان على منهجنا وأقام عندنا لا نكفره، أي أنهم أخف لكنهم على نفس الغموض.
أما الإباضية فإنهم قالوا: من كان مخالفاً لمنهجنا فإنه كافر، ولكنه كافر كفراً لا يخرجه من الملة هذا في الأصل، فهؤلاء أخف بقليل من الفرقتين السابقتين.
ثم بعد ذلك دخل في عقيدة الإباضية في باب الأسماء والصفات مذهب المعتزلة، فأصبحت الإباضية تعتقد -وإلى يومنا هذا- أن من يؤمن بأن الله عز وجل يرى في الآخرة فإنه كافر، ولازم ذلك أن أهل السنة والجماعة كلهم كفار، ونحن نؤمن بذلك، بل والله نسعى إليه ونشتاق إليه، بأن نرى ربنا وأي فوز أعظم من هذا كما قال الزمخشري أي: من دخول الجنة, مع أن أعظم فوزاً من ذلك أن يرى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الجنة.
ويقولون -أيضاً-: إن القرآن مخلوق, فما كان غير الله فهو مخلوق، ففرقة الإباضية التي أسسها عبد الله بن إباض التميمي أضافت إلى مذهب الخوارج بدعة الاعتزال وإنكار الصفات وإنكار الرؤية, وصاحب الكبيرة عندهم كافر، لكن الكفر عندهم لا يخرج من الملة.
والذين يقولون: إن القرآن مخلوق هم قوم ابتدعوا هذه البدعة، وتأثروا باليهود والنصارى، حيث فلاسفة اليهود ومتكلميهم، قالوا: إن القرآن مخلوق، أي: مثل سائر المخلوقات كما أن الله خلق الناقة وخلق الإنسان، فكذلك خلق القرآن.
وهذا تكذيب لكلام الله عز وجل ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن الله أخبر أن القرآن كلامه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] وهذا كلام الله، وكلامه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صفته، فهل يكون شيء من صفات الله مخلوقة؟! لا يمكن ذلك أبداً! ولهذا لو قال واحد: أقسم بالقرآن، أو بالذكر الحكيم، أو بآيات الله المحكمة؛ لكان هذا القسم صحيحاً، لأنه لا يجوز أن يُقسم إنسان بالمخلوق، وهذا أقسم بغير المخلوق، أقسم بكلام الله، بصفة الله، والقسم لا يكون إلا بصفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولم يعهد عن أحد من السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أنه قال: إن القرآن مخلوق.
ولهذا فإن بعض السلف من باب الإلزام بذلك، جعلهم بين أمرين: إما أن يكون السلف علموا أن القرآن مخلوق كما قال هؤلاء أو لم يعلموا، فإن قال: ما علموه, فهم يرون بذلك أنهم جهال، وإن قال علموه، قيل: إما أن يكونوا بلغوه أو كتموه، فاحتار وبهت الذي كفر، لأنهم لو بلغوه لنقل إلينا ذلك, ولو قال: إنهم كتموه لكان هذا قدحاً فيهم أو أننا أعلم منهم, وهذا لا يمكن! فعلى أي حال يكون هذا بدعاً من القول.(59/25)
الشباب المسلم بين العقل والعاطفة
تحدث الشيخ حفظه الله تعالى عن قضية هامة وهي: قضية الشباب المسلم بين العقل والعاطفة.
فبين في حديثه: كيفية التوفيق بين التصرفات المحكمة وبين ما تمليه العاطفة، مدعماً ذلك بذكر بعض الأمثلة من حياة الأنبياء والسلف الصالح.
ثم تحدث عن مفاسد الميل نحو العاطفة الغير منضبطة، مبيناً أن ذلك يؤدي في كثير من الأحيان إلى الوقوع في الخطأ نتيجة للاستعجال، أو الخروج عن المألوف، وكذلك قد يؤدي إلى الخطأ في تطبيق مفهوم الولاء والبراء على وجه الخصوص.(60/1)
بين التفكير العقلي والميول الوجدانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلَّى الله وسلم وبارك على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فأسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل هذا الدرس خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعنا جميعاً به، إنه سميعٌ مجيب.
وبعد إننا نسير -ولله الحمد- مسيرةً طيبة مباركة، وأمتنا الإسلامية -والحمد لله- تعيش هذه الأيام عودة وتوبة وإنابة إلى الله تبارك وتعالى مشهودة يراها كل ناظر، ولكن توجيه هذه الأوبة وتسديدها، والنصح لأهلها ولشبابها هو من أعظم ما ينبغي على من لديه شيءٌ مما يظن أنه ينفع الله تبارك وتعالى به في تصحيح المسيرة، وفي توجيه هذه الطريق إلى السداد، وإلى ما يرضي الله تبارك وتعالى، ولذلك فإنني أحب أن أتناول القضايا بمنتهى الإيضاح والتفصيل.
وموضوعنا هو: قضية العقل والعاطفة.
الله تبارك وتعالى خلق الإنسان مركباً من أمور، ومنها هذان الشيئان: العقل، والعاطفة، ومن نعمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على الإنسان أن النفس الإنسانية مرنة واسعة وأن الله شرع لها هذا الدين القويم، الذي يلبي احتياجاتها أياً كانت، وفي أي زمان وفي أي مكان، وبأي طبعٍ ركب في الإنسان أو جبل عليه.
أما العقل فهناك من يبالغ فيه، وهم الحكماء كما يسمون، فيجعلون كل الأمور بالعقل المحض المجرد، وهناك من يبالغ في العاطفة كالشعراء وأمثالهم، فيجعلون الأمور عواطف بحتة.
والحق أنه لا هكذا ولا هكذا؛ فالإنسان مزيج ومركب من مشاعر كثيرة.
وأقول هذا كمقدمة؛ لأننا لا نتنكر للعقل ولا نتنكر للعاطفة، وليس الأمر خياراً بين هذا أو ذاك، ولكن كيف نستطيع أن نوفق بين التصرفات المحكمة؟ بين تصرفٍ أفكر فيه وأستشير وأستخير ثم أعمل، وأيضاً مع ذلك أتوقع الخطأ، وأتابع العمل لئلا يقع فيه الخلل حتى ينتهي، وبين عملٍ يأتيني فأتدفق حماساً، وأفيض مشاعر وإقدام، فأعمل ما تمليه عليَّ العاطفة في تلك اللحظات الحاسمة، دون حسابٍ لأية عاقبة من العواقب.(60/2)
كيفية التوفيق بين التصرفات المحكمة وما تمليه العاطفة
أقول: هذه هي القضية، وهذه هي قضية الشباب، والعاطفة مطلوبة، ولا يمكن أن يقوم دينٌ ولا دعوة إلا بهذه العاطفة، والله تبارك وتعالى أنزل هذا القرآن، الذي فيه الشفاء والموعظة والعبرة، ومع ذلك فإن أقوى الحجج العقلية في كتاب الله تبارك وتعالى تصاغ بأكثر الأساليب إثارةً للعاطفة والوجدان، وهكذا عباداتنا كلها -ولله الحمد- عبادات تنمي في الإنسان جانب التهذيب الأخلاقي، والانضباط، والسلوك العقلي القويم، وفي نفس الوقت تنمي فيه الإيمان والإحساس، والمشاعر الوجدانية الإيمانية، وأيضاً تنمي فيه المعاملة والتعامل، فالكل شيء واحد.
لكن نحن الشباب نحتاج إلى أن نضبط أمورنا لتوافق هذا المنهج الرباني القويم، وإلا فإنه سوف يقع الخلل عندما يطغى أحد الجانبين على الآخر، وكلا الجانبين موجود، إما طغيان عقلي، أو قد يسمى علمي -وأنا أردت وتعمدت أن أقول هو عقلي- أو طغيان عاطفي.
والجانب العقلي هو أن تؤخذ القضايا دائماً بقوالب منطقية جامدة، أن تؤخذ مجردة عن المشاعر، وعن العواطف، فالأخ الذي يربي يربي وهو لا يتنبه لهذه الأمور، والأخ المتلقي يتلقى بعيداً عن هذه الأمور.
وأقول: لم تقم دعوة مجردة على الإطلاق من العاطفة الجياشة القوية، وقد كان في أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل في الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم العبرة في ذلك عندما يقوى هذا الجانب، ولكنه وجدانٌُ وعاطفةٌ قويمة مستقيمة.(60/3)
أمثلة من حال الأنبياء
الخليل إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه يحطم الأصنام، ويجعلها جذاذاً إلا كبيرها، بهذه القوة، وبعاطفة الشباب المتحمس، لكنها قوة في الحق وبأسلوب سليم وبموقف قويم، حسب حسابه، وانتصر في النهاية، ولله الحمد، ولو أن هذا الفتى أو هذا الشاب كان مسايراً لوضعه ولعصره دون أن تحدث منه هذه التي عدَّها قومه طيشاً ونزوة، لما غيَّر شيئاً.(60/4)
أمثلة من حال الصحابة
وكذلك كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه إنما كانوا يواجهون هذه الدعوة، ويتحملون أعباءها بتلك القوة العاطفية الوجدانية، التي أخرجوا بها الناس من الظلمات إلى النور، كيف كانت شجاعتهم؟ وكيف كان إقدامهم؟ وكيف كان تعاونهم؟ وكيف كانت هجرتهم؟ لم تكن مواقفهم وثباتهم إلا نتيجةً لهذه العاطفة ولهذا الوجدان، ولكنه وجدانٌ إيمانيٌ منضبط.
وقد يقع أن تثور العاطفة، ولكنها أيضاً تضبط وتنضبط، وفي مواقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه الكثيرة المتعددة ما يبين ذلك، فمثلاً في موقفه يوم الحديبية، عندما كاد أن يعترض على ما اتفق عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقره مع الكفار: كان يقول: {يا رسول الله، ألسنا المؤمنين؟ أليسوا مشركين؟ فكيف نرضى الدنية في ديننا} ويصرخ ويضطرب ويتألم.
فهذه عاطفة إيمانية، وموقفٌ حميدٌ في أصله من حيث المنبع، لكن في إخراجه وفي كيفيته خطأ، ولهذا يقول بعد ذلك الموقف: عملت لذلك أعمالاً، حيث كان رضي الله تعالى عنه بعد ذلك إذا تذكر موقفه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الحديبية يتصدق ويعتق وينفق ليكفر عن ذلك الموقف.
وأيضاً موقفه من المنافقين، فالرجل الذي ترك التحاكم إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأراد أن يتحاكم إلى كعب بن الأشرف أو إلى كاهن جهينة، كيف كان موقف عمر رضي الله تعالى عنه منه؟ وأيضاً الرجل اليهودي الذي أراد أن يختبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليرى هل الصفات التي في التوراة موجودة فيه أو غير موجودة، فيأتي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويشده شداً، ويجذبه جذباً، فيقول عمر رضي الله تعالى عنه: {يا رسول الله! دعني أضرب عنقه}.
ومواقف كثيرة يقول فيها الفاروق: {يا رسول الله! دعني أضرب عنقه} لكن ماذا حصل للفاروق رضي الله تعالى عنه عندما أصبح هو الخليفة، هل ضرب عنق أحد بمثل هذه السرعة؟ إنما بذلك الموقف كان هيبة وقوة للدين، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هنالك، فإن فعل أمراً فبأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا نتيجة عاطفته هو واندفاعه، وإن لم يفعله حصل المراد، وهو الهيبة لهؤلاء المنافقين وأمثالهم، وحصل إظهار لعزة الدين ولمنعة المؤمنين، وفي نفس الوقت لم تحصل المفسدة التي لا يريدها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا مثال من أمثلة كثيرة.(60/5)
مفاسد العاطفة الغير منضبطة
لو وُظَّفت العاطفة توظيفاً صحيحاً، لاستطعنا - بإذن الله تعالى- أن نستفيد من وجودها في الشباب، طاقةً، وحيويةً، ونشاطاً، لو وظفت توظيفاً صحيحاً لاستطعنا بإذن الله تعالى أن نحقق المكاسب الكبرى منها دون أن تحصل المفاسد التي قد تقع، والتي سوف نتعرض لأمثلة منها.(60/6)
مفسدة الاستعجال
ومن ذلك أيها الإخوة الكرام: أن عاطفة الشباب دائماً تؤدي إلى العجلة، وهذه صفة كانت موجودة حتى في صحابة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكنها تعرضت للانضباط كما أشرنا.
الصحابة رضوان الله تعالى عليهم عندما أتوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو نائم في ظل الكعبة فأخبروه عما فتنتهم به قريش، وغير ذلك من المواقف، قال لهم: {ولكنكم قوم تستعجلون}.
وأقول: إن العجلة هذه موجودة في الشباب، والعجلة في أصلها دليل خير، وعاطفة خير، -مثلاً- يستعجل الشاب في أن يتعلم حفظ القرآن في أقصر مدة، أو يريد أن يتعلم علم الحديث والرجال والأسانيد والمتون في أوجز مدة، بل ربما يقول البعض: أجمع هذه العلوم جميعاً، فأتخصص وأتبحر في القرآن وعلومه، أو في الحديث وعلومه، وأقوم بالدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وبالتربية، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالإضافة إلى أعمال خاصة، مع رعاية الزوجة إن كان متزوجاً، أو الاشتغال بشأن الزواج، ويريد ذلك دفعة واحدة! وهذا من العجلة.
والحقيقة أنك تجده سنتين وثلاثاً وأكثر، بدأ بهذا الكتاب فلم يأخذ منه إلا الربع، وكتاباً آخر أقل منه، وآخر جزءاً يسيراً، ثم ترك هذا، ثم سمع عن هذا، ثم سمع بشيخ من المشايخ فذهب إليه، ثم لم يحصل له المراد، ثم سمع بشيخ آخر في بلد آخر، فسافر إليه، وانتقل من هذا إلى هذا، ثم ترك الكلية هذه إلى كلية أخرى، وإذا به في النهاية لم يحصل على الذي يريد، مع أن الأصل أن ذلك دافع خير، ولكن العجلة هذه إن لم تضبط فإن هذه هي نتيجتها، وقد حصل هذا لكثير من الشباب.
وهناك أيضاً عجلة في الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالشاب كلما يتذكر -وأظن هذا الشعور مشتركاً- كيف كان عندما كان بعيداً عن الله وعن الاستقامة على دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إن كان تارك صلاة فإنه يقول لنفسه: سبحان الله! كيف لو مت وأنا تارك الصلاة؟! كيف لو مت وأنا أشرب الخمر وأتعاطى المحرمات، أو أفعل الفواحش وأشياء تؤرق الشاب.
ولا شك أن المؤمن يؤرقه ذلك لمَّا يرى أن إخوانه في البيت أو إخوانه المسلمين يعانون مما كان يعاني، ويخاف عليهم مما كان يخشاه على نفسه، ويحمد الله الذي أنقذه منه ومَنَّ عليه، وإلا فقد كان كذلك من قبل، فيندفع بسرعة، ويريد أن يرى ثمرات الدعوة إلى الله عاجلةً سريعة -هذا أحد الأسباب- ويريد أن يدعو الناس فيستجيبوا.
يأتيني بعض الشباب، يقول: عندي والدي وأمي وإخوتي، وزميلي في العمل كلمته فلم يسمع، وكررت عليه عدة مرات وما سمع وهكذا، سبحان الله! ليست القضية "كم مرة" يا أخي! انظر كيف صبر أنبياء الله! وكيف صبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! ومتى يكون الوقت المناسب؟ وكيف يكون الأسلوب المناسب! انظروا إلى عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبي طالب - ما كان يشك لحظةً واحدة في صدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبداً، ولو شك ما حمى الدعوة، وما وقف معه، وما حوصر معه في الشعب، ولما تحمل الأذى والألم والتعب أبداً، لكن كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعوه ويبين له، حتى -كما تعلمون قصته- عند الموت، أراد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يموت عمه على الإسلام يقول: {يا عمِّ! قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله}، وصبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا مع الموالي والمحب للدعوة، ولكن لم يدخل فيها.
ومع الأعداء صبر أيضاً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصبر الأنبياء من قبل، ويقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث المتفق عليه: {ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، ورأيت النبي وليس معه أحد} سبحان الله! هل يستطيع أن يقول أحد: إن هذا من ضعف دعوة هذا النبي، عياذاً بالله! أو من عدم بذل الجهد، أو من عدم الحكمة في الدعوة، نبي يعطى الحجة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويوحى إليه من الله وليس معه أحد! ونحن نقول: في الحي ما استجاب لي أحد، وفي البيت ما أطاعني أحد، فهذا عجيب! والله تعالى قص علينا حتى في واقع البيوت عن امرأة نوح، وامرأة لوط، وابن نوح، وأبي إبراهيم، وذلك لنأخذ العبرة، نفس الشيء ونفس القضية، ونفس الصبر، ونفس المحاورة، كما حاور إبراهيم عليه السلام أباه كما في سورة مريم.
وهكذا يجب أن نعرف أن هذا طريق طويل، وأننا كلما صبرنا وتأنينا، وعرفنا كيف نخاطب من نواجه، فإن ذلك أجدر وأحرى أن يستجيب بإذن الله تبارك وتعالى، فإن لم يستجب فلنبق على الطريق نفسه، ولنصبر على الأذى، كما صبر أولئك الصحب الكرام، ولنحتسب عند الله تبارك وتعالى كل ما ينالنا ونتحمل؛ حتى يعلموا أننا ما أردنا لهم إلا الخير، وما أردنا لهم إلا النجاة من عذاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الدنيا والآخرة.
لكن يحصل مع الاستعجال أشكال أخرى من التصرفات التي قد تلتصق أكثر بمسألة العجلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أن الإنسان ربما استعجل فتصرف بما لا ينبغي، فكانت نتيجة ذلك أن يصر صاحب المنكر على منكره، بل ربما تعاضد المجتمع معه على هذا المنكر، لأنه يرى هذا الشاب -بطريقة هوجاء أو انفعالية أو عصبية- يمس أمراً والمجتمع كله متعارف عليه، يقول: سبحان الله! كل الناس تفعل كذا، وكل الناس مقرة لهذا الشيء، والعلماء يعلمون ذلك وفلان يدري، وفلان ما أنكر، وفلان كذا، فماذا يريد هذا الشباب الذي أتى دفعة واحدة يريد أن يغير هذا المنكر؟! وهذا الشاب لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا لتحرقه ولتألمه ولعلمه أن وراء هذا المنكر فسادٌ عظيم، ونقص في الخيرات والبركات، ووراءه فساد القلوب، ووراءه تخطيط أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويعلم كثيراً مما لا يعلمون -لا شك- لكن كيف تنقل إليهم شعورك هذا؟ لا تنقله إليهم بأن تأتي فتحسم الأمر في لحظة واحدة ودفعة واحدة، وتقضي على هذا الشر وانتهى الأمر، ولو كان الأمر كذلك لكان الرسل والصحابة الكرام هم أجدر الناس بأن يفعلوه، وقد أراد ذلك الصحابة الكرام، لكن لا بد من حكمة، ولا بد من الأناة، والصبر.
وتعرفون قصة أبي ذر رضي الله تعالى عنه لما أصر على أن يعلن إيمانه كيف ضرب! ولما بايع الأنصار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيعة العقبة، قالوا: [[يا رسول الله! إن شئت ملنا على أهل الموسم بأسيافنا، فمنعهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]].
فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يمشي بخطى وئيدة ولكنها مدروسة -وهذا من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- نحن يجب علينا -أيضاً- أن نفكر وأن نجتهد، وإذا اجتهدنا وظننا أن هذا الأمر مدروس بفكرة، وحكمة، واستشارة، واستخارة، وأخطأنا فهذا من الله، وكل شيءٍ من الله، ولكن فرق بين هذا وبين أن نستعجل فنقع فيما لا خير فيه.
فالعجلة في التغيير وفي الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، هذه هي نتائجها، ربما انقلب صاحب المنكر -الذي كان يمكن أن يقبل منك لو لاطفته ولاينته- عدواً لدوداً لأهل الحق حيث كانوا، بل ربما يستعجل شاب واحد، فيضيع الفرصة على آخرين كان يمكن أن يُسمع منهم.
صحيح أن بعض الإخوان يقول: يا أخي! الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متروك، ويكاد يكون مفقوداً في المجتمع، من قبل طوائف كثيرة من الناس، ونحن نحييه! نعم نريده أن يحيا، لكن يحيا بالبصيرة وبالحكمة، ولعلك إن بدأت شيئاً، يتم الله تبارك وتعالى ما بدأت على يد غيرك، أما أن تأتي به كله جملةً واحدة، تريد أن تضعه، فإن هذا مخالفٌ لسنة الله تبارك وتعالى.(60/7)
مفسدة الخروج عن المألوف
وهناك -أيضاً- أمور مما يخطأ الشباب فيها، وهي من جانب العاطفة، والشكاوى منها كثيرة.
الشاب في حال ضلاله أو بُعده قبل توبته وقبل هدايته، يرى ما هو عليه -قبل أن يستقيم- أنه مألوف لدى أكثر الناس، وهذا في الغالب، فلما استقام أصبح غريباً، وأصبح متميزاً عنهم، ولا شك أن الحق متميز عن الباطل، وأن الطاعة متميزة عن المعصية، وأن المعروف متميز عن المنكر، لا شك في ذلك، ولا بد أن تستبين السبيل وأن تتضح.
فالنفاق والمداهنة ليست من دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن إلى أي قدر يصل ذلك؟ وإلى أي حد؟ فيأتي الشاب وهو في هذا الشعور الجياش الفياض بالإيمان، فيُرى بعيداً عن كل ما مِنْ شأنه أن يشوب إيمانه أو يُعكِّر عليه هذه الاستقامة، فيعتقد قاعدة ترسخ في ذهنه، وهي أن الخروج عما عليه الناس وعما ألفوه هو الخير، فيظن أن الأصل في ديننا أن تخرج عما عليه الناس، والصحيح أن الأصل أن تخرج من الباطل إلى الحق، لكن هكذا يزين الشيطان.
فيبدأ الإنسان يخرج عن المألوف، ولا نقصد أنه خرج عن مألوف من يسمعون الأغاني، ويرون هذه المسلسلات الفاجرة، ويذهبون إلى الأسواق، ويسافرون، ويفعلون المنكرات، فالخروج من هذا المألوف إلى هذا المجتمع الطيب شيء جميل، لكن لا تقف العاطفة بالشاب عند هذا الحد، بل يدخل في القضايا العلمية، وهنا تكون المشكلة، مع وجود العلماء -والحمد لله- ومع وجود المفتين، ومع وجود المنهج العلمي، وإن لم يوجد في الواقع بالشكل الذي نريد لكنه موجود في الكتب.
مع وجود كل ذلك يأتي الشاب، فيخيل إليه من منطلق الخروج عمَّا ألفه الناس أنه لا بد أن يتصرف في أفعاله غير ما يفعلون، فالناس يسبلون الثياب، وهو قد تمسك بالسنة -والحمد لله- وترك هذا الفعل المحرم، فقصَّر الثوب، وهذا شيء عظيم، فهل يقف عند هذا الحد -مثلاً- لا، بل يريد أن يتميز عنهم في الصلاة، وهذا جميل جداً، فيرى الناس لا يخشعون في صلاتهم، ولا يضعون أيديهم حيثما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع يده، ولا يطمئنون، وغير ذلك مما هو موجود في المجتمع، فيطبق صلاته لتكون على السنة وإن خالفت الناس، وهذا جميل جداً، ثم يستنير بعد ذلك، فيدخله الشيطان، أو هذه العاطفة تأتي به فتوقعه في أمور أخرى، حيث يجتهد بعض الشباب فيها، وهي خارجة عن المألوف، وينسى مردودها في واقع الدعوة.
وبعض الشباب قد قرأ في صفة صلاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً صحيحاً أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زاد في التسليم على السلام عليكم ورحمة الله: (وبركاته)، وهذا طيب -والحمد لله- لأنه قد صح الحديث فيها، فذهب يصلي بالجماعة، فكيف يكون شعوره عندما وجد هذا ووجد أن الناس لا يفعلونه، وأن المساجد كلها لا تقول: وبركاته؟! فيعزم على أنه لابد أن نحيي هذه السنة، فربما قد تأتيه مشاعر، ويقول في نفسه: نحن متى كنا نتبع آراء الناس؟ فلينكر من ينكر، وليغضب من يغضب، المهم أن يفعل هذا الشيء، إذا صح شيء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فليذهب الناس إلى ما يريدون، لا يهمنا، المهم ما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم إنه صلَّى بهم الصلاة ثم سلَّم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم ورحمة الله؛ فيبدأ الناس يتهامسون في المسجد، وربما وُجد فيهم -من أصحاب البدع- من يقول: "أنا قلت لكم: هذا الولد -الإمام- يقول: إن المولد بدعة! ".
أو ربما يكون هذا القائل صاحب ربا، يقول: "هذا الإمام يقول: إن التعامل مع البنوك ربا، وهذا كذاب، وانظروا كيف زاد في الدين، هذا هو الدين!! والبنوك موجودة من زمان، والعلماء رأوها، والناس أيضاً رأوها، وما تكلم أحد عنها، وهذا يحرم في آخر الزمان، وكل يوم يأتي بشيء جديد".
وإذا بالناس سبحان الله! ضجوا به، وإذا به يصيح بهم: يا جماعة! هذا الحديث صحيح، وهذا الكتاب، انظروا! فيقولون: نحن نسمع الحرم كل يوم، ونسمع المساجد فلا أحد يقولها، فمن أين أتيتنا بهذا، وأدى بهم ذلك إلى أنهم لم يعد يسمعوه.
فلو تكلم أو قام وقرأ عليهم الآيات في الشرك، وهو أكبر ذنب عُصِيَ الله به، وأكبر قضية في القرآن قضية الشرك وتحقيق التوحيد، لو قام وتكلم فيها بعد ذلك لقالوا: هذا صاحب: وبركاته! فلا يسمعونه أبداً وهكذا، فيجعلون تلك الجزئية حجة لترك ما هو واضح الأدلة، ومعلوم ومشتهر كالشمس في رابعة النهار، فيقولون: اتركوه ولا تسمعوا منه، أمور تأتي والسبب فيها مثل هذه التصرفات وبسبب الخروج عن المألوف.
وأنا قلت: تخرج عن المألوف، ولم أقل العمل بالراجح أو المرجوح، فالمسألة هنا لا أعتبرها مسألةً علمية، قبل أن تبحث الحكم من الناحية العلمية في مثل هذه الأمور، انظر فعلاً إلى أثره، وإلى مردوده، أي: قبل أن تجتهد لتصل إلى خلاصة في هذه المسألة، انظر ما موقعه من دعوتك.
وأوضح أكثر ما أريد أن أقول: عندما أدعو الناس للاستقامة، وإلى السنة، وإلى الخير، فإن أول وأجدر ما يمكن أن أدعو إليه هو توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو أن يؤمنوا بالله، وأن يستقيموا على دين الله، وأن يعرفوا الله، وأن يتجهوا إلى طريق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وينصرفوا عن الشرك أو الضلالات الفكرية والانحرافات العقائدية والبدعية التي تنتشر بين الناس، هذه هي قضيتنا الأساسية، ثم بعد ذلك، نأمر بالمعروف وننهى عن المنكرات، نجتهد في الدعوة إلى النهي عن المنكرات التي تلي ذلك وهي الفواحش المحرمة، وكل ما هو محرم، وبعد ذلك ندعو الناس إلى ترك المكروهات، ولا نعني بالتدرج هذا أننا نتكلم مع الناس فقط في التوحيد وترك الشرك إلى ما لا نهاية، ثم ننتقل بعد عشرين سنة أو مائة سنة إلى مرحلة أخرى، لا! إنما المدعو الذي عرف التوحيد وعرف الله، وانقاد لدين الله، ننصحه ونبين له المنكرات الأقل، فإذا انقاد أكثر، قلنا له: هذا من السنة، وهذا من الدين، وهذا من الفطرة وهكذا، فلا نبدأ بالعكس.
هكذا الأسلوب الصحيح في التربية، أما ذاك الذي لا يزال في أول الطريق فإننا نظل نخاطبه بما نقوله لمن هو في أول الطريق، لكننا أحياناً نعكس القضية.
فيجب علينا أن نحسب حساب تصرفاتنا وأنها محسوبة على هذه الدعوة، وما جاء رسول إلى قومه إلا واتهموه -صلوات الله وسلامه على رسوله وأنبيائه أجمعين- بأنه خرج عنها، وشذَّ عنها، وخالف ما كان عليه الآباء والأجداد، كما فعلت قريش لما أرسلت عمرو بن العاص إلى النجاشي -مثلاً- وذكر له أن جريمتهم أنهم خرجوا عما نحن عليه.
وهناك صفة اجتماعية معروفة في جميع المجتمعات، وهي أن المجتمع لا يحب من يخرج على وضعٍ قد ألفه، وإن كان هو قبل عشرين سنة لم يكن على هذا الوضع، وبعد عشرين سنة لن يكون على هذا الوضع، لكن هو يقبل التدرج البطيء في التغيير، ويرفض الطفرة والسرعة في التغيير.
فنقول: يجب أن نهتم بمثل هذه الأمور، نعم! نحيي السنن، لكن يجب أن نضع الشيء في موضعه، وأن نسأل أنفسنا متى نحييه ومع من؟ أنا أقوله لكم، إذا كنت في مدرسةٍ لتحفيظ القرآن -مثلاً- أو في مركزٍ من المراكز الطيبة، وفي مكان كلهم طلبة علم، يمكن أن تقول أو تدعو إلى بعض هذه الأمور أو تظهرها، لكن أمام العامة من الناس فإن الحال يختلف، فهناك فرق بين مقام التعليم أو مقام طلبة العلم وبين مقام العامة، وهذا كمسألة القراءات -مثلاً- وقد وقعت، ويسأل عنها البعض، هل نقرأ الآن القرآن بغير قراءة حفص؟ لو أنك في مدرسة تحفيظ القرآن، أو في مجتمع كلهم من الحفظة الذين يعرفون القراءات، فإنه لن يقول لك أحد من العلماء: حرام عليك أن تقرأ بأية قراءة من القراءات، لكن إذا عينت إماماً بين عامة، وذهبت تقرأ بغير القراءة المشهورة، ماذا سيكون مردودها وصداها؟! إنها سوف تسبب مفاسد كبيرة جداً، فبعض الناس لا يعرف القراءات أصلاً، ولم يسمع عن شيء اسمه قراءات، والبعض الآخر يسمع ويغالط نفسه، يقول: ليست قضية قراءات، لكن هؤلاء شباب شذاذ مبتدعون، يريدون أن يخرجوا عما نحن عليه، ويريدون ويريدون، ويكيل لك التهم الكثيرة وهكذا.
والأمثلة لا أحب أن استطرد فيها لكثرتها، ولكن لأنني أعاني منها أو من بعضها، أحببت أن أشير فقط إلى كيف أن العاطفة تغلب، وأن الإنسان يظن أنه بهذا العمل يخرج عمَّا ألفه الناس من الواقع المخالف، ولكنه يقع في مفسدة أكبر وأعظم.(60/8)
أخطاء في مسألة الولاء والبراء
ومثل ذلك أيضاً عاطفة الحب، ونحن، نحتاج أن نحب في الله، وأن نوالي في الله وأن نعادي في الله، ولولا ذلك لما كنا مؤمنين حقاً، فهذه فضلها عظيم، ودرجتها عالية، كما نص على ذلك بعض العلماء، فقالوا: 'أعظم قضية بعد التوحيد ونبذ الشرك في كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هي قضية الموالاة والمعاداة' الموالاة في الله والمعاداة فيه، لكن كيف يكون التطبيق؟ وكيف يطبقها الشباب؟ هنا تدخل العاطفة وتطغى حتى ينسى الإنسان الأصل الذي منه انطلق، بعض الشباب يحب شيخاً -مثلاً- أو عالماً أو داعيةً -معاصراً أو قديماً- ويوالي في ذلك حتى يصبح أشد من المتعصبين المذهبيين، واسمحوا لي أن أقول هذا، أي: لو سمعت أحدهم يقول: أنا شافعي، أو أنا حنفي، فإن بعض الشباب يكاد ينفجر فيه، ما هذا التعصب؟ نحن نتبع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن هذا الشاب نفسه يحب شيخاً قديماً أو حديثاً، ويذهب به الإعجاب به كل مذهب، حتى أنه لو نسب إلى الشيخ قول وهو ما قاله، قال هذا الكلام صحيح، ما دام الشيخ قاله، وهو في الحقيقة لم يقله، إنما نسب إليه، فإذا قيل له: الشيخ يقول غير ذلك، قال: فهو كما قال، ويرجع إلى قوله الثاني.
إذاً وماذا تنقم أنت على المقلدين؟ وماذا تأخذ عليهم؟ وإذا بك تخرج وتشتط، وتقع فيما تحذرهم منه وتزجرهم عنه، ولو أننا جعلنا هذه العاطفة منضبطة لأحببنا كل العلماء، وكل الدعاة، وكل المصلحين الداعين إلى الله تبارك وتعالى، وأخذنا من هذا، ومن هذا، وسددنا وقاربنا، واستفدنا من الجميع، ولم نبالغ، ولم نغلُ في أي أحد منهم.
