الحكم في هذه القضية
فهذا هو ما يعلن، وهذا واضح من دستورهم ومن كلامهم، فبماذا يجيب المسلم؟ بل وماذا يقول المسلم الذي يخاف الله، ويؤمن بالإسلام، ومع أيهما يكون، مع أنه لم يعرفهما ولا علاقة له بهما؟ لكن من منهما الذي فرض الله تبارك وتعالى أن تكون معه، وأن تنصره وتؤيده، فهل في هذه المسألة خيار لنا؟! فنحن أمام إلزام وحكم قاطعٍ وصريحٍ من الله، فيجب علينا إما أن نكون مع الفجار، أو مع المتقين المؤمنين المطالبين بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأولئك إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أعرضوا وتولوا، وقالوا: عندنا الاشتراكية، وهؤلاء يقولون نريد كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهؤلاء يقولون: معنا الشعب، وهؤلاء يقولون: ونحن معنا موضوع الشعب، وليعلم الجميع أن هذه قضية منتهية ومفروغ منها، فنحن لا نحكِّم الشعب أصلاً، ولكن من حيث الواقع الشعب مع من؟ الانتخابات المحلية والبلدية واضحة: (80%) من الشعب مع الذين يريدون الإسلام و (20%) مقسمة على ثلاثين حزباً، فإذاً هو بلدٌ مسلم، وأهله مسلمون، وقد قدموا مليون شهيد بإذن الله من أجل أن يتخلصوا من الفرنجة، ومن الاستعباد للكفر؛ لأنهم يريدون تحكيم الكتاب والسنة.
ولكن المسيرة تنحرف، فتأتي هذه الجبهة الحاكمة، وتفرض نظام ماركس ولينين على هذا الشعب المؤمن، والآن هذا الشعب أفاق واستيقظ -كما استيقظت والحمد لله الأمة الإسلامية في كل مكان- فهم يريدون كتاب الله، ويريدون أن يعودوا إلى إيمانهم ودينهم، وأصالتهم التي نزعت منهم قهراً، ويرفضون الاشتراكية التي فُرِضَت عليهم فرضاً وهم 80%.
إذاً مع من نكون؟؟!(18/9)
موقف الغرب من الجزائر وغيرها
أما موقف الغرب، فالغرب دائماً له معياران، وله مكيالان: معيار للإسلام، ومعيار لغيره، ولذلك الآن وفي هذه الأحداث بالذات وفي هذه الأيام، فهناك مثلان حادثان، ومشكلتان في بلدين ليس بينهما إلا البحر، وهما متقاربان تقريباً، وهما يوغسلافيا والجزائر.
فانظروا إلى الحكم بمعيارين كيف يكون؟ ففي يوغسلافيا يقول الغرب: على الجيش أن يرجع إلى الثكنات، والناس هم الذين يختارون ما يريدون، أما في الجزائر: فليسمح للجيش أن يضرب الناس، وليفعل ما يشاء، ليفرض القانون.
فالموقف معكوس تماماً، لماذا؟ لأن هؤلاء -في يوغسلافيا - نصارى، والديمقراطية تصلح لهم، ولا بد أن يدعوا إلى الديمقراطية.
ومثل آخر: الصين وقفت أمريكا ضدها، حتى كاد الوفاق الذين بينهما أن ينفصل، وذلك لما ثار الطلبة، وطالبوا بالديمقراطية، فقالت أمريكا: من حق الشعوب أن تطالب بـ الديمقراطية، وإن وقوف الجيش والشرطة الصينية أمام المطالبة بالديمقراطية جريمة عظيمة، فحدثت بذلك فتنة كبيرة، حتى إن أمريكا منحت الطلاب الصينيين في الولايات المتحدة الأمريكية، والمبتعثين للدراسة لديها إقامة دائمة، وذلك تمهيداً لمنحهم الجنسية الأمريكية، وعددهم أربعون ألف طالب، دفعة واحدة، وذلك تأييداً لهم لمطالبتهم بـ الديمقراطية، وعندما جاءت جبهة إسلامية، وقالت: نريد أن يبقى نظام الانتخاب كما هو، ويعمل بإجراءاته في موعدها، لأننا نريد أن ندخل فيها.
قال الاشتراكيون: لا، غيروا النظام.
فقالت الجبهة الإسلامية: إذاً أيها الناس: يا من ستنتخبون! من تنتخبون؟ ودعوا إلى الاعتصام والإضراب، لأن القانون قد تغير -قانون الانتخابات- وطالبوا أتباعهم بعدم استخدام القوة، وكانوا يحذرون كل التحذير أن لا يستخدموا القوة، ولهذا اجتمعوا في المساجد، وفي الميادين، تجنباً لأي شيء.
فواضح أن دعواها سلمية، وأنها تريد تحقيقها مع الذين يزعمون أنها ديمقراطية، فتريد أن ترشح وتصوت، فإن فازت فإنها تريد الإسلام، وإن لم تفز، فإنها تكون قد سلكت سبيلها، واعتذرت إلى الله، فهذا اجتهادها على الأقل، وكذلك فإنها لم تستخدم العنف، ولا القوة أبداً.(18/10)
موقف الإعلام من هذه القضية
الإعلام الجزائري، ومن تبعه أتى بثلاثة نبيلات -أقواس أطفال- وأربع سكاكين، وثلاثة خناجر، وكذلك هراوتين أو ثلاث، ثم قالوا: هذه وسائل الأصوليين المتطرفين لقلب نظام الحكم، وصوروها في جميع تلفزيونات العالم.
الله أكبر! أين دبابات الجيش وهي تدك المساجد؟ فهل صوروها؟! لا.
فأعجب شيء أن جيشاً يدك عواصم ولا يصور!! ولماذا لم تنقل وسائل الإعلام هذه الصور؟! أين الذين ألقيت عليهم القنابل، والغازات الخانقة، من قنابل أمريكية الصنع، لم تستخدم من قبل؟! وأما كونها أمريكية فهذا يدل على مغزىً آخر، فالمسألة ليست فرنسية فقط، لأنها لم تستطع أن تفعل ما ينبغي، فجاءت أم الكفر، ورأس الصليبية في العالم، وأعطتها قنابل لا تعرفها فرنسا، بل إنها محرمة دولياً، مكتوب عليها (لا تقذف على الأشخاص مباشرةً؟) بل تقذف في الهواء ثم تلقي بالرذاذ؛ فيختنق المتظاهرون، وتسيل دموعهم، فتتفرق المظاهرات، لِم لم يذع عن هذا شيء؟ ولم يتكلم عنه؟ بل إن أمريكا هي التي تدفع ذلك، وتقضي على الديمقراطية بقنابلها، وهي أم الحرية وأم الديمقراطية في العالم!! تذبح الديمقراطية بقنابلها وهي مطمئنة وراضية، لأن الموتى والمختنقين في الجزائر - مسلمون، أما في يوغسلافيا فلا، أو في الصين فلا.
ولذلك عندما فازت الجبهة الإسلامية، قطعت المعونات التي كان من المفترض أن تعطيها السوق الأوروبية المشتركة للجزائر، وذلك حتى يحرجوا الجبهة أمام الناس، ولكنهم استعانوا بالله، وجمعوا الأموال ممن عندهم من الناس، ومن أهل الخير؛ وفتحوا مشاريع خيرية، فأعطوا الفقراء وساعدوهم، في رمضان وفي غير رمضان.
فأحبهم الناس وتنفسوا روح العدالة الإسلامية، فأحبوا الإسلام، وأقبلوا على بيوت الله وعمروها، وانتشر الخير فيما بينهم، وكسدت تجارة الخمور والمخدرات والسينما.
حتى إنه عندما جاءت فرقة غربية إلى الجزائر، أرادت أن تقيم حفلاً غنائياً، وعادت إلى بلادها خائبة، فذهل الغرب من هذا الموقف، ولم يعجبهم ذلك، فماذا صنعوا؟ لقد اشترطوا أن لا تُعطَى جبهة التحرير الحاكمة قروضاً إلا بالقضاء على الجبهة الإسلامية، ولما قضي عليهم، سمعنا الخبر -جميعاً- وهو أنهم أعطوا كل المساعدات التي يريدونها، وكذلك أديت عنهم الديون، لأنهم فعلوا الشيء الذي يطلبه الغرب ويريده، وهو القضاء على هؤلاء! إذاً فالقضية قضية دين، وإيمان، وعقيدة تحارب، وليست جبهة كذا، ولا فلان من الناس ولا علان، فديننا أكبر من كل الأشخاص، وهو أهم عندنا من كل أحد، والقضية التي نتكلم عنها ليست مجرد فلان، أو جبهة، لأنهم إن كانوا من أولياء الله، فالله ولي المتقين، والله ناصرهم ولو بعد حين، وإن كانوا غير ذلك فقد عجلت إليهم بعض ذنوبهم.(18/11)
حقيقة القضية وحقيقة الصراع
إن القضية قضية إسلام يحارب، ومساجد تدكها المدافع والدبابات، ومصلون تلقى عليهم الغازات السامة، من قبل فجرة ملحدين، وبعضهم شيوعيون.
كل الأحزاب العلمانية قد سُرت وفرحت بذلك، في كل مكان؛ وأما المسلمون فلا بواكي لهم!! ولا أحد يعرف قضيتهم، بل لا أحد يتفهم حال الدعوة في الجزائر، وأنها قائمة على عقيدة السلف الصالح -والحمد لله- فالشيخ عبد الحميد بن باديس، ورابطة علماء السلف، رابطة سلفية نشأت على دعوة التوحيد التي قامت عليها البلاد، وأما التهم التي يتهمونه بها، فهي نفس التهم التي توجه إلى من أقاموا هذه البلاد، وأنشأوا هذه الدولة، وهي أنهم وهابيون ومارقون، وخوارج متطرفون، فهذه تهمة توجه إلى من أقام هذه الدولة على التوحيد والحمد لله.
ولذلك فإن من أكبر الألم عند المسلمين في الجزائر -ولا أقول الجبهة أو غيرها، بل المسلمين عامة- ألاَّ يجدوا التعاطف من أبناء هذه البلاد لقضيتهم، وألاَّ يتفهم أهل هذه البلاد ما يعانون لأنهم يريدون حكم الله، وتحكيم كتابه! والجبهة ليست حزباً سياسياً، واسألوا من يعرف الأحزاب، أو اقرءوا في صحيفة الحياة، أو في غيرها من الصحف، فـ الجبهة ليست حزباً سياسياً ضيقاً بالمعنى المعروف، بل إنها عبارة عن تجمع عام، والدليل: أن معظم الشعب -ثمانون في المائة- معهم، لأنه يريد كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذاً فالغرض هو الإسلام، والهدف هو الإسلام، فعندما يُضرب فإنما يضرب الإسلام، وعندما تكون الطعنة النجلاء فإنما هي في صدر الإسلام، وليست لمجرد فلان أو علان من البشر، بل إنه دين الله، وكتاب الله، وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى إن البيان الذي تريد الحكومة الجديدة إخراجه هو باللغة الفرنسية، فإنهم أناس بعيدون عن الإسلام، وبعيدون عن العروبة التي تُزعم، متفرنجون في عقولهم، وآرائهم، وقوانينهم، وفكرهم، ومع ذلك يوجد فينا من يقف معهم -عياذاً بالله! - ونعوذ بالله من الضلالة.(18/12)
واجبنا حيال هذه القضية
فالواجب علينا أن نناصر إخواننا المؤمنين، وأن ننصر الإسلام في كل مكان؛ فإن لم نفعل فلا أقل من أن نسكت، ونتق الله؛ أما أن نكون مثل الكاتب الذي كتب أن موقظو الفتنة هم عباس مدني وأتباعه، ونحن لا يهمنا من كان، ولكن الذي يهمنا هو: ما هي الفتنة؟ إنها الشرك بالله تعالى، يقول الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] فالفتنة في هذه الآية هي الشرك كما في الحديث الصحيح، فعندما يطالب أحد بكتاب الله فهل هو داع إلى الفتنة؟ أم أن صاحب الفتنة هو الذي ضحى بمليون شهيد من الشعب، ومع ذلك يحكم بالاشتراكية اللينينية الماركسية فأيهما أيقظ الفتنة؟ وأيهما يقف ضد الحق، وضد إرادة الشعب؟! فالمسألة واضحة.
ولذلك نهيب بكم جميعاً -أيها المسلمون- بالاهتمام بهذه القضية، وألا ننساق وراء الإعلام الغربي المضلل، فالغرب -والله- لا يريد لنا إلا الشر، فهو يشوه قضايانا في إعلامه، وفي إذاعاته، فعندما نأخذ الأخبار منهم، أو ننقل أخبارنا مباشرة مما يقولون، فنحن بذلك نرسخ ما يريده، ونحن بذلك نحقق له أهدافه، فنحن مؤمنون، ولا بد أن نكون مع إخواننا المؤمنين، ومع قضايانا الإسلامية في كل مكان، ولا تستغفل عقولنا، فنسمع مثلاً أن دبابات الجيش نزلت إلى الشوارع، ونرى نبالاً وسكاكين، فننزل الغضب على هذه، وننسى صاحب الدبابة والمدفع لأن هذا من استغفالهم لنا، ولأنهم وجدوا أن عقولنا -مع الأسف- لا تدرك كثيراً من الأمور، فلَبَّسوا علينا ذلك.
هذه نصيحة أخ لكم في الله، وأرجو أن تصل -هذه النصيحة- إلى هؤلاء الصحفيين الذين لا يخافون الله، فلم يعدلوا، ولم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر، بل وليتهم سكتوا! حتى لا يفضحونا في ذلك البلد الذي سكانه ثلاثون مليون مسلماً -والحمد لله- وبلد يقول الغرب عنه: إنه بعد عشرين سنة أو أقل سيصبح سكانه أكثر من سكان فرنسا الأم، وفهم يخافون منه؛ وأكثرهم من الشباب، فنسبة الشباب في الجزائر تعد من أعلى النسب في العالم، من بين السكان شباب متحمس ويريد الإسلام، وهو ما يهدد بأن ينتهي الغرب، وتنتهي مصالحه، وهو الذي يخشاه، ويخافه الغرب.
ولذا فإنهم يضللوننا عما يجري وعما يحدث في الجزائر، فهذا البلد إذا سمع أن أهل هذه البلاد الطاهرة المقدسة، والذين يدينون الله تعالى بعقيدة التوحيد -والحمد لله- وعندهم العلماء، وفي بلادهم الحرمين الشريفين، وأن موقفهم منهم هو نفس موقف الإعلام الفرنسي والغربي، سُقط في أيديهم، وسيشعرون بالمرارة والألم، أكثر مما يشعرون به إذا رأوا أولئك المتفرنجين وأتباعهم ولا يقف أحد أمامهم.
فمن المفروض أن يروا منا التشجيع والتأييد والنصح، وإذا رأينا فيهم خللاً أن ننصح لهم، فنحن إلى الآن لم نر في صحافتنا نقداً للحزب الاشتراكي الحاكم، إني لم أر ذلك، لماذا؟ يقولون: لأن هناك اتفاقات دولية، تنص على ألا نتكلم في الدولة الفلانية، فنقول: لماذا لم يطبق هذا أيام أحداث الخليج، فجميع صحف الجزائر -كما بلغنا- وكل الأحزاب فيها، بل والحكومة فيها أيضاً، كلهم كانوا ضد المملكة في حرب الخليج.
إذا كان الصحفيون يريدون هذا، فلماذا نحن الآن لا نتكلم إلا عن الإسلاميين فقط، وأما الاشتراكيون الذين وقفوا ويقفون مع حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، فلأنهم تجمعهم الاشتراكية والعلمانية، لم نتكلم عليهم أبداً، فإذا قيل لهم: ولماذا تتكلمون عن هذه الجبهة؟ قالوا: لأنها وقفت في حرب الخليج في غير موقفنا، فنقول لهم: كلهم كانوا في غير موقفنا، فالصحافة الحكومية كانت تسخر منا، بل إنها رسمت كاريكاتيرات تسخر منا، وهي صحيفة الحزب الحاكم.
وأما المسلمون أو الإسلاميون فما بلغنا عنهم شيء من ذلك، وإنما قرأنا عن تعاطفهم مع الشعب العراقي -فقط- ضد الأمريكان، لكنهم يكرهون صدام أشد الكره، ويعتقدون بكفر حزب البعث.
فيجب أن لا نصدق ما يقال، فالقضية ليست بالشكل الذي صُور لنا، والمسألة ليست كذلك، فهذا الأمر أخطأ فيه كثيرون، وأصاب فيه كثيرون كذلك، فقدكانت فتنةً عمياء، والتبست على أكثر الأمة، وهذا الحال ليس خاصاً بالجزائر فقط، بل إن معظم العالم الإسلامي قد تعاطف مع العراق، ليس حباً في صدام، ولكن كرهاً لأمريكا.
فالواجب علينا أن نتق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في هذا الأمر، ولا ننظر لهذه الأحداث على أنها أحداث أو وقائع فقط، بل ننظر إلى أصل العقيدة والمبدأ، وأصل العدل والدين حتى نكون مع المؤمنين لا مع المجرمين، ومع المطالبين بكتاب الله لا مع المطالبين بالدساتير العلمانية الملحدة الكافرة.
فدستور الجزائر الذي تسير عليه جبهة التحرير الحاكمة الآن، دستور كفري وإلحادي، ومن عجائب هذا الدستور أنه يتيح لفرنسا التدخل في الجزائر، إذا اقتضى الأمر، فأين الاستقلال والعدو يتدخل فيهم؟ ولهذا قال ميتران إذا فاز الأصوليون قد أتدخل في الجزائر مباشرة، كما تدخل بوش في بنما ' هذه كلمة سمعتموها جميعاً من قبل.
ولذلك أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأن نناصح هؤلاء، والحمد لله جاءت هذه الفتوى بَقَدرٍ من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعني كلام الشيخ محمد، الذي وجه بمناصحة من كتب من هؤلاء في الصحافة وغيرها، ثم إنه ليس في الكلام من بينة إنهم واسمعوا إلى ما تقوله الصحافة فيهم تقول: أبعد ما يكونون عن الصدق، لأنهم انتهازيون ونفعيون، وهم أقدر الناس على المخادعة والمراوغة، وهذا كلام مجرد ليس فيه أدلة، فأين الأدلة على ذلك، كان عليهم أن يقولوا: لقد صرح بكذا، وله كتاب كذا، وله خطبة كذا.
فنرى أن القول بالمراوغة والمخادعة يمكن قولها لأي أحد، وهو بريء، لكننا نريد حقائق أولاً.
قبل أن تتكلم.
وقد رأينا عندما أضرب الناس وخرجوا إلى الشوارع، فقال الحزب الحاكم: الإضراب بسيط، ولا يؤثر في الحياة، وليس فيه مشكلة، فما دام الأمر كذلك! فلماذا نزل الجيش والدبابات والغازات إلى الشوارع، وبقي أسابيع لم ينته.
إذاً الناس يريدون الإسلام، وهؤلاء يحولون بينهم وبينه.
فنسأل الله أن يهدي ضال المسلمين إلى الحق، وأن تصل هذه النصيحة إلى مثل هؤلاء الكُتاب، وأن يتقوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وما هي إلا كلمة حق وإنصاف كما أمرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالعدل، فإذا أردنا أن ندرس حال الدعوة الإسلامية في الجزائر وغيرها، من خلال ما لها وما عليها.
فإن الذي يبحث في مثل هذا الموضوع هم العلماء المختصون بالدعوة، ينقدون حركة عباس مدني، ينقدون حركة حسن الترابي، وحركة راشد الغنوشي فإن أي حركة من تلك الحركات، تُنقد ما لها وما عليها، من خلال الكتاب والسنة النبوية والأدلة الشرعية، وهذا النقد مفتوح، وليس أحد فوق النقد كائناً من كان، وإن غضب من يغضب، فلا يهمنا غضبهم في تلك اللحظة، لكن لا نريد من الدعاة والصالحين أن يغضبوا منا لأننا وقفنا مع أعداء الإسلام، فليس هذا من العدل، بل إن هذا الغضب من حقهم إن كان الأمر كذلك.
وقد يقول قائل وكلامه صحيح: ألا تعتقد أن السكوت عن ظلم المسلمين في الجزائر هو مشابه لما حدث في حرب الخليج، في العراق؟ وأن السكوت عليهم سيجعلنا بعد فترة ننساهم، ولا نذكر ما حصل على إخواننا في الجزائر، إلا عندما تسوء العلاقات السياسية بين البلدين؟ فأقول: نعم، هذه هي المشكلة، فإنه لا يمكن أن يقف أحد مع الظالم على المظلوم إلا ويحوجه الله -عز وجل- أن يقف معه المظلوم، ونعوذ بالله أن يكون قولنا من بعد ثلاث سنوات أو أربع: هؤلاء كانوا مجرمين، أو كانوا مفسدين، أو ضربوا الحركة الإسلامية، أو أن يكتب أحدنا هذا الكلام، مثل هذا الصحفي، فنحن أمرنا الله بالعدل والقسط في الغضب والرضا، في العداوة والمحبة، فنقول الحق في كل وقت ولكل أحد، وإلا فلا فرق بيننا وبين أي انتهازي، أو كاتب صحفي مأجور في أي جريدة من جرائد العالم.(18/13)
رسالة من حاج جزائري
ولدينا رسالة -من القلب- من حاج جزائري، يتقدم بها إلى إخوة العقيدة في أرض الحرمين الشريفين وفي كل بلاد المسلمين، يقول فيها: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فهذه نبذة موجزة عن تاريخ الجزائر، من عهد الاستقلال إلى هذه الآونة الأخيرة، وسوف أتطرق فيها إلى الأسباب التي أدت إلى ظهور جبهة الإنقاذ الإسلامية، وكيف برزت هذه الجبهة في واقع الحياة في الجزائر؟(18/14)
أسباب الأزمة الحالية
فشل قادة الاستقلال والمتمثل في حزب جبهة التحرير الوطني، في قيادة البلاد وإخراج الشعب الجزائري من الأزمات التي تراكمت عليه منذ عهد الاستقلال إلى هذه الآونة، والأزمة الكبيرة التي قصمت ظهره وتركته مكسور الجناح -لا يملك من أمره شيئاً- هي تلك المصيبة الكبرى التي نادى بها الطاغية الراحل - هواري بوحدين - حيث جرد الشعب الجزائري من ممتلكاته الحيوية، التي كانت تنعش البلاد بالخيرات، والأرزاق، مما كان يكفي احتياج الشعب، بل كان يصدر الفائض من الإنتاج إلى خارج البلاد، كما هو معروف في عهد الاستعمار.
ولكن هذا الطاغية الذي تمثلت فيه كل قوى الشر، وحب الانتقام، فدعا إلى هذا النظام الظالم، الذي يخالف كل سنن الله تبارك وتعالى في تدبير خلقه، ورزقهم من فضله، وبالتالي أصبح الشعب الجزائري بعد هذا النظام عالةً لا ينظر بعضه إلى بعض، لا الغني بماله يجود به على غيره، ولا الفقير يجد من يتفضل عليه، وأصبح الجميع كما قال تشرشل أحد المحنكين الإنكليز: (إن الاشتراكية أفقرت الغني ولم تغن الفقير) وإذا رأيت هناك أثرة من غنى أو سعة في رزق، فاعلم أن صاحبها من أعضاء الحزب الحاكم، وأن لديه بطاقة انخراط في حزب جبهة التحرير الوطني، حتى أصبحت بطاقة الانخراط -هذه- مصدر رزق الكثيرين من الشعب أو حرمانهم منه.
ولا أبالغ إذا قلت: -وأنا على يقين مما أقول لأنني عشت في تلك الظروف التي أهلكت الحرث والنسل- أن الفلاحين -على شظف عيشهم- إذا ضاقت ميرتهم، وذهبوا يشترون العلف لدوابهم من الجمعيات الحكومية، التي تحتكر العلف وغيره، وتستغله أبشع استغلال، فإن المسئولين -في هذه الجمعيات- يسألونهم على الفور: هل لكم بطاقات انخراط في الحزب؟ وهل لكم ترخيص في تربية الدواب أو غيرها، أم لا؟ وغيرها من الأسئلة التي لا تطاق.(18/15)
أسباب الثورة على نظام الحكم
فقد مكث الشعب الجزائري المغلوب على أمره تحت هذا النظام، وعلى هذا الوضع المزري (ما يزيد على ثمانيةٍ وعشرين عاماً) وهو يرى حاله تزداد من سيئ إلى أسوأ، واليوم بعد اليوم، والشهر بعد الشهر، والسنة بعد السنة، ولم ير أحداً يلتفت إليه، أو يحاول أن يصلح حاله، أو يدخل عليه شيئاً من السرور، حتى في الضروريات التي لا غنى للإنسان عنها، وكلما رأى فئة الحزب تزداد طغياناً وغنىً وظلماً وكبرياءً، وأصبح الظلم مستشرٍ بين طبقات الشعب، وكذلك الحاجة تزداد يوماً بعد يوم، وكذلك مما يزيد الأمر شراً: اختلاق الأزمات الاقتصادية -من قبل الدولة- عند هذا الظرف الحالك.
حتى نفذ صبر هذا الشعب الصبور الجريء، وحانت ساعة الصفر التي لم تكن وليدة الصدفة، بل كانت تجربة السنين والأعوام، ودعته بأن ينفجر ويكسر قيود هذا الحكم الظالم، فخرج من أقصى البلاد إلى أقصاها، منادياً بسقوط حزب التحرير الوطني، الذي جثم على صدر الشعب ردحاً من الزمن، ولم يكن للشعب منه فائدة واحدة تذكر، بل كانت طغياناً وعلواً وظلماً، فانفجر الشعب الجزائري بكل فئاته في 6/أكتوبر/1988م، ومما يزيدنا تصديقاً وبرهاناً على كفر الشعب بهذا الحزب الاشتراكي الظالم: أنه في معظم مناطق القطر الجزائري أحرقت مباني ودوائر هذا الحزب، ومنشئاته، ولم ينجو منها إلا النزر القليل.
فاستعملت الحكومة في هذا الظرف الذي لم تحسب له، بل ولم تتوقع أن الشعب قد يتمرد يوماً ما هذا التمرد الكامل، منادياً بسقوط الحزب وأعضائه، استعملت كل وسائل القمع ضد هذا الشعب، ومنها الذخيرة الحية، فكانت النتيجة سقوط ما يزيد على ألف وخمسمائة قتيل -معظمهم من الشباب وأطفال المدارس- ويعلم الله أنه لم يهدئ تمرد هذا الشعب أحد، ولم يسمع من أحد، ولم يخف أحداً، إلا ما كان من سماعه للمشايخ، وخطباء المساجد حين اجتمعوا ونادوا في الشعب بالهدوء، والكف عن الحرق والتدمير والتخريب، ثم المطالبة بحوار مع الحكومة، فهدأ -عندها- الشعب.
وخطب بعدها رئيس الجمهورية، وأمر بإلغاء الحزب، والدعوة إلى الديمقراطية، وطرح الكلمة الأخيرة للشعب، وأمر بتعدد الأحزاب.
فأصبح الأمر جارياً، ورأى قادة المسلمين في الجزائر أنه من الضروري شرعاً الدخول في هذا المعترك، لأنه اختيار شعبي عام، حيث إن الشعب خرج منادياً بسقوط الحزب الظالم، والمطالبة بحكم الإسلام الذي لا حكم غيره، وعندها خرجوا بهذا الاسم المبارك (جبهة الإنقاذ الإسلامية) وذلك تفاؤلاً في أن ينقذ الله بها البلاد والعباد مما هي فيه من سوء الحال.(18/16)
عقيدة جبهة الإنقاذ الإسلامية
وقد يسأل سائل عن عقيدة هذه الجبهة، فإن عقيدة هذه الجبهة هي عقيدة السلف الصالح، التي تتمثل في الالتزام بتعاليم الكتاب والسنة، وفي فهم السلف الصالح، كما أنها امتداد لدعوة جمعية علماء المسلمين الجزائريين، وعلى رأسهم الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله.
وأما شعارها فهو لا إله إلا الله، عليها نحيا، وعليها نموت، وعليها نبعث يوم القيامة، كما أن هذه الجبهة -أيضاً- ليس لها أي علاقة بـ الشيعة أو الخوارج، بل هي دعوة سلفية محضة.
فقادتها ملتزمون بهذه العقيدة، وإليها يدعون دائماً، وكذلك فإن هذه الجبهة قد قامت بأعمالٍ خيرية، وميزات حسنة قامت بها فمنها: أولاً: لجان خيرية على مستوى كل بلدية، وذلك لمساعدة الفقراء والأرامل، ومحدودي الدخل، كذلك تم فتح مطاعم خيرية في كل بلدية -في شهر رمضان- المبارك لإطعام أبناء السبيل والمنقطعين، وكذلك -أيضاً- فتح محلات تجارية خيرية لا تأخذ من المشتري ربحاً، وإنما تبيع بسعر التكلفة محاولة لحل الأزمة الاقتصادية التي افتعلها النظام، واستغلها بعض وضعاء النفوس أبشع استغلال.
وقد نجحت هذه الأعمال في التنفيس عن الشعب نجاحاً ظاهراً الأمر الذي دعا معظم الشعب الجزائري إلى الثقة وحب هذه الجبهة، ونبذ ما عداها من أحزاب أخرى.(18/17)
موقف الصليبية من المسلمين في الجزائر
ولا ننسى هنا أن نذكر موقف الصليبية العالمية من المسلمين في الجزائر فقد سخرت الصليبية العالمية -وعلى رأسها فرنسا -كل إمكاناتها ووسائل إعلامها للطعن، والنيل في جبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر؛ لأن فرنسا -خاصة- لم تنسَ ولن تنسْ تاريخها الطويل مع الشعب الجزائري، فالذي أخرجها من أرض الجزائر مدحورةً صاغرةً هو الإسلام وحده لا غير، لذلك فهي دائماً تناصبه العداء؛ لأنها خائفةٌ منه ومذعورةٌ، وكذلك لأنه قوةٌ حية لا يمكن لها أن تموت، وإن بدت في بعض الأحيان أنها خامدة، ولكنها سرعان ما تنطلق إذا وجدت لها أنصاراً أبراراً.
وهذا الذي دعا زعماء فرنسا السابقين إلى أن يقولوا كما قال أحد الحكام الفرنسيين في الجزائر إبان استعمار فرنسا لها فقال - في هذه الآونة عن الوضع في الجزائر محذراً في ذلك بني جلدته الفرنسيين- قال: ' إن الخطر يهدد فرنسا من الجنوب -ويقصد بالجنوب الجزائر طبعاً كما صرح الرئيس الفرنسي نفسه- وقال: سأتدخل مباشرةً في الجزائر إذا ما تسلم الحكم المسلمون، كما تدخل الرئيس بوش في بنما >' وهذا مصداقاً لقوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].
زد على ذلك كله -أيضاً- أن فرنسا قد ألغت عدة عقود كانت مبرمة مع الجزائر -في الاقتصاد وغير ذلك- لمجرد نجاح جبهة الإنقاذ الإسلامي في تسيير البلديات، وكذلك ألغت المنح والابتعاث للدراسة في جامعة فرنسا وذلك خوفاً من إمداد جبهة الإنقاذ الإسلامية بالأطر التي تزيد من نشاطها وخطرها -بزعمهم-.
وهذه كلمةٌ صادقة، ومناشدة أخوية أقولها لإخواني في العقيدة بعد عودتي إلى الجزائر من رحلتي هذه، وبعد أن يسر الله تبارك وتعالى لي الحج في هذه السنة، ولقد رأيت الكثير مما يسر الخاطر، ويثلج الصدر في أرض الحرمين الشريفين من المشاريع العظيمة التي أدت إلى تسهيل مناسك الحج بيسرٍ وسهولة، وكذلك رأينا من كرم الضيافة، وحسن الاستقبال الشيء الكثير، ولكن الشيء الذي عكر صفو فرحتي وبهجتي بما رأيت، أنني -دائماً- كنت أتابع أخبار بلادي - الجزائر - من الصحف والإذاعات والاتصال بالبلاد هاتفياً.(18/18)
تأثر إعلام المسلمين بإعلام الغرب
وأما الشيء الذي تعجبت منه غاية العجب! أن الصحف في بلاد الحرمين الشريفين -المعروفة بالنزاهة والموضوعية- قد تأثرت إلى حدٍ كبير بالإعلام الغربي المغرض، الذي دائماً يكيد للإسلام والمسلمين، وأصبحت هذه الصحف بكل ما تقول تتبع الإعلام الغربي حذو القذة بالقذة، وهذا مما لا يليق بالإعلام في هذه البلد حيث إن له وزنه واعتباره في جميع البلاد الإسلامية، أنه لا يذكر إلا من صدق الكلمة بحقيقة الواقع، فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات:6] وفي قراءةً أخرى متواترة: (فتثبتوا).
فالحذر الحذر! مما تبثه أجهزة الإعلام الغربية وبعض العربية، فإنها لا تصدر ذلك إلا كيداً للإسلام والمسلمين وكراهيةً لهم، ونحن لا نحبذ لكم أن تتخلوا عن إخوانكم في الجزائر فالدم الدم والهدم الهدم، فالعقيدة واحدة والمنهج واحد والحمد لله، ولا نريد أبداً أن تدافع عنا أو تتعاطف معنا أي جهة ليست على عقيدتنا ومشربنا، ولقد تزعمت دولة إيران الدفاع عنا، ولكنَّا براء من عقيدتها، ومن دفاعها عنا، وليس بيننا وبينها أي وشيجة أو رحمٍ قبل.(18/19)
طلب النصرة من أهل الحرمين الشريفين
ولذلك فإن الشعب الوحيد الذي يمكنه أن يجرد لسانه وقلمه لنصرة قضيتنا، والتعاطف معنا هو: شعب دولة الحرمين الشريفين لما له من السابقة في الخيرات والأيدي الطيبة في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وكذلك لصفاء العقيدة السليمة التي لم تشبها شائبة من ملل أو نحل ضالة، وهذه -والحمد لله- هي عقيدتنا التي ندعو إليها، ونرجو من الله تبارك وتعالى أن يميتنا وإياكم عليها بإذنه.
وهانحن ننادي إخواننا في العقيدة -في أرض الحرمين الشريفين- بعد أن انتهينا من رحلة الحج المباركة، ونزلنا أرض بلادنا الجزائر وقد رأينا عن قرب سوء الحال، وما آلت إليه أوضاع المسلمين في الجزائر، وقد تحققنا تماماً أن ما كانت تقوله أجهزة الإعلام بعيدة كل البعد عن حقيقة الواقع، لذا فإننا نناشد إخواننا في العقيدة في أرض الحرمين الشريفين وفي كل مكان ونذكرهم أننا إخوة لهم وقد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} فإننا وإن بعدت بيننا الديار، وحالت دوننا البحار والقفار؛ فإن قلوبنا وأحاسيسنا أقرب إلى بعضها من حبل الوريد، وإننا قد تحاببنا في ذات الله تبارك وتعالى، ونسأل من الله أن يجمعنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله، لذا فالنداء لكم خاصة -يا إخواننا في أرض الحرمين الشريفين- إن أجدادكم الأبرار قد فتحوا البلاد وأسعدوا العباد وأنتم عليكم بإكمال الطريق ونصرة إخوانكم في العقيدة في كل مكان.(18/20)
موقف الشعب الجزائري من صدام وحزبه
وإن كانت قضية الخليج التي أوقد نارها الطاغية صدام وأعوانه قد أثرت في علاقتنا وأخوتنا الإسلامية؛ فإن هذه القضية ليست بالميزان الذي نقيس به أمور المسلمين وأوضاعهم؛ بل هذه فتنة هوجاء عكرت تفكير الكثير من أولي الألباب والنهى.
وبعد هذا كله فإن معظم الشعب الجزائري -وأنا قد عشت أوضاع حرب الخليج- من أولها إلى آخرها- معظمه كان ضد الطاغية صدام وحزب البعث، وأما البقية من الشعب والتي تعاطفت في ذلك، إنما كانت مع الشعب العراقي وليس مع حزبه الملحد.
وإن الذين وقفوا مع العراق إنما وقفوا ضد الصليبية الحاقدة على شعب العراق، الذي ابتلي بحكم هذا الطاغية الذي أورده المهالك، وكان شعارهم آنذاك لا حباً في صدام ولكن بغضاً لأمريكا عدوة الإسلام والمسلمين، مع العلم أن الأحزاب العلمانية في الجزائر وهي تزيد على الثلاثين حزباً، منها صدام شخصياً ومع حزبه الملحد.
كما أن أجهزة الإعلام في الجزائر -وهي في أيديهم- كانوا قد سخروها جميعاً لخدمة صدام وحزب البعث وجعلوا منه الزعيم الأوحد الذي قد جاء يخلصهم من مشاكلهم التي يتخبطون فيها.(18/21)
الخاتمة
ولعلي في هذه النبذة القصيرة قد أوضحت الرؤية قليلاً عما يدور في الجزائر، وما يدبر للإسلام والمسلمين فيها، ويمكننا القول بصراحة: إن القضية في الجزائر اليوم هي محاربة الإسلام والمسلمين، وكل المبررات التي تقال عن المسلمين مدبر ومخطط لها، الجيش الجزائري -الآن- يضرب المتظاهرين ويقذفهم بقنابل أمريكية الصنع، وهي أشد من القنابل التي يقذف بها الصهاينة على الفلسطينيين في الأرض المحتلة، فهذه القنابل الأمريكية الصنع مسيلة للدموع مع وقوع الاختناق في نفس الوقت، وقد احتفظ الكثير من المسلمين بعينات من هذه القنابل وهي عندهم، وأنا مسئول على ما أقول.
ولقائل أن يقول: ما شأن هذه الاضطرابات والمظاهرات؟ هل تأتي بفائدة للمسلمين في الجزائر؟ وهل لها مسوغ شرعي؟ ولأجل هذا السؤال فقد اتصلنا في هذا الموسم ونحن مجموعة من الشباب الجزائري بسماحة الشيخ محمد العثيمين -الذي هو أحد العلماء البارزين عندكم في أرض الحرمين الشريفين- وسألناه عن رأيه، فقال سماحته: إذا كانت هذه المظاهرات والاضطرابات قد تأتي بمصلحة ويمكن أن تخدم قضية الإسلام في الجزائر بدون أن تجر لكم مفاسد أشد، ففي هذه الحالة لا بأس، إذ هي وسيلة من الوسائل.
وختاماً: نسأل من الله تعالى أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، ويحكم فيه شرعه الحكيم، آمين اللهم آمين.
اللهم لا تمتنا حتى تقر أعيننا بدولةٍ إسلامية، وخلافة راشدة تعز بها لنا النفوس، وترفع لنا بها الرءوس، اللهم أقم لواء الجهاد، وأغث البلاد والعباد، اللهم لا تمتنا حتى تقر أعيننا بإهلاك اليهود وأعوانهم من الملحدين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(18/22)
الدستور اليمني ودور العلماء فيه
السؤال
وهذا سؤال بشأن الدستور في اليمن؟
الجواب
أولاً: أعتذر عن تأخير الجواب عن موضوع الدستور في اليمن، فقد اطلعت على الكتاب والحمد لله وأقول: فضلٌ ونعمةٌ من الله أن يوجد في هذا البلد -المسلم العريق الشقيق- مثل هؤلاء العلماء الذين تكلموا ووقفوا في وجه الدستور الكافر، ولم ولن يقروه بإذن الله، فقد قرأتم وسمعتم الشريط ورأيتم صراحتهم في قول الحق، وكذلك فإني قد تتبعت المواد التي انتقدوها على الدستور، ووجدت أن نقدهم كان صائباً وصحيحاً، وإنني أحمد الله أن لدينا -من هذه الأمة- من عنده هذه الدرجة من الوعي.
والذي عكر عليّ في الحقيقة لما قرأت الكتاب وجدت أن المنافقين موجودون في كل مكان، وفي هذا الموقف، ولهذا كنت أريد من الإخوة عندما طبعوا الكتاب أن يحذفوا كلامهم منه، حتى ولو كان تعليقاً فقهياً فالذي يقول: إن ما قاله الأخ الرئيس كله الحق، وكله الصواب، وفيه الشفاء، وفيه الخير ثم يسكت، فهذا ما قال شيئاً، وهذا معدود في العلماء! فقلت: لا بد من شطب هذا الكلام من أصله، بدلاً من أن يذكر ثم يعلق عليه.
ولكني أظن أن الإخوة الكرام أرادوا الأمانة العلمية وهي طبيعة المؤمن دائماً، فقالوا: إن الأمانة أن ننقل الموضوع كاملاً، ثم نعلق على أولئك، لكن الحمد لله فقد عوض الله عنهم بمن هم خيرٌ منهم وأكثر بأضعاف مضاعفه من العلماء الذين قالوا: لا يمكن أن نوافق على دستور مخالف لكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك الوحدة إن كانت على الكتاب والسنة فنحن الذين نرحب بها وندعو إليها، وإن كانت الوحدة على هذا الدستور الوضعي الذي وضعته أيادي الاشتراكية في الجنوب، فلا، فرفضوه، وكتاباتهم وتوقيعاتهم وآراؤهم تشكر لهم، ونسأل الله أن يثيبهم وأن يجعلها في ميزان حسناتهم، وأعتذر مرة أخرى عن تأخير الجواب.(18/23)
الكلام على كتاب كنز الدعاء
السؤال
ورد في كتاب " كنز الدعاء " من أدعية قيل أنها تسهل حفظ القرآن فهل هذا صحيح؟
الجواب
كلنا محتاجون إلى أن نحفظ القرآن والذي قد حفظه فليثبته، ولكن مثل هذا الكتاب كنز الدعاء الذي ذكر هذا الدعاء في صفحة تسعة وستين، فلا أعلم لهذا الدعاء أصلاً.
السؤال: هل يجوز توزيع كتاب كنز الدعاء؟ الجواب: لا يوزع حتى نتأكد من صحته، لأني لم أر إلا صفحة واحدة، ولا أستطيع أن أقول لك: "وزع" إلا إذا تأكدت من أنه ليس فيه أحاديث باطلة أو ضعيفة.(18/24)
الموقف من بعض كتب الأدعية والأذكار
السؤال
اذكر لنا بعض كتب الأدعية والأذكار التي لا مانع من توزيعها ونشرها؟
الجواب
تحفة الأخيار للشيخ عبد العزيز بن باز، وكتاب صحيح الكلم الطيب للشيخ الألباني فهذه وزعوا منها ماشئتم، فمن أراد أن يشتري منها أو يعطي إخوانه أو يضع منها في المساجد فهذا طيب؛ لأنها والحمد لله موثقة، وصحيحة.(18/25)
مصنع البيرة وإغلاقه
السؤال
ما قول الشيخ فيمن يكتب أن سبب إغلاق مصنع الجعة (البيرة) في اليمن هم الأصوليون؟
الجواب
عجيب هذا يكتب أن الأصوليين قوة جديدة، وبسبب ضغوطهم سيتوقف مصنع الجعة (البيرة) وأنه المصنع الوحيد في شبه الجزيرة العربية لإنتاجها، فهؤلاء يرون أن الأصولي هو الذي يقول الخمر حرام، وهذا نموذج مما يكتب، وأقول: خذوا نموذج للكلام بأن كلمة أصولي ومتطرف تعني أنه لا يشرب الخمر، ولا يزني، ولا يفسد، فهذه النعوت إذا أطلقت في أي بلد -من قبل الصحافة المأجورة- فإن هذا هو مرادهم، فلنحمد الله على ذلك، ولكن هل هذا هو المصنع الوحيد في جزيرة العرب، أم أنه المصنع الوحيد علناً؟ فماذا لو تم تفتيش جدة، فكم يا ترى نجد فيها، والله المستعان!(18/26)
الفرق بين المكوس والعشور
السؤال
ما هي المكوس؟ وما هو الفرق بينها وبين الضرائب الحديثة؟ وما هي العشور؟ وهل هذه الموارد المالية محرمة شرعاً؟ وما هي الأدلة الشرعية على التحريم؟ وما هي أدلة التحليل؟.
الجواب
السؤال يحتاج إلى محاضرة، وأيضاً ليست محاضرة في المسجد؛ ولكن في كلية الاقتصاد والإدارة، ولكن نوجز: المكوس أو الجمارك أو الضرائب أو العشور التي يأخذها الظلمة، وتُؤخذ بغير وجه حق، وبغير وجه شرعي فكلها بمعنى واحد، وكلها حرام، ويكفي في تحريمها قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المرأة التي رجمت: {لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبل منه}.
إن المرأة الزانية تابت توبة لو تابها صاحب مكس وليس زنا!! أي أن المكس أعلى وأشنع وأفظع في الفساد وأجرم من الزنا، وهذا الحديث صحيح، وكذلك ورد في بعض الأحاديث التي في سندها كلام، كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنما العشور على اليهود والنصارى} رواه أبو داود، وهذا في سنده ضعف، لكن هذا المعنى يكفي، ففي القديم كانوا يسمونهم العشارين والمكاسين، وكان ذلك عند الرومان وعند الفرس وعند العرب في الجاهلية، وهي التي يسمونها في العرف الحاضر الجمارك.
ولا نعني إدارة الجمارك.
لأنها الآن تطلق على عدة أعمال، منها: التفتيش على المخدرات، وهذا عمل خير عظيم، وأجره كبير، وكذلك التفتيش على المجلات والأفلام الخبيثة، فنحن نسميه الجمارك.
والمقصود بالجمارك في الأصل هم الذين يأخذون العشور من الأموال التي تمر، أو تقدم، أو تدخل، أو تخرج من وإلى البلاد، فهذا هو المحرم، وهو المكس، أما إذا كان عملهم مراقبة المنافذ البحرية، والجوية، والبرية وذلك بضبط ما يدخل من محرمات شرعاً، فهذا من أعظم أنواع الحسبة، وهو داخل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لكن التسمية العامة لها تسمى الجمارك، وفي كتاب الأموال لـ أبي عبيد فصل وذكر أشياء كثيرة في هذا الموضوع، وهي من الموارد المحرمة شرعاً، ولقد ذكرنا -إن شاء الله- من الأدلة ما يكفي، والحالة الوحيدة أو الصورة التي تجوز فيها إذا كانت على سبيل المعاملة بالمثل -وطبعاً هذا على غير المسلم؛ لأن المسلم لا عشور عليه، فما على المسلم في ماله إلا الزكاة- لكن الكافر الذي يمر ببلاد المسلمين مجتازاً بها، إذا كان تاجرنا إذا مر ببلادهم يؤخذ عليه (10%) أخذنا عليهم (10%) وإن أخذوا عشرين أخذنا عشرين، فهذا ليس مكساً لأنه من قبيل المعاملة بالمثل، أما أن يؤخذ من المسلمين وعلى أشياء إسلامية وبضائع إسلامية أو أمور حلال مباحة، فهذا لا يجوز.(18/27)
الظاهرية أفكارهم ورجالهم
السؤال
ما هي الظاهرية هل هي فرقة من الفرق الظاهرة مثل المرجئة والخوارج، ثم ما هي أفكارهم الرئيسية، ومن هم المنظرين لهم؟
الجواب
الظاهرية مذهب فقهي، وليست فرقة عقائدية، لكنها تعد من البدع من جهة إنكارهم لكون الشريعة معللة -أي أنهم ينكرون الحكم الشرعية- وبناءً على ذلك ينكرون القياس، وحتى لا نعبر بالتعبير الأصولي، فمن القياس ما هو محمود ومنه ما هو مذموم، ومنه الصحيح ومنه الفاسد.
فهم ينكرون أن الشريعة معللة أي أن لها أحكاماً ومصالح معروفة، فمثلاً القتل يقول الله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة:32] فهذه معللة، وأكثر الأحكام معللة، وقال تعالى أيضاً: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) [الحشر:7].
أليست هذه معللة؟! إذاً فإن كثيراً من الأحكام المالية والحدود معللة؛ حتى العبادات معللة وإن كانت الحكمة خفية، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] فالعلة هنا هي علة التقوى وهكذا.
فهم لما أنكروا ذلك أتوا بما يخالف العقل، وتعرفون رأيهم الذي يضرب به المثل -دائماً- أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه} فقالت الظاهرية: إن النهي هنا عن البول في الماء، أما لو بال في قارورة، ثم صبها في الماء، فإنه يجوز ذلك، وهنا وقعوا في الخطأ، وذلك لما نفوا الحكمة، مع أن العلة واحدة وواضحة وهي تنجيس الماء وهكذا.
ولذلك فقد أثر عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: 'إن هذه من إحدى البدع' وإمامهم القديم داود بن علي الظاهري ثم تزعمهم وأظهر شأنهم وأمرهم الفقيه المجتهد البارع أبو محمد بن حزم، فقد ملأ علمه الآفاق، وضرب في كل علم بسهم: في اللغة، والبلاغة، والبيان، وفي الفرق، فهو رجل عالم، لكنه كان سليط اللسان.
ثم أضاف إلى ذلك أمراً آخر رغم أنه ظاهري في الفقه ترك ظاهريته وأعمل عقله في العقيدة فأتى بالعجائب التي لا يتسع المقام لذكرها، ففي بعض الأمور يوافق الجهمية، وفي بعضها وصل به الحال أنه كاد أن يوافق الباطنية والقرامطة وفي بعض الأمور وافق أهل السنة، كل ذلك كان باجتهاده الخاص وترك ما أجمع عليه السلف في موضوع الأسماء والصفات وغيرها، وإن كان له ردود قيمة وعظيمة على اليهود والنصارى وعلى الصوفية والخوارج والشيعة، فنسأل الله أن يغفر لنا وله.(18/28)
توبة مخرج
السؤال
سُئلتم منذ بضعة أشهر عن توبة المخرج السينمائي أنيس عبد المعطي فلم تجيبوا، حيث لم يكن لديكم معرفة كافية به، وقد علمنا أنكم قدمتم لكتابه محاكمة أهل الفن، فهل من كلمة تعرفنا من خلالها بهذا الأخ، وبتوبته، وبكتابه، عسى أن يكون في ذلك تبشير للمؤمنين، وإغراء للعصاة للتأسي به، والإقبال على الله، ويمكن تنبيه الإخوة عن وجود شريطين للأخ أنيس قذارة الفن، والسينما وتشويه المرأة.
الجواب
نعم، أنا عرفت الأخ عن قرب، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ييسر ويسهل خروج كتابه هذا، فهو كتاب مفيد لأهل الفن ولغيرهم، وهو -والحمد لله- أول ما عرفت عنه قرأت في بعض الجرائد دعاية له وهو أنه يريد أن ينتج عملاً فنياً لم يسبق إليه، ويحشد فيه معظم الفنانين والمطربين المشهورين في العالم العربي، وذكروا فلاناً وفلاناً وفلانة فقلنا: لا حول ولا قوة إلا بالله، كلما نقول سوف يهدم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دولة الفساد والقذارة، وإذا بها يظهر لها كل يوم عماد جديد، ومنهم هذا الشاب الذي أثنى عليه الجميع، حتى النقاد العالميين ذهلوا مما أُوتي من مهارة وملكة وذوق.
ثم قابلناه وعرفناه، وقد هداه الله والحمد لله على ذلك، وأراد أن يكفر عن ماضيه الفني العفن، بأن يكتب هذا الكتاب مبيناً فيه خطر الفن، وكذلك خطر الأيادي الصهيونية الخبيثة في نشر التمثيل والطرب والفن وما يتعلق به، مبيناً فيه -أيضاً- بأن الأمة المؤمنة الجادة الصادقة لا تتعامل مع هذا العفن، ومع هذا النتن، ومحذراً وناصحاً أولئك بأن يتوبوا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وذكر من سيرهم وأحوالهم ما فيه من عبرة.
وستقرءون الكتاب وتجدون من العبر التي تراها عقولكم واضحة من حياة هؤلاء، وما فيها من التنغيص، وكذلك من التقليد الساذج لأعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وما فيها من الموالاة لأعداء الله من الكفار، وما فيها من التبعية لخدمة الأغراض الصهيونية وأشباهها ممن يحاربون كتاب الله، وممن يحاربون الإسلام في عقر داره.
نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يثيبه ويؤجره ويثبته على الحق، وأن يرد الإخوة الذين غرقوا في هذه المعاصي عن جهل وانخداع إليه رداً حميداً، وأن يعرفوا في أي ركب يسيرون، ومع من يطبلون، وأهداف من يخدمون، فيرجعون إلى الله، ويتوبون إليه توبة نصوحاً، والأشرطة موجودة يمكنكم أن تسمعوها وتستفيدوا منها بإذن الله.(18/29)
حكم افتتاح المجامع المشتملة على باطل بالقرآن
السؤال
ما حكم من يستهل الأعمال المحرمة، كالحفلات المحرمة، والمسرحيات بالقرآن الكريم؟
الجواب
هذا له علاقة بالفن، فهناك تقليد جديد يتبعه الآن النجم المسرحي فلان، حيث يتفق مع قارئ قرآن لتلاوة آيات من الذكر الحكيم في السادسة والنصف مساء كل يوم على خشبة مسرحه، سواءً كانت الفرقة المسرحية تقوم بالعمل أم كانت في إجازة، وهذه الفرقة تتصدر إيرادات المسرح منذ بداية الموسم الشتوي، وهذا يحصل حتى لو كانت الفرقة تغني، لأنها تظن أن ذلك بركة من أجل ذلك يكثر الرزق، ومن أجل أن تنجح التمثيلية -أعوذ بالله- فهم يخدمون الدنيا بالدين، وهذا هو الإجرام بحق كتاب الله.(18/30)
تصوير الصحابة في المجلات والمسلسلات
السؤال
ما حكم ما يصدر في بعض المجلات والمسلسلات من تصوير الصحابة؟
الجواب
عجيب أمر هؤلاء كيف يصورون الصحابة والتابعين بهذا الشكل، صور الصحابة والتابعين يوم بدر، وهذه مجلة باسم تصور معركة بدر وجبل أحد وكذلك ما حصل لـ هند بنت عتبة، فعلى كل حال، فكل ما في المجلات من نشر لصور الصحابة، وأحداث السيرة والصحابيات كما هو في المسلسلات التلفزيونية حرام، ولا يجوز إقراره في أي حال من الأحوال.(18/31)
كتب في الميزان
السؤال
ماذا يقول الشيخ في كتاب موانئ بلا أرصفة؟
الجواب
هذا الكتاب موانئ بلا أرصفة وكما تقول السائلة أنه يسير على منهج غازي القصيبي ونجيب محفوظ وأمثالهم في أشعارهم ثم ذكرت مثالاً من الكتاب يقول: ' أنا امرأة خلقت من حديد، وليس لي صلصال، ولست امرأة هشة يغريها كلام الحب، وكلام إلى أن تقول: هأنذا أكذب نفسي بنفسي، أسحق مبادئي، أكفر بمذاهبي' نعوذ بالله! لو كانت من حديد أو خشب لاستفدنا من الخشب والحديد.
والعجيب أن في التقديم يقول الكاتب: 'أفلا يكون نجيب محفوظ قدوةً للآخرين في هذا الموضوع' وهل هذا قدوة!! فمع ما في هذا الكتاب من الشنائع، فإنه يطالب بأن يكون هذا الرجل هو القدوة! فهذه مشكلة، وكذلك فإن السائلة تشكو من أن هذه الكتب والمجلات تكتظ بها مكتبة الجامعة التي لها موقع ممتاز في الجامعة، بل وترتادها الطالبات من مختلف الكليات والأقسام، وهذه المنكرات تباع أيضاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وكل هذا لا يجوز السكوت عليه أبداً.
بالإضافة إلى ما ذكرت السائلة بشأن الموسيقى، والنادي الرياضي النسائي في الجامعة، وكذلك بشأن ما يلبسن من الضيق، فالله المستعان! السؤال: كتاب شفاء الفؤاد في زيارة خير العباد، ما رأي الشيخ فيه؟ الجواب: هذا الكتاب الذي يسأل عنه الإخوة شفاء الفؤاد في زيارة خير العباد إلى الآن لم أره وأرجو أن أراه -إن شاء الله- وقد سمعت عنه؛ لكن من عادتي -كما ترون- أني لا أتكلم إلا عن شيء يكون في اليد حتى نقرأ من كلامه؛ فهو بمثابة عمرو بن لحي الذي أدخل الأصنام، وأفسد التوحيد، وأفسد ما ورثه الناس عن إبراهيم عليه السلام، وهكذا في كل زمان يظهر من أمثاله من يريد أن يفسد دعوة التوحيد، وهذا الكتاب وما فيه من شركيات وضلالات إن شاء الله نبينها من نصه إذا وصلتنا نسخة خاصة منه إن شاء الله تعالى.(18/32)
الصحف والتدخين وموقفنا من ذلك
السؤال
ما رأي الشيخ حفظه الله فيما نشرته جريدة الشرق الأوسط من أن التدخين يمنع الأصابة بمرض الخرف؟
الجواب
هذه بشرى طيبة عند بعض الناس -مع الأسف- وهو ما نشر في جريدة الشرق الأوسط من أن التدخين يمنع الإصابة بمرض الخرف، فمعنى هذا الكلام: أن العجوز الذي يخرف يجب أن يدخن، ومعنى هذا الكلام -أيضاً- أن الذي لا يدخن يصاب بالخرف، فمثل هذه العناوين تخدم من، ولمصلحة من؟ كلنا نعرف أن الدعاية للدخان ممنوعة في الصحف الداخلية، فصارت الصحف السعودية تصدر في الخارج، وبهذه الطريقة تكون قد تحايلت على هذا القرار، فتضع الإعلان على الصفحات الواضحة والأغلفة الملونة: " تعال إلى حيث النكهة والجمال والمتعة" وفيه أيضاً " يظهر حصان ملون وجميل جداً! " وكأن الدخان هو الذي جعله بهذا الشكل، مع أن الحيوان وبما أعطاه الله من غريزة فإنه لا يمكن أن يأكل الدخان أبداً؛ ولكنهم يأتون بصورته ويقولون: تعال إلى النكهة والمتعة والصحة، وفي نفس الإعلان وتحت تلك الدعاية، نجد تحذيراً صغيراً بأن التدخين ضار بالصحة، فما هذا الكلام؟ وهل هذا فعل عاقل؟ ما هذا التناقض المكشوف؟ وإلا فإن الله قد أعطانا العقل، فإن كان ضاراً فلا داعي له أبداً، وإن كان مفيداً فلا يقولون: إنه ضار، كيف وهو النكهة والمتعة والجمال! فلن يجتمعا أبداً! فهذا نموذج صغير وبسيط للتناقض الذي نعيشه للأسف، ولن يكون الخلاص من ذلك إلا إذا تمحضنا لما أمرنا الله تبارك وتعالى، وأطعنا الله ورسوله في كل أمر، ونبذنا ما عدا ذلك، وإن كانت شهواتنا تدعوا إليه.(18/33)
حركة الإصلاح المزعومة وروادها
السؤال
ما مدى علاقة جمال الدين الأفغاني ورفاقه بحركات الإصلاح؟
الجواب
بالنسبة لحركات الإصلاح التي تكلم عنها السائل فليس جمال الدين الأفغاني زعيماً إصلاحياً، بل هو خبيث رافضي، وقد قرأنا كتبه مباشرة، وليس مجرد نقل عن أحد، وكتبه موجودة وتقرأ أيضاً، وأما محمد عبده فكان عقلانياً، وتلميذه رشيد رضا أفضل منه، لكن كان لديه بدع وانحرافات لا مجال لذكرها الآن.
وكذلك الكواكبي فليس من دعاة الإصلاح؛ أما الحركة المهدية في السودان حركة صوفية باطنية، وليست من الإصلاح في شيء.(18/34)
التجمعات السكنية الخالية من المساجد
السؤال
ماذا يقول الشيخ عن عدم وجود مساجد بالقرب من الشقق السكنية العامة؟
الجواب
هذا السؤال كثيراً ما جاءت الشكوى به، وهي أن شقق الإسكان مع أنها ثلاثة آلاف شقة تقريباً فليس فيها مسجد، وليست مشكلة المسجد فقط، لكن لا ندري كيف سيسكن هؤلاء الناس، وكيف يتكومون في هذه العمارة الشاهقة، وكيف يعيشون؟! وكيف يتصرفون؟! بل كيف يصعدون؟! وإذا تعطل المصعد فكيف يخرجون؟! وفي الحقيقة أعترف أنني ليست عندي خبرة في الهندسة المعمارية، لكن عندي خبرة كيف أسكن، فأرى وأعرف ما يناسبني من السكن.
فأنا أتعجب من هذا النموذج، وهناك نماذج في البناء والمعمار بنتها أوروبا قبل أكثر من خمسين سنة، وخاصة دول الاشتراكية مثل بريطانيا وغيرها فإنها تبني أي بناء؛ لأنها حين تحشر الناس لا يهمها شيء من تعر واختلاط، وليس عندهم صلاة ولا دين، أما نحن المسلمين فإننا نحتاج إلى الذهاب إلى المسجد خمس مرات في اليوم والليلة، فإذا كان السكن بهذا الشكل، فإذاً أقول: أعان الله من يسكن فيه، لأنه لا يسكن فيه إلا المضطر، أما إصلاح ذلك فيمكن، وذلك بوضع وسائل معينة للتخفيف من هذا الضنك، الذي قد يجده السكان.(18/35)
أحكام أهل الذمة
إن الشريعة الإسلامية منهج شامل لكل ما يتعلق بمصالح البشر، ولقد اهتمت هذه الشريعة بعلاقة العباد مع بعضهم البعض، حتى إنها لم تغفل العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين من أهل الديانات الأخرى.
ولقد ركزت الشريعة في الأحكام المتعلقة بغير المسلمين بمن هم بين ظهراني المسلمين، والذين يسمون أهل الذمة، فقد تناول أحكامهم المتعلقة بهم عدد من أعلام المسلمين، منهم العلامة ابن القيم رحمه الله ومن ضمن هذه الأحكام: منع استعمال أهل الذمة في مناصب يمكنهم من خلالها الاطلاع على أسرار المجتمع المسلم.
وقد أظهر التاريخ الأثر الخطير الذي يترتب على مثل هذا العمل، وما يمكن أن يجره من ويلات على المسلمين.
ولقد بين ابن القيم المنهج الصحيح في التعامل مع أهل الذمة، حيث أورد الأمثلة على ذلك من حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن جاء من بعده من الخلفاء الراشدين، ثم أردف ذلك بذكر أمثلة على عداوتهم للمسلمين، وسعيهم لتقويض أركان الدولة الإسلامية.(19/1)
حكم ولايات أهل الذمة
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "فصل: في المنع من استعمال اليهود والنصارى في شيء من ولايات المسلمين وأمورهم".
ثم بدأ بذكر روايات عن الإمام أحمد كعادته فقال: قال أبو طالب: سألت أبا عبد الله: يستعمل اليهودي والنصراني في أعمال المسلمين مثل الخراج؟ قال: لا يستعان بهم في شيء.
ثم قال: قال أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا مالك بن أنس، عن عبد الله بن زيد عن عروة عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنا لا نستعين بمشرك} إلى أن قال: عن عروة عن عائشة {أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج إلى بدر فتبعه رجل من المشركين فلحقه عند الحرة فقال: إني أريد أن أتبعك وأصيب معك، قال: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: ارجع، فلن أستعين بمشرك؛ ثم لحقه عند الشجرة، ففرح بذلك أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان له قوةً وجلداً، فقال: جئت لأتبعك وأصيب معك، قال: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: ارجع فلن أستعين بمشرك؛ ثم لحقة حتى ظهر على البيداء فقال له مثل ذلك، قال: أتؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم، فخرج معه} رواه مسلم في صحيحه بنحوه.
وفي مسند الإمام أحمد من حديث حبيب بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده قال: {أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يريد غزواً وأنا ورجل من قومي وكنا لم نسلم، فقلنا: إنا نستحيي أن يشهد قومنا مشهداً لا نشهده معهم، فقال: أسلمتما؟ فقلنا: لا، قال: فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين، قال: فأسلمنا وشهدنا معه}.(19/2)
أهل الذمة في العهود الإسلامية الأولى:(19/3)
أهل الذمة في عهد العمرين
قال بعد ذلك: وقال عبد الله بن أحمد بسنده عن أبي موسى رضي الله عنه قال: [[قلت لـ عمر رضي الله عنه: إن لي كاتباً نصرانياً، قال: مالك؟ قاتلك الله! أما سمعت الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] ألا اتخذت حنيفاً -أي: مسلماً- قال: قلت: يا أمير المؤمنين! لي كتابته وله دينه، قال: لا أُكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله]].
وكتب إليه بعض عماله يستشيره في استعمال الكفار، فقال: [[إن المال قد كثر، وليس يحصيه إلا هم -أي: أن الجبايات والخراج والواردات كثرت وهم عندهم حذق وفهم في أعمال المحاسبة- فاكتب إلينا بما ترى، فكتب إليه: لا تدخلوهم في دَيْنِكُم، ولا تسلموهم ما منعهم الله منه، ولاتأمنوهم على أموالكم، وتعلموا الكتابة فإنما هي للرجال أو فإنما هي حلية الرجال]].
هو بهذا يحث هذه الأمة أن تتعلم الحساب.
وكتب إلى عماله: [[أما بعد: فإنه من كان قِبله كاتب من المشركين، فلا يعاشره، ولا يؤازره، ولا يعتضد برأيه، فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأمر باستعمالهم ولا خليفته من بعده]] أي: لم يرضه.
وورد عليه كتاب معاوية بن أبي سفيان [[أما بعد: يا أمير المؤمنين! فإن في عملي كاتباً نصرانياً، لا يتم أمر الخراج إلا بهذا النصراني فكرهت أن أقلده دون أمرك -أي: أنه يريد استثناءً لهذا الكاتب- فكتب إليه: عافانا الله وإياك، قرأت كتابك في أمر النصراني، فأما بعد، فإن النصراني قد مات! والسلام]]، أي افترض أنه قد مات فهل تتعطل الأمة؟ فإذاً لا بد أن تتخذ غيره؛ فمعنى كلامه أنه لا توجد ضرورة لهذا الكاتب.
وكان لـ عمر رضي الله عنه عبد نصراني، فقال له: ' أسلم حتى نستعين بك على بعض أمور المسلمين؛ فإنه لا ينبغي لنا أن نستعين على أمرهم بمن ليس منهم، فأبى فأعتقه وقال: اذهب حيث شئت '.
وكتب إلى أبي هريرة: [[أما بعد فإن للناس نفرة عن سلطانهم فأعوذ بالله أن تدركني وإياك، أقم الحدود ولو ساعة من نهار، وإذا حضرك أمران أحدهما لله والآخر للدنيا، فآثر نصيبك من الله، فإن الدنيا تنفد والآخرة تبقى، وعُد مرضى المسلمين، واشهد جنائزهم، وافتح بابك، وباشرهم، وأبعد أهل الشر، وأنكر أفعالهم، ولا تستعن في أمر من أمور المسلمين بمشرك، وساعد على مصالح المسلمين بنفسك، فإنما أنت رجل منهم؛ غير أن الله تعالى جعلك حاملاً لأثقالهم]].
قال ابن القيم رحمه الله: 'ودرج على ذلك الخلفاء الذين لهم ثناء حسن في الأمة كـ عمر بن عبد العزيز والمنصور والرشيد والمهدي والمأمون والمتوكل والمقتدر ' ونحن نذكر بعض ماجرى.
قال: 'فأما عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى فإنه كتب إلى جميع عماله في الآفاق أما بعد: فإن عمر بن عبد العزيز يقرأ عليكم من كتاب الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، فجعلهم الله حزب الشيطان {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:104،103]، واعلموا أنه لم يهلك من هلك من قبلكم إلا بمنعه الحق، وبسطه يد الظلم.
وقد بلغني عن قوم من المسلمين فيما مضى أنهم إذا قدموا بلداً، أتاهم أهل الشرك، فاستعانوا بهم في أعمالهم وكتابتهم، لعلمهم بالكتابة والجباية والتدبير، ولا خيرة ولا تدبير فيما يغضب الله ورسوله، وقد كان لهم في ذلك مدة، وقد قضاها الله تعالى؛ فلا أعلمن أن أحداً من العمال أبقى في عمله رجلاً متصرفاً على غير دين الإسلام إلا نكلت به، فإن محو أعمالهم كمحو دينهم؛ فأنزلوهم منزلتهم التي خصهم الله بها من الذل والصغار.
وأمر بمنع اليهود والنصارى من الركوب على السروج إلا على الأكف -جمع إكاف- وليكتب كل منكم بما فعله من عمله'.
فهكذا كانت كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، إلى جميع ولاته وكتب مثل ذلك إلى حيان عامله على مصر باعتماد ذلك، فكتب إليه ' أما بعد: يا أمير المؤمنين! فإنه إن دام هذا الأمر في مصر أسلمت الذمة -أي لو استمرينا على كلامك هذا أسلم أهل الذمة- وبطل ما يؤخذ منهم فتقل الموارد، فأرسل إليه رسولاً، وقال له: اضرب حيان على رأسه ثلاثين سوطاً أدباً على قوله، وقل له: من دخل في دين الإسلام، فضع عنه الجزية، فوددت لو أسلموا كلهم؛ فإن الله بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ داعياً لا جابياً '.
وأمر أن تهدم بيع النصارى المستجدة، فيقال: إنهم توصلوا إلى بعض ملوك الروم، وسألوه في مكاتبة عمر بن عبد العزيز، أي رجعوا إلى أصولهم ملوك الروم وقالوا لهم: عمر فعل ذلك بنا، فكتب إليه: أما بعد ' يا عمر! فإن هؤلاء الشعب سألوا في مكاتبتك؛ لتجري أمورهم على ما وجدتها عليه، وتبقي كنائسهم، وتمكنهم من عمارة ما خرب منها؛ فإنهم زعموا أنَّ من تقدمك فعل في أمر كنائسهم ما منعتهم منه؛ فإن كانوا مصيبين في اجتهادهم فاسلك سنتهم، وإن يكونوا مخالفين لها فافعل ما أردت'.
فهذا يدل على أن وساطة ملك الروم وشفاعته كانت مهذبة؛ لأنه لا يريد أن يواجه عمر رضي الله عنه لأنه يعرف قوته وصلابته.
فكتب إليه عمر: [[أما بعد فإن مثلي ومثل من تقدمني كما قال الله تعالى في قصة داود وسليمان: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء:79،78]]].
فما أراد أن يطعن في حكمهم؛ لأن هذا عدو للإسلام والمسلمين، فلم يقل: إن الذين كانوا قبلي ليس فيهم خير، وأتى بنبيين من أنبياء بني إسرائيل، يؤمن النصارى بنبوتهما وجعل الحكم وهو معلوم عندهم في التوراة ومعلوم عندنا في القرآن أن كلاً منهم قد اجتهد، ولكن مَن من المجتهدين المصيب؟ فكأنه يقول: أنا الذي فهمت الحق وأصبت وأما الذين قبلي فهم مخطئون ولكنهم معذورون.
وكتب إلى بعض عماله: ' أما بعد، فإنه قد بلغني أن في عملك كاتباً نصرانياً يتصرف في مصالح الإسلام، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:57] فإذا أتاك كتابي هذا فادع حسان بن زيد -أي ذلك الكاتب- إلى الإسلام؛ فإن أسلم فهو منا ونحن منه، وإن أبى فلا تستعن به، ولا تتخذ أحداً على غير دين الإسلام في شيء من مصالح المسلمين فأسلم حسان وحسن إسلامه '.(19/4)
أهل الذمة في عهد أبي جعفر المنصور والمهدي
قال: "وأما أبو جعفر المنصور، فإنه لما حج اجتمع جماعة من المسلمين إلى شبيب بن شيبة، وسألوه مخاطبة المنصور أن يرفع عنهم المظالم، ولا يُمكن النصارى من ظلمهم وعسفهم في ضياعهم، وأن يمنعهم من انتهاك حرماتهم وتحريهم؛ لكونه أمرهم أن يقبضوا ما وجدوه لبني أمية، فقال شبيب: فطفت معهم عند الكعبة فشبك أصابعه على أصابعي، فقلت: يا أمير المؤمنين! أتأذن لي أن أكلمك بما في نفسي؟ فقال: أنت وذاك، فقلت: إن الله لما قسم أقسامه بين خلقه، لم يرض لك إلا بأعلاها وأسناها، ولم يجعل فوقك في الدنيا أحداً؛ فلا ترض لنفسك أن يكون فوقك في الآخرة أحد!! يا أمير المؤمنين، اتق الله! فإنها وصية الله إليكم جاءت، وعنكم قبلت، وإليكم تؤدى -أي: الوصية بالتقوى- وما دعاني إلى قولي هذا إلا محض النصيحة إليك، والإشفاق عليك، وعلى نعم الله عندك اخفض جناحك إذا علا كعبك، وابسط معروفك إذا أغنى الله يديك يا أمير المؤمنين! إن دون أبوابك نيراناً تتأجج من الظلم والجور، لا يعمل فيها بكتاب الله ولا سنة نبينه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
يا أمير المؤمنين! سلَّطت الذمة على المسلمين، فظلموهم، وعسفوهم، وأخذوا ضياعهم، وغصبوهم أموالهم، وجاروا عليهم، واتخذوك سلماً لشهواتهم، وإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاًَ يوم القيامة فقال المنصور: خذ خاتمي فابعث به إلى من تعرفه من المسلمين وقال: يا ربيع، اكتب إلى الأعمال، واصرف من بها من الذمة، ومن أتاك به شبيب فأعلمنا بمكانه لنوقع باستخدامه'.
أي: خذ هذا الخاتم فأتني بولاة من الثقات وأنا أصرف النصارى وأجعلهم محلهم، فقال شبيب: يا أمير المؤمنين! إن المسلمين لا يأتونك، وهؤلاء الكفرة في خدمتك، فإن أطاعوهم أغضبوا الله، وإن أغضبوهم أغروك بهم، ولكن تولي في اليوم الواحد عدة، فكلما وليت رجلاً عزلت آخر' قال: 'وأما المهدي فإن أهل الذمة في زمانه قويت شوكتهم، فاجتمع المسلمون إلى بعض الصالحين، وسألوه أن يعرفه بذلك وينصحه، وكان له عادة في حضور مجلسه، فاستدعي للحضور عند المهدي، فامتنع، فجاء المهدي إلى منزله وسأله السبب في تأخره -أي: أن الشيخ لم يحب أن يذهب إلى المهدي فانقطع عن مجلسه- فجاءه الخليفة وقال له: لماذا لم تأتِ إلى مجلسي 'فقص عليه القصة، وذكر اجتماع الناس إلى بابه متظلمين من ظلم الذمة، ثم أنشده:
بأبي وأمي ضاعت الأحلام أم ضاعت الأذهان والأفهام؟!
من صد عن دين النبي محمدٍ أله بأمر المسلمين قيام؟!
إن لا تكن أسيافهم مشهورةً فينا فتلك سيوفهم أقلام!
' يقول: هذا حين كان النصارى يحاربون الإسلام بالأقلام؛ لأنهم يكتبون في الدواوين فقط، فكيف إذا كان أكثر؟! ثم قال: يا أمير المؤمنين! إنك تحملت أمانة هذه الأمة، وقد عرضت على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها ثم سلمت الأمانة التي خصك الله بها إلى أهل الذمة دون المسلمين! يا أمير المؤمنين! أما سمعت تفسير جدك - عبد الله بن عباس - لقوله تعالى: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49] أن الصغيرة التبسم، والكبيرة القهقهة؟! فما ظنك بأموال المسلمين وأماناتهم وأسرارهم؟! وقد نصحتك وهذه النصيحة حجة عليَّ ما لم تصل إليك، فولَّى عمارة بن حمزة أعمال الأهواز وكور دجلة وكور فارس، وقلد حماداً أعمال السواد.
وأمره أن ينزل إلى الأنبار وإلى جميع الأعمال، ولا يترك أحداً من الذمة يكتب لأحد من العمال، وإن علم أن أحداً من المسلمين استكتب أحداًَ من النصارى، إلا قطعت يده فقطعت يد شاهونة، وجماعة من الكتاب'، الذين أبوا إلا أن يكونوا كتاباً قطعت أيديهم، حتى لا يقول أحد من المسلمين: إن هذا عنده خبرة، فلماذا لانستخدمه ونستكتبه؟! قال: 'وكان للمهدي على بعض ضياعه كاتباً نصرانياً بـ البصرة، فظلم الناس في معاملته، فتظلم المتظلمون إلى سوار بن عبد الله القاضي -ويلاحظ دائماً أن الأمة في أي وقت تقع عليها المصائب والمشاكل، فيرجعون بعد الله تعالى، إلى العلماء والقضاة فهذا واجبهم- فـ سوار بن عبد الله كان قاضي البصرة فأحضر وكلاء النصراني واستدعى بالبينة، فشهدت على النصراني بظلم الناس وتعدي مناهج الحق ومضى النصراني فأخذ كتاب المهدي إلى القاضي بالتثبت في أمره، فجاء البصرة ومعه الكتاب وجماعة من حمقى النصارى، وجاءوا إلى المسجد، فوجدوا سواراً جالساً للحكم بين المسلمين.
فدخل المسجد، وتجاوز الموضع الذي كان يجب الوقوف عنده؛ لأن عنده كتاباً من الخليفة فتعدَّى وتجاوز فمنعه الخدم، فلم يعبأ بهم وسبهم ودنا حتى جلس عن يمين سوار، ودفع له الكتاب، فوضعه بين يديه ولم يقرأه، وقال: ألست نصرانياً؟ فقال: بلى، أصلح الله القاضي، فرفع رأسه، وقال: جروا برجله، فسحب إلى باب المسجد، وأدَّبه تأديباً بالغاً، وحلف ألَّا يبرح واقفاً إلى أن يُوفِّي المسلمين حقوقهم.
فقال له كاتبه: قد فعلت اليوم أمراًَ يخاف أن يكون له عاقبةً -أي: يخشى أن يكون له عاقبة عند النصارى، أو عند الخليفة، فقال: أعز أمر الله يعزك الله ولا تخف من أحد".(19/5)
أهل الذمة في عهد الرشيد والمأمون
قال ابن القيم رحمه الله: 'وأما هارون الرشيد فإنه لما قلَّد الفضل بن يحي أعمال خراسان، وجعفراً أخاه ديوان الخراج، أمرهما بالنظر في مصالح المسلمين، فعمرت المساجد والجوامع والصهاريج والسقايات، وجعل في المكاتب مكاتب لليتامى، وصرف الذمة عن أعمالهم، واستعمل المسلمين عوضاً عنهم، وغيَّر زيهم ولباسهم، وخرَّب الكنائس، وأفتاه بذلك علماء الإسلام'.
قال ابن القيم: 'وأما المأمون؛ فقال عمرو بن عبد الله الشيباني: استحضرني المأمون في بعض لياليه ونحن بـ مصر وقال لي: قد كثرت سعايات النصارى وتظلم المسلمون منهم، وخانوا السلطان ثم ذكر قصتهم وكيف ملكوا إلى أن قال: وفيهم يقول خالد بن صفوان من قصيدة له يمدح فيها عمرو بن العاص رضي الله عنه، ويحثه على قتلهم ويغريه بهم:
يا عمرو قد ملكت يمينك مصرنا وبسطت فيها العدل والإقساطا
فاقتل بسيفك من تعدى طوره واجعل فتوح سيوفك الأقباطا
فبهم أقيم الجور في جنباتها ورأى الأنام البغي والإفراطا
عبدوا الصليب وثلثوا معبودهم وتوازروا وتعدو الأشراطا
وبقي في نفس المأمون منهم، فلما عاد إلى بغداد اتفق لهم مجاهرةٌ في بغداد بالبغي والفساد على معلمه علي بن حمزة الكسائي، فلما قرأ عليه المأمون، ووصل إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] قال الكسائي: يا أمير المؤمنين! أتقرأ كتاب الله ولا تعمل به؟! فأمر المأمون بإحضار أهل الذمة، فكان عدة من صرف وسجن (ألفين وثمانمائة) وبقي جماعة من اليهود منحازين إلى حماية بعض جهاته، فخرج توقيعه بما نسخته: أخبث الأمم اليهود، وأخبث اليهود السامرة، وأخبث السامرة بنو فلان، فليقطع ما بأسمائهم من ديوان الجيش والخراج إن شاء الله تعالى.
ودخل بعض الشعراء على المأمون، وفي مجلسه يهودي جالس! فكان من مصائب المأمون أنه كان يدني اليهود والنصارى ويجالسهم، ويأتي بهم إلى مجلسه على أنهم أدباء وحكماء وأطباء ومن باب الفلسفة، وعلم الكلام الذي كانوا يتفننونه، فدخل عليه شاعر مسلم مؤمن أخذته الغيرة لله ولرسوله والحمية لدين الإسلام، فأنشده:
يابن الذي طاعته في الورى وحكمه مفترضٌ واجب
إن الذي عُظمت من أجله يزعم هذا أنه كاذب
أي ما عُظِّم المأمون إلا لأجل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولأنه من أهل البيت ومن بني العباس وأنه خليفة المسلمين.
قال: إن الذي عُظمت من أجله وهو الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يزعم هذا اليهودي أنه كاذب فقال المأمون لليهودي: أصحيح ما يقول؟ قال: نعم، فأمر بقتله".(19/6)
أهل الذمة في عهد المتوكل والمقتدر بالله
قال: 'وأما المتوكل: فإنه صرف أهل الذمة من الأعمال، وغيَّر زيَّهم في مراكبهم وملابسهم، وذلك أن المباشرين منهم للأعمال كثروا في زمانه، وزادوا على الحد وغلبوا على المسلمين، لخدمة أمه وأهله وأقاربه، وذلك في سنة (خمس وثلاثين ومائتين) هـ ثم ذكر بعض ماعملوا.
ثم قال: وعُرِضَ على المتوكل، فأُغري بهم، وظن ما أوجبوا من ذلك حقاً، وأن المال في جهاتهم كما أوجبوه.
أي أنهم أوجدوا وقيعة بينه وبين المتوكل، والقصه طويلة، فنختصرها.
قال: فدخل عبيد الله بن يحي على المتوكل، فعرفه مأثمة أهل الذمة على المسلمين وغيرهم، وأوقفه على خط سلمه، وقال: هذا قصده أن يخلو أركان دولة أمير المؤمنين من الكُتَّاب المسلمين، ويتمكن هو ورهطه منها.
وكان المتوكل قد جعل في موكبه من يأخذ المتظلمين ويحضرهم بين يديه على خلوة، فأحضر بين يديه شيخ كبير، فذكر أنه من أهل دمشق، وأن سعيد بن عون النصراني غصبه داره فلما وقف المتوكل على قصة الشيخ، اشتد غضبه إلى أن كادت تطير أزراره، وأمره أن يكتب إلى صالح عامله برد داره.
قال الفتح بن خاقان: فقمت ناحية لأكتب له بما أمرني، فأتبعني رسولاً يستحثني، فبادرت إليه، فلما وقف على الكتاب، زاد فيه بخطه، نُفيتُ عن العباس فلئن خالفتَ فيما أمرتُ به لأوجهن من يجيئني برأسك! ووصل الشيخ بألف دينار، وبعث معه حاجباً.
قال: وكثر تظلم الناس من كُتَّاب أهل الذمة، وتتابعت الإغاثات، وحج المتوكل تلك السنة فرئي رجلٌ يطوف بالبيت، ويدعو على المتوكل، فأخذه الحرس وجاءوا به سريعاً، فأمر بمعاقبته، فقال له: والله يا أمير المؤمنين ما قلت ما قلته، إلا وقد أيقنت بالقتل، فاسمع كلامي، وأمر بقتلي، فقال: قل.
فقال: سأطلق لساني بما يرضي الله ورسوله ويغضبك يا أمير المؤمنين، فقد اكتنفت دولتك كتاباً من الذمة، أحسنوا الاختيار لأنفسهم، وأساءوا الاختيار للمسلمين، وابتاعوا دنياهم بآخرة أمير المؤمنين، خِفْتَهم ولم تَخَفِ الله، وأنت مسئول عما اجترحوا، وليسوا مسئولين عما اجترحت؛ فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك؛ فإن أخسر الناس صفقة يوم القيامة، من أصلح دنيا غيره بفساد آخرته، واذكر ليلةً تتمخض صبيحتها عن يوم القيامة، وأول ليلة يخلو المرء في قبره بعمله.
فبكى المتوكل إلى أن غشي عليه، وطُلِبَ الرجل فلم يُوجَدْ، فخرج أمره بلبس النصارى واليهود الثياب العسلية -على زي خاص- وألَّا يُمكنوا من لبس الثياب، لئلا يتشبهوا بلبس المسلمين، ولتكن رُكُبُهُم خشباً -أي: لا يركبوا السروج كالمسلمين- وأن تُهدَّمَ بِيعُهُمْ المستجدة، وأن تطبق عليهم الجزية، ولا يفسح لهم في دخول حمامات المسلمين، وأن يُفْرَدَ لهم حمامات خدمها ذمة -أي: أن يكون الخدم في هذه الحمامات من أهل دينهم- ولا يستخدموا مسلماً في حوائجهم لنفوسهم.
أي: لا يجوز أن يستخدم الكفار أي مسلم في حوائجهم، فيكون خادماً أو عاملاً في خدمة الكفار.
وأفرد لهم من يحتسب عليهم من أهل الحسبة -وهم الذين نسميهم الآن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- فأفرد المتوكل قسماً خاصاً بالاحتساب على النصارى ليتأكد على قيامهم بهذه الأمور ومن تلبسهم بالذل والصغار وكتب كتاباً نسخته: أما بعد: فإن الله اصطفى الإسلام ديناً، فشرَّفه وكرمه، وأناره ونصره، وأظهره، وفضَّله، وأكمله، فهو الدين الذي لا يقبل الله تعالى غيره، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] ثم ذكر الآيات الكثيرة في حكم أهل الكتاب، ومما ذكره الله تعالى عداوتهم للمؤمنين وآخرها.
قال: وقد انتهى إلى أمير المؤمنين أن أناساً لارأي لهم ولا رَوِيَّةَ يستعينون بأهل الذمة في أفعالهم، ويتخذونهم بطانةًَ من دون المسلمين ويسلطونهم على الرعية، فيعسفونهم، ويبسطون أيديهم إلى ظلمهم وغشهم، والعدوان عليهم؛ فأعظم أمير المؤمنين ذلك وأنكره وأكبره وتبرأ إلى الله تعالى منه، وأحب التقرب إلى الله تعالى بحَسْمِه والنهي عنه.
ورأى أن يكتب إلى عماله على الكُوَرِ والأمصار وولاة الثغور -الكور: جمع كورة وهي القصبة أو الناحية أو المنطقة- والأجناد في ترك استعمالهم للذمة في شيء من أعمالهم وأمورهم، والإشراك لهم في أماناتهم، وما قلدهم أمير المؤمنين واستحفظهم إياه، وجعل في المؤمنين الثقة في الدين والأمانة على إخوانهم المؤمنين، وحسَّن الرعاية لما استرعاهم، والكفاية لما استُكْفُوا، والقيام بما حملوا، مما أغنى عن الاستعانة بالمشركين بالله، المكذبين برسله، الجاحدين لآياته -وهذا كله كلام الخليفة- الجاعلين معه إلهاً آخر، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، ورجاء أمير المؤمنين بما ألهمه الله من ذلك، وقذف في قلبه جزيل الثواب، وكريم المآب، والله يعين أمير المؤمنين على نيته في تعزيز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وحزبه، فليُعلم هذا من رأي أمير المؤمنين، ولا يستعانن بأحد من المشركين، وإنزال أهل الذمة منازلهم التي أنزلهم الله تعالى بها، فاقرأ كتاب أمير المؤمنين على أهل أعمالك، وأَشِعْهُ فيهم، ولا يعلمنّ أمير المؤمنين أنك استعنت ولا أحدٌ من عمالك أو أعوانك بأحد من أهل الذمة في عملٍ، والسلام'.
قال ابن القيم رحمه الله: 'وأما المقتدر بالله، فإنه سنة (خمسة وتسعين ومائتين) عزل كُتَّاب النصارى وعمالهم -فيتكرر العزل وما ذلك إلا إذا أتى من يقيم فيهم أمر الله، ثم يأتي بعد ذلك من يدعهم يتسلطون فيأتي من يرجعهم- وأمر ألَّا يُستعان بأحد من أهل الذمة، حتى أمر بقتل أبي إياس النصراني عامل أبي مؤنس الحاجب.
وكتب إلى نوابه بما نسخته: 'عوائد الله عند أمير المؤمنين توفي على غاية رضاه ونهاية أمانيه، وليس أحد يُظْهِرُ عصيانه إلا جعله الله عظةً للأنام، وبادر بعاجل الاضطلام والله عزيز ذو انتقام'.
فمن نكث وطغى وبغى وخالف أمير المؤمنين، وخالف محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسعى في إفساد دولة أمير المؤمنين، عاجله أمير المؤمنين بسطوته، وطهر من رجسه دولته، والعاقبة للمتقين، وقد أمر أمير المؤمنين بترك الاستعانه بأحد من أهل الذمة في عمل من الأعمال، فليحذر العمال تجاوز أوامر أمير المؤمنين ونواهيه'.(19/7)
أهل الذمة في عهد الراضي بالله والآمر بأمر الله
وقال ابن القيم: 'وكذلك الراضي بالله، كثرت الشكاية من أهل الذمة في زمانه، فكتب إليه الشعراء في ذلك، فممن كتب إليه مسعود بن الحسين الشريف البياضي -أحد الشعراء الغيورين- يقول:
يا ابن الخلائف من قريش والألى طهرت أصولهمُ من الأدناس
قلدت أمر المؤمنين عدوهم ما هكذا فعلت بنو العباسِ
حاشاك من قول الرعية إنه ناسٍ لقاءَ الله أو متناسِ
ما العذر إن قالوا غداً: هذا الذي ولَّى اليهود على رقاب الناسِ
أتقول: كانوا وفروا الأموال إذ خانوا بكفرهم إله الناسِ
لا تذكرنْ إحصاءهم ما وفروا ظلماً وتنسى محصي الأنفاسِ
وخف الإله غداً إذا وُفِّيَت ما كَسَبَتْ يداك اليوم بالقسطاسِ
في موقفٍ ما فيه إلا شاخصٌ أو مهطع أو مُقْنعٌ للراسِ
أعضاؤهم فيه الشهود وسجنهم نارٌ وحارسهم شديد الباسِ
إن تمطل اليومَ الديون َمع الغنى فغداً تؤديها معَ الإفلاسِ
لا تعتذر عن صرفهم بتعذر الـ متصرفين الحذَّقِ الأكياسِ
ما كنت تفعل بعدهم لو أُهلِكوا فافعل، وعُدَّ القومَ في الأرماس
وكأنه تذكر قول عمر رضي الله عنه لمعاوية: اعتبر أنهم ماتوا وأنهم ما وجدوا.
يقول: وكتب إليه وقد صرف ابن فضلان اليهودي وابن مالك النصراني، يقول:
أبعد ابن فضلان توليِّ ابن مالكَ بماذا غداً تحتج عند سؤالك
خف الله وانظر في صحيفتك التي حوت كل ماقدمته من فعالك
وقد خط فيها الكاتبون فأكثروا ولم يبق إلا أن يقولوا كذلك
فوالله ماتدري إذا مالقيتها أتوضع في يمناك أو في شمالك
يقول: ما بقي إلا أن يقول الملائكة: فذلك، آخر عبارة تقال عادةً في كتب الأقدمين، ولهذا يقال الآن: الفذلكة، والفذلكة هي آخر الجملة ومختصر الكلام.
يقول: وكذلك الأمر بأيام الآمر بأمر الله، امتدت أيدي النصارى، وبسطوا أيديهم بالجناية، وتفننوا في أذى المسلمين وإيصال المضرة إليهم، واستعمل منهم كاتب يعرف بالراهب، ولقب بالأب القديس، الروحاني النفيس، أبي الآباء، وسيد الرؤساء، مقدم دين النصرانية، وسيد البتركية، صفي الرب ومختاره، ثالث عشر الحواريين.
فانظر كيف استنكر الناس والعلماء أن النصراني يلقب بلقب تشريف، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تقولوا للمنافق: سيدنا، فإنه إن يكن سيدكم، فقد أسخطتم ربكم عز وجل}.
يقول: فصادر اللعين عامة مَنْ بالديار المصرية من كاتب وذكر بعض أعماله الخبيثة، وبعض أقواله الشنيعة.
ولا بأس أن نورد بعضاً من كلام هذا النصراني القبطي، حيث يقول: 'نحن ملاك هذه الديار، حرثاً وخراجاً، ملكها المسلمون منا -هذه دعوى الكفار دائماً- وتغلبوا عليها، وغصبوها، واستملكوها من أيدينا، فنحن مهما فعلنا بالمسلمين فهو قبالة مافعلوا بنا -انظر! ماذا يقول المجرم- ولايكون له نسبة إلى من قتل من رؤسائنا وملوكنا في أيام الفتوح، فجميع مانأخذه من أموال المسلمين وأموال ملوكهم وخلفائهم حلٌ لنا، وبعض مانستحقة عليهم'.
وصدق الله إذ يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران:75].
قال: فإذا حملنا لهم مالاً كانت المنة لنا عليهم، واستشهد بأبيات-:
بنت كرم غصبوها أمها وأهانوها فديست بالقدم
ثم عادوا حكَّموها فيهمُ ولنا هيك بخصمٍ يحتكم
فضرب مثالهم بالخمر، فالعنب تهان وتداس وتعصر بالأقدام، لكن بعدما تصبح خمراً يحكِّمونها في عقولهم.
أي: أن الأقباط النصارى أهانهم المسلمون، ثم بعد ذلك أصبحوا هم المتحكمين عليهم.
ويقول ابن القيم رحمه الله: ' ثم انتبه الآمر من رقدته، وأفاق من سكرته، وأدركته الحمية الإسلامية، والغيرة المحمدية، فغضب لله غضب ناصر للدين وبار بالمسلمين، وألبس الذمة الغيار، وأنزلهم بالمنزلة التي أمر الله أن ينزلوا بها من الذل والصغار، وأمر ألَّا يُولَّوا شيئاً من أعمال الإسلام '.
ثم كتب كتاباً فيه عبر آيات أحاديث، ومواعظ، وهو طويل جداًَ يبلغ عشر صفحات في مثل حجم خطبة الجمعة، وهو كتاب عجيب كتبه هذا الخليفة أو كتبه له أحد العلماء.(19/8)
عداوة أهل الذمة للمسلمين
ثم يُعقِّب ابن القيم رحمه الله: فصل في سياق الآيات الدالة على غش أهل الذمة للمسلمين وعداوتهم، وخيانتهم وتمنيهم السوء لهم، ومعادة الرب تعالى لمن أعزهم أو والاهم أوولاَّهم أمور المسلمين، وذكر آيات كثيرة في أربع صفحات، ثم ذكر بعد ذلك حكم التولية.
ثم قال: ولو علم ملوك الإسلام بخيانة النصارى الكُتَّاب، ومكاتبتهم الفرنج أعداء الإسلام، وتمنيهم أن يستأصلوا الإسلام وأهله، وسعيهم في ذلك بجهد الإمكان، لثناهم ذلك عن تقريبهم وتقليدهم الأعمال.
ثم ذكر الأمثلة على ذلك من قصة أحد الملوك الذي كان يُسمى الملك الصالح، فقال: دخل بعض العلماء ليعظه والعلماء كانوا يعظون كلاً بحسب فهمه وعقله، فالخليفة العالم يكتبون إليه آيات وأحاديث وعلم وفقه، وهذا الملك الصالح لم يكد يفهم الآيات والعبر، فوعظه هذا العالم بموعظة تناسب فهمه وهو في مجلس الكُتَّاب والقضاة والعلماء، فقال له: إن النصارى لا يعرفون الحساب ولا يدرونه على الحقيقة؛ لأنهم يجعلون الواحد ثلاثة، والثلاثة واحداً، والله تعالى يقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] وأولو أمانتهم وعقد دينهم: باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد، فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء وقال في قصيده له:
كيف يدري الحساب من جعل الـ ـواحد رب الورى ثلاثة
ثم قال: كيف تأمن أن يفعل في معاملة السلطان كما فعل في أصل اعتقاده، ويكون مع هذا أكثر النصارى أمانة؟! وكلما استخرج ثلاثة دنانير دفع إلى السلطان ديناراً، وأخذ لنفسه اثنين، ولاسيما وهو يعتقد ذلك قربةً وديانة!! فانصرف القوم، واتفق أَنْ كَبَتْ بالنصراني فطنته، وظهرت خيانته، فأريق دمه، وسلط على وجوده عدمه إلى أن يقول: وفيهم يقول عمارة اليمني وذكر قصيدةً له.
وعلى كل حال؛ فكتاب أحكام أهل الذمة لـ ابن القيم رحمه الله موجود، وهذا بعض ما فيه حول تولية اليهود والنصارى واستعمالهم والاستعانة بهم.(19/9)
الأسئلة(19/10)
خبر صفقة كيماوية للمجندات الأمريكيات
هذا الخبر نقرأه من غير تعليق، نقرأ ترجمته، في عرب نيوز 1411هـ (ص 20).
صفقة كيماوية لمجمع التسويق كيمار، تتكون هذه الصفقة من خمسة آلاف زجاجة من كريم منعم للجلد، وألفين وأربعمائة علبة لطرد الحشرات والناموس، وخمسة آلاف وخمسمائة أنبوبة مرطب شفايف، وخمسه آلاف وخمسمائة علبة بودرة أقدام، وخمسه آلاف وخمسمائة زجاجة لكريم الجلد ضد الشمس.
تقول الصحيفة: فهذه صفقة خيالية ماكان يحلموا بها اشتروها في طريقهم إلى الخليج.(19/11)
الشباب الصالح ودوره في الأحداث
السؤال
سمعنا بمقاومة في الكويت من الشباب الصالح فهل هذا صحيح؟
الجواب
الذي سمعته أن الشباب المسلم ليس له مقاومة عسكرية في الكويت، وإنما قاموا بدور عظيم جداً، وهو الذي تسمعونه في الإذاعة، مع من يتقابلون في الإذاعة أحياناًَ، وهو أن هؤلاء الشباب قاموا بنوع من التنسيق بين الأسر وبين الناس، وخاطبوا المعتدين، وخاطبوا بعض الناس أنه لابد أن يحتسبوا لإيصال الطعام والماء إلى البيوت التي قطع عنها، ولإيصال المرضى إلى المستشفى، والقيام بأعمال إغاثة، وخدمات ضرورية لحياة الناس، فقاموا بذلك جزاهم الله تعالى خيراً، واحتسبوا ما يلقون من الأذى، بل ربما القتل أو البطش في سبيل ذلك.
ولكن القيام بهذه الأعمال قامت بفضل الله، ثم بفضل هؤلاء الشباب، وأرجو أن يكون هذا دافعاًَ -إن شاء الله- لأن يلتف الناس حولهم، وأن يعلموا من الذي يحبهم ومن الذي يشفق عليهم أهم الراقصون، والراقصات، وأصحاب المجلات وأصحاب الشاليهات وأصحاب الدعارة على الشواطئ، وأصحاب الأشياء التي لا تخفى؟! أم هذا الشباب المتدين المتمسك الذي ربما كان كثير منهم يحتقره في وقت الرخاء، ولا يحب أن ينظر إليه، والآن في وقت الشدة يجد هذه الخدمات منهم، وكما نسمع في برنامج الإذاعة أو التلفزيون أن الناس يقولون: "الإخوان المتدينين أعطونا الماء وأعطونا الطعام، وقدموا لنا الخدمات حتى خرجنا".
وهذا من فضل الله على هؤلاء الشباب.
أنا أنصح الإخوة، بألَّا يقوموا بأية مقاومة عسكرية، فهذه ليس لها أية قيمة في الحقيقة، فهي مجرد انتحار؛ لأنهم أفراد قليلون، وأنا أرى أن المقاومة الحقيقية تكون في شكل مقاومة سلبية، وذلك بأن يعيشوا هناك دون أن يقروا بهذا الواقع، وأن يعيشوا معهم عيشة الداعية الذي يدعو الناس إلى الخير عن طريق هذه الخدمات، ويدعو أولئك الجنود أيضاً.
وقد بلغني عن بعضهم أنهم دعوا بعض الجنود، وقالوا: أنتم مسلمون، وأنتم عرب وأخذوهم بالنخوة، وقالوا لهم: لماذا لا تصلون؟ فأصبحوا يدخلون بعض المساجد ويصلون، وهذا -والله- مكسب كبير، وربما بعض الذين عبروا بدباباتهم إلى الأراضي السعودية وهم عدد كبير، ربما يكون من هذا النوع الذي أوقظت فيه الغيرة الإيمانية.
ورأى أنه حرام أن يعتدي على إخوانه المسلمين، وحرام أن يهاجمهم، وقال: إذاً أفر بديني ونفسي، فجاءوا بدباباتهم ودخلوا إلى السعودية، كما سمعنا في نشرات الأخبار.
فالأمة المسلمة فيها خير، حتى وإن كانوا جنوداً للكفرة وجنوداً للبعثيين، أو لمن هو أكثر من البعثيين، فسيظل الخير في هذه الأمة -بإذن الله تعالى- باقياً إلى قيام الساعة، ولهذا لو خوطبوا بالدعوة إلى الله، ولو وُجِّهت إليهم موجات إذاعية معينة أو نشرات أو كتيبات -في الكويت أو خارجها أو في أي مكان، أو أن تبث عليهم برامج تذكرهم بالله، لكان ذلك من أقوى العوامل أن يتركوا هذا المجرم أو ينقلبوا عليه أو -على الأقل- يهربوا ولا ينفذوا أوامره.
وثبت لديكم أن كثيراً منهم أول ما وصل إلى الكويت يطرق الباب، يريد ثوباً كويتياً، يختفي فيه عن الجند، فيظنوا أنه فقد أو مات, أو شيئاً من هذا فيختفي، فكثير منهم أجبروا، وأكثر الشعوب في العالم مقهورة، مجبورة مظلومة، وإن كانت نتائج الانتخابات تصل إلى (99.
99%) فهي ليست ذات معنى.
والحمد لله، أن المسلمين المؤمنين المتقين ليس من أصلهم الظلم أو الجور أو البغي، وخاصةً أن هذه الحرب فادحة وخسائرها واضحة ومعاركها لا هدف لها، لكن من يذكرهم بالله؟ فليتنا بدل الأغاني والمسلسلات نُوجه في إذاعتنا نداءات إيمانية إسلامية إلى هؤلاء، ونسلط عليهم موجات معينة، ليلتقطوها كما سلط هذا المجرم وحزبه إذاعات ليلتقطها الناس هنا.(19/12)
مصطلح الأمة العربية وعدالة التوزيع
السؤال
إنسان مسلم ومؤمن وملتزم، لكن يؤمن أن وحدة الأمة العربية خير من الفرقة في ضوء نفاق الدولة، والمشاركة والشورى مطلب الأمة، وعدالة التوزيع بين الأمة واجب ديني؛ فهل هذا يعتبر نقص في إيمانه؟
الجواب
أخشى أن يكون هذا متستراً، وعلى أية حال لا يوجد شيء اسمه الأمة العربية، أين توجد الأمة العربية؟ قبل الإسلام كان يقال: العرب أو قبائل العرب، فإذا صح أن نستخدم مصطلحاتنا الحالية، فنقول: إن الأمة العربية ما كان لها هذا الاسم إلا قبل الإسلام، أما بعد أن بعث الله سيدنا محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنور المبين، وأنزل عليه الذكر الحكيم، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وأنزل عليه قوله تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] فأصبح اسمنا المسلمين، والعرب جزء من الشعوب المسلمة.
ولم يوجد في تاريخنا -وهذه كتب التاريخ عندنا وكتب الفرق والفقه والآثار وغيرها- شيء اسمه الأمة العربية إلا لما ظهر ساطع الحصري وميشيل عفلق وفارس النمر ومن قبلهم النصارى وأمثالهم جاءوا بهذه الكلمة، وأكثرهم ليسوا عرباً وليسوا أيضاً مسلمين، فجاءوا بهذا المصطلح، فأصبحنا نقول: الأمة العربية، والقضية العربية، والبيت العربي.
فمثلاً جامعة الدول العربية من الذي أنشأها؟ ومن الذي أسسها؟ فكما هو معلوم أنه أنطوني أيزن، الذي كان وزير خارجية بريطانيا ثم أصبح رئيساً لوزرائها، فـ بريطانيا أنشأتها لتضمن لها الهيمنة مثل: الكومنولث، ثم بعد ذلك سلمت أمر المنطقة إلى أمريكا وريثتها في حماية واستعباد المنطقة، فلا يوجد شيء اسمه (الأمة العربية).
ونحن دائماً نخطئ في وسائل الإعلام فنقول: (الأمتان: العربية والإسلامية) فهل جعلها الله أمتين أم أمةً واحدة؟! كل المؤمنون أمة واحدة من لدن آدم عليه السلام، والمسلمون أمه واحدة كمثل الجسد الواحد -كما لا يخفى علينا- ولازلنا كذلك والحمد لله.
وأما أن المشاركة والشورى مطالب الأمة، فهذا ليس فيه نقاش، ولكن هل هي على الطريقة الديموقراطية أم على طريقة الشورى الإسلامية؟ فهذا هو الفرق، فعلينا ألَّا يقودنا الكلام العام إلى الخطأ، ومن خلال ذلك نحتاج إلى تفصيل أكثر فإن كان المطالب بهذا يريد أن تكون عدالة التوزيع والشورى إسلامية، فيوضح ويقول: نريد حكم الله ورسوله، ولا أحد يعترض عليه من المسلمين أبداً، وإن كان يتستر على مطالب الأمة الشورية من أجل الديموقراطية، وإظهار الحزبية التي يريد، يتستر بكلمة عدالة التوزيع من أجل الاشتراكية التي يريد، فنحن برآء منه، وديننا -والحمد لله- واضح ولا يحتاج لهذه الشعارات.(19/13)
مقالة
هذه المقالة لإخواننا من مجلة الحرس، عن الوفاق بين أمريكا وروسيا ويقول فيها: 'لو كان ما جرى من الأمريكان في الخليج قبل سنة من الآن لرأيتم العجب العجاب من روسيا، فتحريك جندي أمريكي واحد كان يثير روسيا أكبر الإثارة، أما الآن فإن روسيا بسفنها وبجنودها تبع للغرب وتبع لـ أمريكا، فهذه ثمرة من ثمرات الوفاق'.
أشكر الأخ الذي أعطانا مجلة الحرس الوطني التي فيها مقال عن هذا الموضوع.(19/14)
حكم الاستعانة بالنصارى وإعلان الهدنة معهم
السؤال
بعض أهل العلم عفا الله عنهم يستدلون بقتال خزاعة مع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حنين أو في فتح مكة وأنه استعان بقوم كانوا كفاراً مشركين أن يقاتلوا معه، يستدلون بهذا على جواز الاستعانة بالكفار في القتال فهل هذه صحيح؟
الجواب
لا، الحقيقة أن قبيلة خزاعة كانت عام الحديبية عام الصلح كما في صحيح البخاري عن الزهري كانت خزاعة مؤمنهم ومشركهم في عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فدخلوا في حلف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام الحديبية؛ لأن الدولة الإسلامية لم تكن قد شملت المنطقة، فالدولة كانت في المدينة، ويحكمها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما امتدت إلى ما حولها، وبقيت قبائل ومناطق بعيدة غير داخلة في الدولة الإسلامية، وأيضاً ليست داخلة ضمن قيادة قريش، فلما عقد الصلح بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين قريش، تراضوا على بند من بنود الصلح أن من أراد أن يدخل في عقد محمد وعهده فليدخل، ومن أراد أن يدخل في عقد قريش وعهدها، فليدخل فهذا في عام الحديبية.
ثم كانت قصة الفتح، وسببها نقض قريش للعهد، إذ إنها أعانت حلفاءها بني بكر على خزاعة فجاء عمرو بن سالم من خزاعة موفداً إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال قصيدته المعروفة ومن ضمنها:
وقتلونا ركعاً وسجدا
خزاعة كانت مسلمة لأنه يقول: وقتَّلونا ركعاً وسجدا، فمعنى ذلك: أن الصلح قد انتقض، فلما تقدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودخل مكة كانت معه خزاعة، وكانت قد أسلمت جميعاً، وكما قرأنا في الأحاديث بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يشترط أنه لايدخل معه إلا من أسلم، وهي أحاديث صحيحة فليس هناك مجال للاحتجاج بهذه القصة.
وأما حديث الروم فقد سبق وأن تكلمنا عنه، وإن شاء الله تتاح لنا فرصة فنتكلم عن الروم من خلال الأحاديث؛ لأن الملاحم قائمة مع الروم إلى قيام الساعة، وهناك أحاديث كثيرة جداً في الملاحم، وأن الروم يقاتلون المسلمين.
ففي صحيح البخاري، حديث عوف بن مالك رضي الله عنه: {انتظر ستاً قبل الساعة ومنها: هدنهٌ تكون بينكم وبين بني الأصفر، ثم يغدرون بكم ويقاتلونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً}.
هذه الهدنة تكون بيننا وبينهم ثم يغدرون، الرواية التي في مسند أحمد وسنن أبي داوود وغيرها، وذكر فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنكم {تصالحون الروم وتقاتلون معهم عدواً فتسلمون وتغنمون -قال في آخره-: فإذا برجل من الروم يقول: غلب الصليب، يرفع شعار الصليب فتقع المعركة فيغدرون بكم} والروايات الأخرى في البخاري وغيره تفسر هذا الحديث، وأنه بعد الهدنة وبعد الصلح يكون الغدر.
فلو قرأنا الحديث إلى آخره وقرأنا الأحاديث الأخرى معه، فهل نفهم من هذا الثقة في الروم أو الغدر؟ لا.
لن نفهم منها إلا الغدر! فإذاً لا يوجد حديث حجة يصلح للاستشهاد به هنا.(19/15)
المجلات الداعرة
السؤال
أطلت علينا بعض المجلات الداعرة وجهاً قبيحاً هذه الأيام مثل مجلة ألوان ومجلة الشراع، وأظن أنها كانت ضمن الممنوع، فماذا حصل في الأمر؟
الجواب
أظن أن الذي حصل هو أن النهضة واليقظة والمجالس اختفت، فأرادوا أن يعوضوا فجاءت هذه؛ لأن المخطط لابد منه، فعوضوا بإعادة بعض ما منع أو بكثرة الطبعات مما منع، فكانوا يفسدونا عن طريق الصحافة الكويتية، ولما انتهت حاولوا أن يعيدوها، وحاولوا أن يأتوا بصحافة أخرى بديلة ولاحول ولاقوة إلا بالله.(19/16)
من إذاعة البعثيين
حدثني شخص وأرجو ألا يكون واهماً، لكن أقسم بالله بأنه متأكد أنه في إحدى إذاعات البعثيين غير إذاعة بغداد كان يقدم في برنامج الإفطار في رمضان موعظة دينية يلقيها محمد بن عبد الوهاب المطرب وهو يقول: 'هناك علاقة وثيقة بين الدين والفن'، ومن جملة ما يقول: 'إن الغناء أول ما نشأ في أحضان المشايخ مثل الشيخ سلامة حجازي وسيد درويش وزكريا أحمد '.
فانظر إلى الحرب علينا من هنا ومن هنا، وتكلم حتى عن الشعراوي، وفي الحلقة الثانية يقول: 'الدين حياة كاملة' في حوار ديني مع موسيقار الأجيال محمد بن عبد الوهاب لتعرفوا منه رأي الشيخ محمد عبد الوهاب في المشايخ، فرأيه في الشيخ الشعراوي أنه يحاور الناس ولا يحاضرهم، ورأيه في الشيخ الغزالي أنه عالم بأحكام الدين في عصر سريع التغيرات، ويرى فتاوى الشيخ الغزالي سريعة التغير، فقال: إن الشيخ عالم بعصر سريع التغيرات، والشيخ عبد الحليم محمود يجمع بين السلفية والعصرية، وشر البلية ما يضحك.(19/17)
المجندات الأمريكيات
وهذه مجلة الجمهورية يتحدث فيها أحدهم أنه رأى امرأة كاشفة عن نحرها وعن شعرها ونصف الذراع وهي مجندة أمريكية ضمن القوات الأمريكية الموجودة في السعودية، وتمسك بندقيتها وهي ترتدي شيرت؛ لأنه قد صدرت تعليمات للمجندات بارتداء ملابس وقورة مراعاة للتقاليد السعودية، فهذه المرأة لم تلبس التي شيرت إلا من أجل التقاليد، وإذا لم تكن هناك أوامر عسكرية فكيف يكون الحال؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله.(19/18)
معيار العقيدة عند حزب البعث
العراق يعلن الحرب على التبرج هذا عنوان كبير يذكر أن التبرج ممنوع بقرارات رسمية، وممنوع عمل الرجل في كوافير السيدات، ومحظور دخول الشباب دور اللهو.
وهذا عنوان آخر (حملة لحث طالبات الجامعة على ارتداء الحجاب) حتى إذا قلنا: قال الله وقال رسوله في البعثيين، لم يصدقنا أحد.
ونقول لكم: إن الرئيس بوش قال: 'إن صدام ملحد فلا تصدقوه إن أعلن الجهاد'.
فعلينا بعد الآن أن نعتمد رسمياً أن صدام ملحد؛ لأن بوش قد أعلن ذلك! فما ينبغي أن ننقلب عن هذا الرأي!! فكل كلام صدام دغدغة ونفاق، وأمة لاتعرف الإسلام ولا معنى الإيمان ولا النفاق، فمن الطبيعي أن يضحك عليها أي واحد ويقول: امنعوا الرجال من الكوافير! فهل هناك امرأة واحدة في بغداد متفرغة الآن للعمل في الكوافير؟ لكن هذا الكلام من أجل ذر الرماد في العيون، وما هو إلا سخرية بهذه الأمة.
وربما يصدق بعض الناس فيقول: هذا داعية، أو مصلح على الأقل، ويقول لماذا نقاتله؟! وخاصةً إذا كان المقاتل من الأمريكان، فالواحد في هذه الأيام لا يدري على من يدعو، أعلى صدام أم على أمريكا؟ سبحان الله! فهذه الفتن لا تحتاج حيرة، ولكن الحيرة لهذه الأمة جاءت من ضعف الولاء والبراء عندها، ومن عدم معرفتها بحقيقة لا إله إلا الله، ومن عدم معرفتها من هو المسلم، ومن هو الكافر؟ ومتى كان البعثيون مسلمين؟! فأنا لاأخص بعثياً واحداً فالبعثيون في جميع البلاد الإسلامية متى كانوا مسلمين؟! ومتى كانوا مؤمنين؟! ومتى كان في مبادئهم الجهاد؟ أو الإصلاح أومنع الفساد؟! فكيف مشى هذا الأمر علينا؟! لأننا سنوات طويلة نخفي هذه الحقيقة ولانتكلم إلا عن بطولاتهم في الجبهة والبوابة الشرقية والقادسية إلخ.
أقول: نحن السبب، البيان على العلماء وعلى الدعاة فرض {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] فهذا عهد الله وميثاقه الله، وأما من خُدِعَ بأن حزب صدام من الحركات الإسلامية، فيؤسفني جداً أن يقع منهم هذا الشيء، ولا أخاطبهم خطاب العاطفة أنه أهلك، وسفك،، لا.
فليست هذه هي القضية، فقد يكون المسلم سفاكاً وسفاحاً ولكن افترض أن صداماً لم يرق قطرة دمٍ إلا من دماء اليهود، وافترض أنه دمر إسرائيل، ودمر الروافض، وفعل ما فعل وهو بعثي، أيكون مسلماً؟ المعيار معيار العقيدة فليست قضية أنه فعل أو لم يفعل، فحتى لو أقام مجد الأمة العربية كما يقولون، من المحيط إلى الخليج، وقضى على اليهود والنصارى، وفعل كل شيء، أيكون مسلماً وهو بعثي؟.
لا.
فالمعيار إذن بالعقيدة، فنحكم على الناس من خلال العقيدة فليس العبرة بأنه قتل وفعل وفجر.
فالواجب أن نبين عقيدة هؤلاء القوم، وخطرهم وضررهم، وكل من دان بعقيدتهم في أي بلد، فحكمه حكمهم، لا نفرق ولا نجزئ حتى لا نكون قد كتمنا العلم.
والحمد لله رب العالمين.(19/19)
أخطار تهدد الأسرة المسلمة (ندوة)
بعد أن عجز أعداء الإسلام من هزيمة الأمة الإسلامية وغزوها عسكرياً بالعدة والسلاح، لجئوا إلى المكر والخديعة وتغريب الشباب عبر الغزو الفكري.
وقد جاءت هذه الندوة لبيان الغزو الفكري الذي تعددت أسلحته المتمثلة في الصحف والمجلات، والقنوات الفضائية، وما تبثه من برامج خليعة، وأفلام عنف وجريمة، مبينة آثاره النفسية والعضوية، ثم تحدثت عن أخطار السفر إلى الخارج والمخاطر الناجمة عن استقدام العمالة الاجنبية من غير المسلمين.(20/1)
مقدمة مقدم الندوة
قال مقدم الندوة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، محمد بن عبد الله وعلى آله وأزواجه وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وخالصاً من كل رياء وسمعة، ونسأله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يفقهنا في الدين، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:28].
فهنا خطاب من الله عز وجل لنا يلزمنا أن نضعه نصب أعيننا، وأن نتذكر ونتدبر في كلامه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن نمضي أيامنا في أن نتعلم، ونَعْلَمَ وَنَفْهَمَ ديننا، ونثقف أنفسنا، ونصلح ما اعْوَجَّ منها، لأن أمامنا مسئوليات كثيرة، وأمانات تحملناها ببشريتنا قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] هذه الأمانة كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي يرويه ابن عمر رضي الله عنه -وهو في صحيح البخاري - أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، الرجل راعٍ في أهله ومسئول عن رعيته}.
وهذا ما سنتناوله في موضوع بعنوان: (أخطار تهدد بناء الأسرة المسلمة) هذه الأسرة المسلمة هي أسرنا جميعاً، وهم أمانة في أعناقنا، من زوجات، وذريات، ولهم واجب عظيم علينا لابد أن نقوم به، فكل إنسان بطبعه يقوم بأداء الواجبات المادية، ولا يقصر فيها حتى الجاهل، فهو يقوم على الأكل والشرب والملبس والمسكن، ولكن هناك ناحية عظيمة جداً، هي أهم من هذه الأمور هي مسئوليتنا التي قال الله عنها في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] فلا أحد يحب أن يكون أهله وقوداً لهذه النار.
ومن هذا المنطلق، نبحث في الأخطار التي تهدد بناء هذه الأسر التي نحن مسئولون عنها أمام الله، والمجال في هذا واسع.
فهناك أخطار معنوية، وهي شرٌ خبيث، وداء وبيل، يتسرب إلينا بحذر، قد يكون أحياناً لذيذاً، ولا ننتبه له.
وهناك أخطار مادية، نراها أمامنا متجسدة، ولكن قد يغض الكثير عينيه عنها.
وهناك أخطار زاحفة زحفاً قوياً تريد أن تقوِّض بناء هذه الأسرة المسلمة.
نحن جيلٌ سنمضي قريباًَ، ونرحل عن هذه الأرض، وسيخلفنا من بعدنا ذريتنا، وإذا تدبرنا آيات القرآن، نجد أن الله سبحانه وتعالى يذكر عن الإنسان ما يهمه في هذه الدنيا بقوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف:15]، وهذا همّ كل من عرف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وعرف عبء الأمانة الملقاة عليه، بل إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -من لطفه وعنايته ورحمته بنا- خلق مخلوقات عظيمةً جسيمة، وذكر أنهم يدعون للذين آمنوا، أولئك هم حملة العرش ومن حوله، ومن دعائهم لنا: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [غافر:8] فنحن متقلدون مسئولية إصلاح ذرياتنا وأزواجنا وتقويم أسرنا.
وفي هذا سيتناول كلٌ من الشيخ: سفر الحوالي، والطبيب الجراح الدكتور: عدنان غلام الذي يستطيع أن يمدنا بأمور قرأناها عادةً من قصص وحكايات الجرائد، ولكن سيخبرنا بما هو في مجال اختصاصه، فلنتلق ولنأخذ منه ما سيخبرنا به بقلوب واعية.
وأول ما نحب أن نتعرف عليه من هذه الأخطار هو الخطر العظيم، الذي لم يتنبه له بعض الناس، وهو الخطر الفكري أو الغزو الفكري الذي تتعرض له أسرنا وبيوتنا, ونحن لا ندري عنه إلا قليلاً.
إن وسائل الإعلام تنوعت هذه الأيام: فمن قصص، ومجلات متداولة في كل مكان، وزاوية، وشارع، إلى المذياع وأشرطته، وما أكثر المحطات التي تبث من كل سوءٍ! إلى هذا الدخيل الذي دخل كل بيت إلا من سلم الله، وهو هذا الرائي، وتبعته أشرطته، وفيها ما فيها من أفكار -فإن مجال هذه الوسائل هي الأفكار- وهو ما سيتناوله الشيخ سفر، وسوف يستعرض لنا المستوى الغالب لهذه الوسائل، ويبين قوة تأثيرها وما هي الآثار التي تخلفها علينا وعلى مجتمعاتنا.(20/2)
خطر الغزو الفكري
قال الشيخ: سفر الحوالي.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فقد اقتضت رحمة الله تبارك وتعالى أن تكون نواة هذه البشرية وأصل هذه الجماعة الإنسانية التي تعد اليوم بالملايين، هو ما ذكره الله سبحانه وتعالى: {مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات:13]، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189]، فالأسرة هي النواة التي تتكون منها الجماعة الإنسانية عامة، والأسرة في كل مجتمع هي حجر الزاوية في بناء أي مجتمع، وسواء علينا تحدثنا عن الأسرة، أم تحدثنا عن المجتمع والأمة؛ فلا فرق بين أن نتكلم عن المخاطر التي تهدد الأسرة، أو أن نتكلم عن المخاطر التي تهدد الأمة والمجتمع.
ومن هنا نعلم ونتبين من كتاب ربنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تلك الحكمة البالغة العظيمة، حين نجد أن كل ما يتعلق بالأسرة وبنائها وضمان عقيدتها وسلامة فضيلتها، قد فصله الله سبحانه وتعالى تفصيلاً في الكتاب وفي السنة، ولم يدع مجالاً ولا ناحية من نواحي تنظيم الأسرة، إلا وجعل الأحكام فيها مفصلة، ابتداءً من الخطبة، حين يريد الإنسان أن يخطب: ماذا يفعل؟ بأي أمرٍ يبدأ؟ ومن يخطب؟ ومن يتزوج؟ ثم إذا تزوج: كيف يعاشر تلك الزوجة؟ وفي أخص دقائق هذه الأمور جاء أيضاً البيان من الكتاب والسنة، ثم منذ لحظة الولادة: كيف نربيه؟ وكيف تنشأ الأسرة؟ وكيف تستمر؟ إلى أن يموت الأب، ويأتي الجيل الذي بعده، ماذا يفعل بأبيه؟ وماذا عليه بعد موته؟ أحكام لا يتسع المقام لشرحها وإيضاحها، كأحكام العشرة بين الزوجين، وآداب الأسرة، وحق الزوجين، وتربية الأبناء، وكل ما من شأنه أن تكون الأٍسرة به متماسكة، قوية في إيمانها، وأخلاقها، وفضيلتها، وفي ترابطها الدنيوي.
فقد أوضح الله تعالى الأحكام المالية التي تتعلق فيما بين الزوجين، وما بين الأبناء والآباء، كل ذلك فصله الله تبارك وتعالى، لكيلا يحوجنا إلى التسول على موائد الشرق والغرب، فلا نريد أن نأخذ منهم المناهج الهدامة، والأنظمة المدمرة.
فهذه الأسرة التي اهتم ديننا بها، والتي يحرص علماؤنا ومفكرونا وكتابنا دائماً على أن يحدثونا عنها، لابد أن نعي دورها، وأن نعي قيمتها، وأن نعي أهميتها.(20/3)
دمار الأسرة بالغزو الفكري
إن أي خطر يهدد الأسرة، فإنما هو دمار للأمة، وكل داعٍ يدعو بطريقٍ مباشر أو غير مباشر إلى تدمير الأسرة، فإنما هو يدعو إلى تدمير الأمة، سواء قال بلسان الحال، أو بلسان المقال: (دمروا هذه الأسرة) (فرقوا بين الزوج والزوجة) (أضيعوا الأبناء)، أو قال: (دمروا هذه الأمة)، (مزقوها بالصواريخ والقنابل)، الحال لا يختلف، ولكن أعداء الله تبارك وتعالى يمكرون ومكرهم خفي، وهم بهذا جنود الشيطان الرجيم، عدو بني آدم، وعدو هذه الأمة المسلمة بالذات، الذي أحب من لديه و {أفضل جنوده، هو الذي يأتي إليه فيقول: مازلت بفلان حتى فرقت بينه وبين زوجته}.
إذا هدم البيت، وهدمت الأسرة، ضاع الأطفال، وضاع الزوج، وضاعت الزوجة، ثم ضاعت الأمة وضاع المجتمع، وهذا ما يريد أن يتوصل إليه أصحاب الغزو الفكري، حيث إن مفكرين غربيين من الذين يفكرون على مدىً بعيد في هذه القضية قد أيقنوا -وكتبوا ذلك- أن تدمير الأسرة هو تدمير للأمة، وأن بناء الحضارات وبقاءها واستمرارها إنما يكون باستمرار الأسرة.
أرنولد توينبي المؤرخ الإنجليزي المشهور الذي كتب عما يقارب عشرين حضارة مندثرة منقرضة أو باقية، أَوْلهَا آثارٌ في الوجود، وجد من الظواهر المشتركة في انهيار جميع الحضارات أنها تنهار عندما ينتشر الترف، وتخرج المرأة من البيت، وتنشغل عن تربية الأبناء، هذا ما كتب!! وكما وضح ذلك أيضاًَ المؤرخ الألماني المشهور الذي يدعى شبنجلر الذي كتب وتنبأ بسقوط الحضارة الغربية في حوالي عام (1920م) تقريباًَ قبل أن تبلغ قوتها التي هي عليها اليوم، وقبل أن تظهر علامات الانهيار الموجودة اليوم، يقول: ' إن كل حضارة من الحضارات تنهار وتتدمر إذا خرجت المرأة، واهتمت بشهواتها ونزواتها، وتركت الأسرة، فضاعت الأسرة، وضاعت الفضيلة من المجتمع '.(20/4)
سيطرة الغزو الفكري على المجتمعات
نحن في عصر الغزو الفكري، في زمن الخطر الذي يسميه الغربيون: التدفق المستطير للمعلومات، يقولون: إن العالم أصبح قرية إعلامية، ولاسيما بعد أن تطورت وسائل الإعلام بواسطة الأقمار الاصطناعية الذي جعلته كله قرية إعلامية، فما يحدث في أطراف القرية، يعلم به أبناء قرية أخرى، ومن الصعب جداً مقاومة التأثير الإعلامي، أو مقاومة التدفق المستطير للمعلومات، إلا بوجود قوة وعقيدة داخلية.
الأمم البوذية شكت من هذا التدفق المستطير، وبسبب الغزو الفكري أصبحت دول جنوب شرقي آسيا -وهي بوذية - متطبعة في حياتها وثقافتها وفنها بطابع الغزو الفكري الغربي، فأصبحت تلبس الزي الغربي، وتتذوق الموسيقى الغربية، وتعيش الحياة الغربية! وضج من ذلك أهل ذلك الدين وعقلاء تلك الأمم كما حصل في الهند.
وأعجب من ذلك كله أن تضج فرنسا من هذا الغزو الإعلامي! وصرح بذلك وزير الثقافة الفرنسي منذ فترة فقال: ' إن فرنسا تتعرض لخطر الغزو الفكري الأمريكي، فإن الأفلام وأنماط الحياة والملابس الأمريكية قد غزت فرنسا وهذا خطر ونذير شر، ويجب على الأمة الفرنسية أن تتحصن بتقاليدها وبتراثها وبفنها ضد هذا الخطر '.
ونذكر هذا لأن من أبناء جلدتنا، وممن يتكلمون بلغتنا، لا يرون في هذا أي خطر.
الأمة الفرنسية والأمة الأمريكية، ما الفرق بينهما؟ أي انحلال يوجد في أمريكا ولا يوجد في فرنسا؟ حياة غربية وثقافة غربية تعود للجاهلية اليونانية، الاتجاه العام في الحياة واحد، لا إيمان بالآخرة، لا تفكير فيها، الكل يعيش ويأكل ويتمتع كما تأكل الأنعام، والنار مثوىً لهم، إلا من آمن منهم، كما أخبر بذلك الله تبارك وتعالى، ومع ذلك يشعرون بالخطر! فأي خطر يداهم ويزحف على أمة الإسلام وعلى أمة الأيمان؟! كيف يجب أن تكون مقاومة هذه الأمة التي تؤمن بالله رباً، وبكتاب الله منهجاً وشريعةً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبياً ورسولاً؟! هذه الأمة التي كما قال الله تبارك وتعالى عنها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110] هذه الأمة التي تُسْأَل عما يُفْعَل في تلك البلاد من الموبقات، لأنها لم تُبَلِّغْهم رسالة الله الأخيرة، ولم تُبَلِّغْهم بشريعة محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! كيف يكون الحال إذا هي استقبلت ورضيت وامتصت هذا الغزو الفكري حتى مسخت نفسها ومسخت شخصيتها وذابت فيه؟!! والإعلام ما هو إلا واجهة ونافذة من نوافذ ذلك الغزو، ولا حرج على الإطلاق على أية أمة من الأمم أن تضع الوسائل، وأن تضع سياجاًَ كبيراً للمحافظة على ذاتيتها وشخصيتها من طغيان التأثير الإعلامي، فما بالكم بالأمة التي جعل الله تبارك وتعالى لها هذا المنهج الرباني؟! الأمة التي تسير في علاقاتها وفي شئون حياتها -ويجب أن تكون كذلك- على ما أنزل الله تبارك وتعالى؟! التي علاقة الزوجين فيها إنما تكون بكلمة الله، كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {واستحللتم فروجهن بكلمة الله} فبكلمة الله تم عقد الزواج، وعلى منهج الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تمت هذه العشرة، وعلى ذكر الله يربى هذا الطفل منذ أن يولد، وكل حياتنا إنما هي على ذكر الله، كيف يجب أن نقاوم هذا الغزو المستطير بشتى أنواعه: من المجلات، والأفلام، والصحافة المقروءة، وكل الوسائل التي تبث الإعلام وتنشره، وما أكثر سمومه!(20/5)
آثار الغزو الفكري على الأسرة
لا شك أن الذي يتتبع المجتمعات الإسلامية، ويقارن حالها قبل أن تخضع لهذا التدفق المستطير بحالها الآن، سوف يجد البون شاسعاً وكبيراً، لقد هُدِّدَتْ الأسرة المسلمة في عقيدتها؛ حيث إن كثيراً من برامج ومجلات الأطفال لا تكتفي بأن تشغل الطفل المسلم عما يجب أن يكون عليه من التربية الإسلامية، بل إنها لتنشئه تنشئة غريبة جداً عن العقيدة الإسلامية، وتزرع في نفسه ما يضاد هذا الدين وهذا الإيمان.
ويكفينا أمر واحد وهو: هل سمعنا أو رأينا في أي مجال من هذه المجالات حديثاً عن اليوم الآخر؟ إنما الكلام فيها منصب على الدنيا، وهذا لو فرضنا أنه في الحلال مع انعدام الحرام، فإغفال الآخرة إغفالاً مطلقاً ما معناه؟ معناه: أنها أمة لا تؤمن بالله واليوم الآخر، فهي مثل البهائم التي تعيش على الحضارة الغربية.
وقد يتعرض هؤلاء إلى نظرياتٍ في نشأة الكون، أو في نشأة الحياة، أو في سر الروح، أو في النبوة، فيصبغون صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على ما يرونه في هذه الأفلام، وما أكثر الحديث عن هذا الجانب.(20/6)
انتشار الفاحشة هو تدمير للأسرة
الجانب الآخر جانب الفاحشة، الذي أخبر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنه في كتابه فقال: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] وقال في الآية الأخرى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:19].
أدرك أعداء الله أن نشر الفاحشة في المجتمع هو عن طريق هدم الأسرة بهذه الوسائل، واليهود خططوا لذلك منذ القدم، وأول ما ابتدأ اليهود قالوا: لابد من تدمير النصرانية؛ لأنها كانت العدو المباشر لهم في الغرب، فقالوا كما في البروتوكولات: لابد من نشر الرذيلة وهدم الفضيلة بين النصارى، وما زالوا يمكرون بهم مكر الليل والنهار، حتى أصبح من الشائع جداً -والعياذ بالله- في بلاد الغرب أن تنكح المحارم.
بل إن جرائدنا أحياناً تنشر هذه الأخبار -وإن كانت قد لا تعلق إلا في النادر- كيف يأتي الإنسان محارمه! وليس ذلك نادراً عندهم، بل هي حالات منتشرة، وبنفس القوة يراد لها أن تنتشر في بلادنا حيث اتجهوا جميعاً يهوديهم ونصرانيهم إلى تدمير المجتمعات الإسلامية عن طريق هذه الأفلام، والمجلات، والكتب، عن طريق طمس الأخلاق الإسلامية وإحلال الأخلاق النفعية الغربية المادية محلها، فينشأ الطفل الذي لا يؤمن بخلقٍ ولا دين، إلا من خلال ما يتلقاه ويستقبله من الأفلام، فتنهدم الأسرة.
وكم من أسرةٍ هدمت نتيجة لذلك، كم من رجلٍ طلق زوجته، كم من زوجة هجرت زوجها تطبيقاً لما رأته أمام عينها، أو لما رآه هو بعينه من مشاهد، أو من مسلسلات، أو قصص، وما أشبه ذلك، وبذلك استطاع هذه الغزو أن ينقل المجتمع الإسلامي نقلةً بعيدة من مجتمعات محافظة يضرب بها المثل في العالم كله، إلى مجتمعات لا تكاد تفترق عن المجتمعات الغربية إلا ما رحم الله، وإلا من كان لديه بقايا من هذه المحافظة.(20/7)
ضياع الوقت
وأقل ما يأتي من ضرر من هذه الوسائل، ومن هذا الغزو هو: إضاعة الوقت فيما لا ينفع، فالمؤمن الذي يؤمن بالله ويؤمن باليوم الآخر، ويعلم علم اليقين أن هذه الحياة ما هي إلا عبور، وأن الدار الآخرة هي الحيوان، وأنه لا خلود له في هذه الحياة، وأنه محاسبٌ عليها، وأنه ما من ساعة تمر به لا يذكر الله ولا يصلي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا كان ذلك حسرةً عليه يوم القيامة، فكيف يضيع الأوقات في هذه المجلات، أو الأفلام التافهة؟! حتى ولو افترضنا أنها تخلو من أي محرم، إلا أن فيها إضاعة للوقت فيما لا خير فيه وفيما لا يهمنا من الأمور، وهذا العمر محدود، والعقل إناء، فإن ملأته بالخير قبله، وإن ملأته بالشر لم يتقبل الخير.
وأنت الآن تجد الناس يعيشون على هذه الأمور ويتنافسون فيها، وأكثرهم يجهل أركان الإسلام، وخاصةً الأطفال والنساء، فهم لا يعلمون أركان الإسلام ولا أركان الإيمان، ولا يقدرون أن يأتوا بتعريف بسيط بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! سورة من قصار السور لا يحفظونها! أسماء الأنبياء لا يعرفونها! وتنشأ الأسرة على التفاهات، ويختلط الآباء بالأبناء ولا يتحدثون إلا عنها!(20/8)
انتشار العنف والجريمة من أسباب دمار الأسرة
العنف والجريمة أحد المخاطر التي تتعرض لها الأسرة، ومن ثَمَّ المجتمع، فأفلام وقصص وكتب العنف والجريمة والجاسوسية وما أشبه ذلك، هي أيضاً من معاول الهدم التي تهدم الأُسْرةَ، ومن ثَمَ تهدم المجتمع، وتجعله بعيداً جداً عن الطمأنينة والأمن الذي لا يجلبه إلا الإيمان.
ما رأيكم في طفل فسق وفجر أبوه، وفجرت أمه؟! ولو كان يعيش في عهد التابعين مع أبٍ فاجر وأم فاجرة، ولا يتلقى التربية الصحيحة، كيف تكون نظرة الناس إليه؟ أليس ذلك مدعاةً للرحمة وللرثاء وللشفقة به؟ وهو في الجيل النظيف؛ إن ذهب إلى المسجد أو خرج، فلن يرى منكرات، أينما ذهب فإنه لا يجد إلا الخير والسلامة، ومع ذلك العصر تعد هذه مأساةً.
فكيف في عصر الفتن الذي تقوضت فيه الأسرة، وتهدمت فيه الفضيلة، أين يذهب الطفل؟ يذهب إلى المدرسة! فماذا يتلقى في المدرسة؟! يذهب إلى الشارع! ماذا سيجد في الشارع؟! يذهب إلى المقهى! ماذا سيجد في المقهى؟! فمسكينة هذه الأجيال التي سوف تتعرض لهذا الغزو، والآباء في غفلة، والموجهون والعلماء والدعاة في غفلة عن التصدي له، فنسأل الله سبحانه أن يقي أمتنا شره، وأن يبصرنا جميعاً بخطورته، وأن يجعل كل واحدٍ منا يعي مسئوليته التي أخبر عنها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فـ {كلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته}، والحمد لله رب العالمين.(20/9)
كلمة للمقدم
جزى الله الشيخ سفر على ما بين من عظم تأثير وسائل الإعلام، وقوة الغزو الفكري الذي يمثله هذا الكم الهائل من التدفق المستطير للمعلومات.
في الواقع نحب أن نسلط الضوء أكثر على جانب واحدٍ من وسائل الإعلام، ألا وهو التليفزيون، وما انبثق عنه من أشرطةٍ.
إن الأسرة في غالب الأحيان لا تجلس مجتمعة إلا قليلاً، وكذلك قد لا تستمع إلى الأشرطة مجتمعة بل فرادى، ولكن هذا التلفاز يجمع الأب والأم والابن، وقد يجمع الجد والجدة والأحفاد في مجلس واحد مُسمَّرةُ أعينُهم على هذه الشاشة الفضية، وهي تبث ما تبث، ومن هذه الزاوية نرجو من الأخ عدنان أن يتطرق إلى بحث وإيضاح الآثار النفسية التي تتركها هذه الوسيلة على المتفرجين، وكذلك ما ينتج من آثار جسدية عضوية أخرى من جراء الجلوس أمام هذه الوسيلة، ونود منه بصفةٍ خاصة أن يوضح لنا تأثير دخول هذه الوسيلة إلى بيوتنا على العلاقات الموجودة بين الأسرة، وعلى النواحي التي لا يمكن أن تقوم إلا بتواجد الأسرة وأفرادها في مجلسٍِ واحد.(20/10)
من الآثار السيئة للإعلام
قال الدكتور: عدنان غلام.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن دعا بدعوته واقتدى بهديه إلى يوم الدين.
وبعد: حديثي سيكون باختصار شديد، وسأحاول التركيز على أشياء يثيرها الناس في هذه الأيام.(20/11)
الأثر الأول: الكبت
من الآثار النفسية التي تظهر لهذا الإعلام ما يسمونه بالكبت، فالكبت هذا كثيراً ما تكلم عنه علماء الغرب، وهو ظاهرة موجودة في كل شباب الأمة الغربية، وللأسف بدأت تظهر نسبة كبيرة من هذا الكبت في شبابنا، نراها في حياتنا العملية في المستشفيات، في العيادات النفسية، وفي كثير من الأماكن.
فما هو الكبت؟ ببساطة هناك طاقة لدى الإنسان يريد أن يخرجها، ولكنه لا يستطيع أن يخرجها، من فطرة الإنسان ميل الرجل نحو المرأة، الشاب هذا أو الشابة يسمع ويرى أشياء تثير فيه الغريزة، وتحفزه وتدعوه إلى الجريمة، ماذا يستطيع هو أن يفعل؟ قد لا يستطيع أن يتزوج، ويأخذ هذه الأمور بطريق الحلال، وليس أمامه إلا الانحراف، أو أن يكبت هذه النفس كما هو حاصل كثيراً، هذا الأثر ليس باليسير؛ لأن وجود هذا الكبت في هذا الشاب أو في هذه الشابة يعطله.
قد يصبح حياً صحيحاً بين الأحياء، يذهب إلى عمله من الصباح، ويعود بعد الظهر، أو يذهب إلى دراسته، أو يذهب إلى جامعته، لكن تركيزه وتفكيره وأعصابه ونفسيته في مكان آخر، بل هو -كما يقول العامة- صفر على الشمال، لا قيمة له في هذا الواقع! فلا شك في أن لهذا الذي تبثه وسائل الإعلام، أثراً عظيماً في تحطيم كيان هذه الأسرة والمجتمع المسلم.(20/12)
الأثر الثاني: الانفصام والتناقض
وجود نوع من الانفصام والتناقض في حياة الكثير من شباب الأمة، وأخص الأطفال بالذات؛ لأن هذا الشاب أو هذا الطفل يطلب منه أمور مثلاً: يوجهه والده إلى أمر، أو توجهه المدرسة إلى أمر، فيأتي إلى واقع المجتمع، وينظر إلى ما حوله، فيجد خلاف ذلك، قد يستطيع الكبير أن يستوعب هذا التناقض، لكن الصغير لا يستوعب، الصغير بفطرته، يصدق كل ما يسمع، يصدق كل ما يقال، لو أخبرته أن البحر عبارة عن شيء من السماء لصدق؛ لأنه ليس لديه خبرة في هذه الحياة، فإذا قيل له: افعل كذا، ثم وجد خلاف ذلك، كما لو جلس مع والده يشاهد فيلماً -فيما يسمى بالفيديو- فوجد أن شاباً يقبل فتاة في هذا الفيلم، الأب يشاهد هذا ولا ينكره، الطفل ماذا يسمع من والده، هل يسمح له والده بأن يقبل فتاة؟! أو يسمح له المجتمع فعل ذلك؟ لا.
فيقول: إذاً كيف أشاهد هذا؟! وكيف يقر والدي هذا؟! ووالدتي بجانبي، وأسرتي بجانبي، وأنا لا أرى هذا يطبق، ولا أرى هذا شيئاً مسموحاً به، فهنا ينشأ شيء من التناقض، وفي هذه السن بالذات يؤدي هذا إلى شلل ومشاكل لهذا الطفل.
ومن أخطر نقاط التناقض التي تبثها وسائل الإعلام -سواء المقروءة أم المسموعة أم المرئية- التناقض العقائدي، الذي تكلم عنه الشيخ سفر الحوالي -جزاه الله خيراً- ولكن أنا أذكر ذلك من خلال مثال: حيث إن كثيراً من الأطفال ينشأ عنده ما يسمى بحماة الكون، ومن قبل كان هناك الرجل الجبار الذي يسمونه سوبرمان وغيره، وهي شخصيات خيالية، أدخلت إلى عقول الأطفال، والطفل كل همه أن يصبح مثلها.
ولكن أتكلم عن حماة الكون، هؤلاء مجموعة يحمون هذا الكون، أين هذا التصور الذي يُغرس في عقل هذا الطفل من قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [فاطر:41] أين هذا من الذي يسمع ويقال له: إن هناك حماةً للكون: فلان، وفلان، وفلان، ولديهم القدرة، ثم يأتي ويقرأ في كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه لا يمكن أن تستقيم أمور هذه السموات والأرض، إلا إذا أمسكتها يد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يمكن أن تستقيم بغير هذا، فهذا التناقض العقائدي من أخطر الأمور التي يواجهها الطفل المسلم.(20/13)
الأثر الثالث: السلبية وعدم الإيجابية
ومن الآثار النفسية التي ترد على الجيل الناشئ قضية السلبية وعدم الإيجابية، فالذي يتلقى من وسائل الإعلام إنما يسمع فقط ويتلقى لا يناقش، هذا شيء أمامك تقرؤه أو تسمعه أو تراه، وتسلم به، وهو مصدرك في التلقي: فأين العقلية الابتكارية؟ أين حب الابتكار؟ أين حب الاختراع؟ هذا كله لا يمكن أن يناله هذا النشء بهذه الطريقة.
لا يمكن لإنسان يقف هكذا فقط ويتلقى، ويقال له: (افعل كذا، افعل كذا، الأمر هذا صحيح، وهذا خطأ) لا يمكن في يوم من الأيام أن يكون له دور، أو تكون له عقلية متفتحة متنورة، لا يتفق هذا مع هذا.
هذه الأمور الثلاثة هي من أبرز القضايا النفسية التي تؤثر فيها وسائل الإعلام على البيت والمجتمع المسلم.(20/14)
الأثر الرابع: الآثار العضوية
أما عن الآثار العضوية: فكثير من البحوث والنشرات تكلمت حول ما يخرج من إشعاعات ملونة من هذا التلفاز، وخصوصاً الملون منها، وأنه يؤثر على شبكية العين، وأن لديه أخطار، هذا من ناحية الرؤية، وأما من ناحية الأمور العضوية الأخرى، فمثلاً منها: الجلوس، وأيضاً طريقة الاستماع، تجد الولد، أو الشاب لا يستطيع أن يجلس أمام التلفاز جلسة سليمة، أو صحية، وإنما يجلس جلسة اعتيادية، فقد يشوه هذا أعضاءً فيه ويؤثر عليه.
من القضايا العضوية التي تؤثر على الشباب: الحد من نشاطهم الطبيعي، فالشاب أو الطفل بطبيعته متحرك لا يمكن أن يبقى الطفل في مكان واحد ولو لدقائق معينة تجده يلعب بهذا ويتحرك هنا، ينقلب على وجهه وعلى ظهره، حتى لو كان عمر الطفل شهراً أو شهرين، فإنه، لا بد أن يتحرك، لكن هذا الطفل وهو يشاهد أفلام الكرتون، ربما لا يتحرك لساعات.
فالحركة هذه التي يتحرك بها الطفل، هي نوع من التجارب، والخبرة، والنمو الطبيعي للطفل؛ فكلما زادت حركة الطفل، وتحرك وأتى وذهب وجاء وتعلم، ولمس هذا وأمسك بهذا، كان نموه طبيعياً أكثر، وكان أقرب إلى أن يكون تفكيره سليماً نتيجةً لتربيته العضوية السليمة، هذه أيضاً مجمل للآثار العضوية التي نراها نتيجة وسيلة الإعلام.(20/15)
الأثر الخامس: قتل الأوقات
تبقى هناك قضايا اجتماعية أكبر من هذه بكثير، وهي قتل الوقت كما تكلم عنها الشيخ سفر، فالوقت له ردود فعل على علاقة الأسر فيما بينها، فالأسر إن لم تجد ما يربطها بالبيت، فسيكون لها بدائل لتمضيه وقتها، ستذهب في زيارة الجيران، ستذهب لزيارة الأقارب، فتزيد الصلات بين الناس والمحبة والألفة، لكن وجود ما يربطها بالبيت، من الساعة الرابعة مثلاً، أو أثناء الصباح إلى منتصف الليل، فإنه يحد من نشاط هذه الأسرة، وتجدها باقية في البيت فقط؛ فمثلاً: تجد عمارة كبيرة ضخمة، فيها أربعون أو خمسون شقة، وقلة منهم الذين يعرف بعضهم بعضاً، وقد يكون الباب للباب، ولا يعرف الجار جاره، ولا يفكر الجار أن يخرج ويزور الجار، لكن لو وجد وقت فراغ يخرج فيه، ويستفيد منه لخرج بالفعل، لكن وجود ما يربطه بالبيت، أدى لقطع الصلة بينه وبين الناس.
وهناك دراسة قامت بها مؤسسة، اسمها مؤسسة (باين) في عام (1930م)، أي قبل سبع وخمسين سنة، عرضت دور السينما (مائة وخمسة عشر فيلماً) تتحدث عن الجريمة والبوليس، ووجدت الإحصائية أن (400) جريمةٍ حدثت ممن شاهدوا هذا الفيلم! -هذه المائة وخمسة عشرة فيلماً أدت إلى أكثر من أربعمائة جريمة- واستحقت هذه الجرائم أن يكون هناك حدود جنائية ضدها، وهناك عدد ليس بالقليل من حالات الشروع في الجناية، ولم يكن هناك إجرام بالفعل، وهذا كان في حوالي ثلاثة وأربعين حالة من تلك الحالات.
وحق لكم أن تستغربوا كيف يعيش هذا المجتمع إلى الآن، ولكنه منهار بإذن الله تعالى، ولا يغركم ما حوله من الهالة المضيئة، فإنه من الداخل منهار، ولا شك أنه سينهار! الدولة الرومانية من قبل أخذت في بنائها ألف سنةٍ، وبلغت من العظمة ما بلغت، وانهارت أخلاقياً، فانهارت في خمسين سنة! في خمسين سنة فقط انهارت تلك الدولة ببساطة، وذلك بانهيار هذه الأمور المهمة فيها، فالأسرة هي القاعدة! أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين.(20/16)
أخطار السفر إلى بلاد المشركين
قال الشيخ: سفر الحوالي حفظه الله.
موضوع السفر إلى بلاد المشركين أو السفر إلى البلاد التي تنتشر فيها البدع والرذيلة -وإن كانت بلاد إسلام في الأصل- هذا الموضوع ما هو إلا حلقة من حلقات التأثير على الأسرة المسلمة، والبيئة المسلمة لكي تتحلل من عقيدتها ودينها وأخلاقها وعاداتها الحميدة، وتصبح تبعاً للبيئات التي حكم الله سبحانه تعالى عليها بالكفر والذل والخزي في الدنيا والآخرة، والمسلمون وكما هو واضح لمن يقرأ كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم أمة التوحيد، أمة مجتباة ومصطفاة، أُهِّلت لتكون من أهل الجنة بإذن الله.
ونحن نعلم أنه لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة، ولا أهل التوحيد والشرك، ولا أهل الطاعة والمعصية، ولا أهل السنة وأهل البدعة، ومن هنا كان من أوضح الدلائل على أن الإنسان قد أسلم وجهه لله عز وجل وآمن بكتاب الله هادياً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبياً، أن يفارق المشركين من جهتين: أولاً: المفارقة القلبية: فيفارق قلبه عقائدهم وأديانهم، وتفارق جوارحه أعمالهم وعباداتهم، وكل ما هو من شعائر دينهم.
ثانياً: المفارقة الجسدية: فلا يختلط بهم، ولا يعيش معهم، ولا يندمج في بيئتهم، ولهذا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أنا بريء من مسلم أقام بين ظهراني المشركين.
قالوا: يا رسول الله، ولم؟ قال: لا تتراءى ناراهما} لأن البيئة العربية التي بعث فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي في الأغلب بيئة بادية، والأعراب ينزلون في الأودية، هذا يوقد ناراً، والآخر يوقد ناراً على مسافة ما، فيقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تتراءى ناراهما} أي: لا يرى المسلم نار المشرك، ولا يرى المشرك نار المسلم، فيبتعد عنه ابتعاداً شديداً ويغيب عنه في شعب الجبال، ومن أجل ذلك شرعت الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، وكما كان المهاجرون الأولون يهاجرون إلى المدينة، وكان الذي يرجع عن الهجرة في أول الإسلام يعتبر مرتداً، أو في حكم المرتد، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاهد أصحابه في أكثر من موضع على مفارقة المشركين، وعلى البيعة على الهجرة، وهذا في أحاديث كثيرة صحيحة متفق عليها، منها أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يبايعهم على الهجرة والجهاد إلى أن فتحت مكة فقال: {لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية}، أي: لا هجرة من مكة إلى المدينة، وأما ماعدا ذلك، فإن الهجرة باقية من بلد الكفر إلى بلد الإيمان.(20/17)
الأخطار العقائدية
شرعت الهجرة لأن الإنسان يتأثر ببيئة الشرك، يتأثر بما يقوله المشركون وما يعتقدونه هو وأبناؤه وأهله وذووه، والمؤمن مأمور أن يُمَحِّصَ إيمانه وعلاقاته وروابطه وأواصره، ولهذا أنزل الله تبارك قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1] وكانت بعد ما تم صلح الحديبية.
ومع ذلك فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في هذه السورة قطع تلك الأواصر والعلاقات إلا علاقة الإيمان، فقال في حكم المؤمنات المهاجرات: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة:10] وكما بين -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في أنه لا علاقة بين المسلمين والكافرين، إلا في التعامل الحسن للذين لم يؤذوا المسلمين، ولم يخرجوهم من ديارهم، ولم يظاهروا على إخراجهم.
ولذلك فإن كثيراً من الفقهاء نصوا على أن المسلم الذي أسلم في بلاد الكفار ولم يخرج إلى بلاد المسلمين، بل بقي معهم أو رئى في صفهم وقتل فإنه كافر!! فالأمر ليس بالأمر الهين، وما ذلك إلا لأن المسلم يجب أن يتميز عن هؤلاء الكفار والمشركين، فإذا أسلم الشخص، وكان في بيئة كافرة، ويجب عليه أن يفارق بيئتهم، وينتقل إلى بيئة الإسلام.
ولكن الذي يحصل -مع الأسف- هو العكس فالمسلمون -وهم في بيئة الإسلام وفي بلاد الإيمان- هم الذين يختارون -طوعاً ورضاً- الذهاب إلى بلاد الكفار، وأن يقيموا ويعيشوا فيها لغير ضرورة ولا حاجة! وهذا بلا شك إحدى العلامات التي تدل على ضعف الإيمان أو على فقدانه.
وقد ذكر العلماء أنه ما من قضية أو أمر من الأمور -بعد التوحيد وبعد النهي عن الشرك- أكثر وروداً في الكتاب من الأمر بموالاة المؤمنين، والنهي عن موالاة الكافرين، فمن تلك الآيات قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَر} [آل عمران:118] وقوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، وقوله جل شأنه: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً} [النساء:101] وقوله عز وجل: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10].
وآيات وأحاديث كثيرة وعاها المسلمون الأولون المجاهدون الذين كانوا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن بعده، فكانوا لا يحلون الإقامة في بلاد الكفار، ولا يذهبون إليهم، إلا لضرورة أو حاجة ملحة، مثلاً: للدعوة إلى الله ويعودون، أو يذهبون رسلاً من المسلمين إلى تلك البلاد، أو يذهبون للتجارة.
ولها أيضاً ضوابط محددة لا بد أن يلتزم بها المسلم كما يلتزم بها أولئك الكفار إذا قدموا إلى ثغور الإسلام، كل ذلك لأن البيئة لها تأثيرها، ولأن المؤمن لا يكون مؤمن حقاً إلا إذا قطع صلته بالمشركين، وهجرهم وترك موالاتهم.
واختلاطه بهم، وعيشته في بيئتهم مما يدفعه إلى أن يواليهم ويحبهم، وقد يمنعه ويحول بينه وبين إظهار دينه، فيرضى بالذل مع أنه مسلم! فتكون النتيجة أن الإسلام قد ذلَّ بذلِّ ذلك المؤمن الذي يقيم في بلاد الشرك، فهو لا يستطيع أن يجاهر بتكفيرهم أو بما هم عليه من الضلال، أو يجاهر بدعوتهم إلى التوحيد وإلى الحق.