كذلك فيما يتعلق في معاملتنا -نحن الإخوة- مع بعض، بعض الإخوة يحب البعض الآخر حباً شديداً جداً، يخرج أحياناً عن كونه حباً في الله -الأصل أنه في الله إن شاء الله- يخرج حتى يصبح محبة في ذات الشخص، فيريد أن يراه وأن يجلس معه وأن يعيش معه هكذا، وربما غلب ذلك، وغطَّى على بعض الحقوق التي هي على هذا الأخ المحب لأهله وزملائه الآخرين، وربما أدَّى هذا إلى بغضاء وعداوة وشحناء بين الإخوة الشباب المجتمعين في مدرسةٍ، أو في دعوةٍ، أو في عملٍ من أعمال العلم والخير، بسبب هذا الغلو، والذي يحصل من أحد الإخوة، وقد يقابله الآخر بغلوٍ معاكس، والعاطفة -عموماً- هي ثورة وانفجار، وقد تؤدي إلى الخير، ولكن قد تقذف أحياناً بما قد يؤدي إلى العقوبة المذمومة.
فكذلك نقول: إن عاطفة الحب يجب أن تضبط ضبطاً محكماً قوياً، ونحن -أيها الإخوة في الله- لسنا كمشجعي الكرة، واسمحوا لي إذا قلت هذه العبارة، فلا نريد أن نتحول إلى ما يشبه عمل المشجعين، كل طائفة تشجع شخصاً، كما أنهم يشجعون فريقاً ويتعصبون له.
نحن يجب أن تكون لدينا الضوابط الهادئة المتزنة التي نعقل بها الأمور، ونناقش ويستدرك بعضنا على بعض، ثم نأخذ القضية أخذاً سليماً صحيحاً بعيداً عن هذا التعصب، ولذلك نجد أننا بعد حين إذا هدأت هذه العاطفة -ولا بد أن تهدأ، لأن العاطفة تهدأ مع الزمن- تتعجب من نفسك كيف كنت أولاً؟! فتجد نفسك فعلاً كنت لا شيء، ولم يكن ذلك الموقف مبنياً على دليل ولا تصورٍ معقول سليم.(60/9)
العاطفة في قول الحق والجهاد في سبيل الله
العاطفة -أحياناً- في قول الحق والدعوة إليه والجهر به، ولا شك أنه يجب علينا أن نقول الحق وأن نصدع به، وأن نجهر به، فالأصل في ديننا ذلك، لكن كيف؟ ومتى؟ ليس الأمر هكذا مطلقاً، فالشباب أحياناً ينسى إلا أنه يجب أن نصدع بالحق، وأن نقول كلمة الحق ولا نبالي، أو أن نعمل للحق وبالحق ولا نبالي، فتكون النتيجة كما ذكرنا في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الاستعجال لأنهما متلازمتان، تكون النتيجة أن الحق -هذا الذي أردنا أن يقوم فقط- قد ضيعنا من أجله فرصاً كثيرة على الدعوة، كان يمكن بالأناة وبالحكمة أن تؤدي إلى الخير، وإلى الثمرة الطيبة.
وكثيراً ما نضع الأمور في غير موضعها، فنضع القوة في غير موضعها، فنريد أن نجاهد في سبيل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن مِن المسلمين لا يحب الجهاد؟ لكن هذه العاطفة جاشت وفاضت حتى أصبحت لا تجد صغيراً ولا كبيراً إلا وتريد أن تحمله على رأيك في هذه المسألة، وهنا تلعب العواطف دوراً رهيباً في إيجاد مفاسد كثيرة، وقد عاناها الكثير وتحدثوا عنها، وهناك أيضاً القوة في مسألة مواجهة المنكرات أو الانحرافات، وقول الحق، وهو أنك تقول أمام صاحب الباطل: أنت كذا، وأنت كذا، وهذه مواقف دعوية لكن ممن؟ هنا نقف، أي إنسان يقف هذا الموقف؟! فرق بين أن يقف عالم له كلمته، وله قيمته، وله وزنه، ويقوم لأي ظالم أو جبار أو بطاش أو منحرف أو مبتدع ممن له عند الناس شأن، ثم يقول له: أنت كذا، وبين أن تأتي -أنت المسكين- بعاطفة وانفعال وتقف ذلك الموقف، الأمر ليس كذلك! وبعض الأمور قد لا أمثل لها مع كثرتها؛ لأن التمثيل قد يفهم خطأ، ولأنكم تعيشون هذه القضايا جميعاً، إنما نقول: هي عبارة عن وجهة نظر في تلك المسائل والقضايا.
أقول: يجب أن نتدارك أمورنا وأن نعيد النظر، وأن نحاسب أنفسنا في منهجنا، وفي تصرفاتنا، فأنظر هل أنا أتصرف تصرفاً منضبطاً متزناً بالفعل، أم أنها العاطفة وحدها هي التي تسيرني؟ هذه هي القضية.
وكل ما ذكرت فهو مجملات أو أمثلة مبسطة، أرجو أن أكون وفقت في تقريبها إلى أذهانكم.(60/10)
الأسئلة(60/11)
الحكمة في تكسير إبراهيم للأصنام والفرق بين الهمة والعاطفة
السؤال
ما معنى قولك: إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كسر الأصنام بأسلوب حكيم وبنظر بعيد، ثم صارت العاقبة أن أراد قومه حرقه، وهل يوجد فرقٌ بين الهمة والعاطفة؟
الجواب
المقصود يتضح بالمقابل، فإنه بالنظر إلى الخليلين: إبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما، كل منهما حطم الأصنام، وكل منهما جعله الله تبارك وتعالى إماماً للناس في الإيمان والتوحيد، كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل:123]، فالله هو الذي جعله إماماً للناس، ولا شك في إمامته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للناس.
أقول: إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه خطط وعزم أنه إذا ذهب الناس إلى لهوهم، فإنه سوف يحطم الأصنام جميعاً، ويستبقي الكبير ويضع الفأس في عنقه، يعلقه عليه، ثم يقول: إني سقيم، هكذا يفعل، حتى الإعداد للمناظرة، فإنهم قالوا: من فعل هذا؟ قالوا: سمعنا فتىً يذكرهم يقال له إبراهيم، فجاءوا به، أأنت فعلت هذا؟ قال: بل فعله كبيرهم هذا، فاسألوهم إن كانوا ينطقون، وهذا تصرف بعيد جداً عن العاطفة.
لو قال: نعم أنا أكسرها وأكسر رءوسكم -كما يقول بعض الشباب- فهذا لا يصلح، لأن هناك قلوب ميتة، وهناك عواطف ميتة، الفطرة ماتت في قلوب هؤلاء الناس، ما الذي يحركها لتصحوا وتفيق على أنه لا إله إلا الله؟ يكون ذلك عندما يرى معبوده وربه جذاذاً، وهو الذي كان يدعوه، ويتمسح به، ويستغيثه، ويذبح له، الآن أصبح جذاذاً، ويُحاكم هذا الفتى لم فعلت هذا؟ وكيف تفعل ذلك؟ فيقول: لم أفعل، واسألوا كبير الآلهة، والفأس معلق في عنقه.
إذاً يمكن أن يكون هو الذي فعل، والحقيقة أنها لا هي التي دافعت عن نفسها، ولا هذا الكبير دافع عنها، ولا هو الذي حفظ نفسه وسلم، ولا يستطيع هو أن يفعل شيئاً، ولا تلك التي تحطمت، فرجعوا إلى أنفسهم، وقالوا: إنكم أنتم الظالمون.
والموقف لو تأملتموه لوجدتم أنه موقف -فعلاً- فيه الحكمة، وفيه وضع الشيء في موضعه، رغم أنه لا شك لا يقوم به إلا ذو وجدان حي متوثب.
ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كان في مكة، وهو يطوف ويعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ومعه الصحابة، لم يحطموا الأصنام، ولكن متى حطَّم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأصنام؟ حطمها عام الفتح، لما فتح مكة، ودخلها ودخل الناس في دين الله أفواجاً، حطمها حينئذٍ، لأن المصلحة هنا، والحكمة تقتضي ذلك، فكلا الرسولين حكيم، وكلاهما وضع الشيء في موضعه.
وأما بالنسبة للشق الآخر من السؤال وهو هل يوجد فرق بين الهمة والعاطفة؟ أنا لا أحب أن أدخل في تعريف العاطفة، والعقل، والهمة، والدافع، والشعور وغيره، وهذا كله موجود في علم النفس، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أصدق الأسماء حارث وهمام}.
وهذا مثال من الأمثال: وبعض الناس يسمي ولده الأول: حارث، والآخر: همام، لماذا؟ قالوا: لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {أصدق الأسماء حارث وهمام}، والحقيقة أن القصد هو تحبيب هذا الاسم، ولا يعني ذلك تفضيل هذا الاسم على غيره، مثلاً إذا سمينا شخصاً بجميل، يمكن ألا يكون جميل، ويوجد كثير من الناس يسمي نفسه بشيء وهو عكسه تماماً، -مثلاً- رجل اسمه كريم، قد يكون بخيلاً، وهكذا.
لكن التسمي بحارث أو همام -مثلاً- إنما هو تعبير صادق على أي إنسان، فإن كل إنسان هو صاحب خير، أو صاحب شر، وأياً كان حاله، فهو حارث وهمام، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ} [الانشقاق:6]- عام: لكل إنسان- {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6]، فهذا حارث، أي: كادح يحرث إما معصية أو طاعة، المهم أنه يحرث، وكذلك همام، فإن كل إنسان يهم كل يوم، وكل واحد في هذه الدنيا، كافر أو مؤمن -أياً كان- كل يوم يفكر في شيء ما، ويريد أن يحققه وهكذا، ومن هنا تكون الهمم متفاوتة، وتكون الهمم مختلفة جداً ومتباينة، فالهمة هذه تستنفر العقل، وتستنفر الوجدان.
وأكثر وأعظم الناس همة هم الذين يريدون الله والدار الآخرة، وهذه هي الهمة العالية، وشخص يقول: أنا كدحت بعرقي وبجبيني حتى عملت مؤسسة، وصار عندي فروع للشركة؛ والآخر يقول: كدحت واجتهدت حتى أخذت درجة عليا؛ والثاني يقول: أخذت المرتبة العاشرة أو الثانية عشرة، يا سبحان الله! هذا من العاجلة قال تعالى: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [الإنسان:27].
أما المؤمنون فإنهم أصحاب الهمة العالية، عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه يقول: [[تاقت نفسي إلى الإمارة، فلما وليتها، تاقت نفسي إلى الخلافة، فلما وليتها تاقت نفسي إلى الجنة]] فهذه هي الهمة العالية، وليس معنى هذا أنه سعى إلى الخلافة ورغبها، لكن قد تأتي كل إنسان خواطر، لو كنت كذا، لو أني حصلت على كذا، لكن الهمة العالية هي بأن يريد الإنسان رضا الله والدار الآخرة، ويريد الجنة جعلنا الله وإياكم من ورثتها.(60/12)
ميزان العاطفة المجردة والعاطفة الإيمانية
السؤال
أكثر من سؤال تكرر يقول: ما هو الميزان الذي يزن به الشخص عمله؟ هل هو عن عاطفة مجردة أو عن عاطفة وجدانية إيمانية، وجزاك الله خيراً؟
الجواب
هذا الميزان، يا ليته كان موجوداً جاهزاً، فنشتريه، ونضعه في جيب كل شخص، وهذه هي المشكلة الحقيقية، لهذا أنا قلت: هذه وجهة نظر أو مقدمة لِأنْ نبدأ ونبحث عن الميزان، فمن الناحية النظرية -الحمد لله- هو موجود، وكل شخص يقول: كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعمل السلف الصالح، لكن هذا الكلام المجمل العام لا يكفي، بل يجب أن نفكر، فنسأل أنفسنا: في أي موقعٍ نحن الآن من الدعوة إلى الله؟ ثم ننظر في الأدلة التفصيلية أو الإجمالية أو القواعد، وكيف يمكن أن نسير؟ وأذكر لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمة الله تعالى عليه كلاماً جليلاً عظيماً، معناه: أنه ليس العالم أو الفقيه من يقول: هذا حرام، وهذا حلال، وإنما الفقيه أو العالم هو من يعرف أرجح المصلحتين، وأفسد المفسدتين، ثم يفتي بأرجح المصلحتين وبما يدفع أكبر المفسدتين، أي أن تفتي الناس بشيء يحقق لهم أرجح المصلحتين، أو تفتيهم بشيء يدفع أكبر المفسدتين.
أما مجرد أن تقول: هذا حرام، وهذا حلال، فيمكن للإنسان، أو نستطيع مباشرة من خلف الميكرفون أي سؤال يأتي أن نقول: هذا حرام، وهذا حرام، والفيديو حرام، والأغاني حرام، والزنا حرام، يمكن هذا، والحمد لله، ويستطيع الناس -أيضاً- ذلك، لكن نحن الدعاة عموماً نفكر بشيء غير ذلك، أي: عندنا أشياء لا شك أنها حرام -كمثل التبرج والسفور- لكن كيف نتصرف لتغييرها؟ وكيف نعمل لننقل ما نشعر به من إحساس بخطرها وضررها ودمارها إلى من يعملونها؟ هذا هو التحدي، وهنا المحز.
فنحن نحاول أن نجتهد لمعرفة منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دعوته وصبره على ذلك، ولا شك أننا إذا قرأنا ذلك، فإنه يعطينا قواعد عامة كما يعطينا أدلة تفصيلية، ونستعين بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في تحقيق ذلك، ثم نستعين بآراء إخواننا، وكلما انفرد الإنسان برأي فإنه ينبغي أن يتوقع أن هذا الرأي قابل للاستشارة، وكلما استشرت فإنه أجدر أن يكون إن شاء الله صواباً، وأن يكون خيراً، ولا سيما في قضايا مألوفة ومعروفة، لست أنا أول من يجتهد في تحقيقها إن كانت معروفاً أو في إزالتها إن كانت منكرات موجودة.
فإذاً ما دامت الدواعي والمقتضيات قائمة فإنني أنظر إلى من يرى نفس الموقف، ويشاركني ويشاطرني نفس الرأي وماذا لديه من وجهة نظر، ثم أجتهد معه.
ولا أكتمكم أن بعض الشباب يستطيع أن يعرف هل هذه عاطفة أو عقل، ويعرف ذلك، وتجاربهم تدل عليه، والدليل على ذلك أن بعضهم يقول: لا يوجد داعي أن أسأل فلاناً، وأستشيره، أنا أعرف رأيه مقدماً، فهذه هي العاطفة، أنت تعرف رأيه مقدماً إذاً لا تستشيره، إذاً تستشير الذي يشير عليك بما تريد، فهذه عاطفة قد تؤدي بك إلى الخطر، وهكذا في أية قضية، وفي أية مسألة، أحياناً العقل يقتضي أن تسأل المعارض لا أن تسأل الموافق، فإن صممت أن تعمل شيئاً فاسأل المعارض، إن كان عنده موانع، قبل أن تعمل، فإن وجدت أنها ليست موانع حقيقية، فإنك تعملها وأنت مطمئن، ولذلك تجد الذي يندفع بهذه الطريقة بعد أن يذهب بعيداً يرجع إلى المخالف، ويقول: يا ليتني فعلت! يا ليتني استشرتك! يا ليتني قبلت! ويكون قد أضاع الفرصة على نفسه.(60/13)
الخلل في العاطفة
السؤال
بعد أن بينتم لنا طرفاً من العاطفة، نرجو أن تبين لنا الطرف الآخر الذي قد يؤدي إلى التهاون في بعض المنكرات، مثل: جلوس الناس أثناء الصلاة أي بسبب التعقل الزائد عن المطلوب؟
الجواب
نحن عندما تحدثنا كان موضوعنا فيمن يعمل، ولكنه يعمل إما بعقلٍ أو بعاطفة، وقلنا: لا انفصال بينهما في الحقيقة، لكن مسألة الذي لا يعمل، هذه ليست عاطفة، ولا نسميها عاطفة، وحقيقة هذا يحتاج إلى أن ينصح بأن هذا تقصير، وهذا تفريط، وقد يفلسفه أصحابه بأنه عقل, ولا يفلسفونه بأنه عاطفة، فيقول: أنا عاقل، فمن يوم ما التزمت لم أتشاجر مع أحد من الناس! وأنا لا أدري ما هو هذا العقل! شخص استقام ولم تقع له مشكلة مع أحد، فإن هذا عليه أن يراجع نفسه؛ لأنه لا بد أن فيه مداهنة، ولا بد أن هذا من التقصير في الدعوة، ولو دعوت، فلابد أن تجد من يعاديك لذاتك، كما هو الحال الآن، فإنَّ كثيراً من الناس يعادى لذاته، سواء قال حقاً أو باطلاً، فهو عدو، لأنه يدعو إلى خلاف ما عليه هذا المعادي.
والتهاون في إنكار المنكر مرض، وعدم إنكاره وعدم اهتمامه بالدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تقصير وتفريط ومرض، وهو من دواعي عذاب الله، ومن دواعي انتقام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الأمم ومن الأفراد -نسأل الله العفو والعافية- فالضعف الذي يعترينا جميعاً -وكلنا ضعيف- نحتاج فيه إلى أن نتناصح لننهض، ولنقوم، وليس داخلاً كما يخيل لي في موضوعنا الأخص بالذات.(60/14)
كيفية تنظيم الأوقات للاستفادة منها
السؤال
نحن نعاني من عدم قدرتنا على تنظيم أوقاتنا، فكما تفضلتم تجدنا يعجبنا كتاب فنشتريه، ثم نرى كتاباً آخر فنترك الأول، قبل أن تنتهي منه وهكذا نضيع كثيراً من أوقاتنا، فبماذا تنصحوننا في توزيع أوقاتنا، والاستفادة منها؟
الجواب
هذا الأخ صادق، ومعاناته صحيحة، وكلنا عانينا ذلك، وهذا الكلام، لم أقله لأني بريءٌ منه، بل عانيناه، وما نزال نعاني منه، وكلنا معرضون لعاطفة تفور أو لتفريط وضعف -نسأل الله العفو والعافية- لكن نقول: هذه القضية بالذات هي قضية القضايا من حيث المنهج العلمي عند الشباب، أول شيء أن بعض الشباب يتصور أنه يجب أن يكون هو وجميع من يدعون إلى الله علماء، وهذا من أعظم الأخطاء في هذا المجال.
ولذلك تجد أن هذا الأخ المسكين الذي لم يؤهل لأن يكون عالماً يضيع ويتعب، لأنك تكدح به في غير ما خلق له، ما خلق لهذا الشيء، فهو لما استقام واهتدى جئت به إلى شيخ، فجلس أسبوعاً، أسبوعين، أو شهراً، أو شهرين، ثم تعب، ولم يستطع أن يواصل، أعطيته كتاباً أعجب به، قرأه ثم لم يستطع أن يكمله، فأخذ الكتاب الثاني، والثالث، والرابع، والقضية ليست في الكتاب إنما هي في ضعفه.
وفي جميع عصور التاريخ العلماء يعدون على الأصابع قلة، لكن هل الدعاة قلة؟ هل من يغير حال الأمة من الشرك إلى التوحيد، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن البدعة إلى السنة قلة؟ هذا مستحيل، لو كانوا آحاداً لما تغيرت، كيف كان شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمة الله عليه؟ كيف علمه؟ لكن انظروا كيف كان لما غير المنكرات، ولما حارب التتار، ولما حارب الروافض والباطنية، كانت معه أمم وألوف، والدعوة إلى الله هكذا.
نحن الآن مشكلتنا أننا نريد أن كل من يهتدي أو يستقيم، نقصره قصراً، ونصبه في قالب طلب العلم، وبعض الناس يكون مسكيناً، فيترك وظيفته، ويقول: أطلب العلم، وقد يأتيك شخص ضابط، أو يأتيك شخص مهندس، يقول: ما رأيك أدخل الجامعة الإسلامية، أو معهد الحرم! لماذا؟ أنت أين تشتغل؟ يقول لي: كذا وكذا، لكن أريد أن أطلب العلم.
يا سبحان الله! ولماذا تطلب العلم؟ ومن قال لك أنك من الضروري أن تطلب العلم، أنت يكفيك أن تحضر وأن تتعلم ما ينفعك من الأساسيات التي تعبد ربك تعالى بها، وتستقيم وتعرف طريقك في الحياة، وتعرف الحق في الجملة، لكن التبحر والتوسع في المسائل هذا ليس من شأنك.
ونحن لا نقول هذا تحيزاً ولا تعصباً، لكن بعض الناس يفهم ذلك خطأً.
لكن هذا الأخ في موقعه الذي هو فيه ينفع الله تعالى به، ونقول له: أنت ادعُ الناس، وادعُ في مجالك، وانفع الإسلام بما تستطيع في مجال عملك الذي أنت فيه، أما أن تتركه وتأتي لطلب العلم، فهذا غير معقول أن تتحول الأمة كلها إلى طلبة علم يجلسون في المساجد، أو في المدارس ويتحلقون حول العلماء! هذا غير معقول أصلاً.
فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم أطهر وأفضل جيل.
وأحرصهم على العلم والحق والخير، لكن كم كان علماء الصحابة؟ وكم كان المكثرون من الحديث؟ وكم هم المتعرضون للفتوى من الصحابة وكذلك من التابعين؟ عدد قليل، لكن الكل كان يدعو إلى الله، الكل كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يغير بحسب موقعه، وبحسب بيئته، وبحسب ما يستطيع، أما من يتصدر لقضية العلم بالذات فليس كل أحد.
فإذاً يا أخي قد يكون بعض هؤلاء -كما شكا السائل- لم يؤهل لأن يكون طالب علم، لكن هذا السائل يمكن أن يبذل من ماله للدعوة إلى الله، ويمكن أن يبذل من وقته في إنكار المنكر، ويمكن أن يبذل من خبرته العملية في معرفة بعض الأمور التي تعين الدعوة على أن تتوسع في المجالات المختلفة، وأن تدخل في جميع القطاعات، فيكون هذا باباً عظيماً للخير، وأنت تريد أن تجعل منه تابعاً صغيراً في الحلقة! فهذا أحد الاحتمالات.
الاحتمال الآخر: هو العجلة والملل، فالشاب يمل، ومن طبيعة الإنسان الملل، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لكل عملٍ شرة}، ولكن بعد الشرة فترة، فيأتي الاندفاع، ولكن يعقبه الفترة ويعقبه الضعف، وقد يكون هذا هو السبب.
ومما يعين الإنسان على ذلك أنه في الأصل يبدأ بمنهج معقول، فلا يحلم في الخيال، لكن يأتي بشيء معقول يستطيع أن يحققه، ويسلك ذلك مع إخوة له في الله ليعينوه، فكلما ضعف سددوه وأعانوه وساعدوه، حتى يصل الجميع بإذن الله إلى ما يريدون، ولو انضبطت الجوانب العلمية عندنا على مناهج معينة لما وجد ذلك الحرج، أي: يكون عندنا كتب أساسية يجب أن تدرس في العقيدة وفي الفقه وفي غير ذلك، وهذه يجب أن تدرس وأن تعلم بالنسبة للدعاة وطلبة العلم.
فمهما وجد الإنسان فيها من تعب أو ملل أو صعوبة فإنه يجب أن يوطن نفسه، وأن يحتسب صبره ليكمل الكتاب، كما يحتسب صبره على طاعة الله، وكما يحتسب صبره عن معاصي الله التي حرم الله، فيحتسب أيضاً صبره حتى يفهم هذه المسألة، وحتى يفهم هذا الكتاب.
ثم مسألة أخرى أو جانب آخر، قد تكون أنت مهيأً لأن تكون قارئاً أو مفسراً لكتاب الله، لكن لست مهيأً لعلوم الحديث والرجال، فلا تقصر نفسك على هذا أيضاً، وهذا شيء آخر:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع
وبعض الإخوان يريد أن يلم بالأصول وهو لا يستطيع عليها، لكن يقدر في الفقه، فليجعل نفسه في الفقه أو العكس وهكذا.
فكن مع سجيتك وطبيعتك وموهبتك التي أعطاكها الله تبارك وتعالى.(60/15)
أضرار العاطفة في فهم الأحكام الشرعية
السؤال
التزمت بدين الله -ولله الحمد- فبدأت بتقصير الثوب، ولبس العمامة؛ لكني وجدت ظروفاً وانتقاداتٍ حزت في نفسي؛ فعدت إلى خلع العمامة وعدم تقصير الثوب، فأصبح زملائي يقولون عني: إني عدت عن الالتزام، وعدت إلى الضلال، فماذا أفعل؟
الجواب
نعم! انظر كيف تتراجع العاطفة وتتأرجح إلى العكس، وقد ذكر السائل -جزاه الله خيراً- قضية يقع فيها بعض الشباب؛ فأول ما يبتدئ في الالتزام -فعلاً- يضع العمامة مثلاً؛ فيبدأ الناس ينظرون إليه.
فيقول: مالي وللناس؟ أنا اهتديت، ولبست العمامة.
أقول: أولاً كما قلت: ما موقع العمامة من الدين؟ بمعنى أنه قبل أن يفكر بذلك، كان عليه أن يسأل حتى عن أحكام الدين أو بعض أموره، فيرتبها أو يسأل عن ترتيبها، فالعمامة ما موقعها؟ والتمسك بها ما موقعه من الدين؟ ثم بعد ذلك ينظر هل المصلحة أن يلبسها في هذا الوقت؟ وما الحكم فيها؟ فيسأل عالماً ممن يفتيه، ويبين له موقعها من الدين، ثم بعد ذلك يقول: هل أطبقها؟ وكيف أطبقها؟ وهكذا في كل شيء.
إذاً ليست القضية قضية العمامة فقط، فأنا أعرف كثيراً أو بعضاً من الشباب -والحمد لله- تمسك واستقام واهتدى، فما خطرت له العمامة على بال، لماذا خطرت لهذا وما خطرت لذاك؟ لأن الآخر لا يرى ذلك، وليس لأنه سأل العلماء، فقالوا له: حكم العمامة؛ بل إنه في ذاته قال: لا داعي للبسها، وأنا أجزم أن هذا واقع.
وقد يقول قائل: هذه قضية لا فائدة منها.
أي أن هناك أموراً يمليها على الإنسان وجدان خاص -مشاعره الخاصة- وكأنه يريد أن يعرف حكمة معينة لديه، وأن هذا العمل ما ينبغي؛ بغض النظر عن كونه قد يطبقه أو لا يطبقه؛ لكن هذا في البداية ومنذ اللحظة الأولى، بعد ذلك تأتي القواعد أو العلم التفصيلي ليضبط لك كل أمر في موضعه، فهناك أمورٌ تعرفها -أنت- بالبداهة وبالتجربة والواقع، وأما بالعلم فهل شرع لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسن أن نلبس عمامة؟! لا بد أن يفكر بها ويضعها هكذا، نقول: لا، حقيقةً ليس هذا مما شرع.
ونريد أن نوضح قضية مهمة في هذا المجال، وهي أن التمسك بالظاهر سهل جداً؛ ولهذا إذا أراد المنافق أن ينافق فذلك سهل عليه، كأن يأتي أحدهم ويريد أن يعمي علينا، فإنه سيعفي لحيته مثلاً، ويقصر ثوبه ويأتي ليصلي كما كان المنافقون يصلون خاصة الظهر والمغرب، أما الفروض التي يكون نائماً فيها فلا يأتي.
إذاً فالتمسك بالظاهر سهل؛ ولكن ما هو الصعب؟ إنه الإيمان الباطن؛ وكلاهما لا ينفصل عن الآخر، ويجب أن نقيمهما معاً، ولا نتهاون في شيء منهما.
بعض الدعاة الآن إذا رأوا الظاهر، يقولون: الأمر بسيط يا شيخ، فالثوب ليس مشكلة، واللحية ليست مشكلة، ونحن لا نتكلم فيهما.
فما دامت يسيرة بهذا الشكل فافعلها يا أخي! وحقيقةً أنها تكون يسيرة بالنسبة للإيمان الباطن، لكن لا بد أن نقوم بهذا الدين جملةً واحدة، ونحيط به من جميع جوانبه، واضعين كل شيءٍ في موضعه؛ فكل من لبس العمامة، وحصل له مثل هذا الأخ الذي لبسها على أنها من الدين، فلتكن مشاعرك وأنت تلبسها ليست شعور إنسان طبق سنة؛ بمعنى أني أنا -مثلاً- أو أي شاب مستقيم في سنوات طويلة قرأ في كتاب من الكتب، ووجد سنة من السنن التي طبقها ببساطة جداً.
لكن -هذا الأخ- أول ما اهتدى لف العمامة وكأنها ركن، وكأنها رمز الأصالة، ورمز للتحدي للماضي، وكأنه يقول: إني ابتعدت عنكم يا أصحاب الشماغ أو الغتر! وأنا الآن تميزت وانفردت، وأنا كذا وكذا، ولا يقصد العمامة في ذاتها، بل يقصد ماذا؟ أي: أنني الآن استقمت -بمعنى- وكأنه يقول: الآن اهتديت، والآن استقمت فأصبحت في مظهر غير مظهركم، فإنه ومن هذا المنطلق يكون قد انطلق من منطلقٍ سليم ولا شك في ذلك؛ لكن من حيث الحكمة في العمل، ومن حيث تحقيق المصلحة فلا، وأنا أقول للأخ الذي استقام حديثاً: أما بالنسبة للعمامة فإنها لا تلبس، وليست من مجتمعنا.
فإخواننا في السودان يلبسون العمامة، فالبس العمامة، ولا بأس في ذلك، فإخواننا المسلمين يلبسونها، وديننا دين -والحمد لله- واسع، ونحن لا نفتي الناس في السعودية، ألا يلبسوا العمامة، فديننا واسع، وأهل كل بلد يجوز لهم أن يلبسوا ما اعتادوا أن يلبسوه ويرتدوه؛ ما لم يكن حراماً.
فلتبق عليه ما لم يكن حراماً وما لم يكن إثماً، وحتى إن كان فيه شيء من المكروهات فأخرها قليلاً.
وأما الثوب فأيضاً في المرحلة الأولى: أنصح بأن يقتصر الشاب -مع إيمانه القوي بضرورة تطبيق السنة واتباعها- على رفعه عن الكعبين فقط، فيرفعه عن الكعبين بقدر لا يثير عليه أحداً، لأنك الآن مثل إنسان ملك سلاحاً ضعيفاً، أي: بالنسبة للباطل، فسلاحك مسدس -مثلاً- لكنك تستثير عليك من يملك المدافع والقنابل وهذا لا يصح، فبعض الشباب مسكين لما رآه أبوه والثوب هكذا -أي: قصيراً إلى الركبة تقريباً- والعمامة أيضاً، وبدأ أيضاً يترك أصحابه كذلك، وبدأ ينتقد المدرسة وينتقد الحياة بشكل عجيب! لا شك أن هذا يؤدي إلى أن يعتبر الأب أن هذه انتكاسة كبرى، فيصر إصراراً عنيداً على أنه لا بد أن يكون مسبلاً، وأن يكون عاصياً ومجرماً وفاسقاً.
فأقول: أما الإيمان فاجعلوه إيماناً حقيقياً باطناً، والأعمال الظاهرة التي قد تثير مشاعر الناس وينتج عنها مفاسد، نطبقها في حدود اجتناب المحرم؛ فأما المحرم فليس فيه نقاش، ويجب أن نجتنبه إلا في الحالات الخاصة، ونقول هذا الكلام: لأن بلاد المسلمين ليست هي السعودية فقط، ولا نستطيع مثلاً أن نتكلم عن واقعنا الآن فقط، فالكلام يجب أن يكون -في الجملة- عاماً.
فالواجب أحياناً في مواقع خاصة قد يؤخر لمصلحة الركن؛ لأن الأصل أن نحقق الركن أولاً، فنقوي إيماننا لكي نعرف كيف ندخل إلى هؤلاء الناس من مدخل الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ ثم بعد ذلك تأتي هذه السنن -بإذن الله- تباعاً.
أما إذا جعلنا السنة ركناً؛ فإننا سننسي بقية الأركان، وهذه قاعدة معروفة، وهي أن الإنسان إذا فرط في جانب أو غلا في جانب؛ فلا بد أن يفرط في الجانب الآخر.
فـ الخوارج أول ما خرجوا كانوا يرون أن من كذب أو زنى أو سرق -أي: أن من ارتكب كبيرة- كفر وخرج من الملة، حتى آل بهم الأمر -عما قريب- إلى أن أنكروا سورة يوسف، وأنها ليست من القرآن -والعياذ بالله- فالغلو لا يؤدي إلى خير، وإن شئت فقل "الشطط العاطفي" سواء كان في خروج عن الدين أو خروجٍ عن الحكمة أو عن مقتضيات المصلحة.
فعلى الإنسان أن يضبط نفسه منذ البداية، وأن يقف الموقف الصحيح ولا يبالي بعد ذلك بكلام الناس.
فنقول لهذا الأخ الذي رجع: لا يصح ولا يجوز لك أن ترجع إلى الإسبال؛ لأن الإسبال حرام، وأما العمامة فاتركها، والبس كما يلبس الناس، وليس عليك أي إثم بالرجوع، فإذا قالوا: الآن اهتديت أو عدت.
نقول: إنك قد انحرفت عن الالتزام، فلا تبال بكلامهم، وانظر إلى ما يحقق المصلحة.
والنصيحة للجميع في مثل هذه الأمور؛ لأننا في مجتمع، ويجب أن ننظر إلى كيف نخاطب مشاعر الناس، فلا نثيرها ولا نجرحها.(60/16)
أهمية دور الملتزم في إظهار الصورة الحسنة عن هذا الدين
السؤال
إن له بعض الأقارب إما أنهم يسكنون عندهم، أو يأتون لزيارتهم بين آنٍ وآخر، فيرتكبون بعض المنكرات أو المحرمات، فلا ندري هل ننهاهم عن ذلك؟ أو إذا حدثت مفسدة فكيف نفعل؟ وآخر يقول عن والده: إنه متشددٌ ومتعصبٌ لمذهب معين، فإذا فعل ابنه أمراً يخالف ما عليه المذهب؛ يعترض عليه الأب، فماذا يفعل معه؟
الجواب
المشاكل كثيرة من هذا النوع، ويجب أن نعلم أن هذا هو الأصل، وأن هذه هي حقيقة الداعية، وأنه لا بد أن نعاني من أمثال هذه الأمور، وإلا لو كان الناس على الصورة الأخرى لما احتجنا إلى دعوة، فلا بد أننا نحتاج إلى الدعوة على أية حال وفي أي زمان ومكان؛ إما للتوجيه فأقول: إن هذا أمر طبيعي، وهنا نأخذ أو نذكر قواعد كلية، أما التفصيلات فكل إنسان بحسب حاله، وكل مسألة بحسبها أيضاً، لكن -في الجملة- الأصل أن الشاب المسلم -إذا استقام- يجب أن يشعر أبوه وأمه وأهله وأقاربه أنه تحول من الشر إلى الخير، وبالذات ونحن نتكلم عن مجتمعنا المسلم -والحمد لله- ولا نتكلم عن إنسان يكون أبوه نصرانياً أو يهودياً ثم يسلم؛ لكن نقول: يجب أن يكون هذا هو الشعور العام في المجتمع، أن الشاب إذا اهتدى فإنه تحول من الشر إلى الخير.
وأما أن يوجد شعور عام -يقل أو يكثر- بأن الشاب إذا اهتدى، فقد تحول من الخير إلى الشر، فهذه مشكلة لا نرضاها أبداً، ودليل على خلل في تمسك هذا الشاب، بمعنى أن الأب عندما كان يحبك وأنت على حالك الأول، وكنت تحبه وتخدمه وتطيعه وتذهب به إلى أي مكان - كالخادم أو كالسائق - وتفعل ما يرضيه؛ فإن استقمت واهتديت وتمسكت، تركته وأهملته؛ لأنه يشاهد كذا، ولأنه يفعل كذا، ولأنه يقول في المتمسكين كذا، فأقول: هذا خطأ، وهذا خلل، لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15] أي: والديك: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] أي صاحبهما بالمعروف حتى وهما يدعوانك إلى الشرك بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويجاهدانك لكي تشرك بالله، ومع ذلك (صاحبهما في الدنيا معروفاً)، وكذلك إذا شعرت الأم أيضاً أن ابنها لما استقام واهتدى، بدأ ينفر من خالاته وبنات خالاته ومن عماته؛ من أجل موضوع الكشف -مثلاً- فبدأ يتكلم فيهم ويكرههم ويقطع الأرحام، ويفعل كذا، وأصبح شريراً، لكن العكس يجب أن يكون؛ أن يستشعر الجميع: الأم والأب والأهل والمدرس والمجتمع أنه استقام واهتدى، فكان الخير، والدعوة إلى الله خير بلا ريب، حتى وإن خالفها من خالفها، فهم يعلمون أنها خير ولكنهم لا يجرؤون على الكلام، فأكثر ما يتكلمون عنه هو تصرفات الشباب، وقليل منهم الذي يتجرأ فيتكلم في نفس الطاعة، أو في نفس السُّنة، بل إنه يقول: لا، فالدين طيب ويسر، إنما يتكلمون في التصرفات.
ولهذا أقول: يجب أن تكون التصرفات بما يضمن -بإذن الله تعالى- أن نكسب هؤلاء الناس، فإذا لم تستطع أن تكسب أقرباءك للدعوة، فمن تكسب بعد ذلك؟! فاصبر وتحمل، وأكرمهم، وأحسن إليهم , واحترمهم وقدرهم، حتى يشعروا بأنك لمَّا استقمت واهتديت بذلت لهم من الخير أكثر، فبدأت تطيع والديك أكثر، وبدأت تحب إخوانك أكثر، ولكن واجب هذه المحبة وهذا الحرص أن تقول لهم: يا أخي! اتق الله، يا أبي ويا أمي! هذا حرام، يا أخي! إني أخاف عليك عذاب الله، كما ذكرنا في مناظرة الخليل عليه السلام وموعظته لأبيه، وكما كان حال الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم والدعاة إلى الله جميعاً.
وبعد ذلك من كُتِبت له الهداية سيهتدي، ومن لم يهتدِ فسيظل يحبك على الأقل، وذكرنا مثال أبي طالب، وأنه لم يهتدِ، ولم يؤمن، لكنه كان يحب صاحب الدعوة صلوات الله وسلامه عليه.
فالمقصود أنه يجب أن تكون أخلاقنا ومعاملتنا أفضل وأكرم وأحسن منها في حالة استقامتنا من ذي قبل، وأن يكون الحب وجلب الناس وكسبهم إلى الخير هو رائدنا، حتى ونحن نتكلم مع صاحب المعصية، نعم أقول هذا! ولا تعتبروه استطراداً -إن شاء الله- لنفرض أنك مررت -كما نشاهد الآن- بمحل يبيع أفلام موسيقى أو محل فيه أشياء محرمة والله المستعان، فعندما تخاطبه لا تخاطبه بأنك -أنت- مستقيم ومتمسك، حتى ولو لم تقل هذا أحياناً، لكنه شعورك.
فلو بدأت مع أي إنسان تخاطبه: كلنا مقصرين، وقد يمكن أنك أكبر مني سناً أو أصغر مني؛ لكن الحقيقة أنه بدافع المحبة، أحببت أن أقول لك كلمة وإن شاء الله تنفعك ففكر فيها وإذا كان عندك فيها نظرة فأنا مستعد أن أتفاهم معك فيها إلى أن تقول له: إن هذا حرام وكسبه حرام؛ بلطف وبأدب جم، وعندها يرد الرجل: فيك الخير، وجزاك الله خيراً، وأنا كذا.
فالحمد لله! الغالب -إن شاء الله- أن مجتمعنا فيه فطرة، لكنك لو أشعرت الناس أنك أنت مستقيم، وأنهم منحرفون ضالون زائغون، وليس فيهم فائدة وليس فيهم خير؛ فتأكد أن هذا لن يُؤدِّي -أبداً- إلى استجابة ولا إلى ثمرة؛ لكن خذ الناس بالحسنى وباللين، بل حتى لو قلت شيئاً مما لا يستحقونه -أحياناً- من بعض الثناء بقصد أن تجلبهم إلى الخير، فهذا -إن شاء الله- لا حرج فيه، ولا يعد من الكذب إن شاء الله.(60/17)
كيفية كبح جماح الشهوة
السؤال
كنت أزاول العادة السرية، ولكن الله منَّ عليَّ بالهداية بعد أن عرفت أضرارها وعقوبتها؛ ولكن مشكلتي هي أنني تثار لدي الغريزة الجنسية لأدنى سبب، فما هو العلاج لذلك، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أولاً: حقيقة أن هذه الغريزة مشكلة؛ فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعلها غريزة طبيعية وجبل الناس عليها هكذا، فدخل منها أعداء الله، ودخل منها المجرمون والمفسدون والَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا، فدخلوا من باب هذه الغريزة؛ فهذا يبيع الأفلام، وهذا يبيع المجلات، وهذا يفعل الدعاية لبضاعته عن طريق النساء، وهذا يروج بالحرام و، فنجد أنه تستثار هذه الغريزة بشكل يخرجها عن موضعها الصحيح، أما نحن فلا رهبانية في الإسلام -والحمد لله- ولسنا من النصارى في شيء في هذه المسألة، ولا من البوذيين أو غيرهم؛ فديننا دين الإسلام الذي يعطي كل شيء حقه.
فهذه الرغبة وهذه الغريزة أو هذه النزوة لا بد أن تشبع؛ لأنها أمر فطري جبلي، وأما هذه الدوافع وهذه المثيرات في واقعنا الآن فإنها قد خرجت عن حدها، وخرجت عن طورها؛ بحيث أصبح الشاب مشدوداً ليل نهار إليها؛ فإن دخل مكتبة وجد قصص الغرام، وإن التفت إلى المجلات فكلها صور نساء إلا ما رحم ربك في بعض المكتبات، وإن رأى الأفلام فكذلك، فكل ما يجد ويرى يثيره ويشده.
فنقول: أولاً: هذه مسئولية تقع على أعباء المجتمع بأكمله، وكل إنسان مسئول -بحسب موقعه ومكانه- بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فكل حادثة زناً تقع نتيجةً لهذه الإثارات، فكل من أثارها -أو أذن بأن تثار- مسؤول بين يدي الله بقدر تفريطه في إثارتها، الذي يستطع باليد مسئول أن يغير ذلك؛ الذي يستطيع باللسان مسؤول أيضاً وإن كان أقل مسؤولية.
وهكذا فالمسئولية مشتركة على الجميع، ونحن لا نقول: إنها دائماً مسئولية الحكام، أو مسئولية العلماء والدعاة، أو المدرسين؛ لأننا كلنا مسئولون بين يدي الله؛ كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كلكم راعٍ وكل راعٍ مسؤول عن رعيته} فكلنا مسئول بين يدي الله تبارك وتعالى عن الترويج للفواحش في مجتمعنا المسلم الطاهر.
وهذا الأخ قد ذكر مسألة الإثارة، والإنسان مهما كانت قوته إذا لم يتعرض للمثير فإنه لا يستثار؛ وقد يكون هناك أناس لديهم خروج عن المألوف، ولنفرض أن إنساناً ما، عنده حالة مرض؛ فأصبح يريد أن يعاشر أو يباشر بشكل غريب جداً، فأقول: إن هذا صار مرضاً؛ لكن كقاعدة عامة فالأصل أن السبب هو الإثارة، وإن كان - هذا الأخ- ممن مرض وصار لديه المرض؛ فليذهب إلى أي طبيب ممن يعالج الأمراض التناسلية ولا سيما إذا كان ديناً موثوقاً به، والآن وبفضل الله لا يوجد تخصص إلا وفيه من يوثق بدينه -والحمد لله- وليتعالج على يديه، وربما يعينه بشيء من المهدئات، والمقصود أن لديه العلاج فهذا اختصاصه.
وتأتي مسألة أخرى إذا لم يكن مرضاً؛ وإنما كان بعامل المثيرات فما الحل؟ الحل -وهو للجميع- كما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بقوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] فلا بد من غض البصر، ولا بد من حفظ الفرج، وأن يصرف الإنسان هذا الوقت وهذه الطاقة فيما يبعده عن ذلك، فيذهب إلى إخوة له.
فكلما كان مع إخوة في الله كلما كان أبعد، وإذا كان وحده فليتذكر اليوم الآخر، وليتذكر سكرات الموت وعذاب القبر، ثم يتذكر الوقوف خمسين ألف سنة بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والشمس على مسافة ميل، وكل إنسان منهم من يبلغ عرقه إلى أن يلجمه ومنهم يبلغ عرقه إلى الترقوة، ومنهم يبلغ إلى السرة، ومنهم من يبلغ إلى الركبة، فكل إنسان في هذا الموقف العظيم يتذكر ما أمامه من أهوال.
أقول: كلما تذكر الإنسان هذه القضايا يجد أنه لا مجال ولا مكان لمثل هذه النزوات أن تستعر وأن تلتهب، والله المستعان.(60/18)
المغالاة في الحب وأضرارها
السؤال
ذكرت الحب في الله، والغلو في الحب، فكيف يكون الحب في الله حقاً؟ ثم إن المغالاة في حب الصاحب قد ذكرت أنها تؤدي إلى البغضاء في المجتمع، أتقصد أن نحبه في إطار محدود؟ وأقول أيضاً: إني أحب جميع علمائنا ومشايخنا، لكني إذا رأيت أحد إخواننا في الله يعايش أحد المشايخ الذين أحبهم تهب فيَّ الغيرة نرجو النصيحة؟
الجواب
أقول: أولاً الحب في الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لدينا كالشمس في رابعة النهار؛ كيف كان حب المهاجرين للأنصار وحب الأنصار للمهاجرين؟ وكيف كان حب المتآخين من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وكيف كان يحب بعض الصالحين بعضاً؟ وهذه والحمد لله واضحة، وأقصد في الجملة التي نريدها الآن: الانضباط وعدم الغلو.
وأما مسألة المغالاة في الحب فقد تؤدي إلى البغضاء.
فإذا غاليت أنت في حب أحد فهذا يؤدي بمن يخالفك إلى أن يبغضه، ولو أنك كنت معتدلاً قائماً بالقسط؛ لربما كان مثلك معتدلاً أو قريباً منك، لكن عندما غلوت في الحب غالى هو أيضاً في البغض، وهكذا عادة الناس أنهم يقابلون الشيء بضده في الغالب، فإذا أخذهم الإنسان بالحسنى وقرب إليهم الأمر اقتربوا منه، وهذا هو المقصود.
أما بالنسبة للإخوة الذين يجمعهم عمل واحد أو مدرسة واحدة أو أي أمر من الأمور المشتركة، فإنه إذا غالى أحدهم في حب إنسان، فإن الحسد يدب في قلوب الإخوة الآخرين فيبغضونه ولا ذنب له، وهذا قد يؤدي إلى نوع من القطيعة وهي مجربة ومشاهدة في الواقع.
أما قوله: إنه يحب جميع العلماء والمشايخ فهذا فضل من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لكنه إذا رأى أحد الإخوة يعايش أحد المشايخ تدب فيه الغيرة، فإن شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله تعرض لمسألة الصوفية كيف يريد كل شيخ أن يكون المريدون له خاصة، وإذا انتقل المريد إلى شيخ آخر تكون العداوة ونحوها، فإن شاء الله نحن أبعد شيء عن هذه الضلالات.
لكن إن كانت المسألة مسألة الحرص على الخير، تقول: يا ليتني كأخي فلان، أي غبطةً وحرصاً منك على أن تكون مثله، تعايش العلماء وأهل الخير، وتكتسب منهم فلا بأس -إن شاء الله- إن كان هذا هو المقصود والعبارة خانتك، وإن كان غير ذلك فهي عاطفة ينبغي -كما ذكرنا- أن تهذب.(60/19)
أخطاء الشباب في انتقاد العلماء
السؤال
ما رأيك في بعض الشباب الذين إذا رأوا خطأً واحداً من أحد العلماء فإنهم يتركون جميع مؤلفاته وجميع ما قدم وجميع آرائه؟
الجواب
علماء الأمة هم خيرتها وصفوتها، ومن فضل الله تبارك وتعالى أنه لا يزال في كل زمان وفي كل عصر من يرفع راية الجهاد وراية الحق ويقول الحق، وتجد من يسير وفق القواعد الصحيحة من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنهج السلف الصالح، وهؤلاء هم منارات الهدى للأمة، وإن من حبنا لديننا، واحترامنا وتقديرنا له أن نحب ونحترم ونقدر علماءنا، وأظن أن هذه قضية أساسية والتفريط فيها لا يجوز بأي حال من الأحوال.
أما مسألة أن البعض إذا رأى عالماً قد أخطأ في مسألة فإنه يترك الكل، فهذا حيف وجور، وظلم وعدوان، وإن من الوصايا العشر التي أوصى الله تبارك وتعالى بها في كل كتاب وجاء بها كل رسول قوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152] فبعض الناس لأنه يعلم أن شيخاً أخطأ في مسألة يقول عنه: ليس عنده علم، أو ليس فيه خير، أو كذا، فسبحان الله!! هذا ليس من العلم، وأيضاً يقول تعالى {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الشعراء:183] وبهذه المناسبة في أحد أعداد مجلة البيان -وتعرفونها جميعاً- كتب أحد الإخوة عند هذه الآية جزاه الله خيراً، وأنا أنصحكم بقراءتها.
ونحن لا نبخس الكافر شيئاً، فلو جاء إنسان وقال لك: إن أمريكا متأخرة، وليس عندها شيء، ومطاراتها وطرقها غير جيدة، فهل تقول له: هذا صحيح ما داموا كفاراً؟ بل نقول: هذا كلام خاطئ، فلا نبخس الناس ما عندهم ولو كانوا كفاراً أو مبتدعين أو غير ذلك، فكل إنسان يجب أن يأخذ حقه، كافراً أو مسلماً ولا نبخسه حقه أياً كان؛ بل نعدل في القول ونكون كما أمر ربنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة:8] وفي الآية الأخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:135] وهكذا يجب أن يكون الشباب المسلم بإذن الله.
وننبه إلى مسألة أن العلماء ليسوا معصومين مبرئين من العيوب.
وكفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
فقد يقال عن العالم الفلاني أنه مقصر في جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذاً نترك علمه وفضله؟ فنقول: سبحان الله!! لم لا يقال عنه جزاه الله خيراً، فقد بحث وحقق ومحص حتى يقول لنا حكم الله في كثير من المسائل.
ولا يعني ذلك أننا نقتدي به إذا كان مقصراً فنقصر مثله، ولكن نأخذ منه العلم ونجبر التقصير؛ فكلنا أمة واحدة نسعى إلى الخير والتكامل، حتى لو استطعنا أو كان منا من يستطيع وبأسلوب وأدب جم أن يقول للشيخ: يا شيخ! لو تنكر ولو تتكلم ولو تفعل، فهذا أيضاً من الخير، ولا ندعي العصمة لأحد؛ بل ننصح لأئمة المسلمين وعامتهم، وهؤلاء من الأئمة، وأئمة العلم كأئمة الحكم ينصح لهم، فننصح لهم من جهة، ولا نقول: لا يليق بنا أن نفعل ذلك فهم علماء، فكيف نرد عليهم؟! ومن جهة أخرى لا يعني ذلك أن نترك ما عندهم من خير أبداً، فكما أن من يدعو إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ينكر المنكر، فلا يعني ذلك أن يكون عالماً أيضاً، فالإنسان قد لا يُلم بالمواهب المتعددة، فبعض الناس برز خطيباً وأعطاه الله تبارك وتعالى موهبة الخطابة، فإذا زعمنا أنه عالم وعارضنا فتوى العالم بقول الخطيب فيها برأيه فهذا خطأ؛ لأن هذا خطيب وهذا عالم، وكل إنسان له مجاله، وكل إنسان له طاقته، والمقصود أننا لا نبخس الناس أشياءهم.(60/20)
تغليب المصالح على المفاسد
السؤال
لو ترتب على قول الباطل حقٌ ظاهر أكبر من الباطل، فهل يجوز قول الباطل في هذه الحالة؟
الجواب
أولاً: لا يصاغ السؤال هكذا، بل نقول: لو ارتكبت مفسدة ظاهرة، أي: مفسدة من أجل مصلحة ظاهرة، فهل يجوز أن ترتكب المفسدة سواء كانت قولاً أو فعلاً؟ أي: نرتكب مفسدة من أجل تحقيق مصلحة أكبر، والجواب أن القضية هي قضية أننا (ندفع أكبر الضررين، ونرتكب أخف المفسدتين، لنحقق أكبر المصلحتين) أي: ليست الأمور دائماً كما يقال في المثل: أبيض أو أسود، لا، لكن أحياناً قد تأتي أمور مشتركة، فأنت لا تستطيع أحياناً أن تنكر المنكر إلا بتلبسٍ بشيء منه -مثلاً- أو بشيء مما يسببه هذا المنكر، ففي هذه الحالة نعم لا بأس بذلك.(60/21)
الخروج عن المألوف
السؤال
هل يعتبر إظهار بعض الأحكام غير المنتشرة خروجاً عن المألوف؟
الجواب
نعم يعتبر خروجاً عن المألوف، فتقصير الثوب إلى نصف الساق يعتبر خروجاً عن المألوف، لكن هل كونه خروجاً عن المألوف يعني أننا لا نطبق السنة؟ فالمألوف هو ما يقتضي أنه يكون طيباً أو حقاً، ولكن المألوف عند الناس اليوم هو الإسبال، فإذا قصرت خرجت عن المألوف؛ لكن هل خرجت عنه إلى حق أم إلى باطل هذه مسألة أخرى.
فنقول: ما كان مألوفاً في الناس فإننا نتعامل فيه بحكمة حتى يكون الخروج عنه، وهناك أمور يصدع بها، كمسألة الشرك والتوحيد، فيجب أن نصدع بها، ولا تقبل النقاش، فهناك أمور نقولها بهدوء، أو بتدرج، وهناك أمورٌ نؤخرها، بل وربما هناك أمورٌ لا نذكرها، فهي على سلّم ودرجات، وهذا هو المقصود.
فالمألوف منه ما هو حق، ومنه ما هو باطل، وليس المعيار عندنا هو المألوف في الحكم، لكن المعيار للمصلحة.
إذاً كيف يكون موقفنا من هذه المسألة؟ فمثلاً إذا كنت في بيئةٍ كبيئتنا هذه، فيمكن أن تقف في أي مكان وتتكلم في الصوفية، وتقول فيها ما هو حق إن شاء الله، لكن لو ذهبت إلى بلد كله صوفية، فإذا قمت مباشرة وتكلمت في الصوفية، فإن هذا لا يكون -في الحقيقة- من النصيحة ولا من الحكمة؛ لأنك خرجت عن المألوف، بينما هو يعتبر هنا متماشياً مع المألوف، ولا يعني ذلك أن المألوف هناك حق أو أنه سنة.(60/22)
مجاهدة النفس في الطاعات
السؤال
أحياناً لا أجد القدرة على حفظ الورد الذي فرضته على نفسي من القرآن؛ بحيث أجد في نفسي إعراضاً وضيقاً، وهذا لا يحدث قليلاً بل كثيراً مما أدى إلى استيائي وخوفي من سوء العاقبة، فما العلاج، جزاك الله خيراً؟
الجواب
إن الله لا يمل حتى تملوا، فالإنسان يأخذ نفسه باليسر، فإذا كان الأخ قد ألزم نفسه بقسط كبير فليخففه، وإذا وجد أن نفسه غير قابلة لهذا الخير، ولهذا النور العظيم، وأنها قد صدأت وأظلمت؛ فليرققها قبل أن تتسلط عليه، وليعظها وليذكرها بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وليعالجها؛ ثم بعد ذلك يأتي إلى ما يريد من الخير، ولا يكره نفسه على أمر هي تكرهه؛ فربما تنفر منه، ولا شك أن هذا دليل على شيءٍ في القلب، وقلَّ من ينجو قلبه من مثل ذلك، وهذه حكمة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فأنت قد تخشع في صلاة الفجر ولكنك قد تجد قلبك قاسياً في صلاة الظهر، سبحان الله! وهكذا في المغرب والعشاء رغم أنهما متقاربان، فتجد خشوعاً في هذه وقسوة في تلك، وهكذا تجد أننا نحتاج إلى أن نجدد وأن نتعاهد إيماننا، وأن نأخذ أنفسنا بما نستطيع ولا نكلفها ما لا تستطيع، وأن نجاهدها في ذات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فنجدد إيماننا دائماً، ونذكر أنفسنا باليوم الآخر، وبما أعده الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الفوز العظيم لمن أطاعه، ومن الشقاء والعذاب -عافاني الله وإياكم- لمن عصاه وخالف أمره، وأن نُذكِّرها بحال السابقين الصالحين لتقتدي بهم وتتأسى بهداهم وهكذا، فلعلها تستنهض الهمة فيها -بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولا يشق الإنسان على نفسه فيصبح في مثل هذه الحالة الحرجة.(60/23)
أمثلة على ارتكاب المفسدة لجلب المصلحة
السؤال
عندما أجبتم على جواب تقديم المفسدة على المصلحة أو ما شابه ذلك، يقول: نرجو التوضيح ببعض الأمثلة حتى يتضح الأمر في أذهاننا؟
الجواب
المفسدة أو المصلحة كثيرة جداً في واقع الحياة، فمثلاً: إذا أردت أن تنكر على إنسان يسمع الأغاني، فأول ما تفعله هو أنك إذا زرته فدخلت ورأيته يسمع الأغاني، فهل تبدأ بإقفالها؟ بذلك يمكن أن تتشاجرا معاً، فأنت في هذه اللحظة ستسمع الموسيقى أثناء كلامك له، ولكن من أجل إفهامه.
أو إذا كان المنكر هو التدخين، أو شيئاً من هذا، فالتلبس -أحياناً- بشيء مما فيه مفسدة لا بأس به، بل ربما تدخل على من هو أشنع من ذلك كمحل فيديو مثلاً فتراه يعرض أشياء محرمة أو شيئاً من ذلك، حتى وأنت تكلمه فإنك تعرض عِرْضك لشيءٍ من الشبهة، فلو مر أحدهم فربما يقول: هذا يريد أن يشتري فيلماً، فيظن بك ذلك، فهذا فيه مفاسد كدخولك ورؤيتك وسماعك، وهكذا بعض الإخوان يكون ذلك في حقه واضحاً جداً وأكثر، كالإخوان في الهيئة أو الجمارك أو الإعلام والمراقبة، فهو يرى المنكر نفسه، فيرى هل هذه المجلة تدخل أم لا تدخل ويتصفحها، فيرى فيها الصور المخزية -أحياناً- وغيرها.
فنقول: مثل هذه المفاسد تهدر ولا ينظر إليها؟ لأننا نحق مصلحةً عامةً فوق ذلك، وأهم من ذلك وهو درءُ هذه الأمور بالكلية إن شاء الله تعالى.
والأمثلة أعتقد أنها يومية ومتكررة بالنسبة لمن يمارس الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(60/24)
المنهج العلمي للطالب المبتدئ
السؤال
كيف يبدأ الإنسان بطلب العلم وما هي الكتب التي يبدأ فيها؟ وما هي الوسائل التي ينتهجها لذلك؟ سؤال آخر يقول: إن فضيلة الشيخ سفر قد بدأ بكتابة رسالة توضح كيف تكون بداية طالب العلم، فنرجو أن يكون ذلك صحيحاً، وكذلك نرجو التنويه على ما ذكرناه في السؤال؟
الجواب
بالنسبة للمنهج العلمي، فلا يخفى عليكم في الجملة ما يجب أن يبدأ به طالب العلم، والرسالة التي ذكر الإخوة أو الوريقات، -ولعل الله تعالى أن ييسر لتكتب- ما هي إلا شيء مما يعين على ذلك، وإلا فالأمر واضح، وعندنا -والحمد لله- مناهجنا المعروفة الآن والمقررة في المدارس الخيرية في المساجد.
وأظن أنكم تعلمون جميعاً ما يدرسه الدعاة -غالباً- وهذه كلها منضبطة والحمد لله على هذا الشيء، وهو: البدء بالمتون الأساسية حتى تتدرج، ففي التوحيد -مثلاً- الأصول الثلاثة، ثم القواعد الأربع، ثم كتاب التوحيد، ثم فتح المجيد، ثم تيسير العزيز الحميد، وفي موضوع العقيدة -الأسماء والصفات- تؤخذ الواسطية، ثم الحموية بعد ذلك، ثم تنتقل إلى شرح العقيدة الطحاوية إلى أن تقرأ في مجموع الفتاوى وأمثاله.
فأما في الفرق -مثلاً- فتأخذ شيئاً مبسطاً ثم تتوسع، وفي التفسير أرى أن تبدأ بـ تفسير ابن كثير ولا أرى غير ذلك.
لكن يمكن أن تبدأ بقراءة الكتب التي تعرف المعاني مجملةً، فيعرف المراد منها في الجملة، ثم بعد ذلك تتدرج في معرفة أنواع التفسير والأحكام والخلافات والاستنباطات، وأمثال ذلك، فهذه أظنها بدايات طبيعية، والكتب إن شاء الله تعالى يعرفها ولا يجهلها الكثير، وما وعدت به أرجو أن يعينني الله تعالى على تحقيقه.
والحمد لله رب العالمين.(60/25)
كيف ندعو إلى الله
الدعوة إلى الله تعالى هي طريق الأنبياء والمصلحين، وهي أحسن قول يقرب من الله عز وجل، لكن هذه الدعوة لابد لها من ضوابط وآداب ينبغي مراعاتها، ومن هذه الضوابط وجوب مراعاة التعامل مع كل فئة بحسبها، فمن كان متقبلاً للدعوة فأسلوب التعامل معه يختلف عن أسلوب التعامل مع المعرض عنها، كما يختلف عن أسلوب التعامل مع المحارب لها.(61/1)
مكانة الدعوة
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله الأمين، الذي دعا إلى الله حق دعوته وجاهد في الله حق جهاده، وكان قدوةً ونموذجاً ومثالاً لما يريد الله -تبارك وتعالى- من الدعاة إليه إلى أن تقوم الساعة، وبعد: فنشكر الله تبارك وتعالى الذي وفقنا وإياكم إلى أن نكون من الدعاة إليه، السائرين على منهج الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة، وأسأل الله عز وجل لنا ولكم الثبات والإخلاص والعزيمة، إنه سميع مجيب.
إن أمر الدعوة إلى الله من الفقه، وفقه الدعوة إلى الله تبارك وتعالى ليس من الفقه الكبير؛ أي: من فقه الأحكام والفروع، بل من فقه الأحكام الأكبر؛ الذي هو: توحيد الله تبارك وتعالى؛ وذلك لأن الوسائل تأخذ أحكام المقاصد، فلما كان أشرف شيءٍ وأعظمه في هذا الدين هو توحيد الله تبارك وتعالى، وكانت الدعوة وسيلة إلى توحيد الله، فإنها تكون أعظم الفقه، فهي من الفقه الأكبر الذي يجب على الدعاة إلى الله وعلى طلبة العلم أن يعرفوه، وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين}.
إن منهج الدعوة إلى الله دين، فهو لا ينفصل عن التوحيد ذاته، وعن الأوامر الربانية، فهو من جملتها، وهو منهج اتباع لا ابتداع.
إن هذا الدين أنزله الله تبارك وتعالى لكل زمان ومكانٍ، وفرضه على البشر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فالأحوال تختلف، ولكن الذي لا يتغير أبداً هو هذه الأصول الثابتة في الدعوة إلى الله، والتي لو اتفق عليها الدعاة إلى الله، وسار طلبة العلم على نهجها لما اختلفوا إلا فيما يجوز الاختلاف فيه.(61/2)
سبيل الدعوة وغايتها(61/3)
نقاط في طريق الدعوة
هناك نقاط مهمة ينبغي للداعية أن تكون نبراساً في طريق دعوته إلى الله:(61/4)
الإخلاص
يجب علينا أن نراجع أنفسنا دائماً وكل حين في قضية الإخلاص، في هذا الأمر العظيم، فإنه النقطة الأولى في طريق الدعوة، التي لا يجوز ولا ينبغي أن نتجاوزها إلى ما بعدها إلا وقد تحققت، وهي أن تكون دعوتنا خالصة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإذا دعونا الى الله، ائتلفت القلوب بإذن الله تبارك وتعالى، وتحقق الخير.(61/5)
لا نستعجل النتائج والثمرات
وحينئذٍ لا نستعجل النتائج والثمرات، لأننا ندعو إلى الله، والله هو الذي تكفل بقيام هذه الدعوة، فما علينا إلا البلاغ، ولسنا بأكثر في ذلك من الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً، قال تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] فلذلك لا نخطئ الطريق.(61/6)
لا نقيس عمر الدعوة بالزمن
فلا نقول: لم يتحقق هدف الدعوة إلى الله كما تقول بعض الدعوات: مضى علينا كذا من الزمن ولم يتحقق الهدف، هذا لا يوجد عندما ندعو إلى الله، إنما يوجد المحاسبة والمراجعة، وإن دعونا إلى الله حقاً، وعلى المنهج الصحيح، فالثمرة متحققة ولابد ولو لم يكن من تلك الثمرة، إلا أننا دعونا إلى الله.
هذه ثمرةٌ عظمى أننا عرفنا طريق ربنا -عز وجل- وسبيله، ودعونا إليه سواء استجاب لنا أحد أو لم يستجب، فلنا أسوةٌ بالأنبياء الكرام، الذين رآهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال: {رأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ومعه الرهط، أو الرهيط، والنبي وليس معه أحد}.
إذاً ليست المسألة حساباً عددياً، أو بكثرة الأتِّباع أيضاً، وإنما هي بالاتباع لا بالأتباع، أدعو إلى الله على بصيرة، وبالحكمة، كما في قوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125].(61/7)
الدعوة إلى الله على بصيرة
تفكروا في هاتين الكلمتين: كلمتان لو بحثنا في اللغة العربية، فلن نجد أدق وأبلغ منهما في معناهما الذي تؤديان إليه (على بصيرة) و (بالحكمة) ماذا يعني ذلك؟ البصيرة: تعني: العلم، وهل يمكن أن تصف جاهلاً بالبصيرة؟! أو تصف أي يائس قنوط بأنه على بصيرة؟! أو تصف المتهور بأنه على بصيرة؟! والبصيرة تعني أيضاً الثبات، والبصيرة تعني معنى الحكمة، والحكمة تدل على البصيرة، والحكمة لم توصف، فقد وصف الله تبارك وتعالى الموعظة بالحسنة، ووصف المجادلة بالتي هي أحسن، أمرٌ فوق أن يكون حسناً، بل بالتي هي أحسن، ولكن الحكمة لم توصف، والبصيرة كذلك، لأن الكلمة في ذاتها تدل على الكمال، ولو حدث خللٌ أو نقص لما كانت بصيرة، ولو حدث عيب في الأسلوب لما كانت حكمة.