ولا شك أن من أكبر العوامل في هدم الأمة الإسلامية، وهدم الأسرة المسلمة بالذات، هو ما ارتكبه بعض المسلمين من ذنب عظيم، وهو: استحلالهم واستمراؤهم أن يسافروا إلى بلاد المشركين ويقيموا فيها، وأول ما يفكرون فيه هو معصية الله تعالى، والتخلي عن العادات والأخلاق الإسلامية الظاهرة، ويعقب ذلك التحلي بالعقائد الباطلة شيئاً فشيئاً -عافنا الله وإياكم- فالمرأة المسلمة منذ أن تركب الطائرة، تبدأ تتجرد من الحجاب، وتتزيا بزي الكافرات! حتى إذا نزلت هناك أصبحت مثلهن، والرجل كذلك يتزيا بزيهم، ولا شك أن المشابهة بهم في الظاهر يورث التشبه بهم في الباطن؛ كما نص على ذلك شَيْخ الإِسْلامِ في موضوع المشابهة في كتاب: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، فهذه المشابهة في الظاهر تؤدي إلى الاندماج والمشابهة في الباطن شيئاً فشيئاً، وهذا ما قرره علماء الاجتماع وعلماء النفس في العصر الحاضر، بناء على تجارب ملموسة واضحة.(20/18)
السفر والانسلاخ من الدين
يذهب الإنسان إلى تلك البلاد فيُضيِّع أول ما يضيع دينه! لأنها بلاد كفر، وليس بعد الكفر ذنب، فهي بلاد تعلن أن الله تعالى غير موجود، أو أنه ثالث ثلاثة -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- ويضيع المؤمن فيها ويشعر بالغربة الشديدة، فإذا كان المتمسك بدينه يشعر بالغربة في بلاد الإسلام! فكيف بتلك البلاد التي لا مساجد فيها ولا أذان ولا صلاة تقام؟! ويرى غلبة الكفر وقوته، ويرى بهرج الحياة الدنيا وزخارفها التي هم عليها، والتي لا توجد في بلاد المسلمين إلا النزر القليل إن وجد.
فيكون مما يثبط عزيمته، ويضعف إيمانه، وينبهر ويُخدع بهذا المتاع الفاني الزائل، ويظن أنه كان مخدوعاً مغروراً، وأنه ما وعده الله ورسوله إلا غروراً -كما قال ذلك المنافقون- وأن هؤلاء الكفار في عزة ومنعة وهم على كفرهم، فيظن أن الكفر هو مصدر هذه العزة، أو أنه لا يتعارض مع العزة، وهذه من أكبر الأمراض القلبية التي تصيب المسلم دون أن يستشعر ذلك عقلياً، وتدخل إلى قلبه وأحاسيس نفسه وهو لا يدري.
وإذا كان أهله معه فإنها مصيبة كبرى؛ يرون المناظر المتبرجة، ويرون الخمر علانية، والفسق والانحلال والعادات الرذيلة الذميمة يرونها أمام أعنيهم، فإن كانوا ممن ذهبوا لنيل هذه الشهوات! فقد غرقوا وهلكوا وأهلكوا، وإن كانوا من المخدوعين الذين يذهبون من أجل الفسحة وقضاء الوقت، فإنهم سوف يصابون بأمراض القلوب، وأقل ذلك أنهم يرون أنفسهم في تمسك وإيمان، فإذا رأى الإنسان تلك البيئات فإنه يقول: أنا مؤمن وأنا متمسك، وبيئتي مؤمنة وعظيمة، ولكنه يرجع معظِّماً لتلك البلاد، محقِّراً لبلاد الإسلام، متهاوناً بالمعاصي، وكأن لسان حاله يقول: كلنا سواء، المؤمن والكافر، بل هم أكثر معصية منا، فلماذا تنزعجون من وجود المنكرات؟ أو من الاختلاط أو التبرج أو انتشار المخدرات أو ما أشبه ذلك؟ وهذه من أعظم الدلائل على أن مثل هذا قد أصيب في عقيدته؛ لأنه شتان بين المؤمنين والكافرين، ومن يعقد المقارنة بينهما فإنه لا يعرف حقيقة التوحيد ولا معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلا فإن الصحابة الكرام كانوا إذا ابتلوا أو اضطروا إلى أن يروا مشركاً، فكأنَّ الرجل منهم رأى رجلاً من أهل النار خرج إلى هذه الحياة الدنيا أمام عينيه! فلو تصور المؤمن أن هؤلاء أهل النار، فهل سيغتر بما لديهم من زخارف الحياة الدنيا؟! هل سيغتر بما أعطوا من النعمة والعافية أو الحضارة؟! هل سيغتر بما هم عليه من عزة ظاهرة أو من نعمة خادعة؟ هل سيكون ذلك سبباً في أن يجاريهم في عاداتهم وأخلاقهم ويتأثر بها هو وأبناؤه؟ لو كان يعلم حقيقة أن هؤلاء من أهل النار، وأنه ليس بين هذا الذي أمامه وبين النار إلا أن يموت، وما أقرب الموت، وكل آت قريب، وأن هؤلاء أعداء الله عز وجل ونحن المسلمين أولياء الله عز وجل لو علم ذلك لعلم أنه لا يستوي أعداء الله وأولياؤه.
بل أدهى من ذلك أن يأتي أحدهم ويقول: إن تلك البلاد فيها نظام وأخلاق وفيها وفيها، فيكون ممن يمدح الكافرين ويذم المسلمين! وبعضهم يقول علانية: الكافرون أفضل وخير من المسلمين! وهذا من الكفر الصراح الذي يصادم كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والحمد لله أن بعضهم يذهب، ولكنه يعود وهو في منعة وحصانة، يذهب مخدوعاً فيعود بعقل سديد، حتى أن بعضهم قال: أقسمت بالله أنني إذا عدت إلى بلادي أن أسجد شكراً لله عز وجل! وفعلاً نزل من سلم الطائرة في مطار جدة، وسجد لله عز وجل فرحاً أنه عاد من تلك البلاد، وقال: والله ما ذهبت إليها إلا لأنها بلاد حضارة ورقي وتقدم، فلما رأيت ما رأيت، أقسمت على نفسي ونذرت أن أفعل هذا، وألا أعود إليها، فإذا كان هذا ضميره مستيقظاً، فكم من ضمائر ماتت، وكم من قلوب قد أصابها المرض وقتلها، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، حتى أن أولئك في تلك البيئات أصبحوا يأتون بما يندى له الجبين، يفتحون البارات والخمارات والمراقص، ويكتبون عليها باللغة العربية دار مكة! أو مرقص مكة! أو ملهى المدينة ليصطادوا المسلمين إليها، وقد قال بعض إخواننا إنه رأى ذلك بأم عينه.
ولا شك أنه لا يرضى بذلك ولا يرتاح إليه إلا من خلا قلبه من الإيمان، فتلك البيئات لا يجوز للمسلم أن يسافر إليها، لا في عطلة ولا في غيرها، إلا من اضطر للعلاج، أو من أضطر لدارسة معينة تنفع المسلمين، ولا يوجد له ملجأ إلا تلك البلاد، فيجوز للضرورة.(20/19)
واجبنا تجاه ظاهرة السفر إلى بلاد الكافرين
يجب علينا جميعاً أن نفكر ونتعاون لنمنع هذه الظاهرة السيئة، وأن نأخذ على أيدي أولئك الذين يخالفون حكم الله الواضح، كالذين يدعون إلى تخفيضات في تكاليف السفر إلى تلك البلاد، والذين ينشرون الدعايات التي تُطمع الشباب وترغِّبهم في الذهاب إلى تلك البلاد التي فيها الصلبان، وفيها الشيوعية والإلحاد، وفيها العراة وما لا يخطر على بال، ويجب أن نتعاون ونسد كل المنافذ المؤدية إليها، ومنها منفذ الابتعاث، وأن نوجد الوسائل التي من شأنها ألا يُبتعث الطالب المسلم إلى تلك البلاد، فلو تعاونا جميعاً في ذلك- من مسئولين ومربين وآباء- لاستطعنا أن نقاوم أثر تلك البيئة.
ولنضرب مثلاً بـ اليابان، تلك البلدة الشرقية التي تفوَّقت تكنولوجياً حتى غزت أمريكا نفسها، اليابان عندما بعثت أول دفعة إلى أوروبا عادت وقد مسخت شخصيتها، فعادت باللبس الأوروبي والكلام الأوروبي والعادات الأوروبية، فجيء بهم إلى ميدان عام، وجمع أكثر الشباب أمامهم، وحكم عليهم بالإعدام ذلك لأنهم فقدوا الشخصية اليابانية.
فابتعثت بعد ذلك عدة بعثات، فكان الرجل يذهب وينزل في أي بلد من أوروبا ويمشي ويأكل على الطريقة اليابانية، والنساء يلبسن الزي الياباني، ويرجع وهو ياباني التفكير والعادات، ولكنه قد اكتسب العلم الذي عندهم، فما هو إلا عقد من الزمن، وإذا بـ اليابان تتفوق على كثير من الدول الأوروبية التي كانت أرقى دول العالم صناعياً في ذلك الوقت، فإذا كان هؤلاء المجوس والبوذيون على هذه الحال، فما بالكم بأمة الإيمان وأمة القرآن؟ نسأل الله تعالى أن يردها إليه رداً حميداً، إنه سميع مجيب.(20/20)
أخطار استقدام الكفار إلى بلاد المسلمين
قال الدكتور عدنان غلام: أثبتت الدراسات أن السبب الرئيسي في نقل الأمراض التناسلية من الأماكن الموبوءة إلى غيرها، هو السفر ومقارفة الحرام -الزنا- وأن الحالات المكتشفة كانت في أولئك الذين ذهبوا إلى بانكوك عاصمة تايلاند أو غيرها من البلدان الموبوءة.
بل إن هناك مرضاً جديداً ظهر في الرياض يعرف بمرض بانكوك، غير الأمراض الأخرى كالإيدز والزهري والسيلان -عافنا الله وإياكم منها- وأنها تنتقل إلى الأسرة عبر الزوج، فتحطم الأسرة والمجتمعات!! وللتأكد من ذلك تزار عيادة للأمراض الجلدية والتناسلية لينظر كم عدد الحالات في اليوم الواحد! لا أقول في الشهر ولا في السنة.
قال الشيخ سفر: والاستقدام -غالباً- يكون لثلاثة وظائف، وهي: الخادم -ويشمل الرجل والمرأة- والسائق والمربية.
هؤلاء الذين نستقدمهم لهم أكبر الأثر في هدم الأسرة المؤمنة، وقبل أن أستعرض الآثار الحديثة لا بد أن أرجع بكم إلى التاريخ قليلاً، وأذكر حديث حذيفة بن اليمان الذي رواه مسلم في صحيحه أنه سأله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الفتن وأخبره بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأيما قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب رفضها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصبح القلوب على قلبين: أبيض خالصاً، وأسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً} ولكن هذا لم يكن هو السؤال الذي سأل عنه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: {ليس عن هذا سألتك! فقال: تسألني عن الفتن التي تموج كموج البحر؟ قال: نعم.
فقال حذيفة: مالك ولها إنَّ بينك وبينها باباً مغلقاً.
فقال عمر بن الخطاب: أيفتح الباب أو يكسر؟ قال: لا، بل يكسر.
فقال عمر: وددت لو أنه يفتح} أراد أنه قد يغلق في المستقبل، أما أن يكسر فلا أمل في إغلاقه.
ثم قام رضي الله عنه، وخاض الناس في هذا الباب الذي يقف في وجه الفتن، وتكاثرت الأقوال، فلم يجدوا بداً من أن يسألوا صاحب الحديث أمين السر حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فقالوا: {من الباب يا حذيفة؟ فقال: عمر.
فقلنا لـ حذيفة: هل كان عمر يعلم من الباب؟ قال: نعم, كما يعلم أن دون غد الليلة، إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط}.
فإذا نظرنا من الذي قتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب؟ ومن الذي فتح هذا الباب للفتن؟ أليس هو أبا لؤلؤة المجوسي، ألم يكن خادماً مستقدماً؟ إن خطر الاستقدام كان من بداية الإسلام، من بداية تحرك هذه الأمة ووجودها، كان مع أطول خليفة راشد، فلم يكسر هذا الباب إلا عمالة أجنبية مستقدمة.(20/21)
ظهور الفواحش
وإذا نظرنا في عصرنا الحاضر فسنجد أن من أخطار استقدام غير المسلمين الفاحشة -الزنا- والتي قد يقع فيها الزوج أو الزوجة أو الأبناء؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حذرنا من الخلوة بقوله: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} ولأن الرجل بطبيعته وبفطرته التي فطره الله عليها يميل إلى المرأة، والمرأة تميل إلى الرجل، فالخلوة حرام سواء في السيارة أو غيرها، وهذه فتوى الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في ذلك، لأنه يمكن أن يذهبا إلى أي مكان، ويمكن أن يتكلما في أي موضوع، سواء حديث حب وعشق، أم غيرها من المحرمات.
وقد وقعت قصة عجيبة في هذا الشأن، حصلت في مركز شرطة جدة، وهي أنه قدم إليهم رجل فلبيني وامرأة إندونيسية، وأتت بهم العائلة التي استقدمتهما، أحدهما سائق، والأخرى خادمة، فرب العائلة يتهم هذه المرأة بأنها زنت مع هذا السائق، وأنها حامل من الزنا، وبعد التحقيق اعترف الرجل بأنه زنى، ولكنه لم يعترف أنه زنى بالخادمة، وإنما اعترف بحصول الزنا مع ربة الأسرة، واعترفت الخادمة بأنها حملت من رب الأسرة، فهذا مثال واقعي وصريح في الجانبين.
مثال آخر: رجل من أهل الخير في الرياض، يقيم مع ولدين شابين له في سن المراهقة، استقدم الرجل خادمة شابة إلى بيته، ولكنه بعد فترة من الزمن اكتشف أن هذه الخادمة لا تنام في غرفتها! فلما تتبع الأمر، وجد أنها تبيت ليلة عند هذا وليلة عند هذا! فأراد تسفيرها، فوقف في وجهه ولده، وقال: والله لا تسافر أبداً بل تبقى في بيتنا! فخرج الرجل وهو يبكي ويشتكي ويقول: إن ابني عصاني بعدما عصى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلو أن الولد رُبيَّ التربية الإسلامية الصحيحة، ومُنِعَت عنه أسباب هذا الفساد لما حصل هذا، فلا نضع عود الثقاب المشتعل أمام البنزين، ثم نقول للنار: لا تشتعلي! بل حتى في تاريخ الأمم السابقة يقص الله علينا قصة يوسف عليه السلام وهو معصوم، فيقول تعالى عن الفتنة التي تعرض لها: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] فقوله ((وَهَمَّ بِهَا)) قال العلماء: لو لم يقل الله: (وَهَمَّ بِهَا) لاتهم يوسف في رجولته عليه الصلاة والسلام؛ لأن الرجل الذي لا يميل للمرأة يسمى خنثى -لا رجل ولا امرأة- وهي منقصة، لكن يوسف - النبي المعصوم- عندما ابتعد عن المرأة -وهي صاحبة الشأن وصاحبة الدار والسلطان والجمال- إنما كان بشراً لديه فطرة ولديه ميل نحو المرأة -كأي بشر- ولكنه استعلى على هذه الشهوة وارتفع بإيمانه عنها.
الشاهد من هذه القصة أن الفتنة لا بد حاصلة، ولا يعصم الإنسان منها شيء، فلا يقل: (أنا نفسي طيبة، وأنا أختلف عن غيري)؛ لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.
وقد يستدل بعض الناس على جواز وجود الخادم أو الخادمة أو المربية بقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة النور: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنّ} [النور:31] إلى أن قال: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور:31] فيدخل السائق ونحوه وكأنه من التابعين غير أولي الإربة.
وهذا غير صحيح لأن العلماء قالوا: إن المقصود من الآية هو المخنث الذي ليس له شهوة في النساء.
وقال بعضهم: هو الأحمق الذي لا يعقل الفرق بين الرجل والمرأة.
وقال بعضهم: هو المخصي -الذي ليس له خصية- فلا تثور له قائمة.
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله في تفسيره: 'المراد بالآية ظاهرها، أي من يتبع أهل البيت، ولا حاجة له في النساء، ولا يحصل منه ذلك في حال من الأحوال '.
وهذا كلام دقيق، لأنه قد يأتي -هذا التابع- في فترة من الفترات ولا يكون له إربة بداية؛ لأنه يكون محتاجاً إلى العمل أو يفكر في أسرته التي تركها في بلده، فلو رأى ربة البيت لا يميل ابتداءً، لكنه إذا استقر به الحال واستأمنه الرجل وبدأ يخلو، أتته الشهوة، كقصة الرجل التي رواها الإمام مسلم -رحمة الله عليه- عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: {أنه كان رجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فكان يدخل عليهن ويعتبرونه من التابعين غير أولي الإربة حتى دخل النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة، والرجل مع بعض أزواجه، وكان الرجل يصف امرأة ويقول: إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان.
فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فنهى أزواجه من أن يظهرن على هذا الرجل}.(20/22)
تغيير العقائد
يستقدم بعض الناس للوظائف المنزلية أشخاصاً لا يدينون بالإسلام، وإنما يدينون بـ الهندوسية، أو النصرانية، أو البوذية، ولهذه الديانات أشد الأثر على الأسرة المسلمة، وبالأخص الأطفال، فلو تُرك طفل مع مربية -أقل ما فيها أنها لا تذكر اسم الله تعالى- لتربيه، فلن تربيه على ذكر الله إذا أراد أن يأكل -مثلاً- ولن تقرأ عليه آية الكرسي أو أذكار النوم إذا أراد أن ينام، وإنما ستقرأ عليه نصوصاً من الإنجيل أو قصصاً من خرافات دينها، سواء كان ذلك مع الأطفال في البيوت، أو مع المرضى في المستشفيات، وسيخرج الأطفال بتربية غير إسلامية في عقائدهم وتصوراتهم.(20/23)
التدهور الأخلاقي
وإذا نظرت إلى جانب الأخلاق والسلوك، فستجد أن كثيراً من المسلمين والمسلمات -فضلاً عن غيرهم- لا يعرفون كيف يتوضئون، ولا كيف يصلون؟ فكيف سيكون حال الأطفال في الأسرة التي نطمح أن يخرج أبناؤها مجددين ومصلحين ويبنون هذا المجتمع، ويعيدون لهذه الأمة قيادتها ورئاستها في الدنيا، بل الذي يقع أن يتعلموا السرقات والجرائم التي تحدث في البيوت، بل أصبح بعضهم أشبه بالعصابات يقتحمون الشقق والفلل في غياب أهلها.(20/24)
إضعاف اللغة العربية
قال حافظ إبراهيم في اللغة العربية:
وسعت كتاب الله لفظاً وغايةً وما ضقت عن آي به وعظات
اللغة العربية هي اللغة التي نفهم بها ديننا، وهي التي نزل بها القرآن، وتكلم بها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فاللغة العربية يجب علينا أن نصونها من الركاكة، فلا نتكلم مع الخادم أو الخادمة، فنجعل الرجل امرأة، والمرأة رجل، ولا نقول للرجل: أنتِ روحي أو أنتِ افعلِ كذا، وللمرأة العكس مقابل أن تفهم هذه الخادمة أو ذلك الخادم.
بل يجب علينا أن نعلمهم بالطريقة الصحيحة، فلا يحاول المتكلم أن يركك في لغته مقابل أن يفهم هذا الذي أمامه، ولكن يحاول أن يرتفع به ليكون قريباً من اللغة العربية الفصحى.(20/25)
انتشار الأمراض
قضية أخرى أخيرة، وهي الأمراض التي يحملونها، وينبغي أن يكون هناك كشف طبي لهؤلاء المستقدمين، لكن بعض الناس لا يقدر أهمية هذا الأمر، وأن المرأة التي تأتي وتطبخ في البيت، لو كانت حاملة لمرض معدٍ أو مرض من الأمراض الخبيثة، فإنها يمكن أن تنقله إلى الأسرة، وهذه الأسرة تنقله إلى غيرها، فيجتنب هذا بالكشف الطبي من المستشفيات الرسمية؛ لأن هؤلاء بيئتهم بيئة فقر، وبيئة هابطة، ولا شك أن كثيراً من هذا الأوبئة منهم، وأنتم ترون في الحج وما يأتي وينتشر في بلادنا عن طريق هؤلاء الحجاج القادمين من تلك البيئات، سواء من الهند، أو الباكستان، أو سيريلانكا، أو الفلبين، أو تايلاند، وكلها دول تحمل الأمراض المعدية، وأكثر ما يتأثر بها الأطفال؛ لأنهم أقل مناعة من الكبار.(20/26)
إفساد الدين والأخلاق
هؤلاء الناس إذا دخلوا إلى بلاد المسلمين عامة فضلاً عن هذه الجزيرة، فإنهم يبنون الكنائس -وهذا أمر معروف- وقد بنوا الكنائس في أطراف جزيرة العرب، ولو سمح لهم أن يبنوها في أقرب بقعة إلى مكة لفعلوا، ولكنهم لا يسمح لهم ولن يسمح لهم بإذن الله عز وجل.
لكن في تلك البلاد التي قد تهاونت في الموضوع قد بنوا الكنائس الضخمة، ومن ذهب منكم إلى تلك الديار لا بد وأنه قد رآها، يبنون المعابد البوذية وقد بنيت معابد بوذية في أطراف جزيرة العرب على دين البوذية ليتعبد فيها البوذيون، ينشرون أديانهم الباطلة، يحاولون أن يدعوا الناس إلى أديانهم: النصراني إلى نصرانيته، والبوذي إلى بوذيته، وما انتشار مذهب البهائية إلا من أوضح الأدلة على ذلك، وما من بلد يسمح أن يقيموا فيه ويأخذوا فيه حريتهم، إلا وينشئوا النوادي الماسونية: إما نوادي عالمية كالروتاري وما أشبهها، وإما نوادي سرية تحت ستار الحفلات، وستار نشر الثقافة وستار المسرح، بأي شكل من الأشكال.
لا بد أن ينشروا هذه النوادي الماسونية وينشروا الفكر الماسوني في بلاد المسلمين، وهناك من أبناء المسلمين من ينخرط في صفوف هذه النوادي والأحزاب الكافرة الملحدة، وإنما انتشرت الشيوعية بتأثير هؤلاء المجرمين عندما دخلوا بلاد المسلمين، وكل النحل الباطلة والضالة فهذا حالها أيضاً.
دخولهم أيضاً في بلاد المسلمين فيه أعظم الإفساد لأخلاق المسلمين، لأن المسلم الذي لم يكن يرى في بلاده إلا امرأة محجبة أصبح يرى امرأة كافرة متبرجة، فبعد حين يستهين المسلم بذلك، ثم يكثر ويتناقل الداء حتى تصبح المحجبة هي الشاذة -نسأل الله السلامة والعافية- بل إنه كما تلاحظون -وهو أمر واقع- أن هؤلاء النساء في بلادهن لا يأبهن بأي شيء، ممكن أن تقف على قارعة الطريق وتركب مع أي إنسان يمر ويذهب بها إلى حيث شاء وليس لديها أي تفكير في أن هذا فيه حرج أو عيب أو عار، وهذا أمر مشاهد لمن تفطن ولمن تأمل له؛ فما ذلك إلا لاستقدامهم ولإدخالهم في بلاد المسلمين، ولتعمدهم أحياناً أن يفسدوا عقائد المسلمين.
وفي دخولهم أيضاً إفساد الذوق العام عند المسلمين: إن المسلمين لهم دين ولهم حياء ولهم مروءة، وهناك أمور كثيرة حتى من الحلال مروءة المسلم تمنعه منها، هل رأيتم أحداً من آبائنا في أيام العادات الحسنة الطيبة مهما كانت قلة علمه بالدين يأكل هذا السندوتش على قارعة الطريق؟! والله ما يفعل هذا آباؤنا أبداً! يستحون من ذلك، وما كان أشد منه فإن حياءهم منه أشد، أما هؤلاء فإنهم يجاهرون بما يفسد الذوق العام، فيجعل مظهر البلد وذوقه العام مظهراً غربياً أوروبياً، حتى إنك تجد المسلم المتخلق بآداب الإسلام في لباسه وهيئته وزيه شاذاً ونادراً في بلد الإسلام، فإذا كان المسلم في بلد الإسلام يشعر بالغربة؛ فما بالكم بمن يدفع ويزيل تلك الغربة بالإتيان بهؤلاء الكفار واستقدامهم إلى بلاد المسلمين؟!(20/27)
نتائج أخرى
هناك قضايا كثيرة قد نغفل عنها وهي في صميم الموضوع، كموضوع البناء: مثلاً، فعندما استقدمنا مهندسين كفرة، ومنظمين ومخططين للمدن من الكفار، أو من تلقى على أيديهم، أصبحت مدننا مدناً غربية بالفعل، وفقد الطابع الإسلامي لها، ولا نفرق بين البناء الإسلامي وغيره، الحياة الإسلامية والحياةُ عامةً أجزاء وعناصر عضوية متماسكة.
أصبحت بيوت المسلمين تستر بالزجاج! وما كان آباؤنا يعرفون هذا الزجاج أبداً، فأصبح الزجاج والألمنيوم من جميع الجهات، فلم يكفنا أن تبرجت النساء حتى تبرجت العمارات أيضاً، فأصبح الإنسان يرى المرأة ويرى الناس وهم في أعماق البيت عن طريق هذا الزجاج! والأوروبيون إذا وضعوا الزجاج، فلأنهم يكادون لا يرون الشمس، فيفرحون ويحلمون أن يروا الشمس، والشعراء الأوروبيون لهم قصائد ودواوين في الشمس؛ لأن عندهم ضباباً طيلة السنة، فيفرح إذا رأى الشمس، فيجعل للبيت زجاجاً، فإذا أتت الشمس يتلذذ بها ويتنعم بها، ونحن في بلاد الحر الشديد نرى الشمس طوال العام، فنفرح ونتغنى إذا رأينا سحابة! هؤلاء القوم جاءوا وخططوا لنا فجعلوا العمائر متراصة عالية، والشقق متجاورة ضيقة، وضعفوا الزجاج في جميع الجهات ومن جميع الأطراف، وكذلك الشرفات التي تسمى البلكونات لم يعرفها آباؤنا أصلاً، فبيوت المسلمين في القديم كانت النوافذ عالية ومستترة، والباحات أو الساحات في داخل البيت، أما هؤلاء فهم في داخل البيت كالعلبة المعلبة، فأين تخرج المرأة؟ أين تنشر الملابس؟ وأين إذا أرادت أن تنادي أبناءها أو تعمل أي شيء، وكذلك الأولاد، فمن الشرفة، وما بين الشرفة والشرفة الأخرى إلا قليل من الهواء، فلو وضعت خشبة لأمكن أن يسير عليها الإنسان من هذه الشرفة، إلى تلك الشرفة، وينتقل إلى ذلك البيت، إما سارقاً أو زانياً أو لصاً أو ما شاء، والمصيبة أننا جعلنا عادات بلادنا وذوقنا العام وسكننا تحت تأثير هؤلاء الذين بأموالنا وبأنفسنا استقدمناهم ووليناهم ليخططوا لنا كيف نعيش، وكيف ننظم حياتنا، وكيف ننشئ بيوتنا.
فالقضية خطيرة، وهي تمس كل بيت وكل إنسان وكل من يخاف الله عز وجل -وهو حريص على هذه البلاد الطاهرة المقدسة التي لم يبق للتوحيد قلعة إلا هي- فإنه والله يغار ويهتم لمثل هذه الأمور، ويجِدُّ في البحث عن الحل وعن المخرج، وهو بين أيدينا؛ وعندما نعرض هذه المآسي أو هذا الواقع، فإنما نذكر بأمر مشاهد محسوس؛ لنستثير همم أهل الإيمان والغيرة أن يغيروا وأن يبدءوا بأنفسهم وبمن حولهم.
فأقول: إنهم أفسدوا حتى الذوق العام في مظاهرنا العامة، في سكننا، حتى في لغتنا وفي لهجتنا -كما ذكر الأخ الدكتور- بل إنكم لتشاهدون اللوحات، اذهبوا إلى بلد من بلادهم، وانظروا إلى اللوحات واللافتات في بلاد المسلمين، مع الأسف الشديد كأنها ثوب رقع من سبعين رقعة؛ هذه اللوحة من لغة كذا، هذه من لغة كذا، وهذه بلغة كذا، وأصبح الإنسان لو فتح محلاً صغيراً جداً لا يأتيه ولا يشتري منه إلا طبقة من العمال الذين لا يقرءون أية لغة، ومع ذلك لو وضع له عنواناً فسوف يكتبه بغير العربية، إما بالإنجليزي أو بلغة أخرى؛ لأن عبوديتهم ليست في المظهر والمخرج، لكنها في الباطن وفي المخبر، أصبحنا متأثرين بهم إلى هذا الحد.
وأدهى من ذلك أننا نستعير أسماء فجارهم -وكلهم فجار- ونضعها عناوين ولافتات في بلاد الإسلام، من أعجتبه مطربة أو مغنية أو ممثلة عاهرة داعرة، جعل اسمها عنواناً لمحله أو لشركته أو لمطعمه أو لمخبزه أو لما أشبه ذلك، فنجعل من بلادنا معرضاً للدعاية لمشاهير الكفر ومشاهير الفجار من شتى الأصناف ومن جميع البلاد كالمطربين والممثلين ولاعبي الكرة والمصارعين والرياضيين عموماً بينما في تلك البلاد رغم أنها لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا تخاف أن الله سيعذبها يوم القيامة ولا تعرف شيئاً اسمه موالاة الكفار، رغم ذلك لا يسمحون بأن يمجَّد اسم في بلدهم إلا ما كان على لغة البلد، ومن له بطولة وطنية -كما يسمونها- بخلاف ما نحن عليه للأسف الشديد.
ونحن قد تكلمنا وأشرنا، وما هي إلا إشارات إلى ما يهدد الأسرة من هذا الغزو الفكري الرهيب، ومن هذا الخطر الزاحف الداهم، سواء كان خطر ذهاب المسلمين إلى بلد الكفار أم خطر استقدام الكفار إلى بلاد المسلمين، وعلى كلا الحالين يجب علينا أن نعيد النظر في أنفسنا وفي مجتمعاتنا مما يتعلق بهذا الشباب المسكين.(20/28)
الشباب والفساد
لو صح أن أحداً يعصي الله عز وجل وهو مظلوم لقلنا: إن شبابنا مظلوم، نعم هذا الشباب مهما فجر ومهما فعل لو نظرنا بالمقياس الشرعي الصحيح لوجدنا أن حالنا معه كما قال الشاعر:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
لا نجد مجلساً إلا ويشتكى من الشباب: الشباب فسد، الشباب أدمن المخدرات، الشباب فعل وفعل، الشباب هذا كيف وكيف، شكوى! ولكن هل واقعنا وحياتنا العامة تدفع هذا الشباب إلى الخير أم تدفعه إلى ما هو أشد من ذلك، وإلى ما هو أوحش وأفحش من ذلك؟ ليس هناك أحد يعذر في معصية إلا من عذره الله، ويجب على هذا الشباب أن يتمسك بدينه، لكن كيف نفتح له جميع منافذ الشر، ثم نقول له بعد ذلك: لا تعص! دعايات تنشر في مجلات كثيرة: تعال إلى حيث المتعة، تعال إلى الليالي الدافئة في بانكوك وكذا وكذا، تخفيض أربعين في المائة على قيمة التذاكر، الفنادق والحجز وكذا وكذا موجود، ترونها جميعاً ونراها جميعاً، تدفع بهذا الشاب المتلهف المتعطش في قوة الشهوة وفي قوة الشبق وقوة الشباب تدفعه وتجذبه، نضمن لك كذا وكذا من أساليب المتعة والرفاهية في العطلة، وقد تنظم مواعيد الرحلات على مواعيد العطل، فمن أراد ذلك فهو لا يحتاج أن يخرم عمله، الأمر منظم ومرتب على مواعيد العطل الأسبوعية أو السنوية، ثم تبدأ تلك الجموع تذهب إلى هناك، فإذا جلس الإنسان هنا، وبلغه خبر أن جثة زميله فلان قد جاءت من مانلا -كما حصل قبل فترات وكما تعلمون ذلك- قال: هذا فاسد، وهذا مجرم وقمنا نتشكى.
نعم هو مجرم، لكن هل نحن مبرعون؟ هل نحن غير مؤاخذين أمام الله عز وجل؟ أم أننا قد دفعناه إلى الجريمة وهيأناها له وفتحنا له أبوابها؟ وكذلك ما يقع داخل البيوت من الشجار ومن الخصام ومن عقوق الأبناء، قلما تجد أباً أو مدرساً أو مربياً إلا ويشكو من عقوق هذا الشباب، ويشكو أنه شباب متمرد، لا يهتم بشيء، لا يبالي بخير أو شر! ولكن نسأل أنفسنا أولاً: على أي شيء ربيناهم نحن؟ إذا كان الأب الذي تربى على الدين وعلى الأصالة وعلى الخلق يُرى فيه التهاون في أعظم أمر، وهو أمر الغيرة وأمر العرض، فيدع المرأة والبنت تذهب مع السائق، فكيف تلوم الابن لو ارتكب أكبر من ذلك؟! فأنت تعصي الله عز وجل فيه وفي الأسرة جميعاً بهذا الخادم وهذا السائق، وتريد ألا يعصى الله فيك بالعقوق؟! لا يمكن هذا أبداً.
فهؤلاء الشباب لا ندافع عنهم، ولكن نقول: إننا مسئولون مثلهم أو أكثر، وإنهم قد يكونون مظلومين في كثير من الأحيان؛ لأنهم لم يعرفوا الحق ولم يعرفوا الخير، وإنما وجدوا أنهم يساقون سوقاً إلى الفاحشة وإلى الفساد وإلى الإجرام، فانساقوا في هذا التيار الجارف، ولذلك - وهذه والحمد لله من بشائر الخير - تجدون الشباب الذي يهتدي ويرجع إلى الإسلام، وهذا الذي يسمى شباب الصحوة الإسلامية الجديدة الذين نراهم في كل مسجد، وفي كل حي، وفي كل مدرسة، بعضهم لما اهتدى بدأ يصرح يقول: والله لأول مرة أسمع أن الغناء حرام، وأن مشاهدة المرأة في الفيديو أو التلفاز حرام، وإذا به اهتدى، وجاء إلى المسجد، وحضر ندوة وندوتين، ثم التحى وترك الفساد.
إذاً لماذا نظلم الشباب؟! فلو أنهم ربوا تربية سليمة لكان فيهم خير عظيم، ولو كانوا يهتدون بأشياء عارضة قليلة، فكيف لو كان التوجيه العام كله على ما أمر الله وعلى ما أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونزع هؤلاء الشباب من أيدي الذين يريدون أن يتبعوا الشهوات، ويريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
فنسأل الله تعالى أن يردنا إليه رداً حميداً وأن يبصرنا في ديننا وأن يفقهنا فيه؛ حتى نعلم مقدار ما شرفنا الله تعالى به من التوحيد، ومقدار ما أذل الله تعالى به أعداءنا من الشرك، فلا نواليهم ولا نحبهم، ولا نسافر إلى بلادهم، ولا نستقدمهم إلى بلادنا، ولا نعاملهم بأية معاملة إلا على وفق ما شرع الله في حالة الاضطرار التي أباحها الله تبارك وتعالى، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا ولكم ذلك وما هو خير منه، والحمد لله رب العالمين.(20/29)
خاتمة
قال مقدم الندوة: أذكركم بما بدأنا به الندوة بالحديث عن الغزو الفكري، وتأثير استخدام وسائل الإعلام هذا الاستخدام الجائر الذي نتج عنه ما سمعتم في هذه الندوة من أمور فاحشة تأثر بها هذا المجتمع، وسمعتم أيضاً ما ذكره الشيخ سفر من حال أجدادنا وكراهيتهم معايشة أهل الكفر والشرك والفجور والباطل، وكيف أنه كان كثير من الرحالة الكفرة يقتلون في هذه الجزيرة عند محاولة اكتشافها، أجدادنا ينظرون للكفرة وللمشركين هذه النظرة التي تحملهم على قتلهم، ونحن نعاشرهم ونصاحبهم ونصادقهم في مكاتبنا وفي بيوتنا! نستقدمهم إما عمالة على أنهم خبراء وعلماء، وإما عمالة رخيصة على أنهم خدم وسائقون! هذه الآثار التي تحدث عنها في هذه الندوة وفي الندوة السابقة ما كانت إلا نتيجة لأول ما بدأنا به الغزو الفكري الذي جاء نتيجة لاستخدام هذا الإعلام استخداماً لا يرضي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والذي لم يسخر لخدمة دينه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وفي الختام نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم فاستغفروه.(20/30)
تصحيح مفهوم العمالة
كان أبو لؤلؤة المجوسي عبداً رقيقاً للمسلمين، ولم يكن عاملاً مستقدماً، وتعلمون أن المسلمين إذا حاربوا أمة كافرة، فإنهم يغنمونهم ويأسرونهم، ومن أسر منهم يجوز أن يُسترق، فيصبح عبداً للمسلمين؛ لأنه رفض أن يكون عبداً لله عز وجل، فحكم الله تعالى أن يكون عبداً لعبيده الصالحين، ففرقٌ بين العبد وبين العامل المستقدم؛ لأن الأدلة في تحريم دخول اليهود والنصارى إلى جزيرة العرب كثيرة.
ولهذا لما طُعن الفاروق عمر رضي الله تعالى عنه [[قال: من فعل بي ذلك؟ قالوا: أبو لؤلؤة المجوسي، قال: الحمد لله الذي جعل ميتتي على يد رجل لم يسجد لله سجدة]] ثم قال: [[وقد كنت نهيتكم أن تكثر العلوج بـ المدينة]] لأن عمر كان ينهى أن تكثر العلوج في المدينة أي: أن هؤلاء أرقاء وملك للمسلمين، فالمسلم إذا ملك عن طريق الجهاد رقبة من رقاب الكفار، فإنه يستخدمها كما يستخدم الدابة، ومن هنا يجوز له أن يأتي بها، ولو لـ جزيرة العرب باستثناء مكة.(20/31)
جزيرة العرب للمسلمين
أما إذا كان هذا الرجل حراً، وإنما جيء به من أجل عمل من أعمال الدنيا، فهذا هو الذي ينطبق عليه ما قاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان}، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلماً} وهذا في آخر حياته، فهو حكم ناسخ لما قبله.
وهذا يبطل استدلال من يستدل أن أهل خيبر صالحهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أن يقيموا فيها ويزرعوها، فيكون لهم النصف وللمسلمين النصف، فإن أهل خيبر كانوا أرقاء لأنهم استسلموا في الحرب، فكانوا مما يسمى برقيق الأرض.
ولما أوصى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آخر حياته بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب نفذ ذلك الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وظهرت له خيانة اليهود التي لا بد أن تقع، فأجلى يهود خيبر إلى أذرعات من بلاد الشام، وفرقهم في البلاد، وطهر جزيرة العرب من رجس هؤلاء الكفار، وبقي هذا أمراً مألوفاً لا يخرمه ولا يخرقه أي خارق أي أن جزيرة العرب بلد للمسلمين فقط لا يساكنهم ولا يعاشرهم فيها أحد.
بقي هذا أربعة عشر قرناً إلى أن جاء الاستعمار الحديث، ودخل الإنجليز والبرتغال أطراف الجزيرة، أما قبل ذلك فلم يكن أي كافر يأتي إليها إلا متخفياً، بل إن بعض الرحالة الأوروبيين الذين جاءوا لاكتشاف جزيرة العرب قتلوا على أيدي الأهالي، لأنهم رأوا أن هذا كافر يهودي أو نصراني، ولا يجوز له أن يدخل إلى جزيرة العرب، وهذا موافق لما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وسبق أن تعرضنا لقضية التجارة وحكمها، وقد نحتاج ذلك لأننا نتاجر مع الكفار وبما يأتون إلى ثغور المسلمين أو موانئهم وأطراف بلادهم، وقد يُحتاج أن يدخلوا ببعض تجاراتهم إلى بلاد المسلمين، فإذا احتاج المسلمون للتعامل مع الكافرين في بعض الأمور-كالتجارة- فعليهم أن يفعلوا مثلما أوصى الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كما روى أبو عبيد في كتاب الأموال إذ جعل لأهل الروم ولمن تاجر من أهل الكتاب ثلاثة أيام، يأتون بتجارتهم مما يلزم المسلمين إلى ظاهر المدينة، ولا يدخلون إليها، فيأتي إليهم المسلمون، فيشترون منهم البضائع لمدة ثلاثة أيام ثم يعودون.
أما أن يستخدموا ككتبة أو مستشارين أو خبراء، فهذا حرام، ولو كان في بلاد ما وراء النهر، أو في الأندلس، أو في أي مكان، وقد بلغ الفاروق عمر أن أبا موسى الأشعري استخدم كاتباً نصرانياً، فكتب إليه يعاتبه أشد العتاب ويقول: [[كيف تأمنونهم وقد خونهم الله؟! وتكرمونهم وقد أهانهم الله؟!]].
وله مع المغيرة بن شعبة قصة -وكان المغيرة في العراق ليس في داخل جزيرة العرب - إذ كتب المغيرة إلى عمر: إنني استخدمت هذا النصراني، وإنه رجل نبطي، ولا يجيد الحساب غيره، فكأنه يقول: وجود الرجل ضروري لنا، فكتب إليه الفاروق كلمتين، قال له: [[هب أن النصراني مات، والسلام]].
فيقطع الجدال والنقاش في هذا الموضوع، فـ جزيرة العرب لا يجوز أن يجتمع فيها دينان في أي حال من الأحوال، ومن هنا نعلم لماذا علماؤنا -جزاهم الله خيراً- الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ عبد الله بن حميد في فتواهم المسجلة والمقروءة يذكروننا دائماً بهذا الحكم، يقولون: 'لا يجوز للمسلم أن يستقدم الكفار إلى جزيرة العرب '.(20/32)
حدود الجزيرة العربية
وقبل ذلك قد تقولون: وما هي جزيرة العرب؟؟! جزيرة العرب تشمل من أطراف العراق والشام شمالاً إلى بحر العرب جنوباً، ومن الخليج وبحر عمان شرقاً - خليج البصرة الذي اختلفوا فيه: هل هو فارسي أو عربي؟ العرب المسلمون كانوا يسمونه خليج البصرة أو بحر البصرة - فمن الخليج شرقاً إلى البحر الأحمر غرباً، فيدخل في ذلك بطبيعة الحال الكويت والإمارات واليمن وعمان.
فكل ذلك من جزيرة العرب التي لا يجوز أن يدخلها الكفار فضلاً عن الحجاز، فهو أمر متفق عليه ولم يخالف في ذلك أحد، وكل من تكلموا في حدود الجزيرة لم يختلفوا في أن الحجاز من جزيرة العرب وأنه أولى الأماكن بألا يدخلها يهودي ولا نصراني؛ حتى إن بعض العلماء جعلوها على نوعين محرم مغلظ ومحرم غير مغلظ، أي يحرم أن يدخلوا جزيرة العرب عامة، لكن دخولهم إلى أرض الحجاز محرم حرمة مغلظة، فحرمته مغلظة دائمة؛ لأنها كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إن الإيمان ليأرز بين المسجدين}.
فيجب أن تظل بلد إسلام وأن تحمى من هؤلاء الذين يسبون الله عز وجل أعظم السب، ولو أن أحداً سب أبا أحدنا كل يوم فلن يرضى أن يعاشره أو يخالطه، فكيف بالكافر الذي يسب الله عز وجل، فالنصارى يسبون الله عز وجل حين يقولون: إن له ابناً {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} [الإسراء:43] هذا سبٌ لله عز وجل، والبوذيون يقولون: إن بوذا هو إلههم، وبعضهم يقول: إن بوذا هو ابن الله، وفي هذا سبٌ لله عز وجل، وكلهم أعداء الله، وكلهم لا يجوز أن يوالوا، ولا أن يدخلوا إلى جزيرة العرب.(20/33)
من دخول الكفارة إلى بلاد المسلمين
ولا بد أن إدخالهم إليها وإلى غيرها من بلاد المسلمين يؤدي إلى فساد عريض، ويجب أن نضع هذه القاعدة في أذهاننا ولا ننساها: (وكل أمر نعصي فيه الله عز وجل، فلا بد أن تصيبنا بسببه العقوبة) وذلك كما بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين ذكر الخمس التي أمرنا أن نستعيذ بالله منها، وأنها إذا وقعت وقعت نتيجتها، ومنها: {وما انتشرت الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا أصابهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن من قبلهم}.
فإذا عصينا الله عز وجل فلا بد أن ندفع ضريبة المعصية من أجسادنا ومن سعادتنا ومن أمننا في الدنيا، وكذلك عقوبة الآخرة: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127]-عافنا الله وإياكم من ذلك- فما تفضل به الدكتور عدنان من هذه الأمراض والمشاكل، إنما هو نتيجة لمعصيتنا لنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكانت هذه عقوبة بالمعصية: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] ولا بد من هذا.(20/34)
الأسئلة(20/35)
البديل الإسلامي لوسائل الإعلام
أجاب على هذا السؤال الشيخ سفر الحوالي.
السؤال
في الواقع هنا نقطة نحب أن نعود فيها إلى الأخ الشيخ سفر في موضوع التلفاز، والبرامج التلفزيونية، والفيديو وما شابه ذلك، فالبعض يريد أن يوقف هذا السيل الجارف بأن يأتوا بأفكار، ويقولون: لماذا لا نعمل أشياء إسلامية؟ لماذا لا نعمل أفلاماً إسلامية؟ لماذا لا نعمل أفكاراً إسلامية؟ لما لا نعمل أفلام كرتون إسلامية -مثلاً- ولا نشك أبداً أن هناك مغرضين مندسين وراء هذا، ولكن الظاهرة موجودة الآن؛ فالناس قسمان -إلا من رحم ربي- إما أناس متجهون خاضعون لهذا الغزو الفكري ولا يرون به بأساً، بل يرونه عين الحضارة، وهو المطلوب، وهو المراد، وهذا والله فيه الدمار، وآخرون رأوا في هذا البديل سلامةً لهم، الأمهات يتضجَّرن من الأطفال في البيوت، وتعلمون حال البيوت هذه الأيام وصغرها وحبس الأطفال فيها، فالأم تريد من طفلها أن يكون ساكنا ساكتاًَ، لاكما أراده الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى طبيعياً متحركاً نشطاً، فتريده أن يجلس أمام التلفاز ساعتين، أو ثلاثاً، أو أربعاً، وهي تقضي ما تقضي من أمورها، فتصر على شراء التلفاز، فيرضخ الأب ويقول: إذن نأتي بأفلام إسلامية أو برامج إسلامية، فنريد من الشيخ سفر: توضيح الحقيقة، لما في هذا الحل من مخاطر، حتى نكون على بصيرةٍ من أمرنا؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين، إن الإجابة على هذا السؤال ليست بالأمر الهين، لأن القضية أخطر من أن يدرسها فرد بذاته، هذه مشكلة كل بيت يريد أن يحافظ على البقية الباقية من الأخلاق والفضيلة، ولكنه يواجه غزواً منظماً مسيطراً، ومن هنا يجب أن تتردد الآراء فيها -ولا نعني أي آراء- ولكن نعني آراء أهل العلم، ورأي أهل الخبرة، ورأي رجال التربية الإسلامية الذين يمارسون الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
إنه لا حرج شرعاً من حيث المبدأ أن توجد أفلام إسلامية نافعة مفيدة، لو سئلنا نظرياً عن ذلك لقلنا: قد يكون واجباً أن يوجد البديل، ولكن يجب أن نتنبه إلى مخاطر كثيرة تحف هذه القضية: الأمر الأول: أن البديل عن أي شيء في كثير من الأحيان فيه نوع من الإقرار بالأمر الواقع، بمعنى أن البديل قد يكون مظهراً للعجز عن المقاومة، فأنا لم أستطع -مثلاً- أن أحفظ بيتي وأبنائي وأغرس وأربي في أنفسهم مقاومة هذا الغزو، وأن هذه الأمور حرام، فقلت: لابد أن آتي بالبديل، بينما توجد الأسر التي تستطيع ذلك، ولو أننا جعلنا الأصل والأساس هو أننا نقاوم هذا الغزو، ونجعل البديل أموراً صالحة، ليس شرطاً أن تكون من جنس ذلك الغزو، كالطفل الذي يأتي -مثلاً- من المدرسة بعد الظهر يتغدى ثم يرتاح قليلاً، يذاكر للعصر، يذهب للمسجد، يحفظ القرآن إلى العشاء، بعد العشاء ينام إجبارياً، ليستيقظ مبكراًَ، هذا الطفل إذا ربي تربية سليمة على أن هذه الأشياء أقل ما فيها أنها تضيع وقته، وأنه لا يستطيع أن يتلقى معلوماته فيها، فسيترك هذه الأمور وما فيها من حرام وما قد تجره إليه من فساد، فهو يقتنع بذلك وإن كان صغيراً مع التربية السليمة، وماذا يربح الإنسان إذا خسر أسرته، مهما كان نجاحه مالياً أو مادياً أو حتى لو دعوياً، نجح في أن يدعو طائفة كبيرة من الناس للإسلام، لكنه ضيع أطفاله وضيع زوجته، فهذا خسران، لا يرضاه إلا من كتب الله عليه الغواية.
الأمر الثاني: أن هذه البدائل فيها -كما ذكره الأخ عدنان - أخطار من النواحي العضوية، فما ينتج عن ذلك في النظر، أو في الأعضاء، أوفي عدم الحركة، أو ما أشبه ذلك، كل المساوئ العضوية موجودة سواءٌ كان هذا الشيء صالحاً أو سيئاً، وأنا قرأت وسمعت أيضاً ندوة إذاعية أن بعض دول أوروبا وفي بعض الولايات الأمريكية، حددت مشاهدة الأطفال للتلفزيون بساعة واحدة في اليوم فقط، وجعلت ذلك تشريعاً إلزامياً في الدولة وفي الولاية، فيلزم الأطفال ألا يروا التلفزيون إلا ساعة واحدة، ثم بعد ذلك يتحدثون عن محتوى هذه الساعة وما سيكون، لكن يشترطون ألا تزيد عن ساعة واحدة، فكيف بنا نحن الذين لا بد من مفارقتنا لهم، بمقتضى أن أصحاب الصراط المستقيم يخالفون أصحاب الجحيم، فهؤلاء رأوا الأضرار العضوية التي تنتج عن المشاهدة للتلفزيون وإدمان ذلك، فقالوا: لابد أن يحدد ذلك بساعة واحدة من أربعة وعشرين ساعة.
الأمر الثالث: هي أن ما يوجد اليوم باسم الأفلام الإسلامية، أو ما قد يوجد هو كأي أمر من أمور حياتنا -نحن المسلمين- يخضع لذوق ولرغبة المشتري، كما هو خاضع لعلم وفقه المنتج، بمعنى أن المنتج الذي لا يعرف الحلال من الحرام، أو لا يتقيد بكثير أو ببعض أحكام الإسلام، قد ينتج أفلاماً فيها محرمات كثيرة وواضحة، وكثير من الآباء لا يدركون الفرق بين الحلال والحرام في هذه الأمور؛ لأن الدعوة العامة وعلم الفقه الشرعي في المجتمعات الإسلامية ضعيف محدود، فئة محدودة فقط هي التي تستطيع أن تنتقي وتختار، ومن هنا فإن هذا المنتج مع حسن نيته -افتراضاً- سوف ينتج لنا أشياء ضارة على أنها نافعة، وهذه قد تتقبلها الأسرة بحجة أنها إسلامية، وقد رفضت تلك التي ليست إسلامية، وفي ذلك خطره وضرره.
وكذلك قضية الرقابة، قد يقول قائل: نخضع هذه الأشياء للرقابة، وأنتم تعلمون أن الأفلام غير الإسلامية فيها الكثير من المحرمات مع وجود الرقابة، وفيها أمور لا تخضع للرقابة، فإذا قلنا: الأفلام الإسلامية تخضع للرقابة، فإن الحال سيكون كحال هذه الأفلام التي تخضع للرقابة من جهتين وأنتم ترونها، بل بالعكس الرقابة -إن وجدت فرضاً- ستجد نفسها أنها أمام شيء عادي جداً، فأحدهم مطالب بأن يراقب مئات من الأفلام الخليعة الفاجرة، ويأتيه فيلم إسلامي فيقول: هذا إسلامي، فلا يراقبه، فنتيجة ذلك تنتشر في المجتمع أخطار قد تكون أكثر خطراً من الأفلام الواضحة أنها للفسق والدعارة.
وأنا أضرب لكم أمثلة واضحة: أنتم تشاهدون ما يسمى -أحياناً- بالتمثيليات والمسلسلات الإسلامية، ولاسيما في رمضان أو في موسم الحج، والحق يقال، كلمة نقولها لله عز وجل: لو أنه وضعت مكان هذه الأفلام أفلام ما يسمونه حباً وهو فاحشة -الأفلام العادية من الغرام والعشق العادي- لكان والله أسلم من هذه الأفلام، والله لقد رأيت بعيني في موسم من مواسم الحج فيلماً في قصص الأنبياء، والقصة كانت عن داود عليه السلام، الممثلة تمثل زوجة داود عليه السلام -الذي أثنى الله عليه في القرآن الكريم: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:30]- زوجة نبي كاشفة الصدر والنحر كله، وتختلط بالأجانب، وتكلم طالوت، وتكلم فلان، ووزوجة من هي؟ زوجة داود!! هذا والله أفحش مما لو كانت هذه زوجة فلان من الناس وتختلط بغيره.
وكذلك على هامش السيرة الذي عرض في سنة من السنوات على أنه سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ظهرت فيه أخطاء كبيرة في سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيلم الرسالة وما أدراك مافيلم الرسالة، وقد سمعتم عنه الكثير، وكذلك تمثيلية موسى بن نصير شيء عجيب جداً أن يكون الفاتحون المسلمون لايفتحون البلاد إلا عن طريق العشق والغرام والعلاقات مع بنات الروم! أيضاً في سنة من السنوات كان الموضوع عن أبي عبيدة بن الجراح، أمين الأمة المصطفاة: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32] فهل في الأرض، أمة أكثر أمانةً وحقاً وعدلاً من أمة الإسلام، وهذا أمين الأمة الأمينة، يفتح دمشق بناءً على علاقات غرامية مع بنت ملك الروم!! فإذا كان هذا أميننا، فمَنْ منا الأمين؟! نحن أمة خائنة إذن، ولاشك أن من رضي بهذه الخيانة فهو خائن، وهذا شيء ليس بالخفي، بل شاهده الملايين، وهذا من قبيل توضيح الخطأ لا التشهير ولا الافتراء، لأن هذه الأمور شاهدها الجميع.
فالحقيقة أن هناك خطراً مبطناً مدسوساً فيما يسمى بهذه الأفلام الإسلامية أو المسلسلات الإسلامية في المواسم الإسلامية، وفي تمثيلة ابن تيمية وغيرها.
ولكي يبرزوا شجاعة الصحابة يأتون بسيوف من الخشب، ويقولون: هذا خالد بن الوليد! والطفل الصغير يقول: رأيت خالد بن الوليد، ولا يقول: رأيت ممثلاً يمثل خالد بن الوليد، يقول: رأيت عمرو بن العاص، رأيت معاوية، لأنه يرى شيئاً أمامه، نحن الكبار ننسى الموضوع، ونتصور أن هذا خالد، فكيف بالطفل الصغير؟! وأشد من ذلك أن يأتي في فيلم آخر نفس ذلك الممثل الذي يمثل خالد بن الوليد أو أبا عبيدة، وإذا به لص من أكابر المجرمين، ويأتي في فيلم آخر، وإذا به داعر من أكبر الزناة ومدمني المخدرات، وهو نفس ذلك الرجل!! كيف ينطبع هذا في نفس ذلك الطفل؟ لو بقي ينظر إلى هذا الرجل في كل هذه الأفلام على أنه داعر، زانٍ، فاسق، غشاش، لبقيت صورة واحدة في ذهنه، لكن يأتي يمثل صحابي بهذه الصور! هذا هو التناقض الحاد الذي أشار إليه أخونا الدكتور عدنان، وهذا مما يسيء ويفسد سمعة الصحابة، وبالتالي يفسد الشباب المسلم عن طريق هدم القدوة الذي يجب أن نتأسى بها، وقارنوا بين طفل في الرابع الابتدائي أو الخامس يسمع بصوت الدكتور عبدالرحمن رأفت الباشا -رحمة الله عليه- وهو يتحدث عن صور من حياة الصحابة أو صور من حياة التابعين، كيف يتأثر عندما يسمع عن الصحابة؟! ولكن انظروا واسألوه لو رأى فيلماً من هذه الأفلام، حتى تجد الفرق بين الإعلام النظيف والإعلام المغشوش.
والحمد لله رب العالمين.(20/36)
مخاطر عمل المرأة
أجاب على هذا السؤال الشيخ: سفر الحوالي ثم الدكتور: عدنان غلام.
السؤال: الموضوع مهم جداً، ويمس الناس أجمعين، وقَلَّ أحد إلا وهو متأثر به، لذا فإنها مسئوليةٌ عظيمة، هذا الغزو الفكري أو الخطر الفكري الذي يهدد أسرنا المسلمة يجب أن نعيه، وأن نهتم به، وأن نوجد الحلول، وأن نبعد هذا الخطر عن أنفسنا بكل ما نملك.
نود أن ننتقل الآن إلى خطر آخر يهدد الأسرة المسلمة، وكما قلت لكم سابقاً، هذه الأخطار الفكرية تتسلل إلينا وقد يكون للبعض العذر في عدم الاطلاع عليها، لأنها تغزو الفكر، وتأتي قليلاً قليلاً، ومع هذا فالعلماء والدعاة يُحَذِّرون، ولكنْ هناك خطر مادي يَمْثُلُ أمامنا، ونراه يتحرك، ونراه يزداد، ونحن غافلون! إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عندما خلق الذكر والأنثى، أعطى لكلٍ منهما مهمة في هذه الحياة، كلف الرجل بالقوامة، فجعله قيماً، وألزمه بالإنفاق، وهذا يشغل كثيراً من الوقت، ثمان ساعات في النوم، ومثلها أو أكثر منها في العمل، لنقوم بجزء القوامة، للإنفاق على أسرنا وعلى من نعولهم، وكلف الله المرأة بعمل آخر لا يحسنه البتة أحدٌ غيرها، وإن تواطأ عليه الإنس والجن.
إن بقاء هذا الجنس البشري مرهون في أن تحمل المرأة وأن تلد، وبعد أن تلد تحضن أولادها، وتحنو عليهم، وترضعهم سنتين، ثم تربيهم وتغذيهم غذاءً مادياً وفكرياً، حتى يشبوا عن الطوق، ويخرجوا إلى المجتمع، وقد بلغوا شيئاً من العقل.
الخطر المادي الذي نراه متمثلاً أمامنا قد اجتاح أمماً كثيرة، بل اجتاح الأمم كلها في مشارق الأرض ومغاربها، ووراءه مقولة خطيرة، لو سمعها الإنسان لأول وهلة، يقول: صحيح، نصف المجتمع عاطل، النساء في البيوت، ماذا يعملن؟ إنتاجية المجتمع هابطة، لو اشتغل هذا النصف الموجود في البيوت، لازددنا ارتقاءً، وازددنا حضارةً، وكنا أكثر في القوة المادية، وهذا يخدع الكثيرين، وقد خدعت مجتمعاتٌ كثيرةٌ بهذه المقولة، ووجهٌ آخر من هذه المقولة يَخُصُّ الفردَ نفسه، يقولون له: امرأتك عاطلة في البيت، هذه الأسرة يمكنها أن تزيد من دخلها، لماذا لا تخرج المرأة، وتعمل بضع ساعات، وهي تنفع الوطن وتنفع الأسرة بزيادة الدخل؟ فبدلاً من أن يكون للأسرة دخل خمسة آلاف ريال، يصبح لديها سبعة آلاف ريال أو ثمانية آلاف ريال.
إن مسألة عمل المرأة وخروجها من بيتها، ومزاحمتها الرجال، سواءٌ في الأعمال أم في الأسواق مسألة خطيرة، تهدد الأسرة المسلمة، ونود من شيخنا سفر -جزاه الله خيراً وثبته- أن يبين لنا تفاصيل هذه المقولة؟ وكذلك خطأها من صوابها، وما حدث في الأمم التي مشت في هذا الاتجاه؟
الجواب
هذه قضية كبيرة وخطيرة، وهي قضية عمل المرأة، ولن نستطيع أن نعطيها حقها، ولكن حسبنا أن نشير إلى ما يوفقنا الله عز وجل إليه في هذه القضية.
يكفيكم من كل أمر حامله وداعيه لتحكموا عليه!! من الذي يدعو إلى أن تخرج المرأة، وإلى أن تشارك في بناء الوطن كما يقولون؟ من الذي يدعو لذلك؟ فكل دعوة تأتيك يجب عليك أن تنظر إلى قائلها وحاملها.
لقد جاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنزل الله تبارك وتعالى عليه الشريعة الكاملة الخالدة التي تكفلت بصلاح العباد إلى قيام الساعة، فما وجدنا فيها هذه الدعوى، بل وجدنا ضدها، وهذا كتاب الله بين أيدينا، وهذه سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أيدينا، وهناك نص صريح محكم في ذلك وهو قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] فلا يستطيع بشر أن ينسخ حكماً من أحكام الله عز وجل، المرأة أساساً حياتها في بيتها، وخير لها ألا ترى الرجال ولا يروها، وإن كانت في طريقها إلى المسجد، وصلاتها في قعر بيتها أفضل من صلاتها في المسجد، مع عدم الاعتراض عليها إن رغبت أن تذهب إلى المسجد في حالات معينة، وفي شروط معينة، لكن الأصل في صلاة المرأة هو البيت، وهي الصلاة! وهي العبادة!! هذه قاعدة، ولا ننظر إلى واقعنا مهما ابتعد عنها، لكن هذا هو الأصل، أربعة عشر قرناً والأمة الإسلامية على هذه الحالة الفطرية، مهما انحرفت أو ابتعدت في تقاليد أو ما أشبه ذلك من انحراف، لكن تبقى القاعدة في ثبات، وهو أن المرأة عملها في البيت، ودروها عظيم في إنجاب الأطفال، وفي تربيتهم، وفي أعمالٍ في البيت تستطيع أن تعملها، والرجل عمله خارج البيت، وعلى ذلك سارت الحياة.
ولم تظهر هذه الدعوى إلا في العصر الحديث، بعد قدوم الاستعمار وبعد انحطاط الأمة، وأول من دعا إلى خروج المرأة ومشاركتها -وسموه تحرير المرأة- هم النصارى الأقباط في مصر ونصارى لبنان الذين أنشئوا جرائد ومجلات، وكانت صحفهم أول ما صدر من الصحف في العالم العربي، وكانت مجلات وصحف نصرانية، أنشأها أولئك الذين تلقوا تعليمهم وحياتهم في مدارس الإرساليات التبشرية، كالكلية الإنجيلية، التي سميت فيما بعد بالجامعة الأمريكية في بيروت، هذه الكليات الإنجيلية أخرجت ذلك الجيل الذي كان أول جيل يطالب بحرية المرأة، ويصرح بأنه يريد لها أن تصبح كالمرأة الغربية، تماماًَ سواء بسواء.
ولو نظرنا إلى دعاة الخير، وإلى العلماء، وإلى أهل الغيرة والصلاح، فلن تجدهم يدعون إلى هذه الدعوة، إنك لو فتشت: لن تجد من يدعو إليها إلا من هو مشكوكٌ في إخلاصه لأسرته، ولبلاده ولدينه، لابد من ذلك، بل ممن يكتبون عن دعوى تحرير المرأة، أو خروج المرأة ومشاركة المرأة، منهم من له أمٌّ لم يزرها من سنة أو أكثر، منهم من تكون له زوجة، والعلاقة بينه وبينها أسوأ ما يمكن، ولا يسمح لها ولا يعطيها شيئاً مما يقول: إنه حرية، وتقر هي أيضاً أنه حريه، وقد تكون له أختٌ، وهو مقاطع لها غير زائر ولا واصل لها، ومع ذلك يكتب ويقول: نريد أن تخرج المرأة، لماذا؟! والله عز وجل قد بين ذلك، فقال: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)) [النساء:27] وهذه الآية ذكرها الله عز وجل من ضمن الآيات التي تتحدث عن موضوع العلاقات يبن الرجال والنساء: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27].
يريد سكرتيرة أو زميلة أو صديقة في المكتب، امرأة متفرنجة متبرجة، يلهو ويعبث معها، ولذلك يقول: لابد أن تخرج المرأة، وأن تعمل المرأة، ليس غرضه أن ينمي اقتصاد بلاده، ولا أن يطور وطنه، ولا يهتم بوضع المرأة، ولا يرثي لها، إذ يسميها الحبيسة في بيتها، فهذا خروج على فطرة المرأة، حتى وإن كانت هذه المرأة كافرة أو مشركة، فالمجتمعات النصرانية واليهودية والبوذية، وكل المجتمعات التي تريد أن تحافظ على أخلاقها، تستغرب وتستنكر ذلك، والآن في العالم الغربي الذي خرجت فيه المرأة إلى أقصى ما يمكن، وجدت جمعيات تسمى (جمعية العودة إلى البيت) مكونة للنساء، ويطالبن بالعودة إلى البيت، وأن تقوم الأم برسالتها الحقيقية وهي الأمومة، فليس هناك رسالة أعظم منها، المرأة عاطفية بطبيعتها، مهما عملت، ومهما أخذت من مرتب، فأعظم وأعز شيء لديها أن تحتضن ابنها، لو قلت لها، ما رأيك احتضانك لابنك هذا وتقبيله، أفضل عندك أم هذا المرتب وهذا المنصب؟! فإنها سوف ترمي بالمرتب وبالمنصب مهما كان.
والآن أصبحنا نقرأ على صفحات الجرائد: المرأة التي تقول: لم يرغب فيّ ولم يخطبني أحد، لأنني جامعية، ولأنني موظفة، أنا مستعدة أن أترك العمل, وأن أرمي بالشهادة إذا وجدت الشاب الذي يقبلني زوجة!! في مجتمعنا أصبح هذا الشيء موجوداً، لماذا؟ لأننا أخرجنا المرأة عن طبيعتها وعما فطرت عليه، إن دعوى إخراج المرأة للعمل هدمٌ للأمة من نواحٍ كثيرة من ذلك: أنه يهدم الأمة بشرياً وعددياًَ، ونظراً لأن الذين يثيرون هذا الكلام، كثيرٌ منهم لا يريد أن يسمع كلام الله ولا ذِكْرَ الله، فلنضرب لهم الأدلة من واقع الدول الغربية.
في روسيا الشيوعية الملحدة التي تجاهر بإنكار وجود الله عز وجل، وتجاهر بأن الأسرة هي أثر من آثار البرجوازية القديمة، والتقاليد البالية، في روسيا المرأة التي تنجب -مثلاً- عشرة أطفال تُعْطَى وساماً معيناً تحمله، تركب الحافلات مجاناً، تدخل أي مطعم مجاناً، تخفيضات لها أينما ذهبت؛ لأنها بطله قومية، أنجبت للأمة عشرة أطفال، ونحن نقول: (يجب أن تخرج المرأة وأن تعمل).
في فرنسا: القضية تدرس دراسة عميقةً جداً وكذلك في ألمانيا في إيطاليا، وإن كان يبدو أن فرنسا تهتم أكثر، لأنها تريد أن تبقى قوة مسيطرة، لأن إنجلترا فقدت مكانتها كقوة دولية، وتريد فرنسا أن تستبقي ذلك، وهذا الموضوع من أخطر ما تدرسه فرنسا، موضوع تكثير النسل، وإيطاليا من أكبر الدول الأوروبية، ومع ذلك هناك إعانات مخصصة لكل طفل يولد، وحث مستمر على الزواج.
بيوت الزنا والدعارة، لا تنتج أطفالاً، إلا أطفالاً معروفاً وضعهم إن جاءوا، ولذلك يحثون على الزواج، ويحثون المرأة على أن تنجب الأطفال، ويأتون بالجوائز السخية، والإعانات لكل مولود يولد، لماذا!؟ لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، بل يؤمنون بالمادة، فيقولون: حتى تعوض المرأة، تقول: لو كنت أعمل سأحصل على ألف ليرة، مثلاً، لكن لو أنجبت أطفالاً، سأحصل على خمسمائة أو مائتي ليرة، فتوازن راحتها النفسية مع هذه الثلاثمائة، فتقبل الزواج والإعانة وتترك العمل، أصبحوا في واقع حالهم يضجون من واقع هذه المأساة الرهيبة التي يعيشونها.
ولكن في بلاد الإسلام، يأتي أناس فيقولون: نصف المجتمع معطل، ولابد أن تخرج المرأة من بيتها، أين مساهمة المرأة في تنمية بلادها، فهذا هدمٌ بشري أن تخرج المرأة، وأن يتعطل الإنجاب وأن يصبح المجتمع كما هو في(20/37)
أسباب انهيار الأمم (ندوة)
إن من سنن الله الكونية على مدار التاريخ أن مكّن لكل الأمم في أرضه فجعلها مشتركة في توافر أسباب البقاء والاستمرار، وجعل لذلك مقومات ومبادئ، فكان من الأمم من عمل بشيء من هذه المقومات وأغفل مقومات أخرى، فتفاوتت فترات استمرار الأمم وفق ذلك.
ومن رحمة الله بالأمة المحمدية أن جعلها آخر الأمم لتستفيد من تجارب الأمم السابقة، وتتعرف على أسباب هلاكها وانهيارها؛ لتتجنب هذه الأسباب، ولتكون بذلك بعيدة عما يؤدي بها إلى غضب الله وسخطه.
وتتمثل الأسباب المؤدية إلى النجاة من سخط الله في طاعته تعالى، واتباع سنة نبيه، واجتناب المعاصي التي تؤدي إلى تقويض المجتمعات من ربا وزنا وغيرها.(21/1)
القرآن يقص أنباء الأمم
يتحدث الشيخ عبد الله المحمدي عن الأمم السابقة ويعرض لنا شيئاً من أحوال هذه الأمم من خلال كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، أما بعد: يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كتابه الكريم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:123]، ويقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام:131] ويقول تعالى أيضاً: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف:4] {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف:5].(21/2)
استدراج الله للأمم بالنعم
وقال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أيضاً: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:94 - 99].
إن هذه الآيات التي يبين الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فيها أنه ما أرسل من نبي في قرية إلا أخذ أهلها بالبأساء والضراء، ثم بدل مكان السيئة الحسنة، أي: أنهم أبدلت سيئاتهم وكربهم تلك بحسنات ونِعَم، ثم ماذا حصل لهم بعد ذلك؟ ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا، وقالوا: قد مس آباءنا السراء والضراء، كانوا يتكلمون مما عفى عليهم، يقولون: قد مس آباءنا في الماضي السراء والضراء، وهم منعمون وينزل عليهم من الخيرات الشيء الكثير، ماذا حصل لهم بعد ذلك؟ قال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف:95] فالذي ينظر إلى واقع المسلمين اليوم، وينظر إلى مثل هذه الآيات يجدها تتمثل في واقعنا وحياتنا.
كان آباؤنا وأجدادنا قد مستهم البأساء والضراء، فبدلنا مكان السيئة الحسنة، حتى تنعم كثير من المسلمين، وعندها بدأ كثير منهم لا يرعوي لنعمة الله، ولا لكلام الله، ولا لما أعطاه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- من جزيل النعم في الدنيا، بل أنكر هذه النعم، وجعل يعفو عليها ويتبرم منها، ينكر هذه النعم، فلا نخشى أن تأتي المرحلة التي بعدها وهي: {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف:95].
فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائد الغُرِّ المحجلين وأكرم الخلق الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا رأى غيماً أو ريحاً، أو رأى رعداً أو برقاً يصفر وجهه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت تسأله عائشة رضي الله عنها: وتقول له: {يا رسول الله! إن الناس إذا رأوا السحاب ورأوا مثل هذا فرحوا واستبشروا، فقال لها: يا عائشة قد عُذب أقوام بالريح، وقد عذب أقوام بالمطر} {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} [النمل:58].
فإذا كان هذا هو حال رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما هي حالنا اليوم وقد أغرقنا في الذنوب والمعاصي حتى فشت فينا كثير من الذنوب والمعاصي؟ ثم يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مبيناً أمراً آخر: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96] عندما تكذب الأمم ويكذب الناس يأخذهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا بظلم منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإنما بما كانوا يكسبون، ولذلك يقول -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- محذراً الأمة: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25] فحذرنا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- من ذلك في القرآن، وبيَّن لنا، وأوضح لنا الطريق، وأوضح لنا سنته في الكون، وسننه تعالى في إهلاك الأمم، وإتيان الأمم من بعدهم، فيحل قوماً مكان قوم، وهذه هي سنة الله، وما ذهب القوم الأولون إلا بما كسبوا، وما أتى القوم الآخرون إلا ليستخلفهم الله فينظر ماذا يعملون.(21/3)
الأمن من مكر الله
يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف:97] أفأمنوا مكر الله عندما عملوا تلك المعاصي وجاهروا بها وأعلنوا الرذيلة والفاحشة في المؤمنين؟ {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].
يقول الله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:98] وهم يلعبون في ناديهم، ومجتمعاتهم، وأعمالهم: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].
ثم بين الله في الآية التي بعدها أمراً آخراً عظيماً ألا وهو قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف:101] أي: أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها، أن أمة محمد قد ورثت الأرض من بعد الأمم السابقة التي أهلكها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} [الأعراف:100] أما يخافون؟ أما اهتدوا إلى هذه النقطة المهمة العظيمة بأن الذنوب والمعاصي سبب في إهلاك الشعوب والأمم جميعاً لا فرق! فهذا إنذار من رب العالمين: {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الأعراف:100] نطبع على قلوبهم حتى لو رأوا الآيات والنذر فإنهم لا يؤمنون ولا يتبعون الحق؛ لأن الله قد طبع على قلوبهم: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأعراف:100].
ثم بين بعد ذلك، قال: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا} [الأعراف:101] إلى آخر الآية، وآيات أخرى.
يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98] إذاً: لما آمنوا كانت النتيجة أن الله كشف عنهم عذاب الخزي ومتعهم إلى حين، وهذه هي نتيجة طاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى واتباع كتابه وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(21/4)
اقتراب موعد الهلاك
فإذا كثر الفساد في الأرض وانتشر الخبث في الناس، فإنه ينذر بعاقبة وخيمة! عندما سألت إحدى نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أونهلك يا رسول الله وفينا الصالحون؟ قال: نعم.
إذا كثر الخبث} فالخبث إذا كثر في أمة من الأمم فإنه نذير بأن تهلك هذه الأمة كما ورد ذلك في القرآن؛ إما بخسف أو بمسخ أو بريح أو بعاصفة أو بفيضان أو بزلزال أو ببركان أو بطاعون أو بمرض أو بغير ذلك من جند الله التي لا يحصيها إلا رب العالمين، يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في هذا: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] فالشرط أن تكون ظالمة، ويقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:116 - 117].
فيقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} [هود:116] أما إذا أُمر بالفساد وانتشر الفساد، ولم يوجد أولو بقية من الصالحين والطائعين ينهون عن الفساد في الأرض، فإنها عند ذلك تقع الطامة، فقوله: {أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود:117] هؤلاء قليل، أما البقية الذين ظلموا فإنهم اتبعوا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين، مجرمين على أنفسهم، ومجتمعهم، وأسرهم، وديارهم التي كانوا يسكنون فيها، فإن العذاب لما حلَّ، حَلَّ بالجميع: قُلِبتَ الديار، وتضرر المجتمع، والأفراد، والأسرة، والدواب، والشجر، والحجر من تلك المعاصي التي كانوا يفعلونها.
فما كان ليهلكها بظلم وأهلها مصلحون، ونجزم بذلك لِماَ نُؤمن به من وعد الله ألا يهلكهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ويقول الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مبيناً كيف قصم الأمم التي ظلمت أنفسها {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} [الأنبياء:11 - 15] فما زالت تلك دعواهم، أي ما زالوا يرددون {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:14] حتى جعلناهم حصيداً خامدين، والسبب هو: أنهم من قرية كانت ظالمة {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} [الأنبياء:12] لما أحسوا بالخطر والضياع والتشريد والدمار بدأت الصيحات وإنذارات الخطر تظهر يمنة ويسرة وأماماً وخلفاً، كلهم ينذرون صيحة الخطر {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} [الأنبياء:15].(21/5)
غفلة الأمم عن عذاب الله لها
ويقول: الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مبيناً أن القرية التي ينذرها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بعقاب بسيط أو بإنذار يسير لا ترجع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن القوم تمر بهم النكبات والويلات من حولهم، ولا يعتبرون ولا يتعظون بمن حولهم، قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95] لا يرجعون إلى الحق والصواب، وكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرام عليهم؛ فعندما يرون عذاب الله، وعندما ينذرهم الله ببعض هزات خفيفة لا تؤثر فيهم الأثر العظيم ومع ذلك يبقون على ذنوبهم ومعاصيهم، حتى يأتيهم العذاب الأليم، هذه نُذُر كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مثل المنافق مثل الحمار لا يدري فيم ربط ولا فيم أطلق} فهؤلاء حتى مع إنذارالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهم فإنهم لا يفقهون ولا يرجعون ولا يعقلون، نسأل الله السلامة والعافية.
وكذلك يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ} [الرعد:31] فهذا إنذار قارعة تصيبهم أو تحل قريباً من دارهم.
هذه آيات الله فينا تتلى، نسأل الله أن يرزقنا الخشية والإنابة والتوبة والمعرفة والصدق والإخلاص.
ويقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً} [الطلاق:8 - 11] فبيَّن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مصير القرية التي عتت عن أمر ربها، وبين في الأخير الذين آمنوا به وبرسله، وبيَّن نعمته ومِنَّته على المؤمنين؛ إذ أرسل لهم رسولاً يدلهم على الخير والطريق المستقيم، ويُحذِّرهم من طريق الغواية، والآيات أكثر من ذلك وأعظم، ولكن نكتفي بهذا القدر لنتطرق إلى نقاط أخرى.
يقول الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي: الحمد لله الذي من رحمته وفضله بيَّن أسباب النجاة ويسرها وأوضحها وجلَّاها، وبيَّن أسباب الدمار والهلاك، لنجتنبها ونتوقاها، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد المبعوث رحمةً للعالمين، أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور ومن طريق الهلكة والدمار والخراب إلى طريق النجاة والسعادة والفلاح، وسدَّ من الحقوق والطاعات، كل طريق إلى الخير والنجاة والسعادة والطمأنينة في الدنيا والآخرة إلا من طريقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعد: لو تأملنا كتاب الله وقرأناه، هذا الكتاب المهجور إلا ممن رحم الله! لوجدنا أن موضوعاته جميعاً تنحصر في ثلاثة: إما الأمر بالتوحيد وما يتبعه من الحقوق والطاعات مع النهي عن الشرك وما يتبعه من المعاصي والذنوب.
وإما خبر عما صار لأهل التوحيد والطاعة من النجاة والسعادة والفلاح، وخبر عما كان لأهل الشرك والمعاصي من الدمار والوبال والخسارة.
وإما حال هؤلاء، وهؤلاء عند البعث يوم القيامة.
فهذه هي موضوعات القرآن وكل ما في القرآن لا يخرج عن هذا.(21/6)
فرحوا بما عندهم من العلم
الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق الإنسان وهو يعلم حاله {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] فهو يعلم أن هذا الإنسان ظلوم جهول، ولهذا احتمل الأمانة وقبلها بعد أن أبت منها السماوات والأرض {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] هذا الظلوم الجهول لا بد أن يُذَّكر، وأن تتلو الذكرى ذكرى، والموعظة موعظة، ولكن ما أكثر العبر! وما أقل الاعتبار! والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد قصَّ علينا من أنباء ما قد سبق، وذكر لنا حال الأمم، أين قوم نوح؟ أين عاد؟ أين ثمود؟ أين فرعون؟ أين تلك الأمم؟ وأين تلك الحضارات؟ وأين القرى التي عُمِّرت وسادت وبنت وأترفت في الحياة الدنيا حتى ظن أصحابها أنه لا يقدر عليهم أحد حتى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟! ولهذا قالت أعتى تلك الأمم وهي عاد: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّة} [فصلت:15] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو أشد منهم قوة ولكنها الغفلة.
لماذا تأتي هذه الغفلات؟ ولماذا نجد صورتها ما تزال حية واقعة إلى اليوم في هذه الدنيا؟ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فصل ذلك وبينه.
من أعظم الأسباب التي تجعل القلوب تغفل عن الله عز وجل ولا تتعظ ولا تعتبر: أن يفرح الناس بالحضارة والتقدم والإنتاج والصناعة وما هم فيه من الترف والنعيم! {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ} [غافر:83].
يقولون: لماذا نطيع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعلم لدينا إذا قيل لهم: أيها الناس! اتقوا الله وذروا الزنا واللواط والفحشاء تنجوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة، قالوا: لا نطيع أمر الله ولا أمر رسول الله، لدينا الأطباء، والعلم كل يوم يبحث لاختراع علاج لمقاومة الإيدز وما أشبهه، {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر:83] {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} [سبأ:45] أي: عشر العشر، فالحضارات الماضية بلغت الشيء الذي لم تبلغ هذه الأمة منه عشر العشر، كل أمة تظن أنها أرقى الأمم في الحضارة، وأن ما عندها من العلم كافٍ لأن تنكر أمر الله وتعترض عليه ولا تتبعه، إذا قيل لهم: إن الله حرم الربا، قالوا: لا، عندنا علماء اقتصاد وعندنا خطط، وعندنا خبرات تكفي لأن نتوقى المخاطر التي تنجم عن الربا.
{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر:83] وظنوا أن هذا العلم يكفي لاجتناب ما ينزل من أخطار؛ حتى عندما هُددوا بالأعاصير والزلازل فرحوا بما عندهم من العلم، قالوا: أصبح بالإمكان مراقبة الإعصار وهو ما يزال في المحيط الأطلسي أو المحيط الهادي، فلا يأتي إلى المدينة، إلا وقد أخذت جميع الاحتياطات والاستعدادات، والزلازل يمكن أن ترصد وهكذا، لكن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يملي لهم كما قال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:45] ولكن إذا جاء أمر الله تتبخر وتتبدد كل هذه الأوهام، ويذهب ذلك العلم والكبرياء فيه، ويركضون ولكن وراء السراب، حيث لا ينفع حينئذ إلا أن يتوبوا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وما أكثر الغافلين.
وأما قصة قوم يونس التي سمعتم {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} [يونس:98].
فهي قصة شاذة في تاريخ الأنبياء والأمم، أنَّ أمة تؤمن حال رؤية العذاب أو قرب رؤية العذاب، فمن رحمة الله أن يفتح الباب للتوبة وللاستغفار، ولكن قل من يتذكر.(21/7)
أسباب انهيار الأمم
إذا تكبرت الأمم وطغت وانتشر فيها الفساد عاجلها الله بالعقوبة، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} [الفجر:6 - 10] ماذا عملوا، وما صنعوا؟ {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} [الفجر:11 - 12] فكانت النتيجة {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:13 - 14] فما هو الفساد والطغيان؟ فأوجه الفساد والطغيان كثيرة، ولكن هل في البشرية من يتدبر ويعقل؟! العقلاء هؤلاء يرفعون العقيرة بالنذر، وهم قليل جداً في التاريخ.
وبما أننا في عصر قد عُظِّمت فيه أوروبا وحضارتها الغربية المسيطرة على العالم، والتي تقوده إلى الدمار والهاوية؛ فلننظر ماذا قال علماء وباحثو الغرب ومفكروه العقلاء -وهم قلة- لما رأوا أمتهم تمضي إلى هذا الدمار والانهيار، تفكروا في حال أممهم وبحثوا عن أسباب الانهيار؟ وأسباب الفساد الذي أدى إلى من قبل في انهيار الامبراطورية الرومانية، وانهيار الحضارات.(21/8)
الإعلان بالفاحشة
هناك رجل غربي يعرفه كل مفكر غربي، وهو المعروف بـ أرنولد توينبي، ويعتبر توينبي أكبر مؤرخ في هذا العصر، فقد درس جميع الحضارات، وأحصى الحضارات القديمة التي يمكن أن تعرف، واستطاع أن يجد أن هناك أكثر من إحدى وعشرين حضارة من الحضارات، بعضها استمر ألف سنة، وبعضها خمسمائة سنة، في أنحاء مختلفة من الأرض، ومنها الحضارات التي نعرفها جميعاً: الحضارة اليونانية، الحضارة الرومانية، الحضارة التي يسميها هو الحضارة العربية، ثم الحضارة الأوروبية، هذه الأربع المعروفة الآن في التاريخ، وما قبلها مندثر منقرض، ومن آخر الحضارات حضارة لم تنقرض إلا قبل خمسمائة سنة في أمريكا الجنوبية، وما تزال أعلامها ماثلة إلى اليوم، فوجد أن كل هذه الحضارات في التاريخ المكتوب تنهار وتنقرض وتدمر بأسباب منها: أن تخرج المرأة وتترك وظيفة الأمومة، وينتشر التبرج والزنا، فمن تتبع سقوط هذه الحضارات وجد أن السبب هو هذه الظاهرة.
انقرض اليونان لأن المسارح أصبحت علناً، وانتشر فيهم الاختلاط والخمر والزنا والتبرج! وكذلك الحضارة الرومانية وقد كان من أسباب انهيار الحضارة الإسلامية في بغداد انتشار المعاصي والذنوب، كما شهد بذلك أعداء الإسلام وهم كفار، حتى أن الخليفة -الذي كان في بغداد لما دخلها هولاكو وحاصرها- كان قد كتب إلى أمير الموصل يقول: 'بلغنا أن مغنياً مشهوراً عندكم أوجد نغمات جديدة في السلم الموسيقي، فنريد أن تبعثوا به إلينا' وكان اسمه صفي الدين.
فسبق دخول هولاكو دخول ذلك المغني، فحصل الدمار، وقُتل من المسلمين على أيدي أولئك الوثنيين وبتعاون من الروافض الملاعين أكثر من مليون وقيل: مليوني رجل، وأقل ما قيل إنهم ثمانمائة ألف قتلوا من المسلمين في بغداد من أهل السنة ومن خيار أهل السنة، فلما انتشرت المعاصي وانتشر الترف والتبرج والغناء، كانت النتيجة هي الدمار والخراب.
وهذا رجل غربي آخر يدعى توينبي: " الحضارة الغربية اليوم سوف تنهار لأنه ينتشر فيها شرب الخمر" فذكر أحد الأسباب: شرب الخمر، والسبب الآخر الذي ذكره قال: ' إن أوروبا سوف تصبح أقلية بين الشعوب ولهذا تنهار أوروبا '.(21/9)
الكفر بالله من أعظم أسباب الانهيار
نحن نعلم أن السبب هو: الكفر بالله عز وجل، وأما باقي ذكره فهي أسباب عرضية أو فرعية، فلماذا تصبح أوروبا أقلية؟ في جميع البحوث التي أجريت في أكثر من دولة أوروبية، تبين لهم أن السبب في نقص عدد السكان وكثرة عدد الوفيات بالنسبة للمواليد هو: خروج المرأة لتعمل ولتشارك الرجل في العمل، فلما خرجت لم تتزوج، واكتفت بالعشيق فلم تنجب، فكانت النتيجة أن عدد المواليد أقل من عدد الوفيات، وبالتالي ستصبح هذه الأمة أقلية، فمن سنن الله أنه لم يجعل الدمار والانهيار فجأة بغير مقدمات وبغير أسباب تؤدي إلى نتائج.
وأما أرنولد شبنجلر المؤرخ الألماني الذي أصدر كتاباً ضخماً في ثلاث مجلدات عن تدهور الحضارة الغربية وانحطاطها، مع أن هذا الرجل توفي عام 1923م أو قريباً من ذلك، قبل أن يصل الفساد إلى ما نراه اليوم -يقول هذا الرجل: 'إن خروج المرأة من البيت هو المنعطف الخطير الذي إذا وصلت إليه أي حضارة من الحضارات بدأت بالسقوط، وبدأت بالانهيار'.
ويضرب لذلك مثالاً ببطلة إبسون - إبسون هو أديب من أدبائهم- يقول: ' إذا أصبحت بطلة إبسون هذه هي النموذج للمرأة الغربية، فالحضارة الغربية سوف تنهار ' وهذا ما وقع والانهيار حاصل، فقد أنطقهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما تدبروا ولما تأملوا والأمثلة على ذلك كثيرة.(21/10)
الترف من أسباب الانهيار
من أسباب الانهيار التي ذكرها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: انتشار الترف، ولهذا فإن أول من يرد دعوة الأنبياء هم المترفون، كما قال تعالى: {إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ:34]، {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16]، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا} [الأنعام:123] فأكابر المجرمين المترفين يردون الحق والدعوات وواعظ الخير، لأن ترفهم قد ران على قلوبهم، فالترفُ وحبُّ الدنيا يُقسِّي القلب، فلا يطيق صاحبه أن يسمع شيئاً عن الآخرة، هذا الرجل المترف الذي هذا حاله، لو جلست معه أو جلس أمام أي منظار أو مرآة أو مشهد ساعات فإنه لا يمل، ولو جاءه رجل يذكره بالموت خمس دقائق لملَّ ولخرج، لا يريد أن يسمع ذكراً للموت، ولا يريد أن يسمع ذكراً للآخرة -نسأل الله العفو والعافية- قست قلوبهم، حتى إذا جاءهم العذاب، فإنه يأتيهم وهم في تلك القسوة {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:24 - 25] هكذا قسوة القلب {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُم} [الأنعام:43].
يقول الحسن البصري رحمه الله: [[يا أهل العراق لا تدفعوا عذاب الله بأيديكم وأرجلكم، ولكن ادفعوه بالتوبة إلى الله، فإن الله تبارك وتعالى يقول: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43]:]] تضرعوا إلى الله وتوبوا إليه يكشف ما بكم من سوء ويبدل حالكم.
يقول مالك بن دينار: [[ذهب أهل البصرة يستسقون فلم يمطروا، فعادوا وقالوا: عجباً والله! استسقينا ولم نمطر، قال مالك: سبحان الله! ستبطئون المطر، أما والله إني لأستبطئ الحجارة من السماء]].
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما جعل للمطر وللنعم سبباً إلا الاستغفار {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10 - 12] استغفروا الله وتوبوا إليه [[تستبطئون المطر، أما والله إني لأستبطئ الحجارة من السماء]] هكذا يقول مالك بن دينار رحمه الله في عصر الخير، في القرن الأول أو بداية الثاني، وأين نحن من هذا؟! رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا رأى غيماً أو سحاباً يخاف ويصفر وجهه، وكأن عذاباً سينزل، وأولئك الذين قست قلوبهم يقولون: (عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) فلنقارن بين الحالين، ولننظر في واقعنا، هل نحن أقرب إلى حال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الخوف من عذاب الله وتوقع عذاب الله بسبب ذنوبنا ومعاصينا، أم نحن أقرب إلى قسوة عاد، ونظرتها إلى كل هذه الأمور أنها ليست إلا عوارض، أو أمور تنتهي؟(21/11)
البطر من أسباب الانهيار
من الأسباب الأخرى والعوامل التي تنخر في كيان الأمم والشعوب البطر والملل من الحياة الرغيدة الهنيئة، فقد ذكر الله تعالى لذلك مثالاً لأمة عجيبة ذكرها القرآن تفصيلاً وهي سبأ: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:16] جنة عن يمين وجنة عن شمال كلوا واشربوا من هذه النِعم، بلدة طيبة معطاءة، ورب غفور يغفر الخطايا، استغفروا وكلوا وتمتعوا، فماذا كانت النتيجة؟ أعرضوا! وهذا الإعراض هو الذي دمر الأمم، فماذا كان من تلك الجنات؟ وأين ذهبت؟ {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ:16].
لقد رأيت هذا بعيني، وإنها لعبرة لمن يذهب إلى هنالك، وأنت ترى ما ذكره الله من الأثل والسدر القليل، في تربة يزيد سمكها عن عشرة أمتار، من أجود أنواع التربة، ولا ينبت فيها شيء إلا الأثل وشيء من سدر قليل، كما أخبر الله، والماء يجري إلى اليوم، وإذا جاء السيل فإنه يجري جرياناً كأنه نهر عظيم، والتربة خصبة ولا يوجد إلا أثل وشيء من سدر قليل، فالذنوب وأثرها يتعدى إلى الأرض فلا تنتج بل تجدب، يتعدى إلى الدواب، فتعذب البهائم بالقحط، وتعذب بالزلازل والغرق، فما ذنب البهائم؟! لا ذنب لها، ما الذنب إلا ذنب من عصى الله عز وجل وجاهر الله تبارك وتعالى بالمعاصي وأعلنها، فهذا هو البطر.
ماذا قالت سبأ لما بطرت النعمة: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} [سبأ:18] حكمة من الله ورحمة منه أن أعاد لهم مرة ثانية شيئاً من الخير في الأرض، وجعل بينها وبين القرى التي بارك فيها - بلاد الشام - قرىً ظاهرة {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} [سبأ:18] تجارة وأمن وقرى ظاهرة، تمشي في الصباح من قرية وتبيت في قرية، فماذا قالوا؟ {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ:19] يريدون المشقة والتعب ويريدون أن يتذوقوا متعة الرحلات.
فحالة البطر والملل التي تصيب الإنسان معروفة اليوم حتى عند علماء النفس والاجتماع، لو وجدت شاباً نشأ في ترف لا تصادفه أي مشكلة أبداً، كل شيء مهيأ له تجد أنه يحاول أن يفتعل مشكلة كبيرة يجرها على نفسه أو على أبيه أو على المجتمع، حتى يعاني من مشكلة، فهو لا يريد أن يعيش من دون مشاكل.
هذه حالة هؤلاء القوم {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} [سبأ:19] أين هم؟ لم يبق من أولئك القوم إلا أحاديث يتحدث بها في المجالس، ذكريات عابرة، هذا الذي بقي من أمة عظيمة كانت تطغى وتتجبر على خالق الأرض والسماء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما عصت الله عز وجل {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّق} [سبأ:9] فهذه حالتهم.(21/12)
ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
هناك أكابر المجرمين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، إذا تآمروا وإذا تُرِكَ لهم الحبل على الغارب، وأطلق لهم العنان، ولم يضرب على أيديهم، ولم يؤطروا على الحق أطرا، فهذا من أعظم أسباب دمار الأمم والشعوب.
يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن قوم صالح: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل:48 - 49].
فالذين كانوا يمثلون دور أكابر مجرميها، ودور مترفيها، كانوا تسعة، وقالوا: لا بد أن نقضي على صالح، ولا بد أن نقضي على الناقة، فانطلق أشقاها فضربها بسهمه، فماذا كانت النتيجة؟ {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل:51] دمر التسعة ومن معهم! وما ذلك إلا لأن العاقل لم يأخذ على يد السفيه، ولم يضرب عليه.(21/13)
المحاباة في حدود الله
بيَّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبباً عظيماً من أسباب هلاك الأمم ودمارها، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ' إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، وإذا سرق فيهم الشريف تركوه} إذا عطَّلنا أحكام الله عز وجل مراعاةً لحال فلان (هذا قريب) (هذا بعيد) (هذا شريف) فتدخل الشفاعة في حدود الله، وتقام على الضعفاء ولا تقام على الكبراء، فهذا مما يمهد لكي يكون المترفون أكثر قوة وتمكناً، حتى أن أحدهم لا يخاف من أي شيء، لأنه مطمئن أن أي شيء يقع فبيده أن يتخلص منه، فإن خُوِّف بعذاب أو بأمر أو بعقوبة، قال: العقوبة أستطيع أن أدفعها، وإن خوف بالفقر فهو يرى أنه أغنى من في المجتمع أومن أغنى الناس، وهكذا البطر حين يأتي إلى هذه القلوب.
فالأمة التي تقيم حدود الله على ضعفائها ولا تقيمها على أشرافها أمة معرضة للهلاك والدمار، فلا بد من إقامة أمر الله وحدود الله على الصغير والكبير، حتى ينزجر الناس ويرتدعوا، فتسلم بذلك الأمة، وتنجو من عذاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ومن عقوبته، وبغير ذلك فإن الناس لا يزدادون إلا قسوة، مهما رأوا من نذر العذاب، فإن القلوب إذا قست وإذا غفلت عن الله لا يؤثر فيها عبرة ولا موعظة، فهذان مثلان حالهما واحد.(21/14)
مجاهرة الله بالمعاصي
يقول سد سد قائد جيوش الانجليز في الحرب العالمية الثانية: ' لما كانت الطائرات الألمانية تضرب لندن كل يوم، وتنزل عليها الأمطار من القنابل، اضطر الناس إلى أن يضعوا المسارح والمراقص تحت الأرض ويقول العاملون فيها: إن الإقبال على المراقص وعلى المسارح وعلى شرب الخمر تضاعف، ويتضاعف عند القصف الألماني على البلد'.
وفي بلد آخر عربي ما هو منا ببعيد نفس المشكلة، يقولون: إن المراقص والمسارح تحت الأرض، فإذا تقاتلت المليشيات، ينزلون فيسكرون ويرقصون، فإذا أُعلنت هدنة مؤقتة عادوا إلى بيوتهم! لا تظن أن الإنسان إذا ابتعد عن الله يمكن أن يعظه أي واعظ أو أي زاجر، ولهذا لما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الأمم التي أهلكها، وما تركت من آبار معطلة وقصور مشيدة قال بعد ذلك: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] فالقلوب إذا عميت ترى الآثار شاخصة ولكنها لا تعتبر ولا تتعظ، يمر بقصر مهجور، وببئر معطلة، ويمر بآثار العذاب -وقد يكون قريب منه ولكنه في غفلة، ولو عرضت عليه أسباب اللهو، لانتهزها فرصة، وترك العبرة والموعظة، وهذا لا يفعله حيوان، فالحيوان إذا رأى حيواناً يذبح فإنه يفر، ويخاف، وأما هؤلاء الناس فإنهم يرون الدمار والخراب، ويستمرون في معصية الله ويعرضون عن طاعة الله وذكره، ولهذا كان التهديد من الله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف:97] في أثناء هذا الليل الطويل من السكر والعربدة واللهو {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:98] اللعب العام، فحياتهم كلها لعب، أو اللعب الخاص حين يجتمع في الملعب خمسون ألفاً أو مائة ألف ليس فيهم من يصلي -نسأل الله العفو والعافية- فماذا يريدون؟ {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].
نعوذ بالله من الأمن من مكر الله، ونعوذ بالله من الخسارة والدمار، ونسأل الله تعالى أن يحفظنا، وأمتنا، وإخواننا المسلمين من أسباب عقوبته وانتقامه، وأن يردنا إليه رداً حميداً؛ إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.(21/15)
وسائل الوقاية من الانهيار
يقول الشيخ عبد الله المحمدي: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، أما بعد: إن علاج هذا الموضوع بسيط جداً، ويتلخص في اتباع كلام الله، وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأول علاج هو عدم الشرك بالله، ثم عدم الابتداع في دين الله، ثم عدم الاختلاف بين المسلمين، وهذه سوف أترك الكلام فيها على الشيخ سفر، لكن أطرق علاج المشكلة من جوانب اجتماعية حذَّر منها الله ورسوله والإسلام.(21/16)
محاربة الزنا
فأول هذه المشاكل الاجتماعية التي تؤدي إلى انهيار الأمم وإلى الخسف والمسخ هو الزنا، يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يرويه عنه ابن عباس: {إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله} رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرطهما، ولم يخرجاه.
وكذلك يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يرويه ابن عباس: {ما ظهر الغلول في قوم قط إلا ألقي في قلوبهم الرعب، ولا فشا الزنا في قوم قط إلا كثر فيهم الموت}.
وكذلك يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما ترويه ميمونة رضي الله عنها: {لا تزال أمتي بخير ما لم يفشُ فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا، فيوشك أن يعمهم الله عز وجل بعقاب من عنده} رواه الإمام أحمد.
ويقول ابن القيم رحمه الله: 'إن الزنا من أسباب الموت العام، والطواعين المتصلة، ولما اختلطت البغايا بعسكر موسى عليه السلام وفشت فيهم الفاحشة، أرسل الله عليهم الطاعون، فمات في يوم واحد سبعون ألفاً' فعوامل انهيار الأمم تكمن في موتهم بطاعون أو بغير ذلك.
وإن أعظم نتائج الزنا اليومك انتشار الأمراض الجنسية وغيرها، من الزهري والسيلان والهربز والإيدز، هذه التي بدأت تفتك بالمجتمع الغربي اليوم حتى بدأت جذورها تنتقل إلينا.
إننا في معالجة هذا الموضوع لا بد أن نضع نصب أعيننا أن نمنع الفاحشة بين المؤمنين، فإن الفاحشة ما انتشرت في قوم إلا عمهم الله بعقاب أو عمهم بمرض أو طاعون، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويكمن ذلك في تطبيق حدود الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بجلد الزاني إن كان غير محصن، أو برجمه إن كان محصناً، فوجود هذا الأمر هو أكبر علاج في القضايا الاجتماعية.(21/17)
محاربة الربا
لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] فأسباب الهلاك أن نعاند الله وأن نحاربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فكم من ربا في ديار المسلمين، وكم من المسلمين ممن يتعامل بالربا، حتى أصبحت البنوك الربوية تتفاخر، وأصبح أحدهم يُعلن عن قيامه منذ خمسين عاماً، ويعلن الآخر عن قيامه منذ ستين عاماً، ويعلن له في جميع الصحف والمجلات، وأصبح الكثير منا يؤمن بالربا ويتعامل به، ويحث عليه، نسأل الله السلامة والعافية!! أليس هذا مرضاً خطيراً وداءً عظيماً، إن من أسباب العلاج إن أردناه أن ننبذ ما سوى شرع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كالربا والزنا وكل ما حرم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(21/18)
القضاء على شرب الخمر
الخمر أم الخبائث كما سماها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس هناك مجال لأذكر لكم الآيات والأحاديث في تحريمها، ولكن أبين لكم الجانب الذي تهدم فيه الخمر الأمم والشعوب.
أذكر لكم إحصائيات في دول أوروبا حيث انتشرت هناك الخمر، إحصائية تقول: إن (66%) من جنايات الاعتداء على الأشخاص مرتكبوها هم من مدمني الخمر؛ لأن الذي يشرب الخمر يعتدي ويقتل، فهذا سبب من أسباب انهيار الأمم، وإحصائية أخرى تقول: نسبة المدمنين من مجرمي العنف (82%) وفي جرائم القتل (53%) ممن قتلوا بسبب الخمر، وكذلك في التشريد، والمتشردين، والمتسولين (80%) من الخمر.(21/19)
الحد من عمل المرأة
فقد بدأت تظهر في المجتمع علامات هذا الداء، ألا وهو خروج المرأة، وتبرجها، وسفورها، وخروجها إلى العمل؛ بل الأعظم من ذلك أننا جميعاً نعلن ذلك في صحفنا وإعلامنا وندعو نساءنا إلى التبرج، والسفور، وأن يتكلمن أمام الملأ، وندعوهن إلى كشف الوجه، وإلى الفن والأدب، ونطرق لهن أبواباً لم تطرق من قبل، حتى دعا بعضهم النساء والفتيات إلى الرياضة، والأندية الرياضية.
إنه -والله- كما يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما تركت فتنة بعدي أضر على الرجال من النساء} إذا خرجت المرأة كما حدث في المجتمع الغربي، وشاركت الرجل في عمله، وخرجت ماجنة متعطرة فاجرة فاسقة، تضرب بالمثل والدين والقيم عرض الحائط، فعند ذلك لن يتربى جيلنا تربية إسلامية، ولا شبابنا أيضاً، ولن يجد الشارع المسلم الذي يمنعه من الرذيلة، فينبغي علينا جميعاً أن نتقي الله في نسائنا، وبناتنا وأخواتنا، وفي كل قريبة لنا، وأن نمنعهن من أن ينجرفن أمام الدعايات الفتاكة، والحياة الفتانة باسم الحرية والفن والتقدم وعدم الرجعية، كل ذلك يدعو شبابنا وشاباتنا؛ لأن ينجرفوا أمام الملهيات والمغريات، فلنتق الله، ولنعلم أننا مسئولون عن ذلك، فإن هذه الأمة تقدم على أمر خطير بيد قوم لا يرعوون عن مخالفة أمر الله فيها، ولا ينصاعون لأمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي الأخير أذكر لكم بعض النقولات، يقول باتلر وموريل، -وهما طبيبان أوروبيان-: 'يذهب الوالدان للعمل خارج البيت، ويتركان الأولاد المراهقين ليعتنوا بأنفسهم مما أدى إلى ضعف الصلات العائلية' أي: أن ذلك يؤدي إلى تفكك الأسرة والمجتمع، وضياع الأمة، ويؤدي إلى ترك الزوجة لزوجها، واتخاذ خدين لها، وإلى أن تتعرف البنت على صديق وعشيق لها، وما إلى ذلك! أترك المجال لنقاط أخرى في علاج هذه القضية، وأسال الله الكريم أن يوفقنا وإياكم لما فيه الخير والسداد.(21/20)
التوبة والاستغفار
يقول الشيخ/ سفر الحوالي: الحمد لله رب العالمين؛ فإن من رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على العالمين أنه جل شأنه يقبل من أناب وتاب مهما عصى وفَجَرَ، ومهما عمل من السيئات، فاللحظات والأيام والليالي التي تسبق نذر العذاب هي أغلى ما تملكه أي أمة من الأمم أو فرد من الأفراد، فأغلى ما في حياة الإنسان هي تلك اللحظات التي تسبق نذر العقوبة بأن يتوب إلى الله ويستغفره.
إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من كرمه وجوده فتح باب التوبة، لأعدى أعدائه الذين حرقوا أولياءه وشقوا لهم الأخاديد وألقوهم في النار {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} [البروج:10] يفتح باب التوبة لمن يحرق أولياءه المؤمنين الموحدين أحياء في النار، فما بالكم بمن كان ذنبه دون ذلك كالزنا أو الربا أو ما أشبه ذلك من المعاصي؟(21/21)
القيام بتحمل المسئولية
الحل بأيدينا فلا يقل أحدنا: الحل عند فلان، والمسئولية على فلان، فإن من أعظم الأدواء ومن أكثر أسباب انتشار واستشراء أسباب الدمار والهلاك أن نلقي بالتبعة وبالمسئولية على جهة معينة أو شخص معين، حتى مسئولياتنا في البيت قد يلقيها الرجل على الزوجة والأولاد، لا فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {كلكم راع وكلم مسئول عن رعيته} فابدأ بنفسك تجد الحل، وانظر إلى تقصيرك في طاعة الله -عز وجل- وزن نفسك بالميزان الصحيح، فستجد أن ما فيك من الذنوب جدير وحقيق بالعقوبة، وأنك إن تبت إلى الله عز وجل فسوف تجده غفوراً رحيما، وكلنا ذلك الرجل، فعلينا أن نبدأ بأنفسنا، وأن ننظر إلى ذنوبنا، وإلى حال غيرنا من الناس نظرة النصح والإشفاق، لا أن نحملهم كل المسؤوليات ونترك أنفسنا، فالحل هو الاستغفار والتوبة.
قال تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98] لما آمنوا كشف الله تعالى عنهم العذاب، وقد كان وشيك الوقوع.
فنحن والله اليوم يوشك أن يعمنا الله بعذاب، فهذه الأرض، قد امتلأت بالخطايا والفجور والفحشاء بما لم يعهد في التاريخ المكتوب أبداً، فالحل أن نستغفر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وأن نتوب إلى الله: أولاً: من الذنوب الكبار، من الشرك بالله تعالى، فهو أعظم ذنب عُصِيَ الله به، ونخلص في عبادتنا ودعائنا وخوفنا ورجائنا، وإنابتنا وتوكلنا لله رب العالمين، لا شريك له، ثم نتوب من الابتداع في دين الله والقول على الله تعالى بغير علم، والزيادة والنقصان في شريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم نتوب من المعاصي التي زجرنا عنها الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم نتوب إلى ربنا توبة صادقة، ونتبع السيئة الحسنة، سنجد أن الخير والنعمة والرخاء يعود إلينا، ويعمنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالنعيم بعد العذاب.
عندما نقول: الفرد، والمسئولية الفردية، ونؤكد عليه، فإن السبب في ذلك أننا دائماً ننظر إلى أخطاء الآخرين ولا ننظر إلى أخطائنا، فكلٌ منا اليوم أصبح يشكو الوضع الاقتصادي، حتى أصبحت ظاهرة عامة في المجالس، فلماذا بدلت بعد ذلك بالترف والبطر؟ {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال:53] لقد غيرنا، لاحظوا لماذا هذا النقص الاقتصادي الذي حصل؟ لقد قرأت إحصائية لوزارة المالية ووجدت فيها أن المملكة تستهلك من الدخان ما قيمته ألف ومائتي مليون ريالاً سنوياً!! لقد أحللنا بأنفسنا العقوبة، انظروا إلى الأفلام أو أشرطة الغناء، كم يصرف كل إنسان على هذه المعاصي؟ قبل سنوات ما كان هذا الباب يستهلك، والآن كم يشتري كل واحد بالإضافة إلى إيجار المحلات، ومزاحمتها في الأسواق ومنافسة الناس على ذلك صار سبباً من أسباب الغلاء، فهو بسيط لكن له أثر كبير أيضاً.
المشاغل الرجالية التي يذهب إليها النساء أفواجاً وراء أفواج، كم ينفق فيها من الأموال، محلات الأزياء والعطورات، ومحلات التجميل ومشاغل الخياطة، كلها حول شيء واحد، فالمرأة المسلمة لا تتزين ولا تتجمل إلا في البيت لزوجها، فلما عصينا الله عز وجل، وأصبحت المرأة تتزين إذا أرادت الخروج، فكم من الملايين سوف نخسر نتيجة هذه المعصية التي لا يرى كثير من الناس كما أنها معصية، بل معصية خطيرة، ويترتب عليها أضعافاً مضاعفة من الخسارة في الدنيا والآخرة، وهؤلاء الخادمات كم يستهلكن من مال سنوياً؟ وأولئك السائقون كم ندفع لهم سنوياً من الملايين.
ثم نقول: نحن في أزمة! لا والله.
نحن اختلقنا هذه الأزمة، وأوجدناها وأحللنا عقوبة الله بأنفسنا وبأيدينا؛ لأننا لم نتب إلى الله ولم نستغفر الله، وارتكبنا ما حرم الله، لو ألغينا كل هذه الأشياء من حياتنا: لو ألغينا الدخان، ومشاغل الخياطة الرجالية، ومحلات بيع الأغاني، ومحلات الفيديو، والتعامل بالربا والفوائد الربوية، والخادمات الأجنبيات، والسائقين الأجانب وبالذات الكفرة، واقتصدنا في استيراد العمال الكفار من بلادهم، بالله كم من الملايين سنوفر؟ {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} [آل عمران:165] يريد أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] فنحن أولى بهذه الآية، فعلى الإنسان منا أن يكون حسيب نفسه قبل أن يحاسب، وما أكثر ما نحتاج أن نحاسب أنفسنا في هذا.
نسأل الله أن يغفر لنا ولكم أجمعين، إنه سميع مجيب.(21/22)
استقبال شهر رمضان
إن من سنة الله الجارية في خلقه أنه فاضل بين عباده وبين مخلوقاته، وهذا التفاضل لا يكون إلا لحكمة ربانية، وإن من الأزمنة المفضلة عند الله شهر رمضان، فهو شهر الصبر والتقوى والجهاد والكرم، وكان الصحابة يتخذونه متجراً للحسنات وفرصة لرفع الدرجات، ويقبلون فيه على قراءة القرآن والصدقة، والناس في هذا الشهر يتباينون فمنهم من يستغل أوقاته في التزود من الطاعات والقربات، ومنهم من يتردد في الشهوات والمحرمات.
ولعلنا ندرك أن الحكمة من فرض الصوم هو السمو بالنفس وتطهير القلب وتزكيته، فيجب على المسلم استغلال هذا الموسم في تغيير مسار حياته باتخاذ الوسائل المؤدية إلى ذلك كمحاسبة النفس والصبر، والسعي إلى إصلاح الذات، وتغيير مظاهر الفساد المتفشية في المجتمع المسلم في جميع مناحي الحياة.(22/1)
المفاضلة بين المخلوقات
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: إن الله تبارك وتعالى خالق كل شيء، خلق الإنسان، وخلق الملائكة، وخلق الليل والنهار، وهو كما قال عز وجل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68].
فاختار الله تبارك وتعالى من فضَّله على غيره من مخلوقاته.
فاختار محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفضَّله على سائر البشر، وفضَّل بعض النبيين على بعض.
واختار هذا البلد الحرام مكة وفضلها على جميع الأرض.
واختار جبريل عليه السلام وفضَّله على الملائكة.
واختار أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفضلهم على جميع الأمة.
واختار من الأزمان كما اختار من الأمكنة، فاختار هذا الشهر العظيم -شهر رمضان- وفضله على سائر الأيام والشهور.
واختار -أيضاً- من هذا الشهر العشر الأواخر.
واختار من العشر ليلة القدر، فليس في ليالي السنة ليلةٌ هي أفضل من ليلة القدر، وليس هناك من ليالٍ هي أفضل من الليالي العشر.
وأما الأيام؛ فإن أفضل أيام العام أيام العشر الأول من شهر ذي الحجة، فتلك أفضل الليالي وهذه أفضل الأيام، كما رجح ذلك بعض العلماء، ومنهم شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية -رحمه الله- جمعاً بين الأقوال في التفضيل.
وذلك أن لهذه الليالي من ليالي رمضان فضل عظيم اختصت به من حيث العبادات، كما أن أيام الحج امتازت عن سائر الأيام بكثير من العبادات {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68].
والله تبارك وتعالى جعل الليل والنهار يتعاقبان كما قال: {خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] فالإنسان يتبلد إحساسه ويغفل، إذا كان على حالة واحدة، فإذا تغيرت الحالة بحالة أخرى، كان ذلك أدعى إلى أن يفكر ويستيقظ وينتبه!! وجعل الله تبارك وتعالى فصلاً للحر، وفصلاً للبرد، وبين ذلك فصلان؛ لكي يتذكر الإنسان.
قال تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} [الفرقان:62] فهذه ذكرى حاضرة، ثم قال: {أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] أي: أن يشكر الله تبارك وتعالى، والشكر يشمل جميع العبادات والطاعات.
والإنسان لو تأمل في أمر واحد من هذه الأمور لكفى، فلو أن الخلق تأملوا في طلوع الشمس وفي غروبها، وفي إدبار الليل وإقبال النهار، لكفاهم ذلك، ولكانت ذكرى وأيما ذكرى.
لكن القلوب إذا تعودت شيئاً غفلت عنه ونسيته، فقليل من الناس من يُفكر ويعتبر بمرور الليل والنهار؛ لماذا؟! لأنه أمر متكرر، ولكن أولياء الله وعباد الرحمن، ومن كان قلبه معلقاً بالدار الآخرة لا تزيدهم إلا عبرة وعظة، فتتجدد لهم العبر والعظات بتجدد الليالي والأيام.
فما هذه الأيام والليالي إلا رواحل، تنقلنا من دار إلى دار، وتقربنا من دار هي الدار الآخرة، وتباعدنا عن هذه الدار الدنيا، لكن من الذي يستشعر ذلك؟! وكما قال بعض السلف: الأيام والليالي خزائن، فضع في خزينتك ما شئت، فسوف تلقاه.
فإن وضعت ذهباً وفضة، وجدت النهاية هناك ذهباً وفضة، وإن وضعت تراباً أو فحماً أو حصىً، وكذلك فإن الخزائن هناك إذا فتحت تجد فيها ما وضعت، فهذه الليالي والأيام هي بهذه المثابة.(22/2)
مكانة شهر رمضان
وإن الله تبارك وتعالى قد فضَّل هذا الشهر على سائر الشهور، وكان أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وهم أكثر الأمة اجتهاداً وعبادةً واعتباراً واتعاظاً- يقدرون لهذا الشهر قدره؛ تأسياً واقتداءً بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فهذا الشهر هو شهر الصبر وشهر التقوى وشهر الكرم والجود، وإن ديننا هذا يقوم على أمرين: على الصبر وعلى الشكر، وأساس ذلك اليقين، لهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [[الصبر شطر الإيمان، واليقين الإيمان كله]].(22/3)
رمضان شهر الصبر والجهاد
نعم! إنه شهر الصبر؛ لأنه يصبر الإنسان على الطاعة، ويصبر عن المعاصي، فإنه قد يفتن في نفسه وفي شهوته وفي جوارحه؛ فيكف ما كان يستمتع به، كما أمر الله تبارك وتعالى وكما شرع، إلى أن يأذن الله بأن يستمتع ويأكل.
وهو -أيضاً- شهر الجهاد: والجهاد من الصبر، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزا في هذا الشهر غزوتين، هما أعظم الغزوات جميعاً: الأولى غزوة بدر؛ فإن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد خرج من المدينة في الثاني عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، وهو أول رمضان صامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي اليوم (17) منه كان يوم الفرقان، وكانت معركة بدر الكبرى التي خلدها الله تبارك وتعالى في القرآن، ورفع أصحابها على سائر الأمة.
وأما الغزوة الأخرى: فهي فتح مكة المشرفة، هذا البلد الحرام الأمين فتحها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه وكانوا في شدة الحر، لهذا أمرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإفطار شفقة عليهم.(22/4)
رمضان شهر التقوى
وهو كذلك شهر التقوى؛ فالله تبارك وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
فالتقوى هي غاية كل عبادة، كما في الحديث الصحيح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {إن الله تبارك وتعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم}.
فالعبرة في العبادات كلها بالتقوى، وليس مجرد الإمساك عن الطعام والشراب، أو بمجرد الانحناء في الركوع والسجود، أو بمجرد أن يذبح الإنسان أو يحجَّ أو يتصدق كما في قوله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]، فالأساس هو التقوى {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21].
ومن هنا كان اهتمام السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم باستقبال هذا الشهر، وبمعرفة ما يصلح قلوبهم فيه أعظم الاهتمام.
ولو أننا قارنا بين حالنا وحالهم لرأينا العجب العجاب والبون الكبير!! اعلموا أن كل إنسان منا هو في الحقيقة تاجر، وبضاعتك هي عملك الذي تقدمه كل يوم، وسوف تعرف الربح والخسارة إذا نُصبت الموازين يوم القيامة، فهنالك يظهر الرابحون الفائزون، ويظهر الخائبون الخاسرون.
وبما أن كل إنسان منا تاجر؛ إذاً فكيف نتاجر مع الله؟! أقول: إن الله تبارك وتعالى قد جعل لنا -نحن التجار- مواسم للتجارة، وكل أيام العام فيها تجارة؛ لكن هناك مواسم زمانية -كشهر رمضان- تضاعف فيها الأرباح، وتكون التجارة فيها أعظم منها فيما سواها.
وكذلك جعل مواسم مكانية لهذه التجارة، فهناك أمكنة للتجارة أرباحها مضاعفة أضعافاً كثيرة عن غيرها من الأمكنة؛ فالبلد الحرام الطاعة فيه مضاعفة.
فمثلاً: الصلاة في المسجد الحرام ليست كالصلاة فيما سواه لشرف المكان.
وأيضاً: فإن شرف الزمان -كما هو الحال- في شهر رمضان له أثره في أن تكون الطاعة أكثر أجراً وأكثر قبولاً، فجعل الله تعالى هذا الشهر موسماً لذلك؛ ولهذا لما علم الجيل الأول بذلك، ظهر هذا في أعمالهم وفي حياتهم، فقد ورد أن الصحابة الكرام كانوا يدعون الله تبارك وتعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان؛ فإذا صاموه دعوا الله تبارك وتعالى ستة أشهر أن يتقبل منهم رمضان.
فالحول كله تفكير في رمضان واهتمام بشأنه، إما استقبالاً له، وإما رجاءً أن يُتَقَبَّلْ؛ لأنه أشرف ما في العام، فكان الصحابة الكرام يتاجرون طوال العام بالذكر، وبالجهاد، وبقراءة القرآن، وبالصدقة، وبالتفكر في ملكوت السموات والأرض؛ لكن! إذا جاء هذا الشهر؛ ضاعفوا ذلك وغيَّروا طريقة حياتهم، واستقبلوه استقبال البصير العالم بقيمته وأهميته.(22/5)
الاستغلال الأمثل لرمضان
كان العلماء من السلف وهم الذين أناروا للأمة طريقها بسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وببيان الأحكام، وهم الذين قاموا مقام الأنبياء، وورثوا ميراث النبوة، {وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم}.
فهؤلاء العلماء كانوا إذا جاء شهر رمضان، يتركون العلم، ويتفرغون لقراءة القرآن، حتى قال بعضهم: [[إنما هما شيئان: القرآن والصدقة]].
وكان الإمام الزهري رحمه الله تعالى كذلك.
وكذلك كان الإمام مالك، وهو ممن تعلمون منزلته وقيمته واهتمامه بحديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعظيمه له، حتى إنه كان لا يحدثهم إلا وهو على وضوء ويبكي ويتخشع، وكان يقدِّر ويُجل حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ومع ذلك كان إذا دخل رمضان، لم يشتغل بالحديث بل يترك الحديث ويقبل على القرآن.
وكذلك كان سفيان الثوري رضي الله عنه، وغيرهم من السلف كثير، ممن كانوا ينظرون إلى أن هذا هو موسم الخير تترك فيه الأعمال الفاضلة إلى ما هو أفضل منها، فهذا حالهم وهذا شأنهم.(22/6)
الناس في رمضان
لكن كيف يستقبل المسلمون اليوم شهر رمضان؟! لنكن صرحاء ولنبدأ بأنفسنا، وكيف نستقبل شهر رمضان؟! إن الأمة الإسلامية بأفرادها من: (تجار - موظفين - عمال - أصحاب شهوات - أخيار) يستقبلون هذا الشهر فكيف يستقبل التجار هذا الشهر؟!(22/7)
التجار في رمضان
ونقصد بذلك: التجار الذين يتاجرون بالدرهم والدينار، لا بالأعمال؛ كيف يستقبلون شهر رمضان؟! هل يقولون: قد جاء شهر الخير والبركة، فلنتصدق ولنؤد الزكاة، ولنحذر من الحرام، ومن الغش، ومن الربا؛ لأننا في شهر عظيم، وإذا صمنا دعونا الله تبارك وتعالى، ونحن نأكل الحرام من أي مصدر كان! فيكون حالنا كحال ذلك الرجل الذي ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام؛ فأنى يستجاب له؟!}.
وأعجب من ذلك أن بعض التجار ينتهزها فرصة؛ لزحمة الناس ولكثرتهم ولإقبالهم على المطعوم والمشروب وسائر الكماليات؛ فينتهزها فرصة للغش في شهر رمضان، وقد يأتي الغش بألوان متعددة.
فمن الغش: التخفيضات الكاذبة.
ومن الغش أيضاً: إخراج البضاعة التي تقادم عهدها وانقضى أوانها، فيقول: هذا رمضان والناس تشتري ولا ترى!! اخرجوا كل ما في المستودعات وبيعوا منها!! فيكون موسماً للغش، وموسماً للتجارة الخاسرة في الدنيا والآخرة.(22/8)
أصحاب الشهوات والعصاة في رمضان
وأما الشهوات فماذا نقول عنها؟ فما من شهر تتوالى النذر فيه عن قلة الطعام والشراب أو احتمالها كشهر رمضان؛ ولهذا يسعى الناس بطمع وشره ليكون المخزون كافياً في شهر الصوم! وكل منا يشفق ألا يجد في رمضان ما يكفيه من بعض المؤن.
ولهذا نستعد من أول شعبان أو في آخره، لنجمع أكبر ما نستطيع أن نتزود به لرمضان، حتى إن البيت الواحد قد يشتري ما يكفي لثلاثة بيوت؛ لماذا؟! لأنه شهر تعارفنا أنه ربما نقصت فيه المؤن، مع أن المخزون كافٍ والأمر متيسر، وكل البضائع من ضروريات وكماليات متوافرة في شهر رمضان، وكأننا مقبلون على شهر مأمورون فيه أن نعبَّ من الشهوات عباً، وأن نملأ البطون كل ساعة وكل حين.
وليس هو شهر الصيام الذي كان يستقبله الصحابة الكرام بالفرح، حتى إن الفقراء وأصحاب الحاجة كانوا يُسَرُّون في رمضان؛ لأنهم يجدون أنهم هم والأغنياء سواء.
أما الآن فالفقير يزداد حسرة على حسرة؛ لأنه ينفق في غير شهر رمضان (1000) ريال، فيضطر أن يستدين في رمضان، ويقول للتجار: (أقرضوني! جاء رمضان وليس عندي شيء) لأنه سينفق بدلاً من الألف ألفين أو ثلاثة، وإلا ذهب هو والعيال في حسرة مما يرى الناس يتفننون فيه بأنواع الأطعمة، وهو على التمر والخبز كأنه في الفطر! فهذا واقعنا.
وأشنع من ذلك وأشد أصحاب الشهوات المحرمة!! فرمضان عند أصحاب الشهوات المحرمة فرصة وموسم كبير، يستعدون له قبل رمضان بأشهر؛ فأصحاب السهرات يفكرون أين تكون الجلسات والسهرات في رمضان؟! وأصحاب الإجازات يقولون: نأخذ الإجازة في رمضان ونغادر إلى خارج البلاد؛ لنلعب بالشهوات كما نشاء.
وأما وسائل الإعلام -ولأننا نريد الشهوات، ولأن فيها من يريد أن نتبع الشهوات- فيُستقبل هذا الشهر عندهم بأخبث المسلسلات والتمثيليات وأطول السهرات، وكذلك في الصحافة فأينما ذهبت تجد الكل -إلا ما رحم ربك- لا يشتد إلا إلى الشهوة الحرام وإن لم يكن إلى ذلك؛ فهو إلى الشبع وإلى النوم والكسل!! فيتعاون علينا شياطين الجن وشياطين الإنس ليضيعوا منا هذا الموسم العظيم، إلا ما رحم ربك وقليل ما هم.(22/9)
الاستعداد لرمضان
متى نستقبل هذا الشهر العظيم كما استقبله أولئك الجيل الذين اصطفاهم الله تبارك وتعالى على جميع الأمم؟! لا بد أن نسأل أنفسنا هذا السؤال وأن نعد الإجابة؛ فإن كنا حقاً نريد أن نغتنم أوقات الخير وفرصه ومواسمه، وأن نتاجر مع الله تجارة رابحة فلنعمل كما عملوا والطريق أمامنا ميسر، ولله الحمد.(22/10)
الاستعداد بالإيمان
فلنستعد لشهر رمضان بإيمان صادق بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد تقولون: نستعد بالإيمان! أولسنا مؤمنين؟! نحن مؤمنون -إن شاء الله- ولكن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء:136] فنؤمن بالله، أي: نجدد هذا الإيمان في قلوبنا، ونجدد توحيدنا، وننقي قلوبنا من الشوائب كالرياء والنفاق.
فأول ما نفتش عنه ليس البطن وماذا نعد له؛ وإنما القلب وماذا نعد له؛ وكيف يكون هذا القلب في هذا الشهر العظيم.(22/11)
الاستعداد للصوم الحقيقي بترك المحرمات والمنكرات
فالصيام الذي هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، كل المسلمين يشتركون فيه، لكن الصيام الحقيقي الذي يجب أن نعد أنفسنا له، ونوطن قلوبنا عليه: هو أن نطهر قلوبنا وأن نزكيها وأن تكون هذه القلوب بعيدة عما حرم الله تبارك وتعالى؛ فإذا كان الشرك والرياء والنفاق وما أشبهها كبائر ومصائب في الفطر، في شعبان أو رجب؛ فهي في رمضان أعظم، وأعظم! فلنستقبل هذا الموسم بقلوب خالية من ذلك، وإذا كان الغش والغل والحقد والحسد للمسلمين والشحناء والبغضاء والعداوات بين الإخوان والأرحام والزملاء والجيران حراماً في سائر العام وهي كذلك؛ فهي في رمضان أشد حرمة.
فيجب أن ننتهز هذه الفرصة لنترك هذه المحرمات التي تشغل قلوبنا وتأكل حسناتنا؛ فإذا كان النظر إلى المرأة الأجنبية محرماً في سائر العام، فكيف يستحله الصائم في الليل أو في النهار؟ وإذا كان قبيحاً أن تجعل موسم الطاعة كغيره في الطاعة، فكيف إذا جعلنا موسم الطاعة موسماً للمعصية؟! إن ذلك لأقبح القبح!! فإذا لم يصم القلب عن الشهوات المحرمة، ولم تصم الأذن عن سماع الحرام، وأكثر المسلمين لا تصوم آذانهم لا في رمضان ولا في غيره، وكيف تصوم الأذن ومزمار الشيطان: (المعازف والموسيقى) لا يكاد يخلو منها بيت، ولا سيارة؟! وهل صامت عيوننا؟! وكيف تصوم، والإنسان لا يكاد يفطر إلا ويمتد بصره إلى تلك المناظر المحرمة؟! بل ولربما امتدت السهرات إلى وقت السحر أو طلوع الفجر!! ثم بعد ذلك يكون الموت ويكون الخذلان!! كيف يكون حال أسواقنا في هذا الشهر العظيم؟ إنما تعمر بما لا تعمر به في سائر الأيام، ويا ليت أنها تعمر -فقط- بالبيع والشراء! ولكن بالمعاصي والتبرج والسفور والاختلاط المحرم، وبالغش والنجش وبما لا يرضاه الله تبارك وتعالى، حتى إن الإنسان إذا رأى هذه المناظر، لا يصدق أنه في رمضان وأنه في أمة الإسلام!! ولو كنا نستقبل هذا الشهر استقبال المؤمنين الأوابين، لكان أول ما يخف ويقل حتى يكاد يتلاشى هو الأسواق، فاللائق أن يقل إقبال الناس حتى على شراء المباحات، لماذا؟ لانصرافهم إلى اغتنام هذه الأوقات للعبادة، ولكن ليالي رمضان تشهد من الحركة ما لا يشهده سائر العام!!(22/12)
من آثار الاستخفاف برمضان
أولاً: لا نجد الصبر ولا نجد التقوى كما ينبغي لنا وكما أمرنا الله تبارك وتعالى، وإن شئتم أن تروا دليلاً واضحاً أن هذه الأمة لا تقدر رمضان حق قدره، وأنه يجب علينا أن نأخذ بأنفسنا وبإخواننا المسلمين إلى طريق الخير ونذكرهم بذلك، فانظروا إلى حالنا قبل رمضان وإلى حالنا بعد رمضان، وإن شئتم أن أحدد، فانظروا إلى حال هذه الأمة أيام العيد؛ فإن علامة قبول الطاعة الاستمرار فيها، وعلامة ردها أن تعقب بمعصية.
ثانياً: لو كنا نستعد لرمضان ونستقبله استقبال المؤمنين الأوابين، لظهر أثر ذلك فينا في رمضان؛ ولو كنا نصوم رمضان كما يجب أن يكون؛ لظهر أثر ذلك فينا فيما بعد رمضان، ولكن لا هذا ولا ذاك، فيأتي العيد فكأنما كان رمضان عقالاً ففك، فلننطلق ولنفعل ما نشاء!! والذين كانوا في ليالي رمضان يفرحون ويمرحون في الأسواق، ويتركون زوجاتهم وبناتهم يتبرجن فيها ويغفلون، يزدادون أيام العيد، وأعجب من ذلك أن الذين كانوا يقرءُون القرآن ويصلون التراويح، تجدهم في أيام العيد مشاركين لأولئك، وكأنهم منهم، وحالهم كحالهم.
والغريب من الناس: من تراه في أيام العيد محافظاً على ما أمر الله، ومتمسكاً بالمقدار نفسه من التقوى، أو بقريب منه كما كان حاله في رمضان، فأين أثر القرآن؟! وأين أثر التراويح والقيام؟! وأين أثر الصيام؟! إنه أثر قليل، وربما كان معدوماً.
إذاً يجب أن نعلم أننا ما دمنا كذلك؛ فإن واقعنا هذا لن يتغير أبداًَ، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]، فالمسلمون اليوم أذل أمم الدنيا جميعاً؛ وفي الفقر هم أفقر شعوب العالم، ولهم حظ وافر من المرض والجهل ومن كل مصيبة؛ مع أن القرآن والسنة بين أيديهم، ومواسم الخير تمر عليهم وتأتيهم، لماذا؟! لأنهم لم يغيروا ما بأنفسهم؛ فلو صاموا حق الصيام لتغيرت حياتهم لو حجوا حق الحج لتغيرت حياتهم، ولتبدل هذا الذل عزاً ونصراً؛ ولأَعقَبَ هذا الخذلان توفيقاً وسداداً؛ ولانتقلنا من هذا الهوان والجوع والفقر والمرض، إلى العزة والعافية والقوة والتمكين؛ كما كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، فالصوم الذي هو الإمساك عن الطعام والشراب هو هو، لم يتغير في الجيل الأول ولا في هذا الجيل، لكن أين القلوب من القلوب؟! وأين الأعمال من الأعمال؟! وأين الصيام من الصيام؟!!(22/13)
الصوم الحقيقي وآثاره
لم لا نفتش هذه القلوب؟! فنحن ما نزال في فسحة، ولم يدخل الشهر بعد، وأمامنا الفرصة.
ولم لا نفتش أموالنا: أهي من حلالٍ أم من حرام؟! ونفتش أسماعنا: أتسمع الحلال أم الحرام؟! ونفتش أبصارنا: أترى الحلال أم الحرام؟! ونفتش أيدينا وأرجلنا؛ نفتش علاقاتنا: كيف علاقتنا مع أهلينا وزوجاتنا؟! كيف علاقتنا مع آبائنا وأمهاتنا؟! كيف علاقتنا مع جيراننا، ومع أرحامنا، ومع من ولانا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم من موظف أو عامل أو طالب منهم تحت أيدينا؟ هل هي كما يرضي الله عز وجل؟! أين التقوى والصبر إن كنا - كما هو حال كثير من المسلمين- إذا جاء نهار رمضان امتنع عن التدخين، فإذا أذن المؤذن ربما بدأ بعضهم بالتدخين قبل التمر أو الماء!(22/14)
الصبر وحلاوة الإيمان
أين الصبر وأنت تضيع موسم الصبر؟ فلو صبرت عن هذه المعصية الحقيرة؛ لكان لك في هذا الموسم عبرة وعظة، ولانتصرت على أمور أكبر!! أين الذي يقول: كنت أرى هذه التمثيليات أو المسلسلات وأرى فيها النساء في غير رمضان؛ أما الآن وقد أطل رمضان فلن أرى في رمضان وفيما بعده شيئاً من ذلك أبداً؟ نعم! هذه عزيمة تحتاج إلى صبر، وليست مما يفوت على الإنسان شيئاً، وما الذي يفوتك إن فعلت ذلك؟! فماذا علينا لو آمنا بالله؟! وماذا علينا لو كففنا أعيننا وجوارحنا عما حرم الله؟! بل إن هذا من الفوز بالدنيا والآخرة {النظرة سهم من سهام إبليس من تركها خوفاً من الله آتاه الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه} كما جاء في الحديث.
فإذا غض الإنسان بصره عن الحرام إيماناً ويقيناً بأن هذا حرام، وامتثالاً لأمر الله القائل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] {آتاه الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه} وليس في هذه الدنيا قط حلاوة أعظم من حلاوة الإيمان؛ فهي التي إذا ذاقها الإنسان وطعمها ينسى حلاوة كل شيء، فقد ذاق الصحابة الكرام حلاوة الإيمان؛ فرأينا منهم العجب العجاب! أراد صهيب أن يهاجر وجاء أهل مكة ليمنعوه، فتحرك قلبه بالإيمان وتعلق بـ المدينة، وتعلق برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فشرى نفسه منهم بماله كله في مكة، ولسان حاله يقول: خذوا كل ما أملك ودعوني بهذا الجسد الذي لا شيء عليه؛ لأذهب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكذلك سلمان رضي الله عنه الذي أخذ يسأل الأحبار والرهبان، يريد أن يعرف من هو نبي آخر الزمان، حتى رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فآمن به وصدقه، فكل لذات الدنيا ونعيمها لا يساوي أن تذوق طعم ولذة الإيمان! والصحابي الذي كان يقرأ القرآن فذاق من طعم القرآن ومن حلاوة الإيمان ما شغله عن السهام وهي تخترق جسمه سهماً بعد سهم، وهو واقف منتصب لم يكفَّ عن قراءة القرآن؛ وكل إنسان يمكنه أن يجد من مطعومات الدنيا ومشروباتها ما يشاء، لكن طعم الإيمان فضل يختص الله به من يشاء.(22/15)
التغيير ومحاربة الفساد
لا بد أن نكف أعيننا عن مشاهدة هذه المناظر الخبيثة السافلة الهابطة، التي لو أن هناك أمة من الأمم الجادة العاقلة حتى من لا دين لها؛ فلن ترضى أن ينغمس شبابها فيها؛ فكيف بأمة القرآن وأمة الإيمان وأتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! الأمة التي قال الله عنها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110].
فواجب هذه الأمة أن تحارب الفساد والانحلال في أمريكا، وفي روسيا، في الشرق وفي الغرب؛ فكيف تعرضها وترضى بها وتراها وتسمعها؟! حتى إن الشاب الغريب الْمُسْتَنْكِر الذي لا يراها!! يُلمز ويقال عنه: (عجيب! ماذا لديه؟) (هذا عجيب! لقد تاب) ويستنكر منه -أيضاً- حتى في أوقات الخير وفي مواطنها!! فنحن إذاً لسنا أهلاً لأن نتاجر مع الله -في مواسم الخير هذه- ونحن على هذه الحال!(22/16)
مدرسة رمضان
هذه أيام تمضي شاهدة لنا أو علينا، والحجة قائمة، وإن كانت في أي مكان قائمة؛ فهي في هذه البلاد أكثر قياماً، ونحن إن شئنا الحق فهو موجود.
والمسلمون في بعض البلاد يريدون أن يقوموا بما يفرض عليهم، فيفرض عليهم ألَّا يفعلوا، فيريدون -مثلاً- أن يقرءوا القرآن، أو فعل أي عمل آخر ويفرض عليهم ألَّا يعملوا.
وأيضاً: كيف يقومون بذلك وهم لا يجدون العلم الصحيح ولا يجدون الدعوة الصحيحة؟ وأما نحن فمن فضل الله علينا أن العلم -عندنا- والوقت والمال والأمن كله موجود، وكل ما يوفر لنا العبادة متيسر وموجود، وحلقات الذكر موجودة، وتعليم القرآن متيسر، وإن كان في بعضها شيئاً من المشقة.
وكما أننا في مواسم الدنيا قد نسهر ولا ننام فلنكن كذلك في مواسم الخير؛ فالحجة قائمة، والعلم بين أيدينا ظاهر، فما من حرام حرمه الله ورسوله ونرتكبه إلا ونحن نعلم أنه حرام، لهذا نخشى العقوبة؛ لأنه لا حجة لنا عند الله ولا عذر لنا بين يدي الله، فإننا نسمع العلماء في الإذاعة وفي الأشرطة المسجلة، وإن شئنا اتصلنا بهم بالهاتف ليفتونا ويعطونا الأدلة.
فأين نحن من العمل؟! إذاً فهذا محك واختبار، فلنختبر أنفسنا -قبل أن يأتي هذا الشهر- ولنعدها، فالفرق بين المؤمنين والمنافقين: أن المؤمنين يعدون العدة وقد لا يبلغون ما يريدون، أما المنافقون فإنهم لا يعدون العدة؛ ولهذا قال الله تعالى عنهم: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:46] فالمنافقون لو كانوا -حقاً- يريدون الخروج، لأعدوا له العدة؛ ولذلك فإن نفاقهم يظهر في عدم إعدادهم للعدة.
ونحن إذا أعددنا العدة بأن نطيع الله في هذا الشهر، وأن نتقي الله فيه، وأن نبعد أنفسنا عن كل ما حرم الله، ونجعله فرصة لنطيع الله طوال العام وإلى أن نلقى الله؛ فإذا عزمنا على ذلك؛ وفقنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ وكان هذا من صدق الإيمان ومن صدق الاستقبال لهذا الشهر الكريم؛ وإذا أخلفنا ولم نُعِدَّ العدة؛ فمهما منَّينا أنفسنا؛ فإننا لن نحقق إلا الخسارة، ولا خسارة أكبر من أن يخسر الإنسان نفسه ووقته ويجوع ويعطش، وغاية ما فيه أنه أجزأه هذا الصوم.
مع أن بعض الناس قد لا يجزئه صومه إذا ارتكب ما يفسد إيمانه، كالشرك بالله، وكالنفاق الكلي؛ فهذا يفسد الإيمان كله ويحبطه كله، لكنَّ ما يُنغص الصيام من المعاصي والشهوات، وتعلق القلب بالمحرمات، إن لم يحبط الأجر كله؛ فإن أعلى ما يحصل عليه صاحبها؛ أن يسقط عنه فريضة الصوم، فإذا نظرت بعد ذلك إلى الذي عمل واجتهد، فادَّخر عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعظم الذخر، فأعتق من النار، ورُفِعَتْ درجته عند الله؛ علمت أنك في خسارة وغبن وتفريط! وهي أيامٌ وليالٍ مرت بك وبه، ولكن شتان بين حالك وحاله!! وأكرر النصح والوصية لي ولكم؛ بأن نتقي الله تعالى في رمضان وفي غير رمضان، وأن نعد العدة في استقبال هذا الشهر العظيم بإيمان صادق، وإخلاص لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وعمل صالح، وتجارة رابحة مع الله تبارك وتعالى، وأن نكف أنفسنا عمَّا حرم الله، وأن نأمر بالمعروف، وأن ننهى عن المنكر، وأن نكون رسل خير وهداية مذكرين واعظين لإخواننا المسلمين بما قد لا يعرفونه عن حرمة هذا الشهر وعن فضله وخيره.
نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يتقبل منا ومنكم وأن يتوب علينا وعليكم.(22/17)
الأسئلة(22/18)
الصوم كفارة للذنوب
السؤال
فضيلة الشيخ: يستدل بعض الناس بحديث أبي هريرة الصحيح {الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر} على أن صغائر الذنوب تمحى بدون توبة منها؟ فما مدى صحة هذا الرأي؟ وما قولكم لمن يرتكب الصغائر ولا يتوب منها ويحتج بهذا القول؟ وما التوفيق بينه وبين حديث {إياكم ومحقرات الذنوب} نرجو التوضيح والله يحفظكم؟
الجواب
الحديث صحيح وهو من البشائر للمؤمنين، لكن كيف نفهمه حق الفهم؟! فكل بني آدم خطَّاء، والصغائر لا يكاد يسلم منها أحد، لهذا جعل الله تبارك وتعالى الصلاة إلى الصلاة، ورمضان إلى رمضان، والجمعة إلى الجمعة مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر، أي: إذا لم تؤت الكبائر.
فالصالحون المؤمنون لا يزنون، ولا يسرقون، ولا يكذبون، ولا يرابون، ولا يسمعون الغناء؛ لأنها محرمات ظاهرة وكبائر واضحة، لكن قليلاً منهم من يسلم من نظرة ومن سيئة من الصغائر التي قد لا يلقي لها بالاً من غمزة أو همزة، أو كلمة أو حركة، لا يلقي لها بالاً.
فإذا اجتهد الإنسان، وأدَّى الصلاة بقنوت وخشوع، وحضر إلى الجمعة، وصلاها كما ينبغي، وصام على الوجه الصحيح وكما ينبغي له أن يصوم؛ صيام المتقين والصابرين، فإن ذلك يكفر عنه هذه الذنوب، وهذا من فضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
أما أن يفعل معصية ويقول: صغيرة وقد تكون كبيرة ثم يصر عليها، مع أن الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة ثم يقول: {الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن} فهذا خارج عن الحديث وعن مقصوده.
والإنسان إذا اتقى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فإنه يضع الأمور في مواضعها؛ فالإصرار على أية معصية صغيرة يجعلها كبيرة، ومحقرات الذنوب يجب أن تجتنب كما أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما مثلها إلا كما أشار صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كمثل رجل أتى بعود من هنا وعود من هنا وعود من هنا ثم أشعلها وإذا بها نار تضطرم}.
ولا تعارض في الحقيقة بين هذه الأحاديث؛ وإنما الخلل في فهم الناس وفي تصورهم لحقيقة المعصية وحقيقة الصغيرة والكبيرة، وعلينا دائماً أن نتذكر مواعظ السلف حينما قالوا: [[لا تنظر إلى صغر المعصية وانظر إلى عظمة من عصيت]].
ونضع نصب أعيينا قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8].(22/19)
السنن المؤكدة في رمضان
السؤال
ما الأعمال التي ورد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفعلها ويحرص عليها في رمضان مما ورد في السنة الصحيحة؟
الجواب
أعظم شيء هو قراءة القرآن فقد {كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتيه جبريل في شهر رمضان فيدارسه القرآن} كما قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185].
ثم الصدقة فقد {كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان}.
وكذلك الاعتكاف، إذ كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتكف العشر الأواخر من رمضان.
وكذلك القيام وصلاة التراويح، فقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصليها وأصحابه من بعده.
فهذه أهم وأبرز ما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعمله ويواظب عليه؛ إضافة إلى ما ذكرنا من الصبر، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه كانوا يعرفون أن رمضان شهر الصبر، وكان صبرهم عظيماً على أعباء الدعوة إلى الله، وعلى أعباء الجهاد، وعلى طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله، فكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يبلغون من الصبر غايته في شهر رمضان الذي هو شهر الصبر.(22/20)
أثر الذنب في رمضان
السؤال
أفتنا يا سماحة الشيخ في حكم مشاهدة الأفلام والتلفاز في نهار رمضان، ولعب الميسر، وسماع الأغاني، وليس هو بوقت الإمساك عن الطعام والشراب؟
الجواب
أشرنا إلى ذلك، والقضية هي قضية الإيمان والقلوب، هذا القلب إن شُغِلَ بالحق؛ أثمر ذلك طاعات وعبادات وخيراً وبركةً في جميع الأعمال، وإن شُغِلَ بالباطل واللهو واللعب؛ أثمر ذلك ذنوباً وإجراماً وقبائح وشنائع.
وهل رأيت أحداً ممن يديم مشاهدة هذه المحرمات وسماع الأغاني، هل رأيته خاشعاً أواباً لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟! أم أنك لو رأيت مجرماً محترفاً وسألت عن حاله؛ لوجدته مدمناً لهذه المحرمات.
فثمرة كل شيء بحسبه، وهذه القلوب جعلها الله تبارك وتعالى مقراً ومستودعاً للإيمان به ولذكره؛ فأشرف ما في الإنسان قلبه، وأعظم وأشرف ما يُشْغَلُ به هو معرفة الله، وتقوى الله، والتعلق بالله، والتفكر في خلق الله، وفي أمر الله؛ فجاء شياطين الإنس والجن فأشغلوه بالملهيات وبالمغريات في رمضان وفي غير رمضان، فتعلقت قلوب الناس بالشهوات.
حتى قرأنا قبل أيام من يطالبون ونحن في استقبال شهر رمضان أن توجد مسارح، وأن يكون فيها نساء، وقالوا: ما دمنا نرى المرأة في التلفاز والفيديو فلماذا لا نراها على المسرح؟! يريدون أن يكون في المدن الرئيسية وفي النواحي من هذه البلاد الطاهرة مسارح تتبرج بها النساء؛ والحجة (أننا نراها في التلفزيون والفيديو!) فمن الذي أحل هذه المنكرات في التلفزيون حتى تستدلوا بذلك على حلها في المسرح؟! أقول: استمراؤها واستمرارها وقلة إنكارها في التلفزيون والفيديو جعلها حجة لمن يريدها في أي مكان آخر!! فهذه المنكرات الظاهرة من أعظم ما يجب على الإنسان أن يُخلِّص منها بيته، ويُطهر منها قلبه وعينه، وإن كنا صادقين مع الله، وإن كنا نخاف الله ونتقيه؛ فيجب أن نطهر أنفسنا وبيوتنا وأزواجنا وبناتنا وأولادنا من هذه الآثار والملاهي الخطيرة؛ لأنها تدمر الأمة وتدمر المجتمع.
ولا تقولوا: المسئولية في هذا على المسئول عن التلفاز أو عن الإذاعة أو عن الأغاني؛ فالمسئولية على الجميع، وكل ما يقدم فإنه يقدم باسم المشاهدين؛ لأن أكثر الناس يريدونها وإن كانت أفلاماً محرمة، وإن كانت من النكت التي قد يكون فيها تعريض بالدين أو استهزاء واستخفاف.
فلماذا يُعمَّر هذا الشهر العظيم بهذه الأمور التي أقل ما فيها أنها لهو تُصْرِف عن القرآن؟! قالوا: لقد صام الناس وتعبوا، ويريدون؛ فمن من الناس اتصل وأنكر هذه الأمور؟ فتأكدوا أن أي شيءٍ ينكره -في يومٍ واحد- ثلاثون أو عشرون (فهذا يتصل بالتلفون، وهذا يكتب خطاباً) تأكدوا أنه يُغير، وقد غُيِّرت بعض الأفلام لما استنكرها هذا وهذا وذاك؛ لكن لما استمرأناها جميعاً وسكتنا، وأصبحنا نقول: اللوم على من يعرضها، ولئن سألت من يعرضها، لقال: أنا أعرض ما يريد الناس، والناس ساكتون.
إذاً فالمسئولية على الجميع، وأنت الذي تأخذ بنفسك.
ولو بقي الأمر في حدود ما يعرض عامة لقلنا ربما؛ ولكن! أليس الناس يشترون اللهو كما يشاءون، ويشترون الأفلام والأشرطة كما يشاءون؟! وفيها من الفساد غير ما يعرض عرضاً عاماً على الناس! فالاستعداد لدينا للشهوات موجود.
لكن إذا سُئلنا، قلنا: يا أخي! ماذا نعمل؟ قال: الحق على الذي يعرضها، وكأننا مجبورون، وكأننا شددنا بالسلاسل، وربطت أعيننا وقيل: انظروا ولا بد أن تنظروا، من الذي قال ذلك؟! فإن أي أمر من المنكرات أو من الشر إذا عزفنا عنه وتركناه؛ فإنه يموت بذاته، ويحترق بذاته؟! ولذلك فإنه لو عُرضت شرور أكبر وشبهات أعظم على هذه الأمة؛ لأقدموا عليها.
لكن نحمد الله أن هناك موانع كثيرة تحول دون كثير من الشهوات، وإلا لرأينا الإقدام عليها يفوق التصور؛ لأن الاستعداد في القلوب موجود، ولا أحد يخفى عليه حرمة الأفلام هذه أو الميسر أو الأغاني في كل شهر وحين، وهي في رمضان أشد وأغلظ كما ذكرنا.(22/21)
طريقة مثلى للاستفادة من شهر رمضان
السؤال
نريد من فضيلتكم أن تجعل لنا طريقة مثالية نقضي بها وقت رمضان من أول اليوم إلى آخره؟
الجواب
ليس هناك من طريقة أفضل من طريقة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحبه والسلف الصالح، فنُعمر النهار بالصيام -صيام الجوارح وصيام القلب- وبقراءة القرآن ومدارسته، ونُعمِّر الليل بالقيام، ونترك لهذه النفوس أوقاتاً للراحة، وكلٌ بحسبه.
لا أستطيع أن أقول: ضعها أربع ساعات أو ثلاث، فكل إنسانٍ بحسبه وبقدر طاقته واجتهاده؛ فهو موسم خير، ومن أراد أن ينافس فلينافس كما يشاء، فليس هناك من صورة محددة بذلك، وإنما أكرر على أمر هو أعظم ما في هذا الشهر -كما رأينا من سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن سيرة السلف - (وهو القرآن) حتى قال بعض العلماء: 'إن ختم القرآن في رمضان لا يكره في أقل من ثلاث كما في بقية الشهور'.
ففي رمضان من استطاع أن يختمه في أقل؛ فليفعل.
وقال بعض العلماء: 'إنه شهر القرآن وشهر التفرغ للعبادة'.
فالمقصود أن أهم عمل يشغل به الإنسان نفسه آناء النهار هو قراءة القرآن، ففي الصلاة سيصلي جماعةً، ويسمع القرآن، وفي الحقيقة كأن الشهرَ كله شهرُ قرآن، ولابد أن نتفكر فيما نقرأ وفيما نسمع؛ لأنها فرصة عظيمة أن نسمع كتاب الله كاملاً مرة أو مرات في شهر واحد، فنعرف ما نهى الله عنه في كتابه، وما حذَّر منه، وما أمر وأوصى به؛ لأن هذا القرآن خطاب لنا فأُنزل لنا ليخاطبنا الله به، وليس مجرد آيات تسمع بالآذان، ونقول: صلينا أو سمعنا.
فاعتبر كل ما تقرأ أو تسمع خلف الإمام خطاباً من رب العالمين إليك، ثم انظر كيف مقامك من هذا القرآن، وكيف منزلتك في التعامل مع ربك من خلال كلامه الذي أنزله، والذي أمرك أن تتبعه وتؤمن به.
هذا ما أوصي به نفسي وإخواني: وأسأل الله لي ولهم القبول.(22/22)
حكم الصوم بلا صلاة
السؤال
أخي لا يصلي ولكنه يصوم، فهل يصح صومه؟ وفي بعض الأحيان يساعدني ببعض النقود فهل يجوز أخذ النقود منه؟
الجواب
أما بالنسبة لصيام من لا يصلي فلا يُقبل منه؛ لأن ترك الصلاة كفر مخرج من الملة، وتارك الصلاة بإطلاق مرتد كافر، والكافر لا عمل له، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23].
وصيامه ليس عن إيمان، وإنما هو عن عادة وعن مسايرة للناس؛ ولو صام عن إيمان لما ترك الصلاة قط؛ والأدلة على كفر تارك الصلاة مشهورة معلومة؛ وقد روى اثنان من الصحابة وواحد من التابعين أن الصحابة الكرام أجمعوا على أن تارك الصلاة كافر.
أما بالنسبة للمال والنقود: فإن كان هذا الأخ لا يجد نفقة إلا عن طريق أخيه الأكبر، أو والده الذي لا يصلي؛ فإنه يأخذ منه ولا حرج عليه إن شاء الله تعالى، فذلك له ذمته وعليه وزر ترك صلاته، وعليه -أيضاً- وزر هذا المال الذي يتنعم به ولا يطيع ربه.