وكلمة الحكمة تطلق على: 1 - القرآن.
2 - تطلق على السنة.
3 - وتطلق على الدين.
4 - وتطلق على الحق.
5 - وتطلق على كل رأيٍ أو فعلٍ صواب.
كما أن كل تصرفٍ حسن حق يوصف صاحبه بأنه عمله على بصيرة، على حجة من الله وعلى علم وعلى دراية بثمرته أو بنهايته.
إذاً لابد أن تكون على بصيرة.
ثم قال: {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، سواءٌ كان: على بصيرة أنا ومن اتبعنى، أو بالمعنى المفهوم للآية بحسب الوقف، وهي أن تكون الدعوة على بصيرة، إما الدعوة على بصيرة، أو أنا ومن اتبعني على بصيرة، وكلاهما يُؤدي إلى مفهوم واحد، وهو أن اتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعون إلى ما دعا إليه من البصيرة وإلى ما دعا إليه من الحكمة.
وهنا نقف -قليلاً- عند مسألة وهي: هل نحتاج إلى أن نجتهد ونفكر في مناهج وطرائق للدعوة إلى الله، حتى في دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هل نحتاج إلى أن نفرد أحاديث معينة، ونتخيل أنها هي أحاديث الدعوة؟ في الحقيقة لو تأملنا لوجدنا أن حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلها دعوة، منذ أن نزلت عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر:1 - 2] إلى أن لقي الله، كل حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعوة إلى الله.
إن حارب المشركين فهي دعوة، وإن ربَّى المؤمنين فهي دعوة، وإن وعظ في المسجد فهي دعوة، وإن أخذهم للجهاد فهي دعوة، وإن علمهم الأحكام فهي دعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(61/8)
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله
انظروا هذا التكامل لو ارتقت آفاقنا وأذهاننا إليه، كيف يكون حال الدعوة إلى الله؟! لم يكن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مفتياً عالماً، يفتي الناس في أمور الدعوة، ثم يذهب إلى منزله، والناس يفهمون الفتوى ويطبقونها ويتصرفون فيها كما شاءوا، لم يكن هذا من هدي الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قط، ولم يكن كذلك قائداً سياسياً، يدبر الخطط، ويدير الأمور، ولم يكن كذلك قائداً حربياً يرسم الخطط، ثم يأمر الجيش بأن يطبقها، ثم ينتهي الأمر.
إنما كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ داعياً إلى الله في كل حال من أحواله، أو يذكر الله، حتى وهو يقوم الليل كان حاله كله دعوة، فقد كان يُعلِّم أصحابه الدعوة إلى الله، وُيعلِّمهم كيف يتزودون في الدعوة إلى الله عز وجل.
ولهذا لا نحتاج إلى أن نقول: كيف ندعو؟! ومن هذا نفهم قضية أساسية في فقه الدعوة، وهي أن الدعوة إلى الله، يجب أن تشغل كل وقت الإنسان الداعية إلى الله عز وجل، وإن الدعوة إلى الله تحتاج إلى أن تفرغ لها كل طاقتك، ووقتك، وجهدك، إن أعطينا الدعوة فضول أوقاتنا فلن تقوم دعوة، ولن تنجح، ولا نسمى دعاة، ولا نستطيع أن نصف أنفسنا بأننا دعاة.
ولا يعني ذلك أن يتخلى الإنسان عن عمله أياً كان! انظروا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى أصحابه الكرام، لم يتخلوا عن أعمالهم، بمعنى الانقطاع الكامل عن الدنيا والالتحاق بأهل الصفة، ما فعلوا ذلك، وإنما كان التاجر في تجارته هو داعيةٌ إلى الله، والمحارب في جيشه هو داعية إلى الله، والطالب في طلب العلم كذلك، وكل واحد منهم كان يقوم بحق الزوجة وبحق الأبناء وبما فتح الله عليه من أعمال دنيوية، ومن خلال ذلك هو متبع لطريقة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو داعية إلى الله.
ومن أولى منهم بذلك؟ لا أحد، ومع ذلك كان هذا طريقهم، وكانت الدعوة إلى الله هي روحهم وحياتهم وهدفهم كله، ليس هناك من هدفٍ آخر لديهم، بل عندما قال بعضهم: إن الله قد أظهر دينه، وأعز نبيه، فلو أننا ذهبنا إلى أموالنا، وإلى ضياعنا، أنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] كما فسرها أبو أيوب رضي الله عنه، فكان الانصراف عن الجهاد والدعوة، والاشتغال بالزرع والضياع، كان ذلك هو الإلقاء إلى التهلكة.
لكن المطلوب أن نظل كما كنا ندعو إلى الله، ومع ذلك نتزود لدنيانا، ونقوم بحق أنفسنا، وحق أهلينا، ولكن من خلال دعوتنا إلى الله عز وجل.
ولهذا لما انفصلت وسائل الدعوة، ولما أصبح الدعاة إلى الله إما عالماً يفتي ويعلم، ولكنه لا يربي، ولا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، ولا يعايش ويعاني واقع الدعوة عند العامة والخاصة، حصل خلل كبير، وإنه لأمر مؤسف، مع ما فيه من خير وثمرة مرتجاة للدعوة، وكذلك تحول بعض الدعاة إلى طاقات نشطة تعمل ليل نهار في الدعوة، ولكن على غير علم، وعلى غير بصيرة، فكانت النتيجة ليست بالثمرة الصحيحة، فهي إن سلمت من الابتداع، لم تسلم من الخلل في التربية، والله يقول: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
الانتماء في الدعوة أمر مهم جداً، إلى من أنتمي في دعوتي؟ إذا كانت غايتي أن أدعو إلى الله فمن الطبيعي جداً أن يكون انتمائي إلى الإسلام، قال تعالى: {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، فلا نوالي ولا نعادي إلا في الإسلام وبالإسلام، والبراءة التامة من المشركين، كما قال تعالى: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] كما فعل إبراهيم مع وقومه، وكما فعل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع قومه أيضاً، وكما هو طريق الدعاة إلى الله في كل زمان ومكان.
الانتماء هو إلى الإسلام والمسلمين عامة، قال تعالى: {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] لا نحصر هذا الانتماء في فئة أو طائفة، فتكون النتيجة هي التحزب المقيت والتفرق والاشتغال بالتعصب وبالصراعات بين الدعاة عن واجب الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، وذلك قد يعود بالفساد على النية، وقد تفسد الإرادة، وإذا فسدت الإرادة، وشاب الإخلاص أية شائبة، فإن العمل يفسد، بقدر ما تشوبه شائبة الرياء، أو شائبة الهوى والتعصب.(61/9)
موقف الجمهور من الدعوة
أما في المنهج فإننا نجد أن الآية قد أوضحت أنواع الناس، أو حالات الدعوة بحسب أحوال الناس، فالناس الذين يخاطبهم الدعاة من الأنبياء فمن بعدهم، هم على ثلاث أصناف:(61/10)
محب للحق وموافق عليه
الصنف الأول: محب للحق وموافق لك عليه، يريد أن يصل إلى مرضاة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويريد أن يسير معك في الطريق القويم، لا بد أن تدعوه إلى الله ولا تقل: انتهيت، علمته الفاتحة، وعرفته بكيفية الصلاة.
إذاً فليصبح هو داعية، لا بل هو مدعو، وكل إنسان مدعو، حتى أكبر العلماء علماً، فهو مدعو بالنسبة إلى من يعظه أو ينصحه أو يذكره.(61/11)
موافق للحق في غفلة عنه
الصنف الثاني: الذي يوافقك في الحق، ويؤمن بما تؤمن به وتدين به، ولا يخالفك فيما تدعو إليه، ولكنه في حالة غفلة، وغلبة هوىً أو شهوة، أو إعراض عما تريد أن تدعوه إليه.(61/12)
معاند للحق مكابر وعدو
الصنف الثالث من الناس: هو الصنف المعاند المكابر المعادي لك، إذا دعوته إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ولن تجد من الناس غير هذه الأصناف الثلاثة، وهذا الآية العظيمة، قد بينت لنا كيف ندعو الناس بحسب هذه الأحوال، فيقول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125]، الحكمة مع من؟ الحكمة مع الراغب في الحق، المتبع له، الساعي إليه، الذي جاءك يسعى وهو يخشى، هذا تدعوه إلى الله بالحكمة، وتعلمه بالحكمة.
فمن جاءك يريد أن يطلب العلم على يديك ليدعو إلى الله، فإن الحكمة هنا أن تبدأ معه بصغار العلم قبل كباره، أن تبدأ معه بالأساسيات والضروريات قبل التفصيلات والتفريعات، أن تبين له أهم هذه العلوم ثم ما يليه ثم المهم إلخ.
مثلاً: في جانب العلم، وفي جانب الدعوة: تبين له المنكر الأكبر الذي يجتنبه، ثم المنكر الكبير ثم المكروهات، وفي جانب الواجبات تبين له أول ما يلتزم به ويحرص عليه، ثم ما يليه ثم الذي يليه وهكذا، وهذا هو أحد جوانب الحكمة معه.(61/13)
ومن الحكمة
الجانب الآخر في الحكمة، وكثيراً ما يغفل الدعاة عن هذه الجوانب، وينسون أنها من الحكمة: أنك عندما تدعو هذا الإنسان، وعندما تربيه، فإنك تحتاج معه إلى نوعين من التعامل: إلى اللين والرفق، وإلى القسوة والغلظة، هذا الجانب كثير من الدعاة لا يفقهونه، بل يظنون أن الحكمة تعني: اللين، وأن الحكمة معناها الرفق، لا بل الحكمة أن تضع اللين في موضعه، وأن تضع الشدة في موضعها، فإذا زجرت ابنك حال نصحه وعلَّمته أمراً من الأمور بالهدوء وبالإحسان فهذه من الحكمة.
فإن كبر هذا الابن، ثم علَّمته أكثر وأكثر، ففعل ما تستقبحه وقد حذَّرته منه فضربته، فهذا من الحكمة، فالضرب في هذه الحالة من الحكمة، لا يصدك عنه أحد، ويقول لك: إنه ليس من الحكمة في التربية والدعوة، بل كل من عليه لك ولاية، تستطيع أن تضربه فاضربه، وهذا من الحكمة!! أضرب لكم مثالاًً من واقعنا: رجل الحسبة ورجل الهيئة إذا أمسك إنساناً وأخذ عليه التعهد، وأوقفه يومين أو ثلاثة، هل يقال: الهيئة ليس عندها حكمة في الدعوة إلى الله، لأن الدعوة إنما تكون باللين.
أتريد منه أن يمسح على كتف قاطع الصلاة، ويقول له: الصلاة واجبة، ثم يتركه على هواه؟! لا! بل هذا رجل موقعه من المجتمع أن له سلطة عقابية، والأمر الآخر: أنه يدعو إلى أمر واضح لا يحتاج إلى أن يقال: لماذا؟ من الذي يجادل في أهمية الصلاة؟ من في مجتمعنا يجهل أنها واجبة؟ ومن في مجتمعنا من يجهل أنه يجب أن يفلق متجره وقت الصلاة؟ هذه قضايا بدهية.
يقول البعض: نُربِّت على كتفه ونكلمه ونعظه، ونأتي له بالآيات والأحاديث، لا بل اضربه عندما يقتضي الأمر ذلك.
المهم أن تستخدم الأسلوب الصحيح.
فالحكمة هنا أن تعاقبة عقاباً يجعله يرتدع، ويحس بالخطأ ويعود إلى الحق، فقد تكون الحكمة -أيضاً- في العقاب، وهي كذلك في كثير من الحالات.(61/14)
دعوة الراغب المحب للحق
الحكمة تكون باللين في التعامل مع الراغب المقبل للحق، ويكون التبيين له بالرفق، وبالهدوء قليلا ًقليلاً.
وأيضاً: من الحكمة مع هذا الراغب: أنك قد تقسو -أحياناً- عليه وإن كان حبيباً عزيزاً مخلصاً وحريصاً على الدعوة، ولكنك تلين مع إنسان أقل من ذلك بكثير، وهذا من الحكمة.
تأملوا في فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع الثلاثة الذين خلفوا، وماذا قال لـ كعب، وهو من أهل العقبة ومن معه كانا شهد بدراً، والذين قيل لهم: {اعملوا ما شئتم فقد غُفر لكم} ومع هذه المنزلة، وهذه القدم الراسخة بالإيمان وبالدين، نزلت بهم تلك العقوبة، عقوبة قاسية، ويكفيكم في بيان قسوتها، أن الله عز وجل وصفها، فقال: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118].
عقوبة شديدة جداً ومع ذلك جاء المعذرون من الأعراب، والمنافقون جاءوا يقولون: والله يا رسول الله، والله ووالله يحلفون الأيمان، فيقبل منهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيذهبون، أين العقوبة؟ لماذا لم تنزل عليهم حينذاك؟ هذه هي الحكمة، هذا الشاب المستقيم الذي عرف الحق والدعوة، إذا ارتكب موبقة، فإنك تقسو عليه، لا قسوةً تنفره ولكن قسوة تردعه، لأنك تضمن رجوعه بإذن الله، لما تعلم لديه من الإيمان، ولما تعلم أن قسوتك عليه وقولك له: أنت مخطئ وما كنت أظنك تعمل كذا، هذا كذا وكذا بقوة، هذا تجعله يخاف ويرتجف ويرتعد لأنه وقع في خطأ عظيم، لكن ضعيف الإيمان أو الذي في أول أمره من الدعوة.
قد تقول له: استغفر الله وتب ولا تعد إلى ذلك، ولا تيأس وهكذا، فهذه من الحكمة.(61/15)
دعوة الغافل العارف بالحق
الصنف الثاني من الناس: وهو الذي يعرف الحق ولا يمانع منه، ولكنه في غفلة عنه، وهذا ندعوه إلى الله: بالموعظة الحسنة.
تأتي إليه وتقول له: يا أخي! هذا حرام، وأنت تعلم أنه حرام، وما كان ظني بمثلك أن يفعل، وأنت كذا، وأنت كذا، لأن الله عز وجل قال: {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] فلتجعلها حسنة، لتهذب عبارتها وأسلوبها بلين الكلام واستعطاف قلبه واستفزاز غيرة الإيمان وحمية الإيمان فيه كأن تقول له: أنت الذي كنا نأمل فيك الدعوة إلى الله، تفعل هذا وهذا، أنت الذي كنا نتوقع منك أن تقوم بواجب الهداية؟ تنحرف، أنت تفعل كذا؟ أنت الذي عندك هذا القدر من العلم، تفعل هذه البدعة -مثلاً- أو توافق على هذه البدعة، فأنت بهذا الكلام، تستثيره، فتجد أنك بهذا الكلام تجعله يقبل إليك ويستغفر الله، وهذه حالات كثيرة مما قد يقع فيه الدعاة، وربما يمارسونه يومياً تقريباً.(61/16)
دعوة المعرض المعاند للحق
الصنف الثالث: وهذا الذي مشكلتنا اليوم معه وإن كانت مشكلة الشباب من الصنف الأول الآن في نظري أهم، فمشكلتنا معهم أهم وأخطر من مشكلتنا مع المعرضين عن الحق، لأننا لو ربَّينا هؤلاء بالحكمة، بأن نعايشهم، وأن نعاني ما يعانون، وأن نعيش مشاكلهم، وأن نوجههم بالدليل، لتغير ذلك تماماً، لكن كأننا الآن ننصرف إلى أن ندعو الفجار، والفساق، فنكسب للدعوة أعداداًَ وأفواجاً جديدة من الناس ليستقيموا، ونحن لم نقم بواجب التربية الحقة مع هؤلاء الذين يأتون ويريدون أن نوضح لهم: بم يبدءون؟ وكيف يتعلمون؟ وكيف يدعون؟ فقد ننشغل عنهم، ونذهب إلى ذلك المعرض ونفرح بأنه تاب ورجع إلى الله، ولاشك أن هذا أمر عظيم أن يتوب أهل الفسوق، ولكن هذا لا يشغلنا عن هؤلاء.
فأقول أيضاً: مشكلتنا مع الصنف المعاند المعارض، أن من الناس من لا يدعوهم إلى الله، ويظن أنه داعية، ونعني بهم الذين يظنون أن الدعوة إلى الله هي موعظة، هي تعليم في المسجد فقط، وهذه الموعظة لايسمعها إلا طلبة العلم، وهذا العلم لايحضره إلا طلبة العلم، لا.
ليس هذا، بل يجب أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وأن نواجه هؤلاء المعرضين عن الله، فندعوهم إلى الطريق المستقيم، ومن الناس من يدعوهم ولكن على غير المنهج الصحيح، فكيف ندعوهم؟ ندعوهم ونجادلهم بالتي هي أحسن، وليس بالمجادلة الحسنة فقط، ولكن بالتي هي أحسن، كما قال الله تعالى -أيضاً- في حث أهل الكتاب: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]، الذين يقولون: عيسى بن الله، وعزيز بن الله والذين قال الله عنهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) [التوبة:31].
فالمعارضون لك، الذين قد لا تطمع على الإطلاق في أن يهتدوا، ولكن ترضي ربك بإقامة الحجة عليهم، وتبين لهم أنك على الحق، وتبين لهم أنهم على الباطل، كيف تدعوهم إلى الله؟ تدعوهم إليه بالمجادلة بالتي هي أحسن، تقول: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] هات ما عندك، لا تتهرب مني هات ما عندك نتناقش، نتباحث نصل -إن شاء الله- إلى الحق.
أحدهم يقول لك: هذا ليس حراماً، تقول له: الحرام ما حرمه الله، والحلال ما أحله الله، اسمع إلى قول ربك عز وجل، اسمع إلى قول نبيك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتعرض عليه الأدلة من الكتاب والسنة التي تبين له أن هذا حرام، ثم تعرض له مفاسد ذلك ومخاطره، وغضب الله -عز وجل- على من فعله وهكذا.
فيقول لك: لا! هذا يجوز، هذا فيه اختلاف، اختلف العلماء، إنما أنتم متشددون، يجادلك، فعليك أن تجادله، بالتي هي أحسن، ولو ثرت وغضبت، وانفعلت، لخسرت هذا الرجل ربما إلى الأبد، نسأل الله العفو والعافية.
فيجب أن تكون بالتي هي أحسن، فإذا كانت الدعوة إلى الله على بصيرة وبحكمة، وكانت بحسب أحوال الناس، وبحسب مواقفهم من هذه الدعوة، ووضعت كل أمر في موضعه، وكل كلمةٍ أو موعظةٍ أو عملٍ في موضعه الصحيح، ونظرت إلى عمل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلمت أن حياته كلها دعوة، وأنه في كل أحواله داعية إلى الله، وأنه قدوة لك في كل هذه الأمور، ووفقك الله عز وجل إلى أن تعرف اللين، وأين تضع الرفق، وأين تنزل كل دليل من أدلة السنة والسيرة في محله الصحيح، فهذا هو الذي وفق إلى الخير.
نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا وإياكم جميعاً من الموفقين لذلك، وأن يبصرنا بديننا وبدعوتنا إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.(61/17)
وصايا عامة
أُنزل القرآن على قوم كان منبع فخرهم فصاحة اللفظ وبلاغة البيان، فكان للكلمة مدلولها وأثرها في قلوب ذلك الجيل؛ ولذلك من آمن منهم بالله وقرأ كتاب الله تمسك به، وعمل بمقتضاه، وعرف فضله على ما كان موجوداً عندهم من كلام فصيح وأشعار بليغة، وعرف أن هذا القرآن إنما هو كلام الله وليس من كلام البشر؛ ولذلك أنزلوه منزلته، وتنافسوا في أخذه، وتفاضلوا بناءً على ذلك، كما أنهم عرفوا فضل من بُعث به، وهو نبي الهداية محمد -صلى الله عليه وسلم- وعرفوا أن حبه ومنزلته إنما بلغها بما جاء به؛ فأحبوه حباً أدى بهم إلى صدق اتباع هديه، والسير في الطريق الذي حدده لهم؛ وأكبروا فعل من خالفه وقاتلوه أشد القتال، وأيقنوا أن الله قد أتم دينه، فما كان موجوداً لديهم من علم وقول أو فعل عملوا به وما بعد ذلك لا يكون إلا الغواية والتردي في مسالك الهوى والزيغ والضلالة الموصلة حتماً إلى سخط الله وعقابه.(62/1)
قيمة القرآن في نفوسنا
الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وبعث نبيه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:(62/2)
الغفلة عن القرآن القرآن
إن مشكلتنا نحن المسلمين جميعاً مع تفاوت فيما بيننا أننا قد ننسى قيمة هذا القرآن، ولو فكرنا في أسباب ذلك فلعلنا نهتدي إلى علاجه، وإلا فكيف يهجر القرآن ولا يؤبه له؟! مع أن هذا القرآن جعل الله آياته تحيي القلوب، فأحيت أمماً وشعوباً, وأيقظتها إلى الهداية والخير والصلاح.
كيف نغفل عن كتاب الله عز وجل؟!! وقد جعل الله فيه الهداية والسعادة الكاملة، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] في كل أمر من الأمور، وكم يختلف الناس، في أمور دنياهم، وفي أديانهم، وتقربهم إلى الله تعالى، وفيما بينهم، وكيف يكون الأفضل؟ وأين الصواب؟ وما من علم ولا فن ولا أمر من الأمور، إلا وللبشر فيه آراء وآراء، وخلافات، فأين هو الطريق الأقوم؟ وأين الهداية في خضم ذلك الخلاف؟ يقول تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] ورحم الله الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، فإنه في تفسير هذه الآية قد أجاد وكتب ما لم يكتبه غيره، فجزاه الله خيراً.
ولو أننا تدبرنا كتاب الله عز وجل من خلال فهمنا لهذه الآية وأمثالها، لصلحت أحوالنا، فالقلوب الميتة، والعيون العمي، والآذان الصم تحيا -بإذن الله- وترى الحق وتتبعه، عندما تقرأ وتتدبر كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
والشقاء والضياع والخسارة التي تعاني منها الأسر والمجتمعات والأمم، كلها تتبدد خيوطها وأوهامها إذا أقيم كتاب الله تبارك وتعالى، وإذا أقيمت حدوده، ووقف عند أمره ونهيه، واتبعت سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه.(62/3)
مدارس تحفيظ القرآن تعيد قيمة القرآن إلى نفوسنا
ومن فضل الله تعالى أن وجدت مدارس متخصصة لتحفيظ القرآن الكريم، وهذه نعمة كبرى، وأنا أغبط طالب ومعلم تحفيظ القرآن الكريم لأنهم هم المورد المفقود في العالم الإسلامي، ولأنه حين يوجد شاب يحفظ كتاب الله تعالى، ويجيد قراءته، إلى جانب القدرة والكفاءة ليتعلم أي علم من العلوم الدنيوية معه، فهو بذلك يوجد الشيء المفقود من هذه الأمة.
وحيث أن أمام الشاب اليوم في العالم الإسلامي طريقين: إما أن يسلك طريق القرآن؛ فتوصد في وجهه أبواب الرزق والوظيفة، وإما أن يسلك طريق الدنيا وتعلمها بأي سبب من الأسباب، ولا يجيد القرآن ولا يحس به، إلا ما يقتطعه من وقته في أوقات فراغه إن كان لديه فراغ.
ولكن أنتم يا معلمي القرآن من أجل القرآن تعملون وتشتغلون، ويأتيكم الطلبة من أجل كتاب الله، وكم من أب حريص كل الحرص على أن يدخل ابنه مدرسة تحفيظ القرآن، ولو أن يدفع ما يطلب منه أن يدفع، ولو أن يضحي بما أمكن أن يضحي به، فقد يأتي من مسافة بعيدة، ولكنه يحب أن يدخل ابنه في هذه المدرسة، وقد يضحي بأمور كثيرة، وهذه الخصيصة التي تعطى لمن يدعو إلى الله، ويعلم كتاب الله، وهذا الأجر الذي يعطيه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو خير وأبقى.
فهذه تجعل علينا جميعاً مسئولية مشتركة تجاه هذا الكتاب، وتجاه تنمية الطالب والأستاذ، فنريد الطالب أن يعي ويتدبر ويفهم أهمية وقيمة هذا الكتاب وقيمة ما يتعلمه، فإن الحجارة في الأرض كثيرة، ولكن الذهب فيها هو القليل، وإذا كنا نريد أي طالب فالدنيا مليئة بالمدارس، وبالطلاب، ولكننا نريد طالباً يحفظ كتاب الله، ويقيم حدوده، ويأتمر بأمره وينتهي بنهيه.
وهذا هو الذهب النادر، وهذا الذي نحرص عليه، وهذا هو الذي مهما ضحينا من أجله، فلا خسارة في الجهد ولا ضياع، لأنه في سبيل الله ومن أجل كتاب الله عز وجل، وهذا الذي يجب أن نتعاون عليه نحن الآباء والمدرسين والمجتمع كله، هذا هو الثمرة، وهذا هو الخلاصة.(62/4)
المفاضلة بالقرآن
كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفاضل بين أصحابه بالقرآن، وكذلك في قيادة الجيش، وفي إمامة الصلاة، يتفاضلون بالقرآن لأنهم عاشوا في مجتمع أو جاهلية جهلاء، وعرفوا نكدها وشقاءها، ووثنيتها وشركها، ولما جاءهم فضل القرآن أحسوا بقدر النعمة، وعرفوا قيمته, وتمسكوا به، فكان ربيعاً لقلوبهم، وجلاءً لأحزانهم، وذهاباً لغمومهم.
فكانوا يلجئون ويهرعون إلى القرآن والصلاة، وإلى قراءته في الصلاة، أو في غيرها؛ إذا حزبهم أمر من الأمور، كما ثبت ذلك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكما كان أصحابه من بعده، كانوا يستعينون بقراءته، فتذهب همومهم وأحزانهم، والتي هي هموم في سبيل الله عز وجل، وفي الدعوة إليه، فما بالكم بقلوبٍ همومها في الدنيا، وأحزانها للدنيا؟! فهي أحوج إلى أن تذهبها, وأن تجلي من صدئها بكتاب الله عز وجل.
فإذا التحقت بمدرسة تحفيظ القرآن، فاحمد الله، واعلم أن الله يختبرك في أمر عظيم، فإما أن تكون طالباً تستحق حفظ كتاب الله، وإلا فإنها فتنة وستسقط في ذلك الامتحان، وإذا كنت مدرساً لتحفيظ القرآن، فإن هذا يجعلك تستشعر هذه المسئولية، وإلا فالمدرسون كثير والمدارس كثيرة، فلماذا أنت في تحفيظ القرآن الكريم؟! إذاً هناك أمر عظيم، هناك اختبار من الله عز وجل لك، فإما أن تكون من أهل القرآن وحملته، وإما أن تخفق -عافنا الله وإياكم- فيكون أشد وأعظم بلاء من ذلك الذي يأخذ أجراً على عمل يقوم به لغير كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فهذا القرآن يوجب على كل واحد منا أشياء: فالحاكم يوجب عليه القرآن أن يقيم حدود الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من خلاله، وعلى المربي أن يربي الشباب عليه، وأن يكون بين ناظري الأب ليقوم به في بيته وفي أسرته، وأن يكون موضع اهتمام الابن ليحفظه ويتعلمه، وكل منا مخاطب بهذا القرآن، وكل العالمين مخاطبون به أيضاً، ولكن مسئولية من تصدَّر لتعليمه ولتحفيظه كبيرة، وكذلك الأجر الذي يحسب له بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كبير إذا قام بواجب هذا القرآن وعلمه وحفظه، وخرج من تحت يديه جيل يصح أن يسمى جيلاً قرآنياً، كما كان أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هذه المهمة وهذا هو الواجب الذي يستشعره الإنسان مع فرحته وشعوره بأنه يعيش في جو يزكيه ويطهره بتلاوة كتاب الله عز وجل، إلا أنه يجب علينا أن نستشعر المسئولية، وأن نذكر أنفسنا أولاً وإخواننا ثانياً بعظم هذه المسئولية الملقاة على عواتقنا، وأن نتوكل على الله عز وجل، ونعرف قيمة هذا القرآن، وندعو إليه، ونعمل به، ونحيي قلوبنا بذكر الله، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد تكفل لمن قام بهذا القرآن وعمل به ودعا إليه، أن ينصره في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] فلا طريق إلى النصر، ولا إلى الفلاح والنجاح والسعادة إلا بالقرآن، نسأل الله أن يجعله ربيع قلوبنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا، إنه سميع مجيب.(62/5)
خطر بدعة المولد
من البدع المشهورة بدعة المولد التي راجت في ديار الإسلام والتي تحتاج إلى تنبيه وتوضيح خطرها، وكلنا يعلم خطر البدعة، وشر البدعة، وشؤم البدعة.
وأول بدعة ابتدعت في الدين، وترسخت في جماعة، وعملت بها فرقة، هي بدعة الحرورية، الخوارج، ومع شدة عبادتهم وكثرة اجتهادهم، التي قال عنها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وقراءتكم إلى قراءتهم}، وفي وقت الصحابة وهم أهل العبادة والفضل، كان أولئك الخوارج أكثر منهم عبادة، وأكثر منهم قراءة، حتى إن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، لما دخل عليهم هو وأبو سعيد الخدري عجبا من شدة عبادتهم واجتهادهم، لما رأيا أن جباههم وركبهم عليها مثل ركب الإبل، من شدة وكثرة السجود، ومع ذلك فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر فيهم من الوعيد الشديد، أنه لو أدركهم لقاتلهم كقتال عاد وثمود.
وقد كان علي ومن معه من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرحين مستبشرين لما أظفرهم الله تبارك وتعالى على الخوارج وقتلوهم، لأنهم أصحاب بدعة مع هذا التعبد الشديد.
وهكذا البدع مهما كان عليه أصحابها من العبادة والتقوى في ظاهر حالهم، أو فيما يعلمون من أمور دينهم، لكنهم يتعمدون هذه البدع، فيكون لها من الشؤم ما يفسد تلك العبادة، والعياذ بالله!(62/6)
تحقيق محبة النبي صلى الله عليه وسلم
ومحبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تمام الإيمان برسالته؛ لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين}، فهي من أصول ديننا، ومن معاني الإيمان به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نحبه حباً يفضل حب أنفسنا وأولادنا ووالدينا والناس أجمعين، هذا هو الذي نعتقده ونشهده في حقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولكن كيف نعبر عن هذه المحبة وما مقتضى هذه المحبة؟ هذا هو الذي يخطئ فيه كثير من المسلمين، فمنهم العامد الهدام، ومنهم الذي لا يدري، ومنهم الغافل الذي يظن أن هذه قربة يتقرب بها إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والقلب البشري كالإناء لا يحتمل إذا وضعت فيه عسلاً أن تضع فيه ماءً أو غير ذلك، وكذلك عمل وعمر الإنسان، فإما أن يعمر العمر بالطاعة، وأن يكون العمل كله طاعة، وإما أن يكون محل الطاعة معصية، أو مكان السنة بدعة، وهذا لا بد منه، لأن القلب لا يحتمل غير ذلك، فإذا أحدثت بدعة في الدين، فإنها تحل محل السنة، وكما روي ذلك في حديث عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه: {ما أحدث قوم بدعة إلا رفع من السنة مثلها} وهكذا.
أنزل الله هذا الدين تعبداً لجميع حياة الإنسان، وأي جزء من حياة الإنسان يصرفه في بدعة، فقد رفع شيئاً من السنة بلا ريب وبلا شك.(62/7)
نشأة بدعة المولد
وهذه البدعة التي يسمونها المولد، عندما تتبعت كيف وجدت وكيف نشأت، تأكد لي أن أول من أوجدها هم العبيديون، الذين يسمون أنفسهم بالفاطميين أتباع الدولة الفاطمية في مصر، وهذه الدولة دولة يهودية أثبت ذلك علماء الإسلام، وتكلم علماء الإسلام والمؤرخون أنها يهودية، القدماء منهم والمتأخرون، حتى من كان باطنياً على دينهم، ثم رجع عنه، وكتبهم الآن طبعت وحققت ولله الحمد.
ويدعون أنهم ينتسبون إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واليهود كما نعلم أعداء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأعداء المسلمين، واليهودية سممت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذراع الشاة التي أنطقها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا شك في ذلك.
فهل يعقل أن أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأفضل القرون القرون الثلاثة لا ينتبهون أن هذا من محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيعملونه ويعلمونه، وينتبه اليهود لذلك؟! فالذي حيَّرني في هذه المسألة أن هناك سراً، ولعل السر والله أعلم، أن مولد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير ثابت، ولا ندري في أي يوم ولد، وفي أي شهر، فقيل: إنه في ربيع، وقيل: إنه في رمضان، وقيل: في أول الشهر، وقيل في آخره، وكان العلماء كـ ابن عبد البر والمالكية يرجحون أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولد في رمضان، بدليل أن القرآن أنزل في رمضان، وهذا ثابت في القرآن، والقرآن أنزل عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تمام الأربعين سنة، ونحو ذلك من الأدلة، فوقت مولد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير معروف.
فنحن لا نتكلم عن مناقشتهم بالأدلة، بل نحلل القضية بالتحليل التاريخي والعقلي، وما وراء هذه المسألة، فإذا كان مولده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير ثابت، مع أن وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثابتة في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول، فما الذي يتوقع من اليهود أن يفعلوه وهم أعداء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! فقد جعلوا تاريخ وفاته المؤكد أنه في الثاني عشر من ربيع الأول عيداً لهم، وموهوا على المسلمين؛ لأنهم كانوا يحكمونهم.
وكان المسلمون يعلمون أنهم كفرة، وأنهم زنادقة، وخاصة في مصر والمغرب لأنهم كانوا متضايقين منهم أشد الضيق، ولذلك عندما جاء صلاح الدين وقضى على دولتهم لم يبق في مصر والمغرب رافضي واحد ينتمي لهذه الدولة، من شدة ما كان الناس يكرهونها.
فكيف يستطيعون أن يهدموا ويفعلوا ويموهوا على هؤلاء الشعوب وعلى المسلمين، وأن يفعلوا احتفالاً بالوفاة، قالوا: احتفالاً بالمولد فجعلوه مولداً، يوقدون فيه الشموع، ويبسطون الموائد، وتأتي الخيول، وتقام المهرجانات والاحتفالات، وهناك يظهرون الفرح والابتهاج، لماذا تفرحون؟ قالوا: الناس يفرحون على أنه مولد، واليهود يفرحون على أنه موت.
وإن شئتم بعض الأدلة على ذلك، فإن محمد الفاتح؛ عندما فتح القسطنطينية، فإن أوروبا تألمت ألماً شديداً -اليهود والنصارى- وخاصة النصارى، تألموا جداً أن عاصمتهم تفتتح، فماذا عملوا؟ جعلوا يوم وفاة محمد الفاتح عيداً، يقدمون فيه الولائم في كل أوروبا، ويجمعون الناس، ويذبحون الذبائح، ويبتهجون يوم وفاته.
وهذه من عادة أولئك القوم، فمن عادة اليهود والنصارى وبعض الشعوب أن تجعلوا يوم وفاة أكبر عدو لها عيداً تحتفل به وتبتهج، ومن هنا كان المولد أول من أحدثه: هم هؤلاء الزنادقة اليهود، وجعلوه عيداً واحتفالاً، لأنه يوافق موت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هذا هو التحليل التاريخي، بغض النظر عما تعلمونه من أدلة ونصوص، فإن الإنسان لا يجوز له أن يحتفل بأية بدعة، وكفى في ذلك ما صح عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} أي: مردود على صاحبه غير مقبول، بل هو مأزور غير مأجور، وعليه إثم البدعة، وهذه الأحاديث والنصوص الكثيرة التي جعل الله التمسك بالسنة وترك البدعة أمراً.
إحدى وصايا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآيات العشر التي أنزلها عليه الله، قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] وهي السنة، {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153] وهي البدعة {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] ومع هذا التأكيد إلا أن أهل الضلال والبدع لا يزالون في غيهم يعمهون.
حتى أنهم جعلوا عزاءهم يوم كربلاء ومولد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متشابه الكلام والأناشيد والنغمات، فمع اختلاف موضوعهما وكل منهما في جهة إلا أن أعداء الإسلام يقولون: هدمنا هؤلاء بالتشيع، فلنهدم هؤلاء بالتصوف والبدع، ولا يبقى للإسلام قائمة، هذه عقول تخطط وتعمل ليل نهار، يمكرون ويخططون، ويوحي بعضهم إلى بعضٍ من الجن والإنس، لكي يفسدوا هذا الدين، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي يعلم ما يبيتون، وهو الذي يعلم ما يمكرون وما يخططون، ومن أجل ذلك بيَّن لنا الله المحجة البيضاء، وأوجب علينا سلوكها، لنجتنب أولئك.(62/8)
كيفية القضاء على هذه البدع
ولن نتقي شر البدع وأهلها إلا باتباع ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد قالها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قالها في أمر يسير عادي وهو الذكر قال: [[إما أن تكونوا على ضلالة وإما تكونوا أهدى من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]] ففي كل بدعة تقام إما أن يكون أهدى من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإما أن يكون على ضلالة، وهكذا كل بدعة لم يفعلها أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلهذا أحببت أن أنبه على هذه المسألة.
ومن كان في حي أو منطقة غافلة عن هذا الموضوع، فعليه أن ينبههم ويذكرهم، فقد ينتبه الغافل، ومن كان في مجتمع أو في بيئه يظهر فيها هذا الأمر فليبين لهم بالأدلة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبالأسلوب الهادئ المقنع، ويحرص على من يعلم اقتناعه بهذه البدعة من كبار هؤلاء القوم كالتجار ونحوهم، ويتودد إليهم ويكلمهم بالحكمة، ويبين لهم أن نفقة المال إن لم تكن في سبيل الله فلا خير فيها، وأنكم تريدون الأجر وتضعونه في الإثم وأمثال ذلك.
وليستعن بإخوان ليعينوه، لأنه -كما تعلمون- هدفنا الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأن يترك الناس هذه الضلالات والبدع، ولو كان همنا إقامة الحجة لكان الأمر أهون من ذلك، لكن القضية أكبر من إقامة الحجة، وهو أن نطمع في الهداية، فتحصل بإذن الله عز وجل، فكم منهم من اهتدى وتاب والحمد لله، فهذه السَنَة يقول: أنا كنت أعمل ذلك في العام الماضي، ولكن هذه السنة فهمت، فنقول: جزاك الله خيراً، وهذا المال مثلما كنت تنفق في البدعة فانفق منه على السنة، والجهاد في سبيل الله، وتحفيظ القرآن، وأعط الفقراء والمساكين، واعمل الخير وتصدق، وهذا يكفر عنك ما كنت تعمل.
أصحاب البدع والضلالات كثير، وعندنا ليست المسألة كثير أو قليل، لكن المسألة عندنا اتباع أو ابتداع، وأصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم القدوة في هذا الشأن، والسلف هم القدوة وحدهم، فما عملوه نعمله وإن خالفهم من بعدهم، وما لم يعملوه لا نعمله، وإن عمل به من بعدهم كائناً ما كان عددهم، فالعبرة عندنا هي بهذا.(62/9)
الاشتغال بالجهاد
وأما القضية الأخرى وهي قضية الانشغال بالجهاد: أولاً: يجب أن نلزم أنفسنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبالجهاد، فإن هذا مما يظهر الله به الحق على ألسنتهم، فهم يقولون: إن الصحابة اشتغلوا بالجهاد، ونحن اشتغلنا بالموالد والموائد، ولولا الموائد ما كانت الموالد! إذاً هذا يقول: الصحابة في وادٍ وأنا في وادٍ آخر، وهذه شهادة على نفسه، لأن الصحابة الذين جاهدوا ما كانوا يجاهدون فقط بحمل السيف، إنما جاهدوا بالدعوة، وبالعلم، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم كتاب الله عز وجل وبث سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأحوج ما تحتاج إليه الأمة الإسلامية هذا الجهاد، فأين الفراغ الذي عندكم؟ ثم يعترفون ويقولون: إن الصحابة لم يحتفلوا بالمولد لأنهم انشغلوا بالجهاد والدعوة وسواها، وهذا أيضاً من العجب! تقولون: لم يفعلوه لأنهم انشغلوا، ونحن حتى إذا لم ننشغل لا يجوز لنا أن نفعله، وإلا كما قال عبد الله بن مسعود عن حلقة الذكر التي رآها: 'إما أنكم أهدى من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإما أنكم على ضلالة' ولا بالكثرة ولا عبرة بقضية الانشغال.
كم من الأمور التي أهملناها! وكم تركنا من ديننا! وليس الجهاد هو العائق الوحيد، لكن العائق الذي وقف أمام أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مثل هذه الأمور وغيرها، هو أنهم يعلمون أن صاحب البدعة مأزور غير مأجور، ولأنهم كانوا وقافين عند كتاب الله، وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولذلك لم يفعلوها، وإلا فهي أيسر عليهم من الجهاد، وقد يقال: إن الذين على الرباط وفي الثغور في الفرس والروم منشغلون بالجهاد، لكن الذين كانوا في المدينة، فليلة في السنة لا تؤثر على وقتهم، وخاصة في عمل فيه محبة للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم الذين كانوا أكثر الناس ألماً لوفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولفقده، وأكثر حباً له.
تعلمون حديث أم أيمن لما زارها أبو بكر وعمر، فوجداها تبكي على وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالا: ما يبكيك يا أم أيمن؟ أما تعلمين أن ما عند الله خيرٌ له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذه الدنيا؟! قالت: والله ما أبكي وإني لأعلم أن ما عند الله خيرٌ لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذه الدنيا، لكن أبكي لأن الوحي قد انقطع من السماء فهيجتهما على البكاء، فبكيا رضي الله عنهما.
أبو بكر رضي الله عنه جاهد بماله كله وتصدق، ويقول له الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ما أبقيت يا أبا بكر؟ فيقول: الله ورسوله}، فلماذا لم ينفق من ماله شيئاً ليحيي ليلة مولد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ لأنه يعلم أنها بدعة، وأن محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إحياء سنته وباتباعه، وبتعظيمه في قلوبهم، وتعظيم أمره ونهيه، وأن ذلك أفضل وأعظم عندهم من أن يبتدعوا في دين الله عز وجل ما ليس منه.
يقول أحد السلف: [[ما عبدت الأصنام إلا بالشبهات]] أي: أن الكواكب والحجارة ما عبدت إلا بشبهة، يقولون: هذا الحجر مبارك، لأن هذا البيت بناه إبراهيم، وهذا الحجر منه فأخذوه، ثم طافوا حوله وعبدوه، فبالشبهات والتلبيسات عبدت الحجارة من دون الله.
فلا نستغرب من أية بدعة من البدع أن يكون حولها شبهات وتلبيسات وتوهمات، فهذه طبيعتها، فلو جاء الكفار مثلاً وقالوا: اكفروا، لما كفر أحد، ولو جاء إبليس وقال: لا تصلوا، فلن يطيعه أحد، لكن يجعل حولها شبهات وتلبيسات وشهوات، ويقول للإنسان: الآن لا يجب عليك الصلاة، وستصليها فيما بعد، حتى يضيع المرء الصلاة، وهكذا.
وهناك قضية أهم من قضية المولد، وهي إهمالنا نحن في تمحيص العقيدة، وفي نشر العلم الشرعي الصحيح، والأمة التي تعلم أن كتاب الله حق، وتعرف العقيدة الصحيحة، والتوحيد الصحيح، مهما حاول الدجالون معها فلن تقبل منهم، لكن مع الجهل ومع الخواء، ومع تخاذلنا وتكاسلنا بالقيام بالدعوة، صار كل من هب ودب يقول ما شاء، ويُسمع له، ولو قال أحد: أنا رسول يوحى إلي، لصدقوه وعبدوه! كما جاء أن الدجال يقول: (أنا الله) فيصدقونه ويتبعونه، كم يؤمن بالدجال؟ كثير، وكم يحارب الدجال؟ قليل، فدعوته يلقى لها رواجاً، لكن متى هذا؟ في غياب الحق، ولو ظهر الدجال والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الحياة، هل كان يجد هؤلاء الأتباع؟! ولو ظهر أحمد القادياني، هل يجد ما وجد من الأتباع؟ لكن الآن أي ناعق يظهر بدعوة سيجد الأتباع، لوجود الخواء في قلوب الناس.
إذا كان طالب العلم شحيحاً بما تعلم، ويقصر في تبليغ الدعوة إلى الله عز وجل، والعامي مشغولاً بدنياه، ويريد أن يعبد الله وتأتيه هذه اللحظات، وهذه الحسنات، ويقول: أنا أعبد الله من خلال الدين، وأؤدي عن نفسي هذا الواجب، حتى إذا قيل له: أنت يا أخي ليس عندك دين فإنه يحضر المولد، ويبرهن لك ويقول: أنا على دين! إذا كان هذا حالنا نحن في تقصيرنا وإهمالنا، فلا نستغرب أن توجد أية بدعة، فمثلاً: كان أحد الدجالين ساحراً دجالاً وكان في مكان قريب من هذا المكان، وكان هناك عشرة شباب يذهبون إليه في الساعة الواحدة ليلاً ويسهرون عنده، ليعلمهم السحر واستحضار الجن، كيف يذهبون إليه ويصدقونه؟ لأن العلم غائب عنهم، حتى هدى الله واحداً منهم ثم شاء الله وكتب، ووضع ذكرياته عن هذا الرجل وذكر اسمه، وكيف كان يعلمهم، وكيف كان كذا وكذا إلى آخره.
وهذا وقع نتيجة الجهل لغياب الدعوة إلى الله عز وجل، ولغياب نشر العلم الشرعي، كلكم -ولله الحمد- تعلمون، وكلكم أفضل مني في هذا ولا شك، لكن هل نحن يد واحدة؟ هذا يعقد مجلساً، وهذا يقيم ندوة، وهذا يكتب مقالة، وهذا كذا، فنحول القطرات إلى تيار.
فإذاً لا بد أن نتعاون جميعاً في مثل هذه المناسبات، ونذكر أنفسنا بهذا الشأن أينما كان، ونتعاون في تأدية الواجب لله، وندعو إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونحيي سنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسيكون لنا عند الله الأجر الذي وعد به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أحيا سنته.
والحمد لله رب العالمين.(62/10)
الصبر على الابتلاء
تحدث الشيخ حفظه الله عن أمور مهمة تتعلق بالصبر، وحاجة الناس إليه، وعلى وجه الخصوص الدعاة إلى الله، وذلك لما يقابلهم من عقبات تحتاج إلى الصبر، ثم بين ما يترتب على الصبر من الثواب الجزيل، مستعرضاً بعض النماذج من صبر الدعاة الأوائل، مبيناً أنه لابد من الابتلاء وعليه فلابد من الصبر، فهو حيلة من لا حيلة له، وهو أساس النصر، وكلما زادت مسئولية الانسان صار الصبر في حقه أولى وأحرى.(63/1)
أهمية الصبر وفضله
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على خير خلقك محمد سيد الدعاة والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: أتحدث إليكم أيها الإخوة وأنتم -ولله الحمد- رجال الحسبة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) الرجال القائمون على الفريضة التي تركتها الأمة، وغفلت عنها ونسيتها، فاعتراها ما اعتراها من الذل والضعف والهوان، وفيكم بعد الله سبحانه وتعالى، وبعد توفيقه وتأييده الأمل -إن شاء الله- بإعادة هذه الأمة -مع من ييسر الله ويوفقه للتعاون على البر والتقوى- إلى رشدها، وإعادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي به قِوام حياتها، والذي هو سِر أفضليتها على العالمين.
والحمد لله أنكم تقومون بهذا العمل أيضاً في بلد الله الحرام، وهذا جهاد على جهاد في هذا البلد الذي شرفه الله تعالى وعظمه، وقال في حقه: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] فإذا كان هذا عقاب الذي يريد فقط؛ فكيف بالفاعل؟! وأنتم تحولون -ولله الحمد- دون فعل الموبقات والمجاهرة بالمنكرات في بلد الله الحرام، وهذا وإن كان واجباً على كل مسلم، لكنكم تضطلعون به رغم قلة الإمكانيات والجهود ففي هذا -إن شاء الله- غبطةٌ لكم من إخوانكم الذين يغبطونكم على هذا العمل الجليل، وفيه تذكير لكم أيضاً بواجب الاحتساب لله تعالى، والإخلاص لوجهه الكريم، لتنالوا بذلك أجركم كاملاً غير منقوص.
فنحن نشكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي هيأ لنا مثل هذا اللقاء، ونشكر -كذلك بعده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الذين كانوا السبب في هذا الاجتماع الطيب المبارك سواء في رئاسة الهيئات، فضيلة نائب الرئيس العام، أو في مكة فضيلة الشيخ الفراج، أو المسئولون في هذه الجامعة، الذين حرصوا على إقامة هذه الدورة، وحياكم الله جميعاً، وأسأل الله العظيم الجليل لي ولكم التوفيق والسداد في القول والعمل.
الموضوع عن الصبر والكلام يطول فيه جداً كما قال الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه وأرضاه: إن الله ما عظَّم شيئاً في كتابه كما عظَّم الصبر، فقد ذكره في أكثر من تسعين موضعا.(63/2)
فضل الصابرين ودرجاتهم
وأما فضل الصابرين ودرجات الصابرين فمنها: ما ذكره الله من مضاعفة الأجر لهم كما في قوله: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [القصص:54].
ومنها: ما ذكر من توفيتهم أجرهم بغير حساب، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
ومنها: بيان وذكر معيته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهم كما في قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153]، ومنها ما ذكره عز وجل في الاستعانة بالصبر على ما يواجه الإنسان، كما في قوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة:45] وكما في قوله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:96] وكما في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود:11] وكما في الوصية به كما في قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
فلا يتم للإنسان حقيقة اليقين والإيمان إلا بالصبر، هذا في حق كل مسلم، وفي حق كل مؤمن، ولكن عندما نتحدث عن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، يكون الكلام أخص من ذلك، وتكون الحاجة إلى الصبر أعظم من ذلك.(63/3)
حاجة الدعاة إلى الصبر
لعل فيما ذكره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في وصية لقمان لابنه: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] إنَّ التعقيب بالصبر بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فيه إشارة إلى أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر هو أحوج من غيره إلى الصبر؛ وأن كل من دعا إلى الله وآمن بالله لابد أن يبتلى وأن يمتحن، ولا بد أن يعادى كما قال سبحانه: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُواءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1 - 2] أي لا يمكن ذلك، ويقول الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) [الفرقان:31].
فكل نبي وكل صاحب دعوة له أعداء من المجرمين، وكل آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر له أعداء من المجرمين، فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يُصادم الناس في رغباتهم، وفي شهواتهم، وفي مطامعهم، وفي مآربهم وملذاتهم؛ والناس يتهافتون عليها كما مثَّل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك بأنهم يتهافتون في النار كما يتهافت الفراش والذباب، ولكنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {فأنا آخذ بحجزكم عن النار} وهذا العمل لا يقوم به من بعده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا العلماء والدعاة والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، لأن الناس يتهافتون على ما يضرهم.
فلو أبيح الزنا -عياذاً بالله- لتهافتوا عليه كما يتهافت الذباب على القاذورات، ولو أبيحت الخمرة؛ لشربها أكثر من ترى من الناس، ولو أبيح أي نوع من أنواع الفساد؛ لرأيتهم يتهافتون عليه، قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [الأنعام:116].
وأما إذا اجتمعت مع هذه الشهوة والرغبة شهوات أخرى؛ كأن يكون الرجل ذا منصب، أو كأن يكون ذا مال وجاه عند الناس؛ فإن ردّه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون أكبر، فيستعظم ويستفظع أن رجلاً في مرتبة كذا ينتقد عليه وهو صاحب الرتبة والمرتبة والجاه والسلطان ويقول له: اتق الله، فهذا حال من أخبر الله تعالى عنهم بقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206] نعوذ بالله من ذلك، ولكن هذا أصبح حال أكثر الناس الآن.
فإذا كان هذا في زمن كثر فيه الفساد , واشتدت غربة الدين -كما ترون- وضعف فيه سلطان أهل الحق، وأصبحوا لا يخلو حالهم من قلة أو ذلة، فإن الأمر يكون أشد، وإن الصبر يكون أحوج ما يكون له العبد ما تحتمله هذه الكلمة من أنواع الصبر.(63/4)
الصبر على أذى النفس والأهل
نعم.
الصبر على أذى النفس، وعلى هوى هذه النفس الأمارة بالسوء والتي تقول لك: يا عبد الله.
الناس مرتاحون, الناس لا يعادون خلق الله, الناس يأكلون ويشربون، الناس في وظائف مرفهة منعمة, الناس في أجور عالية, وأنت في هذا المجال، ماذا تقصد، وما فائدتك؟ فهذه سهوة لا بد أن تردها وأن تقمعها, وأن تقول لها: أيتها النفس: اخسئي ولا تتكلمي؛ فإنني أعمل عمل الأنبياء.
وهذا العمل لو لم نتقاض عليه أي أجر فإن رسل الله الكرام قالوا لقومهم -كما ذكر سبحانه-: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:164] ولكن ما جاء من عند الله فهو خير.
ولاشك عند من يُقَدر حال الدعوة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ أن أولى ما ينفق عليه ومن أحق الناس بالعطاء الجزيل هم رجال الحسبة؛ لكن إذا لم يحصل ذلك فهنا لا بد من الصبر.
والصبر يكون كذلك مع الأهل: لأن بعض الناس قد يصبر وقد يقاوم نفسه، ولكنه قد ينهزم أمام أهله -الزوجة أو الزوجات أو الأبناء- الذين يقولون: لقد أضعتنا، فالليل في دوريات، والنهار في دوامين، لم لا تفعل كذا أو تأتي بكذا؟ إذاً: نحن ماذا؟ دعك من هذا العمل، اترك هذا العمل، أرحنا منه، وافتح محلاً إلخ.
وهذا من الفتنة والابتلاء، فقد ابتلى الله سبحانه تعالى نوحاً عليه السلام بامرأته وابنه, وابتلى لوطاً بامرأته, وابتلى إبراهيم بأبيه، فلا نستغرب هذا، فقد ابتلي به كل الأنبياء.
فلابد من الصبر على ابتلاء الأهل وعلى ما يقولونه، وكذلك يكون الصبر على الابتلاء الحاصل في العمل نفسه.(63/5)
ابتلاء هذه الأمة بالفرقة والاختلاف
إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كرم هذه الأمة، فهي أمة مكرمة مفضلة؛ لكنها لابد أن تأخذ عقوبتها إذا عصت الله، وإن كانت عقوبتها أخف من غيرها، تكريماً لها وتشريفاً لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستجابة لدعائه، {لمَّا قال سبحانه: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ قَالَ: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام:65] فقَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِك، فقال الله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65] فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هاتان أَهْوَنُ -أَوْ قال- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا أَيْسَر} رواه البخاري والترمذي وأحمد.
وعن عامر بن سعد عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ الْعَالِيَةِ، حَتَّى إِذَا مَرَّ بِمَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ دَخَلَ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، وَدَعَا رَبَّهُ طَوِيلًا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْنَا فَقَال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي اثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا} رواه مسلم وأحمد.
أي: أعطاه ألا يهلك أمته بعذاب من فوقهم، ولا من تحت أرجلهم؛ ومنعه مشكلة الفرقة والاختلاف في الرأي، وفي الاجتهادات.
أقول: بالنسبة للعمل: فأنت ترى أن إنكار المنكر يكون بهذه الطريقة، ورئيسك المباشر قد يرى غير ذلك، والرئيس الذي أعلى منه قد يرى خلاف ذلك، فالمفتش له رأي، والرئيس العام -أحياناً- يكون له رأي وهكذا، وأنتم كلكم ليس لكم غرض إلا إنكار المنكر، لكن الفرقة تدب، ثم يجعلها الشيطان مشكلة، ثم يجعلها أحزاباً وخصومات وأحرص ما يحرص عليه الشيطان: أن يوقع الفتنة والعداوة بين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر, وبين العلماء وبين الدعاة, وهذا هو مكسب الشيطان.
إن الشيطان لا يريد أن يوقع العداوة بين من يشربون الخمر -مع أن شرب الخمر من ضروراته حصول العداوة- أو من يلعبون القمار والميسر إلخ.
لكن الشيطان أحرص ما يكون على هذه الحالقة؛ كما جاء عن الزبير بن العوام قال: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكُمْ لَكُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ} رواه الترمذي وأحمد، فالفرقة والخصومة والنزاعات بين الإخوة العاملين في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشكلة كبيرة جداً؛ فلو تخلص الإنسان من مشكلة النفس وهواها وهوى جنسها، ومشكلة الأهل؛ فقل أن يسلم من مشكلة العمل وسيره والخلافات فيه.(63/6)
عقبات تقتحم الصبر
إننا لو اتفقنا نحن في العمل - في المركز أو في الإدارة أو في الرئاسة- كلنا على منكر ما واتحدنا وأردنا الخير وكانت المسألة واضحة ولا تحتاج إلى نقاش ولا إلى خلاف؛ لوجدنا العداوة من غيرنا، وصاحب الشهوة أو صاحب المنكر يأتيك ويجلب عليك كل عداوة، وتأتيك العداوة من الشرطة، وأحياناً تأتيك من الإمارة مثلاً.
فأقول: من نذر نفسه في هذا العمل فليتوقع العداوة من كل أحد؛ توقع أن يأتيك أمر بالنقل أو بالفصل أو بالطرد أو بأي شكل من الأشكال، وما ذنبك إلا أنك قلت لأحدهم: اتق الله، أو غضبت عليه وهو على منكر أو جرم يجب على كل مسلم أن ينكره عليه، وليس عليك أنت -فقط- الذي وظفت أصلاً لهذا العمل، وستحاسب لو قصرت فيه.
إذاً: فهي مشكلة: إن قمتم بواجبكم حوسبتم، وقيل: أنتم عملتم وأسأتم، أو يقال: شككتم الناس في أهاليهم -هذا إذا قبض على أحدٍ وكان مستوراً فانفضح بأن كان عنده مصنع خمر مثلاً- أما إذا لم تعملوا شيئاً قالوا: لا يخافون الله، يأخذون الراتب دون عمل، يتكلمون ويشربون القهوة، ثم بعد هذا يأخذون الراتب آخر الشهر.
إذاً: ماذا نعمل؟ إن عملنا نلام بلاحق، وإن سكتنا نلام على ذلك! فأقول يا إخوان: هذا لا بد منه، وما دام لا بد منه فلا حيلة لكم إلا الصبر، فقد أرشدنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلى ذلك، وأن أي أمر لا حيلة لنا فيه فالحيلة معه الصبر، فإن الصبر حيلة من لا حيلة له؛ ولهذا إذا قدر الله تعالى على أي إنسان مصيبة -نسأل الله أن يحفظنا وإياكم - فوقعت وانتهى الأمر؛ فلا حيلة له إلا الصبر، ومتى يكون الصبر؟ عند الصدمة الأولى، وأما بعد ذلك فكل الناس تسلو كما تسلو البهائم؛ لكن المؤمن يصبر ويحتسب عند الصدمة الأولى؟ لأن الأمر قد انتهى، فمات من مات وحصل ما حصل وانتهى فماذا بقي من حيلة؟ بقي الصبر والاحتساب عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فكل هذه العقبات يجدها الداعية ويجدها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر في طريقه أينما اتجه.(63/7)
ابتلاء الدعاة في الوقت الحاضر
إنّ الشيطان إذا جاء وقال لصاحب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إذا كان الأمر كذلك فانسحب من هذا الميدان، فماذا يكون الحال؟ وهل هذا حل؟ لا.
هذا ليس حلاً، فهنا الخطر، وهنا تكون الفتنة لأهل الشر والفسق والفجور، وما أجرأهم على ارتكاب المحرمات؛ إلا أنهم رأوا أنه كلما برز عنصر طيب في الهيئات سرعان ما ينسحب أو ينتقل، فيكون ذلك فتنة لأهل الفساد، ويكون أيضاً إسقاطاً وخوراً في عزيمة المجتهدين الراغبين في داخل الجهاز، ويكون أيضاً تثبيطاً وتخذيلاً لمن يريد أن يلتحق بهذا الجهاز، وهو يرى أن أهل الخير وأهل الفضل يتركونه.
ثم أهم من ذلك: أن هذا الإنسان يأثم عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأنه آثر الراحة وآثر السلامة؛ أي أنه باختصارلم ينجح في الابتلاء، والله تعالى يقول: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُواءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] أي: أنه لا بد من الفتنة، ولا بد من الابتلاء، فهذه سنة ربانية حتى قال بعض العلماء: "إن من لم يؤذَ ويبتلى ويتحمل الأذى، فإن إيمانه لا يعد إيماناً في الحقيقة" فهو مسلم -إن شاء الله- وعلى خير، إن مات قبل الابتلاء؛ لكن إذا حصل الابتلاء؛ فهنا يكون المحك، إما أن يصبر فيرتقى إيمانه ويكون مؤمنا حقاً على تفاوت في الدرجات بين المؤمنين؛ وإما أن يخفق في الابتلاء فيفقد إيمانه -نسأل الله العفو والعافية- وكفى به حرمان.
ولا خيار للإنسان، فنحن عبيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، خلقنا وسيرنا واستعبدنا بأن نقيم هذا الدين, وأن ندعو إليه دون اختيار لنا في ذلك أبداً، وأي انحراف أو خروج منا على هذا الابتلاء، أو محاولة في الابتعاد عن هذا الابتلاء فإن ذلك علينا لا لنا.(63/8)
نماذج الصابرين قدوة
الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] أي: أن كل من اتبع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو داعٍ إلى الله، وهو آمرٌ بالمعروف وناهٍ عن المنكر؛ ولهذا كان الصحابة الكرام جميعاً آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، وأول وأعظم من كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر هم أعظم أكابر الصحابة في الإيمان والتقوى، كـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.(63/9)
عمر يأمر بالمعروف ينهى عن المنكر
عندما تتفكر كيف كان عمر رضي الله عنه يذهب في الليل ليسمع، ويرى، ويتفقد، وإذا امرأة تقول: "كيف السبيل إلى خمر فأشربها" تغزلت في رجل بشعر وهي نائمة، ولا تظن أن أحداً يسمعها فتقول:
ألا سبيل إلى خمر فأشربها أو كيف السبيل إلى نصر بن حجاج
فسمع عمر رضي الله تعالى عنه هذا الكلام، وفي اليوم الثاني سأل عمر: من نصر بن حجاج؟ قيل: هو رجل فيه جمال وتُعجَب به من ضُعْف إيمانها, فأمر بأن ينفى من المدينة إلى الكوفة.
سبحان الله! وأما اليوم فما يعرض في وسائل الإعلام من مثيرات الشهوات أضعاف أضعاف هذا الشعر! وذاك في عصر الإيمان والنور، ونحن في القرن الخامس عشر.
فهكذا كانوا هم أعظم القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ بل كانوا يبدءون بأنفسهم.
دخل عمر رضي الله تعالى عنه يوماً إلى سوق الإبل يتفقد ويستطلع أحوال الناس، إن رأى ضعيفاً أو عاجزاً أعطاه، وإن رأى محروماً أعطاه، وإن رأى منكراً غيَّره، فما رأى منكراً -والحمد لله- فبلد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأهله الصحابة ليس فيهم منكر؛ لكن لفت نظره ذلك اليوم أن إبلاً أسمن من غيرها، ففكر! كيف ذلك وكل الإبل ترعى سواء من المدينة؟! فسأل لمن هذه الإبل؟ قالوا: هذه لـ عبد الله بن عمر ثم جيء بـ عبد الله بن عمر وسأله عمر: [[لِمَ يا عبد الله بن عمر هذه الإبل أسمن من غيرها؟ قال: والله يا أمير المؤمنين إن هذه الإبل اشتريتها من مالي، ورعيتها مع المسلمين، واسترعيت لها رعاةً من المسلمين، وهأنذا أريد أن أبيعها فقال عمر: لا.
كان الناس يقولون: اسقِ إبل ابن أمير المؤمنين, أورد إبل ابن أمير المؤمنين؛ فلأنك ابن عمر شربت إبلك أكثر، ورعت أكثر، فكانت أسمن من غيرها، لا يا عبد الله: لك رأس مالك, والربح في بيت مال المسلمين قال: سمعاً وطاعةً يا أمير المؤمنين]].
فماذا يصنع عبد الله بن عمر أو غيره مع عمر رضي الله تعالى عنه؟! انظروا إلى الحساسية، وكيف بدأ بنفسه في إنكار المنكر، والتعاون على البر والتقوى، ولهذا نصرهم الله ووفقهم.(63/10)
عاقبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
كان الواحد منهم يذهب إلى الجهاد، وقد يصل إلى أطراف الأندلس أو إلى السند وهو مطمئن، فلن يضيع أهله؛ لأنه لا توجد مغريات أو مثيرات تجعلهم يرتكبون الفواحش -والعياذ بالله- ولن يضيع أبناؤه فالناس في خير وإلى خير والحمد لله، وكل مسلم يستشعر ويحس بمسئوليته نحو الجميع.
ولذلك لما جاء رسول كسرى إلى المدينة متطلعاً يريد أن يرى قصور المدينة - وقد جاء من عند الإيوان -البيت الأبيض- وكأنه يسأل: أين البيت الأبيض عند عمر؟ لكن عمر لما هز الدنيا كلها ما كان ليكون له بيت أبيض في المدينة، فدخل الرسول وإذا به لم يرَ إلا بيوتاً عادية جداً, أين أمير المؤمنين، أين عمر؟ قالوا: ابحث عنه في المسجد، فذهب ووجده وحده نائماً في ظل الشجرة، متوسداً حجراً, فما صدَّق أنه عمر! أهذا عمر الذي أرهب كسرى وقيصر؟ فلماذا أوقع الله هيبته في قلوب العالمين يا معشر المؤمنين؟ إنه لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
فأولئك عملوا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فكان حقاً عليه أن ينصرهم، قال تعالى: {ومن أوفى بعهده من الله} [التوبة:111] فنصرهم ورفعهم على العالمين، فوالله ما خسروا شيئاً، بل إنهم ربحوا الربح الأكبر، ولنفترض أنهم جمعوا أموال الدنيا فقد جاء بعدهم مَنْ جمعها، ولكن أين هي؟ أبو الدرداء رضي الله عنه كان يقول: [[يا أهل دمشق، يا أهل دمشق:، مالي أراكم تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون يا أهل دمشق، إنه قد بلغنا أن عاداً قد بنوا لَبنة من ذهب ولَبنة من فضة، فمن منكم يشتري مني تركة آل عاد بدرهمين؟]] لن يدفعها أحد، فأين عاد؟ ذهبت وانتهت.