وأما هذا فلا حرج عليه إن شاء الله، ولكن إن استغنى فهو خير له حتى يكون إنفاقه على نفسه من كسب يده، فإن أخذه للمال منه قد يجعله يقصر في دعوته، أو أمره بمعروف، أو نهيه عن منكر؛ ولا شك أن من ينفق عليك، فإنك ترى أن له عليك حقاً وفضلاً فتغض عن كثير مما ترى وتعلم.(22/23)
نوم الصائم
السؤال
كثير من الناس ينام كثيراً في رمضان، ويقول: النوم في رمضان عبادة هل هذا صحيح؟
الجواب
بعض الناس يقول: النوم في رمضان عبادة؛ وبناءً عليه؛ فإنهم ينامون أكثر النهار.
فينبغي لنا أن نعرف كيف يكون النوم عبادة؛ وما معنى أن النوم عبادة؛ لأن هذا مما يُبتلى به عامة الناس، أو أكثرهم في واقعنا الحاضر.
فالنوم يكون عبادة في رمضان وفي غير رمضان، إذا احتسب الإنسان نومته كما يحتسب قومته؛ وذلك بأن ينام ليستعين بهذا النوم على طاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ومن قال من السلف: 'نوم الصائم عبادة ما لم يغتب' فإن مراده به أن الصائم إذا لم يغتب؛ أي: إذا كف لسانه عما حرم الله، فنام؛ فهو مستمر في الطاعة.
يعني: إذا صلى الإنسان الظهر وهو صائم، ثم نام بعد صلاة الظهر -مثلاً- إلى العصر، فإنه مستمر في العبادة التي هي الصيام، ثم استيقظ إلى المغرب -مثلاً- فهو صائم، فالصائم النائم صائم، فهو إذن مستمر في العبادة؛ هذا بالنسبة للنهار.
وأما الليل: يحتسب النوم؛ ليستطيع أن يقوم وأن يصوم أيضاً؛ فيكون في هذه الحالة في عبادة؛ فليس المقصود أن الإنسان في رمضان ينام ويضيع أكثر الوقت في النوم، ويقول: النوم عبادة، وهو مفرط ومضيع لقدر هذا الشهر ومفرط في قراءة القرآن، وفي الذكر، وربما أدى التفريط إلى أن يتخلف الإنسان عن الصلوات!! وإنما المقصود أن الصائم إذا نام فإنه لا تنقطع عبادته بالنوم؛ وهذا فضل من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو مستمر في العبادة ومتلبس بها في حال اليقظة وكذلك في حالة النوم، ومتى يكون النوم؟! أقول: للحاجة وللاستعداد بالاستعانة به على الطاعة.(22/24)
الإفطار في السفر
السؤال
ما حكم الإفطار في رمضان في السفر؛ مع أن ذلك ليس فيه مشقة عليَّ في نظري؟
الجواب
العلماء -رحمهم الله تعالى- اختلفوا في هذه المسألة: هل الإفطار أفضل أم الصوم أفضل؟ والذي يترجح إن شاء الله، أنه بحسب حال الإنسان، فقد يكون الصوم أفضل، وقد يكون الفطر أفضل؛ فمن وجد شيئاً من المشقة أو الحرج؛ فليعلم أن الله يحب أن تؤتى عزائمه ورخصه كما يكره أن تؤتى معاصيه.
ومما يحبه الله: (أن تؤتى رخصه) فليأخذ برخصة الله تعالى، وأما إذا اشتد عليه الجهد والمشقة فإنه يحرم عليه أن يصوم؛ ولهذا أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صاموا واشتد عليهم ذلك بالفطر أمراً، كحال الرجل الذي كانوا يُظللونه من شدة الحر؛ لأنه كان صائماً.
ففي هذه الحال لا يجوز الصيام، وأما من لم يكن عليه في ذلك أدنى حرج ولا مشقة، والأمر بسيط في حسه وفي نظره، فإننا لا نستطيع أن نلزمه بأن يفطر، فليصم إذا أراد ولا شيء عليه إن شاء الله، بل له الأجر كاملاً كما لو كان مقيماً.(22/25)
حكم الأكل بعد أذان الفجر
السؤال
ما حكم الأكل عند الأذان لإعلان الفجر، مع علمي بأنه الأذان فأكلت وشربت، فهل في ذلك بأس؟
الجواب
الصائم أُمِرَ بالإمساك عن الطعام والشراب إذا طلع الفجر، فلهذا إن كان المؤذن لا يؤذن إلا وقد طلع الفجر، فمن أكل أو شرب بعد ذلك فإنه أكل في وقت الصيام، ومعنى هذا أنه لم يصم وعليه القضاء.
وأما إن كان المؤذن كعادة بعض المؤذنين (يؤذنون قبيل الوقت)، وذلك بغرض تذكير الناس أو تنبيههم إلى أن الوقت قد قرب، ويعلم أن هذا المؤذن يفعل ذلك؛ فهذا لا حرج عليه؛ لأن الأساس هو: (طلوع الفجر، وليس الأذان)، وقد يُؤذن بعض الناس مبكرين، وقد يؤذن بعض الناس متأخرين.
إذاً فالعبرة والمدار على طلوع الفجر وليس على الأذان، ولا ينبغي أن يؤذن قبل الوقت؛ لأنه في هذه الحالة قد يُحرِّج على الناس.
وأيضاً: دخول العبادة في غير وقتها لا يجوز؛ ولكن نحن نتحدث عن واقع مشاهد، وهو: أن بعض المؤذنين -في بعض المناطق- من عادته أنه يحتاط، ويقول: أنا -إن شاء الله- لست آثماً، فالمسألة دقيقتان أو أكثر فقط، لكي يحتاط الناس ويكفوا عن الطعام والشراب! فإذا كان الأخ مؤذنه يفعل هذه الحالة، فيكون قد أكل في وقت لم يجب عليه الإمساك عليه، فلا يقضي ولا شيء عليه إن شاء الله.(22/26)
الأحداث في الخليج
إن الله عز وجل قدر لهذه الأمة أن تمر بفترات من القوة والضعف، وأهم معيار يتوقف عليه حال الأمة هو قربها وبعدها من المنهج الإلهي الذي شرعه الله لها.
والأمة الإسلامية هذه الأيام تمر بفترة ضعف وتفرق قلّما مرت بمثيل لها من قبل، وخير شاهد على هذا الحال الأحداث الأخيرة التي تمر بها منطقة الخليج، والتي أدت بالبعض إلى الاستعانة بأعداء الإسلام، وفتح المجال لهم للإقامة في جزيرة العرب مستدلين بأدلة يحملونها على غير ما تحتمل.
فجاء أعداء الله من الأمريكان ومن عاونهم مستغلين هذه الفرصة ليكون لهم موطئ قدم في أرض التوحيد متعللين بأنهم جاءوا ينصرون الضعيف على من اعتدى عليه، بالرغم من أن الأحداث التاريخية والوقائع أثبتت أن الأمريكان كانوا يخططون لغزو الجزيرة منذ سنين، منتظرين الفرصة المواتية لإحكام قبضتهم على ثروات الأمة.
فعلى الأمة الإسلامية التنبه لما يحاك لها، وعلى المسلمين أن يصدقوا الرجعة إلى الله، والتضرع إليه ليكشف عنهم الضر الذي لحق بهم.(23/1)
مرتكزات أحداث الخليج
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فسوف نتحدث بالتفصيل عن القضايا التي تتركز فيها هذه المشكلة الكبرى، وهي تتركز في عدة قضايا، كل قضية منها تحتاج إلى محاضرة، فموضوع: (حزب البعث والموقف منه) يحتاج إلى محاضرة أو أكثر، وموضوع: (موالاة اليهود والنصارى والموقف -أيضاً- من أمريكا) يحتاج إلى محاضرة، وموضوع: (موقفنا نحن من أنفسنا، وموقفنا مع ربنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) يحتاج إلى محاضرة أو أكثر، وموضوع: (تصوراتنا عن مستقبل هذه الأمة، وما يمكن أن تكون) أيضاً يحتاج إلى شرح بالتفصيل؛ لأن لها تصورات مؤكدة، لا توقعات، وهي بطبيعة الحال اجتهادات واحتمالات على ما يُرى من هذا الواقع، فكل منها يحتاج إلى تفصيل أكثر.
وأول ما يجب أن أذكره في هذه القضية هو: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يقدِّر في هذا الكون إلا ما هو خير، وإن كان هناك ضرر أو شر لأناس مؤمنين أو كافرين، ففي الجملة الشر ليس إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فما يقع منه عز وجل هو خير بإذن الله، لكن يجب علينا أن نعتبر ونتعظ ونستفيد من الأحداث، لتكون خيراً لنا من جميع الوجوه، فإن اشتملت على ضرر فإن الأمور بمجرياتها.
ونحن الآن في أيام المشكلة، ولا نتصور أن ما حدث هو مشكلة تحل في أسبوع، أو أسبوعين، أو شهراً، أو شهرين، فهذه مشكلة ستطول، ونهايتها لا يعلمها إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يمكن أن تنتهي في أيام معدودة.
فإن الغرب قد بدأ يتكالب، ويأتي من كل جهة، وبعض أساطيله إلى الآن لم تتحرك، وبعضها تحرك منذ أيام، ويحتاج إلى شهرين حتى يصل، ثم بعد وصول هذا الأسطول ماذا سيكون؟ الله تعالى أعلم.
فالأمر سيطول، وليست هذه المشكلة خارجة بأي شكل من الأشكال عن مشكلتنا الأساسية.(23/2)
مشكلة الأمة الأساسية
نحن أمة الإسلام؛ ما مدى قربنا من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ وما مدى تمسكنا بكتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سوف يسلط علينا أعداءنا إن عصيناه، وسوف ينصرنا ويؤيدنا ويجعل الدولة لنا على أعدائنا إن تمسكنا بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه قاعدة في جميع العصور، وفي جميع مراحل التاريخ.
فقد جاءت موجة التتار، وجاءت موجة الصليبيين في مراحلها الأولى، ثم جاءت الصليبية في شكل الاستعمار، ثم جاءت هذه الصليبية الجديدة، فهذه المعركة التي نعيشها الآن هي معركة صليبية، فالبعث صليبي، والغرب صليبي، والقضية كلها صليبية.
فيجب أن تكون لدينا القاعدة الإيمانية التي لا يجوز أن نتركها بأي شكل من الأشكال، فإن من سنن الله في الأمم وفي المجتمعات؛ إذا عصوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وخالفوا أمره أنه يجب أن يتضرعوا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
والآن مرّ علينا أسبوعان أو أكثر، وأمة القرآن والإيمان والإسلام، التي جعل الله لها في كل مشكلة وأمر وكل ضائقة ونازلة حلاً في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فالحل موجود، وقد تكلم عنه الكثير من دعاة الحقبة الأولى، إلى الآن لم نجد أي إشارة واضحة إلى أننا -فعلاً- بحثنا عن الحل في كتاب الله عز وجل، وأننا امتثلنا الحل الذي جعله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(23/3)
قسوة القلب
يقول الله تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43] فقد أصبحت قلوبنا فيها قسوة عجيبة، ويدل على ذلك أنه لما أشيع عن الغازات الكيماوية وتأثيرها على الأحياء ثار الرعب والهلع في نفوس الناس، وأنا لا أتكلم عنها على سبيل التخويف منها، مع أن هذه الغازات هي سامة فعلاً، لكنها ليست هي القضية.
لكن القضية هي: لماذا يُنشر مثل هذا الكلام الذي ليس له أصل ولا تصريح رسمي؟ ولماذا يقال للناس خذوا أقنعة أو احتاطوا؟ والمهم أن مصدره وقائله غير مؤكد وغير معروف.
ومع ذلك خاف الناس وذعروا، وبدأ كل إنسان يفكر جدياً: ماذا أصنع؟ وهل منطقتنا بعيدة عن الأحداث أم قريبة؟ وإذا وصل الغاز ماذا أفعل؟ سبحان الله!! القرآن كلام الله رب العالمين يحدثنا عن عذاب جهنم، وعن دخان جهنم، فأين هذه الغازات من دخان جهنم، نعوذ بالله من عذاب جهنم؟ أين هم من قوله تعالى: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ} [المرسلات:30]؟ وأين هم من قوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأعراف:41] فهذا كلام رب العالمين وهو حق وصدق.
وقد ذكر الله تعالى أسباباً للعذاب، ومنها: المعاصي والذنوب، فهل اتخذنا وقاية من هذه الذنوب والمعاصي؟ وهل فكرنا في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم:71]؟ فكل إنسان واردها، وكل إنسان سيعبر الجسر المنصوب فوق جهنم كما أخبر الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فهل أعددنا وقاية من عذاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟! وهل نخاف من الله عز وجل، كما أصابنا الخوف والهلع والذعر من البشر، حتى قلنا: ماذا نتخذ من وقاية لتلافي وقوع الغازات السامة أو غيرها؟! ونتسائل: لماذا أُصبنا بهذه النكبة؟ ولماذا حلّت بنا هذه المصيبة؟! والجواب معروف، وهو أنه لم نعد نخاف من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولم نعد نخاف من وقوع وعيده وعذابه.
ولم نعد نستمع إلى آيات القرآن وما فيها من وعد أو وعيد، وإن استمعنا فإننا نستمع إليه وقلوبنا غافلة إلا من رحم ربك، وننتظر متى نكف عن الغناء واللهو والطرب؟! ومتى سينتهي الربا؟! وهل انتهى التبرج واللهو في الأسواق والملاهي والمنتزهات؟ لم يحدث شيء من ذلك: هل أعيدت صلاحيات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووضع لها اعتبارها؛ لعل الله أن يرحمنا، ويدفع عنا العذاب؟! وهل أعدنا وضع مدارس تحفيظ القرآن إلى وضعها الطبيعي؟! وغير ذلك كثير.
وأين الرقابة الإعلامية؟! فهناك الكثير من الصحف والمجلات الكويتية المخلة، فيا ترى هل هذه الصحف والمجلات عوقبت على فسادها وإلحادها وكفرها الذي كنا نتحدث عنه في أكثر الأسابيع؟! إننا لم نفعل شيئاً من هذا، وحالنا كما هو: الذي لا يصلي؛ لا يصلي قبل الأحداث وبعدها، والذي لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر لم يتغير حاله إلا من رحم الله، فليس هناك اعتبار ولا اتعاظ ولا تضرع ولا رجوع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى!! فمن الذي حاسب نفسه وقال: كان عملنا حراماً فلنبتعد عنه أو كان هذا الشيء واجباً ولم نفعله، فيجب أن نفعله؟ لم يحدث شيء من هذا إذاً ماذا نتوقع؟! كيف ندفع العذاب؟ قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76] ويقول الله: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43] ويقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ:34] ويقول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف:96 - 97] وهذا ما حصل في الكويت -والعياذ بالله - {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:98] فأين الضراعة التي ذكرها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟! فلا والله! ما تضرعنا! ولا استكنا! ولا تبنا! ولا أنبنا! وحالنا كما هو، فكيف تأتينا السكينة؟! وكيف يأتينا الأمان والارتياح؟!(23/4)
هل ننتظر النصر من اليهود والنصارى؟!
عندما قيل: إن الغرب والكفار سوف يدفعون عنا عذاب الله؛ سُررنا وفرحنا بذلك، نسأل الله العفو والعافية.
أمة التوحيد التي تقول في كل ركعة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] هذا هو حالها وهذا هو شأنها في وقت الشدة! أنها لا تلجأ إلى الله ولا تتوب ولا تتضرع! وإنما تلجأ إلى الكفار، وتجعل ثقتها لهم! فإلى هذا الحد وصل بنا الأمر من ضعف العقيدة! ففي كل وقت نقول: العقيدة والعقيدة فأية عقيدة هذه! إن لم تكن واقعاً وسلوكاً فإن العقيدة مجرد كلام.
فأين العقيدة الصحيحة؟! وهل من العقيدة أن نأمن ونطمئن إلى الكفار؟! وهل نظن أن الكفار سينصروننا؟ وهل ننسى وعد الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38]؟ فمن هم هؤلاء المؤمنون الذين يدافع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنهم؟! وقد قال بعد ذلك: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] إلى أن قال بعد ذلك: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] وهؤلاء هم الذين يدافع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنهم، وهؤلاء هم الذين ينصرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فنحن إنما ينصرنا الله، وليس الكفار هم الذين ينصروننا! وهذا الكلام ليس من حيث ضرورة الواقع، أو غير ذلك، بل هو من حيث التوجه القلبي، فإن هذه المسألة مشكلة خطيرة، وأرجو من كل مسلم أن يقرأ كتاب الله.
فالمشكلة والخطورة ليست أننا قد نقول: استعانتنا بالكفار أتجوز للضرورة أم لا تجوز؟ فليست هذه هي القضية؛ لأننا يمكن أن نبحث هذه المسألة أو أن نفعل هذا العمل وقلوبنا مطمئنة بالإيمان، وبالثقة والتوكل على الله، ويكون هذا سبباً من الأسباب.
ولكن ليست هذه هي المشكلة، بل المشكلة في أن القلوب انصرفت إلى غير الله من الكفار الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
فقد تعلقت الآمال بهم في سلامتنا وفي نجاتنا والعياذ بالله.
وأنا أريد أن نتناول القضية من جانبها الإيماني، ومن جانبها القلبي الإذعاني، وننبه إخواننا وأنفسنا وأهلنا، وأي شخص آخر، إلى أن عذاب الله قد يأتينا في أشكال لا نعلمها، وهذا إنما هو نذير فقط.
{ومَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31] فأين نحن من التوكل؟! وأين الدعاة والخطباء والعلماء لإيقاظ الناس إلى هذه المسألة المهمة؟! وقبل أن نبحث الأسباب، وقبل أن ننظر في واقعنا، يجب أن نبحث عن هذه القضية من جذورها، وهناك إشارة وردت في بيان مجلس القضاء الأعلى إلى وجوب الاستغفار والتوبة لكن إذا نظرنا إلى وسائل الإعلام.
وإلى البيانات الصادرة، فإننا لا نجد فيها هذا التذكير، مع أنه هو الأصل، وفيه النجاة، وهو الذي امتن علينا به الله، فالله رحيم رءوف بنا عندما نقع في أي مشكلة.
وعندما دخل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة منتصراً، دخلها في ذلة لله، واستكانة له، مطأطئ الرأس، فكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حال الاستكانة والذل لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو منتصر، ونحن في حالة الخوف والذعر والهلع ومع ذلك لم نتضرع ولم نستكن ولم نندب، بل على العكس من ذلك، تعلقنا بالمخلوقين الذين هم أعداء لنا، وعداوتهم لا تنتهي إلى قيام الساعة، فهذا هو العدو الحقيقي الذي لا يمكن أن ينصرنا؛ لأن هذا هو خبر الله عز وجل، وخبر من لا ينطق عن الهوى، الصادق المصدوق، كما ورد في الحديث الصحيح: {لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بـ الأعماق} فهناك تكون الملحمة والمعركة، وهي كما بينها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ستنتهي لصالح المسلمين حتى لا نخاف ولا نيأس، لكن أين المسلمون؟! إن حالات الذل تمر بالأمة كما تمر بها حالات القوة، وأيضاً حالات الخذلان تمر بها كما تمر بها حالات التوفيق إذا اتقت ورجعت إلى الله.
وكنا في محاضرة: (مستقبل العالم الإسلامي في ظل الوفاق الدولي) ثم محاضرة: (الحروب الصليبية)، من هذا المنطلق كنا نتوقع ونعلم -دون معرفة التفاصيل- أن هذا الميثاق سيؤدي إلى أن الغرب سيتكتل، ويتكالب علينا، وأنه سيأتي إلى هذه المنطقة، لكن الله تعالى أعلم، كيف سيأتي، المهم أنه سيأتي.
فهل هذه الفرصة أتاحها لهم حزب البعث الصليبي، وقدمها لهم على طبق من ذهب؟! أم هل رتبوها مع بعضهم البعض؟ أم أنها جاءت فرصة فاهتبلوها؟ هذا لا يهم.(23/5)
استعدادات أمريكا لغزو الخليج العربي
لكن المهم أن أمريكا من عام (1980م - 1400هـ) وهي تعد العدة وتدرب الجيوش، فأكثر من مائتين وخمسين ألف جندي أمريكي يتدربون في صحراء نيفادا وهي صحراء قاحلة في وسط أمريكا أجواؤها مشابهة لأجواء الصحراء العربية.
والمعركة الآن يسمونها معركة درع الصحراء، فهم يتدربون هناك على الإنزال في الخليج، وآخر خبر نذكركم به، عندما حدث الإنزال في بنما، وقيل: إن من أهدافه الاستراتيجية هو التمرين والتعود على الإنزال في الخليج، وهذه العملية ليس لها سوى أربعة أشهر، فالأمر مهم ووارد، ولقد جاءوا من كل حدب وصوب، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الذي لا ينطق عن الهوى: {تتداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما يتداعى الأكلة إلى قصعتها}.
فمن كل أفق، ومن كل المناطق جاءوا إلينا، بحجة أنهم يحموننا، ومما نُشر أنه من مائتين وخمسين ألف جندي ما لا يقل عن ثلاثين ألف امرأة! برتبة ضابط ونقيب ورقيب، فهؤلاء بنسائهم جاءوا ليحموا أبناء خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وأبناء الأنصار الذين فتحوا فارس والروم بعدد أقل من عددنا اليوم! وبعدة أقل من عدتنا اليوم!! ولو كنا كما أمر الله متقين لله، وقائمين على أمر الله، فوالله سوف نفتح العالم بما عندنا من عدة، وقوة، والله لم يكلفنا مالا نطيق: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال:60].(23/6)
بعض وسائل دفع الأعداء عنا
إن أسوأ ما يمكن أن يقع -وهذا واقع- هو أن يتكالب علينا أعداؤنا ولا نستطيع أن ندفعهم، ماذا نفعل؟ إن بين أيدينا سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسنة الخلفاء الراشدين، وعندنا عدة وسائل منها: إعطاؤهم شيئاً من المال، كما فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه أراد أن يعطي الأحزاب لما تكالبوا عليه من ثمر المدينة.
ويمكن -أيضاً- أن نساومهم على شيء من الأرض.
فهناك وسائل وبدائل، فلم يجعلنا الله تعالى في ضيق وحرج، إما هذا أو هذا، كما يظن بعض الناس، حيث يقولون في المجالس: لا ينفع شيء، إما الموت أو التعلق بالغرب -عياذاً بالله- فمن قال لك هذا؟! ومن قال: أنه ليس هناك إلا هذان البديلان ولا ثالث لهما؟ فلو فكرنا وتأملنا لوجدنا أن هناك أكثر من عشرة بدائل، نستطيع أن ندفع الشر بها بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(23/7)
ما هي مشكلتنا؟
والمشكلة في الأساس: هي مشكلتنا مع الله رب العالمين، حيث أننا لم نصطلح مع الله، بل نحاربه! فلذلك غضب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علينا، وأرسل علينا هؤلاء، وهو الذي أرسل على بني إسرائيل الفرس - بختنصر وجيشه- يقول تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14] فالفسق والفجور والطغيان والترف الذي كنا نعيشه، هل يمكن لأي عاقل أو ناظر في كتاب الله وفي سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يصدق أن يستمر هذا الأمر إلى الأبد، مع عدم وجود توبة ولا أمر بالمعروف ولا نهي عن المنكر؟ إن هذا لا يمكن، بل سوف نهلك وفينا الصالحون إذا كثر الخبث، كما أخبر عن ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فكان المفروض أننا ننظر إلى كل هذه الأمور من خلال كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن نحمد الله على هذه الأحداث فهي عبرة لنا لكي نتعظ.
وهل تظنون أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -وقد أخبرنا عن نفسه، وعن رحمته بالمؤمنين، وما أعده لهم، وما يبشرهم به- أنه يظلم الكفار أو المؤمنين؟ {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس:44] فهل يظلمنا الله وقد دفعنا لـ صدام حسين الملايين والمليارات طوال عشر سنوات، ثم ترتد أموالنا علينا؟ لا والله! لا يظلمنا، لكننا تعلقنا بالأسباب المادية.
فلو أننا كنا مستقيمين على أمر الله، فلا ننفق إلا حيث أمر الله أن ننفق، ولا نمنع إلا من أمر الله أن نمنع، وإذا أنفقنا فللدعوة إلى الله، وفي سبيل الله خالصة لوجهه، فلو فعلنا ذلك -والله- لنصرنا الله ولأذل أمريكا، ولأتى بها راكعة ذليلة، وقد أذلها من هو أضعف شأناً منا، فقد أذلها أمام كوبا وغيرها، فهي المضطرة إلينا.
فإذا اتقينا الله كفانا الله شرها، وبالمثل إذا خفنا من الله أخافها الله منا، وإذا لم نخف من الله أخافنا الله من كل شيء، وأصابنا بالرعب والذل والهوان.
فقضيتنا ومشكلتنا نحن المسلمين هي: موتنا ونحن على ماذا؟ وبماذا نلقاه؟ فكلنا سنموت، أصحاب الكمامات سيموتون، وغيرهم سيموتون، ولو كنا في بروج مشيدة.
فالقضية ليست قضية نظرة مادية، لكن عندنا قضايا أساسية مذكورة في كتاب ربنا، فإذا تبنا وتضرعنا ولجأنا إلى الله؛ فإن الله يسلط على عدونا جنداً من عنده يدفعهم عنا.
وقد دفع عنا شرورهم وهم أعظم ما يكونون ونحن أضعف ما نكون.
واقرءوا التاريخ، فقبل ستين أو سبعين سنة، كانت بريطانيا العظمى لا تغيب الشمس عن مملكتها، وكانت أكثر بطشاً من أمريكا اليوم، وكانت كل شعوب العالم ترهبها، وتخافها، فممن كانت بريطانيا تخاف؟(23/8)
الشيء الذي كانت تخاف منه بريطانيا
إن أكثر ما كانت بريطانيا تخاف في المنطقة كلها هو من الإخوان الوهابيين -كما يسمونهم الإنجليز- فهذه مشكلتهم، وقد كان هؤلاء الإخوان يعيشون في الصحراء، وليس عندهم استراتيجيات، ولكن كان الإنجليز يخافون منهم خوفاً شديداً.
ومن الوثائق المنشورة حتى تعرفوا كيف يكون حالنا لو كنا مع الله! أنه كان هناك مقيم سياسي في البحرين كلف من قبل المندوب السامي في العراق أن يكتب شيئاً عن الإخوان -يريدون أن يعرفوا ماهية هؤلاء الإخوان- فكتب -والوثيقة محفوظة، وموجودة- يقول: أنا بنفسي ذهبت إلى شرق البحرين ورأيت: الإخوان أنهم كذا، وصفتهم كذا، ووجوههم صفتها كذا، وتعاملهم في السوق من أفضل التعامل، فهو يكتب عنهم ويحسبون لهم ألف حساب.
وسألوا أحدهم: كيف يمكن القضاء على الإخوان؟ فقال: إذا أرادت بريطانيا أن تقضي على الإخوان، فعليها أن تخصص خمسين ألف جندي بريطاني، ولكنهم سيموتون جميعاً تحت شمس الصحراء المحرقة.
وكان أخطر شيء وأهم شيء تخافه بريطانيا هو أن يهاجم الإخوان الحدود العراقية، فكانت بريطانيا العظمى تخاف من هؤلاء الإخوان!! وعندما وصلت جيوش الإخوان إلى بحرة، حيث أنه لم تفتح جدة، وكانوا قد دخلوا مكة ثم تقدموا إلى بحرة من أجل أن يفتحوا جدة، فجاء وزير الخارجية من العراق، ووقع معهم اتفاقية بحرة، وهي تتضمن عدم الاعتداء على الحدود العراقية، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى كان اليهود ومعهم الإنجليز الذين وجدوا في فلسطين يخشون أن يهاجم الإخوان العصابات اليهودية، لأنهم علموا قوتهم، فلو جاء هؤلاء الإخوان إلى فلسطين فإنهم سيقضون على اليهود قضاء مبرماً، وبالفعل في عام (1928م) وصل الإخوان إلى عمَّان، وارتعب الإنجليز رعباً شديداً، وقالوا: إذا أخذ الإخوان الأردن، فسيتقدمون إلى فلسطين وسيقضون على اليهود.
وهم لم يكن لديهم أكثر من البنادق العادية، حتى أنهم في أحد المعارك أرادوا أن يتقدموا، والإنجليز كانوا يملكون طائرات تقذف ناراً، فقالوا: كيف نتقدم سيضربوننا؟ فقال لهم قادتهم: هذه الطائرات فوق الله أم الله فوقها؟ -انظروا كيف الإيمان- قالوا: الله فوقها! قالوا: إذاً توكلنا على الله.
فتأتي الطائرات، وتُصد بالبنادق العادية، وانهزم جيش الصليب الذي كان يملك الطائرات، ودخلوا إلى جدة، ثم تقدموا منها حتى أخذوا العقبة، ولم يكن عدتهم إلا الإيمان بالله تعالى والثقة به؛ فكان العالم يخاف منهم ويرهبهم، ونحن اليوم لدينا الطيران وقوة كثيرة ولكن الذنوب والمعاصي أثقلت كاهلنا.
فأين الإيمان بالله وقوة التوكل عليه؟! وإن وجد ذلك عندنا -فوالله- لخاف منا الغرب والشرق بأسره.
وهل تظنون أن الغرب والشرق عندما يجتمع ويتكالب ويأتي إلى هذه المنطقة، أن هذا من أجلنا أو من أجل سواد عيوننا؟ والله ما يريد الكفار لنا خيراً أبداً، وإن جاءت الغازات السامة فهي علينا، والموت لنا نحن المسلمين.(23/9)
الأهداف الغربية لغزو الخليج
إن أغراض الغرب في مجيئه إلينا كثيرة، فمنها: البترول، ولكن قبل البترول هناك الغرض الأساسي وهو إذلال هذه الأمة، وضرب الصحوة الإسلامية، وقد نشر في (11) من ذي القعدة على لسان أحد المسئولين في الإدارة الأمريكية، ما معناه: هل تتخوفون من قوة العراق الضاربة في المنطقة؟ فكانت الإجابة: لا، لأن العراق يشكل أكبر قوة في المنطقة لضرب الصحوة الإسلامية التي أخوف ما نخاف، وهذا الخبر قد نشر سابقاً.
ووزير الخارجية البريطاني يقال له: كيف موقفكم مع العراق طوال السنوات الماضية؟ وما هو موقفكم الآن؟ قال: إن موقفنا مع العراق -سابقاً- كان المساندة له، فهذا أمر حتمي؛ لأنه كان يحارب الأصولية الإيرانية، ثم قال: وأكثر ما يزعجنا الآن هو أن تتحالف القومية مع الأصولية الإسلامية ضد موقفنا لتأييد صدام، فهو يقول: عندما كان صدام يحارب الأصولية في إيران وقفنا معه وساندناه، وعندما وقفت الأصولية مع صدام حاربنا صدام وهذا كلام واضح.
فالهدف الغربي هو: إذلال الأمة الإسلامية، وضرب الصحوة الإسلامية، واستنزاف المنطقة؛ لأنها منطقة مهيأة لأن تقود العالم، فـ روسيا الآن قد أصبحت تابعاً لأمريكا، وأساطيلها جزء من القوات التي دعت إليها أمريكا، وكلهم ضدنا نحن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51] فالشاهد: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] فهل جاءت أمريكا لتحمي الكويت رحمةً بها؟! إن الغرب كلهم ليس فيهم رحمة على أحد إلا على الإنسان الأوروبي فقط، فهل سمعنا أن هناك مشكلة حدود بين أي دول أوروبية؟ لم نسمع بذلك؛ وبعد العام القادم، ستكون أوروبا دولة واحدة، إذاً الأساطيل والحشود لمن؟ وهذه المليارات التي تنفق على التسليح لمن؟! إن كل ذلك من أجل مواجهتنا، وقد جاءتهم هذه الفرصة، أو أنهم خططوا لها، المهم أنهم بدءوا يتوافدون، وسيتوافدون علينا لهذا الغرض.
فـ أمريكا من أجل هذا الحدث البسيط أرغمت أسبانيا، واليونان، وتركيا على استخدام القواعد التي في أرضها، وأخذت منهم صلاحيات واسعة في ذلك، واحتلت وطوقت المحيط الهندي، وبحر العرب والبحر الأبيض المتوسط، والمنطقة بكاملها ابتُلعت من أجل الكويت، فهم أناس يخططون للمدى البعيد.
ونحن لا نقول هذا من أجل الإخافة، فوالله إننا كما نؤمن أن الشمس ستشرق غداً -بإذن الله- نؤمن أن النصر لهذه الأمة -بإذن الله- لكن لمن؟ وعلى يد من؟ نحن نحتاج إلى معرفة هذه الأمور الأساسية.(23/10)
من أجل مواجهة الغرب
يجب أن نذكر الناس ونربطهم بالله، وأن نقول لهم: ارجعوا إلى القرآن، واعمروا المساجد، وكفوا عن التبرج والاختلاط في الأسواق ومروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، وتوبوا إلى الله، وغيروا ما بأنفسكم فيغير الله ما بكم: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد:11] وإذا غيرتم؛ ستجدون أن الله يُذهب صدام بانقلاب عسكري أو بأي شيء، فيجب أن نبدأ بالتغيير من الآن.
فالملحمة مع الروم لن تكون سهلة، ولن تكون يوماً وسنة، وسنتين، بل إنها ملحمة ومعركة طويلة، وهي تحتاج أول ما تحتاج إلى أمة مؤمنة صابرة متقية: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:120] فأول شيء نعمله أن نصطلح مع الله، فنلغي الربا، ونلغي الزنا الباطن المتمثل في الفاحشة، والزنا الظاهر المتمثل في التبرج والسفور؛ ونلغي الغناء والرشوة والغيبة والنميمة والحسد والبغضاء بيننا نحن المسلمين.
ونلغي كل نظام يخالف شريعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بحيث كل الأمور يكون الحكم فيها لكتاب الله وسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونراجع أنفسنا: ماذا أذنبنا؟ وماذا أخطأنا؟ وماذا فعلنا؟ ونتوب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثم بعد ذلك نعد العدة ما استطعنا: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال:60].
فنعد لهم ما استطعنا، وسينصرنا الله عز وجل، فلا شك أن الروم والغرب هم أعداؤنا إلى قيام الساعة -كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلنعد لهم العدة، ونعلم أنهم لا بد أن يواجهونا يوماً ما، ثم نجعل جميع موازيننا وفق كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإذا أعطينا نعطي لله، وإذا منعنا نمنع لله، وإذا غضبنا نغضب لله، وإذا رضينا نرضى لله.
ونخشى لو حلّت هذه القضية أن نعود أصدقاء نحن وهؤلاء المرتدون؛ فيجب أن نعاملهم كما أمر الله أن نعامل الكفار، ويجب أن تكون موالاتنا ومعاداتنا في الله ولذات الله، فهذه العقيدة يجب أن نتمسك بها، فإن متنا نموت ونحن متمسكون بها، وقد عملنا ما استطعنا، وأعددنا ما استطعنا، وإن عشنا فالنصر لنا -بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وتأكدوا بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سوف ينصرنا.
وإن لم يكن النصر في جيلنا هذا الذي هو جيل المعاصي، فسيكون في جيل آخر، يأتي به الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو الجيل الذي سيتربى بعيداً عن العقد النفسية.
وعندما جاءت الحملة الصليبية الأولى ودخلوا أنطاكية، كان عددهم خمسة الآف فقط، لكن الأمة كانت مشغولة بالشهوات، وقد فرقتها العصبيات والفرق والطوائف الضالة، وكان أغلى شيء في تلك الأيام هو المطربات، وأغلى سلعة في السوق كانت الجارية المغنية، حيث وصلت أسعارهن إلى عشرة الآف دينار، وإلى مائة ألف دينار، وكان أهم شيء عندهم هو الطرب واللهو واللعب.
وكانوا أمة كبيرة جداً، ومواردها هائلة، ثم بعد ذلك خمسة آلآف من الصليبيين يذلونها؛ والحملة الثالثة كانت ثلاثمائة ألف صليبي من جميع دول أوروبا جاءوا وهُزموا بعد خمسين سنة تقريباً؛ لأنه ظهر جيل مؤمن بالله لا يعرف ذلك الفسق والهبوط واللهو الذي كان عند أولئك.(23/11)
نصيحة للمسلمين
ونقول نصيحة للمسلمين خاصتهم وعامتهم، نوجهها من هذا المكان، نسأل الله عز وجل أن تبلغ إلى كل من ينفعه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بها: إن الحرب هي أولاً مع أنفسنا، والصلح أولاً مع الله؛ فنحارب هذه النفس وهذه الشهوات، وهذه النفس الأمارة بالسوء، ونصطلح مع الله ونتوب إليه، ونعيد لأهل الدعوة قيمتهم واعتبارهم.
فنعيد لرجال الهيئات قيمتهم واعتبارهم، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قيمته، ولكل أمر من أمور ديننا: الحق، والخير، والفضيلة نعيد لها قيمتها واعتبارها، ونكف عن كل المعاصي، غيروا وانظروا ماذا ستكون النتيجة! والله ليغيرن الله هذا الحال، ويكون هذا نصراً عظيماً جداً نفتخر به مدى الأزمان، ونظل نقول: الحمد لله الذي جعل هذه المشكلة سبباً لتغيير أحوالنا.
فإذا بقينا على حالنا، نتعلق بالأسباب المادية، ونسينا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، واستمر صاحب الغناء في غنائه، وصاحب المنكر في منكره، ومحلات السياحة في فسادها، ومحلات الخياطة والتعري في عملها، وتارك الصلاة ظل تاركاً لها، والذي يريد تغيير تسجيلات الغناء إلى تسجيلات إسلامية يمنع، والذي يريد أن يتوب لا يجد من يشجعه، فإذا بقينا هكذا؛ فالعذاب قادم، ونعوذ بالله أن يعذبنا، ولكن نسأل الله ونتضرع إليه ألا يؤاخذنا بما فعله السفهاء منا، وأنه إذا وقعت العقوبة والفتنة، أن يتوفانا غير مفتونين.
فيجب أن نتوب؛ لنلقى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ونحن على توبة وإيمان، فواجبنا عظيم وكبير ولا يستهان به، ولا تقل: ماذا أفعل؟ فأنت تعظ، وهذا يخطب، وهذا يعقد المجالس ليذكر الناس بالله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96] فإذا أعرضنا، وعصينا؛ لا بد أن يصيبنا النقص: نقص في الوظائف والعملة والأرزاق.
نذكر الناس ونعظهم ونعظ أنفسنا قبلهم، ونقول كلمة الحق التي سيحاسبنا الله تعالى عليها، لماذا لا نقولها وفيها الخير لنا وللأمة؟ وأقول: علينا ألا ننام هذه الأيام، وألا نهنأ بأكل ولا شرب، ليس ذلك لأننا نخاف من الموت، أو لأن هؤلاء سينتصرون، لا والله، لكن لأننا سنسأل عن العلم الذي لم ننشره، والدليل الذي لم نبلّغه، وعن الحق الذي لم نصرّح به ولم نقل إلا بعضه، وربما لم نقل شيئاً منه، فلو تحرك العلماء والقضاة والمسئولون كل بحسب مسئوليته، نحو التضرع والتوبة والإنابة والاستغفار لكان أفضل وأخير لنا، أما بدون ذلك فالمسألة ستكون مجرد مهاترات.(23/12)
توقعات حول الأزمة
وأنا أتوقع -والله أعلم- أنه لن تكون هناك ضربة قريبة، لا من هذا ولا من هذا، وإنما سيكون الحصار والإنهاك، فهذا يعزز مواقعه، وهذا يعزز مواقعه، فالبعثيون يحكمون قبضتهم على الكويت، والغربيون يحكمون قبضتهم على المنطقة بأكملها؛ وبعد ذلك سوف يأتي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالفرج من عنده.
ولن ينبع الأمل والفرج إلا من هذا الشباب الطيب المؤمن، إن اتقى الله وعرف واجبه في هذه الأحداث، وبدأ بالمرحلة الأساسية الأولى التي ذكرناها في الأسبوع الماضي، ثم ننتقل إلى المرحلة الثانية، ثم الثالثة، حتى لو استمر الحال مائة سنة أو مائتي سنة، فلا بد من يوم يتواجه فيه المؤمنون مع هؤلاء الكافرين.
وفي ظل هذه الظروف الحالية نحن نحتاج إلى القاعدة الأولى؛ لأن عليها يبنى كل شيء، وتجاوزها إلى أي شيء آخر خطأ، ولا يصح أن يقرّ بأي حال من الأحوال، ومن أراد الأدلة فما ذكرنا يكفي.(23/13)
شبهات وردود
وهناك مشكلة أخرى خطيرة جداً، وحقيقةً أنه لا يمكن أن نسكت عنها، وهي الاستدلال بأدلة غير صحيحة، ولا تؤدي إلى المطلوب، ونحن نقول هذا دفاعاً عن ديننا، بغض النظر عن رأينا في أي حدث من الأحداث، وذلك لكي لا يُفترى على الله أو يُكذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكي لا يقال على الله غير الحق.
فهنالك من تكلم واستدل لبعض الأمور، فأخطأ الاستدلال، فيجب أن نبين خطأه، فنقول:-(23/14)
الاستدلال بقصة عبد الله بن أريقط
أولاً: الاستدلال بحديث عبد الله بن أريقط، وهو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعان به واتخذه دليلاً إلى المدينة، وهذا من باب استئجار الكافر، أليس البيع والشراء مع الكفار جائز أم لا؟ طبعاً جائز، والكل متفق على هذا، وهل الشركة مع الكفار تجوز؟ على القول الصحيح أنها لا تجوز؛ لأن الشركة مشاعر مشتركة: الرأي واحد، والأمنيات واحدة، فلا تجوز الشركة.
أما الاستئجار: فإن كان استئجار عين أو استئجار منفعة معينة، فهذا جائز؛ لأنه ليس كالشركة، وهو أقرب للبيع لكنه بيع مؤقت، فلا يجوز الاستدلال بهذا الحديث في غير موضعه الصحيح.(23/15)
الاستدلال بالمعاهدة التي عقدها النبي مع اليهود
الأمر الآخر: هو المعاهدة التي عقدها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع اليهود في المدينة، فسكان المدينة الأصليون هم اليهود والأوس والخزرج، فمن الأمور الجديدة على المدينة مجيئ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمهاجرون، إذ أنهم كانوا في نظر أهل المدينة كأنهم محتلون، ولكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب المعاهدة، ومن ضمن ما كتب: أن الأمر في المدينة كلها مرجعه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -هذا شيء مهم جداً- وإذا داهم المدينة عدو، فإن الدفاع عنها يكون من قبل الجميع، فهل من المعقول أن يتصدى الأنصار والمهاجرون للعدو، واليهود لا يعملون شيئاً، وهم أهل البلد الأصليون؟ ليس هذا معقولاً! فهذه القضية هي مسألة تختلف تماماً.
وشيء آخر وهو: هل استعان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمشركين في أي معركة من معاركه؟ لا لم يستغن أبداً؛ وقد جاء في بيان هيئة كبار العلماء أن الأمر يرجع إلى الضرورة؛ وهذا صحيح أن الأمر يرجع إلى الضرورة، ولكن الضرورة لها أحكام ولها تفصيل، وهذا ليس موضوعنا، لكن موضوعنا هو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يستعن بمشرك في أي حرب، بل في صحيح مسلم أن رجلاً جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: {أسلمت، قال: لا، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارجع فإنا لا نستعين بمشرك} وهذا حديث صحيح، أما ما نسب إليه -مما ذكره الشافعي رحمه الله- أنه استعان ببعض يهود خيبر، فهذا الحديث غير صحيح، ولم يستعن بهم، وإنما استعملهم في الأرض.(23/16)
الاستدلال بقصة الدروع المستعارة
السؤال
هل استعار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دروعاً من الكفار؟
الجواب
أولاً: الحديث الصحيح في سنن النسائي وغيره أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعار من يعلى بن أمية، ويعلى بن أمية صحابي جليل مسلم، لكن ورد في روايات موجودة في السنن والمسند وغيره من الكتب أنه استعار من صفوان بن أمية وهو مشرك، لكن الصحيح أنه استعار من يعلى بن أمية وليس من صفوان بن أمية، فهذا شيء.
ثانياً: وعلى فرض صحة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعار دروعاً، فإن ذلك أمر طبيعي؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحكم الجزيرة العربية، وهو قائد الأمة، وجيشه اثنا عشر ألف.
فالجيش المسلم يمكنه أن يستعير أو يشتري السلاح من تجار الكفار، وهذا ليس فيه شيء! وليس هنالك إشكال في هذا! لكن هل هذا من باب أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعان بالكفار، وحاربوا معه كفاراً آخرين؟! الجواب: لا.
ونقول هذا براءة للذمة، لأنه مهما كانت الظروف والضغط النفسي علينا؛ فلا يجوز أن نبرر لأنفسنا أي عمل بدليل غير صحيح، فلا يصح أن نستدل به في وقت الضرورة.
مثلاً: الميتة ليس هناك دليلٌ أن أكلها حلال، لكن في حالة الضرورة تأكل الميتة، ومتى تكون الضرورة؟ وهل هي ضرورة؟ فهذا شيء آخر، فالاستدلال بدليل ضعيف أو موضوع أو غير صحيح؛ لا يجوز.(23/17)
حكم الاستعانة بالكفار في القتال
والعلماء قد ذكروا أنه: إذا كنا في عهد مع عدو، وكنا نأمن غائلتهم، وأردنا أن نحارب عدواً آخر، وأمكننا أن نغلب كل منهما على حدة، في هذه الحالة يجوز أن نستعين بالعدو الذي بيننا وبينه عهد.
مثلاً: أردنا أن نحارب الفرس، ففرح الروم بذلك، فعرضوا مساعدتهم، فإذا كنا قادرين على التغلب عليهم جميعاً؛ ففي هذه الحالة يمكن أن نستعين بالروم على الفرس.
فهذه الحالة ذكرها الفقهاء، وقالوا: إنه بالإمكان الاستعانة للقضاء على عدو آخر، والأمر المهم أننا مهما كانت الظروف والأمور، يجب أن نتقي الله، إذا قلنا: قال الله، أو قال رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو هذا من الدين، أو هذا يجوز، أوهذا لا يجوز، فإنه يجب أن نقف عند كلام العلماء.
ومن العجيب أننا نجد أنهم يخيفوننا، ويقولون: إن المطاوعة سوف يموتون؛ لأن الكمامات الواقية لا يمكن استخدامها مع اللحية، وهذا الكلام تكلم به مسئول في الحاخامية اليهودية -المقر الديني لليهود بإسرائيل- وقالوا: يجب أن تصطحبوا معكم مقصات؛ لأنه في حالة وضع القناع سيكون الأمر صعب مع اللحية.
وأقولها بكل أسف: إسرائيل سكانها كما يقال: ما يقارب أربعة أو خمسة ملايين، وهي مستعدة أن تجند مليون جندي خلال أربع وعشرين ساعة، فالجيش جاهز، والاحتياط جاهز، والكمامات جاهزة، وكل شيء جاهز، فهي أمة تعيش الحرب مع أن الانتفاضة تؤرقها من الداخل، ومع أن اقتصادها منهك ومنهار من الداخل، ومع أن مجتمعها متفكك ومكون من عدة جنسيات، ولديهم مشاكل كثيرة؛ لكنها مستعدة في خلال أربع وعشرين ساعة أن يكون لديها ما يقارب المليون جندي جاهزين لأية حرب.(23/18)
أهمية أعمال القلوب
لقد حثنا الدين الإسلامي الحنيف على الاهتمام بالقلب وتزكيته، وتطهيره من الشوائب والأمراض، وذلك لأن عليه المعول في صلاح الأعمال أو فسادها، وفي هذه المادة يبتدئ الشيخ حديثه عن أهمية الاهتمام بأعمال القلوب، مبيناً أن الإيمان هو أعظم أعمال القلوب، مستعرضاً لأقسام القلوب، ومحذراً من أمراضها التي قد تؤدي أحياناً إلى موتها.
ولقد اتخذ أهل البدع من أعمال القلوب مدخلاً لدس بدعهم وخرافاتهم، وخلخلة عقيدة الأمة ودينها.
فعلى المسلم أن يكون حريصاً على دينه ولا يؤتى من قبل هذه الدعوى(24/1)
موقع التربية من الدعوة إلى الله
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله الأمين، محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
وبعد: فإن موضوعنا سوف يكون عن جانب عظيم ومهم جداً من جوانب الإيمان، وهو ما يتعلق بأعمال القلوب التي غفل كثير من الناس عن أهميتها، ولا أعني بالغافلين عنها الذين انحرفوا فيها كالمتكلمين والصوفية، ولكنني أقصد تقصيرنا نحن أهل السنة والجماعة المتبعين لمنهج السلف الصالح، ومنهج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في الدعوة والتزكية والتربية، نحن قد لا نعطي لهذه الأمور ما تستحق من العناية والتركيز, مع أنها من أهم الأمور كما سنوضح بإذن الله تبارك وتعالى.
والتذكير بالأمور الأساسية والمهمة واجب لا يجوز ولا ينبغي لأحد أن يجد غضاضة منه، فإن الله تبارك وتعالى أكثر ما ذكر في القرآن ووعظ ونوَّع في الأساليب بالإيمان بالله وتوحيده والإيمان باليوم الآخر، مع أن المخاطب به قوم قد آمنوا بذلك من قبل في الغالب، لكن هذه هي الأمور المهمة والأساسية والأصلية التي تنبني عليها حياة المؤمن وعبادته وأعماله والتي يجب أن يُذكِّر بها، وأن يُتَحَدَّث عنها كثيرا، ً فكيف إذا وجدنا أنها ربما أهملت لأسباب مختلفة.(24/2)
الاهتمام بأعمال القلوب
إنَّ علينا جميعاً -نحن طلبة العلم- أن نراجع أول ما نراجع موقف قلوبنا مع ربنا تبارك وتعالى، وحال هذه القلوب من التزكية والطهارة والتصفية والنقاوة، وأن نتعرف على أعمال القلوب، ونعلم مقدار ما لدينا منها، وماذا ينقصنا، وكيف فهمنا لها، ومعرفتنا وعلمنا بها، أهي كما يرضي الله عز وجل وكما كان السلف الصالح, أم هنالك شيء من الخلل فيها فيتدارك، فإذا صلحت هذه القلوب؛ فإن الحال يكون كما في الحديث الصحيح {ألا وإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ} رواه البخاري ومسلم وابن ماجة والدارمي وأحمد.
إنَّ هذا الدين إنما نزل في حقيقته لتزكية القلوب وإصلاحها، ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أنا دَعْوَةُ أبي إِبْرَاهِيمَ} رواه أحمد.
ودعوة أبينا إبراهيم هي ما في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [البقرة:129] فإبراهيم عليه السلام دعا الله لما بنى هذا البيت العظيم "العتيق" أن يبعث في هذه الأمة هذا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبهذه الأهداف والأغراض، وقد استجاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دعوة إبراهيم عليه السلام كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2].
فنلاحظ هنا أن هذه الأمور الثلاثة المدعو بها اختلف اختلفت ترتيبها، فتقدمت التزكية على التعليم، ولاشك أن الإنسان لا يمكن أن يتزكى إلا بأن يتعلم الكتاب والسنة، فيتعلم الهدى الذي جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكن عندما تتقدم التزكية فهي من باب تقديم الغرض والغاية على الوسيلة التي تؤدي إلى هذه الغاية.
فالأصل هي: تزكية هذه القلوب التي هي موضع نظر الله من العبد كما في الحديث: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ} رواه مسلم، وهذه القلوب هي محل الابتلاء والتمحيص ومحل الأعمال التي لو استعرضناها؛ لعجبتم ولعلمتم أن لهذه القلوب شأناً عظيماً عند الله تبارك وتعالى، كيف لا والقلب هو الذي إذا كان حياً فإن الجسد يحيا معه، وإذا مات مات الجسد.(24/3)
حياة القلب وموته
فالحياة حياة القلب، والموت موت القلب، والمرض مرض القلب.
ولذلك نجد آيات عظيمة وكثيرة تتحدث عن أعمال القلوب، وأعظم هذه الأعمال بلا ريب هو الإيمان الذي هو الدين كله، ونحن الذين خاطبنا الله تبارك وتعالى باسم الإيمان حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:104] والمقصود به: الذين استجابوا لله تبارك وتعالى، وأذعنوا ظاهراً وباطناً، قولاً وعملاً، فالإيمان عند أهل السنة والجماعة هو -كما تعلمون- (قول وعمل).
فالقول قولان والعمل عملان.
فالقول: قول القلب وهو: إقراره وتصديقه، وقول اللسان وهو: إقراره وتصديقه، أي: نطقه.
والعمل عملان: عمل القلب، وعمل الجوارح.
فلا أحد من المسلمين يجهل أنه لا بد من عمل الجوارح كالصلاة والصيام والزكاة وما أشبه ذلك، والأوضح عند المسلمين عامة الإقرار باللسان أي: (قول اللسان) , لكن ما يتعلق بالقلب -وهو الأهم- قد يخفى على كثير من المسلمين.
ولهذا نجد أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يخاطبنا بذلك ويبين لنا أهمية القلب فمثلاً: لما جاءت الأعراب، وقالوا -كما حكى الله عنهم-: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] فالأعراب أسلموا بمعنى أنه: حصل منهم الانقياد الظاهر، وأصل الإقرار والتصديق الذي يكون بالقلب، ولكن لم يدخل الإيمان في قلوبهم.
فالقلب لم يصل بعد إلى أن يكون قد آمن حقاً، وهذه درجة لا يجوز لأحد أن يدعيها، فالإيمان في الحقيقة هو إيمان القلب، ولهذا قال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7] وذلك في مخاطبة المؤمنين، فهكذا يكون تزيينه في القلب، ودخوله فيه، أما المؤمنون السابقون فقد زينه في قلوبهم، وأما الأعراب فهو لما يدخل قلوبهم بعد، مع أن الجميع مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, مثلما نكون نحن الآن في الصلاة -مثلاً- في المسجد وفي الجهاد, فكلنا في مسجد واحد وفي معركة واحدة, لكن بين هذا وذاك من التفاوت مثل ما بين السماء والأرض، بقدر الإيمان وبقدر أعمال القلوب من الإخلاص والخشوع والإنابة والإخبات وغير ذلك من أعمال القلب.
أما أعمال الجوارح فإنها لا تكفي من دون أعمال القلب كما حصل في عهد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الرجل الذي كان يبلو بلاءً شديداً ضد المشركين، ومع ذلك يقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {هو من أهل النار}، ربما يكون ذلك مع وجود من هو من أهل الإيمان والتقوى ومن أهل الجنة في الجيش, ولم يبل ذلك البلاء ولم يقتل مشركاً واحداً ولم يَصُلْ ولم يجل في المعركة، وكذلك في الإنفاق والصدقة والإحسان وسائر أعمال الخير التي إنما نريد أن نعبد ونتقرب إلى الله تبارك وتعالى بها.
إذاً: الإيمان هو: إيمان القلب، والتقوى -أيضاً- هي: تقوى القلب، كما قال الله: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنَا، وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} رواه مسلم، وأحمد، فمحل التقوى هو القلب، والتقوى تشمل كل أعمال الخير والبر والصلاح، ولاسيما إذا أفردت, وقد بحث هذه المسألة شَيْخ الإِسْلامِ في أول كتاب الإيمان عند كلامه على لفظ البر ولفظ التقوى، وأمثالها من الألفاظ التي تأتي في القرآن والتي إذا جاءت فهي تشمل كل أعمال الإيمان الظاهر منها والباطن.(24/4)
أقسام القلوب
أقسام القلوب ثلاثة وهي التي تسلم، أو تقسو، أو تمرض، والقسوة هي الموت، وهذه الثلاث الحالات تنتاب القلوب.
أما القلوب السليمة: فقد جاءت في كتاب الله تعالى، كما في قوله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] أي: خالص متجرد من الشرك، لا تشوبه شائبة من شرك، أو نفاق، أو رياء.
ويقول الله تبارك وتعالى في موضع آخر عن سلامة القلب في حق إبراهيم الخليل: {إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات:84] فإبراهيم عليه السلام حقق ذلك، ولذلك أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالائتساء والاقتداء به؛ لأن قلبه عليه السلام سَلِمَ من الشرك، ومن الولاء لغير الله، ومن المداهنة، والرياء، والنفاق، فخلص وتجرد، وتطهر لله وحده لا شريك له.
أما القلوب المريضة: فكما قال الله تعالى: {أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور:50] فالقلوب تمرض، والآيات التي تذكر مرض القلب كثيرة منها قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً} [البقرة:10].
وهناك طائفة كبيرة محسوبة ومنسوبة إلى هذا الدين, ويأتي الحديث عن أمراض القلوب غالباً مقترناً بها، وهم المنافقون -نسأل الله العفو والعافية- وهل هناك مؤمن يخاف من شيء أكثر من خوفه أن يكون منافقاً، فهذا أخشى وأخطر ما يجب أن نخافه، فلا ينفعنا عمل مهما كبر وعظم مع النفاق، لأن المنافقين ينفقون ولكن ينفقون وهم كارهون، ويصلون ولكن يصلون وهم كارهون، ويخرجون للجهاد ولكن كما قال تعالى {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً} [التوبة:47].
فليست المسألة في أن الأعمال تقع، لكن أن تكون هذه الأعمال تقع مع قلب سليم من المرض، ولهذا خاطبهم الله ووصفهم بأنهم قالوا: آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، فلا ينفع من آمن بفيه ولم يؤمن قلبه، إلا السلامة من سيف المؤمنين في الدنيا؛ لأنه قد دخل في دائرة من عصم دمه بقول هذه الكلمة ظاهراً، ولهذا لما ضرب الله تعالى المثل لهم في أول سورة البقرة قال فيهم: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة:19] أي: أنهم ليسوا كالكفار الذين لم يروا نوراً مطلقاً، فقد رأو نوراً ولكن هل ينفعهم هذا الصِّيب، وهذا البرق؟ لا ينفعهم مطلقاً، بل هو مخيف لهم، لأنهم لم يذعنوا بقلوبهم لله تبارك وتعالى, ولو أذعنوا وآمنت قلوبهم لاستنارت ولما كان ذلك إلا نوراً في قلوبهم وحياة يحيون بها، ويزكون بها أعمالهم، وتسلم قلوبهم من المرض فتطمئن، كما قال الله: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
وأما القلوب الميتة: فإنه إذا اشتد المرض بالقلب؛ حصل الموت، والموت: هو القسوة كما في قول الله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة:74] وقوله تعالى أيضاً: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم} [الزمر:22].(24/5)
من نتائج مرض القلوب
هناك ألفاظ قريبة من القسوة أو شبيهة بها تدل على موت القلب -والعياذ بالله- إذا كان صاحبه ممن أهمله حين مرض, ولم يتنبه له ولم يعالجه بذكر الله؛ فأوصله إلى نتائج مرض القلب مثل: 1 - أن يقفل عليها، كما قال تعالى: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] فيقفل على هذه القلوب.
2 - الران، قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُون} [المطففين:14].
3 - أو التغليف، كما قال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة:88].
4 - عدم الفقه، كما قال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179].
6,5 - الطبع والزيغ، كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5].
7 - العمى، قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور} [الحج:46]، وقد ذكر الله تبارك وتعالى الكثير من نتائج موت القلب من مثل هذا، ولو تدبرنا في القرآن حق التدبر لوجدنا الكثير من هذه المواضع، فيما يتعلق بمرض القلب وموته، وأكثر من ذلك أو مثله فيما يتعلق بأعمال القلوب.(24/6)
أعمال القلوب
حياة القلوب لها أعمال ولها صفات وأحوال، والأعمال القلبية كثيرة جداً منها:(24/7)
الوجل
كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] وفي قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2].(24/8)
المحبة
والمحبة قطعاً محلها القلب؛ ولذلك يقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا ُيحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله} [البقرة:165] ويقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] ويقول: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]، فهذه مزاعم ودعاوى باطلة، ولكن المؤمنين هم الذين يحبون الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويحبون المؤمنين والصالحين وكل ما من شأنه أن يقربهم إلى الله عز وجل، وإلى محبته ورضاه.(24/9)
الإخلاص
الإخلاص عمل عظيم، وبه يكون الفارق بين المؤمنين والمنافقين، لأنَّ المنافقين حتى وهم يشهدون شهادة الحق، فإنهم يشهدون وهم كاذبون، فإذا أردنا أن نفرق بين المؤمنين والمنافقين فالصدق والإخلاص هما أساس ذلك, وهما من أعظم أعمال القلوب إضافة إلى المحبة واليقين، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة} [البينة:5] نعم هكذا أمروا، فلو عبدوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من غير إخلاص, لما قبل منهم ولما نفعهم ذلك في شيء، لا سيما إذا فقد الإخلاص كله, أما إذا كان الإخلاص ناقصاً أي غير مفقود فشابته شوائب؛ فهذا له حكم أهل الوعيد والعصاة.(24/10)
الإخبات
الخبت في اللغة: هو الأرض المنبسطة، والإخبات: أخبت إذا طأطأ حتى يساوى بالأرض، ففي هذا دليل على كمال الانقياد والإذعان {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج:54] فالإخبات هو عدم الاعتراض, فلو ارتفعت لكان فيها نوع من الاستكبار.
ولهذا يقولون في قلوب الكفار: إنها قلوب متكبرة جبارة, وكثيراً ما يصفهم الله بوصف الاستكبار؛ لأنهم يستكبرون عن عبادة الله وطاعته والانقياد لأمره، فالاستكبار ضد الإخبات.
والإخبات في الشرع هو: الخضوع الكامل والمطلق، فكأنه التصق بالأرض، فليس لديه أي اعتراض على ما يأتي من عند الله تبارك وتعالى، فهو كما قال الله عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] والتسليم هو: حالة الإحسان التي ذكرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث جبريل العظيم المشهور، وهو: {أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك} لأنه كما قال ابن القيم رحمه الله تحكيم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مقام الإسلام.
فمن لم يحكم رسول الله على قلبه ونفسه, ويجعل هواه تبعاً لما جاء به في أصل التحكيم؛ فإنه ليس بمؤمن ولا بمسلم, إذ التحكيم في مقام الإسلام هو كما قال: {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء: 65]، وانتفاء الحرج يكون في مقام الإيمان، فالإيمان درجة أعلى من درجة الإسلام، فالدرجة هذه أنه حكم وانتفى الحرج من قلبه فلا حرج فيما يحكم به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والمقصود هو: ما جاء به عامة، أي: ما جاءنا من حكمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهديه وسنته الظاهر منها والباطن، فنجعل كأنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بنفسه قائم بين أظهرنا, يقول: اعملوا كذا ولا تعملوا كذا.
فرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غاب بجسده, وأما دينه وسنته وهديه فهي بين أيدينا وحجته قائمة علينا, فلا بد من انتفاء الحرج هذا في مقام الإيمان.(24/11)
التسليم
يقول: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] وهذا التسليم هو الذي لا يخطر على البال معه أدنى اعتراض كما كان الصديق رضي الله عنه.
ففي صلح الحديبية كان الصديق رضي الله عنه هو الوحيد من بين الصحابة جميعاً الذي سلم في هذا ولم يعترض، أما ثاني رجل في هذه الأمة في الإيمان والدين، وهو عمر رضي الله عنه فقد أبى واعترض، وقال: {يا رسول الله! ألسنا بالمؤمنين، وأليسوا بالكافرين، قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟!} فكأن الشروط مجحفة وما سلم تسليماً، لكن ليس في ذلك رد لأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو تقديم بين يدي الله ورسوله، وإنما ذلك غيرة منه على دين الله، وحرصاً منه على علو الدين وظهوره وتمكينه وانتصاره على أعدائه, فيرى أن هذه الشروط مجحفة للمسلمين -كما هو ظاهر الحال- فما سلم تسليماً بحيث لا يكون لديه أي ممانعة أو مدافعة أو منازعة، وإذا علمنا ذلك علمنا أهمية أعمال القلوب، وأن التزكية تحتاج إلى صبر ومصابرة ومثابرة ومجاهدة ومحاضن تربوية، وعمل ذاتي من المربي أو المزكي بنفسه ومن المجتمع أو الأمة، حتى تصلح هذه القلوب وتصلح هذه الحالة (حالة الإحسان).
ولهذا يقول عمر رضي الله عنه: [[فأعتقت وتصدقت لذلك]]، أي: أعتق وتصدق من أجل موقفه في ذلك اليوم, لأنه أنزله عن دائرة التسليم المطلق الذي فعله الصديق رضي الله عنه، وكان الصحابة مع عمر لكن لم يستطيعوا وليس فيهم جرأة عمر رضي الله عنه، فلما رأوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحلق ويتحلل؛ عندها أذعنوا عملياً لمشورة أم المؤمنين رضي الله عنها.(24/12)
الإنابة
قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54] والإنابة معناها قريب من معنى الإخبات، وأناب في اللغة معناه: عاد ورجع، فالإنابة: أن يعود الإنسان ويرجع إلى الله رجوعاً كلياً متجرداً خالصاً لله تبارك وتعالى، فيرجع عن كل ما لديه من أهواء، وشهوات، ودوافع، ونوازع ويجعل همه هو رضا الله تبارك وتعالى.(24/13)
الخشية
الخشية أمرها عظيم، وقد مدح الله وأثنى على الذين يخشونه، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] ولا خير في علم لا يؤدي إلى خشية الله تبارك وتعالى.(24/14)
الخشوع
قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَءَامَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16] والخشوع هذا بمعنى الخشية أو قريب منه.
فأعمال القلب تتقارب؛ لأنها أعمال باطنة، فنجد -مثلاً- الوجل، والخوف، والخشية، والخشوع؛ متقاربة المعنى، ولكل واحد منها معنى, لكنها متقاربة في ذلك وكلها تدل في النهاية على كون هذا القلب خاضعاً وذليلاً للعزيز الجبار المتكبر الذي خلقه فسواه وعدله، وافترض عليه ما افترض، وشرع له ما شرع، وتعبده بما تعبد.
فإذاً الوجل والخوف والخشية والخشوع هي جملة من أعمال القلب لها دلائل، ويقابلها الرجاء والمحبة والرضا والفرح, فتتوازن النفس الإنسانية بين هذه الأربعة وتلك الأربعة, فيكون الإنسان حقاً قد جمع كل أعمال القلوب وأنواعاً من العبوديات التي يحبها الله تبارك وتعالى والتي لا يريد أن يقع أو يحصل بعضها ويترك ويهمل البعض الآخر.(24/15)
التوكل
إنَّ أعمال القلوب كثيرة، والقاعدة في ذلك: كل ما نسب إلى القلوب أو إلى الصدور في كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فهي من أعمال القلوب، وهي أحياناً لا تنسب إلى القلب أو إلى الصدر ولكن هي محلُ ذلك، كالتوكل مثلاً، فهو من أعظم أعمال القلب؛ لأن التوكل يدخل في الاستعانة، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة الفاتحة التي هي أم القرآن والسبع المثاني يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، وكل الدين داخل في هذه الآية وهذه، كما قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك:29]، فـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] هي {آمَنَّا بِهِ} [الملك29] و {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] هي {وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَاِ} [الملك29].
فهناك أمران: أن يكون الله تبارك وتعالى وحده هو المعبود والغاية وهو المراد الذي نسعى إليه, وأن يكون هو المستعان به وحده على تحقيق هذه الغاية, والمتوكل عليه وحده في أمورنا وحدها، فأعمال القلوب كثيرة نستطيع أن نستخلصها من كتاب الله.(24/16)
ضلال الناس في أعمال القلب
كيف ضلت الأمة في أعمال القلوب، وكيف أخطأت، وكيف صار حالها؟ في أول الحديث تعرضنا من أجل بيان أهميتها إلى التقصير والخلل الذي يحصل من أهل السنة والجماعة في هذا، فلعلنا نبدأ في هذا ثم ننتقل إلى المناهج الأخرى التي ضلت وانحرفت، فنقول: إن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم والسلف الصالح، فهموا كتاب الله تبارك وتعالى, وأقاموه علماً وعملاً، وعلموا أهمية الإخلاص واليقين والصدق والمحبة وغير ذلك من أعمال القلوب، فتحققت فيهم العبودية الكاملة لله عز وجل، وعلموا أن لا إله إلا الله ليست كلمة تقال باللسان، وعلموا أن الإنسان إذا انقاد بقلبه وخضع وخشع، فلابد أن يعمل وأن تنقاد جوارحه؛ ولذلك كانت حياتهم واقعاً وترجمةً وتجسيداً لهذه الحقائق الإيمانية التي تعيشها قلوبهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
أما الذي حدث في العصور المتأخرة لبعض أهل السنة والجماعة -ولا نتكلم عمن عداهم- أنهم اعتراهم ما اعترى غيرهم, ولكن بقدر، فاعتراهم الضعف، وانحسر وتضاءل المفهوم في أذهانهم، فأصبح الدين كأنه الشعائر الأساسية, وأصبحت شهادة أن لا إله إلا الله مجرد قول فقط.
فلم يعد أهل السنة بتلك القوة وفي تلك القمة العالية التي كانت عليها الأجيال أو القرون الثلاثة؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما قال: {خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم} هؤلاء الذين يأتون بعد القرون الثلاثة، ليسوا من أهل البدع ومن أهل الأهواء، بل هم على نفس الخط ولكنهم أقل، ففيهم ضعف، وفيهم من الأمور التي لا تخرجهم عن السنة، لكنها تخرجهم وتنزلهم عن درجة القرون الثلاثة المفضلة التي هي في قمة العمل والإيمان والتصديق بهذا الدين.
ودليل ذلك: أن الذين فهموا حقيقة أعمال القلوب من العلماء وتكلموا عنها قوبلوا بشيء من الاستغراب, فقد استغربهم أو ربما أنكر عليهم البعض, ولا نعني بالبعض أهل البدع, ولكن بعض أهل السنة ظنوا كأنما جاءوا بشيء جديد, أو كأن هذا العالم أتى بأمر ما كان يؤتى به من قبل، أو أنه على الأقل جاء بشيء هم لم يألفوه من شيوخهم، وانظروا -مثلاً- كيف استُغْرِبَ ما جاء به شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وما جاء به الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تبارك وتعالى، فبعض الناس فيه الخير والصلاح, ولا يحب أهل البدع ولا يركن إليهم، وكانوا أيام دعوة الشيخ محمد وفي أثنائها وقبلها ومع ذلك ما دعوا إلى مثل ما دعا إليه ولم يجددوا مثل ما جدد؛ لأنهم ما فطنوا إلى ما فطن إليه، لكن الشيخ -رحمه الله تبارك وتعالى- وقبله ابن تيمية والإمام أحمد، فهموا وعلموا أن هذه العقيدة قول وعمل، وأن القلب إذا حيَّ وتحرك وانطلق, فلا بد أن تتحرك الجوارح وتنطلق في الحياة, فليست المسألة تقرير بأن نجلس ونقرر عقيدة الأسماء والصفات، وعقيدة القدر, وعقيدة اليوم الآخر، وكل منا يحفظ هذا العلم، ثم ينصرف راشداً إلى بيته ويكون قد حصل له الخير والعلم والفضل، لا شك أنه حصل له خير وعلم وفضل والحمد لله وهذا شيء عظيم، لكن الأمر أكبر من ذلك أما هؤلاء الأئمة فقد تعلموا كما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم الصحابة الإيمان قبل القرآن.
وهؤلاء الذين ورثوا هذا العلم علموا أنه لا بد أن يتحول هذا العلم إلى عمل ودعوة وجهاد وصبر ومصابرة، لذلك انطلقوا في واقع الحياة، فلا يمكن أن يقر الإمام أحمد الأمة وهي تنصرف وتنحرف عن العقيدة الصحيحة إلى عقيدة فاسدة، وإنْ أُوذِي، وضرب، وجلد، وإن حصل له ما حصل -كما تعلمون- وكذلك شَيْخ الإِسْلامِ أراد أن يحرك هذه الأمة في الجهاد وهو في أول الصفوف، فيجاهد طواغيت التتار ويذهب بنفسه ويخاطبهم بأقوى الكلام.
أما الباطنية فيأخذ طلابه ويجاهدهم بالجدال، ويدعو الأمة لمقاتلة الصليبيين، إنها حياة حقيقية التقت فيها حياة أعمال الجوارح مع حياة القلب، وعمل القلب, ولكن ليست كل الأمة فيها ذلك, فالتقصير حصل عند أهل السنة في هذا, فعندما أتت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- كان الأمر كذلك.
والآن ونحن -والحمد لله- نعيش على هذه العقيدة وعلى بقايا هذه الدعوة, نجد فينا من الضعف الظاهر البيّن، والواضح الجلي، والذي يدل على أننا لم نحقق أعمال القلوب كما ينبغي، وإن كنا -والحمد لله- في الجملة مجانبين لأهل الأهواء والبدع، ولكن ليس الأمر فقط أن تجانب أهل الأهواء, ولكن أن ترتقي في درجات الإيمان واليقين والإخلاص والدعوة، ولذلك كم من المسلمين ومن طلاب العلم من لا يعلم شروط لا إله إلا الله، والتي هي: العلم والإخلاص واليقين والصدق والقبول والمحبة والانقياد، ولو رجعنا لأعمال القلب التي نتحدث عنها، فـ: "لا إله إلا الله" تقتضي هذه الشروط، والتي هي أساسيات الإيمان، فنحن رجعنا إلى هذه القضية، فالشخص الذي لم يتعلم هذه الشروط ولم يوفقه الله لها، بل ربما لا يتخيل أن لها شروطاً أو أركاناً أصلاً، لكن مع ذلك فهو إن شاء الله تبارك وتعالى على الإيمان والسنة وفيه خير ولا يأتي بالبدع، ولكن هذه الإشارة تكفي لنعلم أن الأمة لديها هذا الخلل والنقص الواضح.(24/17)
أعمال القلوب عند المبتدعة
ما ذكرناه من أهمية أعمال القلوب، هو ما يعتقده أهل السنة أما غيرهم من أهل البدع فلهم مواقف أخرى.(24/18)
الطائفة الأولى: أهل الكلام
إنَّ أهل الكلام: هم الذين تُقرر كتبهم ومناهجهم الآن في الجامعات والمعاهد والمدارس الإسلامية خارج هذه البلاد إلا ما رحم الله, بل ربما قررت هنا في بعض الجامعات وتدرس في بعض المساجد.
عقائد أهل الكلام التي يقولون فيها -كما يقول الباقلاني وهو من أكبر أئمة المذهب الأشعري المتقدمين والجويني -: 'إن الإيمان هو التصديق دون سائر أعمال القلب والجوارح' فالإيمان عندهم مجرد التصديق دون سائر أعمال القلب والجوارح, والجويني في الإرشاد يأتي بالخلاف فيقول: قال جهم: 'الإيمان هو المعرفة بالقلب وقال: السلف الإيمان قول وعمل ثم يقول: والذي نرتضيه ديناً هو: أن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط' أي: غيَّر عبارة جهم والتي هي المعرفة، وجاء بالتصديق.
إذاً: هو يرفض مذهب السلف بعد أن نقله وأورده وذكره، فكيف يكون هؤلاء من أهل السنة والجماعة كيف يكونون متبعين لمنهج السلف الصالح وهم يذكرونه ويتعمدون مخالفته، وإلى أي رأي يخالف! إلى رأي ليس ببعيد عن رأي جهم، وإن غيروا المعرفة وجعلوها تصديقاً.
فإذا تجرد التصديق عن العمل، وعن بقية أعمال القلب والجوارح؛ فإنه يصبح في الحقيقة علماً مجرداً أو معرفة مجردة لا أكثر ولا أقل، فكأن الاختلاف بينهما -بين الأشاعرة والجهمية - لفظي فقط.
إذاً: ماهي نتيجة أن تدرس عقائدهم الباطلة من أقصى إندونيسيا مروراً بـ الهند وبنجلادش وباكستان وغيرها إلى الدول العربية إلى تركيا إلى إفريقيا وتكون هذه هي المناهج التي يتعلمها الناس، فيقال لهم: إن الإيمان فقط هو التصديق ولا يدخل فيه أعمال القلب ولا أعمال الجوارح.
إنه يترتب على هذا الكلام خطر عظيم، وهو الواقع في أحوال المسلمين اليوم؛ حيث اعتقدوا أن الكفر هو التكذيب، ما دام أن الإيمان هو التصديق، فمن اعتقد أن الله حق، وأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صادق؛ فقد صدق وهو مؤمن، فالكافر هو الذي يعتقد أن الله تبارك وتعالى ليس حقاً وأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس صادقاً، وكم من المسلمين من يعتقد ذلك؟! قليل جداً.
فلما أهملوا التوكل والاستعانة واليقين والإخلاص وغير ذلك من أعمال القلوب؛ استُعين بغير الله، واستُغيث بغير الله، ودُعي غير الله، وعُبد غير الله؛ فامتلأت بلاد العالم الإسلامي بالقبور، والأضرحة، والمشاهد، والمزارات، وأصبح الناس يتقربون إليها، ويطوفون حولها، ويدعون أصحابها، ويبتهلون إليها، ويتضرعون إلى أصحابها، ويذبحون لهم، ويهدون إليهم، فإذا قلت: هذا شرك، وهؤلاء يقعون في الشرك، قالوا: ليس هذا بشرك أو كفر؛ لأنهم تعلَّموا أن الكافر هو الذي كذَّب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يؤمن به، وهذا مصدق، فإذاً أنتم مبتدعة، وأنتم على مذهب الخوارج! وتهمة الخوارج هذه إذا سمعتموها وأنها تقال لمن ليس من أهلها، فاعلموا أن هذه هي سنة الله تبارك وتعالى كما قال: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53]، وكما قال الله تبارك وتعالى لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت:43]، فيقال: خوارج لكل من دعا إلى الله تبارك وتعالى على علم وبصيرة, وهو واضح أنه مجانب لمذهب الخوارج مثل ما بين السماء والأرض.
فهكذا يتهم أهل الباطل وأهل الإفك من أراد أن يجرد التوحيد وأن يخلصه لله تبارك وتعالى، في القديم والحديث، وفي كل زمان ومكان.
إن إغفال أعمال القلوب هو الذي أدى إلى هذه الظاهرة العجيبة جداً لو تأملناها، وربما أن من خرج من هذه البلاد ورآها، تعجب كل العجب، فتجد أستاذاً جامعياً في كلية الشريعة أو في غيرها على درجة كبيرة من العلم يقول: ذهبت عند ضريح الشيخ فلان أدعو، فيقال: أنت دعوته، فيقول: لا أنا ما دعوته ولكن دعوت الله تبارك وتعالى بواسطته، فإذا قلت له: فما رأيك فيمن يدعوه! يقول: حتى من يدعوه فغرضه التوسل، فإذا قلت: وأين الدليل؟ يقول: الله تبارك وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] سبحان الله! كل هذه الآيات التي في أعمال القلوب تهمل, ويؤتى بمثل هذه الآية, ويتأولونها على غير وجهها, ويجعلونها معارضة لكل الآيات الصريحة الدلالة الواضحة على أنَّ القلوب لا بد أن تتجرد لرب القلوب تبارك وتعالى.(24/19)
الطائفة الثانية: الصوفية
ولقد انحرفت الصوفية انحرافاً عظيماً في أعمال القلوب, فهم لم يهملوا أعمال القلب كالذين أغفلوها من المتكلمين، فـ الصوفية من جنس الضالين, وأما أهل الكلام فهم من جنس المغضوب عليهم.
فمن ضل من أهل الكلام -وهم كلهم أهل ضلال- فهو من جنس المغضوب عليهم الذين عرفوا الحق ولكنهم تعمدوا مخالفته ولم يعملوا به، فعندهم علم في أقوالهم، ولكنهم يتركون ذلك، أما الصوفية فهم من جنس الضالين، لأنهم يعلمون أهمية التوكل، فأكثر ما يدعون ويتكلمون عن أعمال القلوب ويركزون على اليقين والإخلاص والإخبات والإنابة، ويجعلونها مقامات وأحوالاً.
وهم يعادون أهل الفقه، أو أهل الظاهر, أو الشريعة، إلى غير ذلك من الألقاب التي ينبزون بها العلماء لأنهم يرون هؤلاء العلماء يغفلون عن أعمال القلوب, فيجلس أحدهم في المسجد يتكلم عن كتاب المياه والطهارة والوضوء والصلاة والحيض والغسل والزكاة, ولا يتكلم عن اليقين أو الإنابة أو الإخلاص أو الخوف أو الرجاء أو المحبة أو الخطرات أو الوساوس أو الشكوك أو غيرها، فيقولون: هؤلاء أهل الظاهر فقط، أي: أحكام ظاهرة فقط، ويتركون الأساس، نعم هذا تقصير كما ذكرنا أن تهمل هذه الجوانب، لكن لا يفر من انحراف إلى انحراف آخر.
أما التوكل -مثلاً- عند الصوفية فهو التواكل، ولهذا عندما يأتي الغزالي في الإحياء فيجعل درجات الناس في هذا العمل العظيم, يقول: 'الناس درجات، منهم عامة الناس وهؤلاء يعملون ويتخذون الأسباب'، أي: يكدحون من أجل الحصول على لقمة العيش.
ثم قال: 'ومن مقامات التوكل الذي يعتزل في المسجد ويذكر الله ويسبح الله ويتوكل على الله برجاء ما يقدم له'، أي هذا يعطيه دينار والآخر درهم، وآخر يقول: تعال اليوم العشاء عندي، وهو جالس يعبد الله تبارك وتعالى في المسجد، انظروا كيف يكون هذا مقام من مقامات التوكل.
ثم قال: 'ومقام أعلى منه كمقام الخواص وأمثاله من أئمة الصوفية وهو الذي ينطلق ويمشي في البرية بغير زاد، توكلاً على الله تعالى، وترك الأخذ بالأسباب'، فإذا كان يريد الحج -مثلاً-: من بغداد، أو من خراسان، إلى مكة، فيخرج في البرية من غير زاد، وذلك ثقة في الله، وتوكلاً عليه، ولا يأخذ أي شيء، وهكذا يهيم في الصحراء وهذه هي الدرجة العليا من التوكل عند الصوفية، سبحان الله! كيف سيكون حال الأمة الإسلامية لو أخذت بذلك؛ لتركت الأسباب، ولتواكلت، ولأفنُيت تماماً، فيفنيها التتار والصليبيون وأمثالهما، -وفعلاً- فلما جاء الصليبيون اعتزل الغزالي الدنيا ولم يكن له أي مشاركة، والمقصود من هذا النموذج بيان خلل الصوفية في فهم أعمال القلوب كالتوكل.
أما الرضا وهو عمل عظيم, فقالت عنه الصوفية: الرضا أن ترضى بكل ما ترى في هذا الكون، أي أن تشهد الحقيقة الكونية، فكل ما قدره الله تبارك وتعالى ترضى به، فالكفر، والشرك، والسحر، والزنا، والفساد، والسرقة، والظلم، والإفك، ترضى بها لأنها من عند الله تبارك وتعالى فتشهد الحقيقة الكونية.
حتى أن بعضهم فعل الأعاجيب، فلما دخل هولاكو إلى بغداد أتى أحد شيوخ الطريقة وأخذ يقود الفرس لـ هولاكو، فقال الناس: شيخ وتقود الفرسان لعدو من أعداء الله, سبحان الله! لكن الشيخ أجاب: بأن هذا من شهود الحقيقة الكونية، فهذا قد يكون منافقاً في الحقيقة، ولا شك أن مثل هؤلاء عملاء، وفي الأصل هو أجاب بما اصطلحت عليه الصوفية، بأن هذه عقوبة من الله على المسلمين بذنوبهم، فيدخل مع أعداء الله تبارك وتعالى فيا سبحان الله على هذا الفهم! ولو أن كل واحد من المسلمين فهِم كفهم هذا الشيخ الضال، لكان كلما داهمنا عدو، ذهبنا مع اليهود، أو الصرب، أو الأمريكان، أو المجرمين، في كل مكان يحاربون فيه أو يهاجمون فيه المسلمين، سبحان الله! أما المحبة, فقالوا: المحبة إذا تعلق المحب بالمحبوب؛ رضي عنه ولم يؤاخذه بشيء, فأصبحوا -حتى في عبادتهم- إن تقربوا إليه بشيء تقربوا إليه بما يثير المحبة، يقولون: نحن أحببناه فلا يؤاخذنا في شيء، لأن الله تبارك وتعالى لما قال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:18] قالوا: فإذا أحب الله العبد لا يعذبه بذنوبه، إذاً نحن نحب الله ويحبنا الله تبارك وتعالى فلا يعذبنا.
فكل ما يعملونه هو تهييج المحبة فقط، فيجلسون ويجتمعون رجالاً ونساء، كباراً وصغاراً ومرداناً، وينشدون الأناشيد في المحبة والعشق والهيام والغرام، ومنها قصيدة امرؤ القيس فيأتون بها، والقصائد التي قالها المجنون في ليلى يأتون بها وليس فيها تغيير، ويتناغمون، ويتمايلون عليها ويقولون: هذه تهيج المحبة وتجعلنا نحب، فإذا جئنا إلى محبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهم يرون أنها عشق للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانظر إلى سوء الأدب حتى في التعبير، يرون العشق هو عشق النبي، وقد هجاهم المعري على ما فيه من الانحراف لما قال:
أرى جيل التصوف شر جيل فقل لهم وأهون بالحلول
أقال الله حين عشقتموه كلوا أكل البهائم وارقصوا لي
لقد بلغت -كما أوردت بعض المصادر- تكاليف بعض حفلات الصوفية التي كان يحضرها سلاطين المماليك وغيرهم آلاف الدنانير والمسومات والروائح والأطياب، فترى الشيء العجيب من الترف والبذخ، فعندما يحتفلون بعيد ميلاد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المبتَدَع ترى بذخاً هائلاً جداً، فيأكلون من هذا البذخ ثم يقومون يرقصون ويتمايلون إلى الفجر، فقول المعري هنا على ما فيه من الزندقة ينطبق عليهم:
أقال الله حين عشقتموه كلوا أكل البهائم وارقصوا لي!!
فإن أنكر هذه البدعة عليهم منكر, قالوا: هذا لا يحب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا تستغرب منه أن يقول: هذا خارجي، أو وهابي، أو هذا لا يحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو كان يحبه ويحب الله لأكل كما يأكلون ولرقص كما يرقصون, نسأل الله تبارك وتعالى العفو والعافية، إذاً هذا فهمهم للمحبة، ولذلك من غلوهم في فهم المحبة أنسوا الناس الخوف، بعكس الخوارج الذين أخذوا الخوف فقط، وأغفلوا الرجاء، فـ الصوفية أهملوا الرجاء كما قال الهروي: 'الرجاء أضعف مقامات المريدين'، إذاً هم أخطئوا وضلوا في الرجاء، والخوف، والرضا، والمحبة، وحتى في اليقين.
أما اليقين عند الصوفية فهو شيء عجيب جداً، فاليقين عندهم أن الواحد منهم ينام بعد أن يدعو بدعاء معين ابتدعوه فيرى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في تلك الليلة، بل وصل الحال بهم إلى أنهم يرونه -كما يزعمون- يقظة، بل ويدعون أن الله تعالى يكلمهم وهم يسمعونه.
إذاً: وصلت الأمة إلى ما ترون من الحال، فالطائفة الأولى أناس انصرفوا إلى فقه مجرد, مع أن الفقه في حقيقته هو العلم الشريف العظيم الذي منه الفقه الأكبر وهو التوحيد، ولكنهم انصرفوا إلى مجرد أحكام ومسائل يبلغون فيها الدرجات والمناصب، ولكنهم في بعدٍ كامل وشديد عن تزكية القلب وتطهيره وتنقيته، والإجلال لله تبارك وتعالى والخشوع، والخضوع والإنابة له وتوحيده كما أمر الله تبارك وتعالى.
والطائفة الأخرى التي ينظر إليهم على أنهم هم أهل العبادة وأهل الذكر، تجدهم في الموالد وعند الأضرحة، وتجد العمائم والمظاهر ولكن كما قيل في القديم: 'العمائم أبراج، والأكمام أخراج، والعلم عند الله تبارك وتعالى'، هذا هو حالهم، فهم أصحاب موائد، ومناسبات، واحتفالات، ويتكلمون عن أمور هي من أصل الدين كالمحبة والرضا واليقين وما أشبه ذلك, والكرامات والولاية وكيف يصل الإنسان إلى ولاية الله تبارك وتعالى، والموضوع نفسه موضوع عظيم لكنهم يتكلمون فيه بجهل، وبدع وضلال؛ فضاعت الأمة بين هذا وذاك.
والحق هو الوسط وهو ما كان عليه سلف هذه الأمة كما أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث المعلوم، حديث الافتراق فقال: {من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي}.
نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يرزقنا العلم النافع إنه سميع مجيب(24/20)
الأسئلة(24/21)
صلاح القلب وفساده
السؤال
نحن نعلم أن القلب من الناحية التشريحية عبارة عن عضلة تتصل بها الشرايين والأوردة, وأنها تضخ الدم, فكيف تكون هذه العضلة موضعاً لأعمال مختلفة مثل الحب والكره والحسد وغيرها، وما هي إلا عضلة تضخ الدم؟ وآخر يقول: إنه مع التقدم في طب القلب ربما يغير للإنسان عضلة قلبه، فهل تتغير أحوال المرء بتغيير القلب، ما رأي فضيلتكم؟
الجواب
نحن لا نخلط بين عالم الغيب وعالم الشهادة، فحتى نحن عندما يقال هذا فلان، فإنك أخذته كعِلْمِ شهادة مجرد, الذي هو الطول والعرض والارتفاع، واللون والشعر والعصب واللحم، لكن إن أردت بفلان حقيقته الذاتية المعنوية، فأنت تتكلم عن شيء آخر غير ذلك تماماً, فلا نخلط بين الأمرين.
والمقصود شرعاً بالقلب ليس هو مجرد ما يقصد به تشريحاً أنه هذه العضلة وغيره، إنما الحديث عن الجانب المعنوي الذي هو من عالم الغيب، فنحن نجهل الروح كما قال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] وهذه العضلة توجد عند الميت والحي والحيوان، وتوجد عند أتقى الأتقياء، وأفجر الفجار، ولكن ليست القيمة بهذا الشكل المادي المشاهد المحسوس، وليس هو المقصود في كلام الله ورسوله بذاته المادية المحسوسة، وإنما المقصود القلب بكيفيته المعنوية، التي لا تدخل تحت الحس ولا تحت النظر, وهكذا سائر الأعمال وما يتفرع عن القلب من ذلك، فأرجو من الأخ أن لا يخلط بين عالم الغيب وبين عالم الشهادة، وكلام الإخوة الأطباء والمشرحين وأمثالهما له موضعه كناحية عضوية بحتة، ونحن نتكلم من الناحية المعنوية البحتة.(24/22)
اتهام النفس بالنفاق
السؤال
إني أعد نفسي منافقاً حيث إني في الظاهر أمام الناس طيب وملتزم, ولكني إذا خلوت بنفسي ارتكبت المعاصي، ولا أستطيع أن أتركها إذا تذكرتها، ماذا أفعل هل أخبر الناس أنني أرتكب المعاصي؟
الجواب
نسأل الله أن يعفو عنا جميعاً، ومن منا ليس كذلك يا أخي، إذا كان بعض الصحابة يقول: [[لو تعلمون ما أُغْلِق عليه بابي ما تكالبتم وتجمعتم هكذا]] وهو من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو لا يقصد بذلك أنه ينتهك المحرمات، ولكن المقصود -كما في حديث حنظلة - أن حالهم مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير حالهم مع الخلوة، ونحن كذلك ليس حالنا في بيوت الله وفي حلقات الذكر ومع الإخوة الطيبين، كحالنا في حالة الضعف والخلوة وغلبة الشيطان، ولكن هل يعني ذلك أننا لا بد أن نكون بين حالتين، إما أن نكون على حال واحدة كما تخيل حنظلة، فيكون حالنا على وتيرة واحدة من ازدياد الإيمان ونتخيل أن الإيمان يبقى على حالة واحدة لا يقل ولا يضعف ولا يفتر, لا في حالة الوحدة والانفراد, ولا في حالة الاجتماع, ولا في حال إقبال النفس وتشوفها إلى الطاعة, ولا في حال جرمها وعنادها وإما أن نتصور النفاق والسقوط الذي قد يدفع إلى القنوط -والعياذ بالله- فعند ذلك يقول: الأفضل أن أترك هذه الأعمال الظاهرة, بل أقول للناس: أنا وإن صليت فإني أفعل كذا، ولو اتقيت ظاهراً فإني أفعل كذا، ليس الأمر هكذا، إما هذه وإما تلك، بل نحرص على أن نستديم هذه الحالة ما أمكن، فإذا ضعفت, فاعلم أن النفس طبيعتها الضعف، وطبيعة الإنسان هي الظلم والجهل، والله تبارك وتعالى يريد منك أن تقاوم هذا الظلم وهذا الجهل لتقوِّم النفس وتزكيها.
ولهذا قال بعض السلف: جاهدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت، أي: قبل الأربعين كان يظن أنها لم تستقم بعد، ومع أنه كان في مثل هذه الحالة لكنه لم يقنط بل جاهدها، ولما سمع بهذه المقولة آخر: قال أو قد استقامت!! تعجب من أنها قد استقامت، لأنه يقول: نحن سنموت وما زلنا نجاهدها ولما تستقم، وهكذا كان حالهم رضي الله عنه، ولهذا يجب أن نبعد القنوط عنا وأن لا نُحدِّث الناس بذنوبنا, بل نحمد الله تبارك وتعالى أن ستر عنا ذنوبنا التي لا يعلمون.
وأيضاً يجب علينا أن نجاهد أنفسنا وأن نحارب هذا النفاق والرياء، وهذا الخلل والتقصير ما استطعنا, فالحال حال مجاهد لا يضع سلاحه ولا يجد راحة, كما قال الإمام أحمد رحمه الله: 'لا يجد المؤمن راحة دون لقاء ربه' فلا تجد راحة إلا إذا لقيت الله -تبارك وتعالى-, ولا تطمئن إلا إذا وضعت قدميك كلتيهما في الجنة، وهكذا نحن في دار ابتلاء فلا بد أن نصبر على ذلك وأن نجاهد ونصبر ونصابر، ولا نيأس ولا نقنط, فما دمت على هذه الحالة يا أخي, فأنت كما قال الحسن البصري رحمه الله عن النفاق: ' ما أمنه إلا منافق، وما خافه إلا مؤمن '، لأن المنافق يرى ذنبه كذباب وقع على أنفه ففعل به هكذا فذهب، فلا يبالي بذنبه، أما المؤمن فيرى ذنبه كالجبل العظيم يوشك أن يقع فيخاف منه.
فما دمت تخاف من النفاق -والحمد لله- وتستشعر هذه الحالة؛ فلا يدفع بك الشيطان إلى القنوط, ويقول: أخبر الناس وحدثهم بما خفي من أعمالك التي تخالف ظاهرك، بل احرص على أن تصلح باطنك، ونسأل الله أن يصلح سرائرنا وظواهرنا وأن يثبتنا على الحق إنه سميع مجيب.(24/23)
الانشغال عن ذكر الله
السؤال
أنا طالب في كلية الطب، والإغراق في دراسة هذا العلم تشعرني بقسوة في القلب، بماذا تنصحني وكيف أجمع بين دراسة الطب والعلم الشرعي؟
الجواب
أنا أخالف الأخ في أن دراسة الطب تؤدي إلى قسوة في القلب، أما إن كان القصد حال المذاكرة للاختبار فإن هذه توجد في أي علم، حتى لو كان في التفسير أو الفقه أو الحديث، لكن إن كان الإنسان في مجال كمجال الطب، وهو يرى عجائب خلق الله تبارك وتعالى، وأسرار ما أودع الله في هذا الجسم البشري الذي آمن بسببه كثير من الناس وكانوا من عمالقة الكفر لما رأوه وتفكروا فيه، فما بالك بالمؤمن الذي يجب عليه أن يتفكر ويتدبر, وأعتقد أن هذا الأخ لو حدثنا عن تشريح العين وعن وظائف الكبد أو الكلية أو البنكرياس، لازددنا إيماناً بالله كما لو أننا سمعنا آيات الله سبحانه وتعالى وأحاديث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والمقصود: أن يحصل الإيمان بهذه أو بتلك، ولو أصلحنا هذه العلوم والمناهج وأخلصنا فيها النية والهدف؛ فيمكن أن نسمي هذه العلوم علوم التوحيد المساعدة، كما في الاصطلاح الأكاديمي حيث نسمي بعض العلوم: العلوم التخصصية والعلوم المساعدة، فعلم التوحيد الحقيقي الذي نعلمه نجعله هو الأساس، لكن علم التوحيد المساعد هو علم الطب والتشريح والكيمياء والفيزياء وغير ذلك؛ لأنها كلها تأمل وتدبر في ملكوت الله تبارك وتعالى وفي السماوات والأرض، وفي الأنفس, قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]، فيجب أن نسعى وننظر ونتأمل ونتدبر في السماوات والأرض والجبال، وفي الإبل والشجر، والماء، وحتى في الألوان، وفي مبدأ خلق الإنسان، وكيف تتكون النطفة، وكيف يتكون الجنين، وكيف يتعلم الإنسان بعد أن لم يكن كذلك، وأمور عديدة كلها تقوي الإيمان.
أما إن كان الأخ ينظر إلى ما بعد التخرج, فالمشكلة بالنسبة للطب هي ما بعد التخرج، لأنك قد تعمل ثمان ساعات وفي مجال كله منكرات، وربما لا تستطيع أن تدعو إلى الله تبارك وتعالى كما ينبغي؛ لأنك مشغول دائماً بعمليات وبمعالجات, فنقول: كل ميسر لما خلق له، فليست هذه الأمة ميسرة لأن تكون كلها أطباء، ولا فقهاء، ولا محدثين، ولا وعاظاً، ولكن الله تبارك وتعالى نوّع فيها، فهذا يصلح للوعظ، ولا ينبغي له أن ينصرف عنه إلى غيره، وهذا الذي أعطاه الله تبارك وتعالى الفقه والقرآن والتلاوة وحسن العلم والتفقه في الدين لا ينبغي له أن يذهب ليصبح مثلاً مهندساً ميكانيكياً، لكن الذي لم يؤتَ إلا ذلك, فلا نقول له: أرغم نفسك ودع ما خُلقتْ له ويُسِّرَ لك, واذهب إلى هذا المجال الذي لا تحسنه ولا تتقنه بل كل يعمل فيما يحسن، فتتكامل الأمة لأن كُلَّاً منا قد عمل ما يتناسب مع ما خَلَقَهُ الله وجَبَلَه وفطره عليه, وكلنا ندعو إلى الله، فهذا الواعظ يدعو من جهة، وهذا الطبيب من جهة، وذاك من جهة، ورب طبيب يسلم ويهتدي على يديه ما لا يهتدي على يد عدد من طلاب علم يحدثون ويعظون ويعلمون في المساجد.(24/24)
معنى: أن العبد سائر بين مشاهدة التقصير ومطالعة المنة
السؤال
هناك عبارة في كتاب مدارج السالكين هي: 'العبد سائر بين مشاهدة التقصير ومطالعة المنّة'، أرجو توضيح هذه العبارة؟
الجواب
عبارات ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى وأمثالها، عبارات عظيمة وعالية، وهي من أجود وأروع ما أبدعه العلماء أنهم عندما يتكلمون عن أعمال القلوب، يأتون بعبارات وبمصطلحات يجهلها علماء النفس المعاصرين.
مثلاً الصبر: يتكلم عنه أي إنسان، لكن أن تقول: إن الصبر يأتي على عشرة أوجه، أو على كذا، لا يستطيع أحد أن يقولها، وكذلك اليقين له معانٍ وتفصيلات، فكلها أعمال خفية باطنية قلبية، فكيف إذا قسمت عمل القلب إلى أعمال، فكيف إذا قسم العمل الواحد إلى درجات وأنواع! فهذا علم عظيم لا يمكن أن يتمكن منه أو يعلمه ويدركه إلا الراسخون في العلم، ولا شك أن السلف الذين تكلموا في هذا قد بلغوا الغاية, ولا أظن أحداً بلغ في هذا مثل ما بلغ ابن القيم وابن تيمية رحمهما الله ورضي الله عنهما، وربما قد يسهل عليك فهم العبارة ولكن لا تستطيع بقلبك أن تستوعب المراد منها.
فمثلاً: عندما تسمع بعض الآيات لا تستطيع أن تشرحها أو تفسرها لغيرك، لكن يظهر في قلبك أن هناك معانٍ عظيمة جداً, وبما أنَّ هذا العلم مأخوذ من مشكاة القرآن والسنة، فهو يشبه إلى حد محدود مثل ما جاء في القرآن والسنة.
فالعبد في سيره إلى الله تبارك وتعالى بين مطالعة شيئين: التقصير والمنة، أي أن يعرف نفسه ويعرف ربه، تعرف ربك بجوده ومنِّه، وكرمه وفضله، فهو الذي هداك وأنعم عليك وأعطاك وعلمك، فأنت حتى لو عبدته وأطعته فالفضل له وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وتعرف نفسك بضعفها وجهلها وعجزها وتقصيرها ونسيانها ومعصيتها، فأنت كلك تقصير فلو وُكِلْتَ إلى نفسك طرفة عين لهلكت.
فأنت في سيرك إلى الله تبارك وتعالى لا بد أن تراعي الأمرين: أن تعلم نفسك وتقصيرها، وأن تطالع منَّة الله تبارك وتعالى عليك الذي له الفضل كله حتى في هدايتك وعبوديتك فإنك إن أطعته واتقيته فبمحض فضله وهدايته، ولك على ذلك الجزاء الأوفى في الجنة, وهو عز وجل غير محتاج إلى طاعتك, وهو تبارك وتعالى غير مطالب بإثابتك ومجازاتك، ولكنه سبحانه كتب على نفسه الرحمة وفتح لك الأبواب، كما في الحديث الذي رواه أهل الشام {يا عبادي يا عبادي} فهو سبحانه يفتح لك الباب ويدعوك، و {يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار, ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل} فأنت المحتاج المضطر بذاتك إليه تبارك وتعالى.
ثم هو بعد ذلك لو فعل بخلقه ما شاء, لو لم يبعثهم ولم يجازهم، ولم يخلق الجنة ولا النار، فمن الذي يسأله، قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، ومع ذلك جعل لأهل التقوى الجزاء العظيم، الذي فيه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولأولئك العذاب الأليم الذي نسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظنا منه.
فهذه معانٍ قلبية قد يَقْصُرُ تعبيرنا نحن المتأخرين عن إدراكها ولكن نتأمل ونفكر فيها, ونحاول أن نشرحها وأن نفهمها، وأنا أنصح بمطالعة كتاب مدارج السالكين ما أمكن وغيره من كتب السلف , وإن شقت عليك بعض العبارات, فكلما طالعت كلما فهمت واستوعبت، أما قراءة المختصرات ومطالعة الكتب العصرية، أو الشروحات من كلام المعاصرين -وإن كان مأخوذاً من كلام المتقدمين- فإنه لا يغني طالب العلم عن الرجوع إلى نفس كلام المتقدمين رحمهم الله.(24/25)
الكلام على كتاب الرعاية للمحاسبي
السؤال
ما رأيكم في كتاب الرعاية لحقوق الله للمحاسبي، وهل تنصح بقراءته؟
الجواب
أما كتب المحاسبي فقد حذر منها السلف وإن كان فيها حديث عن الوساوس والخطرات، ولكن كما عبر أبو حاتم الرازي، وأبو زرعة، فقالوا: حسبنا ما قاله السلف.(24/26)
الفتور في الطاعة
السؤال
إنني شاب مستقيم، وفي بداية التزامي كنت أقوم بالاعتناء بنفسي وإيماني كثيراً، ولكن مع طول الطريق، بدأت في التكاسل وانقلبت كثير من الأعمال إلى عادات، ويشكو آخرون بنفس الشكوى من أنهم بعد فترة من التزامهم شعروا بقسوة في قلوبهم, نرجو توجيه نصيحة لي وللباقين؟
الجواب
نسأل الله أن يثبتنا وإياكم، هذه سنة الله {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:16] لا شك أن طول الأمد وإن كان هو نسبي أنه يؤدي إلى ذلك، ولهذا نحتاج إلى تجديد الإيمان، كما في حديث: {إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب} أي: يبلى كالثوب إذا جئت إليه وقد بلي فإنه يتفتت في اليد، فالإيمان يبلى في القلوب فيحتاج إلى تجديد، فنحتاج جميعاً أن نجدد إيماننا.
ومن هنا كان قدوم الإنسان خمس مرات إلى المسجد وسماعه في كل مرة آيات يقرؤها الإمام في المغرب ثم في العشاء، وما يلقى من مواعظ تجعل الإنسان يتدبر فيما يتكرر عليه، ومثل ما يتكرر كل يوم: موعظة الليل والنهار، ولكن أكثر الناس قد لا يتذكرها مرة واحدة، وبعضهم يتذكرها مرة واحدة، لكن المؤمن يحتاج في كل مرة وفي كل يوم أن يتذكر ويتفكر كما قال الله تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62]، فينظر إلى الليل وما فيه من حِكم أو عجائب، وإلى النهار من طلوع الشمس إلى غروبها، فلم يأتِ يوم من الأيام يقول الناس فيه: لم تطلع الشمس اليوم, سبحان الله! كذلك في الليل وفي أنفسهم، فهذه مجددات ومقومات الإيمان مما يتكرر، فما بالك فيما لا يتكرر، فعلى الإنسان أن يحرص على تجديد إيمانه.
ولا شك أن الإنسان في بداية أمره وأول التزامه -وغالباً التائب- يكون أصدق ما يكون, كما جاء في حديث الرجل الذي قتل مائة نفس، عندما توجه بقلبه بصدق إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لكن سبحان الله! بعد أن يتوب ويطمئن ويدخل في غمار الإيمان فترة, تبدأ الغفلة في الظهور ويمسه طائف من الشيطان, وما أشبه ذلك, وهذا حال القلوب جميعاً, ولكن لا بد من المصابرة ومن تجديد الإيمان بذكر الله، وقراء القرآن، وزيارة المقابر، والتفكر في ملكوت السماوات والأرض، والاعتبار بمصير الأحياء والأموات، وكل ما من شأنه أن يحيى إيمان القلب إن شاء الله.(24/27)
صحة علامات قبول العمل
السؤال
هل عبارة: (من علامات قبول العمل: إتباع الحسنة الحسنة) صحيحة وعلى إطلاقها، لأنني هذا العام وبعد انتهاء صيام رمضان ارتكبت بعض المعاصي وفاتني صيام الست من شوال؟
الجواب
هذه العبارة كقاعدة عامة صحيحة، لكن لكل قاعدة استثناء, وليس من أطاع الله تبارك وتعالى وأدى فريضة من فرائضه خالصة من قلبه يعصم فلا يقع في معصية، لا.
فالنفس معرضة للضعف والذنوب والتقصير, وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون, ولكن من علامة القبول، أن يتبع الحسنة حسنات, فإن أذنب أتبع ذلك الذنب توبة، فما دام أنه كلما أذنب تاب، فإنه ما يزال متبعاً للحسنة حسنة -إن شاء الله- وليس المقصود أن يعصم فلا يقع في الذنوب، لكن ما دام أنه يتوب فهذا يدل على أن قلبه حي.
والمقصود هو حياة القلوب، ولهذا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وصيته الجامعة: {اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها} فكان في إمكانه أن يقول: ولا تعصِ الله مطلقاً, وهذه لا شك أنها مطلوبة, لكن في مقام الإرشاد العملي والواقعي الذي يخاطب النفس على واقعها وحقيقتها لا يمكن أن يعيش الإنسان فلا يعص الله تبارك وتعالى فكل ابن آدم خطاء.
إذاً: عليه أن يتبع السيئة الحسنة حتى تمحها, فهذا من الاستقامة أنك كلما عصيت الله كفرتها بحسنة، أما الانحراف فهو الخروج عن الطريق بالكلية، أي: يستمرئ الإنسان المعصية ولا يبالي أن يتوب أو يستغفر الله تبارك وتعالى أو ينيب ويرجع إليه.(24/28)
التقرب إلى الله لأمر دنيوي
السؤال
بوَّب صاحب كتاب التوحيد: (باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا) فهل إذا قام الإنسان مثلاً بالتصدق، وأراد بذلك دفع الضر عنه, أو مثلاً قام ليلة بالدعاء في أمر دنيوي هل هذا من الشرك، أرجو تفسير هذا وتوضيحه؟
الجواب
ذكر رحمه الله الآية {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود:16] ثم ذكر بعدها حديث: {تعس عبد الدرهم, تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة} والحديث يوضح الآية وهو أنَّ الإنسان إذا لم يريد من الزكاة أو الصدقة إلا أن يبارك الله له في ماله فقط، وهذه حالة تقع لكثير من الناس، فيقول: خشيت ألا أربح في البضاعة الفلانية، فتصدقت ذلك اليوم بألف أو ألفين ثم ربحت في الصفقة, وكثير من الناس يرى أن الصدقة وأن الإحسان له بركة فيدفع الله تبارك وتعالى به البلاء، ولكن لم يرد بذلك الدار الآخرة ولا ما عند الله تبارك وتعالى، فأصبح هذا ممن يريدون حرث الدنيا وحدها، دون الآخرة مطلقاً، فهذا وقع في الشرك الخفي، الذي قل من ينجو منه، فهذه الحالة يقع فيها كثير من الناس وهم لا يشعرون، وهذا ينافي الإخلاص لله وابتغاء ما عنده، فيجب عليك أن تصوم وأن تصلي وأن تحج لله عز وجل، أما الذي يصلي أيام الاختبارات لينجح:
صلى المصلي لأمر كان يقصده فلما انقضى الأمر لا صلى ولا صاما
أو يتصدق من أجل أن يربح، فهذا يدخل بلا ريب في هذا النوع من أنواع الشرك، نسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظنا منه دقيقه وجليله.
والحمد لله رب العالمين.(24/29)
الإيمان بالقدر
الإيمان بالقدر ركن من الأركان التي لا يتحقق الإيمان إلا بها، وهو من الأمور التي ظهر التشكيك فيها من قبل بعض الطوائف منذ العصور المتقدمة من عمر الأمة المحمدية.
فقد أوردت هذه الفرق الكثير من الشبهات فتصدى لها أعلام أهل السنة في كل عصر ومن أشهرهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.
وكما في العصور المتقدمة فقد ظهر من ينكر القدر في العصور المتأخرة، وإمامهم في ذلك من سبقهم ممن طبع الله على قلبه وصده عن السبيل.(25/1)
أهمية الإيمان بالقدر
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، الذي أوضح الله تعالى به المحجة وأقام الحجة وأبان الدين، فلم يبق من أحد بلغته دعوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا آمن أو قامت عليه حجة رب العالمين، ولله الحجة البالغة على خلقه أجمعين.
أما بعد: فإن موضوع القدر موضوع عظيم، والإيمان به ركن من أركان الإيمان، ونحن في عصر كثُرت فيه الشبهات، والتساؤلات عن القدر، وهي قديمة في الحقيقة، ولكن في هذا الزمان اجتمعت شبهات الماضين مع شبهات المعاصرين، وما استجد عند الناس مما تلقيه شياطين الإنس والجن؛ فأصبح الناس في حاجة إلى تجلية هذه القضية، كما هو الشأن في بقية أركان الإيمان وقضايا العقيدة.
والذي دفعني -في الحقيقة- إلى اختيار هذا الموضوع هو كثرة الأسئلة عن القدر، فأحببنا أن يكون هذا الموضوع عن هذا الركن المهم من أركان الإيمان، وبإذن الله تعالى سوف نجيب على أسئلة وإشكالات حول هذا الموضوع؛ لأنه موضوع دقيق وشائك، ونحاول بما يعيننا الله تبارك وتعالى ويفتح علينا به أن نأتي على ما نستطيع أن نأتي عليه من الشبهات في هذا الموضوع، بإذن الله تبارك وتعالى.(25/2)
مراتب الإيمان بالقدر
ونبدأ لنعرف ما معنى الإيمان بالقدر؟ فإذا قلنا أننا نؤمن بالقدر -ونحن ولله الحمد مؤمنين بالقدر- فلا بد أن نعرف معناه، وهذا الإيمان كما جاء في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقسّم على أربع درجات، ويمكن أن تختصر إلى درجتين؛ فما هي درجات الإيمان بالقدر؟ أي: ما هي مراتب القدر عامة؟(25/3)
المرتبة الأولى: العلم
أول مرتبة من مراتب القدر، أي: أول ما يجب علينا أن نؤمن به فيما يتعلق بالقدر هو: أن نعلم ونوقن ونؤمن بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليم بكل شيء، علم بما كان وعلم بما سيكون وعلم بما لم يكن لو كان كيف يكون؛ فهو يعلم السر وأخفى، ويعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون، ويعلم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل حركة في هذا الوجود وكل قطرة من المطر تنزل ويعلم متى تنزل، وأين تنزل، وكل لحظة عين وخائنة أعين وهمسة، وكل خاطرة تخطر على بال أي مخلوق؛ فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعلمها، وعلمه بها قبل أن يوجد هذا الكون، وقبل أن يوجد هذا الإنسان؛ فعلمه لم يزل أزلاً وما يزال أبداً، لا تخفى عليه خافية، يستوي في علمه عز وجل السر والعلن بالنسبة لنا نحن المخلوقين.
ولا يخفى على أحد الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هذه القضية، أي: قضية العلم ومرتبة العلم، فنؤمن بأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليم؛ ولذلك فإن كل ما نعمله من طاعات ومن معاصٍ فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليم بها، ولم يستجد له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علم بها بعد أن فعلناها؛ بل هو يعلمها قبل أن يخلقنا، بل قبل أن يخلق السماوات والأرض والكون أجمعين، ولا يزال بذلك عليماً.
وهو محصٍ لذلك سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويجازينا به عز وجل، وكذلك المصائب التي تقع وما يحدث في الكون من خير أو شر، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به عليم.
فعلى المؤمن بالله عز وجل أن يؤمن بالقدر، وأول شيء يؤمن به هو أن يؤمن بالله وبعلمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(25/4)
المرتبة الثانية: الكتابة
الدرجة الثانية بعد العلم هي: مرتبة الكتابة.
فنؤمن بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فكتب كل شيء؛ كتب ما كان وما سيكون، قال تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12] وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] وهذا الكتاب هو اللوح المحفوظ -أم الكتاب- الذي كتبه الله تبارك وتعالى عنده أول ما خلق القلم.
فأول ما خلق الله تبارك وتعالى القلم أمره أن يكتب؛ فكتب مقادير كل شيء، وكان عرشه على الماء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
فكان عرشه على الماء في ذلك الزمن الذي لم يكن هذا العالم الموجود المشهود قد وجد بعد! بل كان الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولم يكن قبله شيء، ولم يكن غيره شيء، ولم يكن معه شيء، كما ورد في الروايات.
وأول شيء خلقه الله عز وجل من العالم الذي نعرفه وبلغنا الخبر عنه هو العرش والماء، ثم خلق بعد ذلك القلم، وأول ما خلق القلم أمره أن يكتب؛ فكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، وهذا كان قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
فإذاً: هذا أمر قد قُضي وفرغ منه، وقد كتب إن كان خيراً وإن كان شراً.(25/5)
أنواع الكتابة
وهذه الكتابة لها تفصيلات وأقسام، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قدّر هذه الأقدار المعلومة المكتوبة بتقديرات مختلفة، بعضها لا يطابق بعضاً.
فقبل أن يخلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذا الكون كتب ماذا سيكون فيه، وهذه الكتابة نستطيع أن نسميها الكتابة الكونية.
فكل الكون وما سيقع فيه مكتوب، ولما خلق الله تبارك وتعالى آدم واستخرج ذريته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من صلبه في عالم الذر، وجعل طائفة منهم من أهل الجنة، وطائفة منهم من أهل النار.
فكتب للنار أهلاً، وكتب للجنة أهلاً قبل أن يخلق الخليقة، وإنما قد خُلق في ذلك الوقت الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام، واستخرج من ظهره ذريته وجعلوا فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، وهذه كتابة تتعلق بالنوع الإنساني، ونستطيع أن نسميها الكتابة النوعية، أي: لنوع الإنسان، فوضع منهم الشقي، ومنهم السعيد، بحسب علمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بما سوف يعملون.
ثم هنالك كتابة تتعلق بكل فرد من مخلوقات الله من بني آدم؛ فالكون كله له كتابة، والجنس البشري كله -النوع الإنساني- له كتابة، وكل إنسان له كتابة أيضاً.
فمتى تكون هذه الكتابة؟ هذه الكتابة هي ما أخبر عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه عنه عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه وأنس بن مالك في الصحيحين في الحديث المتفق عليه، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حدثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق: {إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقه مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالله الذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها} ونحو ذلك ورد في الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه.
والمقصود هنا أن هناك كتابة عمرية تتعلق بكل إنسان، فما من نفس منفوسة، وما من نسمة مخلوقة إلا وكتب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ماذا سيكون لها، فكتب لها هذه الكلمات الأربع أول ما نفخ الروح في هذا الإنسان، وهو مضغة في الظلمات الثلاث -في الرحم- فكتب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له الرزق، والأجل، والعمل، والشقاوة أو السعادة؛ فهذا نوع من أنواع الكتابة.
ثم بعد ذلك الكتابة الحولية -تقديراً حولياً سنوياً- في الحول والسنة، وفي أي ليلة سيكون هذا التقدير؟ إنه يكون في ليلة القدر، التي فيها يفرق كل أمر حكيم.
فيكتب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في تلك الليلة ما هو واقع في عالم الوجود هذا إلى مثلها من السنة القادمة، حتى إنه كما ورد في الحديث: {إن الرجل ليرى في الأسواق ماشياً، وهو مكتوب عند الله تعالى من الأموات} أي: أن هذا الإنسان يمشي ويتحرك ويضحك، وموعده لن يصل إلى ليلة القدر القادمة، بل سيموت في هذه السنة، وفي الوقت الذي كتبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو أعلم بما كان وما سيكون.
ثم بعد التقدير السنوي يكون التقدير اليومي، وهذا التقدير اليومي هو ما أخبر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنه بقوله: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل يوم يعز ويذل ويحيي ويميت ويعطي ويمنع ويخفض ويضع، كما يشاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فهذه المقادير التي يقدرها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يومياً وينفذها، وفق ما اقتضت إرادته ومشيئته، ووفق ما سبقت به الكتابة في اللوح من قبل.
فهذه الدرجة الأولى من درجات القدر، ونستطيع أن نجعلها درجتين إذا قلنا: إن العلم درجة والكتابة درجة، ونستطيع أن نجعلهما درجة واحدة، فنقول: مرتبة العلم والكتابة؛ فما علمه عز وجل كتبه أيضاً في ذلك اللوح المحفوظ وهو الإمام المبين.(25/6)
المرتبة الثالثة: المشيئة والإرادة
والمرتبة الثالثة من مراتب القدر: هي مرتبة المشيئة والإرادة، وهي: أن نؤمن بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له مشيئة وله إرادة، وأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يشاء، ويخلق ما يشاء، ويقدر ما يشاء كما يشاء، لا رادّ لأمره، ولا معقب لحكمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو رب العالمين وهو خالقهم، وهو الذي يصرفهم ويدبرهم كما يشاء، فمشيئته مطلقة، وأما العبد فله مشيئة مقيدة: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [الإنسان:30].
فمشيئة العبد وإرادته واختياره هي جزء من قدر الله عز وجل الذي كتبه ليجازيه ويحاسبه عليها، ولكنها لا تكون إلا بعد مشيئة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن أبداً، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وصيته لـ ابن عباس: {واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف}.
فهذه أمور قد قضيت وانتهت، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي له المشيئة، ولا يكون إلا ما شاء ولو أطبق الثقلان الإنس والجن كافة، وكل القوى جميعاً على أن تعمل شيئاً أو توجده أو تنفع به أو تضر ولم يشأ الله عز وجل أن يقع؛ فلن يقع ذلك على الإطلاق.
وأيضاً لو اجتمعوا جميعاً على أن يردوا شيئاً مما كتبه الله وقدره وقضاه من خير أو شر؛ لا يستطيعون ذلك أبداً؛ لأنهم مقهورون مربوبون بقدرة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وبمشيئته التي لا يردها شيء، ولا يحدها شيء.
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الفعال لما يريد ولا يكون في خلقه إلا ما يريد وما يشاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(25/7)
المرتبة الرابعة: الخلق
المرتبة الرابعة من مراتب القدر: مرتبة الخلق، فنحن نؤمن بالعلم، ونؤمن بالكتابة، ونؤمن بالمشيئة ثم نؤمن بعد ذلك بالخلق؛ لأن ما في هذه الدنيا هو خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حتى أعمالنا نحن بني آدم مخلوقة لله، حتى ما نخلقه -أي: ما نصنعه- وما نركبه ونفعله أو نبنيه ونهدمه؛ فهو مخلوق لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما نطق بذلك صريح القرآن: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] وفي آية أخرى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62] وجاء في الحديث الذي صححه العلماء، ومنهم العلامة المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {الله خالق كل صانع وصنعته}.
فمهما عمل الإنسان إن بنى أو صنع أو عمل من طاعة أو معصية فكل ذلك من خلقه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكلها مخلوقة له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ إذاً فما دور العبد في هذا الموضوع؟ العبد فاعل، يفعل بمشيئته وباختياره ما يفعل من الأفعال الإرادية والأفعال الاختيارية.(25/8)
الشبهات الواردة في مراتب القدر
وهذه النقطة وعند هذه المرتبة نلاحظ أن الإشكالات بدأت تتوارد، وما يثيره الشياطين والمنحرفون والملحدون قديماً وحديثاً عند درجة الخلق والمشيئة.
والذي أشكل على كثير من الناس أنهم قالوا: كيف يكون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي خلق الإنسان، وكتب عليه أنه يفعل الخير ويفعل الشر، وقدّر عليه ذلك قبل أن يخلقه، ثم بعد ذلك يجازيه ويحاسبه عليه؟ وهذا السؤال الذي يظن الكثير من الناس أنه محير وأنه لا جواب له وأنه مشكل ومعضل؛ فبنوا عليه مذاهب باطلة، وما خرجت القدرية التي ظهرت في عهد صغار الصحابة -رضوان الله عليهم- وأنكرت القدر؛ إلا من أجل الشبهة التي يثيرها هذا السؤال! لكن هل تُركنا لتساؤلات المتسائلين أو لشبهات الملحدين؟ إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوضح لنا هذا الدين مثل الشمس في رابعة النهار، فقد تركنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا وقد ذكر لنا منه علماً -كما أخبر بذلك الصحابة الكرام- فهذه القضية هل تركت ولم تبين؟ لا.
فأعظم الناس عقلاً وأعظمهم فهماً وأكثرهم يقيناً وإيماناً وفكراً وعلماً وعملاً هم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، فهم الذين سمعوا هذه الأحاديث وتدبروها وعقلوها، وهم أنفسهم الذين سألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عدة أحاديث عن هذه القضية، وكان يجيبهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأعظم جواب، وهو الجواب الذي لو ظل الناس يبحثون وينقبون؛ فلن يجدوا جواباً أبلغ ولا أبين منه، وأنا لا أذكر لكم إلا بعضاً منها، فأذكر لكم حديثاً فيه قصة تنطبق على هذه الشبهة.
: {كان عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه يجالس أبا الأسود الدؤلي، وفي أحد الأيام قال عمران لـ أبي الأسود يا أبا الأسود! أرأيت ما يعمله الناس، وما يكدحون فيه؛ أهو في أمر قد قُضي عليهم ومضى، أو فيما يستقبلون مما قامت عليهم به الحجة وبلغهم نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟}.
فهذا الصحابي يمتحن التابعي، ويقول: هذه الأعمال التي يعملها الناس الآن من طاعات أو معاصي هل هي أمر قد قُضي ومضى وكتب عليهم قبل أن يوجدوا أم فيما يستقبلون مما قامت عليهم به الحجة وبلّغهم إياه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فوضعه موضع الامتحان.
قال أبو الأسود: {قلت: لا.
بل فيما قد قُضي ومضى، فقال له عمران: وكيف يجازيهم على ذلك؟} أي: إذا كان قد قضى ذلك وكتبه فكيف يجازيهم على ذلك.
{فقال أبو الأسود: ففزعت لذلك فزعاً شديداً، وقلت: سبحان الله! {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] هو ربهم وهو خالقهم! فطمأنه عمران رضي الله عنه وقال: إنما سألتك لأحزر عقلك}، أي: لأختبرك، هل أنت متمكن من الإيمان وقوي أم أنه لو جاءتك شبهة لذهبت بك يميناً أو شمالاً؟ ثم قال عمران: {أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلان -وفي رواية رجل من مزينة- فقال له: يا رسول الله! أرأيت ما يعمل فيه الناس ويكدحون، أفيما قد قُضي ومضى، أم فيما يستقبلون به مما قامت عليهم به الحجة وبلغه نبيهم؟ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بل فيما قد قضي ومضى}.
وورد مثل ذلك في الحديث المتفق عليه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعن غيره من الصحابة، أنهم سألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا السؤال، فقالوا: {يا رسول الله! أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بل اعملوا فكل ميسر لما خلق له فمن كان من أهل السعادة يسر لعمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة يسر لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5 - 10]}.(25/9)
من نتائج الإيمان بالقدر
هذا هو الفهم الصحيح الذي فهمه الصحابة الكرام، وكان من أشد الأمور التي دفعتهم للاجتهاد، والحرص على طاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فإنسان يعلم أن من كان من أهل السعادة وأهل الجنة فهو ميسر لعمل أهل السعادة، ماذا تكون النتيجة؟ سيجتهد ويكدح ويحرص على أن يستكثر من الخيرات؛ ليكون من أهل السعادة ومن أصحاب الجنة.
وأما المعرضون المنحرفون فإنهم يعارضون أمر الله، ودينه بمشيئته وبقضائه ويعجزون، بخلاف ما أمر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال: {المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك ولا تعجز، فإن أصابك أمر فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان} فيجب على الإنسان أن يسعى، وأن يحرص على الطاعات وعلى ما ينفعه ويقربه من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فاحرص واجتنب واجتهد، فإن كنت مؤمناً قوياً؛ فاعلم أنك خير وأحب عند الله من المؤمن الضعيف.
والمؤمن الحريص على كل ما يقربه من الله، والعامل المجتهد في طاعة الله أحب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وخير عنده من المؤمن الضعيف والعاجز الذي يُلقي كل ما يأتيه من الخير والشر على القدر ولا يعمل، فهذا شأنه، وهو أنه يقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا؛ فنهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك، وقال: {فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان} فهكذا يرشدنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أكثر الناس حرصاً واجتهاداً في طاعة الله وفي عبادة الله، لماذا؟! لأنهم يعلمون هذه الحقيقة الواضحة النيرة، فهم حريصون على الأخذ بها.
ومثال ذلك الرؤيا الصالحة: إنسان بحالة حسنة طيبة، فرأى رؤية صالحة بأنه سيكون له ذرية كثيرة، فإنها جزءٌ من ست وأربعين جزءاً من النبوة؛ أو شيء يطلع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الإنسان عليه من الغيب الذي سيقع، فرأى في المنام هذا، واستبشر بهذه الرؤيا، وفرح وسر بها فإن ذلك يدفعه إلى أن يبادر إلى أن يتزوج الزوجة الصالحة، وإلى ألا يتخذ أي مانع مما قد يمنع الحمل من الأسباب المعروفة لتتحقق له تلك الذرية.
وكذلك لو أنه بشر من عند الله عز وجل -كما في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو جاءته مبشرات -كرؤيا مثلاً- أنه سوف يكون لديه من هذه المزرعة ثمر ورزق ونخل كثير فما الذي يفعله الإنسان العاقل عادة؟ سيجتهد ويحرص أن يكسب أكثر ما يستطيع لتتحقق له تلك البشرى.
لكن لو قال: أنا سيكون لي أولاد، ولم يأخذ بالأسباب، فهذا يكون إنساناً غير عاقل.
فالقدر علم علمه الله عز وجل وكتابة كتبها، ثم شاء ذلك، ولا بد أن تقع مشيئته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثم خلق ذلك فينا؛ فمعنى ذلك أنه يجب أن نتسابق، ونحرص على طاعة الله، ونجتهد في الطريق الموصل إلى مرضاة الله وإلى جنة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لكي نكون من أهل السعادة الميسرون لها، كما أن أهل الشقاوة ميسرون لها، أجارنا الله وإياكم، وأعاذنا من الشقاوة وأهلها.(25/10)
شبهة القدرية والرد عليها
والقدرية الذين من أجلهم روى عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه الحديث عن أبيه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وهو حديث جبريل المشهور لما جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر فيه أركان الإيمان، وأركان الإسلام، ومن أركان الإيمان: الإيمان بالقدر، وقد ذكر ذلك عبد الله بن عمر لما أن جاءه ركب العراق وأخبروه أن معبداً الجهني ومن معه ينكرون القدر، ويقولون: إن الأمر أنف.
فقال عبد الله: [[أبلغوهم أنني منهم بريء، وأنهم مني برآء، والله لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهباً ما تقبل منه إلا أن يؤمن بالقدر]] ونقل مثل ذلك عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه بل إنه قال: ' لو مكنت من أحد منهم لدققت عنقه '.
فهذا أول شرك يقع في هذه الأمة، وأول نقض يقع لعرى التوحيد، وكان أول ما وقع في مسألة الإيمان بالغيب هو إنكار الإيمان بالقدر؛ فقالوا: الأمر مستأنف، والعبد هو الذي يخلق ما يفعله من طاعة أو معصية.
وحتى نعرف مذهب القدرية نذكر مذهب أهل السنة والجماعة؛ فالضد بالضد يعرف.
فما هو مذهب أهل السنة والجماعة الذي تدل عليه الآيات والأحاديث؟ أما مذهب أهل السنة والجماعة فهو: أن كل عمل من أعمالنا نحن بني آدم من طاعات أو معاصٍ نحن نعمله ونحن نفعله، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نسب لنا العمل ووصفنا به: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8] وفي القرآن يتكرر كثيراً: وتعملون، تفعلون، وكذلك يقيمون الصلاة، يؤتون الزكاة وكل الطاعات؛ وكذلك المحرمات يشركون، يزنون، وما أشبه ذلك، فقد ورد في القرآن جميع الأفعال منسوبة إلى الإنسان.
إذاً فالإنسان فاعل، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق الإنسان وخلق عمله؛ ولكن العبد هو الذي فعل ذلك.
والقدرية الذين أنكروا القدر قالوا: لا، إن الإنسان هو الخالق -هو الذي يخلق فعل نفسه- تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
وقالوا: لو قلنا: إن الله هو الخالق، فكيف يخلق الفعل في الإنسان ثم يجازيه عليه؟ فهذه هي الشبهة التي أثيرت.
فيقول لهم أهل السنة والجماعة: الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق الفعل، ولكن الإنسان هو الذي فعله.
والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي شاء ذلك، فشاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يعصيه من عصى وأن يكفر به من كفر، وأن يشرك به من أشرك، ولكن هل كل ما خلقه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وكل ما شاءه رضيه؟ لا.
إذاً لا بد أن نسلط الضوء على هذه القضية، حتى نعرف لماذا وقع اللبس عند المشركين؟ ولماذا وقع اللبس حتى عند كثير من الناس في مسألة القضاء والقدر؟(25/11)
أنواع الإرادة
يظن الذين لديهم شبهات في هذا الموضوع أن ما شاءه الله عز وجل وقدره فقد رضيه، وهذا لا يصح! لا على مقتضى القرآن ولا السنة، ولا على مذهب أهل السنة والجماعة؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شاء الإيمان، وشاء الكفر، شاء الطاعة، وشاء المعصية، وهذه مشيئة كونية وإرادة كونية.
فأراد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بمقتضى الحكمة العظيمة الجليلة أن يكون في الناس مؤمن وكافر: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن:2].
فحكمته عز وجل اقتضت أن يجعلهم فريقين، فهذه مشيئته الكونية وإرادته الكونية؛ ولكن رضاه لا يتعلق بهذه المشيئة؛ بل رضاه عز وجل يتعلق بمشيئته الشرعية وبإرادته الشرعية؛ فأرسل الله عز وجل الرسل وأنزل الكتب لتبين للناس ما الذي يرضاه الله، وما الذي يحبه الله عز وجل، وما الذي يبغضه الله عز وجل، وما الذي يسخط الله، وما الذي لا يريده الله.
ولهذا لو سألك أحدهم عن رجل لم يصلِّ أو فجر أو كذب أو زنا أو سرق، فقال لك: هل أراد الله عز وجل أن يفعل هذا الرجل هذا الفعل؟ فإن قلت: نعم أراد الله -هكذا بالإطلاق- فقد أخطأت، وإن قلت: لا، لم يرد الله أخطأت أيضاً.
فلابد أن نفصل في الكلام، فنقول: ماذا تريد: بأراد؟ فإن كنت تقصد بأراد، أي: أن الله شاء ذلك وعلمه وكتبه وقدره عليه؛ فنعم، فإن الله تعالى شاء ذلك حتى ولو كان شراً أو كفراً أو فجوراً أو معصية فهو الذي شاءه، فلا يقع شيء في الكون إلا أن يشاء الله، وبما يريد الله.
وإن أردت بقولك: هل أراد الله من هذا أن يزني وأن يسرق؛ أن الله تعالى يرضى بذلك ويحبه؟ فلا، بل نقول: إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يرد أن يزني الزاني، ولم يرد أن يسرق السارق، أي: لم يحب ذلك.
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يحب ذلك، ولم يشرعه، ولم يأمر به ولم ينزله في كتاب، ولم يرسل به رسول.
إذاً: الإرادة هنا لها معنيان: إن أردنا بها الإرادة الكونية التي هي مطلق المشيئة - مجرد المشيئة - فنعم، فإن الطاعة والمعصية كلها أرداها الله ووقعت، لكن إن أردنا بالإرادة المحبة، فلا يريد الله -أي لا يحب الله- إلا ما شرع، وإلا ما أرسل به الرسل، وأنزل به الكتب.(25/12)
شبهة القدرية المشركية
ولهذا عندما احتج المشركون بالمشيئة، واعترضوا بالمشيئة، أبطل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حجتهم في أربعة مواضع من كتاب الله، في سورة الأنعام: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148] وأكد ذلك بعد أن وقع في سورة النحل: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل:35] فهذين موضعين احتج المشركون فيهما بالمشيئة، أي: في مضمون كلامهم: لو شاء الله تعالى ما أشركنا.
وقال في سورة الزخرف: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف:20] فما معنى ذلك؟ يقولون: الله عز وجل شاء لنا أن نعبد هذه الأصنام، أي: أنه راضٍ بذلك، ولو شاء ما عبدناها، وهذا الكلام قالوه في موضع رد الرسالة وتكذيب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ماذا تريد منا يا محمد؟ أن نترك عبادة الأصنام؟ لا، لو شاء الله ما عبدناها، ولو شاء الله ما أشركنا.
وقالوا: ذلك في الموضع الرابع، في موضع الأمر بالإحسان: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس:47] فلو شاء الله أطعمهم فكيف نحن نطعمهم؟ إذاً هم يريدون ألا يؤمنوا؛ لأن الله شاء الكفر، ويريدون ألا يحسنوا؛ لأن الله لو شاء الإطعام لأطعمهم.
فالمقام هنا مقام الاعتراض والتكذيب والرد لرسالة الرسل، ولهذا عقب الله تبارك وتعالى على قولهم هذا في سورة النحل، فقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل:36] أي فضلاً وعدلاً منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلو كان الأمر كما تقولون؛ فلماذا أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، يقولون لكم: هذا يريده الله ويحبه، وهذا يكرهه؟! فالمشركون إذاً لم يكونوا يثبتون القضاء والقدر، بل جاءوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما في الحديث الصحيح في صحيح مسلم - يجادلونه في القدر؛ فأنزل الله تبارك وتعالى عليهم: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] فهم لا يؤمنون بالقدر؛ وإنما قالوا: نحن نؤمن بمشيئة الله؛ لأنهم قالوها معترضين بها على الشرع، ويريدون أن تكون لهم حجة في ترك الأمر والنهي؛ ولهذا قال عز وجل عنهم في سورة الأنعام: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149] سبحان الله يكذبهم في قولهم: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148] ثم يقول: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل:9].
فقليل البصيرة قد يقول لك: كأن بعض الكلام متناقض مع بعض -عياذاً بالله- وهذا خطأ، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لو شاء (كوناً وقدراً) لهدى الناس أجمعين، وفي هذه الحالة فلا يحتاج إلى رسل ولا يحتاج إلى كتب، فقد هداهم أجمعين؛ لكنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل لهم المشيئة فقال سبحانه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] وقال: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] لكنه عز وجل أقام الحجة عليهم بالرسل؛ فليس لأحد حجة على الله كما قال سبحانه: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149].
إذاً: فهذا النوع الأول من أنواع الاعتراض، وهو اعتراض القدرية التي تسمى القدرية المشركية الذين اعترضوا بمشيئة الله واحتجوا بها على رد أوامره ونواهيه، ورد دينه وشرعه، وتكذيب أنبيائه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(25/13)
شبهة القدرية الإبليسية
والنوع الثاني من أنواع المعترضين -وهو واقع في الناس اليوم- هم: القدرية الإبليسية -نسبة إلى إبليس- الذي حكى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قوله: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:39] فإبليس أبى أن يسجد لآدم واستكبر وكان من الكافرين، فكتب الله عليه اللعنة إلى يوم الدين، وأخرجه وطرده من رحمته، وعندئذٍ اتخذ هذا الموقف من آدم وذريته -موقف العداوة والإضلال والإغراء- إلى أن تقوم الساعة؛ فأراد إبليس أن يحتج على فعله هذا، فلم يقل: فبعصياني وبكفري وبإلحادي وباستكباري سأغويهم، بل قال: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:39].
فإبليس يقول: ما دام أنك يا رب أغويتني؛ فسوف أستمر في إغواء بني آدم.
وهذا النوع واقع في حياة الناس اليوم، فـ القدرية تقول لأحدهم صلِّ، فيقول: لم يرد الله ولم يكتب لي أن أصلي -فيستمر في ترك الصلاة- ولو شاء الله ذلك لصليت؛ لكن لم يكتب الله ذلك لي؛ فلن أصلي.
فهو يستمر في الغواية ويستمر في المعصية، ويقول: إن الله ما شاء وهو الذي عصى، ولو شاء هذا الإنسان لقام وتوضأ وصلى؛ لكن الشيطان ألقى الشبهة الإبليسية هذه في أتباعه من شياطين الإنس، ومن المتبعين له الذين وقعوا في حبائله فأصبحوا يحتجون بهذه الشبهة: ما دام أن الله أغواني وما هداني فسأستمر، وما دمت قد أغويتني فسوف أستمر في إغواء الناس، فالشبهة المشركية -أو الشبهة الشركية- والشبهة الإبليسية واقعتان في الناس اليوم.(25/14)
شبهة القدرية المجوسية
والشبهة المجوسية في القدر هي شبهة الذين قالوا: كيف يخلق الله عز وجل الخلق، وكيف يخلق الأفعال في الإنسان ثم يحاسبه ويجازيه عليها؟ فقالوا: إذاً ننكر ما سبق، ونقول: الإنسان هو الذي يخلق فعل نفسه؛ وهؤلاء قد كذبهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها في قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] وفي قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي خلقهم.
وهؤلاء القدرية من النوع المجوسي- القدرية المجوسية - يثبتون خالقين: إله النور (خالق الخير)، وإله الظلمة (خالق الشر) قالوا: فعل العبد من الطاعات خلق الله، وأما المعاصي فهي من خلق العبد حتى لا ننسبها إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فماذا قال فيهم السلف ومنهم الإمام أحمد رحمه الله؟ وعلم الصحابة وعلم السلف علم كلماته قليلة لكن تحتها علم كثير غزير، فكيف ناظروهم، وكيف جادلوهم؟ هل بكتابة أربع أو خمس مجلدات في فلسفات طويلة في القدر؟! لا، بل على نفس منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فناظروهم بجواب شاف كافٍ بأوجز الكلمات، قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره من السلف: 'ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خُصموا، وإن أنكروه كفروا'.
فأول ما نبدأ معه أن نقول له: ماذا تقول في العلم؟ هل علم الله عز وجل أنك تفعل هذا أم لا؟ فإن أقر به خُصم وقُطع، فتقول: هل علمه؟ فيقول: نعم.
فهل كتبه؟ يقول: نعم.
فهل شاءه؟ يقول: نعم.
فهل خلقه؟ يقول: لا.
فنقول: لا.
أنت مخصوم ومحجوج، لأنه علمه وكتبه وشاءه وخلقه! فما هو المانع؟ لماذا تؤمن بثلاث مراتب والرابعة تتركها؟ لا يمكن هذا.
إذاً: فهم إن أقروا بالعلم خُصموا، وإن أنكروه وقالوا: لم يعلمه -عياذاً بالله- فهذا كفر، فبعد ذلك ليس هنالك حاجة أن تتناقش معهم؛ فكون الله عز وجل يعلم كل شيء، هذه حقيقة بديهة يعلمها جميع المؤمنين بل حتى من الأمم الكافرة يعلمون أن الله يعلم بكل شيء، وكل من يقر بوجود الله يعلم أنه يعلم بكل شيء.
فمن يقول لك: لا.
لم يعلم الله كل شيء! ولم يعلم أفعالي! فهذا بدون جدال هو كفر، ونكفره على أمر بين، لا على أمر قد تدخله الشبهة، فنكفره بأمر بين واضح، وهو إنكار العلم الذي لا يخفى على أي مؤمن، ولهذا نجد أن السلف الصالح ذكروا في كتبهم عن القدر حقائق وقصصاً ووقائع مما يوضح المراد، ولتعرف الفرق بين المؤمنين بالقدر وبين القدرية بأنواعهم.
فقد ذكروا أن رجلاً جاء إلى عمرو بن عبيد وهو زعيم القدرية المعتزلة الأولين، وهو الذي أظهر مقالة معبد الجهني؛ لأن -كما تعلمون- أول من أظهر القدرية بعد معبد الجهني في البصرة هو غيلان الدمشقي الذي كان في المدينة ثم انتقل إلى دمشق، فتلقفها عمرو بن عبيد.
وعمرو بن عبيد كان من النوع الذي يؤمن بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يرد الشر، فليس عنده إرادة، إلا إرادة واحدة، وليس كما قلنا: إن الإرادة إذا كانت بمعنى المشيئة المطلقة فلها حكم، وإن كانت بمعنى المحبة فلها حكم آخر، فعنده إرادة واحدة، وكان من العباد الزهاد جداً، فجاءه أعرابي بدوي لا يعرف شيئاً من الدين، وقال: دلوني على رجل صالح، وكان هذا الأعرابي قد ضاعت منه ناقته، فجاء يبحث عن رجل صالح يدعو الله له أن يعيد له ناقته، فدلوه على عمرو بن عبيد، وقالوا: هذا رجل زاهد وعابد فاطلب منه أن يدعو الله لك، فجاء إلى عمرو فقال له: مالك؟ قال يا عمرو: إن ناقتي قد ضاعت وفقدت ولا أدري من الذي أخذها فادع الله لي؟ فقال عمرو بن عبيد: اللهم إنك لم ترد أن تُسرق ناقته، فردها عليه! فالأعرابي بفطنته رأساً قال: لا حاجة لي في دعائك، فقالوا له لماذا؟ قال: ما دام أنه قد أراد ألا تسرق فسرقت، فأخشى أن يريد أن ترجع فلا ترجع! فالإرادة عند عمرو بن عبيد إرادة واحدة فقط.
ولهذا يقال: إن مجوسياً وقدرياً أيضاً ركبا في سفينة، وأخذا يتجاذبان في القدر، فقال المجوسي للقدري: الشيطان لما فعل وعصى هل فعل ذلك بقدر من الله؟ فقال القدري: لا.
قال: إذاً غلبه.
-عياذاً بالله- فقال له: لم لا تسلم؟ قال: أنا مع أقواهم.
أي: على كلامك أن الله لم يرد أن يكفر الشيطان وكفر فاتركني أكون مع القوي!(25/15)
الآثار السيئة للانحراف في القدر
فانظروا كيف تحدث هذه الشبهات طعناً في الدين وثلمةً فيه؛ فيفضي ذلك القول بالطرف الآخر إلى ردة الفعل، فمن هو الطرف الآخر؟ الطرف الآخر هو الذي يقول: إن الله عز وجل هو فاعل كل شيء كما قال بذلك الجهمية ومن اقتفاهم، كالكسب عند الأشعرية، والكسب أصلاً كان عند النظام عند المعتزلة، ثم أخذه منهم الأشعرية.
فـ الشيعة قدرية ينكرون القدر، والأشعرية جبرية، أي يقولون: إن الله هو الفاعل، ولا يقولون: إن الله هو الخالق، وتبعهم على ذلك غلاة الصوفية الذين يقولون: إن أي فعل يقع يجب عليك أن تعتقد أن الله هو الفاعل -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- فالناس يفعلون الزنا، وشرب الخمر، والمحرمات الكثيرة، فهل نقول: إن الله هو الفاعل؟! لا.
ولكن الله شاء ذلك وأراده كوناً ولكنه لم يحبه ولا يحبه شرعاً؛ خلقه فيهم؛ لكن ليس هو الفاعل له؛ وإنما الله خالق، والعبد هو الفاعل.
والشبهة الأخيرة هي قولهم: كيف يجازيهم الله عز وجل؟ فنقول: هل يجازي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى العباد على ما يعلم؟ وهل يبعثهم يوم القيامة ويقول: أنا أعلم أنك تفعل المعاصي فأجازيك عليها، أو أعلم أنك تفعل الطاعات فأثيبك عليها، أم يجازيهم على ما فعلوا؟ فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يجازيهم على ما فعلوا؛ ولهذا يسترسل الإنسان: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54] ولا يصدق بما يقرره عليه ربه، ويتهم الملائكة الكاتبين الكرام، ويقول: يا رب! لا أقبل شاهداً إلا من نفسي، فيختم الله عز وجل على أفواه أولئك العصاة وتتكلم أيديهم، وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون، وتنطق جلودهم بأنها عملت المعاصي.
إذاً: فهذا الإنسان عندما يحاسب ويدخل الجنة أو يدخل النار فهو نتيجة للأسباب التي اتخذها، والأعمال التي عملها، وإلا لو كان الحساب على مجرد العلم؛ لكان أوّل ما خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى آدم واستخرج من ظهره ذريته وقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي، انتهى الأمر ولا حاجة إلى أن يخلقوا، وأن يأتوا إلى هذه الدنيا، لكنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يجازيهم على أعمالهم، وهذه الأعمال التي يعملها الناس منها ما هو غير اختياري فلا يحاسب عليه الإنسان.
فهل يحاسب الله تعالى المجانين؟ بل ورد أن أربعة من الناس يتظلمون إلى الله عز وجل يوم القيامة: المجنون، والهرم، والصغير، والزّمِن أصحاب العاهات- كل منهم يوم القيامة يقول: يا رب! لما جاء الرسول كنت مجنوناً أو كنت هرماً أو كنت صغيرا، ً فكيف تحاسبني يا رب! وأنت الذي لا تظلم أحداً شيئاً؟! فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يمتحنهم ويختبرهم: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً} [يونس:44] فالله غني عن الناس، وغني عن ظلمهم: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا} فالذين يقولون: إن الله قدّر ذلك وكتبه علينا فكيف يحاسبنا؟ نقول: أنت جعلت نفسك كالمجنون أو الصغير أو الزمن الذي لم يدرك شيئاً من الدين، وهذا لا يصح أبداً.
فأنت قد جاءك الدين والإيمان وبلغك، فلو أن هذا الأمر خفي عليك كحكم من الأحكام لم تعلمه، فتقول كما قال سبحانه: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] فيقول عز وجل: قد فعلت.
وهذا الأمر فيما بلغك وأخطأت فيه أو نسيته، لكن في أمر تعمدته كعلمك بأن الله عز وجل أمرك بالصلاة ولم تصلِّ، فهل ينفعك يوم القيامة أن تقول: يا رب! قدّرت هذا علي أو قضيت؟ هذا لا ينفع أبداً! فاعلم أن الله عز وجل أمرك أن تأمر بالمعروف، وأن تنهى عن المنكر، وأن تطيع الله ورسوله فيجب عليك أن تحقق ذلك.(25/16)
الأسئلة(25/17)
الإنسان مخير أم مسير
السؤال
هل الإنسان مخير أم مسير؟
الجواب
الذي يجب أن نعلمه أن السؤال إذا كان خطأً؛ فهذا لا نجيب عليه إجابة مباشرة؛ لكن نبين خطأ السؤال.
وهذا مثلما سأل بعضهم فقال: يقول الملحدون الغربيون: إذا كان الله على كل شيء قدير فهل يقدر أن يخلق مثل نفسه؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وأيضاً السؤال هنا خطأ؛ فلا نجيب عليه إجابة مباشرة، ولكن نبين خطأ السؤال؛ فمن الخطأ أن يقال: إن الإنسان مخير أو يقال: إنه مسير؛ بل من الخطأ أن يُسأل هذا السؤال، فمن الخطأ أن تسأل فتقول: الإنسان مخير أو مسير؟ وتتوقع أن يجيبك المجيب بأن يقول: مسير، أو يقول: مخير؛ فلو أجابك وقال: مسير، لقلت: إذا كان مسيراً فكيف يحاسبه الله عز وجل، وهناك أمور هو مخير فيها، وإذا قال لك: هو مخير، قلت له: كيف مخير ولم يأت إلى هذه الدنيا بإرادته، ولم يفعل الأفعال التي يشاء، فهو يشاء أحياناً أموراً كثيرة ولا تقع، وأحياناً لا يشاء الأشياء وتقع، فكيف تقول: إنه مخير، ففي مثل هذه الحالة نعرف أن السؤال نفسه خطأ.
فهذا السؤال لم يرد عند الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ولا عند السلف الصالح؛ لأنهم قوم أعقل من أن تخطر عليهم هذه الأسئلة، وهذا السؤال إنما يرد في كتب الفلسفة عند المتفلسفين الذين يخوضون في قضايا عميقة ودقيقة ونظرية لا أساس لها في الشرع، ولا حتى في العقل الصريح.
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال وليس هناك أوضح من هذا القول ومن هذه العبارة: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] فأثبت الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا مشيئة، ولكنها لا تكون إلا بعد مشيئة الله، ووفق ما أراد الله، فإذا عملنا عملاً من الأعمال باختيارنا؛ فإن الله عز وجل يكون قد أراده، وإذا أردنا أن نعمل عملاً من الأعمال، ولكن الله عز وجل لم يشأه؛ فإنه لا يكون ولا يقع مهما اجتهدنا في تحصيله.
ويقول لك أحدهم: أنا مخير وأنا حر، وأريد أن أعمل هذا العمل! ولكنه لا يقع ذلك -حتى في واقع الحياة- والقصص على هذا كثيرة جداً.
فمما ذكره بعض العلماء: أنه كان رجلان في طائرة -مسلم والآخر كافر- والرحلة كانت إلى لندن فقال الكافر للمسلم: كم تبقى من الوقت لنصل إلى لندن؟ قال: تبقى ساعة إن شاء الله -قالها هكذا عادية مثل أي مسلم- فضحك الرجل وقال: لماذا تقول: إن شاء الله، فالطائرة ذاهبة والمطار موجود؟! بل قل: بعد ساعة ولا تقل: إن شاء الله، فقال له: لا.
أنا مسلم، وأقول إن شاء الله؛ لأننا قد نشاء أشياء نسعى لها والأسباب متوفرة، ولا يقع ذلك فأبى الكافر أن يقتنع، فيقول الرجل المسلم: فقدر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه عندما وصلنا قريباً من لندن وإذا بالمطار مقفل؛ فهناك ضباب والهبوط ممنوع، ولا بد أن يكون الهبوط في باريس، ولا أعرف كم تبعد باريس عن لندن فقلت له: كم بقي حتى نصل إلى باريس، فقال: ساعة إن شاء الله؛ فعرف أن هناك إلهاً فعلاً بعد أن قال: لماذا تقول: إن شاء الله؟ فهو لا يدري لعل باريس تكون مقفلة أيضاً.
فالقصد أن الإنسان مهما كابر ومهما قال: لا.
كل الأسباب موجودة، وأنا أقدر فلماذا تقول لي: إن شاء الله؟! فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي إذا شاء وقع ما شاء، لا ما خططت أنت وأحياناً لا تخطط لشيء فيحدث ويكون قد شاءه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لك وهكذا.
وبهذا نعرف قدرة الله وعظمته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنه هو الذي يدبر الكون ويصرفه، ونعرف أن الإيمان بالقدر يولد الطمأنينة في نفس الإنسان: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] فالإيمان بالقدر يعطي الإنسان طمأنينة، وراحة فلا يندم ولا يأسى على ما فاته، ولا يفرح بما أوتي كما أخبر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بذلك في كتابه.
فإذاً الإنسان له مشيئة وله اختيار؛ ولكنه اختيار محدود وفي حيز مشيئة الله له، ولا تكون مشيئة الإنسان ولا تنفذ إلا إذا شاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذلك.
فلو كان الإنسان مجبوراً بإطلاق؛ لكان مثل الحجر أو الشجر في مهب الريح وليس الإنسان كذلك، ولو كان مخيراً بإطلاق؛ لكان يفعل ما يشاء، دون أن يقع له أي عارض أو أي مانع إلا تحصيل الأسباب؛ لكننا إذا نظرنا فسنجد أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو خالق الأسباب، وأنه إذا شاء أبطل الأسباب وأبطل أفعالها.
فهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي شاء وجعل المطر سبباً في إخراج الزروع: {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل:60] أنبتنا به أي: أن الله عز وجل جعل المطر والغيث سبباً في الإنبات، ولو شاء الله عز وجل لكان كما ورد في الحديث في آخر الزمان: {يصبح المطر قيظاً} كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الآخر: {ليس الجدب ألا تمطر السماء ولكن أن تمطر السماء ولا تنبت الأرض شيئاً}.
فهل لاحظتم كيف جعله الله سبباً؟ ولو شاء الله عز وجل لجرَّد هذا السبب من الفعل كما يشاء؛ وما الآيات والبراهين والبينات التي جعلها الله تبارك وتعالى للأنبياء إلا جزء من ذلك؛ فالنار عادة تحرق، وكل ما يقع في النار فإن النار تحرقه، وهذا أمر خلقه الله تعالى هكذا؛ لكنه لما شاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أبقى الخليل عليه السلام فيها، قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] فما أحرقته.
وكذلك ليس من الأسباب العادية المعروفة أن البحر بضربة العصا ينفلق حتى يكون كل فرق كالطود العظيم، ولا يمكن ذلك بالأسباب العادية؛ لكن الله جعله لموسى وقلب تلك العصا حيه، وهكذا فهذه إرادة الله، ومشيئته، فالإنسان له مشيئة لكنها ليست حرة، ومطلقة.(25/18)
حديث "فحج آدم موسى" والاحتجاج به على المعاصي
السؤال
حديث: {فحج آدم موسى، فحج آدم موسى} اشرح لنا هذا الحديث؟ وآخر يقول: هل للعصاة حجة فيه للاحتجاج على المعاصي؟
الجواب
هذا الحديث أولاً: هو حديث صحيح لا شك في صحته عند علماء السنة.
يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {احتج آدم وموسى، فقال موسى لآدم: أنت آدم الذي خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة} هكذا في بعض الروايات وكلها متقاربة، وهكذ احتج موسى على أبينا آدم عليهما السلام: {فقال له أبونا آدم عليه السلام: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وخط لك التوارة بيده، تلومني على أمر قد كتبه الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى} أي: غلبه بالحجة.
فآدم غلب موسى، وهنا وقع الإشكال؛ فـ القدرية المعتزلة وأشباههم قالوا: هذا الحديث لا يثبت وردوه، وإذا قيل لهم: كيف تردونه وهو صحيح؟! قالوا: هذا فيه حجة لأهل المعاصي، فيعصي الإنسان ويقول: قدَّر الله عليَّ؛ لأن آدم قال: قدر الله عليَّ قبل أن أخلق بأربعين سنة، فنحن نرد هذا الحديث، فردوه وهو حديث صحيح.
وأما القدرية المرجئة -والكل يسمون القدرية لكن الأخص يطلق على النفاة- فقالت: لا.
بل هذا الذي نريده، فاحتجاج العاصي بذلك جائز له؛ لأنه في الحقيقة لا فاعل إلا الله، وكما يقول غلاة الصوفية:
أصبحت منفعلاً لما تختاره مني ففعلي كله طاعات
أي كل أعمالي من الله.
فهذا الحديث يدل عندهم على أن للعاصي أو لأي مذنب أو مجرم أن يحتج بالقدر، وهذا أيضاً باطل.
وقد وقع في هذا الحديث خصومة شديدة بين المعتزلة الذين أنكروا الحديث، والأشعرية والصوفية الذين أثبتوه؛ ولكن على غير الوجه الصحيح، حتى قال الشيخ المقبلي رحمه الله: من يقرأ في مجادلة الفريقين يظن أن آدم أشعري وموسى معتزلي.
فجعلوا آدم أشعرياً، وجعلوا موسى معتزلياً، سبحان الله! من كثرة ما تجادل الطرفان، وكلاهما أخطأ في الفهم.
والفهم الصحيح للحديث هو كما فهمه الصحابة الكرام، فلم يقع عندهم أي تعارض، وهم أفقه الناس وأعلمهم وأذكاهم، وهو أن موسى عليه السلام لم يعتب ويلم آدم على الذنب، ولم يقل لآدم كيف تذنب وتعصي أو كيف تأكل من الشجرة، وهذا هو الفهم الذي تفهمه الجبرية.
وهنا إشكالات يكفي أن نذكر منها إشكالين بالنسبة لكل واحد من هذين الرسولين: أولاً: أما بالنسبة لآدم عليه السلام فالجواب سهل جداً، فإذا قال له: لماذا تعصي؟ فسوف يقول: إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد غفر لي ذنبي، ولست أنت ربي حتى تحاسبني؛ ومن هذا الذي يلوم أحداً على ذنب قد فعله، وعنده علم من الله أنه قد غفر له؟ ومثلاً الكافر إذا أسلم؛ نحن نعلم -وإن كان ليس بنفس اليقين- أن هذا الإنسان ما دام أسلم فإن الإسلام يجب ويهدم ما قبله، فعندما أقول له: لماذا كفرت؟ فهو يقول: لا داعي للسؤال فأنا قد أسلمت، واعتراضك هذا ليس له وجه.
فالجواب إذاً سهل بالنسبة لآدم، فيقول: إن الله قد غفر لي ذنبي، ولست أنت بربي، وأيضاً موسى عليه السلام أعلم بالله وبآدم وبالحق من أن يلوم أباه آدم على ذنب يعلم أن الله قد غفر له.
إذاً إلى أي شيء يتوجه اللوم؟ إنما يتوجه موضع اللوم؛ إلى الإخراج فاللوم أنك خيبتنا وأخرجتنا، فموسى عليه السلام ينظر كيف كنا، وأين كنا، كما قال ابن القيم:
فحي على جنات عدنٍ فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا أسرى العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
فنحن نزلنا إلى هذه الدنيا وهذا التراب حتى يقال: إن آدم عليه السلام بكى طيله ثلاثمائة سنة، ولا بد أن يبكي عليه السلام لما أنزل إلى التراب، فهي مصيبة كبيرة أن يخرج من الجنة وينزل إلى التراب.
فموسى عليه السلام يلومه على هذه المصيبة، فيقول: يا أبانا آدم! خيبتنا وأخرجتنا من الجنة.
إذاً هذا اللوم يتوجه إلى هذه المصيبة، وهي الخروج من دار النعيم، ومن دار القرار إلى دار الشقاء والنكد والمصائب، فآدم عليه السلام يقول: أنا ليس لي ذنب في الإنزال، بل هي مصيبة ليس لي ذنب فيها؛ لأنه أمر قد كتبه الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة، وهذا صريح القرآن: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] أي: أن هذا قبل أن يخلقه: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30].
إذاً فالله قدر قبل أن يخلق آدم في الفترة التي لم يكن فيها آدم شيئاً مذكوراً، كما قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} [الإنسان:1] وهي أربعون سنة.
فيقول آدم عليه السلام: يا موسى! الإنزال في الأرض ليس له علاقة بي، عصيت أو لم أعص فالنزول واقع واقع، لأنه قُدر وكُتب قبل أن أخلق بأربعين سنة بأنني أنزل إلى الأرض فلماذا تلومني؟ أتلومني على أمر قد كتبه الله عليَّ قبل أن أخلق بأربعين سنة؟! إذاً انتهى الجواب: {فحج آدم موسى} وفي رواية أخرى: {ألم تقرأ في التوراة أن الله تعالى كتب أنه سوف ينزلني إلى الأرض وأنه سيجعلني خليفة في الأرض}.
إذاً ليس هناك مجال للاحتجاج بالقدر على المعاصي؛ ولكن نحتج بالقدر على المصائب، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [الحديد:22] وهذا ما أمرنا به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن نقول: {قل قدر الله وما شاء فعل}.
فإذا وقعت المصيبة ووقع الشيء خلاف ما تريد؛ فإنك حينئذ تحتج بالقدر وتقول: قدر الله وما شاء فعل، إنا لله وإنا إليه راجعون، لله ما أخذ ولله ما أعطى، فهذه أقدار الله عز وجل؛ فالقدر يحتج به على المصائب، ولا يحتج به على المعائب والذنوب.
أما أخطاؤنا التي نرتكبها عصياناً لله، فلا نحتج بها إلا في حالة واحدة! حالة أن يكون الاحتجاج بالقدر على المعصية مجرد إخبارٍ عن أمر قد مضى أو أمر واقع وليس فيه معارضة على القضاء والقدر.
فالمشركون احتجوا بالقدر على الشرك، فقالوا: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام:107] {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل:35] {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20] {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:47] فاحتج المشركون به في مقام الاعتراض على الرسل؛ لكن لو أن أحداً من الصحابة أسلم، فقيل له: لماذا لم تسلم إلا في السنة السابعة من الهجرة؟ فقال: لو شاء الله لأسلمت قبل ذلك، فإننا نقول: الاحتجاج هنا صحيح؛ لأن هذه مصيبة، فيحتج بالقدر على المصيبة، أو يحتج به على ما ظاهره أنه معصية، لكنه بمنزلة المصيبة.
وأما إذا قال لك أحد: هؤلاء جيرانك محتاجون -وهم مسلمون- فأطعمهم، فقلت: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:47] فهذا لا يجوز؛ لأنه يعتبر رداً لأمر الله وشرعه الله بمشيئته، لا يجوز.
ولو قيل لك: يا أخي! يوجد في أمريكا الوسطى أناس فقراء، وفي الصين كل يوم يموت من الجوع ألف؛ فما هو رأيك؟ فقلت: يا أخي! لو شاء الله أطعمهم، وهذه مشيئة الله، فكلامك هنا صحيح، فإنه لو شاء الله ما ماتوا في إفريقيا ولا في أمريكا الوسطى ولا في الصين ففي هذا الموضع لا يكون الاحتجاج دافعاً لعدم الإنفاق ولا منعاً للإحسان؛ وإنما تقول هذا من باب الإخبار المجرد؛ فهو في هذه الحالة يتحول إلى كلام على المصيبة وليس على المعصية.
وقد ورد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لما ذهب يتفقد علياً وفاطمة وحضهما على قيام الليل، فقال علي: إن أنفسنا بيد الله فمتى شاء بعثنا، فولى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يضرب على فخذه، ويقول: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54]} وهذا ليس من باب قول أحدهم: أنا أنام ولا آخذ بالأسباب، وإذا قدر الله لي أن أستيقظ استيقظت! فهذا احتجاج بقدر الله -بأنه هو الذي يحيي ويوقظ النفس- لترك الطاعة، وهذا لا يجوز، لكن علياً فطن إلى المحاجة والمجادلة مثلما فطن آدم في محاجة موسى، أي أنه إذا وقع النوم بعد أخذ الأسباب فهو من الله.
ولهذا فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة بني المصطلق لما نام هو وأصحابه ولم يوقظهم إلا حر الشمس، قال: {إن أرواحنا بيد الله فمتى شاء بعثها} وهذا استدلال بقدر الله على المصيبة، فأنت إذا تحريت واجتهدت ونمت في الوقت المناسب، وقد تكون وضعت المنبه، وكل شيء؛ ثم استيقظت وإذا بالناس قد صلوا الفجر؛ فهنا تقول: أرواحنا بيد الله.
لكن أحدنا ينام ولا يبالي ولا يستعد ولا يريد أن يصلي الفجر جماعة، ثم يقول: أرواحنا بيد الله، فالفرق كبير بينهما، فهذه معصية وتلك مصيبة، وهناك فرق بين المعصية والمصيبة من حيث الاحتجاج.(25/19)
محو الله للقدر ورد القدر بالدعاء
السؤال
هل يمحو ويغير الله ما يكتبه على العباد ويكتب غيره، وهل يرد الدعاء شيئاً من القدر؟
الجواب
نعم، فالله تبارك وتعالى يقول: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] ويقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {لا يرد القضاء إلا الدعاء} وهذا يحفزنا ويدفعنا للاجتهاد في طاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى باستمرار، وأن نكثر من دعاء الله ونجتهد في طاعته، وندعوه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا من السعداء، وأن نعمل بعمل أهل السعادة.(25/20)
جواز الدعاء بطلب السعادة
السؤال
هل يجوز أن يقول الإنسان: اللهم إن كتبتني شقياً فامحني واكتبني من السعداء؟
الجواب
مثل هذا جائز، وقد ورد عن السلف؛ لأنك لا تعلم الغيب، ولا تدري ما حالك عند الله، وهذا -كما قلنا- من أكبر الأسباب التي جعلت السلف الصالح يجتهدون في طاعة الله، وكذلك يجتهدون لأن يكونوا من المقربين ومن أصحاب السعادة؛ فاجتهد وادع الله أن يجعلك من أهل السعادة؛ فحينئذٍ تكون قد بذلت الأسباب، والله يوفق من دعاه ولا يخيبه، كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
لكن أم الكتاب لا نقض فيها ولا تغيير ولا تبديل، لأنها كتبت حسبما سيكون عليه الحال كما علمه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(25/21)
خلق القلم وكتب الأقدار قبل خمسين ألف سنة
السؤال
يقول السائل: إن الله خلق القلم، وكتب الأقدار قبل خمسين ألف سنة فما هو الدليل على ذلك؟
الجواب
الدليل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، فكتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء} رواه مسلم.
فقد كتب الله عز وجل مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء، في الوقت الذي لم تكن السماوات والأرض قد وجدت، بل بينهما خمسين ألف سنة.
فيجب أن يكون الإنسان على إيمان ويقين بأن كل ما يصيبه من خير أو شر فأمر قد قضي وانتهى؛ فقد رفعت الأقلام وجفت الصحف، ولم يبق إلا ما كتبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فليجتهد العبد في الطاعة وفي فعل الخير، وفي دعاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعله عنده من أصحاب اليمين، ومن المقربين، ومن المتقين، ومن الميسرين لليسرى.(25/22)
حكم استخدام كلمة (لو) في الرد على القدر
السؤال
حصل لرجل حادث، فقال له رجل آخر: لو أنك لم تذهب، فهل يجوز هذا القول؟
الجواب
قوله: لو أنك لم تذهب لما وقع الحادث لا يجوز؛ لأن هذا ما قاله المنافقون: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران:156] فرد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم بقوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154] أي: لو كان الإنسان في بيته، والله عز وجل كتب أنه يذبح هنا، فإنه يخرج إلى مضجعه ويضطجع ويذبح؛ فهذا شيء لا بد منه.
فأمر كتبه الله لا بد أن يقع، ولا يجوز الاعتراض بكلمة (لو) هذه؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في الحديث السابق: {استعن بالله واحرص على ما ينفعك ولا تعجز، وإن أصابك أمر فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان} وهذه لا يستخدمها المؤمن في القدر، في مثل هذا الموضع.(25/23)
أنواع كتابة القدر
السؤال
هل الكتابة الكونية ليس فيها الكتابة النوعية؟ وهل الكتابة النوعية ليس فيها الكتابة الحولية؟ وهل الكتابة الحولية ليس فيها الكتابة العمرية؟ وما فائدة هذه الأنواع من الكتابة إذا كانت متضمنة مكتوباً واحداً؟
الجواب
هي في الحقيقة تقدير بعد تقدير، فالكتابة الكونية في اللوح المحفوظ هي وفق علم الله، ومن الممكن أن نعتبر أن العلم والكتابة مرتبة واحدة، لكن الكتابة النوعية والكتابة العمرية والكتابة الحولية والتقدير اليومي، هذا تقدير بعد تقدير، وكتابة بعد كتابة، ولله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في ذلك حكمة، فلما خلق الإنسان؛ جعل الله له قدراً خاصاً وهو موافق للقدر الأول، ولما خلق كل إنسان منا في ذاته -أيضاً- كتب قدره، فهو من نفس القدر الأول، وكذلك كل عام، وكل يوم يفعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما يشاء، فهذه أخبرنا الله بها، حتى يزداد إيماننا ويقيننا، ونعلم أن الكون كله بقدر، فجنس الإنسان كله بقدر، وعمرك كله بقدر، وسنتك هذه بقدر، ويومك هذا بقدر.
إذاً فكل شيء بهذا الترتيب العجيب الذي لا يمكن أن يعلم إلا عن طريق الوحي، فهل تتخيلون أن العقل وحده يستطيع أن يعرف أنواع هذه التقديرات؟ إن هذا لا يمكن على الإطلاق؛ وهذا فيه فائدة عظيمة لنؤمن بالغيب، ولنعرف قيمة الوحي، ولنزداد يقيناً بأقدار الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وإلا فكلها مُتضمَنة ومكتوبة بالقدر الأول الذي هو أم الكتاب الذي لا يبدل ولا يغير.(25/24)
الحث على تعلم القدر
السؤال
يقول السائل: قال بعض السلف: 'رأيت أعلم الناس بالقدر أجهلهم به، وأجهل الناس به أعلمهم به' ما رأي فضيلتكم في هذه العبارة؟ ثم اذكر موقف السلف حول الإيمان بالقضاء والقدر؟ وهل حرص العبد على الادخار لذريته ينافي القدر؟ وهل عرض قضايا القدر تفصيلاً بحضرة العوام يتعارض مع قول الإمام علي: [[حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله]]؟
الجواب
نبدأ أولاً بهذه العبارة 'رأيت أعلم الناس بالقدر أجهلهم به, وأجهل الناس به أعلمهم به' فهذه العبارة ليست عامة، وليس المقصود بهذه العبارة أحكام الخبر المنصوص عليها وما جاء في القدر من آيات وأحاديث وكلام السلف؛ لأن هذا من زيادة العلم الذي يزيد الإنسان يقيناً وإيماناً بهذا الركن العظيم من أركان الإيمان؛ لكن الذي يبحث في الدقائق ويتعمق في أسرار القدر؛ فمهما تعمق فإنه يرجع إلى الأساس الأول، وهذا هو الذي لو جهله لكان خيراً له.
فالقدَر المتعمق فيه هو الذي سلكه أهل الكلام وأمثالهم، وقد وردت عبارة عن السلف مثل هذه تماماً وهي تفسر هذه كما يقول أبو يوسف أو غيره: 'العلم بالكلام هو الجهل، والجهل به هو العلم' وعلم الكلام هو التعمق والتدقيق في أمور غيبية بالعقل المجرد، كالتدقيق في صفات الله وفي القدر وما أشبه ذلك؛ فهذا هو الجهل، لأن الإنسان يتكلف ما لا يمكن أن يصل إليه وما لا يطيقه، وهذا ينتج عنه الضلال والانحراف عافانا الله وإياكم.
أما العلم الذي هو في الكتاب والسنة وكلام الصحابة والأئمة المتعلق بهما -أي الكتاب والسنة- فليس داخلاً في ذلك.
وأما حرص العبد على الادخار لذريته فإنه لا يتنافى مع القدر؛ لأن الجوع قدر وإذا أكلت وشبعت أذهبت الجوع، وهذا أيضاً بقدر؛ ولهذا المؤمن مطالب بأن يدفع القدر بالقدر، فالقدر ينازع بالقدر، وهذه كلها أقدار أو أسباب جعلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنا لا أعلم بالمكتوب عند الله؛ وإنما المطلوب مني أن أدفع قدراً بقدر، فأدفع المعصية بالطاعة، وأدفع الغفلة في القلب بذكر الله عز وجل وقراءة القرآن وبتذكر الموت والآخرة، وأدفع الداء بالدواء والعلاج وهكذا، فقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لـ سعد: {إنك أن تذر ورثتك أغنياء، خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس} وهذا من الأخذ بالأسباب والقدر، ولا شيء في ذلك.
أما الحرص الذي يجعل الإنسان يمنع حق الله من المال، ويخاف على أولاده، ويقول: كيف يعيشون؟ وكيف يطعمون من بعدي؟! ويجزع ويهلع؛ فهذا هو الذي لا يجوز.
أما أن يدخر شيئاً مما أعطاه الله؛ ليصلح حال أبنائه من بعده؛ فهذا مأمور به ومطلوب شرعاً؛ ولهذا لا يجوز أن يوصي بأكثر من الثلث -كما ثبت ذلك في حديث سعد الصحيح الذي أشرنا إليه-.
أما عرض قضايا القدر في حياة العوام تفصيلاً فليس كل شيء ينبغي أن يعرض أمام العوام تفصيلاً، لكن بالنسبة لطلبة العلم ينبغي أن يتعلموا ما يحتاجون من علمه؛ حتى إذا سأل العوام يجيبونهم.
فمن لديه استعداد للعلم فليتعلم، وإن كان هو يجهل ذلك؛ لأنه ليس كل شخص يولد عالماً.
وأما إذا قلنا: هذا لا يعلم شيئاً فلا نعلمه شيئاً في القدر؛ فسيظل جاهلاً.
لكن ليتعلم شيئاً، ومن عنده استعداد أن يتعلم أكثر من ذلك فليعلّم ذلك، كما في الحديث الصحيح عن عمران بن حصين حين امتحن واختبر أبا الأسود الدؤلي في القدر.
فإذاً: هذا مما يدل على أن من الناس من يُعلَّمون ذلك، ولكن ليس كل واحد يعلَّم.(25/25)
سبب الالتباس في مسألة القدر
السؤال
إنني أرى كثيراً من الناس يصلون ويصومون، ولكنهم مع ذلك لديهم التباس في مسألة القدر، فما السبب في ذلك؟
الجواب
السبب هو أن الشيطان حريص، فإما أن يأتينا بالمعاصي الظاهرة، وإما أن يأتينا بالمعاصي الباطنة -وهذا أشد- ولهذا قال الله تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] فالمعاصي الظاهرة هي نتيجة للشهوات، كترك الصلوات أو الزنا أو الخمر أو ما أشبه ذلك -عافنا الله وإياكم منها- لكن المعاصي الباطنة تكون نتيجة الشبهات -في الغالب- فيأتي الشيطان بالشبهة فيفسد على الإنسان دينه، فيضل بالقدر أقوام، وكم كفر من أناس نتيجة القدر! نسأل الله العفو والعافية.
فهذا عمرو بن عبيد كان عابداً زاهداً لا يكاد يملك من الدنيا شيئاً، لكنه كما قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: [[لو أنفق مثل أحد ذهباً ولم يؤمن بالقدر لم ينفعه أبداً]].
إذاً هذا هو الذي يريده الشيطان؛ فلقد عجز أن يأتي إلى بعض الناس من باب الشهوات والمعاصي؛ فأتاهم من باب الشكوك، ومن باب فساد الإرادة والإخلاص -عافانا الله وإياكم من ذلك- ولذلك هو حريص إما أن يجعلك لا تعمل، أو أن يجعل عملك فاسداً حابطاً وإن اجتهدت واستكثرت منه؛ ولهذا يجب أن نحذر هذا العدو، فهو عدو لديه تجارب طويلة، ولديه نفس ثابتة تعينه، ولديه -خاصة في هذا العصر- من الوسائل من مكر الليل والنهار والسيطرة على قلوب البشر والغفلة عن ذكر الله، الشيء الكثير جداً؛ حتى أصبحت هذه الشبهات تتلاحق على الناس.
فشبهات في القدر وشبهات في الصفات وفي الإيمان بالله وفي نشأة الكون، وفي سبب وجود الإنسان، وفي نهاية الإنسان، شبهات متلاحقة لا تكاد ترى كتاباً من هذه النوعيات أو مجلة أو فيلماً أو مقالة إلا وفيها شبهة فسبحان الله!! ولولا ثقتنا بنصر الله ووعده والإيمان به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأن الأمة فيها صحوة طيبة، وفيها فئة ثابتة؛ لقلنا انتهى الإسلام من كثرة ما تجد من مكر الليل والنهار بهذه الشبهات.
فقد كان الطفل ينشأ إلى أن يبلغ الحلم لا يسمع شبهة؛ أما الآن فإن الطفل تصب الشبهات في ذهنه صباً -كل يوم تقريباً- ولهذا ننصح بضرورة التربية على الإيمان وعلى العقيدة الصحيحة وعلى العلم الصحيح، ولا يكفي مجرد العواطف أو مجرد الاستثارة.
بل يجب أن نكون على علم ويقين، وإلا فسوف تصبح الشبهات مستعصية، وهذه ما يريده الشيطان، نسأل الله أن يكفينا وإياكم وإخواننا المسلمين من شره.(25/26)
الرؤيا المبشرة
السؤال
يقول السائل: إذا رأى الإنسان رؤيا مبشرة فما الذي يجب عليه أن يعمله؟
الجواب
عليه أن يعمل لتحقيقها.
مثلاً: افرض أنك رأيت رؤيا بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يهدي بك طائفة من الناس أسلموا واهتدوا على يديك! فعليك أن تتسلح بالعلم، وأن تستعد وأن تذهب إليهم، وأن تبذل الدعوة لهم؛ حتى تتحقق لك هذه البشرى، وكذلك لو رأى أو بُشِّر بأنه سيكون له أبناء كثيرون، فعليه أن يسعى ليتزوج المرأة الصالحة، ويسعى لأن يكسب هذه الذرية الصالحة الطيبة، أي: أنه يبذل الأسباب التي تجعل هذه البشرى حقيقة -إن شاء الله- كما أنه لو رأى أو ظن أو توقع ما يسيء إليه، فإنه يسعى إلى اجتنابه، ولو توقع أي شر فإنه يبذل الأسباب لاجتنابه، مع الفارق -طبعاً- بين البشرى وبين الفعل السيئ.(25/27)
اختلاف الناس إلى طريقة الخير والشر
السؤال
قد يقول قائل: أنا أومن بأن الله بعلمه الأزلي قد علم ما سيكون من اختلاف الناس، وتفرقهم لطريق الخير أو الشر، فما السر الذي من أجله ذهب فلان إلى طريق الخير وفلان ذهب إلى طريق الشر؟ وقد تقول: إن هذا راجع إلى إرادة الإنسان، وحسن امتثاله وصبره، والتزامه بطريق الخير، فنقول: لماذا لم يخلق الله هذين الرجلين بإرادة واحدة متساوية؟ ولماذا استطاع هذا أن يتحكم في إرادته ويوجه همته نحو الخير، وذاك لم يستطع أن يفعل ذلك؟
الجواب
أنا معك أنني سأجيبك كما قلت، وسأقول لك: إن سألتني: لماذا اختار هذا طريق الخير، والآخر اختار طريق الشر؟ ولماذا ذهب هذا إلى طريق أهل اليمين، وهذا إلى طريق أهل الشمال؟ فسأجيبك بأنه فعل ذلك باختياره، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد قدر ذلك عليه وشاءه، لكنه ذهب وفعل ذلك بكامل إرادته واختياره.
وإن قلت: لِمَ لمْ يخلق هذان الرجلان بإرادة واحدة متساوية؟ فسأقول لك: هذا السؤال لم يعد متوجهاً إليَّ؛ فالسؤال الأول من حقك أن توجهه إليَّ؛ لكن إذا وصلنا إلى أنه لماذا كان اختياره هكذا؟ ولماذا أعطي هذا الاختيار؟ فهذا السؤال لا يتوجه إلا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن ذا الذي يستطيع أن يسأل الله: لماذا يا رب جعلت هذا يتوجه إلى الخير وهذا يتوجه إلى الشر؟ قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] كما قال عمران لـ أبي الأسود.
فإذا جاء هذا الإنسان يوم القيامة وقال: يا رب! لم اسمع بنبي ولا برسول قط، وقد قال الله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] فلا يظلمه الله ولا يؤاخذه، مع أن الفطرة موجودة لكن الله لا يؤاخذه إلا بما بلغه.
ولو جاء يوم القيامة، وقال: كنت مجنوناً، أو كنت صغيراً، أو كنت هرماً، أو كنت أبكم، فلم أسمع شيئاً من الدين؛ فكيف تحاسبني يا رب؟! فإن الله لا يظلم الناس شيئاً أبداً.
إذاً: لو جاء في يوم القيامة هذا الذي اختار طريق الشر فهل يستطيع أن يسأل هذا السؤال، ويقول: ظلمتني يا رب! فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعطاك القدرة وأعطاك الاختيار وأنت اخترت؛ فلهذا لا يقول ذلك أحد؛ إنما الفلاسفة والمتكلمون استشكلوا هذا في رءوسهم، ولقنوا ذلك لغيرهم وهذه من شبهات الشيطان.
ونوضح المسألة أكثر: إذا قلت لأحد من الكفار لم يسمع بهذه الشبهة، ولم يلقنه إياها الفلاسفة: يا أخي في الإنسانية! هل أنت مسلم أم كافر؟ فسيقول لك: كافر.
فإذا قلت: ولماذا لم تسلم؟ يقول: لا أريد أن أسلم، تقول له: الإسلام هو الدين وهو طريق الجنة، والكفر يؤدي إلى النار، فيقول: لا.
أنا لا أريد الإسلام، فإذا قلت له: أنت مجبور على الكفر وإلا لكنت الآن مسلماً، عند ذلك يضحك منك، ويقول: لا.
لم يجبرني أحد! -وهو يضحك منك- ومن الذي يجبرني؟ فلو أريد الآن أن أسلم لأسلمت.
فإذا سألته: هل تتحمل مسئولية هذا الكفر الاختياري؟ فسيقول: نعم.
هو كافر باختياره وهي مسئوليته؛ وهذا ما قاله كفار قريش ويقوله كل كافر: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال:32] أي: ليس ذلك عندهم قضية أنهم مجبورون بل يقولون: لا يمكن أن يكون حقاً؛ وإن كان حقاً فأمطر علينا حجارة.
فهذا الكافر يقول: نعم.
أنا مستعد أن أتحمل تبعة هذا الكفر حتى ولو كان إلى النار؛ فهذا ليس مجبوراً أبداً؛ ولهذا فهو محاسب يوم القيامة على كلامه، وهو فعلاً مختار، وأنه لو شاء لأسلم في هذه اللحظة.
وليس لنا وراء الخوض في هذا الموضوع إلا الاعتراض على الله عز وجل، ولا يمكن أن تصل العقول البشرية إلى إدراك ذلك، والتحدث والخوض في هذا الموضوع يؤدي إلى الضلال عن الصراط المستقيم.(25/28)
القدر الإبليسي
السؤال
إن هناك شاباً يقول لي: إني أحس أن هناك يوماً سوف أهتدي فيه، ولا يزال على عصيانه، فهل هذا من القدرية الإبليسية؟
الجواب
نعم.
هذا نوع من القدرية الإبليسية، فالذي يقول: أنا أحس أنه سيأتي يوم أهتدي فيه، وهو ما يزال -الآن- على المعصية ما موقفه لو جاءه الموت الآن؟! ومن أين جاء هذا الإحساس، ومن قال له: إنك سوف تعيش، فضلاً عن أنك سوف تهتدي؟! فهذا من تسويف الشيطان -نسأل الله أن يعافينا وإياكم- فعلى العبد أن يبادر بالتوبة والعمل؛ ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اعملوا فكل ميسر لما خلق له} فبادر بالتوبة، وبادر بالعمل.(25/29)
الأفكار الشيطانية
السؤال
الإنسان تعتريه بعض الأفكار الشيطانية: في أنه كيف يعلم الله كل شيء في آن واحد؟ وهل علم -مثلاً- من في المملكة، ومن في أمريكا في وقت واحد؟
الجواب
هذا أظنه لا إشكال فيه، والذي أنصح إخواني ونفسي أولاً: ألا نسترسل وراء الخواطر الشيطانية، فيأتيك الشيطان فيقول لك كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يأتي الشيطان أحدكم يقول: من خلق كذا، من خلق كذا حتى يقول له: من خلق الله؟ فقل: آمنت بالله}.
قال المتكلمون: إذا جاءك الشيطان وقال لك: كذا، فقل له: إن التسلسل ممنوع، وهذا من التسلسل الممنوع.
ولكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقل: لا تسلسل -والتسلسل ممنوع أصلاً- لكنه قال: استعذ بالله من الشيطان الرجيم، وقل: آمنت بالله.
فالشيطان إذا جاءك بهذه الشبهة البسيطة، وأنت المؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأنت المصلي والحاج والمعتمر المطيع لله ورسوله، وأنت ترى آثار علم الله عز وجل، وآثار حكمة الله، وآثار رحمة الله، وترى عجائب فعل الله بالعصاة، وعجائب نصرة الله وتوفيقه للطائعين؛ فكل هذه الحقائق عندك ملء السمع والبصر، ثم يضحك عليك الشيطان بشيء بسيط كهذا! ولهذا ما علينا عند هذه الخواطر إلا أن نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ونقول: آمنا بالله، فلا نحتاج إلى أن نبحث ونرد أو نضع جواباً مقنعاً.
فالذي ينكر الشمس، وينكر أن هذا الشعاع يأتي من الشمس وهذه الحرارة، هو يحس بها هذا لا يستحق الرد؛ والحرارة سببها الشعاع، والشعاع من الشمس وصحيح أنه لا يوجد دليل؛ لكنه في الحقيقة استدلال على شيء ظاهر وبارز.
ولهذا السلف الصالح من الصحابة لم تأتهم مثل هذه الأسئلة؛ بل حتى الأعرابي الذي جاء وقال: من خلق الله؟ ثم جاء إلى أبي هريرة رضي الله عنه فقال له: صدق خليلي رسول الله، فهو أعرابي من الباديةوهذا هو حالهم: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة:97].
فدرجة هذا الأعرابي من العلم مثل درجة أي واحد في آخر الزمان؛ لأن القضية ليست مجرد العصر، بل هو العلم.
فالمقصود أن الإنسان الذي أنار الله تعالى قلبه لدلائل الإيمان، لا يسترسل وراء هذه الأفكار، ونحن نعيب على المتكلمين، وعلى غيرهم من المتفلسفين، ونقول لهم: كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينطق بالحق، وتريدون أن نتبعكم في أدلة عقلية قد تضعف وقد تقوى؟! فنحن عندنا براهين أقوى من ذلك، وأنتم تريدون إثبات أن الله تعالى موجود، وهذا الجهد لا نحتاج إليه؛ لأن هدفكم في غير طائل فمن الذي أنكر وجود الله؟ وهل نحتاج نحن المسلمين أن نكرر أن الله موجود؟! بل نحن نحتاج أن نكرر أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو وحده المعبود والمألوه والمطاع والمتبع، هذا هو الذي نحتاجه.
وهكذا من أمثال هذا السؤال.(25/30)
قدرية اللون الأسود
السؤال
أرجو ألا يُفهم كلامي خارجاً عن إطار المرجع، وأنا أعلم أن المقياس الرباني للعباد للكرم والمفاضلة هو التقوى، وحديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا فضل لعربي ولا أعجمي إلا بالتقوى} إلى آخر الحديث، ونحن نعلم أن اللون الأسود مضطهد إلى يومنا هذا، وأنت تعلم ما يحدث في عالمنا اليوم من تفريق إلى سادة وعبيد، والسؤال: لماذا قدر هذا الاضطهاد على اللون الأسود؟ وهو سبحانه كما قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [لأنبياء:23]؟
الجواب
الأخ جزاه الله خيراً قد أجاب، لا يسأل عما يفعل.
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق الإنسان من طين من الأرض، فقدَّر الرحمن سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قدْر كل شخص في الأرض؛ فكان الناس معادن في طباعهم وفي ألوانهم وفي أصالتهم.
فنجد أن الناس فيهم مثل الذهب نفيس جداً، ونجد أن فيهم مثل التراب والحجارة التي لا قيمة لها، ونجد أن فيهم الأبيض والأحمر والأسود، فيخلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما يشاء.
ولما جعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذه المعايير -كما تفضل الأخ وأشار إليها- جعل هنالك ابتلاء، فالناس مبتلون؛ فهناك من يعيرون بألوانهم وهناك أناس يعيرون بنسبهم، ومنهم من يعير بجنسه وعنصره وكذلك بدينه.
فالأنبياء والرسل الكرام عيروا بالإيمان، كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} [الأعراف:66] أي نراك في ضلالة، إلى آخر ما عيّر به الأنبياء؛ فكيف نستغرب أن يعير الإنسان بنسبه أو بلونه أو منزلته الاجتماعية وغير ذلك.
فهذه الأخطاء يقع فيها الناس إذا انحرفوا عن دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا الانحراف الذي يقع من الناس لله تعالى فيه حكمة؛ فيكون هذا الذي عيّر -إن عير في نسبه أو لونه أو عنصره أو في حرفته، أو أي شيء- فصبر فإن له في ذلك أجراً.
إذاً: هذا نوع من أنواع الابتلاء، ومن الأمور التي جعلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بحكمته مكاناً لتغاير الأفهام، وليحكم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يوم القيامة بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون، وفي اختلافهم في هذه المعايير.(25/31)
حديث السبعين ألفاً
السؤال
حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، وذكر منهم أنهم لا يسترقون ولا يتطيرون، هل معنى هذا أن التداوي ينافي القضاء والقدر؟
الجواب
التداوي لا ينافي القضاء والقدر، بل هو دفع للقدر بالقدر، فهو من القدر؛ لكن السبعين ألفاً هؤلاء ترفعوا عن نوع معين فقط؛ وهذا من كمال التوحيد؛ لكنه لم يقل: لا يذهبون إلى الأطباء، ولا يتعالجون ولا يأخذون الدواء، ولم يأمر بالصبر مطلقاً في كل مرض.
فالذهاب إلى الطبيب للتداوي والأخذ بالأسباب المشروعة لا يُنزل الإنسان عن تحقيق التوحيد؛ لكن طلب الرقية هو الذي يؤثر.
فإذاً: النص محصور فقط فيمن ورد فيه النص، ولا يتعدى ذلك إلى غيره، جعلنا الله وإياكم من هؤلاء السبعين ألفاً.(25/32)
عمود القدر لكل ما يحدث
السؤال
هل جميع ما يحدث للإنسان خيره وشره من القدر؟
الجواب
نعم، علمه الله كله وكتبه، وشاءه، وخلقه، حسب المراتب الأربعة(25/33)
[مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ]
ما معنى قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]؟
الجواب
هذه الآية مما أشكل على القدرية وضل فيها المتكلمون وتاهوا، وهو أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رد على المنافقين فقال: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً * مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:78 - 79].
فالآية بحمد الله ليس فيها إشكال على مذهب أهل السنة والجماعة، وكما فسرها علماء السلف؛ لكن الحيرة جاءت من أنه كيف ينكر الله عز وجل على المنافقين قولهم: إن ما أصابهم من حسنة فمن الله وما أصابهم من سيئة فهي من الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين، ثم بعد ذلك يقول: ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك.
إذاً: كيف ينفي كلامهم بقوله قال تعالى: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [النساء:78] ثم بعد ذلك هو يقول: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79].
والجواب: أن المقامين مختلفان، فالكافر والمنافق والعاصي والفاجر ما أصابه من حسنة فهي من الله فضلاً تفضل الله تعالى بها، وما أصابه من سيئة فهي من نفسه -أي: بسبب نفسه- أي: عقوبة، والحال أن الخير والشر كله من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وكذلك -إذا نظرنا- لما قالوا: ما أصابنا من حسنة فمن الله، هذا حق، وما أصابنا من سيئة يقولون: هذه من عندك -يقصدون الرسول- أي: يا محمد! أنت السبب في هذه المصيبة، فنقول: لا.
ما أصابكم من حسنة فهي فضل من الله؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعفو عن كثير، وإلا فالمصائب بسبب الذنوب، لكن يعفو عن كثير، وما أصابكم من سيئة فهي ليست بسبب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل بسبب معصيتكم وذنوبكم أنتم، فلذلك وضح الله ذلك في كتابه بما لا شبهة فيه، فقال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] فلم يقل: إنها من المنافقين، لكنهم قالوا: من محمد وأصحابه.
فإذاً ما يصيب الإنسان من خير، فمن الله فضلاً، وما يصيبه من شر فمن الله عدلاً، سواء كان هذا الإنسان صالحاً أو طالحاً.
وأما أن يُجعل غير الله هو الذي يصيب فلا؛ لكن! حتى وإن كان السبب من غيرك؛ فبالحقيقة أنك أنت السبب؛ فمعصيتك هي التي جعلت هذا الإنسان يسلّط عليك.
وهذه حقيقة واضحة عند المؤمنين جميعاً، فقد كان من السلف الصالح من يبتلون حتى من الكفار، ومع ذلك يؤمنون أن هذا من عند الله؛ حتى لما ابتلوا يوم أحد كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] فتسليط الكفار عليهم بالقتل هذا من عند أنفسهم، أي: بسبب ذنوبهم، وليس مجرد أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أراد هذا لمجرد عذابهم.(25/34)
نظام الحسبة في الإسلام
جاء ديننا الحنيف بالحفاظ على الكليات الخمس: الدين، النفس، العقل، المال، النسل.
ويُعد الأمن سمة بارزة ناتجة عن المحافظة عليها.
وطبيعة المجتمع الإسلامي تفرض على أفراده التناصح والتعاون على الحفاظ على أمن هذا المجتمع، وكل مسلم على ثغر من ثغور هذه الأمة، ويتوجب عليه القيام بما عليه لحماية مجتمعه المسلم، ومن الأنظمة التي استحدثت في العصور المتقدمة للدولة الإسلامية نظام الحسبة، ويعد المحتسب من أقرب أجهزة الحكم في الدولة إلى العامة، وهو الأقدر على تلمس مشاكلهم وإيصالها إلى الحاكم الذي يغيب عنه الكثير من مثل هذه الأمور.
ونظام الحسبة يشابهه في حاضرنا نظام الشرطة، وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(26/1)
ولاية الحسبة
إنِّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين: أما بعد: فحديثنا سوف يكون عن أمر عظيم وجانب مهم من جوانب هذا الدين، وشعيرة كبرى من شعائره، وولاية عظمى من ولاياته، ألا وهو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخاصة ولاية الاحتساب، وولاية الحسبة: إحدى الولايات المهمة التي تقوم عليها الدولة الإسلامية.
ولا يخفى على أحد منكم عِظم شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن الله تبارك وتعالى قد جعله شعاراً لهذه الأمة المصطفاة المجتباة حين قال الله تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، وقال تبارك وتعالى حاثاً الأمة عليه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] وبيَّن -عز وجل- في كتابه أن هذا العمل هو عمل الدولة المسلمة ووظيفتها، كما قال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41].
إلى غير ذلك من الأدلة التي ليس المقام مقام ذكرها، وبيان فضله، وعِظم شأنه.(26/2)
تاريخ نظام الحسبة
إنما المقصود كيف عِمل المسلمون بهذا الأمر؟ وكيف طَبقت الأمة الإسلامية هذه الآيات والأدلة الأخرى؟ وكيف أقامت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في واقع حياتها؟ وكيف استطاعت هذه الأمة أن تتطور إدارتها وولايتها لهذا المنصب العظيم والوظيفة الدينية، وأن تتكيف مع تغير الأحوال والأزمان؟ إلى أن جاء زمن السوء وزمن الفتنة المتأخر الذي كاد أن يُطمس فيه نور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى إنه لم يبق في أكثر بلاد الإسلام وظيفة ولا ولاية ولا شعيرة تحمل هذا الاسم، وبقي في هذه البلاد -والحمد لله- ما سمي بـ"هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ممثلة لولاية الحسبة المعروفة في التأريخ الإسلامي، إلا أنه اعتراها ما اعتراها من ضعف ونقص وتقليص في الصلاحيات وغير ذلك مما يجب مراجعته، والاعتناء، والاهتمام بتكميله وتحصيله على ما سنبين إن شاء الله تعالى.(26/3)
الحسبة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الذي أنزل الله -تبارك وتعالى- عليه هذا القرآن الكريم وهذا الذكر الحكيم ليبينه للناس، فبين بعمله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المتوافر في حياته كلها: كيف أنه جاء حقاً يأمر العالمين بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويُحلُّ لهم الطيبات، ويُحرِّم عليهم الخبائث.
فقد كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وما كانت دعوته من أولها إلى آخرها إلا أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر.
وبهذا نفهم المعنى الواسع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ كل ما أمر الله به فهو معروف، وأعظم المعروف هو توحيد الله عز وجل؛ لأنه أعظم مأمور به، وكل ما نهى الله -تبارك وتعالى- عنه إما إلزاماً أو كراهية -على التعريف الأصولي- فهو أيضاً منكر، وأكبر منكر هو الشرك بالله عز وجل.(26/4)
الحسبة في عهد الخلفاء الراشدين
جاء بعده صلوات الله وسلامه عليه: الخلفاء الراشدون، فكانوا -رضي الله عنهم وأرضاهم- أعظم القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأمة، ولهذا لا نجد في أيام الخلفاء الراشدين وظيفة تسمى "وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" أو "ولاية الحسبة" لأنهم كانوا يعلمون أن ذلك هو أعظم واجباتهم، وكانوا قائمين به حقيقة: ظاهراً وباطناً، وفي الأمصار والبوادي، والعواصم والأقاليم.(26/5)
الحسبة في عهد عمر بن عبد العزيز
ومن أعظم من أحيا هذه الشعيرة بعد الخلفاء الراشدين: الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه؛ فإنه جاء بعد أن اندرس جانب من هذا الشأن، فأحيا هذا الأمر، ومن جملة ما أحيا أنه جلس رضي الله عنه لرد المظالم بنفسه، التي كان بنو أمية اغتصبوها وأخذوها بغير حق، وأعانه على ذلك وزراء الخير وجلساء النصح ممن كان لديه من علماء، ومن هنا عُرف في الأمة ما يسمى بولاية المظالم.(26/6)
الحسبة في عهد الدولة العباسية وما بعدها
ثم تطور الحال حتى خُصِّصَ للمظالم ولاية مستقلة في أيام الدولة العباسية، وكذلك للقضاء -وولايته واضحة معروفة- وكذلك للحسبة وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثم أخذت هذه الصلاحيات تتقلص أو تكثر بحسب اختلاف الدول، فمن الدول كما بين شَيْخ الإِسْلامِ -رحمه الله- من توسعت في مفهوم ولاية الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى شملت أموراً عظيمة جداً.
ومنها ما كان أقل من ذلك بحيث إنه أعطى بعض صلاحيات ولاية الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إما لولاية القضاء، أو لولاية المظالم، أو للشرطة أو لغيرها.(26/7)
دواوين الدولة الإسلامية
في عموم التأريخ الإسلامي يمكن أن نعدد الولايات إلى الولايات التالية: ولاية الوزارة، وولاية القضاء، وولاية المظالم، وولاية الحسبة، فكانت ولاية الحسبة هي الركن الرابع من أركان الدولة الإسلامية، لأن الشكل الإداري للدولة الإسلامية لم يكن كما هو الحال عليه في الدول المعاصرة، عشرون وزارة أو أكثر، وإنما كانت دواوين، والغالب أن الدول كلها لا تخرج عن هذه الدواوين الأربعة: ديوان الوزارة أو الحجابة، وديوان القضاء وما يتعلق به، وديوان المظالم، وديوان الحسبة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسوف نرى أننا إذا وزعنا صلاحيات المؤسسات الحكومية والوزارات، أن هذا يمكن أن يطبق في جميع العصور وأن هذه الدواوين الأربعة تشمل كل الوزارات والمصالح والمؤسسات الحكومية في وضعنا المعاصر.(26/8)
الغرض من الدواوين
قبل أن نفصل الكلام في هذه الولايات، ينبغي أن نربط الموضوع بأصله المهم جداً، كما فعل شَيْخ الإِسْلامِ -رحمه الله- وهو: أن نتحدث عن الغرض من هذه الولايات، ومن الحكومات، ومن الدول، ومن الإدارات قبل أن نتحدث في تفصيل هذه الولايات، لئلا يظن ظانٌ أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، محصور في هذه الولاية وفي هذا الديوان -ديوان الحسبة- وأن ما عداه فإنه خارج عن ذلك؛ فشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية -رحمه الله تعالى- بدأ كتابه الذي سماه قاعدة في الحسبة بعد خطبة الحاجة والمقدمة بتأصيل وتقعيد هذا الأصل العظيم الذي يجب علينا أن نعيه، وأن لا ننساه أبداً.
فقال رحمه الله تعالى: قاعدة في الحسبة: أصل ذلك أن تعلم أن جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنما خلق الخلق لذلك، وبه أنزل الكتب، وبه أرسل الرسل، وعليه جاهد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنون، قال الله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] '.
إلى آخر ما ذكر -رحمه الله- من الآيات والأدلة، ثم بعد أن بين أن الناس لا بد أن يجتمعوا، وأن الإنسان مدنيٌ بطبعه، وأن الشرائع التي أنزلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنما هي أمر ونهي، والناس في أي بيئة، وفي أي زمان وفي أي مكان يجتمعون لا بد لهم من أمر ولا بد لهم من نهي، وهذا من حكمة الله في خلقه.
ثم قال بعد ذلك: 'وإذا كان جماع الدين وجميع الولايات هي أمر ونهي، فالأمر الذي بعث الله به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الأمر بالمعروف، والنهي الذي بعث الله به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو النهي عن المنكر -إلى أن قال- وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر'.
جميع الولايات، والمناصب، والوظائف، والإدارات، والأعمال إنما المقصود منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فكما يتعين على كل فرد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بحسب حاله وبحسب استطاعته، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصيغة العموم لأي منكر: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان} فكذلك أيضاً -وهو على سبيل الإلزام- الولايات، والإدارات، والسلطة.
قال -رحمه الله-: 'سواء في ذلك ولاية الحرب الكبرى مثل نيابة السلطنة' يعني من أكبر الولايات والوظائف والمناصب في الدولة، فقد كانت أكبر الوظائف في أيامه: ولاية النيابة -نيابة السلطنة- والغالب أنه يكون بمثابة ما يسمى الآن رئيس الأركان، أو القائد العام للجيوش.
وكان من أشهر أولئك الذين كانوا كذلك صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى، فقد كان قائداً لجيوش نور الدين السلطان العادل صاحب السيرة المحمودة رحمه الله تعالى، ثم بعد ذلك صار صلاح الدين هو السلطان وتولى بنفسه الجهاد، كما هو عادة السلاطين أن منهم من يتولى بنفسه الجهاد، ومنهم من يكون نائب السلطنة هو المتولي لذلك.
فتلك الولاية هي أعظم ولاية بعد الخليفة، فالخليفة عمله هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والولايات التي دونه والتي تتفرع عنه، كما ذكر الماوردي، وأبو يعلى، وابن خلدون، والأزرقي، وغيرهم ممن كتب في السياسة الشرعية وفي الأحكام السلطانية كـ ابن حزم -له مؤلف في ذلك- فكلهم جعلوا هذه الولايات فروعاً من الولاية العظمى التي هي ولاية الخليفة أو الإمام، فيتفرع عن منصب الإمام هذه الدواوين أو المناصب؛ فجميعها كما قال شَيْخ الإِسْلامِ يقصد بها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء في ذلك الولاية الكبرى مثل نيابة السلطنة أو غيره.
ثم قال رحمه الله: ' والصغرى مثل: ولاية الشرطة، وولاية الحكم، وولاية المال -وهي ولاية الدواوين المالية- وولاية الحسبة'.
إذن: فكل الولايات وكل الدواوين إنما غرضها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والغرض من السلطة في الإسلام يختلف عنه في القوانين الوضعية والمذاهب الأرضية، وهذه حقيقة مهمة يجب أن تعلم؛ لأن المذاهب والقوانين الوضعية عندما تكثر من العساكر، أو الشرطة، أو الحرس أو غير ذلك؛ إنما مقصودها حفظ النظام، وضبط الناس، وحفظ الأمن، ولا زيادة على ذلك.
وهذا ما احترز عنه شَيْخ الإِسْلامِ -رحمه الله- فقال في موضع آخر غير ما ذكر في هذه القاعدة: ' ليس المراد من الشرائع مجرد ضبط العوام'.
أي: حتى يعلم الوالي أياً كانت ولايته ووظيفته في الدولة الإسلامية، أنه ليس الغرض أنه مجرد أن يضبط العمل الإداري أو يضبط الأمن فقط.
يقول رحمه الله: 'ليس المراد من الشرائع التي أنزلها الله مجرد ضبط العوام، بل المراد منها الصلاح باطناً وظاهراً'.
والقوانين الوضعية لا تفكر في شيء اسمه الصلاح الباطن، فهذه يعتبرونها مبادئ أخلاقية، والمبادئ الأخلاقية عندهم من شغل الفلاسفة الأخلاقيين، فلا تعنيهم، إنما يعنيهم الانضباط الظاهري فقط، وهذا مفرق عظيم بين شريعة أحكم الحاكمين التي جاءت لإصلاح القلوب ومداواة أمراضها، وبين ما يضعه الجاهليون بأهوائهم وآرائهم وتخرصاتهم من الشرائع الوضعية.
ثم قال: 'بل المراد منها الصلاح باطناً وظاهراً للخاصة والعامة -للحاكم وللمحكوم وللمدير وللمدار، وللرئيس وللمرءوس- في المعاش والمعاد'.
أيضاً الشرائع الوضعية إن ضبطت شيئاً فتضبطه في المعاش-في الدنيا- لكن في المعاد -في الآخرة- لا تضبطه ولا تتدخل فيه؛ فهكذا تظهر وتتضح عظمة وسعة مفهوم الولاية في دين الله تبارك وتعالى.
ثم احترز حتى لا يقول قائل: والعقوبات التي شرعها الله تعالى لضبط الناس وردع من يرتكب المحرمات، أليست لضبط العوام؟! فقال: 'لكن في بعض العقوبات المشروعة في الدنيا ضبط للعوام' نعم.
بعض العقوبات هي لضبط العوام كما قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: [[إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن]] فلا بد من هذا كجانب من الجوانب التي تكون الولاية فيه تحت التشريع، وقد أنزل الله تعالى في هذا الشرع ما يكفي، ولا بد أن يندرج أيضاً تحت السلطة التنفيذية فيكون المقصود منه الضبط.(26/9)
أقسام الدواوين وعلاقة بعضها ببعض
بعد هذا نذكر أقسام الدواوين وعلاقة بعضها ببعض.
الديوان الأول: فأما "ديوان التنفيذ" أو "ديوان الحجابة" أو "ديوان السلطنة": هكذا كان يسمى سابقاً بينما يسمى في وقتنا الحاضر "رئاسة الحكومة" أو "الحكومة" أو "الوزارة" فرئيس الوزراء والوزراء معه هؤلاء يسمّون "الحكومة" أو "الوزارة"، أو "السلطة التنفيذية" بالمصطلح السياسي القانوني -وهذه ليست موضوع حديثنا- ويتبعها الجند والعسكر لأنهم ذراع تنفذ بهم السلطة ما تريد، فهم تبع لوزارة من وزاراتها وهي التي تسمى في وقتنا الحاضر "الوزارة الحربية" أو "وزارة الدفاع".
الديوان الثاني: هو ديوان المظالم: والفرق بينه وبين القضاء وبين الحسبة هو: أن المظالم يكون فيها المدعى عليه أو صاحب المنكر المراد تغييره، إما السلطة أو من يمثل السلطة، فإذا كان المدعي يدعي على إدارة حكومية، أو على السلطة، أو على من يمثل السلطة في وظيفته وفي عمله، فهذه تعتبر من قضايا المظالم؛ لأن الذي يقوى على إعطاء المظلوم حقه من هذه الإدارة أو من صاحب المنصب الحكومي هو هذا الديوان الذي اختصاصه هذا، وعلى هذا درجت الدول والممالك الإسلامية منذ أن تصدى عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- لهذا الموضوع الجلل بنفسه، وإن كان ذكر عن عبد الملك بن مروان أنه جعل أيضاً يوماً للمظالم -لكن كما ذكرنا- أن الخلفاء الراشدين كانوا يتولون ذلك كله بدون تفريق؛ لأن الذي كان يهمهم هو الحقائق، فكانت بغير الأسماء والأقسام الشكلية التي وضعها من جاء بعدهم.
لكن فيما بعد درجت الدول الإسلامية على اعتبار ديوان المظالم هو الذي يبتُّ ويفصل في كل من يدعي مظلمة ضد الدولة، أو ضد السلطة، أو ضد من يمثلها من الموظفين.
الديوان الثالث: ديوان القضاء أو ولاية القضاء: وهي معروفة للجميع، وموضوعها هو الفصل بين الخصومات، وبين المتداعين من الناس، وهذه لها جانب عظيم في حياة الأمة، ولها اختصاص معروف في القديم والحديث.
الديوان الرابع: وهو الذي يهمنا الآن، وهو الحسبة أي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إذا كانت الدولة لا تشمل إلا هذه الدواوين الأربعة في أغلبها، فلنا أن نتصور سعة الصلاحيات بالنسبة لعصرنا الحاضر عندما قسمت الصلاحيات إلى عشرين وزارة مثلاً أو ثلاثين أو عشرين مؤسسة وأكثر من ذلك مثلاً من الإدارات، فكل هذه الوزارات لا بد أن نقسمها، لتندرج تحت هذه الدواوين؛ لنعرف ماذا كانت عليه ولاية الحسبة، وماذا كانت قيمتها عند الأمة وكيف كان ذلك.(26/10)
الفرق بين الحسبة والقضاء
فصَّل الإمام الماوردي الفرق بين الحسبة والقضاء تفصيلاً لا بأس أن نورده هنا، يقول: 'إن ولاية الحسبة تقصر عن ولاية القضاء من وجهين: الوجه الأول: قصورها عن سماع عموم الدعاوى الخارجة عن ظواهر المنكرات، من الدعاوى في العقود والمعاملات وسائر الحقوق والمطالبات، فليس من وظيفة الحسبة أن تسمع الدعاوى الخارجة عن ظواهر المنكرات' أي: أن القضايا الحقوقية المتنازع عليها لا تدخل في هذه الشئون التي هي من شئون القضاء، لكن عملها في منكر ظاهر فتزيله، أو في حق ثابت فتؤديه، أما ما يحتاج إلى دعاوى وما هو موضع تجاحد وتناكر بين الأطراف فهذا يرجع فيه إلى القضاء لسماع البينات والحكم فيما بين الخصوم، لكن إذا كان حقاً ثابتاً فإنه يملكه المحتسب.
'الوجه الثاني من الفرق بين الحسبة والقضاء: أن موضوع الحسبة هي الحقوق المعترف بها، فلا يدخل فيها ما يتعلق بالتجاحد والتناكر '.
ثم قال: 'أما زيادتها عن القضاء فمن وجهين أيضاً: الوجه الأول: التعرض لتصفح ما يؤمر به من المعروف ويُنهى عنه من المنكر، وإن لم يحضره خصم يستدعي' بمعنى: أن القاضي لا يبحث عن أية قضية إلا إذا جاءه من يقول: أنا أدعي عندك على فلان، فهذا عمل القاضي، أما المحتسب فهو الذي يبحث بنفسه ويتعرف ويتفحص، فإذا علم أن رجلاً ظلم بناته فلم يزوجهن -مثلاً- فإنه يحتسب وينكر عليه.
وإذا علم أن رجلاً قصَّر في حق يتيم ولم يقم بحق الكفالة فإنه يذهب ويحتسب عليه، فضلاً عما هو من صلاحياته الأساسية، مثل: المعاملات في الأسواق وغير ذلك مما سنوضحه إن شاء الله.
والمقصود هو: إيضاح الفرق، فالقاضي إذا لم يأته المدعي لا يتدخل، هذا بعد أن تقسم الدواوين، لكن المحتسب يتعرض ويسأل وينقب؛ يشم رائحة ويقول: ربما كان هذا مصنع خمر فيذهب ويستكشف ويغير المنكر يمشي في الليل فيسمع صوت طنبور أو مزمار، فيقول: هذا منكر ويغيره.
يرى آلات ملاهي فلا بد أن يكسرها يرى تماثيل لا بد أن يحطمها، وهذا له أصل عظيم جداً، وهو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما مر بالسوق فوضع يده في الطعام فوجد البلل، فقال: {ما هذا يا صاحب الطعام؟! من غش -وفي رواية من غشنا- فليس منا}، وكان عمر -رضي الله عنه- يفعل ذلك ويدور في الأسواق، ويتعرض، ويرى، فهذه وظيفة المحتسب لا وظيفة القاضي.
ثم قال: 'الوجه الثاني: أن للمحتسب من السلطة ما ليس للقضاء؛ لأن الحسبة موضوعه على الرهبة، والقضاء موضوع للمناصفة' هكذا تعبيره ونقلها ابن خلدون عنه حرفياً.
فالحسبة موضوعه على الرهبة، فهي سلطة تنفيذية ترهب صاحب المنكر، أما القضاء فليس فيه إرهاب من القاضي، بل هناك مناصفة، وعنده ميزان، يسمع من هذا كما يسمع من هذا، ثم يحكم بالحق.
أما الوالي أو المحتسب -عموماً- فإن موضوع عمله هو الرهبة، وكأنه في هذه الحالة قاضٍ وزيادة، فمجرد ما يسمع من أحد الأطراف أنه يشتكي أن منكراً وقع عليه، ينكر ويغير باليد في آنٍ واحد معاً، هذا من جهة التفريق بين ولاية الحسبة وبين ولاية القضاء من الناحية الفقهية.(26/11)
الفرق بين المحتسب والمتطوع
فرق المؤلفون في الأحكام السلطانية الإسلامية بين المتطوع وبين المحتسب، فأوردوا تسعة فروق، لكن يمكن أن نوجزها فنقول: المتطوع: هو كل مسلم متطوع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بمعنى أنه ينكره تطوعاً لا وظيفة، فليس المقصود أن الإنكار لا يكون واجباً عليه.
لكن المتطوع هو من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من تلقاء نفسه من غير ولاية رسمية، يتعرض للواجب، ويتعرض للمكروه وغير ذلك، ويتحمل الأذى في سبيل هذا، فهذا لا يأخذ أجراً من بيت المال، ولا يمكنه أن يقيم الحدود، ولا أن يعاقب، ولا أن يعزر إلا في حالات معينة؛ كأن يرى رجلاً يعمل الفاحشة -والعياذ بالله- أو يغتصب مالاً حراماً أو ما أشبه ذلك من الأمور التي لا يمكن التباطؤ فيها، ولا يمكن تأجيلها.
أما المحتسب فهو صاحب ولاية، وصاحب سلطة وتنفيذ، فله أن يفعل ذلك وزيادة.(26/12)
الفرق بين سلطة المحتسب وسلطة القاضي
ولاية الحسبة عموماً من أهم صلاحياتها ومن أوسع اختصاصاتها: العقوبة، فتمتاز عن القضاء بالعقوبة الفورية، ولا بد أن تؤديها، وعلى هذا نص شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله فقال: 'الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتم إلا بالعقوبات الشرعية؛ فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن وإقامة الحدود واجبة على ولاة الأمور ' لكن من العقوبات ما تسمى بالعقوبات المقدرة، وهي الحدود التي قدَّر الله تعالى عقوباتها، فهذه يتولاها القضاء.
أما المحتسب فكل أعماله داخلة في باب العقوبات الغير مقدرة؛ أي: التعزيرات من توبيخ، أو تسفيه، أو ضرب، أو حبس، أي: قد يتطور الأمر حتى كان للحسبة في بعض الدول سجون، ولها معاملات، ولها ضبوط، وشهود، وأمور عظيمة جداً، بحسب أحوال الدول وقربها من الاقتداء بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإحياء هذه الشعيرة العظيمة.(26/13)
صلاحيات المحتسب
لعلنا نتعرض فقهياً بإيجاز لبعض أنواع العقوبات ودرجاتها، ثم نتعرض للصلاحيات التي يتمتع بها هذا الديوان في الحكومة الإسلامية.(26/14)
النوع الأول: إتلاف المنكر
وأعظم هذه العقوبات التي يمكن أن يقوم بها رجل الحسبة هي: إتلاف المنكر بعينه، كالأعواد وآلات اللهو، وأعظم من ذلك الأصنام، فلو علم أن بعض القبائل أو بعض المناطق في البادية أو ما أشبه ذلك تعبد أصناماً، أو تقدس حجارة أو أشجاراً وتتبرك بها، فيجب على المحتسب أن يقطعها، وعلى ولاية الحسبة إزالة هذه الصخور وتدميرها وإتلافها بالكلية وقطع الأشجار، فهذه أحد الأمور التي هي من الوظائف الأساسية لعمل الحسبة: أن يقضي على المنكر ويغيره.
ومع تطور الحياة والحضارة في الأمة الإسلامية، تفرعت قضايا أخرى، وتكلم الفقهاء فيها، فمثلاً قالوا: ما حكم اللبن المغشوش، هل يدخل فيما يتلف؟ فقال بعض العلماء: يتلف، واستدلوا على ذلك بأن عمر رضي الله عنه أراق اللبن المغشوش، فمن عمل المحتسب أن يمر بالأسواق فإذا رأى لبناً مغشوشاً يتلفه، وقال بعض الفقهاء: لا يتلف وإنما يتصدق به، وليس هناك كبير خلاف إن شاء الله لو نظرنا من جهتين: - من جهة أن هذا اللبن المغشوش لا يباع ويجب أن يعاقب صاحبه بإتلافه، وهذا ما نظر إليه من قال: يراق، وقال: هذا من التعزيرات المالية، وهي حق ولها أصل شرعي في عدة أحاديث ليس هذا مقام التفصيل فيها، وقال: هذا من إتلاف عين المنكر، وهذا منكر يتلف بعينه، عقوبة لصاحبه حتى لا يعود إلى الغش.
- والذي قال لا يراق: نظر إلى أنه لبن قد يشرب، وبعض الناس قبل أن يشرب اللبن يضع عليه ماء، فقال: إذن لا يراق وإنما يتصدق به.
فأنا أقول: يمكن أن يعاقب صاحب اللبن هذا أو ما أشبهه -فاللبن كمثال- بأن يؤخذ منه هذا الشيء، ويأخذه المحتسب ويتصدق به على الفقراء.
ومثل: صاحب الفاكهة المغشوشة أو صاحب الطعام المغشوش أو ما أشبهه، يصادر منه، ويعطى للفقراء تحت نظر ولاية الحسبة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
ولو أن ثوباً نسج من الحرير هل يتلف، أم يتصدق به؟ الأرجح أن مثل هذا يتلف، والخمور تتلف مع أوعيتها، وآلات اللهو هل يقول قائل: إنه يمكن أن تغير ويستفاد منها أعواد (خشب آخر؟) فنقول: هذا قد قيل في بعض المذاهب والأولى والأرجح أن تتلف إلا أن تؤخذ وقوداً، أو توضع في نار للتدفئة.
فمن عمل المحتسب أنه إذا رأى طنبوراً أو مزماراً أو طبلاً إلى آخر آلات اللهو أتلفه بعينه ولا ينظر إلى كونه ذا ثمن أو قيمة مهما كان ارتفاع ثمنه، ومن ذلك الآن ما يسمى في أيامنا هذه -مع الأسف- الذهب الرجالي!! فإذا ذهب أحداً إلى سوق الذهب، وقال: أريد ذهباً، فيقال له: رجالي أو نسائي، سبحان الله!! أيوجد ذهب رجالي، كيف وهو حرام على الذكور؟! فيقال لأهله: الحكم فيه الإتلاف، فإذا حولوه أو صاغوه بطريقة معينة بحيث يصبح مما يحلى به للنساء، فلا بأس.
أما إذا كان الثوب مغشوشاً، بأن كان يعرض على أنه من القطن (100%) وليس فيه إلا (30%) أو (20%) من القطن، فيكون مثل اللبن المغشوش، هل نقول: يحرق عقوبة لصاحبه؟ قال بذلك بعض العلماء، والبعض قال: يتصدق به.
المقصود أنه يعاقب صاحبه؛ لئلا يغش بعد ذلك فهذه من جملة صلاحيات المحتسب، وتكلم فيها الفقهاء؛ لأنها كانت أمراً واقعاً تعيشه الأمة الإسلامية، ورجل الحسبة يقوم بهذه الأعمال، هذا أمر عادي وطبيعي في المجتمع، وما كانت هناك صحافة في تلك الأيام تحارب المتدينين وأهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتسبهم وتحقرهم ولا كان هناك مجالس غيبة ولا نميمة، ولا مجالس فجار وسكارى يشتمون رجال الدعوة ورجال الهيئة، والأمة كلها تعرف أن هذا من عملهم ومن شأنهم، وليس لأحد الحق أن يتدخل فيه إلا أن يفتي العلماء أن هذا مما لا يجوز لكم -مثلاً- أو لا تتلفوا ذلك الشيء أو افعلوا به كذا؛ لأنهم منفذون لما يفتي به العلماء.(26/15)
النوع الثاني: تغيير المنكر مع بقاء عينه
وذلك مثل القرام الساتر الذي كان في بيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان فيه صور، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسمها وسادتين توطآن، وهذا حديث عظيم رواه الإمام البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي وجعله شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية -رحمه الله- من الأصول في هذا الباب.
وفيه {أن جبريل لما أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فامتنع أن يدخل البيت، فقال: إنه ما منعني أن أدخل عليك البيت إلا أن فيه تمثالاً} وكان فيه أيضاً القرام الساتر الذي فيه الصور وكان فيه -أيضاً- كلب، فكيف عمل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وكيف غير؟ أما التمثال فقطع رأسه حتى أصبح كهيئة الشجرة، وأما القرام فإنه قطعه وسادتين توطآن.
إذن: فالصور الممتهنة المحتقرة التي لا يؤبه لها في الفرش قد عفي عنها، وقد ابتلينا في هذا الزمن بصور لا عد لها ولا حصر في كل شيء.
وأما الكلب فإنه يُخرج؛ لأنه ذات منفصلة.
فهذا الحديث أصل في أنواع التغيير، فلم يجعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحكم واحداً، بأن يحطم الصنم، ويحرق الستار، ويقتل الكلب -مثلاً- إنما هذا له معاملة، وهذا له معاملة، وهذا من حكمة التشريع الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- وهو أحكم الحاكمين جل شأنه.
فالمنكر إما أن يتلف وإما أن يغير.
أما التلفاز وأشرطة الأغاني وأشرطة الفيديو، فهذه لها حالتان بحسب المصلحة: إن كانت المصلحة أن يعاقب صاحبها، فإنها تحرق وتتلف، ولا سيما إذا كانت فيها صورٌ فاحشة أو أغانٍ ماجنة، فهذه لا بد أن تتلف وأن تحرق، وإن نظر ناظر أنه يمكن أن يستفاد منها، فيسجل عليها مادة علمية مفيدة، ثم يستفاد من الشريط، فلا بأس، وهذا يدخل فيما سبق، فالأمر واسع، فهو بحسب ما يراه المحتسب، وللمجتهد أو المفتي أو العالم أن يفتي فيما يراه أنه الأرجح لديه، ولا بأس في ذلك، فهذا أمر يرجع إلى المصلحة.
- ما هي اختصاصات المحتسب من حيث العمل؟ وما ميدانه؟(26/16)
اختصاصات المحتسب(26/17)
ردع المتخلفين عن الصلاة
هل عليه أن يمر بالسيارة وبالميكرفون ويقول: صلوا!! هل هذه هي ولاية الحسبة؟! وهل هذا عمل المتحسب؟! لا.
فهذه وظيفة أي واحد منا، فكل واحد منا في حيه لا بد أن يمر على ما لديه من دكاكين ومن جلسات ومن أناس وينبههم على الصلاة كل يوم، حتى تصبح إذا مررت في إحدى الممرات، وأنت لا تدري أأذن أم لا، وليس من قصدك أن تقول: صلوا، فإذا بهم يقولون: توكلنا على الله؛ ويذهبون إلىالصلاة!! لأنه قد ترسخ في أذهانهم أنك لا تمر إلا وتذكرهم بالله وبإقامة شعائر الله.
إذا عودنا الناس على هذا الأمر ربما إذا نصحتهم أنا وخافوا مني ثم جاء شخص آخر وما كان قصده أن يأمر أو ينهى، أو أنا جئت وليس من قصدي أن آمر أو أنهى، تكون قد ترسخت في أذهانهم الصورة الأولى، فبمجرد رؤيته يقولون: أبشر يا شيخ، أبشر!! فتستغرب ولا تدري أن شخصاً قد أنكر قبلك!! فإذا أحيينا هذه الشعيرة في المجتمع، أصبح لطالب العلم مكانته بمجرد أن يرى لأنه يمثل دين الله ويسعى لإقامته ولإعلاء كلمته.
فهذا التذكير بالصلاة يجب أن يشارك فيه كل مسلم، أما المحتسب فعليه العقوبة، فإذا حضرت الصلاة وشخص لم يغلق دكانه، نصحناه بالحكمة وبالأسلوب الطيب وأعطيناه فتوى الشيخ عبد العزيز أو فتوى الشيخ ابن عثيمين، أو غيرهما، فإذا لم يستجب فهنا ننادي المحتسب: يا محتسب! تعال، فإن هذا الرجل عاص، والمحتسب يتفاهم معه إما بالموعظة الحسنة أو بالقوة، فهذا عمله بالنسبة للصلاة.
أما ما يحصل الآن من أنه يدور فقط وينادي: صلوا، والأندية والدكاكين كلها مفتحة ولا يمر إلا على خمسة دكاكين إن اتسع الوقت، فتقام الصلاة ولم يصنع شيئاً! ومع هذا فإن بعض الناس يقول لهم: عندما تمر علينا، فكلمنا بلطف!! وكأن هذا من الغلظة ومن العنف الذي يرتكب، وهو لم يقم ولا بـ (1%) من عمل المحتسب، وإنما هذا من عمل أي شخص منا مما يجب أن نقوم به.
فمن أعمال المحتسب ردع المتخلفين عن الجمع والجماعات؛ ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لولا ما في البيوت من النساء والذرية، لأمرت بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى أقوام لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم} هذا وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحريص عليها، الذي حَرّضنا على الصف الأول وعلى تكبيرة الإحرام، يأمر بالصلاة فتقام حتى لا تؤجل فلا يضيَّع ولا يؤخر الذين في المسجد من أجل المتخلفين، ثم يخالف إلى أقوام لا يحضرون الجماعة فيحرق عليهم بيوتهم، فعمل المحتسب أن يعاقب أولئك الذين يتخلفون عن الجماعات وعن الجمع، حتى ذكر العلماء صلاة العيدين والاستسقاء وغير ذلك مما يدخل ضمن ولايته، وإن لم يكن واجباً فليحث عليه الناس حثاً.(26/18)
الإشراف على التجارة والأسواق
ومن ذلك -وهذا كان يمارس في الدولة الإسلامية- الإشراف الكامل على التجارة والأسواق، فكان الناس في جميع الولايات الإسلامية كـ الأندلس ومصر وبغداد وخراسان وكل الولايات، يعرفون أن السوق كله تحت نظر المحتسب؛ الغش في المعاملات، التطفيف في المكاييل والموازين، مراقبة الجودة والنوعية، حتى في الدراهم كان لديهم ضبط، حتى الكيماوية فـ ابن تيمية -رحمه الله- في الحسبة يقول: 'يراقب الكيماوية الذين يقلبون -زوراً- الخسيس من المعادن إلى نفيس' وكانت عندهم ضوابط من مختبرات للجودة والنوعية، وهيئة المواصفات والمقاييس -كما تسمى الآن- وكل ذلك يندرج تحت الحسبة، وكذلك مراقبة الأسواق، ومراقبة الشوارع العامة، من ناحية الاختلاط، ومراقبة مواضع الريب، فعليه أن ينظر إلى مواضع الريب، فيتتبعها ليزيل الريبة، أيما رجل رآه مع امرأة في مكان فيه ريبة -مثلاً- أو أي عمل من الأعمال المشبوهة والمريبة فكان كل ذلك تحت ولايتهم، وهذا باب واسع، ولكم أن تتصوروا كم يدخل في هذا من أحكام!!(26/19)
صيانة المدن والطرقات والقناطر
ومما كان ضمن ولاية الحسبة -أيضاً- ما يتم به إصلاح المدن، والطرق التي هي تحت ولايتهم، فالمتعدي على طرق المسلمين لا يردعه القاضي، فالقاضي يحكم بين الناس، ولا الشرطة كذلك فهذا ليس من شأنهم، بل كل ذلك يدخل ضمن ولاية الحسبة؛ كالتعدي في الطرقات، أو التعدي في أراضي الغير، كالذي يبسط بسطة في السوق، أو كما في عهد الإمام أحمد كانوا يتحيلون على الشارع ليضيقوه، فيبنون المسجد ثم يبنون على صفه، فقال الإمام أحمد -رحمه الله-: ' يُزال؛ لأنهم ما أرادوا به الصلاة، إنما أرادوا التحيل به ليصفوا على منواله'.
ومراقبة المدينة، حتى قالوا: لو أن الأسوار تهدمت، أو أن الثغور ضعفت لكان من وظيفة المحتسب أن ينبههم إلى ضعف الأسوار والثغور!! وكذلك القناطر والجسور كل ذلك يدخل ضمن ولاية المحتسب ويتنبه له ويحث الناس عليه، ولهذا سنفصل فيما بعد ما هي الولايات والإدارات التي يمكن أن يقوم المحتسب بها في مقابل الإدارات المعاصرة.(26/20)
منع المعاملات المحرمة
يدخل كما نص عليه شَيْخ الإِسْلامِ -رحمه الله- في ولاية المحتسب، كل أنواع المعاملات والعقود، فتصحيح العقود الشرعية، ومنع المعاملات الربوية كل ذلك داخلٌ ضمن ولاية المحتسب، فعليه أن يمنع أكل الربا، وأن يهدم بيوته وأوكاره وأن يبيدها وأن يردع المتعاملين به؛ لأن المتعاملين بالربا غالباً ما يقعون فيه رضاً لا اغتصاباً.
فالغالب أن يكون الربا بالتراضي بينهما، فهل هناك أحد من الناس من يأتي ويشتكي ويقول: أخذ مني ربا؟!! فالمحتسب يبحث ويتحرى، وحتى المعاملات المحرمة الأخرى، كالنجش -والنجش هو الزيادة بغير قصد الشراء- كمعارض السيارات، فالميكرفونات من العصر إلى آخر الليل تصيح، وكله نجش إلا ما رحم الله، فهذه من وظيفة المحتسب.
وكذلك تلقي الركبان عندما يأتيون الآن الحلقة، ويكون فيها من الغش ما فيها، فهذا أيضاً من وظيفة المحتسب.
إذن كانت أعمال عظيمة جداً، نص شَيْخ الإِسْلامِ عليها وتكلم الفقهاء كلهم فيها.
وقال بعضهم: من ولاية المتحسب ضبط الأسعار وهذه مسألة فقهية خلافية والخلاف فيها كبير، هل يسعر أو لا يسعر؟ إنما يدلكم هذا إلى أن كل النواحي المالية والتجارية والمعاملات تحت نظر وإشراف رجال الحسبة ودواوين الحسبة.
في كل سوق، وفي كل حي مركز أو مقر لرجال الحسبة، وهم موجودون -دائماً- فيها لأن هذا شأنهم وهذه وظيفتهم، فلا يمكن أن يتخلفوا أو يتأخروا عنها.
هكذا كان وضع جميع الدول الإسلامية على مدار التاريخ إلى أن حصل ما حصل كما تعلمون.(26/21)
هيئات الحسبة في الحكومات الجديدة
بقي أن نقول: ما هي الهيئات والإدارات الحكومية في عصرنا الحاضر التي تقابل ديوان الحسبة، بحيث إذا أنشئ ديوان للحسبة وأعطيت صلاحيات لهذا الديوان على الحقيقة، فما هي الإدارات التي يمكن أن تندرج ضمنه أو تتفرع عنه؟ بعد أن رأينا ما كتب الفقهاء، وما هي أقسام الدواوين الأربعة -كما ذكرنا- نجد أشياء قد لا تتخيلونها.(26/22)
الرقابة العامة
منها على سبيل المثال: كثير من اختصاصات ديوان المراقبة العامة، كهيئة الرقابة، وهيئة التحقيق، وهيئة التأديب، وهذه الهيئات بدرجة وزارة، ولها صلاحيات في الرقابة المالية، وفي التحقيق، وفي التأديب إلى غير ذلك، وهذه في واقعنا الحالي كأنه لا علاقة لها بالأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر، هي إدارية بحتة، وربما كان كثير من أنظمتها مأخوذ من القوانين أو الأنظمة المستوردة مع أنها من ضمن ما يدخل في ولاية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الحسبة.
ولكم أن تتصوروا لو أن هذه الوظائف فعلاً أدرجت على أنها وظائف دينية احتسابية، وأنها عملٌ يراد به وجه الله، كيف سيكون حالها وحال الأمة التي تكون فيها هذه الوظائف جزء من ولاية من ولاياتها؛ وهي ولاية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الحسبة؟!(26/23)
الشرطة وإدارة الحقوق المدنية
وكذلك بعض اختصاصات إدارات الشرطة في عصرنا الحاضر، وبالذات ما يسمى بإدارة الحقوق المدنية؛ لأن الأصل في وظيفة الإدارة المدنية هو الحقوق الثابتة لا الحقوق المتخاصم عليها.
فالحق الثابت الذي يلزم صاحبه أن يؤديه هو من اختصاصات المحتسب، فكيف لو ضمت هذه الإدارات وضم رجال الشرطة الذين يقومون بها إلى ديوان الحسبة، وأصبحوا تابعين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأصبح عملهم ليس مجرد أي عمل إداري، وإنما عمل ديني احتسابي يقومون به وفق النظم والضوابط الشرعية الفقهية، وتحت ولاية الإفتاء وما يفتي به العلماء.
كيف تتخيلون أن تكون حالة الأمن؟ من المؤكد أنه سيعم ويسود الأمن، وتقل الجرائم أو تنعدم -بإذن الله تعالى- لأن رهبة الناس من التداعي ستزول، وأي إنسان له حق ثابت سيذهب مطمئناً إلى رجال الحسبة فيعطى حقه، وأي إنسان مماطل فإنه سيخاف، وقد نص العلماء في كل الكتب -تقريباً- على أن من عمل المحتسب أخذ الحق من الغني المماطل.
هذا الذي تقوم به الآن إدارات الحقوق المدنية -وهذه تسمية مستوردة- والقضية ليست قضية الأسماء، فالحق أن هذا من عمل وديوان الحسبة.(26/24)
البلديات
عندنا البلديات والتي تشرف على الجسور، والطرق، والرقابة على الأسواق، وكل هذه في الحقيقة تتبع الحسبة، فالإدارات التي تتبع البلدية الآن وهي في كل حي، لو أنها تتبع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتخضع للإفتاء وللضوابط الشرعية الفقهية، لرأيتم حال الأمة كيف يتغير إلى الصلاح والخير، ورأيت أن ذلك أردع وأبعد عن الرشاوى وعن المشكلات التي لا نريد الدخول في تفاصيلها، فكل واحد منا يعلمها.
وأكثر الناس يعرفون البلديات ويعانون منها خيرها وشرها، كأنها عند الناس لعبة، لكن لو كانت البلدية قائمة على أساس شرعي لرأيتم الإنصاف، ورأيتم الخير يعم المجتمع، فما تقوم به البلديات من إصلاح الطرق والجسور، ومنع التعديات، ومراقبة البضائع، وإتلاف المغشوش، هو مما نص الفقهاء على أنه من ديوان الحسبة.(26/25)
وزارة التجارة
كذلك وزارة التجارة، وما يتبعها من إدارات كإدارة مكافحة الغش التجاري، والتفتيش على المحلات من الناحية التجارية، كله داخل -كما رأينا في كلام الفقهاء- ضمن عمل الحسبة، فلو ضممنا فروع التجارة، وجعلناها تحت ولاية الحسبة، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وأدرجت ضمن الولايات الشرعية وتحت الأحكام الشرعية، فسوف تضبط هذه الأمور ويكون فيها الخير والصلاح بإذن الله.
وهذا لا يعني أنه لا يوجد في البلديات، أو الشرطة، أو في الحقوق، أو في التجارة من هو على خير وعلى صلاح، ومن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، ولا يرتشي، ولا يغش، فالحمد لله بعضها فيها خير كثير، ولكن المقصود من هذا الكلام ليس الأفراد، بل المقصود أصل الولاية.
وفرق بين أن أشعر أني في الهيئة، فأرى أنني أمثل الشرع، وأمثل الدين في حركتي، وكلامي، وفي ذهابي إلى عملي، وأتقيد في أعمالي كلها بأحكام الشرع، وبين أن أشعر أني مجرد موظف إداري، أعمل طبق ما يأتيني من تعليمات، وأخالف فيها ولا أرى أنني آثم، وأزيد عليها ولا أرى أيضاً أنني قمت بما لا يجب، ولهذا بدأنا الموضوع ببيان أن المقصود من الولايات -كلها- أن يكون الدين كله لله، وأن يؤمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر.(26/26)
الدفاع المدني
الدفاع المدني بجميع فروعه نص الفقهاء في كل كتب الأحكام السلطانية على أنه من اختصاص الحسبة، فالدفاع المدني يفتش المحلات حتى لا يندلع حريق، ويفتش على أسلاك الكهرباء، على الطفايات -مثلاً- وهذه مذكورة بحسب عصرها من ضمن ولاية المحتسب، فإذا حولنا هذه الطاقات وما يتبعها من المعدات والسيارات إلى الهيئة!! فبعض محلات الدفاع المدني تمر شهور -والحمد لله- لا حريق ولا شيء، فترى الجنود والموظفين جالسين إما للعب أو لذكر الله إن كانوا ممن يذكرون الله، والهيئة تحتاج إلى الجندي الواحد فلا تجده!! لماذا لا نجعل هذا الشخص العاطل عن العمل في هذه الجهات أو الذي عمله شبه ضعيف، لماذا لا نجعله في جهاز عامل يحتاج إلى طاقة؟ ورواتبهم إنما هي من أموال المسلمين فلا فرق.
وعندما نأخذ بطبيعة التقسيم الشرعي إلى ولايات، نجد أن هذا يريحنا من أمور كثيرة جداً، وتستقيم أحوال الناس وما يتعلق بشأن الدفاع المدني من الإنقاذ، ومن مكافحة الحرائق، ودرء أسباب الدمار والخراب، كل هذا يقوم به ديوان الحسبة أو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الوضع الطبيعي الصحيح للدولة الإسلامية.(26/27)
مكافحة المخدرات
كذلك مكافحة المخدرات، والمخدرات كانت معروفة كالحشيش، لكن الآن الفرق أن الصناعة الآن أمريكية متحضرة!! والمفسدة كانت واقعة وموجودة، وكانت بطبيعة الحال من اختصاص رجال الحسبة، فأيضاً تدرج مكافحة المخدرات بأجهزتها ومكافحتها ضمن الهيئة في ديوان الحسبة، فتنقلب -أيضاً- إلى جهاز أكثر نفعاً، وأكثر عملاً، وأجدى في المكافحة، وأردع وأجدر عند الناس؛ لأنها أصبحت ولاية شرعية تتبع الأحكام الشرعية، وتتبع ما يقوله العلماء وتقوم بواجبها خير قيام.(26/28)
وزارة الأوقاف
بعض صلاحيات وزارة الأوقاف كما يسمى حالياً منصوص عليه في كتب الأحكام أنه من صلاحيات رجال الحسبة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
ومن أهم ذلك أن الإمام المبتدع لا يولى إمامة المسجد، فيحتسب رجال الحسبة ويبعدون هذا الإمام المبتدع أو الزنديق ويؤتى بالإمام الصالح.
وكذلك الوعظ فهو -أيضاً- جانب وعمل من جوانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
بناء المساجد والاهتمام بها ورعايتها {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] أي: ترفع حساً ومعنىً، ترفع معنىً في قلوب الناس، فترتفع وتصبح أقدس ما عند الناس، وأعظم ما عندهم، وأهم ما في الحي المسجد، فما نريد العشرات من الفلل الفخمة تحيط بمسجد متهدم مكسر، دورة المياه فيه لا يستطيع أحد أن يتوضأ فيها!! فهذا المسجد ما رفع حساً ولا معنىً، {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] حقيقة ومعنىً، وكذلك حساً؛ بأن ترفع فلا تعلوها هذه البنايات الشاهقة، وأسوأ من ذلك أن تعلوها بنايات مما حرم الله، كالبنك السعودي الفرنسي فهو أعلى من المسجد!! ومصيبة أن تعلو المنكرات على المساجد، ولما لم ترفع ولم تعظم شعائر الله حتى كان الحال كما نرى!! وكذلك حفظ الأوقات من تعدي الناس عليها، والاهتمام بها، ومراعاتها، كل هذا يدخل ويندرج شرعاً وعملاً -خلال القرون الإسلامية- تحت ولاية المحتسب وديوان الحسبة.(26/29)
الشئون الصحية
نص العلماء على أن من عمل ديوان الحسبة، مراقبة الأطباء ومعرفة الخبير من غير الخبير، ومنع الذي لا يجيد الطب من التطبيب، حتى القوابل للولادة والتنبيه عليهن، وفصل الرجال عن النساء، وكل ما نعتبره الآن نحن من الرقابة الطبية فقد تكلم فيه العلماء وجعلوه ضمن ولاية المحتسب.
وكذلك منع التطبيب بالسحر والشعوذة والكهانة، هذه من أعمال المحتسب، فيبحث، ويستمع، وإذا رأى أن الناس يذهبون إلى رجل فيتتبع ذلك الموضوع؛ فإن كان ساحراً فيقام عليه الحد.
وكل هذه مندرجة تحت ولاية المحتسب، فجانب من جوانب الشئون الصحية في أيامنا الحاضرة هو من اختصاص هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الوضع الطبيعي في الدولة الإسلامية.(26/30)
الشئون التعليمية
كذلك يراقب رجل الحسبة وضع التعليم، فيذهب إلى المدارس ويتتبع ويرى ماذا يفعل المعلمون، حتى قال العلماء: إذا كان بعض المعلمين يأخذ أجراً أكثر على غير فائدة أو من غير تعليم فإنه يعاقب، وإذا كان يضرب التلاميذ أكثر مما ينبغي، فإنه يعاقب ويعزر، المهم: أن يكون وضع التعليم تحت إشراف الحسبة.
ونحن لا نقول: كل وزارة المعارف تنتقل، لكن جانباً مهماً يظل خاضعاً لها، وهم الآن إذا أريد إلقاء محاضرة، قالوا: لا نقدر أن نسمح بمحاضرة في المدارس، سبحان الله! لماذا كلما أريد فتح توعية إسلامية في المدارس، يقولون: لا نستطيع، ولا نقدر، والوقت لا يسمح؟! فجزء عظيم من صلاحية إدارة التعليم، هو أصلاً خاضع للهيئة، وعندما تعطى هذا الصلاحية للهيئة التي هي ديوان الحسبة، ويخضع التعليم لرقابتها فإننا نرى أن التعليم يصلح بإذن الله.
كيف لا وقد وصلت الأمور إلى حد أن بعض المدرسين -والعياذ بالله- قد يرتكبون الفاحشة مع الطلاب في المدارس، ويفعلون أموراً أخرى، ويتكلمون بألفاظ بذيئة، ولا أحد إلا وهو يعرف هذا، ولا نحتاج إلى أن ندخل في هذه الموضوعات، فمن يعالجها ومن يصلح الأمور؟! أليس هذا من عمل الحسبة، ولا بد أن يقوم به رجال الحسبة؟! - مدرس يأتي المدرسة سكران، ماذا يقول له المدير، يقيم عليه الحد، أو يحوله إلى الشرطة؟! هذا من عمل الحسبة أيضاً.
- مناهج فيها بدع وضلالات وخرافات، تحال للحسبة، وهذا من صلاحيات واختصاصات ديوان الحسبة، ولا نكاد الآن نشعر أنها من صلاحياتها، فعمل الهيئة عندنا الآن هو المناداة للصلاة فقط، وما عدا ذلك فكأنه ليس من عملها، وهذا الكلام كما قلت: مضغوط وموجز، لكن لو أردت دليلاً على كل شيء فعليك بكلام العلماء في الأحكام السلطانية وكتب الفقه ومنها ما ذكره شَيْخ الإِسْلامِ في قاعدة في الحسبة.(26/31)
مؤسسات الرفق بالحيوان
ومن العجيب أن العلماء قد نصوا حتى على الاحتساب لمصلحة الدواب!! انظروا دين الرحمة، دين الإحسان، حتى لمصلحة الدواب، فمن عمل المحتسب أن ينظر إن كان صاحب الدابة يعذبها ويحملها ما لا تطيق؛ فيحتسب عليه ويأمره وينهاه.
وهذا منصوص عليه، وهذا من كمال حكمة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الظاهرة في هذا التشريع وهذا الدين، الذي لما تركناه، تغير حالنا تهدر حقوق الآدميين في مجالات كثيرة، وفي الغرب يقيمون جمعيات للحيوان -سبحان ال-هـ! هذه عندنا من ضمن أعمال رجال الحسبة، وكان هذا في الأمة أمراً معروفاً؛ فكانوا يمشون في الأسواق، فإذا رأوا دابّة عليها حمل ثقيل، أوقفوا صاحبها وأنزلوا من فوقها بعض الحمل، وقالوا: احمل هذا أنت أو استأجر دابة أخرى ولا تحملها ما لا تطيق.
فكانت الأمة تشعر أن عليها رقيباً، ولهذا كانت أقرب إلى تقوى الله؛ ولهذا كانت تقاوم إذا ما تعرضت للغزو الخارجي، فقد جاء الصليبيون فقاومتهم، وجاء التتار فقاومتهم؛ لأن فيها حياة وفيها نبض.
لكن انظروا إلى واقعنا الميت المؤلم، لماذا؟! لأننا قد أميتت فينا الشعيرة التي من شأنها أن تحيي قلوبنا وأن تحيينا كخير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.(26/32)
وزارة المواصلات، والمؤسسة العامة للموانئ
أيضاً مما نص عليه العلماء: أن على رجال الحسبة تفقد المراكب، من أدوات النقل والسفن، وأن ينظروا إلى ما في حمولة السفن، وحتى قال أبو يعلى رحمه الله في أحكام السفن: 'يتفقد المحتسب السفن، فيضع أماكن للرجال وأماكن للنساء، ويضع مكاناً لقضاء النساء للحاجة غير ما هو مُعدٌّ للرجال'.
هذا ضمن السفن، إذن كل هذا يندرج ويدخل تحت أعمال الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(26/33)
مصلحة المجاري والمياه
مما نص عليه العلماء من الشعائر التي يجب على رجل الحسبة أن يحييها ويهتم بها: موضوع الطهارة، فالطهارة أصل ديننا كله، فديننا دين الطهارة الحسية والمعنوية، الظاهرة والباطنة، فإذا تُرك كل واحد ينزل النجاسات كما يشاء، وينزل المياه الملوثة، أو يفعل كذا أو كذا، فإنه قد يسد المجاري أو يلوث مياه الشرب مثلاً، فما يتعلق بالمياه ونقاوتها من الطهارة ومن الخبث ومن الأمراض أيضاً يندرج تحت الحسبة، فلا يدخل هذا ضمن مصلحة المياه والمجاري أو ضمن وزارة الصحة والطب الوقائي مثلاً أو غير ذلك؛ لأن كل هذا من أعمال رجل الحسبة التي نص عليها العلماء رحمهم الله تعالى كما قلنا.(26/34)
إدارة شئون الموتى
مما يراقبه -أيضاً- رجال الحسبة: المقابر وكيف يدفن الميت، وكيف يغسل.
فترتكب أعمال فظيعة، وكثير من الناس لا والي له، كيف تكون الحال والإدارة هذه، مجرد أناس موتى يدفنون موتى؟! لا يهتمون ولا يأبهون بإقامة دين الله في هذا الشأن ولا يأبهون بالمقابر، ولو تركت المقابر من غير اهتمام ومن غير متابعة، لبني عليها!! وقد يبنى عليها ملاعب أو أي شيء آخر!! ولا يبالي الناس إذا قست قلوبهم عن ذكر الله وغفلوا عن الآخرة، لا يبالون حتى بحرمة المقابر، وهذه الأمور مما يتعلق بالموتى والمقابر هي من عمل رجال الحسبة أيضاً.(26/35)
الجمارك
وعندنا هنا في المملكة قبل خمس عشرة سنة أو ما يقرب من ذلك كان في كل مطار أو مدخل: رجل الهيئة مع رجل التفتيش في كل شيء، ثم تقلصت الصلاحيات وقلل العدد.
من أهم الأعمال: إدارة الجمارك، ولا نعني جانب الضرائب والجبايات فهذه لها تفصيل، وهي أعمال إذا دخلت في المكس فهي من أعظم الذنوب والكبائر، لكن نتكلم في الجمارك من جهة أنها تضبط ما يدخل إلى البلد من الممنوعات، هذا العمل هو من عمل رجال الحسبة.(26/36)
المراقبة الإعلامية
ومن ذلك كثير من أعمال وزارة الإعلام، مثل المراقبة الإعلامية، من يحكم على المجلة، أتدخل أو لا تدخل، الآن أحياناً تأتيك مجلة مصور فيها امرأة عارية، فيطمسون الثدي وحدود العورة، ويبقى الصدر والشعر! وكأنه ما بقي شيء، فمن قال: إن هذا حرام وهذا ليس بحرام؟! وبأي معيار طمست هذا وتركت هذا؟! والحمد لله أنها تطمس، ولا نقول: لا تطمس، لكن لو راعينا الأصول الشرعية، وجعلنا هذه الأجهزة مرتبطة بإدارتها الشرعية التي جعلها الله لها، لرأيت أنه لا يتجرأ أحد على أن يدخل دواعي الرذيلة، والزنى، والفاحشة إلى البلد المسلم، لعلمه أن هناك إدارةً واعيةً، وشرعيةً، وحذرةً، ومتنبهةً، تتلف كل ما فيه محرم.
ومراقبة الفيديوهات وما يتعلق بها -أيضاً- فيدرب موظف إداري ليراقب، ويعطي التصاريح، والرقابة الإعلامية معروفة أنها على المجلات، والفيديوهات ومحلات الأغاني، ولا نقول: لا يوجد عليها رقابة، بل هناك رقابة، ولكن هناك بعد عن الحكم الصحيح، فمثلاً: ما يتعلق بالأغاني، القضية ليست قضية رقابة بأن يمر ويراقب، لكن الحقيقة أنه لا يجوز شرعاً، ولا يحل أن يرخص لمحل أن يبيع الأغاني أو الأفلام الفاسدة مما هو موجود الآن، والترخيص بها حرام، وعملها كله حرام، وما يربحه مما يسمى المكاسب أو الدخل فهو خسارة، وسحت لا يجوز؛ ولذلك لو وضعت في الموضع الشرعي الصحيح وأحيلت إلى الولايات الشرعية، فالحكم فيها هو الإلغاء فوراً.
وقد تعرضنا لذكر بعض الإدارات وبعض الصلاحيات هنا لنعرف من خلال كلام الفقهاء -رحمهم الله- سعة وصلاحيات ديوان الحسبة وهيئة ديوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما نسميها نحن الآن.(26/37)
موقف المسلم من الحسبة
بقي أن نقول: ما الواجب علينا في هذه الأمة؟ الواجب المتعين علينا أن نعيد الأمر إلى نصابه، وأن نتعاون جميعاً لأن تعود لهذا الجهاز أهميته، وقيمته، وصلاحياته التي كانت في ظل المجتمعات والحكومات الإسلامية السابقة، وأن يُدعم بكل الطاقات وبكل الوسائل الممكنة.
ولا مانع أن تدمج بعض الإدارات في بعض كما تفكك، كما كانت البلديات -مثلاً- جزء من وزارة الداخلية وغيرها، ثم فصلت، ثم قسمت البلدية إلى بلديات، وزارة المواصلات -مثلاً- فصل منها وزارة البرق، والبريد، والهاتف إلى آخره؛ فالدمج والفصل وارد لمجرد المصلحة الإدارية، فكيف إذا كان يتعلق بمصلحة شرعية ضرورية لإحياء هذه الشعائر.
وبدلاً من أن نقول: الهيئات ليست لديها وظائف، ولا عندها وسائل، ولا نستطيع أن نحدث وظائف جديدة، فلندمج هذه الأجهزة في جهاز واحد أو ولاية واحدة أو كما اقترح بعض الإخوة: أن تحول إلى وزارة، فلا يوجد مانع، المهم أنه بشكل ما، أو بصورة ما أن تدمج أو تعود على ما كانت عليه سابقاً، ونحن الآن نقترح المبدأ، أما التفاصيل فدعوها لأهل الاختصاص بحيث يحصل الهدف وهو: أن يعود إلى ديوان أو وزارة الحسبة اختصاصها الشرعي الواسع، وصلاحيتها الواسعة، وجنودها ورجالها في كل منطقة وفي كل مكان؛ فإن الأمة أحوج ما تكون إلى هذا النوع من الولاية في هذا الزمن وفي كل زمان.(26/38)
الأسئلة(26/39)
علاقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحقوق الدول
السؤال
ما علاقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحقوق الدول؟
الجواب
إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل كل دولة تتخلى عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتؤيد المنكرات والفساد ساقطة هالكة، والتاريخ شاهد بذلك {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً} [الكهف:59]، {وَمَا كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117].
كل القرى التي ظلمت بالذنوب والمعاصي وارتكاب المحرمات، ولم يكن فيها مصلحون وتركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنها تعاقب بالهلاك والدمار، دمار اقتصادي بالغلاء، ودمار بالحروب، ودمار بانتهاك الأعراض وارتكاب الجرائم والفساد، ودمار بالزلازل والبراكين، وبما يشاء الله من عقوبات، وهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ينزلها على من يستحقها، ولا يظلم ربك أحداً.(26/40)
كيفية إعادة الصلاحيات للحسبة
السؤال
كيف يمكن إعادة الأمر إلى نصابه بإعادة صلاحيات الحسبة؛ لأن الأمر أصبح لا يطاق؟
الجواب
المهم نحن، فإذا أردنا ذلك وطالبنا، وأنشأنا الدراسات لهذا الموضوع، فإن ذلك سيكون بإذن الله تبارك وتعالى، وما ضاع حق وراءه مطالب، لكن كل منا مطَالبٌ بأن يكون مُطِالباً، بأفضل أسلوب للمطالبة، كتابة، ومناصحة، ومشافهة، وكتابات علمية موفقة، كتابات فقهية تأصيلية، ونتعاون في كل ذلك بحيث إننا نعيد لهذه الشعيرة ولهذا الديوان صلاحياته وأهمياته.(26/41)
التهكمات الصحفية
السؤال
ما قولكم في الصحفيين وتهكماتهم على الهيئة ورجالها؟
الجواب
ليست القضية قضية الصحفيين، حتى في المجالس كثير من الناس يتهكم ويسخر من الهيئة ومن الملتزمين!! ولا يدري أن الأمر هو كما ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الرجل قد يقول الكلمة من سخط الله أو من غضب الله لا يلقي لها بالاً؛ تهوي به في النار سبعين خريفاً} والعياذ بالله!.
والذين ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كفرهم في سورة براءة، وهم الذين استهزءوا وسخروا، ولذلك كفَّرهم الله تعالى، فهم لم يستهزءوا بالدين، ولم يستهزءوا بنص القرآن، ولا بألفاظ الحديث، إنما استهزءوا بالقراء من الصحابة، ومع ذلك يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65] فجعل الاستهزاء بمن يقوم بالعلم أو الدعوة أو مثلهم ممن ينكرون المنكر، جعله استهزاءً بالله وبآيات الله وبرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66] فالمسألة كفر، وليست شهوات، وفكاهات، وتندرات في المجالس.
ثم اعلموا أنه لا يطعن في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا أحد رجلين: - إما رجل جاهل بقيمتها وأهميتها للمجتمع ولا يعلم شيئاً؛ فهو أمّيٌّ يكاد يكون في حكم من هو ليس محلاً للخطاب ومرفوع عنه القلم، لجهله لما خلقه الله من أجله وبعمل هذا الجهاز، وهذا -إن شاء الله- قليل في الأمة.
والثاني: صاحب فحشاء ومنكر وفساد، إما قد قبض عليه أو يخشى أن يقبض عليه، فلا بد أن يحتاط لنفسه فيسب ويتكلم!! وابحثوا وفتشوا فلن تجدوا أحداً يخرج عن هذا أبداً، لكن من يعرف دين الله، ويعرف حدود ما أنزل الله على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو بريء من هذه المنكرات، ويتقطع قلبه لها فلا بد أن ينكر.
راجعوا: كتاب الاختيارات العلمية لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في باب حكم المرتد، فإنه يذكر من أنواع المرتد من يكفر بالله ورسوله أو يجحد شيئاً من الدين، وقال: 'ومن لم ينكر المنكر بقلبه' هذا نص عليه كثير من الفقهاء، فمن لم ينكر المنكر بقلبه بحيث رضيه 'صار كافراً مرتداً' فكيف من يتندر ويتفكه بمن ينكر المنكر؟! هذا ليس براضٍ فقط!! بل هذا معبر عن الرضا في أجلى صور التعبير، وهي المزح والضحك والسخرية!! فقد يكفر الإنسان وهو لا يعلم، نسأل الله العفو والعافية! والصحفيون إنما يتجرءون؛ لأنهم يخدمون أغراضاً خبيثة، وأهدافاً خبيثة يخطط لها أعداء الله في خارج هذه البلاد من اليهود والنصارى؛ والصحافة الأمريكية شاهدة على هذا، وإذاعة لندن، وصوت أمريكا شاهدة على هذا، فمن هناك ينصبَّ الكلام ويلفُّ ويدور حول الطعن في هذه الصحوة، واتهام هذه الصحوة، وضرب هذه الصحوة.
حتى قال بعضهم: حزب الصحوة الإسلامية فهل هناك شيء اسمه حزب الصحوة؟! لأن كلمة الصحوة دارجة على ألفاظ الخطباء، فقالوا: هؤلاء اسمهم في السعودية حزب الصحوة.
كلنا -والحمد لله- ننتمي إلى هذه الصحوة، والحمد لله ليست حزباً، وليست معارضة سياسية، كما يحاولون أن يصنفوها؛ فهم يريدون أن يصنفوا الدعاة، ويصنفوا الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر على أنهم معارضون سياسيون يريدون الحكم، الله أكبر! ليست الكراسي التي يبحثون عنها؟! أيريدون أن يكون أحدهم وزير تخطيط، وآخر وزير زراعة؟! إنهم لا يفكرون بهذا الكلام.
ووالله إن هذه المناصب في مقابل ما أعطى الله تعالى الدعاة والعلماء من الإيمان بالله ومعرفته، والتوقيع عن رب العالمين سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والقيام مقام الأنبياء والله لا تساوي شراك نعل الداعية.
وليسمع هذا من يسمع، والله مالها أية قيمة للذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر أبداً إلا إذا كانت وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويقوم بها من يقوم -ولا أزكي نفسي ولا إخواني من الدعاة- لكن لا أعلم أحداً يقبل لو عرض عليه منصب من هذه المناصب حتى لو كان في منصب ديني ومفيد، أبداً والله؛ فمن أين جاءت التهم ولا أحد في مجتمعنا يتهم الدعاة إلا مغرض خبيث مخبث.
لكن هذه أصداء لكلام الصحافة الغربية والإعلام الغربي الخبيث، الذي يريد أن يفسد وأن يطعن في هذه الأمة، وأن يفرق ما بينها، ويضرب بعضها ببعض، فهذا الذي يريدون.
ولذلك يأتي هؤلاء مثل صاحب جريدة السياسة وأمثاله المعروفة علاقتهم وارتباطاتهم وولاؤهم للغرب ولأمريكا، فيتهكمون ويسخرون من الدعاة، حتى يقول أحدهم: أتاني واحد لحيته مثل التيس!! ويمر هذا الكلام، ويطبع في هذه البلاد، وينتشر، ويوزع، ولا عقوبة ولا رادع لاستهزائه بسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! ولو كان استهزاءً بشخص، أو رجل، أو واحد منا لاحمرت العيون وورمت الأنوف، ورأينا كيف تكون العقوبات، وكيف يكون النكير، ويكتب أكبر عالم في هذه البلاد وأقوى سلطة علمية فيها، وهو سماحة الشيخ عبد العزيز حفظه الله، ويكتب ويكرر الكتابة لمعاقبة هذا الرجل، وحتى الآن لا أدري لماذا لم يعاقب!! فهؤلاء الصحفيون المجرمون ممن ينتمي إلى هذه البلاد ومن كان من خارجها، ومن يطبع هنا، ومن جاء ليدخل صحيفته إلى هنا، وكل من يكتب ضد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هؤلاء صدىً لأعداء الله، ولا يتكلمون من عند أنفسهم، إنما أنا أقول: من يتكلم من أهل هذا المجتمع عن هذا فهو لا يخرج عن الحالات التي ذكرت.(26/42)
الحسبة وبعض الصلاحيات
السؤال
لماذا هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تأمر بشيء وتتغاضى عن شيء آخر؛ مثلاً: أمرت بمنع وضع الكراسي في المحلات في سوق الخيمة، لتجلس عليه النساء الكبيرات في السن، وتشتكي وتقول: على ماذا تقعد؟! لأنها لا تستطيع المشي -أقول: من قال لك أن تذهبي إلى السوق يا جدتي؟! - مع أنها لم تأمر بإغلاق أو حتى منع بيع الأفلام والأغاني، مع أن هناك حكماً بتحريمها مع الدخان، فأين الإنصاف في ذلك؟
الجواب
الأغاني والفيديو يقال لهم فيها: إنها ليست من اختصاصهم بل من اختصاص وزارة الإعلام!! ولهذا كانت المحاضرة، لتبين أن هذه من اختصاصات الحسبة.(26/43)
عمر بن عبد العزيز ومعاونوه
السؤال
ذكرتم أن عمر بن عبد العزيز عمل بالحسبة بنفسه مع بعض وزرائه وجلسائه، نرغب بذكر بعض أسماء وزراءه وجلسائه إكراماً لهم، وليعلم جيل اليوم من الشباب المسلم من هؤلاء الرجال رحمهم الله؟
الجواب
لن أجيب بل أريد كل واحد منكم أن يحضر لهذا الموضوع من سيرة عمر بن عبد العزيز به، والكتب عن عمر رضي الله عنه مشهورة موجودة، فلماذا لا تكتبون بحوثاً حتى نعلم من هم هؤلاء الرجال وأدوارهم، وننشرها بين الناس؛ لأن الأمة الآن لا تعرف إلا الممثلين، والمطربين، والراقصين، بل والأمريكيين منهم، فهؤلاء رجال الأمة.
ممثل هندي زار مصر فاحتشدت -كما قرأت في الصحف المصرية- الآلاف المؤلفة لتراه وهو هندي.
مَن مِن الناس يعرف وزير عمر بن عبد العزيز؟ كم من الناس يعرف من هو العالم الذي أشار على سليمان بن عبد الملك أن يولي بعده عمر بن عبد العزيز؟ كم من شبابنا يعلم ماذا كان عمل ابن عمر بن عبد العزيز مع أبيه؟! لا أحد يعلم، لأننا انشغلنا عن رجالنا وعن قادتنا بهؤلاء الأرجاس الأنجاس.(26/44)
التنصل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة وجود الحسبة
السؤال
ما رأيكم في كثير ممن يرون المنكرات وإذا قلت له: لماذا لا تنكر المنكر؟! قال: إنه من شأن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟!
الجواب
هذه قضية نرجو ألا نسمعها -إن شاء الله- وألا تتكرر!! فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {من رأى منكم منكراً} فكل واحد يجب عليه أن ينكر بحسب الاستطاعة، إلا إذا كانت شيئاً عملياً تنفيذياً فنعم، لكن هل معنى ذلك أني أقول: إن هذا يحتاج إلى تنفيذ وإلى عمل من اختصاص الهيئة فأسكت!! لا.
بل أخبر الهيئة، وأكتب، وأبين لها.(26/45)
تعديل نظام الشركات
السؤال
كثير من الأسئلة عن موضوع ما صدر بخصوص إلغاء بعض مواد نظام الشركات؟
الجواب
الحقيقة أنا من النوع الذي لا يسمع الإذاعات نهائياً، فاليوم في الصباح جاءني أحدهم وقال: الجرائد فيها كلام عن نظام الشركات وأحضر لي الجريدة، وإذ مكتوب فيها إلغاء بعض مواد نظام الشركات، لكن لم أتمكن من مراجعتها وهل هي التي تعرضنا لها في المحاضرات الماضية أو غيرها.
وعلى كل حال نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفق هذه الأمة عامتها وخاصتها للرجوع إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يريهم الله الحق حقاً ويرزقهم اتباعه، ويريهم الباطل باطلاً ويرزقهم اجتنابه.
ونرجو -إن شاء الله- أن تكون هناك خطوات لإصلاح نظام الشركات بأكمله، ولإلغاء كل ما يخالف الشريعة في النظام الاقتصادي كله، وهو أوسع من الشركات، وأيضاً إلغاء كل ما يخالف ديننا، وشريعتنا في جميع مجالات الحياة صغيرها وكبيرها بإذن الله.(26/46)
احتساب رجال الهيئة
السؤال
كثير من الإخوان كتبوا عما يتعرض له رجال الهيئة؟
الجواب
نوصي إخواننا في الهيئة أن يحتسبوا الأجر عند الله، فزيادة على احتسابهم قلة الرواتب، والتعب المضني، والسهر المتواصل؛ فنوصيهم أن يحتسبوا ما يقال فيهم؛ فالمسألة احتساب، وصبر، وجهاد لوجهه تعالى، حتى تلقوا ربكم عز وجل.(26/47)
العاصي بين الستر والعقوبة
السؤال
إذا وجد من يشرب الخمر أو يعمل معصية من المعاصي، وهو يستتر به، فهل يجوز تعزيره وتشهيره، أو ينصح ويستر عليه؟
الجواب
أما إن كان من الجيران ومن الزملاء في العمل فالأصل أن ينصح وأن يستر عليه، وأما من كان شره متعدياً، كأن يعلم أبناء الحارة كيف يصنعون الخمر، فلا يجوز السكوت عنه؛ والتفصيل لا يتسع الوقت له، إنما المقصود إذا كان يدخل في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ما في الحديث من كلام {أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم} ذوي الهيئات ليسوا العلماء، وليسوا أهل الخير والصلاح -كما فسرها بعض الفقهاء- إنما هم أهل الحسب أو النسب أو من له مقام، أن يقال عثرته كأن يخطئ فيفعل شيئاً، فلو عزر وفضح لكان ذلك فضحاً عاماً، فهو ليس مثل أي إنسان عادي يفضح.
ويقاس على ذلك الوالدين، أو الجار، أو الصديق؛ فالأولى والأصل هو النصح، بأن ينصح ويستر عليه.
فإذا تعدى ضرره أو كان ممن لا يرتدع، لأن من الناس من لا يرتدع وخاصة في الخمر، فهي إدمان، والإدمان حتى من الناحية الطبية قد يصل صاحبه إلى أنه لا يمكن أبداً أن يقلع عن شربه، ولهذا قال بعض العلماء: حديث {وإذا شرب الرابعة فاقتلوه} يعمل به في مثل هذه الحالات، أي في حالة المدمن الذي مهما نهيته فلا بد أن يشرب، فهذا يقتل؛ لأنه قد فسد بالكلية، فليس فيه خير.(26/48)
إدارة المباحث تدخل ضمن الحسبة
السؤال
هل إدارة المباحث يمكن أن تندرج تحت الحسبة؟
الجواب
المباحث الجنائية تطلق على الشرطة، وقطعاً يمكن أن يندرج عملها في الحسبة، إذا ضبطت الأمور ضبطاً شرعياً وأصلت تأصيلاً شرعياً، ولا نعني التجسس الذي نهى الله عنه، لكن بعض ما تقوم به المباحث، من تحريات وملاحقة المجرمين وما أشبه ذلك، وما يسمونه علم الجريمة، وما أشبه ذلك، هذه كلها من عمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء أدرجت في عصرنا الحاضر ضمن المباحث، أو ضمن الشرطة، أو ضمن المباحث الجنائية، أو أي اسم من الأسماء.(26/49)
حكم مصادرة البضائع
السؤال
مصادرة البلدية للبضائع هل هذا عمل صحيح؟
الجواب
إذا كان لسبب شرعي فهو صحيح، وإن كان لسبب غير شرعي فهو غير صحيح، وهو من الظلم الذي لا يقر، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن قيل وقال وإضاعة المال، فإضاعة المال وإتلافه من غير مصلحة شرعية لا تجوز، وينكر على البلدية أو على غيرها لكن بطريقة الإنكار الشرعية الصحيحة.
ونسأل الله أن يكتب لكم الأجر والثواب، والحمد لله رب العالمين.(26/50)
الخلاف في أهل الوعيد
نفى الشيخ حفظه الله عن المرجئة أنهم يقولون: (إن الإيمان لا يضر معه ذنب)، وبين أن عقيدة الإرجاء من العقائد التي ظهرت في عصور الإسلام المتقدمة، وقد قال أوائل المرجئة بعدم دخول أهل الكبائر النار.
كما بيّن وجوب اقتران المحبة بالخوف والرجاء، موضحاً خطر عبادة الله بالمحبة وحدها؛ لأنها تؤدي إلى الزندقة، وخطر عبادة الله بالخوف وحده؛ لأنها تؤدي إلى الغلو في الدين، وخطر عبادة الله بالرجاء وحده؛ لأنها تؤدي إلى الإرجاء.(27/1)
موقف الفرق الإسلامية من أهل الكبائر
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول ابن أبي العز -رحمه الله- في شرح العقيدة الطحاوية: وأراد المصنف رحمه الله بقوله: [ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله] مخالفة المرجئة وشبهتهم كانت قد وقعت لبعض الأولين، فاتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك؛ فإن قدامة بن مظعون شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة، وتأولوا قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة:93] فلما ذُكِرَ ذلك لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على استحلالها قتلوا، وقال عمر لـ قدامة: [[أخطأت استُك الحفرة، أما إنك لو اتقيت، وآمنت، وعملت الصالحات، لم تشرب الخمر]] اهـ.
الشرح: قال المصنف -رحمه الله-: وأراد الشيخ رحمه الله بقوله: "ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله، مخالفة المرجئة ".
لكن هذا القول لم يثبت عن قائل معين من المرجئة أنه يقول: ' لا يضر مع الإيمان ذنب ' كما ذكر ذلك شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله، ولكن الثابت من مذهبهم هو مسألة حكم أصحاب الوعيد والكبائر، فإن المرجئة أو طوائف منهم يرون أنه يجوز ألا يدخل النار أحدٌ من أهل الكبائر، فما كان دون الشرك فإنه يجوز أن يغفره الله تعالى للناس كافة، فلا يدخل النار أحد من أهل الكبائر، وإنما الذي يدخلها فقط هم أهل الكفر والشرك، وفي معتقدهم هذا يقابلون الخوارج حيث تقول الخوارج: إنه لا يدخل أحد من أهل الكبائر الجنة، وجعلوهم خالدين مخلدين في النار كالكفار المشركين بالله تعالى، أما المرجئة فوصفوا أهل الكبائر بالإيمان والتوحيد، وقالوا: حاشا الله أن يجعل المسلمين من المجرمين والموحدين كالكافرين؛ فلذلك يجوز ألا يدخل النار أحد من المسلمين ولو كان عاصياً.
وأهل السنة والجماعة وسط بين أهل التفريط وأهل الإفراط، وأهل الغلو وبين أهل التقصير، فقالوا: يدخل النار قطعاً بعض أهل الكبائر من أهل التوحيد، ويغفر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لمن شاء منهم فلا يدخلونها، وكل صاحب كبيرة عليه أن يخاف وأن يتوقع أنه ربما يكون ممن لا يُغفر له، لكن النهاية لا يمكن أن يخلد أحد من أهل التوحيد والإيمان في النار، وإنما الخلود فيها لأهل الكفر والشرك، فأهل النار الذين هم أهلها كما بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث الجهنميين هم أهل الشرك والكفر، وأما من دونهم فإنهم يخرجون منها.
ويدل على ذلك ما تقدم في موضوع الشفاعة من أحاديث كثيرة، ولذلك فـ الخوارج ينكرون الشفاعة؛ لأن هذا الإنكار مبني على مذهبهم الخبيث في مرتكب الكبيرة، فالأدلة الدالة على الشفاعة كثيرة جداً، ومنها حديث الجهنميين الذين يخرجون بشفاعة الشافعين، وكلها برحمة الله وفضل منه، فيخرجون من النار بعد أن لبثوا فيها ماشاء الله أن يلبثوا.
أيضاً هناك كثير من الأحاديث الصحيحة الثابتة في دخول أهل المعاصي النار، ومن ذلك الأحاديث الواردة في الإسراء والمعراج وفي رؤيا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث رأى الزناة، وأكلة الربا، والذين يأكلون لحوم الناس وغير ذلك.
والمقصود هنا هو إجمال المذاهب الثلاثة، وأن فيها طرفين ووسط، وأن أهل السنة والجماعة هم المذهب الوسط، وأما المرجئة فيلزم من قولهم أن من كان من أهل التوحيد فلا يضره ذنب؛ لأنه لن يدخل النار فليفعل ما يشاء.(27/2)
تأويل الصحابة للنصوص
ثم قال: وشبهتهم -شبهة أن الإيمان لا يضر معه ذنب- كانت قد وقعت لبعض الأولين ممن ليسوا من المرجئة، واتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك، فإن قدامة بن مظعون شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة، وتأولوا قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} [المائدة:93].
هذه قصة عظيمة وعجيبة، وفيها كثير من العبر والأحكام العقدية والفقهية؛ حيث إن قدامة بن مظعون وهو رجل من الصحابة ومن السابقين، وقد جاء في سيرته أنه هاجر إلى الحبشة، وشهد بدراً وسائر المشاهد مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتوفي سنة (36هـ).
وكانت هذه الشبهة العظمى التي وقعت له في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان له صلة بـ عمر رضي الله عنه فإنه خال حفصة وعبد الله ابني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأخوه هو الصحابي المعروف بـ عثمان بن مظعون الذي دعا له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برفع الدرجة، حيث قال: {أما عثمان فقد أتاه اليقين من ربه}.
فهذا قدامة رجل من السابقين والمهاجرين، ولكنه وقعت له هذه الشبهة، وهذا يدل على أن الشبهة العلمية أو الاعتقادية تعرض -مثلما تعرض الشهوة النفسية والجسدية- لأهل الفضل والخير والسابقة، والمعصوم من عصمه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذه القصة أوردها كثير من العلماء منهم: عبد الرزاق في المصنف، وابن أبي شيبة، والحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (12/ 70)،.
والقصة مذكورة في كتب الفقه عامة كـ المغني وغيره، والمقصود أن هذه الحادثة حادثة عزيزة، حيث ذكر العلماء أن رواية ابن أبي شيبة في المصنف عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: شرب قوم من أهل الشام الخمر، وعليهم يزيد بن أبي سفيان أخو معاوية بن أبي سفيان، وقد كان والياً لـ عمر رضي الله عنه على الشام، وكان قدامة ومن معه يسكنونها، فقالوا هي لنا حلال، وتأولوا هذه الآية: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة:93].
فكتب يزيد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستشيره في شأنهم، فأشار عليه رضي الله عنه وسائر الصحابة بأنهم يستتابوا، فإن تابوا جلدوا ثمانين جلدة -وهي حد الشرب- وإن لم يتوبوا قتلوا؛ لأنهم استحلوا المحرم القطعي، ولذلك نجد عبارة المصنف: ' اتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك '؛ لأن القصة اشتهرت عندهم، واستدعاهم عمر -رضي الله عنه- واستشار فيهم الصحابة، وعَلِمَها كافةُ الناسِ وأهلُ الشورى وأهلُ الرأي، واتَّفَقَ رأيهم على هذه الفتوى، فأصبحت كأنها إجماع.(27/3)
كيفية معاملة المتأول والمستحل
وهذا يدل على كيفية معاملة المُتَأَوِّلِ والْمُسْتَحِلِّ، فأما المتأول فتكشف شبهته، وكل من استحل محرماً أو وقع في شرك أو بدعة أو محرمٍ بشبهة، فتكشف -أولاً- الشبهة، ويناقش مناقشة علمية، والناس في هذا على نوعين والوسط هو الحق والعدل، فبعض الناس إذا رأوا من فعل ذلك، قالوا: هذا من أهل العلم، أو إمام مشهور، أو صحابي جليل، فلا يفعل هذا الشيء إلا وهو محق، فيقلدونه.
وبهذا التقليد ارْتُكِبَ كثيرٌ من المحرمات -نسأل الله العفو والعافية-، وهذه الشبه تقع كثيراً، حتى في موضوع الخمر، فأهل الكوفة وفقهاء العراق يرون أن الخمر المحرم هو ما كان من العنب إذا غلى وقذف بالزبد، وأما ما عداه فهو لا يقاس عليه.
ولهذا روى البخاري رحمه الله أحاديث كثيرة عن أنس رضي الله عنه وعن غيره من الصحابة أنهم قالوا: نزلت آية الخمر وما في المدينة زبيبة؛ إنما كان فيها التمر ولم يكن يصنع الخمر بـ المدينة من العنب، لكن وقعت هذه الشبهة.
فالمقصود أن من الناس من إذا وقعت مثل هذه الفتنة اتبعوا من فعلها، وقالوا: هؤلاء أئمة، وفي المسألة خلاف، ولم يكن الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- على هذه الحالة، ولو أن الإنسان تتبع أخطاء العلماء وتأويلات المتأولين لكان مصيره كما قال بعض العلماء: من تتبع رخص الفقهاء تزندق.
فيأخذ من هذا شيئاً يتعلق بالوضوء، ومن آخر شيئاً في الصلاة أو الزكاة أو الصيام، ثم يجمعها؛ فلا يبقى لديه من الدين شيئاً صحيحاً، فيصبح زنديقاً مارقاً، كما ذكر أبو نواس الشاعر الماجن الخبيث لما قال:
أجاز العراقي النبيذ وشربه فقال الحجازي كلاهما خمر
قال:
وقال الحجازي: الشرابان واحد فحلت لنا من بين قوليهما الخمر
فيقول: إن فقهاء العراق يقولون: إن النبيذ حلال، وفقهاء الشافعية وأهل المدينة يقولون:
قال الحجازي: الشرابان واحد فحلت لنا من بين قوليهما الخمر
فهو أخذ من هذا ومن هذا، فقال: بما أن النبيذ حلال كما يقول أهل العراق، ولا يقولون إذا أسكرت حرام، فأخذ منهم أن النبيذ حلال، وأخذ من قول أهل الحجاز أنهما واحد فحكمهما سواء، ثم توصل إلى أن تكون الخمر حلالاً والعياذ بالله، فلا شك أن من تتبع رخص العلماء تزندق واستحل المحرمات.
ومن ذلك من يسمون بفقهاء الحيل الذين ابتدعوا الحيل الشرعية، وهي ليست من شرع الله ولا من دينه، كنكاح التحليل وأشباهه مما أطال فيه العلماء، كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله في كتابه إغاثة اللهفان، فذكر كيفية تلبيس الشيطان على أصحاب التحليل والحيل، فهؤلاء هم الطائفة الأولى.
وأما الطائفة الأخرى فما أن يقع من عالم زلة وإن كان صحابياً أو تابعياً، فإنه يسقط من أعينهم بالكلية، ويشنعون عليه، ولا يحفظون له قدراً ولا مقاماً، وهذا جور وظلم وإجحاف.(27/4)
حكم الصحابة على المتأولين للأحكام
وأما الصحابة -رضوان الله عليهم- فإنهم تعاملوا بالعدل الذي أمر الله تعالى به فقالوا: تكشف شبهتهم، وتقام عليهم الحجة، ويُوَضَّحُ لهم الْحَقُّ، فإن استجابوا وعادوا فإنهم يجلدون الحدَّ، وذلك ردعاً لهم ولغيرهم؛ حتى لا يتأول أحد فيما أحل الله أو فيما حرم الله، فيعلم أنه بسبب شربه الخمر لابد أن يجلد، وإن أصر على ذلك بعد أن تقام الحجة وتكشف الشبهة، فإن حكمه في هذه الحالة هو القتل؛ حتى لا يأتيَ أحدٌ فيفتريَ على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويشرع في دين الله ما لم يأذن به الله، وهذا مما اتفق عليه الصحابة -رضوان الله عليهم- عليه بالنسبة للفرد.
وكذلك الطائفة: إذا كانت طائفة أو قبيلة أو مدينة أو إقليم أو دولة اتفقت وتواطأت على شيء من هذا، فهذه تسمى الطائفة الممتنعة، ينظر فإن كانت لديهم شبهة كشفت وبينت، وإن لم تكن فإنهم يقاتلون على ما استحلوا مما حرم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد جاء في المسند: {أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أخبر عن وفد اليمن أو بعض قبائل من أهل اليمن أنهم لا يتركون الخمر فقال: إن تركوها وإلا قاتلوهم}.
فلو أن طائفة أو قبيلة أبت أن تترك شرب الخمر، فإنها تقاتل حتى تتركه، وكما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله حيث يقول: اختلف العلماء فيمن ترك بعض السنن المؤكدة مثل صلاة الخسوف، فلو تواطأت قرية أو قبيلة، وقالوا: نترك صلاة الخسوف أو صلاة الاستسقاء أو ركعتي الفجر، فهؤلاء قد اختلف فيهم العلماء، فما كان من الواجبات الظاهرة كالأذان لو ترك، أو كان من المحرمات الظاهرة كاستحلال الخمر أو الربا فإنهم يقاتلون.
وقد ذكر شَيْخ الإِسْلامِ أنه ورد في بعض السير -أن قبيلة ثقيف أرادت أن تَسْتبقِيَ الرِّبَا، ولا تُحَرِّمَه بالتحريم الذي وصفه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبة الوداع، وكان الربا من آخر ما نزل من الأحكام، وآياته من آخر ما نزل من القرآن، فتجهز النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقتالهم.
فالمقصود أنه إذا أَصَرَّت على ترك الواجب الظاهر من دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أو ارتكاب المحرم الظاهر في التحريم، فإن حكمها هو الاستتابة، وتقام عليهم الحجة العلمية؛ فإن لم يتوبوا فإنه يجب قتالهم، فهذا الذي اتفق عليه الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- بشأن هؤلاء كما يقول المصنف: فلما ذكر ذلك لـ عمر رضي الله عنه اتفق هو وعلي بن أبي طالب.
لأنه استشاره بذلك ' وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على استحلالها قتلوا، وقال عمر لـ قدامة: [[أخطأت استك الحفرة]] وفي هذا كناية عن الخطأ في الرأي، ويقصد أنك أخطأت في هذا الرأي، حيث فهمت استحلال الخمر من قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} [المائدة:93] فقال له: [[أما إنك لو اتقيت، وآمنت، وعملت الصالحات، لم تشرب الخمر]] لأن شرب الخمر يتنافى مع الإيمان والتقوى والعمل الصالح، فكيف تجمع بين هذا وهذا؟!(27/5)
سبب نزول قوله تعالى: [لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ]
ثم بين المصنف رحمه الله سبب نزول هذه الآية، فقال: وذلك أن هذه الآية نزلت بسبب أن الله سبحانه لما حرم الخمر وكان تحريمها بعد وقعة أحد، فقال بعض الصحابة: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، بين فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم يحرم فيها فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين المصلحين، كما كان مِنْ أمرِ استقبال بيت المقدس حيث إنه لما حولت القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه} [البقرة:144].
وبعد أن صلّى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه ثمانية عشر شهراً تقريباً إلى بيت المقدس، وكانوا في حرج شديد، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حرج من ذلك، ويريد أن يستقبل الكعبة فنزلت هذه الآية: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144] فتحول الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- وحولت القبلة إلى الكعبة، وكان ذلك أحد العلامات الفاصلة بين المسلمين وبين أهل الكتاب، فأصبحنا لا نستقبل قبلتهم ولا هم يستقبلون قبلتنا، ولا نتبعهم ولا يتبعوننا، فلما حصل ذلك جاء السؤال من بعض الصحابة وقالوا: كيف حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ هل تقبل منهم صلاتهم أم لا تقبل؟ فإن الناس كانوا حديثي عهد بالنسخ، ولم يتعودوا أن ينزل أمر من أمور الدين ثم ينسخ، وخاصة مثل هذا الأمر الظاهر المعلوم لدى كل فرد من المسلمين، فقالوا: إذا كانت الصلاة لا تقبل إلى بيت المقدس، فما حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إليها؟ فأنزل الله تبارك وتعالى تطميناً لهم فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] فصلاتكم إلى القبلة المنسوخة باقية، ولكم عليها أجر كبير؛ لأنكم أطعتم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في استقبالها، وفي تركها واستقبال القبلة التي أمر الله تبارك وتعالى بها، وبهذا يتبين أن من حكم النسخ العظيمة الابتلاء والامتحان للمؤمنين.
فالعبد المؤمن دائماً يقول: سمعنا وأطعنا، ولا يقول كما قال أهل الكتاب من قبلنا: سمعنا وعصينا، وهكذا كان حال السلف الصالح -رضوان الله تعالى عليهم-، ومن حكم النسخ تحقيق العبودية، فلو أعجبتك طاعة من الطاعات، لكن الله تعالى يأمرك في وقت معين بطاعة أخرى غيرها لسبب من الأسباب الشرعية، فلا تذهب إلى ما تميل إليه نفسك، بل تتعبد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فتفعل ما أمر الله به وما أمر به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فالمقصود أن الموضوع الأول هو موضوع القبلة، والموضوع الآخر هو موضوع تحريم الخمر؛ لأنه كما جاء في الصحيح: {مات قومٌ يوم أحد والخمر في بطونهم} وهم من أفاضل الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم-، فاستشهدوا في سبيل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والخمر في بطونهم، فجاء هذا السؤال مرة أخرى عند الصحابة الكرام، فقالوا: ما حال إخواننا الذين ما توا وهم يشربون؟ وروى الحاكم وغيره أن هذا السؤال أثاره اليهود، وهذا لا يستبعد.
فتحريم الخمر ليس حدثاً هيناً، بل هو أمر عظيم جداً، فقد أنزل الله تحريمها، وبَلَّغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك للمؤمنين، فجرت بها سكك المدينة وطرقها، وقال الله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] قالوا: انتهينا، وكلٌ أراق ما عنده، فأصبحت الخمر تجري في طرقات المدينة، كأنها السواقي أو الأنهار الحمراء من هذا الشراب الخبيث؛ وانتهوا لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمرهم بذلك، فحسدتهم اليهود، وقد حسدوهم عندما تحولت القبلة، فقال اليهود: حرمت عليكم الخمر؟ قالوا: نعم؛ قالوا: فكيف حال إخوانكم الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية تطميناً لهم.(27/6)
التوبة والمغفرة بين المعتزلة والخوارج وأهل السنة
فلما علم قدامة ومن معه أنهم ارتكبوا حراماً، وانكشفت لهم الشبهة، قالوا: الخمر كبيرة، ولن يغفرها الله، فأيسوا من التوبة والرحمة، لأنهم تصوروا الأمر بهذه الفظاعة، والبشاعة، والمؤمن وسط بين الحالين، فلا يستهين بالمعاصي والذنوب، ولا يقنط من رحمه الله تبارك وتعالى، ولهذا لما ندموا ووصل بهم الحال إلى أن يئسوا من التوبة قال: ' [[فكتب عمر إلى قدامة يقول له: {حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذي الطول} [غافر:1 - 3] ما أدري أيُّ ذنبيك أعظم، استحلالك المحرم أولاً؟ أم يأسك من رحمة الله ثانياً]] '.
فكتب له هذه الآيات من صدر سورة غافر، التي بين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها هذه الثلاث الصفات، غافر الذنب، قابل التوب، شديد العقاب؛ وهناك فرق بين معنى غافر الذنب ومعنى قابل التوب، فغافر الذنب: هو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يغفر الذنب لمن يشاء قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
فمن لقي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو مذنب، ولم يتب فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يغفر لمن يشاء، وأما قابل التوب: فإنه يقبل توبة من تاب وأناب حتى ولو كانت من الشرك، كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في المشركين في صدر سورة (براءة): {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] وفي الآية الأخرى {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5].
فالتوبة تكون من جميع الذنوب، أما المغفرة فلا تكون للمشرك أبداً، فإن من مات وهو مشرك فلا يغفر الله تعالى له أبداً، وأما من مات وهو مرتكب ذنوباً من دون الشرك، فهو إلى رحمة الله ومشيئته: إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، كما هو فهم أهل السنة والجماعة، أما المعتزلة والخوارج فإنهم قالوا -حتى يُخَرِّجوا الآية على أصلهم الفاسد-: إنما يغفر الذنوب لمن تاب فَيُرَدُّ عليهم، ويقال: إن الله تعالى وصف نفسه بوصفين مختلفين: غافر الذنب وقابل التوب، فكيف يكون غافراً فقط لمن تاب؟! وهذه الثلاثة الأوصاف لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فهو يغفر الذنب لمن يشاء مالم يك مشركاً، ويقبل التوبة من كل من تاب من أي ذنب.
وهو شديد العقاب؛ حتى لا يقول أحد من الناس: (إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غافر الذنب وقابل التوب، وبناءً على ذلك سأفعل ما أشاء) وهذا من فقه عمر رضي الله تعالى عنه، فقد كتب بهذه الآية إلى قدامة، ولو أنهم في البداية تذكروا أن الله شديد العقاب، وأنه قد حرم الخمر وسيعاقبهم بها لما شربوها واستحلوها، ولو أنهم في النهاية علموا أنه غافر الذنب وقابل التوب لما قنطوا ويئسوا من رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(27/7)
الانحراف في العبادات
فهذا دليل على أن المؤمن لابد أن يكون دائماً بين الخوف والرجاء، كما قال عبد الله بن المبارك رضي الله تعالى عنه وغيره من السلف: "الخوف والرجاء كجناحي الطائر للمؤمن" وللسلف عبارة مأثورة في هذا، قالوا: " من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري ".(27/8)
من أسباب الزندقة
فمن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق.
حتى إن بعضهم يسميه العشق الإلهي، كما يقولون عن رابعة العدوية: شهيدة العشق الإلهي، كما ذكر عبد الرحمن بدوي وأمثاله، فهؤلاء يعبدون الله تعالى بالحب فقط، ويقولون: لا نعبده طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره، إنما نعبده محبة لذاته حتى ولو كان مصيرنا إلى النار، عياذاً بالله! ويبنون على هذه المحبة أن الله لا يعذبهم، ويقولون: إن الحبيب لا يعذب حبيبه!! وهؤلاء كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عمن قبلهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:18] فدعوى أن الإنسان إذا أحب الله فإن الله لا يؤاخذه هي دعوى الزنادقة الذين كانوا في القرن الثاني وأول القرن الثالث، ومن تتبع وقرأ سير أئمة التصوف الكبار والمشهورين كـ الجنيد، أو النوري، أو الكرخي، أو ذي النون المصري، لوجد أنهم كانوا متهمين بالزندقة -والعياذ بالله- سواء صحت أم لم تصح؛ لأنهم كانوا يتدينون بهذا الدين، وهو من بقايا الرهبانية النصرانية، وهي مأخوذة عن رهبانية الهندوس، الذين غلوا في المحبة، وادعوا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحبهم ويحبونه، وإذا فعلوا ذلك فلا حرج عليهم كما ينسبون إلى رابعة:
أحبك حبين حب الهوى وحب لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى فشغلي بذكرك عمن سواك
وأما الذي أنت أهل له فكشفك للحجب حتى أراك
فينقلون هذا الكلام عن أولئك العباد الذين اتهموا بالزندقة كما قال أبو داوود رحمه الله قال: ورابعة رابعتهم في الزندقة، وكان قد ذكر جابر بن حيان ورياح بن عمرو القيسي وكليباً ً ثم قال: ورابعة رابعتهم على الزندقة، والمقصود أن من عبد الله بالحب وحده أو ادعى ذلك أو زعمه، فإنه زنديق.
ومن اعتقد ذلك فقد أزرى بالأنبياء، وقد أزرى بالصحابة الكرام الذين كانوا يعبدون الله خوفاً وطمعاً، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما روى عنه خادمه أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه وهو من أكثر الصحابة خلطة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {كان أكثر دعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار}، والله تعالى يقول عن أولئك الأنبياء: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَبا} [الأنبياء:90] وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57].
وتفسيرها هو أن أولئك المدعوين والمعبودين الذين يدعوهم المشركون هم عباد يعبدون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويبتغون هم أنفسهم إلى ربهم الوسيلة، ويرجون القرب، ويرجون رحمة الله ويخافون عذابه سواء كانوا من الملائكة أو من الأنبياء أو من الصالحين، فإذا كان هذا حال المدعوين؛ فكيف يكون حال الداعين؟! فيجب عليهم أن يتوبوا وأن يستغفروا الله تبارك وتعالى؛ كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُم} [آل عمران:31].
فمن ادعى محبة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وجب عليه أن يطيعه باتباع رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه هي آية الامتحان كما قال بعض السلف: [[ادعى قوم محبة الله، فأنزل الله تعالى آية الامتحان {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31]]] فهذا جواب الشرط المقترن بالفاء "فإن كنتم تحبون الله فاتبعوني"، ثم جعل جواب الشرط شرطاً له جواب آخر حيث قال: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].
فالمقصود أن محبة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا تعطى لكل من زعم أنه يحبه، وإلا فعبّاد الهندوس يحبون الله، وعباد النصارى يتقربون ويدعون ويبكون ويخشعون ويقولون: (نحب الله)، لكن هل الله يحبهم؟ هذا هو الأهم.
شرط حصول محبة الله أن يكون العبد متبعاً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومؤمناً به، فمن كان كافراً به، ومن كان يدعي الانتساب إليه أو أنه من أمته ولكنه لا يعبد الله كما شرع لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالدعوى باطلة.(27/9)
منشأ الغلو في العبادة
ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري.
وهذا هو حال الخوارج، نسأل الله العفو والعافية! فإنهم ضيقوا على أنفسهم، وأخذوا من الدين جانب الرهبة والخوف والترهيب والإشفاق والحذر، وقد تقع شبهتهم لبعض العُبَّاد وإن لم يكونوا على مذهب الخوارج، كعُبَّاد البصرة وغيرهم ممن ذكرهم في كتاب حلية الأولياء أو صفوة الصفوة، حيث كان بعضهم يغلو غلواً شديداً في الخوف من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مما يؤدي إلى اليأس من رحمة الله.
وهذا النوع دخل فيهم أهل التصوف حتى أفسدوا عليهم عبادتهم!! وهذه من الحكم التربوية العظيمة، وهي أن الإنسان إذا غلا في الخوف والرهبة، فإنه قد يؤدي به ذلك إلى الوقوع فيما هرب منه، وحتى يعلم الناس أن الحق مع السنة التي لا غلو فيها ولا جفاء، كما قال الحسن -رحمه الله- في أهل السنة: [[إن أهل السنة لم يذهبوا مع أهل الغلو في غلوهم، ولا مع أهل الترف في ترفهم، وإنما هم وسط بين ذلك]].
فلو رأيت إنساناً مشدداً على نفسه وعلى أتباعه في أمور كثيرة، بحيث يجعل المستحبات واجبات والمكروهات محرمات، فاعلم أنه سيقع في استحلال المحرمات؛ لأن من خرج عن المنهج الصحيح في تهذيب النفس وتقويمها، فإنه لا بد وأن يقع في ضده، فـ الخوارج أول ما ابتدءوا، ابتدءوا بهذا الغلو الذي ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أحاديث صحيحة متواترة حيث قال: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وقراءتكم إلى قراءتهم} وبعد ذلك جاءهم أناس فناقشوهم، وقالوا لهم: هذه سورة يوسف ذكر فيها العشق، وذكر فيها أن امرأة العزيز راودت نبياً من الأنبياء، وغلقت الأبواب، فقالوا: هذه ليست من القرآن! فكفرت طائفة منهم بسورة يوسف.
ومن كفر بحرف من القرآن فقد كفر به كُلَّه، وكَفَّروا الصحابة الكرام، وكانوا بذلك كفاراً، وأدى بهم الغلو إلى أنهم كانوا يقعون فيما كانوا ينفرون منه، كاغتيابهم الصحابة، بل واستحلوا دماءهم، فقتلوا عبد الله بن خبيب وبقروا بطن جاريته، وهو ابن الصحابي الجليل خبيب بن عدي، ثم وجدوا نصرانياً في الطريق فقالوا: لا تخفروا ذمة نبيكم!.
ووجد أحدهم تمرة سقطت من نخلة فأخذها، وذهب إلى الأمير وقال: هل يجوز أن نأكلها؟ ففكر وقال: قد تكون من نخل الخراج أو من نخل الصدقة، قد تكون لا، لا، اتركها، فهذا الغلو شر، فالمقصود أن من عبد الله بالخوف وحده فهو حروري.(27/10)
الإرجاء في عبادة الله بالرجاء
ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ.
وهو ما حصل لأمثال هؤلاء في القديم والحديث، حيث يعبدون الله تعالى بالرجاء وحده، وهذه ظاهرة عامة عند أكثر المسلمين، فتجدهم يُغَلِّبون الرجاء، لأن النفوس بطبيعتها مجبولة على ترك الواجبات وترك الالتزام بالحلال والحرام؛ لأنها تحب الحرية وارتكاب الشهوات، وقلة من النفوس التي تحب أن تتقيد وهنا يقع الغلو عند هذه النفوس التي تحب القيود والالتزام بها؛ ولذلك تجد أن الناس إذا ذكِّروا بالذنوب والمعاصي والنار، قالوا: نحن برحمة الله، والله غفور رحيم، فهذا مذهب الإرجاء.
والمقصود: أن من استحل شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة كالمحرمات المعلومة التحريم من الدين بالضرورة، أو من حرم شيئاً مما أحل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأصر على ذلك فإنه يكفر، كما جاء في حديث عياض بن حمار في صحيح مسلم قال: {وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم، وحرمت عليهم ما أحللتُ لهم}.
فتحريم الحلال كتحليل الحرام كما نص على ذلك شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله، لأنه لا يُحِلُّ ولا يُحَرِّمُ إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إما في كتابه وإما على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل:116] ومن فعل ذلك فإن كان فرداً فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وإن كانت طائفة فإنها تقاتل، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد بَيَّنَ في كتابه حالَ المشركين الذين وقعوا فيما وقعوا فيه من تحريم أو تحليل بغير ما شرع الله وبغير ما أذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بالنسبة للأنعام والحرث والبحيرة والوصيلة والحام وغيرها.(27/11)
أولياء الله وأولياء الشيطان
بدأ الشيخ حفظه الله بالكلام عن حقيقة الولاية لله عز وجل وبيّن الفرق بينها وبين الولاية للشيطان، ثم أوضح من هم أهل ولاية الله تعالى، مبيناً حالهم من حيث الدعوة والعلم والعمل، وتحمل الأذى في سبيل هذه الدعوة في أي زمان ومكان.(28/1)
حقيقة الولاية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صَلَّى اللهُ وسلم عَلَيْهِ وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فنسأل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن ينفعنا جميعاً بما نسمع وبما نقول.
إنَّ أولياء الله عز وجل هم كما قال الله تبارك وتعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] فلا يكون الكافر ولياً من أولياء الله، فالكافر هو عدوٌ لله وهو الطاغوت ووليه الشيطان وهم حزبه وجنده وأعوانه، وكذلك لا يكون المجنون أو من يعتريه الجنون في حال جنونه ولياً لله -تبارك وتعالى- كما يزعم ذلك الصوفية الضلال وأمثالهم، وكذلك بالنسبة للصبي ومن لم تبلغه الدعوة.
فنقول: إن المقصود والمراد من الآية هو الرد على من يظنون أن لله تبارك وتعالى أولياء من غير المسلمين، قد يزارون أو يقصدون في بلاد نائية، أو جبال بعيدة، أو مغارات يذهب إليها بعض الناس، فيجدون بعض العباد والزهاد، ويظنون أنهم أولياء لله وهذا من تلبيس الشيطان وتلاعبه بعقول كثير من الناس سواء من الصوفية أم غيرهم نسأل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يثبتنا وإياكم على الحق والإيمان والسنة إنه سميع مجيب.(28/2)
الأسئلة(28/3)
عوام أهل السنة والجماعة هم من الأولياء
السؤال
هل من الممكن أن يكون عوام أهل السنة والجماعة من أولياء الله، أم لا بد أن يكونوا علماء أو طلبة علم؟
الجواب
الحمد لله، من خلال ما تقدم نعلم الجواب إن شاء الله، وهو: أن أولياء الله -تبارك وتعالى- لا يشترط فيهم أن يكونوا علماء أو طلبة علم كما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله.
فالأولياء هم من عموم هذه الأمة، فمنهم: التجار، ومنهم الصناع، ومنهم الزراع، ومنهم المجاهدون، ومنهم القراء، ومنهم العلماء، فالولاية: هي إيمان وتقوى {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] فكل من حقق الإيمان والتقوى فهو ولي لله تبارك وتعالى بالمعنى الخاص، وكل من آمن بالله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو ولي لله بالمعنى العام؛ لكن تنقص ولايته بمقدار ما يكون فيه من تقصير أو ارتكاب لما حرم الله، أو تفريط فيما أوجب الله تبارك وتعالى.
والعلماء إنما يفضلون على بعض العوام بأنهم يعلمون ما جاء عن الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتفصيل، وإلا فقد يوجد في بعض العوام من قوة الإيمان والصدق والإخلاص واليقين والرغبة والرهبة والإنابة وكل الأعمال الإيمانية الظاهرة أو الباطنة كما عند العلماء، أو ما هو أكثر من بعض العلماء؛ لكن المزية: أن العلماء يعلمون حدود ما أنزل الله على رسوله تفصيلاً، وهذه لا شك أنها مزية، ولكن لو تجرد العلم من التقوى لم ينفع صاحبه.
وكذلك العامي لو عبد الله تبارك وتعالى بغير علم بل على جهالة ولم يسأل عن دينه في ضرورات الدين لكي يتعبد بها فإنه لا ينفعه ذلك، فلا بد للعامي من العلم ولو كان عن طريق السؤال كما قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، والعالم لا بد أن يعمل، وإن لم يعمل بعلمه فلا خير فيه، بل هو كما ضرب الله تبارك وتعالى المثل له بقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5]، وهذا من أسوأ الأمثلة.
وفي مثل آخر في آية أخرى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176] هذا إذا لم يعمل العالم بعلمه ولم يؤد به علمه إلى تقوى الله عز وجل، كما قال الله -تبارك وتعالى-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
فالعلماء هم الذين يخشون الله أكثر خشية من غيرهم؛ لأنهم يعلمون ويعرفون عن الله عز وجل ما لم يحط به غيرهم.
إذاً: عوام أهل السنة والجماعة هم من الأولياء، ونستطيع أن نوضح هذا بشكل أكثر فنقول: إن المؤمنين هم الأولياء، وكلمة الولاية من الألفاظ الشرعية؛ فإذا قلنا: الأولياء أو الأبرار أو المتقون أو المهتدون أو المستقيمون أو أهل الجنة أو أتباع السنة أو أي اسم من هذه الأسماء أو الأوصاف الشرعية فالمعنى واحد.
إذاً: فالأولياء فيهم العامة وفيهم الخاصة، والمتقون والصالحون والمهتدون منهم العامة ومنهم الخاصة، وهكذا هذه الأوصاف الشرعية تترادف، فعلى ذلك يكون عوام أهل السنة والجماعة من عوام الأولياء، وعلماء أهل السنة والجماعة -أي: العلماء العاملين- هم من خاصة الأولياء أو من علماء الأولياء، ولا إشكال في هذا إن شاء الله.(28/4)
لمز الملتزمين بالدين بالجنون
السؤال
جاء في كتاب كنز الدعاء أن أناساً ذهبوا يستسقون وهناك شخص يقولون: إنه مجنون، فقالوا له: ادعُ لنا، فقال لهم: أتيتم بقلوب أرضية أم بقلوب سماوية، ودعا لهم فنزل المطر! فما التعليق على ذلك؟
الجواب
عبارة [يقولون: إنه مجنون] إذن لم يجزم القائل -بغض النظر عن صحة الرواية من عدمها- بأنه كان مجنوناً، ومن يقال له: إنه مجنون، قد يكون من أعقل الخلق، بل إنَّ الملاحظ الآن والمشاهد أن كثيراً من الناس يطلقون على الشباب المتدين المتمسك المستقيم الذي يترك الحرام ويبتعد عن الشبهات والشهوات، ويخاف الله عز وجل ويقف عند حدوده يسمونه مجنوناً، ولا غرابة فقد قالوا ذلك للأنبياء وحتى لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فهكذا قالت كل أمة لنبيها إنه شاعر وساحر وكاهن ومجنون إلى غير ذلك؛ فإطلاق مجنون قد يكون تهمة، فربما يكون هذا الشاب أو هذا الرجل من أولياء الله الصالحين المستقيمين قد اعتزل ما عليه أهل هذه القرية من ظلم، وفساد، وفجور، وانحراف فسموه المجنون، فلما أرادوا الاستسقاء والدعاء، قالوا له: ادعُ الله، فدعا الله فمطروا، ولا غرابة في ذلك.
فهذا هو الاستسقاء المشروع: أن يدعو من يرى الناس أنه خيرهم أو أبرهم، فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو ثم بعد وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي زمن عمر رضي الله تعالى عنه لما خرجوا يستسقون أمر عمر رضي الله تعالى عنه العباس عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدعو، ثم في عهد معاوية رضي الله تعالى عنه وفي جميع عصور الإسلام من السنن المتبعة أن يكون الداعي ممن يرى أنه من خير الناس وأفضلهم وأتقاهم فيستجيب الله تبارك وتعالى دعاءه، ويمطر ويسقى القوم جميعاً، فهذا لا غرابة فيه إن شاء الله.
إذاً: لا تعارض مع ما تقدم من أن المجنون لا يكون ولياً؛ لأن هذا قيل: إنه مجنون وليس مجنوناً على الحقيقة، ودليل ذلك: أنه ذهب معهم ولا بد أنه تطهر وصلَّى ودعا فهذا لا يكون مجنوناً؛ لأن المجنون غير مكلف ولا يعي ولا يستطيع أن يقوم بهذه العبادات.(28/5)
المفاضلة بين أهل السنة وأهل البدع
السؤال
ذكر شَيْخ الإِسْلامِ في بعض كتبه: أن علماء أهل السنة أفضل من علماء غيرهم، ومتكلميهم أفضل من متكلمي غيرهم، وصوفيتهم أفضل من صوفية غيرهم، أو كما قال رحمه الله تعالى، فماذا كان قصده بذكر متكلمي أهل السنة وصوفيتهم وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
كلام شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله هذا كان في مقام المفاضلة، وليس في مقام الثناء على المخالفين، فهناك فرق بين مقام الثناء على المخالفين للسنة -فهؤلاء لا يثنى عليهم ولا يمدحون- وبين مقام المفاضلة، ويشرح هذا الكلام أنه قال رحمه الله: كل خير عند أهل الكتاب أو بقية الأديان ففي هذه الأمة منه أكثر، وكل شر في هذه الأمة أو من المنتسبين لهذه الأمة ففي أهل الكتاب والملل الأخرى منه أكثر ثم نأتي إلى هذه الأمة منها أهل السنة ومنها أهل البدع، فأي شر قد يكون في أهل السنة فهو في غيرهم أكثر منهم، فلو قارنا بين أهل السنة والرافضة الشيعة وهما القسم الأكبر في الأمة، ولهذا يقال الآن: المسلمون سني أو شيعي، ولكن القسمة في الحقيقة ليست هكذا، وإنما هي قسمة بين السنة وأهل البدع، وأهل البدع فرق كثيرة منها الخوارج والمرجئة والصوفية، والفرق هي الاثنتان والسبعون فرقة فلماذا يقال: سني أو شيعي؟ وذلك لأن تخصيص الشيعة بهذا الوصف لكثرة شرهم وفتنهم وبلائهم على الأمة، فجرى العرف على أن الأمة لا تخرج عن أحد هذين الوصفين، ولهذا لا تصلح كلمة سني في مقابل الشيعي، ولا تكون بهذا مدحاً لأنه قد لا يكون شيعياً، ولكنه على بدعة أخرى، وكذلك قد يكون صاحب معاصٍ وفجور وإن كان منتسباً لـ أهل السنة.
فاصطلاح أن كلمة سني مقابل كلمة شيعي؛ هذا اصطلاح في الكتب وفي الواقع، فإذا قارنا بين أهل السنة وبين الشيعة؛ فإن عند الشيعة كل ما عند الطوائف من الأوصاف فـ الشيعة فيهم المتكلمون، وفيهم الصوفية وفيهم العباد إلى آخره، وكذلك السنة بهذا المفهوم، فـ أهل السنة بمعنى الذين ليسوا شيعة نجد أن عبادهم خير من عباد الشيعة، وأن متكلمي أهل السنة خير من متكلمي الشيعة، وإن كان أهل الكلام من أهل السنة يعدون مبتدعة.