وكذلك الآن ونحن بعد قرون، لو عُرض على أحد أن يشتري تركة أكبر إنسان ثري في العالم اليوم وبنوكه بدرهمين، فلن يشتريها أحد لأنها ذهبت، ولكنه عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى موقوف يحاسب على كل صغيرة وكبيرة.(63/11)
أهمية الصبر للداعية
إن هذه الشعيرة العظمى، كلما أحييناها في الأمة أحياها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلنصبر على ذلك, ولنحتسب عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل ما يصبنا من الأذى؛ وكل ما نلاقيه من محن، وكل ما يعترضنا من فتن، ولنفترض أسوأ الأحوال دائماً، ولنفترض أننا في بيئة لا تقر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إننا في خير لأننا نستطيع أن ندعو؛ وذلك أننا إذا ما قارنا أنفسنا بغيرنا؛ فسنجد أنه لا يوجد في هذا العالم دولة فيها هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا هذه البلاد، وأسوأ من ذلك أنه في تلك البلاد يعذب الإنسان، ويمتحن ويؤذى ويتابع وتكتب عليه التقارير؛ لأنه شوهد وضبط وهو يصلي الفجر عدة أيام في مسجد ما، وهذه مصيبة كبيرة جداً، فالواحد منا إذا رأى كثرة الشر والفساد والمعوقات والأعداء عليه أن يقول: أنا بخير بالنسبة إلى ذلك المسكين الذي توبع لأنه صلى، فأنا على الأقل أستطيع أن أقول: أيها الناس: صلوا.
فهذا الركن العظيم وهذه الشعيرة العظيمة عليكم أن تحافظوا عليها، فلا ينظر أحدنا إلى كثرة الشر؛ بل يقارن نفسه بمن هو دونه، فينظر إلى من هو أقل منه أمراً ونهياً عن المنكر فيحمد الله أنه في فسحة، وأنه يستطيع ذلك.
إذاً: فالإنسان في مثل هذه الأمور يصبِّر نفسه، ويعزيها، ويسليها، ولا شك أن العاقبة للمتقين، طال الزمان أو قصر، فالله تعالى يقول: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء:105].
فلا أحد كان يظن أيام الدولة العثمانية -وهي تحكم العالم شرقاً وغرباً حتى وصلت إلى بولندا - أن هذا الشيخ المسكين محمد بن عبد الوهاب -رحمة الله عليه- الذي كان يذهب إلى الناس وإلى أهالي القرية وكلهم يطردونه وكان رجلاً وحيداً أن يكون له هذا الذكر الحسن.
فيقبله محمد بن سعود -رحمة الله عليه- ويتحالف معه في تلك المملكة وكانت كلها قرية الدرعية فقط، فما هي بالنسبة للدولة العثمانية أو بالنسبة لـ نابليون وللعالم الذي كان بعد ذلك في أوروبا؟ ولكنها لما بدأت بالتوحيد الخالص لله، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ مدها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأظهرها ونشرها، وأبقى له -كما ترون- الذكر الحسن في العالمين إلى هذا اليوم، وهذا فضل من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وعادةً يكون انبلاج الفجر عند اشتداد الظلمة, فإذا رأيت الحق يحارب فاستبشر بأن النصر قريب؛ وإذا دارت المعركة بين الحق والباطل بوضوح فاعلم أن النصر قريب؛ لأن الحق هو دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ وهو مُتكفِّل به, ولن يُضيع عباده الصالحين أبدا, لكن المشكلة أنهم يأتون من قبل أنفسهم ومن تقصيرهم وتخاذلهم، فإن فعلوا ذلك فقد قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] أي: أنه سيأتي بغيرهم.
المهم: أن هذا الدين سيقوم, إن لم يقم على يديك فعلى يدي غيرك, وإن لم يُقَم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على يد الهيئات؛ فسيخرج الله من أبناء المترفين وأبناء المجرمين من يقيمه، فتجد الأب يوزع الخمر والمخدرات، وابنه يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر.
فهذا دين الله ولا يستطيع أحد أن يسده أبداً، وسيخرج الله له من يقيم الحجة على العالمين، لكن هذه فترات ابتلاء وامتحان لا بد أن تمر.(63/12)
صبر الدعاة هو من عزم الأمور
كما ابتلي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهل أحد أكرم أو أمنَّ على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأحظى عند الله من محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقد حوصر في الشعب هو وبنو هاشم، إلى درجة أنهم أكلوا أوراق الشجر من الجوع، وكان ذلك لما كتبت الصحيفة التي تعاقدت قريش فيها على الكفر -والعياذ بالله- وعلى القطيعة؛ فكان لابد من الابتلاء.
وماذا كان يوم أحد؟ وكم كان يوم الأحزاب من الفتن والأهوال التي زلزلت قلوب المؤمنين؟ ولكن في النهاية كان النصر المبين والحمد لله.
فالصبر هو أساس النصر حتى عند من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وقد سُئل الفارس الجاهلي المشهور عنترة بن شداد، فقيل له: كيف تغلب الخصوم إذا بارزتهم؟ قال: كلما قالت نفسي: فر واهرب سيقتلك، قلت لها: اصبري قليلاً لعله يفر قبلي، وما أزال بها حتى يفر؛ سبحان الله! هكذا الإنسان كلما آتاه الله ابتلاء فليصبر قليلاً لعل الله أن يكفيه شره، ولعله هو الذي يذهب؛ وبهذه الطريقة يحصل النصر والله تعالى يقول: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186] أي: أن الصبر والتقوى من عزم الأمور، وأهل العزائم معدودون، لكن هؤلاء الأفراد المعدودون هم الذي يعيدون المسيرة كلها؛ لأن هذا الفرد يضع العلامة على الطريق، وهو مثل الذي يتقدم تحت وابل من الرصاص من الأعداء لكي يضع علامة على الطريق ويموت، ثم يأتي الآخر ويضع علامة حتى يمشي عليها الناس، فهذا هو الابتلاء الذي يلاقيه الدعاة والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؛ لأنهم يرسمون طريق العودة لهذه الأمة كلها، فإذا تحول الناس إلى الخير، برز النفاق، فالذي كان وقت الشدة لا يعرفك ولا تعرفه، بل وتخلى عنك، إذا أظهرك الله ومكنّ لك جاءك يقول: أتذكر يوم ساعدتك؟ أتذكر كيف أعنتك يوم احتجتني؟ وهكذا حتى في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان النفاق على هذه الصورة، وهو كذلك في كل زمن.
والمؤمنون يصبرون في أول الأمر حين يمتحنون ويؤذون, وقد لا يرون شيئاً من النصر؛ فهذا مصعب بن عمير رضي الله عنه، الفتى الذي كان مترفاً في مكة ذهب إلى المدينة ودعا الأنصار إلى الله, فأسلموا حتى ما بقى بيت في المدينة إلا ودخله الإسلام وقُرئَ فيه القرآن، يُقتل يوم أحد رضي الله عنه، فيأتي الصحابة الكرام وليس له إلا رداءً إن غُطي به رأسه بدت رجلاه, وإن غطيت به رجلاه بدا رأسه، ومات ولم ير شيئاً من النصر؛ لكن الذين عاشوا من بعده كـ عتبة بن غزوان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، وأمثالهم، فهؤلاء رأوا كيف أظهرهم الله على كسرى وقيصر وفتحوا العالم؛ لكن من مات في بداية الطريق لم يرَ شيئاً من ذلك ولا أدركه؛ هؤلاء غبطوا ذلك المتقدم، وقالوا: "نخشى أن تكون حسناتنا عجلت إلينا" فخافوا من أن ما أدركوه من الخير ومن النعمة، أن تكون حسناتهم عُجلت إليهم، أما مصعب وعبد الله بن رواحة وأمثالهم رضي الله عنهم فإنهم ماتوا قبل أن تفتح هذه البلاد، وقبل أن تكون تلك النعم.
وتشتد الحاجة إلى الصبر كلما كانت الأمة في انحراف، وتحتاج لمن يؤسس لها الخير، ولا أرى أن الأمر قد يحتاج إلى أن أُذكَّر بواقع هذه الأمة الآن، فإنه شيء معرف.(63/13)
مستهدفون لماذا وما الحل؟!
نحن في هذا البلد نعاني من شيء آخر، رغم ما عندنا من بقايا الخير ومن استجابة في الناس وهي: أننا بلد مستهدف، وما أظن أن أمة في العالم مستهدفة محاربة بشكل واضح من العالم مثلنا رغم أننا لم نؤذ أحداً، وتسمعون ما يثار وما يقال، حتى لو كان عندنا خبر واضح مثل الشمس فلا يمكن أن يروه إلا مزوراً، أو يزيدوا فيه أو ينقصوا، أو يربطوه بشيءٍ لا حقيقة له، حتى من أكرمناهم وأعطيناهم لا يمكن أن يقولوا: جزاهم الله خيراً، أو يسكتوا عن اللوم، وهذا يجعلنا نفكر: لماذا نحن مستهدفون؟ هذا السؤال مهم يصرح به المسئولون والمثقفون والدعاة والذين يقرءون الصحف العالمية ويسمعون الإذاعات العالمية، من الناس من يقول: إن ذلك بسبب الثروة، مع أن هناك من دول العالم من هي أثرى منا، قد يكون عندنا خير كثير، لكن ذلك لا يعد شيئاً وبالنسبة لغيرنا، فإذا قارنت بثروة أمريكا أو اليابان أو ألمانيا الغربية فلا تكاد تصدق مما عندهم من ثروة! وكوننا فتح الله علينا من المال فإنه لا تزال مناطق كثيرة جداً في بلادنا بحاجة إلى بعض الأمور الأساسية من طرق ومستشفيات ومدارس إلخ.
فالقضية ليست قضية المال.
ورغم أننا أتينا بهم إلى بلادنا وهذا لا يجوز شرعاً، لأن جزيرة العرب لا يجوز أن يجتمع فيها دينان كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأفتى بذلك العلماء والحمد لله لكن أقول: مع ذلك أخذوا من الثروة وما سكتوا.
وإن قيل: بسبب الأمن، والأمن نعمة عظيمة نحسد عليها، لكن الأمن ما جاءنا من أجهزة الإنذار الإلكترونية المعلقة في كل بيت، ولا يوجد عندما في البيوت مثل هذا، بل عندما ملكنا الكمبيوتر أصبح واقعنا الأمني أقل منه قبل أربعين سنة.
إذاً: الأمن له سر وهو نتيجة لشيء آخر تميزنا به هو: هذا الدين، وهذا الإسلام، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] يريدون منا أن نبني كنائس في بلادنا، يريدون أن يدخلوا اليهودية والنصرانية، بل يريدون يجعلوا منا شيوعيين ماركسيين، أو أي ملة من الملل، المهم: لا يريدوننا أن نبقى مسلمين, فكل الحروب مهما اختلفت ومها تنوعت المعارك فهي كلها من أجل هذه العقيدة، من أجل هذا الإيمان، وبالذات أنها -ولله الحمد- عقيدة نقية سلفية صحيحة، هذا هو السبب، ولذلك فالمحافظة على هذه العقيدة، وذب المنكرات التي تحيط بها من البدع والضلالات هو أوجب الواجبات، أي: أن حماية بيضة الدين وأصل الدين هو المحافظة على هذه العقيدة، والإيمان هو أوجب واجب على كل أحد في هذه البلاد، لأن هذا هو السبب، ولذلك نحن مستهدفون، وهناك أخبار كثيرة مفزعة نقرءوها، فلو ربينا الشباب هنا تربية سليمة ما حدثت مثل هذه الأمور.
منذ فترة أربعة عشر نفراً من السعوديين قتلوا في شاطىء في بانكوك، في شواطىء الفساد، كم هم الذين أتت من مانيلا جنائزهم، لولا أنها في جرائدنا نحن لقلنا: إنها من هؤلاء الحاقدين المعتدين، وهذا يدلنا على الخواء الذي نعيشه، لما هذا التهافت على الخارج، ما الذي في الخارج؟ نحن الذين العالم كله يغبطنا -كما يقولون- من أجل المال، من أجل الأمن فلماذا نحن نتهافت إليه، نسافر إليه؟ إن الشهوة الرخيصة الشهوة الدنسة تجعلنا نذهب إليه، ثم إذا ذهب الإنسان إلى هناك هل يرجع إلينا يقول: اتقوا الله، هل يرجع يقول: رأيت المنكرات رأيت الإجرام رأيت ورأيت؟ أبداً.
مهما رأى فإنما يتحدث، بل إن بعضهم قد لا يرجع أصلاً، وبعضهم يسرق ويذهب، ثم يرجع إلى هنا وهو يقول: إنها بلاد الحرية، أيُّ حرية هذه وقد سلبوك كل شيء؟ لأن الشهوة إذا قادت الإنسان أذهبت عقله ودينه -نسأل الله العفو والعافية- ولذلك فإن حرب مقاومة هذه الشهوة أول ما تبدأ فإنما تبدأ بتأسيس الإيمان والعقيدة الصحيحة ومحاربة البدع، ومحاربة الضلالات، وبناء التقوى وخوف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في قلوب الناس، والقبض على المجرمين وملاحقتهم وترصدهم في أماكن وجودهم هذا أمر وعمل لا بد منه، لا شك في ذلك، وبه قوام حياة المجتمع وأمنه.(63/14)
السبب الحقيقي للاستهداف
إذاً: الأمن له سر، وهو نتيجة لشيء آخر تميزنا به هو هذا الدين (الإسلام) {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] يريدون منا أن نبني كنائس في بلادنا، يريدون أن يدخلوا اليهودية والنصرانية يريدون أن يجعلونا شيوعيين ماركسسين أو أي ملة من الملل، المهم لا يريدون أن نبقى مسلمين, فكل الحروب مهما اختلفت ومها تنوعت كلها من أجل هذه العقيدة، من أجل هذا الإيمان، وبالذات لأنها عقيدة نقية سلفية صحيحة، هذا هو السبب.
ولذلك فالمحافظة على هذه العقيدة، وذب المنكرات التي تحيط بها من البدع والضلالات هو أوجب الواجبات، أي أن حماية بيضة الدين -وأصل الدين هو المحافظة على هذه العقيدة- هو أوجب واجب على كل أحد في هذه البلاد، لأن هذا هو السبب، ولذلك نحن مستهدفون.
وهناك أخبار مفزعة نقرؤها، فلو ربينا الشباب تربية سليمة ما حدثت مثل هذه الأمور، فقد قرأنا أنه أربعة عشر نفراً من السعوديين قتلوا في شاطىء من شواطئ الفساد بانكوك.
كم هم الذين أتت جوائزهم من مانلا؟ ولولا أنها نشرت في جرائدنا لقلنا إنها إشاعات من الحاقدين المعتدين، وهذا يدل على الخواء الذي نعيشه، والتهافت على الخارج، من أجل الشهوة، إذا كان العالم يغبطنا -كما يقولون- من أجل المال من أجل الأمن فلماذا نحن نتهافت عليهم؟ من أجل الشهوة الرخيصة الدنسة؟ ثم إن بعضهم لا يرجع أصلاً، وبعضهم يسرق وينهب، لكن يرجع هنا ويقول: رجعت من بلاد الحرية؛ لأن الشهوة إذا قادت الإنسان أعمت بصيرته وأذهبت عقله ودينه -نسأل الله العفو والعافية- ولذلك حرب مقاومة الشهوة أول ما تبدأ بتأسيس الإيمان والعقيدة الصحيحة ومحاربة البدع، والضلالات، وبناء التقوى وخوف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في قلوب الناس، والقبض على المجرمين وملاحقتهم ورصدهم في مظان تواجدهم، وهذا أمر لا بد منه، وبه قوام حياة المجتمع وأمنه.(63/15)
أهمية العقيدة الصحيحة وإحياء رسالة المسجد
لا بد من الوقاية بتربية الناس على العقيدة الصحيحة والتقوى وخوف الله، والرغبة في الآخرة، والزجر عن الشهوات من خلال وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروئة، ومن خلال خطب الجمعة، ومن إحياء المدارسة في المساجد، وأن يعود للمسجد قيمته حتى يرتبط الإنسان إذا تاب بالمسجد، وبعض الناس إذا تاب لا يدري إلى أين يذهب، إذا أتى إلى المسجد يجد أهله منشغلين بطلابهم، وإذا أتى إلى الهيئة وجدهم مشغولين أيضاً، فلا يدري أين يذهب، ولا يجد من يدله إلى الطريق الصحيح! لا بأس أن تعطيه شريطاً، لكن مع ذلك اربطه بالمسجد، وقل له: اذهب إلى المسجد وصل، واسمع ذكر الله، وتعلم كتاب الله، وإن كنت محتاجاً فأهل الخير سيعطونك من فضل الله تبارك وتعالى، المسجد كله خير، كله بركة، كله نور، فلما جعلناه للصلاة فقط انتهى أثره في حياة الناس، لقد كان المسجد في حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة هو مقر الشورى، هو مقر القضاء، هو مقر العلم، مقر الفتيا، وكذا كان في عهد أبي بكر وعمر، أما نحن الآن فمقرنا المقاهي والملاهي والملاعب التي نضيع فيها الساعات الطوال، والمسجد ليس له إلا تلك اللحظات؛ وهذا لمن يأتي إليه!(63/16)
أكثر المشاكل تحتاج إلى صبر وتعاون
أقول أولاً وآخراً: اصبروا واحتسبوا، وأخلصوا العمل لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، واعلموا أن كل من يدعو إلى الله عز وجل، وكل من يُعلم الناس كتاب الله، وكل من يدعوهم إلى الخير فهو معكم، وإنما خطؤنا وتقصيرنا هو من أنفسنا، فإننا لا نتزاور، ولا نتعارف، ولا نتعاون، ولا يشدُّ بعضنا من أزر بعض، واعلموا أن بعض الأمور قد تستعصي على عضو الهيئة بينما يستطيع أن يحلها إنسان آخر بطريقة أخرى لما له من معرفة في الشرطة، أو في الإمارة، أو في أي إدارة أخرى، فتحل القضية، ويكسب الأجر العظيم، وتكون الشفاعة الحسنة التي يؤجر عليها صاحبها.
إننا قد لا نشعر بمشكلات بعضنا البعض، المحاكم لا ندري ما يدور فيها، فهم متخمون بالادعاءات والمشاكل، وهيئات التمييز تقول: لا نقدر أن نغطي أعمالنا لكثرة ما لدينا من مصائب، المدرس يقول: نحن جداولنا مزدحمة، تحضير في الليل وتدريس بالنهار؛ فهذه الأعمال جعلت كل واحد منا في وادٍ، بينما لو وجد شيء من التنسيق وبذل بعض المجهود لاستطعنا أن نحقق الشيء الكثير بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، هذا يلقي كلمة، وهذا موعظة، وهذا يطرح مشكلته على إخوانه فيجد عندهم الحل.
وأضرب لكم مثالاً من واقع المحكمة، باعتبارها محكمة شرعية وهي أقرب شيء للهيئة، وما تراه أنت منكراً لا شك أن القاضي يراه منكراً، أقول: أنا أعلم ما تعاني الهيئات من المحاكم المستعجلة لكن ذلك، لعدم وجود تنسيق ولقاءات خارج الدوام فيما بيننا، حتى نأتي على هذه المشاكل، ولكن كل واحد منا يعمل بدون أخذ مشورة من الآخر، وبعض القضاة يريد أن يطبق شروط الفقهاء -عشرة شروط أو أكثر- في القرن الثاني أو الثالث.
فمثلاً: لا يعزره لعدم وجود الشروط، أو يقول: قد وبخت الجاني، وهذا غير لائق.
أحد القضاة يأتيني وهو من خريجي الجامعة يقول: أتاني شخص قد شرب الخمر اثني عشر مرة، فلما قلت له: الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {إذا شرب الرابعة فاقتلوه}، قال: القضاء الأعلى لم يفعل ذلك، إذاً: لا بد أن نضع عقوبة رادعة لشرب الخمر لأنه انتشر، ومثل الخمر الخلوة، التي لا يبقى بعدها إلا الفاحشة الكبرى -الزنا- التي يحذر منها حتى الغرب الإباحي، فهذه لا يكفي فيها التوبيخ والزجر كما فُعل مع من شرب الخمر.
أقول: لا أريد أن أتكلم في هذه المشاكل لذاتها، لكن أقول: هذا من ضعف التعاون والتنسيق بين المسئولين في الهيئة -ولا تؤاخذوني في ذلك- وبين المسئولين في المحاكم المستعجلة، وبين المسئولين أيضاً والدعاة، وبين كل ما يهتم بهذا الدين، لو كان هناك شيء من التعاون لكان غيرك يستطيع أن يفعل ما لا تفعل أنت، يرفع إلى الجهات العليا ما لا تستطيع أن ترفع، فأنت قد تتهم أنك تتكلم عن شيء لأن لك غرضاً في نفسك، لكن عندما يأتي الأمر من غيرك ممن له قدرة فإنها تصلح الأمور؛ لكن أقول: ما زلنا نتهاون حتى أصبح رجل الهيئة كأنه خصم، وهذا خطأ، فرجل الهيئة محتسب، والمحتسب لا يؤاخذ؛ إن أخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران، هذا دين الله عز وجل وهذا شرع الله قديماً، وحتى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه هذه فتواه بذلك ومعممة على جميع المحاكم وجميع الهيئات، وما أشاعه الكذابون والمجرمون أن الحسبة أوقفوا حركة المرور، وطلبوا من كل واحد مع امرأة أن يخرج الصك أنها زوجته فهذا تشويه، وهذا الأمر لم يسبق أن حدث، لكن الإرجاف، والإشاعة والكذب تجعلهم يهولون هذه القضايا، ولنفترض أنه حصل واشتبهت الحسبة في أحدهم وسئل: هذه زوجتك أم لا؟ فلا حرج في ذلك، فهم مترددون بين الأجر والأجرين، لكن إذا اتهم المحتسب وظهر أنه يقصد أمر آخر فهنا يفصل عن العمل، ويبحث عن أناس غيره من الطيبين، لكن المهم أن يعمل جهاز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن الرجل الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر محتسب وليس خصماً، لا أمام المدعي العام، ولا أمام المحكمة، فلا يقال: ادعى رجل الهيئة وأجابه المدعى عليه فلان بن فلان، ويصل الأمر إلى أن يضرب رجل الهيئة والكل ينظر.
ولا أقول هذا لإثارة هذه المشاكل، بل أقول: لتصبروا عليها، لأننا في زمن الصبر وإن لم نصبر فلن نفوز، بل هذا الصبر وهذا الابتلاء أساس الفوز، وأساس النصر، وهو أول طريق الخير، وأنا أقول هذا على سبيل التفاؤل لا على سبيل التيئيس، أقول: وهذا دليل على أن الفجر قريب -بإذن الله- والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سيسخر لدينه من يقوم به، وسوف يخرج من أصلاب المجرمين من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل لنا عبر في الأمم الأخرى، نحن الآن نشكوا من التبرج في الأسواق، والعالم من حولنا بدأ يعطينا عبراً، المرأة في الدول الغربية بدأت تطالب بالعودة إلى البيت، في مصر أكثر دولة إسلامية ركز عليها الاستعمار لإفساد جيلها، الفتيات بدأن بالتحجب، ولا يوجد علماء ولا دعاة ولا هيئات تدعمهم، بدأن يتحجبن من ذات أنفسهن في الجامعة، في عدن الشيوعية يخرج البنات من طالبات الثانوية في مظاهرات للمطالبة بالفصل بين الطلاب والطالبات، في الجزائر مليون امرأة تخرج للمطالبة بمنع الرياضة في مدارس البنات، ومنع الاختلاط، وعودة الحجاب.
بدأت تعود الأمة لدينها في كل بلد وهي لا تعرف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن لما ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ممن يجب عليه أن يقوم به، استبدل الله بهم قوماً آخرين ثم لم يكونوا أمثالهم، فقاموا بهذا الدين، لكن ما علينا إلا الصبر، هذا الأمر قد يستمر مائة أو مائتين سنة، وذلك لا يهمنا، الذي يهمنا هو أن نجتهد ونصبر، وأن كل ما اشتدت الظلمة نرتقب الفجر.(63/17)
الأسئلة(63/18)
غلبة الدَّين وقهر الرجال
السؤال
غلبة الدين، وقهر الرجال، نريد منكم شرحاً كافٍ له، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
غلبة الدَّين وقهر الرجال هذان هما اللذان استعاذ منهما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونستعيذ بالله منها جميعاً، هذا أشد ما يمكن أن يصاب به الإنسان، الهم والحزن: {أعوذ بك من الهم والحزن، وغلبة الدَّين وقهر الرجال} أما الهم فهو لما يستقبله الإنسان من أمره، ولا يدري كيف سيواجهه، والحزن لما فات من أمر، فهو حزين على شيء قد وقع، كخير فات، أو شر نزل أو غير ذلك، وغلبة الدَّين ليس هناك أشد منه، ويقال: إن لقمان الحكيم قال في وصاياه: ' وحملت الأثقال كلها فما وجدت شيئاً أثقل من الدين ' فلا أشد من الدين، ولا أسوأ على قلوب الرجال الشرفاء؛ أهل النبالة والكرامة من أن يأتيه صاحب الدَّين وهو بين الناس أو وحده ثم يقول: متى تعطيني؟ وليس أي دين، ولكن غلبة الدَّين، وإذا كان الإنسان من أهل الكرم والخير والفضل فإنه يورط أكثر، لا يقدر أن يترك بيته، ولا يقدر أن يترك التزاماته، فنسأل الله أن يعيذنا وإياكم من ذلك.
وقهر الرجال: لأن الظلم مر، من أَمَر الأشياء الظلم والقهر، كأن يواجهك شخص ويقهرك ويظلمك بشيء واضح لك كالعيان، ولكنك مقهور لا تستطيع أن تتصرف تجاهه، نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من ذلك.(63/19)
الشدة والرفق في الدعوة
السؤال
هل يستخدم الإنسان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القوة مع الناس أم يستخدم الرفق؟
الجواب
نعم.
هذه مشكلة، وأنا أتعجب من بعض الناس حين يأتي يتكلم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأكثر من مرة في مجالس كذا يقولون: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالرفق، فعندما تقول: صلوا، فإنهم ينفرون منك، ولكن حين تقول: جزاك الله خيراً، أو الله يهديك وتكلمه بالرفق فإنه يأتي إلى المسجد.
قلت لأحدهم: إذا كان المركز -مركز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- فيه ثلاثة أعضاء أو أربعة أو خمسة، وهم في حي سعته خمسة كيلو متر مربع أو عشرة، وفي كل سوق أكثر من مائة دكان، وهذه الصلاة التي فرضها الله على كل مسلم، ويرتفع الأذان بها في كل أفق، والأطفال الصغار والعجائز كل واحد يعرف وجوبها، ثم يحتاج كل فرد إلى مداراة ورفق، وإلى أن يتكرر له ذلك كل مرة، فكم تتوقع أن يصلي في المسجد؟ وكيف تتوقع أن يكون الرد؟ لا أقول: إنه لا بد أن نكون جفاة؛ لكن علينا ألا نحمِّل الإنسان ما لا يطيق، وهنا يأتي واجب على كل إنسان، هذا السوق له إدارة تقوم عليه، ومن المفروض على هذه الإدارة أن تأمر الناس بإغلاق الدكاكين بدون حضور الهيئة أو أن تمر الهيئة فتأخذ المتخلف، لا.
لابد أن نقول للناس: صلوا، المتسوق الذي يذهب إلى السوق واجب علينا جميعاً أن نقول له: صل وأن نحركه للصلاة، وبهذا نكون قد خففنا من الضغط على الهيئة، وصاحب الهيئة واجبه أن يرى الناس فيه الحزم.
فمن أسباب المشكلة، أن الإنسان يؤخذ عليه العهد مرتين أو ثلاثاً وبعدها لا يكون له سلطة، أول ما يدخل يقول: تقسم بالله، ثم يتعهد ولا يبالي لأنه يعرف أنه لا يوجد عندنا غير هذا الدفتر، لو كان يعرف أن هناك حساباً وأن هناك مسئولية لاهتم، كما يهتم بالإقامة، إذا ضيعت الصلاة فلا مشكلة، فأصبحت الإقامة أغلى من الصلاة، وقد صرنا الآن كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وقد أخبرنا بكل فتنة-: {يقال للرجل: ما أعقله، وما أظرفه، وما أجلده! وليس في قلبه مثقال ذرة من إيمان} رجل كريم وفيه خير وفيه، لكن لا يصلي، فأي خير في هذا الذي لا يصلي؟ هذا ليس فيه ذرة من الخير، الذي لا يصلي لا يكون عنده ذرة من إيمان.
لقد استهنا بأمر الصلاة، وعمر رضي الله عنه لما طعنه المجوسي في المحراب، وسقط مغمياً عليه والدم ينزف منه؛ أفاق وهو في هذه الحالة، وقال: أصلى المسلمون؟ لأنه كان الإمام، فأهم قضية فكر فيها عمر هل صلّى المسلمون؟ هذه القضية الأساسية، نقول: لما تهاونا بأمر الصلاة وأصبحت مسألة شكلية لم يعد يعبأ الناس بمرور عضو الهيئة؛ لأننا تركنا واجبنا نحن، أقول: هذا كالدوريات المنتشرة في الأسواق والتي تركت واجبها، وعندما تقول له: لماذا لا تأمر الناس أن يصلوا؟ يقول: لا نريد أن تكون هناك مشاكل، نحن مختصون بالنواحي الأمنية فقط، نقول: ماذا يخسر العسكري لو أمر الناس بالصلاة؟ هل يؤثر ذلك على عملهم وهم منتشرون في كل مكان؟ لا يؤثر، ولن يخسروا شيئاً، بل هذا فيه تعاون مع أعضاء الهيئة، أما بهذا الشكل فقد أصبحنا أضحوكة أمام الناس، فإذا مر عضو الهيئة من أمامهم قالوا: انتهى الأمر، ويعود كل شخص إلى عمله من بيع وشراء وكأنه لم يحدث شيء، لأنه يعلم أنه لن يعود إليه، ولا يوجد من يأمره وينهاه، فنحن بهذا عرضنا ديننا للسخرية، وهذه السخرية لا تختص برجال الهيئة فالذي يتكلم لا يتكلم في الهيئة وحدها بل يتكلم في المجتمع كله، وفي الأمة كلها.
أقول لرجال الهيئة: اتقوا الله ما استطتعتم، عليكم أن تبذلوا جهدكم، وعليكم أن تأخذوا اثنين أو ثلاثة منهم أو أكثر ليكونوا عبرة للآخرين، على رئيس الهيئة أو مسئوليها أن يزجرهم أو يسجنهم أو يحولهم إلى المحكمة بشكل يسمع به الآخرين؛ ومع هذا فالواجب على الدوريات وعلى المتسوقين، وإدارة السوق إذا كان للسوق إدارة، وعلى كل إنسان، ومن ذلك الدعاة أن يأتوا فيقولون: هذا الحي الصلاة فيه قليلة، إذاً لا بد من عمل محاضرة في هذا الحي وفي هذا المسجد عن أهمية الصلاة حتى تقوم الحجة، ولعل غافلاً يسمع ذكر الله، ولعله إذا رأى الناس يصلون أن تتحرك همته ويصلي مع الناس.(63/20)
التعاون مع الهيئات
السؤال
ما سبب عدم زياراتكم لرجال وأعضاء الهيئة؟
الجواب
من الأشياء التي نحتاج إليها أننا نجلس دائماً أو نتزاور أو نتلاقى، أنا لا أكتمكم أني ما كنت أدرك بعض ما يدور خاصة في الهيئات، أقول: هذا من الخطأ لأنهم قائمون بجبهة، وهم يقومون بأعمال كثيرة، لكن يمكن أن نذهب مثلاً إلى الأمن العام ونرى كيف يعملون، والمفروض أن نعرف حال بعضنا البعض، لكن لما قرأتُ نظام الهيئات الذي صدر فيه الأمر الملكي وجدت فيه ثلاثة أيام توقيف أو خمس عشرة جلدة، العضو يقوم بالدعوة إلى الله وغير ذلك، فلما أتيت أسأله فإذا بهذا الأمر ما نُفذ، مع أنه منصوص عليه.(63/21)
حرية الفكر
السؤال
ما نصيحتكم حول ما يقال من حرية الفكر، وتطبيق الأمر الصادر؟
الجواب
أما من يقول: حرية الرأي، فليس عندنا هنا حرية للكفر، ليس عندنا حرية لترك الصلاة، ولكن عندنا حرية إسلامية -والحمد لله- فالإنسان لا يؤخذ بظلم، فلا يحاكم إلا في محكمة شرعية، وهذه هي الحرية التي يفتقدها الذي العالم كله ولا يستطيع أن يجدها؛ لأن أحكامه وضعية وشرائعها وضعية، أما نحن -والحمد لله- فعندنا شرع الله، فالحرية الحقيقة للأمة هي طاعة الله، ووجود إنسان لا يصلي وهو مصر على ذلك مع عدم وجود السلطة والقوة الرادعة بيد رجل الهيئة هذا خطأ، ولا شك أن هذا يجب التنبه إليه من قبل الجميع، كل بحسب موقعه.(63/22)
مشكلة دوام الهيئة
السؤال
إن هناك مشكلات حيث إنه يوجد دوامين على فترتين، ولا توجد فرصة لزيارة الأقرباء أو الأصدقاء فما توجيهكم؟
الجواب
موضوع الدوامين نحن ذكرنا أن الصبر والاحتساب لا بد منه، وأنا معكم أنه لو كان رجل ضعيف مثلي ما قدر على دوامين، لكن -الحمد لله- أن الله جعل فيها من هم أكفأ وأقدر وأصبر، فاصبروا واحتسبوا الأجر، ولا شك أن هذا أيضاً يستدعي من المسئولين دراسة الوضع، وإمكانية تكثير الوظائف وتكثير العدد، بحيث تكون نوبات، فيتاح للإنسان أن يعود مريضاً، أو يزور قريبا، أو يقوم ببعض شئونه، وهذه لا شك أنها تؤثر على عمله، لأن الإنسان لا يمكن أن يكون جثة بلا روح، ولا يصح هذا، ولكن يأتي وهو راغب، ولديه الإمكانية والاستعداد النفسي، أما إذا جاء وهو مشدود فإنه لا ينفع ولا يعمل، وربما أدى ذلك إلى التسيب ولا سيما إن لم تكن هناك رقابة، خاصة مع ضعف الحوافز المادية.(63/23)
الوقت الضائع
السؤال
ما هي نصيحتكم لمضيعي الأوقات وعدم الاستفادة منها في طلب العلم؟
الجواب
علينا أن نستغل فرصة فراغ وقتنا بين أوقات الصلاة -وأي فراغ عموماً- فنأتي بكتاب ونقرأ كل يوم صفحة أو بابا أو حديثاً أو حديثين فتقوى بذلك إيماننا، وتعرفنا بالله عز وجل، وتفقهنا في ديننا، وتجعلنا نقدم على هذا العمل ونحن مخلصون محتسبون.