لكن بما أنه ليس متكلماً شيعياً وإنما هو متكلم سني بالمفهوم العام فهو أفضل، فكل طائفة من أهل السنة وإن كان فيها ما فيها من خطأ أو انحراف أو بدع، فهي خير من أهل الرفض والتشيع مهما زعموا ومهما ابتدعوا، فهذا هو المقصود.
فمصطلح أهل السنة يطلق بمعنيين: المعنى العام: وهو كل من ليس رافضياً، وقد يقال أحياناً في مقابل أيضاً من ليس معتزلياً محضاً، أو خارجياً محضاً، يعني المتمحض بالبدعة بالكلية، فمن كان على شيء من البدعة أو مقابل هؤلاء يقال: إنه من أهل السنة وإن كان متلبساً ببدعة.
أما أهل السنة بالمعنى الخاص وهم الممدوحون والمفضلون، وهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة؛ فهم الذين لم يتلبسوا بهذه البدع، ولم يكونوا على منهج اعتقادي بدعي، وإن وقع منهم شيء من ذلك فيقع على سبيل الخطأ لا على سبيل المنهج المتبع، وإنما يقع منهم خطأ؛ لأنه ليس شرطاً ليكون الرجل من أهل السنة أن يكون معصوماً، فقد يخطئ، لكن هناك فرق بين من يخطئ فيوافق كلاماً لأهل البدع، وبين من يتبع أهل البدع في منهجهم الذي يعلم أنه مخالف لمنهج أهل السنة.
هذا الذي يحمل عليه مثل هذا القول، أما أن يفهم منه بعضهم أن أهل السنة فيهم الصوفية وفيهم المتكلمون، وهم يقرون على ذلك وهم ممدوحون وهم من الفرقة الناجية والطائفة المنصورة فهذا فهم خاطئ، وشَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله بل كل واحد وليس فقط شَيْخ الإِسْلامِ لا بد أن تضم بعض كلامه إلى بعض، فلو أخذت جانباً من كلام أي واحد، فقد يظهر لك أنه خطأ أو تحكم عليه بالخطأ، لكن إذا ضم الكلام إلى بعضه فُهِمَ المقصود.
فلو جئت إلى كلام شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله في مواضع أخرى يتكلم فيها عن المتكلمين وعن الصوفية وما فيهم من الضلال والبدع فإنه ينتقدهم ويذمهم، ويعيبهم، ويبين ضلالهم، وانحرافهم وإن كانوا ليسوا من الشيعة، وإن كان بعضهم يدعون أنهم من أهل السنة، فلا بد للحكم على أي إنسان أن تضم كلامه بعضه إلى بعض، وأن ترد المتشابه من كلام أي أحد إلى المحكم، وهذا عام حتى في غير القرآن أو السنة، فالكلام المحكم الجلي بمعنى القطعي وهو النص تحاكم إليه ما قد يشتبه عليك، أما أن تأخذ المتشابه من كلام أي أحد، فبهذا ضل النصارى والعياذ بالله، ويمكن أن يضل به -أيضاً- أي إنسان أو يجور في حكمه على من يقرأ كلامه أو يستمع إليه.(28/6)
صبر الصحابة
السؤال
ذكرتم أن الصحابة كان عندهم قوة في تحمل الواردات، كما كان لديهم من الله فتح ما لم يكن لمن كان بعدهم، ولكن كما تعلمون قصة وقوع عمر بن الخطاب مغشياً عليه من إحدى الآيات التي كان يقرؤها في الصلاة فكيف توجهون ذلك؟
الجواب
هذا لا إشكال فيه، وإنما المقصود أن من تقرب إلى الله تبارك وتعالى وقرأ القرآن وأكثر من تلاوته وأكثر من ذكر الله عز وجل فإن الله يفتح عليه معاني الإيمان، وتجِدُّ على قلبه حقائق إيمانية، فإذا سمع الآيات من القرآن ازداد إيماناً ويقيناً، وفتح له أمور أو حقائق قد لا يستطيع أن يعبر عنها أكثر الناس، لكنه يجدها في نفسه.
وهكذا كلما تفكر المسلم في خلق الله، وكلما ذكر الله، وكلما تذكر الآخرة والموت، وما أعد الله، ازداد إيماناً، وتجلت له حقائق ومعانٍ عظيمة، فمن الناس من يحتملها لقوة أعطاها الله إياه وهم الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- الذين كانوا في جاهليتهم لا يُذكرون ولا يُعدون شيئاً؛ فلما هداهم الله تعالى للإيمان، أحيا الله قلوبهم بهذا القرآن فأصبحت ينابيع الحكمة تتفجر في قلوبهم، ويظهر ذلك في أقوالهم وأعمالهم وسمتهم وهديهم ودلّهم، بما لا يشك عاقل أن هذا من أثر النبوة ومن أثر القرآن.
ولهذا لما رآهم أهل الكتاب في دمشق ومصر وغيرها، قالوا: نشهد أنَّ هؤلاء يتخلقون بأخلاق الأنبياء الذين يقرءون عنهم، وهذا فضل من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم، أن كانت لهم هذه المعاني وهذه الحقائق، فالصلاة -مثلاً- في مظهرها الخارجي يصلونها مثلنا ركوعاً وسجوداً، والقرآن يقرؤنه كما نقرؤه نحن إن كان مجرد أداء حروف، لكن الحقائق الإيمانية التي هي الأساس تختلف عندهم.
فإذن أوتوا مع ذلك قوة التحمل، وجاء من بعدهم من التابعين فكانوا إذا وردت عليهم بعض هذه الواردات لا يتحملون، فتجد أن المعنى نفسه لو ورد على قلب أحد التابعين لسقط -مثلاً- مغشياً عليه، أو تأثر، أو قد يصاب بعضهم بشيء؛ لأن بعض الناس قد يصاب بما يشبه الجنون، أو لا يستطيع أن يتحمل، ليس لأنه مجنون، لكنه ما استطاع ذلك، وقد يعتريه ما يفقده صوابه من شدة استشعاره لهذا المعنى.
فمثلاً: الوقوف بين يدي الله عز وجل خمسين ألف سنة فيقف يتذكر هذا اليوم وهذا الهول، فما يستطيع أن يتحمل، كما نشاهد في واقعنا العادي أن بعض الناس قد لا يتحمل أن يرى -مثلاً- منظر قتل أو حد قصاص يقام يوم الجمعة فيسقط، وبعضهم يراه فلا يتأثر، فالله أعطى النفوس قدرات مختلفة في التحمل.
فالمهم أن أكمل الناس تحملاً في الجملة هم الصحابة ومن جاء من بعدهم؛ ولا نقول: إنهم أكملهم تحملاً للواردات، ولكن لَوْ ورد شيء مما يرد على الصحابة عليهم، لما استطاعوا أن يكونوا أكمل تحملاً، وعلى سبيل المثال ما نقل عن عمر -رضي الله تعالى عنه- إن ثبت أنه مرض أو حُمَّ أياماً لأنه سمع آيات من سورة الطور أو غيرها -مثلاً- هل هذا يناقض ذلك؟ نقول: لا، لأن هذا حالة عابرة عارضة، وإنما كان كلامنا على العموم، فالإنسان القوي الشديد قد يغلب أحياناً، وقد يضعف أحياناً ولاينافي ذلك وصفه بالقوة والشدة والتحمل.
لكن الأصل في ذلك ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعامة الصحابة، فقد كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قرأ القرآن يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل، كأنه القدر الذي يغلي من شدة ما يفتح الله عليه من معارف وعلوم وأسرار، نحن لا نستطيع أن نعبر عنها بالألفاظ التي نستخدمها، إنما ثمرة قراءة الآيات وتأملها وتفكرها وتدبرها تعطي الإنسان مثل هذه الأمور، ومع ذلك فإنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يسقط ولم يغم عليه من أجل آية من الآيات، أما الصحابة فقد وقع ذلك لبعضهم -أحياناً- ولا ينافي الحالة العامة، أما في التابعين فكثر ذلك، ثم في من بعدهم.
وهذا المشاهد في الصوفية، فقد أصبح الواحد منهم يسقط إذا سمع -مثلاً- آية، أو إذا سمع كلاماً عاماً، بل حتى صار بعضهم من شدة ضعف احتماله ورقة حسه، إذا سمع بيتاً من الشعر يسقط مغمياً عليه، يتذكر الأحباب أو الأوطان أو كذا، ويقول: أنا تذكرت الجنة، أو ينوي بهذا البيت الجنة أو دار المقام هناك؛ فيسقط.
وينبغي لنا أن نقتدي بسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما كان عليه الصحابة بقدرما نستطيع فنتفكر في آيات الله وفي ملكوت السماوات والأرض، ونكثر من ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في ملأ أو خالين مع أنفسنا، وفي الحديث: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} فهذا من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ففضل عظيم أن نذكر الله وحدنا، وفي الحديث: {إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه}.
فيجب أن نقتدي بهؤلاء، ومع ذلك نقتدي بهم في قوة التحمل، فإذا قرأت آيات من كتاب الله عز وجل وحصلت لك هذه المعاني الإيمانية، فاحمد الله واثبت، ولا تضعف واجتهد أن تكون كذلك من باب:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إنَّ التشبه بالكرام فلاح
وإلا فلن نحصل على ما يرد على قلوبهم من المعاني الإيمانية العظيمة ولن نكون مثلهم في التحمل، لكن فليكونوا هم قدوتنا الذين نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يحشرنا أتباعاً لهم، وفي زمرتهم إنه على ذلك قدير.(28/7)
دخول الكفار إلى بلاد المسلمين
السؤال
ما رأيكم فيما ظهر في الأسواق مؤخراً من ألعاب وصور تحمل شعارات الكفر والصلبان والنجمة السداسية وغيرها؟
الجواب
لو كنا ندعو إلى الله عز وجل كما ينبغي لأسلم العالم كله إلا من كتب الله عليه الشقاوة، ومع ذلك كما ترون يأتينا دائماً من يذكرنا بعمل أعداء الله مثل هذه المسألة البسيطة -عند الكثير- هذه نجمة سداسية ملونة بعضها حمراء تأتي في بكلات الشعر، وفي الملابس، يريدون أن يغزونا، إن لم نجاهر بالكفر، فهؤلاء الكفار قبحهم الله، يرضيهم منا أن نتزيا بزي أهل الكفر، وأن نلبس شعار أهل الكفر من صلبان ونحوه، فنحن الآن مغزوون، وأصبحنا مستهدفين من هؤلاء الكفار حتى في الشعائر الظاهرة.
وهذه ألعاب على صورة ملونة وجميلة من الممكن أن يجعلها الذي لا يدري بروازاً، ويعلقها، مع أنها وهي صورة كنيسة، والصليب واضح فيها ومع ذلك تدخل البلاد وتنتشر.
وأنا أكرر وأقول: لا نقول المؤاخذون هم الجمارك فقط، أو الرقابة فقط، فهؤلاء جزء منا، فالتقصير عام، ويجب أن نعلم ذلك جميعاً.
وهناك دعاية واضحة للكنيسة الألمانية الغربية، -فلم يخفوا حتى الكتابة؛ لأنهم أمة تدين بهذا الدين- جعلوا شعارهم الكنيسة، وكتبوا ذلك، فهي بضاعة لها شعار مقصود ومتعمد أن يكون رمزاً لدعوة كنسية، فهل اللوم على صاحب الدين الذي يريد أن ينشر دينه؟ أم اللوم على أهل الإيمان وأهل التوحيد الذين طمع فيهم الطامعون، وجعلوهم هدفاً لنشر دينهم وملتهم؟ ومثل هذه النجوم السداسية التي تأتي على الملابس وتوضع في بكلات الشعر وتوضع في أي شيء فيجب أن نحذر منها؛ لأنهم يبدءون بالشعار ثم ينتقلون إلى الشعائر بعد ذلك.
كذلك جاءتني هذه الرسالة وتحتوي على صورة، وعلى رسالة، وهذه الصورة يزعمون أنها للمسيح عليه السلام، وأتوا بكلام من الكلام الذي نقرأ منه أحياناً -كما لا يخفى عليكم- تقول الرسالة: يا ابني الحبيب الغالي، سلام مني، أنا ملك السلام، أنت لا تعرف اسمي، هذا هو اسمي: عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام، أنا الرب.
ولو تتبعتم بشائر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأناجيل لوجدتم أنه هو الذي يدعى مشيراً وعجيباً.
لكنهم جعلوا هذه الصفات للمسيح، وأدخلوا معها كلمات إلهاً ورباً وقديراً إلى آخره، وآخر التوقيع بالخط الكبير أنا الرب يسوع المسيح، تعالى الله عما يصفون كما قال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75] الإله يأكل الطعام! ومن أكل الطعام فإنه يحتاج إلى الخلاء! لا يمكن ذلك للإله أبداً، ولذلك أول ما أنطقه الله قال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} [مريم:30] لا ألوهية فالله تعالى بيَّن لنا هذا، ولكنهم يزعمون ذلك.
والمهم أن ذلك مما في الرسالة ولا نطيل بقراءتها، فالأربع صفحات منها تشتمل على تعليمات، مفادها في آخرها أن يؤمن العبد بأن الرب هو يسوع المسيح، ملك الملوك، ورب الأرباب، خالق الكل تعالى الله عما يشركون، ما أضل عقول النصارى وما أسفه أحلامهم!! وذكر ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان أن أحد ملوك الهند قال: إن النصارى سُبَّةٌ وعار على الإنسانية عموماً، مع أنه من حكماء الهند وما كان على دين كتابي؛ لكن العقل يرفض أباطيلهم وخرافاتهم فكيف يقولون إنه هو الله والرب، ثم يقولون: إنه ولد ونشأ طفلاً ثم في النهاية صلب وقتل، ويرضى أن أعداءه يتسلطون عليه ويصلبونه.
وبعد ذلك يقولون: إنه وهو على الصليب قال: إيلي إيلي لماذا سبقتني؟ ومعناها: إلهي إلهي لم تركتني، لم تخليت عني؟ إذاً هذا عبد مخلوق؛ يقول: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ على كلامهم وإلا فعيسى عليه السلام لم يصلب، كما قال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157]، والذي صُلب هو رجل شبه لهم أنه المسيح؛ لأن جند الرومان ما كانوا يعرفونه، فلما رفع الله المسيح وألقى شبهه عليه قالوا: هذا هو المسيح فذهبوا به، فهو عبد كأي عبد لله وهو يتأوه على الصليب وعند ما أرادوا قتله كان يقول: يا آلهي لماذا تركتني؟ يدعوا الله كأي إنسان حتى لو كان كافراً يدعو، فهذا الذي يقول: إلهي إلهي لم تركتني؟ يقولون: إنه رب الأرباب وخالق الكل، وأعداؤه سلطوا عليه وقتلوه! تعالى الله عما يصفون! وبعد ذلك يقول: وضعوه في القبر ثلاثة أيام، وبعد ثلاثة أيام خرج، سبحان الله! من كان يدبر أمر السماوات والأرض ويرزق ويعطي ويمنع، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، في خلال هذه الثلاثة الأيام، وهو في القبر وهو فوق الصليب يشكو، سبحان الله عما يصفون!! فالمقصود أن هؤلاء النصارى لا يتورعون، ويرسلون هذه الأوراق إلى أي أحد، وأرسلوا -أيضاً- مع هذه الصورة صورة آخر اللحظات عندما كانوا يضعون الصليب ليصلبوه، وجاءوا بكلام من الإنجيل في ظهرها.
وطباعتها طباعة أنيقة كيف أنه في "لوقا" قال المسيح: تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قدرتك، ومن كل فكرك.
وكيف أنهم لما سألوه: احضروا شهود الزور، قال رئيس الكهنة: هل أنت المسيح ابن الله؟ فأجابه: نعم، فحكموا عليه بالموت، فيقول: تفرست جارية في بطرس، فقال: إنك مع يسوع، فخاف بطرس، فأنكر يسوع ثلاث مرات.
فانظر سخافة العقول، بطرس كبير الحواريين باتفاق جميع طوائف النصارى، ورئيس الحواريين وأكثرهم التصاقاً وقرباً من المسيح عليه السلام فينكر معرفته به ثلاث مرات ويتنكر له، ويقولون: إن المسيح قال له قبل أن يصيح الديك مرتين تنكرني ثلاث مرات فوقع ذلك، فهم يستدلون بذلك على أن المسيح يستطيع أن يعرف أو يعلم ما سيكون أو أخبر بشيء فوقع، ولكن ما هو الذي وقع على فرض أن هذا وقع؟ يقول: لكبير حوارييه وأصحابه قبل أن يصيح الديك تنكرني وتتبرأ مني، فالنتيجة أن هذا لا يصلح أن يكون حوارياً، ولا يصلح أن يكون من المقربين لدى عيسى عليه السلام، بغض النظر عن قضية دعوى الألوهية.
فهذا طعن إذاً في الحواريين؛ لأنه أنكر علاقته به خوفاً من أن يصلب، وقال: لا أعرفه، فهذا ليس من مقامات المدح بل هو في مقام الذم والطعن والتنقص، لكن هؤلاء لا عقول لديهم، إنما القضية عندهم تقليد واتباع، فإذا كانوا بهذه المنزلة وبهذه العقلية وطمعوا فينا، فمعنى ذلك أنهم يتصورون أنه ليس لنا عقول لو آمنا بهذا الكلام الذي لا يقبله عقل.
فلهذا قال لهم زويمر: لا تطمعوا أن تخرجوا المسلمين من الإسلام فتدخلوهم في نور النصرانية فهذه درجة عظيمة لا يستحقها كثير من المسلمين، لكن يكفيكم أن تخرجوهم من دينهم، وأن تجعلوا المسلم بلا دين فإن عمل فلشهواته، وإن جمع المال فلشهواته، وإن رضي فلشهواته، وإن غضب فلشهواته في كل شيء، فيكون مسلماً بالاسم لكنه بلا دين.
فيكفي من المنصرين هذا العمل وهذه المرحلة الأولى التي يراها المنصرون أكثر ما يُعمل، وهي إخراج المسلم من دينه، والمرحلة الثانية: إدخاله في النصرانية، هذه مرحلة لاحقة فيما بعد.
فهم إذن يحقروننا، ولا يرون لنا عقولاً وإلا لما كان سفهاؤهم هؤلاء يطمعون في أن ينصرونا، ولذلك هل طمعوا فينا أيام قوة عقيدتنا وإيماننا؟ والله ما طمعوا بهذا الشكل أبداً.(28/8)
نظرة الغربيين للإسلام
هذا أحد الإخوة الغيورين نسأل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يبارك فيه، وأن يكثر من أمثاله من المقيمين في فرنسا، كتب هذه الرسالة المطولة عن نظرة الغربيين للإسلام، وما جمعه من حقائق حول ذلك، منها: السعي الغربي لتذويب المسلمين فيه باسم الاندماج، ومنها مظاهر العنصرية الدقيقة جداً، وعلى أبسط صورها، ومنها: الجار الغربي واختلافه عن الجار العربي، أو أسلوب التعليم إلى آخر الأشياء التي جمعها جزاه الله خيراً، وتدل على ما يكنه هذا الغرب للإسلام والمسلمين.
ولا يخفى عليكم الآن، وكلنا نعلم ذلك أن الغرب الذي يفتخر أنه عرف العدالة والحرية، والمساواة، ومعاني الإنسانية، الآن من إيطاليا إلى أسبانيا إلى فرنسا إلى بريطانيا يغيرون قوانين الهجرة وقوانين الإقامة ليضيقوا على المسلمين، وليسلموا المسلمين إلى من يطلبهم من حكوماتهم، كيف يسلم فلان من أمريكا؟ وكيف يسلم فلان من ألمانيا؟ والقانون لا يسمح، فليغير القانون، فالغرب الذي يفتخر بأنه قانوني أو نظامي وأنه لا يتعدى القوانين والأنظمة، وأنه لا أحد فوق القانون، ولا شيء فوق القانون -كما يزعمون- لكنه يغير القانون، إذا كان في تغييره تحقيق مضرة بالمسلمين أو بمسلم أو بداعية من دعاة الإسلام {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] والأخص منهم المتسلطون وأصحاب الرأي وأصحاب القرار، وإلا ففيهم لا شك من ينكر ذلك، لكن الأغلب وأصحاب القرار والمتنفذين هم بهذه الصفة كما نسمع هذه الأيام.
ومن تشنيعهم وتشهيرهم أنهم ينشرون مثل هذه الصورة المزرية، صورة نوع من القردة، وهو لابس عقالاً عربياً وبيده خرطوش الأنبوبة (البنزين)، يعني أن العربي عندهم وفي نظرهم قرد كالح الوجه يلبس هذا العقال الذهبي، ورأس مالهم هذا البترول، وطبعاً رأس الأنبوبة ليس بنزيناً، إنما هو عملات ورقية، أي: أن أكثر الفئات قيمتها عشرون دولاراً، أو خمسون، فالمهم أن هذا هو العربي أو هذا هو المسلم في نظر الغربيين.
فهذه الصورة صورة عادية عندهم، ونجد الآن في المكتبات لديهم أنها تباع ككروت مراسلات طريفة، فيمكن اختيارها وإرسالها إلى زميل، ليضحك إذا رآها ويرفه عن نفسه، وأن هؤلاء هم العرب وهؤلاء هم المسلمون، وقد قرأنا قبل فترة في إحدى الجرائد المحلية مقالاً بعنوان "عاصمة النور" وإذا به يتكلم عن باريس عاصمة النور -كما يسمونها- وهي بلاد الفسق، والدعارة، والكفر، والظلمات، والفجور، فهذه هي عاصمة النور!! فأي نور جاءنا من الغرب؟! ومتى؟ وفي أي مرحلة من تاريخنا جاءنا النور من الغرب؟ ما جاءتنا إلا الحروب الصليبية، وما جاءنا إلا الاستعمار القديم، والآن يأتينا الاستعمار الحديث وهو أخبث الثلاثة، أما النور فما رأينا أي نور على الإطلاق جاء من الغرب، وإنما يسمي الغربيون باريس عاصمة النور في نظرهم، لأن الثورة الفرنسية قامت ونادت بأن الناس سواء، وأن لهم حقوقاً متساوية، وألغت بعض الظلم الموجود، وهذا أمر معلوم عندنا.
فحتى العرب في جاهليتهم لم يكن عندهم صورة من المظالم، كتلك التي كانت في أيام الإقطاع في أوروبا، بل كان العربي يأنف أن يستعبده أحد، أو يذله، ويقاتل عن حريته إلا إذا أُسِر فهذا مغلوب على أمره، فالنظام الإقطاعي البغيض الفظيع بمظالمه وظلماته التي كانت في أوروبا، لم نعرفه في جاهليتنا، فما بالك بعد أن منَّ الله علينا بالإسلام، وأنار قلوبنا، وحَرْرْنا العالم بالإسلام، والحمد لله.
ولو أنصفوا لعلموا أن الثورة الفرنسية التي لم يمر عليها إلا 200 سنة وقليل من السنوات، إن كانت دعت إلى خير أو إلى مساواة أو إلى عدالة، فهي جزء من تأثرهم بالإسلام، ولا شيء غير ذلك، والمسلمون علموهم ذلك، لكنهم ينكرون ويجحدون كل فضل، ويصورونا بهذه الصورة الشنيعة.
وحتى لا نظلمهم، فهل يقصدون بهذه الصورة الشنيعة صورة الإنسان المسلم دائماً وأبداً؟ لا ندري ولا نجزم، لكنهم يقصدون أقرب شيء يحتجون به على الإسلام أو على المسلمين وهو واقع المسلمين المعاصرين الآن، فلا نقول: إنهم يريدون بهذه الصورة الصحابة أو الجيل الأول أو الثاني ولا نستطيع أن نجزم، لكن الجيل الحاضر الآن هو الذي تنطبق عليه الملامح وتنطبق عليه الملابس التي صوروها وجعلوها.
ولنا دور كبير جداً، في الإساءة إلى أنفسنا وإلى ديننا، وكما قال الشاعر:
ومن دعا الناس إلى ذمه ذموه بالحق وبالباطل
هكذا قالت العرب في حكمتها: ذموه بالحق وبالباطل؛ لأنه دعا الناس إلى ذمه، فمن يذهب إلى تلك البلاد -وهم كثير خاصة في هذه الأيام، وقد قلنا: ذكِّروا الناس وعِظُوهم من السفر إلى بلاد الكفر- فإنه يدعو الناس إلى أن يذموه، وأن يذموا بلاده، دينه وحضارته وتاريخه بما يفعل من موبقات.
إن سكر الغربي قليلاً فيسكر هذا أضعافه، وإن زنا الغربي أحياناً، فهذا لا يذهب إلا ليزني -والعياذ بالله- ولا نتكلم عن الأخيار الذين يذهبون لغرض شرعي محدود، وهذا قليل، ولكن أقصد من ذهب وهذا حاله فهم يتفننون؛ بل نقول: يخرجون عن الحدود المألوفة حتى في الفجور والفساد، والفسق، والكفر، ولدى كل واحد منهم مجموعة من الشيكات أو حزمة من الدولارات، وينفق ويبذِّر ويتلاعب كما شاء، والعالم المتحضر حين يرى هؤلاء تتحسر قلوبهم.
ولذلك لا نقول: أين الضمير الغربي عندما يرى أموالنا تهدر، وعندما يأخذ خيراتنا، ويسيطر على كل مقوماتنا، لا نقول: أين ضمائرهم؟ لأننا -يا أخي- نحن سلبناه ضميره، فأي ضمير عنده؟ لو رأيت مجنوناً أو طفلاً أو عابثاً يرمي الذهب ويكسره، أو يقطع الريالات ويرميها، لقلت: أنا آخذها وأستفيد منها، أو أعمل بها مشروعاً خيرياً، أو أي شيء أحسن من هذا العابث اللاعب، فأعمالنا وتصرفاتنا هنالك تغريهم بأن ينسوا ضمائرهم وأن يتخلوا عنها.
ثم أي ضمير يبقى مع الحقد الذي تؤججه وسائل الإعلام ليلاً ونهاراً؟ وأي ضمير يبقى مع الدعاية الصهيونية والصليبية العريضة التي تلبس كل جريمة ثوب الإسلام؟ فإذا قبض على مجرم في نيويورك أو في أي مكان قالوا: متطرف إسلامي.
فكم مجرماً سمعتموهم قبضوا عليه ونسبوه إلى دينه؟ قبضوا على بعض المجرمين في مصر، مع أنهم جاءوا إلى مصر في عمل تنصيري خبيث، وكان من جملة ما يعملون، أنهم يوزعون مصاحف محرفة فيها تغيير الآيات التي فيها المسيح وغيره، ليوافق دين النصارى ويوزعونها بين الجهال في مصر، واكتشفوا القضية ثم سفروهم وانتهى الأمر؛ وكأنه لم يحدث شيء.
ولم يقولوا: إنهم كفار بروتستانت أو نصارى أو كذا، وإنما: مجموعة من الأمريكان، وكانوا كذا، وانتهى الأمر، سبحان الله! حتى الجرائد التي نشرت هذا الخبر ليست من الجرائد الرسمية إنما هي إحدى الجرائد المعارضة -كما يسمونها- الوفد أما نحن فنلبَّس ذلك.
حتى إن واحداً منهم في إحدى المجلات الإسلامية انتقد هذا، وكان عنده شيء من العدل، وقال: إن تحميل المسلمين لحادث تفجير المركز التجاري العالمي -جميع المسلمين- ذلك يشبه كما لو أن كوروش حمل النصارى جميعاً ما عمله، وقال: لماذا نحمّل الإسلام؟ ليس من العدل.
فهكذا هم، ونحن الذين دعوناهم إلى مثل ذلك، ونشكر الأخ الذي أرسل هذه الرسالة، ونرجو إن شاء الله أن يوافينا بالمعلومات الأكثر؛ لأننا في حاجة أن نعرف هؤلاء ونعرف كيف نقاومهم، وكيف نجابههم، خاصة من فرض عليه أن يقوم هنالك؛ لأن الإخوة هنالك يقولون: كيف نعمل؟ وكيف يمكن أن نقاوم هذا؟ ونحن يجب علينا أن نمدهم بأي شيء نستطيعه، ليدرؤا الشر هناك في منابعه، وليروهم صورة الإنسان المسلم الطاهر التقي العفيف الورع الحكيم الذي لا يسرف في نفقته، وفي ماله، وفي مظهره ولا يقتر، نريد أن يروا الصورة الحسنة للإنسان المسلم، فيسلم منهم كثير بإذن الله، وهذا شيء طبيعي جداً أن يتقبل كثير منهم بإذن الله الإسلام، إن رأوا هذه الأخلاق -أخلاق النبوة-، فمن الواجب أن يكون بيننا هذه الصلة وهذا التعاون.(28/9)
تسلل الصليب إلى أطفالنا
نشرت جريدة المدينة يوم الخميس 25/ 1 / 1414هـ مقالاً بعنوان " الصليب يتسلل إلى أطفالنا " ونقول: الحرب ضد الإسلام والمسلمين تزداد عنفاً، والأعداء لم يتركوا وسيلة إلا واستخدموها لهدم عقول المسلمين في كل مكان، حتى الأطفال لم يسلموا من هذا الغزو، فشعار الصليب كما هو واضح تم إقحامه على لعب الأطفال في أسواقنا.
إن الأمر يحتاج إلى وقفة صادقة لمعرفة المسئول عن هذا التهاون.
وهو كما ذكرت، ونشكر الجريدة والأخ المحرر الذي اهتم بهذا، ويجب أن نعلم أن مهمة الإعلام هي حماية العقيدة أولاً، ثم حماية الخلق وحماية كل مصالح الناس أيضاً بعد ذلك، لكن الأساس هو العقيدة.(28/10)
تنمية المواهب والقدرات
السؤال
لماذا لا يكون هناك محاضن ومراكز تهتم بأصحاب المواهب والقدرات وتنميها كما هو الحال عند الغرب؟
الجواب
أنا أشكر كل الإخوان الذين يتقدمون باقتراحات أو آراء حتى إن بعض الإخوان أحياناً يتقدم باقتراحات ليس لي دخل فيها ولا أستطيعها، فمثلاً: قد يكون هناك اقتراح تعنى به -مثلاً- شؤون الحرمين أو أي إدارة أخرى، فالمهم أن الذي يفكر ويهتم بالإصلاح هذا فيه خير.
ولعل هذا الاقتراح إن شاء الله يصل إلى من يهمه الأمر، فينفع الله به، وإن كان -مثلاً- غير عملي أو لا يمكن فعله فأجر من قدَّمه وأيضاً من قرأه يكتب إن شاء الله، فمثل هذا الأخ اقترح اقتراحاً -جزاه الله خيراً- في تخصيص محاضن تعتني بأصحاب المواهب، ويريد تنمية أصحاب المواهب والقدرات، وكيف أن هناك في الغرب الكافر المتمرد على الله، ويرى تكريمهم لأصحاب القدرات وأصحاب المواهب، ونحن أولى بالتكريم منهم، والحكمة ضالة المسلم فأنَّى وجدها فهو أحق بها، فهو يقترح صورة معينة وقد تكون هناك صور أخرى حول قضية كيف نستفيد من هذه المواهب.
ولا توجد أمة في العالم لديها من المواهب والطاقات العقلية ما لدى هذه الأمة، وإن شئتم أن أضرب مثلاً على ذلك، فلنفرض أننا وهم سواء -ولا أقصد العنصرية- من الناحية الجسدية والتكوينية، فإننا سنتميز عليهم لأننا لسنا مثلهم لأن الخمر والزنا وفقدان الأم والأب تأخذ من عقولهم وأفكارهم كثيراً جداً، فالطفل عندهم ينشأ بلا تربية أسرية سليمة وبلا تربية اجتماعية قويمة، ثم يدمن على الزنا والعياذ بالله، والفسق، والفساد، والمخدرات، والخمور لسنوات من شبابه، وقليل منهم من يسلم من هذا، أو يسلم له عقله.
إن هذا الذي يشتغل بنصف عقل أو بربع عقل وبهذه التربية المنحرفة أنّى يكون أفضل من أمة لديها -والحمد لله- تربية قويمة مهما كان عندنا من خلل، فنحن أفضل منهم من جهة التربية، ومهما كان عندنا في التربية الأسرية من انحرافات أحياناً، فنحن أفضل منهم على أية حال وعلى أية صورة، نحن أفضل من الغرب في الجملة، لا نعني آحاد الناس، ونحن -والحمد لله- نخطط ونفكر بعقل كامل، فكيف يغلبنا هؤلاء.
المشكلة أننا نملك طاقات مهدرة ضائعة فمن ينميها ويربيها ويكتشفها؟! هذه هي المشكلة، فالنابغ مظلوم، وأحياناً نقول بلسان الحال إن لم نقل بلسان المقال: لا نريد النبوغ، فلنأخذ مثالاً صغيراً محدوداً: فمثلاً المدرسة أحياناً يكاد المدرس يقول: لا أريد أن يكون من طلابي من يرد عليَّ ويصحح أخطائي، أنا لا أريد طلاباً نابغين، بحيث إنه يكتشف أخطائي ويلاحظ علي، وكلما كانوا وسطاً أو أغبياء كانوا أحسن لي، والمدير -أيضاً- يريد أن يكون المدرسون كلهم -أيضاً- أغبياء أو وسطاً، حتى لا يكون هناك من هو أفضل منه.
وكذلك -مثلاً- رئيس إدارة أو شركة لا يريد أحداً أن يأتي برأي أفضل من رأيه، فكأننا نقول: لا نريد النبوغ والنابغين! فيأتي أحدهم برأي جديد كتطوير فكرة معينة، فيقال له: هذا كلام فارغ ولا يصلح! ودع كل شيء مثلما هو! إياك أن تطور شيئاً! وإياك أن تُبدع، أو تفكر، أو تقترح، اتركه كما هو، ودع الأمور تسير مثلما هي، مهما كان فيها من الأخطاء! هذه مشكلة ولا يمكن أن تنهض الأمة وهذا حالها، وهذا شأنها، أما لو فتح المجال للإبداع وللفكر، وقيل لصاحب الفكرة نشكرك يا أخي الكريم مثلاً أو يا بني، أو يا تلميذي، أو يا أخي، أو يا زميلي في العمل على الفكرة، لكن -مثلاً- لا نستطيع أن ننفذها لهان الخطب، لكن مع هذا، فينبغي أن تشكره لأنه فكر.
فنحن من ضيق أفقنا، وضيق تفكيرنا أصبحنا نضيق وننفجر بالضحك بمجرد معرفة الاقتراح وأنه لا يوجد بل ولا نريد تغيير، بل ربما يصل الأمر إلى الاتهامات وتركب على الشخص ألف تهمة، فنقول لهؤلاء: إن لم يعجبك الاقتراح -على الأقل- فلا توجد مشكلة، اسمعه وافتح صدرك له ولغيره من الناس، وفكر بعقل غيرك لا بعقل واحد تريد أن تسيِّر عليه كل الإدارة.
ولذلك الغرب الخبيث الكافر المارد، وبالذات أمريكا تفوقت على غيرها لأنها لا يهمها أن يأتي هذا العقل من أي بلد، اذهب إلى مستشفياتهم ومؤسساتهم، تجد الصيني والهندي، والأفريقي، والمصري، والتركي، والياباني، والألماني، وكل جنس تجده في أمريكا في الأمور المهمة الحساسة القوية العميقة، سبحان الله! لم يُنَمِّ المواهب التي عنده فقط، بل يشتري العقل من أي مكان، ويغريه بأعظم الإغراءات، وأي طالب يأخذ الامتياز، ويتخرج بدورة الامتياز، فيحق له أن يأخذ الإقامة الدائمة، ويبقى عندهم لأنه أخذ الامتياز.
ونحن نستغرب من تلك الأمة تريد أن تتفوق، وتحرص على الامتياز، وعندها من أبنائها من يكفي ومع ذلك أعطت المجال لقير أبنائها أيضاً، لأنها تريد أن توظف هذه الخبرات لها في باطلها وفي كفرها وفي كبريائها وفي تسلطها على عباد الله، فنحن أولى بذلك.
فالمهم أنه اقتراح جيد ونشكر كل أخ يحاول أن يقترح ليطور الدعوة، ويحرك التطوير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي النواحي العلمية، وفي المجالات التربوية، وأكثرنا له علاقة بالأمور التربوية إن لم يكن مدرساً فبدعوته، فكل داعية هو مربٍ إلى أن يطور فكره لكي يعمل أفضل.
والحكمة ضالة المؤمن فعسى أن يفتح الله تبارك وتعالى عليك بأمر، وكم من أفكار عظيمة تتبناها مجالس عليا أو قيادية انبثق أصلها من فكرة إنسان عادي جداً طورها ونقحها، ثم قدمها إلى من أضاف إليها أو عدل فيها حتى صار لها قيمة وفائدة.(28/11)
وثيقة جون ميجور
هذه الوثيقة لـ جون ميجور تكلمنا عليها فيما مضى، فالنص الإنجليزي موجود، ولا نجزم بالنص، ويمكن أن نقول: إن الوثيقة مزورة، فنحن لا يهمنا أن نجادل أنه كتب هذا الكلام أم لا، لكن هل لهذه الحقائق واقع أو لا؟ هذا الذي يهمنا.
ما قيل في هذه الوثيقة هو حقائق واقعية وهذه مجلة المجتمع وغيرها نشرت هذا وهو منشور أصلاً في صحيفة ليليان البسنوية، والمصادر التي نسبت إليها هي مصادر إسلامية استطاعت أن تصل إلى هذه الوثيقة، فعلى أي حال هذا جزء مما تحدثنا عنه آنفاً في أن العدو عدو ولا تلمه.
وهذا عمر أبو ريشة عندما قال:
لا يلام الذئب في عدوانه إن يكنِ الراعي عدو الغنم
وهي قصيدة معروفة بعد الهزيمة التي يسمونها النكسة أو النكبةومطلعها:
أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم
فلا تلمِ الذئب؛ لأن الذئب إنما خلقه الله، وكانت له تلك الأنياب والمخالب ليفترس، وإنما المشكلة فينا نحن أننا فرطنا، وجعلنا أمتنا فريسة لهؤلاء في البوسنة أو في أي مكان.(28/12)
القرارات الدولية والكيل بمكيالين
وفي الصفحة الأخرى من مجلة المجتمع نقرأ تأديب عيديد وتدليل كراديتش.
وهذا شيء عجيب جداً أن نتعاطف مع عيديد، وعيديد علماني مهما قال: الإسلام أو الجهاد، فالمصلحة بالنسبة له هي نفعية، ولكن حتى على معيارهم هم، لماذا هذه المعاملة غير المتوازنة؟ فهذا يجب أن يقبض عليه ويؤدب وأن يفعل به وهو في بلده، وأما ذلك فيخالف القرارات الدولية، والشرعية الدولية والإجماع الدولي ويتحدى الجميع، ويدلل، فكل مرة تأتي خطة أفسد وأضعف مما قبلها، وتعطي الفرصة.
لكن قضية المسلمين في البوسنة والهرسك تثير العجب، ولو تأملت أي نشرة أخبار أو تصريح غربي، أو أي كلام على ما سوف يفعلونه، لوجدت فحوى الكلام دائماً كالذي يقول: أيها الصرب عجلوا عجلوا ما فعلتم شيئاً، انتهوا سوف نعقد مؤتمراً، نجعل كذا، ونجمع كذا، ونقرر.
كل هذا وكأنهم يقولون للصرب: هل انتهيتم من المسلمين؟! فيقولون: ليس بعد، فيقولون: حسناً نغير الخطة، ويدعون المسلمين إلى خطط أخرى ومؤتمرات، ثم يقولون بلسان حالهم: هل انتهيتم منهم أيها الصرب، فيقولون: تبقَّى القليل، فيدعونا الغرب من جديد إلى مؤتمرات وحلول وخطة أخرى وهكذا، ونحن المسلمين لا نعمل شيئاً إيجابياً.
إن مشكلتنا من أنفسنا، والله تعالى قال عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، فمشكلتنا في البوسنة والهرسك من عند أنفسنا.
وليست المشكلة وليدة الآن، فعندما دخلت الجيوش التركية فاتحة، وفتحت تلك البلاد، بدأ الخطأ من تلك الأيام، فالحرب بين الصرب والترك قديم، وتدخل الإنجليز والأوربيين فيه قديم، ولو قرأنا تاريخ البوسنة فسنجد العجب كله، وإن ما يدور الآن هو صفحة من ماض، على وتيرة واحدة، وعلى منوال واحد، وعلى منهج واحد، والسبب فيه هو نحن أصلاً.
فلم يدخل العثمانيون والأتراك فاتحين مسلمين بالمعنى الكامل الصحيح، إنما كانوا يقاتلونهم فإذا غلبوهم دعوهم في الجملة إلى الإسلام، وإلا بقوا مسيطرين عليهم بالقوة، ويقي أولئك على دينهم.
وإلا فـ اليونان والبلقان ويوغسلافيا هذه الجمهوريات وما حولها وجزء كبير من الدول الشرقية ورومانيا كلها دخلها العثمانيون فاتحين، فلو نشروا العقيدة الصحيحة واللغة العربية وأدخلوا الناس في دين الإسلام، لكانوا مسلمين جميعاً.
حكومة مسْلِمة تحكمهم (400) سنة ثم تخرج عنهم، فإذا بالمسلمين أقلية!! نحن أصلاً ما كنا حملة عقيدة، ولا حملة رسالة بوعي.
صحيح أن الدولة العثمانية كانت دولة قوة وجهاد لا ينكر ذلك أحد، والحمد لله أنها دفعت شر أوروبا فحولت المعركة من بلاد الشام ومصر، إلى أن صارت المعركة في قلب أوروبا نفسها، وهذا لا شك عمل كبير.
لكن المشكلة أن الجهاد بلا عقيدة ولا علم ولا فقه لا يصلح، لا للأمم ولا حتى للأفراد.
فالجهاد لا بد أن يكون على عقيدة وعلى علم، وعلى معرفة تفصيلية بما أنزل الله تبارك وتعالى، كما جاهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجاهد أصحابه، فيفتحون البلاد وإذا بهذا البلد المفتوح، يفتح الله قلوب أهله، فيدخلون في دين الله أفواجاً، ويأتون إلى هؤلاء الرجال الأخيار يتعلمون منهم الدين، ثم ينشرون هم الدين، ويصبحون مجاهدين ولكن قوة الحديد والنار والسيطرة العسكرية وحدها لا تدوم إلى الأبد، وهذا ما وقعت فيه الدولة العثمانية من خطأ كبير.
فلما جاءت الشيوعية وجاء تيتو صديق العرب!! وانظروا من أصدقاؤه من العرب: جمال عبد الناصر، وحزب البعث، وأمثالهم ممن بعضهم باقٍ وبعضهم أهلكه الله.
وتيتو هو الذي قتل المسلمين في يوغسلافيا، ومحا معالم الإسلام أيضاً.
كوشيجين وخرباتشوف واستالين الذين فعلوا بالمسلمين ما فعلوا في روسيا.
ونيريي الذي قتل المسلمين في زنجبار، ونهرو الذي فعل بالمسلمين في الهند وما حولها ما فعل، ومكاريوس الذي قتل المسلمين في قبرص، وأعداء الإسلام جميعاً كانوا كلهم أصدقاء للقومية العربية.
فالمقصود من الحديث أن ما بنا فهو من عند أنفسنا فعلاً، فقد صادق القوميون العرب أعداء الإسلام، وأعانوا على قتل إخوانهم المسلمين، وأمدوهم بالمال وبكل أنواع العلاقات.
وأبيد من المسلمين من أبيد، وفرقوا ومزقوا، ثم لما ذهبت الشيوعية وتهاوت -لا ردها الله- وأخذ المسلمون يبحثون عن الذات، والعالم كله بدأت فيه عودة إلى الدين، أراد المسلمون أن يرجعوا إلى دينهم، وقامت لهم دولة اعترف بها العالم، فكانت المأساة وبدأنا ندفع ضريبة قرون وعقود من المآسي والجهل والانحراف والضياع.
وأحدنا يتعجب من الكروات! لم يصمدوا أمام الصرب ولا ساعات، والمسلمون الآن سنة وهم صامدون شيء عجيب، وهم بهذا الضعف وفيهم هذا الانحراف وهذا الخلل، وهذا القصور، وهذا التمزق، فلو أننا أمة مؤمنة حقاً، لكان من يقاتل الآن في البوسنة في إمكانه أن يهزم أكبر جيش أوروبي، وأن يفتح أوروبا بإذن الله؛ لأن قوتنا نحن في عقيدتنا وفي إيماننا، كما قال عمر رضي الله عنه: [[إنما يغلب المسلمون أعداءهم بتقواهم وإيمانهم، وبكفر أعدائهم، فإذا استوينا نحن وهم في المعصية، كان لهم فضل علينا في القوة]].
فسبحان الله! انظروا هذا الصبر العجيب للبسنويين الآن وهذا الصمود وأحياناً تتحقق لهم انتصارات، وهم في أول طريق العودة والأوبة إلى الله، وهذا هو السر المزعج الذي يزعج الغرب، ويجعله يفقد توازنه.
فنجد أن كراديتش مجرم الحرب قد قتل من جنود الأمم المتحدة قرابة (50) فرداً، ويمنع قوافل الأمم المتحدة من المرور ويطلق عليها النار كل يوم، ومع ذلك يتنقل بين عواصم العالم ويستقبل كزعيم يقابله الممثلون الدوليون وكأن شيئاً لم يكن.
وهذا عيديد عندما قتل مجموعة من الباكستانيين، هرب الأمريكان، فصار المسلم يقتل المسلم ولم نستفد شيئاً، لكن مع ذلك لم يقتل عيديد جنود الأمم المتحدة، فإذا به يضرب ويُدمر، وأصبح يُقْتل حتى العوام في الصومال، وحتى المستشفى يدمر؛ لأن النار أطلقت على جنود الأمم المتحدة، والذين في البوسنة أليسوا جنوداً للأمم المتحدة، فانظر كيف المعيار.
إن أعداء الدين يعرفون خطر هذا الدين، وأن خطره عليهم يكمن في العقيدة وفي الجهاد وما يسمونه الأصولية والتطرف، فعندهم هيبة ورعب يقذفه الله تعالى في قلوبهم، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {نصرت بالرعب مسيرة شهر} وهذا ليس لشخصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحسب بل لجيوشه ولكل من يدافع لنصرة دينه، وذلك مثل ما جاء في الحديث {وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً}.
هذا أيضاً من آيات الله ومن فضل الله ومن مزايا هذه الأمة وتفضيل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو له ولهذه الأمة كلهم.
والمقصود أن هذا جانب من جوانب الرعب الذي ألقاه الله في قلوب الأعداء.
كما أنهم يمتلكون قوة حقيقية غريبة لا يستطيع الكفار أن يواجهوها، وإلا فلماذا يذهب الشاب المسلم إلى أمريكا ويدعوا إلى الله على نافلة الوقت، ولا يرجع بإذن الله إلا وقد أسلم على يديه مجموعة من هؤلاء، وعن رضا وطواعية واختيار ومحبة في للدين، ويصبح قلبه وولاؤه إسلامياً، سبحان الله! وهم يبعثون آلاف المنصرين من أجل هذا، ومن تنصر فهو لجهله صحيح أنهم ينصرون بالملايين ولا نقلل من أهميتهم، لكن لا يستطيعون أن يملكوا قلبه وشعوره ولبه، فسبحان الله! فرق كبير بين الأمرين، وإن كان في الظاهر أن هناك نجاح.
إذاً هذا الدين سره العجيب أنه حق، وأنه من عند الله عز وجل، وأنّ الله عز وجل تكفل أن يظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
ولكن مهما أيقنوا أن الله مظهر دينه فإنهم لا يكفون عن محاربته بأنفسهم أو بعملائهم أو بأجهزتهم، فأي شيء أنت تراه عادياً جداً يخيفهم؛ لأن أهل الباطل دائماً يخافون من الحق.
فلو أن عصابة اجتمعت من أعتى الدهاة فكرياً وسرقوا مالاً لأحد، ورآهم طفل، لظلوا يخافون من هذا الطفل الصغير أن يتكلم عليهم ويدلي بأوصافهم لأنهم على فجور وباطل، وذلك الطفل على حق، فلذلك نحن مهما كان ضعفنا؛ فإنهم يخافون من أي عمل نعمله، ويخافون من أي داعية يدعو، ومن أي كتاب، ومن أي فكرة وإن كانت صغيرة، يخافون منها؛ لأنها حق، وهم يعلمون أنهم على باطل.
فمن هنا نعرف أن أول وأهم غرض يجب أن نسعى إليه هو أن نزرع هذه العقيدة والإيمان والولاء والبراء في نفوس هذه الأمة، فالعقيدة ليست كلاماً مجرداً ونظريات مجردة.
بل لا بد أن تظهر العقيدة عملياً في صورة الولاء والبراء، بأن توالي من والى الله ورسوله، وتعادي من عادى الله ورسوله، وتعلن ذلك وتجتهد فيه.
ومن هنا يجب أن نعلم أن أي حدث يقع في أي بلد من بلاد المسلمين لا يصح أن يفسر بأي تفسير، ولا ينبني إلا على أصل العقيدة والطاعة والمعصية.
والقاعدة التي علمنا الله تبارك وتعالى إياها في كتابه وعلمناها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هذه المصائب، وهذه المحن وتسليط أعداء الله علينا، لا تفسر إلا بمعصيتنا لله لنرجع إلى الله، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إذا تبايعتم بالعينة واشتغلتم بالزرع وأخذتم بأذناب البقر وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا(28/13)
النقل الجماعي والشريط الخبيث
السؤال
نرجو من فضيلتكم توجيه نصيحة لشركات النقل الجماعي التي توظف عمالاً أو سائقي باصات من النصارى، وقد وجد مؤخراً شريط يباع في عدة تسجيلات يحمل الكثير من الخبث ويباع بريال واحد؟
الجواب
هاتان قضيتان الأولى تتعلق بشركة النقل الجماعي، وقد بلغنا أن بعضاً من الحافلات قد يكون السائق فيها نصرانياً، ويفتح المسجل ويضع فيه شريطاً تنصيرياً.
وبعض الحافلات على الطريق الطويل فيها تلفزيون أو فيديو وتعرض أفلاماً غير لائقة، فهذه بعض الملاحظات على النقل الجماعي، نرجو التأكد منها والتثبت من ذلك، وعلى أية حال فالمهم أن التناصح واجب بيننا وبينهم.
وأنصحهم بنصيحة أخرى وهذه منذ زمن وأنا أتحين الفرصة لها، أن شركة النقل الجماعي توظف في بعض ورشها، أو في كثير منها النصارى، وأسوأ من ذلك أن بعضهم إذا أسلم، فإنه لا يعامل المعاملة اللائقة، فلعل هذا الصوت يصل إليهم إن شاء الله، ولعل من فيه غيرة منهم -ونرجو أن يكونوا كثيرين إن شاء الله- أن يهتم بهذا الموضوع.
والموضوع الآخر يقول الأخ: إن هذا الشريط كما ترون وهو شريط مغلف وملون بشكل جميل، يبدو أنه باللغة التركية -والله أعلم- يقول: وهذا الشريط يباع بريال واحد في تسجيلات -ذكر اسمها- وهو من أقبح الأشرطة، وهو وسيلة لمحاربة دين الله.
علماً بأنه لا توجد أي تسجيلات إسلامية تبيع بهذا السعر، كيف يعقل أن تكلفته وتسجيله ريال واحد؟! إذاً الأشرطة مدعومة، ولها أغراض خبيثة، أو وراءها ما وراءها، وإلا كيف يكون بريال واحد لاغير؟ كل واحد يحللها بما يشاء.
والمقصود هذا الخبث والخلاعة، والفجور، والتنصير وبريال، هذا ريال للمفرد، والذي يأخذ بالجملة، فبكم سيكون؟ معنى ذلك أن هناك أيادٍ خبيثة تريد أن تهدم الإسلام والعقيدة الصحيحة، ولنفرض أنه لا يشتريه أو لا يسمعه إلا من يفهم هذه اللغة -إن كانت تركية أو أي لغة- أليس من الواجب علينا- وهؤلاء بين ظهرانينا- أن نعلمهم العقيدة الصحيحة وندعوهم إلى الله.
كم عندنا من الدروس باللغة التركية في جدة؟، لا أعرف درساً، مع أن الأتراك في جدة بالآلاف، فانظروا المطاعم، وهناك شركات كثيرة وغيرها ولا يوجد درس واحد لهم! إذاً فنحن قد تركناهم فريسة لهؤلاء، فيأتي هؤلاء بهذه الأشرطة، وأشرطة الفيديو أخبث، ومجلات تأتي من تركيا أخبث، وليست تركيا وحدها، هذا مثال فحسب، وهناك أيضاً الفلبين وتايلاند وعندك من هم أشد، ونحن المقصرون في هذا الواجب، نسأل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يوفقنا لتلافي ذلك، وأن لا يجعل حديثنا دائماً على سبيل أن نلوم أنفسنا أو بعضنا يلوم بعضاً، نريد أن يدفعنا كل ما يأتي من هذه الأمور للعمل، فلنفكر جميعاً على الأقل فيما نستطيع.
أنا آخذ كتيبات باللغة التركية، وأعطي صاحب المطعم الذي بجواري في الحي، واشتري منه، إن كان يفهم اللغة العربية أيضاً أكلمه بها.
وبالمناسبة -أيضاً- لو كان عندكم بعض الكتب عن الرافضة أو عقائدهم فاعطوهم إياها؛ لأن كثيراً من الأتراك المتكلمين باللغة العربية، والذين يعملون بالمطاعم والمسالخ هم نصيرية علوية، فهم من أقبح أنواع الرافضة من جنس النصيرية الذين في سوريا.
إذاً لا بد أن ندعوهم إلى الله ونعرفهم العقيدة الصحيحة، وإلا حرمت ذبيحتهم علينا وأكلهم وطبخهم، ولا ندري فهم -أيضاً- يتعمدون أن يفسدوا علينا شيئاً من ذلك.
وللأسف أن المرء منا يأتي بالعمال أياً كانوا، فيهمه أنهم متميزون في نظره ويقومون بالواجب في الشغل، ولا يسأل عن دينهم ولا عن عقيدتهم، وأيضاً الزبائن من أمثالنا، يهمه أن يشتري ويمشي، ولا يفكر كيف يدعوهم، وهكذا نصبح نحن المقصرين بكل حال، ونحن مسئولون بأي حال.
هذه العبر سواء ما يتعلق منها بالواقع العالمي، أم بالواقع المحلي، أم ما نراه من مثل هذه النشرات والأشرطة والدعايات والبضائع، وكل هذه تذكرنا أن عقيدتنا مستهدفة، وأن الواجب علينا أن نحافظ عليها، ولا يكفي أن نقول -الحمد لله- نحن مسلمون وطيبون وموحدون ونحن ما قلنا: إننا مشركون، لكن قد ننسى هذا ونضيعه، وقد نصير إلى حالة، كما ذكرها الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] شَعَرَ أو لم يشعر.
تنتشر شعائر الكفر وتنتشر معالمه وتنتشر دعاياته، ويحبب إلى نفوس الناشئين من الأجيال، غير ما في البث المباشر ومصائب الدشوش وغير ما في الصحف وغير ما في الإعلام الذي أصبح مفتوحاً للعالم كله، ونحن ما قمنا بالواجب لا في المسجد، ولا في الإدارة، ولا في العمل الذي نعمل فيه.
فبارك الله فيكم اجتهدوا في هذا، ولا تملوا أن يكرر عليكم هذا الكلام؛ لأن الأعداء يستفزوننا كل حين، والشيطان عدونا يعمل كل حين، فيجب أن نذكر أنفسنا أيضاًَ، ونعمل كل ما نستطيع، ولا يقول الواحد منا: إنه لا يستطيع أن يتكلم أو يعظ.
فمثلاً خذ كتاباً أو نشرة أو شريطاً وأعطه من يستفيد منه.
نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا وإياكم إلى ما يحب ويرضى، وأن يجعلنا من الدعاة إليه على منهج رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.(28/14)
لماذا نستدعي أمريكا؟
تحدث الشيخ حفظه الله عن الحرب المستعرة في الخليج العربي، ذاكراً الأسباب المؤدية إلى ضعف الأمة وتكالب الأعداء عليها، مبيناً واجب الأمة الإسلامية في ظل هذه الأحداث، ثم ذكر مخططات الغرب واستعداده وجمع جيوشه وحشوده الهائلة لهذه الحرب، وتحدث عن استمرار الحروب والعداوة مع الروم إلى قيام الساعة، موجهاً نداءه لشباب الإسلام داعياً إياهم إلى إخلاص التضرع واللجوء إلى الله، والإعداد الصحيح لمواجهة الأعداء.(29/1)
مفاجأة الأحداث
الحمد لله القائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1]، والقائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد القائل: {إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، واشتغلتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم}، وعلى آله وأصحابه والتابعين، الذين جاهدوا في الله حق جهاده، ولم تأخذهم في الحق لومة لائم، أما بعد: أهمية الموضوع: فيأتي هذا الكلام، في ظروف حرجة، وفي أزمة صعبة تعيشها الأمة الإسلامية من أقصاها إلى أدناها، وفي فتنة تدع الحليم حيران، ولكن ماذا عسى أن يفعل المؤمن؟ وماذا عسى أن يفعل طالب العلم وطالب الحق إذا عرف شيئاً من الحق وفتح الله بصيرته له؟ ليس إلا أن يبلغه؛ ليكون من الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه، ولا يخشون أحداً إلا الله؛ وذلك عملاً بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الدين النصيحة}، وكما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبايع أصحابه؛ فقد بايعه جرير بن عبد الله رضي الله عنه {على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم}.
إذاً: فلابد أن تقال النصيحة، ولابد أن تقال كلمة الحق لهذه الأمة التي غرقت في شهواتها وملذاتها؛ إلا من رحم الله تبارك وتعالى؛ فلابد أن تقال النصيحة، فإن قبلت فذلك ماكنا نبغي، وإن لم تقبل فكم رُدَّ من نصائح من قبل، وفما كان منها من صواب فهو من الله، وما كان من خطأ فمن النفس والشيطان، أعاذني الله وإياكم من شره.
إننا نعيش هذه الأيام أزمة ونريد وقفة، بل إنه نحتاج إلى وقفات عاقلة، متأنية، بعيدة عن العواطف؛ لننظر في هذه المصيبة الراهنة، وما الذي أوصلنا إليها؟ وكيف آل بنا الحال إلى هذا المآل؟ وماهي الأسباب وراء ذلك؟ وهل من سنن لله تبارك وتعالى في تغيير هذه الحال؟ وماذا نفعل؟ وماذا يجب علينا -نحن طلبة العلم بالأخص- أمام هذه المواقف العصيبة؟ أقول: إن الأحداث التي حدثت فاجأتنا جميعاً، وسر المفاجأة عندي يكمن في عنصرين: الأول: غفلتنا إلا من رحم الله تبارك وتعالىعن قراءة سنن الله في الكون، وفي الأمم قبلنا، مع أنها في كتاب الله واضحة كل الوضوح، وكذلك غفلتنا عن قراءة تاريخنا الإسلامي، وماذا يكتنفه في كل صفحة من صفحاته من العداء ومن البلايا والمحن؟ فقد عشنا حقبة من الزمن في هذه البلاد في ترف ونعمة ورخاء، وماكنا نحسب أن هذا الحال قد يتغير أو يتبدل أو يهتز، فكأننا قد أمنا عقاب الله، وأمنا مكره {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] نسأل الله العفو والعافية.
وكأننا قد أخذنا من الرحمن موثقاً أن لا يعذبنا؛ وإن ارتكبنا ما ارتكبته الأمم قبلنا فعذبت به، وكأننا ينطبق علينا ما ذكره الله تبارك وتعالى عن بعض كفار قريش، فقال: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم:78]، لا والله لا نعلم الغيب، فالمستقبل محفوف بالمخاطر، وينبغي أن نتوقع ذلك، ولا عهد لنا من الله، إذ ليس بين الله تعالى وبين أحدٍ من خلقه نسب إلا التقوى، وإنما عهد الله وتأذن بالنصر والتمكين لمن شكر النعمة، أما من كفرها وبطرها وبدَّلها كفرًا؛ فإن مصيره كما ذكره الله عز وجل في كتابه الكريم في آيات كثيرة.
الثاني: الذي جعل المفاجأة بهذا الشكل: هو أننا لا نقرأ ما يقوله أعداؤنا؛ بل لا نحاول أن نتعرف عليه، ومن هنا وقعنا في خطأ كبير أدى إلى هذه المفاجأة وهذا الذهول، وقد صدق وهو كذوب من قال: 'إن العرب لا يقرءون، والمشكلة أنهم إن قرأوا فإنهم لا يحللون ولا يفهمون، وإن فهموا فإنهم لا يعملون، وإن عملوا فإنهم لا يصيبون ولا يسددون ماداموا عرباً" أي: ما دامت الرابطة والجامع هو العروبة، ومادام الاسم ليس اسم الإسلام، وليست رابطة الإسلام.
في الواقع أن هذه الأحداث التي نراها هذه الأيام ليست بجديدة ولا غريبة على من تتبعها، أو على من يتتبع ما يقال وما يكتب، فضلاً عمن يقرأ ما ذكره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من أحوال الأمم قبلنا حين عصت الله.
فإن زوال النعم متوقع، وإن نقص الأموال والأنفس والثمرات، هو الذي يجب أن يتوقع؛ لأننا لسنا على مستوى من الإيمان، والتقوى والصبر الذي يؤهلنا لدفع هذا العذاب عنا، إلا أن نكون مجاهدين بدلاً من أن نُغزى في عقر دارنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أما الجانب الأول من الأعداء -وهو الذي هزنا جميعاً وفاجأنا- هو حزب البعث، ذلك الحزب الملحد المرتد الكافر.
إني أقول بكل أسف: كنا نعلم أنه حزب مرتد كافر -أعني: من يعلم ذلك منا- ولكن ذلك لم يُبَيَّن، ولم تُقَلْ كلمة الحق كما ينبغي؛ ونحن الدعاة أول المسئولين في هذا الجانب، فقد قصَّرنا كثيراً في توعية الأمة بحقائق هؤلاء القوم، ثم إننا نسينا أنه حزب صليبي، وأن الذي أسسه رجل صليبي ومايزال الرجل الثاني -تقريباً- فيه صليبي، فكان ينبغي لنا أن نعلم ذلك.
وقد ذكر لنا ربنا عز وجل أن اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض، وأنهم صليبيون يأتوننا بأسماء أو شعارات عربية، ويأتوننا بوجوههم الكالحة المكشوفة في العالم الغربي، وكلهم عداوتهم للإسلام واضحة.
ولن أطيل في ذكر الحديث عن هذا الحزب وكفره وضلاله، ولا عن هذه العداوة التي يكنها للإسلام والمسلمين، ولا عن هذا الهجوم الذي أراد أن يُباغت به المسلمين، وأن يكتسح به ديارهم، فذلك معلوم معروف، وقد ظهر الآن، ولكني أحب أن أعرج -ما أمكن- على الجانب الآخر من العداوة.
وهو: جانب اليهود والنصارى والغرب، إذ يخشى الإنسان في زحمة الأحداث، ومعتركها أن يضيع أمراً وجانباً عظيماً من جوانب العقيدة، وهو: الولاء والبراء، ويخشى أن يؤدِّي ماحصل من أحداث إلى أن يكون في قلوبنا مودة للذين كفروا وهم أعدى أعدائنا، نسأل الله العفو والعافية.
فمن هنا لما رأيت الخطر محدقاً على إيماني، وعلى إيمان إخواني المسلمين فيما يتعلق بموالاة المؤمنين، ومعاداة الكافرين، والموقف من اليهود والنصارى، وأن الاستثناء ربما أصبح عندنا قاعدة عامة، قلت: لابد أن أبين لإخواني هذه الحقيقة، وأن أعرفهم بخطر هذا العدو الآخر مهما يظهر لنا من أوجه أو تقنع بأقنعة؛ فإنه عدونا إلى قيام الساعة، وكما قلت: إن البعثيين هم أعداء ساعة، وما هي إلا نطحة أو نطحتان -كما جاء في الحديث عن فارس- ثم يذهبهم الله عز وجل كما يشاء، ولكن العدو الأبدي الذي هو عدونا إلى قيام الساعة كما أخبر النبي الصادق المصدوق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم هؤلاء الروم (الغرب) الذين تكالبوا علينا من كل جهة، وجاؤونا من كل فج عميق.
إذاً يجب أن نُقدِّر الضرورة بقدرها، ولكن علينا مع ذلك أن نُقدِّر أسباب هذه الهجمة، ولماذا جاءوا؟ وماهي العواقب الوخيمة التي قد تنتج عن وجودهم بيننا؟ ولنكن في كل أمورنا ملتزمين بأمر الله، وبشرعه، وبدينه؛ ولا مانع أن يذكر بعضنا بعضاً بما نسينا أو غفلنا عنه في هذا الجانب.(29/2)
احتلال الخليج والإعداد الأمريكي المسبق له
تبتدئ مشكلة ما يمكن أن يُسمى الوجود الغربي في الشرق الأوسط -كما يسمى- منذ عهد الرئيس نيكسون بعد مرحلة من مراحل الوفاق الدولي، والتي لم تتم كاملة مع الاتحاد السوفيتي.
وقد ذكر الرئيس نيكسون في مذكراته -وهي مطبوعة ومترجمة إلى اللغة العربية- وكذلك في كتابه الحرب الحقيقية، فألمح إلى ضرورة وجود أمريكي في المنطقة في منابع النفط، وعلل ذلك بتعليلات يهمنا منها أنه ركز على قوة العراق وهيمنتة وخطره، أو أن يُتخذ أداة من قبل الاتحاد السوفيتي، أو من قبل زعامات إقليمية فيكتسح منابع النفط ومناطقه، فمن هنا كان لابد من تفكير وعمل جاد لردع هذا العدوان المتوقع.
ثم أعقب ذلك قراراً أصدره الرئيس كارتر في (18 أغسطس عام 1977م) أي: قبل (13 سنة) من طرح الموضوع وتضمن القرار أنه لابد من وجود حماية عسكرية لمصالحنا في الخليج، وكان ذلك بعد تمثيلية الرهائن الذين كانوا محتجزين في طهران، وبعد الحدث الرهيب الذي هز الأمة الإسلامية جمعاء: وهو احتلال الاتحاد السوفيتي الشيوعي لأرض أفغانستان المسلمة المجاهدة، الذي كان بعد عملية الرهائن بستة أسابيع، ثم اتخذت الاحتياطات العملية للتنفيذ، وبُدِئُ في تشكيل هذه القوة أول عام (1980م) أي: أن هذا الأمر قد رُتِّب له في أواخر السبعينيات، ثم بدأ في أوائل الثمانينات، فقد شكلت أو عينت الفرقة التي سوف تقوم بالعمل، وهي الثانية والثمانين التي نفذت عملية الرهائن.(29/3)
كتاب قوة الانتشار السريع وتوقعاته للأحداث
ولكي نأتي ببعض الأدلة على هذا ولكي يتضح الواقع بالبينات المقروءة حسياً، فهذا كتاب من الكتب قوة الانتشار السريع والتدخل العسكري الأمريكي في الخليج الذي صدر سنة (1983م- 1403هـ) أقرأ لكم بعض الإثباتات منه.
وهذا الكتاب عبارة عن تقرير أُعدِّ ونُشِرَ في مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية، وهو تقرير أمني، ومع ذلك نشر وترجم إلى اللغة العربية، وصدر وطبع عام (1403هـ) كما ذكرنا.
يبدأ التقرير بذكر التهديدات التي يُمكن أن تجتاح منطقة الخليج، وذكر ثلاثة منها: أولاً: عدوان سوفييتي مباشر على المنطقة كما حدث في أفغانستان.
ثانياً: العدوان بواسطة قوات إقليمية أخرى ضد دولة منتجة للنفط.
ثالثاً: الإرهاب أو التمرد أو الثورة داخل الدول المنتجة للنفط.
لكن التقرير -نفسه- يستبعد الاحتمال الأول، ويقول: إن الاتحاد السوفيتي لم ولن يفعل ذلك.
وقد تأكد ذلك بعد الوفاق الدولي الذي تم في أيام جورباتشوف.
أما الاحتمال الثاني: وهو القوة الإقليمية فهو الذي ركز عليه كثيراً في هذا التقرير.
يقول التقرير: إن إمكانية بروز العراق كقوة عسكرية مهيمنة على شبه الجزيرة العربية يشكل تهديداً محتملاً وتحدياً عسكرياً لمصالح الولايات المتحدة في الخليج، واحتمال وقوع هجوم عراقي على الكويت أو العربية السعودية، احتمال يستحق اهتماماً خاصاً للأسباب الآتية:- أولاً: كان هذا الاحتمال وارداً حتى قبل الحرب العراقية الإيرانية، ومؤثراً على التخطيط للقوات الأمريكية اللازمة لمواجهة احتمالات خارج دائرة اختصاص حلف شمال الأطلسي.
ثانياً: القوات المسلحة العراقية ذات التسليح السوفيتي هي الأكبر بين القوات المسلحة لـ دول الخليج.
ثالثاً: كون حقول النفط الرئيسية في الكويت والسعودية قريبة -نسبياً- من الحدود الجنوبية للعراق.
ثم يُذَكَّر أنه قد حاول العراق غزو الكويت في عام (1961 - 1381هـ) ولم يردعه إلا القوات البريطانية وقوات الجامعة العربية.
ويقول التقرير: هذه العداوات تُشكل عامل تفجير محتمل في المنطقة -خصوصاً- إذا أخذنا في الاعتبار الضعف العسكري النسبي لجيران العراق.
ثم يقول أيضاً: لا جدال في أن استخدام الولايات المتحدة للقوة العسكرية لصالح دولة مهددة من قِبَلِ العراق ينبغي أن يستند إلى طلب أكيد للمساعدة من جانب الدولة المهددة؛ إلا أن المشكلة تكمن فيما إذا كان من الممكن ورود مثل هذا الطلب قبل أن يبدأ القتال؛ لأن وصول القوات الأمريكية المقاتلة قبل الحرب -إلى أراضي الكويت والسعودية - سوف يُعرض شرعية حكومتيهما للشبهة في أعين شعبيهما وفي أعين العالم العربي ككل، ناهيك عن أن مثل هذا العمل قد يُتَّخذ ذريعة لوقوع الغزو الذي جاءت هذه القوات لمنعه.
ثم يقول التقرير بعد ذلك: إن الحساسيه السياسية التي تشعر بها الدول التي يمكن أن تكون دولاً مضيفة تجاه أي وجود عسكري أمريكي -دائم- على أراضيها أمر مفهوم؛ لإن مثل هذا الوجود سيكون بمثابة إثبات لصحة الانتقادات التي يوجهها الثوريون العرب إلى دول الخليج المحافظة عن التزلف للإمبرياليين، ومن ثم زيادة الاضطراب الداخلي الذي يشكل أهم التهديدات المحتملة.
ثم يؤكد على أن العديد من دول الخليج مازالت تعتبر دعم الولايات المتحدة لإسرائيل أكثر تهديداً لأمن العالم العربي، مما يُؤدِّي إلى احتمال ظهور أفغانستان أخرى في شبه الجزيرة العربية؛ بل وإن بعضها يشك في نوايا في الولايات المتحدة، ويرى أنها طامعة في حقول النفط في الجزيرة، ويذكر التقرير أمثلة على ذلك قائلاً: يبدو هذا الشك واضحاً في التصريح التالي للشيخ صباح الأحمد الصباح وزير خارجية الكويت؛ ثم ذكر تصريحين: الأول: للسفير الكويتي في أمريكا، والثاني: لـ صباح الأحمد الصباح وزير خارجية الكويت هذا قبل عشر سنوات من الموضوع- عندما عرضت أمريكا عليه إفساح المجال لإعطاء تسهيلات في المنطقة، وخوفهم من أن العراق سوف يهاجم الكويت.
فكان جواب وزير خارجية الكويت يقول: الدفاع عنا ضد من؟! من الذي يحتلنا؟! إننا لم نسأل أحداً أن يدافع عنا، ورغم ذلك نجد كل هذه السفن حولنا تطلب تسهيلات إن المسألةً -كلها- تبدو وكأنها جزءٌ من فيلم لمخرجين اثنين هي (روسيا والولايات المتحدة) ولكن كيف ستكون نهاية هذا الفيلم؟ ربما باتفاق القوتين العظميين على أن يقولوا هذا النفط لنا، وتلك لكم، وسوف نقسم المنطقة من هنا إلى هناك.
وعن ذلك أجاب السفير الكويتي بهذا القول عندما قيل له: العراق قد تهاجمكم، قال: لن تهاجم إخوانها.
فقيل: قد يقوم ضدكم بعض المقيمين من بعض الشعوب في الكويت؟ قال: هؤلاء إخواننا ونشأوا في عطفنا وفي رعايتنا، ولا يمكن أن يكونوا علينا؛ ولكن أنتم بصدد إخراج فيلم، وسوف تخرجونه إن طلبنا وإن لم نطلب.
والعجيب! أن الفيلم كان قد أعد -فعلاً- وبالتقرير -أيضاً- ما يدل على ذلك وليس غريباً، بل مذكور أنهم عمدوا إلى أنواع من الإجراءات -كما يسمونها: السيناريو- (بدائل) عن كيف يمكن أن يكون الإخراج، وكيف يمكن أن تكون العملية؟؟!! فقد ذكر التقرير ص (143) [في عديد من سيناريوهات الطوارئ المحتملة في العالم الثالث أنه: سيكون على سلاح مشاة البحرية أن يواجه عدواً متفوقاً بالعدد والعدة، وربما كانت قوته بالعدة نوعياً وكمياً معاً.
فعلى سبيل المثال: إذا تصورنا إمكانية تدخل سلاح مشاة البحرية لمساعدة السعودية ضد هجوم عراقي، فسنجد أننا بإزاء جيش عراقي مؤلف من (180 ألف) مقاتل -هذا ما ذكروه قبل هذه السنوات- مقابل جيش سعودي مكون من (80 ألف) فقط بما في ذلك الحرس الوطني السعودي، وأن الجيش العراقي يضم أربع فرق مدرعة وفرقتين ميكانيكتين ومن ضمن معداته دبابات ( emx) ثلاثين، والعربات المدرعة ( bmb) وراجمات صواريخ متعددة الأنابيب، إلى آخره، وأن الجيش تسانده قوة جوية مكونه من (339) طائرة قتال من بينها طائرات (ميج23 وسوخوي 20، وميراج ف1) بينما نجد أن ما لدى السعودية من معدات حديثة أقل بكثير مما لدى العراق، وقد تكون فعالياتها العملياتية أقل أيضاً].
ذكر هذا -كما قلنا- منذ عشر سنوات، ثم لم يبق الأمر عند ذلك.(29/4)
التقرير الأمني السنوي للكونجرس الأمريكي
ولم يكتفوا بهذا؛ بل إنهم في القريب الذي ليس ببعيد، أي: منذ أربعة أشهر وفي شهر شعبان الماضي -قد نشروا التقرير الأمني السنوي للكنجرس الأمريكي ومجلس الأمن القومي الأمريكي- وذكروا فيه أموراً لاداعي للتفصيل فيها الآن؛ إنما من جملة ما ذكروا: لأن المصالح الحيوية الأمريكية في الشرق الأوسط تستحق وجوداً عسكرياً فعلياً، وأنه لابد للقوة التي أنشئت أن تبدأ عملياً في البحث عن حل لإيصالها إلى المنطقة.
ويقول: [وتوقف التقرير أمام العنف الناتج عن صراعات دينية في الشرق الأوسط، والذي يحظى باهتمام مسئولي السياسة الأمريكية، الذين يعتقدون بأن التطرف الديني الذي سيستمر في تهديد حياة السكان الأمريكيين، والدول الصديقة هي من الشرق الأوسط والتي يعتمد العالم الحر على مصادر الطاقة فيها].
وقد تكرر هذا الكلام في عدة تقارير أن الغرض أمران: الأول: حماية منابع النفط والمصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية.
والثاني: القضاء على التطرف الديني الذي يريد أن يهدد وجود إسرائيل، ووجود الولايات المتحدة، وذلك بتقوية الدول أو بدعمها أو بالقضاء على التطرف قضاءً مباشراً إن خشي عليها من هذه الدول أو هذه المجتمعات.
هذا التقرير نشر في (26 شعبان 1410هـ) في جريدة الحياة، وقد نشر أيضاً قبله بـ (3 أيام) في جريدة الحياة في (23 شعبان) تقرير آخر بعنوان (القوات الأمريكية تعيد تنظيم تشكيلاتها للتدخل الطارئ) وتفصيلات عسكرية كثيرة ليس هناك حاجة لها، إنما الجديد فيها أنهم ذكروا أن عدد القوات (197 ألف) من الرجال والنساء، وقد يساندهم -أيضاً- (100 ألف) من الاحتياطي، وأنهم مجهزون بوسائل خفيفة وثقيلة إلى آخر ما ذكروا من أمور عسكرية.
وكلنا يعلم أنه في ذلك الظرف بالذات: تم توقيع إتفاقية الحدود بين المملكة والعراق، ولا شك أنها كانت خطوة وقائية جيدة وفي محلها، ولكن حزب البعث لم يكن ليرعوي -أبداً- لأن الإخراج أكبر من أن يردع باتفاقية إذ كانت المسألة مبيتة، والغدر لا يمكن أن يتأخر، بل إن الغدر هو: سمة من سمات هذا الحزب أصلاً.(29/5)
جدية الأمريكان في الإعداد لحرب الخليج
ثم بعد ذلك حصل إنزالان إمريكيان: الإنزال الأول: في غرنادا.
والثاني: في بنما، وقد صرحت الأجهزة الأمريكية المسئولية، وكذلك بينت الصحافة أن هذا الإنزال في بنما إنما هو عبارة عن نموذج أو (بروفة) للإنزال في الخليج، وهذا قبل بضعة أشهر.
وذكروا في جملة ما ذكروا أيضاً: أن الإنزال في بنما تم بإنزال (10 آلاف) جندي في 8 ساعات، أما إذا كان يُراد إنزال (200) أو 250 ألف) جندي في الخليج فإنه قد يستغرق مدة (21 يوماً) باعتبار المسافة والبعد، فتُستكمل التجهيزات في خلال (21 يوماً).
ومن الأمور التي يجب أن نعلمها: أن الإعداد كان جاداً وكان صادقاً؛ فقد تم تدريب هذه الفرقة الـ (82) وغيرها في صحراء نيفادا وهي صحراء أمريكية في أجواء مشابهة لأجواء الشرق الأوسط، ولصحرائنا العربية! وأكثر من ذلك أنهم اختاروا نوعية المجندين والمجندات، من الجنس القريب للجنس العربي -أي: من الجنوبيين- ومن الأصول الأسبانية في جنوب أمريكا وأمريكا الوسطى؛ وأكثر من ذلك أنهم علموهم اللغة العربية -وباللهجة البدوية- وكيف يعيش أحدهم في الصحراء، ويتكلم اللغة العربية، ويلبس اللباس العربي؛ وقد نشر في ذلك عدة كتابات صحفية كان من آخرها ما نشر في جريدة عرب نيوز من أن أحد هؤلاء -الذين يجيدون اللغة العربية في الجيش الأمريكي- دخل في بعض المحلات في الظهران أو الخبر وتكلم معهم باللهجة البدوية، واشترى وخرج ولم يعرفوه، بل ظنوا أنه عربي بدوي مقيم في تلك المنطقة.
والقضية التي -حقيقة- تستحق أن نقف عندها، لننتقل إلى الحل وإلى العلاج بعد ذلك، وهو المهم جداً -أن هؤلاء الناس- مهما قلنا عن الضرورة التي جاؤوا من أجلها، أو المبرر الذي جاؤوا من أجله، وأن الموقف لم يكن يحتمل إلا ذلك؛ فكل هذا شيءٌ ندعه جانباً، ولكن الشيء الذي أصبح واقعاًً ملموساً بين أيدينا هو: ماذا يجب علينا أن نفعل إزاء هذه المشكلات؟ بدايةً يجب أن نشير إلى ما نشر في الصحافة الأمريكية وفي غيرها؛ عن بعض المخاطر التي يجب أن نتنبه لها في هذا المجال.
ومن ذلك: ما نشر في جريدة عرب نيوز نقلاً عن محلات لبيع أدوات التجميل وكريمات ودهانات الحرارة بعنوان: (صفقة سماوية) يقصدون بذلك تضخيم صفقة البيع، لمجمع تسويق (كيمارك).
وهي عبارة عن: طلبات نسائية -طلبتها المجندات اللاتي سيذهبن إلى الخليج - وتحتوي على (5500) زجاجة من كريم منعم للجلد، و (2400) علبة لطرد الحشرات، و (5500) أنبوبة مرطب شفائف، و (5500) علبة بودرة أقدام، و (5500) زجاجة لكريم الجلد ضد الشمس.
ولا يخفى على أحد منكم لأي شيء سوف تستخدم هذه، وفي أي مكان يمكن أن تستخدم.
وهناك قضية أخرى لابد أن نعيها جانباً وأن نحذر فيها، فالله تعالى أمرنا أن نأخذ حذرنا، وأمرنا أن لا نركن إلى الكفار وأن لا نصدقهم وأن نحتاط منهم- وهي أنه ظهرت عدة تصريحات -غريبة في الواقع- ونشرتها الصحف الأمريكية -وبعضها موجود لدي على قلة تتبعي، وضعفي جداً في هذا المجال، لكنها في أعداد الأسبوع الماضي وما قبله- عن أن هذه القوات سوف تقيم طويلاً إن خرجت من بلادها.
وأما الرئيس بوش بنفسه فقد صرح الأسبوع الماضي: 'بأن وجود القوات الأمريكية رهن باستقرار الأوضاع في المنطقة'.
وهذه عبارة لا يمكن أن يفسرها إلا هم (فمتى تستقر الأوضاع؟) لا ندري، فهم الذين يحكمون بأنها استقرت أو لم تستقر.
فأما وزير الدفاع الأمريكي في المقابلة التلفزيونية -أيضاً- والتي نشرت صحفياً، فإنه يقول: " لسنا على استعداد أن نرجع كل عشر سنوات إلى هذه المنطقة المتفجرة من العالم " وكذلك هناك تصريحات وكتابات أخرى مثل ما نشر في التايمز العدد 35 الثلاثاء الماضي 1990م.(29/6)
موقف المسلم من أحداث الخليج
إذاً: فهؤلاء اليهود والنصارى والبعثيون كلهم أعداءٌ للإسلام، وكلهم أعداءٌ لهذه الأمة، ولا يؤمنون بأي حال من الأحوال؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حذَّرنا وبيَّن لنا عداوتهم في الكتاب كما بينها لنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السنة وفي واقعه العملي، ولكننا نذكر بعض الدلائل الواضحة، التي نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأن تكون عامل خير لهؤلاء الشباب في أن يعرف واجبه، ولا نعني بمعرفة الواجب: الثوران العاطفي، الذي لا يؤدي إلى نتيجة، والذي أتعب الدعوة في كل مرحلة من مراحلها؛ وإنما نعني: أن نعي واقعنا، وأن ندرس بحكمة وبأَناة: كيف نتصرف مع هذا الواقع، وكيف نعتذر إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ونحن نعيش هذه الأزمة، بل وأكثر من ذلك: أن نراجع ديننا وإيماننا، وعقيدتنا وثقتنا وتوكلنا بالله عز وجل، فهذا أهم عندنا من أي شيء آخر.
يقول في التايمز: الولايات المتحدة يجب عليها أن تعتبر أن وجودها دائمٌ في المملكة فعلى أية حالة! الوجود كان دائماً أو غير دائم؛ فهو موجود بأعدادٍ كبيرة، وهو لا يخفى عليكم الآن.
يجب أن نعلم أموراً مهمة، ولابد من تذكير بها وهي: أنه عندما يأتي هؤلاء القوم يأتون بعاداتهم، وبدينهم وبما يحملونه من مبادئ.
فقد كنا نشكو في الرياض وفي جدة وفي غيرها من أعمال هؤلاء الكفار مع ضعفهم النسبي قبل هذه الأيام، ومع قلة عددهم أيضاً، وقبل أن يكثروا بهذه الكثرة، ومع كل هذه الأمور وكل هذه الاعتبارات، كنا نشكو، والهيئات، والجيران، والمجمعات السكنية كلها تشكو مما يحدث فيها ولا غرابة! فهؤلاء الكفار هذه حياتهم؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أعمى بصائرهم عن الآخرة؛ فهم كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} [يونس:7]، فهذا حالهم قال تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66]، فهل يريد أحدهم أن يقاتل وأن يموت في سبيل الله؟ لا والله، وهل يريد أن يموت ليدخل الجنة؟ لا.
فلم يخطر ذلك على باله؛ ولذلك لا نعجب أن تُعجل لهم حسناتهم في هذه الحياة الدنيا من شهوات وملذات، فإذا وقع وأتوا إلينا فماذا سنفعل؟ إن مثل هذه الصفقات من الكريمات والدهونات والتعري، لابد أننا سنلمس لها أثراً واقعياً عند وجود هذا العدد بأجياله.
وكما تعلمون أن هؤلاء القوم فيهم المتدينون، ففي موجز التاريخ الأمريكي الذي أصدرته السفارة قريباً يقول: ' إن الشعب الأمريكي فيه عاطفة دينية وفيه رغبة دينية '.
فإذاً يجب أن نتوقع وجود كنائس، أو حمل للصلبان، أو حمل لأي شعارات أخرى غير إسلامية معادية لديننا وإيماننا وعقيدتنا، حينها لا نضع رؤوسنا في الرمال.
هذه حقائق يجب أن نقولها، وأن نتحدث بها، وأن نفكر كيف نعالجها العلاج الصحيح؛ وذلك بالتعاون مع من يمكن أن يساعدنا على ذلك -إن شاء الله- ممن بيده الأمر.
فهذا واجبنا نحن الدعاة، ولا يجوز لنا أن نتخلى عنه بأي شكل من الأشكال.
فقد جاءوا بالخنازير كما كتب لي أحد الإخوان، وكما ذكر لي أخ آخر بأن بعض المطابخ جيء إليها بالخنزير، وقيل له: اذبح لنا، نريد أن نأكل ولا غرابة! لأن هذا أكلهم، وهذه حياتهم: الخمر، والخنزير، والزنا، والمخدرات وغيرها من الأمراض الأخرى التي نتعفف أن نذكرها، فكان لابد من أن نتوقعها؛ لأنهم لابد أن يأتوا بها فلا تكفي -أبداً- الأوامر أو الاحتياطات أو القرارات؛ فالأوامر والتعاهدات قد أخذت على المسلمين أنفسهم فلم يلتزموا بها ولم ينفذوها، وترون ما ترون من المدرسات، وقد أخذت عليهن التعهدات الوثيقة، ومن المضيفات والممرضات، وقد أخذت عليهن أقوى التعهدات.(29/7)
الدعوة إلى الله
لابد من الدعوة إلى الله، لأنها هي الحل في هذه المجتمعات التي في دور الإسلام وكذلك في قلب المجتمع الإمريكي.
وإن مما يجب أن نقوله: إن الشعب الأمريكي في الغالب هو شعب حر -لا سيما في التدين- وإن كثيراً منهم إذا عرض عليه الإسلام فإنه يسلم، فبعض الإخوان في أمريكا قد أخبرونا أنهم لا يستيطيعون أن يستوعبوا الداخلين في الإسلام من كثرتهم -والحمد لله- لأن الإسلام دين الفطرة؛ ولأنهم يعيشون في ضنكٍ، وضيقٍ لا يعلمه إلا الله، وهذه الأمور لمستها ولمسها كل أخ زار تلك البلاد بنفسه وبأم عينيه.
فالواجب إذاً هو على الدعاة في مثل هذه الأحداث، فهؤلاء سيأتوننا بكل المفاسد، ولا نتوقع إلا ذلك، ولا يجوز لدعاة الإسلام أن يضعوا رءوسهم في الرمال، ويتناسوا هذا الخطر المحدق، أو أن يغفلوا عن هذا الواجب، فلن يقوم به إلا أنتم أيها الشباب، وأنتم أيها الدعاة، فاتقوا الله فيما حملكم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من هذا الواجب، وادرءوا عن الأمة هذا الخطر بقدر ما تستطيعون.(29/8)
الرجوع إلى الله وقول الحق
هناك أمور يجب أن تكون نصب أعيينا ونحن نتحدث عن هذه المشكلة، وعن هذه الأزمة الخطيرة، وهي: أن ما أُصِبنَا به وما خطط له الأعداء، وما جاءوا به؛ فإنما هو بسبب ذنوبنا، وتفريطنا في أخذ العدة والاستعداد لمواجهة أعداء الله وأخطارهم، أي: لأننا عصينا الله وخالفنا أمره، كما قال أبو الدرداء لما بكى -رضي الله عنه- عندما رأى أسرى قبرص فقال: 'ما أهون الخلق على الله إذا خالفوا أمره' فبينما هم ملوك في بلادهم، إذا هم أسارى في أيدي المسلمين.
إن ما حل بنا يجب أن نفكر جدياً في أسبابه، ثم نتخذ الحلول ولا بأس أن نتخذ وجهة نظر واحدة والكل يعرفها، وكلنا -إن شاء الله- متفقون على أكثرها، وهي: أولاً: يجب علينا أن نعيد النظر في حياتنا جميعاً، ولا أعني الأوضاع العامة، بل حتى في أوضاعنا الخاصة؛ فكلٌ منا ينظر في خاصة نفسه، كيف ذنوبي؟ وكيف أعمالي؟ وكيف علاقتي وصلتي بالله عز وجل؟ ولماذا سُلِّطُ علينا أعداؤنا؟ فكل منا يفتش عن نفسه، لأن من مصائبنا -مع الأسف- أن الذنوب والمعاصي تقع، ولكن سرعان ما تعلق بمشجب معين، فيقال مثلاً: التقصير من الحكومة، أو من الشعب، أو من العلماء، أو من الفرقة الفلانية، لأنها ما أخذت موقعها.
ودائماً نحن في جميع أمورنا نحاول أن نجد مشجباً فنعلق عليه كل الأخطاء، وهذا غير صحيح، فمن سنة الله تبارك وتعالى أن كل واحد منا مسئول عن ذنوبه، ويلحقه شيء من هذه المصائب، ويعفو الله تعالى عن كثير، كما ذكر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذلك بقوله: {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [المائدة:15] فنحن بضعفنا وبأعمالنا استجلبنا ذلك.
ما الذي غيَّر فينا دخول هذا الهجوم البعثي؟ ثم ما تلاه من تكالب صليبي؟ ما الذي غيرّ فينا، وما الذي جعلنا لا نرجع إلى الله تعالى ولا نرجع إلى ديننا كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالأمر والحال كما ترون.
فكل تبرج أو فسق أو استهتار في الأسواق أو في المجلات الداعرة أو في الكتب أو في الشعر الماجن أو في الأغاني الخليعة أو في محلات بيع الفيديو أو وسائل الإعلام نفسها، كل ذلك لا يزال كما كان ولم يتغير.
فأي بنك ربوي أغلق بعد أن جاء الهجوم؟ وإنما قلنا: يجب أن نرجع إلى الله، لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279]، فنحن نحارب الله أم نحارب هؤلاء.
لم يقع شيءٌ من ذلك؛ بل إننا نحاول أن ندعم هذه البنوك؛ لأن الناس بدأوا يسحبون الأرصدة منها، فيجب أن ندعمها لكي لا تتأثر.
فنحن بهذا قد تشبهنا بالكفار في حياتنا وسلوكنا ومعاملاتنا، فهل تغير هذا؟ وهل قلنا: كيف نتشبه بأعدائنا في الشعارات التي كنا نرددها مثل الأمة العربية، والقومية العربية، والواجب العربي، وما أشبه ذلك، هل تركنا ذلك؟ وهل نسخناه من صحافتنا التي كانت قبيل فترة تقول: الحملة الظالمة على العراق فكانت الصحافة الغربية تذكر شنائع حزب البعث وأنه دَّمر المسلمين والأكراد وأحرقهم بالغاز السام؟ فتقوم الصحافة العربية كلها وتقول: هذه حملة ظالمة على العراق يشنها الغرب، ونحن نعلم أن الأمر كذلك، والآن اعترفنا بأنه كذلك؛ فلابد أن نلغي هذه الشعارات؛ لأننا أمة الإسلام أمةٌ واحدة كالجسد الواحد، فلا نؤمن بمبادئ القومية، ولا الوطنية، بل كلها عصبية جاهلية وضعها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحت قدميه.
فنحن لا نحب إلا في الله ولا نبغض إلا في الله، ولا نوالي إلا في الله، ولا نعادي إلا لله؛ وإن أعطينا فلله وإن منعنا فلله، فهذا هو الواجب الذي ينبغي أن تكون عليه حياتنا وسياستنا وخططنا، فيذكر به بعضنا بعضاً إذا غفلنا؛ أما أن نستمر في هذه الشعارات، وفي قرارات وأمور اتخذناها، فكان من شأنها الحد من الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أو الحد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
هذا والله هو الوقت المناسب للسماح للدعاة إلى الله بأن ينطلقوا لأداء واجبهم، فنحن الآن أحوج ما نكون إلى دعاة يصدعون بكلمة الحق؛ لأن أعداءنا -من غربيين وبعثيين وغيرهم- إذا رأوا أن في الأمة من يصدع بهذا فإنهم يخافون منا، ولا مانع من أن نظهر -إن كان على سبيل الإظهار- في وجه الأعداء بأننا طائفتين: طائفة تسكت، ولكن هناك طائفة تنكر؛ فنكسب الموقف بالاختلاف بين هاتين الطائفتين مثل ما يفعلون بنا إذا كان على سبيل التخطيط.
فالأمريكان إذا طلبوا من الإدارة الأمريكية شيئاً اعتذرت بأن الكونجرس يرفض.
لماذا؟ نحن لا نقول: إن العلماء والدعاة يرفضون، ولكن لماذا لا يكون لنا نفس الشيء؟ فنكسب مصالح لأمتنا قبل أن تأتي الطامة الكبرى التي لا علاج بعدها نسأل الله العفو والعافية.
فأقول: إننا لم نغير في هذا الواقع أي شيء، فمدارس تحفيظ القرآن وغيرها من المدارس -مثلاً- كيف رضينا أن تتقلص أعدادها إلى هذا الحد وبالمقابل يتم فتح ثانويات وكليات كثيرة جداً ومعاهد متنوعة؟! لماذا التقليص فقط لمدارس تحفيظ القرآن؟! المدارس التي كانت نور ومشعل للهداية، فلابد أن نُعيد النظر -أيضاً- في هذه الأمور، ثم لابد أن نعيد النظر في علاقاتنا، وفي صداقاتنا؛ ماذا أجدت بنا هذه الصداقات، فكل دولة وقفت ضدنا أو تحفظت على قرارات نرى أنها من صالحنا؛ فهي دولة أعطيناها أبلغ العطاء، فـ العراق نفسه أعطيناه أبلغ العطاء.
ومما يدل على هذا الأمر قول الرئيس المصري: بأن العراق كان يريد أن يقدم له رشوة قبل سنتين.
إذاً فالأمر كان مخططاً لاحتلال الكويت برشوة قدرها (25 مليار دولار) فَمِنْ أين كان سيدفعها صدام؟! إذاً يجب أن نعيد النظر فيما نعطي وفيما نمنع، وأن نتقي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في ذلك.(29/9)
الصدق في التوكل على الله
علينا أن نراجع أنفسنا في مسألة الاعتماد والتوكل على الله والأخذ بالأسباب، ويجب علينا أن نراجع قلوبنا ونعيد الإيمان الصادق والتوكل في قلوبنا؛ فنقول ونحن صادقون: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فلا نستعين إلا بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا نستعين على أعدائنا بأعداء الله نتيجة تفريط منا، فنحن كنا السبب فيه، وأن نكون صادقين مع الله في الاستعانة به والتوكل عليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فلو أخلصنا أعمالنا لله وصدقنا في التوكل عليه لنصرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]، وقال أيضاً: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]، وقال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، وقبل ذلك يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38].
فلابد أن نكون متوكلين على الله وحده، معتصمين بحبل الله وحده، مؤمنين بالله وحده، ثم إن علينا أن نأخذ بالعلاج القرآني؛ العلاج الذي جعله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مانعاً لوقوع العذاب إذا أدرك أمة من الأمم، يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:42 - 45]، ويقول تعالى في سورة أخرى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) [الأعراف:94]، فيريد الله -عز وجل- منا في هذه الآيات الضراعة واللجوء إليه، وأن نعلم أنه لا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه؛ وأنه لن ينصرنا إلا هو، وأن بيده كل شيء، {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم:42] وهو خالق كل شيء، وخالق الأسباب والمسببات، وهو الذي إن شاء سلط على الكفار عذابًا من عنده أو بأيدينا؛ فهو يدافع عنا إذا كنا صادقين معه بما يشاء وكما يشاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولكن! أين نحن من هذا؟! قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:96 - 99]، فقد أصبح حالنا -مع الأسف- مثل الذين قال الله فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:51 - 52].
فوالله لو صدقنا مع الله ونصرنا دين الله، وأعززنا كلمة الله، ورفعنا شأن الدعاة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونشرنا الخير في مجتمعنا، وقضينا على بذور الشر، وحذرنا من هذا العدو بجبهتيه وكلا طرفيه وانتبهنا له، وقاومنا شره وفساده عسكرياً وأخلاقياً؛ فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لن يخذلنا ولن يتركنا أبداً، وإن كان غير ذلك نحشى -وهذا أخشى ما أخشاه- أن تكون هذه بداية الملاحم.(29/10)
عداوة الروم المستمرة للمسلمين
الملاحم مع الروم مستمرة إلى قيام الساعة، بل قد أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديث عوف بن مالك الأشجعي في صحيح البخاري فقال: {اعدد ستاً قبل قيام الساعة: أولهن موتي، وهدنة ثم هدنة ثم هدنة، ثم يكون بينكم وبين بني الأصفر فينزلون فيأتونكم تحت ثمانين غاية - أي: راية- تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً}، أي: (تسعمائة وستين ألفًا) وفي حديث ضعيف لكن يعتضد بكثرة رواية هذا الحديث وبكونه صحيحاً، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ثم تأتيكم الروم بألف ألف، خمسمائة ألف بالبر، وخمسمائة ألف في البحر}.
فالفتن والحروب والملاحم مع الروم ستستمر إلى قيام الساعة، ولن تنتهي؛ حتى يظهر الدجال وعيسى بن مريم عليه السلام، ثم لا يكون بعد ذلك إلا العلامات الكبرى، ونهاية الوجود فيظلون حرباً علينا.
ولكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بشر بالنصر عليهم 0ولله الحمد والمنة- فقال: {تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله لكم، ثم تغزون فارس فيفتحها الله لكم، ثم تغزون الروم فيفتحها الله لكم}، ولكن غزو الروم وحرب الروم بعيد المدى، كما جاء في الحديث -أيضاً- وإن كان فيه ضعف، ولكنه يستند إلى أحاديث الملاحم الكثيرة؛ فيقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فارس نطحة أو نطحتان، ثم يفتحها الله لكم}، (فارس نطحة أو نطحتان) أي: (القادسية ثم نهاوند) وهي قادسية سعد بن أبي وقاص لا قادسية المجرمين المشركين، فقال: {القادسية ونهاوند، ثم يفتحها الله} -فالحمد لله- قد قضي على ملك كسرى.(29/11)
نبذة عن الحرب مع الروم
أما الروم ذات القرون، فكلما هلك منهم قرن ظهر قرن آخر، ولذلك حاربونا أيام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك، ثم حاربونا في أيام أبي بكر وكانت اليرموك وما بعد اليرموك؛ ثم جاءوا في الحروب الصليبية وحاربهم نور الدين وصلاح الدين -رضي الله عنهما ورحمهما- على ما بذلا؛ لأنهما أعطيانا العبرة والقدوة في حالة الضعف.
فكيف يمكن أن ننهض -كما هو حالنا الآن، من هذا الذل والضعف والهوان الذي نسأل الله أن يرفعه عنا؟! ثم جاءوا في حروب الإستعمار -كما سمي-، ثم جاءت هذه الهجمة التي لا يعلم عاقبتها إلا الله، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن تكون نهايتها للمسلمين، ولكن بالشروط التي ذكرناها، إن شاء الله تعالى.
فالروم ذات القرون كلما هلك منهم قرن ظهر آخر؛ فقد أهلك الله الإنجليز الذين كانوا يخافون أشد الخوف ويخشون أشد الخشية من دعوة التوحيد في هذه الجزيرة؛ وأي مسلم -والحمد لله- يطلع على التاريخ الحديث المتخصص يجد في الوثائق البريطانية العجب العجاب!! فهناك دراسة عن الدولة السعودية عند أول نشأتها الأولى ثم الثانية ثم الثالثة؛ وهذا يدل على خوفهم ورهبتهم من وجود هذه الدعوة (دعوة التوحيد) فهذا قرن من قرون الروم، ظهر وحارب الإسلام والمسلمين طويلاً؛ فدمره الله، ثم جاء قرن آخر وهو الأمريكان، وقد يأتي قرن ثالث، والله أعلم كيف تنتهي الأمور.
فهذا عدو أبدي مقيم لا تنتهي عداوته إلى قيام الساعة، ولابد أن تعد له العدة، ولا تكون هذه العدة أموراً أو تصرفات عجلة؛ أو عواطف تثار؛ لأنها حرب طويلة الأمد؛ فأول ما يجب أن نبدأ به الآن في مرحلتنا هذه هو نشر الدعوة إلى الله والضراعة واللجوء إليه، فنعلم أنفسنا وجميع الناس التوكل على الله وحده، وننشر مفاهيم عقيدة الولاء والبراء في الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثم تأتي مرحلة الجيل التي ذكرها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعد آيات الولاية التي في سورة المائدة، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [المائدة:54] أي: حين يوالي الكفار، ويكون مثلهم، {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] إذاً: هذا الجيل سيخرج -بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولن يخرج إلا في مثل هذه المحن وهذه الفتن والشدائد؛ لأنه سيخرج صلب العود، قوي الإيمان متماسك البنيان؛ فعلينا أن نعد له العدة الآن وذلك بتمهيد ونشر عامٍ للعقيدة الصحيحة، ولكل المفاهيم التي سبق ذكرها؛ ثم تكون بعد ذلك الملاحم مع الروم التي ستطول، ولكنه قدرُ هذه الأمة فتنزل الروم بالأعماق بدابق اليهود كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسوف تكون معارك طويلة جداً؛ فإذا كنا مع الله وصدقنا؛ فسوف ينصرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
إذاً: فالأمر لن يكن مفاجأة، ولكنها عملية خطط ورتب لها، ولها أدلة كثيرة، والأمر -أيضاً- لن يكون بالسهولة التي نتصورها؛ بأن هؤلاء الأعداء لن يفعلوا ما يضيرنا؛ وسيرحلون بهدوء، فلا نقصد فقط أمتنا هذه، بل الأمة الإسلامية عموماً كلها، فهي تهمنا؛ لأنها أمة مؤمنة، فـ الكويت قد احتله العراق؛ ولكن مقابل هذا الاحتلال احتلت الأساطيل الغربية -وعلى رأسها أمريكا - المحيط الهندي، والبحر الأبيض المتوسط، والشرق الأوسط والمنطقة بأكملها، وأصبحت تحت ولا يتها وهذا إحدى علامات ومصداقية وثمرات الوفاق الدولي الذي تريده أمريكا فـ الاتحاد السوفيتي -فعلاً- التزم بالقرارات الدولية؛ ولأنه جزءٌ من الغرب، داخل ضمن الهيمنة الأمريكية، فليس له رأي منفرد.
-وكما سمعنا مراراً وتكراراً في الواقع- فلم يسبق للغرب في أي مرحلة من مراحل تاريخه أن توحد بمثل هذا الإتحاد إلا في الحروب الصليبية الأولى، ففي الحرب العالمية الثانية كان هناك محور شرقي ودول الحلفاء، أما الآن فقد توحد الكل؛ فها هي ألمانيا قد غيرت دستورها من أجل أن تشارك في هذه العملية.
إذاً فالغرب قد توحد ولكنه لم يتوحد إلا لأهداف بعيدة المدى، وإنه يؤلمني جداً ويؤلم كل مؤمن أن تظل هذه الأهداف بعيدة عن كثير من الناس ولكن يعلم الله أني لو رأيت من يقول هذا الكلام ويوضحه؛ لما احتجت أن أقوله؛ لأنها أمانة يجب أن نقولها، فهؤلاء ما تألبوا ولا تكالبوا إلا لأمر عظيم.(29/12)
نداء إلى شباب الإسلام
فيا شباب الإسلام! أَعدوا للأمر عدته، وأول هذه العدة الضراعة إلى الله قال تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98] أي: أن قوم يونس خرجوا لما رأوا عذاب الله، قال بعض المفسرين: " خرجوا بنسائهم وأطفالهم ودوابهم وتضرعوا إلى الله" وقيل: إنهم بكوا أربعين ليلة حتى كشف الله عنهم العذاب والله سبحانه يقول: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76]، فلما استكانوا وتضرعوا كشف الله عنهم العذاب، وفي هذه الآية يقول الحسن البصري لما جاءه القراء، وقالوا له: لماذا يا أبا سعيد لا نخرج على الحجاج ونقاتله-مع ابن الأشعث ممن خرجوا وهو من العلماء- فقال لهم: يا أهل العراق، يا علماء العراق.
إن الحجاج عذاب الله سلطه عليكم بذنوبكم فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم وأرجلكم ولكن ادفعوه بالاستكانة والتضرع؛ فإن الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76] وكذلك فإن هذا الحاكم المجرم في العراق ما هو إلا بذنوبنا ومخالفاتنا لكتاب ربنا، وسنة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشريعته وسياسة الخلفاء الراشدين؛ فهذه هي نتيجتها، وهي عقوبة الله لنا، ونحن الذين بأيدينا دفعنا ثمنها.
فنسأل الله عز وجل توبة وإنابة وتضرعاً يدفع به عنا هذا العذاب، فهو القادر على كل شيء، ونسأله عز وجل أن يبعث عليهم -الشرقيين والغربيين والبعثيين والصليبيين- عذاباً من عنده، وأن يقيظ لهم أمةً مؤمنةً مجاهدةً تشفي قلوب المؤمنين فيهم إنه على كل شيء قدير، وأحب أن أقف عند هذا الحد لأفسح المجال لأسألتكم.
أيها الإخوة الكرام: كل ما قلته هو رأي أخ أحبَّكم في الله تعالى، وأحبَّ أن يُبرئ نفسه، لعله يصل إلى آذان صاغية -إن شاء الله- ولعله يكون منه حل وفرج قريب، وأوصيكم ونفسي بأن تلجأوا إلى الله تعالى دعاةً وأفرادًا، وأن يدعو كل منكم الآخر، فإنه كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم} - فينفع الله به، أُوصيكم ألاَّ تنسوا دعاء الله عز وجل والضراعة إليه في جوف الليل، فمن قام فليقدر المصيبة التي وقعت فيها الأمة، وليعلم أن الدعاء واجب ولا أعني بذلك القنوت فقط، بل كل منا -وحده مع الله- يتوب ويستغفر ويلوذ إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويلح بالدعاء، فإن الله قدير على أن يبصر هذه الأمة ويفتح لها باب كل خير، وأن يبرم لها أمر رشد يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويأمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.(29/13)
الأسئلة(29/14)
الولاء والبراء
السؤال
بماذا تنصحون من يفرح بعد هذه الأحداث، ويقول: نريد أن تحتلنا أمريكا؟
الجواب
يكفيكم أن تسمعوا مثل هذا الكلام؛ لتعلموا أن الأمة بحاجة إلى العقيدة الصحيحة، وإلى بيان الولاء والبراء، وإلى بيان ما حذَّر الله تبارك وتعالى منه من عداوة الكفار وضررهم لنا، ونسأل الله لهذا الأخ الهداية والتوبة، ويجب عليه أن يتوب ويستغفر الله، وليعلم أنه قد قال قولاً عظيماً، نخاف على إيمانه والعياذ بالله.(29/15)
مخالفة الشيخ لفتوى هيئة كبار العلماء وحجته في ذلك
السؤال
يقول بعض الإخوة: في شريطكم الأخير خالفتم بعض العلماء في جواز الاستعانة بالكفار، فما جوابكم حول بطلان بعض الأدلة التي طرحتموها؟
الجواب
بالنسبة لبيان هيئة كبار العلماء: لم يكن إلا في الضرورة، وأنا أقول: نعم! الضرورة تبيح أكل الميتة -نسأل الله العفو العافية- قد يكون هذا ضرورة، لكن أنا لا أتكلم عن الواقع، وهل الضرورة موجودة أم غير موجودة؟! وقد ذكرت ما سمعتَ حول الموضوع، لكني أقول: إذا بقي الاستدلال على الضرورة، فيبقى الخلاف في تطبيقها على الواقع، وهل هو ضرورة أو غير ضرورة؟ أما إذا استدل بأدلة غير صحيحة فيجب على الإنسان أن يتكلم.
قد يقول الأخ: إن هناك بيان هيئة كبار العلماء؟ أقول: فليس في بيان هيئة كبار العلماء أي دليل، فقد ذكر بعض مشايخنا الأفاضل -الذين نُجِّلهم، بل وإن كان فينا خير فهو جزء مما تعلمناه منهم- فقد ذكروا أدلة لا أرى ولا أدين لله بأنها صحيحة مثل حديث خزاعة، وهي قبيلة مؤمنة مسلمة، يقول: رئيسهم عمرو بن سالم:
هم بيتونا بالهجيع رقدا وقتلونا ركعاً وسجدا
يا رب إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا
فقتلونا ركعاً وسجدًا، فهم مؤمنون يركعون ويسجدون؛! فدخلوا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فحاشاه أن يستعين بمشرك، وقد صح عنه ذلك فقال: {إنا لا نستعين بمشرك} أي إنا لا نستعين بالمشركين على المشركين، فهذه قاعدة قالها على سبيل القاعدة العامة، ولم يثبت أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعان بكافر في أي غزوة من الغزوات.
أما ما قيل من يهود خيبر، فالحديث في هذا مرسل، بل هو منقطع أيضاً.
أوما قيل من حديث عبد الله بن أريقط من أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتخذه في أحكام الإجارة، والإجارة غير الجهاد.
فليعلم أن الإجارة شيء والجهاد شيء آخر.
وهناك أدلة أخرى ليس المجال هنا لتفصيلها، أما كلامنا الماضي فما كان إلا مجملاً لكن لا مانع لديَّ على الإطلاق أن نتباحث في مسألة صح الاستدال بها مثلاً، وأعدكم أنه إذا صح لي الاستدلال بأي حديث منها أن أقوله ولا حرج في ذلك أبداً.(29/16)
فتن المشرق
السؤال
ما هي الفتنة التي تخرج من نجد أو العراق؟.
الجواب
هذه إحدى الفتن، أي: الفتن من قبل المشرق كما أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أنه تأتي الفتنة ويراد بها جنس الفتن، فتكون من المشرق عموماً.
انظروا إلى الجناح الغربي من العالم الإسلامي: كم ظهر فيه من الفتن في القديم والحديث؟ قليل، كفتنة ابن تومرت، وبعض الدويلات، وزيرة الخارجية التي قامت هناك فهي فتنة عادية.
أما بالنسبة للشرق فكم وراءه من فتن؟! انتهينا من فتنة الخميني فجاءت فتنة البعثية، وقبلها وقبلها فتن دائمة، فمن قبل ذلك كانت الباطنية، ثم جاء جيش التتار من الشرق، فهي فتن عظيمة جداً، وهذه إحدى هذه الفتن نسأل الله أن ينجي بلادنا منها.(29/17)
حديث: (لا يُغلب اثنا عشر ألفاً)
السؤال
نريد منكم شرح حديث لا يُغلب اثنا عشر ألف من قلة؟
الجواب
نعم، العبرة ليست بالعدد، فاثنا عشر ألفاً وليس فيهم تارك صلاة لا يغلبون من قلة؛ فإن غلبوا وهزموا فليست غلبتهم وهزيمتهم لقلة العدد، ولكن لسبب آخر غير القلة، وفي هذا بيان بأننا لا نحارب أعداء الله بعددنا، ولا بعدتنا، وإنما نحاربهم (بأننا مؤمنون وهم كافرون).
كتب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى سعد بن أبي وقاص فقال: [[إنما يغلب المسلمون عدوهم بتقواهم لله ومعصية عدوهم له، فإذا استوينا نحن وهم في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة]] أي: في كثرة الدبابات أو كثرة المجندين إلى غير ذلك؛ إذا استوينا نحن وهم في المعصية والأمر الآخر أنه إذا عصى الله من يعرفه سلط عليه من لا يعرفه، وهذه سنة من سنن الله قد ذكرها الله في القرآن في أول سورة الإسراء عندما سلط بختنصر على بني إسرائيل فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً.
فكذلك يسلط الله تعالى على المؤمنين إذا هم عصوه وخالفوا أمره، وألقوا كتاب الله خلف ظهورهم، ولم يحكموا دينه وشرعه فإنه يسلط عليهم الكافر المشرك الذي لا يؤمن بالله -أصلاً- عقوبةً وعذاباً لهم حتى يرجعوا إلى دينهم.(29/18)
بين الإعداد والتوكل
السؤال
ما حكم الاهتمام الزائد بتخزين الأقوات والأرزاق مع إهمال، ما هو أهم من ذلك هل ينافي كمال التوكل؟
الجواب
هذا ينطبق عليه ما ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أننا: ركنا إلى الدنيا وكرهنا الموت، وأخذنا بأذناب البقر، واشتغلنا بالزرع، وتركنا الجهاد، وأصبح همنا في هذه الدنيا: الطعام، والشراب.
فقد كان العربي في الجاهلية يهجي:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
سبحان الله! ما كان يهجى به العربي في الجاهلية ويأنف منه الآن، فنحن الآن نفرح إذا بُشِّرنا بالطعام والشراب، قد كان هذا موجودًا في الجاهلية، لكن الإسلام ليس فيه إلا أن المؤمن يعلم أن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وأننا أمة جهاد، أمة شهادة.
فهذا العمل من ضعف التوكل على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وعلامةًً على ركوننا إلى هذه الدنيا، ومحبتنا وإيثارنا لها على الجنة.
ولكن هذا لا يعني أن المسلم لا يأخذ بالأسباب في وقتها أو متى جاءت، ولكن الهلع عندما يدب إلى النفوس من قلة الأرزاق أو الغازات الكيماوية أو غيرها يجعلنا نتصرف تصرفات أشبه بالمعتوهين المذعورين، والأمر بعيد، وقد لا يصل إلى هذا الحد -والحمد لله- فسواحلنا ضخمة، موانئنا كبيرة وكثيرة على البحر، ومنافذنا كثيرة وواسعة، بل إن العالم يحتاج أن يبيع لنا.
والذي يجب أن نكون عليه (الإيمان بالله، وأن نعد العدة لكي نجهاد في سبيل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مع أنه لم ينقصنا المال ولم تنقصنا التعبئة العامة.
ففي أي بلد -في العالم- يواجه حالة حرب، فإن من بديهيات العمل العسكري أن التعبئة العامة تكون بجمع (10%) من السكان، والعراق لم يُعد (10%) -مثلاً- فنحن إذا أعددنا (10%) والله لن تقف أمامنا أي قوة؛ فالمال موجود ولسنا نحن فقط حتى الكويت وغيرها؛ لأن الحرب الآن ليست بكثرة البشر أو كثرة العدد أو الدبابات، بل إن المؤمن الصادق والجاد -وإن لم يكن مؤمناً كحال الدول الغربية عليه أن يعد العدة، فبالإمكان وضع حواجز رهيبة جداً، لا يمكن لدبابات صدام أن تتعداها.
نعم! نستطيع فعل ذلك؛ لكن المشكلة ليست في العدد والعدة، ولكنها هل أردنا ذلك، قال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:46] فنحن في عصرٍ إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب، وهذا سعي العالم، ومن كان جاهلاً فليعلم أنه كلما قيل: ' إن هؤلاء إخواننا، وهؤلاء جيراننا، وهناك معاهدات! دولية بيننا وبينهم' وأمريكا وروسيا لن ترضيا، كله تبختر ساعة العدوان.
إذاً ما الحل؟ الحل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ} [الأنفال:60].
أبداً: لا يستطيع أحد بأن يفكر أن يعتدي عليك إذا علم أن لديك القوة الكافية الرادعة.
ولله الحمد والمنة، الذي أعطانا إمكانيات بشرية ومادية وحدودية، فلو صدقنا مع الله، وأردنا الجهاد، والله إننا لنستطيعه وحدنا وبمفردنا، ولينصرنا الله، ولنفتحن البلاد -أيضاً- ولندخلنها تحت شرع الله، فإن أبينا فإن الله يقول: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].(29/19)
موقف إسرائيل من حرب الخليج
السؤال
لماذا إسرائيل الآن تلتزم الصمت هذه الأيام، مع علمي بدورها الأكيد في القضية؟
الجواب
لا يوجد ظرف مر على إسرائيل أفضل ولا أحسن ولا أنسب من هذا الظرف؛ فالتجمعات العربية تفككت وانهارت، والأمة العربية -كما تسمى- وليس في تاريخنا شيءٌ يسمى أمة عربية وإنما هي أمة إسلامية -لكننا نستخدم ما يقولون! - وإنما هناك مسلمون وهناك من انحاز مع غير المسلمين، فأي شيء تريده إسرائيل أعظم من هذه الفرحة، فإننا نسينا مشكلة اليهود المهاجرين.
فمنذ الأحداث وأنا أقول -عن نفسي-: هل سمعتم من أعاد موضوع المهاجرين أو ذكره؟ فالانتفاضة تأتي الأخبار عنها قليلة وكذلك كانت الإمدادات الكبيرة للانتفاضة من الكويت ثم انتهت والله المستعان! فقد نسينا قضايا إسلامية كبيرة تهم أمريكا وتهم إسرائيل -أيضاً- بسبب هذا الحدث، فنسينا أفغانستان والفلبين وإرتيريا، نسينا مسلمي سرلنكا يقتلون هذه الأيام بالمئات، ونسينا أنهم يذبحون باكستان لأنها أقوى دولة إسلامية وهي التي يمكن أن تهب لنجدة المسلمين في هذه الظروف، فتسلط عليها الهند وقضية كشمير، وأما تركيا فقد جعلوها تابعاً لهم، ويريدون أن يستغلوا هذه الأحداث لضمها ضمن الحلف الأطلسي كاملة، وهو حلف قديم من شروطه: أن لا يكون فيه إلا دول نصرانية، واسمه (الحلف المقدس) الذي كان بضم الدول النصرانية فقط.
وأما أكثر دولة عربية من الناحية البشرية: مثلاً مصر والتي يمكن أن تؤثر على إسرائيل وغيرها، فلو لم يكن عندها هذه المرة مشكلة، إلا الألوف الذين عادوا بدون أعمال، فكانت مشكلة على مشاكلها السابقة فنقول: من حيث النظرة القريبة أن إسرائيل هذا يوم فرحتها الكبرى، ومع ذلك فإنها قد تتدخل عسكريًا، وإذا تطورت الأحداث ربما تزال دولة الأردن.
بحيث تهاجمها إسرائيل لدخول العراق، وهو تهديد قديم.
فكل دولة في المنطقة قريبة من إسرائيل أو بعيدة إلا ولها -الآن- ما يشغلها عن إسرائيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(29/20)
منكرات صاحبت الأحداث
السؤال
بعد حدوث المصائب العظيمة مازالت المنكرات تعج بها أسواق المسلمين وبيوتهم، وكذلك وسائل الإعلام المسموعة والمرئية (من أغانٍ، ونساء متبرجات) فما تعليقك على هذا مع النصحية؟.
الجواب
ليس أكثر من قوله تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43].(29/21)
متابعة وسائل الإعلام أثناء الأحداث
السؤال
ما رأيكم في من همه متابعة الوسائل والأخبار بدون تمييز ولا وعي، ودون الرجوع إلى الشرع أو إلى أهل العلم، نرجو منكم التوضيح مع الكلام عن ضرر كثير من وسائل الإعلام المضللة؟
الجواب
العجيب! فعلاً -وإن كان ما يبرره- من كان يعلم أن أخبار المسلمين تأتي من إذاعة لندن ومنتكارلو، أو غيرها، وقد رأيت في مجالس كثيرة عندما تأتي أخبار لندن ومعها منتكارلو فيسمع الشخص واحدة ويسجل الأخرى، ثم يسمعها بعد ذلك فهذه مشكلة! أن نأخذ أخبارنا من عدونا! لكن للمشكلة ما يبررها وهو: أننا لا نجد في إعلامنا الإسلامي أو العربي التحليلات!! فلا توجد إلا في الصحافة التي تأتي من الخارج فهي التي تعطي بعض التصريحات، (فمثل بعض التصريحات التي قرأتها لكم التي تأتي من صحف لبنانية ونصرانية).
فعندما يكون الإعلام بهذا المنوال فمن الطبيعي جداً أن يسمع الناس؛ لأن عندهم حساسية مرهفة في سماع اللحظة الآنية، ولا يهمهم الأخبار الماضية؛ ولهذا تعجب عندما يقال: ما رأيك هل تُضرب العراق أم لا؟! فليست مشكلتنا أنها تضرب أو لا تضرب، بل إن المشكلة في الأسباب والعبر والنتائج ولهذا اضطررت أن أقول: لا أتوقع ضربة عاجلة؛ لأن هؤلاء يريدون أن يعززوا مواقعهم؛ لأن أي ضربة غير حازمة قد تفشل، ولذلك يقولون: الضربة ستكون في أكتوبر، وبعد ذلك يقولون: في يناير، ليست القضية الضربة وانتهت.
وإنما القضية.
لماذا جاءوا الإعلام؟ لا شك أنه مظلل ولا سيما الإعلام الخارجي، ويجب أن ننتبه لهذا الجانب ونصحح أوضاعنا الإعلامية، وأن يكون فيما حدث من قصور في إعلامنا نقول لها: إن ما حدث عظة وعبرة، ونوصي إعلامنا والمسؤولين عليه بأن يتقوا الله، وأن يكون الإعلام على مستوى الأحداث -إن شاء الله تعالى- ثم نحن شباب المسلمين أوقاتنا ثمينة، وقد فرطنا في طلب العلم هذه الأيام، وفرطنا في سماع المواعظ! فرطنا في أشياء كثيرة، وقد كان عندي بعض الموضوعات التي أريد أن أتكلم فيها؛ وإذا بالشباب والناس لا يريدون إلا أن أتكلم في هذا الحدث.
لكن علينا أن لا نضيع أوقاتنا ويكفينا أن نقرأ تحليلاً أو تحليلات لنعرف ما وراءها، ولنعرف أن هذا الأمر مخطط له من قبل سنوات، وعلينا أن نأخذ العبرة منه ثم ننطلق إلى ما بعد ذلك من الدعوة إلى الله، والصدع بكلمة الحق.(29/22)
دور العلماء في أحداث الخليج
السؤال
أين دور علماء المسلمين في توضيح حقيقة مثل هذه الأحزاب -قبل الأحداث- وأعمالهم الخبيثة؟، وما تفسير ذلك: أهو جهل بواقع الأمة أم ماذا، الذين تكلموا عنها قبل الأحداث فهم قليل وعلى رأسهم الشيخ عبد الرحمن الدوسري -رحمه الله- وكل ما نخشاه من سكوت العلماء أن تقع مصيبة ثانية، فما هي كلمتكم لعلماء المسلمين؟
الجواب
علينا أن لا نضع اللوم على جهة معينة، فما دورنا نحن إلا إمام المسجد أو مدرس أو زميل له زملاء في العمل أو على الأقل أب وله إخوة وزملاء أو أسرة فما دورنا؟! لماذا نجعل اللوم على جهة معينة، وخاصة الذي يعيش معتركاً أو ظروفاً معينة تحتم عليه مجاملات أو أوضاعاً صعبة، فنحن في بحبوحة في أن نقول الحق في بيوتنا ونتكلم عن أنفسنا وعن واجبنا.
هذه الأحزاب لابد أن تفضح، ونعوذ بالله أن يأتي يوم ونصطلح فيه مع صدام، ثم يأتي إلى الديار المقدسة.
وهذه مشكلتنا، فليس لنا ولاءً، ولا عداوة ثابته، لأن هذه سياسة الغرب الذين يقولون: لا نعرف عداوات ثابته، ولا صداقات ثابته، ولكننا نعرف مصالح ثابتة.
نقول: لا، أما إن آمن ورجع إلى الإسلام {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]، لكن: المشكلة أيضاً أن تصلح الأوضاع السياسية بالرجوع إلى الأخوّة العربية -ولا أحد يتكلم بعد ذلك- وهذا لا يصح؛ لأننا إذا أردنا ذلك يجب أن نضع أمام الناس المعايير العقدية الصحيحة في الولاء والبراء، ونعلمهم إياها وبذلك نفضح حزب البعث ذا الجناحين (أي: يحكم دولتين) وله أحزاب في دول أخرى، كل كلامنا الآن عن جناح واحد ودولة واحدة، وهناك جناح يجمع مصيبتين عقيدة كفرية وهذه العقيدة الجديدة وإلى الآن لم تتغير ولم تتبدل، أما الذين عداوتهم مكشوفة صريحة من يهود ونصارى، فعداوتهم هي الحد الأدنى الذي يجب أن نعلمه نحن المسلمين.
وأقول: بكل أسف إننا لا نعلم عنهم إلا ما يعرض عن هؤلاء في حضارتهم واختراعاتهم واكتشافاتهم وتطوراتهم وتقدمهم، أما عداواتهم وخططهم فمبسوطة ومكشوفة في كتبهم، وهذه الكتب مطبوعة ومقروءة ومع ذلك لا نعرضها، فهذا الذي يجب علينا نحن الدعاة وطلاب العلم معرفته، وأن ننبه علماءنا إليه، ولا نقول: إنهم معصومون! لكن كفاهم أنهم أجهدوا أنفسهم في طلب العلم، وأعطوا الفتاوى في عباداتنا وفي عقائدنا وفي معاملاتنا، وهذه ثغرات لا نستطيع أن نسدها نحن:
أقلُّوا عنهم لا أباً لأبيكم من اللوم أو سُدُّوا المكان الذي سدوا
من منا يسد مكان العلماء؟ والله لا أحد؛ لكن نقول: نعم، عندهم تقصير في معرفة الواقع ونحن نستكملها، ليس من فضلنا عليهم، لكن لأننا نعايش الأحداث، أما هم فما عاشوا هذه الأحداث؛ بحكم الزمن الذي عاشوا أو بحكم أوضاع أخرى، فنقول: العلماء جزاهم الله خيراً نحن نكملهم ونتممهم ونبين لهم أمر الواقع، ومع ذلك أقول: المسئولية الأساسية علينا نحن طلبة العلم بالدرجة الأولى، فَكرِّوا فيمن سوف يخلفهم فأن الله لا ينتزع العلم انتزاعاً، ولكن بموت العلماء، حتى إذا هلكوا اتخذ الناس رؤساءَ جهالاً نعوذ بالله.
فقد أصبحنا نسمع وفي أكثر من مكان من الرؤساء الجهال، فعلموا الأمة من الذي يمكن أن تسمع منه؟ إنهم أهل العلم والحق والفضل.
وعلينا الآن أن نعد العدة لاستكمال واجب ودور العلماء من جهة؛ وفيمن يخلفهم -بإذن الله- في قيادة هذه الأمة عملياً من جهة أخرى.
والحمد لله رب العالمين.(29/23)
درجة الخوف من الله
تحدث الشيخ حفظه الله عن الخوف والرجاء ووجوب اقترانها لصلاح العمل، وبيّن الكيفية الشرعية للتوسل إلى الله تبارك وتعالى، كما أورد صوراً من التوسل عند المشركين والأمم السابقة وحذر منها، ثم وضح المراد من آية الوسيلة، وفسرها تفسيراً ذكر فيه أركان العبادة الثلاثة: الخوف، والرجاء، والمحبة، موضحاً بعض صور الخوف المحرمة، مع ذكر كلام ابن القيم في التفريق بين الخوف والخشية، والرهبة والرغبة، والهيبة والوجل، والإشفاق.
مبيناً خلال ذلك أن الخوف ليس مقصوداً لذاته؛ بل هو مقصود لغيره، وهو وسيلة للانزجار عما نهى الله عنه.(30/1)
التوسل
قال الإمام الطحاوي: 'ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم، ونخاف عليهم، ولا نقنطهم'.
قال المصنف:- "وعلى المؤمن أن يعتقد هذا الذي قاله الشيخ رحمه الله في حق نفسه وفي حق غيره، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء:57] وقال تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] وقال تعالى: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:41] {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40] {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْن} [المائدة:44] ومدح أهل الخوف فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:57 - 61].
وفي المسند والترمذي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: {قلت: يا رسول الله، {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَة} [المؤمنون:60] أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال: لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه} قال الحسن رضي الله عنه: [[عملوا -والله- بالطاعات، واجتهدوا فيها، وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحساناً وخشية، والمنافق جمع إساءةً وأمناً]] انتهى.
وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:218] فتأمل كيف جعل رجاءهم مع إتيانهم بهذه الطاعات، فالرجاء إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله تعالى وشرعه وقدره وثوابه وكرمه، ولو أن رجلاً له أرض يؤمل أن يعود عليه من مَغَلِّها ما ينفعه، فأهملها ولم يحرثها ولم يبذرها، ورجا أنه يأتي من مَغَلِّها مثل ما يأتي من حَرَثَ وزَرَع وتعاهد الأرض، لَعّده الناس من أسفه السفهاء، وكذا لو رجا وحسن ظنه أن يجيئه ولد من غير جماع! أو يصير أعلم أهل زمانه من غير طلب علم وحرص تام! وأمثال ذلك، فكذلك من حَسُن ظنه وقوي رجاؤه في الفوز بالدرجات العلى، والنعيم المقيم من غير طاعة ولا تقرب إلى الله تعالى بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه' ا.
هـ.
الشرح: يقول المصنف رحمه الله تعالى: 'على المؤمن أن يعتقد هذا الذي قاله الشيخ في حق نفسه وفي حق غيره' فذكر ما نعتقده في غيرنا من الناس، سواءً المؤمن منهم والمحسن، أم المسيء والفاجر، فيضيف المصنف ويقول: هذا ما نعتقده في حق أنفسنا وفي حق غيرنا، والإشارة ترجع إلى الخوف والرجاء وعدم الأمن وعدم القنوط، فنحن لأنفسنا نعتقد ذلك، فنخاف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ونخاف ذنوبنا، ولكن نرجو رحمة الله ومغفرته، وإذا عملنا عملاً صالحاً نخاف أن لا يقبله، ولكن نرجو أن يتقبله؛ لأنه لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فيكون حالنا بين الخوف والرجاء.(30/2)
التوسل عند المشركين
ثم ذكر الشيخ هذه الآية العظيمة، وهي قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} [الإسراء:57] وفي قراءة لـ ابن مسعود: ((أُولَئِكَ الَّذِينَ تَدْعُونَ)) فيكون الخطاب فيها للكفار والمشركين لأنهم هم الذين يدعون آلهة من دون الله، والخطاب فيها بصيغة الغائب، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الاسراء:57] ويوضح معنى هذه الآية الآية التي قبلها، وهي قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [الإسراء:56] فهي توضح أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قل لهؤلاء المشركين ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يستطيعون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، وهذه الأصنام والأرباب جميعاً -من حجارة أو من بشر- لا تملك رزقاً ولا أجلاً، بل لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا يخلقون شيئاً وهم يخلقون، فهم من خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولا يملكون الحياة والممات وتدبير الأمور والتقديم والتأخير والعطاء والمنع؛ بل هو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا ينفع ذا الجد منه الجد، والنتيجة دعاء خاسر: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [الرعد:14] في الدنيا والآخرة ولكن تظهر عاقبته في الآخرة: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة:166] وتَبَرَّأَ الكبراء من الضعفاء، والرؤساء من الأتباع، وكانوا بعبادتهم كافرين، وأصبحت المودة التي كانت بينهم في الحياة الدنيا عداوة يوم القيامة، ويتلاعنون في النار كما بين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في أكثر من موضع، فهذا هو حالهم مع أولئك، فلا يرجى من وراء دعوتهم ودعائهم وعبادتهم إلا الخيبة والندامة والحسرة والخسران في الدنيا والآخرة، ولذلك ضرب الله تبارك وتعالى المثل للمشركين الذين يدعون غير الله، سواءً أكانوا ملائكةً أم جناً أم عباداً صالحين أم حجارةً فقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] فليس له من ينقذه أو ينجيه أو يتمسك به، فهذا هو حال أولئك المشركين.
ثم جاء بهذا البرهان القاطع الجلي، وهو: أن هؤلاء القوم المدعوين والمعبودين سواءٌ أكانوا ملائكة أم جناً أم أمواتاً أم صالحين -وهذا التفسير كما فسرها عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه وغيره- الذين هم مؤمنون بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كالملائكة فإنه لا شك في إيمانهم، وأيضاً مؤمنو الجن، وعباد الله الصالحون، كما جاء في الحديث عن الرجال الصالحين من قوم نوح، ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فكل من كان عبداً صالحاً لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فإنه لا يجوز أن يُعُبد؛ لأنه هو يعبد الله ويتقرب إلى ربه كما تتقرب أنت إلى ربك، فكيف تعبده وحاله حالك، وافتقاره افتقارك، وذُلّة ذلك، وخضوعه خضوعك، ورجاؤه رجاؤك؟! (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة).
وهذه الوسيلة قد ضل فيها من ضل من الناس، ولو قابلت من الروافض المشركين، أو عباد القبور الصوفية في كل البلاد لقال: نحن نعتقد أن الله هو الخالق الرازق، وهؤلاء لا ينفعون ولا يضرون، وإنما نحن نذهب إلى الحسين والبدوي وندعو يا عباس، أو يا علي، أو يا حسن، أو يا حسين، ويقولون: نقصد بذلك الوسيلة، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] فيقول: إن الله أمرنا أن نتخذ وسيلة وواسطة إليه، أما أنتم أيها الوهابية فتنكرون كتاب الله، وتعادون أولياء الله، وتكرهون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقولون: لا نتخذ وسيلة إلى الله، فنقول: يقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35]، فهذه الآية تبين معنى الوسيلة وأنه وليس المقصود بالوسيلة الأشخاص والذوات، ولو كانت كذلك لما كان لهذه الآية معنى؛ لأن هؤلاء الأشخاص أو الذوات يبتغون إلى ربهم الوسيلة، فهل هؤلاء الأشخاص ببتغون أشخاصاً آخرين، لا يمكن هذا؛ لأنهم هم الذين يُبْتغَون ويُعبَدون.(30/3)
معنى الوسيلة
فالوسيلة هي: القُربة كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح 8/ 397؛ حيث يقول: 'والمراد بالوسيلة القربة أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، وأخرجه الطبري من طريق أخرى عن قتادة، ومن طريق ابن عباس أيضاً'.
فالوسيلة هي: القربة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] أي: ابتغوا إليه القربة، وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:57] فكلمة أقرب توضح أن المراد هو: القربة، حيث إن كلاً منهم يريد القربة، فهم يتنافسون ويتسابقون أيهم أقرب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ وأيهم أكثر ذلاً وخضوعاً وانقياداً واستسلاماً وعبوديةً ودعاءً وضراعةً ورغبةً ورهبةً وإنابةً، فهذا هو المعنى الصحيح.
ولهذا ذكر الإمام البخاري رحمه الله بالسند المتصل عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال: [[كان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجن، فأسلم الجن، وتمسك هؤلاء بدينهم]] فهم في الجاهلية كانوا يعبدون الجن ويوم القيامة تشهد عليهم الملائكة بذلك، كانوا يعبدون الجن وأكثرهم بهم مؤمنون، فلما بُعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستمع إليه نفرٌ من الجن ولَّوا إلى قومهم منذرين، كما أخبر الله تبارك وتعالى، وكما جاء في الأحاديث الأخرى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذهب إليهم وعلمهم فآمنت الجن وكان ممن آمن منهم جنٌ كان يعبدهم المشركون من الإنس، فآمن المعبودون وظل العابدون على شركهم يعبدون من قد أناب وتاب وآمن، وهو يعبد الله ويبتغي إليه الوسيلة يرجو رحمة الله ويخاف عذابه.(30/4)
التوسل الممنوع
يقول الحافظ ابن حجر: 'وهناك رواية عن ابن عباس أن المقصود في هذه الآية هم: الملائكة والمسيح وعزير'.
ولكن قال: إنها ضعيفة، والمعنى في هذه الآية واضح، وهو أن هؤلاء عباد صالحون الملائكة والمسيح وعزير منهم، وكذلك من ذكرهم عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، فهذه أمثلة وأنواع فيمن يُعْبد من دون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو غير راضٍ بهذه العبادة.
وهناك الآن من يعبد علياً رضي الله تعالى عنه والحسن والحسين وأمثاله من الصالحين كـ جعفر وعبد القادر الجيلاني، فهؤلاء كانوا يعبدون الله ويخافونه ويرجونه.
ولكن الناس في الحاضر قاموا بعبادتهم، وهذه الحجة القرآنية قائمة على كل هؤلاء، فمثلاً البدوي وأمثاله لم يعرف عنهم صلاح وما جاء من أحوالهم يدل على أنهم زنادقة، مما يدل على أن الناس يتوسلون إلى الله بمن لا يؤمن بالله، كما كان بعض شيوخ الطرق الصوفية.
فالناس يرونه يترك الجمعة والجماعات ويمشي وهو بادي العورة في الطرقات، ويفعل أقبح القبائح، ومع ذلك يعتقدون ولايته ويعبدونه، ويدعونه حياً وميتاً، فهؤلاء ليس لهم ولاية ولا مكانة عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فمن يتقرب ويظن أنه يتقرب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بهم فهو واضح الخسارة والخيبة، وليس لديه عقل ولا فكر ولا رأي.
وأما الذي يتوسل إلى الله تبارك وتعالى بالملائكة، ويقول هؤلاء ملائكة الله نتقرب إلى الله بعباده المكرمين، أو يتوسل إلى الله بأنبيائه أو بعباد الله وأوليائه وأصفيائه، ويقول: نحن نتقرب إلى الله بهؤلاء، فالجواب عليه واضح في الحجة القرآنية، وهي أن هؤلاء أنفسهم إنما يعبدون ويدعون ويتقربون إلى الله، فالواجب التقرب إلى الله كتقربهم ولا نجعلهم هم الوسيلة.(30/5)
أركان العبادة في آية الوسيلة
وقد ذكر الله في هذه الآية المراتب الثلاثة، وهي: أركان العبادة الثلاثة: الحب، والخوف، والرجاء، ونستطيع أن نستنبط الحب من قوله: (أيهم أقرب) فعندما تقول فلان أقرب إليك أي: أن محبته لك أكثر، فالقرب هو لازم المحبة.
وأساس كل الطاعات هي المحبة، وأساس الإيمان بالله تعالى هو محبته ومحبة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونستنبط الرجاء من قوله: (يرجون رحمته) والخوف من قوله: (يخافون عذابه) ولذلك حقيقة العبودية هي: كمال الذل والخضوع، مع كمال المحبة والإجلال.
فإذا جردنا العبودية من المحبة، فإنها تصبح خوفاً محضاً، ولذلك نوضح بالأمثلة عبودية الأقوام السابقة، فالطواغيت نوعان في جميع العصور: إما طواغيت سلطان ورئاسة وعلو في الأرض، كما أخبرنا الله تبارك وتعالى، وهؤلاء هم الذين يريدون علواً في الأرض، فهؤلاء طواغيت الرئاسة والحكم والسلطة والعلو يجعلون أنفسهم أرباباً وآلهةً من دون الله، ومن المعلوم أن من كره هؤلاء ومقتهم أنه غير عابد لهم، وإن كان مطيعاً لهم، فقد يكون من جنودهم وأتباعهم لكن ليس من عبادهم؛ لأن أساس العبادة هو: المحبة.
والنوع الآخر من الطواغيت هم: طواغيت التدين والدين والخرافة والتبديل والتحريف، وهؤلاء لخطرهم ولضررهم هم الأكثر والتحذير منهم في القرآن أكثر، وأكثر شرك الناس بسببهم؛ لأنه لا يقترن بهم قوة ولا سلطان فإذا وجدت بين أهل مصر من يثني على فرعون، فيحتمل أنه يثني عليه خوفاً منه؛ لأنه الملك أو لمصلحة أو رابطة دنيوية ولا يكون عابداً له ولا مؤلهاً له، لكن من كان يحب البابا يوحنا أو شيخ الطريقة أو البدوي، فهذا لا سلطان له، وسبب محبته أنها محبة تَقَرُّب وتَنَسُّك وأنه يظن ذلك ديناً.
والطاغوت: هو كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فهؤلاء الذين ذكرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من أول صفاتهم المحبة؛ لأنها الركن الأساس من أركان العبادة أو العبودية، والرجاء هو الركن الثاني، فبالإجلال والتقدير والمحبة تكون العبادة، فإذا اجتمع هذان أصبحت عبادة، وإذا انتفى أحد هذين لم تصبح عبادة.(30/6)
الخوف من الله تعالى
وقال تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] وقال تعالى: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:41] وقال تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40] {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44] أو {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة:150] فهذه الآيات كلها في الخوف والرهبة والخشية.
قال: 'ومدح الله تعالى أهل الخوف وأثنى عليهم فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:57 - 61] ' هذه الآيات من سورة المؤمنون آيات عظيمة ذكرها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وسياقها يبين ما جاء في تفسيرها، وأنه تفسير حق ودلالته صحيحة.
وسياق الآيات هذه في بيان المحسنين السابقين كما ذكر في آخرها: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:61] فالذي يسارع في الخيرات ويسابق هو في درجة الإحسان والتقوى، وأما حال الفريق الآخر فقال تعالى: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون:54] وبين شعورهم ونظرتهم واعتقادهم فيما ينعم الله تبارك وتعالى به عليهم: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون:55 - 56] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر صنفين: صنف معرض عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وغير مؤمن به، فهو في غمرة ولهو، وعندما يرزق ويعطى يظن أنه مسارعة من الله تبارك وتعالى له بالخيرات لفضله وخيره وصلاحه.
والصنف الآخر: هم المؤمنون.
وعندما يذكر الله تبارك وتعالى أحوال أهل الكفر مقابل أحوال أهل الإيمان فإنه يذكر أعلى صفاتهم، فعندما يذكر الكفار يذكر أعلى درجاتهم في الكفر، وكذلك عندما يذكر صفات أهل الإيمان يذكر أعلى درجاتهم في الإيمان، ولا يذكر ضعاف الإيمان في هذا المقام المقابل للكفر، إنما يذكر في مقابل الكفار أهل الإيمان وما هم فيه من الفضل والسابقة والمسارعة والخير، وفي هذا دليل على أن الآيات هي في هؤلاء، ولذلك ما جاء فيها من الحديث ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح في (8/ 299) أنه الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة وصححه الحاكم، وسكت الحافظ رحمه الله تعالى ولم يشر إلى أن فيه انقطاعاً ما بين عبد الرحمن بن سعيد بن وهب الهمداني وعائشة؛ ولكن التفسير صحيح قالت: {قلت يا رسول الله، {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَة ٌ)) [المؤمنون:60] أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟}، فكان مقصودها رضي الله عنها أن هؤلاء العباد من إيمانهم وفضلهم وخيرهم إذا أتوا منكراً أو فعلوا فاحشة فإنهم يفعلونها وهم خائفون؛ لكن الأمر أجل وأعظم من ذلك، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يا ابنة الصديق ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف ألا يقبل منه} فهم يؤتون ويعطون ويبذلون من القربات والطاعات وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، فلسان حاله يقول: نعم صمت وصليت وحججت واعتمرت وأحسنت إلى الفقراء والمساكين، وحفظت لساني عن غيبة إخواني المسلمين، وحفظت يدي عن حقوقهم، لكني والله لا أدري أتقبل مني هذه العبادة أم لا، وربما كان في الحج من الرفث واللغو والفسوق والجدال أو الرياء ما أحبط الحج، فلربما كان في الصلاة والزكاة ما يحبطها، وربما انتفت بعض الشروط أو بعض الواجبات، أو فسدت النية فلم تقبل هذه الطاعة، فالمؤمن يعمل الطاعة وهو يخاف أن لا تقبل منه.
فهذه هي الدرجة التي ينبغي أن يكون عليها المؤمن، لكن الواقع من كثير من الناس أنهم يعملون المعاصي، ويرتكبون المحرمات ولا توجل قلوبهم، ولا يخافون من الله، والله تعالى يقول: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281] فالإنسان إذا عمل طاعةً أو معصيةً فعليه أن يتقي الله، ويشعر أنه راجع إلى الله، فإن كان ما عمله طاعةً فيخاف ألا تقبل وإن كان ما عمله معصيةً أو منكراً أو فاحشةً، فهو أحرى وأجدر أن يخاف الله، فليتب وينزجر عن معصية الله تبارك وتعالى.(30/7)
الفرق بين الخوف والخشية
وابن القيم رحمه الله في الجزء الأول من مدارج السالكين صفحة (502) ذكر شرحاً لمنزلة الخوف، وكلام المصنف رحمه الله مأخوذ من كلام ابن القيم حيث ذكر آية {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40] وآية: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْن} [المائدة:44] وذكر أن الله مدح أهل الخوف.
ثم ذكر الآيات من سورة المؤمنون، والحديث الذي ذكرناه آنفاً، ثم أتى رحمه الله بكلام نفيس في بيان الفرق بين هذه الألفاظ، مثل: الرهبة والوجل والخشية والخوف والإشفاق، والتفريق بينها من دقائق العلم التي لا يتفطن إليها إلا من وفقه الله، كما كان حال ابن القيم رحمه الله فيقول: 'الوجل والخوف والخشية والرهبة ألفاظ متقاربة غير مترادفة ' قال: 'قيل: إن الخوف هرب القلب من حلول المكروه عند استشعاره، وقيل اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوف'.
وحقيقة الخوف واضحة، وإيضاح الواضح من المشكلات، فالخوف معروف، لكن نأخذ ما بعده ليتضح الفرق، ويقول رحمه الله: 'الخشية أخص من الخوف؛ فإن الخشية للعلماء بالله' وأخذ هذا من قول الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] فالعلماء هم الذين يخشون الله؛ لأن الناس في هذا أنواع: فالنوع الأول: العالم بالله، والعالم بدين الله، فهم من يخشى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
النوع الثاني: عالم بالله غير عالم بدين الله، وهذا الذي وقع فيه كثير من العباد، فهو لديه حقائق الإيمان واليقين والإخلاص والرجاء والرغبة والخوف؛ ولكنه غير عالم بدين الله، فلا يعرف الحلال من الحرام، وربما وقع في البدعة فخرج عن طريق الإيمان والعلم، ولم يعد عالماً بالله.
النوع الثالث: من ليس عالماً بالله ولا عالماً بدين الله، وهذا حال أكثر الخلق، نسأل الله العفو والعافية.
يقول ابن القيم: ' فهي -أي: الخشية- خوف مقرون بمعرفة، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إني أتقاكم لله، وأشدكم له خشية ' وفي رواية أخرى: إني لأعلمكم بالله، وأشدكم له خشية} فالخشية مقترنة بالعلم، ففيها زيادة العلم والمعرفة بالمعبود سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وبيَّن ابن القيم الفرق بينهما فقال: 'فالخوف حركة، والخشية انجماع وانقباض، فإن الذي يرى العدو والسيل ونحو ذلك له حالتان: إحداهما: حركة للهرب منه وهي حالة الخوف.
والثانية: سكونه وقراره في مكان لا يصل إليه فيه وهي: الخشية ثم قال: وأما الرهبة فهي الإمعان في الهرب من المكروه -فالرهبة خوف؛ ولكن فيها زيادة إمعان في الهرب من المخوف منه وهي ضد الرغبة التي هي سفر القلب في طلب المرغوب فيه' فالرغبة زيادة عن مجرد المحبة، فالمحبة بلا رغبة لا يقترن بها الحرص والطلب، وأما الرغبة فيقترن بها العمل والحرص وطلب هذا المحبوب المراد، ثم يقول رحمه الله: 'وبين الرهب والهرب تناسب في اللفظ والمعنى'.
وهذه عادة لغة القرآن واللغة العربية.(30/8)
الفرق بين الرهبة والرغبة والوجل والهيبة
ثم قال: 'وأما الوجل فرجفان القلب، وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته، أو لرؤيته' فالوجل خوف؛ ولكنه من نوع خاص بالنسبة لشعور الإنسان عندما يرى من يجل أو من يخاف منه أو إذا ذكر عنده من يخافه، ثم قال: 'وأما الهيبة فخوف مقارن للتعظيم والإجلال' فالهيبة خوف؛ ولكنه ليس خوفاً مجرداً، إنما خوف مقترن به التعظيم والإجلال، كما قالت العرب:
أهابك إجلالاً ومابك قدرة علي ولكن ملء عينٍ حبيبها
قال: 'وأكثر ما تكون مع المحبة والمعرفة، والإجلال: تعظيم مقرون بالحب، -ثم قال- فالخوف لعامة المؤمنين' فكل مؤمن لابد أن يخاف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذا الذي نعتقده، وكل مؤمن مطالب أن يخاف على نفسه وعلى إخوانه المسلمين، وأن يخاف الله تبارك وتعالى، فالمقصود أن الخوف لعامة المؤمنين والخشية للعلماء، فالعلماء عندهم زيادة خوف مع علم فتصبح خشية، والهيبة للمحبين سواء كانوا من العلماء أم من غيرهم، وهذه ليست متعارضة بل يوجد بينها قدر مشترك قد تزيد صفة، أو جانب من الجوانب في فرد وجانب يزيد في فرد آخر، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم والسلف، فبعضهم يزيد عنده جانب الرجاء قليلاً، وبعضهم جانب الخوف، وبعضهم جانب الهيبة، وبعضهم جانب الخشية، فمثلاً أبو سليمان الداراني رحمه الله وعامر بن عبد القيس، وعبد الله بن المبارك، والفضيل بن عياض، وسفيان الثوري، رحمهم الله غيرهم غلب عليهم جانب الخوف، وبعض العلماء يغلب عليهم جانب الهيبة والإجلال والمحبة، والله تبارك وتعالى جعل للنفوس التنوع في التعبدات؛ ليُعْبَد سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بكل أنواع العبوديات، وهي في الأصل مشتركة ولها أصل مشترك بين جميع الناس، فيقول: 'الخوف لعامة المؤمنين، والخشية للعلماء العارفين، والهيبة للمحبين، والإجلال للمقربين، وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية}، وفي رواية {خوفاً} وقال: {لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى} فزيادة علم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تدل على معرفته بربه وهيبته له تبارك وتعالى، وإجلاله في قلبه، ومن معرفته لما أعده الله تبارك وتعالى للمؤمنين من الثواب، وللمجرمين من العقاب، ومعرفته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلمه بأيام الله وسنن الله في الذين خلوا من قبلنا.
وهذه القلوب في مثل هذا تتفاوت تفاوتاً عظيماً جداً، وهذا هو موضع زيادة الإيمان ونقصانه وموضع التنافس: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] ثم يوضح ذلك بقوله: 'فصاحب الخوف يلتجئ إلى الهرب' فيهرب كلما رأى شهوةً دفعته إليها عينه أو أذنه أو قلبه، فعلم: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] فيهرب من هذه المعصية ويخاف، وهذا هو حال المؤمن، ثم قال: 'وصاحب الخشية يلتجئ إلى الاعتصام بالعلم' الذي في كتاب الله وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أضرار هذه المعصية، ومن فسادها، وأثرها على القلب، وعلى الحياة في الدنيا والآخرة، ولذلك صاحب هذا العلم تحصن بأقوى حصن، فلا يرقى إليه هذا الوحش، ولا يطمع فيه ولا يصل إليه؛ لأنه ليس مجرد هارب، فالهارب قد يُدْرَك؛ لكن الذي يعتصم بحصن حصين لا يُنَال -بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فكذلك الإنسان يعتصم بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويعتصم بالإيمان بالله وبكتاب الله، وبالعلم الذي يقربه من الله ويعرفه بالله عز وجل فلا يأتي شيئاً مما حرم الله؛ لأنه عرف ذلك بما أعطاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وما وهبه من العلم بخطر الذنوب والمعاصي وآثارها وضررها على الإنسان.(30/9)
علاقة الإشفاق بالخوف
يقول ابن القيم في صفحة (514): 'والإشفاق: رقة الخوف' الاشفاق خوف مع رقة، ثم يقول: 'وهو خوف برحمة من الخائف لمن يخاف عليه' وأرق الخوف هو الإشفاق والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر ذلك في القرآن، حيث ذكر أن أهل الجنة يتذكرون ما كانوا فيه من الدنيا، فقالوا: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26]، وقال في سورة المعارج: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج:27 - 28] وقال في سورة فاطر: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر:34]، فكانوا في الدنيا مشفقين، وكان الحزن في قلوبهم؛ لأنهم لا يعلمون كيف يلقون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أما الذين كانوا في دنياهم فرحين بطرين، فإنهم يفاجئون يوم القيامة بأهوال لم يكونوا يتوقعونها.
وأما المؤمنون فقد ذكر الله تعالى حالهم في الخوف فقال عنهم: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيرا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الإنسان:10 - 11] فهذا جزاء الخوف والحزن ولهذا قال تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:34 - 35] فكانوا يعانون في الدنيا التعب والألم والأحزان والمصائب، ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر} فالمسجون -دائماً- خائف ومشفق حزين؛ لأنه مسجون، ولكن من الناس من يكون مطمئناً كما كان شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله لما وضع في السجن قال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] فالجنود والسلاطين الذين يقفون في الخارج في العذاب، وهو في الرحمة بالمقارنة لما أعده الله في الآخرة، فالمؤمن مسجون في الدنيا مع طمأنينته وفرحه بفضل الله قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] فهو مع فرحته وطمأنينته وسعادته بذكر الله مسجون؛ لأنه لم يدخل الجنة ولم ير وجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا الحور العين، ولم يلتقِ بإخوانه المؤمنين على سرر متقابلين.
وأما الكافر فقد يكون في الدنيا في منتهى الرفاهية والتنعم والتلذذ، ولكن هذه جنته بالمقارنة لما ينتظره هنالك من العذاب، ففي الآخرة ليس له جنة، حيث يقول تعالى للكافرين: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:20] {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود:16] فجنتهم في الدنيا مع ما فيها من الشقاء والنكد والتنغيص، ولكن لأنهم ليس لهم في الآخرة إلا النار فإن جنتهم في الدنيا.
ويُضرب مثل رائع لمقدار التمتع بالدنيا، فالحاكم عبد الرحمن الناصر حكم الأندلس خمسين سنة، والأندلس تسمى جنة الدنيا، ففي يوم من الأيام اجتمع في آخر ملكه مع بعض وزرائه، فتذاكروا هذا الأمر العظيم، وهل سبق أن أحداً حكم هذه المدة وهذه الجنة، وكعادة المنافقين من جلساء السلاطين في كل زمان ومكان أخذوا يمدحونه ويثنون عليه، ولكنه قال لهم: أتدرون كم أيام السرور في هذا الملك في الأندلس؟! قالوا: لا، قال: عددتها فإذا هي أربعة عشر يوماً! فالمقصود أنه لا بد للمؤمن من الخوف والرجاء والإشفاق والرهبة والرغبة والوجل.(30/10)
الخوف والرجاء بين الإيمان والنفاق
وكما قال الحسن رحمه الله فيما نقله عنه ابن القيم قال: قال الحسن: 'عملوا والله بالطاعات، واجتهدوا فيها، وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحساناً وخشية، وإن المنافق جمع إساءة وأمناً' فإذا وجدت الخائف الوجل المشفق من عذاب الله، فتجد أن أعماله فيها الكثير من الخير والإحسان والفضل، وأما المطمئن فتجد فيه النفاق والبعد والمعصية، والعكس بالعكس، فالمؤمن يحسن العمل ولذلك أحسن الرجاء، وأما المنافق فإنه أمن من مكر الله ولم يخف الله ولم يبال بعقوبة الله؛ فلذلك اطمأن وعمل ما عمل، ولذلك إذا رأيت المؤمن شكا ذنوبه، وخاف من عدم قبول أعماله، ورأى ذنوبه كما جاء في الحديث: {المؤمن يرى ذنوبه كالجبل يخشى أن يقع عليه، وأما المنافق فيرى الذنوب -جميعاً من شرور وخمور وفجور ولهو وإعراض وتهاون في طاعة الله وأكل لحقوق الناس- كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار} وإذا سألته وجالسته قال: نحن أحسن حالاً من غيرنا، ثم يذكر حسناته، أما المؤمن فلا يذكر حسناته لأنه يعلم أن هذا خطر عليه.
لا بأس بذكر نعمة الله عليك؛ لكن مع شكر هذه النعمة، وأما في أمور الدين فينظر العبد إلى من هو فوقه في العبادة والإحسان، وأما في أمور الدنيا فينظر العبد إلى من هو دونه؛ لئلا يزدري نعمة الله عليه.(30/11)
خوف يؤدي إلى الأمن
وهنا فائدة عظيمة ذكرها ابن القيم رحمه الله حيث يقول: 'والخوف ليس مقصوداً لذاته بل هو مقصود لغيره، فأهل الجنة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون' والمحبة مقصوده لذاتها، ولهذا نحب الله تبارك وتعالى في الدنيا، وإذا أدخل الله تعالى المؤمنين الجنة يظلون يحبون الله بل يزدادون حباً له؛ لأنها مطلوبة لذاتها، وأما الخوف فليس لذاته بل هو وسيلة للإنزجار عما حرم الله ونهى عنه، فإذا أمِن العبّاد وبشرتهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون.
زال الخوف، ولهذا قال تعالى في الجنة: {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] فنفى الله تبارك وتعالى عنهم الخوف والحزن، فلا يخافون مما أمامهم ولا يحزنون على ما وراءهم؛ لأن الله تعالى يتولى المؤمنين والمتقين والصالحين، فلهذا يقول: {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] فالخوف ليس مقصوداً لذاته، وإنما لما يترتب عليه من معرفة الله، ومعرفة وعد الله ووعيده، والانزجار عما نهى الله تبارك وتعالى عنه، ثم قال: 'والخوف يتعلق بالأفعال، والمحبة تتعلق بالذات والصفات' فالخوف يتعلق بالأفعال، فتجد العبد يخاف من عذاب الله، والله تبارك وتعالى بين لنا أن العذاب فعله، وأن الرحمة والمغفرة صفته الذاتية، قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50] وهذا من كمال رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك نجد في الفاتحة قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2 - 3] ورحمة الله سبقت غضبه، ولهذا جعل المحبة تتعلق بالذات والصفات، وأما الخوف فإنه متعلق بالأفعال؛ لأن عذابه هو من فعله، وأما محبته فهو يُحَبُّ لذاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأنه غفور رحيم ودود كريم، فاسم الله الودود يشعر بمحبة خاصة جداً.
ولو تأمل الناس في صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لعرفوا الله، وإذا عرفوه حق المعرفة وعرفوا أنه ودود وغفور ورحيم، أحبوه فلم يعصوه، وإذا انزجروا عن معصيته -لأنهم يؤمنون بأنه الرحمن الرحيم الغفور الودود- لكانوا من أهل الهيبة والإجلال، وهذا أفضل من أن يكونوا من مجرد أهل الخوف كما بين ابن القيم رحمه الله.
والحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.(30/12)
نظرات في التربية الحديثة
تكلم الشيخ حفظه الله عن العلاقة بين التربية والتوحيد، وأن من حِكَم البعثة النبوية: التربية والتزكية، ثم تحدث عن شمولية التوحيد لكل جوانب الحياة، على عكس اعتقاد الغرب الذي يفصل بين الدين والحياة، بل بين الإنسان والروح، ثم أورد آخر بحوثهم التي أثبتت تكامل أوجه الحياة، مع إثباتها لأمور غيبية كانوا ينكرونها، ووصولهم إلى بطلان النظريات المادية الحيوانية التي كانوا يؤمنون بها ويروجون لها.(31/1)
النظريات التربوية في ميزان التوحيد
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد إمام الموحدين وقائد الغر المحجلين.
وبعد: فنبرأ إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من طولنا وقولنا إلى حوله وقوته، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
أما بعد: فموضوع التربية الحديثة موضوع مهم وضروري لنا في الحياة، ولكن الموضوع أكبر من أن تحيط به محاضرة أو كتاب، بل لو صنف فيه مجلدات لكان محتاجاً لذلك، ولكن لعلنا نتناول هذا الموضوع من زاوية مهمة -هي أهم زاوية من زواياه- وهي: زاوية التوحيد.
فللتربية علاقة كبيرة بالتوحيد، إذ أن النظريات التربوية والإنسانية بعامة لا نستطيع أن نفصلها عن التوحيد، لأن التوحيد هو الدين، والدين يشمل كل نواحي الحياة كما قرر ذلك الله تعالى لما بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمره قائلاً: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163] فالتوحيد ليس ما يقوله علماء الكلام الذين جردوه عن حقيقته، فجعلوه مجرد اعتقاد الوحدة -أي أن الله ليس اثنين ولا ثلاثة- نعم.
إنه تعالى ليس اثنين ولا ثلاثة، بل هو إله واحد.
ولكن حقيقة التوحيد هي: توحيد الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات، فلا بد أن يوحد الإنسان عبادته لله، كما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] أي ليوحدون، ونحن في كل ركعة من ركعات صلاتنا نقرأ سورة التوحيد -الفاتحة- ونقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فديننا هو دين التوحيد، ولا يصح أن ننظر إلى أية قضية من قضايانا إلا من خلال التوحيد، ولا سيما إذا كانت القضية تتعلق بأعمالنا وسلوكنا وتصرفاتنا، وهذا هو مضمون التربية.
والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول في الحديث الذي رواه أحمد والحاكم والبيهقي وغيرهم يقول: {إني لخاتم النبيين وآدم منجدل في طينته، وأول ذلك دعوة أبي إبراهيم- عليه السلام - وبشرى عيسى بن مريم ورؤيا رأتها أمي} فدعوة إبراهيم هي الدعوة التي دعا بها إبراهيم وإسماعيل وهما يرفعان القواعد من البيت، إذ قال الله حاكياً قولهما: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:129].
فلاحظ أن الدعوة تبتدئ بقوله: {يَتْلُوعَلَيْهِمْ آيَاتِكَ) وهذا لا شك فيه، فقد جاءنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالذكر الحكيم.
ثم ثنَّى بقوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) ثم قال: {وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} فلما استجاب الله تبارك وتعالى لدعوة إبراهيم عليه السلام قدم التزكية على التعليم كما بين ذلك في سورة البقرة فقال: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة:151] وفي سورة آل عمران: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164].
وفي آية الجمعة قال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2] فقدمت التزكية على التعليم، لأن المهمة الأساس في دعوة الرسل وكل داعية هي التزكية قبل التعليم، والتزكية هي التربية -كما نسميها نحن- لكن لفظة (التزكية) أدل وأدق على المعنى من التربية.(31/2)
معنى التزكية وحقيقتها
التزكية كلمة أبلغ من أن تشرح أو تفصل بكلمة أخرى، فهي تعني: التطهير من الأدناس، والأرجاس في القلب، والجوارح، والمشاعر، والفكر، والعقل، وفي كل شيء.
فالله -تبارك وتعالى- بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مزكياً لهذه القلوب من خلال التوحيد، فالتزكية بالتوحيد تعني: التخلص من الشرك، والذنوب، والمعاصي، والشهوات، والشبهات، وكل أدران النفس الإنسانية في اعتقادها، وسلوكها، وأعمالها، وتصوراتها، وقيمها، فحينما نشهد أن لا إله إلا الله، ونعبد الله، ونفرده بالعبادة، ونزن كل أعمالنا وأمورنا بمقياسٍ ومنهج ومعيارٍ واحد، وبقيمٍ واحدة، هي ما جاء بها محمدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهكذا كان الجيل الأول: السلف الصالح ومن اتبعهم، كل أمرٍ في حياتهم كانوا ينظرون إليه من زاوية ما قاله الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من زاوية العقيدة، ومن باب الإيمان بالله تعالى، ومن باب هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
واليوم نرى بعض المتخصصين في مجالٍ ما لا يخضعون هذا العلم للعقيدة، ويقولون: لا وصاية لعلمٍ على علم، لا وصاية لأناس على أناس، ولا كهنوت في الإسلام، ولا رجال دين في الإسلام.
نعم.
لا كهنوت ولا رجال دين، بل حتى ولا وصاية، ولكن شهادة أن لا إله إلا الله التي بعث بها محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي أن يكون شعورنا وموازيننا، وقيمنا وعلومنا، وحركة فكرنا، ونشاطنا كله مأخوذٌ مما جاء به محمدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس أحد في هذا بأولى من أحد، ولهذا فنحن لا نستطيع أن نتحدث عن التربية دون أن نتكلم عن علم الاجتماع، أو علم النفس، أو علم السياسة، أو علم القانون أو التشريع، أو الاقتصاد، لا يمكن ذلك حتى في الدراسات الجامعية، إذا درست التربية وأصولها تجدهم يبدءون من التربية عند القدماء -الرومان واليونان مثلاً- ثم التربية في العصور الوسطى، ثم التربية عند علماء المسلمين، ثم التربية الحديثة، ثم المعاصرة، فإن كان الطالب في الاقتصاد -أيضاً- فإنهم يبدءون بالسلسلة نفسها: الاقتصاد عند أرسطو -مثلاً- واليونانيين، ثم العصور الوسطى، ثم يتعرضون لنظريات هوبز، أو جان جاك روسو مثلاً، إلى آخره، وكذلك في علم الاجتماع يبدءون بنفس السلسلة، علم الاجتماع عند أرسطو، ثم أفلاطون، ثم هوبز، وروسو، وديكارت إلى آخره، الشيء نفسه في كل علم يبدءون بهذا.(31/3)
شمولية التوحيد
ونستنتج من هذا أن طبيعة ديننا هو دين التوحيد، والنظرة فيه واحدة شاملة، وكذلك هذه العلوم إذا نظرنا فيها نجد أن الأصل والمنبع واحد، فأي نظرية أخلاقية يمكن أن تكون نظرية تربوية، وأي نظرية اجتماعية يمكن أن تكون نظرية تربوية، وأي نظرية اقتصادية يمكن أن تكون نظريةً تربوية، وأي نظرية سياسية يمكن أن تكون نظرية تربوية، وبالتالي نستطيع أن نقول: إنه لا يمكن أبداً أن توجد وأن تنبثق نظرية تربوية إلا من عقيدة.
وبالمعنى الأعم نستطيع أن نقول: ما من حضارة إلا من واقع.
فالحضارة هي عبارة عن الواقع أو الجانب التطبيقي والواقعي للعقيدة التي تدين بها هذه الحضارة أو ذلك الشعب أو تلك الأمة التي صنعت الحضارة.(31/4)
ظلمات النظريات القديمة والحديثة
وبين يدي الآن كتاب مهم جداً، هو كتاب: العلم في منظوره الجديد، حبذا لو تصفحناه قليلاً، فإنه يفند النظريات القديمة، النظريات التي تجزئ النظرة إلى الإنسان، وتفصل ما بين الإنسان والدين، ومؤلفاه كاتبان غربيان لا يؤمنان بالإسلام، ولكنهما أثبتا فشل وبطلان كل النظريات الحديثة والقديمة والمعاصرة، في نظرتها إلى الله وإلى الدين وإلى الأخلاق والقيم، وأثبتا أنه لا بد أن يكون التصور الكلي الموحد.
ونحن في غنى -والحمد لله- عن هذا، فنحن نعلم ذلك، لكن لكوننا نوجه الخطاب إلى إخوة لنا في الدين، خدعوا بتلك النظريات وغرتهم وأخذهم بهرجها، وربما كان للتخصص دوره المؤثر، فنخاطبهم بذلك لعلهم يضمون هذا إلى ما يستذكرونه من حقيقة عقيدتهم وإيمانهم -بإذن الله- فتنجلي الحقيقة.
يقول المؤلفان في أول الكتاب ص15: 'لكل حضارةٍ من الحضارات تصور كوني للعالم -أي: نظرة يفهم وفقاً لها الكون ويقيم عليها حياته، إذاً: لا بد من تصور أي نظرة كونية يفهم كل شيء ويقيم كل شيء من خلال هذه النظرة- والتصور السائد في حضارة ما، هو الذي يحدد معالمها ويشكل اللُحمة بين عناصر معارفها، ويملي منهجيتها، ويوجه تربيتها، وهذا التصور يشكل إطار الاستزادة من المعرفة، والمقياس الذي تقاس به، وتصورنا للعالم هو من الأهمية بحيث أنا لا ندرك أن لدينا تصوراً ما، إلا حين نواجه تصوراً بديلاً إما بسفرنا إلى حضارة أخرى، وإما باطلاعنا على أخبار العصور الغابرة، وإما حين يكون تصور حضارتنا للعالم في طور التحول، والحضارة الغربية ما برحت منذ عصر النهضة تخضع لسلطان العلم الجريبي، بيد أن النظرة الكونية التي تولدت إبان عصر النهضة تواجه في الوقت الراهن تحدياً من علم القرن العشرين' عصر النهضة -الذي تحدثنا عنه- يمكن أن يكون القرن الثالث عشر، أو الرابع أو الخامس عشر، على تفاوت في التقدير والمقصود هو عصر الاحتكاك بالحضارة الإسلامية في الأندلس، وإيطاليا، وجنوب أوروبا عموماً، وبداية تسلم للقيادة العلمية، وبداية بواعث الانبعاث في الغرب إذاً: هم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يقولون: إنها تواجه تحدياً من العقيدة، أو من الإيمان الحق، لا، ولكن من علم القرن العشرين تبطل كل تلك النظريات، ويقول: 'الأمر الذي يفضي إلى وجود نظريتين علميتين متنافستين' وعلى حد تعبير أحد مؤرخي الحضارات وهو تومس بري، يقول: 'القضية كلها قضية نظرة ونحن الآن بالذات نواجه مشكلة' وهو يتكلم عن واقع الحضارة الغربية، 'لأنه ليس لدينا نظرة مقبولة، فلا النظرة القديمة تؤدي دورها على الوجه السليم، ولا نحن تعلمنا النظرة الجديدة' سبحان الله! هذا ما يعترفان به! إذاً هم لا يزالون يعيشون في تخبط وفي ظلمات نتيجة هذا السيل المتدفق من النظريات الحديثة، أو نظريات عصر النهضة، كما تسمى.(31/5)
أصل النظرية التربوية الغربية
لو استعرضنا التربية الحديثة من خلال النظريات الكونية والعلمية، لوجدنا أن أصل النظرة في العالم الغربي النصراني- قبل دخول الدين النصراني كانت نظرة وثنية- وهذه النظرة النصرانية التي فرضت على الناس، هي: اعتقاد أن رجال الدين، هم كلمة الله المقدسة التي لا يجوز لأحد أن يخالفها بأي حال من الأحوال.
والتربية الكنسية النصرانية كانت أول وأهم ما تفترضه أن تقتل في الإنسان مواهبه، ومشاعره، وتطلعاته إلى الأفضل في هذه الحياة الدنيا، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27] ابتدعوا الرهبانية التي تقتل في الإنسان أي تطلع للعيش في هذه الحياة الدنيا كما أمر الله، وكما يريد الإنسان أن يعيش بحكم الفطرة التي فطره الله عليها.(31/6)
الكنيسة والعلم
ثم أضافت الكنيسة إلى قتل هذا التطلع وهذه المواهب أمراً آخر مهماً: وهو أنها حاربت العلم والعلماء، فأول النظريات التي اصطدمت بالكنيسة هي النظريات الكونية التي جاء العلم ليثبت صحتها بالجملة، مع أن النصرانية يوجد فيها بعض الحق في بعض الجوانب الأخلاقية من تربية الإنسان على: ألا يرائي، وألا يغش، وألا يكذب، وأن يتحلى بالأخلاق، فهذه موجودة في النصرانية المحرفة.
واصطدمت النصرانية بما فيها من حق بالنظريات التي ثبتت صحتها أول الأمر، فاصطدمت بنظرية كوبر نيكوس في الكون وفي المجموعة الشمسية، وكذلك نظرية جاليليو في دوران الأرض، ثم نظرية نيوتن في الجاذبية أو الأجرام السماوية، وهي امتداد لنظرية كوبر نيكوس، لما اصطدمت هذه النظريات بالكنيسة، وأثبتت علوم الرياضيات والتجربة الحسية صحتها في الجملة، هزمت الكنيسة بحقها وباطلها في هذه المعركة، فظهرت بعد ذلك النظريات الإنسانية -التي ثبت زيفها وبطلانها- وقاس الناس النظريات الإنسانية على النظريات الكونية، فقالوا: العلم على صواب دائماً، والكنيسة والدين على خطأ دائماً.(31/7)
ظهور النظريات المادية
أهم نظرية في هذا المجال هي نظرية داروين، وتفرعت وتشعبت منها النظريات النفسية والاجتماعية والتربوية الكثيرة جداً، ومن أهم النظريات التي انشقت من الداروينية، النظرية المادية التي طغت على فكر القرن التاسع عشر، فظهر كارل ماركس وقال: لا تؤمنوا بالغيب، وآمنوا بالمادة وبالشيء المحسوس الذي لا يكلفكم شيئاً، أما عالم الغيب الذي تقوله الكنيسة فلا دليل على إثباته، وكله أساطيره، وهذا امتداد لنظرية هيجل وغيره، ثم ظهرت النظريات في التربية مثل نظرية التحليل النفسي، التي قال بها اليهودي فرويد، الذي فسر الدوافع الإنسانية بأن الإنسان بكامل نشاطاته، وبكل آماله، وأحلامه، وتطلعاته، وحضاراته، وبنائه، وتراثه، دوافعه في كل ذلك غريزة واحدة من غرائزه، هي الغريزة الجنسية! هكذا فسرها فرويد.
ثم جاء ما هو أدهى من ذلك وأطم، المدرسة السلوكية التي تفسر الإنسان تفسيراً حيوانياً وآلياً معاً، أي التي لا تجعل للعقل أي دور، وإنما التحكم والتوجيه للغريزة الحيوانية البحتة، فهربوا من الإيمان بالغيب، والإيمان بإله الكنيسة، وأثبتوا أن الإنسان حيوان! فخططوا ونظروا على هذا الأساس، فكثير من علوم النفس، والتربية، والاجتماع، وعلم النفس التكويني تطبق النظريات الحيوانية على الإنسان، فتطبق التجربة على الكلاب، أو القرود، أو الفئران، أو الأرانب، والنتيجة تطبق على الإنسان، فيغفل جانب عظيم جداً، وجانب مهم وهو: إنسانيته، وروحه، وقلبه، وتبقى الأمور متعلقة فقط بالأعصاب، والميكانزم العصبي، وبالنواحي العضوية، الفسيولوجيا العضوية البحتة، وليس للروح ولا لعالم الغيب أي دخل أو مجال فيها.
وهكذا توسعت النظريات على اختلافها، وإذا بنا نجد أن الإنسان لا يشكل إلا كومة من اللحم والدم والعظم يوضع على منصة التشريح، ثم يراد أن يخطط له اجتماعياً، وسلوكياً، وأخلاقياً، حتى الفنون وحتى الآداب أريد لها أن تنتكس لتخضع لكل تلك المعايير السابقة، ولا شك أنها نكسة كبرى ابتليت بها الإنسانية.(31/8)
سقوط الشيوعية لتنكرها للدين
إن الفنون وحتى الآداب أريد لها أن تنتكس لتخضع لكل تلك المعايير السابقة، ولا شك أنها نكسة كبرى ابتليت بها الإنسانية، ومن فضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن إحدى النظريتين الغربيتين الكبيرتين قد انهارت وهي النظرية الشيوعية الماركسية فعندما كنا نتحدث عن هذه النظرية قبل سنوات، قبل ظهور جورباتشوف والبروسترويكا، كنا نحتاج أو نضطر أن نتكلم عن خلل وفساد الشيوعية، ومنافاتها للفطرة، وأنها لا تصلح أن تكون نظريةً اقتصاديةً، ولا اجتماعيةً، ولا تربوية، فضلاً عن أنها تصلح أن تكون عقيدة كما أراد أصحابها، أو نظرية في الأدب والفن اللذين هما أعمق وأعقد من أن تدخلها أي نظرية تجريبية عادية، كنا نحتاج إلى ذلك، وإذا بنا نرى انهيارها.
فالثورة الشيوعية قامت وحكمت روسيا في عام (1917م)، والبروسترويكا -أي إعادة البناء- أعلنت في عام (1985م)، فهذه المدة في عمر الأمم قليلة جداً، مثل أي دولة من الدويلات التي قامت في تاريخنا الإسلامي استمرت ستين أو سبعين سنة لا يكاد يؤرخ لها، أو لا تذكر إلا عرضاً، وإن كنا نحن الآن نرى الشيوعية بهذه الضخامة لأننا نعيش في الواقع، لكن بعد قرن أو قرنين أو ثلاثة، سيقال ظهرت في القرن العشرين أو في أوله نظرية، وفي الربع الأخير منه سقطت، وكان اسمها الشيوعية.
فـ الشيوعية سيطرت وكادت أن تتحكم في ثلث البشرية تقريباً، وجعلت نفسها عقيدة عامة في التربية وفي كل نواحي الحياة، لكنها سقطت، وهذا السقوط نتيجة لافتقارها للإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وستسقط أكثر فأكثر، ولن ينفعها أي إصلاح أو ترقيع إلا بأن تعود إلى الله، وتؤمن إيماناً حقيقياً، لا كما عبر جوربا تشوف وقال: 'الحل بالعودة إلى تراثنا وإلى مسيحيتنا' فنقول له: إن مسيحيتك هي التي فررت منها أولاً والتي فر منها كارل ماركس، عندما كان يقول: 'المادة هي هذه الأشياء'.(31/9)
العلم يثبت الغيب
وعلق على تلك النظريات العلماء -علماؤهم الآن- وقالوا: هذا كلامٌ مضحك، لأنهم اكتشفوا أن هناك موادَّ غير محسوسة، واكتشاف أن الذرة ليست أصغر شيء في الكون، وإنما الذرة عبارة عن: نواة ويدور حولها إلكترونات سالبة وبروتونات موجبة، عالم غريب جداً، إنهم يتكلمون عن الطاقة والحركة، وهي أمور غيبية والقضية الآن هي في عالم الغيب، فلم يعد الكلام عن الملائكة، ولا عن الجنة، ولا عن النار، ولا عن ذات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بل الآن عالم الغيب بالنسبة لهم هي هذه المادة، فهم يبحثون عن سرها وتركيبها وتكويناتها، بل يقولون: لو أخذت أي جزيء من هذه الجزيئات في أي شيء وكبرته تكبيراً كبيراً جداً، لوجدت نفسك ترى فراغات هائلة ولا ترى المادة، فدفعتهم هذه الاكتشافات للعودة مرة أخرى للإيمان بالغيب من جهة أخرى.
فالطلاب في كلية العلوم وغيرها يدرسون النواة، والذرة، والإلكترونات السالبة والبروتونات الموجبة، فيؤمنون بها دون أن يروها أو يحسوها، إذاً: فالقضية أصبحت قضية إيمان بالغيب، وإن كانوا في الأصل هربوا منه، لكن الفطرة أعادتهم.
وهناك حقيقة لاشك فيها، وهي: أن ترك التوحيد هو وراء كل انحسار لأي مذهب من المذاهب.
ونذكر قصة للرئيس الأمريكي جورج بوش، عندما كان سفيراً لدولته في الصين -في الحقيقة أنه كان جاسوساً كما يبدو- وكما عبر في كتاب التطلع إلى الأمام، فذكر قصة طريفة في كتابه الذي صدر حديثاً يقول في (ص195) معبراً عن لقائه هو وكيسنجر، وووستن لورد مع ماوتسي تونغ -الزعيم الشيوعي الكبير- بعد أن ضعف وأصبح صنماً مهترئاً لا قيمة له، ولكن الصينيين يقدسونه ويعبدونه، حتى إنه كان لا يتكلم إلا بإشارات خفيفة , وتتقطع منه الكلمات من كبر سنه، يقول بوش عن ذلك اللقاء: 'مع مرور وقت الاجتماع ظهر أن ماو أصبح أقوى وأكثر تيقظاً، أشار بيديه مراراً، وحرك رأسه من ناحيةٍ إلى أخرى، وظهر بأن الحديث يحفزه' أي: ينشط مع انفعالات الحديث مع أنه لا يقدر أن يتكلم ولا يعبر، قال: 'واستمر يشير في أحاديثه إلى الله' هذا ماو، والراوي جورج بوش فالسند عالي!! يقول: 'إذ علق مرةً قائلاً، لـ كيسنجر وبوش: إن الله يبارككم ولا يباركنا، إن الله لا يحبني لأنني قائد عسكري وشيوعي -يقول عن نفسه- كلا إنه لا يحبني، إنه يحبكم أنتم الثلاثة، وأشار برأسه إلى كيسنجر، وووستن لورد، وإليَّ' هكذا يقول الرئيس بوش عن ماو الذي كان في تلك الأيام، في عالمنا الإسلامي، بل في جزيرة العرب هنا وفي إحدى الدول التي قدّر لنا أن نذهب في رحلة جامعية إليها تخرج مظاهرة، ويقولون: لا إسلام بعد اليوم، ماو رب الكادحين -تعالى الله عما يقولون! - هذا المسكين الذي يحاول أن يعبر لـ بوش أنكم طيبون أنتم يا أمريكان لأنكم نصارى، أما هو يقول عن نفسه: إنه شيوعي فلن يباركه الله! ونحن نعرف أنه لا بارك لا في بوش ولا ماو، ولكن بالنسبة لـ ماو يعتذر لـ بوش أنه صاحب دين فهو خير منه، فهذا هو قائد نصف العالم الشيوعي في زمنه، وهذا تعبيره، وهذه حسرته، حسرة الكافرين في الدنيا، فما بالكم بحسرتهم يوم القيامة، بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى! هذا التحسر على هذا العمر الذي ضاع على نظريات قتل من أجلها الملايين في الصين وفي الاتحاد السوفيتي وخاصة من المسلمين، قتلوا من أجل هذه النظريات، ثم تكون النتيجة بعد هذه التضحيات، وبعد إهدار الطاقات، وبعد الجهود الكبرى تكون النتيجة والنهاية أن هذا الزعيم يتحسر ويتمنى، كما قال الله عنهم: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2] الله أكبر!! سبحان الله! كيف تستيقظ الفطرة ويستيقظ نداؤها؟!(31/10)
الغرب والدين
أما في الغرب فيمكن أن نقدم نصاً واحداً فقط يبين لنا نظرتهم في مسألة الإيمان بالله، وحجمها في الحكمة الغربية أو في الفلسفة الغربية، ثم بعد ذلك أنقل لكم بعض نصوص ما قاله هذان المؤلفان.
يقول هان ترينج في كتابه: الفلسفة أنواعها ومشكلاتها (ص38): 'يتميز موقف الفيلسوف على خلاف موقف الديني' فانظروا الفصل هنا فيلسوف وهنا ديني، أي: أنّ أيَّ مفكر عندهم يستخدم عقله في التفكير مجرداً عن الدين يعتبرونه فيلسوفاً، فكأنه من المستحيل أن يكون مفكراً دينياً، فيقول: 'يتميز موقف الفيلسوف على خلاف موقف الديني بأنه موقف نظرٍ وتجردٍ خالص'.
أي يتجرد بالكلية عن دينه وهو الأساس، وإن كانوا -أيضا- يقولون: وعن مشاعره، لكن لا يمكن أن يكون هناك تفكير موضوعي بحت على الإطلاق، ثم يقول: فهو يرى أن مسألة الله تبارك وتعالى بأسرها من حيث وجوده وطبيعته هي مسألة مفتوحة تماماً، فالفلسفة لا تعرف أموراً مقدسة لا يمكن الاقتراب منها، والمفكر الميتافيزيقي -أي الذي يبحث في عالم ما وراء الطبيعة- لا يشعر عند لمعالجته لمفهوم الكائن الأسمى -أي: الله تبارك وتعالى- بخشوعٍ يزيد على ما يشعر به إزاء أية مسألة أخرى، فهو عندما يتكلم عن الله لا يوجد أي خشوع، فهو يتكلم عن الله، أو عن الإنسان، أو عن القذر، أو الأميبيا، أو أي شيء آخر لا فرق عنده؟ نعوذ بالله! انظر مضادة ومحادة الفطرة، إلى أن يقول: 'وكما يقال أحياناً على سبيل المزاح: حتى الله نفسه ينبغي أن يقدم أوراق اعتماده أمام مدخل مدرج الفلسفة' تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً!! فلا شيء عندهم إلا ويخضع للعلم في نظرهم، وللفلسفة، وللبحث، فليس هناك شيء مقدس -لا نص مقدساً، ولا نظرية مقدسة، ولا رجال مقدسين- بل كل شيء يجب أن يخضع في نظرهم للعلم، وفصلٌ تام بين هذا العلم وبين الإيمان الديني.
وهذا الكلام وإن كان يقال على سبيل المزاح، وإن كان يقوله بعض المنتمين للإسلام أيضاً! ولكن الله تبارك وتعالى يقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:65 - 66].
فعندما يتعلق الأمر بالله تبارك وتعالى، وبصفاته، وبالدين، وبالإيمان؛ فإن المسألة جدٌّ كلها ولا حاجة للمزاح، ولا يمكن أن تعتبر من المزاح.(31/11)
ظهور الحق على لسان الغرب
أحد الباحثين المعاصرين اسمه بنفيل -وهذا مشهور في أمريكا - اشتغل بالبحث يقول: 'طوال حياتي العلمية سعيت جاهداً -كغيري من العلماء- إلى إثبات أن الدماغ يفسر العقل' فهذا أساس من أسس التربية: أن الدماغ هو الذي يفسر العقل، أي: أن الجانب العضوي في الإنسان هو الذي يفسر الفكر والجانب التجريبي أو النظري.
ويقول: 'غير أن الأدلة في آخر الأمر بعد البحث الطويل أوصلته إلى الإقرار بأن العقل البشري والإرادة البشرية حقيقتان غير ماديتين -ويعلن هذا فيقول- يا له من أمر مثير أن نكشف أن العالِم الآن يستطيع بدوره أن يؤمن عن حق بوجود الروح' فهذا هو العالم عندهم وليس رجل الدين.
بل ذكر أن أحد الكتاب الموافقين لـ بنفيل في النتيجة نفسها قال: 'الإنسان في النظرة الجديدة ليس رزمة من ردود الفعل أو الدافع أو الآليات النفسية' وهذا تعريض بالنظريات والتربويات السلوكية والتحليلية وأمثالها.
يقول: 'ولا هو نتاج فرعي لقوىً خارجية فالنظرة الجديدة' أي: نظرة النصف الثاني من القرن العشرين المبنية على الفيزياء، هذه النظرة الجديدة إلى الكون انبثق منها تصور في التربية، والأخلاق، والسلوك، والقيم، حتى في علم الجمال والفن والأدب، انبثاقاً كلياً يغاير النظرة القديمة التي قالها فرويد ومنها السلوكية، وكل النظريات التي لا تزال -مع الأسف- إلى الآن تدرس وتقرر في العالم الإسلامي.
يقول: 'النظرة الجديدة تنشد نموذجاً إنسانياً لدراسة الإنسان، نموذجاً لم نستطع من دونه أبداً أن نمد يد العون للمحتاجين -ويحذرنا فرانك قائلاً:- لن نستطيع فعلاً أن نغيث الإنسان في ورطته إذا كنا نصر على أن تصورنا للإنسان ينبغي أن يصاغ على نمط نموذج الآلة، أو نموذج الجرم' أي: إما الميكانيكية: وهي النظرية البحتة التي تجعل الإنسان كالآلة، وإما النظرية الحيوانية، التي تجعل الفأر، أو الأرنب، أو الكلب، أو أي حيوان آخر؛ هو النموذج التي تقاس عليه الدوافع والسلوك الإنساني.
ويقول الكاتبان: 'لو كان الإنسان مجرد كائنٍ مادي -كما تزعم النظرة القديمة- لو كان كذلك لكان من المعقول أن نتخذ أشياء مادية أبسط كالآلات نماذج للسلوك البشري، فلكل آلةٍ دافعةٌ تشغلها كالبخار، أو الكهرباء، أو الاحتراق الداخلي -مثل السيارة لها احتراق داخلي- وعلى ذلك كان أهم عنصر في الإنسان وفقاً لعلم النفس في النظرة القديمة هو قوته الدافعة' أي: الغريزة في عمومها، أم غريزة معينة كما تصور فرويد، أو أي أمر آخر.
ويقول: 'والقوة المادية في الآلة الإنسانية تتخذ شكل غرائز وانفعالات هي مصدر جميع الأعمال التي يقوم بها الإنسان، أما العقل فلا يملك زمام الأمر؛ لأنه نتاج ثانويٌ للمادة -فبعد أن يتحدث عن فساد هذه النظرة، قال:- في أعقاب الحرب العالمية الثانية شعر كثير من علماء النفس أن إخضاع العقل للغريزة في طريقة التحليل النفسي وإلغاء العقل -كما هو الحال في السلوكية- قد أفضيا إلى تجريد الإنسان من إنسانيته في علم النفس، معتبرين أن هذا موقفاً لا يطاق في فرع من فروع المعرفة مكرسًا لخدمة الجنس البشري'.
وقد عبر عن ذلك ركس كارل، وليكون نيوث في كتابه: مصير الإنسان، قال: 'إن الجبهة المادية من الحضارة تتقدم، وأما الجبهة الإنسانية فإنها في تأخر وتقهقر وتراجع كبير -ويقول:- وأخيراً التحمت في الخمسينيات من هذا القرن قوة ثالثة في علم النفس إلى جانب القوتين الأخريين: التحليل النفسي والسلوكية، هذه الحركة أتباعها لا يتكلمون بصوت واحد، ولا يشكلون مدرسةً فكرية مستقلة، ولاهم متخصصون في أي مجال ذي مضمون محدد' أي: بدأنا نرجع إلى مسألة التوحد، فالتفرق الشديد يرجعهم في النهاية إلى الوحدة، إذاً القضية أصلها التوحيد، فهم يتشعبون ثم يرجعون إلى شيء واحد، وهم مختلفون جداً، ولكن يقول: 'إن كل ما يجمع بينهم هو الهدف المشترك المتمثل في أنسنة علم النفس' أي: أن يصبح علم النفس علماً إنسانياً، فهو إلى الآن ليس إنسانياً بل حيوانياً أو آلياً، وبناءً عليه فكل النظريات التربوية تدرس الإنسان من زاوية الآلة أو الحيوان.
ثم يقول: 'وفي اجتماع وطني للرابطة الأمريكية لعلم النفس، عقد في (1971م)، قررت هذه الحركة الجديدة أن تطلق على نفسها اسم: علم النفس الإنساني' فانظر متى اكتشف الغرب أنه لا يملك علم نفس إنسانياً، ولا رابطة لعلم النفس الإنساني، وأنه في حاجة أن يتخلص من الورطة -كما يعبرون- وأن يبحث في ضوء جديد وعلم جديد، عرفوا ذلك عام (1971م).(31/12)
أثر التربية الغربية على المسلمين
كل النظريات التي ندرسها نحن في العالم الإسلامي، كانت كلها قبل هذا العام بسنوات في الغرب، ونحن لا نزكي هذه المدرسة الأخيرة لكن نضرب مثالاً على أننا نلتقط ما رماه الغرب في نفاياته وما تجاوزه، بينما نحن ما نزال نعيش ونقتات عليه -مع الأسف- إلا القلة المؤمنة المخلصة في بعض الجامعات الإسلامية الذين بدءوا ينظرون إلى كل شيء من زاوية التوحيد والإيمان والدين، الذي لا يجوز أن ننظر إلى أي شيء إلا من خلاله.
ثم يقول: 'قررت هذه المدرسة أن تطلق على نفسها اسم: علم الإنساني، وهذه هي سيكيولوجيا النظرة العلمية الجديدة'.
ثم أخذ يتحدث عن أحد الأسباب الرئيسة في ذلك، فيقول عن أحدهم وهو أوبن هايمر يقول: 'إن أسوأ ما يمكن تصوره من حالات سوء الفهم هو أن يتأثر علم النفس تأثراً يجعله يصوغ نفسه على غرار فيزياء لم يعد لها الآن وجود -فيزياء القرن التاسع عشر وأول القرن العشرين- فيزياء عفَّاها الزمن، وأعتقد أن هناك إجماعاً في الرأي على أن هذا هو الطريق الذي قادتنا إليه السلوكية الوضعية المنطقية ' يعني أنه يقول: ويجب أن ننسى كل تلك النظريات؛ لأنها بنيت على فيزياء القرن التاسع عشر وأول القرن العشرين الذي قد تغيرت تغيراً تاماً.(31/13)
التربية الحقيقية
التربية الحقة هي التي تمتلك التصور الكوني الكلي للوجود، التي تحدد فيها صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتحدد فيها صفات الرسل وواجباتهم وأعمالهم، وما ينبغي لهم وما يجب علينا نحوهم، وتحدد فيها وظيفة الإنسان ومصيره، من أين جاء؟ وإلى أين يذهب؟ وكيف يعمل ويعيش؟ ومحددةٌ فيها كل جوانب النفس الإنسانية بحيث يجد الإنسان أنه في اقتصاده، واجتماعه، وآدابه، وأخلاقه، وسلوكه، يجد نفسه شيئاً واحداً لا تتعاوره الاتجاهات المتناحرة، وهذا لا يوجد في أي نظرية أو مبدأ أو دين إلا في الإسلام، حتى الإنسان الأوروبي لا يملك هذا التكامل على الرغم من وجود هذه المدارس وأمثالها التي بدأت تظهر، إلا أنه في تاريخه الطويل ألف المتناقضات والتناحرات، فكان يخضع لقيصر فيما كان لقيصر، ويخضع للكنيسة فيما كان لله، كما هي نظريتهم الباطلة التي تقول: 'دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله! '.
ألفرد نورث وايتد عالم رياضي كبير إنجليزي يقول: 'مشكلة المشاكل التي يعيشها الإنسان والتي يعيشها العلم الحديث هي تجزئة الطبيعة' نقول: هذا جانب ديني، وهذا علمي، وهذا تربوي، وهذا اقتصادي، وهذا سياسي، ولو دقق الإنسان لوجد أن هذه الجوانب جميعاً لا يمكن أن تنفصل على الإطلاق، فلا يمكن أن نفصل بين دين الإنسان وبين أخلاقه -كما هو الحال في الغرب- أو بين أخلاقه واقتصاده، فالذي يتعامل بالربا من جهة لا يقول: أتحلى بالأخلاق من جهة أخرى، لا يمكن أن نفصل بين السياسة والأخلاق وبين الدين! ولكن الإنسان الغربي، تعود الفصل بين الأنا والعالم، بين الله والإنسان، بين الإنسان والطبيعة والعالم، بين الرجل والمرأة، صراع فاصل كبير وعنيف، صراع بين ما للقيصر وما للبابا، فالحياة الغربية تقوم على التناقضات والصراعات.
أما دين الإسلام فهو دين التوحيد، تتجه النفس الإنسانية اتجاهاً واحداً، ومستمداً من شرعٍ واحد، كما ذكر الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18] قال: أهواء؛ لأنها مختلفة، وقال أيضًا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] أي: صراط واحد، وأهواء مختلفة، وأرباب متشاكسون متناحرون على هذا الإنسان، ماذا كانت النتيجة لهذا الإنسان؟(31/14)
من نتائج الانحراف في التربية
ظهرت مدارس اليأس والقنوط نتيجة هذه التربويات والنظريات، فـ الوجودية -كما عبر عنها سارتر أو ألبير كاميو وأمثالهم- يقولون: 'لا حل إلا اليأس' أي: اليأس من الوصول إلى المعرفة، اليأس من أن الإنسان يعرف الحكمة من وجوده أو من أين جاء؟ أو إلى أين يذهب؟ لأنهم قالوا: لا يمكن أن تصل الإنسانية إلى معرفة هذه الحقائق، فخير لنا أن نريح أنفسنا من هذا، وأن نعيش الحياة العبثية.
وهذا ما قرره كانون -الفيلسوف الفرنسي الشهير- بقوله: 'لو كنت شجرة بين الأشجار أو قطاً بين الحيوان لكان لهذه الحياة معنى، أو على الأصح لما كانت المشكلة مطروحة -لم تكن عنده مشكلة في: من أنا؟ وإلى أين أذهب؟ - لأنني أكون منتمياً إلى هذا العالم الذي أقادمه الآن بكل إدراكي'.
فالصراع سببه الضلال عن الهدى، ونحن نذكر قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أحد جبل يحبنا ونحبه} جبل! سبحان الله! بل نحن نعلم أن كل هذه الموجودات تسبح الله، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44].
فالمسلم عندما يصلي، ويذكر الله وهو خالٍ في طريق، أو يتأمل وهو يسير، ثم يتذكر هذه النجوم والشمس، والكون كله يسبح الله، لاشك أنه لا يشعر بعداوة مع الموجودات؛ لأن الكل يعبد الله ويسبحه، ولكن كلٌ على طريقته، والله قد علم صلاته وتسبيحه.
أما أولئك فيقول أحدهم: 'إن هذا العقل السخيف هو ما يجعلني متضاداً مع كل الموجودات' سبحان الله! بل أوردوا على اليأس أدلة ليصححوا نظريتهم الجديدة، فقد قال الفيلسوف فريدرك نيتشه: 'إن الفلسفة الحديثة بكاملها تنحصر في نظرية عن المعرفة، وهي فلسفة لا تستطيع أن تتخطى عتبة ذاتها، وقد حرصت كل الحرص على إنكار حقها في الدخول، هذه بالتأكيد فلسفة تلفظ أنفاسها الأخيرة، إنها نهاية واحتضار، وشيء يثير الشفقة' يقول: الآن الحضارة والفلسفة مفلسة، فليس لديهم أي شيء، لا قيمة ثابتة ولا معيار صحيح.
ثم يقول الكاتبان: 'إذاً: فكسوف العالم في الفلسفة المعاصرة كسوفٌ كاملٌ ومطلق، إن البذرة شديدة الضآلة، البريئة في الظاهرة التي زرعها بيكون وجاليليو في القرن السابع عشر، قد استغرقت نيفاً وثلاثمائة عام لتثمر في عصرنا هذا ثمرة اليأس الفكرية المرة والعدمية، وانفصام الإنسان عن العالم' أي: فبعد ثلاثمائة سنة من تركهم للدين، وقولهم إننا نسير على مقتضى العلم كانت الثمرة هي اليأس الفكري، والعدمية، وانفصام الإنسان عن العالم يقول: 'هذه هي المحصلة النهائية للفلسفة في إطار النظرة القديمة، وهذا يستتبع بالضرورة أنه إذا كنا لا نستطيع أن نعرف شيء عن العالم، فسنون أيضاً قد خسرنا العلم'.
فبعد جهد ثلاثمائة سنة، يتضح لهم أن حقائقهم ومعرفتهم بالعالم والإنسان صفر! فقد خسروا العالم وخسروا العلم، وصدق الله إذ يقول: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]، وهؤلاء هم الذين ليسوا بخاسرين، فحصيلة أكثر من ثلاثمائة سنة من التجربة، والنظريات، والكد الذهني في الجانب الإنساني، لو أنها كانت على إيمان ودين؛ لأعطت البشرية علوماً عظيمة، وأنجزت لها إنجازات، وأرباحاً هائلة، ولم تكن هذه الخسارة التي يعترفون بها الآن.
لكنَّ العجب ممن يتبع الخاسرين! وممن يعيش في النور ثم يتبع السائرين في الظلمات! من الذي ينتمون إلى هذه الأمة العظيمة المجتباة المصطفاة، التي أورثها الله تعالى الكتاب والحكمة ثم يعيشون في ركاب هؤلاء المخدوعين، والتائهين، والحيارى!(31/15)
الحكمة بمفهومها العام
إذا عدنا إلى بداية الكلام وتطرقنا إلى معنى كلمة الحكمة التي آتاها الله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الآيات السابقة لعرفنا أن السلف فسرها بالسنة -وهي حق- والسنة كلها حكمة، ولكن أيضاً نلحظ أو نلمح معنى آخر لا يتعارض مع ذلك، وهي أن ما يسميه الغرب فلسفة ومنه اشتقت كل النظريات التربوية، والاجتماعية، والنفسية، يسميها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حكمة، لأن الله تبارك وتعالى في سورة الإسراء ابتدأ آيات عظيمة بقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23]، ثم استمرت الآيات تتحدث -بعد الكلام عن الوالدين- عن الإحسان إلى الأقربين، وعن ترك التبذير، وعن الاقتصاد في النفقة، وعدم قتل الأولاد، وعن ترك الزنى، والقتل، والتحذير من هذه الجرائم البشعة، وعدم أكل مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، وعن الوفاء بالكيل والميزان والعهود، ونهى الإنسان عن أن يقول ما لا يعلم، ونهاه عن الكبر ثم قال بعد ذلك كله: ((ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ)) ثم عقَّب بقوله: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} [الإسراء:39] فأول شيء بدأت به الحكمة هو التوحيد بقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء:23].
وآخر وصية ختمت بها الحكمة التوحيد في قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الإسراء:39] فالتوحيد أساس كل حكمة، وأساس الحكمة العملية الحقيقية هي هذه الوصايا، هي ترك ما حرم الله من: الزنى، والقتل، والإسراف، والتبذير، والإفساد، واقتفاء ما ليس للإنسان به علم، والاستقامة على أمر الله ودينه، ثم القيام بالإحسان إلى الوالدين وإلى الأقربين، والاقتصاد في النفقة، هذه هي الحكمة القرآنية، والحكمة الحقيقية، وهذه هي التي بعث الله بها محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومرجعها في أول الأمر وفي آخره إلى التوحيد، إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى عبادة الله وحده لا شريك له، فلنكن -إن شاء الله- جميعاً موحدين مؤمنين، في أي علمٍ ومجال وميدان، أياً كانت المسميات: اقتصاداً أو سياسة أو اجتماعاً، أو أموراً عسكرية، أو داخلية، أو علاقات أسرية، أو اجتماعية- أياً كانت يجب أن نكون موحدين مستمدين كل المعايير والقيم والأحكام من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه هي حقيقة التوحيد.
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعلني وإياكم من المؤمنين الموحدين، وأن يمنَّ علينا بفضله وجوده وكرمه، إنه سميعٌ مجيب.(31/16)
الأسئلة(31/17)
الموقف الصحيح من المعلومات الخاطئة التي تدرس في الجامعات
السؤال
طلاب التربية يتلقون كثيراً من الأحكام العلمانية التي تتعارض مع مبادئ الإسلام.
فالسؤال: ما موقف المسلم نحو هذه المعلومات، وكيف تكون دراستها والاختبار فيها وخاصة وهو يعلم خطأها، وحبذا لو كانت كلمة توجه لمن بيده وضع المناهج والكتب؟
الجواب
ليس المقصود بالتربية الذين يدرسون في كلية التربية! وإنما حياتنا جميعها هي التربية، أياً كانت التربية، لكن عموماً نوجه النصح لأنفسنا ولإخواننا جميعاً بأن تكون قيمنا، ومعاييرنا، وعلومنا، ومناهجنا كلها متفقة مع ديننا، والحمد لله قد تهيأ لنا -وبالذات في جامعة الإمام محمد بن سعود كما أعلم ولا أزكيها- وجود نخبة طيبة بدأت بل قطع بعضهم شوطاً في أن يؤصلوا هذه العلوم وفق المنهج الإسلامي، وهذا أمر يستحق التشجيع من جميع الأقسام، والكليات، ومن الإدارة، ومراكز البحث لتنمو هذه المجالات بإذن الله.
أما المناهج فلها شأن آخر، فبالنظر إلى بعض ما اطلعنا عليه من المناهج كان عجباً، ولا أظنكم نسيتم قبل سنتين أو ثلاثاً في هذه القاعة، وكان معالي مدير الجامعة موجوداً فقام أحد الطلبة وجاء بكتاب مقرر -ولا أدري من قرره عليه- وفيه أن التربية الاشتراكية هي أفضل أنواع التربية! وهذا الكتاب كتب في أيام دعوة جمال عبد الناصر للاشتراكية وقرر أو ذكر كمرجع، والطلاب يدرسونه هنا، وبعد ترك الاشتراكيين للاشتراكية، وهلاك عبد الناصر، وخيبة كل هذه النظريات ما يزال يدرس أن النظرية الاشتراكية هي أفضل أنواع التربية، فالله المستعان! فيجب في الحقيقة إعادة النظر في هذه المناهج، وهذا واجب على الجميع وليس على واحد أو قسم بعينه.(31/18)
التبعية للغرب وآثارها
السؤال
إن كثيراً من النظريات الاجتماعية والسلوكية والأخلاقية عند الغرب التي ربما صرح بعضهم ببطلانها ما زلنا نحن ندرسها في مواد التربية وبعض المواد العلمية، وكذلك تدرس في كليات التربية لبناتنا على أنها مسلَّم بها، مع العلم أنه لا يدرس في هذه الكليات مقرر مستقل لتعليم القرآن الكريم، فما هو تعليقكم؟
الجواب
الله المستعان! نحن في الحقيقة ما زلنا نعيش في التبعية للغرب، ونخشى -لا قدر الله- أننا في بعض الجوانب تزداد هذه التبعية، وإن كانت الصحوة قد بدأت في جوانب أخرى، فالتبعية للغرب هي مشكلة المشاكل، وبهذا أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لتتبعن -أو لتركبن- سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟}.
فنحن لا نزال على خطاهم، خاصةً أننا أخذنا هذه العلوم عنهم، والإنسان عدو ما جهل -وإن كان دينه- والذي لا يدرس دينه وإنما درس هذه النظريات هنا، ثم ابتعث هناك لاشك أنه سيعطي مما درس! وإن كان يوجد فيهم من فيه خير ويحاول أن يجتهد، لكن هذا نتاج فساد خطتنا التعليمية في الماضي، وفساد توجيهنا التربوي، وتقصير القائمين على شئون التربية التي لا تنفصل بأي حال من الأحوال عن الدين، فعندما ينحصر الإسلام في مجالات معينة، ويقال: الإفتاء لهيئات الإفتاء فقط! أو هو لكلية الشريعة، أو لكلية الدعوة، فهذه علمانية موضوعية وإن لم تكن علمانية واضحة وصريحة، فقد يظهر من يرى أن علم النفس، أو التربية، أو الاجتماع، أو حتى الأحياء والفيزياء تدرس بمعزل عن الدين، وهذا الذي نلمسه، ندرس النظريات التي قال عنها الغربيون: قد عفّاها الزمن وقد انتهت، وأصبحوا الآن يرون ضرورة تمحيص العلوم من كل ما فيه إنكار لله أو للروح أو لعالم الغيب!(31/19)
التخلص من انحراف النظرية التربوية
السؤال
تعلمون أن معظم الجامعات في البلاد الإسلامية تقوم على تدريس مناهج التربية الحديثة مع ما فيها من انحرافٍ شديد، فما هو الحل المناسب للتخلص من ذلك الانحراف الخطير؟
الجواب
أول ما يجب علينا جميعاً أياً كان موقع الإنسان منا وعمله، هو: أن نتعرف على ديننا الحق، فما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا مزكياً ومربياً بمفهومنا وبتعبيرنا المعاصر، فنتعرف على تزكية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه، ولأهل بيته، وللأمة والمجتمع كما قال الله تعالى.
ثم نتعلم منهم طرق تزكية العالم كله، وهي تزكيةٍ عظيمة موجودة نستطيع أن نقرأها، لأن مراجع التزكية عندنا هي كتاب الله، ثم صحيح البخاري -مثلاً- أو زاد المعاد، أو نحوهما من الكتب، فـ زاد المعاد -مثلاً- يحدثك عن كل شيء من هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في لباسه، وآدابه، وصلاته، ومعاملاته، وفي حربه وسلمه، فما التربية إلا هذا، وهو نموذج حي جعله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا أسوة حسنة، ولهذا لا نجد في سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي جانب غامض لا نعرفه عنه، بعكس أكثر عظماء العالم المتبوعين في أقطار الأرض من سياسيين ومفكرين وغيرهم، تجد جوانب كثيرة في حياتهم غير معروفة، فقد نعرف أن لهم نظريات كذا أو كذا، ولكن لا نعرف حياته الأسرية، ولا زواجه، ولا علاقاته.
أما الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلأنه القدوة لنا جميعاً، فإن سيرته كلها أمامنا، حتى قسمته بين زوجاته، واغتساله من الجنابة، وكل شيء أمامنا واضح، فالذي أرسل إلينا هذا الرسول يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة، هذه المنة لا نجحدها، ولا ننكرها، بل نتبعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونتأسى به، وهذه مصادر التربية الحقيقية أياً كان المجال.(31/20)
مقياس التمييز الوظيفي بين التربوي وغير التربوي
السؤال
نرجو أن توجهوا كلمة إلى المسئولين عن التربية والتعليم في هذا البلد الخير بسبب التمييز بين من يدرس المناهج التربوية الحديثة، ومن لا يدرسها في التعيين والمرتب- أي: تربوي وغير تربوي؟
الجواب
الحقيقة أن الإنسان يمكن أن يدرس التخصص في أي مجال حتى ينهيه، ثم يأخذ فصلاً في كيفية طرق التدريس ووسائل التربية بعيداً عن النظريات التربوية، وإنما كوسائل تطبيقية عملية، ثم إن كان يريد التدريس درس، وإن كان لا يريده فليذهب، وهذا ليس من عندي وحدي، بل شاركني فيه كثير من الإخوة الأفاضل في عدة كليات، لكن عقبات النظام والتطبيق واختلاف الكليات إلى آخره حالت دون هذا، وإلا فإن هذا هو الصحيح، فإن أراد الإنسان التخصص البحت يستمر، وإن أراد أن يكون مدرساً فله ذلك.
ولا غضاضة بعد ذلك أن يكون أخوك الذي درس سنةً زيادة عنك أن يكون أعلى منك في المرتبة، النفوس جميعاً تجد أن هذا عدلاً، لكن أن يكون هذا يعمل (140) ساعة، وهذا (140)، ثم تجد هذا في المرتبة السابعة، وهذا في المرتبة السادسة، وهناك مستويات، لا شك أنه يبقى في النفوس حرج، وخاصةً إذا كان المتخصص الدقيق يشعر أنه قد أفاد فائدة علمية كثيرة، بينما نجد ثلاثين ساعة أو نحوها درسها ذلك الآخر أكثرها لا خير فيها، إذا وجد هذا الشعور فتكون المصيبة مضاعفة على هذا المسكين!(31/21)
التربويون في الجامعات
السؤال
نرجو أن نعطي أساتذة التربية الذين يفخرون بعلماء التربية الغربية ونظرياتهم المخالفة لديننا الإسلامي نصيحة بربط التربية بمفهومٍ إسلامي، وتنبيه أن تلك النظريات يجب أن يعلم أنها فاشلة ولا خير فيها.
الجواب
لا أظن أنه يوجد -إن شاء الله وخاصةً عندنا في جامعاتنا- أحد يمكن أن يثني على هذه النظريات أو أنه يفخر بها وهي مخالفة لديننا، وإنما يحدث ذلك نتيجة للجهل بالدين، وعدم المعرفة به، كما كان المتكلمون يقولون: الكتاب والسنة هذه كلها نقل، أي: نقليات أو سمعيات، أما العقل فهو كذا وكذا تعظيمًا له، مع أنهم لو قرءوهما لوجدوا العجب العجاب حتى في التربية.
السؤال: وهذا مثال آخر يقول الأخ: إن بعضهم عندما يتكلم عن المربين القدماء مثل أرسطو وأفلاطون؛ يمجدونهم وكأنهم هم الذين أسسوا الأخلاق والتربية على مر العصور، ونسوا خير مربٍ للبشرية محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهل هذا قادح من قوادح العقيدة؟ الجواب: لا يوجد شك في أن هؤلاء من الذين سماهم الله تبارك وتعالى في كتابه، حيث يقول: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} [الكهف:51] فهؤلاء ليسوا حكماء، وليسوا أدلاء على طريق الخير، وإنما هم مضلون أضلوا الإنسانية، واليونان أنفسهم كان لديهم ميراث من ميراث النبوة، أضلهم عنه هذا الوثني المشرك أرسطو، الذي كان مع ذا القرنين المشرك -وليس ذا القرنين الذي ذكره الله تعالى في القرآن- وكان وزيراً له، فكان مشركاً، وكتبه تنضح بالشرك، هؤلاء مضلون: أرسطو وأفلاطون وأمثالهم إلى كانت وديكارت، وهؤلاء غاية ما فيهم أن الإنسان منهم كان يؤمن بوجود الله، وهذا هو كل ما عندهم، أما غير ذلك فهم يعيشون في ظلام وضياع، وفي تخبط.
فتمجيد هؤلاء والثناء عليهم، لا شك أنه خطأٌ وخطرٌ على العقيدة كبير؛ لأننا نستمد قيمنا من عقيدة التوحيد، ومن التوحيد أن نوحد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنته بالاتباع، بمعنى أن أي شيء يخالف سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو مردود مرفوض -كما نقرأ في شرح الطحاوية - فهما توحيدان لا بد للعبد منهما: توحيد المرُسِل -أي شهادة أن لا إله إلا الله- وتوحيد متابعة الرسول الذي هو معنى شهادة أن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(31/22)
روَّاد العلوم الإسلامية
السؤال
بماذا نرد على مدرسي المواد التربوية الذين تخرجوا من مدارس داروين وأفلاطون وأرسطو وغيرهم، وهم يقولون: إن قسم العقيدة في الجامعة يعطي للطلاب معلومات خاطئة، فهم يكفرون ابن سينا مع العلم أنه هو رائد المسلمين في علم النفس والطب وغيره؟
الجواب
هذه قضايا متداخلة بالنسبة لـ ابن سينا، أو أبي زكريا الرازي، أو أمثالهما، ليسوا رواد علم التربية الإسلامية، أو الفلسفة الإسلامية، أو علم النفس الإسلامي! وهذه حقيقةٌ ذكرت في مقدمة ابن خلدون بل حتى علم السحر والسيمياء ذكرها ابن خلدون وفصل فيها، وإنما اعتبروا روادًا لأن الغرب اعتبرهم رواداً، ونحن نقلنا هذا من عند الغرب.
حيث إن الغرب تعرفوا على أرسطو وأفلاطون من ترجمة ابن رشد لكتبهما، ولهذا يعتبر الغرب العصر الحديث أو عصر النهضة يبتدئ بالدقة وبالتحديد من عام (1210م)، لأنها السنة التي وصلت إلى أوروبا ترجمة ابن رشد لكتب أرسطو، فتاريخهم الحديث يبتدئ بحصولهم وعثورهم على كتب أرسطو ترجمة ابن رشد، وتعليقات من ابن سينا فأخذوا إلحادهم القديم -مع الأسف- عنا عمن ينتسب للإسلام.
فاعتبروا المعلم الأول أرسطو، ثم الذين أسهموا بعد ذلك في هذا الدور هم ابن سينا وأبو زكريا الرازي لأن له كلاماً في هذا، والفارابي، والكندي، وابن رشد، لأنه في الخط نفسه.
حيث أخذوا من هذا المعلم -معلم الضلالة الأول- وزادوا، وشققوا، وفرعوا، واستدركوا، ثم نقلت ترجمته إلى أوروبا، ومنها انتقلت النهضة الأوروبية الحديثة -كما يزعمون- فأخذنا هذا عنهم، وهذه من تلبيساتهم، حتى إنهم يقولون: إن أول من ألف في العقيدة هو أبو الحسن الأشعري! وهذا كلام غير صحيح، لأن القرآن هو كله كتاب الإيمان والعقيدة، ومحمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي جاء بهذه العقيدة، والقضية نفسها في التربية، إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن إلا معلمًا، ومزكيًا، ومربيًا، فليس ابن سينا أول من جاء بعلم النفس، وإنما أخذنا ذلك من الغرب، ولأن الغرب لا يعتبرون الإسلام إلا وثنية كله، إلا من كان على منهجهم وعلى وثنيتهم، وهم هؤلاء الذين نقلوا إليهم هذه العلوم.
وإنما يزكى ويعظم الرازي الطبيب، وابن سينا وأمثالهما؛ لأن بعض المسلمين عاطفيون، يتأثر بالعاطفة أكثر من الحقائق العلمية، فالجانب العاطفي هذا جعلنا نقول: إن تاريخنا مقدس، لما رأينا الغربيين يهاجمون تاريخنا، يقولون: إن تاريخ المسلمين فيه سفك للدماء، فيه كذا، قلنا نحن: لا، تاريخنا ليس فيه شيء مذموم، نحن أمة العدل، فإن لم نعدل نحن فمن الذي يعدل؟! والحقيقة: نحن لماذا نقدس تاريخنا؟! والأصل أننا إنما نقدس الدين المعصوم، وهو ديننا الذي جاء في الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح وأجمعت عليه الأمة، أما ما عدا ذلك اجتهاد قد يخطئ وقد يصيب، لكنا كردة فعل لاحتقار الغربيين لعلمنا جئنا نحن فقدسنا ابن سينا والفارابي وأمثالهما، ونريد أن ندافع عنهم.
فإذا تكلم أحد عن عقائدهم الكفرية والإلحادية، قيل له: اسكت، أنت لأنك مثل الغربيين تشوه تاريخنا، فلما أخذنا تاريخنا من الغربيين، ورجالنا ورواد حضارتنا من الغربيين، وجدنا أن الرواد هم هؤلاء القائمة الملحدة، فإذا طعن في أحدهم قلنا: أنت تطعن الآن في علماء الإسلام، وفي بناة الحضارة الإسلامية، أنت تسيء إلينا، إذا كان الغرب يعترف بفضلهم، وبعظمتهم وأنت تطعن فيهم، إذاً أنت تكفيري ليس عندك إلا التعقيد وهذا الخطأ نشأ عن الخطأ الأول! والخطأ الثاني: أننا ندافع عن تاريخنا دفاعاً مطلقاً عاطفياً، وهذا خطأ، مثلما قام الغرب يحط من قيمة الدولة العثمانية، قمنا نحن ندافع عنها، ونزكيها، ونبرئها، بالعكس: لو كانت كما نزكيها تماماً لانتصرت، لكن فيها عوامل الخلل والضعف، والمقصود: هو أن نكون من أهل العدل.
وبعض الإخوان في التربية يقررون تفاسير كمراجع كـ تفسير المراغي والواضح والألوسي والقاسمي، وخيرٌ من هذه جميعاً تفسير ابن كثير، وهو الأصل والمتن، فهو خيرٌ منها جميعاً، وبعضها عليه ملاحظات أساسية وبعضها لا يخلو من أخطاء.(31/23)
ضرورة الثبات والتغيير
السؤال
بعض مدرسي التربية جعل نفسه عالماً في الجرح والتعديل، فأخذ ينتقد العلماء الكبار، وأخذ يقول: إن العدد اثنين في العصر الحاضر يختلف عنه في عصر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما رأيكم؟
الجواب
هذه نظرية جديدة طبعاً، وإلى الآن لم تسجل براءة اختراع، إلا إن كان الأخ لم يفهمها، وصدق من قال: علم الخراب.
وعلى كل حال هذا أمرٌ لا بد منه، والتصحيح طويل المدى، والتغيير والتصحيح سيطول مداه، المهم أن نصدق فيه وأن نستمر إن شاء الله.(31/24)
من وسائل التربية الإسلامية
السؤال
ما هي أهم وسائل التربية الحديثة التي تعالج في الإنسان روحه ووعيه بطريقة إسلامية بحتة؟.
الجواب
أهمها إيجاد المحاضن الإسلامية، فيعاد دور المسجد -كما كان- فمحاضن التربية الإسلامية مثل: المسجد وحلقات العلم، كما كان السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم يربون في الإنسان أخلاقه وسلوكه، وليس مجرد مسائل علمية، أو خطبة جمعة وينتهي الأمر، ولنتذكر فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قبل، فتعاد المحاضن الإيمانية والتربوية أو التزكوية وأهمها المسجد، وارتباط الناس بالعلماء، وارتباط الناس بكتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، صباح مساء، وأن تُصَحَّحَ وسائل الإعلام التي أهلكتنا بالانحلال، والفساد الخلقي والعقائدي، بل وفي كل جانب، ولابد أن نكون كما يريد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى منا أن نكون، وأن تخاطب الأمة الإسلامية من خلال كتاب ربها وسنة رسولها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهنا ملاحظة أحب أن أنبه عليها، وهي: أننا لا نعترض على الوسائل أو عن التجارب البشرية التطبيقية البحتة في علم التربية، أو النفس، أو الاجتماع وغير ذلك، فهذه جهد إنساني بحت ومشترك، ويمكن لكل إنسان أن يفيد غيره، بل يجب علينا نحن أن نفيد غيرنا من أفضل الوسائل التربوية من ناحية الوسائل والتطبيق والأمور العملية، المهم أن الهدف عندنا يظل هو الهدف، فالنظرية نرفضها، لكن التطبيقات المادية أو العلمية أو التجريبية البحتة نحن أولى بها، والحكمة ضالة المؤمن يأخذها من أيٍ كان.(31/25)
معنى قول: لا أزكيه
السؤال
قلت أن التزكية بمعنى: التربية والتطهير من كل دنس، ما الفرق بينها وبين كلمة متداولة بيننا عندما يقول فلان لشخص: إن فلاناً طيب ولا نزكيه على الله، وما معنى قوله: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم:32]؟
الجواب
أي لا تنسبوها إلى الزكاة، ولا إشكال فقوله: لا أزكيه، الفعل المتعدي يقتضي معنى النسبة، أي لا أنسبه إلى الزكاة.(31/26)
حكم من يقول: إن التربية الإسلامية تُعَقِدُ الطفل!
السؤال
يقول بعض المتخلفين: إن الالتزام بالتربية الإسلامية للطفل قد يؤدي إلى تعقيده منذ الصغر، فما رأيكم في ذلك؟.
الجواب
حقيقة يؤسفني جداً، ويضحكني -وشر البلية ما يضحك- ونحن في هذا الزمن ابتلينا ببلايا كثيرة حتى أصبحنا كما قال المتنبي: تكسرت النصال على النصال.
فنقرأ من يقول: لا تدرسوا سور القرآن التي فيها -مثلاً- (تبت) أو آيات (الذي يكذب بالدين) أو فيها ذكر النار، لا تدرسوها للصغار لأن الطفل يخاف ويتعقد، نعوذ بالله! انظروا كيف أثر هؤلاء حتى في كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يريدون أن ينتقوا منه، وأن يخضعوه لهواهم، يقول لك: لا تذكر الطفل بالنار حتى لا يخاف.
سبحان الله! لو أن الطفل أخذ القلم أو السجارة منه، لقال له: أحطمك أو أدمرك أو أنسفك، يخوفه بشيء، لكن أن يتلو عليه -أحيانًا- من القرآن مثل ذكر النار، أو ذكر جهنم فلا.
وهذا خطأ! بل لابد أن يقرأها الأب ويكررها حتى يسأله عنها الابن، فيقول له: يا أبي ما هي الجنة وما هي النار؟ وينبغي للمدرس أن يتكلم عن الجنة وأنها للمتقين، والمؤمنين، والمهذبين، والطيبين، والنظيفين إلى آخره، وأن النار والجحيم هي للأشرار الفجار.
فهذه المعاني تحدد له معالم الطريق في حياته، فسر يا بني على طريق الجنة، واجتنب طريق النار.
ويذكره بمحبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومحبة منهجه وسيرته، ومعاداة من عادى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنهم أبو لهب وامرأته.
كيف نتجرأ على كتاب الله بالحذف أو بالتعديل؟! إن هذه من الغرائب! بل يقول بعض الناس: لابد من ديمقراطية التربية، فلا تستخدم العصا ولا ترهب الطفل! ورب العالمين -أحكم الحاكمين سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل هذه الحدود والعقوبات فيها الصلاح.
سمعت تصريحاً لأحد رؤساء الدول العربية، التي أقيم فيها حد الإعدام على قاتل أطفال، فيقول: 'مع أنني شخصياً لا أؤمن بحكم الإعدام لما فيه من البشاعة، لكن هذا الرجل بالذات يستحق أن يعدم لأنه قتل أربعة عشر أو ستة عشر طفلاً' وفي الوقت نفسه لجنة حقوق الإنسان والمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان في دولة أخرى يتكلمون ويقولون: نحن ألغينا حكم الإعدام في هذه الدولة! أعوذ بالله! إلغاء الحدود جرأة على الله، وعلى أحكامه -أو ما يسمى بالعقوبات عندهم- وهذه حكمة من الله أنه يعطى الإنسان حق التأديب، فالرجل يؤدب زوجته بالضرب، وهذا في كتاب الله، حتى الطفل كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر}.
فهذه التربية بالعقوبة، أو بالحد، بمعناه العام لا بالمعنى الفقهي الضيق، المعنى العام للحد وهو المعاقبة بالتعزير أو التأنيب، أو أي نوع من أنواع العقوبة، هذه سنة من سنن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، الذي هو أعلم بنا، فهو القائل: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140] والقائل: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] فهو أعلم بما يصلحنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ولا يمكن أن أحداً يطبق النظرية الديمقراطية في التربية مهما تشدق بها، لأننا إذا قلنا: لا نستخدم العقوبة مع الطالب، ولا نستخدم العصا في المدرسة، فيتمرد الطالب إذا لم يؤدب، فلابد أن يعاقب؛ لأنها طبيعة وفطرة، حتى الزوجة لو قلنا: لا تعاقبها إذا أخطأت، واصبر ثم اصبر، لا شك أن هذا يمكن أن يتلفها بالكامل، فيقتلها.
وهكذا النفوس لا بد أن تُضبط فتكون كما أمر الله أو تكبت فتؤدي في النهاية إلى انفجار لا يحده أي حد، فلا بد من إعادة العقوبة، ورحم الله تلك الأيام التي كنا بعد الدراسة في العصر أو المغرب إذا رأينا المدرس في آخر الشارع ونحن نلعب الكرة هربنا واختفينا، لأننا نخاف منه وله رهبة، أما الآن تجد الطلبة في الفصل ومعلمهم فيهم يصيح عليهم اهدءوا! اسكتوا! اجلسوا! فلا يسمع له؛ لأنها ديمقراطية التربية.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(31/27)
كيف نحيا بالقرآن؟ (ندوة)
نقل مقدم الندوة مقطعاً من كلام ابن القيم رحمه الله عن حياة القلب بالاستجابة لله وللرسول.
ثم تحدث الشيخ سعيد شعلان عن القرآن مبيناً أنه مادة حياة، ومدللاً على ذلك بآيات من القرآن الكريم.
ثم تكلم الشيخ سفر عن أحوال السلف مقدماً لذلك بذكر حالة العرب قبل الإسلام والتغير الشامل الذي أحدثه الإسلام في حياتهم، كما أشار إلى أحوال سائر الأمم، موضحاً أسباب حياة القلوب عند السلف، مؤكداً أن المخرج من الأزمة التي تعيشها الأمة الإسلامية اليوم هو العودة إلى القرآن.
ثم تحدث الشيخ سعيد عن الوسائل الصحيحة لتهيئة النفوس للانتفاع بالقرآن، مركزاً على أهمية التدبر في آياته، والتخلص من مفسدات القلوب، والإقلاع عن الذنوب والمعاصي.(32/1)
كلام مقدم الندوة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد: أيها الإخوة: أحييكم في هذه الأمسية المباركة التي نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلها أمسية خير لنا ولكم، وأن نتعلم فيها كيف نحيا على كتاب ربنا استجابةً لأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمرنا بالاستجابة له ولرسوله الكريم، وقبل أن نبدأ موضوعنا فإني رأيت كلاماً نفيساً قيماً لابن القيم يتعلق بتفسير هذه الآية، وفي بيان أن القرآن مادة حياة للناس.
يقول ابن القيم في تفسير هذه الآية: 'إن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ولرسوله، فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات فالحياة الحقيقية هي حياة من استجاب لله ولرسوله ظاهراً وباطناً، فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان، ولهذا كان أكمل الناس حياة هو أكملهم استجابة لدعوة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن كل ما دعا إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ففيه الحياة، فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ'.
ثم بين ابن القيم ما ذكره المفسرون في معنى قوله تعالى: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] يقول: 'يعني للحق.
ثم قال: وقال قتادة: هو هذا القرآن فيه الحياة والثقة والنجاة والحكمة في الدنيا والآخرة'.
وهذا هو موضوع ندوتنا لهذه الأمسية: كيف نحيا بالقرآن؟ ويحدثنا الشيخ سعيد شعلان في بيان أن القرآن مادة حياة كما قال ابن القيم، وكما قال قتادة في ذلك.(32/2)
القرآن قوام الحياة
يقول الشيخ سعيد: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداًَ عبد الله ورسوله خاتم النبيين وأشرف المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فإني كما يعلم الله تبارك وتعالى لم أكن أحب أن أكون مبتدئاً بالكلام في هذه الندوة، ولا أن أكون مستأثراً بأكثر الكلام فيها، وحاولت مع فضيلة الشيخ سفر -حفظه الله تعالى وجزاه الله خيراً- أن يأخذ نصيباً أوفر من الكلام، لكنه رأى أن هذا التنظيم جيد ومناسب، فأرجو المعذرة للحيلولة بينكم وبين الاستماع إليه فترة طويلة من هذه الندوة، وأسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينفعنا وإياكم بما نقول ونسمع، على أي لسان كان هذا الكلام، طالما كان كلاماً مستنداً إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما رآه السلف الصالح في تفسير هذا الكلام وشرحه وبيانه والله المستعان.(32/3)
القرآن طريق للحياة الطيبة
لا شك أننا جميعاً نريد لأنفسنا وللمسلمين -كافة- حياة طيبة في الدنيا والآخرة، ولا شك أن الرائد إلى بيان كيفية هذه الحياة هو كتاب الله عز وجل، وفي كتاب الله عز وجل دلالة على كيفية حصول هذه الحياة، فالله تعالى يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] والحياة الطيبة المذكورة في هذه الآية هي الحياة في الدنيا، وإلا لو كانت حياة الجنة لكان قوله تعالى -كما قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى-: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] من قبيل التكرار، فالدنيا فيها حياة طيبة لمن جعل القرآن رائده وقائده وإمامَه.
وهذه الحياة الطيبة تكون بأن يوفق الله العبد للطاعة، وللعمل بها، وبأن يشرح صدره وقلبه لها، وأن يرزقه العافية والرزق الحلال في هذه الدنيا، كما قال أهل العلم في بيان هذه الحياة الطيبة، وقصدي من ذلك أن أقول: إن القرآن الكريم مشتمل على مادة الحياة الطيبة، وقد بين أن العمل الصالح مع الإيمان يمكن أن يؤدي بالعامل المؤمن إلى ما يريده لنفسه ولأهله وعشيرته وأهل دينه من الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة.(32/4)
الأدلة على أن القرآن طريق للحياة الطيبة
إن اشتمال القرآن الكريم على مادة الحياة يمكن أن أستدل له بموضعين من كتاب الله عز وجل، وأتبع كل موضع بما يشهد له من الآيات، وأرجو أن لا أطيل في ذلك: - الدليل الأول:- أول الموضعين هو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57]، هذه الآية تبين اشتمال القرآن على مادة الحياة، فماذا قال العلماء في تفسيرها؟! وهل بينت كيف تكون الحياة طيبة، كما دلت هذه الآية عليها؟ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس:57] أي: تعظكم وتنذركم عن الأعمال الموجبة لسخط الله تعالى المقتضية لعقابه، جاءتكم موعظة من ربكم في هذا الكتاب العزيز، وهذه المواعظ في الكتاب العزيز من عناصر مادة الحياة مع الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، والتذكير، والعلم اليقيني، وما إلى ذلك مما سيأتي بيانه، تنذركم عن الأعمال الموجبة لسخط الله، فإذا اجتنبتموها حييتم حياة طيبة في الدنيا والآخرة، وفزتم؛ وعادت لكم كرامتكم التي كانت أوفر ما تكون لـ سلفنا الصالح في قرون الخير والإخلاص لله عز وجل والمتابعة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هذه الموعظة تحذركم من المعاصي ومفاسدها وتبين لكم آثارها {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} أي أن هذا القرآن شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادرة عن عدم الانقياد للشرع، فهذا القرآن يشفيها إذا كانت قلوباً قابلةً واعيةً راضيةً بهذا الكلام ساعيةً إلى الانتفاع به، مؤمنةً به مصدقةً عازمةً على العمل فهو شافٍ لما في هذه الصدور من أمراض الشهوات الصادرة عن عدم الانقياد للشرع.
وفيه شفاء لما في الصدور من أمراض الشبهات القادحة في العلم اليقيني بألوهية الله، وربوبيته، وأسمائه وصفاته وأفعاله، واستحقاقه بعبادة عباده له سبحانه وتعالى، وأن يفردوه -وحده- بذلك دون غيره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلى غير ذلك، فالقرآن شفاء لما في الصدور من هذه الأمراض؛ أمراض الشبهات التي تحول بين العبد وبين أن يحقق في نفسه عبودية صحيحةً لله عز وجل، فإن في هذا القرآن من المواعظ والترغيب والترهيب ما يوجب للعبد رغبة في الخير ورغبة عن الشر، هذه عناصر مادة الحياة: مواعظ، وترغيب وترهيب، ووعد ووعيد، وإذا وجدت فيه الرغبة في الخير والرغبة عن الشر؛ يرغب في فعل الخير، ويرغب عن فعل الشر فلا يفعله، إذا وجدت فيه هاتان الرغبتان ونمتا -أي: زادتا وعظمتا- على تكرر ما يرد إليها من معاني القرآن؛ أوجب ذلك للعبد تقديم مراد الله على مراد النفس، وصار ما يُرضي الله أحب إلى العبد من شهوة نفسه.
وكذلك ما فيه من البراهين والأدلة التي صرَّفها الله غاية التصريف وبينها أحسن بيان، براهين على وحدانيته، وعلى قدرته على البعث؛ والأدلة على قدرته وعظمته التي صرَّفها في القرآن غاية التصريف، وبينها أحسن بيان، مما يزيل الشبهة القادحة في العلم اليقيني، ويزيل كل شهوة تخالف أمر الله عز وجل.
وإذا صح القلب من مرضه ورفل بأثواب العافية تبعته الجوارح كلها؛ فإنها تصلح بصلاحه وتفسد بفساده، وما الذي يصلح هذا القلب؟! لا يصلحه إلا ما في هذا القرآن: {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس:57]، وهذا الشفاء الذي تضمنه هذا القرآن عامٌ لشفاء القلوب من الشبه، والجهالة، والآراء الفاسدة، والانحراف السيئ، والمقاصد الرديئة، فإنه مشتمل على العلم اليقيني الذي تزول به كل شبهة وكل جهالة، ومشتمل على الوعظ والتذكير الذي تزول به كل شهوة تخالف أمر الله عز وجل، وهذا الشفاء أيضاً عامُّ لشفاء الأبدان، ففي القرآن شفاء للقلوب من الشهوات والشبهات، وشفاء للأبدان من الآلام وأسقامها بالرقى.
{وَهُدىً} في القرآن من عناصر مادة الحياة هدى، فما هو الهدى؟ هو: العلم بالحق، والعمل به.
{وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57] والرحمة هي من عناصر مادة الحياة وهي: ما يحصل من الخير والإحسان والثواب العاجل لمن اهتدى بهذا القرآن، فالهدى أجل الوسائل، والرحمة أكمل المقاصد والرغائب.
وما في هذا القرآن من الأسباب والوسائل التي يحث عليها متى ما فعلها العبد فاز بالرحمة، والسعادة الأبدية، والثواب العاجل والآجل، ولكن هذا الهدى وهذه الرحمة لا تكون ولا تحصل إلا للمؤمنين بهذه الآيات المصدقين والعاملين بها؛ كما قال الله تبارك وتعالى في أول سورة البقرة: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]، فمفهوم ذلك أن من لم يكن متقياً لم يكن له في هذا الكتاب هدى.
وقال تعالى في موضعين من سورة المائدة: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} [المائدة:64] فيزيد غير المؤمنين القرآن طغياناً وكفراً، ويقول تعالى في سورة التوبة: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124 - 125]، وقال تعالى في سورة الإسراء: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [الإسراء:82]، فلعدم تصديق الآيات ولعدم العمل بها لا تزيد الظالمين آيات القرآن إلا خساراً، إذ بها تقوم عليهم الحجة، وقال تعالى في سورة فصلت: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:44]، وإذا حصل الهدى، وحصلت الرحمة الناشئة عنه؛ حصلت السعادة والفلاح والربح والنجاح والفرح والسرور.
- الدليل الثاني:- وأما الموضع الثاني فهو: قوله تعالى في سورة الأنعام: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122]، أو من كان من قبل هداية الله له في ظلمات الكفر، والجهل، والمعاصي فأحياه الله بالقرآن، وبنور العلم والإيمان، والطاعة، ووفقه لعبادته، واتباع رسله، فصار يمشي بين الناس في نور، متبصراً في أموره، مهتدياً لسبيله، عارفاً للخير مؤثراً له، مجتهداً في تنفيذه في نفسه وفي غيره، عارفاً بالشر مبغضاً له، مجتهداً في تركه وإزالته عن نفسه وعن غيره، هل يكون هذا كمن هو في ظلمات الكفر والجهل والبغي، والمعاصي ليس بخارجٍ منها، ليس له منفذٌ ولا مخلصٌ من هذه الظلمات هل يكون مثله؟! لا، فهذا قد اختلطت عليه الطرق، وأظلمت عليه المسالك، وحضره الهم والغم والحزن والشقاء.
فنبه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى العقول بما تعرفه وتدركه من أنه لا يستوي هذا ولا هذا، كما لا يستوي الليل والنهار، والضياء والظلمة، والظل والحرور، والأحياء والأموات.
ومن أمثال هذه الآية الكريمة في سورة الأنعام، قوله تعالى في سورة البقرة: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257]، وقوله تعالى في سورة هود: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ} [هود:24] أي: المؤمنين والكافرين: {كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} [هود:24]، ومنها قوله تعالى في سورة النمل: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِى الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [النمل:80 - 81] وقوله تعالى في سورة فاطر: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} [فاطر:19 - 22]، ومنها قوله تعالى في سورة الحديد: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:16 - 17]، أي: حان وآن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لأجل ذكر الله، وما يتكرر على قلوبهم من زواجر ومواعظ القرآن وما يرد إليها منه.
والخشوع: خشية من الله تداخل القلب، وتظهر آثارها على الجوارح بالسكون والانخفاض والطمأنينة، حان للمؤمنين أن يكونوا كذلك وألا يكونوا كالذين: {أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
ثم نبه الله تعالى بهذه الآية: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17] على أنه كما يحيى الأرض بعد موتها بالمطر، كذلك يحيى القلوب بهذا القرآن، وبنور العلم والإيمان والطاعة.
جعلنا ا(32/5)
السلف والقرآن
والآن أيها الإخوة ننتقل إلى النقطة التي بعدها وهي كيف حيَّ أسلافنا بالقرآن، لفضيلة الدكتور: سفر الحوالي.
يقول الشيخ سفر: الحمد لله الذي أنزل الكتاب على خير خلقه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، الذي جاهد في الله حق جهاده، فكانت رسالته رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين الذين حيَّت قلوبهم بالإيمان والقرآن، فنشروا العدل في الدنيا وهي ظالمة، ونشروا النور فيها وهي مظلمة، فاستضاءت بالنور، ونعمت بالعدل، حتى شاء الله تبارك وتعالى أن يعود الأحفاد إلى شبه الجاهلية الأولى فعادت الظلمات وعاد الظلم، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.(32/6)
حال العرب قبل الإسلام
وبعد: فإن الله تبارك وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103].
فالله تبارك وتعالى يمتن على المؤمنين بما أنعم به عليهم، ويبين حالهم قبل أن ينزل عليهم القرآن، وقبل أن تحيا به قلوبهم وتتنور، كيف كانوا، ثم ماذا صاروا من بعد، وقد بيَّن ذلك أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بيَّنه جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- عند النجاشي، وبينه المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- كما في صحيح البخاري في أول كتاب الجزية والموادعة لما قابله رسول كسرى، وقد أوضح في ذلك وأكثر في وصفه الإمام التابعي قتادة رضي الله عنه الذي قال في تفسير هذه الآية: [[كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلاً، وأشقاهم عيشة، وأبينهم ضلالة، وأعراهم جلداً، وأجوعهم بطوناً، معكومون على رأس حجر بين الأسدين فارس والروم]]، أي: كانوا محبوسين مضطهدين كأنهم على رأس حجر بين الدولتين الكبريين الأسدين: فارس في الشرق، والروم في الغرب، يقول رحمه الله: [[لا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يُحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقياً، ومن مات رُدي في النار، يُؤكلون ولا يأكلون]] كانت تحكمهم الملوك المناذرة، وهم عملاء لكسرى، والغساسنة وهم عملاء لقيصر وما عداهم ضياع وشتات، القبائل متحاربة متطاحنة، شعارهم من عزّ بزّ ومن غلب فلج.
لا يعرفون الله ولا اليوم الآخر، ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، ولا ينصرون مظلوماً ولا ينجدون مكروباً، بل كان من أقوالهم: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، وإن لم يجد من ينهب إلا أخاه فلينهبه، كما قال قائلهم:
وأحياناً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا
ويقول: [[لا والله ما في بلادهم يومئذٍ من شيء يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقياً، ومن مات ردي في النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلاً يومئذ من حاضر الأرض كانوا فيها أصغر حظاً وأدق فيها شأناً منهم]]، أي: أضأل وأتفه الأمم؛ كانوا قبائل متصارعة يقول: [[حتى جاء الله -عز وجل- بالإسلام فأورثكم به الكتاب، وأحل لكم به دار الجهاد، ووضع لكم به من الرفق، وجعلكم به ملوكاً على رقاب الناس وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا نعم ربكم، إن ربكم منعم يحب الشاكرين، وإن أهل الشكر في مزيد الله، فتعالى ربنا وتبارك]].
وكما قيل: الشعر ديوان العرب، فكيف كانت هذه الأمة -فضلاً عن فارس والروم وما شابهها ممن يعيشون في أحط ما يمكن من الحياة قبل أن يشرق عليهم نور القرآن، وقبل أن يحييهم الله بهذا الكتاب العظيم؟ - كيف كان العرب وهم أقرب الأمم إلى الفطرة؟ ثم كيف حولهم القرآن؟ كما عبر سيد قطب رحمه الله 'أمة تنبثق من الكتاب!! ' كيف انبثقت هذه الأمة وقادت العالم بأحكام هذا الكتاب ومن الائتمار بأمره والانتهاء بنهيه؟! كيف كانت أحوالهم؟ الحروب الطاحنة كحرب البسوس التي دامت بين بني ربيعة: تغلب وبكر، وتطاحنوا وتقاتلوا، حتى هلك معظمهم من أجل ناقة!! وكحرب داحس والغبراء وهما فرسان تسابقا، وللرياضة ماضٍ قديم في تفتيت الناس وفي تجهيلهم وإبعادهم عن القرآن!! فرسان تسابقا: إحداهما: داحس، والأخرى الغبراء، فتناكر صاحباهما وتجاحدا أيهما الأسبق، فتقاتلت القبيلتان قتالاً مراً حتى بادت خضراؤهم وهلك معظمهم إلى أن أصلح الله -تبارك وتعالى- فيما بينهم على يد رجلين، من اللذين خلد ذلك لهما الشاعر زهير بن أبي سلمى حين قال:
تداركتما عبساً وذبيان بعدما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
هذا حالهم! أما السلب والنهب فحدث ولا حرج، من الذي كان يأمن من العرب أن يمشي ومعه أخته أو زوجته أو أمه، ويأمن ألا يسلبها أحد؟! فلذلك كان من عظمائهم الكبار ومن سادة غطفان وبني تميم قيس بن عاصم وأد بضع عشرة بنتاً من بناته، لماذا وأدها؟! لأن إحدى بناته سبيت، فخيرت بين السابي والأب، فاختارت سابيها على أبيها، فأقسم أبوها ألا تولد له بنت إلا ويئدها في التراب! وتعلمون حكم ذلك، عياذاً بالله! هكذا كان قادتهم وسادتهم، وهكذا كانت حياتهم: امرؤ القيس الشاعر المشهور الذي تضرب به الأمثال في القديم والحديث؛ كان عربيداً سكيراً يعاقر الخمر والفجور، كما ذكر في معلقته، فبلغه أن أباه قد قتل؛ فقال: اليوم خمر وغداً أمر.
وقال في شعره:
بنو أسد قتلوا ربهم ألا كل شيء سواه جلل
فماذا فعل؟! أراد أن يثأر لأبيه، فجاء من بلاد بني أسد من وسط الجزيرة، إلى ذي الخلصة، وهو طاغوت دوس، صنم قبيلة دوس في الجنوب ليستشيره وليستنصحه، ليقول: كيف أقاتل من قتل أبي؟ ماذا أصنع؟ كيف آخذ بثأري وَمنْ أَقْتُل في أبي؟ فلما استقسم بالأزلام فخرج الذي يكره، وبزعمه أنه نهاه الصنم أن يأخذ بثأره، فرماه، وقال:
لو كنت يا ذا الخلصة الموتورا يوماً وكان شيخك المقبورا لم تنه عن قتل العداة زورا
وذهب يلتمس الحل؛ من أين يلتمسه؟ ذهب يلتمسه كما نلتمسه اليوم بعد أن ابتعدنا عن حياة القرآن وعن الحياة في ظلاله، ذهب إلى الروم إلى ملوك الأرض حينئذٍ؛ ولذلك يقول:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له: لا تبك عينك إنما نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
وقد هلك ولم ينل الملك، ولم يعذر! والقصص كثيرة عن حالهم.(32/7)
حال العرب بعد الإسلام
فكيف أصبحت هذه الأمة بعد نزول القرآن؟! لقد نوَّر الله -تبارك وتعالى- قلوبها بالإيمان، وبهذا الذكر {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122]، أحياهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالقرآن، وهو مادة الحياة العظمى، فانقلب حالهم بعد الذل عزاً، وبعد الهوان رفعة، وبعد الهزائم نصراً، وبعد الخوف أمناً، وبعد الظلم عدلاً.
أصبحت هذه الأمة هي الأمة التي أورثها الله تبارك وتعالى الكتاب {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32]، اصطفاها وأورثها هذا الكتاب الذي به حيَّت الأمة التي يقوم علماؤها مقام أنبياء بني إسرائيل؛ لأنهم قوامون بالقسط شهداء لله، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، كما جاء في القرآن، الأمة التي يفزع العالم إلى عدلها، ليتفيأ بظلاله من ويلات الظلم والجور.
دخل قتيبة بن مسلم بلاد سمرقند، بعد أن صالحهم مراراً وهم ينقضون العهد، فصالحهم مرة وغدر بهم ودخل المدينة انتقاماً من غدرتهم السابقة، فذهب منهم وفد إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وقالوا: بلغنا أنكم أمة الحق والعدل، وهاهو ذا قائدكم يصالحنا ثم يغدر، فأمر عمر -رضي الله عنه الإمام العادل- بأن يخرج الجيش من المدينة؛ لأنهم أعطوهم عهد الله ورسوله، ثم غدروا بهم، فأمر عمر بن عبد العزيز الجيش فخرج، وعند ذلك دخلوا في دين الله جميعاً عن حق ويقين ولم يغدروا بعدها أبداً.(32/8)
حال سائر الأمم قبل الإسلام وبعده
هذا بالنسبة إلى حال العرب، وماذا نقول في الروم وماذا نقول في الفرس؟! أولئك الذين كانوا يعبدون النيران، وكانوا يعيشون في ظلمات الكفر والجهل، أكانت تنقصهم الحكمة كما يفعل الناس اليوم؟! يأتون بالحكم ويأتون بالأمثال ويأتون بالقصص؛ أكان ينقص العالم حِكَماً أو عبراً وقصصاً؟! لا والله! كان بيدبا الفيلسوف الهندي الذي ألف كليلة ودمنة، وكان بزرزمهر -وهو فيلسوف الفرس- معروفاً لديهم، وكان عند الروم أرسطو وأفلاطون وسقراط وأمثالهم؛ فوالله ما صنعوا شيئاً، ولا أخرجوهم من الظلمات إلى النور؛ وإنما أخرجهم المؤمنون بكتاب الله وبهدى الله الذي أنزله الله عز وجل بهذا الوحي الخالص {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:45]، أخرجهم الله تبارك وتعالى بهذا القرآن، فاحتكموا إليه ورضوا به؛ حتى إن أهل الذمة الذين لم يدخلوا في الإسلام نعموا بالحياة الطيبة المطمئنة في الدنيا، وإن كانوا محرومين من الجنة عند الله تبارك وتعالى في الآخرة.
لكن الحياة التي عاشوها في الدنيا لم يجدوا لها نظيراً، ولن يجدوا لها نظيراً أبداً في ظل ملوك من النصارى كانوا يحكمونهم، ولا سيما إذا كانوا مخالفين لهم في الدين.(32/9)
القرآن حياة القلوب
نزل هذا القرآن فتفجرت ينابيع الحكمة في قلوبهم، فلو أنَّا قارنَّا كلام حكماء اليونان والهنود والرومان والصابئين بنتف من كلام أبي الدرداء، أو بعض من كلام معاذ أو ابن مسعود الذين كانوا يرعون الشياه، والذين كانوا كما ذكر قتادة وغيره في شأنهم؛ لما كانت نسبة ذلك إليهم شيئاً مذكوراً.
هؤلاء القوم الذين كانوا رهباناً بالليل، فرساناً بالنهار، الذين عملوا كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العصر إلى المغرب على قيراطين قيراطين، في حين أن اليهود عملوا إلى الظهر، وعملت النصارى من الظهر إلى العصر على قيراط قيراط.
هذه الأفضلية إنما جاءت لأن هذا القرآن الذي هو مادة الحياة صادف محلاً قابلاً، وهنا نأخذ العبرة والعظة، مهما كانت البذرة طيبة ومهما كان نباتها طيباً، إن لم تكن الأرض والمحل الذي تزرع به قابلاً فإنه لا يمكن أن تكون هناك حياة! ضع هذه البذرة على صخرة أتنبت؟! لا، ولكن ضعها في طينة مناسبة، في أرض طيبة، تجد أن نباتها يخرج طيباً بإذن ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وكذلك الإيمان صادف تلك القلوب التي اصطفاها الله تبارك وتعالى وطهرها، فقبلت هذا الإيمان، وتشربت هذا الدين، وآمنت بكتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى واتخذته وحده مع سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهاجاً وشرعةً وسبيلاً، فتركوا كل ما وجد عند الأمم السابقة.
كُتب إلى عمر -رضي الله عنه- عند فتح بلاد فارس: [[إنا قد وجدنا من كتب القوم حمل وقرين أو ما أشبه ذلك، وفيها من الحكمة وفيها من العبر، فما رأيك فيه؟ فكتب -رضي الله عنه-: أن أحرقها جميعاً، فإن الله -تبارك وتعالى- قد أغنانا بالقرآن]] لا نحتاج إلى حكمة، ولا نحتاج إلى منطق، ولا نحتاج إلى فلسفة، ولا إلى دراسات اجتماعية، ولا إلى دراسات نفسية، ولا إلى ما يقال وما يسطر، لا نحتاج إلا إلى أن نؤمن بكتاب ربنا تبارك وتعالى وكأني بـ عمر رضي الله عنه في هذه الحالة، وقد استحضر قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له لما أن رآه وفي يده صحيفة من التوراة، قال: {يا عمر، والله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي} هذا هو النور، وهذا هو الهدى، وهذا هو الخير كله، وجماع العزة والنصرة والرفعة، آمن به السلف الصالح رضوان الله عليهم كما أمرهم الله عز وجل، كانوا يقرءون الآية الواحدة منه، فتقع وتستقر في أعماق قلوبهم! هؤلاء شعراؤهم، كما كان لبيد الشاعر الجاهلي المشهور لما قرأ القرآن توقف ولم يقل شعراً، حتى قيل: إنه لم يقل إلا بيتاً واحداً في الإسلام بعد أن كان من شعراء المعلقات في الجاهلية وهو قوله:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي حتى اكتسيت من الإسلام سربالاً
لم يقل غير ذلك؛ لأن القرآن أبهره، وملأ قلبه، فأخرج ما في قلبه من الشعر ومن حب الشعر.(32/10)
القرآن هو المخرج من المآزق المعاصرة
إذا عادت الأمة إلى الشعر -ونعني بالشعر ما صد عن كلام الله- وإلى قرآن الشيطان إلى الغناء،، إذا عادت الأمة إلى لهوها ولعبها وفرقتها، إذا عادت الأمة إلى ضلالها وظلماتها وجاهليتها فلن ترى خيراً، فالحل وحده هو العودة إلى القرآن والارتواء من معينه الصافي، والاقتداء بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه في ذلك، ليحيوا مرة أخرى، وليُحْيُوا هذا العالم، فإن العالم لم يكن يوماً من الأيام بعد مبعثه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحوج إلى أن يحيا بالقرآن منه في هذا الزمن، وكأن الزمان قد استدار كهيئته ومبعث محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الدولتان العظميان كما تسميان إحداهما في المشرق والأخرى في المغرب، والأمة التي تنتسب إلى دين الإسلام معكومون على رأس حجر، بل معكومون في هوة سحيقة يحيط بها هذان الأسدان الجاثيان اللذان {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10].
فالله الله يا أمة الإسلام، ويا إخوة الإيمان!! العودة إلى كتاب الله! نتلوه آناء الليل وآناء والنهار ونتدبر آياته ومواعظه ففيه والله الكفاية والغنى، ونقرأ صفة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي وصفته بها أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وهو الوصف الجامع المانع {كان خلقه القرآن}، ونقرأ سير الصحابة الكرام جند الإيمان والتوحيد الذين كانوا بهذا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متأسين ومقتدين، تشبهوا به واقتدوا بسنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنالوا شرف صحبته.
وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم، أن يلحقني وإياكم بهم، وأن يحيي قلوبنا بالقرآن، وأن يوقظ غفلاتنا بالإيمان إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.(32/11)
كيفية التأهل للانتفاع بالقرآن
النقطة التي ننتقل إليها هي: كيف نكون أهلاً للانتفاع بالقرآن الكريم؟ قال الشيخ سعيد شعلان: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، سبق أن ذكرنا اشتمال القرآن إلى مادة الحياة، وعرفنا كيف حي أسلافنا بالقرآن، والقرآن بين أيدينا، فلماذا وجدت فينا هذه الأمور التي حالت بيننا وبين أن نكون بالأثر وعلى الدرب؟! هل عزف المسلمون عن قراءة القرآن وأعرضوا عن ذلك؟(32/12)
التدبر وأثره
الواقع أن المسلمين ما زالوا يقرءون القرآن؛ ولكن مما لا شك فيه أن قراءة القرآن وحدها ليست كفيلة بأن نكون أهلاً للانتفاع به، وبأن نكون أهلاً لأن نحيا به، فلا بد أن نُتْبَع القراءة والتلاوة بالفهم والتدبر والتعقل وبأمور أخرى سيأتي بيانها، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في تدبر القرآن -ما هو التدبر الذي هو من أعظم الشروط التي تؤهلنا للانتفاع بالقرآن؟ - قال: 'هو تحديق نظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله، وهذا هو المقصود بإنزاله، لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر، قال الله تعالى في سورة النساء: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] وقال الله تعالى في سورة المؤمنون: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون:68] وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة ص: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] وقال تعالى في سورة الزخرف: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:3] وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24] '.
وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: [[نزل القرآن ليتدبر وليعمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً]].
ثم يقول رحمه الله تعالى -والكلام ما يزال لابن القيم أثابه الله وجزاه أحسن الجزاء وأجمله-: 'فليس شيءٌ أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب في نجاته من تدبر القرآن، وإطالة التأمل فيه، وجمع الفكر على معاني آياته فإنها تطلع العبد على معاني الخير والشر بحذافيرها، وعلى طرقاتها وأسبابها وغاياتها وثمراتها ومآل أهلهما' هذا هو أنفع شيء للعبد في معاشه ومعاده، وهو أقرب شيء إلى نجاته؛ أن يتدبر القرآن، وأن يطيل التأمل فيه، وأن يجمع الفكر على معاني آياته.
وماذا يستفيد العبد إذا تدبر وأطال التأمل وجمع الفكر على المعاني؟ هذه الأمور إذا فعلها العبد، يقول: ' فإنها تطلع العبد على معاني الخير والشر بحذافيرها، وعلى طرقاتها وأسبابها وغاياتها وثمراتها ومآل أهلهما ' أي: مآل أهل الخير والشر، ما الذي يطلعك على ذلك؟ إنه تدبر القرآن وإطالة التأمل فيه وجمع الفكر على معاني آياته.
وماذا تفيدك إطالة التأمل مع التدبر والتعقل وجمع الفكر؟ يقول: ' وتتُلُّ في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة -ومعنى (تتل في يده) تلقى في يده توضع في يده- هذا كله بالتدبر والتعقل وجمع الفكر، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتشيد بنيانه، وتوطد أركانه، وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره بمواقع العبر، وتشهده عدل الله وفضله، وتعرفه ذاته، وأسماءه وصفاته وأفعاله، وما يحبه وما يبغضه، وصراطه الموصل إليه، وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه سبحانه، وقواطع الطريق وآفاتها، وتعرفه النفس وصفاتها ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة والنار، وأعمالهم، وأحوالهم وسيماهم، ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأقسام الخلق، واجتماعهم فيما يجتمعون فيه، وافتراقهم فيما يفترقون فيه، وبالجملة تُعَرِّفه ستة أشياء: تعرفه الرب المدعو إليه المدعو إلى عبادته سبحانه والإقبال إليه وما إلى ذلك مما ينبغي ألا يكون إلا لله وطريق الوصول إليه إلى رضاه وإلى جنته، وإلى رؤيته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وما له من الكرامة إذا قدم عليه، وتعرفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى: ما يدعو إليه الشيطان، وطريق الوصول إليه، وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب إذا قدم عليه فهذه ستة أمور لا بد للعبد من معرفتها، ومشاهدتها، ومطالعتها '(32/13)
الانتفاع بالقرآن ومفسدات القلوب
ينبغي لكي نكون أهلاً للانتفاع بالقرآن، أن نتجنب مفسدات القلب الخمسة، وذكرها ابن القيم أيضاً في كتابه مدارج السالكين ومنها: 'كثرة الخلطة، والتعلق بغير الله عز وجل، والشبع، وكثرة النوم' كثرة الخلطة مع غير الأخيار والصالحين، من غير دعوتهم، وبيان الحق لهم، وعرض محاسن الإسلام عليهم، والرضا بأحوالهم ومجالستهم على ما هم فيه من غير سعي إلى تغيير هذه المنكرات والأحوال السيئة، هذه مفسدة للقلب، فمهما قرأت فلا تنتفع بشيء.
التمني، أي: تمني الأمنيات: نتمنى ونتمنى وأحلام يقظة من غير حركة ولا فعل ولا نشاط ولا عمل ولا دعوة، فقط نتمنى؛ وكذلك التعلق بغير الله عز وجل يفسد القلب أيما إفساد.(32/14)
أثر الذنوب على الانتفاع بالقرآن
وينبغي أن نخاف ذنوبنا ومعاصينا، فإن لها من الآثار السيئة على القلوب والحيلولة بين القلوب والفهم والوعي والتدبر والتأثر ما لا يخفى على أي عاقل لبيب.(32/15)
نماذج للخوف من الذنوب
ولا حاجة بي إلى أن أعيد ذكر الذنوب -التي ذكرها فضيلة الشيخ في كلمته- الذنوب التي حطت من قدرنا، وعطلتنا عن اللحاق بمن سبقنا، وأخرتنا أيما تأخير.
هذه الذنوب يجب أن نخافها أشد الخوف ويكفي في الدلالة على ما ينبغي من خوف الذنوب أن أذكر مثالاً على ذلك وهو: عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- والذي ذكر فضيلة الشيخ أنه ممن تفجرت ينابيع الحكمة في قلوبهم وعلى ألسنتهم لَمَّا انتفعوا بهذا القرآن العظيم.
كان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- من السابقين إلى الإسلام، وكان من المحببين إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأذكر في فضله ومكانته عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود نفسه قال: {لما نزل قوله تعالى في سورة المائدة: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:93] قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لـ ابن مسعود: قيل لي: أنت منهم، أنت منهم} هذا في صحيح مسلم وفي صحيح مسلم أيضاً عن أبي مسعود البدري وأبي موسى [[أنهما بعد وفاة ابن مسعود -رضي الله عنه- جلسا فقال أحدهما للآخر: أتراه ترك بعده مثله؟ -أي: هل بقي مثل ابن مسعود بعد وفاته- فقال الآخر: لأن قلت ذاك، لقد كان يؤذن له إذا حجبنا، ويشهد إذا غبنا]].
أي: ومن منا مثل ابن مسعود، كان يؤذن له في الدخول على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا حجبنا، ويشهد إذا غبنا، ولقد دخل ابن مسعود على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد مرضه الشديد وامتناعه من الخروج للمسلمين في يوم الخميس، وقبل وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأذن له بينما لم يؤذن لكثير من الصحابة في ذلك الوقت.
وأيضاً في صحيح البخاري وصحيح مسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: {قدمت أنا وأخي في قدوم الأشعريين فمكثنا زمناً لا نرى ابن مسعود وأمه إلا من آل بيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكثرة دخولهم وخروجهم عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ}، هذا في مكانة ابن مسعود، وفي هذه المكانة حديث آخر أخرجه الإمام أحمد وغيره، عن ابن مسعود وعمر بن الخطاب، أما عمر بن الخطاب فلما بلغه وهو بعرفة -رضي الله عنه- أن رجلاً بالكوفة يملي المصاحف عن ظهر قلب، غضب وارتعدت فرائصه، ولم يسر عنه إلا لما عرف أن ابن مسعود هو الذي يملي المصاحف عن ظهر قلب، قال: ومن أحق منه بعد.
أي: ومن أحق منه في هذا الوقت؟ فليس أحد أحق من ابن مسعود.
لقد كنا عند أبي بكر في سمرٍ، وعنده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا، وخرجنا فأتينا المسجد فوجدنا رجلاً قائماً يصلي فاستمعنا إليه، فلما كدنا أن نعرفه -وعرفوا أنه ابن مسعود - قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي بكر وعمر: {من أراد أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل، فليقرأه بقراءة ابن أم عبد.
ثم انتهى ابن مسعود وشرع في الدعاء، فقال عليه الصلاة والسلام وابن مسعود لا يشعر: سل تعطه، فدعا ابن مسعود وقال: اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفد، ومرافقة نبيك محمد في أعلى جنان الخلد، قال عمر رضي الله عنه: فقلت في نفسي لأبشرنه إذا غدوت عليه، فلما أتيته لأبشره وجدت أبا بكر سبقني، فقلت له: إنك لسباق إلى الخير}.
هذا بعض ما يمكن أن يروى في مكانة ابن مسعود وفضله.
إذا انتبهتم إلى هذا وتأكدتم منه ووقفتم عليه، تعالوا إذن نرى كيف كان هذا الصحابي الجليل يزري على نفسه ويهضمها، ويخاف الذنوب، لنعرف أين هم وأين نحن؟! وإلى أين وصلوا هم؟! ولماذا وقفنا ولا حراك لنا؟! ولا نأمل ونحن على ما نحن عليه من هذه الأحوال السيئة أن ندرك هذا الركب حتى نقلع عن هذه الذنوب والمعاصي، وحتى نحييَّ قلوبنا بهذا الهدى، وهذه الرحمة التي في القرآن.
عن إبراهيم التيمي عن أبيه بإسناد صحيح -كما أخرجه الذهبي في سيرة ابن مسعود في المجلد الأول- قال: قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: [[لو تعلمون ذنوبي ما وطئ عقبي اثنان، ولحثيتم التراب فوق رأسي، ولوددت أن الله غفر ذنباً من ذنوبي وأني دعيت عبد الله بن روثة]]، وددت أن الله يغفر لي ذنباً من ذنوبي حتى وإن كانت القربان إلى ذلك والشيء الذي يقدم ليغفر ذنباً من الذنوب أن أدعى يا عبد الله بن روثة؛ وتعرفون معنى الروثة! هذا إزراءٌ على النفس وتواضع، وإلا فهم السابقون السابقون رضي الله عنهم وأرضاهم.
ويقول أبو سليمان الداراني معلقاً على كلام لابن سيرين بكلمة أختم بها هذه الفقرة في التحذير من الذنوب ومن عدم الخوف منها، فنرى ابن سيرين رحمه الله تعالى، تدين بدين كبير عظيم جداً حبس بسببه، فحاسب ابن سيرين نفسه فقال: [[إني عيَّرت رجلاً من ثلاثين سنة فقلت له: يا مفلس، وهذا هو أوان عقابي وجزائي بهذا الذنب، فبماذا علق أبو سليمان الداراني؟ قال: قلَّتْ ذنوبهم فعرفوا من أين أُتوا، وكثرت ذنوبنا فلم ندر من أين نُؤتى!]].
إذا حصلت لأحدهم مصيبة والله تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] إذا أصابه ذنب وبلاء عرف أن الذنب هو الذي تسبب بهذا البلاء، يعرفه؛ لأن ذنوبهم قليلة فلا يحتاج إلى كثير بحث، أما نحن فإذا أصبنا ببلاء لا نستطيع أن نرد السبب إلى ذنب معين؛ لأنها ذنوب كثيرة وعظيمة.
ولقد قال أنس -رضي الله عنه- كما في صحيح البخاري لمن أدركهم من التابعين: [[إنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الموبقات]] يعني: المهلكات، ومعنى قوله: أنتم تعملون أعمالاً تعتبرونها في نظركم وحسبانكم دقيقة كالشعر ونحن كنا نعدها؛ أي: نعد هذه الذنوب التي تستهينون بها على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الموبقات [[قَلَّت ذنوبهم فعرفوا من أين أُتُوا، وكثرت ذنوبنا فلم ندر من أين نؤتى]].
فنسأل الله -تبارك وتعالى- أن يوفقنا وإياكم إلى تحقيق هذه الشروط التي تجعلنا أهلاً للانتفاع بالقرآن، والتي تؤهلنا لأن نحيا بالقرآن، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(32/16)
الأسئلة(32/17)
منهج دراسي للمبتدئين
السؤال
فضيلة الشيخ سفر يقول السائل: أنا تائب جديد فهل تنصحني في بداية توبتي بالتركيز على قراءة القرآن وتفسيره، حيث إنه من عوامل التثبيت كما سمعت من طلبة العلم؟ أم أنوع القراءة في مختلف العلوم من فقه وعقيدة وحديث؟
الجواب
الحمد لله وبعد: كلنا -أيها الإخوة في الله- نحتاج للتوبة، ونسأل الله أن يجعلنا من التائبين الأوابين.
وقد ذكرنا حال الأمة عندما تابت والعرب جميعاً لما تابوا، على أي شيء تربوا؟! وكيف حيت قلوبهم؟! وكيف ساروا؟! القرآن هو الركن الركين والأساس في التزكية والتربية، وكل العلوم فرع عنه، فالسنة شرح وتفسير له، وبيان لمجمله، وتخصيص لعمومه، وتقييد لمطلقه، إلى غير ذلك.
وعَمَلُ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترجمة له، وعَمَلُ الصحابة الكرام -رضوان الله تعالى عليهم- تطبيقٌ وتنفيذٌ له، فالقرآن هو الأساس، فكل علم يخالف هذا الكتاب فلا خير فيه، وكل خير في علم آخر فأصله من هذا الكتاب لاستمداده منه، ولذلك فإن أوجب ما يبدأ به الإنسان تائباً أو غير تائب هو: الإقبال على كتاب الله عز وجل؛ إقبالاً فيه التدبر، وفيه التفكر.
ثم بعد ذلك ينوع من العلوم بقدر لا يزاحم به كتاب الله، فإذا خَصَّصَ جزءاً مهماً أساسياً لحفظ القرآن وتدبره والاطلاع على كتب التفسير، فلا بأس أن يجعل بعد ذلك من العلوم المشتقة منه، والمكملة له، ولا سيما ما هي تطبيق وتنفيذ للقرآن، مثل: تعلم أحكام العبادات من صلاة وزكاة وصيام، لأنه بذلك يطبق القرآن، ويمتثل أمر الله في القرآن، بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهكذا.
ولا يشغل نفسه بعلوم أبعد من ذلك، تبعده عن التدبر والعمل في القرآن وإن كانت حقاً، كما يشتغل بعض الشباب فيبدءون عقب توبتهم بالاشتغال بالرجال والنقد (نقد الرجال) والجرح والتعديل! ليست هذه البداية الصحيحة لطالب العلم، وبعض الإخوة يشتغل بالإكثار من الفروع الفقهية والخلاف بين العلماء، وبعضهم يبدأ بأصول الفقه، وبعضهم يبدأ بقراءة الفلسفة أو المنطق!! أو ما أشبه ذلك، وهذا كله من الخطأ في طريق العلم، فالقرآن هو الأساس فقد جاء عن بعض الصالحين أن رجلاً صالحاً لم يستطع أن يحفظ القرآن لشغله عنه، فأرسل ابناً له ليحفظ القرآن، وليتعلم القرآن فرجع الولد فقال أبوه: يا بني، لماذا رجعت؟ قال: يا أبتِ: حفظت سورة أرى أنها قد كفتني، قال: وما هي؟ قال: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْأِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:1 - 8].
أقول: بمثل هذا التدبر يجد الإنسان أن السورة الواحدة إذا حفظها وتدبر معانيها وتفقه فيها، أنها تغنيه عن علم كثير مما فيه جفاء عن القرآن، أو جفاء في القلب، كالدخول في الخلافيات وما أشبه ذلك، مما هو شأن العلماء المجتهدين المتعمقين الذين استكملوا -إن شاء الله- حظاً وافراً من الإيمان، ثم تفقهوا وتوسعوا في العلم، وكان ذلك فرضاً متعيناً عليهم، لأن الأمة بحاجة إلى علومهم، أما نحن طلبة العلم، فنحن أحوج ما نكون أولاً وبادئ ذي بدء إلى إصلاح قلوبنا وتزكيتها بهذا القرآن، والبعد عما يشغلنا عنه وإن كان حقاً، لكنه حقٌ مفضول.
بهذا أنصح نفسي أولاً، وإخوتي الكرام أثابهم الله، وأقول ذلك لأننا في عصر اشتبكت واختلطت على الإخوة فيه السبل الصحيحة لطلب العلم ولمعرفته، وأصبح -ربما أكون مبالغاً وأرجو أن أكون كذلك- الهضم والإجحاف بالقرآن: تلقياً وحفظاً وتعلماً مقابل علوم أخرى، ما كان فيها من خير فإنما هو من كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(32/18)
من أخطاء بعض القراء
السؤال
فضيلة الشيخ سعيد شعلان: مجموعة من كبار القراء الذين اشتهروا في العالم الإسلامي ظهرت أخبارهم في وسائل الإعلام وكأنهم لا يحيون بالقرآن، واستطاع الإعلاميون استغلالهم، فمنهم من استضيف في حفل مسرحي، ومنهم من استضيف في افتتاح مباراة كرة، ومنهم من اجتمع في لقاء صحفي يذكر فيه أنه يرى التلفاز والتمثيليات ويسمع الغناء، فنرجو من الشيخ أن ينبه القراء إلى خطورة ما يحاك لهم من الإعلاميين بهذا الصدد؟
الجواب
الحمد لله، تعلمون جميعاً أن الله عز وجل أنزل كتابه المبارك لهداية الناس إلى مصالح الدنيا والآخرة، ولم ينزل هذا الكتاب ليقرأ في المآتم، أو على القبور، أو في افتتاح الحفلات، أو ليوضع مهجوراً بين دفتين عظيمتين من الأصناف الغالية الثمن، وما إلى ذلك، لا، بل هو كتاب هداية وما مضى الكلام على ما فيه من مادة الحياة وكيف حيَّ به أسلافنا، وكيف يتدبر، يغني عن إعادة الكلام عن الهدف الذي من أجله أنزل الله -تبارك وتعالى- هذا الكتاب العزيز المبارك، ويكفيني أن أرد هذا العمل -على من قام به من القراء ولو كانوا من المشاهير- بكلام من سبقهم في قراءة القرآن وتعلمه، وتعليمه ولن يكون هؤلاء القراء مهما بلغت شهرتهم حجة على هذه الفعال بإزاء القراء الأولين المفكرين، الفاهمين، المتدبرين، المتعقلين، جامعي الفكر على معاني آيات القرآن الكريم، لن يكونوا مثلهم، ولن يُحتجَّ بهم ويُتركَ الاحتجاجُ بهؤلاء الأولين رضي الله عنهم.
لقد ذكر النووي رحمه الله تعالى في التبيان في آداب حملة القرآن آثاراً عن ابن مسعود رضي الله عنه والحسن والفضيل بن عياض رحمهم الله تعالى، أكتفي بذكرها وفيها ردٌ كافٍ على هذه الأعمال وعلى هذا السلوك، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: [[ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بليله إذا الناس نائمون -إذا نام الناس قام هو- وبنهاره إذ الناس مفطرون -يعني: بصيامه- وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذ الناس يضحكون، وبصمته إذ الناس يخوضون، وبخشوعه إذ الناس يختالون]].
وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: [[إن من كان قبلكم -يقول للتابعين في زمانه وأتباعهم- رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار]]، أي: يعملون بها في النهار.
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: [[حامل القرآن حامل راية الإسلام، لا ينبغي له أن يلهو مع من يلهو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلغو مع من يلغو، تعظيماً لحق القرآن]]، لا ينبغي أن يشارك في اللهو والسهو واللغو تعظيماً لحق القرآن، لأنه من حملته وسيكون حجة لغيره إذا ما رآه على هذه الأمور أن يفعل مثله.
أما إذا كان هو يبرر هذه الفعال ويحكم بجوازها وصحتها، ويتفضل بافتتاح هذه الحفلات بأن يقرأ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} [القمر:54] ولست أقول: إن المصيبة في أن يقرأ هذه الآيات، لكن المصيبة في المشاركة والحضور في هذه الحفلات، ولو قرأ أي آية من كتاب الله -عز وجل- لأنه يجلس مع قوم فارغين، لا هم في أمر دنياهم، ولا هم في أمر آخرتهم، كيف ذلك؟! يجلس مع قوم لا يصلحون دنياهم، ولا يصلحون آخرتهم! فهذا هو الذي ينبغي لحامل القرآن من الآداب، وبهذا القدر كفاية والله تبارك وتعالى هو المسئول أن يهدينا، وأن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى، وأن يختم لنا بخير، وأن يجعل عواقب أمورنا إلى خير.(32/19)
حكم التداوي بالقرآن من المس
السؤال
فضيلة الشيخ سفر: هل يجوز التداوي بالقرآن الكريم وإخراج الجني من المريض بقراءة، القرآن جزاكم الله خيراً؟
الجواب
الحمد لله، أقول: لا ريب أن القرآن شفاء للقلوب وللأبدان -كما تفضل الشيخ فذكر الآيات في ذلك- والتداوي بالقرآن حق، ومن تداوى به كما شرع الله وكما فعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يغلُ ولم يبتدع، وكان محله قابلاً للعلاج القرآني، شفي بإذن الله -تبارك وتعالى- فالشفاء موجود ولكن قابلية المحل أيضاً شرط لوقوعه، غير أني أريد أن أنبه إلى ما هو أهم، لنأخذ العبرة من حالنا ومن واقعنا.
عندما عظمنا الدنيا ونسينا الآخرة، أصبحنا نحتاج القرآن لنداوي به أجسادنا، ونسعى إلى ذلك، ونبذل المال والجهد، ولكننا لا نسعى ولا نجتهد، لأن نعالج قلوبنا بالقرآن، فلو قيل لنا: إن شيخاً أو عالماً واعظاً سيعظنا الليلة بشيء من كتاب الله -تبارك وتعالى- يرقق به القلوب، ويذكرنا بالله عز وجل، ويربطنا بهذا الكتاب المهجور، كم يجتمع له؟! كم يحضر لديه؟! أما لو قيل إن رجلاً ما قد ظهر في منطقة نائيةٍ بعيدة يعالج الناس بالقرآن، ويخرج الجان، ويفك المسحور، وأمثال ذلك مما يتلذذ به العامة؛ لشدت إليه الرحال وضربت إليه أكباد السيارات! سبحان الله!! أليس هذا دليلاً على أنا عظمنا الدنيا ونسينا الآخرة؟! إذا كان الحسن البصري -كما سمعتم من الشيخ حفظه الله- قال رحمه الله: [[إن هذا القرآن أنزل ليقرءوه وليعملوا به فجعلوا قراءته عملاً]] سبحان الله! يلوم الذين جعلوا قراءة القرآن علماً دون العمل به، فكيف بالذين جعلوا القرآن تكسباً للدنيا؟! وكيف بالذين جعلوه فقط لعلاج أجسادهم؟! فإذا صح الجسد وتعافى، استُخدِمَ في معصية الله -عز وجل- شُفيت العين فنظرت إلى ما حرم الله، وشفي العقل فتفكر وتأمل فيما حرم الله، وشفي اللسان فنطق بما حرم الله، هذه والله كارثة! أن يكون هذا حظنا من كتاب ربنا وإن كان العلاج به حقاً لا ريب فيه.
إخوتي في الله! إن الله تبارك وتعالى رحيم كريم ومن رحمته عز وجل أنه جعل ما يقيم حياة الناس لضروراتهم، جعله متيسراً لهم بقدر ضرورته لهم؛ فهو بقدر الحاجة أو الضرورة يكون تَيَسُّر ذلك الأمر.
فلما كان الناس بحاجة إلى الهواء لا يستطيع الإنسان أن يعيش إلا إذا تنفس الهواء جعله الله مجاناً، ولو كان الهواء يباع لاختنق أكثر الناس؛ لأنهم فقراء ولاحتكر التجار الهواء ولكن رحمة الله منعت ذلك.
وكذلك الماء؛ لأن الناس يحتاجونه ولا يستغني عنه أحد جعله الله تبارك وتعالى موفراً بين أيديهم ولله الحمد والمنة.
والملح؛ لأنه لا قوام للطعام إلا به هو من أرخص ما يباع في الأسواق في كل مكان ولله الفضل وله الحكمة البالغة عز وجل، ومن ذلك أنه لما علم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو العليم بكل شيء شدة حاجتنا إلى القرآن وضرورة تحصننا به من الشيطان وأن عدونا ماكر خبيث ممكن له فينا، ويجري منا مجرى الدم أعطانا الله عز وجل العلاج مجاناً.
فكل إنسان كل مؤمن والحمد لله يستطيع أن يقرأ المعوذتين، ويقرأ آية الكرسي، ويقرأ آخر آيتين من سورة البقرة ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة في اليوم إلى غير ذلك مجاناً، فلا تحتاج أن تذهب إلى شيخ أو تسأل عنها عالماً، ولا أن تبذل مالاً قل أم كثر.
فإنك إن قلتها حفظك الله تبارك وتعالى بها من الشيطان بإذن الله فلا تصرع ولا يأتيك الجان ولا يتلبس بك ولا يؤذيك السحر بإذن الله تبارك وتعالى؛ إلا ما قدره الله، وقَدَرُ الله عز وجل كائن.
{أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق} هل تشق على أحد؟! أم تلك الرقى البدعية والقراءات الطويلة ويصحبها من الباطل أقل ما يقال فيها: أنها لم ترد مرفوعة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن كان أكثرها لم يعملها الصحابة أو أحد من السلف؛ بل بعضها وقد رأيناها مشتملة على شركيات وعلى توسلات بغير الله عز وجل، ويقولون: هذا قرآن هذه آية الكرسي.
لكن اقرأ ما في الأطراف تجد أرقاماً وكتابات لا معنى لها، هذه توسلات شركية، ولهذا يقولون يوم القيامة عندما يسألهم ربنا تبارك وتعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام:128] هذا يستمتع به بما يقدم له من شركيات، وذاك يستمتع بما يعطيه، وكأنه يظهر على يديه الكرامات أو الخوارق! فيا إخوتي في الله، الوقاية خير من العلاج! فلنعالج قلوبنا أولاً، ونقيها الشبهات بالقرآن، ثم بعلاج أبداننا أيضاً نتخذ من هذا القرآن وقاية للحفظ من الشيطان، فنقرأ هذه الآيات الميسورة المتوفرة -والحمد لله- ونداوم على هذه الأذكار صباحاً ومساءً وقبيل النوم، كما وردت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبذلك يكون لنا الشفاء -بإذن الله تبارك وتعالى- في قلوبنا وأبداننا، أسال الله تبارك وتعالى أن يشفينا جميعاً وأن يعافينا من كل داء ظاهر وباطن إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.(32/20)
التضرع إلى الله
إن من أعظم ما شرعه الله جل وعلا على العباد دعاءه والتضرع إليه، والتذلل بين يديه؛ لما في ذلك من إثبات العبودية والخضوع لله سبحانه وتعالى، وفي هذه المادة يتحدث الشيخ حفظه الله عن الدعاء والتضرع، مبيناً أهميته، ومحذراً من خطورة الأمن من مكر الله، ثم ذكر أمثلة من حياة الأنبياء عليهم السلام والتي توضح منهجهم في الدعاء وحرصهم عليه.(33/1)
مغبة ترك الدعاء
الحمد الله القائل: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف:94] والقائل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد القائل: {إن الله حيي رحيم كريم يستحيي أن يرفع العبد يده إليه ثم لا يضع فيها خيراً}، وصلى الله وسلم وبارك على صحبه الكرام، والتابعين لهم بإحسان، الذين تعرفوا إلى الله تبارك وتعالى في الرخاء، فتعرف الله إليهم في الشدة، الذين سنوا لنا كيف نتضرع إلى الله، ولا نغفل عنه، ولا ننسى ذكره في أي وقت وعلى أي حال.
أما بعد: فما منا أحد اليوم إلا وهو يسمع ويجالس ويرى ويستشعر في كل حين هذه الأحداث، التي تمر بأمة الإسلام في كل البلاد، وفي هذا البلد خاصة، الذي كان أهله يحسبون أنهم سيظلون في منأى عن الفتن والأحداث، حتى جاءتهم.
مع أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يجامل في سنته ولا يحابي أحداً، فله سنن ثابتة لا تتخلف، وقد ابتلانا قبل ذلك بالنعماء وبالسراء، ثم هاهي قد بدأت طلائع البأساء والضراء -ونسأل الله العفو العافية- وليست المشكلة في أن البلايا تقع، أو أن العذاب يقترب، أو أن الفتن والمحن تموج، فهذا تاريخنا الإسلامي حافل به.
ولكن المصيبة والمشكلة في غفلتنا عن أسباب الوقاية، وفي بعدنا عن الرجوع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والأخذ بموجب التقوى والإيمان، الذي يدفع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به العذاب، ويكشف عنا به البلاء، والله عز وجل رحيم وكريم وهو الغني الحميد، ومن رحمته بهذه الأمة -وهو الذي أنزل إليها الكتاب رحمة وبعث إليها نبي الرحمة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن بين لها كيف تتقي عذابه؟ وكيف تتجنب سخطه؟ وكيف تأخذ بأسباب النجاة في أمر ديننا ودنيانا؟(33/2)
النجاة من عقوبة الله تكون بالدعاء والتضرع
وإن مما شرعه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وجعله سبباً -بل هو من أعظم الأسباب- لاتقاء عذابه وسخطه، دعائه والتضرع إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والتوبة والاستغفار والإنابة، فنحن في هذه الأيام أحوج ما نكون إليها، وإن كنا محتاجين إليها في كل وقت وفي كل حين؛ لكن مع هذه الفتن ومع هذه الأحداث فنحن أحوج ما نكون إلى أن لا ننسى ذلك.
ولا سيما أن الذين أخاطبهم جلهم من طلبة العلم -ولله الحمد- وفيهم الدعاة والأئمة والخطباء، وبهم تتأثر الأمة -إن شاء الله- وينتشر الخير فيها، فيجب أن ننشر هذا الحق وهذا الخير، وأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا، وأن نجتهد في دفع هذا البلاء عن الأمة ببيان أسباب الوقاية منه -بإذن الله تبارك وتعالى- وهذا من أعظمها كما بين الله عز وجل ذلك، بل إن الله تبارك وتعالى جعل التضرع غاية كما ذكرنا في الآية السابقة وهي قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف:94] وفي الآية الأخرى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام:42].
إذاً: فالأخذ بالبأساء وهي: الحروب والضراء، وهي تعم الفتن والجدب والقحط وكل ما من شأنه أن يضار الناس، الغاية منها لعلهم يضرعون -أي: كي يضرعوا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فإن الناس إن لم يعرفوا الله تبارك وتعالى في الرخاء فلا بد أن يتعرفوا إليه في الشدة، وإن من أعظم وأكثر الناس قسوة وأعظمهم غفلة الذين لا يتضرعون إلى الله لا في الرخاء ولا في الشدة، ولهذا قال عز وجل في الأنعام: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:43 - 45].
فانظروا إلى إمهال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للأمم السابقة ففي أول الأمر أخذهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلما لم يتضرعوا وقست قلوبهم حلت ووقعت عليهم العقوبة، فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء، استدراجاً من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهم.
ومن هنا قال لنبيه وللمؤمنين: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} [آل عمران:196] لأن هذا فتح من الله؛ يفتح الله عليهم أبواب كل شيء ثم في النهاية {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] فيأخذهم بغتة؛ لأنه قد أنذرهم وقد خلت من قبلهم المثُلات وقد جاءتهم النذر، ولكنهم أعرضوا ونسوا ما ذكروا به، فعند ذلك يقطع دابرهم بأليم عقابه، نسأل الله العفو والعافية.(33/3)
حال المتضرع وحال المعرض
{فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43] فلو أنهم تضرعوا إلى الله لكشف عنهم السوء، ولهذا استثنى الله تبارك وتعالى من الأمم قوم يونس يقول الله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98].
فذكر المفسرون من السلف رحمهم الله في هذه الآية أن قوم يونس خرجوا إلى الصعدات، وجأروا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وخرجوا بأطفالهم ونسائهم ودوابهم، وقيل: إنهم ظلوا على هذه الحالة أربعين ليلة وهم يستغيثون ويتضرعون ويدعون ويبكون ويستغفرون فكشف الله تبارك وتعالى عنهم العذاب في هذه الحياة الدنيا، وهذا من فضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ومن سعة رحمته.
أما الذين يصرون ويعاندون ويستكبرون على الله ولا يتضرعون إليه ولا ينيبون؛ فإنه يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وهذا ما بينه في سورة الأنعام وكما بينه أيضاً في آيات الأعراف السابقة، ويقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96]، فهناك ذكر أنهم {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:44] وقال هنا: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96] وليس أبواب كل شيء؛ ولكن بركات، والبركة في أي أمر حلت فهي خير، أما الذي لا بركة فيه فلا خير فيه.
وإن كان كثيراً {وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96].(33/4)
عقوبة الأمن من مكر الله
ثم قال عز وجل: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:97 - 98] أي: ما المانع وما الموجب وما المقتضي للغفلة والإعراض وقسوة القلب وعدم اللجوء إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والتضرع إليه، أهو الأمن؟! فكيف يأمنون والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قادر! والله تبارك وتعالى قوي! والله تعالى عزيز ذو انتقام! كيف يأمنون أن يأتيهم بأس الله بياتاً وهم نائمون! وكم من أمةٍ جاءها ذلك البأس فأخذهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مصبحين، كما أخذ الله قوم لوط {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81] {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} [الحجر:83] أو (مُشْرِقِينَ) هكذا أخذ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كثيراً من الأمم، أخذهم بياتاً أو مع الإشراق {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:98].
وقد أخذ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أيضاً أمماً أخرى وأهلكها، وعذبها وهي ترى العذاب، ومن ذلك ما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن قوم عاد {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24]-نعوذ بالله من القسوة ومن الغفلة- حتى لما رأوا العذاب قالوا: هذا عارض ممطرنا، فما ظنوه إلا استمراراً لهم في الخير واستمراراً للعطاء والنعمة، وما ظنوه إلا سيستمر، وهم لا يحسبونه استدراجاً {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] فكانوا بعد ذلك {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر:20].
وهكذا كل أمة يجب عليها ألا تأمن من مكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأعراف:100] لا يصح ولا يجوز لأي أحد أن ينسى، أو يغفل، أو يكف عن التضرع إلى الله والتوبة إليه، والأخذ بالأسباب الواقية من عذابه، والمؤدية إلى النجاة من انتقام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهكذا يجب على الناس أمماً وأفراداً.
أما من كان حاله غير ذلك، فإنما مثله مثل الذي قال: {وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} [مريم:77] فرد الله عليه: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم:78].
ألم نقل في هذه الأيام بصريح الحال أو المقال: إننا في رخاء مستمر، وإن الأمان مستمر، وإن الأموال متنامية، وكل شيء في نمو {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم:78] هل اطلعنا على الغيب فوثقنا أن حالنا سيظل كذلك؟! لا والله ولم نطلع عليه، {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65] وكذلك هل أعطانا الله تبارك وتعالى عهداً وميثاقاً أن يعذب الأمم ويبتليها ولا يبتلينا؟ لا والله، ومن أين لنا ذلك؟! فقد رأينا عِبَرَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ورأينا أيام الله التي فعلها بالأمم التي قبلنا، ورأينا ما حدث في أوروبا في الحرب العالمية الثانية، وسمع الناس بذلك.
أقول: الأمة في مجموعها علمت بذلك، ثم رأى الناس ما حل بأهل لبنان مع ما كانوا فيه من الرخاء والنعمة، لكن لما طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد صب الله عليهم سوط عذاب، وجعل الفتنة فيما بينهم، وكان الهرج -القتل- حتى أن القاتل لا يدري فيما قَتل ولا المقتول فيما قُتل، ولا يخفى ذلك على أحد.
ورأينا ما فعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بـ إيران بعد أن كان عرش الطاووس تخاف منه العروش، وتهتز له الملوك، وكان يريد أن يكون ثالث قوة في العالم، أسقطه الله وأذهبه، وجاءت الحروب، وجاءت الفتن، حتى أصبحوا في أسفل سافلين في كل جانب من جوانب الحياة، وكذلك أمم ودول أخرى من حولنا.(33/5)
الدعاء مجلبة للخير مدفعة للضر
ثم جاءتنا مصيبة تستوجب أن نرفع أكف الضراعة إلى الله في كل حين أن يرفع هذه المصائب عن الإسلام والمسلمين، وأن يجعل عاقبتها خيراً، ولن تدفع هذه المصائب، ولا ما هو أعظم منها -إذ لا ندري ما يخفي لنا القدر- إلا بضراعةٍ إلى الله، وبإخلاصٍ لله وتوبةٍ وأوبةٍ ورجوعٍ إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فإن الله عز وجل يريد منا قلوباً مؤمنةً {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]، وكما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، وأعمالكم} فيريد الله منا قلوباً مؤمنة خاشعة مخبتة منيبة، وإن كانت العبادة قليلة، لكن هذه الأمور في ذاتها أعظم عبادة.
وأساس كل عبادة أن يكون هذا القلب متصلاً بالله، وأن يرى آثار الأمم السابقة فيعتبر بها، وأن يرى آثار نعم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيحمد الله ويشكره عليها، ويدعو الله أن يديمها عليه.
وقد ضرب سبحانه تعالى لنا الأمثلة الكثيرة، وعامة القرآن في قصصه إنما هو من أجل ذلك، كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * وكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:42 - 46] فنعوذ بالله من عمى القلوب، ومن قسوتها.
ففي مثل هذه المواضع ذكر الله سبحانه تعالى قسوة القلب كما في سورة الأنعام، وعمى القلب كما في سورة الحج، فالقلوب إذا قست، وإذا عميت، لم تعتبر بما ترى، وأما المؤمنون فإنهم يعتبرون ويتعظون، فإذا اعتبروا واتعظوا؛ كان التضرع، والدعاء، والاعتبار، والاتعاظ خيراً لهم، حتى إن تلك المصيبة مهما عظمت تكون خيراً، ويفرح المؤمنون بما نزل في قلوبهم من إيمان، ويعلمون أن تلك المصيبة كانت خيراً، إذ ردتهم إلى الله وأرجعتهم إلى الإيمان به، وذكرتهم بأيامه، فتنقلب المصيبة والضراء والبأساء إلى نعماء وخير وبركة؛ لأنهم تابوا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وتضرعوا إليه.
والدعاء والتضرع سبب عظيم من أسباب الخير، في كل أمر وفي كل وقت، كما يجب علينا أن نعلم أننا لا نستغني عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان من دعائه: {يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين} ولهذا قال المفسرون والعلماء: 'إن خير الدعاء وخير الضراعة والتضرع، هو ما ذكره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7].
وقالوا: إن الصحيح في تفسيرها أنه ليس مجرد مزيد الهداية، أو الاستمرار في الهداية، بل الحكمة من تكرارها في كل ركعة، أن الإنسان يحتاج بعد أن هداه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هداية عامة ومجملة، وهي: معرفة الحق والإيمان به، والتمسك بالدين والإيمان بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يحتاج مع ذلك إلى الإيمان التفصيلي، والمعرفة التفصيلية، فهو في كل يوم وفي كل لحظة تعرض له مشاكل وأمور وأحداث يحتاج أن يهديه الله تبارك وتعالى فيها الصراط المستقيم'.
فهو أعظم دعاءٍ، وناسب أن يكن في كل ركعة، وفي أعظم سورة، وأفضل سورة أنزلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ ولذلك نحن في كل يوم، وفي كل وقت، وفي كل طرفة عين، نحتاج أن ندعوا الله وأن نتضرع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ونعلم أنه كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:15 - 17] فنحن الذين نحتاج إلى أن نتضرع إليه، وأن ندعوه؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد تعبَّدَنا بذلك، كما في الحديث -الذي هو حسن بشواهده- يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من لا يسأل الله يغضب عليه} وقد نظم هذا بعض الشعراء فقال:
الله يغضب إن تركت سؤاله وبُني آدم حين يُسأل يغضب
فالله يغضب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إن تركنا سؤاله، ويحب أن نتضرع إليه وندعوه ونرجوه ونطلبه.(33/6)
أدعية مستجابة
قد ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا أمثلة ممن دعوه فاستجاب لهم كما بين الله لنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في قصص أنبيائه.(33/7)
أعظم أنواع الدعاء ما قاله يونس عليه السلام
في قصة يونس عليه السلام لما دعى الله تعالى بدعاء عظيم، وهو في ظلمات البحر وفي بطن الحوت، دعا الله ونادى في الظلمات {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].
وهذا من أعظم أنواع الدعاء، لاشتماله أولاً: على توحيد الله (لا إله إلا أنت) وهو أعظم وسيلة إلى الله تعالى، وأعظم طاعة وأعظم وقربة.
ثم ثنى بالتنزيه (سبحانك) تنزيه الله عما لا يليق به عز وجل، فكل ما يفعل، وكل ما يقدر فله فيه الحكمة البالغة، فهو منزه عما لا يليق بجلاله وكماله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعظيم شأنه.
ثم ثلث ببيان عجزه وضعفه وفقره وظلمه لنفسه، وهكذا كل عبد بالنسبة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ينبغي له أن يكون كذلك {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].(33/8)
دعاء أيوب عليه السلام
وكذلك في دعاء أيوب عليه السلام: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] فما ألطف هذا الدعاء، وما أرقه، وما أخشعه إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مع أن الجمل قليلة!! ولكن القلوب إذا دعت الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن صدق، وإخلاص، وإن قلت العبارات، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يستجيب لأولئك: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} [الأنبياء:84] وهكذا غيرهم.(33/9)
يجيب المضطر ولو كافراً
وقد بين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه يغيث الكفار إذا تضرعوا إليه، ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله كما في كتاب الفوائد: 'التوحيد مفزع أوليائه، ومفزع أعدائه' أي: التوحيد يلجأ إليه أولياؤه، ويفزعون إليه، وكذلك يلجأ إليه أعداء الله، فهو حصن منيع ومعتصم النجاة.(33/10)
رحمة الله بالكفار
كما أن الذين يوحدون الله ويدعونه، يتوسلون إليه بالتوحيد لينجيهم، فكذلك المشركون إذا ركبوا في الفلك، وجاءهم الموج من كل مكان، وأحاطت بهم الشدائد دعوا الله مخلصين له الدين، ولهذا يقول عز وجل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] هل أحد غيره؟ هل إله غير الله يفعل ذلك؟ لا والله.(33/11)
التوبة إلى الله من الذنوب
وإنه لجدير بكل مؤمن مع هذه الأحداث والفتن والمحن والبلايا، أن يراجع نفسه مع كتاب الله، وأن ينظر فيما ابتلى الله تبارك وتعالى به الأمم من قبل، والشعوب من حولنا، وأن نعلم جميعاً أنه لا ملجأ من الله إلا إليه، ولا مفزع من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلا إليه، فلنكن صادقين في قولنا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، ولنكن صادقين في توكلنا على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولنكن صادقين في اعتصامنا بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولنكن صادقين في دعوى أننا نسير على عقيدة السلف، وعلى منهج السلف الصالح، وأننا متمسكون بعقيدة الحق وشريعة الحق، ولنصدق الله؛ يصدقنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولنتب إلى الله ولنجعل ما جاء أو استشرف أو استجد من الفتن سبباً لأن نكف عما حرم الله، وأن نتوب عما أجرمنا، وعما أسلفنا دولاً وأفراداً وجماعات، فهذا واجبنا جميعاً أن نعلم أن هذه المصائب والفتن والمحن، نذير من الله تعالى، فإن تبنا واستغفرنا وأصلحنا، دفعه الله تبارك وتعالى عنا بما يشاء.
وإن اعتمدنا على الأسباب المادية، وركنا إلى خلق من خلق الله مثلنا، بل ربما كانوا أقل منا، فلربما سلط علينا من غير أهل ملتنا، وهم غير أهل لأن ينصرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولكنه يبتلي البعض بالبعض ويولي بعض الظالمين بعضاً بذنوبهم جميعاً، فيقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129].
فنقول: إذا اعتمدنا على هؤلاء الكفار، واعتمدنا على نصرتهم ومعونتهم، ولم نوثق الصلة بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونتوكل عليه وحده، ونعتمد عليه وحده، فإن العاقبة ستكون وخيمة، ونكون كمن أراد أن يفر من عقوبة الذنب، فوقع في ذنب أكبر وأعظم -نسأل الله العفو والعافية- فالأمة قد تحتاج، وقد تضطر إلى أي سبب من الأسباب، والأخذ بالأسباب واجب، وهو من الدين، وهو من التوكل ولا ينافيه، لكن فرق بين أن نأخذ بالأسباب، ونحن على إيمان ويقين وإخلاص لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعلى توبة صادقة مع الله، وبين أن نركن إلى الأسباب، ونغفل عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ونعلق آمالنا بهذه الأسباب، نسأل الله العفو والعافية.
وإن هذه الأحداث ليس فيها جديد بالنسبة إلى سنن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فكلها تجري وفق سنن دائمة، كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولكننا نغفل، ولا ننظر إلى مرادها، ولا نتأمل كتاب الله، ثم ننظر إلى واقعنا، فلا ندري أيكون الابتلاء بهذا أو بذاك، لمن نراه صديقاً أو نحسبه عدواً، فيجب أن نتوقع الابتلاء والعذاب والمصيبة، ما دمنا في هذه الذنوب والمعاصي، التي لا أرى حاجة لأن أعددها وأذكرها فهي ملء السمع والبصر ولا تخفى على أحد منا، فذنوبنا هي السبب، فما وقع بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، كما أن أسباب النجاة بين أيدينا، وأن رحمة الله تبارك وتعالى بالمؤمنين -ولله الحمد- غير غائبة عنا، ولكن علينا أن نأخذ بهذه الأسباب، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(33/12)
الأسئلة(33/13)
معنى التضرع إلى الله وأسبابه
السؤال
ما هي أسباب التضرع إلى الله؟
الجواب
ذكرنا أن الإنسان في كل وقت محتاج إلى أن يدعو الله، وأن يتضرع إليه، ولعلنا لو رجعنا إلى المعنى اللغوي للتضرع لأفادنا في معرفة المعنى الشرعي، فالتضرع: كلمة اشتقت من الضَرع، والضَرع معروف لذوات الخف من الحيوان، كالإبل والبقر التي يكون فيها ضَرع.
والتضرع أن يأتي صغير هذه الحيوان فيرتضع ويلتقم هذا الثدي، فتراه عند ارتضاعه يلح ويرتفع ويحاول بكل قوته أن يجذب هذا اللبن الذي لا يمكن أن يعيش إلا به، نعمة من الله وفضلاً، ففي هذه الصورة البيانية مثل هذا الضرع، من جهة أن أصل خروج المولود هو من هذه الأم، كما أن أصل نموه -بإذن الله تعالى- ناشئ عن هذه الأم، ثم هو لهذا لا يمكن أن يستغني عنها، فلو قطع عنه اللبن لما أمكن أن يعيش أبداً بهذا الشكل.
وكذلك أيضاً أصل الإنسان وجوده، هو من رحمة الله وفضله، ثم هو لذلك يحتاج أن يرفع يديه وأن يتضرع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويلح في الدعاء، ويجتهد بحرص على ما يقيم حياته ويدفع عنه الشر والسوء، كما يجتهد ويلح ويحرص ذلك الحيوان عندما يرتضع من الثدي أو الضرع، ففي كل وقت وفي كل لحظة، نحن لا نستغني عن الله، ولهذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو بقوله: {ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين}.
فانظر إلى هؤلاء الكفار الذين وكلهم الله إلى أنفسهم -قديماً وحديثاً- واستدرجهم بالنعم فظنوا أنهم أقوى ما يكونون، فعندها يخذلهم الله عز وجل، فيفقدون قواهم ويكونون أحوج ما يكونون إليه، فيسقطون وإذا بهم لا شيء، وتذهب كل قوة إلا من عصمه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحفظه بقوته، فأسباب التضرع كامنة في كل حركة من حركاتك، فأنت في كل يوم تحتاج إلى أن يرفع الله عنك البلاء، وأن يرزقك وأن يعطيك الصحة والعافية، وأن يوفقك لطاعته، فعليك أن تتمسك بدينه وألا تستغني عنه لحظة، ولذا فأسباب التضرع والدعاء قائمة.(33/14)
الصدقة من أسباب رفع البلايا
السؤال
نلاحظ في هذه الأيام قلة التصدق على الفقراء، ولم تعد هناك أموال تذهب إلى المسلمين في إفريقيا وأفغانستان وغيرها، فهلاَّ ذكَّرتم الناس بالتصدق؟
الجواب
إن من أعظم ما يدفع الله تعالى به العذاب الصدقة، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اتقوا النار ولو بشق تمرة} وهي من أفضل الأعمال، فإنها تطفئ الخطايا، ويدفع الله تعالى بها البلايا، ولا شك أننا في بلد أنعم الله علينا فيه بنعم عظيمة، ولو تذكرنا حال الأمم والشعوب الأخرى لعجبنا، فنحن هنا لا نتضرع، وقليل من الناس من يتضرع إلى الله كل يوم أن يطعمه الله أو يسقيه، فنحن لا نسأل الله ذلك؛ لأن الطعام والشراب والأكل متوفر عندنا، وقد يوهمنا الشيطان أننا لا نحتاج إلى الله -تعالى الله عن ذلك- فلوفرته فهو مثل الهواء مع أنه حتى الهواء نحتاج أن ندعو الله أن يحفظه لنا، وفي كل شيء نحتاج أن ندعو الله.
ولنضرب لكم مثلاً مما نعيشه، فنحن لا يهمنا مسألة الطعام والشراب، وإنما أكثر الناس همومهم في العمارات وفي غيرها، وفي أرزاقهم ووظائفهم وفي زيادة مالٍ في كذا وكذا، وأكثر من نصف الشعوب في العالم -كما في تقارير الأمم المتحدة- تعاني من سوء التغذية، فهي تحتاج أن تأكل أكلاً سليماً، وتحتاج أن تشرب ولكنها لا تجد!! فانظروا كيف هذا الحال الذي نعيش فيه، وكيف تعيش تلك الشعوب والأمم، الواحد منا لو سافر إلى تلك البلاد ومعه الأموال -والحمد لله- قد لا يجد أكلاً نظيفاً يأكله، وقد لا يجد ما يريد من الفاكهة وإن وجد فقد يجد نوعاً رديئاً في حالة يرثى لها، بينما هنا الفاكهة تداس وترمى، وتورد بملايين الأطنان، فنحن نعيش في بحبوحة ورخاء وسراء، ثم نغفل عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وانتقامه وسريع غضبه، ولا نفطن لأحوال إخواننا المسلمين الذين يحتاجون إلى ذلك.
فأقول: يجب مضاعفة النقود في التصدق لمنفعتها، بل لمنافعها العظمى التي منها أن يدفع الله تبارك وتعالى عنا العذاب ويرفعه.(33/15)
اختلاف العقائد سبب في اختلاف الحكومات والشعوب
السؤال
ما سبب اختلاف الدول العربية فيما يتعلق بقضية العراق؟ وهل ينطلق هذا الاختلاف من منطلق سياسي, أم من منطلق عقدي؟
الجواب
الدول التي لم تصوت مع الإجماع الذي وقع في جامعة الدول العربية, أو الدول التي رفضت القرارات هي الدول البعثية, أو الدول التي للبعث فيها وجود قوي, أو تتأثر بآراء البعث من قريب أو بعيد.
إذاً القضية قضية عقيدة, ونحن في هذه الأيام وبناء على هذه الوقائع بدأنا نتكلم عن هذا الحزب ونتعرف على الحكم الشرعي له، إننا إنما نتكلم عن جناح من أجنحته, أو عن زعيم من زعمائه, فيما الزعماء الآخرون وهم بعثيون مثله فإننا لا نتكلم عنهم.
مشكلتنا أننا كما عبر ذلك اليهودي الخبيث بقوله: إن العرب لا يقرءون, وأخشى أننا نقول: لا؛ نحن نقرأ, ولكن ماذا نقرأ؟ كثير من الناس يقرءون ولكن لا يقرءون ما يهم الأمة وما يجب أن يعلموا, ووسائل إعلامنا تزيد الطين بلة, فهي لا تعرض علينا شيئاً مما يمكن أن نعرف به هذه الأحزاب الفاجرة.
إلى ما قبل هذه الأحداث كان بعض الإخوة يذهلون إذا ذهبوا للعراق , ويقول بعض الإخوان الذين يذهبون إلى العراق في رحلة علمية: ما كنت أصدق ما يقال عن العراق حتى رأيت واقع الحال!! إذ أنني كنت لا أستطيع أن أصلي, ولا أجد الكتب الإسلامية النافعة, وأجد عوضاً عن ذلك الشعارات الملحدة المعلقة في كل مكان! والتعظيم لهؤلاء الطواغيت في كل مكان! وأجد مظاهر الانحراف والانحلال والتفسخ!! أمور عجيبة؛ لأنه كان يظن أن حال المجتمع العراقي كمجتمعنا؛ لأن العراق غير بعيدة عنا, فيفاجأ الذي يذهب إلى هناك -وهم غالباً من الطبقة المثقفة- بواقع الحال, لماذا؟! لأن الإعلام قد جعل هذه الحقائق غائبة عنا, لم يعرفنا بأعدائنا, إعلام المسلسلات والأغاني والمقابلات والتراث الشعبي والعرضات إلخ, ونشرات أخبار عادية جداً لا تسمن ولا تغني من جوع.
هذا ليس هو الإعلام الذي يجب أن يكون في أمة تعاني من أعداء يحيطون بها من كل جهة.
أمة تحارب من أجل عقيدتها, ويتكالب عليها الشرق والغرب من كل مكان, يجب عليها أن تعرف عقيدتها أولاً, ثم تعرف هذه العقائد الباطلة وتعرف أصحابها.