إن هذا العلم نور سواء كان من كتاب الله أم من سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى لو ابتدءنا بالأصول الثلاثة، ثم ترقينا منها إلى كتاب التوحيد ثم إلى فتح المجيد، هذا في الحقيقة يزيدنا علماً وإيماناً؛ لأن هذا كلام الله ورسوله، وأيضاً يجعل الإنسان إذا دعا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يدعو على علم وعلى بصيرة وخير، وأقل شيء أنه خير من كثير من اللغو الذي قد نقع فيه كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] وهذا حال أكثر نجوانا وحديثنا، إن لم يكن فيما يضرنا فهو فيما لا ينفعنا إلا من كانت الآخرة نصب عينيه.
أقول: نريد الإخوة في المراكز إن كان قد برز منهم في العلم شخص فليعلم الآخرين أو يستفيدون منه، إن كانوا اثنين فليتعاونا، إن كان كلهم كذلك فليتعاونوا.
ثم خارج المركز أيضاً لا بد من ذلك، والوسائل -والحمد لله- كثرت هذه الأيام، بما منَّ الله تبارك وتعالى به مثل إذاعة القرآن، ومثل الأشرطة، والكتيبات، ثم الكتب، وكل ذلك أيضاً موجود ومتيسر، وكذلك في غير وقت الدوام يمكن حضور حلقات العلم ومجالس الذكر وندوات الخير في المسجد الحرام وفي أي مسجد، فهذه كلها من عوامل تقوية الإيمان، وزيادة العلم، والزاد الذي نتزود إليه في طريق الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(63/24)
المكاره في الدعوة
السؤال
ما توجيهكم ونصيحتكم لرجال الهيئة الذين تواجههم مشاكل مع رجال الشرطة؟
الجواب
أصل المشكلة هي أننا نريد عملاً بلا سلبيات أو أخطاء وهذا مستحيل، لا يمكن أن يوجد عمل إلا وفيه أخطاء، بل نقول: لا دعوة ولا عمل إلا بما تكره النفس، وأصل القضية أن أحد العسكر ذهب وتشاجر مع صاحب محل؛ لأنه قال له: صل، فقالوا: إذاً هذا يسبب مشاكل، فإن العسكري ليس له دخل، بل يكون فقط مع العضو ولا يقول للناس صلوا، وهذا ليس بحل، بل إن كان الخطأ من هذا العسكري وتكلم بكلام لا يليق، أو أساء عوقب وحده، ويستمر الباقون في الدعوة، وإن كان الخطأ من صاحب الدكان أو التاجر حوسب وقيل له: أنت تستحق أكثر لأنك رفعت صوتك على إنسان وهو يأمرك بالمعروف وينهاك عن المنكر وذلك عمله الرسمي، لكن للأسف بناءاً علىقضية مثل هذه نقفل الباب كله! وبعد هذا فإن الناس لن يقروا شيئاً من الخير! إذا واحد علم أنك ستداهم مصنع الخمر؛ فهل تتوقع أن يقال لك: تفضل، هذه القوارير، وهذه البراميل؟ إن هذا لا يمكن أن يكون ولا بد من التعرض لشيء من الابتلاء، فإذا قلنا: ما دام يحدث بعض المكاره فلا ننهى عن المنكر، وهكذا كل منكر لا بد أن نتعرض في إزالته لبعض المكاره، فإذا تركنا المنكر لأجل ذلك انتشر الفساد، والمسألة من الناحية الشرعية واضحة جداً فإن (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) ويراعى مقادر المصلحة والمفسدة، فنعمل على تحقيق المصلحة العظمى ودرء المفسدة الكبرى وأما الصغرى فتلقى كأن لا وجود لها، أما إذا أردنا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يسير إلا على مصلحة (100%) ولا يوجد مفسدة متوقعة فلن نعمل شيئاً.
وهناك شيء أهم من ذلك، وهو: أنه يجب التنسيق مع عضو الهيئة، فإنه يسيء إلى الهيئة ويسيء إلى عملها وسمعتها ويكون هو نفسه متضايقاً من الأمر بالمعروف، هو نفسه لا تهمه الصلاة، بل لا يهمهم أن يمشي معك ليدعو الناس إلى الصلاة، ثم بعد هذا كيف يؤمن على امرأة إذا وقفت عنده أو صبي أو مال؟ نعم يمكن أن يقولوا: هذا يحدث في الشرطة والمجرم مجرم في أي مكان، والذي لا يخاف الله فهو كذلك في أي مكان؛ لكن الهيئة سمعتها غير سمعة بقية الأجهزة، بل لو وقعت بعض المشاكل في الشرطة فلا أحد يعرف عنها شيئاً ولا أحد يلومها على ذلك، أما الهيئة فالنقطة البسيطة تملئ الآفاق.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(63/25)
المسلمون ودراسات المستقبل
تحدث الشيخ حفظه الله عن الدراسات المستقبلية عند الغرب والمسلمين، وبين موقف الغرب من دراسات المستقبل، فذكر أنواع الدراسات المستقبلية الغربية، من خرافات وأساطير، ونبوءات تزخر بها الكتب المقدسة المحرفة عندهم، وبين الفرق بينها وبين النظر في سنن الله الربانية، والخيال العلمي، والدراسات العلمية المتخصصة في معرفة المستقبل، سواء كانت في موضوع القوة المسيطرة على العالم أو موضوع السكان والبيئة إلخ، ثم ختم درسه بذكر الموقف الشرعي من الدراسات المستقبلية، من حيث وضع الدراسات المستقبلية المصيبة والدقيقة، والتخطيط ضد هيمنة الغرب دعوياً وعسكرياً، واقتصادياً وعلمياً.(64/1)
التطلع إلى معرفة المستقبل
بسم الله الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فنحمد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي جمعنا في هذا الدرس، ونسأل الله عز وجل بمنه وجوده وكرمه أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يفقهنا في الدين، وأن يجعلنا أئمة للمتقين، إنه سميع مجيب.
الموضوع الذي نريد الحديث عنه في هذا الدرس، موضوع كبير وخطير ومهم لكل من يدعو إلى الله تبارك وتعالى ومن يهمه أمر هذه الأمة ومستقبلها وشأنها، ولن نستطيع -بطبيعة الحال- أن نوفي الموضوع حقه، ولكن نرجو أن نوفق -بإذن الله تعالى- إلى أن نعطي كل أخٍ مسلم فكرة عنه؛ بحيث يكون هذا دافعاً له لمزيد من البحث والتحري والاهتمام، فإن أول ما تظهر الأعمال العظيمة - وكل أمر هذه الأمة يحتاج أعمالاً عظيمة - أول ما يكون ذلك هو الفكر، ثم يأتي الاهتمام ثم يكون العمل، وهذا ما نرجو أن يكون، وما ذلك على الله بعزيز.
إن التطلع إلى المستقبل والتشوق إليه والتشوف إلى معرفته أمر مفطور في النفوس جميعاً، فليس من البشر أحد إلا وهو يتطلع ويشتاق إلى معرفة ماذا سيكون له أو لأمته أو لغيره، وهذا أمر ركبه الله تبارك وتعالى في النفوس، وهو من حكمة الله عز وجل، ولذلك نجد أن الناس تنوعت مصادرهم في هذا -كما سنبين إن شاء الله- أو تحسّر من تحسر على فقده كما كانت عادة العرب، فظهر ذلك في شعر زهير بن أبي سلمى:
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غدٍ عمي
فكلٌ مشتاق إلى ذلك.(64/2)
علم الغيب يختص بالله
والله تبارك وتعالى قد بين لنا أصلاً كلياً عظيماً من أصول هذا الدين، التي يجب على كل مسلم أن يعتقدها، وهو أنه لا يعلم الغيب إلا الله، قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:65 - 66] {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59].(64/3)
من يطلع على الغيب
فالغيب لله تبارك وتعالى وحده، ولكن فضل الله تبارك وتعالى عظيم؛ فإنه يُطلع بعض رسله ويُطلع بعض أوليائه على شيء مما قد يحدث؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} [الجن:26 - 27].
ومن ذلك المبشرات وهي الرؤى الصالحة، ومن ذلك ما أخبر به الأنبياء مما أطلعهم الله تبارك وتعالى عليه من أمور الغيب مما سيقع، إلا أن هناك أموراً اختص الله تبارك وتعالى بعلمها، فهي من الغيب المطلق الذي لم يُطلع الله تبارك وتعالى عليه أحد، ومن ذلك علم الساعة، ووقت قيامها، فهذه علمها عند الله لا يجليها لوقتها إلا هو تبارك وتعالى، والناس اختلفوا في هذا اختلافاً عظيماً وتباينوا فيه، فإن هذه الحاجة الفطرية في النفوس لمعرفة الغيب دفعت كل أحد إلى أن يسلك طريقاً لمعرفته بحق أو بباطل، فاختلط الحق بالباطل أو الحابل بالنابل -كما يقال- في قديم الدهر وحديثه.(64/4)
أنواع مصادر علم الغيب
هذا شأن كل قضية من القضايا الاعتقادية كالإيمان بالله وملائكته والإيمان بالقدر وغيرها من الأمور التي ضلّ فيها الناس واختلفوا، مع أن الحق فيها قائمٌ وواضح والحمد لله؛ ولذلك نستطيع أن نوجز تقسيم مصادر علم الغيب أو معرفة المستقبل الواقع؛ لأنه لا حديث لنا عن الغيب الماضي وعن نشأة الكون وبداية الخلق، فلا شأن لنا بذلك، وإنما الكلام عن المستقبل.
فالناس تنقسم مصادرهم في معرفة هذا إلى ثلاثة مصادر بحسب الحق والباطل الذي فيها:(64/5)
النوع الأول: المصادر الباطلة
وهي مصادر باطلة قطعاً، وما توصل إليه فهو باطل، فليست مصادر حق، ومن ذلك ما تعودته كثير من الأمم في القديم والحديث من السحر ومعرفة الغيب، أو ادعاء ذلك عن طريق الكهانة والتنجيم والسحر، وعن طريق الأبراج والشعوذة، وعن طريق الخط والرمل الباطل الذي يزعم الدجالون والمشعوذون أن الله تبارك وتعالى علمه لأحد أنبيائه، فذلك من الحق لا شك كما جاء في الحديث لكن ذلك ليس كما يصنعه الدجالون والمشعوذون عن طريق فك الطلاسم، وعن طريق سر الحروف -كما يسمونه- أو السيمياء، وهذه الأنواع موجودة ومشهورة عند أهل الكتاب وغيرهم.
ومن ذلك ما هو موجود في أول تفسير الطبري وأشار إليه ابن كثير رحمه الله في أول التفسير عند قوله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1 - 2] وذلك أن اليهود قد ظنوا هذه الحروف المقطعة رمزاً لمُلك هذه الأمة، وأنها ستبقى كذا وكذا من الأعوام، قدروها أول الأمر بـ (150 عاماً إلى 400 إلى 700) على اختلافٍ في الروايات واختلافٍ -أيضاً- في دلالة الرموز، لأنها تختلف دلالة الرموز والحروف، وهذه دلالة قديمة موجودة في كتب أهل الكتاب، كون الحروف رموزاً إلى حقائق من علم الغيب -كما يزعمون- موجود عند أهل الكتاب في كتبهم، وهي موروثة عن قدماء الصابئة والأمم السابقة كالبابليين والكلدانيين وأمثالهم من الوثنيين، فإنه كان من جملة طلاسمهم وشعوذتهم وتنجيمهم أنهم كانوا يستخدمون حروف الجمّل، التي تكتب: أبجد هوز حطي كلمن إلخ ويرمزون لكل حرف برمز، يقولون: إنها تحتوي على أسرار ما كان وما سيكون.
وما من مسلم والحمد لله إلا وهو يعلم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد}.
ومع ذلك فإن هذا واقع، وأكثر ما يذكر في هذا على سبيل التمثيل الموجز "القبالة اليهودية" التي قد تكتب "كبالة" باعتبار الحروف اللاتينية، هذه الكبالة علم سريّ عند اليهود يعتمد على السحر والطلاسم، ويزعمون أنهم به يكتشفون ما سيقع في المستقبل، ويؤولون رموزاً موجودة في المزامير وفي الأسفار القديمة، مثل: "سفر دانيال" وغيره، وكذلك ورث النصارى هذا العلم أو جزءاً منه، وأضافوا إليه ما أضافوا، مثل: "رؤيا يوحنا" المشهورة، وهي آخر ما يوجد في العهد الجديد أو الأناجيل من الرسائل، وهي موجودة لمن أراد أن يطلع عليها.
المقصود أن هذا العلم -كما يسمونه- من العلم الباطل، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد سماه علماً، وإن كان ليس حقاً؛ قال تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102] فالمقصود أن هذا كان متفشياً في الأمم قبلنا.
ثم ظهر وتفشى في الأمة الإسلامية -مع الأسف الشديد- وأظهر ذلك الرافضة، عندما ادَّعَوْا أن لديهم كتاب " الجفر " و" الجامعة " وأنه في الجفر يوجد خبر ما كان وما سيكون إلى قيام الساعة، وأن هذا الجفر منسوب إلى جعفر الصادق، كتب فيه الملاحم إلى قيام الساعة، ويوجد لديهم بعض النسخ إلى الآن في بعض المكتبات، وبعضهم يفك رموزه ويحللها على أنها أحداث معينة وقعت أو ستقع.
ولا شك أن الرافضة والشيعة الذين كان مبتدأ أمرهم -كما تعلمون- فكر عبد الله بن سبأ اليهودي تأثروا جداً باليهود وما عندهم وأخذوا منهم، ومن جملة ما أخذوا منهم هذا الادعاء.
فهم يزعمون أن أهل البيت يعلمون الغيب، وما كان وما سيكون، وأن هذا هو العلم المخفي أو العلم الخاص المضنون به على غير أهله، الذي لا يطلع عليه سواهم، وقد ادعى ذلك -أيضاً- الصوفية؛ فإنهم زعموا أن أولياءهم وكبارهم يعلمون ذلك بطريق كسبي أو كشفي، ومن ذلك ما هو مشهور عن ابن عربي وابن سبعين وأمثالهما ممن كتبوا في ذلك، وقد عظمت الفتنة بذلك، ومن العجيب أنه في بداية أزمة الخليج الماضية شاعت عند الناس أبيات نسبت إلى ابن عربي.
وشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله وقف لهؤلاء جميعاً بالمرصاد، وبيّن باطلهم، وزيّف كلامهم، حتى إنه -رحمه الله- دعاهم إلى المباهلة لأنه واثق وموقن أنهم على باطل، فدعاهم إلى المباهلة فيما يدّعون ويزعمون من أخبار مما يقع في آخر الزمان وفي نهاية أمر هذه الأمة وشأن دولها وملوكها، وهذا موجود في الجزء الرابع من مجموع الفتاوى (ص:82) وما بعدها ومثلهم -أيضاً- الرفاعية البطائحية وأشباههم، فانتشر هذا عند الصوفية كما انتشر عند الرافضة، وانتشر هذا عند العامة والخاصة؛ لأنه كما قال ابن خلدون: ' أكثر وأول من يهتم بأخبار المستقبل وقيام الدول وسقوطها هم الملوك والحكام الذين ليسوا على العقيدة الصحيحة؛ فهم يهتمون بأمر ملكهم كم سيبقى؟ وكم سيأتي بعدهم من ملوك؟ إلخ ' لكن الأمر شاع وانتشر حتى أصبح -أيضاً- بين العامة، ومن العجيب لمن يقرأ كلام ابن خلدون رحمه الله عندما يقول -وهذا معنى كلامه بإيجاز-: "إنه يمر كهان أو منجمون جوّالون يتجولون في الأسواق ويستدعون الناس ويقولون لهم: نحن نخبركم بالأحداث التي تهمكم، فيأتيهم الناس يعطونهم النقود ويطلعون -بزعمهم- على ما سيقع لهم".
وهذا الذي أخبر عنه ابن خلدون تفشّى في معظم أنحاء العالم الإسلامي، وهو في الحقيقة لا يزال إلى الآن متفشياً في أكثر العالم الإسلامي، لا نقول: في البوادي، بل في هذه البلاد منتشر في البوادي ولدى الطبقة الخاصة المثقفة في غير هذه البلاد؛ بل إن هنالك في بعض الدول معاهد أو مدارس تسمى المعاهد الفلكية أو المدارس الفلكية مختصة في هذا النوع من الدجل والشعوذة أو الرجم بالغيب لإفساد عقائد الناس وابتزاز أموالهم! وهذا لا شك ولا ريب في أنه خدعة شيطانية يريد الشيطان أن يخرج الناس بها عن الاعتقاد الصحيح، وأن يوقعهم في حبائل الشرك والمشركين، ولهذا ينتج عن هذا النوع الذي هو الخرافات والأساطير والشعوذات -أي: النوع الذي هو المصدر الباطل -ينتج عنه فساد العقيدة، وهو أعظم فساد يقع في الأرض.(64/6)
النوع الثاني: المصادر الظنية
لا نقول: إنها باطلة، ولا نقول: إنها يقينية، وسوف تتضح الفكرة عندما نذكر أنواعها وتفصيلها.
النوع الأول: من المصادر الظنية لمعرفة ما سيقع هو الرؤى والمنامات الحقة، وليست أضغاث أحلام، فهذه الرؤى مبشرات كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يستطيع أحد أن يجزم بأن تأويلها كذا إلا إذا كان بوحي؛ فرؤيا الأنبياء وحي لا شك في ذلك، وكذلك تفسير الأنبياء وحي كما فسر يوسف عليه السلام فتفسيرهم حق، لكن من عداهم مهما كان معبراً أو محدثاً، فإن كلامه يحتمل الخطأ والصواب، ومن هنا فإن هذا يدخل في النوع المظنون، ولكن من الناس من يوفقهم الله تعالى، فيكون تأويله في الغالب صواباً، ومنهم من يكون دون ذلك، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدّل أو صحح تأويل أبي بكر رضي الله عنه، وهو أفضل هذه الأمة بعد رسولها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يكن تأويله مطابقاً (100 %) بالدقة، وهذا دليل على أنه لا يصح ولا يمكن لأحدٍ بعده أن يدعي أن تأويلاته للرؤى صحيحة وسليمة (100 %).
النوع الثاني من المصادر الظنية: هو ما عند أهل الكتاب من أخبار مما لم يأت في ديننا ما يدل على بطلانه، لأن ما عند أهل الكتاب إما أن يأتي في شرعنا وديننا مما يدل على أنه حق وصواب فهو حق، أو يأتي في شرعنا وديننا ما يدل على أنه باطل فهو باطل، والآخر المسكوت عنه الذي لم يأت ما يؤيده ولا ما يبطله، فهذا يظل نوعاً من الظن لا نستطيع أن نجزم ببطلانه، لاحتمال أن يكون من بقايا الحق الذي لديهم، ولكن لا نثبته؛ لأننا نعلم قطعاً أنهم قد حرّفوا وبدّلوا في كتبهم، وجائز أن يكون هذا مما أضافوه وكتبوه، إما بألفاظه، وإما بتأويله، فهذا وارد وهذا وارد، وعلى هذا نقيس كل ما يروى عن كعب الأحبار ووهب بن منبه وأمثالهما من أخبار الملاحم والفتن التي تكون وتقع في آخر الزمان.
- النوع الثالث من المصادر الظنية: هو الدراسة العلمية التي يمكن أن نسميها "الاستنباط العقلي" أو الاجتهاد بالنظر في سنن الله الكونية، فإن الله تبارك وتعالى جعل سنناً في هذا الكون لقيام الدول ولسقوطها ولحياتها ولنمائها، للأفراد وللصناعات وللتجارة وللاقتصاد فلكل أمر من هذه الأمور سنة كونية في حياته وموته، فلله تبارك وتعالى أسرار وحكم ونواميس وسنن جعلها، وبقدر ما يدركها الناس ويعرفونها يستطيعون أن يصلوا إلى الحق، وذلك مثل: ما كتبه ابن خلدون رحمه الله باجتهاده ونظره في أحوال العالم عن قيام الدول والأمم والحضارات وعن سقوطها، وهذا النوع توسع فيه الغربيون -على ما سنشير إليه إن شاء الله- وكتبوا وأفاضوا فيما بعد ذلك، وهذا النوع لا يدخل في الغيب ولا في التنجيم ولا في الكهانة، ولكن -أيضاً- ليس يقينياً وليس بوحي، وإنما هو استنباط من الحق -أي: من الوحي- أو استنباط من الواقع، فيتأملون أحوال الأمم وأسباب انقراض الدول وتدمير الحضارات، فيستنبطون وقد يصلون إلى شيء من الحق والصواب بقدر ما يعطي الله تبارك وتعالى المرء منهم من فهم لكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو فهم في تحليل الواقع -واقع هذه الأمم- وكيف تعيش، وكيف تتدمر.
فهذا -أيضاً- نوع من أنواع المصادر الظنية التي تقبل الخطأ وتقبل الصواب، لكن الغربيين ركزوا وشددوا عليه تشديداً مطلقاً كما سنبين إن شاء الله.(64/7)
النوع الثالث: المصادر الصحيحة من الكتاب والسنة
المصدر الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن فضل الله عز وجل على هذه الأمة، بل على العالمين أجمعين أن بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فمن هذه الرحمة أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر هذه الأمة بما تحتاج إليه مما كان ومما سيكون، فلم يقتصر تعليمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورحمته بهذه الأمة -رحمته التي رحم الله بها هذه الأمة- على الإخبار عن الله تبارك وتعالى وعن اليوم الآخر وعن الإيمان والشرائع والأحكام والحلال والحرام؛ بل -أيضاً- أخبرهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن كل ما يصلحهم في أمور دنياهم، ومن ذلك إخباره بما كان وما سيكون مما يحتاجون إليه في دينهم أو دنياهم، فأخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك؛ بعضها أخبر به تفصيلاً وبعضها أخبر به إجمالاً أو إشارة، وكل ذلك بحكمة ومقتضى الرحمة، فإن الفتن الضالة المضلة الكبيرة التي تعمي وتصم أخبر عنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفصيلاً؛ حتى لا يقع فيها أحد، سواء كانت أحداثاً تقع أو كانت بدعاً.
والأمثلة لا تخفى عليكم، مثلاً: فتنة المسيح الدجال، فصّل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القول فيها لعظم شأنه؛ لأنه كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما من نبي إلا وقد حذر أمته من فتنته} ففصّل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل ما تحتاج إليه الأمة: من أين يخرج؟ من الذين يتبعونه؟ ما هي المخاريق التي يأتي بها؟ وكيف تكون نهايته وقتله؟ إلى غير ذلك مما هو معلوم ومما صح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أحاديث الفتن.
وكذلك أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن فتنة الخوارج؛ لأن الغلو أهلك من كان قبلنا كما أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه الأمة يمكن أن يقع فيها ذلك أيضاً، فأخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بـ الخوارج وصفاتهم وبفتنتهم، فلما ظهروا كانوا كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى إن علياً رضي الله تعالى عنه أمر أصحابه بالبحث عن ذي الثدية -تصغير ثدي- فلم يجدوه فقال: والله ما كَذبت وما كُذِبت، فابحثوا عنه، فبحثوا حتى وجدوه في ساقية تحت القتلى فأخرجوه، فإذا في عضده مثل الثدية! فعلموا أنه هو الذي أخبر عنه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأخبرهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالافتراق والفتن ليحذرهم منها وليلزمهم باتباع السنة، باتباع الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا افتراق عنه، ولا يجوز التفرق فيه، فأخبرهم بذلك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفصيلاً.
وأخبرهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتفصيل أنهم سيفتحون الأرض المعمورة، وأن الروم سوف يقاتلونهم في آخر الزمان، وقد جاء ذلك -أيضاً- في أحاديث كثيرة مبيناً فيها طبيعة المعركة، والمدن التي تكون فيها، ومكان نزول الروم، وكيف تكون المعركة عند القسطنطينية أو عند روميا، والأحداث المهمة في ذلك الزمان؛ بيّنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، -أيضاً- لشدة حاجة الأمة إلى معرفة عداوة الروم لهذا الدين، وأنهم سيظلون العدو اللدود الأبدي؛ لأن الروم -كما لا يخفى عليكم- كان هرقل زعيمهم وملكهم، ولما وفد إليه كتاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن رأى الرؤيا وأخبر أن ملك الختان قد ظهر وهذا شاهد لما ذكرنا أن علم الغيب يمكن أن يطلع عليه من أراد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له ذلك لحكمة منه، فرأى رؤيا أزعجته، وعلم أن مَلِك الختان سيظهر، ثم كان لقاؤه بـ أبي سفيان رضي الله تعالى عنه، وجرى بينهما ما جرى من الحديث الطويل المشهور الذي رواه الإمام البخاري رحمه الله واشتمل على عدد عظيم من دلائل النبوة، فمنذ ذلك الحين عندما أبوا الإسلام مع معرفتهم بأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق، ظلوا العدو الأبدي لهذا الدين فلا يفصل بيننا وبينهم إلا عيسى عليه الصلاة والسلام، وهذا من حكمة الله أنه لا يفصل بيننا وبينهم إلا نزول عيسى عليه السلام؛ لأنه سوف يتبرأ منهم في الدنيا قبل الآخرة، فهو الذي يقتلهم عليه السلام ويقتل خنزيرهم، ويحطم صلبانهم، ويضع الجزية، أي: تنسخ الجزية فلا يقبلها منهم؛ لأنهم الآن وفي كل العصور ينتسبون إليه وباسمه يبيدون المسلمين في كل مكان، ولشدة عداوتهم وعظيم ضررهم فكان من حكمة الله تبارك وتعالى أنه هو الذي يقاتلهم بعد أن يأتي مجدداً ومتبعاً لشريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيصلي خلف المهدي، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: {وإمامكم منكم} فيصلي عيسى خلف المهدي من هذه الأمة؛ ليعلم الناس جميعاً أن عيسى -عليه السلام- تابع لشريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا.
وقد صح عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أخبر بما كان وما هو كائن خبراًَ طويلاً عظيماً؛ كما في البخاري ومسلم، ورواه أحمد وغيرهم: {أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب الناس} وفي رواية مسلم: {أنه صلى الفجر ثم خطب الناس حتى جاء وقت الظهر، ثم نزل فصلى ثم خطب الناس حتى جاء وقت العصر، ثم نزل فصلى ثم خطب حتى غابت الشمس، فأخبرهم بما كان وما سيكون} وفي بعض الروايات قال: حتى دخل أهلُ الجنةِ الجنَة، وأهلُ النارِ النارَ} ولهذا قال الصحابة: فأعلمنا أحفظنا، فحفظ منهم من حفظ، وبعضهم لم يحفظ الكل.
والمقصود أن هذا قد أخبر به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكل ما يحتاجون إليه بالتفصيل ذكره تفصيلاً، وما كان دون ذلك فهو بحسبه، وما على الأمة إلا أن تتحرى وتجتهد في معرفة وتمييز الصحيح من الضعيف أو الموضوع من هذه الأخبار، فتتلقى الصحيح الثابت والحسن بالقبول وتؤمن به، وما عداه فإنها ترده ولا تقبله، وهذا حق، فهذا مصدر يقين وحق؛ لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينطق عن الهوى، إنما يظل الخلاف -وهو موضع الاجتهاد- في تفسيره.
وهذا له قواعد أحب أن ألفت نظر الإخوة إليها، فلتفسير ما ورد عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أحاديث الفتن، قواعد علمية لا يجوز للإنسان أن يغفل عنها وأن يفسرها بهواه، وقد ضل كثير من الناس في القديم والحديث عندما فسروا ما جاء عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فضلاً عن المنامات أو الأحلام- بمقتضى آرائهم أو أهوائهم من غير اعتماد على منهج صحيح من العلم واللغة، أو من كلام العلماء، أو من دلائل الواقع أيضاً.(64/8)
أنواع الدراسات المستقبلية الغربية
في الحقيقة كل ما تقدم هو مقدمة لنصل إلى صلب الموضوع، وهو موقف الغرب من دراسات المستقبل وموقفنا نحن أيضاً من هذا العلم، ماذا عمل الغرب؟ وما هي مصادر هذا العدو اللدود -الروم والغرب- من هذا العلم؟(64/9)
النوع الأول: الخرافات والأساطير
بقيت الخرافات والأساطير عندهم؛ ثم أن اليهود والنصارى وورثوا ميراث أولئك، وزادوا عليه ما عندهم من الخرافات، فهم يعتمدون على الكهانة، ويعتمدون على التنجيم، ويعتمدون على الأساطير، ويعتمدون على كل الوسائل التي قد تخطر على البال أو لا تخطر من مواردالمسلمين وغيرها.
بهذه المناسبة أذكر للقارئ مثالاً حياً، حدث الليلة حدثٌ كبير في أمريكا حيث ستجرى الانتخابات، وكل واحدٍ من الطرفين لديه عدد كبير من المنجمين والمنجمات والساحرات يخطون لهم بالرمل من شهور ويتنبئون بفوزه في الحملة الكلية أو في ولاية كذا دون كذا! وهذا معروف جداً، ومن لوازم البيت الأبيض الأساسية، وهذا نقل ونُشر، وهو موجود في كتبهم، وهم لا ينكرون ذلك، فإنهم يعتمدون في التخطيط السياسي على الكهانة وعلى أخبار السحرة والمنجمين والمشعوذين بنفس الطريقة العتيقة القديمة، التي يتحدث عنها العجائز أو من أثر فيهم المشعوذون: كالمطالع، والقرانات، وحركات الكواكب والأفلاك، وهذا المصدر ما زال موجوداً! مثلاً: المذَّنبات، فإنها عندهم دليل على حدث ضخم يقع في الأرض، ويتأول الناس في ذلك ما يتأولون، وهذا موجود عند العجائز وكبار السن، ومن المتداول في القديم وإلى الآن، وهذا اعتقاد الغربيين، أن مذنَّب " هالي " يعتقدون أنه يتلازم مع ظهوره وقوع أحداث دولية أو سياسية كبيرة، وهذا دليل على أن الخرافات واحدة، وإن كانت في ثوب عصري، وبمكان عصري ولعل القارئ يذكر بعض الكتب التي تقرأ ويقرؤها العامة وفيها الملاحم، مثل ملحمة " التبع حسان " هذه الملحمة موجودة في كتاب الزير سالم، وهو من كتب الخرافات والسحر التي تقرأ فيها كيف سيأتي ملك بني أمية؟ فيقولون كيف سيظهر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم يأتي ملك بني أمية، ثم بني العباس ثم إلى ظهور المهدي وظهور عيسى عليه السلام في آخر الزمان، ومثل هذا كثير.
ومثل لهذا ابن خلدون بأنواع من الشعر كثيرة، فلديهم في الغرب هذه الصورة من الدجل، والحق المشوب بالباطل، والظنون، والتخرصات، كما هو معلوم أن هذه الأشعار والأخبار كتبت بعد الإسلام أصلاً، لكن تفترض أنها كانت قبله، فمثل هذا موجود عند الغرب لكن بصورة أعرق وبطريقة أدق لأنهم يهتمون بتحليل كل شيء حتى الخرافة.
ومن ذلك أن رجلاً غريباً ظهر قبل أكثر من مائتي سنة في أوروبا وألمانيا وذهب إلى الكنيسة ودرس في الفاتيكان يسمونه " انوستر دامث " وهذا كتب كتاباً يتنبأ فيه بأحداث، وزعم أن ما يتنبأ به ليس مجرد أخبار أو آراء أو تنجيم أو كهانة، وإنما فيه -أيضاً- من نور النبوة، وفيه من الوحي، ويحتمل أن يكون استنبط كتابه مما عند أهل الكتاب، بل يحتمل -أيضاً- أن يكون اطلع على ما كتبه المسلمون في هذا مما هو مأخوذ من أحاديث الفتن والملاحم وغير ذلك.