ثم فوجئ -كما ذكر بعض الإخوة- بأنه يوجد فروع أو أعضاء من حزب البعث في السعودية , نعم؛ أعندنا عهد من الله ألا يكون فينا شيوعي؟! أعندنا عهد من الله ألا يكون فينا بعثي؟! من أين لنا ذلك ونحن في خواء عقدي كما ترون؟! بعضكم قد سمع ولا شك -ممن يتابع الدروس عندنا- كيف أن بعض الأساتذة في بعض الجامعات يقولون كلاماً في منتهى الإلحاد, وهم يدرسون عندنا, ومن أبناء جلدتنا, ويتكلمون بلغتنا, منهم البعثي, ومنهم الشيوعي, ومنهم العلماني الذي ينهج الطريقة الأمريكية, ومنهم الديمقراطي ومنهم ومنهم فكيف يكون حال أبنائنا حينما يصل الواحد منهم إلى الثانوية وهو خواء, ليس لديه من الإيمان شيء, فكيف لا يكون هذا الانفتاح على العالم كما يسمونه ويطالبون به, وإن آخر ما طالب به هؤلاء قناة ثقافية تختص بنقل الموروثات الثقافية الغربية؛ وذلك لتكون وسلة مباشرة لإيصال الثقافية العالمية إلينا, سبحان الله! حتى هذا الذي يبحث عن الانفتاح الثقافي, فنسأله قائلين: ما الذي سوف يأتينا من ثقافة الغرب أو الشرق؟! كيف تتحصن كل دولة من دول العالم بالمحافظة على لغتها وعلى تقاليدها وعلى عاداتها, حتى على مستوى دول صغيرة مثل: هولندا , والدنمارك وغيرها, هذه الدول لها لغات محلية لا يتكلم بها إلا أهلها, وهم يجاورون فرنسا من جهة, ويجاورون إنجلترا من جهة, وهاتان الدولتان من أعظم دول العالم, وأوسع اللغات انتشاراً في العالم الإنجليزية والفرنسية, وهي أوروبية ونصرانية وتتفق مع أولئك في سياستها وفي أمورها كلها, وسوف تتوحد معهم أيضاً وتكون دولة واحدة ومع ذلك يحرصون ألا تتسلل إليهم الأفلام الإنجليزية أو الفرنسية, أو أن تؤثر فيهم الثقافة الفرنسية والإنجليزية ليحتفظوا بلغتهم وآدابهم وتاريخهم وهم عدد محدود جداً, فيا سبحان الله! هذا حالهم وهم على دين واحد! أما نحن فالأبواب مشرعة لكل لغة, ولكل ثقافة, ولكل من هب ودب, وقل أن تجد في صحفنا اليومية صفحة من صفحات الأدب أو الفكر إلا وهي تترجم لشعراء أو لأدباء أو مفكرين على شتى المبادئ, ومن مختلف البلدان!! ثم بعد ذلك نستغرب أن يوجد بيننا بعثيون, بل إنهم موجودون, والحزب قديم, وأنا أحيلكم إلى كتب الشيخ أحمد محمد باشميل نسأل الله سبحانه وتعالى أن يختم له بالخاتمة الطيبة, كان يطالع ويجول وحده في الميدان, ولم يكن معه إلا الله سبحانه وتعالى, وله كتب جلها تتكلم عن البعثيين المجرمين, ويذكر عن بعضهم أنهم كانوا يبثون فكرهم هنا, وكانت لهم بعض الصحف تصدر في المملكة , فنقول: نعم لهم وجود, وكان لهم بعض المدارس المشهورة في الرياض , وأذكر عندما كنا في الرياض وأنا في الإبتدائية كنا نعلم أن إحدى الثانويات في الرياض بعثية التوجه والعقيدة, وكانوا يحاولون أن يخرجوا منها مظاهرات, بل قد أخرجت مظاهرات في فترة ما في شركة أرامكو في الظهران , وأنا أذكر تلك الأيام أيضاً في المنطقة الشرقية.
ثم فيما بعد قرأت عنها بشكل أوسع, فكانت هذه الأحزاب موجودة في هذه البلاد, ومن أهم هذه الأحزاب: البعثية والناصرية , وكلهم يدعون القومية العربية وما الحداثة عنكم ببعيد, كل فكر يمكن أن ينشأ إذا غابت العقيدة الصحيحة, والإيمان الصحيح, والتمسك الصادق بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلا نستغرب وجودها والله المستعان!!(33/16)
دور الشباب المسلم في الأزمات
السؤال
ما هو دور الشباب المسلم في هذه الأحداث، وماذا يفعل؟
الجواب
أولاً: يجب أن نعلم ما هو أصل الداء، إن كل داء يصيبنا فهو بسبب ذنوبنا وتقصيرنا في حق الله، فيجب أن نعلم ذلك وأن نرشد الأمة إليه، وأن نعرف حقيقة أعدائنا على الواقع ولا نكتفي بإخبارنا عنهم من مجرد كلام عام في وسائل الإعلام وغيرها، بل نعرف معرفة تفصيلية بحسب الإمكان ماذا يريدون؟ ولماذا جاءوا؟ فحقيقة الأمر أننا لوكنا ندرس ونقرأ ما ينشر، لكنا قد أخذنا الحيطة والحذر، ولكنا نعلم أن ما وقع سيقع، أو قريباً منه، ولعلنا في درس قادم نأتي ببعض البراهين أو البينات على ذلك -إن شاء الله- فيجب أن يكون عندنا قراءة واطلاع واسع على الواقع بحقيقته، وواقع هذه الأحزاب الكافرة، وواقع الدول المجرمة -أيضاً- في الشرق والغرب، وماذا تريد لنا؟ وماذا يفعل الكفار؛ وماذا يخططون لتحقيقه في بلادنا؟ لنكون على بصيرة من ذلك وأن نبين الحق للناس، ولا تأخذنا في الله لومة لائم، بل نقول ونوضح ذلك للكل.
ومشكلة المسلمين اليوم أن الخطيب يوم الجمعة إذا خطب، أو الواعظ إذا وعظ، أوالمحاضر إذا حاضر، أو المذكِّر إذا ذكر، وتكلم عن الذنوب والمعاصي، أن كل إنسان يظن أن غيره هو المعني بهذا الخطاب، وهذه مشكلة!! فإذا قيل: المجرمون الظالمون المفسدون المقصرون في طاعة الله، فأكثر الناس يتصور أن المقصود غيره، والحقيقة أن المفروض أن كل إنسان منا عندما يقرأ كتاب الله أو يسمع الواعظ أو المذكَّر، أن يقول: إني أنا المخاطب بهذا، وأول ما يتأمل ويتفحص ذنوبه وعيوبه، وأن يعرض نفسه وأعماله على كتاب الله وعلى سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو بدأ كل إنسان بذلك ثم ثنىّ بمن يستطيع من إخوانه وأقربائه، لوجدنا الخير ينتشر بإذن الله، أما أن نجعل المسئولية كما يجعله بعض الناس، على أناس معينين، فناس يقولون: على الحكام، وناس يقولون: على العلماء، وناس يقولون: على هؤلاء المجرمين، ففعلاً إن المجرمين في هذه البلاد كثير، ولكن لماذا لا تنظر لنفسك؟! فلربما كنت أنت -أيضاً- فيك تقصير، ولربما يكون بالنسبة إلى ما تعلمه أنت عن الله، وما تعرفه من دين الله وما ترتكبه من ذنوب هو مثل ما يرتكبونه هم، لأنهم بعيدون عن الله، ولا يعلمون عن الله، ولا يعلمون من أمر الله مثل ما تعلم، فلماذا لا يكون ذلك؟ أقول: فهذا مما يجب أن نحاسب أنفسنا عليه، وأن نقول كلمة الحق، وأن نبين ذلك للناس، أعني أن على كل واحد منا أن يجعل الأمر متعلق بنفسه، فإذا أصلحنا أنفسنا؛ فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سيدفع عنا هذا البلاء بإذنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فالواجب كبير وهذه الأحداث هي التي تربي الشباب المسلم الحق، وهي التي تظهر الرجال، لأنه لا يقف لمثل هذه المواقف، ويقول كلمة الحق، ويعرف كيف يقولها، وأين يقولها، إلا الرجل الحق -فالحمد لله- أن الشباب المسلم كثير، وأرجو أن يكونوا -إن شاء الله- جميعاً رجالاً صادقين مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن يعرفوا الحق، ويعرفوا كيف يبلغونه للناس، ويقولونه ولا يخشون في الله لومة لائم.(33/17)
التوجه الديني عند النصارى في الأزمات
السؤال
يقول الأخ: الرجاء التعليق على ما يلي: جاء في التلفزيون الأمريكي في الأسبوع الأول من الأزمة أن بوش ذهب إلى الكنيسة للدعاء في هذه الأزمة، وورد توجيه من كبار رهبان وقسيسي الكنيسة إلى عامة الناس أن يتجهوا ويدعوا في الكنيسة، وهذا الأخ يقول: إنه شاهد بعينه ذلك، ويقول: وكذلك رأيت هنا في الأخبار أن تتشر كانت في الكنيسة ثم عمل لها لقاء صحفي وقالت بشدة: إن صدام ديكتاتور يجب أن نتخلص منه؟
الجواب
لا غرابة في ذلك، فكما ذكرنا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يستغني أحد عنه، وكل من يريد أن يحقق أملاً أو مأرباً فإنه من الطبيعي أن يلجأ ويتضرع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حتى أيام الحرب العالمية الثانية، كان يُضطر الانجليز وحلفاؤهم من الأمريكان عندما خافوا من هتلر خوفاً شديداً إلى أن يقيموا القداسات -كما يسمونها- على ظهر البوارج -السفن- مع أنهم أصلاً لا يتعبدون ولا يدعون إلا في الكنائس.
وأما نحن فبفضل الله تعالى علينا خصَّ به نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله صلى الله عليه وسلم: {وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً} أما هم فلا يصلون إلا في كنائسهم، ومع ذلك قالوا: نصلي على ظهور البوارج والبواخر ونتضرع وندعوا الله، حتى يكشف عنا عذاب هتلر، ففي هذه الأزمة -أيضاًَ- وقع منهم ذلك ولا يستغرب، بل الغريب الذي يجب منا أن نستغربه حقاً أننا نحن لم نتب ولم نتضرع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فهم غاية ما عندهم من الدين كما يزعمون أن المسيح عليه السلام قال: 'دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله' فهم يرون أن ما لله هذا هو الدعاء أو العبادة أو الذهاب إلى الكنيسة يوم الأحد، والباقي لقيصر، فيظنون أن هذا هو الدين.
أما نحن فنعلم أننا عبيد لله في كل وقت، وفي كل مكان، ولن ننتصر إلا بعبوديتنا لله، ولن نوفق إلا بعبوديتنا لله، ولن نستديم النعم إلا بالعبودية لله، والمساجد مفتوحة في آناء الليل والنهار، ومع ذلك انظروا كم من الناس -حتى لا ننفي نفياً عاماً- من لجأوا إلى المساجد وبدأوا يصلون صلاة الجماعة بعد هذه الأحداث، بعد ألم يكونوا يصلوا من قبل؟! كم من متبرجة كانت تتبرج في الأسواق، فلما جاءت الفتنة تركت التبرج وتابت وبدأت تصلي وتتحجب؟! كم من آكل للربا كان يأكله فلما جاءت هذه الفتنة تاب وأقلع عن أكله؟! كم ما أظن أن ذلك كثير والله أعلم، بل إن وجد فهو قليل، ولو كان كثيراً لدفع الله عنا العذاب، لكن هذه الأمة -إن شاء الله- آخذة في طريق النجاة.
أما الواقع فهو كما ترون: الغفلة هي الغفلة، والتقصير هو التقصير، والمعاصي هي المعاصي، فهذا الغريب فينا نحن، أما هم فلا يذهبون إلى الكنيسة ولا يدعون الله إلا في مثل هذه الحالة، والله تعالى ذكر أن الكفار يدعونه في حال الشدة.(33/18)
من لوازم التضرع الابتعاد عن المعاصي
السؤال
هل ينفعنا التضرع الآن ولا تزال المنكرات بيننا لم تتغير؟
الجواب
هذا من ذاك، نريد أن نغير المنكر لا أن ندعوا الله ونُصِر على المنكر، لكن التضرع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يستلزم الإقلاع عما نحن فيه من المنكر، ولا شك أن من يدعو الله صادقاً بقلب خالص، ويبتعد ويتجنب معاصي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يقرب منها أن الله يستجيب له؛ لأن التضرع إلى الله لا يقصد به مجرد الدعاء فقط، بل يقصد به -أيضاً- الإقلاع عن الذنوب وترك المعاصي.
يجب أن نصلي الصلوات الخمس جماعة حيث ينادى بهن، وأن نتلافى التقصير، ونقبل على قراءة كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن ننكر المنكرات، بل يجب أن نحيي شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيننا، في مجتمعاتنا وفي أسواقنا وفي مجالسنا وفي كل مكان.(33/19)
من التضرع القنوت في الصلاة
السؤال
هل يكون التضرع أيضاً في القنوت في الصلوات كما قنت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
الجواب
نعم، القنوت من التضرع، ولا بأس به -إن شاء الله- فإذا لم يُفعل جماعةً فنستطيع أن نفعله فرادى، والدعاء فرادى وفي جوف الليل والإنسان خال بربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من أرجى أنواع الدعاء، وكل منا يدرك ذلك -ولله الحمد- فافعلوه، وهل يضيرنا في شيء؟! بل هو والله خير لنا في الدنيا والآخرة، فهذا الدعاء خير لنا في معادنا وفي مآلنا بل نحتاجه، ونؤجر عليه، ونثاب عليه، كما في حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بأن نُعطى ما دعونا أو نعطى من الخير مثله أو يُصرف عنا من الشر مثله، فالدعاء كله خير، وكله بركة، فإذا دعونا الله فلنستحي بطبيعة الحال أن نعصيه، بل يجب أن يجدنا حيث أمرنا، وأن لا يجدنا حيث نهانا، والله المستعان.(33/20)
كيفية إنكار المنكر
السؤال
يواجه كثير من الدعاة حرج شديد عند رؤية المنكر التي تكون المرأة طرفاً فيه، كأن يرى امرأة متبرجة وهناك من يسير خلفها من أهل السوء إلى آخر المشاهد السيئة، فكيف يكون إنكار هذه المنكرات بالطريقة الصحيحة؟
الجواب
مع أننا نقول بضرورة المبادرة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه من أعظم أسباب الوقاية من العذاب، فإن ذلك لا يعني أن نتسرع في أي منكر فننكر بأي إنكار وبأي وسيلة، لكن كل شيء لابد أن نأخذ له أسبابه وطريقه الصحيح، ونعالجه بالحكمة، فالحكمة: هي وضع الشيء في موضعه، ومن ذلك أن نفكر في أسباب صادقة وجادة وبعيدة المدى في إنكار هذه المنكرات، فليس بالضرورة أن تستثار أعصاب الشاب أو حمية الغيرة لهذه المرأة بالذات، لكن يمكن أن نفكر كيف نقضي على هذا المنكر من مصابَّه ومنابعه.
فأمامنا منكر عظيم جداً يجب أن نتنبه له، ألا وهو: التبرج والتعري الذي في أسواقنا مع قلة عدد الكفار الموجودين بالنسبة إلى مجموع السكان الآن، وسيكثر لمجيء هؤلاء مما قد يسهل لهم المجيء إلى بلادنا أكثر، فأقول: ستنفتح أبوابٌ للمنكرات أكثر، فلتكن نظرتنا أبعد من مجرد أن ننكر على هذه المرأة في السوق، وإنما نفكر كيف يمكن أن نغير هذا المنكر من أساسه، ولا سيما الإخوة الدعاة الذين لديهم الفكر وبُعد النظر، ولا يقصد بذلك أننا لا ننكر على أي امرأة بمفردها، فلنجتهد في ذلك، وعلى أية حال لا بد أن أتوقع الأذى {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17].
ولا بد من الصبر؛ لأن الصبر مقرون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا بد أن نؤذى، فليس من الشرط أننا لا نخطئ فقد نخطئ وقد نؤذى ونحن لم نخطئ، فلابد من أن نؤذى في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولنتحملْ ذلك، وإذا قمنا به ونحن كثير -والحمد لله- فإن هذا سيدفع الشر -إن شاء الله- وسيقلل من المنكر، ولو لم يكن فيه إلا الإعذار إلى الله لكان ذلك أمراً عظيماً وخيراً كثيراً.(33/21)
آثار أحداث الخليج على الصحوة
السؤال
ما أثر هذه الأحداث في الخليج على مسيرة الصحوة الإسلامية؟ وهل هناك من إيجابيات نأخذها من هذه الأحداث؟
الجواب
أعداء الإسلام لا شك أنهم يريدون أن يقضوا على هذه الصحوة، وأن يذلوها ويستفردوا بها عن الأمة، ولذلك فلنتوقع ضعفاً ولو مؤقتاً، لمسيرة الشباب للإرباك الحاصل بين الشباب، والخلاف والحيرة الدائرة بينهم في التعامل مع هذه الأحداث، فكل ذلك مما يعيق مسيرة الصحوة، وقد يكون الأمر أكبر من ذلك أيضاً وقد يؤذى بعض الدعاة عموماً على مستوى الأمة، نسأل الله لنا ولهم العفو العافية.
وأما الإيجابيات، فأنا أرى أنها أكبر وأعظم من السلبيات، بشرط أن يعرف الدعاة موقعهم في الأمة، وأن يتقوا الله ويقوموا بالواجب الذي أمرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به، وأن لا يتخلوا عن واجبهم ومسئوليتهم، وعن ما يجب عليهم ويكلوه إلى غيرهم، فإذا أحسنا التعامل مع الأحداث والاستفادة منها فأنا آمل خيراً كثيراً فيها، لأنه ما من حدث وقع في الأمة الإسلامية من قديم، إلا وكان فيه خيراً لها والحمد لله.
وإليكم على ذلك مثالاً: لمَّا جاء التتار كان فيه خيراً، فـ شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، ومن كان معه من أهل الخير والعلماء وأهل السنة جميعاً، لم تظهر قيمتهم وفضلهم والتفاف الناس حولهم، إلا لما جاءت فتنة التتار، وجاهدوا في الله حق جهاده، فقد كان لهم خير وفضل، ولكن أقول: إن ذلك مما أظهرهم الله تعالى به.
ومثال آخر: نور الدين وصلاح الدين -رحمهم الله- وأمثالهم، ما ظهروا في هذه الأمة إلا لما اشتدت الأزمات، فظهر أولئك الرجال الذين توكلوا على الله، وجاهدوا في سبيل الله ونصرهم الله، ونحن نتوقع أنه كلما اشتد الظلام فالفجر قريب، والآن نحن على الأقل في بداية الظلام الحالك، ولا يعلم مصيره إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لكن نقول: إنه بإذنه تعالى سوف ينبثق من هذه الأمة شباب يؤمن بالله، ويجاهد في سبيل الله، ويعيد الحق إلى نصابه، ويكون لهم النصر على الكفار، مهما تألبوا وتكالبوا بإذنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا لا شك لدينا، وهو مصداق ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما وعد الله تعالى به الطائفة المنصورة.(33/22)
الاهتمام بأحداث الخليج لا يمنع من الاهتمام بكل الأحداث
السؤال
نلاحظ أن هم الناس ينصب على قضية العراق والكويت، ونسوا قضية أفغانستان وفلسطين بعد ما كانت همهم الأكبر؟
الجواب
نحن المؤمنين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، فلا ينبغي أن تشغلنا قضية عن قضية، وإن كان بعضها أهم من بعض بلاريب، ولكن لضعفنا وتفرقنا وقلتنا، والقلة لا نعني بها الغثاء، فالغثاء كثير، لكن قلة من لديه البصيرة، كان هذا سبباً من أسباب أن الأمة تشتغل فتُلهى بقضية عن قضية، ولذلك أصبحت كالكرة يتراماها الأعداء، وكل ما انصرفوا إلى قضية شغلوهم بقضية أخرى، فلا شك أن ما نراه في الكويت أمر كبير وخاصة لأنه قريب منا، وأن تعطُّلَ الدعوة في الكويت، وتعطل منابع للخير فيها يؤثر على الدعوة في عامة العالم الإسلامي، ولا شك في ذلك، وهي جديرة أن يهتم بها، لكن لا يعني ذلك أن ننسى القضايا الأخرى.
وانظروا إلى أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هؤلاء الذين لا تلهيهم قضية عن قضية؛ لأن لديهم التخصصات والاستشارات والدراسات الوافية عن كل مشكلة، وكل موضوع، وانظروا إلى الحرب النفسية التي يجعلوننا نعيش فيها، فرئيس الدولة في إجازة ونائبه في إجازة ووزير الدفاع في إجازة.
شيء عجيب جداً!! لماذا مع هذه الأحداث؟ وخاصة أن عندهم في الداخل مشاكل وعندهم في أماكن كثيرة أمور لم تحسم ولم تحل ومع ذلك فإنهم بهذا الحال، لأنهم حقيقة أخذوا بسنة الله في التخطيط والدراسة والشورى، ولذلك لا تأتيهم الأمور صدفة، ولا تأتيهم قضية تشغلهم عن القضايا الأخرى.
الجوانب الاقتصادية لها حسابها، والجوانب العسكرية لها حسابها، والجوانب السياسية لها حسابها، والمواطنون في إرتيريا لا ينسون ولا يغفل عنهم من أجل المواطنين في العراق، ووحدة ألمانيا والوحدة الأوروبية، ومشاكل كثيرة تُدرس وكلها على مستوى واحد وتنال حظاً من الاهتمام، وإن كانت لا ينالهم من الإعلام لأنه يستأثر بآخر القضايا.
لكننا مع الأسف إذا جاءتنا قضية شغلتنا عن الأخرى.
وخير مثال -والأمثلة توضح ذلك- ما ذكره مالك بن نبي رحمه الله عندما ذكر أن حال هذه الأمة، مثل مصارعة الثيران، فالأمة فيها قوة ومقاومة، فالغرب جعلها كالثور الذي يصارع تلك القطعة الحمراء من القماش، فيتلاعب به كما يشاء، وينهك جهده ويذهب قوته دون أن يثمر شيئاً، فيطعنه في الأخير ويخر صريعاً ويموت، وهكذا يفعلون، يرون أننا نستنكر وأن مشاعرنا تثور وعواطفنا تستنفذ فيجعلون أمامنا قضية تستهلك كل قوانا.
وإذا جاء أحد يذكرنا بغيرها لا يُنظر إليه مطلقاً مع أنه لا ينسينا إياها.
تذكرون أيام الجهاد الأفغاني كان بعض الإخوة، وبعض الدعاة يقولون: لا تنظروا فقط إلى أفغانستان فالقضايا كبيرة والأخطار محدقة والمصائب من كل جهة، اهتموا ببناء قاعدة للإسلام في هذا البلد، وهو الأساس وهذا هو المنطلق، وما كان يُسمع إليه، وربما يتهم بأن هذا تثبيط أو تخذيل، فلما وقعت الواقعة هنا وإذا به يقال: كل الذي هناك يأتون إلى هنا، وننسى أولئك، فلا هذا ولا هذا.
يجب أن تكون مواقفنا دائماً متزنة ومحسوبة ومدروسة -والحمد لله- فالمال وفير فنستطيع أن نعطي هنا وهناك، والإعانات والإغاثة كذلك، والطاقات -والحمد لله- لو وجهت ونظمت ورتبت فهي كثيرة، وأقول بهذه المناسبة: جزيرة العرب كانت معروفة بقلة سكانها وقلة مواردها سابقاً، أما الآن فعلى العكس فالموارد بها من أغنى بلاد العالم.
لكن من ناحية العددية والطاقات الذهنية، هي هي في جميع القرون، هي التي أخرجت الصحابة الذين فتحوا فارس والروم، وهي التي قاومت الصليبين، فما هناك نقص في العدد بل هناك زيادة في المال، والعدد هو هو، فلو وجهت الطاقات والجهود في هذه الأمة في داخل الجزيرة، بل لا نقول في جزيرة العرب كلها، بل فقط المملكة، وأصبحت مسخرة لوجه الله في الإعلام والجيش وفي كل القطاعات من الرجال المؤمنين، توبة صادقة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، واستقامة صادقة على أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والكف عن كل ما حرم الله، وتوعية مستديمة وشاملة في العقيدة الصحيحة، وفي الإيمان الصحيح، وعن أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لغَيَّرنا والله العالم كله، وهزمنا العالم كله بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فليست هي قضية عجز؛ لأن فينا من الطاقات -ولله الحمد والفضل والمنة- معدن الخير ولا ينضب في جميع العصور، ولا نعدم الخير في هذه البلاد.
أما الغفلة التي أكثر الناس غارقون فيها، فهي العائق أمام استغلال هذه الطاقات الهائلة لهذه الأمة، ومع ذلك توجهت بعض طاقات من شباب هذه الأمة إلى بعض المجالات، فتفوقت على أهل تلك البلاد في عدة مجالات، في الاكتشاف والبحث العلمي، وكذلك لما توجهت إلى بعض المجالات الجهادية فعلت ما لم تفعله أي بلاد أخرى، ولما توجهت إلى مجالات علمية أنتجت ما لم تنتجه أي بلاد أخرى، فهذه من رحمة الله ونعمته وفضله على هذه البلاد، ولكن نحن نتغافل عن هذه النعمة بالركون إلى الشهوات وملذات الدنيا، مما أورث لدينا الوهن {حب الدنيا وكراهية الموت} كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(33/23)
الفتنة في الفن لا التطرف
السؤال
في جريدة الشرق الأوسط في عدد يوم السبت الماضي ذُكر موضوع وخبر صغير ما معناه أنه قام كثير من الفنانين في مصر بـ القاهرة بعمل فيلم يتكلم عن الأزمة وعن السبب التي قامت من أجله هذه الأزمة وهو التطرف؟
الجواب
سبحان الله! بدلاً من التضرع، أو من الكلام على التضرع، كان الكلام عن التطرف!! لكي يزيدوننا خسارة ووبالاً، ولا شك أن الأعداء يستغلون مثل هذه الأشياء، ويقولون: من أسباب المشاكل هو: التطرف، ومن عجيب ما بلغني أنه لما طُلب من بعض المستشارين أو بعض الناس، أن يكتب عن كثرة انتشار جرائم قطع الطريق، جعل من ضمن الأسباب التطرف الديني، فسبحان الله! فهم أعداء هذا الدين، وأعداء للدعوة، ويريدون أن ينتهزوا أي فرصة لإدخال هذا الشيء الذي يرون أن الناس يستنكرونه ويستفظعونه بحيث إنهم يضعون هذا العدو اللدود من ضمنه أو من أحد أسبابه.
وليس بغريب على الفنانين الذين هم سبب المصائب، وسبب كل بلاء، بما أشاعوه في الأمة من الفحشاء واللهو والغفلة عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في التلفزيون وفي الصحافة والمجلات، واستأثروا بحديث المجالس كما قال بعض الشعراء من الوزراء، يقول: ' أصبح الحكام يغبطون الفنانين ولاعبي الكرة على هذه المكانة التي يحصلون عليها عند الناس '، ومع ذلك فهم الذين يرسخون جذور الفتنة والبلاء وأسباب النقم والعذاب في الأمة، ثم بعد ذلك يقولون: إن التطرف هو السبب، وإذا أتوا عند التطرف لا يقولون: تطرف حزب البعث، أو تطرف المفسدين في فسادهم، لا، بل يعنون به وجود هذا الشباب المؤمن الطيب الذي أكثره -كما هو الحال في بداية التمسك- إعفاء اللحية ورفع الثوب قليلاً عن الكعبين'.(33/24)
تركيز النصح والإرشاد على من نزلت بهم المحنة
السؤال
إن الكثير من التذكير والنصح والإرشاد لوحظ أنه مقتصر على طلبة العلم والإخوة في الله وهذا شيء طيب، ولكن من حلت بهم المحنة أحق بأن يركز الدعاة في دعوتهم إلى التوبة والإنابة في كل حرب، ولأن وَقْع التذكرة في هذه الظروف أجدى من أي وقت آخر، ويا حبذا من توجيه هذه الدعوة إلى طلبة العلم الحضور، لكي يتوجهوا إلى الأماكن التي يوجد بها الإخوان الكويتيين ونصحهم؟
الجواب
المحنة هي للجميع، فلا نتكلم نحن عن الكويت فقط؛ لأن المصيبة دائرة بالجميع وأحاطت بالكل، وإنما هؤلاء الذين أحاطت بهم المحنة هم أحق بأن تركز الدعوة عليهم، وبالنسبة لإخواننا الكويتيين في جدة فهذا شيء ضروري جداً، ولا يجوز أن نتخلى عنه من ناحية إغاثتهم بما يحتاجون من لوازم الحياة، ومن ناحية إغاثتهم مما هو أهم وأحوج، وهم أحوج ما يكونون إليه، وهو الإيمان والدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والحمد لله هناك جهود رتبت لهذا الشأن، نسأل الله أن تأخذ دورها في التنفيذ - بإذن الله تعالى- من محاضرات، ومواعظ وغيرها، ولا شك أن هذا واجب علينا، ونؤكد عليه بدورنا.(33/25)
طلب الدعاء
السؤال
الأخ يرى أن ندعو الآن؟
الجواب
ما أرى أننا ندعو الآن، فأنا أقصد بالتضرع إلى الله أنها حالة دائمة، وإن كان لا مانع أن ندعو الآن جميعاً، لكن أقول: يجب أن نجعل هذه الحالة دائمة، فالتضرع نجعله حالة دائمة في كل الأحوال، ونحن بحاجة إلى الله في كل الأحوال، فنحن مذنبون في كل الأحوال ومقصرون، فلا نستغني عن الدعاء الآن وفي كل حين، ونسأل الله الإجابة، والله المستعان.(33/26)
تعليق على صور للنساء في مجلة تايم
السؤال
هذه صور من مجلة تايم، وغيرها من المجلات، كما أشرنا وتشتمل على صور المجندات والنساء اللاتي قدمن مع هذه القوات؟
الجواب
هذه من المصائب، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يرفها ويدفعها عنا، هذا بلاء على بلاء، فوجود وقدوم هؤلاء لا شك أنه بلاء خصوصاً النساء بالذات، لأنه كما تعلمون، وكما هو واقع في وجود القوات الأمريكية دائماً في أي بلد، في بانكوك وفي أيام حرب فيتنام وفي غيرها.
فأنا أقول: يجب أن نعرف هذا لأنه من الأمور البدهية وما ينازعنا فيها أحد إلا من كان مكابراً في البديهيات، أن الإنسان الأمريكي مستحيل أن يستغني عن الخمر والزنا والمخدرات فحياتهم هي هذه، وهذه هي متعتهم، وهذه هي شهوتهم، وهذا هو إيمانهم، فهم لا يؤمنون بالآخرة، ولا يحسبون لها أي حساب، فلا نستغرب أن ينزلوا إلى أي بلد إلا ومعهم الخمر والنساء، وما يسمونه الترفيه، كما قرأتم في الجرائد عن الآلاف من الكريمات والدهانات الحرارية التي وصلتهم حتى يدهنوا أنفسهم بها، فهذه هي حياتهم، وهل تظنون أنهم جاءوا من أجل سواد عيوننا أو تقديراً أو احتراماً لنا أو لديننا أو لتقاليدنا؟ طبعاً ما جاءوا من أجل ذلك، كما أنه أيضاً هل تظنون أنهم من أجلنا يتركون هذه الشهوات وهم لا يرجون عند الله شيئاً والله يقول: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] فأي شيء يرجون غير هذه الدنيا فقط؟! {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} [يونس:7].
لكن نحن علينا واجب كبير، وواجب عظيم، كل واحد منا بما يستطيع، وهو أن ننبه وندعو ونطالب ونذكر بأي أسلوب نراه، وبكل مكان بحسَبِه، أن هذا البلاء إن لم يرفع كله فعلى الأقل أنه يُحد إلى أقصى حد، فهذا واجب، وإن لم نفعل ذلك فلا شك أننا أغضبنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فهذه الصور المعروضة في المجلات مثلاً من شواهداً لحال، والصور في الواقع أكثر من ذلك.
وتكلم بعض الإخوان، وكتبوا لنا بما هو أعظم من ذلك، وهذه المصيبة نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يدفعها، ويرفعها عنا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.(33/27)
موقف الفكر الإسلامي من العلمانية
في هذه المادة تحدث الشيخ عن العلمانية مبيناً أصلها الناشئ من الخرافة والشرك، وأنها نشأت منذ العهد الأول بعد رفع المسيح، وذلك نتيجة التحريف وسيطرة الكهنوت على الدين والناس؛ حتى صار الأحبار والرهبان أرباباً يشرعون للناس من دون الله، ووضّح دور اليهود في نشأة العلمانية وانتشارها، كما وضح نشأة العلمانية الحديثة مع بداية النهضة الصناعية والثورة الفرنسية، وبين حفظه الله أن الإسلام دين عام وشامل لا تناقضه الكشوف العلمية ولا الحقائق الجديدة؛ لأنه دين الحق، كما بين أن نهضة أوروبا العلمية مستقاة من المسلمين، ولذلك فتاريخهم العلمي بدأ منذ الفتح الإسلامي للقسطنطينية.(34/1)
العلمانية خرافة يدمغها الحق
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: قبل أن نبدأ في الموضوع أريد أن أنبه على بعض الأشياء وقد تكون شكلية، ولكن نحن المسلمين يجب ألا نفرق بين الشكل والمضمون، بل لا بد أن نلتزم ما أمكن بهما معاً.
فالعنوان (موقف الفكر الإسلامي من العلمانية) ولنبدأ القضية من العنوان نفسه.
فاختيار العنوان لا يقصد به عقد مقارنة بين فكرين متقابلين، لكن لعل هذا يشعر بذلك.
إن موضوع الفكر الإسلامي ينبغي أن نطرحه دائماً على أنه وحي أنزله الله تبارك وتعالى، وعلى أنه أمر ممن لا يضل ولا يخطئ، أنزله الله الذي يعلم السر في السماوات وفي الأرض، وبلغه الأنبياء المعصومون عن الخطأ في التبليغ عن الله عز وجل.
يقابل هذا الوحي: الهوى والجهل والخرافة والأساطير، وما شئت من مسميات! فلتكن بأي شعار، وبأي اسم، وفي أي زمان، وفي أي مكان، فما لم يكن من الوحي فهو هوى وجهل وخرافة، إلا فهماً يؤتاه المؤمن من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولو نظرنا إلى العلمانية من هذه النظرة، لوجدنا أن القضية قضية توحيدٍ دعا إليه الرسل جميعاً ونزلت به الكتب جميعاً، يقابله شركٌ وجهل وجاهليةٌ وخرافات وردود فعلٍ بشرية، جاءت في فترات معينة في قومٍ معينين، لا يصلح بأي حال أن يكون مبدأً أو منهجاً يسير عليه البشر جميعاً في كل مكان، ولا سيما من كان الوحي النقي بين أيديهم وفي متناولهم، ويقرءونه ويتلونه ليلاً ونهاراً، فمن هذه القضية يبدأ الموضوع.
إن الله عز وجل إنما أرسل الرسل لدعوة الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وذكر الله عز وجل في كتابه أن الأنبياء جميعاً بعثوا ليقولوا: {أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] وفي الآيات الأخرى: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] فمعنى (لا إله إلا الله) عبادة الله واجتناب الطاغوت، وهي التي ذكرها الله تعالى أيضاً عقب آية الكرسي: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256] فهذه كلها تدل على معنى شهادة (لا إله إلا الله) التي جاء بها الأنبياء جميعاً، فأي مجتمع يؤمن بها ويقيمها ويعرف معناها لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون مجتمعاً علمانياً، أو أن يقبل العلمانية، لأن القضيتين متضادتين متناقضتين، لايمكن أبداً أن تتفقا.
إنها ظروف تاريخية وملابسات معينة لا أطيل بشرحها، ,إنما أختصرها في كلمة واحدة، وهي الخرافة، فالخرافة هي سبب العلمانية، سواء في أوروبا أم في بلاد المسلمين! وأعني بالخرافة أن يختلق البشر صورةً يتزينون بها من البدع ومن الضلالات غير ما شرع الله عز وجل، فعندما تنتشر الخرافة في أي مجتمع؛ فإن هذا المجتمع يقبل العلمانية، ويمكن أن يتحول إلى علمانية جزئية أو كلية بحسب تقبله للخرافة أو مقاومته لها.
والعلمانية إذا حددت بالاسم وقيل: العلمانية فإنها تعني: المذهب الفكري المعروف، وهو مذهب نشأ في أوروبا وهي قارةٌ مظلمة، ولم ولن تخرج من الظلمات أبداً وهم يطلقون على فترة من تأريخهم قرون الظلمات، وكأنهم الآن في النور، والواقع أن أوروبا لم تخرج من الظلمات مطلقاً ولن تخرج منها إلا إذا آمنت بالله وحده، واتبعت دينه الذي هو الإسلام الذي لا يقبل الله ديناً غيره، فـ أوروبا تتخبط من جهلٍ إلى جهلٍ، ومن ظلمات إلى ظلمات، وعندما نشأت فيها هذه الفكرة، ما كان ذلك نتيجة تفكير منطقي علمي مجرد، كما يوهم الاسم أو يشعر، ولا يمكن على الإطلاق أن يكون العلم الحقيقي أو التفكير الحقيقي مضاداً لما أنزل الله تبارك وتعالى، وإنما نشأت كردود فعلٍ طويلة ولو حاولت أن أعرضها عليكم، لكان معنى هذا: أن نعرض تاريخاً طويلاً يمتد من سنة (325م) على الأقل إلى الآن، أي منذ أن اعتنقت الامبراطورية الرومانية ما يسمى بالمسيحية وحتى الآن.(34/2)
عوامل نشأة العلمانية في أوروبا
لقد نشأت أوروبا في الخرافة وعاشت فيها، ومن هنا اتجهت إلى خرافة العلمانية.(34/3)
دور العلمانية في الفكر النصراني
أرسل الله عز وجل عيسى عليه السلام بما أرسل به الأنبياء جميعاً، كما قال تعالى: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] ولا يمكن أن يدعو نبي إلى الشرك أبداً، فكيف نشأ الشرك في دين النصارى؟ أول ما حدث في دين النصارى أن عيسى عليه السلام رفعه الله تعالى إليه قبل أن يقيم مجتمعاً إسلامياً، فقد بُعِثَ عليه السلام في فلسطين، وهي جزء من مستعمرات الامبراطورية الرومانية الكبيرة، وكانت الامبراطورية الرومانية لا تريد أن تتدخل في قضية العلاقة بين المسيح وبين المجتمع اليهودي الذي بعث فيه، لأن القضية قضية داخلية، والامبراطورية تحرص على أن توحد الأمة أو الولايات تحت حكمها، وهذا رجل جاء في ولايةٍ جزئية بدعوةٍ داخليةٍ محددة إلى بني إسرائيل.
ومن هنا نشأت قضيتان: القضية الأولى: قضية أنها لم تقم دولة، وهذا ما جعل العلمانية تبدأ جذورها وبذورها في فكر القوم، فعندما لم يقم المسيح عليه السلام دولة منفصلة مستقلةٍ جهادية كما فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كانت هذه بذرة تلقائية للعلمانية بلا شعور؛ أي: يمكن أن يوجد الدين ولا دعوة له ولا جهاد فيه.
والقضية الأخرى: أن تتحول هذه الديانة من قضية دعوة محلية لقومه خاصة، إلى دين الامبراطورية تحكم شعوباً كثيرة، وهي ربما كانت أكبر امبراطورية آنذاك في الأرض، هذه النقلة بعيدة جداًَ؛ لأن قومها الذين بعث فيهم المسيح لم يقيموها في أنفسهم، فكيف تقوم على مستوى أكبر من ذلك؟! فلا بد أن يضيق نطاق التشريع والأحكام عن استيعاب الأحكام في العالم، والله اختص محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن دينه هو الدين الذي يهدي العالمين جميعاً، فالاعتراض ليس على كون الإنجيل لم يأت بأحكام للبشرية جميعاً، ليس هناك اعتراض على هذا إطلاقاً، ولكن أهل الإنجيل محددون بأنهم هم أهل التوراة نفسها -أي اليهود- ومع هذا كله لم يصل الدين -كما هو في الإنجيل الذي أنزله الله- إلى أوروبا، فحصل أيضاًَ خطأ أكبر.(34/4)
التحريف والتلفيق في الديانة النصرانية
وكان سبب تحريف الدين هو بولس، ولذلك نجد المؤرخين الغربيين يعرفون المسيحية فيقولون: إنها تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: المسيحية اليسوعية، أو مسيحية يسوع أي: عيسى عليه السلام، ويقولون: بدأت عام كذا وانتهت عام كذا بالتحديد، وهذه مسيحية مستقلة.
القسم الثاني: المسيحية الرسمية: سميت بالرسمية لأن قسطنطين تبناها وجعلها ديناً رسمياً للدولة، وبولس هذا رجل يهودي على الأرجح، اسمه اليهودي شاول، دخل في النصرانية ليفسدها، وكان هو -كما في رسالة أعمال الرسل المطبوع مع الأناجيل- يعذب المسيحيين -أي: المؤمنين بالمسيح- الموحدين عذاباً شديداً، ثم انقلب فجأةً، وأعلن أنه كان سائراً إلى دمشق لتعذيب المسيحيين، وإذا بالنور يخاطبه من السماء -وهي خرافة- ويقول له: أنا ابن الله أو نحو ذلك، فكيف وإلى متى تضطهد أتباعي؟! قال: فعرفت أنه المسيح، فرجعت وآمنت.
وبدأ يدعو إلى المسيحية، فانقسم الناس تجاهه إلى قسمين: أما المضطهدون ففرحوا لأن الاضطهاد رفع، فهذا المضطهد تحول إلى معين وإلى داعية، فكان هذا شيئاً رائعاً بالنسبة لهم، وأما الذين هم على العقيدة الصحيحة، فتعجبوا أن هذا الرجل يرى هذه الرؤية-كما يزعم- من السماء، وأصبح يدعو إلى دين كامل، ليس هو الذي عرفوه عن المسيح ولا الذي في الإنجيل، فبدأ يبرمج ويمنهج، ويشرع تشريعاً من عنده، فيقول: هذا يجوز وهذا لا يجوز، وأخذ يرسل الرسل الذين يسمونهم رسلاً في الإنجيل (العهد الجديد)، فبعث هذا إلى الحبشة، وهذا إلى قبرص، وهذا إلى الإسكندرية، وبدأ ينظم لهم الدعوة بشكلٍ عجيب!! كيف هذا؟! ومن أين أخذ هذا الدين؟! ومن أين جاء به؟! وهكذا ظلت المعركة قائمة على أشدها.
ثم كُتبت الأناجيل، وأقدم نص موجود للإنجيل كُتب عام (209م) وإذا كان المسيح عليه السلام رفعه الله عز وجل، وهو يبلغ الثالثة والثلاثين -كما يقولون- ولعلها تكون فوق الأربعين والله أعلم.
المهم أنه بعد المائتين كُتب أول إنجيل، وهو عبارة عن سيرة رآها صاحبها، قال: عندما رأيت الناس يكتبون عما سمعوا عن الكلمة -أي المسيح- فأحببت أن أكتب إليك ياعزيزي ساوفيلد بما رأيت وبما سمعت وبما بلغني من الناس الذين عاشروا الكلمة -أي المسيح- فكان مؤلف الإنجيل يقول: 'أنا إنسان أكتب أشياء بلغتني سمعتها عن المسيح' وما قال: إنها كتاب الله، ولا أنزلها الله أبداً.
وهذا موجود الآن بنصه في مقدمة الإنجيل.
وفي القرن الثالث -حوالي الثلاثمائة- كتب إنجيل يوحنا وهو أخطر الأناجيل، ونُص فيه بصراحة على أن الآلهة ثلاثة! أي: عندما تبنت الدولة رسمياً عقيدة بولس، وضع إنجيل يوحنا الذي يتبنى أيضاً بشكلٍ قطعي أن التكليف هو الشرك والعبادة، ثم استمرت البدع والانحرافات طويلاً.
وكانت ديانةٍ -كما سماها الغربيون- تركيبية، ركبت من فلسفات عديدة لا مجال للتفصيل فيها، أخذت الثالوث من الأفلاطونية الحديثة، وأخذت قضية الصليب الذي يصلب فداءً عن غيره من المسرائية وهي دين وثني كان يدين به بولس، وأخذت أيضاً من التوراة المحرفة بعض الأمور، وهم يرجعون إليها كشريعة لهم، وهكذا تجمعت خرافاتٌ وأفكارٌ وأراءٌ فلسفيةٌ، وسمي الدين الرسمي للدولة باسم المسيحية.
وأكبر رجل -كما قلنا- بولس اليهودي ومن جاء بعده، واعتنقت أوروبا هذا الدين، واستمرت عليه.
ثم بُعث محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكتب -كما نعلم- كتابه إلى هرقل عظيم الروم، وذكر فيه الآية من سورة آل عمران: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64].
وأنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31] وأنزل الله عز وجل أيضاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34].
وكثير من الآيات؛ وخاصةً في سورة آل عمران التي نزل فيها أكثر من ثمانين آية في شأن نصارى نجران، وهي تعالج قضية انحراف النصرانية.
وعندما بُعِثَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت أوروبا مشركة؛ لأنها لا تقيم حكم الله ولا دينه، فهي تعبد المسيح وهو بشر وليس إلهاً، وتعبد الأحبار والرهبان، وذلك شرك في الاتباع، وكانت تتبع القوانين الرومانية التي سنها جوستنيان وغيره، بل كانت مشركة في كل أمورها حتى في قضايا الأخلاق، فكانت حتى الأخلاق مستمدة من الأعراف، أو مستمدة مما يضعه الأحبار والكهان ورجال الدين.(34/5)
بدعة الرهبنة
ومن البدع الشديدة التي ظهرت في المسيحية، وهي كثيرة -كما ذكرت-: بدعة الرهبنة، وقد ذكر الله عز وجل في كتابه: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:27] هذه الرهبانية تفصل علنياً وواقعياً بين الدين والواقع، وبين الدين والحياة، فوضعت المسيحية المحرفة الجزئية الإنسان بين طريقين لا خيار له فيهما: إما أن تدخل في ملكوت الله، فتذهب إلى الدير تتعبد عبادة صارمة مقننة، يشرف عليها رجالٌ غلاظٌ شداد، يبتدعون ما شاءوا، ويفرضونه بالقوة: كذا كذا ترنيمة، وكذا كذا ترديده، وكذا من العشاء الرباني إلخ! وغيرها من الخرافات التي يُملُونها على دينهم إملاءً، ومن أراد الدنيا فليطرد من ملكوت الله؛ لأنه يريد الدنيا -ويريد التزوج، وهو أمرٌ ترفع عنه المسيح ويترفع عنه رجال الكنيسة- ويريد أن يحرث الأرض -كما كان حال الشعوب الأوروبية- وهذا شغل دنيوي حقير، فالرجل الذي يعبد الله يأتيه الرزق وهو في الدير، تأتيه الهبات، وتأتيه الصدقات، وليس محتاجاً إلى أحد، فهي جبرية بالمعنى الإسلامي، فالكنيسة شرعت مع الرهبانية جبريةً معينة.(34/6)
ركود الحياة الأوروبية
ظلت الحياة الأوروبية راكدة قروناً طويلة؛ العمال يعملون للنبيل، والنبيل يجمع الأموال ويعطي الخدم، والنبيل يجهز من الخدم -من الرقيق- جيشاً للحملات الصليبية التي كانوا يشنونها علينا، يجهزها ويعطيها للامبراطور، والامبراطور يرى أنه مادام النبيل أرسلها إلى مسئول الإقطاعية، فالوضع ثابت، والامبراطور أسرته ثابتة تتوارث الملك، والكنيسة نظام ثابت يتوارث أصحاب المناصب والكراسي في ترقٍ هرمي، فكل أسرة ثابتة في عمل ما تتوارثه، هذا في الدير، وهذا في المزرعة، وانتهت القضية.
ومرت قرون والحياة ثابتة راكدة، ومرت على أوروبا فترة ظلمات أشد عندما جاء ما يسمى النورمانديون -شعوب الشمال- وكلها شعوب همجية، فاحلتوا روما، أي احتلوا الكنيسة الغربية ونقضوها، وأما الكنيسة الشرقية في القسطنطينية فبقيت نصرانية، أما الكنسية الغربية ودولها مثل إيطاليا، وفرنسا، وألمانيا، وبريطانيا؛ فبقيت قروناً طويلة لا تعرف كتابةً ولا علماً على الإطلاق، وكل رأس مالها من العلم كتب كتبت قبل الغزو، يقرؤها بعض الآباء (الكرادنة) فقد كانت مفلسةً تماماً من العلم.
ويعتبر الأوروبيون بداية التاريخ الحديث هو فتح القسطنطينية، لماذا؟! هل ذلك يعتبر لنا نحن لأننا فتحنا القسطنطينية؟! لا!! إنما لأنهم يقولون: إنه عندما فتحت القسطنطينية، وأعطى محمد الفاتح الأمان لمن فيها من النصارى، هاجر العلماء الذين كانوا موجودين في القسطنطينية إلى روما وإلى الكنيسة الغربية، واستبشر أصحاب الكنسية الغربية بالقضاء على الكنيسة الشرقية، وإن كان المسلمون هم الذين أخذوها، فانتقلوا إلى هناك، فقالوا: بدأ العلم وبدأت الحضارة، والحقيقة أن أوروبا تريد ألا يكون لنا فضل عليهم.
وهناك قضية انتقال الحضارة الإسلامية إلى أوروبا عبر الأندلس، وعبر إيطاليا، وكانت جامعات إيطاليا تدرس باللغة العربية، وكان فريدريك الثاني أكبر امبراطور في العصور الوسطى الأوروبية -كما هو معروف- وهو الذي كان في عصر الكامل الأيوبي، وجاء إلى الكامل الأيوبي، وتقابلا في فلسطين وتخاطباً باللغة العربية الفصحى بدون مترجم، لأن فريدريك تعلم اللغة العربية، وكان من المفروض أن أي مثقف لا بد أن يتعلم اللغة العربية، وإلا فلا يعتبر مثقفاً، فكان جنوب إيطاليا مركزاً لانتقال الحضارة الإسلامية إلى أوروبا.
ومع ذلك لا تعترف أوروبا بهذا، ولا يهمنا أن تعترف، فهو أمر طبيعي، لكن الشيء العجيب أن أوروبا جاءها الإسلام بحضارة كاملة، وتراث علمي كامل، فاختارت رجلاً هو الآن عندهم أعظم رجلٍ في فكرهم من غير الأوروبيين، وهو ابن رشد الذي يسمونه أَفِيروس، وكيف لا وهو الرجل الذي جاء بكتب أرسطو وترجمها؟!! فهذا هو الانتقاء الذي انتقته أوروبا، ونحن أخذنا علمانيتها كاملةً ولم ننتق! وبدأ عندهم ما يسمى بالعلوم الإنسانية، والتسمية نفسها -مع الأسف نحن نقلناها- سميت لأن العلم كان من وضع رجال الدين، كانوا يضغطون على العلماء، ويتحكمون في كل شيء، وكان العلم هو ما يقوله رجل الدين، سواء حدثنا عن الأرض أم عن الكون أم عن التشريع، كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] فكل ما يقوله الحبر أو الكاهن فهو الدين والعلم.
أما الذين ارتدوا إلى الجاهلية الإغريقية فقد جاءوا بالفكر الإنساني كمقابل للفكر أو العلم اللاهوتي، وقالوا: هذا فكر إنساني، وهو يطلق على علم الاجتماع، وعلم النفس.
وهذه العلوم -حتى هذا الوقت- لا تزال في أوروبا وقد استوردناها منهم، وفي كثير منها نظريات تتصادم مع الإسلام، وفي الغالب لا نجد كُتَّاباً مسلمين متخصصين يكتبون هذه القضايا من خلال الإسلام.
وبدأ ما يسمى بعصر النهضة وبدأ الصراع بين الدين وبين الفكر الإنساني كما يسمونه.(34/7)
الصدام بين العلم والكنيسة
ننتقل إلى مرحلة أخرى وهي مرحلة العلم التجريبي الذي استفاده علماء أوروبا من المسلمين، وبدءوا يجربون وينظرون للكون نظرة تجريبية، ومن حكمة الله عز وجل وقدره أنَّ النظريات الكونية سبقت النظريات الإنسانية.
فإن مجال النظريات الكونية هو العقل، قال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ} [يونس:101] {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [الأنعام:11] والآيات كثيرة ومعروفة.
فالنظر في الكون هو من شأن الإنسان ومن شأن العقل، ولكن النظر في الإنسان ونفسه واجتماعه وتشريعاته، فهذا ليس من شأن البشر، فقد قدر الله عز وجل أن أول ما يصطدم مع خرافات النصارى هو النظريات الكونية، فظهرت التجارب العلمية قليلاً قليلاً، كان منهم جاليليو الذي قال -وهذه كلمة ليست سهلة عندهم-: (إنَّ الأرض تدور) فيترتب على ذلك مصائب كثيرة جداً.
وحتى ندرك الفرق بين النظرية ذاتها في الإسلام -صحت أم لم تصح- وبينها في دينهم، أنه إذا بطلت الخرافة؛ فمن الطبيعي أن ينتهي الدين الذي يحمل هذه الخرافة، لكن دين الله عز وجل وحي منزل كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:45] والجانب العلمي البشري منه متروك للإنسان، فليخطئ الناس إذا قالوا: تدور مثلاً، أو قالوا: لا تدور، فهذا لا يمس الدين نفسه، لكن رجال الكنيسة شعروا بأنَّ مجرد أية نظرية تخرج عن غير ما قرروه هم، أنَّ هذا بداية الخروج على الكنيسة، ولو خرج الآن شبراً، فسيصل بعد ذلك إلى ذراع، ثم سيكون الخروج الكلي وهو ما حصل فعلاً! فبدءوا بتعذيب جاليليو، حنى قتلوه في الأخير.
ثم جاء رجل كان له دور أخطر وهو كوبرنيك وقال: 'إن مركز الكون هي الشمس، وأن الأرض تدور، وهي كوكبٌ تابعٌ للشمس' وهو قد قرأها في كتب قديمة، وطالع فيها كثيراً عن علماء المسلمين حيث ذكروا حجم الشمس وأنها أكبر من الأرض -وهذا معروف ولا مجال الآن لذكره- المهم أنَّه قال هذه الحقيقة، فقال أعضاء الكنيسة: لو قلنا: إن الأرض كروية، لكان الناس الذين في النصف الثاني من الأرض يمشون وأرجلهم فوق، وهذه أفكار شيطانية! الغريب أن كوبرنيك نفسه كان قسيساً! وكذلك نلاحظ أن أبطال أوروبا في الفكر أكثرهم كانوا قسيسين وأبناء قساوسة؛ وذلك لأن السيطرة العامة على أي شيء اسمه العلم أو الكتابة كانت بيد الكنيسة، ولذلك لا يتخرج إنسان متعلم إلا وهو قد تربى في دير أو في كنيسة.
ولم يكتفوا بذلك؛ بل جاءوا بهذا القسيس العاق كوبرنيك فهددوه بالتعذيب والقتل فاعترف أمامهم بأنَّ هذه فكرة أوحى له الشيطان -لعنه الله- بأن الشمس مركز الكون، وإنما الشيطان هو الذي سوَّل له فكتب ما كتب! ولا زال هذا الكتاب محفوظاً وهو علمي على قدر عصرهم، هكذا اضطر أن يعترف في المحضر: أن الشيطان جاءه في النوم وأوحى إليه بذلك وها هو يتوب ويعود إلى الإيمان والدين! فهذه كانت مرحلة مهمة، ثم تتالت بعدها المراحل فتطور الأمر -لأن الخرافة لا تثبت- بعد كوبرنيك، وجاء نيوتن، ونظريته بسيطة وهي: نظرية الجاذبية، وهي مبسطة ومعروفة لنا جميعاً بأن الكائنات أو الكواكب جميعاً تتماسك بفعل الجاذبية، فهذه نظرية ليس فيها إشكال، ولا يترتب عليها أية إساءة للدين، وهو تفكير عقلي وطبيعي، فنظرية نيوتن نظرية بشرية لا إشكال فيها، إلا أن الكنيسة اعتبرت هذه خارقة أعظم من مصيبة كوبرنيك، وأعلنوا في منشورات وزعوها في طول أوروبا وعرضها أن هذا ملحد وكافر الخ.
بينما هو يعلن أنه مؤمن بالله وأن هذا لا يتعارض مع الإيمان، المهم أنه أعطى ما يسمى تفسيراً فهو لاحظ أنَّ الكون متناسق ومستقيم بطريقة ميكانيكية.(34/8)
الاستغلال اليهودي للصراع بين العلم والكنيسة
هذه النظرية -نظرية نيوتن - أوحت إلى أناس متربصين بالدين وهم اليهود باستغلال هذه الفجوة بين العلم وبين الدين، فظهرت نظريات تقول: ألا يمكن أن يأتي مقابل الميكانيكا الكونية ميكانيكا بشرية، بحيث تسير حياة الإنسان وفقاً للعلم أو لنظريةٍ ما؟! هذه القضية شغلت كثيراً من علماء أوروبا الهاربين من الكنيسة، فبدأ الهجوم على الدين ولكن بطريقة الهجوم على رجال الدين، فإنه لم يكن بإمكانهم في ذلك الوقت أن يهاجموا الدين، أي أن يهاجموا الإنجيل.
ومعروف في الأدب الأوربي أن القصص والأعمال الأدبية كثيرة وموضوعاتها تتمحور في أمرين: الأمر الأول: رجل الدين الذي يتظاهر بالدين والخشوع في الدير، ويبكي ويقرأ الإنجيل، ولكنه في السر يرتكب الفواحش، ويزني مع الراهبات، ويأكل الربا، ويفعل الموبقات إن عادة الناس أنهم يقرءون الأدب لأنه يثير النزعة الإنسانية -كما يسمونها- فيقرءون الأعمال الأدبية، فتعطي ردة فعل وتصوراً معيناً -لكن ليس تصوراً علمياً ضد الدين- وإنما هو ضد رجال الدين.
الأمر الثاني: العطف على البغايا! وهذا أصبح منهجاًَ معروفاً في الأدب الأوروبي، فهناك أعمال أدبية كثيرة معروفة موضوعها المرأة البغي التي لجأت إلى البغاء، نتيجة ظروف اجتماعية قاهرة وأوضاع سيئة ومشاكل، لكن مع أنها بغي وأنها تضحي بعرضها وشرفها لمن شاء، لكنها محترمة لأنها لا تسرق، وأخلاقها ومعاملاتها طيبة، وكذا وكذا، هذه الصورة تعرض مقابل ما يعلمه الناس جميعاً -وأولهم الكرادنة والقساوسة- عما يدور في الأديرة من الفواحش ومن الموبقات! والذين درسوا الأدب الإنجليزي والعربي من مُجَّان شعراء العرب كانوا يدخلون الأديرة فيجدون هناك الملذات والشهوات والمحرمات والموبقات والعياذ بالله! وكذلك في أوروبا عندما جرت حروب بين البروتستانت والكاثوليك كان البروتستانت يدخلون إلى بعض الأديرة ويخرجون منها رفات وعظام أطفال الزنى -المولودين بالزنى- الذين رمتهم الراهبات والقساوسة تحت الأرض، فأخرجها البروتستانت ليبرهنوا على انحراف الكاثوليك، وكأنهم هم ليسوا منحرفين! فالعطف على البغايا أيضاً كان اتجاهاً في هذه المرحلة ومن أشهر هذه الأعمال كتابات الرجل الأوروبي ديجرو الفرنسي الذي كتب دائرة المعارف لتحل محل الإنجيل، وكان ذلك في القرن الثامن عشر، وأما من مضى فكتبوها دائرة معارف عامة ليستغنوا عن علم اللاهوت بها، وديجرو هذا له قصة كبيرة جداً اسمها الراهبة، وسميت بعد ذلك المتدينة، وهناك أعمال كثيرة من هذا القبيل.
فهناك الاتجاه الإنساني أو الأدبي أو الاجتماعي يسير مع الصراع العلمي بين العلم وبين الكنيسة، حتى جاءت الثورتان المتقاربتان: الثورة الفرنسية وهي ثورة بالمعنى الصحيح، والثورة الصناعية.(34/9)
الإعلان الرسمي للعلمانية
الثورة الصناعية هي عبارة عن تحول اجتماعي كبير، نشأ بظهور الآلة واستخدامها، وأدى إلى تحولات وفجوات وخلخلة كبيرة جداً في التاريخ الأوروبي، وهذه الفجوات وهذه الخلخلة أدت إلى نجاح الأفكار التي كان العلم يدعو إليها قديماً، والثورة الفرنسية هي التي أوجدت أول ثورة علمانية بالمفهوم المعاصر للعلمانية، وإلا فالشرك قائم وقد وقع منذ قوم نوح عليه السلام، لكن بالمفهوم الذي يردد الآن أن أول دولة علمانية كانت فرنسا وذلك بالثورة الفرنسية، وخرجت الجماهير تهتف وتصرخ وتقول: 'اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس' أي تدلل على الاقتران والتعاون على الظلم الذي حصل بين رجال الدين وبين الأباطرة، ورجال الدين كانوا أشداء حتى على الملوك، وقضاياهم في التاريخ معروفة ومنهم - أي: الملوك- من ذهبوا إلى البابا يستعطفونه، ومشوا على الحجارة أياماً وليالي، ووقفوا لابسي الخيش في البرد الشديد، يستعطفون البابا ليرحمهم، لكنه الاستغلال الذي كانت تمارسه الكنيسة، فقد غيرت دين الناس وحولتهم من دين إلى بدع، وغيرت الملوك، وحرقت العلماء، ودمرت الحياة تدميراً كاملاً، وأخذت العشور من الناس، بل وأكثر من العشور في كل ما يزرعونه وما ينتجونه، ومن جهة أخرى كان كل ما يمكن أن يرتكب من الموبقات فعله رجال الدين، فالثورة الفرنسية خرجت وهتفت باسم هذا المبدأ، وأعلنت أنها دولة لا دينية وأن الجميع فيها سواسية فلا دين ولا غيره يفرقهم، وكان اليهود هم الأكبر ربحاً من هذه القضية.
وكان عند رجال الدين أن أي شيء يخالف الوحي فهو خرافة، فخرافة دارون هذه جاءت نتيجة -كما ذكرنا- ما قاله نيوتن، وهي أن دارون جاء بنظرية ميكانيكية عن الكون، فهل نستطيع أن نأتي بنظرية ميكانيكية عن الإنسان؟ قد يقول قائل: نيوتن فسر كيفية أن الأجرام تتناسق في السماء، ولا يمنع أن يكون الذي جعلها على هذه الكيفية هو الله، فلماذا لم يقل النصارى: إن الله خلق الإنسان كما أراد، لكن عملية خلق الحيوانات جميعاً أو السجل الجيولوجي كله من أوله إلى آخره، أراد الله أن يكون الخلق متطوراً بهذا الشكل -مثلاً- في داخل نطاق النظرة الأوربية، لِمَ لَمْ يحصل هذا؟ نأتي هنا إلى قضية هامة وهي أن في الإسلام، أن آدم عليه السلام أول الخلق، وأن جميع الأنبياء هم من ذريته، ولا إشكال في هذا الموضوع، لكن عند الكنيسة هذه القضية خطيرة جداً، لماذا؟ لأن الدين النصراني عندهم فقط قضية الصلب والفداء التي سببها خطيئة آدم، والخطيئة أنه أكل من الشجرة، ولكن الله -تعالى عن ذلك علواً كبيراً- ضحى بابنه الوحيد ليكفر عن الجنس الذكري من هذه الخطيئة، فأنزل ابنه وقتل -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- لكن إذا قلنا كما تقوله نظرية دارون: أن الإنسان تطور تطوراً طبيعياً، وظهر ووجد بشكل تلقائي من الخلية إلى الكائنات العضوية واللافقاريات إلى القرد إلى شكل إنسان، كما تقول النظرية حلقة مقطوعة، كان الإنسان على هذا الكلام ليس هناك آدم، وإذا لم يكن هناك آدم فالمصيبة أنه إذاً: ليس هناك خطيئة، وليس هناك صلب، وليس هناك فداء.
إذاً: فمن حق الكنيسة -من وجهة نظرها- أن تستميت الاستماتة الكاملة في دفع النظرية -نظرية دارون - لأنها تهدم بها المسيحية هدماً تاماً، فإن الاعتقاد بأنه لم يوجد آدم معناه أنه لا يوجد مسيح ولا يوجد صلب ولا يوجد فداء، إذاً: ما بقي من الدين -دين النصارى- شيء.
فترتب على هذا أن الكنيسة قاومت نظرية دارون مقاومة شديدة، وجاء الصحفيون والهدامون والعلمانيون من كل ناحية، وأشاعوا نظريته بشكل رهيب لم يحلم به دارون، وربما لم يخطر له على بال، والعجيب أن لامارك وبوتيه وعدة علماء أو باحثين -كما يسمون- حاول كل واحد منهم أن يأتي بنظرية قريبة من نظرية دارون أو مؤدية إلى نظريته إلا أنه لم يكتب لها الشيوع، لأنهم أشاروا أو ذكروا أن الله اقتضت حكمته هكذا حتى لا يفاجئوا أن يصدمهم المجتمع أو تصدمهم الكنيسة.
ونظرية التطور اعتنقتها أوروبا وعممتها على كافة الحياة؛ لأنها استندت على فكرة التطور العلمي، التي جاء بها أوجوف كوم قبل دارون بأكثر من ستين سنة، في مطلع القرن التاسع عشر، جاء وقال: ' إن العلم البشري مر بثلاثة مراحل: مرحلة الخرافة والشعر، ومرحلة الدين، ومرحلة العلم'.
هذا التطور إذا نظرنا إليه بالنظرة المنطقية، وجدنا أنه: بدأ بمرحلة الحيوان، ثم مرحلة الدين، ثم مرحلة العلم، فهذا التطور الفكري الذي تخيله أوجوف كوم، أصبح حقيقة دعمتها التجربة ودعمها المعهد، ونعرف جميعاً ماركس كيف ركب نظرية المادية من نظرية التطور لدارون وقال: بأن المجتمع يتطور من خلال مراحل الاستكش -المراحل الخمس- الشيوعية.
والشاهد أن الديمقراطية والإنسانية ونظريات علم النفس ونظريات الاجتماع كلها ركبت على هذه الخرافة، ومن هذا أن التجارب تجري على الكلاب وعلى القرود وعلى الفئران وعلى أي حيوان، ويراد أن يفعلَ بالإنسان ما طبق على الفأر أو القرد أو الضفدعة! هكذا وصل الأمر إلى انهيار معنى الإنسانية، وهبوط هذا المعنى، وظهرت الديمقراطية نتيجة للاحتكاك الذين أحدثته الثورة الصناعية وهذه الأفكار، ونحِّي الدين تنحية كاملة، ونحيت النفس الإنسانية، وأقيمت الدولة العلمانية على منهج بشري، أي: على منهج الهوى والخرافة كما قلنا.(34/10)
علاقة العلمانية بالخرافات والخزعبلات
ولو نظرنا كيف دخلت العلمانية إلى العالم الإسلامي، لعلمنا أن السبب هو الخرفة والجهال، وهو نفس السبب الذي أدخل العلمانية إلى أوروبا، ولو كان المسلمون مسلمين حقاً، لما دخلتها العلمانية، ومن أسباب دخول الخرافة إلى التصوف، أن التصوف هو صورة أخرى للرهبانية النصرانية التي تعني الانعزال عن الدنيا، وأن تذهب للاهتمام بالدين كما يقولون.
وأول من بنى رباطاً للصوفية هو أمير الرملة، وهو أمير نصراني راهب، بناها على طريقة أديرة الرهبان، فهو نصراني بنى هذا الرباط، وبعد أن كان التصوف في أشخاص أصبح الآن في رباط يجتمع فيه أناس، ومن هنا دخلت الصوفية إلى مرحلة أخرى، وهي مرحلة الرهبانية النصرانية، ونظرت إلى الحياة نظرة مقت وازدراء، وأخذت الجبرية التي أخذتها الكنيسة، وبدأ هذا الانحراف في القرن الرابع بوضوح، والصوفية بدأت بالزنادقة الشيعة، أناس تستروا بالتشيع وأناس تستروا بالتصوف.
والشيعة حققت نجاحاً كبيراً؛ لأنهم دخلوا باسم حب آل البيت، والصوفية دخلت بحب الرسول، فكان تأثير الشيعة محدوداً في الشعوب الشرقية، مثل الفرس وأمثالهم، أما الصوفية فكانت أعمق وأخطر في الهدم؛ لأنهم أخذوا شخصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعلوا عليه صفات الألوهية التي قالها النصارى في عيسى إلا أنهم لم يقولوا: إنه ابن الله، فهم أعطوه علم الغيب وبهذا قضوا على مصدر التلقي، ونحن نقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت الصوفية: لا، أنتم تأخذوا علمكم من ميت عن ميت، تقولون: حدثنا فلان عن فلان، أي: ميت عن ميت، ونحن نأخذ عن الحي الذي لا يموت، العلم المباشر، فإذا أراد الإنسان أن يعرف هذا الحكم، هل هو صحيح أو غير صحيح، فإنه لا يقرأ صحيح البخاري ولا يقرأ صحيح مسلم، بل يصلي على رسول الله كذا ألف مرة، ويذكر الورد الفلاني، وينام ويرى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النوم إذا كان من السالكين، أما الواصلون فإنهم يرون النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، فيقول له: يا فلان افعل كذا، تزوج فلانة، وهذا حلال وهذا حرام، فإذا اعترض عليه أحد بأن هذا حرام، يقول: أنت تتكلم بعلم مأخوذ من ميت عن ميت، ونحن نأخذ العلم مباشرة، فكيف تعترض علينا؟! ومعروف عندهم الكشف والفتح، وأشهر ما يذكر في تاريخ التصوف، أن الإنسان يدخل الخلوة ويبقى فيها عشرين سنة لا جمعة ولا جماعة ولا اغتسال وهم في الحقيقة يرتكبون الشرك، وتأتيهم الشياطين بالأخبار، فيأتي الناس يكلمونه، وهو في الخلوة، فيقولون للشخص: أنت فلان وجئت من أجل كذا، فيصدقه الناس ويؤمنون بأن هذا كشف وفتح.
فأصبح التدين في أعين الناس هو هذه الطريقة، وليس هو عبادات بمعناها المعروف، بل هذا هو الدين عندهم، وما عداه فدنيوي، وهي الترجمة الحقيقية لكلمة علمانية.
فلما جاء الغزو الفكري الحديث، وجاء لمهاجمة المسلمين، كان المسلمون أمة غارقة في الخرافات والجهل، كما كانت النصرانية.
فدخلت الأنظمة والقوانين من هذا الطريق، من طريق أن الدنيا ننظم لها ونشرع لها، ونجعل الدولة إما ديمقراطية أو نجعلها اشتراكية أو غيرهما وما المانع فهذا تنظيم حكم لا تشريع دين! أما الدين فالدين هناك في المسجد، في الزاوية عند المتصوفة، لذلك لم يقم ولن يقوم أي تعارض بين أي حاكم يحكم بغير ما أنزل الله، أو مع ملحد يؤلف الكتب ضد الإسلام، لا تقوم بينهما عداوة بل يبقى التقارب والاقتران بينهما، كما كانت الاتفاقية المشهورة بين رجال الدين في أوروبا، وبين الأباطرة في تلك المرحلة.
لأن تطبيق غير شرع الله عز وجل، أو التحاكم إليه لا يمكن أن يعترض عليه رجل لا يرى الدين إلا الذكر والأوراد، ولو أتاه أكبر مجرم فأخذ منه الورد، فهذا كل ما يريد، وإن جحد بعد ذلك، أو نَحَّى شرع الله، أو لم ينحَّه، وصلى أو لم يصلِ، فهذه قضية لا تهمه، والقضية عنده هي الانتماء إلى طريقته لا إلى طريقة غيره.(34/11)
ترجمة أحد الصوفيين الخرافيين
أحببت أن آخذ ترجمة لأحد هؤلاء المتصوفة حتى نعرف أثر الخرافة في انتشار العلمانية في العالم الإسلامي، فنأخذ ترجمة أحد زعماء التصوف، وهو أحمد الرفاعي: وهو من المعروفين، وقد ناظرهم شَيْخ الإِسْلامِ، ومن خلالها نعرف أشياء عجيبة، ونرى بها وجه التطابق بين كلامه وبين خرافات الكنيسة: يقول أحمد الرفاعي: ' إن العبد إذا تمكن من الأحوال بلغ محل القرب من الله تعالى، فصارت همته خارقة للسبع السماوات، وصارت الأرضون كالخلخال في رجله، وصار صفة من صفات الحق جل وعلا، لا يعجزه شيء، وصار الحق تعالى يرضى لرضاه ويسخط لسخطه، ويدل لما قلنا أنه ورد في بعض الكتب الإلهية يقول الله: يا بني آدم أطيعوني أطعكم، واختاروني أختركم، وارضوا عني أرض عنكم، وأحبوني أحبكم، وراقبوني أراقبكم وأجعلكم تقولون للشيء كن فيكون '.
فهذه كرامات منبعها كلها كن فيكون، فالله أعطاها للأولياء، كما يزعمون! ويقول الشعراني: ' وكان إذا جلس على ثوبه جرادة وهو مار في الشمس وجلست على محل الظل -ظله- يمكث لها حتى تطير، ويقول: إنها استظلت بنا، وكان إذا نامت على كمه هرة، وجاء وقت الصلاة يقطع كمه من تحتها ولا يوقظها، فإذا جاء من الصلاة أخذ كمه وخاطه ببعضه، ووجد رضي الله عنه مرة كلباً أجرب أخرجه أهل أم عبيدة -القرية التي كان فيها- إلى محل بعيد فخرج معه في البرية، فضرب عليه مظلة، وصار يطليه بالدهن ويطعمه ويسقيه، ويحك الجرب منه بخرقة، فلما بَرأ أخذ ماءً مُسخناً فغسله، وقد كلفه الله تعالى بالنظر في أمر الدواب والحيوانات، وكان إذا رأى فقيراً يقتل قملة أو برغوثاً، يقول له: لا رحمك الله! شفيت غيظك بقتل قملة، وسمع مرة رجلاً يقول: إن الله له خمسة آلاف اسم، فقال له: إن لله تعالى أسماء بعدد ما خلق من الرمال والأوراق وغيرها، وكان يبتدئ من لقيه بالسلام حتى الأنعام والكلاب، فكان إذا رأى خنزيراً يقول له: أنعم صباحاً، فقيل له في ذلك، فقال: أَعَوِّد نفسي الجميل ' فإن كان كلباً أو بقرة فيقول له: السلام عليكم، أما الخنزير لأنه محرم أكله فيقول له بتحية الجاهلية: أنعم صباحاً، لأنه متمسك بالدين! ' وكان رضي الله عنه إذا صعد الكرسي لا يقوم قائماً وإنما يتحدث قاعداً، فكان يسمع حديثه البعيد مثل القريب، حتى إن القرى حول أم عبيدة كانوا يجلسون على سطوحهم فيسمعون صوته، فيعرفون جميع ما يتحدث به، حتى كان الأطرش والأصم إذا حضروا يفتح الله أسماعهم لكلامه، وكانت أشياخ الطريقة يحضرون ويسمعون كلامه، وكان أحدهم يبسط حِجره، فإذا فرغ سيدي أحمد رضي الله عنه ضموا حجورهم إلى صدورهم وصفوا الحديث إذا رجعوا إلى أصحابهم على جليته.
وكان يوماً جالساً في القرية فمد عنقه، وقال: على رقبتي، فتعجب الحاضرون، قالوا: ما هذا؟! قال: الشيخ عبد القادر الجيلاني، الآن في بغداد، قال: قدمي هذه على رقبة كل وليّ لله -لأنه ولي الله، وقدم الشيخ على رقبته- فأرخى جالساً وكان كذلك، وكان جالساً وحده فنزل عليه رجل من الهواء، وجلس بين يديه، فقال الشيخ: مرحباً بوفد المشرق، وقال له: إن لي عشرون يوماً ما أكلت ولا شربت، إني أريد أن تطعمني شهوة، فقال: ما شهوتك، قال: فنظر إلى الجو وإذا خمس أوزات، فقال: أريد إحدى هؤلاء مشوية، ورغيفين من بر، وكوزاً من ماء بارد، فقال له الشيخ: لك ذلك، ثم نظر إلى تلك الوزات، وقال: عجل بشهوة الرجل، قال: فما تم كلامه حتى نزلت إحداهن بين يديه مشوية، ثم مد الشيخ يده إلى حجرين كانا إلى جانبيه، فوضعهما بين يديه -الحجرين وضعهما مع الوزة- فإذا هما رغيفان ساخنان من أحسن الخبز منظراً، ثم مد يده إلى الهواء وإذا بيده كوز أحمر فيه ماء، قال: فأكل وشرب، ثم ذهب في الهواء من حيث أتى، فقام الشيخ رضي الله عنه وأخذ تلك العظام، ووضعها في يده اليسرى، وأمرّ يده اليمنى، وقال: أيتها العظام المتفرقة والأوصال المتقطعة اذهبي وطيري بأمر الله تعالى، بسم الله الرحمن الرحيم، قال: فذهبت أوزة سوية كما كانت وطارت في الجو، حتى غابت عن منظري! ' فهذا الراوي يقول هذا الكلام! وهنا شيء آخر لطيف، وهي أن صكوك الغفران التي عملها النصارى وكانت من أكبر العوامل التي جعلت أوروبا تثور على الدين، لأن رجل الدين كان يكتب صكاً من فلان إلى فلان، ويعطي هذا أرضاً في الجنة، وما أشبه ذلك، والعاقل يرفض مثل هذه النزاهات، حتى رفضها الفكر الغربي رفضاً شديداً، وهذه الصورة الغريبة -أيضاً- وقعت في التاريخ الإسلامي.
فقد ' كتب الرفاعي صكاً لأحد الناس، حيث أنه جاء وطلب منه بستاناً، فأخذ الشيخ البستان، وقال له الرجل: تعطيني في الجنة بستاناً مقابله؟ قال: لو أردنا أن نعطي السماوات والأرض لكان ذلك، وهذا بسيط جداً.
قال: اكتب لي بذلك صكاً، فكتب الرفاعي هذا الصك: بسم الله الرحمن الرحيم هذا الذي اشترى إسماعيل بن عبد المنعم من العبد الفقير أحمد بن أبي الحسين الرفاعي ضامناً له على كرم الله تعالى، قصراً في الجنة، تحفه أربعة حدود: الأول: إلى جنة عدن، الثاني: إلى جنة المأوى، الثالث: إلى جنة الخلد، الرابع: إلى جنة الفردوس، بجميع حوره وولدانه وفرشه، وأسرته، وأنهاره، وأشجاره، عوضاً عن بستانه الذي في الدنيا والله له شاهد وكفيل، ثم طوى الكتاب وسلمه إياه ' وهذه في جامع كرامات الأولياء للنبهاني.
الشاهد من هذا: أن الخرافة التي وقعت فيها أوروبا ومنها جاءت العلمانية وقعت فيها الأمة الإسلامية في أردى صورها، ونتيجة لهذه الخرافة، ونتيجة ابتعادنا عن الله عز وجل، ونتيجة فهمنا بأن الدين له علاقة فردية محدودة، وكما تصور المتصوفة؛ جاءتنا كل هذه الأفكار، وكل هذه العقائد وغيرها فقبلناها ومنها العلمانية.
ومثلاً: دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لماذا كانت في عصر الانهيار الشديد وعصر الضعف الشديد؟ ومع ذلك فإن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ذكر في أنواع الطواغيت الخمسة: الشيطان، والحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله، والحاكم الجائر المغير لأحكام الله، وذكر الذي يدعي علم الغيب، وذكر من يدعي عبادة نفسه.
ففسر الطواغيت الخمسة، وهذه العلمانية هي من الحكم بغير ما أنزل الله من ناحية، ومن ناحية أخرى هي تدعي علم الغيب عندما تشرع للإنسان، وقد كان ادعاء الغيب هو الذي كان فاشياً باسم كرامات التصوف، فعندما تصح العقيدة فإنها لا تقبل العلمانية على الإطلاق، مهما كان مستواها في الحياة الدنيا.
ولكن عندما تفسد العقيدة، وعندما تصاب بالخرافة، تأتينا هذه العلمانية بكل أشكالها، وبكل مذاهبها سواء ما كان منها في النظم أم في الحكم أم في الاقتصاد، وغير ذلك.
أو ما كان منها في مناهج التربية والتعليم، أو منها في الحياة الاجتماعية أو ما كان بأي اسم، عندما وصل فهم المسلمين إلى أن الدين هو ركيعات تؤدى في المسجد أو أذكار وأوراد، وأما الباقي فلا شأن لله فيه -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- ولا يحق لك أيها المسلم أن تعترض عليه؛ لأنه ليس من شأنك.
وهنا نجد الأساس الذي هو: أننا عندما نريد أن نعرف حكم أي شيء، فلننظر إلى العقيدة الصحيحة وبما حكمت عليه، وعندما نريد أن نتخلص من أي داء، فلنتداوى بالعقيدة الصحيحة وبما أنزله الله عز وجل على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الوحيين الكتاب والسنة وما سار عليه علماء الإسلام كالأئمة الأربعة وكلهم ولله الحمد كانوا على عقيدة واحدة، وعلى العقيدة الصحيحة، فهم علماء الأمة الأفاضل، قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، قياماً بحجة الله على العالمين.(34/12)
الأسئلة(34/13)
بعض الكتب التي ترد على الأفكار الهدامة
السؤال
نرجو إرشادنا إلى الكتب التي ترد على الأفكار الهدامة؛ لكي نكون على بينة منها وبالأخص العلمانية.
الجواب
الأول: كتاب الله عز وجل، فإن فيه كل خير وهدى، وكل بدعة جاءتنا من داخل المجتمع الإسلامي أو من أوروبا فهي مرفوضة لأنها بدعة، وليست من عند الله ولا من عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهناك كذلك ممن كتب عن الغزو الفكري منهم: أبو يعلى الجويني، ومحمد قطب، وسيد قطب، ومحمد محمد حسين، وهناك كتاب كثيرون كتبوا في هذا الموضوع، أيضاً والفكر الغربي نفسه لمن قرأه وهو يعرف حقيقة الإسلام سوف يكتشف بنفسه أي نظرية هدامة، فأي نظرية قرأها سوف يكتشف أنها منافية للإسلام.
والحمد لله أنهم في أغلبية الجامعات بدءوا ينحون اتجاهاً إسلامياً، وبدأت الاتجاهات في أن تجعل هذه العلوم إسلامية، وأصبحت كتابة هؤلاء العلماء الرواد هو مما يرجع إليه.(34/14)
آراء حول العلمانية
السؤال الثاني: هناك تأويلات كثيرة للعلمانية في هذا العصر تحت عدة شعارات، منها وجود أكثر من دين واحد في بلد ما، ومنها: حكم الشعب نفسه بنفسه وغيرها، فما رأيكم في ذلك؟ ومن هم أشهر الحكام الذين أدخلوا العلمانية في هذا العصر؟ وما هي أبرز شعاراتها الآن؟
الجواب
تعدد الشعارات لا غرابة فيها، لأن الباطل دائماً متعدد: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153].
أما الديمقراطية أو حكم الشعب فهذه خرافة.
أما الحكام الذين أدخلوا العلمانية: فقد كانت تركيا هي أول دولة إسلامية طبقت العلمانية، ومعروف ما فعله هذا الحاقد اليهودي المجرم أتاتورك فإنه قد قضى على اللغة العربية، وجعل الأذان باللغة التركية، وفعل أشياء لا يمكن أن تخطر على البال.
فلا نتصور أن القضية نتيجة علم أو علمنة فالقضية قضية حقد وعداوة ودسائس ومؤامرات، بسبب أنهم وجدوا أمة خاوية من عقيدتها الصحيحة وغارقة في الشركيات وفي الخرافات، فاستطاعوا أن ينشروا تلك العقائد والأفكار الهدامة فيها.
أما خرافة أن الشعب يتكون من دينين فكيف نطبق الإسلام؟ نقول: أولاً يجب أن نفهم الإسلام في شموله، فـ العلمانية: منهج شامل للحياة - كما يدعي أصحابها -ما عدا العلاقة الروحية بالله، والإسلام أنزله الله شريعة عامة في كل المجالات، وليس في قضية الحكم فقط، وهي إحدى هذه القضايا وإن كانت هي من أهمها.
فكون أن عندنا في الدول العربية نصارى -مثلاً- مليوناً ونصف أو مليونين كما في لبنان والشام، أو حوالي أربعة ملايين في مصر، لكن بما في الإسلام من العدل والسماحة، جعلناهم يعيشون بيننا وضربنا عليهم الجزية، وهذا أيام الخلفاء الراشدين، وهو حكم فرضه الله في كتابه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بحقوقهم، ومعاملتهم بالمعروف.
وكون وجود هؤلاء الناس لا يبرر ولا يعني إطلاقاً أن نأتي نحن فنتخلى عن شرع الله عز وجل ونكفر بآيات الله؛ لأن من كفر أو من بدل شرعاً غير شرع الله وحكمه، فهذا ردة وكفر، وهذا اعتراض على كتاب الله، فمن أجل هؤلاء الذين هم وضع استثنائي لا يد لنا فيه، نغير شرع الله! الله عز وجل هو الذي شرعه ولو شرع الله عز وجل أن نمضي السيوف في رقابهم لكان أمضاه الخلفاء الراشدون ولم يترددوا، إنما الله هو الذي شرع لهم هذا الوضع الاستثنائي، فإما أن يبقوا عليه وإلا فالعهد منقوض، وقد نقضوه منذ أن تعاونوا مع كل أعداء الإسلام، في التاريخ الإسلامي الماضي فهؤلاء الناس إن أرادوا الحقوق التي نكفلها لهم -لأن الله أمرنا أن نكفلها لهم- فإننا نكفلها لهم، وإن أرادوا أن يتعدوا ذلك إلى أن نغير ديننا، ونكفر بالله عز وجل من أجلهم فهذا لايمكن أن يخطر على بال مسلم، وإلا فلماذا نطبق نحن علمانيتهم، وقد جاءوا بها إلى بلادنا ونحن الأكثرية وهم الأقلية؟! لأنهم ليس لديهم شرع نتحاكم إليه! فالقضية: قضية من الذي يملك شرع الله، فمن ملك شرع الله؛ فليحكم، ليضرب الرقاب بهذا الشرع، فمن ملك النور المبين؛ فليقاتل الناس عليه.
هاتوا ما عندكم: إن كان هو الوحي الذي أنزله الله، فقاتلونا عليه فنحن نستحق الموت؛ لأننا مخالفون لأمر الله، وإن كانت الخرافات التي كتبتموها بأيديكم وقلتم هذا من عند الله، فمن حق من يملك وحي الله وكلمة الله المحفوظة أن يقاتلكم وأن يرغمكم إما على الإسلام، وإما أن تعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون.
ولا مجال أن نجعلهم مقابل الإسلام، ونكفر بالله عز وجل من أجل أن نرضي هؤلاء، لا يمكن هذا أبداً!(34/15)
حقيقة الصوفية والتصوف
السؤال
من الذي يدعم التصوف، كما أعرف أن أمريكا واليهود خاصة والكفار عامة يدعمون التصوف، ويدرسون التصوف في بعض جامعاتهم ويسمونه الإسلام الحقيقي، هل هذا يدل على أن أمريكا واليهود آمنوا بالله عز وجل حق الإيمان؟ أم عرفوا أن هو حرب الإسلام عن طريق المسلمين الجهال، فلهذا دعموا التصوف بكل إمكاناتهم وقدراتهم؟
الجواب
السائل سأل وأجاب، وقضية دور أمريكا ودور اليهود والمستشرقين في دعم التصوف وفي فرق الباطنية، هذا شيء معروف، فقد حققوا الكتب وأنشئوا أقساماً للدراسات، واستماتوا في الدفاع عن الحلاج، كاستماتتهم في الطعن في عثمان ومعاوية رضي الله عنهما.
وقضية موقفهم واضحة، وهذا عدوك فلا تتوقع من عدوك إلا أن يفعل هذا، ولو استطاع أن يفعل أكثر لفعل، ولكن ماذا فعلنا نحن؟ هل حاربنا الخرافة؟! كما ذكر استغلال جهال المسلمين، ما دام الجهل فاشياً والعقيدة الصحيحة غير موجودة عند المسلمين فهي مباحة لمن جاء من دجال وكذاب.
الجديد في التصوف هو أنه أصبح جزءاً من الغزو الفكري الحديث، والتصوف كما قال أحمد الرفاعي، قبل أن تخلق أمريكا وغيرها، وأحمد الرفاعي مثله كثير: شاذلية، وقادرية، وتيجانية إلى آخرها.
كان هناك قبل وجود أمريكا خرافات، وكان هناك شر وبلاء، لكن هذا الغزو الفكري قديم، دسه الزنادقة في الإسلام، فالآن أصبح التصوف جزءاً من الغزو الفكري الحديث، لماذا؟ لأن اتجاه الشباب عندما كانت العلمانية -كما في تركيا وغيرها من الدول- تطالب الناس بالكفر بالله عز وجل علناً، أي أن هذه من الخطورة ومن العداوة فظهر بسببها دعوات إسلامية، فقالوا: هذا لا يمكن، إذن الحل أن نأتي بشيء بديل منحرف، نأتي بـ الصوفية على أنها بديل للتدين الصحيح، ولنأتي بترقيعات في الاقتصاد، وترقيعات في التعليم، وترقيعات في السياسة ونقول هذا تطبيق للشريعة، حتى لا يطالب أحد بالعودة إلى الكتاب والسنة وأخذها كاملاً من جميع جوانبها وهكذا.
فتحولت الصوفية من غزو قديم موروث إلى غزو حديث مدعوم ضمن المخطط الكافر الآثم الذي لا يزال يحارب الإسلام.(34/16)
الصوفية الموجودة شرك وزندقة
السؤال
هل الصوفية تشبه العلمانية، إذ أنها عقيدة ربانية ثابتة ولو كانت تميل إلى الانحراف، وفي نفس الوقت العلمانيون في معنى المفهوم العام اللادينيون، فأرجو التوضيح؟
الجواب
العلمانية تقول: لا علاقة للدين بالحياة، والصوفية -في واقع الحال- تقول: لا علاقة للدين بالحياة، فالالتقاء بينهما واضح، فلا يأتي اللبس في قضية إنسان زاهد متأثر أراد أن يترفع عن شهوات الدنيا، أو أن يعتزل سواء كان على سنة أم على بدعة، فنقول الصوفية هي هذه، ولا يدخل أو يشتبه أحد في كلامنا هذا، فإذا كان يراد الصوفية: الذين عندهم العقيدة وعندهم الإيمان، لكنهم منعزلون لا يحبون الدينا، ولا المال ولا المناصب، فهذه نعالجها داخل الصف الإسلامي نفسه، أما أولئك زنادقة التصوف الموجود عندهم الآن شرك وزندقة، فعندما نرى رأس الحسين يعبد في أكثر من موضع في العالم، ويتمسح به، فهل نقول: إن هذه عقيدة ربانية؟! أين العقيدة الربانية في هذا؟! عندما نجد أن هؤلاء يشرعون للإنسان حتى إباحة المحرمات، ونجدهم أنهم قد ارتكبوا أشد الموبقات كالزنى واللواط باسم العبادة، ويستحلون الغناء، بل إن الغناء هو مادتهم وهو قرآنهم والعياذ بالله! فأين الربانية في هذه حتى نقول: إن ما عندهم دين، إن كان عندهم دعوى أنهم على الإسلام، فقد كان عند أتباع الكنيسة دعوى أنهم على المسيحية، وهذه الدعوى ليس لها دليل والله عز وجل يقول: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء:123] ليس دعاوى ولا أماني.
أما إن كانت فعلاً عندهم عقيدة وعندهم مجملات منها ولكن عندهم أخطاء وبدع وانحرافات فهذا ليس الذي نتكلم عنه، وهذا يشبه العلمانية من وجه، لكن لا نقول: هو الذي يدعمها، وهو الذي يشبهها تمام الشبه.(34/17)
أعمالهم كسراب بقيعة
السؤال
ما رأيكم بمؤلفات الروائي الأمريكي آرنت همنجواي أمثال الشيخ والبحر، ووداعاً أيها السلاح من وجهة النظر الإسلامية، خاصة وأن هذه الكتب تقابل بإعجاب كبير، وأن مؤلفها نال جائزة نوبل للأدب، نرجو توضيح ذلك خاصة وأنكم عشتم مع العلمانية في صراع دام أربع سنوات؟
الجواب
همنجواي مثله كمثل أي عالم وأي إنسان غربي لا يؤمن بالله عز وجل، فالله عندما أنزل آدم عليه السلام إلى الأرض، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] المعيشة الضنك لمن لم يقبل شرع الله في أي زمان وفي أي مكان.
فـ همنجواي، أو غيره، أو أي أحد ممن ضل عن هذا الدين فهو في شقاوة وضنك، فـ همنجواي نهايته أليمة حيث وجد منتحراً ببندقية صيد وضعها على دماغه وانتحر، وأعماله الروائية المشهورة تعبير عن قلقه، وأعظم رواية التي أخذ عليها جائزة نوبل هي رواية الشيخ والبحر رواية تافهة تباع بأربعة ريالات في أي مكتبة.
مدار القصة أن رجلاً مسناً كبيراً ركب في البحر وكان يصارع الموج، فاصطاد سمكة كبيرة من أعماق المحيط، وكان يصارع الموج ويعود بجهد جهيد، ويأتي عليه الليل والنهار وهو ما نام ولا ارتاح، ثم يخرج إلى الشاطئ وهو مطمئن وهو يجر السمكة التي اصطادها فإذا هي عظام لا لحم فيها؛ لأن أسماك القرش أكلت اللحم كله.
فمدلول هذه الرواية -حتى تأخذ جائزة نوبل - أنها تعبر عن الضياع، والله عز وجل قد ذكر الشقاء وذكر الخسران لمن ضل عن سبيله فهذه هي الخسارة، في الدنيا قبل الآخرة، فإنه يكتب عن الخسارة وأوروبا تعيش الخسارة، وكل خاسر فهو رائد في أوروبا لأنه يتكلم بشيء هي تعيشه، ويقولون: بأنه صور المعاناة الإنسانية والتجربة الإنسانية في أجلى مظاهرها، أن الإنسان يعيش ثمانين سنة يكدح ويجمع المال من حلال ومن حرام، وفي الأخير يموت ويتحول إلى عظام والرصيد في البنك، ما هي الفائدة؟! صور واقعهم الذي يعيشونه، فقالوا: هذا رجل عظيم، فأعطوه جائزة نوبل، ولذلك هو طبق هذه القصة وقتل نفسه، وكانت النهاية الخاسرة كما ذكرها في روايته.(34/18)
واجبنا أمام العلمانية
السؤال
ما موقفي أنا الشاب المسلم أمام الأفكار العلمانية، وكيف أحاربها؟
الجواب
نعود إلى قضية الأساس وهي أن موقفنا تجاه هذه الأفكار هو أن نؤمن بالله عز وجل، وأن ندعو الناس إلى ذلك، وأن نفرح ونحمد الله، لو علمنا نعمة الوحي التي بين أيدينا لقدرناها حق التقدير، ولكنا فعلاً كما قال الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110].
تجربة بسيطة عشتها مع هذا الفكر وهي عن أناس يتخبطون في الجهل والوهم والظلمات، ما كنا نشعر بأن جيلنا هذا -مع أن القرآن بين أيديهم- يبحثون في قضايا منتهية بالنسبة لديننا، ويضيعون الأعمار والجهود بحثاً عن غاية هم يعيشون من أجلها، ولما انتشرت الصوفية الغربية نفسها كـ الماريشي وأمثاله، فإذا أردت أن تجتنب العلمانية بل أي فكر وأي ضلال؛ فعليك بكتاب الله وسنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنهج السلف الصالح.
وأن نأتمر بأمر الله، وأن نجتنب نواهيه، وأ، ترتاح قلوبنا، بذكره عز وجل، وأن نقرأ القرآن ما أمكن، وأن نحضر مجالس الذكر، وأن نجتنب مجالس اللهو والمعصية، وأن نخالط الأطهار ونجتنب الفجار، فهذه كلها تحصن الإنسان من شياطين الإنس وشياطين الجن الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً.
إذا ربينا أنفسنا ونصحنا إخواننا وذوينا فإننا قد حصناهم ضد العلمانية، إن استطعنا أن ننصحهم ونوجههم بالأسلوب وبالإقناع العلمي، فهو أفضل فإنه قد تفشى في الأمة وصار إنكار المنكر هو المنكر، فلا بد أن نرد بأسلوب علمي ضد أي شبهة وهذا من التحصين ضده.(34/19)
استيراد الأفكار العلمانية
السؤال
ألا ترى أن كثيراًُ ممن تلقوا تعليمهم في أوروبا جاءوا يحملون الأفكار العلمانية ويريدون فرضها على المجتمع الذي يعيشون فيه؟
الجواب
لا أريد أن ندخل الآراء في القضايا، فإن الآراء تتضارب وتختلف، ولكن أقول: نحن عندنا الوحي: القرآن والسنة، اسأل: ما حكم السفر إلى بلاد المشركين؟ هذه قضية شرعية: اسأل عنها أي شخص تثق في دينه فهو سيخبرك، فهذه قضية شرعية ولا بد أن تكون جميع القضايا مرتبطة بالشرع.
فانظر إلىحكم الله تعالى في هذه المسألة، وحكم الله في هذه القضية معروف، فمهما بلغ الحال من العلمانية في ديار المسلمين إلا أنك تستطيع أن تصلي وتسمع الأذان، وتقرأ القرآن، ولا ترى دور عراة، فهذه نعمة، فالسفر منها إلى بلد فيه الفحشاء والبذائيات والبلايا هذا لا يفعله مسلم إلا في حالات الضرورة، أما مجرد شهادة، ومجرد أشياء دنيوية فهذه أنا لا أقطع فيها حقيقة، ولكن أي عالم تثق في دينه، اشرح له وضعك واسأله.
وإذا كانت الأمة منحرفة، ثم ذهب الشاب ولم يرجع إلا بانحراف فيزداد الانحراف انحرافاً، لكن مع ذلك يجب علينا أن نظل على الحق، وأن ندعو إليه، لو أقمنا حكم الله في حكم الابتعاث لأمكننا أن نحد من هذا الشر إن لم نجتثه.(34/20)
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم
السؤال
أجريت عملية في أمريكا بتبديل قلب بنت بقلب قرد، هل يريدون بذلك دعم نظرياتهم أن الإنسان أصله قرد؟ وما رأيك في من يقول: إن الإنسان حيوان ناطق؟
الجواب
البنت ماتت بعد أسبوعين، وقضية إثبات نظريتهم هذه لا ندري، ونحن لا نفترض في الكفار إلا الشر، ولا نؤول كل شيء يفعلوه أنهم يريدون به كذا، وما يراد به كذا، ولكن العملية هي عملية طبية عادية.
يوجد دكتور في جدة سعودي يعمل مثل هذه العمليات، فلا نقول: إن العملية عملت من أجل كذا.
لكن هل هناك إيحاء بهذا الشيء؟ نعم، وليس هناك غرابة.
فليس هناك غريب فإن هذا من عمل الطبيب، فهو يُشَرِّح جثة مقابل جثة، فلا يتدخل هو بالروحانيات، فتأخذ أنت منه ما هو الأصلح لك.
وقضية من يقول: إن الإنسان حيوان ناطق: هذه القضية مرفوضة، وهي من علم المنطق، المنطق كله مرفوض كمبدأ، لكن بعد أن دخل المنطق في بعض العلوم واستفادت منه في بعض الأشياء -ولا أريد أن أتكلم عن المنطق بذاته- أقول: القضية قيلت، وأصل المنطق وضعه رجل يوناني، ويمكن أن يضع الفكر كما تصوره، فلا تجعل موضوع الكلمة هو المشكلة، لكن نحن نقول: لا تليق بنا هذه الكلمة، وقد نقول: الإنسان حي ناطق، وكلمة (حيوان) معناها: الحي، إذا قالوا: معناها الحي، نقول: حي ناطق.
وما وُضع المنطق إلا من أجل التعريف، فهل تُعِّرف الإنسان، وتعلم ولدك وطفلك تعريف الإنسان، وهل يوجد أحد يجهل الإنسان؟! والمنطق إنما وضع مقابل فكر خطأ ينكر الموجود المحسوس، فأتى المناطقة وقالوا: نحن نرد عليهم بإثبات المحسوس.
فالمنطق جاء رداً على السفسطة، وليس لنا علاقة بهذا، نحن عندنا شهادة أن لا إله إلا الله فلا ندخل بهذه البلايا والمصائب، فتجد أصحاب الفكر الأوروبي رفضوا المنطق رفضاً مطلقاً، ونحن مازلنا نجعله -ولسنا نجعله من فروض العلم- لكن نجعله من أصل العقيدة والدين، هذا هو العجيب! فهذه الكلمة جزء من بحر مرفوض عندنا بالكلية.(34/21)
ولاية الفرق الكافرة لبعضها
السؤال
هل توجد علاقة بين العلمانية والماسونية، وإن وجدت فما العلاقة بينهما؟ وما العامل المشترك بينهما؟
الجواب
العلاقة موجودة، وقد ذكر الله عز وجل ذلك في قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:73].
الكفار دائماً بينهم علاقة، والمسلم لا بد أن يعلم أن كل كافِرَين على وجه الأرض فبينهما علاقة بالنسبة لك، ولو اختارا أن يقتتلا أو يتحاربا لاتفقا أولاً على حربك، ثم يتحاربان بينهما، هذه قضية.
والماسونية: هي حركة هدامة داخل المجتمع الأوروبي تسعى لهدمه، وهي تهدف إلى هدم الأديان والبشرية جميعاً لمصلحة اليهود، فكل من يدعو إلى العلمانية: فهو يدعو إلى هدم الدين.
إذن: فهو يسهم بالنصيب الأكبر في تحقيق أهداف الماسونية، والماسونية باعتبارها حركة سرية لا تقوم بالعلن، فلها عمل خاص سري لا يمكنني أن أتكلم عنها كمبدأ ولكن كأثر فإن أثرها يتفق مع هذه الفكرة الهدامة.
فلا يمكن أن ينضم إلى الماسونية رجل مؤمن؛ لأنه أول ما يبدأ يخلع إيمانه ودينه عند العتبة قبل دخوله الماسونية.
فالتوافق موجود بين هذه الملل والنحل جميعاً، فهم متفقون على قضية واحدة وهي أنهم يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم.(34/22)
الاحتفال بالمولد النبوي بدعة العبيديين
السؤال
هل الاحتفال بالمولد النبوي يؤدي إلى العلمانية؟ كيف هذا؟
الجواب
الاحتفال بالمولد أحدثه العبيديون ويدخل فيهم المتصوفة وهو شراك المصيدة، ولا يجوز أن تذهب وتأكل من اللحم والرز، ثم تقول: اللهم صلِّ على محمد، فلم يرد هذا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عن أصحابه من بعده.
فقضية الدخول في عملية المولد هي عملية جديدة ترضي العقل وتترك السنة، فإنه بداية الانحراف وهو من هذا الشراك، فإنه أولاً يدخل دخولاً عادياً ثم يدخل إلى الحضرة، ثم يرى روح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، ثم في اليقظة، ثم يصل إلى مرتبة اليقين، ثم يتكلم من تحت العرش، وترفع عنه الصلوات الخمس، من أين أتى هذا؟! من تلك الليلة التي تعشى وصلى على محمد، فذكره الله! من هذه الليلة بدأ الانحراف، لا نتوقع أن أحداً يأتي ويقول لنا: اكفروا بالله، ولو جاء شيعي فقال: الصحابة كفار، والقرآن كذا، فلا أحد يصدقه، ولكن يقول لك: أحب علياً، ثم أحب الحسن، والحسين ثم فاطمة، ثم تكون نصيرياً، ثم تكون أركان الإسلام الخمسة هي علي والحسن والحسين وفاطمة، فهؤلاء كذلك يقولون: أنت تحب الرسول؟ تقول: نعم، فيقولون: تَعشَّ معنا الليلة وصل على رسول الله، هذه هي البداية، ومنها يستمر إلى أن ينتقل إلى منهج آخر، فبداية المعاصي هكذا، أسأل الله أن يجنبنا المعاصي والبدع.(34/23)
دور المرأة في بناء المجتمع
إن للمرأة دورها الهام والخطير في بناء المجتمع المسلم، فهي حاضنة الأجيال ومنشئة الأبطال، ولقد كرم الإسلام المرأة، وأعطاها من الحقوق والميزات ما لم تتحصل عليه في شريعة من الشرائع، ولا أمة من الأمم.
وعلى قدر صلاح المرأة تصلح المجتمعات، ولقد أدرك المفسدون من اليهود والعلمانيين خطورة دور المرأة فأجلبوا عليها بقضهم وقضيضهم ليخرجوها من خدرها، وليهتكوا عنها سترها، مستهدفين بذلك إفساد دين الأمة، وتقويض دعائم المجتمع المسلم.(35/1)
قضية المرأة
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أتوجه إلى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالدعاء أن يجعل هذا الدرس في ميزان أعمالنا يوم نلقاه، وأن يثيبنا عليه بخير الثواب، وأن يكتب لنا أجر ما نقول وما نعمل، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، إنه على ما يشاء قدير.
إن مما يجب علينا أن نعلمه: أن أعداء الله يخططون ليل نهار للقضاء على هذا الدين، ويسعون لإطفاء نور الله بأفواههم، ويجتهدون ويدأبون من أجل أن يبذروا في هذه الأمة بذور الشر والخلاف والفرقة؛ ليبعدوها عن الصراط المستقيم، وليمزقوها وليدمروا فيها القلوب والعقول؛ لكي تصبح الأمة الإسلامية أمةً ذليلةً منقادةً لشهواتها، فيقودونها كما تقاد الدابة من شهواتها إلى ما يريدون، وكما خطط لها الأعداء المتربصون بالإنسانية جميعاً.
هذه قضية يجب أن نعلمها، وأن نعدَّ العدة لنقاوم هؤلاء الأعداء، ونعلم مداخلهم التي منها يدخلون إلى مجتمعنا ليخربوه.
إن موضوع المرأة لمن أعظم ما ينبغي أن نعلمه وأن نعرفه.(35/2)
قضية المرأة بين الماضي والحاضر
كانت القضية المتعلقة بالمرأة فيما مضى من العصور، قضية آداب وأخلاق وحياء، وهي قضية من قضايا الإيمان الواجب؛ بمعنى: أنه عندما كان العلماء والخطباء والوعاظ يتحدثون عما نسميه نحن اليوم موضوع المرأة- ولم يكن بهذا الاسم- كانوا يتحدثون من أجل الآداب والأخلاق في المجتمع المسلم، لكي لا تنتهك ولتبقى متماسكة.
ولكن الذي حصل في هذا الزمان، أن القضية لم تعد بهذه المثابة فحسب، وإنما هي قضية دين أو لا دين، بمعنى: هل نتبع القرآن كلام الله عز وجل ونتبع هدي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أم نتبع ما عليه اليهود والنصارى، ونقول: إن ما جاء به القرآن قد عفا عليه الزمن ومضى وانتهى؟ فالقضية ليست قضية خلل في الأعمال، أعمال الإيمان، إنما هي خلل في أصل الإيمان، فقضيتنا قضية إيمان وعقيدة، وإن كانت في ظاهرها قضية اجتماعية؛ فالفتاة التي تتحجب في هذا الزمن، تتحجب عن إيمان ودين واعتقاد بأنها تطيع الله عز وجل وهذا هو الحق وأن ما عداه هو الباطل، لا ينظر إليه ولا يؤبه له.
وأما التي تتهتك، أو من يكتبون دعوات التهتك والتبرج والسفور، فإنهم -جميعاً- يقولون بلسان المقال أو بلسان الحال: إن هذا الدين قد استنفد أغراضه وقد عفا عليه الزمن، وقد ذهب إلى غير رجعة، وإنما الأمر اليوم أمر متابعة الغرب، وتقليد تلك المجتمعات المتطورة المتقدمة.
وكون القضية بهذا الشكل يجعلها أخطر مما يظن بعض المربين أو بعض الآباء أو الأمهات، عندما يظنون أن البنت وإن تحررت وإن تهتكت أو تبرجت، فإنها سرعان ما تعود بعد حين كما كانت النساء من قبل، فالفتاة قبل سن النضج ربما فعلت شيئاً من ذلك، ولكنها سرعان ما تعود.
والحقيقة أن الأمر بخلاف ذلك؛ لأن الأمر -الآن- موجه توجيهاً فكرياً يقصد به تحطيم هذه الأمة بتحطيم القاعدة الأساسية التي هي منبع التربية، والتي لا تكون العقيدة والأخلاق والفضيلة إلا من نبعها لأنها هي الأم، وإن مما يثيرونه ويبلبلون به أفكار الشباب قولهم: إن المرأة المسلمة ممتهنة أو مظلومة أو عاطلة عن العمل، وما أشبه ذلك من الدعاوى التي نراها على صفحات الجرائد والمجلات، وفي المحافل وفي كل مكان يستطيعون فيه أن يقولوا أمثال هذا الكلام.
فماذا يريدون به؟ أيريدون إنصاف المرأة؟! أيريدون أن يرفعوا عنها الحيف والخوف؟! أيريدون أن ينزلوها المنزلة التي تليق بها؟! فلننظر إلى حال المرأة في ظل هذا الدين، وإلى حالها في ظل غيره.(35/3)
مكانة المرأة عبر التاريخ
لسنا بحاجة إلى أن نستعرض قضية المرأة عبر التاريخ، ولكن يكفي أن نعلم أنه إلى القرن السابع عشر الميلادي في أوروبا كان من حق الرجل أن يبيع زوجته، وقد حصل ذلك، ولم تكن المرأة تملك شيئاً حتى القرن العشرين، وإلى هذه اللحظة لا تزال دول أوروبية معروفة إلى اليوم بأنها لا تعطي المرأة حق الانتخابات، فهي ليست محسوبة من ضمن الشعب الذي يحق له أن ينتخب، وإلى هذه اللحظة لا تملك المرأة أن تستقل باسمها، وإنما بمجرد أن تتزوج أي زوج فإنها تصبح تابعة له بالاسم، وفي كثير من الدول لا يحق للمرأة أن تتملك شيئاً أبداً، فضلاً عن أنهم كانوا على حال أشد من ذلك فيما هو ثابت في نظرياتهم الفلسفية منذ عهد اليونان، فقد كان فلاسفة اليونان يكتبون -وكتاباتهم موجودة إلى اليوم- ويتساءلون هل المرأة إنسان أم لا؟! وهل للمرأة روح أم ليس لها روح؟! أما رهبان الكنيسة فحدث ولا حرج، فقد كانوا يرون أنها شيطان رجيم، وأنها منبع الخطيئة، ومصدر الشر، وأن من خطرت في قلبه صورة امرأة أو تعلق بها أو اشتهاها، فإنه قد يطرد من ملكوت الله؛ لأنه بذلك يفكر في الدنس والخطيئة، وذلك بسبب ما قررته التوراة المحرفة -كما في سفر التكوين عن قصة آدم وحواء عليهما السلام- من أن المرأة هي التي أغرت الرجل بأن يأكل من الشجرة.
ومن المعلوم أن مسألة الخطيئة -بالنسبة لنا نحن المسلمين- مسألة عادية مثلها مثل أي ذنب، حيث أن آدم عبد من العبيد أخطأ وأذنب ثم تاب، كما قال الله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:121 - 122] فآدم عليه السلام اقترف معصية ثم أعقبتها توبة، وعَقِبَ التوبة حَصَلَ الاجتباءُ من الله تبارك وتعالى وانتهى الأمر.
ولو أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أتاه العبد بقراب الأرض خطايا، ثم استغفره، لغفر له، لكنها في ذهن النصارى تختلف تماماً، لأنهم يقولون: إن المسيح عليه السلام هو ابن الله -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- وأن الله ضحى بابنه ليصلب من أجل أن يخلص الإنسانية من خطيئة الأكل من الشجرة، فالخطيئة عندهم من صلب العقيدة، والمرأة هي التي أوقعت الإنسانية في الخطيئة، وتركتها في هذا الدنس إلى الأبد! هذا أحد الأسباب التي تجعلهم ينتقصون المرأة، وليست امرأة واحدة بل نوع الأنثى بكامله، فأينما وجدت المرأة بأي اسم وبأي شكل فإنها ممقوتة، وهي مصدر الشر ومصدر اللعنة على البشرية، لأنها هي التي أدت إلى هذا الجرم العظيم.
وبالرغم من أن هذا المعتقد زال نظرياً إلى حدٍ ما، نظراً لتحول أوروبا من النصرانية إلى العلمانية اللادينية، ولكن بقاياه النفسية ونظرته الاجتماعية لا تزال باقية، بل -كما أشرت من قبل- أن له بقايا في النواحي التنظيمية والقانونية أيضاً؛ لأن الإنسانية أو المجتمعات بأكملها تشبه الأفراد، ومن الصعب على الفرد مهما تقدم في العمر، ومهما ازداد من الثقافة أن ينسى ما كان في أيام طفولته من أحداث ووقائع ارتبطت بأمور معينة، ولذلك يصعب إلى اليوم أن نقتلع من أذهان الغربيين ما استقر فيها عن وضاعة المرأة.
ولهذا قامت في الغرب الحركة النسائية وتزعمتها عدة فئات منها هدامون يعملون في الظلام، وهدفهم تحطيم هذه الإنسانية بتحطيم الدين النصراني، وهؤلاء هم أتباع التلمود من اليهود، والذين يريدون أن يدمروا أديان البشرية جمعاء، ولا سيما أعدى أعدائهم وهم النصارى؛ المسيح وأتباعه، كما ينص عليه التلمود.
والآخرون أرباب شهوات، يريدون أن يتمتعوا ويستلذوا بخروج المرأة وبتبرجها وتهتكها، وللشهوة عندهم معنى غير معناها عندنا نحن المسلمين، وكل النفوس البشرية تشتهي المرأة، وكل رجل يشتهي الأنثى، فطرة كتب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذلك وخلقه وقدره في كل فطرة.
إن الميل من الذكر إلى الأنثى أمر طبيعي في بني الإنسان، لكن هذا الميل عند الغربيين يأخذ شكلاً آخر، وهو الشكل المحرم والممنوع والمحظور والمدنس حتى وإن حصل عليه؛ ولذلك فإن الأمم الأخرى -جميعاً- وليس المسلمون فقط، إذا احتاج الواحد منهم إلى الزواج تزوج، فإذا تزوج شعر أنه قضى وطره وانتهى الأمر، إلا الغربيين من النصارى أو من اتبعهم من رهبان البوذيين؛ لأنهم ينظرون إليها نظرة الدنس والاحتقار والخطيئة، فحتى وإن تزوج، فإنه كان يُنْظَر إليه -في العصور الوسطى على الأقل- أنه اقترف الدون، وفعل غير الصواب الذي هو أقل درجة، وإن لم ينظر إليه على أنه أخطأ خطأً محضاً، لكنه لم يأت بالأولى والأفضل، وهو أن يكون كالمسيح عليه السلام الذي ذكر أن الرهبان هم خصيان الملكوت، الذين يدخلون الجنة؛ لأنهم خصوا أنفسهم عن هذا العالم، كما تنسب إليه الأناجيل المحرفة ورسائل بولس.
إذاًَ: عند الغربيين وإن تزوج وتمتع بالمرأة بأي شكل من أشكال التمتع حلالاً أو حراماً، وإن تهتك وابتذل وأَسَفْ حتى أصبح كالبهيمة فإن هذا السعار لا يخبو؛ لأن لهذا السعار عمقاً نفسياً آخر، وهو أنه يريد أن يعوض ما استشعره في قرون طويلة تجاه هذه الشهوة وهذه اللذة، فهو يعض ويعض، ومع ذلك يستشعر في نفسه أنه لم يستكمل لذته بعد، لأنه يعوض ما افتقده في القرون الماضية.
ومن المعلوم أن الغرب لم ينظم حياته -أصلاً- وفق القوانين الحديثة إلا بعد أن وضع أول قانون في أوروبا في القرن التاسع عشر عام (1804م)، وهو قانون نابليون، ثم بعد ذلك أخذت بقية الدول تشرع القوانين وتضع الأنظمة.
وفي ذلك الوقت وضعت وشرعت القوانين التي تنظر إلى المرأة نظرة إجحاف وكأنها من سقط المتاع، إلا أن أولئك الهدامين أخذوا ينشرون هذه الأفكار بغرض إثارة المجتمع بعضه على بعض، لغرض التجارة المحرمة؛ لأن كثيراً منهم كانوا يتاجرون في هذه المتع المحرمة، ولا سيما اليهود، وهذا أمر معروف عنهم إلى اليوم، فهم ملوك البغاء في الأرض -كما يقال- لأنهم يتاجرون بالعرض، وهم -أيضاً- ملوك التجارة والمال، فيهمهم أن يتاجروا بجسد المرأة، وأن يعرضوا كل سلعة من السلع على جسد المرأة، فيمتهنونها بهذا الامتهان لكي يروجوا لبضائعهم، فإن كانت المرأة يهودية، فإنهم يحتسبون ذلك لها، كما احتسبوه لـ إستير تلك التي جعلوا لها سفراً في التوراة، وذلك عندما أسر اليهود إلى بابل، في بلاد الفرس، فأقامت تلك الداعرة الفاجرة العلاقة مع ملك الفرس، واستطاعت أن تحرر شعبها بتلك العلاقة نتيجة إغرائها لملك الفرس بحمالها، وسطَّروا ذلك في التوراة، وجعلوا لها سفراً فيها، ويقولون: إن كانت المرأة يهودية وخدمت مصالح اليهود ولو بعرضها فهذا يحتسب لها، وإن كانت نصرانية أو أممية من الأمميين، فهؤلاء كالحيوان بل أحط من ذلك، فلا نظر ولا اعتبار لأعراضهم ولا لما هو مقدس عندهم.
ولكن من المؤلم أن تنقل هذه الصورة بحذافيرها إلى المجتمعات الإسلامية، وينقلها دعاة الضلالة وهم {دعاة على أبواب جهنم فمن أجابهم إليها قذفوه فيها} كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قوم من أبناء جلدتنا ويتكلمون بلغتنا فهم ينقلون تلك الآفات والأدواء والعلل إلى هذه البلاد الإسلامية، ونحن لا ننكر أن المرأة في بعض البلاد الإسلامية، وفي بعض البيوت قد تظلم، ويحاف ويجار عليها، ولكن كل ما يقع من ذلك، فهو انحراف عن دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعن كتاب الله الذي رفع الله به الإنسانية جمعاء، وجعله رحمة للعالمين، وليس ذلك -فقط- للمسلمين؛ بل رحم الله به الأقباط، ورحم الله به نصارى الشام، ورحم الله به نصارى بيزنطة، ورحم الله به أمماً في الهند والصين كانت مسحوقة مركولة، يستعبدها الكبراء والطواغيت من دون الله، ورحم الله من لم يسلم منهم بأن يدفعوا الجزية ويتحرروا من الطواغيت، ويعيشوا عيشة الإنسان في ظل الدولة الإسلامية، فضلاً عمن أسلم منهم.
يريدون أن ينقلوها إلى هذا المجتمع الذي يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] فجعل الله تبارك وتعالى الحياة الطيبة -وهي الحياة في الدنيا- لمن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى، فالرجل والمرأة كل منهما مكلف بعبادة الله، ومأمور بطاعة الله، ومسئول بين يدي الله، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الرجل راع في أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها}.
فهذه المرأة التي كانت في الجاهلية توأد، وكانت تباع في بلاد الروم والإغريق ولا قيمة لها، فيأتي هذا الدين -دين الرحمة- فيجعلها في تلك المنزلة، ويجعل من المرأة العربية التي لم تكن شيئاً مذكوراً، والتي كانت تورث كما يورث المتاع، فجعل منهن النساء العالمات، كأمهات المؤمنين -رضي الله تعالى عنهن- وكأولئك الصحابيات، والنساء الطاهرات، الذي لم يشهد تأريخ الإنسانية -قط- أمثالهن في الطهارة والعفة، أولئك اللاتي نزلت آية الحجاب فأصبحن كالغربان، أولئك اللاتي كنَّ المثل الأعلى لنساء البشر جميعاً في حسن الخلق وفي بر الزوج وطاعته، وفي بر الوالدين، وفي تربية الأبناء على الخلق القويم، وفي كل فضيلة من الفضائل، وبقي هذا الإرث لنا، وبقيت هذه الأحكام ملزمة لنا نحن المسلمين.
وهذا كتاب ربنا بين أيدينا، وهو أوضح وأجلى من أن يقال أو يتحدث فيه، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] فمما هو أقوم أن تأخذ أحكام الله في الطلاق، وفي موضوع المرأة والحجاب، وفي كل شيء.(35/4)
دعاة تحرير المرأة
لما نقل دعاة تحرير المرأة هذه القضية إلينا -كما قلت- لم ينقلوها على أنها قضية مظلوم يُنتَصَرُ له، بل نقلت على أنها قضية امرأة مقابل رجل، وقضية ذكر مقابل أنثى؛ وهكذا استطاعوا أن يمزقوا المجتمع وأن يوجدوا هذه الفرقة بينه ليتمزق، فأي مكان للرجل فيه موضع قدم قيل: وأين مكان المرأة؟! وقيل للمرأة: وأين دورك؟! وأي مكان للمرأة، يقال للرجل: لماذا يترك المكان للنساء فقط؟ وهكذا حتى تتناحر المجتمعات، والمجتمعات الغربية من المعلوم أنها مجتمعات متفككة لا روابط فيها، فإذا بلغت الفتاة الثامنة عشرة تطرد من بيت أهلها، وتعيش كما تشاء وأينما تشاء مع من تشاء، وكذلك الحال مع الشاب من الذكور، وومن هنا فإن كل جماعة وفئة في المجتمع تحتاج إلى تكتل تنظم تحت لوائه لتنتصر إذا ظلمت من قبل الآخرين، ولذا نجد العمال لهم تكتلات مقابل أصحاب رءوس الأموال، والطلاب لهم تكتلات مقابل الجامعات، النساء أيضاً لابد أن يتكتلن وإلا ضِعْنَ، فتتكتل النساء ويجتمعن وينشئن الجمعيات.
لأن المرأة إن لم تكن في جمعية فلن تجد من يطالب بحقها؛ لأنها ستكون ضائعة في حكم القانون!! فلا بد أن تتكتل، ومن هنا تكونت الحركات والجمعيات النسائية وما أشبه ذلك.
وجاءوا إلينا -نحن- في بلاد الإسلام وهي البلاد التي لا تعرف هذه الفرقة -أصلاً- والتي يجب فيها على المجتمع ككل ألا تضيع فيه امرأة، ولا طفل، ولا إنسان، فإن لم يكن لها أب أو أخ يحميها، فلا بد أن يتولى القاضي الوصايةَ عليها، أو يقيمَ وصياً عليها أو يزوجها أو ينفق عليها أو يحفظها في دور للرعاية، فهي مصونة مكفولة، ويكفي أن تذهب إلى القاضي، وتقول: إنني لا عائل ولا محرم لي، وعندئذٍ تصبح في كفالة ولي الأمر، وحق عليه أن يفعل ذلك.
وهذا لا يوجد -أصلاً- في أي نظام من الأنظمة، فمثلاً: الشيوعية تحاول أن تدعي شيئاً من ذلك، ولكن لا وجود له.
أما المجتمعات الإسلامية فإن الرجل قد لا يبالي لو ضاع منه عشرة أبناء، ولكن لو فقدت منه ابنته يوماً واحداً، لاسوَّدت الدنيا في عينيه ولكأنها قامت القيامة.
ثم يؤتى إلى هذا المجتمع ويقال للمرأة فيه: تكتلي أيتها المرأة، طالبي بحقك، اخرجي، لماذا الرجال لديهم المناصب والجامعات؟! لماذا لديهم الوظائف الفلانية؟! فأصبحت القضية قضية رجل وامرأة.
ولو نظرنا إلى مطالبة المرأة لحقوقها في الغرب -كما أشرت- فلا يوجد من تطالبه؛ لأنه ليس لها روابط، فلتطالب بحقوقها في هذه الحالة، أما في المجتمع المسلم، فإن الزوجة تطالب زوجها، والأخت تطالب أخاها، والأم تطالب ابنها، ثم تأتي كاتبة في جريدة تقول: لتنتصف لأمي مني، أو لزوجتي مني! فلنفرض أن امرأة تعمل، ثم إن مديرها ظلمها، هل يمكن أن يقال: إن مديرها ظلمها، لأنه ذكر وهي أنثى؟! إن هذا لا يخطر إلا على عقول المجانين، فالمسألة ليست كذلك، فهو قد يظلمها، والظلم الإداري قد يقع على الرجل أو على المرأة؛ ولو وقع الظلم، فإن الذي ينتصف لها هو رجل آخر كالأخ، أو الزوج، أو الأب.
وهناك مثال آخر وهو: أن رجلاً تزوج زوجتين، فظلم الأولى منهما -كما يحدث غالباً-فيقولون: الرجل ظالم! ولو تأملنا من هو الظالم؟ هل هو الرجل أم الزوجة الثانية؟ لعلمنا أن القضية ليست قضية رجل فقط، ولكن القضية أن الظلم من شيم النفوس، كما يقول المتنبي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لم يظلم
نحن نقول: إن لم يوجد التقوى فلا بد من الظلم؛ لأن الذي يحجز الإنسان عن الظلم هو التقوى، ولن يحجزه عنها كاتب في جريدة.(35/5)
محاولة إفساد المرأة
أثيرت قضية المرأة كما أشرت بغرض الإفساد وللإفساد فقط، ولهذا يأتون إلى أحكام قطعية مما يتعلق بالمرأة، كحكم خروجها من البيت لغير حاجة ولا ضرورة، فيجعلونه على أحسن الأحوال -إن لم يطالبوا بالخروج- موضع تساؤل ونقاش فيقال: ما رأيكم؟ هل ترون أن المرأة تخرج أو لا تخرج؟ وهكذا.
وكأننا كالغرب الأمة الضائعة التي لا تسنُّ فيها القوانين إلا عن طريق استطلاع الآراء العامة.
فيأتون إلى الناس في مسألة تعدد الزوجات -مثلاً- ويجرون مقابلة مع رياضي، أو مع فلاح، أو مع رجل كبير في السن يحدثهم عما قبل خمسين أو سبعين سنة، فيقال لهم: ما رأيكم في تعدد الزوجات؟ وربما يجعلون العنوان الرئيسي (فلان تزوج اثنتين) أو (لم أتزوج إلا واحدة) ومن العجب أن يكون هذا عنوان عريض في بلد الإسلام، وما الغرابة في أن يتزوج الرجل اثنتين أو ثلاثاً أو واحدةً، ولكن لأن لهذا الأمر أهميته في الغرب أتوا به إلينا.
وهذه القضية كثيراً ما تثار، وليس في دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما يحرِّم أن يتزوج الرجل من زوجتين أو أكثر، أقصد بدين الله الذي أنزله على أنبيائه ورسله، وليس فقط دين الإسلام؛ فإن دين الأنبياء جميعهم في التوحيد واحد، ولكن الشرائع تختلف.
وأما مسألة تعدد الزوجات فكانت موجودة حتى في الشرائع السابقة، فهي موجودة في التوراة، فقد ذكر في التوراة أنه كان لدى سليمان -عليه السلام- سبعمائة امرأة، والمسيح عليه السلام لم يتزوج، ولكن لأنه كثيراً من الأنبياء جمعوا بين زوجتين فأكثر فإن ذلك يدل على وجود التعدد في الشرائع كلها، بل إن مما يتعجب له، أن الكنيسة الباباوية - الكاثوليكية - قالت: لم لا نتراجع عن النظر إلى الزواج في إفريقيا بالذات؟ لأن الأفارقة -بطبيعتهم- يحبون التعدد؛ فإذا علموا أننا نحرم التعدد، لم يدخلوا في النصرانية!!! فنقول: إن كان هذا من دين الله الذي أنزل، فلماذا تجانبون شرع الله؟ وإن كان هذا مما لم يشرعه الله، فيجب عليكم ألا تفعلوا؛ وذلك لأنهم ليس لديهم قاعدة مطردة في هذا، إنما يشرعون من عند أنفسهم لمصلحة الشهوة والهوى.
فأتوا إلى المجتمعات الإسلامية -كما قلت- وأفسدوها بالمجلات النسائية التي لا تتحدث إلا عن هذه القضية، وأفسدوها بالأفلام، وتجد أن المرأة لها دور أساسي من أول المسلسل إلى آخره، والغالب -كما يلاحظ- في المسلسلات أن موضوعها واحد ومكرر، فيجعلون لكل رجل امرأتين: إحداهما زوجة، والأخرى عشيقة، وفي الأخير تنتصر العشيقة دائمة، ويقولون: لو وضعوها زوجتين لما نجح الفيلم، ولا المسلسل، ولم يستقم الموضوع، فلا بد أن يوضعوا حلال وحرام، وفي النهاية ينتصر الحرام.
فهناك تخطيط، وإفساد متعمد، منذ أن جاءت حملة نابليون إلى العالم الإسلامي، وجاءت ببغاياها ورفعت شأن البغايا اللاتي كن موجودات ومروراً بالنوادي والصالونات إلى ثورة سعد زغلول عام (1919م)، وخروج المرأة وقولهم: إنها تحررت، إلى الجمعيات التي أنشئت، والأحزاب النسائية التي أسست.
وقد نشر هذا مؤخراً مع كثير من الوثائق، بأن حزب فتاة النيل، وحزب آخر من الأحزاب النسائية في مصر، كانت تشرف عليها وتمولها زوجة الرئيس الأمريكي روزفلت، وأما هدى شعراوي، وسيزا نبراوي ونظيراتهن، فهن من أعضاء الاتحاد العالمي النسائي، الذي كان يخطط لإفساد المرأة المسلمة -ولا يزال إلى الآن- ولن نتكلم أكثر من هذا، لأنها بمثابة كلمة للمداولة والمناقشة في كيفية مواجهة هذا الغزو وهذه الهجمات الخبيثة التي اقتحمت علينا بيوتنا، والتي لا يصح بأي حال من الأحوال أن نَغَضَّ الطرفَ عنها، وندفن رءوسنا في الرمال؛ ولأنها قضية يجب أن يكون لكل أب وأخ، ولكل مسلم ومسلمة موقِفُهُ، منها الذي يَصدق فيه مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والذي يعمَل فيه جاهداً من أجل أن يحق الحق الذي أنزله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويبطل الباطل الذي يريد أولئك أن يروجوه.(35/6)
الأسئلة(35/7)
دور الشباب في إيجاد المرأة المسلمة
السؤال
ما هو دورنا نحن الشباب في إيجاد المرأة المسلمة التي تقوم بدورها في بناء المجتمع؟
الجواب
دور الشباب أن يتزوجوا الفتاة الصالحة، ويكوِّنوا الأسرة الصالحة، وأن يقوموا بالدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في بيوتهم، وفي حدود ما يستطيعون من إيصال الحق إلى المرأة.
وقد هيأ الله لنا من وسائل إيصال الحق إلى كل بيت ما لم يكن فيما مضى، فلنجعل للمرأة جزءاً من اهتماماتنا وندعوهن إلى الله، وكما قلت وأكرر: لا انفصام -أصلاً- بين المرأة والرجل، ولا بين الذكر والأنثى، وإنما ندعوهن إلى الله بالوسائل الشرعية المعروفة، وفي حدود ما نستطيع من هذه الوسائل.
ويجب علينا أن ننشر الوعي في مدارسهن وأقسامهن في الجامعات، عن طريق الكتاب أو الأشرطة أو المحاضرات، حتى يعرفن أن لهن دوراً عظيماً يجب عليهنَّ أن يحققنه.(35/8)
حكم كشف الوجه للمرأة
السؤال
هل كشف الوجه واليدين في المرأة من الحجاب الإسلامي؟
الجواب
إنني لن أحدثكم عن كشف الوجه واليدين بسرد الأدلة من الكتاب والسنة، وإنما سوف أناقشكم أو أسألكم بأمر، تعرفون من خلاله الحكم في ذلك، ولا سيما وأنتم تعرفون أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنما شرع هذا الدين -وبالذات الأحكام والآداب- من أجل الطهارة، والتزكية للنفوس والقلوب.
فنسأل ونقول: ما هو الشيء الذي يتغزل فيه الشعراء ويتغنى به المجَّان من المرأة؟ أهو وجهها أم أقدامها؟! ومن نظر إلى دواوين الشعر من الجاهلية إلى الإسلام -وحتى هذا العصر- فسيجد القصائد الغزلية -كما تسمى- وأحياناًَ كل قصيدة، كما قال المتنبي:
فهل كل من قال المديح متيم
ومن أي قصيدة حتى في المديح فسيجد فيها عشرة أبيات -على الأقل- في المرأة، وفي وصف العينين والخد، وأحياناً في وصف الخصر والرجلين، لكن الأصل في القصيدة هو وصف الوجه؛ لأنه محط النظر، ولذلك تجد اللقطات الخبيثة الفاجرة، التي يأتي بها هؤلاء الذين يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا فيعرضونها في الأفلام وفي المجلات، ولكن الذي يهمهم أن يبرزوه وأن يفتنوا به الناس هو الوجه، ولا نقصد -بطبيعة الحال- العورة، لكن نقصد الشعر والعيون والشفتين والأنف وما أشبه ذلك وكلها في الوجه.
فهذا هو موضع الفتنة، فهل يظن أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما شرع الطهارة والعفة والحجاب للمسلمات، لتستر المرأة شعرها ونحرها ورجليها، ويبقى موضع الفتنة؟! وأنا قلت لكم: إنني لن أذكر الأحاديث الصحيحة لأنكم تعلمونها، لكن أعرج على حديث واحد -فقط- لتعرفوا هذا الحكم، وهذا الحديث في صحيح البخاري في أكثر من موضع، وكذلك في غيره: {خرجت أم المؤمنين سودة في الليل لقضاء حاجتها، فرآها عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد نزول الحجاب فقال: قد عرفناك يا سودة، فانكفأت وانصرفت رضي الله عنها ولم تقض حاجتها، وجاءت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي يده عرق من اللحم يتعشى، فسألته عن ذلك: فتغشى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرحضاء، فلما أفاق منه قال: إن الله قد أذن لكُنَّ أن تخرجن لحاجتكن}.
ومن تأمل كيفية فهم الصحابة للحجاب، يجد أن الصحابة كانوا يظنون أن الحجاب معناه ألا تُعرف المرأة أبداً ولو من بعيد، فأذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن تخرج المرأة لحاجتها وإن عرفت، فليس الغرض أن تعرف أو لا تعرف، والتفسير الصحيح لقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] هو أن المرأة إذا كانت نحيفة، فقد تكون جميلة في عيون بعض الناس، لكنها لا تستطيع أن تخفي ضعفها إذا خرجت لضرورة، وأما إذا كانت سمينة -وبعض الناس والعرب عموماً يعجبهم أن تكون المرأة سمينة- فإنه مهما تحجبت يظهر أنها سمينة فتفتن، فهذا مما ظهر منها، ولا تملك أن تخفي سمنها، فهذا الذي عفي عنه للمرأة.
والمقصود: أن الصحابة فهموا من الحجاب ألا تُعرف المرأة، فلو أن المرأة لا تغطي وجهها، هل يحتاج أن يقال عرفناك؟! لو قيل ذلك لاعتبر من العبث في القول، لأن الإنسان إنما يعرف بوجهه، وهذا أحد الأدلة، بالإضافة إلى أن معنى الخمار نفسه في لغة العرب: هو ما كان مرادفاً للنصيف وهو ما خمر وستر وغطى، والنصيف في لغة العرب، ما يغطي النصف الأعلى من الجسم، كما جاء في الحديث الصحيح من قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وصف الحور العين: {نصيفها على رأسها خير من الدنيا وما عليها}.
فمن ناحية الأدلة الشرعية، ومن حيث الوضع والعرف المشاهد والحس، ومن حيث اللغة نجد أنه لا بد أن تغطي المرأة وجهها وكفيها.(35/9)
حكم كشف المرأة نفسها للطبيب
السؤال
إن بعض النساء إذا مرضن يذهبن إلى الأطباء من الرجال فيكشفوا عليهن، فما حكم ذلك؟
الجواب
المشكلة ليست أن المرأة تضطر فتذهب إلى الطبيب، ولكن المشكلة أننا أمة مسلمة تعرف أحكام الحجاب، وتعرف قيمة المرأة، وتعرف ما يجب عليها من هذه الأحكام، ومع ذلك لا يوجد في البلاد الإسلامية مستشفيات عامة كبرى مخصصة للنساء.
فإذا وجد هذا الاختلاط في الغرب، فذلك دينهم وحياتهم؛ أما في أمة الإسلام فالمستشفيات موجودة ويعمل فيها الجنسان من الرجال والنساء فلم لا يكون لدينا مستشفيات كبرى خاصة بالمرأة، كما أن لدينا جامعات خاصة بهن؟! ولخطورة هذا الجانب تجد أن بعض الناس يضطر إلى أن يذهب بأهله إلى طبيبة، وإن كانت عامة غير متخصصة، لكيلا يذهب إلى طبيب، وقد يضطر للذهاب إلى الطبيب، وعليه فإنه يجوز أن تكشف المرأة للطبيب عند الضرورة.
ولكن لماذا نلجئ أنفسنا إلى ضرورة نحن افتعلناها، وصنعناها، ولماذا لا توجد مستشفيات مستقلة ومتخصصة؟ هذا الذي يجب أن نسعى إلى إيجاده.
أين أغنياؤنا وأثرياؤنا وأموالنا التي تهدر في شراء المنتزهات في أوروبا وأمريكا؟! لماذا لا تستغل في هذا الشيء؟ والذي أتوقع وأجزم أنه سيحقق ربحاً كبيراً جداً؛ لأن مجتمعاتنا في جميع البلاد الإسلامية، رغم ما فيها من انحراف، فإن الرجل لا يريد أن يكشف على زوجته -وبالذات على عورتها- إلا امرأة.
ولكن هذا من جوانب التقصير، وما أكثر جوانب التقصير في حياة الأمة الإسلامية!(35/10)
إنشاء مصنع نسائي
السؤال
نسمع في الجرائد رغبة بعض النساء والرجال في إنشاء مصنع نسائي، فما رأيكم في هذا؟
الجواب
أنا قرأت في إحدى الجرائد خبراً غريباً أنه يوجد عندنا مصانع تملكها نساء، ولماذا لا تكون العاملات فيها من النساء؟ فتعجبت وضحكت وقلت: سبحان الله! غريب أن يوجد عندنا مصانع تملكها نساء، وغريب أن المرأة تملك مصانع حتى ولو كانت في أوروبا؛ لأن القوانين -كما أشرت- تمنع ذلك، ولكن نحن لو مات عندنا رجل من كبار الأثرياء وترك بنتاً وابناً، فنصيب البنت الثلث من التركة، ولو كان نصيب البنت الثلث مصنعاً، فليس هذا غريباً أن ترث البنت مصنعاً، أو أن تملك مصنعاً، أو أن تملك أراضي، أو تملك عقاراً، فهذا لا إشكال فيه بالنسبة للملكية في الإسلام.
لكن قالوا: ما دامت بعض النساء تملك مصانع، فلتكن نسائية جميعاً، فالقضية ليست قضية أن المرأة تعمل في مصنع أو لا تعمل، إنما القضية أن نعلم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق المرأة لتكون مربية للأجيال، تنتج أعظم إنتاج وهو الرجال، ولعلي أستعرض لكم بعض الأمور -بإيجاز- وبالذات فيما يتعلق بالسكان: في جميع الدول الأوروبية تأخذ الأسرة إعانة من الحكومة مقابل كل وليد؛ فيأخذ الطفل الأول خمسين، والثاني سبعين، وإذا جاء الثالث تأخذ الأسرة مائة وعشرين، وفي إيطاليا التي تعتبر من الدول الفقيرة نسبياً في أوروبا تعطي إعانات مماثلة وأكثر، وأما فرنسا فإنها تدرس الموضوع على مستويات عظيمة لأن الأمة التي لا تنتج رجالاً فهي أمة عقيمة؛ لأن الشباب -الذي تراه اليوم- وإن كان عدده كما في أمريكا ثمانين مليوناً -فرضاً- فبعد عشرين أو ثلاثين سنة سيصبح الثمانين مليوناً هرمين لا شباباً.
ولذلك ففي أمريكا رفعوا سن التقاعد -لأنهم نظروا إلى أن الشباب قد تناقصوا- ليعمل الكبار أكثر وأيضاً- لأن خبرتهم أكثر، سبحان الله هذا في الغرب! ونحن -هنا- نقول: لماذا لا تتوظف المرأة؟! وتتخرج الفتيات، فيكتبن في الصحف: لماذا لا تتوظف الفتيات ولا تجد من يكتب: لماذا لا يتزوجن؟ فمثلاً: إذا تخرج خمسون ألفاً -كما يقال- أو أربعون ألفاً، فإن عشرين ألفاً هم الخريجون من الذكور وعشرين ألفاً هن الخريجات من الإناث، ولا يوجد إلا عشرين ألف وظيفة، فما هو الحل؟ الحل أن نزوج العشرين الألف من الذكور بالعشرين الألف من الإناث، ونوظف الرجال، وانتهت المشكلة.
أما أن نوظف خمسة عشر ألف بنت وخمسة عشر ألف شاب، ويبقى عندنا خمسة آلاف امرأة قاعدات يأتين بالمصائب في البلد، وخمسة آلاف رجل عاطل يأتون لنا بالمصائب.
فكل مخالفة لأمر الله، لا بد أن ندفع ثمنها من أمننا ومن راحتنا، ومن استقرارنا ومن كل شيء، وكل طاعة لله تحقق لنا -بإذن الله- الخير والسعادة والرفاهية في الدنيا والآخرة.
فالمرأة إذا تخرجت من الجامعة وعمرها عشرون سنة فعملت؛ فإنها بعد عشرين سنة تصبح هرمة، وعطاؤها في العشرين سنة لا يعادل عطاء رجل مهما كان؛ لأن عندها آلام الدورة الشهرية، وعندها من الكبت والمشاكل الكثير، لكن لو أنها تزوجت لأصبح عندنا بعد عشرين سنة، شاب منها عمره ثمانية عشر سنة، والآخر بعده عمره خمسة عشر، وبعده ثلاثة عشر، وبعده عشر، وبعده ثمان إلخ، ولأصبح عندنا جيش من العاملين، ثم إن أولئك يتزوجون فينتجون -أيضاً- وهؤلاء يعملون وفي الجانب الآخر ينتجون رجالاً، فتستمر الأمة شابة فتية.
لكن الغرب هذا حاله، ولو فعلنا مثلما فعل، لأصبح حالنا كذلك، فسوف نستورد الأيدي العاملة من الرجال من أجل أن نخرج النساء.
وأما استيراد النساء، فالأدهى أن تُستورد المربية والخادمة من أجل أن تعمل وتتوظف المرأة، ثم تتقطع العلاقات بين الرجل والمرأة؛ لأن المرأة تعاني من حالات نفسية في العمل، وأيضاً- تنقطع العلاقات بين المرأة والأبناء؛ لأن الأبناء ربتهم الخادمات، فلم يعرفوا هذه الأم، فتكون التربية مختلة وفاسدة ومنحطة -غالباً- وذلك من أجل دريهمات معدودة أو من أجل الاستجابة لدعاة الشر، فمن أجل عمل المرأة، خسرنا المجتمع كله.(35/11)
النساء ناقصات عقل ودين
السؤال
فضيلة الشيخ: نريد منكم أن توضحوا مقولة: (النساء ناقصات عقل ودين)؟
الجواب
قد وضحها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنفسه من الحديث {ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب الرجل الحازم منكن} ثم وضحه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: {أما نقصان عقلها فلأن شهادة المرأتين كشهادة الرجل} كما قال تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة:282] فهذه هو نقصان عقلها، أي: إذا أدت شهادة، وأما نقصان دينها فإن مذهب أهل السنة والجماعة أن الدين قول وعمل، فأعمال الجوارح من الدين كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُم} [البقرة:143] أي: ليضيع صلاتكم إلى بيت المقدس، فإيمانها ناقص؛ لأنه قد يمضي عليها عشرة أيام أو سبعة أيام من الشهر ولا تصلي؛ وبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك بقوله: {فإنها إذا حاضت لم تصم ولم تصل} فهذا نقصان دينها وذاك نقصان عقلها، ولا حاجة لتفسير أحد من الناس بعد تفسيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(35/12)
نصيحة لباعة المجلات
السؤال
كيف ننصح الذين يبيعون المجلات التي تحتوي مقدمتها على صور نساء خليعة؟
الجواب
ننصحهم كما ننصح غيرهم، كما أمر الله تعالى بقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104] هذا من أعظم المنكر؛ لأنه منكر ظاهر، والحمد لله فإنه قد منع ثلاث وعشرون مجلة من هذه المجلات الخبيثة، وبقي الكثير فنرجو من الله تعالى أن يوفق المسئولين للتنبه إلى ذلك.
لكن واجبنا -نحن- أن نبين لصاحب البقالة أو المكتبة أو المحل الذي يبيع هذه المجلات فنبين لهم أخطارها وأضرارها وأن بيعها حرام، ولا سيما المجلات المتخصصة في هذا الشأن، فلا شك في حرمتها لأن غرضها المتاجرة بالشهوات -فقط- وأن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، والحمد لله أن ربحها محدود، ولو سألت أي صاحب محل، فسيقول لك: الربح في هذه المجلة قرشين، وفي الآخرى نصف ريال، سبحان الله! فلماذا تحرصون عليها وربحها محدود؟! فنأخذهم بالحكمة وباللين، ونبين لهم خطرها وضررها، ونرجو أن الذي منع تلك أن يمنع الباقي، فلعلهم يهتدون ولعلهم يرجعون.
وكذلك نبين للمشتري إذا رأيناه يشتري أو من رأيناه قد اشترى، أو من نتوقع أن يشتريها، نبين له خطرها وضررها، وكذلك الأفلام وكل ما أشبهها من وسائل الفساد.(35/13)
حكمة توريث المرأة نصف الرجل
السؤال
لماذا تأخذ المرأة نصف الرجل في الإرث؟
الجواب
إن كان يراد من جهة السؤال سؤال الله عز وجل عن ذلك، فإن هذا حكم أنزله الله، والله تعالى {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ولا أظن أحداً منكم يقصد ذلك، لكن لا بد أن نوضح ونعلم أن الله لا يسأل لماذا على سبيل معرفة السبب أو المحاجة أو المعاندة لله عز وجل، فلا اعتراض على أمر الله، ولكن هل في ذلك حكمة نتلمسها، نقول: نعم، الحكمة ظاهرة وجلية.
فالرجل يجب عليه أن ينفق على المرأة لأن الرجل قوَّام، كما قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] فهو القوَّام وهو المنفق، وإن لم ينفق على أخته، أخذ الثلثين وأخذت الثلث، لأنه سيتزوج وينفق على أسرته من الثلثين، وهي إن تزوجت فسيأتي من ينفق عليها وعندها الثلث، فهذا هذا هو غاية العدل.
لكن كيف لو كان الميراث سواء -كما في غير دين الإسلام- ثم تزوج الرجل -الأخ- لأصبح ينفق على عشرة أطفال وأمهم أو ثمانية أو خمسة، وهي تزوجت وينفق عليها زوجها وفي نفس الوقت لديها هذا الرصيد الكبير، فنقول: هذا ليس من العدل.
فتقسيم الميراث شرع أحكم الحاكمين، وليس شريعة نابليون ولا شرائع المجرمين المضلين من الطواغيت الذين اتخذهم الناس أرباباً من دون الله، لما شرعوا لهم هذه القوانين الوضعية.(35/14)
دور الشباب تجاه تبرج النساء في الأسواق
السؤال
رأينا كثيراً من النساء في الأسواق متبرجات، فما دور المسلم تجاه ذلك؟
الجواب
المتبرجات، هن أخوات أو بنات أو أمهات أو جارات أو قريبات للرجال، والواجب هو علينا جميعاً بأن نتعاون على البر والتقوى، فنحن كمجتمع وكأفراد، يجب علينا أن نقوم بواجبنا، وكذلك على ولي الأمر -المسئول من الهيئة أو غيرها- أن يقوم بواجبه وهو الردع، وكذلك على أصحاب المحلات أن يقوموا بواجبهم، وأن يتقوا الله عز وجل فلا يفتحوا المجال لهؤلاء النساء، فلا بد أن يحاصر كل منكر ينتشر في المجتمع من جميع الجهات، فلا تكفي جهة واحدة، ولا يكفي أن تقف الهيئة في السوق فتمنع المتبرجات، والبيوت تقذف بهن إلى الخارج، بل يجب أن يمنعن من البيوت ويمنعن في الأسواق، ويجب أن تمنع البضائع التي يتهافتن عليها كما يتهافت الذباب، وذلك لأن المرأة بطبيعتها تحب الحلية كما قال تعال: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18].
فلماذا نفتح المجال لأن تصبح أكثر الدكاكين والمحلات في بلادنا محلات للأزياء كأزياء باريس، أو أزياء بانكوك، أو إيطاليا، وألمانيا وفرنسا؟ مع أن أكثرها لا يليق بنا.
وأنا أتعجب حتى عندما أرى الصغار -ولا تنظروا إلى الكبار- كيف يُنَشَّأْنَ على ذلك، فترى في المسجد الحرام فتيات صغيرات بتقبيعات أمريكية وفرنسية كما نرى في الشارع الأوروبي وهُنَّ في الحرم!! والأم متحجبة لكن البنت تنشَّأ على هذا، فمن أين جاءتنا هذه التقبيعات وهذه الصرعات؟! إنما جاءتنا من جهلنا بديننا؛ ولأننا فتحنا قلوبنا ومجتمعنا للغزو، فغزونا هم، وأتوا إلينا، فيجب أن نحصن أنفسنا ومجتمعنا.(35/15)
منع مفاسد التلفزيون عن المرأة
السؤال
ما هي الطريقة المثلى التي يستطيع بها الشاب المسلم منع المشاهد المعروضة في التلفزيون، والتي تسبب فساد المرأة؟
الجواب
إن التربية الإسلامية لا تقوم في الأصل على المنع، وإنما تكون التربية على الإيمان، وتزكية النفس بالإيمان، فالرجل إذا زكى أسرته بتقوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ورغبهم في الآخرة، وبين لهم حكم من يعصي الله؛ وكيف يكون شقاؤه في الدنيا وعذابه في الآخرة، وجَعلَهم دعاةً وهداةً، يعلمون قيمة الطاعة وثمرتها وفضلها، وشر وسوء عاقبة المعصية، فحينئذ لا نحتاج إلى المنع إلا في حالات معينة.
فأول أساس نبدأ به هو التزكية والإصلاح.(35/16)
المؤامرة على الإسلام
الصراع بين الحق والباطل سنة كونية أزلية، وإن العداوة بينهما مستمرة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فما إن يظهر نور الحق والخير حتى تشرئب إليه أعناق الباطل والضلال محاولة إطفاء نوره وطمس آثاره.
وفي هذه المادة يتحدث الشيخ عن المؤامرات التي يحيكها أعداء الله لكيد الإسلام والمسلمين على مر العصور، مبيناً قدم هذا الصراع، وموقف الدولة الإسلامية في صدر الإسلام من هذا الصراع، والوسائل التي اتبعتها لإحباط مثل هذه المؤامرات.(36/1)
منشأ الصراع بين الحق والباطل
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن خير الحديث كلام الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار وبعد: المؤامرة على الإسلام قديمة قدم الحق والباطل، وكلكم تعلمون أول صراع نشأ بين الحق والباطل، وقد حدثنا الله -تبارك وتعالى- عنه في كتابه العزيز، وكان هذا الصراع منذ نشأة الجنس الإنساني، منذ أن خلق الله - تبارك وتعالى- آبانا آدم عليه السلام، وقام الشيطان بمعاداته، وكان الصراع بين الحق وبين الباطل، وأهبطوا إلى الأرض.
ومن هناك استؤنفت العداوة من جديد، وظهر منهجان متعارضان: نور وظلام، فحيثما فقد النور وجد الظلام، وكلما اشتد النور وقوي كلما ضعف الظلام أو اضمحل، ولابد أن يظهر أحدهما، ولا يمكن أن توجد حالة لا نور فيها ولا ظلام! أو لا حق فيها ولا باطل! ولا يمكن أن يوجد قلب بشري إلا وهو إما على حق وإما على باطل، ولا توجد أمة من الأمم إلا وهي إما على الحق وإما على الباطل، ولا توجد عقيدة من العقائد إلا وهي إما على الحق وإما على الباطل وهكذا إلى الأبد.
فهي عداوة أزلية كونية جعلها الله -تبارك وتعالى-.
وهي أيضاً مستمرة أبدية بين الحق وبين الباطل، وكلما قويت شوكة الحق؛ كلما كانت عداوة أهل الباطل أكثر، وتعاونهم أعظم لإبادته.(36/2)
ظهور الحق
وتعلمون أن أعظم ظهور للحق هو ما كان على يد سيد ولد آدم ورسول الله إلى العالمين كافة محمد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا النبي العظيم الذي أظهر الله -تبارك وتعالى- به الدين، ونصر به الأنبياء السابقين أجمعين، وأبان الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- برسالته أن كل من سبقه من الأنبياء ومن دعوات الحق؛ أنها فعلاً على الحق، وأن كل من عادى الحق؛ فإنه مخذول مرذول إلى أن تقوم الساعة.
هذا الرسول العظيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جرت عليه وعلى دعوته تلك السنّة الكونية -العداوة بين الحق وبين الباطل- أي أن أهل الباطل لم يقفوا مكتوفي الأيدي لمواجهة هذا الرسول ودينه الجديد الذي جاء به، بل حاربوه أشد الحرب وأشد الأذى مما تعلمونه جميعاً، آذوه واتهموه بأشنع التهم، وحاصروه في الشعب هو وأصحابه الكرام رضوان الله تعالى عليهم، بل أرادو قتله.
لم يتخلوا عن وسيلة يستطيعون أن يؤثروا بها عليه إلا استخدموها لكبت هذا الدين ولغمط هذا الحق، حتى الترغيب استخدموه: إن كان يريد ملكاً ملكناه! وإن كان يريد امرأة زوجناه! وإن كان مريضاً عالجناه! عرضوا عليه جوانب الترغيب مع جوانب الترهيب، كل ذلك ليطمسوا هذا النور الذي جاء به هذا النبي العظيم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتآمرت قوى الشر منذ عهده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك.(36/3)
أعداء الإسلام في العهد النبوي
وتعلمون جميعاً سيرته الزكية الطاهرة - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعلمون ما وقع في يوم الأحزاب ونقوله لأن السنة فيها أوضح الدروس والمثال فيها أظهر، واجتمعت الطوائف الشريرة الثلاث التي ما فتئت إلى يومنا هذا تكيد للإسلام، وهي هي التي تكيد له هذا اليوم، اجتمع حقد المشركين وتألب عباد الأصنام والمشركون من قريش وغطفان، ومن استجاب لهما من قبائل العرب، فجاءوا إلى المدينة، وتعاون معهم الحقد اليهودي والضغينة اليهودية التي تمثلت في بني قريظة، وتعاون معهم ما يسمى في العرف السياسي أو الحربي المعاصر -الطابور الخامس- ونعني به المنافقين الذين هم أعداء هذا الدين في كل زمان ومكان، والذين لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتخلص هذا الدين من عداوتهم بالكلية، ولكنه إذا ظهر وقوي خف أمرهم، وإذا ضعف أمره؛ ظهروا وأظهروا تعاونهم مع أعداء الله تبارك وتعالى.
والنفاق باب واسع، ضعوا تحته ما شئتم من فرق النفاق، ومن طوائف الضلال، وكل من انتسب إلى هذا الدين ظاهراً وهو يعمل لهدمه باطناً، ولكن الله تعالى أظهر دينه، وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده، وكفى الله المؤمنين القتال.