فهذا الرجل هو الحديث والشغل الشاغل لكثير من الدارسين والمحللين الغربيين في أوروبا وأمريكا، وقد عملوا له فيلماً، ولعل البعض قد رآه، وقد رأيته -الحقيقة- بنفسي، فيتعجب المرء عندما يرى كيف يفكر هؤلاء، وقد قال هذا الرجل مثلاً: إن الثورة الفرنسية سوف تقوم، وإن نابليون سوف يظهر، وإن الدولة العثمانية حالها كذا، وإن أمريكا عالم جديد سيُكتشف أو اكتُشِف، وسيكون العالم الجديد، فيه فلان الزعيم وفلان وفلان من الزعماء الذين لم يكونوا قد ظهروا في هذا الوقت إلى أن قالوا: إنه ذكر مقتل جون كيندي، وأخبر بأن دمار أوروبا سيكون على يد رجل يظهر من الشرق، ويرد في الفيلم مجموعة من العرب مثلوا ما في هذا الكتاب، وجاءوا بالأحداث على أنهم مجموعة من العرب في الصحراء، ومعهم هذا القائد -وهو: قائد دكتاتوري- ويشير إليهم أن أطلقوا الصواريخ! فيطلقون الصواريخ، ويجتمع الرئيس الأمريكي وأركان جيشه، قادة أوروبا فيصدون أول وثاني هجوم، وفي المرة الأخيرة لا يستطيعون صد الهجوم النووي، فتنزل الصواريخ! وترى نيويورك وهي تتطاير وتدمر، وكذلك بقية مدن أمريكا، وتسقط أوروبا، ويسقط الغرب ويخضعون لهذا الفاتح العربي -كما صوره الفيلم- وفيه زيادات.
لكن المقصود من هذا الكلام أن هذا الفيلم من أكثر الأفلام رواجاً في أمريكا، وقد عمل عام (1405هـ) الموافق تقريباً (1985م) وفيه تصويرالمسلمين على أنهم العدو اللدود الذي لا يمكن ولا يصح إلا القضاء عليه وتدميره، حتى في ذلك الزمن عندما كان الاتحاد السوفيتي لا يزال قوياً، فإنهم كانوا يعتبرون أن العدو الخطير لهم هو الإسلام وليس الاتحاد السوفيتي، فالعدو الخطير هو هذا العدو الذي ذكره وصوره هذا الرجل وأصحاب هذا الفيلم.
وسمعت أن المخرج يهودي وأنه قصد هذه الإثارة، ولا يستبعد ذلك.
وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي أصبحت هذه النظرية أكثر رواجاً وأكثر قبولاً، وبذلك أصبح الغرب يعتبرالمسلمين هم العدو الأول والأخير الذي يجب أن يقضى عليه، وأن اجتماع الغرب والشرق ضرورة -أي: غرب أوروبا وشرقها- بل حتى يجتمع الهنود، والصينيون، والبوذيون، واليابانيون، وكل العالم للقضاء عليه، ولكن وفق خطط مدروسة.
إذاً: عندهم هذه الخرافات والأساطير؛ ومنها ما قاله هذا الكاهن أو المنجم بزعمه، فهذه أحد مصادرهم.(64/10)
النوع الثاني: نبوءات الكتب المقدسة
قد أبرزوا ذلك كما في "رؤيا يوحنا" أو رؤيا دانيال وأشباهها، وظهر ذلك جلياً في أثناء الحرب بينهم وبين العراق التي يسمونها حرب الخليج، لكن حرب الخليج حربان، فالمقصود الحرب الأخيرة، والتي أظهروا فيها الأساطير والنبوءات؛ حيث ظهرت ظهوراً عجيباً في تلك الأيام، وأظهروا فيها مكرهم، وعندما أظهروا كيدهم ومكرهم وما في أنفسهم من حقد وتولى كبره التدميريون، والإنجيليون والأصوليون الذين يؤمنون بحرفية ما في هذه الكتب فقالوا: إن هذا العالم الإسلامي هو الخطر وهو مصدر الشر كما قال أولئك، وأن المسلمين هم الوثنيون الذين لابد أن يُدمَّروا، وأن هذه الحرب ستكون تمهيداً لنزول المسيح عليه الصلاة السلام، وأنه إذا نزل يُرفع المؤمنين به -وهم النصارى- إلى السحاب، ولا يبقى إلا الوثنيون -أي: المسلمين- ثم يُدَمَّرون تدميراً كاملاً.
وقالوا: إن ما ورد في رؤيا يوحنا من النار المتقدة بالكبريت -أي: الحرب النووية- التي سوف تستخدم في الحرب، فهم أظهروا هذا الكلام حتى قبل أن تنشب الحرب، وهيئوا أذهان الناس في أمريكا وغيرها لقبول خيار الحرب، وأنه لابد من الحرب حتى لو انسحب العراق، ولا بد من تدمير هذه القوة، وأن " بابل الزانية" التي يكثر ذكرها في كتبهم هي هذه بابل، فـ العراق لا بد أن تضرب، ولا بد أن تدمر.
وهناك عوامل غير ذلك، فـ الصهيونية واليهود يستخدمونهم ويسخرونهم لمآرب لهم تلتقي مع أهدافهم، لكنهم أرادوا بهذا تدمير العراق وإخضاعه، وهذا هدف مبدئي قريب، ولكنهم إنما يريدون -أصلاً- تدمير العالم الإسلامي، وأن يكون هذا نموذجاً له.
فالنموذج لديهم إما أن يكون الخميني: العنف والإرهاب والدموية، وإما أن يكون القذافي: الإرهاب واستئجار كارلوس.
وإما أن يكون صدام أو غير صدام فيقال: هذا هو الإسلام، وهذا هو الجهاد المقدس قد أعلنه صدام، فيجب أن نقضي عليه.
فأية فرصة تسنح لهم فإنهم ينتهزونها ويستغلون الأحداث لإبراز أن الإسلام هو العنف والدموية والإرهاب وسفك الدماء، والعدو الذي يجب أن يقضى عليه.
فعندما كان الرمز هو الخميني، كان صدام بالنسبة لهم هو المُحِق المصيب أو المظلوم في هذه الحرب الذي يطالب بإيقافها من طرف واحد، وهو عادل ومنصف، وهو الذي استجاب لمطالب الأمم المتحدة في هذا، فهو مع الشرعية الدولية.
فلما أرادوا تحويله، إذا به هو المجرم والدكتاتور والسفاح وصاحب بابل الزانية، وكل لقب من الألقاب الشنيعة، وهو الوحش لأن في رؤيا يوحنا وحشاً، وهو النبي الكذاب إلى غير ذلك، فهم أوّلوا كل التأويلات عليه.
إذاً عندنا إنجيليون حمقى يؤمنون بهذا الكلام حرفياً، ويتأولون بالأهواء وعندنا الساسة الخبثاء الذين يستغلون ما في النصوص ويستغلون كلام الإنجيليين لأغراض وأهداف، وكل هذه الأهداف والأغراض تلتقي على تدمير هذه الأمة وتجميع القوى وتهيئة أذهان الشعوب الغربية؛ لتصدق أن هذه الأمة هي العدو الذي لابد أن يُقضى عليه قبل أية مشكلة من المشاكل التي يعاني منها الغرب.(64/11)
النوع الثالث: الدراسات العلمية المعتمدة على النظر في السنن الربانية
فالنوع الثالث: من أنواع الدراسات المستقبلية الغربية: هي الدراسات التي أشرنا إليها من قبل في النوع الظني، وهي الدراسات المعتمدة على الاستنباط والاجتهاد والنظر في سنن الله الربانية، فهي دراسات علمية.
وهذا النوع ظهر أيضاً في أوروبا، وكثر المتكلمون فيه من الفلاسفة الذي يسمونه فلسفة التاريخ، بمعنى أنهم يتأملون كيف تجري أحداث التاريخ، وكلهم تأثر من قريب أو بعيد بـ ابن خلدون.
مثلاً: يقول " هيجل " المفكر الأوروبي المشهور: ' إن في العالم صراع النقائض فيما بين الشعوب، وفي النهاية ينتهي بقيام دولة بروسيا التي كان فيها ' فهي الدولة النهائية التي ينتهي عندها حلم البشرية لأنه كان يعيش في ظلها.
هذا الكلام أخذه " كارل ماركس " وجعله بصورة أخرى، فقال: ' إن المتناقضات هي همّ الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية، وإن الدولة التي ينتهي عندها التاريخ ويقف عندها وتكون نهاية العالم هي الدولة الشيوعية! ' والحمد لله ذهبت وقُضي عليها كلها -البروسية والروسية- لكن هذا نموذج لتفكير الأوروبيين في دراسة التاريخ، هؤلاء فلاسفة، وظهر بعد ذلك باحثون ليسوا بـ فلاسفة لكنهم باحثون لا يعتمدون منهجاً فلسفياً معيناً، لكنهم أكثر وأدق استنباطاً في سنن الله أو في التاريخ.
أشهرهم هو المؤرخ البريطاني المشهور: أرنولد توينبي الذي درس الحضارات جميعاً، وتأمل فيها واطلع على أحوالها، وذكر كيف يمكن أن تسقط الحضارات، وكيف يمكن أن تقوم، وتنبأ -فيما تنبأ- بسقوط الحضارة الغربية، وتنبأ -فيما تنبأ- بأن المسلمين سيكونون عدو المستقبل أيضاً، وإن كان في كلامه بعض الاعتراف بالحق، عندما ذكر أن الغرب سوف يسقط بسبب الخمر والفواحش والانحطاط الأخلاقي، وأن المسلمين سلموا من هذه بمعنى أن هذا أحد العوامل -بلا شك- التي بها يرث المسلمون الأرض.
وتوينبي في مختصر دراسة التاريخ ذكر هذا الشيء، ومن العجب أن -حتى يعلم القارئ الكريم كيف يعمل هؤلاء ويخططون- توينبي المعروف عند الناس أنه مؤرخ وعالم في الواقع كان مستشاراً لوزارة المستعمرات البريطانية! ومن خلال ما يستنتج من تخطط السياسة البريطانية على وفق ذلك، فلما انتهى عصر الاستعمار البريطاني نقلت الملفات والخبرة والوسائل القديمة وكل شيء إلى أمريكا، وقد أشار كوبلنت " إلى هذا في كتاب " لعبة الأمم " أنه في عام (1958م) نقلوا كل شيء إلى أمريكا، ولذلك عندما حدثت أحداث الخليج الأخيرة ظهرت وثائق في الصحف -منها الحياة - كيف أن ما نفذ في عام (1990م)! وما وقع من اعتداء عراقي ثم هجوم كان سيقع عام (1960م) لكن المنفذ في ذلك اليوم كان بريطانيا، بمعنى أن العملية واحدة، وكل منهم يبني على ما عند الآخر، ويأخذ دراسته ويفيد منها، ثم يضيف إليها ما حصل.
أيضاً: عندما تخلى الإنجليز عن مصر والقناة وعن العرب واليهود، ورثت أمريكا نفس الدور البريطاني، والمحادثات التي تجري الآن في المفاوضات حول السلام تشرف عليها أمريكا، وقد كانت تشرف عليها من قبل بريطانيا، وكذلك مؤتمرات كانت في لندن، والإشراف عليها بريطاني، فالعملية واحدة؛ فهم يستفيدون من خبرة من سبقهم ويزيدون عليها، وبعضهم يحيل إلى بعض، والجميع يشعر أنه كيان واحد، وأن العدو الذي يهدده واحد، وهو هذا الدين، والله المستعان.(64/12)
النوع الرابع: الخيال العلمي
ظهر نوع آخر -لا بأس بالحديث عنه- وهو الخيال العلمي، وهو نوع من أنواع معرفة المستقبل عند الغربيين، وهو يعتمد على مجرد التخيل، لكنه يستند إلى حقائق: إما حقائق علمية بمعنى النظر في الكون، وإما حقائق عملية بمعنى نتائج تاريخية واستنتاجات من تاريخ وواقع الناس عندهم، وفيهم رجل يسمونه نبي القرن العشرين من كذبهم وافترائهم، وهو " ولز " وقد تنبأ بأشياء كثيرة، وله عدة كتب منها كتاب " رحلة في دنيا المستقبل " وهو مترجم، وهو من الناحية العلمية البحتة.
وله أيضاً توقعات أخرى عن سقوط بريطانيا وانهيار الامبراطورية وقيام امبراطوريات أخرى وما أشبه ذلك، وكان " ولز " ممن اشتهر بهذا النوع من التنبؤات وكتب فيها طويلاً.
ومنهم من درس دراسة بعيدة عن هذا الخيال العلمي، ولكنه أقرب للحقيقة وهو " جورد أولوي " ألف كتاباً عنوانه " 1985 " وقد ألفه قبل هذا بحوالي (80) سنة، وقال: في عام (1985م) سيكون العالم كذا وكذا، وبيّن أشياء مما تخيل أنه سيكون عليها حال العالم.
وهناك دراسات أخرى من نوع آخر، من ذلك ما قام به شبنجلر في كتابه: تدهور الحضارة الغربية، وهو شبيه بعمل توينبي، وهو أنه جمع الحضارات جميعاً، وكيف تقوم، وكيف تسقط، وذكر -أيضاً- أن الحضارة الغربية سوف تسقط وتنهار: ولكن أقول: الخيال العلمي كثير جداً، حتى أنهم تنبئوا بصعودهم إلى القمر، وبالسيطرة على الكواكب، وتنبؤا بحرب النجوم، وبأشياء كثيرة، ليست من الغيب في شيء، إنما فكروا أن العالم سيتطور، وبتطور ما لديه تصبح هذه الأمور حقيقة واقعة، وبعض هذه الأشياء يكونون قد اطلعوا عليها وهي في دور الفكرة ودور المعمل في التجربة، فيفترضون أنها قد وقعت، وبعد سنين ينجح العلماء التجريبيون في الحصول عليها، فيظهر ما قالوا من قبل، فهي ليست تكهناً، وإنما هي خيالات ورؤى تستند على بعض الأمور أو الحقائق الصحيحة، ويمكن أن تسمى تكهناً من باب أنها رجم بالغيب، لكن ليس مصدرها الكهان الذين يخبرون عن الشياطين ويسترقون عنهم.
هذه الأربعة الأنواع مع أنها موجودة ولها أثر كبير في الغرب لكنها لا تهم كثيراً مثلما يهمنا النوع الخامس والأخير والخطير.(64/13)
النوع الخامس: الدراسات العلمية المتخصصة في معرفة المستقبل
وحتى لا أطيل على القارئ من جهة فسوف آتي بأمثلة عامة يمكن إدراكها جميعاً، وما يدق من الأمثلة ندعه.(64/14)
أمثلة للدراسات العلمية المتخصصة(64/15)
القوة القادمة
في هذه الأيام ينشغل الناس -أو ينشغل الأوروبيون- بوحدة أوروبا، وهل ستكون أو لا تكون؟ واتفاقية أمسترخت، وكل منا يسمع هذا الكلام في الإذاعة أو يقرأ في الجرائد: هل تنجح أو لا تنجح؟ ولا يعلم الغيب إلا الله، لكن قبل أن يوقعوها -بغضّ النظر عن بعض الدول التي رفضتها- نستطيع أن نقول: إن أوروبا سوف تتوحد، وذلك للدلائل التاريخية والدلائل النصية! أما الدلائل التاريخية: فإن أوروبا قد توحدت علينا أيام الحروب الصليبية في الحملات الكثيرة التي قامت بها، وكانت تحت راية واحدة، فملك ألمانيا وملك فرنسا وملك بريطانيا ودوق كذا وكذا من الدوقيات، كلهم جاءوا تحت راية واحدة هي: الحرب ضد المسلمين، فلا يُستغرب هذا عليهم مادام العدو هو الإسلام.
وأما الدلائل النصية: فإننا نفهم أن الروم سيحاربوننا في آخر الزمان على أنهم جبهة واحدة، ولا يعني هذا أن الأحاديث تنطبق الآن في هذه اللحظة، لكن نقول: تشير الدلائل على أن الغرب أقرب إلى أن يتوحد دائماً.
فالغربيون عندما يحاولون تقرير هذا، ويدرسون هذا دراسة تطبيقية تجريبية، فيقولون: هل يمكن أن نتوحد؟ ولماذا نتوحد؟ وما هو مستقبل العالم في القرن العشرين إذا توحدت أوروبا؟ وبناءً على هذا، يقولون: من الذي سيكون القوة العظمى في العالم؟ وظهرت ثلاثة احتمالات، وبعضهم يجعلها أربعة: 1 - الاحتمال الأول: أن تظل أمريكا هي القوة العظمى في العالم، وهذا ما يريده الإنجيليون والأصوليون والتدميريون وأمثالهم أن تظل القوة ل أمريكا، وهم يزعمون أنهم سوف يسيطرون على أمريكا، وأنها هي القوة التي تهيئ لمقدم المسيح ونزوله؛ لأن النصارى عندهم اعتقاد أنه سوف ينزل عام (2000م)، وهكذا سوف ينزل المسيح رضينا نحن أم لم نرض، قلنا حقاً أو باطلاً، هذا هو تفكيرهم، فيريدون تجميع الناس.
ومثل ما كانت الحرب الأخيرة هذه فإن هذه التنبؤات ظهرت أنها كذب، ولكن هذا لا يضرهم؛ لأن الشعوب لا عقل لها، ولا أحد من الناس يقول: أنت قلت لي كذا قبل ثلاث سنوات، والآن صار كذا، والمفكرون المثقفون هم قليل، لكن أكثر الناس إذا جاء عام (2000م) ولم يأتِ المسيح، أشغلوهم بقضية ثانية ليسوا القضية الأولى، وهكذا حال الشعوب عموماً.
المقصود -الآن- في هذه المرحلة أنهم يهيئون الناس إلى هذا الكلام، ويقولون بأنه سينزل، فإذاً أمريكا هي القوة المحتملة.
2 - الاحتمال الثاني: أن أوروبا الموحدة هي القوة المحتملة.
3 - الاحتمال الثالث: هو أن يكون هناك قوة يابانية أو قوة شرق آسيا، يعني أن تتوحد اليابان وكوريا والصين، وتكون قوة عالمية.
4 - الاحتمال الرابع: الذي يخططون ضده في الخفاء، وله معاهد متخصصة أن الإسلام هو القوة القادمة، وهذا يصرح به من يصرح ويخفيه من يخفيه، كما قال تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] , والذي ينتج عن هذا عملياً، إذا ترجح لديهم لأنهم دائماً يضعون ثلاثة احتمالات أو أربعة ويضعون على كل احتمال جوابه حتى لا يفاجئوا به: فمثلاً: إذا ترجح أن الإسلام سوف يكون القوة القادمة فإن هذا يترتب عليه القضاء على المسلمين في أوروبا، فمثلاً: المسلمون في البوسنة والهرسك، وهذه دولة مسلمة أغلبية سكانها مسلمون في داخل أوروبا، فلا يصح أن تقوم في أوروبا دولة إسلامية مهما صغرت إذا كانت مستقلة؛ لأنها نواة للخطر القادم داخل أوروبا.
فيريدون القضاء على أية دولة وتفتيت العالم الإسلامي خارج أوروبا فكيف تكون دولة إسلامية داخل القارة؟! فالحرب على الملونين المسلمين، وإلا لو كان نصرانياً فمهما كان لونه أو جنسه لا يهمهم، والحرب على المسلمين الذين يقيمون في أوروبا أو في أمريكا أو يقدمون إليها، ولذلك ظهرت موضات غريبة عند الشباب منها حلق الرءوس أي: الرءوس الملساء فترى شباباً غربيين يحلقون شعورهم حلاقة كاملة، وهم إرهابيون مهمتهم اقتناص الملونين، ففي أي مكان يجدونهم يقتلونهم، هذا موجود في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وكثير من الدول أي: يتعبدون ويتقربون بقتل هؤلاء المسلمين الذين يرونهم في أوروبا، وقد ذكرت في أحد الدروس بعد شرح الطحاوية بعض كلامهم وقولهم: لا نريد المآذن ولا نريد الثياب ولا نريد هؤلاء أن يأتوا بدين غير ديننا وغير ذلك.
فالمقصود أنه في ظل هذا الخيار يظهر لنا لماذا هذا التخاذل وهذا التواطؤ الواضح المكشوف؛ ففي داخل القارة يباد شعب أوروبي في دولة مستقلة اعترفت بها الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، تباد وبهذه الوحشية المتناهية التي ما شهد لها التاريخ -كما يكتبون هم- نظيراً، وفي القرن العشرين، وفي ظل حقوق الإنسان والشرعية الدولية والعدالة التي رأيناها في أحداث الخليج، عدالة عجيبة سريعة تقفز من مكان إلى مكان!! ونجد الخذلان المطلق في هذه القضية، بينما ليس الصرب بأقوى من روسيا ولا بأهم منها، فـ روسيا تدلل جمهوريات البلطيق وتنسحب منها، ويضغط عليها الغرب لتعطيها استقلالها وهي دويلات صغيرة في مواقع غير مهمة على الإطلاق من العالم، ولا أحد يدري عنها ولا أين تقع وليس لها أي أهمية، بخلاف البوسنة التي تقع على البحر الأبيض، وقريبة من إيطاليا، وقريبة من الشرق، وهي في موقع مهم جداً، وهي وما حولها من أجمل بقاع العالم -على الأقل عند الغربيين أن أجمل بقاع العالم هي تلك المناطق- ومع ذلك تدمر.
وهكذا تختلف المعايير؛ لأن هناك حقداً خفيا ًدفيناً، قد يظهرونه وقد لا يظهرونه، لكن الدراسات الاستراتيجية المستقبلية تقول: يجب أن تقضوا على هذا الخطر، وليس رجال الدين فقط هم الذين ينادون بذلك، بل رجال السياسة الذين يستندون إلى هذه الدراسات، والدراسات تستند إلى ما في الكتب المقدسة هم الذين يخططون ويتنبئون بهذا.
إذاً في ظل هذا يمكن أن نقول: إن مستقبل أوروبا يراد له أن تكون أوروبا هي القوة الوحيدة في القرن القادم ويراد لها أن تتطهر عرقياً ودينياً، وتصبح أمة نصرانية متماسكة.(64/16)
موضوع السكان والانفجار السكاني
بدراسة بسيطة جداً يستطيع أن يجريها أي شخص منا، فيعرف أنه إذا كانت القرية -الآن- سكانها خمسة آلاف، ويتزوج منهم بنسبة (20%) أو (30%) وكل واحد يولد له في كل سنتين مولود فبعد عشر سنوات أو عشرين سنة يصبح عدد سكانها كذا، فبهذه الطريقة يتحدثون ويخططون تخطيطاً دقيقاً.
طبعاً هذا تخطيط ساذج، لكن هم بتخطيط عميق يخططون ويقولون: إن الغرب في خطر شديد جداً.
قالوا: إن العالم الإسلامي الآن مليار، ألف مليون وستمائة مليون، وإذا استمر المسلمون في التكاثر والتناسل في مثل هذه النسبة سيصبحون بعد جيل أو جيلين أكثرية في الأرض، بينما الغرب يتناقص، فالوفيات في الغرب أكثر من المواليد، فبهذا سيصبح الغرب أقلية بخلاف ما كان في أول هذا القرن حيث كان الغرب أغلبية ساحقة، فقد كان سكان مصر خمسة ملايين، وكان سكان بريطانيا خمسين مليوناً.
لكن في عام (2010م) سوف يصبح سكان مصر مائة مليون، ويصبح سكان بريطانيا ستين مليوناً تقريباً، فكيف بعد مئة سنة؟!! هذا خطير جداً! واليهود من أقل الشعوب تناسلاً، ومعنى ذلك أنه في عام (2050 أو 2030) -تقديرات- سيكون اليهود (15 مليوناً)، بينما سيصبح عدد العرب الذين حولهم (400 مليون)، وهذا رقم مخيف جداً، وخاصة مع انتشار الأصولية، فلو لم يتدين من الأربعمائة مليون، ويتمسك منهم إلا (10%) لصاروا (40 مليوناً)، فيمكن أن يقضوا على (15 مليوناً)، فهذا عدد هائل ولذلك يهتمون بهذا جداً، لذلك يجعلون من أولويات الدراسة عندهم بالغرب بحسابات دقيقة ودراسة تفصيلية: معرفة النمو السكاني؛ ولذلك كثير من دول أوروبا تعطي لكل مولود يولد منحة أو جائزة، وتحاول بعض الدول أن تسكن أرضها حتى من كان من غير الأوروبيين، فالمهم أن يتكاثر ويندمج هؤلاء مع الشعب؛ مثلما يعبئون الآن من الصومال، فهم يعبئون الآن من أية دولة فيها مآس ونكبات، ولا يهمهم أن الجيل الأول مسلمون، فإن أبناءهم وأبناء أبنائهم سيكونون نصارى ومن أبناء البلد ويندمجون معهم.
فشعورهم بالفقر السكاني يخيفهم ويجعلهم يتناسون كثيراً مما يؤمنون به، ويجعلهم يأتون بهؤلاء الناس ويعطونهم جنسيات ويسكنونهم، ففي ألمانيا حتى العمال الأتراك تشملهم الزيادة العددية في السكان حتى يسكنوا فيها ويستقروا وتكون لغتهم الألمانية، وسيكونون مجندين في الجيش "الألماني"، فهم ألمان حتى وإن كانوا أتراكاً وهكذا؛ مع أنهم يحقدون على الأتراك حقداً شديداً، لكن يرون أن هذا ضروري، ففي فرنسا مثلاً: لماذا يعطون الجزائريين والمغاربة الجنسيات؟ السبب لأنهم يشعرون بالقلة العددية.
ويصدرون لنا كل يوم أن الانفجار السكاني خطر يهدد مصر ويهدد الدول العربية ويقولون لن يجد العرب ما يأكلون، ولا كيف يعيشون! مع أنهم يعلمون -وهم أعلم بنا من أنفسنا- أن المساحة المزروعة في العالم العربي -فضلاً عن العالم الإسلامي- لا تصل أبداً إلى (5%) من أرضه، أما هم فيستغلون كل شبر من بلادهم، بل حتى البحر يستغلونه في الزراعة! واليابان وغيرها مثال على هذا! إذاً هم يخوفوننا بهذا الانفجار، وهم يخططون في الدراسات المستقبلية لأن يظلوا هم الأكثرية أو المسيطرين بشرياً على العالم، وهذا أحد الجوانب التي توضح للجميع خبايا تخطيطهم ودراساتهم الاستراتيجية المستقبلية.(64/17)
موضوع البيئة
لعلك سمعت -أيها القارئ الكريم- عن مؤتمر الأرض وما جرى فيه من الاهتمام بالبيئة، وهذا علم يمكن التوصل إليه بالدراسة العادية جداً، ونحن المسلمون في غفلة عنه مع الأسف الشديد، فيناقشون كيفية تلوث البيئة، أو خطر فتحة الأوزون كما يسمونه: وهو ثقب في سقف الكون، فيناقشون خطرها وماذا ينتج عنها، والمسلمون كأنهم في غفلة عن هذا، وأعلى نسب للتلوث في العالم هي في العالم الإسلامي، والقاهرة مثال على هذا وغيرها من المدن.
إذاً هم يفكرون في كيفية إيجاد البيئة الملائمة للإنسان، والتخفيف والتقليل الشديد من آثار الخطر البيئي، ولذلك هم يعرفون أماكن بناء المصانع، وكيفية تحويلها، وأماكن دفن النفايات النووية، واكتشفت بواخر تدفن النفايات النووية، قرب سواحل بعض الدول الإسلامية بغرب إفريقيا؛ بل قالوا: إنها يمكن أن تدفن في بعض الصحاري العربية، حتى لا تتأثر بيئتهم بما فيها من أضرار وأخطار؛ لأنهم يريدون نظافة وسلامة ونقاوة البيئة وتفاصيل كثيرة.
فمثلاً: عندما تمنع زراعة بعض الأمور لديهم؛ لأنها بعد عشر أو بعد عشرين سنة تفسد الأرض، فتأتي شركاتهم تستأجر في بلاد العالم الإسلامي الأرض لمدة عشرين سنة، فيفرح الناس، ويقولون: ستأتي شركة تشتغل في أرضنا، وتعطينا الأموال، وهذا مكسب عظيم؛ لأنهم يستخدمون مدة صلاحية الأرض فقط وهكذا، مما ينتج عنه دمار كامل في المستقبل لهذه الأمة ولمقدراتها، فهذا المثال يدل على أن الدراسات المستقبلية ضرورية لمعرفة مستقبل هذه الأمة سكانياً وأيضاً بيئياً، وهذا ليس داخلاً في علم الغيب، إنما مما يجب أن نستنبطه وأن نتعلمه وأن نبحثه، ونرى آثاره أيضاً على الإنسان والفرد وغير ذلك.(64/18)
البث المباشر
وأظن الكلام في البث المباشر كثير جداً فلا يحتاج أن أطيل فيه: ولكن أقول: قبل أن يسمح بالبث المباشر على أوروبا أُجّل الموضوع لمدة ثلاث سنوات، ودرست آثار ونتائج البث المباشر الأمريكي لو جاء إلى أوروبا، ووضعت الترتيبات اللازمة، ثم بعد ذلك بدأ بعضهم يستقبل من بعض، بحثوا عن النتائج الأخلاقية، والنتائج الاجتماعية، والنتائج السلوكية، والنتائج اللغوية، فكل هذا درسوه على أنه من الممكن أن يقع وخططوا له، ثم درسوا بعد ذلك نتائجه البعيدة كيف يكون الوضع إذا أصبح العالم فعلاً قرية واحدة، وما أثر هذا على القرار الديني أو القرار السياسي، يقصدون مثلاً بابا الفاتيكان.
فهم يقولون: إذاً في عام (2000) أو (2010) نستطيع أن نتواصل مع العالم كله بطريقة سهلة، وهي طريقة التلفزيون، بواسطة الغزو الفضائي، وهكذا نتمكن من تنصير العالم كله وهكذا.(64/19)
موضوع المعادن
كل المعادن إلى نفاد، فهي تقدر عن طريق الأقمار الصناعية، ويكتشفون المعادن، وهذه أصبحت عملية سهلة فيعلمون ما في باطن هذه الأرض بالتصوير الفضائي وقد يميزونه سواء كان ذهباً أو نحاساً أو فضةً، فيقدرون أنه إذا كان كل سنة المخزون منه -مثلاً- من (100 مليون) طن، إذا أنتج منه كل سنة (10 ملايين) طن، فإنه سينتهي بعد عشر سنوات مثلاً.
فمعنى هذا؛ أنهم سيبحثون عن البديل بعد ذلك، كيف سيكون وضعهم؟ وكيف ستكون أمورهم؟ وكيف إلخ، وبلغ تخطيط هذا في أمريكا إلى أنهم نشروا وقدروا الانتهاء من البترول الخام والمعادن الخام ومصادر الطاقة في العالم بعد (500 سنة)، أي أنه في عام (2100) سيكون البترول قد نضب ونفد من الأرض، وأن البترول المكتشف حاليا سوف ينفذ بعد ثلاثة أجيال مثلاً، بمعنى أن أولاد أولادنا يمكن أن يشهدوا هذه النهاية، فهم هناك يعرفون كيف يخططون؟ ومما يعملون الآن أنهم يحفرون حُفراً عميقة بعيدة جداً، ويسحبون البترول من جميع الدول المنتجة له، ويودعونه في هذه المخازن الكبيرة جداً، بالإضافة إلى مصادرهم الاحتياطية، بالإضافة إلى الدول التي تدور في فلكهم، أو الذي لم يكتشف ولم يعلن عنه في دول مكشوفة لهم، وفي النهاية يريدون إفقار العالم الإسلامي وليترك ليموت لأنه ليس لديه مصدر ثروة أو مصدر طاقة ويتحكمون هم في مصيره.
أما نحن المسلمون فلا نكاد نفكر في هذا، فالمهم أن نبيع اليوم ونأكل ونشرب، ولا نفكر في المستقبل ونقول: الأرزاق بيد الله! وهذا لا شك فيه، لكن لا بد من التفكير في مدة انتهاء البضائع وإيجاد البدائل لها، ولا نقول: إنه لا يوجد تفكير؛ فهناك شيء من التفكير نسمع ونقرأ عنه، لكن ليس بمستوى الدراسات الجادة الغربية العميقة، ثم يوجد شيء آخر: وهو مدى ارتباط هذا التفكير بعقيدة الولاء والبراء، فإن كان مجرد تخطيط بشري فلن ينجح أبداً؛ لأنه يقوم على افتراض أن العلاقات بيننا وبين الغرب حسنة، وأننا وهم سوف نتفق على هذا وأن العملية متبادلة، فهم يحتاجون منا المواد الخام ونحتاج منهم كذا، فالعملية متبادلة.
إذاً فلا بد أن تقوم هذه الدراسات على أساس الولاء والبراء لهذه العقيدة العظيمة، وكل عقيدتنا هي قوة دافعة، وطاقة لا تملك أي أمة هذه الطاقة.
أرجو أن أكون قد أوصلت شيئاً أو كثيراً مما أريد إليكم.(64/20)