ولكن أعداء الله لم يسكتوا إلى الأبد، بل استمرت السنة الكونية، فبعد أن أظهر الله -تعالى- نبيه ودينه في جزيرة العرب أجمع، حتى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاد الجيش بنفسه إلى تبوك لمنازلة أعظم قوى الأرض وهي الامبراطورية الرومانية، وقبض رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ما أكمل الله له الدين، وأقام به الحجة، وترك خلفه الرجال الذين تربوا بتربيته النبوية الكريمة الطاهرة، وزكاهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتربية القرآنية، وأصبحوا أهلاً لأن يحملوا هذا الدين وأن ينشروه للعالمين، وحدثت المؤامرة وبرزت رءوسها من جديد بوفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ حصلت ردة جماعية، ونجم النفاق والكفر، وظهر من جديد في جزيرة العرب، ولم يبق على الإسلام إلا المدينة ومكة والطائف وبنو عبد القيس في البحرين وبعض القبائل، وظهر المتنبئون الكذابون، وظهرت العداوات والأحقاد الكامنة في قلوب كثير من الناس، والضغائن التي لم يخفها إلا الخوف من قوة الإسلام وبطشه.(36/4)
جهود الخلفاء الراشدين في ردع الحاقدين على الإسلام وأهله
وقاد الصديق -رضي الله عنه- الحرب من جديد، وخرج أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المدينة بجيوش متعددة، كل منها إلى جهة من الجهات، ونصرها الله -عز وجل- وأخضعت تلك القبائل والمناطق جميعاً، ولم تقف عند ذلك، بل انطلقت شرقاً إلى الامبراطورية الفارسية، وغرباً إلى الامبراطورية الرومانية.
وجاء الفاروق عمر رضي الله عنه فأكمل فتح البلاد، وكان مما عمله ذلك العمل الجليل العظيم وهو من أجل أعمال الفاروق -رضي الله عنه- أنه أجلى يهود خيبر لما رأى منهم العداوات والضغائن، فأجلاهم إلى أطراف الشام وإلى حيث شاءوا.
وهنا بدأ المكر يتجمع من جديد، فإن هذا الدين الذي نشره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على أيدي هؤلاء الرجال؛ قد قوض الشرك وأقام لواء التوحيد، وهدم البدع والضلالات والخرافات، وأقام السنّة على المحجة البيضاء، وهدم عروش الظلم والطغيان والفساد، وأقام حكم الله عز وجل حكم العدل والإنصاف، وهدم مجد طواغيت الشر في العالم، من القياصرة والأكاسرة، ومن دجاجلة الأديان وكهنوتها، الذين كانوا يفرضون على الناس باسم الدين التحكم في أموالهم وأعراضهم، بل وفي قلوبهم، فيملون عليهم مايريدون أن يعتقدوه.
وهدم العقائد جميعاً: اليهودية والنصرانية والمجوسية وهي أشهر وأوضع العقائد، وما تفرع عنها، وهنا كان لابد أن تكون المؤامرة، ولابد أن تتحرك الأفاعي الشريرة في الظلام، وكان مقتل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه بيد أعداء الإسلام، وأعداء الدين أولئك يرتكبون خطأ يكررونه دائماً ولا يتعظون منه، فهم يظنون أن هذا الدين مرتبط بشخص ما، قالوا: إذا قتلنا محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذهب الدين، ولهذا وضعت اليهودية له السم -كما في الحديث الصحيح- وظنوا أنه إذا مات سيموت دينه، بعد ما حاولت بنو النضير اغتياله، وغير ذلك من المحاولات.
ولما أن فتحت تلك البلاد في عهد الفاروق عمر، ظن أعداء الإسلام من فرس وروم ويهود ونصارى ومجوس وجميع تلك النحل أنه إذا قتل الفاروق انتهى الدين، وهكذا دائماً، كل من يرونه يحمل لواء الدين ولواء السنة يظنون أنه إذا حورب في ذاته انتهى الأمر، ونحن نعلم جميعاً أن هذا النظر خاطئ تماماً، إن الأمر أمر الله عز وجل والدين دينه عز وجل وماهؤلاء الرجال إلا أناس اصطفاهم الله تعالى بالقيام بأمر دينه، فهم ينالون الشهادة، ويخلف الله بعدهم من يقوم بهذا الدين، لأنه قد وعد سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أهل دينه، وتوعد أعداءه بأن يظهر هذا الدين على الدين كله ولو كره المشركون ولو كره الكافرون.(36/5)
مقتل الفاروق عمر رضي الله عنه
فكيف قتل الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ الثابت في مقتله أنه كان بمؤامرة مجوسية نصرانية، ويقال إن لليهود ضلعاً في ذلك، ولكن الثابت أن جفنة النصراني شاهده بعض الصحابة هو وأبا لؤلؤة المجوسي، الذي تولى عملية القتل، رأوهما ليلة اغتيال الفاروق وهما واقفان في الظلام، ولم يشعرا إلا وهؤلاء الناس يمرون عليهما، فسقط من بين أيديهما نصل عريض له حدان.
وفي صباح تلك الليلة يغتال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإذا بذلك النصل نفسه هو الذي نفذ الجريمة الشنعاء في أمير المؤمنين رضي الله عنه وبضعة عشر نفراً من الصحابة في الصلاة، طعنهم هذا الفاجر المجرم يميناً وشمالاً لكي يهرب، فمنهم من استشهد ومنهم من جرح وأصيب، وكانت هذه مؤامرة، وكان هناك طرف ثالث هو الذي حرك أبا لؤلؤة وهو الهرمزان وكان ملكاً من ملوك الفرس، جيء به إلى المدينة فأظهر الإسلام، وأراد أن يهدمه، وهو الذي لقن أبا لؤلؤة المجوسي، واتفق معه على مقتل الفاروق رضي الله عنه ولهذا قتل الهرمزان فوراً حال مقتل الفاروق رضي الله عنه.(36/6)
الفتوحات في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان
فإذاً المؤامرة أرادت بقتل عمر رضي الله عنه أن يزول الإسلام وأن يمزق شمله.
ولكن الذي حصل أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جمع الأمة من جديد، وفتح في عهد عثمان رضي الله عنه -وهو الخليفة الراشد الثالث- فتحت من بلاد المجوس -هؤلاء- أفاقاً وبلاداً بعيدة حتى وصلت الفتوحات إلى قريب من بلاد ما وراء النهر، مما زاد الضغينة وزاد الحقد في قلوب أولئك الكفرة ضد الإسلام.(36/7)
عبد الله بن سبأ اليهودي ومشابهته لبولس
وحينئذٍ ظهر عبد الله بن سبأ الذي حذر عنه الإمامُ الشعبيُّ رحمه الله مالكَ بنَ مغول كما ذكر ذلك ونقله شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله في أول كتابه منهاج السنة النبوية.
ظهر ذلك الرجل اليهودي الماكر وقد سمى نفسه: عبد الله بن سبأ، والذي أراد أن يهدم دين الإسلام كما هدم بولس دين النصرانية.
مختصر قصة بولس أنه رجل يهودي، كان يعذب النصارى أتباع المسيح عيسى -عليه السلام- تعذيباً شديداً، فلما رأى أن تعذيبهم لا يزيدهم إلا إيماناً!! قال: لا بد من حيلة، فتحايل عليهم بالمكر اليهودي المعروف، وقال: إني كنت ذاهباً إلى دمشق وإذا بصوت يناديني من السماء، ويقول أنا: المسيح، أنا ابن الله، أنا كذا، لماذا تضطهد شعبي، ولماذا تضطهد أهل ملتي؟ ادخل في ديني، فقال: أنا دخلت الآن وأصبحت في دين المسيح، ودخل في دينهم، وأخذ يهدم دينهم من الداخل، فقال: إن المسيح إله، وقال: إنه ابن الله، وأمثال ذلك من الكفر، حتى خرب دين النصارى.
وهكذا عبد الله بن سبأ هو الذي قام بدور بولس في هذا الدين، كما أثبت ذلك الشعبي وبينه من بعده، وأضافوا إليه، ثم -أيضاً- شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وضحه، والتاريخ واضح في ذلك، عبد الله بن سبأ هذا: تآمر مع غيره؛ فخرجت في آن واحد رءوس الشر، جاءوا من مصر والكوفة واليمن، وجاءوا من عدة جهات إلى المدينة النبوية إلى حيث الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه، وما زلوا يتآمرون عليه -كما هو معلوم في التاريخ- حتى قتلوه رضي الله عنه.(36/8)
خلافة علي بن أبي طالب وما فعله اليهودي عبد الله بن سبأ
وبعد ذلك لما تولى الخلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه دخل عبد الله بن سبأ في جيشه هو وأصحابه، وأظهروا أنهم يحبون عليّاً، وأنهم يريدون أن يعطوه حقه وقدره الذي هضمه وظلمه الثلاثة الخلفاء الراشدون الأولون، وهذا هو المدخل الذي أرادوا منه أن يشعلوا الفتنة، وكانت معركة الجمل، وقد ثبت أن من قتل فيها من كبار الصحابة كـ طلحة والزبير إنما كانت تلك الفتنة وتلك المعركة بتحريش من السبئية من أصحاب الفتنة، أمثال هذا الرجل.
ثم لما أن ظهر أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- على الكوفة وعلى العراق جاء أولئك وأخذوا يبثون في صفوف أتباعه تلك العقيدة، وحصل من بعضهم ما عرف وكشف وهو أنهم جاءوا إليه رضي الله عنه وهو خارج، فلما رأوه سجدوا له، وقالوا: أنت هو؟! قال: من هو؟ قالوا: أنت الله!! يقولون هذا لـ علي رضي الله عنه فتعجب كيف يوجد مسلم أو إنسان يظن أن الله هو أحد البشر!! فغضب وأمر أن تحفر الحفر وأوقد فيها النيران وأحرقهم فيها، فلم ير لهم من عقوبة أزجر من ذلك، ولم ير أن يعاقبوا بأقل من ذلك، لشناعة وفضاعة ما يقول هؤلاء، كيف يعتقدون أنه إله! ثم أراد أن يقتل عبد الله بن سبأ ولكنه نفاه إلى بلاد فارس ليتقي شره، ولأنه خشي إذا قتله أن تثور الفتنة؛ لأن أصحاب الفتنة متوافرون في جيشه، وهو يريد أن ينهي الأمر مع أهل الشام، وحصل ما أراده الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لحكمة يعلمها، وهو أنه في تلك البقعة التقى الحقد اليهودي الذي يمثله عبد الله بن سبأ مع الحقد المجوسي الذي كان كامناً ومستقراً في قلوب أولئك، لأن الإسلام قد هدم ملكهم، وشل عروشهم، ومزق حضارتهم وبلادهم، وهم المجوس الفرس، وكما تعلمون أن اليهود يعيش منهم طائفة كبيرة في تلك البلاد، فمن علامات صدق نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وكل ما نراه من سيرته فهو دليل على صدقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه لا ينطق عن الهوى- أنه قال كما في الحديث الصحيح: {يتبع الدجال سبعون ألفاً من يهود أصفهان -أو أصبهان- عليهم الطيالسة} هذه المدينة فيها أكثرية يهودية وفيها أيضاً من نواح أخرى يهود، هؤلاء اليهود هم كهنة ذلك الدين الذي نشأ ليطعن دين الإسلام وليدمره تحت ستار التشيع.
فـ عبد الله بن سبأ وجد في الحقد المجوسي بغيته، وأخذ ينشر فيهم هذه العقيدة الضالة الفاسدة في علي بن أبي طالب رضي الله عنه لا حباً وتعظيماً لـ علي ولكن لغرض هدم الإسلام، ودخل هو واليهود الذين معه، وأدخلوا معهم هذه الأمة التي كانت جاهلة وحاقدة، إلا من اهتدى منهم.
ونحن لا نتكلم على من اهتدى، وقد اهتدى منهم كثير -ولله الحمد- لكن حصل أن هؤلاء جميعاً دخلوا في هذا الدين الذي يسمى دين التشيع، ومنذ ذلك الحين ابتدأت الأمة الإسلامية في حرب لا هوادة فيها مع هؤلاء المجوس المتسترين.
وعندما يريد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمراً فإنه يهيئ له أسبابه، وكان مما أراده الله سبحانه وتعالى أنه لما جيء ببنات كسرى سبايا فتزوج بعض آل البيت منهن، وكان من ذلك أن الحسين بن علي -رضي الله عنهما- تزوج إحداهن، وأنجبت له زين العابدين علي بن الحسين، فكان علي بن الحسين أمه فارسية بنت كسرى، وأبوه الحسين بن علي بن أبي طالب فكان هذا سبباً رئيسياً في أن يعتقد عوام هذه الأمة أنه فعلاً أحق الناس بالخلافة هم هؤلاء آل البيت، ولا يوجد عندهم خليفة أو إمام إلا وهو من ذرية هؤلاء.
يقولون: إن الإمام علي هو الأول، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، ثم من بعده من ذريته زيد بن علي بن الحسين إلى أن يصلوا إلى الإمام الحادي عشر الإمام الحسن العسكري، ثم الثاني عشر الذي اختفى في السرداب كما يزعمون، هذه الخرافة التي لا يصدقها عاقل لا في القديم ولا في الحديث.(36/9)
مؤامرة يهودية على الإسلام باسم آل البيت
وحصلت مؤامرة كبرى على الإسلام في القرن الأول، فخرج المختار بن أبي عبيد، وخرجت طوائف أخرى كثيرة بقصد تقويض هذا الدين، لكن تحت شعار أن هذا الحكم مغتصب لحق آل البيت، وكان آل البيت: محمد بن الحنفية كمثال، وهو محمد بن علي بن أبي طالب وسمي بـ ابن الحنفية تمييزاً له عن السبطين الحسن والحسين؛ لأنه ليس من ذرية فاطمة رضي الله عنها إنما هو ابن امرأة من بني حنيفة، وهو يعلن جهاراً نهاراً أن هؤلاء الذين يدعونني لست منهم في شيء، ولا أعرفهم، وليس لي أي صلة بهم، وتبرأ غيره كثير من أهل بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذين كانوا جزءاً من هذه الأمة الإسلامية، ولا يزالون -ولله الحمد- إلا من انحرف أو ضل؛ يتبرءون منهم وأولئك يعملون لهم.
واستمرت المؤامرة تحت شعار آخر، وهو لما قام العباسيون الأولون بمحاولة السيطرة على حكم بني أمية، وانتقال الخلافة من بني أمية إليهم، فدخل أولئك في خدمة بني العباس، وأرادوا أن يقيموها دولة عباسية، ويسمونها دولة بني العباس في الظاهر وتكون في الحقيقة دولة مجوسية.(36/10)
تنبه خلفاء بني العباس لمكر المجوس
وحصل أن قوض أبو مسلم الخراساني ملك بني أمية، فقام وأنشأ الدولة، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي تكفل ببقاء هذا الدين، وهو الذي وقف بالمرصاد لأعداء دينه، فيسر بأن تنبه خلفاء بني العباس لهذا الأمر.(36/11)
الخليفة أبو جعفر المنصور
فكان الخليفة أبو جعفر المنصور -الخليفة الداهية- فطناً ذكياً، فاستدعى أبا مسلم وقتله وقتل وفرق أتباعه، وأعاد الدولة على المنهج الصحيح، وكانت دولة سنَّية، ولم تكن كما أرادوا مجوسية تتستر بالتشيع.
فأخذ أولئك المجوس يكيدون من جديد للدخول في الدولة ولو من طريق آخر، فانتشرت في عهد المهدي الفتنة التي تعرفونها جميعاً وهي فتنة الزندقة، حيث كثرت الزندقة وانتشرت داخل الدولة العباسية، يريدون أن يقوضوا الإسلام! وأن يهدموا القرآن والسنة! ومما أوجدته الزندقة: وضع الحديث؛ فكانوا يضعون على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المئات والألوف من الأحاديث، وكان المهدي ثم الرشيد ومن بعدهما يقتلون أولئك الزنادقة ويحاربونهم.
ثم جاءت البرامكة وهم طائفة من المجوس فجاءوا من باب آخر، من باب الكرم، فكانوا ينفقون من مال بيت المسلمين ولا ينفقون من أموال كسرى، ولكن يتظاهرون بالكرم؛ فأغدقوا على الشعراء، وعلى أصحاب المصالح الدنيوية، والمطامع الرخيصة، أغدقوا عليهم الأموال، وأولئك يطرونهم ويثنون عليهم ويمجدونهم، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كان لهم بالمرصاد، حيث كشف نواياهم وخباياهم، حتى قال فيهم الشاعر:
إذا ذكر الشرك في مجلس أضاءت وجوه بني برمك
وإن تليت عندهم آية أتوا بالأحاديث عن مزدك
ومزدك هذا -المجوسي- هو الذي نشر الشيوعية في أيام الدولة الفارسية القديمة.(36/12)
الخليفة هارون الرشيد
ولما حج هارون الرشيد رحمه الله -وكان يحج سنة ويغزو سنة- وكان يرى هذه الطائفة، ويرى ما تعمل، وعرف خباياها ونواياها، حتى هيأ الله -تبارك وتعالى- في تلك الحجة أن اكتشفهم يقيناً، وذلك عندما قال له البرامكة: يا أمير المؤمنين إن هذا البيت معظم، وإن الخلفاء يعظمونه، وخير ما يخلد به اسمك في التاريخ أن تأتي بمجامر كبيرة، وتضعها حول الكعبة وتجعل فيها أفضل أنواع العود والروائح الطيبة، ولا تزال توقد -دائماً- فيكون لك من الذكر ومن الفخر ما لا يكون لأحد من الخلفاء، فشكرهم على هذا، وفطن للأمر وشاور فيه بعض العلماء، فقالوا: هذا رأي مجوسي -يا أمير المؤمنين- من نصحك وأشار عليك بهذا؟ هؤلاء مجوس يريدون أن تعود نار كسرى إلى بيت الله الحرام، ولكن تحت ستار المجامر والطيب والعود، فما إن عاد هارون الرشيد إلى بغداد حتى قضى على هذه الأسرة وأبادهم، وكفى الله تعالى شرهم.(36/13)
الفتن في عهد المأمون
ثم كان عهد المأمون، وكانت الفتنة من نوع آخر، حيث ابتلي المأمون بفتنة الاعتزال والتفلسف، ونتيجة لذلك كان العذاب الشديد على الأمة، التي منها -كما تعلمون- الإمام أحمد ومن معه، وكان من آثار ذلك على المأمون أنه أعلن الخلافة لـ علي الرضا -وهو من أئمة الرافضة الاثنى عشر كما يزعمون- فأراد أن ينقل الخلافة النهائية من بيت بني العباس إلى ذلك الرجل الذي يتستر أولئك القوم وراء الدعوة له وإلى خلافته، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أحبط كيدهم، وكان في تدبيرهم تدميراً لهم، وجاء النصر للسنة.
وظهر أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على يد المتوكل، وقضي على تلك الفئة واندحرت، وبعد ذلك النصر الذي حصل، وبعد وفاة الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- بحوالي أكثر من أربعين سنة، ظهرت في أطراف الكوفة الباطنية وظهر القرامطة الأولون، ولم ينتصف القرن الرابع حتى ملأ الرفض الدنيا شرقاً وغرباً، كما قال الإمام الذهبي رحمه الله.
فكانت الخلافة كما تسمى العبيدية الفاطمية تحكم بلاد المغرب ومصر، كما كان القرامطة يحكمون شمال الجزيرة العربية وشرقها، ويقطعون الطريق على الحجاج، وكان بنو بويه في بغداد وشرقي العالم الإسلامي وهم -أيضاً- من الرافضة.
ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أيضاً لم يجعل على أيديهم طمس هذا الدين، ولن يكون ذلك، وإنما استمرت الحرب سجالاً بينهم وبين المسلمين، على جميع المستويات الحربية والعلمية، حتى جاء أواخر القرن الخامس وجاء الصليبيون.
وبمجيء الصليبيين يدخل طرف ثالث خطير في المؤامرة على الإسلام، وذلك أن الصليبيين لما جاءوا كانت أهدافهم وأطماعهم متركزة حول بيت القدس، ومنه ستنطلق خططهم لهدم الإسلام والقضاء عليه.(36/14)
مكر الرافضة بالإسلام
فكان التواطؤ والتعاون بين الرافضة والباطنية، الذين كانوا يحكمون بلاد مصر والشام وبين الصليبيين، فسهلوا لهم دخول بيت القدس، ولم يكن بينهم أي حرب، وإنما دخلوه وانتهكوا حرمته، وقتلوا سبعين ألفاً من المسلمين حتى غاصت خيولهم في دماء المسلمين إلى الركب، واحتلوا القدس، وبقي في أيديهم وانتشروا في بلاد الشام، وكما يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية والذهبي وابن كثير وكل المؤرخين الثقات وعلماء الإسلام: كان التعاون الشديد والقوي بين هذه الطوائف: الباطنية والمجوسية وبين الصليبيين على أوضح وأجلى ما يكون.
ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أيضاً قد مكن للمسلمين فجاء صلاح الدين الأيوبي رحمه الله وكان صلاح الدين من فضل الله وتوفيقه له أنه فهم أصل القضية، وفهم من أين يبدأ الحل، وهذا هو الذي يجب على الأمة الإسلامية أن تعرفه دائماً، من أين تبدأ الحل في أي أزمة؟ جاء صلاح الدين والأمة الإسلامية يحكمها الصليبيون، ويحكمها هؤلاء الباطنيون الروافض المجوس، والخلافة في أشد ما تكون من الضعف، فمن أين يبدأ الإصلاح؟! بدأ صلاح الدين من النقطة الصحيحة وهي أن يجتمع المسلمون أهل السنة على العقيدة الصحيحة على الكتاب والسنة، وأن نطهر الصف الداخلي من المجرمين، ومن المنافقين، ومن أهل الضلالات، ثم ننطلق لمحاربة الأعداء الخارجيين، ثم بعد ذلك يكون النصر بإذن الله تعالى ولهذا ترك صلاح الدين الإمارات الصليبية في الشام وفلسطين، وذهب إلى بلاد مصر فقضى على الفاطميين -وهم في الأصل عبيديون- قضى على ملكهم، وقضى على رفضهم وتشيعهم، وأحل السنة محلها، ووحد الله به أكبر قوتين في العالم الإسلامي وهي قوة الشام شرقاً، ومصر وغرباً، فتوحدت الأمة الإسلامية على السنة، ثم انطلقت بعد ذلك فكان النصر المبين بفضل الله تعالى على الصليبيين.(36/15)
دور ابن العلقمي في سقوط بغداد
وفي أثنائها كان التتار قد بدءوا يغزون العالم الإسلامي من الشرق -كما تعلمون- وأخذوا يتقدمون ويزحفون إليه شبراً فشبراً، حتى شارفوا بغداد، وفي ذلك الوقت كان الخليفة هو المستعصم بالله، وكان وزيره من أولئك الروافض وهو المشهور بابن العلقمي، وكان أيضاً من كبار المقربين إليه أو الذين يسمون علماء الدولة، الذي يسمى الخواجة نصير الدين، وهو نصير الكفر الطوسي، كما يقول ذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وابن القيم، فاتفق ابن العلقمي وابن أبي الحديد وأمثالهم وذهبوا إلى هولاكو الوثني الزنديق، الذي لا يؤمن بأي دين ويعبد النار لأنه مجوسي واتفقوا معه على أن يدخل بغداد بالقوة، وزينوا له ذلك وهو يتردد ثم يتردد، حتى تم الصلح بينه وبين الخليفة وكأن الأمر قد عاد إلى وضع طبيعي لا حرب معه ولا شيء.
وإذا بأولئك المجرمين يخططون لمؤامرة كان منها أنهم فتحوا الأنهار والسدود على جيوش الخليفة المستعصم، فأغرقوهم بعد أن سرّحوا أكبر قدر منهم، وذهبوا في نفس الليلة إلى هولاكو، فقالوا له: إن ذلك الرجل قد ضعف، وإن ملكه قد ذهب، وإن جنوده قد غرقوا، وهذه من كراماتك فادخل إلى بغداد وأعمل فيها بالسيف، وكان أولئك -أعداء الله- يظنون أنه سيقظي على ملك أهل السنة، ثم يولِّيهم هم فيصبحوا هم الحكام.
إن أعدى عدو لهم هم أهل السنة والجماعة، هذا أعدى عدو لأهل المؤامرة قديماً وحديثاً، وتردد هولاكو وقال: بلغنا أن من أراق قطرة من دم أحد من آل محمد فإن ملكه يتمزق وينتثر، فقالوا: نحن نأتيك بالفتوى؛ تقتل الخليفة دون أن تراق قطرة واحدة من دمه، قالوا: نلفه في الخيش ونضربه بالهراوات حتى يموت، فوافقهم هولاكو، ودخل إلى بغداد فجأة، وقبض على بني العباس، أليسوا من آل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أين محبة آل البيت لمن يزعمون أنهم يريدون إعادة مجد آل البيت! أو حكم آل البيت! أو محبة آل البيت! حتى ذكر المؤرخون -كما في البداية والنهاية وغيره- أنه أخذ من بيت الخلافة ألف عذراء، أخذها أولئك الأنجاس المشركون الوثنيون، واغتصبوهن!! وكثير منهن من آل بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من بني العباس، وقتلوا الخليفة على الصفة وعلى الفتوى التي أفتاهم بها أولئك الروافض.
ثم انتهكوا حرمة بغداد وحصلت مذبحة عظيمة جدا، ً حتى أن أقل الأرقام التي قيلت في الذين قتلوا أنهم ثمانمائة ألف!! لأن بعضهم قالوا: أنهم مليونان (ألفي ألف).
ودخل الناس كما يقول المؤرخون ومنهم ابن الأثير وابن كثير، وحتى دخل الناس في الكنف في (المجاري تحت الأرض)، ليهربوا من سيف التتار فكان الوباء العظيم، حتى بعد أن انتهت المجزرة خرج أولئك فمنهم من مات، ومنهم من بقي على الحياة ثم خرج فكان من نتن الجيف الوباء الذي قضى على البقية، فكانت مذبحة على مذبحة ومصيبة على مصيبة، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كان لهم بالمرصاد أيضاً، فإنّ أولئك القوم أذلوا ابن العلقمي وأهانوه ولم يقدروا أنه فعل هذا الفعل، بل اعتبروه خائناً، وبعد بضعة أشهر فطس وذهب إلى حيث يستحق من عند الله عز وجل وكذلك فُعِل بـ نصير الكفر الطوسي وأمثالهم.
وكان بعد ذلك المرحلة الأخرى التي أراد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يبتلي فيها الأمة الإسلامية بهؤلاء التتار، ثم انهزم التتار، ثم ظهر الحق جلياً وساطعاً، حيث إنه في تلك الفترة كان قد ولد شَيْخ الإِسْلامِ المجدد تقي الدين أحمد بن تيمية -رحمه الله تعالى- فأظهر الله تعالى به الدين، وكان أكبر الملوك -ومنهم الناصر قلاوون وأمثاله- ممن وقفوا معه في كثير من الأمور، وهو الذي حرك العلماء وحرك الأمة، فحاربت التتار وهزمتهم وكذلك حاربت الصليبيين، ثم تحقق بعد ذلك بعث جديد للإسلام بفضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(36/16)
المؤامرة على الإسلام في عهد الخلافة العثمانية
والمؤامرة أحبطت أو كادت أن تحبط وتدمر، وبعد ذلك انتقلت المؤامرة على هذا الدين إلى نطاق أوسع، حيث أظهر الله -تبارك وتعالى- الدولة العثمانية -هؤلاء الأتراك- وكان فضل من الله -عز وجل- أن يظهروا، وتقدم زحفهم إلى داخل أوروبا، وفتحوا معظم بلاد جنوب شرق أوروبا، بل وشرق أوروبا.
حتى أنهم كما تعلمون دخلوا بولندا وحاصروا فيينا لمدة سنوات، فأرعب ذلك أعداء الإسلام رعباً شديداً، كيف أن هذه الدولة الفتية تتغلب على روسيا، وتتغلب على دول شرق أوروبا وغربها، وعجزوا عن مقاومتها، فكان الحل! وهو أنهم استعانوا بتلك الطائفة الحاقدة -وتكونت المؤامرة من جديد- حيث كان في شرق العالم الإسلامي في بلاد الفرس الدولة الصفوية فجاءت هذه الدولة، فكان كلما تقدمت الدولة العثمانية في أوروبا تقدم الصفويون في داخل البلاد العثمانية، فاحتلوا العراق ودخلوا إلى بلاد تركيا نفسها، وهكذا كانوا كلما زحف الإسلام في أوروبا، يأتون فيطعنونه بخنجرهم المسموم من الخلف، فتضطر الدولة العثمانية أن تسحب جيوشها من أوروبا، فتقضي بها على الصفويين في المشرق.
وهكذا أكثر من قرنين أو قرابة ثلاثة قرون من الزمان حتى تم إنهاك الدولة العثمانية، ولم تستطع أن تقاوم تلك الغزوات من الخلف ومن الأمام.
ونحن الآن لسنا في قضية تقييم الدولة العثمانية، لكنها بلا شك لم تكن تملك مقومات البقاء الحقيقي، ولهذا حصلت المؤامرات عليها.
وانتقلت المؤامرات بعد ذلك في صورة جديدة، حيث إن أوروبا نهضت النهضة القوية التي تعلمون، في ميدان الحياة، وفي الصناعة، وفي كل أمور الحياة المادية الدنيوية، وبذلك بدأت المعركة تأخذ طابعاً جديداً، وألف أحد الوزراء الأوروبيين كتاباً مشهوراً مائة مشروع لتقسيم تركيا، ذكر فيه بالتفصيل أن أوروبا بالتعاون مع الصفويين المجوس أعدت مائة مشروع لتقسيم العالم الإسلامي -الذي كانت تسميه تركيا، لأنها كانت تحكمه بأجمعه تقريباً- ويفشل المشروع تلو المشروع، حتى كانت الحرب العالمية الأولى، فتحقق نجاح المشاريع، وقضي على تلك الدولة، واقتسم الاستعمار الشرقي والغربي الدول المستعمرة، كما في إتفاقية (سايكس بيكو) التي قسموا العالم الإسلامي فيها وأخضعوه.
ومن هنا بدأت المؤامرة في مرحلة جديدة، وفي حرب جديدة، وهي الحرب الفكرية والمعنوية للقضاء على الإسلام، لأنهم جاءوا إلى الأمة الإسلامية وهي ممزقة، وهي ضعيفة منهكة مرهقة، وهم جاءوا بحضارات علمية وبتقدم مادي، ومعهم أيضاً خططهم الفكرية، وخطط أخرى عقلية رهيبة، فأخذوا يدبرون ويحيكون المؤامرات للقضاء على الإسلام من خلال وجودهم وقوتهم العسكرية في هذه البلاد.
الأمة الإسلامية إذا واجهت مواجهة عسكرية حربية، فإنها مهما طال الزمن فإنها ستنتصر، وهذه حقيقة أصبحت لا شك فيها في تاريخ الأمة الإسلامية، فقامت في كل بلد تقريباً ثورات ضد هؤلاء المستعمرين الصليبيين الجدد، وكانوا في الخفاء يبيّتون لإنشاء الدولة اليهودية.
وهذا ما يدلنا على أن المؤامرة ثلاثية الأطراف: صليبية ويهودية ومجوسية، ففي عام (1917م) أو حوله صدر "وعد بلفور " بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وكان الهدف منه هو إعادة بلاد فلسطين إلى ملك اليهود، أي إنشاء وطن قومي لليهود في قلب العالم الإسلامي وفي أرض الإسراء، وهذا ما مهدت له قوى الشر والمؤامرة جميعاً، وأخذ ينفذ بالتدريج، فكانت الحرب على جميع المستويات: منها حرب لأولئك المقاومين الذين قاوموا الاستعمار، وحرب أعظم وأشرس منها لهدم الإسلام من الداخل.(36/17)
من محاولات الهدم للإسلام
ومن أعظم الأمور التي استهدفت المؤامرة للقضاء على هذا الدين: أولاً: القضاء على العقيدة الصحيحة؛ لأنهم يعلمون أنها هي الأساس، فإذا ذهبت ذهب الإسلام، وكادوا لهذا الدين أعظم الكيد في كل مجال، وكما تعلمون أنهم أغروا الدولة العثمانية -نتيجة اشتغالها وانغماس كثير من أئمتها وعلمائها في الخرافات والضلالات- بالقضاء على الدولة التي قامت بفضل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والتي قامت على التوحيد، وهي الدولة السعودية الأولى، فإنهم قضوا عليها، وقضت عليها مؤامرة الشر تلك.
واغتيل الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، الذي كان معاصراً للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله والذي كان إماماً في العلم والتقوى والجهاد فوق كونه إماماً في الحكم، اغتيل على يد رافضي من أولئك المجوس، جاء إليه واغتاله كما اغتيل عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأن هذا الإمام هدم النجف وكربلاء، وهدم تلك البقاع التي يشركون ويعبدون غير الله -تعالى- فيها.
ثم صفا لهم الجو بعد القضاء على هذه الدولة، وأخذوا يمزقون العالم الإسلامي كما يشاءون، حتى أنهم أحدثوا طرقاً صوفية جديدة، وأحدثوا فرقاً جديدة؛ وجاءوا على فرقة من بقايا المجوس، وهي الفرقة التي كانت تسمى العلي إلهية وكان الأتراك يسمونها العلي إلهية ومعناها الذين يؤلهون علي بن أبي طالب فسموهم العلوية وأخذوا يمهدون لهم لكي يمكنوهم في بلاد الشام، وأخذوا في كل مجال يهدمون العقيدة.
والمقصود أن الأساس الأول الذي أرادوا أن يهدموه هو العقيدة الصحيحة ويحلوا محلها الخرافات والضلالات، ولذلك فإن جميع الطرق الصوفية ومشائخها كانوا محل الاحترام من قبل المستعمرين.
حتى إن نابليون عندما قدم إلى مصر جمع مشائخ الطرق، وأقاموا المولد وحضر معهم واحتفلوا، وقال: أنا صرت واحداً منكم، وهذا دين عظيم، وهو دين تسامح ومحبة وأخلاق، لأنه لا يزعج أحداً لا مستعمر ولا عدو، وإنما فيه موالد ورقص وتسابيح وأذكار، وكلها ضلالات لا تقبل عند الله -عز وجل- وفي الوقت نفسه لا تضر أحداً من الأعداء، فكان الأعداء حريصين على أن يظل مثل هذا الدين موجوداً.
وفي الوقت نفسه حاربوا الإسلام الحقيقي والدعوة الحقيقية، وأخذت جميع الدول الاستعمارية تذكي في نفوس الناس، أن من يدعو إلى الكتاب والسنة فإنه وهابي، وأن هذه الوهابية فرقة خارجة عن الإسلام، ويجب على جميع المسلمين أن يحاربوها، فكل من دعا إلى الكتاب والسنة وإن كان لا يعرف شيئاً عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله سموه وهابياً تشنيعاً لمن يدعو إلى الكتاب والسنة، وتأييداً لأصحاب الضلالات والخرافات والبدع، فكان هذا هو الهدف الأول.
والهدف الثاني: أنهم قالوا: المرأة المسلمة هي الأساس، وهي التي تربي البيت المسلم والطفل المسلم على العقيدة الصحيحة، فلا بد أن نخرج المرأة المسلمة، فإذا أخرجناها فإنا نكون قد قضينا على هذا الدين، وقضينا على الإسلام، ومزقنا كيانه الاجتماعي، ومن هنا عملوا وبذلوا الجهود في تأسيس الجمعيات -أو الأحزاب كما كانت تسمى سابقاً- والمجلات النسائية، وأخذوا يفسدون المرأة المسلمة وينشرون الفساد في كل مكان لإخراجها، وينشرون السموم التي تدعوها إلى أن تطالب بحقها من الرجل، وأن لا يظلمها الرجل، وأن لا يمتهن كرامتها، وأنها جديرة بأن تقاوم، وجديرة بأن تحقق وبأن تفعل كذا حتى قضوا على الحجاب في أكثر البلاد التي دخلوها مع أنهم لما دخلوها كان لا يوجد فيها امرأة مسلمة لا تغطي وجهها، ولم يخرج المستعمرون إلا وأكثر البلاد لا توجد امرأة مسلمة تغطي وجهها إلا القليل النادر، وكان هذا بخطة ومؤامرة ذكية.
أيضاً هناك جانب ثالث قالوا: لا بد من الطمس والقضاء على الشريعة الإسلامية، وعلى الأحكام الإسلامية، ليحل محلها القوانين الوضعية، ففي الجانب الاقتصادي قضوا على الشريعة الإسلامية التي فصلت الأحكام في الربا، وفي الصرف، والرهن، وفي الوكالة، والكفالة، وفي القروض، والمساقاة، وفي المزارعة وفي كثير من الأحكام المذكورة في كتب الفقه.
وقالوا: الإسلام لاينظم الجوانب الاقتصادية، فجاءوا برباهم، وببنوكهم الاستعمارية، ونشروها بين المسلمين، ثم قضوا على الحدود، وقالوا -مثلاً-: الزاني كيف يرجم، أو يقتل، لكن قانون نابليون يقول: "إن كان الزوج راضياً فلا شيء على المرأة، لأن هذا حق شخصي للزوج يطالب به في المحكمة، وهناك عقوبة إما الغرامة وإما سجن مدة من الوقت" فغيروا -أيضاً- أحكام الشريعة، وأحلوا محلها قوانينهم الوضعية الإباحية الانحلالية.
هناك أيضاً جانب آخر -قد يغفل عنه الكثير، ولكنه مهم بالنسبة للأمة الإسلامية- وهو أنهم خططوا للقضاء على اللغة العربية، ونحن المسلمين لدينا استهانة عجيبة باللغة العربية، فلا نبالي حتى من كان منا على مستوى كبير في الثقافة أو في المنصب لا نبالي بما نلحن وما نخطئ في اللغة العربية، بينما الواحد منا إذا تعلم اللغة الإنجليزية مثلاً: لا يمكن أن يضع أي فعل من أفعال التكوين بدل الآخر، وإلا ضحك عليه زملاؤه، فأي شيء بسيط لا يمكن أن يكسره في اللغة الإنجليزية -مثلاً- لكن في اللغة العربية يكسر ما شاء، ويقول ما شاء، ولا رقيب ولا حسيب عليه، وهذا من قلة اهتمامنا بها ومن عدم معرفتنا لأهميتها.
فإنه عن طريق فهم كتاب الله وفهم سنّة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نعبد الله عز وجل على بصيرة، ولا يمكن أن نفهمهما إلا باللغة العربية، ففصلوا بين المسلمين وبين اللغة العربية، ونشروا اللغات الأوروبية نشراً قوياً، حتى أصبح الإنسان كأنه لابد في أكثر البلاد الإسلامية أو كلها حتى الدكان الصغير الذي لا يمر عليه أي أوروبي، ولا يشتري منه أي أوروبي ولا أمريكي أن يكتب بالعربي ويكتب بالإنجليزي، هذه الازدواجية هم الذين سعوا إليها وأرادوها، وأخذناها ببساطة وبغفلة شديدة.
ومن جانب آخر أحيوا اللهجات المحلية والتراث المحلي، ونبشوا الأصنام القديمة وأظهروها، ونبشوا الحضارات القديمة، وقالوا: هذه حضارتكم فجعلوا لكل قطعة من بلاد العالم الإسلامي حضارة مستقلة، فجاءوا إلى مصر -وهي ركن قوي في جسم الأمة الإسلامية- قالوا: أنتم فراعنة، وحضارتكم تمتد سبعة آلاف سنة، وجعلوا الفتوحات الإسلامية بأسماء غربية فقالوا: الغزو الفارسي، والغزو العربي، والغزو العثماني، هؤلاء كلهم غزاة غزو مصر.
وأحيوا الفينيقية، والآشورية، والبابلية، وفي كل بلد أحيوا الحضارات القديمة الوثنية، والتي يعود بعضها إلى آلاف السنين لينسى المسلمون أنهم أمة واحدة، وأنهم كالجسد الواحد، وأن تاريخنا قبل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظلام، وفوضى، وهمجية، وانحطاط، ويجب علينا أن نستحي أن نذكره، ولا نذكره إلا على سبيل الاستهجان، كما بين ذلك أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى النجاشي وقالوا: 'كنا نأكل الميتة، ونقطع السبيل' نفعل ونفعل، تاريخ أسود لا يجوز أن يذكر، ولا ينبغي لعاقل أن يفتخر به.
فجاءوا، وقالوا: لا بد أن تفتخروا بذلك، ولا بد أن تعملوا حفريات في الصحاري البعيدة لتجدوا مدينة عمرها أربعة آلاف سنة، وإذا أخرجوا من الحفريات شيئاً بسيطاً كإناء مكسور ضخموا هذا الاكتشاف، وتضيع فيه الملايين، وتضيع فيه الجهود، والهدف هو أن تنقطع صلة الناس بهذا الدين وبلغته وبتاريخه ويصبح تاريخاً جاهلياً، وأيضاً عملوا على إحياء اللغات المحلية والحضارات القديمة، وهدفهم من ذلك تقطيع أواصر هذا الدين، وتقطيع أواصر هذه الأمة حتى لا يجمعها أي شيء، وكان هذا -أيضاً- باباً من أبواب المؤامرة على الإسلام في هذا العصر، وهي مؤامرة -كما قلنا- مستمرة بدأت من الصراع بين آدم عليه السلام وإبليس وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(36/18)
التخطيط للقضاء على الصحوة الإسلامية
لا نستطيع أن نفصل أكثر من ذلك فيما يتعلق بمحاور الغزو الفكري الحديث، والذي نستطيع أن نقوله: إن المؤامرة نجحت فيها، لكن ننتقل إلى ما بعد ذلك وهو: كيف خطط الأعداء للصحوة الإسلامية المعاصرة؟ أولاً هم وجدوا أنه منذ عشرين سنة بدأت في العالم الإسلامي صحوة، ويقظة، ونهضة، وعودة إلى الكتاب والسنة، على أيدي الشباب الذين بدءوا يفقهون ويتلمسون الطريق، فكان لا بد من اتخاذ طريقة جديدة وخطوة جديدة، وهي: أن يعاد في هذه الأمة بعث تلك الفرق القديمة، لأن شباب العالم الإسلامي -الواعين منهم- أخذوا يتحصنون ضد كل ما هو غربي، فـ الماسونية والشيوعية وكل الأحزاب والفرق الأخرى أصبحت الأمة في ملل منها بعد معرفتهم بحقيقتها، فقالوا: لا بد أن نحيي ونبعث الفرق الضالة.
أيضاً الحضارات الوثنية القديمة لم تؤد الدور المطلوب، ولم يستجب لها الكثير، إذاً بعث الديانات القديمة هو الذي يمكن أن يستوعب هذه الصحوة، ويفرقها ويمزق شملها، ومن هنا أعادوا مجد الرافضة بالحدث الذي تعرفونه، وأعادوا -أيضاً- مجد غيرها من الفرق عن طريق البحث والتحقيق.
وإذا قرأتم -مثلاً- معجم المستشرقين أو الكتب التي تحدثت عنهم، فانظر ماذا يحقق المستشرقون من الكتب، هل لديهم أي اهتمام بنسخة من صحيح البخاري أو نسخة من مسند الإمام أحمد قديمة؟! لكن انظر بأي شيء يهتمون؟ تجدها عقائداً منحرفة وفرقاً قديمة، يهتمون بها ويحققون كتبها ويطبعونها وينشرونها حتى تملأ الآفاق، وما ذاك إلا لتمزيق هذه الأمة، وهذه الصحوة الإسلامية التي بدأت -ولله الحمد- تفرض نفسها في الواقع، فهم يريدونها إذا أرادت أن تعود أن تحتار!! أي إسلام تعود إليه! تجد في المكتبة الواحدة: كتب رافضة، وكتب سنة، وكتب خوارج وكتب معتزلة كتب فرق كثيرة، فلايدري إلى أين يتجه، وأيضاً يجد كتباً تطعن في كتب السنة، وكتباً أخرى تطعن في القرآن وهكذا.
فهذا الغزو الفكري أصبح يمر بمرحلة خطيرة ودقيقة جداً، يتطلب من جميع المسلمين -وخاصة الشباب- أن يكونوا على وعي وبصيرة بما يراد لهذه الأمة، وهذا أحدث ما يمكن أن نقول، أن الاستعمار أو التخطيط أو التآمر اليهودي الصليبي المجوسي يعمل ضد هذه الأمة، وبدأ يتتبع هذه الصحوة، يحاول أن يوجه -هو- مسيرتها وأن يمزقها ذات اليمين وذات الشمال، ويبعدها عن منهج الكتاب والسنة الذي يجمع الله به هذه الأمة، والذي يظهر الله به هؤلاء الشباب، وهؤلاء العلماء الذين هم قائمون عليه، والذي يعيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، بإذن الله تعالى من قوةٍ وعزٍ وتمكينٍ للإسلام.(36/19)
وسائل النصر على الأعداء
وكما لاحظنا في كل مرة فالمؤامرة في النهاية تنهزم، لكن تنهزم بقوة إيمان صادقة، وبعودة إلى الحق، ولهذا لا بد أن ننتبه إلى أمرين مهمين ويجب أن ننبه الإخوان عليهما: 1 - أن هذه الأمة لا تؤتى إلا من قبل نفسها، حتى في غزوة أحد ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو القائد وأصحابه هم الجيش، قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] فلا تصيبنا مصيبة في أي مرحلة من مراحل تاريخنا إلا بذنوبنا، وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إذا تركتم الجهاد، واشتغلتم بالدنيا، وأخذتم بأذناب البقر، وتبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع؛ سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم} وهذا يعني أننا إذا اشتغلنا بالدنيا، فاهتم -مثلاً- كل إنسان بوظيفته، وماله، وأسرته، وبيته، وتنمية موارده، واشتغل كل المسلمين بذلك؛ فإننا نكون لقمةً سائغةً لأعداء الله، وإذا اهتممنا بالآخرة وبديننا نصرنا الله كذلك، إذا أصلحنا ما بيننا وبين ربنا -عز وجل- وإذا تركنا الربا والزنا والفساد، وبذل أموالنا لدعم الشر -كما يحصل الآن للمسلمين- يشترون الأفلام والمجلات الخليعة، ويدعمون الشر بأموالهم، ويذهبون إلى بلاد الكفر فيصبون أموالهم هنالك على الفساد والمعاصي، فيعطونهم مالهم وينسلخون عن دينهم ويعودون، وهكذا.
المقصود أننا أمة لا تؤتى إلا من قبل نفسها، كما كتب ذلك عمر -رضي الله عنه- إلى سعد بن أبي وقاص وإلى جيش المسلمين، الذين واجهوا أعتا أمة على الإطلاق، وهي أمة الفرس المجوس قال: [[ولذنوب الجيش عندي أخوف عليهم من عدوهم، فإن الله إنما ينصرنا بطاعتنا له ومعصيتهم له، فإذا استوينا نحن وهم في المعصية، كان لهم الفضل علينا في القوة]] وهذا واقع في كل وقت أن أعداء الإسلام أكثر منا، ولا يوجد مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي إلا وكانت الجيوش الإسلامية أقل عدداً من محاربيها، ومع ذلك ينتصرون إذا كان الإيمان بالله عز وجل، فهذه القضية الأولى: أن نحاسب ونراجع أنفسنا قبل أن نلقي اللوم على أعدائنا الذين يتآمرون علينا.
2 - الأمر الآخر: أن نعرف عدونا، وأن نعرف مكره وخيانته ومخططاته، وأنهم كما بيّن الله تبارك وتعالى من عداواتهم أنهم يظهرون لنا العداوات وهي ظاهرة وواضحة ولكن ما تخفي صدورهم أكبر وأعظم وأشد، وأنهم لا يألون جهداً ولا يرقبون فينا إلاً ولاذمة، وأنهم لا يريدون ولا يرضون منا إلا أن ننسلخ عن ديننا، وأن نصبح عبيداً رقيقاً لهم، سواء كانوا في الشرق أم في الغرب، من المنافقين أم من الأعداء الخارجين، فإذا عرفنا عدونا فإننا حيئنذ -بإذن الله- مع إيماننا بالله عز وجل ومعرفتنا له وطاعتنا له؛ نستطيع أن نقاومهم، أما إذا بقيت الأمة الإسلامية في غفلة عن معرفة أعدائها ومن هم، فإن هذا مما يعيبها ويشينها ويجعلها لقمة سائغة لهم، والمشاهد والملاحظ في الأمة الإسلامية -وللأسف- أنها إذا ضربت أفاقت، وتبقى إفاقتها مادامت الضربة حارة ساخنة، فإذا بردت تعود إلى النوم فتأتي ضربة أخرى وهكذا، وهذه من الأخطاء التي حلت بالأمة الإسلامية، فيجب أن تكون دائماً مستيقظة، وحذرة؛ لأن الأعداء لا ينامون ولا يغفلون.(36/20)
الأسئلة(36/21)
أحوال الذين ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
عندما ارتد معظم أهل جزيرة العرب عن الإسلام في عهد أبي بكر رضي الله عنه هل هذا إشارة إلى أن إسلامهم في عهد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان تحت قوة السيف أو لأطماع أخرى، ولم يكن رغبة في الإسلام ذاته؟
الجواب
هم أصناف: منهم من دخل في الإسلام أو أظهر ذلك وهو كاذب، ومنهم من لم يتلق التربية الكافية في أن يكون مؤمناً حقاً، ومنهم من ظنَّ أنَّ المسألة حدث من الأحداث العادية: رجل تغلب ثم مات، ومادام أنه قد مات فإن أمره قد انتهى، فهم أصناف متفاوتة في ذلك، لكن الطابع العام أو العبرة العامة التي يجب أن نأخذها، هي أن الإنسان الذي لم يتلق التربية الإيمانية الكافية هو عرضة للانحراف وأن يرتد إذا وجد المؤثر، فإنه بلا شك أن وجود المجرمين المتنبئين الدجالين ماكان ليظهر لولا أن صدقهم أولئك الذين كانوا حديثي عهد بإسلام، وضعاف الإيمان، ولم يرسخ الإيمان في قلوبهم، كما ذكر الله تعالى ذلك عن الأعراب، فمعظمهم على هذه الشاكلة، بخلاف مكة والمدينة، والبلاد التي كان الإسلام فيها قديماً، كبني عبد القيس فإنها ثبتت لأن الإيمان قد ثبت وتأصل في النفوس.(36/22)
كيف تواجه عدوك
السؤال
لاشك أن أعداء الإسلام يجتهدون في الليل والنهار لهدم هذا الدين، فما الطريق الذي يجب أن يسلكه الشباب المسلم لمواجهة هؤلاء الأعداء؟
الجواب
قد اختصرنا الإجابة عليه في أمرين:- الأول: أن نكون نحن أهلاً لنصر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وذلك بتقوى الله وبطاعته الله، وبالتزام أوامره، وبالتمسك بهدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنته، وترك جميع البدع والمعاصي والشركيات، لأن الله تعالى يقول: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] فإذا صبرنا واتقينا؛ فإن كيد المؤامرات لا يضرنا أبداً -بإذن الله- ولكن إذا لم يكن فينا شيء من ذلك، أو ضعف فينا الصبر والتقوى، فإننا نكون عرضة لذلك.
والأمر الآخر -كما أشرنا- أن نعرف أعداءنا، وأن نجتهد مثلما يجتهدون {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] فهم يبذلون الجهود والأموال والتضحيات ليل نهار ومصيرهم إلى النار، فكيف لا يبذلها من مصيره -بإذن الله تعالى- مع إخلاص النية وصدق العمل إلى الجنة، هذا هو المهم.(36/23)
يطلع قرن الشيطان من المشرق
السؤال
ورد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال عن جهة المشرق عندما ذكر أهل الشام واليمن بالخير، قال عن المشرق: هناك قرن الشيطان، هل الذي ورد صحيح، وهل توضحوا لنا ذلك؟
الجواب
نعم الحديث صحيح {ويطلع من هاهنا قرن الشيطان، وأشار بيده إلى المشرق أو نجد} وفيه دلالة من دلائل النبوة على صدق نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن الإنسان إذا كان في المدينة -كما تعلمون موقعها- وأشار إلى جهة المشرق أو إلى جهة نجد، فإن الفتن تكون من هنالك، فمعنى ذلك أنه الجناح الشرقي من العالم الإسلامي، وأوضح مثال لذلك بلاد الفرس وما حولها، تكون مصدر الفتن للإسلام، وهذه حقيقة، فإن الإنسان إذا قارن ما ظهر من الضلالات، ومن الفرق، ومن الطوائف، ومن الكيد للإسلام من المشرق بما ظهر في المغرب؛ لوجد النسبة ضئيلة جداً لا تكاد تذكر، حتى أن العبيديين الذين حكموا مصر وبلاد المغرب أصل تربيتهم كانت في الكوفة في المشرق، فهذا إشارة إلى أن أعظم من يكيد للإسلام، وسيظل يكيد له إلى قيام الساعة هم أمة المجوس الفرس، إلاّ من هداه الله تبارك وتعالى منهم ودخل في الإسلام، ولو استعرضتم وقرأتم كتب الفرق -أي كتاب من كتب الفرق- كـ الملل والنحل، والفرق بين الفرق، والتنبيه والرد وأي كتاب آخر تجدون أن حوالي (80%) أو (90%) من الفرق ظهرت من تلك البلاد بالفعل، فهذا تصديق لما قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(36/24)
تشويه الصحابة
السؤال
من مؤامرات أعداء الإسلام إدخال الدسائس في التاريخ الإسلامي، وذلك بتشويه حياة الصحابة والتابعين وغيرهم وتصويرهم بأنهم خمارون وعشاق، فحبذا أن تبين لنا قليلاً في هذا الموضوع؟
الجواب
نعم هذا من أهدافهم؛ لأن القدوة التي يقتدي بها المسلمون ليعودوا إلى دينهم الحق هم هؤلاء الرجال، فإذا تشوّهوا فإنّ القدوة تكون مفقودة، ومالنا نقول شوهوا الصحابة والتابعين، وقد شوهوا سيرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! انظروا إلى الذين كتبوا عن سيرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الموجودة في القرآن وهو المصدر الأول لها والسنة الصحيحة، انظروا إلى الذي كتب على هامش السيرة وأدخل في السيرة من اختلاقه المحض، الذي لا وجود له لا في كتب المسلمين ولا اليهود ولا النصارى، وفيه روايات طويلة وحب وغرام وأشياء أخرى، وغيره أيضاً، ماذا كانوا يريدون؟ ثم جاء بعدهم من يكمل المؤامرة، فيقول: نحول كتاب على هامش السيرة إلى مسلسلات في رمضان، لأن هذا كتاب عظيم والمؤلف قدير ومشهود له، فيزداد البلاء بلاءً، كان الواحد يقرأ أن فلاناً أحب فلانة ويأتي وإذا به يشاهد مشهد حب علني واضح أمامه وباسم سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانظروا إلى أي حد يصل الامتهان والاحتقار لهذا الدين ولرسوله العظيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى أي حد تكون غفلتنا! فشوهوا سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشوهوا تاريخ الصحابة.
أبو عبيدة أمين هذه الأمة كما نطق بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يفتح الله على يديه بلاد الشام، يكتبون عليه في كتبهم وفي مسلسلاتهم أنه فتح بلاد الشام عن طريق العشق والحب!! الذي وقع بينه وبين بنت هرقل، أمين هذه الأمة عاشق خائن، فبالله من هو الأمين فينا إذاً؟! هل فينا إذاً أحد أمين؟! إذا كان أميننا بهذا الشكل؟! وهكذا يريدون أن يشوهوا خالد بن الوليد، كما كتبوا: يقاتل المرتدين لأن مالك بن نويرة لديه زوجة جميلة ويريد أن يتزوجها، وفي معركة واحدة تكسرن عشرة سيوف في يد خالد بن الوليد أمام الفرس، وشهد لهم بأنه مارأى أمة أقوى منهم.
ووصل إلى المدينة من سبايا الأمم ما عجز الناس عنها، حتى أصبحت أجمل بنات الفرس والروم من بنات الملوك تباع بدينار وبدينارين، فهل هؤلاء ناس يريدون الشهوات؟! يتركون هذا البيع المعروض ويذهبون إلى تلك البلاد، ويموتون على أسوار القسطنطينية وعلى حدود الصين وفي الأندلس وهدفهم البنات -سبحان الله! - ولو قيل لأحد منا -وعلى ما في إيماننا من ضعف وعلى ما فينا من ذنوب- أن هدفك من هذا العمل بنت تراها وتحبها، والله لا يرضى، وسيغضب ويقاتل، ويطالب بحقه، وكلنا لا نرضى بهذا، ويكتب عن أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويبرمج ويوضح علانية عنهم أو عمن بعدهم ولا نكاد نتأثر -سبحان الله! - هذا دليل من الأدلة على الحال التي وصلت إليه هذه الأمة.(36/25)
أسباب الحقد على الإسلام
السؤال
لماذا هؤلاء الحاقدون على الإسلام يريدون تدمير هذا الإسلام الحنيف؟
الجواب
الشرك يريد أن يدمر التوحيد، والبدعة تريد أن تدمر السنة، والمعصية تريد أن تدمر الطاعة، والشيطان يريد أن يدمر الإنسان التقي النقي الصالح، فكيف لا يقع هذا العداء، ولم نعجب منه؟! {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة:36] فهذا الشيطان، وهؤلاء أذنابه وأذياله وأتباعه، فهم أعداء حسب السنة الكونية التي جعلها الله تبارك وتعالى حينما أهبطهم منها جميعاً -أي الشيطان وآدم عليه السلام- فإن العداوة لا بد أن تستمر، وكيف لا يعادينا اليهود وقد قتلوا وطردوا من بلاد الإسلام؟! كيف لا يعادينا المجوس وقد دخل المسلمون بلادهم، وهدموا عروشهم، ودمروا دينهم، واحتلوا كافة ممتلكاتهم؟! كيف لا يعادينا النصارى ونحن نعبد الله، وهم يعبدون المسيح، ويعبدون الصليب، وقد دخل أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعز وأعظم ممتلكاتهم، وهي الشام ومصر وشمال أفريقيا، وأخذوها وغزوهم في عقر دارهم؟ هذه سنة الحياة، ولا بد من الصراع بين الحق والباطل، حتى وإن تهاونّا نحن غزونا في عقر دورنا، فلا غرابة إذاً في هذه العداوة.(36/26)
كتاب منهاج السنة النبوية
السؤال
سؤال عن كتاب منهاج السنة النبوية؟
الجواب
منهاج السنة النبوية كتاب ألفه شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله وجدير بكل مسلم من أمثالكم أن يشتريه، وقد طبع سابقاً في أربعة أجزاء في مجلدين، وعلى حاشيته جزء من كتاب درء التعارض، وقد طبع مؤخراً الكتاب بتحقيق محمد رشاد سالم في تسعة مجلدات، وكل من كتب عن الروافض فإنّه عالة على هذا الكتاب، وفي الكتاب تحقيق للأحاديث وللقضايا التاريخية، وتمحيص للقضايا الفقهية التي يعارض فيها أولئك، وأيضاً فيه بحوث عميقة وأصيلة، في كل قضية تعرّض لها أولئك، وهذا من نعمة الله على هذه الأمة أن هيأ لهم مثل هذا الرجل وأن ألف مثل هذا الكتاب.
وأصل قصة هذا الكتاب أن أحد ملوك التتار أراد أن يدخل في الإسلام وكان نصرانياً، لأن دينهم لا يقبله العقل، فتقدم إليه أحد الروافض ويدعى ابن مطهر الحلي، والذي يسميه علماء الجرح والتعديل ابن منجس لأنه أبعد شيء عن الطهارة، فكتب كتاباً من خمسين صفحة تقريباً عنوانه منهاج الكرامة جاء فيه بأدلة وبراهين على أن دين الرافضة أفضل الأديان، من أجل أن يدخل هذا الملك في دين الرافضة، فجاءه شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية يرد عليه ويقول: قال الرافضي: البرهان الأول ويمسك على هذه الكلمة -أحياناً- مائة صفحة على سطرين أو ثلاثة، وينقدها نقداً أحياناً من ثلاثين أو عشرين وجهاً، أو أكثر من الوجوه العقلية، بحيث لو قرأها يهودي أونصراني أو مشرك بعيد كل البعد عن السنة والشيعة، لكنه عاقل منصف، لأيقين أن هؤلاء أهل السنة على حق أبلج واضح، وأن الروافض على فساد وعلى ظلام وضلال، وهذا من فضل الله أنه قيض سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذا الكتاب، حتى أنه أثار عليه حسد الحاسدين، مثل السبكي -غفر الله له وكان من العلماء الكبار- أثار حسده هذا الكتاب على شَيْخ الإِسْلامِ، وقال: إن الرافضة لا يحتاجون إلى أن يرد عليهم، وما استطاع أن يقول شيئاً -تقريباً- لأن الرفض مشهور ومعروف أنه باطل، والناس في غنيةٍ عن رد مذهبهم إلخ.(36/27)
مؤلف كتاب البداية والنهاية
السؤال
سؤال عن كتاب البداية والنهاية؟
الجواب
الكتاب لابن كثير، وهو كتاب معروف في التاريخ.(36/28)
التسمية بعصر الانحطاط
السؤال
نحن نسمع عن عصر الانحطاط، وفي هذا العصر ظهر شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، وظهرت الحركات الإصلاحية، فما رأيك في هذه التسمية؟
الجواب
الأمة الإسلامية -بلا شك- مرت بعصور انحطاط، ومنها عصرنا هذا الذي نعيش فيه، لكن الحقيقة التي نقولها نحن ونؤكد عليها: إن كل عصر انحطاط فيه حركة تجديد وفيه دعوة، وهذا فضل من الله لأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وهو الذي لا ينطق عن الهوى- صح عنه من طرق عديدة عن عدد من الصحابة أنه قال: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين} وفي رواية: {يقاتلون على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله} والمقصود بأمر الله ما وضحته الروايات الأخرى أنه الريح الطيبة التي تأتي قبيل قيام الساعة فتقبض أرواح المؤمنين، ثم يبقى الأشرار وعليهم تقوم الساعة.
فلا ضير أن نقول: عصور انحطاط، ولكن نقول: ولله الحمد كلما انحطت هذه الأمة فإن الله يبعث من يجدد لها دينها، أما الإسلام في ذاته فلا ينحط أبداً، ولم ولن ينحط، ولن يستطيع أحد أن يحط من شأنه، لأنه دين الله عز وجل وأي أمة أو دولة تقوم بهذا الدين فإن الله ينصرها ويظهرها، فإن تخلّت عنه فإنه يستبدل قوماً غيرها ثم لا يكونوا أمثالها، أظهر الله تعالى صلاح الدين وأسرته بعد أن كانوا لا قيمة لهم تذكر، وبهذا الدين اعتلوا، ولما جاهد العثمانيون أظهرهم الله عز وجل، وتعلمون كيف بلغ ملكهم.
أيضاً لما عاهد محمد بن سعود -رحمه الله- الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- على دعوة التوحيد، انظروا كم كان من الأمراء في ذلك العصر موجوداً، وكم كان من حكام، وكم كان من قبائل، وكان محمد بن سعود أميراً على الدرعية فقط، ولا أحد يعرف عنها شيئاً، وليست إلا قرية صغيرة، ولما قامت هذه الإمارة الصغيرة على التوحيد، انظروا كيف ظهر الملك لهذه الأسرة! وهكذا كل من قام على التوحيد فهو مؤيد منصور، والأمة الإسلامية إذا هي تخلت عن التوحيد، وعن العمل بالكتاب والسنة، فإنها تنحط؛ فيستبدل الله قوماً غيرها، فهذه سنّة جعلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن من نصر هذا الدين فإن الله ينصره، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الله ليرفع بهذا الدين أقواماً ويضع به آخرين} فبحسب التمسك به يرتفع الناس.
كان خلفاء بني أمية يحكمون العالم تقريباً، وبقية ملوك العالم يعطونهم الجزية، وكان الناس -أيضاً- يعظمون العلم والعلماء، فحج عبد الملك بن مروان وهو ملك الدنيا في عصره ومعه أولاده وحشمه وحاشيته، ومروا في موسم الحج وإذا بزحام شديد وعظيم، فتعجبوا من هذا الأمر! ومن هذا الرجل الذي يزدحم عليه الناس! وإذا به عطاء بن أبي رباح من التابعين قال عنه ابن كثير: كان عبداً أسوداً نوبياً أعمى أقطع، أوصاف كل واحدة منها كافية لكي ينفر منه الناس، وأيضاً كان هذا في عهد أواخر الصحابة، وفي حياة بعض الصحابة، ويكون بهذه الهالة وهذا الاجتماع العظيم وهذا الزحام الشديد على هذا الرجل؛ لأنه عالم أظهره الله {يرفع الله بهذا الدين أقواماً ويضع به آخرين} فهذا الدين وضع أبا جهل وغيره من كفار قريش، ورفع هذا العبد الأسود النوبي الأعمى الأقطع، ورفعه حتى حسده الوليد بن عبد الملك، فقال: يا أبتاه ما هذا؟ قال: يا بني هذا هو الملك، لا ما نحن فيه، فإن من حولي وحولك لولا الملك ما اجتمعوا، وأما هذا فإنهم يأتونه راغبين.
المقصود أن هذا الدين يرفع الله تعالى من تمسك به مهما كان، ومن تركه وتجافى عنه أذله الله -مهما كان-.(36/29)
إحراق الإمام علي للروافض
السؤال
أرجو أن توضحوا لنا كيف قام الخليفة الراشد علي بن أبي طالب بحرق أولئك الروافض، مع أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن الحرق بالنار؟
الجواب
نعم، لو رجعت إلى صحيح البخاري لوجدت أن عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- على فقهه وعلمه اعترض على ذلك، وهو لم يعترض على معاقبتهم لأن عقوبتهم بلا شك يجب أن تكون بأعظم عقوبة -وهي القتل- لكن قال: لو كنت أنا لقتلتهم ولما حرقتهم، لأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أن يعذب بالنار.
ومن الناحية الفقهية البحتة -لا شك- أن ما ذهب إليه عبد الله بن عباس هو الأرجح وهو الصحيح، فالذي يُفعل بهؤلاء الناس ليس الحرق وإنما هو القتل، فلا حرق ولا تعذيب بالنار في الإسلام.
لكن لله في ذلك حكمة، وهذا أمر واجتهاد قد وقع، ومن خليفة راشد، حتى يبقى المسلمون يتذكرون هذه القضية أنه في الإسلام -تقريباً- ما أحرق إلا هؤلاء الناس، ويقال أن الفجاءة أحرق -الذي كان يعمل عمل قوم لوط- لكن هذه قضية مشهودة، مرئية، متواترة، لماذا أحرقهم؟! هل لأنهم قالوا: نحن نقاتلك! هل لأنهم كفروه؟! لا، لأنهم قالوا: أنت الله!! من شدة تعلقهم به، وهذا هو الذي يفعله هؤلاء الطائفة إلى اليوم، حتى يبقى في ذاكرة الأمة الإسلامية أنه قد يبلغ بالإنسان من شدة ما يرى من استحقاقهم للعذاب والألم، أنه قد يتجاوز الحد الراجح إلى الحد المرجوح أو غير الراجح، والموضوع من الناحية الفقهية فيه كلام.(36/30)
حل مشكلة امتلاء المكتبات بالغث والسمين
السؤال
المكتبات مليئة بالغث من الكتب الغير النافعة لذلك تجد الشباب في حيرة في اختيار الجيد والمفيد، ما هو الحل لهذه المشكلة من تنظيف المكتبات من الغث والكتب الضارة؟
الجواب
الحقيقة أن أزمة الفكر والثقافة في الأمة الإسلامية أزمة رهيبة، هناك الآن غزو رهيب غير الكتب، وهي تتمثل في المجلات الفاسدة التي تتاجر بالصور الخليعة -وهذه مع الأسف- لم تعد مقصورة على المكتبات بل غزت جميع الدكاكين، الآن حتى البقالات موجودة فيها، ونخشى أننا لو سكتنا واستمر هؤلاء الناس أن يبيعوها في كل متجر وفي كل مكان، ولاشك أن لهم من وراء ذلك غرض لولم يكن منه إلا الربح المادي لكفاهم، وذلك أنك تأتي -مثلاً- بمائة نسخة من أي مجلة خبيثة في بقالة صغيرة، فتباع جميعاً في يومين أو ثلاثة أيام، وهذا شيء عجيب!! أموال الأمة تذهب في هذا الهراء، فهذا هو الجانب الأول الذي يمسخ الأخلاق والفضيلة في المجتمع.
والجانب الثاني على المستوى الفكري البحت: أن المكتبات الآن تمتلئ بالكتب وبالمؤلفات ولكنها غثة.
والحقيقة أن انتشار الكتب الغثة يعود إلى أمرين: 1 - ضعف المستوى العلمي عند الأمة، حتى أصبحت الأمة تقرأ الغث والسمين أياً كان، والنقد ضعف، فلا يوجد علماء نقاد، بل على العكس الآن لو أن أحداً كتب كتاباً فنقده آخر، لقالوا: هذا ما ينبغي، هذا تشويه، وهذا الكلام غير صحيح، فإن هذا أمر ينبغي علينا فعله، فلولا النقد لما توجهت الحركة العلمية والثقافية التوجه الصحيح، فهذا هو الأمر الأول.
2 - أن الناس أصبحوا يشترون أي شيء.
وفي هذه المناسبة أنا أتعجب أنني أقرأ في الملاحق الأدبية دائماً أن الكتاب السعودي في أزمة والكتاب السعودي لماذا لا يكون عالمياً، والكتاب السعودي كذا، أنا أتعجب من هذا الكلام!! حقيقة أقول: هل هذا الكلام صحيح؟ إذا اعتبرنا الكتاب السعودي هو ما يكتبه الشعراء السعوديون والقصة القصيرة التي يكتبها الشباب الصغار، فصحيح أنها ليست رائجة ولا تملك الرواج العالمي، لكن كتب الخير رائجة -والحمد لله- خذوا كتب ورسائل الشيخ عبد العزيز بن باز وقد ترجمت إلى جميع لغات العالم، وهي موجودة في كل بيت مسلم الآن تقريباً فكيف تقول: أن الكتاب السعودي ليس منتشراً.
نحن في ذهننا أن الثقافة مفصولة عن الدين، فلهذا نتحسر أنه تقام معارض في خارج المملكة، والكتاب السعودي ليس موجوداً بينما تجد في هذه المعارض أنه لا يمكن أن يقام معرض داخل المملكة أو خارجها إلا وعلماء هذه البلاد موجوده كتبهم فيها، والآن كما يقول بعض الإخوة: نادراً أن تجد مثقفاً في العالم الإسلامي -مثلاً- لا يوجد لديه كتاب التوحيد وكتاب فتح المجيد وأحد شروح كتاب التوحيد التي كتبها العلماء مثل الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أو أمثاله.(36/31)
من مقتضيات التوحيد
تكلم الشيخ حفظه الله في هذا الدرس عن نعمة التوحيد، وحال الأمة قبله، ثم تحدث عن ضرورة تحقيق مقتضياته، وذكر من أهمها: الولاء والبراء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم نبه على صور من الولاء للكافرين، والتي يمكن أن يقع فيها المسلمون، مركزاً على أهمية متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في امتثال هذا الدين.(37/1)
نعمة التوحيد
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وبعد: فنحن أمة الإيمان، وأمة التوحيد، ونحن الأمة التي اصطفاها الله وفضلها وشرفها على سائر الأمم، وربط بين أفرادها وقلوبها برباط التقوى، وجمع بينها بجامع اتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالحمد لله على ذلك، والحمد لله الذي هدانا لسنة خير المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، والحمد لله الذي جعلنا ممن يحضر مجالس الذكر، ويحب الصالحين، ويجتنب مجالس اللهو والزور، ويكره العصاة والمفسدين والمجرمين.
الحمد لله الذي علَّمنا قيمة التوحيد، وعرَّفنا أنه من يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه، وعرفنا أنه لا خير فينا، ولا في حياتنا، ولا في أي شأنٍ من شئوننا إلا بأن نكون على توحيد الله عابدين لله وحده لا شريك له، متبعين لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلمنا أننا نحب في الله، ونوالي في الله، ونبغض في الله، ونعادي في الله، ونعطي في الله، ونمنع في الله، فأعمالنا كلها لوجه الله تبارك وتعالى ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وعلى هذا نجاهد أنفسنا، وندعو الخلق أجمعين إلى أن هذا هو دين أنبياء الله المرسلين، كما قال تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وكما قال عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل:36]، فهذا الدين العظيم هو التوحيد الذي ميزنا الله به عن سائر الأمم، فهو النعمة العظمى، والمنّة الكبرى من رب العالمين تبارك وتعالى، وهل يستوي عند الله من عرفه، ووحده، وعبده وحده لا شريك له، ومن أشرك معه غيره من خلقه؟ لا يستوون عند الله.
التوحيد هو معقد النجاة في الدنيا والآخرة: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] فعلى هذا وإليه دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجاهد في الله حق جهاده، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقومٍ فهو منهم}.
نعم.
من تشبه بقوم فهو منهم، فمن تشبه بأهل الإيمان والتوحيد والسنة والطاعة فهو منهم، ومن تشبه بأهل الكفر والنفاق والبدعة والعصيان فهو منهم.(37/2)
توحيد الصحابة
فمن أجل التوحيد جاهد الصحابة الكرام فخرجوا من هذه الجزيرة القاحلة في سبيل الله، وفي ذات الله، وانطلقوا شرقاً وغرباً يرفعون راية "لا إله إلا الله" فدانت لهم الدنيا وخضعت، حتى عجب المؤرخون وعجزوا عن تفسير هذه الظاهرة، هل في التاريخ كله من ظاهرة أعجب وأعيى للعقول منها؟ أمةٌ تنبعث من هذه الجزيرة -من هذه الصحراء- لم يكن لها حضارة، ولا علم، ولا تاريخٌ مجيد تفخر به، ولم تكن لها قيم إلا موروثات الجاهلية وعاداتها وتقاليدها، وتخرج لتدخل الناس في دين الله أفواجاً.
كان الناس في بلاد الشام تحت حكم هرقل، وكان هرقل -والي الشام - على دين النصرانية الباطل المحرف -هذا مثال من الأمثلة- ولما دخل أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دمشق، لم يكن لهم فيها إلا مسجد واحد يجتمع فيه المسلمون، بقي فيه قلة، والبقية انطلقوا يجاهدون ويفتحون المدن الأخرى، وما تم لهذا الأمر إلا زمنٌ يسير حتى أسلم الناس كلهم، أهل دمشق ومن حولها، وبلاد الشام إلا من أعمى الله تبارك وتعالى بصيرته دخل الناس في التوحيد لما رأوا نور الإيمان، والتوحيد، ولما رأوا أخلاق النبوة ورأوا بيوت الله وكان فيها أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى رأسهم معاذ بن جبل في دمشق، ذلك الشاب التقي النقي -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- كانوا يهدون الناس بنور وأخلاق النبوة، فلما رآهم نصارى بلاد الشام قالوا: والله ما الذين صحبوا المسيح عليه السلام -أي الحواريين- بأفضل من هؤلاء، رأوا الخلق ورأوا التواضع والزهد ورأوا إيثار الآخرة على الدنيا، ورأوا الإقبال على الله -تبارك وتعالى- وعلى تلاوة الذكر الحكيم وتعليم الناس هذا الدين العظيم، فدخلوا في دين الله أفواجاً منقادين راغبين غير راهبين.(37/3)
وضوح العقيدة الصحيحة
إن هذه العقيدة النيرة الخيرة ببساطتها، وبوضوحها فهي -والحمد لله- كالشمس في رابعة النهار، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تركتكم على مثل البيضاء -وهي الشمس- ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك} إنها قد استحقت أن تنجذب إليها القلوب، وأن تتفاعل معها مشاعر الناس قديماً وحديثاً، فيدخلوا في دين الله -تبارك وتعالى- أفواجاً.(37/4)
التوحيد أولاً
إن العقيدة هي أعظم وأفضل ميراث ورثناه، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، ورأس العلم: العلم بالله وبتوحيده-تبارك وتعالى- كما قال الله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [محمد:19].
العلم بالله تبارك وتعالى أن تعرف الله كما جاء في حديث معاذ -رضي الله تعالى عنه- لما بعثه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى اليمن قال: {فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، فإذا هم عرفوا الله فأبلغهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات} فمعرفة الله أساس كل شيء، يعرف أنه لا إله إلا هو -تبارك وتعالى- وأنه لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، ولم يكن له شريكٌ في الملك، ولا ولي من الذل، إنه العزيز الجبار المتكبر -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الذي إليه المنتهى، وبيده خزائن كل شيء، وأنه بيده ملكوت كل شيء، وأنه هو وحده الذي يُدعى، ويُرجى، ويُخشى، ويُخاف، ويُتضرع إليه، وهو حسيب المؤمنين وكافيهم في كل أزمة وفتنة ومحنة.(37/5)
تجديد معالم التوحيد
وعلى هذه العقيدة استقامت وصارت الدعوات التجديدية، يبعث الله تبارك وتعالى على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، وكان من آخرها -كما نعلم جميعاً- تلك الدعوة العظيمة التي دعا إليها الإمام المجدد العلامة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فجاء ليعيد لهذه العقيدة نقاوتها، وليعيد إلى هذه الجزيرة قيادتها، فحول التاريخ مرةً أخرى، فبعد أن كانت معاقل الإسلام، وحواضره، وعواصمه، هي: بغداد، أو دمشق، أو قرطبة، أو القيروان، عاد التاريخ مرةً أخرى إلى هذه الجزيرة الخيرة، عاد عبر التجديد الذي جعله الله تبارك وتعالى ميزة لهذا الدين فلا ينضب أبداً -بإذن الله تبارك وتعالى- لتنطلق من جديد بنفس النقاء، والصفاء، والوضوح، والاتباع، فالحمد لله على ذلك، وهذا من فضله، ومنِّه، وجوده، وتوفيقه.(37/6)
بشائر التجديد
إنني لأبشر نفسي دائماً بأن هذه الصحوة الطيبة المباركة لا بد وأن تنتصر -بإذن الله- وإني لعلى يقين من هذا كما أننا موقنون أن الشمس سوف تطلع غداً؛ وذلك لأن الله تعالى هو الذي تكَّفل بنصر هذا الدين، ولأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي أخبرنا بذلك.
وسأذكر مثالاً واحداً من بشائر هذا النصر -لتعلموا أن ما قلته إنما هو عن حقٍ وحقيقةٍ بإذن الله- نحن نرى هذا الشباب المقبل على الله في كل مكان، نراهم إذا سمعوا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً وصح عندهم عملوا به ودعوا إليه، واتبعوه ونشروه، فما معنى هذا؟ معنى هذا أن الصحوة قائمة على قاعدة الاتباع، ومن اتبع هذا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوالله لينال من النصر والتأييد والتوفيق بمقدار اتباعه له، فهذا رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا حجته على خلقه، الذي جعل الله تبارك وتعالى محبته واتباعه معياراً لكل أحد من مدعي الإيمان: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] فالاتباع هو تحكيم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
فإذا قلت للأخ أو للأخت المسلمة: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال كذا، قالوا: سمعنا وأطعنا، فالحمد لله لم نعد كما كان الحال في السنوات الماضية نتبع مجرد أقوال أو آراء للعلماء منها الخطأ ومنها الصواب، وأعني بالعلماء: فقهاء الأمة الأربعة أو غيرهم، وإنما أصبحت الصحوة تتبع الدليل أينما كان، وللعلماء قيمتهم وكرامتهم ومنزلتهم، ولكن إذا صح الحديث فهو مذهب الجميع لا ينازع في ذلك أحد.
ولهذا قال الإمام الشافعي -رحمه الله- عندما سأله الرجل عن أمرٍ فأخبره بالحديث، فقال: 'وأنت ماذا ترى؟، قال: أتراني في كنيسة؟! أترى عليَّ زناراً؟! أقول لك: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقول: ما رأيك أنت؟ وهل لأحد من رأي بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ' وصدق الله إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1].(37/7)
أساس الدين وقاعدته
أبشروا -أيها الإخوان- ما دام هذا طريقنا، فأبشروا واستبشروا خيراً ونصراً وتوفيقاً بإذن الله تبارك وتعالى.
وإن مما يجب أن نذكره -ولا يخفى على أمثالكم- في هذا الشأن أن دين الإسلام وقاعدته العظيمة مبنية على أصلين عظيمين معروفين: الأول: ألا يعبد إلا الله، وهذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله.
والأصل الثاني: ألا يعبد الله إلا بما شرع سواء في كتابه أو في سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يعبد الله تبارك وتعالى بالأهواء والبدع، وبهذا نفترق عن طريق المغضوب عليهم، وطريق الضالين، وهذا معنى الشهادة: بأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذه الشهادة العظيمة إذا عقلناها وعرفنا معناها، وحمدنا الله تبارك وتعالى على ذلك، واقتدينا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه، وأئمة الدعوة المجددين في فهمها وفقهها، والدعوة إليها ينبغي أن نعلم أن لها حقوقاً ولوازم ومقتضيات.
والمقصود أن هذه الكلمة العظيمة تؤتي ثمارها كما ذكر الله تبارك وتعالى {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24 - 25].(37/8)
الولاء والبراء من أعظم مقتضيات كلمة التوحيد
إن شجرة التوحيد والإيمان -شجرة لا إله إلا الله- لا بد لها من أصول، وفروع، وثمار، ومن أعظم مقتضياتها وأوجب حقوقها ولوازمها أن يوالي العبد في الله، ويعادي فيه، وأن توالي المؤمنين، وأن تعادي الكافرين، فإن من والى عدو الله لا يمكن أن يكون محققاً لشهادة أن لا إله إلا الله، ولا آتياً لمقتضياتها، فالله تبارك تعالى قد بيَّن لنا أعداءه فيجب أن نعاديهم، وبيَّن لنا عداوة الشيطان، فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، هذا الشيطان عدو الله، فكيف نطيع الله أو ندَّعي أننا نطيع الله، ثم نطيع الشيطان ونتبعه ولا نعاديه! لا يمكن ذلك، فالله -تبارك وتعالى- يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقّ} [الممتحنة:1] انظر! كيف قال؟ عدوي وعدوكم -الله أكبر- وهل هناك أعظم فخراً من أن يكون اسمك مقترناً بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فيكون عدو الله عدواً لك، ويكون حبيب الله حبيباً لك، نعمةٌ عظيمة لأنك تعادي وتوالي فيه ولوجهه عز وجل.
ومن هم أعداء الله؟ قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] نعم! هؤلاء هم أعدى أعداء الله -تبارك وتعالى- هؤلاء الذي يجب أن يعاديهم المؤمن، وهذا ما بينه الله -تبارك وتعالى- بقوله: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَه} [المجادلة:22] فمهما كانت قرابتهم، فإنهم إن كانوا مؤمنين فلا بد أن ينابذوهم، ولهذا قال تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة:81] لا يمكن أبداً، فاليهود والنصارى والمشركون الذين يكيدون لدين الله -تبارك وتعالى- ويريدون أن يطمسوا ويطفئوا نور الله بأفواههم، لا يمكن أن يكونوا لنا أحبة ولا أن نودهم، بل لا بد أن نعاديهم ونبغضهم بكل أنواع البغض ابتداءً من الجهاد وانتهاءً بكراهية القلب.
فهم الذين قال الله تبارك وتعالى فيهم: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] وهل في إمكان أي مسلم أن يرغب عن ملة إبراهيم وأن يتبع ملة هؤلاء المجرمين المحرفين المبدلين، الذين جعلوا لله ولداً تبارك وتعالى والذين يحاربون الله ورسوله والمؤمنين في كل مكان، لا يمكن أبداً.
إذاً لا بد أن نخلص قلوبنا فنحب من أحب الله، ونبغض من أبغض.(37/9)
صور من الولاء للكافرين
المتأمل في حياتنا يرى أننا نعيش في حال يرثى لها من البعد عن هذه الأصول العظيمة، والمقتضيات الجلية الواضحة، فمن المسلمين مَن أحبوا أعداء الله، بل واتبعوهم، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه} منهم من اتبعهم ومنهم من لم ينكر عليهم، ومنهم من كان خطؤه في أنه أحب أعداء الله؛ وزاد على ذلك ببغض أولياء الله، وهذا ضلال مبين، فلم يكتف بأن يوالي الكافرين، بل زاد على ذلك معاداة الصالحين والمؤمنين! وبعضهم يعكس المسألة، لا يستطيع أن يرتب ولاءه وعداءه، وهذه آفة عظيمة تعتري القلوب، لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما رتب الأعداء يجب عليك أن ترتبهم في العداوة وكما رتب حب أوليائه كذلك يجب عليك أن تحبهم على الترتيب الإلهي والنبوي، فأكثر من نحب في هذه الأمة هو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم الصحابة، ثم السلف الصالح أصحاب القرون الثلاثة المفضلة؛ وهكذا بهذا الترتيب، فلا نحب أحداً ممن جاء بعدهم أكثر منهم، المحبة الإيمانية الدينية الشرعية، وكذلك في البغض، نبغض اليهود والمشركين والكافرين، ثم نثني ببغض أهل البدع والضلال والانحراف، ثم نثلث ببغض أهل المعاصي، والفجور، والفسق، والعصيان، وهكذا، فلو أننا عكسنا ذلك، بأن أبغضنا المسلم الذين فيه فسق ومعصية أكثر من اليهودي أو النصراني لكان ذلك خطأً بلا ريب، ووضعنا الشيء في غير محله، فكيف لو عكس الأمر فأصبح الواحد يبغض المؤمنين الصالحين، ولا يبغض أولئك الكافرين؟ هذا لا يمكن أبداً -ونعوذ بالله أن يكون فينا من يكون كذلك- لكن هذه الحقائق غائبة عن كثيرٍ من المسلمين لعوامل كثيرة مثل الضعف في النفوس، وقلة العلم، وقلة الدعوة وهكذا.
والمقصود هو أن نعلم أهمية هذا الأصل العظيم وأن نجتهد جميعاً في إحيائه، واقعنا العملي يدعونا إلى ذلك، فمثلاً: ليلة رأس السنة الميلادي، عند النصارى، وعند الكفار، ما يسمونه بعيد ميلاد المسيح عليه السلام فيا سبحان الله! هل يجوز أن نحتفل نحن بميلاد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي هو أفضل من عيسى -عليهما السلام- والذي نحن من أتباعه، لا، والله لا يجوز ولا نرضى ذلك ولا نقره وذلك لأنه مُبتدع، مُحدث، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، ونحن -والحمد لله- نعظم رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونعزره ونوقره ونحبه؛ ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً، فلا نحتاج إلى أن نبتدع في دينه، أو نأتي بيوم نحتفل فيه بعيد ميلاده، كما يفعل بعض أهل البدعة أو الجهالة.
فإذا كان الأمر كذلك، فهل يجوز أن نحتفل بعيد النصارى؟! لا يجوز ذلك أبداً؛ لأن المسيح عليه السلام لم يحتفل بعيد ميلاده ولا دعا الناس إلى ذلك، ولا يستطيع أي نصراني في الدنيا -مهما كان- أن يأتينا بنص واحد عن المسيح عليه السلام ولا عن الحواريين-ولو كان محرفاً مبدلاً- أنه احتفل بعيد ميلاده أو دعا الناس إليه، ولو كان احتفالهم قراءة في الإنجيل! فهذا كله لم يرد.
فكيف -وهو مُحدث مُبتدع في دينهم- نأخذه نحن في ديننا؟ فكيف وهم يضيفون إلى البدعة والإحداث في الدين الكفر بالله -تبارك وتعالى-؟ فيزعمون في هذه الاحتفالات أن لله ولداً -تبارك الله وتعالى عن ذلك- ويزعمون أن الله ثالث ثلاثة، ويدَّعون أن له الصاحبة، ويشركون به في صلواتهم ودعائهم، ويضيفون إلى ذلك شرب الخمر، والاختلاط، والأمور التي لا يرضاها ولا يقرها عاقل -لا منهم ولا من المسلمين من باب أولى- فهذا معيار من معايير الصدق في الاتباع وصدق شهادة أن لا إله إلا الله وتوحيد الله تبارك وتعالى.
أمر آخر: كيف نرضى بأن يقيم أعداء الله بين ظهرانينا؟ كيف نستقدمهم؟ سواءً كانوا عمالاً، أو مهندسين، أو فنيين، أو خدماً، أو سائقين، أو أياً كانوا، يا سبحان الله! لو علم شخص أن قبيلةً من القبائل بلغ بها من العداوة لقبيلته أنهم يلعنون آباءه وأجداده ليل نهار، ويتهمونهم بكل مصيبة، أتراه يذهب إليهم، ويتعاقد ويتاجر معهم، ويحبهم، ويقربهم، ويدنيهم وفي إمكانه أن يأتي بغيرهم! لا والله؛ بل سيقول: كان ممن يسب قبيلتنا، ويسب آبائي وأجدادي، ويقول فينا هذا القول العظيم لا أحبه أبداً، هذا على الأقل من باب الغيرة القلبية، التي قد تكون مذمومة، وتكون محمودة، فإن لم تكن حمية لدين الله ولنصرته فهي مذمومة.
فيكف بمن يدَّعي أنه يُحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ تجد أنه لو سئل مسلم أتحب رسول الله؟ يقول: كيف لا أحبه؟ فإذا قيل له اسأل هذا الذي عندك سواء كان مهندساً، أو فنياً، أو عاملاً اسأله عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ سيقول: دجال، كذاب ليس بنبي، أعوذ بالله! فكيف تؤوي وتنفق وتعطي المال من يعتقد في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الاعتقاد؟ أين إيمانك؟! أين محبتك له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! يدعي ويعتقد ليل نهار أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كاذب مفتري، وأن القرآن باطل، وأن المسلمين هم أصحاب النار، ويدعو إليه، وينشره، ويجمع المال من هذه البلاد ويرسلها إلى إخوانه هنالك، كل هذا يقومون به ونحن نحترمهم، ونحبهم ونقدرهم ونستقدمهم ونتعاقد معهم! بل ربما تربي الخادمة أبناءنا على هذا! وقد نشرت صورة الطفلين الذَين كانا يسجدان أمام التنور -البوتجاز- يسجدان له؛ لأن الخادمة كانت مجوسية، فعلمتهما أن يسجدا ويركعا للنار؛ لأنها مجوسية والعياذ بالله.
هذا دينهم وهذا اعتقادهم! فكيف نؤويهم وبيننا وبينهم فوارق كبيرة؟! نحن نقول: لا إله إلا الله، وهم يقولون: إن الله ثالث ثلاثة! هذا إذا كانوا نصارى، أما إذا كانوا من الهندوس فالآلهة عندهم بالآلاف أو بالملايين! كل شيء إله، يعبدونه -تعالى الله عما يصفون- هذه عقيدتهم.
نحن نشهد أن محمداً رسول الله، وهم يشهدون في كل حين أنه كاذب، افتراءً على الله! وحاشاه من ذلك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
نحن نصلي الصلوات الخمس ونتوضأ لله كل حين، وهم لا يذكرون الله إلا على دينٍ باطل، ولا يصلون لله بل يستغيثون ويدعون غير الله سواء المسيح أو غيره، بل جعلوا عيسى عليه السلام هو الرب، وهو الذي قال لهم: اعبدوا الله ربي وربكم، سبحان الله! فهل بعد ذلك أحبهم وأشاركهم في العمل، ويكونوا معي في البيت، وأتعامل معهم بالتجارة وأنا أستطيع أن أستغني عنهم؟! لا والله، لا أتاجر معهم، ولا أشتري بضائعهم وأنا أستطيع أن أشتريها من مسلم، بل حتى في الطعام نحن نأكل الطعام الحلال الطيب، وهم يأكلون الميتة، والجيفة، والخنزير، ويشربون الخمر، سبحان الله! قذارة حسية، وقذارة معنوية، كفر، ذنوب مشينة، حياة نكدة، ومع ذلك نجد فينا من يحبهم أو يعظمهم أو يكرمهم أو يواليهم! سبحان الله العظيم! كيف يجتمع هذا وهذا؟!(37/10)
مكر الكافرين بالمسلمين
إن مكر الكافرين بالمسلمين عظيم وواضح، فإذا تأمل المسلم ماذا يريد اليهود في فلسطين؟ يريدون أن يهدموا المسجد الأقصى وينشئوا الهيكل المزعوم! هيكل سليمان، ويريدون أن يستأصلوا المساجد، وبيوت الله، والقضاء على من يذكر الله ومن يقول: لا إله إلا الله في تلك الأرض المباركة.
والنصارى في مصر ولبنان وغيرها يريدون أن يكون الحكم بأيديهم، أن يذلوا المسلمين به، وهذا بيَّنه أحد الذين هداهم الله من القساوسة وأسلم، إذ قال: إنهم يلبسون اللباس الأسود في مصر من بين سائر دول العالم، حداداً على هزيمة النصرانية ودخول الإسلام إليها، ولن ينزعوا هذا اللباس إلا إذا لم يبق في مصر مسلم واحد! ويُذكر أن الكنائس في مصر تعبّأ بالأسلحة! وقلاع لا يدخلها أحد، لا أمن مركزي ولا غيره، أما بيوت الله فهي التي تنتهك وتفتش! وهي التي يسحب الأئمة منها، ويوقفون ويمنعون بحجة أنهم متطرفون، أما النصارى، فيمكَّنون لكي يقيموا دولة الشرك والتثليث على أرض فتحها أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! بل حتى في البوسنة والهرسك فقد أعلنوا -بصريح العبارة مراراً-: لا يمكن أن نسمح بقيام دولةٍ إسلامية في وسط أوروبا، لأن أوروبا نصرانية.
هذا في القرن العشرين وبعد الثورة الفرنسية المجيدة كما يزعمون، وبعد ظهور الديمقراطية، وبعد الحرية الدينية، كلها مزاعم، فهم لا يزالون يقتتلون! الكاثوليك والبروتستانت، والجيش الجمهوري الايرلندي والإنجليز، فأين هذه الحقوق التي يقولون ويتشدقون بها؟ لو كان شعب البوسنة كله من الكاثوليك أو البروتستانت أو الأرثوذكس لانضووا تحت حماية الدول النصرانية، أما وهم من المسلمين فليس لهم أحد فليستأصلوا، وليبادوا كما أبيد المسلمون في الأندلس، إذ قتلوا جميعاً ولم يبقَ منهم أحد! هكذا الحقد يبلغ بهم، ونحن لما فتحنا بلاد الشام، ومصر، وكان الأقباط والنصارى فيها لم نفعل بهم كما فعلوا بنا، بل لا يزالون فيها إلى اليوم، هذه السماحة التي وصفها الشاعر بقوله:
ملكنا فكان العفو منا سجية ولما ملكتم سال بالدم أبطحُ
نعم، فشتان ما بيننا وبينهم، وكل إناء بالذي فيه ينضح، هكذا نحن لأننا نهتدي بهدي الله، وبأخلاق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما هم فهذا الذي يريدون.
ومع ذلك نجد من يريد أن يجعل الوحدة الوطنية، أو الأخوة الإنسانية فوق كل اعتبار، أو فوق عقيدة التوحيد، عقيدة لا إله إلا الله.(37/11)
التنصير
حتى في هذه الجزيرة الطيبة الطاهرة أراد صانعو الخيام أبناء بولس الذي علمهم أن يدخلوا إلى الأمم التي لا يستطيعون أن يجهروا فيها بـ النصرانية، أن يدخلوا وهم صانعو خيام! أي: امتهن أي مهنة وادخل من خلال المهنة والحرفة لتدخل الناس في دين بولس -أرادوا أن يدخلوا فيها- فقد كثرت في الآونة الأخيرة المؤلفات والمقالات عن التنصير في الخليج، مثل الكويت والإمارات والبحرين وبنيت الكنائس فيها في الميادين العامة، والدعوة فيها علنية، حتى المعابد الوثنية علنية، أمرٌ تشيب له قلوب المؤمنين، وأما في هذه البلاد فهم يتسترون، لما يعلمون -والحمد لله- من وجود بقايا من أهل الحق والخير لن يرضوا أبداً بهذا الكفر وبهذا الشرك، لكنهم يعملون في صمت، ويجتهدون ويخططون.
وفي إفريقيا لهم مكر عظيم، فقد قال بعض الإخوان من الدعاة إلى الله ذهب إلى إفريقيا، قال: قلت في نفسي أذهب إلى قرية بعيدة لا أجد فيها أحداً من المنصرين، فلما دخل القرية، قال: هذه القرية لا يمكن أن أرى فيها أحداً، قال: وإذا بي أجد عجوزاً نصرانية قدمت إلى هذه القرية وهي شابة وضلت تدعو وتحاول التنصير حتى هرمت وشاخت وهي بتلك القرية في المناطق الحارة البعيدة، وقد جاءت من مناطق أوروبا هناك حيث الجو البارد الجميل، والترفيه، والحضارة.
سبحان الله العظيم! كيف يخططون ويمكرون؟ وهم في هذه البلاد أشد مكراًَ، يعلمون أنه إذا كان الصوماليون، أو السودانيون، أو التشاديون، يرفضون التنصير فأهل هذه الجزيرة أكثر وأشد رفضاً.(37/12)
تحرير المرأة
ولهذا فهم يتسللون إلينا من بعيد، وبحكمة -في نظرهم- ودهاء وخبث، فيتسللون عن طريق قضية تحرير المرأة، فجعلوا قضية المرأة قضيةً اعتقادية، وجعلوا من دينهم ومبادئ دعوتهم تحرير المرأة.
نحن هنا ما عرفنا ولا عهدنا أن تخرج المرأة وتتبرج، فجعلوها كذلك، ومن هنا يجب علينا أن نجعل مقاومة ذلك ديناً وعبادة، المرأة إذا تحررت وخرجت واشتغلت بالزينة والمكياج لمن هب ودب، ولمن جاء وراح، وأخذت تذهب وتأتي في الأسواق، وتشتري الأفلام والمجلات، وتعمل مع الرجال، يتربى الأبناء وهم أكثر قبولاً للتنصير، أو لأي عمل يريدونه.
المرحلة الأولى: هي إخراج المسلمين من دينهم، وهذه تتحقق لهم بوسائل، منها ما يسمونه: تحرير المرأة.
المرحلة الثانية: ولو بعد جيل أو جيلين أن يدخل المسلمون في دينهم.
هذا تخطيط ماكر خبيث، ولهذا نجد إندونيسيا ونيجيريا وبنجلادش حتى باكستان وأفغانستان تمتلئ -فضلاً عن شرق إفريقيا - بالمنظمات النصرانية التي لا تخاطب الناس -بالضرورة- من أول يوم بالتنصير، وإنما تعطي الطعام والدواء ووسائل النقل وكل شيء، حتى يأتي الجيل الثاني فتربيهم من الصغر على أن يكونوا نصارى والعياذ بالله.
وهم الآن يخططون لهذه البلاد -ولدينا حقائق عجيبة من هذا- أصبحنا مثل الغنيمة الباردة! الروافض يعملون، والصوفية يدأبون ويعملون، والعلمانيون يعملون، والحداثيون يعملون، ولم يُكتفى بهذا، بل حتى اليهود والنصارى أصبحوا يعملون ويجتهدون، ونحن في غفلة كأننا مخدرون، وهمنا الدنيا والدرهم والدينار، بُنيت كنائس في الرياض، وفي جدة، والمنطقة الشرقية، وفي مناطق كثيرة، ولكنها لم تظهر بشكل بارز، لكن لو فتشنا لوجدناها توزع أناجيل بشتى اللغات، ونشرات، ومجلات، ودوريات، وكلها تريد أن تخرج هذه الأمة من دينها؛ لأننا لم نقم بمقتضى توحيد الله وشهادة أن لا إله إلا الله فنتبرأ منهم ونعاديهم ونطردهم ونخرجهم.
أمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: {أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب، لا يجتمع دينان في جزيرة العرب} فلما خالفنا هذا إيثاراً للدنيا، وقلنا: هذا مهندس، وهذا فني، وهذا خبير، وهذا لا شيء فيه، وخدعنا بهم، كان ما ترون ولا حولا ولا قوة إلا بالله.
قد يقول قائل: لماذا نتحدث عن اليهود والنصارى وهم أمة قوية متحضرة؟! نحن نحتاج إليهم في بعض الأمور، نقول: نعم، ولكن كل شيء له ضوابط، لو أننا اكتفينا بالخبراء المتخصصين في أمور نادرة لهان الخطب، لكن حالنا اليوم عجيب، نستدعي سائقاً مجوسياً أو بوذياً أو هندوسياً؟ ألا يحكم السواقة إلا هؤلاء، ألا نجد حنيفاً مسلماً يقود السيارة؟ أو نستدعي خادمة، أو عامل نظافة، أو غير ذلك من المهن.
فجاءنا عباد البقر، ورفعوا عقيرتهم، واستطالوا علينا -وهم أخبث الملل وأرذل النحل- لأننا كالغنيمة الباردة، انهب وكُلْ، وإلا فهي لغيرك! أمة غافلة، فيجمع الهندوس من هذه البلاد الأموال، حتى إنهم يفرضون ضريبة على العمال المسلمين من بلادهم، - (20%) الخمس-، يجمعونها ثم يرسلونها إلى الحزب الهندوسي المتطرف لكي يحكم الهند فيستأصل المسلمين بعد ذلك، الله أكبر، ونحن إذا قَبِلنا عاملاً منهم نحترمه ونبجله، ونعطيه المرتب، ونستقدمه، المسلم لديه الخبرة والاختصاص ولا يستقدم! إنه الهوان على الله، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18].
بل قد يقول بعض المسلمين: هذا الكافر أمين وطيب وصادق! أعوذ بالله! هل هو صادق حتى في قوله إن لله ولداً، وأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كاذب ليس برسول؟! بل بعضهم يقول: المسلم يخسرنا بالصلاة والحج والعمرة أما الكافر فلا! وكأننا -والعياذ بالله- نقول: لا نريد المؤمن لإيمانه، ونحن نحب الكافر لكفره وهذا كفر صريح لو قالها، أو اعتقدها.
نأتي بممرض من الممرضين، كم الأطباء المتخصصون في التوليد، زعموا؟! إن المتأمل في الوظائف التي يستقدم لها من غير المسلمين يجدها وظائف غير متخصصة، فإما خياط يقيس أفخاذ وأكتاف بنات المسلمين، أو طبيب في التوليد يُحدد من نسل المسلمين بعمليات لا ضرورة لها، ومع ذلك تجد من المسلمين من يرمي زوجته كأنها شاة، ثم يأتي يأخذها لا يدري ماذا صنعوا بها؟ ومن الذي ولدها؟ سبحان الله! أين الغيرة؟ أين الإيمان؟ لا يجوز للطبيب المسلم التقي أن يولِّد امرأة أجنبية إلا للضرورة القصوى! فكيف وهو كافر؟ فكيف وأفعالهم قد شهدت قديماً وحديثاً أنهم يبطنون الغدر والمكر والكيد للمسلمين؟ ثم يُؤتى بالممرضات، والمضيفات -الخادمات- فيكون بعدهن الفساد.
تأتي ممرضة راتبها ألفان، وبعد أشهر تحول إلى بلدها ثلاثين ألف ريال! بل واحدة حولت مائة ألف ريال، كيف جمعت من ألفين ريال وألف وخمسمائة هذه المبالغ الكبيرة؟ من أين؟ أمن الراتب؟ لا والله بل ينشرن الرذيلة والدعارة والانحلال، وهذا مكر الكافرين جميعاً بالمسلمين!! فقد نشرت عكاظ، وغيرها من الجرائد أن اليهود أرسلوا البغايا إلى مصر لنشر الإيدز فيها؛ لأنهم يريدون أن يحطموا مصر، وكما أرسلوا -أيضاً- إلى بانكوك، حيث يذهب بعض الشباب من هذه البلاد إليها أو إلى مانيلا فيحمل تلك الأوبئة الخبيثة مثل: الإيدز، والهربز، ويأتي بالأمراض إلى هذه البلاد.
هذه العداوة والمكر والتخطيط والخبث، ونحن في غفلة! وإذا أردنا البديل، قالوا: البديل أننا نُخرج الممرضة السعودية لتحل محلها، وكأنه لا بديل عن الفساد الخارجي إلا بفساد داخلي، فإما هندية، أو نصرانية فلبينية، أو تايوانية، أو سعودية، فهذه مغالطة: بل لا بد من معالجة المشكلة من جذورها واستئصالها من أعماقها؟ فكل هذه المشاكل لأننا لم نحقق مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله.(37/13)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ومن مقتضيات التوحيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمعروف الأكبر هو التوحيد واتباع السنة، والمنكر الأكبر هو الشرك واتباع البدعة والأهواء، ولكن بعض الناس يظن أن هذه مهمة الهيئة، وهذا خطأ، لأننا لو فرضنا أن في كل شارع مركز للهيئة متكامل يراقب أربعاً وعشرين ساعة، باتصالات، وبرقابة متطورة، وبعناية واهتمام وهذا غير موجود مع الأسف، لأن المدينة الكبيرة فيها مركز واحداً! عليه أعباء هائلة لا يستطيع أن يتحملها إلا إدارات وليس مركزاً واحدا- لكن لو فرض أننا في الحالة الأولى، لما جاز لنا أن نقول: إن الهيئة هي المسئولة عن كل ذلك، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده} قال: من رأى منكم، أي أيها المسلمون جميعاً، {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه}.
فالواجب يقع علينا جميعاً، لأن الهيئة جهة تنفيذية وعقابية تنذر بالعقاب، أما أنا فأستطيع أن أغير بيدي في بيتي، أو في حدود ولايتي، أو في مدرستي، أو في الحي الذي لي فيه قيمة كأن أكون عمدة -مثلاً- أُغير بيدي، بقدر الولاية، والهيئة أحيل إليها من لا أستطيع معاقبته، لتعاقبه أو إلى المحكمة ليعاقب بما يقتضيه الشرع، كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحفظ الله تعالى به أمن البلاد، ويحفظ به كلاً منا في أهله ونفسه وماله، فالناظر للأمن في بلادنا -يوم أن كان للهيئة الدور الكافي- كان أكثر من الآن، لكنه تدهور في كثير من المدن، والأحياء بدرجة فضيعة، لمَّا ألقي الحبل على الغارب، وقلصت صلاحيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك الناس ذلك الأمر العظيم، فوجدت مصانع للخمور، وليست قواريراً، بل مصانع تصنع فيها بالبراميل! وتباع بيوت وأوكار للدعارة والعياذ بالله.
وبيوت، واجتماعات، ولقاءات للفساد العقدي، وهو أخطر من الفساد الخلقي، يجتمع فيها المنصرون، والروافض، والصوفية والطرق البدعية، يجتمعون ولا تجد مَن ينكر.
وإدخال سيل جارف من الكتب والأفلام والمجلات والمطبوعات والنشرات، تتعجب عندما تراها، ولا تكاد تصدق أن هذه تقرأ وينظر فيها في بلد الإسلام والتوحيد، ومع ذلك كله تتدفق بما فيها من كفر واستهزاء بالله، وسخرية برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستهزاء بالدين وبالحجاب وبتحريم الربا وبالجهاد وبكل ما نؤمن به ونعظمه ونعتقده من شعائر الله، فيها كل ما يحارب ذلك جميعاً، ومع ذلك لا نتفطن إلى هذا.
وإنما ديدننا دائماً: نحن بخير والحمد لله، ونحن أحسن من غيرنا، لا شك أننا بخير في جوانب كثيرة، وأننا أحسن من غيرنا، لكن إذا أردنا أن ننظر إلى أمر الآخرة فلننظر دائماً إلى من هو أعلى منا، وإذا أردنا أن ننظر إلى الدنيا، فلننظر إلى من هو دوننا هكذا علمنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أما أن نعكس الأمر، فتجد الواحد منا إذا كان راتبه كذا ألف لا يقول: الحمد لله أنا بخير، وكثير من الفقراء أو من هم أقل مني في الوظيفة لا يجدون ما أجد، بل يقول: إنَّ هناك كثيراً أفضل وأعلى مني لا بد أن آخذ أكثر! وإذا أتينا إلى أمر الدين قال: نحن بخير، والحمد لله طيبين ولا يوجد شيء! عكسنا الآية وقلبنا الأمر، لا، بل يجب أن ننظر بعين صادقة.
فما نراه الآن في عيوننا أدق من الشعر كان في أعين أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الكبائر ومن العظائم، وهم المعيار، والمقياس الذي يجب أن نجعله أمامنا، فلا نستهين بمعصية وإن صغرت، لأنه كثرت علينا الصغائر حتى جاءت الكبائر، وحتى أصبحنا في طوفان -والعياذ بالله- يكاد أن يجرفنا عن ديننا وإيماننا، فلنراجع أنفسنا في هذا الأصل العظيم من أصول الإسلام ومن حقوق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وأوجز ما تقدم فأقول: إن الواجب علينا -جميعاً- أن نحمد الله على هذا الدين والتوحيد، وأن نوالي المؤمنين، ونعادي الكافرين، وأن تكون سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه في القيام بحقوق لا إله إلا الله، ومقتضياتها أمام أعيننا دائماً، نتأسى بها، ونتمثلها قولاً وعملاً، هذا وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.(37/14)
الأسئلة(37/15)
مرض سوء الظن
السؤال
ما هو رأي الدين فيمن يسيء الظن بالناس وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
لا تقل رأي الدين يا أخي! ولكن قل: ما حكم الله؟ ما حكم الشرع؟ هذا ليس رأياً، الرأي رأينا نحن، أنا وأنت، أما ما كان من الدين، فهو حكم من الله.
حكم الله فيمن يسيء الظن بالناس نجده في قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] فمثلاً: إذا أسأت الظن بأهلك في البيت، فقد يُؤدي ذلك إلى اتهامهم بما لا يليق، وربما أدَّى ذلك إلى الطلاق -وكثيراً ما يقع هذا والعياذ بالله- وإذا أسأت الظن بالموظفين أو العمال؛ دفعتهم إلى الريبة وأفسدت نياتهم وإخلاصهم، وإذا أسأت الظن بجارك كان ذلك مدعاة إلى قطع العلاقة بينك وبينه، وإذا أسأت الظن بمن يتعامل معك كان ذلك أدعى أن يتحرز منك، وألاَّ يتعامل معك، وهكذا.
فلا تسيء الظن، ولكن كن ذكياً، وحذراً، وفطناً، وتنبه، أما أن تسيء الظن، فسوء الظن المجرد من الكبائر التي قرنها الله تبارك وتعالى بالغيبة.
وهناك من يظن أن معاملة الكفار أو المنافقين بحذر من باب سوء الظن، أي: إذا قلت: إن الكفار لا يحبون لنا الخير، ولا يريدوه لنا، قال: يا أخي! هذا سوء ظن! أقول: لا يا أخي! فرق بين هذا وهذا، الله هو الذي قال: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10] أي: لا يراعون في المؤمنين عهداً ولا ميثاق، وهو -أيضاً- الذي أخبرنا أنهم لن يرضوا عنا كما قال: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] فالله قال ذلك، وليس نحن الذي قلناه، فيجب أن نعتقد فيهم ما أخبرنا الله تبارك وتعالى به، فهم يحسدوننا كما بيَّن الله تعالى ذلك بقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] يحسدوننا، ويبغضوننا، ويريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، وهذا ليس من الظن، وإنما هو حق لأن الله أخبرنا به.(37/16)
تطهير عرقي أم حرب على الإسلام
السؤال
هناك ما يُدعى تطهيراً عرقياً في البوسنة والهرسك مع أن النصارى قالوا: نريد القضاء على دولة الإسلام في أوروبا؟!
الجواب
يُغلِّفون دائماً الحرب على الإسلام بأغلفة، يقولون: حرب التطهير العرقي، فإذا رأيت الواقع رأيت الصرب البوسنيين الذين على دين النصارى وهم من البوسنة لا يُطردون! والصرب المسلمين يطردون! إذاً القضية ليست قضية العرق، وإنما القضية قضية دين وإيمان، والعجيب أنهم يصرحون -كما تسمع أحياناً في كلام أويل المندوب الدولي وفي كلام غيره- تصريحاً واضحاً بأنهم يعادون الإسلام، فيقولون: استئصال المسلمين، ويقولون: القوات المسلمة حتى في إذاعة لندن وأمريكا! وفي الإذاعات العربية يقولون: قوات البوسنة أو القوات البوسنية الكرواتية المشتركة، أو القوات المشتركة، كأننا نخاف ونتحرج من كلمة إسلام! مثل أخبار حرب بيروت قديماً.
كنا نسمع إذاعة لندن في كل ليلة تقول: بيروت الغربية، أو القسم الإسلامي من بيروت، وتقول: بيروت الشرقية النصرانية، أما الإذاعات العربية فلا نتكلم، لا نصراني ولا مسلم! بيروت هي بيروت شرقية وغربية.(37/17)
حكم مشاركة الكفار في أعيادهم
السؤال
ما حكم الله تعالى فيمن يشترك في لجنة لتقييم وإجازة الحفلات المسيحية النصرانية -ليست مسيحية- المقامة في ينبع الصناعية سواءً بعيد الميلاد أو غيره من الحفلات الغنائية؟
الجواب
إذا كان مسلماً ويشترك في إجازةٍ لحفلة من حفلات المشركين -من النصارى أو غيرهم- فهذا العمل محرمٌ ولا يجوز بأي حال من الأحوال، فإن كان هذا الرجل يعتقد أن دينهم حق، ويعتقد أنه يجوز لهم أن يتدينوا وأن يتعبدوا بذلك، فهذا خروج من الملة -والعياذ بالله- لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} لن يقبل منه أبداً {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] وإن كان لا يعتقد ذلك لكن لشهوة أو رغبة، فهذه من المحرمات كما في الفتوى التي نرجو أن تكون قد وصلت إليكم إن شاء الله.(37/18)
حكم التعامل مع غير المسلمين
السؤال
في مجال عملي يتحتم الاحتكاك بكثير من الأجانب الذين لا يدينون بالإسلام فبعضهم هندوس وبعضهم نصارى فما حكم الحديث معهم في غير مجال العمل وكذلك المزاح معهم والأكل معهم؟ وإذا دعوني إلى وليمة هل يجوز لي قبول دعوتهم، وهل يجوز أن أدعوهم لمنزلي؟
الجواب
التعامل مع غير المسلمين لا بد له من ضوابط، منها: أن تكون علاقتك بهم بغرض دعوتهم وهدايتهم للإسلام فتحب المسلم من أي بلد كان، ونحبه بقدر إيمانه، وبقدر تمسكه -حتى ولو كان عامل نظافة- لا يجوز أن نحتقر مسلماً، كما حذر من ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: {بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم} عامل النظافة المسلم الذي يصلي خيرٌ ألف مرة من مدير شركة يأخذ مليون ريال راتب، وهو كافر لا يؤمن بالله، فلا بد أن نراعي هذا الأمر.
إذاً القاعدة هي مصلحة الدعوة، لا بحسب رغبة النفس وميلها، فإذا كنت تطمع أن يهديه الله، -مع أنَّ الأصل أن يطردوا من هذه البلاد- فيجوز ذلك، أما الأكل معهم وقد ذُكر الهندوس فلا يجوز للمسلم أكل ذبائحهم مطلقاً، وأما النصارى -في هذا العصر- فإن كانت ذبائحهم ليست من أسواق المسلمين فأيضاً لا يجوز لك أن تأكل منها، حتى تتأكد أنهم يذبحون، لأن النصارى الآن يخنقون ولا يذبحون! ويأكلون اللحم المعلب والمستورد من الجيف، فلا بد لك من ضوابط معينة وما ذكرنا فيه إجمال فقط.(37/19)
الجمع بين أعمال الدنيا وأعمال الآخرة
السؤال
نرجو أن تشرح لنا كيف الجمع بين أعمال الدنيا وأعمال الآخرة، وهل هذا جائز؟
الجواب
لا يوجد عداوة عندنا بين الدنيا والآخرة كما هو حال الرهبانية النصرانية، نحن عندنا الدنيا مزرعة للآخرة، وممر ومعبر إليها، وهذا واضح في قول الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} [الجمعة:10] فإذا صليت الفجر، فاذهب إلى عملك الدنيوي ما دام حلالاً، وأخلص فيه، وانصح للأمة، واجتهد فيه، فإذا أذَّن الظهر، صلِّ لربك تبارك وتعالى، فهذا كله للدنيا وللآخرة معاً، حتى عملك في الدنيا انوِ به وجه الله كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لـ سعد بن أبي وقاص: {وإنك لا تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا كان لك بذلك أجر حتى اللقمة تضعها في فيِّ امرأتك} أي: في فم زوجتك لك بها أجر، ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وفي بضع أحدكم صدقة} أي: أن يأتي الرجل أهله له فيه أجر، {قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟، قالوا: نعم.
قال: فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر}.
إذاً ديننا ليس فيه انفصال، ليست هناك عداوة.
لكن بشرط ألاَّ يشتغل بها، كما قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون:9] أما أنك تحب المال، وتحب الزوجة، وتُنمي مالك، وتلاعب أهلك، وتُقبل أبناءك وتداعبهم، وتنزههم، وتشتري لهم الهدايا، وتكون علاقتك بهم علاقة الأب الرءوف الحنون المشفق، هذا من الدين، ومن هدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليكن شعارنا في حياتنا كلنا هو قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] كل حياتك لله، حتى ما كان فيها من حظ النفس، فاجعله ترويحاً لها لكي تستقيم على طاعة الله تبارك وتعالى.(37/20)
حكم انتقال المنفرد إلى إمام
السؤال
هل يجوز للمنفرد أن يصير إماماً في الفريضة؟
الجواب
لو جاء رجل بعد انقضاء الصلاة وكان منفرداً، فجاء أناس آخرون، فجعلوه إماماً لهم -يصلون معه- فذلك جائز إن شاء الله.
وأما إذا كان قصد السائل عن المؤتم الذي يتم صلاته بعد سلام الإمام وقد فاتته ركعة أو ركعتان فهل نجعله إماماً ونصلي خلفه؟ العلماء في هذا على وجهين: فبعضهم يجيز، وبعضهم يمنع، لكن لو نقَّبنا في سيرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنته لم نجد لهذا سابقةً من قبل، إلا عموم الائتمام فعلى هذا أرى أن ذلك لا ينبغي، وليس له أصل، وإنما يتم كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والداخل يصلي منفرداً، فإن كان أعاقه عذر فله أجر الجماعة بإذن الله.(37/21)
التوفيق بين وجوب قتال الكافرين وعدم إكراههم على الدين
السؤال
يقول: كيف نوفق بين قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله} وقوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين ِ) [البقرة:256] والرضى بالجزية من أهل الكتاب وتركهم على دينهم؟
الجواب
لا تعارض بين هذه الأحكام، فالأصل أننا ندعو الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن لم يرضوا بذلك دعوناهم إلى الجزية التي ذكرها الله تعالى بقوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29].
وأما قول الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] فالمقصود بها القلوب، فلا يمكن أن تكره أحداً على اعتقاد ما لا يريد أن يعتقد بقلبه، وأما أن نجاهدهم فلا، الجهاد حق، وهو ذروة سنام الإسلام، ولا بد منه، وقد جاهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجاهد أصحابه، فنحن نجاهد الكفار.
أما الواحد منهم فلا نستطيع أن نكرهه أو أن نحمله على أن يؤمن وقلبه مظلم بالكفر، لا نكرهه أن يعتقد الإسلام وهو لا يريد أن يعتقده، وإنما ندعوه، ونبين له، فإن أصر إلا أن يدفع الجزية قبلنا منه، وأما إن أظهر الإسلام وهو في الباطن كافر، قبلنا منه ذلك ونكل أمره إلى الله -تبارك وتعالى- فلا تعارض بينها في الحقيقة.(37/22)
حكم تداوي النساء عند الرجال
السؤال
عندما نذهب -أحياناً- بالمرأة إلى المستشفى، لا نجد من يكشف عليها سوى طبيب رجل، ويمنع دخول محرمها معها بحجة أن ذلك ممنوع حسب تعليمات مدير المستشفى، فما رأيك في ذلك؟
الجواب
لا تقر بهذا أبداً! هل هناك شيء -بعد ديننا وإيماننا- أغلى من أعراضنا؟ سبحان الله العظيم!! لو وُضع علينا ضريبة، صغيرة على رغيف الخبز، أو قالوا: لا نعطيكم السكر إلا من النوع الرديء، والله لن نهدأ، سنعمل احتجاجاً، أو صياحاً، ونستورد سكراً ممتازاً! والعرض نغض الطرف عنه! وهو أغلى شيء بعد الإيمان، نتهاون فيه! إذا كنا جميعاً لا نرضى هذا، فلا بد أن الوزارة تأتي بنساء، ولا بد أن تفصل بين الرجال وبين النساء، لكن إذا تهاونا وسكتنا استسهلوا هذا.
فيجب أن نطالب، وأن نؤسس -إذا استطعنا- المستشفى النسائي الخاص.
لماذا لا يكون في ينبع مستشفى نسائي متكامل منفصل فصلاً كلياً؟ كما أنه يوجد في بعض المستوصفات مولدات نساء، فأذهب إلى المرأة، وإن كان علاجها واهتمامها أقل، نحتسب عند الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ونذهب إليها، أما أن نتساهل ونقول: مثلي مثل الناس، وماذا نعمل؟ هذا هو الذي يجعل هؤلاء المجرمين الهندوس والنصارى وأمثالهم يتغطرسون ويفعلون ما يشاءون، لا بد أن نطالب جميعاً بهذا الشيء، ويوجد -والحمد لله- الطبيبات في باكستان يوجد مسلمات في الهند، وفي كل مكان، نأتي بهن، أو من تعلمت من بنات هذه البلاد، ولكن في انفصال كامل عن الرجال، ويقوم هؤلاء بمعالجة النساء.(37/23)
هل النصارى الموجودون من أهل الكتاب
السؤال
هل النصارى الموجودون الآن من أهل الكتاب؟ حيث إن أكثرهم ليسوا من بني إسرائيل الذين بعث فيهم عيسى عليه السلام ورسالة عيسى عليه السلام خاصة لبني إسرائيل وليست عامة للناس؟
الجواب
لا شك أن رسالة عيسى -عليه السلام- ليست عامة، لكن كل من دان بـ النصرانية فقد جعله الله ورسوله منهم، حتى نصارى بني تغلب وحتى نصارى نجران الذين أنزل الله تبارك وتعالى فيهم صدر سورة آل عمران هم من العرب، فكل من دان بـ النصرانية فهو من أهل الكتاب، وأهل الكتاب هم أهل الكتاب في القديم والحديث، شركهم قديماً وحديثاً موجود فيعدّون أنهم أهل كتاب، إلا من ألحد منهم وكفر بـ النصرانية، وأصبح شيوعياً -مثلاً- أو مجوسياً أو بوذياً أو ما أشبه ذلك، فهذا يكون مرتداً عن دينه ولا يعامل معاملة أهل الكتاب.(37/24)
حكم التداوي بالسحر
السؤال
ما قولكم فيمن يقول: لا يحل السحر إلا ساحر، نرجو التفصيل في المسألة؟
الجواب
السحر في هذه الأيام انتشر -والعياذ بالله- وشكا منه الناس بشكل فضيع جداً، ولما اشتكوا منه جاء الشيطان بالعلاج الآخر، قال: هناك ناس يعالجون ويفكون السحر، فيهرب الناس من السحرة إلى السحرة! والواجب علينا جميعاً أن نتحصن من شر الشيطان -وهو رأس السحر والشر- ومن أعوانه بما أعطانا الله من أذكار الصباح والمساء وهي بين أيدينا، والمعوذات، وقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، في اليوم مائة مرة، وقول: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، إلى آخر الأذكار وهي معروفة عندكم، فمثلاً: كتاب صحيح الكلم الطيب موجود بثلاثة ريالات أو بأربعة، ينبغي أن يكون في كل بيت وتقرأ الأذكار الصحيحة التي فيه.
ثم إذا وقع الإنسان في شيء من ذلك، وابتلاه الله به فليصبر! أما أصيب بعضهم بالسرطان؟ -نسأل الله أن يعافينا وإياكم- أو بتلوث في الرئة! فنصبر ونحتسب، فكذلك إذا ابتلينا بالسحر، فلنصبر، ونلجأ إلى الله ونتخذ الأسباب المشروعة من: قراءة القرآن وخاصةً سورة البقرة والمعوذتين وما أشبه ذلك، نقرأ ونجتهد وندعو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ومن استطاع منا أن يرقي أخاه أو ينفعه، فليفعل.
أما الذهاب إلى الذين يرقون بغير الكتاب والسنة، وإن قرأ أول الأمر آيات، ثم همهم بعد ذلك وغمغم ودندن بكلمات غير معلومة وغير مفهومة، فنعلم أن هذا ساحر، ولا يجوز أن نذهب إليه.
وإذا قال: خذ كذا، وضع حجاباً وعلقها، أو احتجب عن الناس أربعين يوماً، ولا تأكل كذا، وافعل كذا، واذبح دجاجة سوداء أو تيساً أسود، ولا تتفل عليه امرأة، وكذا إذا بدأت الصكوك الوثنية، فاعلم أن هذا سحر.
أما المؤمن فإنه إنما يقرأ من كتاب الله، ومن الأدعية الواردة وينفث ويدعو، وهذا في إمكانك أنت أن تقوم به لقريبك إذا ابتلي الله أنت تقرأ وتخلص وتجتهد في الدعاء ويحفظه الله، من غير أن تذهب إلى أحد من الناس.
وأنصح طلبة العلم أن لا ينساقوا وراء بعض ما قد يسوله الشيطان، فيفرغوا أوقاتهم ويتخلوا عن دعوتهم وعن طلب العلم من أجل هذه القراءة! وربما أدَّى بهم ذلك إلى الفتنة والعياذ بالله.(37/25)
كيفية التعامل مع الخطأ في الاجتهاد
السؤال
يذم بعض المسلمين شباب الانتفاضة، ويقولون: إنهم على غير هدى، فهل من كلمة توجهها إلى شباب الانتفاضة، وهل هذه الانتفاضة إسلامية؟
الجواب
ما حدث في فلسطين يسمونه انتفاضة، ونحن نسميه بدايةً جهاد -إن شاء الله- ولا يجوز أن نذم من يريد الإسلام وعز الإسلام وإن أخطأ في الاجتهاد، ولكن ننصحه، ونقول: يا إخواننا! نريد منكم أن تكونوا كذا، اعملوا كذا، وجههم إن كان لديك رأي، وقدم لهم خطة حكيمة، وحظهم على اتباعها، أما أن يعابوا ويذموا ويطعن فيهم، فلا، لأنه لن يستفيد من ذلك إلاَّ الكافرون، والطواغيت، والمجرمون، واليهود، والنصارى.
فهل يرضى المسلم أن يكون هو واليهود والنصارى والعلمانيون وأعداء الله أجمعون في خندق واحد، يحاربون المسلم المسكين الذي لا يملك حولاً ولا طولاً إلا بعض وسائل اتخذها كأطفال الحجارة أو الانتفاضة وغير ذلك؟ لا! شتان بين أن يكون لنا ملاحظات على الانتفاضة، وبين أن نذمها ونعيبها، وربما أن بعضهم يفرح لو قضي عليها أو استُؤْصلت! لا يا أخي! لا يجوز ذلك وهذا إجحاف وليس من العدل في شيء.(37/26)
بشائر الصحوة
السؤال
يقول الأخ: هل هذا الزمان الذي نحن فيه هو الذي قال فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يمر أحدكم بالقبر يتمرغ عليه ويتمنى أن يكون هو الذي في القبر من البلاء}؟
الجواب
أي: الحديث قال: ما به الدَّين وإنما البلاء، لا يا أخي! الحمد لله، نحن في خير، ما جاء هذا الوقت إن شاء الله بل نحن والحمد لله في نعمة، نستطيع أن ندعو إلى الله، وأن نبلغ كلمة الله، بل نحن أمام بشائر صحوة قوية بإذن الله، تشرق دعوة الإسلام من جديد في هذا الكون، فما وصلنا إلى هذه الدرجة أو الحالة من ضعف الدين أو كثرة البلاء والحمد لله على ذلك.(37/27)
كيفية التعامل مع الشرك
السؤال
رجل موحد بالله لكنه يذهب إلى السيد البدوي والسيدة زينب وغيرها من باب الجهل، هل عليه إثم؟ وهل يعذر على جهله؟
الجواب
كيف يكون موحداً بالله ويذهب إلى هؤلاء!! إذا كان جاهلاً لا يعرف التوحيد، فالواجب أن يعلم.
لماذا نُفكر هل يعذر أو لا يعذر؟ كونه يعذر أو لا يعذر هذا بينه وبين الله، لكن أنا وأنت لا نعذر، وعلماء الأزهر، وكلية أصول الدين لا يعذرون؛ لأن المهم ألاَّ نترك هؤلاء يذهبون إلى تلك الأضرحة، يدعون، ويستغيثون بغير الله، ويذبحون لغير الله.
ونحن نختلف حول مسألة عذره من عدمها، بل ندعوهم إلى الله ونبين لهم حقيقة التوحيد، ويجب هدم هذه الأضرحة، لأن إقرار هذه الأضرحة، والمزارات، ووضع رسوم عليها، والاعتراف بها، هو إقرارٌ للشرك، وهذا يجعل الدولة المقرة لهذه الأضرحة دولة شركية، وليست دولة إسلامية، يجب أن يكون للدولة وللعلماء في هذه البلاد وفي أي بلد دور وعمل إيجابي في القضاء على هذه الشركيات وهذه الأصنام المعبودة من دون الله تبارك وتعالى.(37/28)
توظيف الكافرين مع وجود المسلمين
السؤال
كيف نوظف المسلمين، ومكاتب العمل في أنحاء العالم تسهل إجراءات توظيف النصارى، وتحول دون توظيف المسلمين؟ حتى يقول بعضهم: الكافر أرخص في التكلفة وفي المرتب الشهري! فهل من كلمة تبين فيها للناس؟
الجواب
نقول للأخ الكريم: يا أخي! الإجراءات بيد من؟ أليست بيدنا؟ بلى.
كثير من الإجراءات إنما تتخذ بناءً على مطالب الناس.
إذا طالبنا نحن بإجراءات معينة سهلت لنا، هنا أو في الهند -مثلاً- إذا قلنا للدولة هنا نطالب بألا يُسمح باستقدام أي كافر، ثم قلنا للهند: لا نسمح لأي هندي نصراني أو مجوسي أن يتعاقد معه، فإذا فرضنا أن الكافر أرخص، هل نرضى أن نضحي بديننا من أجل دراهم؟ فالفرق دراهم، مع أن البشر سواء، ليس لأنه كافر فهو رخيص، أو لأنه مسلم فهو غالٍ في الأجر، لا، فمن الممكن أن تجد نصرانياً وراتبه أضعاف أضعاف المسلم، ولكن نفرض أنه -فعلاً- أمام اختيارين: إما مسلم بألف ريال، أو كافر بثمانمائة! يجب ألاَّ أنظر إلى المائتين وأنسى الإسلام، وأنسى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب} فانتبهوا بارك الله فيكم.(37/29)
حكم استقدام الخادمة بدون محرم
السؤال
هل يجوز للضرورة استقدام الخادمة المسلمة بدون محرم؟ وهذه الضرورة هي على الزوجة لحاجتها إلى المرتب؟
الجواب
ليست حاجة الإنسان للمرتب في هذه الحالة ضرورة، ويمكن استقدام الخادمة ومعها محرم، وليكن سائقاً أو حارساً وهي معه، لكن على الرجل ألاَّ يراها ولا تراه، ولا يخلو بها، والسائق الذي معه محرمها يجب أن لا يرى أهلك، ولا يخلو بهم، ففي هذه الحالة فقط يجوز، أما ما عدا ذلك فلا تجوز، ولا يستطيع أحد أن يقول: إنها تجوز؛ مع ما يترتب على ذلك من فتن ومفاسد عظيمة، والبديل كثير {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2] البديل موجود لكل هذه الأمور، سنجد من يريد أن يعمل من أهل هذا البلد لو أقفلنا باب الاستقدام، سواء من المقيمين المسلمين أو حتى من السعوديات، بأن تأتي ساعات معينة من النهار، وتخدم أهله في حالة ولادة، أو في حالات ضرورة فعلاً، تخدم أهله ثم تخرج قبل أن يعود صاحب المنزل من عمله، فهذه أشياء كانت موجودة لدينا، وضرورات كانت موجودة من قبل، وما احتجنا إلى هؤلاء، إما كافرة! وهذا لا يجوز أصلاً، أو مسلمة ويكون هناك من الفتن ما يكون! وبعد أيها الإخوة الكرام لا نريد الإطالة عليكم، ولكن نحمد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على هذا اللقاء، وإنني والله ما جئت إليكم إلا محبة فيكم، ثم لما رأيتكم بهذا الإقبال وهذا الجمع الطيب ازددت حباً، وأسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعل محبتي ومحبتكم خالصة لوجهه الكريم، وأن يجدد هذا اللقاء الطيب المبارك، وألاَّ ينسى بعضنا بعضاً من الدعاء.
والله يا إخوان نحن أحوج إلى دعاء بعضنا لبعض من حاجتنا إلى الطعام والشراب، أن يدعو كل منا للآخر بظهر الغيب، وأن ندعو لإخواننا المسلمين، وأن تكون يدنا وقلوبنا وغايتنا واحدة على توحيد الله، وعلى سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حرباً لمن حارب الله ورسوله، وسلماً ومحبةً ومودة لمن وادّ الله ورسوله.
نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يمن علينا جميعاً بعفوه وجوده ومنَّه وكرمه والمعذرة إن أطلت عليكم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد.(37/30)
التوحيد (ندوة)
في هذه المادة بدأ الشيخ بتوضيح معنى التوحيد من حيث اللغة والشرع بأقسامه الثلاثة، كما ذكر حال المشركين واليهود والنصارى في عبادتهم لغير الله، مع إقرار البعض منهم له بالربوبية، وما دخل على الأمم السابقة من عبادة الأحبار والرهبان.
ثم بين ما يجب على الإنسان لتحقيق التوحيد الكامل المطلق، محذراً خلال ذلك من الغلو الذي كان ولا يزال آفة الأمم ومدخلها إلى الشرك.(38/1)
معنى التوحيد
قال الشيخ: سفر الحوالي حفظه الله.
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فضيلة الشيخ سفر: كلنا نسمع عن التوحيد ولا نعرف ما المقصود بتوحيد الله، فما هو التوحيد وما معناه؟ التوحيد: كلمة نرددها جميعاً ونحن -ولله الحمد- والأمة الإسلامية أمة التوحيد، لو أطلق علينا أي اسم فإننا أمة التوحيد، بخلاف غيرنا من الأمم التي أشركت بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فالتوحيد من حيث اللغة هو: مصدر وحد يوحد، بمعنى أفرد يفرد، فعندما نقول: التوحيد، أو توحيد الله، معناه: إفراد الله تبارك وتعالى بالعبادة، فقد جاءت هذه الكلمة في حديث معاذ رضي الله تعالى عنه لما أرسله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى اليمن فقال له: {إنك تأتي إلى قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله تعالى} فالتوحيد الذي جاء تفسيره في نفس روايات الحديث: {فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يعبدوا الله}، وفي رواية أخرى: {فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله}.
وليس هناك أوضح وأبين من كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن تفسيره، ففسر التوحيد بأنه عبادة الله وحده، فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله هي كلمة التوحيد.
فالتوحيد هو: إفراد الله تبارك وتعالى وحده بالعبادة.
والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، من أعمال القلب، كالمحبة، والرضا، والإنابة، والتوكل، والخوف، والرجاء، أو من أعمال الجوارح مثل الصلاة، والصيام، والزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتسبيح، وذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والسعي إلى المساجد، وبر الوالدين، والإحسان إلى الفقراء والمساكين وأمثال ذلك، كل هذه من العبادة، ويجب أن تفرد كلها جميعاً لله وحده لا شريك له.
فالتوحيد إذاً: هو أن يفرد الله تبارك وتعالى وحده بالعبادة، وهذه العبادة تشمل كل ما أمر الله تبارك وتعالى به، وكل ما يحبه الله ويرضاه من أقوالٍ وأعمالٍ بالقلب أو باللسان أو بالجوارح.
ومن هنا نعلم أن الدين كله داخل في موضوع التوحيد، ولكن الكلام عادة عندما يكون في التوحيد يكون عن أصل الدين، ومعناه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.(38/2)
دعوة الناس إلى نصرة الحق
وقال الشيخ: سفر الحوالي حفظه الله.
هذا موضوع حساس، ويجب أن يقوم به العلماء؛ لأن التوحيد لا يستطيع الإنسان أن يخطئ فيه، لأن خطأ التوحيد قد يؤدي إلى هلاك الإنسان، ولكن أستعين بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يعينني.
فعندما ينظر الإنسان إلى شباب اليهود والنصارى، كيف أنهم يجتهدون لنصرة باطلهم، وكيف يتقاعس شباب المسلمين عن نصرة الحق، عند ذلك يتأثر المسلم، فلا يجد الشاب المسلم إلا أن يقول: والله سوف أفعل كل ما في وسعي لنصرة هذا الدين، والله لن يجتهد الشاب اليهودي أكثر مما يجتهد الشاب المسلم، ولن نقبل -في شباب المسلمين- أن يحب الشاب اليهودي إسرائيل أكثر مما نحب نحن شباب الإسلام هذا الدين، بل والله لو يجتهد هذا الكادر الشاب في باطله أربعة وعشرين ساعة في اليوم، فوالله لنجتهدن ثمانية وأربعين ساعة، حتى نريهم، وليريهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما يصنع شباب الإسلام إذا أحبوا هذا الدين.
وأنتهز هذه الفرصة وأطلب من الشباب المسلم أن يجتهدوا لنصرة هذا الدين؛ فهذه الأوقات التي تضيع من شباب الإسلام محسوبة عليهم، والأعداء يجتهدوان بجدٍ وحزم في الليل والنهار، فكما تعلمون أن اليهود يتحكمون في كثير من اقتصاد العالم ويسخرون هذا الأمر من أجل الباطل، ويتعرض أحدهم للقتل في أي لحظة، في الليل والنهار؛ فهذه محبة إسرائيل في قلوبهم.
فيجب على شباب الإسلام أن يُروا هؤلاء كيف يحبون الحق، وكيف ينصرون الحق، وكيف يسعون لإعادة شباب الإسلام إلى حظيرة الإسلام مرة أخرى.(38/3)
أقسام التوحيد
قال الشيخ: حسّان الراضي.
أقسام التوحيد ثلاثة وهي: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.(38/4)
توحيد الربوبية
توحيد الربوبية: هو توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأفعاله، أي أن يعتقد الإنسان أنه لا معين إلا الله، ولا مغيث إلا الله، ولا ناصر إلا الله، ولا معز إلا الله، ولا مذل إلا الله، ولا خالق إلا الله.
وهذا الاعتقاد لا يأتي بالسهل كما يظن كثير من الناس، ولنا عبرة في قصة بني إسرائيل عندما نصرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لم يكن عندهم الأسباب المادية للنصر، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نصرهم على فرعون وجنوده، وشق لهم البحر، وخاض بنو إسرائيل مع موسى عليه السلام البحر بأنفسهم، ما سمعوا هذا الكلام ولا قرأوه، بل مارسوه بأنفسهم، وعندما جاءوا إلى البحر، ورأوا فرعون أمامهم والبحر خلفهم قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61].
فلم يكن قد تحكم في قلبهم توحيد الربوبية وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الناصر، صحيح أن الأسباب طريق للنصر، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليس في حاجة إلى الأسباب لينتصر، فقالوا: إنا لمدركون، ولكن موسى عليه السلام كان في قلبه كمال التوحيد، قال: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أوحى إليه، فضرب البحر بعصاه فانشق له البحر، فكانت اثنا عشر طريقاً لبني إسرائيل.
وحتى نرى أن هذا التوحيد لا يأتي بالسهولة كما يظن كثير من الناس، فإنه لما خرج بنو إسرائيل من الناحية الأخرى أتى أمر الله لبني إسرائيل أنفسهم، كما قال الله تعالى: {ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} [المائدة:21]، وقال عنهم: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} [المائدة:22].
سبحان الله! فيها قوم جبارون، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد نصرهم عندما لم يكن عندهم أسباب النصر على فرعون وجنوده، فرغم ما لمسوه بأنفسهم من قدرة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على النصر، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو المتصرف، إلا أن هذا التوحيد -توحيد الربوبية- ليس بالأمر السهل، كما قال تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة:22]، وقالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] فعندها أتاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بني إسرائيل أربعين سنة، فجلسوا في التيه أربعين سنة.
وهذا ليس عقاباً فقط من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بل كان الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ينمي في قلب بني إسرائيل توحيد الربوبية، حتى يعلموا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يحتاج إلى الأسباب لنصرة بني إسرائيل، ففي الصحراء لا يوجد أكل ولا شرب، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنزل عليهم المن والسلوى، وفجَّر لهم الينابيع ليشربوا منها، حتى قيل: إنه في كل يوم كان الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يذهب هذا الماء، ويأتي في اليوم الآخر فيضرب موسى عليه السلام الحجر حتى تنشق الينابيع مرة أخرى وهكذا أربعين سنة، حتى ينمو في قلب بني إسرائيل حقاً أنه لا ناصر إلا الله، ولا محيي إلا الله، ولا مميت إلا الله.
وبعد الأربعين سنة يأتي أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو نفس الأمر الأول: ادخلوا الأرض المقدسة، وفي هذه المرة تأدب بنو إسرائيل ودخلوا الأرض المقدسة ونصرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بتوحيد الربوبية.(38/5)
توحيد الألوهية
توحيد الألوهية: هو إفراد الله تعالى بأفعال العباد، أو هو إفراد الله تعالى بالعبادة.
فالأنبياء عندما أرسلوا كانوا يدعون الناس إلى توحيد الألوهية، وهو توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأفعال العباد، بأن الإنسان لا يسجد إلا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يستغيث ولا يدعو إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهكذا لا يفعل شيئاً من العبادة إلا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
إن الباب الذي يدخل منه الإنسان إلى توحيد الألوهية هو توحيد الربوبية، فإذا اعتقد الإنسان يقيناً أنه لا ناصر إلا الله، فهو لا يسأل النصر من غير الله، وإذا اعتقد الإنسان أنه لا رازق إلا الله، فإنه لا يدعو أحداً غير الله للرزق، وإذا وحَّد الإنسان ربه وكان في قلبه توحيد الربوبية، فهذا يكون بداية الطريق إلى توحيد الألوهية.(38/6)
توحيد الأسماء والصفات
والقسم الثالث من أقسام التوحيد هو: توحيد الأسماء والصفات، وهو إفراد الله تعالى بالأسماء والصفات، وأن يثبت الإنسان لله تعالى ما أثبته لنفسه، بدون تشبيه ولا تمثيل، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم بصفاته، فإذا قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: إنه سميع بصير، فإن الله سميع بصير وليس هناك للفلسفة أن تفسر هذه الألفاظ كما تريد، وهؤلاء الفلاسفة كأنهم يعلمون صفات الله أحسن مما يعلمها هو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فلا نشبه صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بصفات المخلوقين؛ لأن صفات المخلوقين فيها العيب، فمثلاً: نظر الإنسان ناقص فهو لا يرى إلا إلى مسافة معينة، وهكذا صفات الإنسان كلها فيها التقصير، فلا ينبغي للإنسان أن يشبه صفات الخالق بصفات المخلوق؛ كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11]، ولا أن يعطل أسماء الله فلا تقول: الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليس له يد، وهكذا كما يقول بعض المعطلة.(38/7)
نواقض التوحيد
وقال الشيخ: سفر الحوالي حفظه الله.
وبعد أن عرفنا أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، سوف نتكلم عن نواقض هذه الأقسام.(38/8)
إقرار المشركين بتوحيد الربوبية
إن توحيد الربوبية: هو اعتقاد أن الله هو الخالق والرازق والمحيي والمميت والذي يدبر الأمر، والذي ينفع ويضر عند الكرب والشدة، وهذا التوحيد كان المشركون الذين بعث فيهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحاربهم، واستحل دماءهم وأموالهم وبشرهم بالنار، إلا من آمن به واتبعه؛ كانوا مقرين بهذا التوحيد أو بعضاً منهم، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر:38]، فهم مقرون أن الله هو الذي خلق السماوات والأرض.
ولم يقل أحد من الأنبياء ممن بعثه الله إلى أي أمة من الأمم: إن الله موجود، ولم توجد أمة من الأمم تنكر وجود الله تبارك وتعالى -بشكل أمة ولا نقول: أفراداً- إلا عندما انتشرت الشيوعية قبل قرنين تقريباً، ثم انتشر الإلحاد والشيوعية في العالم الغربي وأوروبا التي كانت على دين نصراني محرف فرفضته، وانتقلت إلى لا دين، وهو: إنكار وجود الله تبارك وتعالى.
أما قبل ذلك فلم يكن هناك أمة تنكر وجود الله، وإنما كانت تعبد مع الله غيره، فكانوا يعبدون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وقت الشدة فقط، فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين، وإذا احتاجوا إلى الغوث في حالة الشدة والضيق والكرب، دعوا الله مخلصين له الدين، كما قال تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65]، فإذا نجوا وخرجوا إلى البر بدأوا يدعون آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، سواء كانت هذه الآلهة أحجاراً، أو أولياءً، أو أنبياءً، أو عباداً صالحين، أو كواكب، أو أياً كانت تلك المعبودات من دون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وكانوا كذلك كما أخبر الله تبارك وتعالى عن اليهود والنصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31].
ولهذا لما كتب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام، كتب إلى هرقل عظيم الروم: {بسم الله، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، أما بعد: أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، ثم كتب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:64]}.
فكان الأنبياء يأتون ليدعون أقوامهم إلى أن يعبدوا الله، وأن يكون الرب هو الله المعبود وحده لا شريك له، لكن أولئك كانوا يعبدون الأحبار والرهبان من دون الله تبارك وتعالى.(38/9)
أنواع عبادة الأحبار والرهبان
عبادة الأحبار والرهبان على نوعين: النوع الأول: السجود للأحجار، أو الأشجار، أو الأصنام، أو الدعاء، أو الاستغاثة في حالة الكرب.
والنوع الآخر: أن هؤلاء الناس كانوا يطيعونهم، فيحللون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله وفق آراء وأهواء الأحبار والرهبان.
ولذلك لما جاء عدي بن حاتم -وكان على دين النصرانية - إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتلا عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الآية {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31] قال له عدي: ما عبدناهم.
لأن عدياً ومن كان معه ما كانوا يسجدون للأحبار والرهبان، وما كانوا يستغيثون بالأحبار والرهبان، فذهب نظره وانطلق ظنه إلى أن هذه العبادة ليست موجودة عندهم، فكيف يقول الله تبارك وتعالى ذلك؟ فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ألم يحلوا لكم الحرام، ويحرموا عليكم الحلال، فأطعتموهم؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتكم إياهم}.(38/10)
حقيقة التوحيد
وهكذا يأتي الأنبياء ليبينوا للناس أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، وأن يكون المطاع هو الله وحده لا شريك له، وطاعة أي أحدٍ غيره، حتى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما هي سبب لطاعة الله، ولهذا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ولهذا حتى الأنبياء لو خالفوا شيئاً من أمر الله عن اجتهاد منهم ينزل العتاب من السماء ليصحح ما يجب أن يكون؛ ليوافق الكل أمر الله تبارك وتعالى، فلا مجال لأن يكفر الإنسان ببعض التوحيد ويؤمن ببعض، والله تبارك وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]، أي: ادخلوا في الإسلام كله، والسلم هو الإسلام، كما قال جل شأنه في الآيات الأخرى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39].
والطاعة والتشريع، والموالاة والمعاداة لله تبارك وتعالى.
فحقيقة التوحيد الذي هو توحيد الأنبياء الذي جاءوا به هو: الاستسلام والانقياد لأمر الله تبارك وتعالى في كل أمر وفي كل شأن، بلا اعتراض ولا منازعة، ولا مدافعة ولا طاعة لشيطان، ولا لهوى، ولا لطاغوت ولا لأي مخلوق كائناً من كان.
فأمَّا من أقر بتوحيد الربوبية أو ببعضه وقال: أنا أؤمن بأن الله هو الخالق والرازق والمحيي والمميت، ولكن يدعو غير الله، فهذا وإن جاء بتوحيد الربوبية أو بعضه، لكنه نقض توحيد الألوهية.
وكما قلنا ما جاء الأنبياء ليقولوا للناس إن الله موجود، لا؛ بل جاءوا ليدعوا الناس إلى عبادة الله وحده، كما قال تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، قالها: نوح، وصالح، وهود، وشعيب، ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجاهد الناس عليها ثلاث عشرة سنة، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو إلى هذا التوحيد وإلى شهادة أن لا إله إلا الله.
فمعنى ذلك: أنه يجب علينا أن نتفطن إلى حقيقة التوحيد وأهميته، وأنه لا بد أن نأتي بجميع أنواع التوحيد، وإلا فلو أن الأمر كلمة تقال باللسان كما يظن كثير من الجهال -وقد فشى الجهل في المسلمين- لكان الأمر أهون.
ولهذا لما عرض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسه على بعض القبائل -كما جاء في السيرة- فكان يقول: قولوا كلمة واحدة، كلمة تستجيب لكم بها العجم وتخضع لكم بها العرب، والكلمة هي: لا إله إلا الله، قالوا: أما هذه فلا.
رفضوها؛ لأن معناها أن تتخلى عن كل شيء، لا تؤله نفسك على القبيلة، ولا تؤله أعراف وعادات القبيلة، ولا تؤله الأحبار ولا الرهبان، ولا تؤله الشياطين، ولا تؤله الجن، فالعرب كانوا إذا مروا في وادٍ، قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، ولا تؤله الكهان.
فقد كان العرب يتحاكمون إلى الكهان، وكانوا يذهبون إليهم في كل أمر، ويدعون أن عندهم علم الغيب ويطلعونهم عليه، وهكذا أمور كثيرة من أمور الشرع، والحديث الصحيح المعروف لما رقى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على جبل الصفا ودعا الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله، قالوا: تباً لك! ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1].
وهؤلاء هم قومه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي يعرفون صدقه، وسمّوه بالصادق الأمين، وكان العرب أحرص الناس على الشرف والفخر، ولم يبعث في العرب نبي قبله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنما كانت النبوة في ذرية إسحاق، وكان اليهود أهل الكتاب يتطاولون على العرب دائماً بأن المبعوث من الأنبياء منا، وما منكم أحد.
وكان اليهود يستفتحون على الذين كفروا -أي على المشركين- بأن الأنبياء والنبوة والعلم والكتاب فيهم؛ فكانوا أثرى القبائل بأن يفخروا بهذا، والعرب كان إذا نبغ فيهم شاعر افتخروا وضجوا وصاحوا وعلموا أبناءهم القصائد التي يقولها هذا الشاعر؛ لأنهم يريدون الفخر، فكان حرياً بقريش أن تفخر بهذا المبعوث الصادق الأمين، الذي يدعوها إلى أمر عظيم، تخضع لها به الأرض كلها.
لكن لما قال: لا إله إلا الله لم تستجب قريش، وكانت الحرب مع قريش ثلاث عشرة سنة، ثم في المدينة حاربوه وحاربهم، إلى أن فتح الله تبارك وتعالى له مكة في السنة العاشرة.(38/11)
أهمية توحيد الله
وقال الشيخ: سفر الحوالي حفظه الله.
توحيد الله عز وجل هو أهم من كل أمر، فعندما أقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فمعناه أن أوحد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كل أمر، وأن أستمع إلى أي أمر يأمر به الله، كما قال بعض السلف: [[إذا سمعت: يا أيها الذين آمنوا؛ فأرع لها أذنك]]، لأن هذا الخطاب من الله عز وجل، ويجب أن تعبده وتطيعه وحده، فإن الأمر الذي سيأتيك بعد ذلك يجب أن تنفذه.
فلو أن أحداً أخلَّ ببعض أنواع التوحيد، فإنه بلا شك قد أخلَّ بالتوحيد، مما قد يخرجه من الإسلام نهائياً؛ كمن يدعو غير الله، أو يستغيث بغير الله، أو أمثال ذلك، وحتى في الطاعات فمن يقصر في بعض الطاعات لا شك أن إيمانه ينقص، والذي يعترض على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في بعض التشريعات، فإنه كمن يعترض على شرع الله عز وجل كله، وهذه من الأشياء التي تخفى على كثير من الناس، فيجب أن توضح ويجب أن نعرف حقيقتها.
كثير من الناس يحب الإسلام والتوحيد والدين، ويحافظ على بعض الأمور كالصلاة، أو الصيام، أو الحج، أو الصدقة، وما أشبه ذلك، لكنه لا يريد ولا يطيق أن يسمع من يقول له: اتق الله! ودع الربا -مثلاً- لأنه يتعامل بالربا فهو يحب كل ما أنزل الله إلا الربا، لا يريد الناس أن تتحدث عنه، بعض الناس يحب ما أنزل الله من صلاة، وصيام، وزكاة، يوحد الله في ذلك، لكن لا يطيق أن تحدثه عن الحجاب، أنه لا يجوز له أن يخرج امرأته متبرجة، أو لا يراها فقط إلا المحارم ممن ذكر الله، هذا صعب فهو يكره هذا الجانب.
وهكذا لو أن كل مسلم فتش في نفسه، لوجد أنه رغم ادعائه للتوحيد لكن الانقياد والاستسلام لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على الحقيقة فيه خلل، قد يكبر، وقد يصغر؛ لكن هذا الخلل موجود عند أكثر المسلمين، ولا يحتاج دليل في ذلك، فانظروا إلى حال المسلمين اليوم، إن كان حالنا اليوم في عزة ومنعة وقوة، فإننا محققون للتوحيد، وإن كنا في ذل وانحطاط وتفرق، فاعلموا أننا لم نحقق توحيد الله تبارك وتعالى.
فبقدر ما نحقق التوحيد يكون الانتصار بإذن الله عز وجل، وبقدر ما يكون عندنا من الشرك والبدع والمنكرات والمعاصي التي تبعد الإيمان نهائياً، بقدر ما يكون حالنا من الفتور والانحطاط.(38/12)
تحقيق التوحيد
وقال الشيخ: سفر الحوالي حفظه الله.
إذا أراد الفرد منا كفرد أن يرضي الله تبارك وتعالى، وينال ما وعد الله به من العزة والتمكين في الأرض وفي الدنيا، وبالفوز برؤيته وبالجنة في الآخرة، فما علينا إلا أن نوحد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التوحيد الكامل المطلق، وأن نستسلم لأمر الله ولقدره ولقضائه ونرضى بكل ما أنزل الله تبارك وتعالى، كما في الحديث {من قال حين يمسي وحين يصبح: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً، كان حقاً على الله أن يرضيه} هذا معنى الرضا، لكن ما معنى رضيت بالله رباً؟ أقول: معنى ذلك أنه -مثلاً- إذا سمعت آية من آيات الله فإذا لم أنفذها، ولم أتبع ما فيها، لم يكن هذا من الرضا، لا بد عندما أقول في الصباح والمساء: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً، أن أضع كل ما يأتيني عن الله، وعن رسول الله، في محل الطاعة والقبول والالتزام في نفسي -ما استطعت- كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وفي زوجتي وأهلي ومجتمعي، ومن حولي، وأدعو إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنكر المنكر بقدر ما أستطيع.
إذاً: لا بد من توحيد الله تبارك وتعالى التوحيد الكامل المطلق، وإلا فالمشركون لم ينفعهم شيء، مع أنهم كانوا مقرين بأنه الخالق، والرازق، والمحيي، والمميت، والذي يدبر الأمر، لكنهم كانوا لا يقرون بالعبادة، وكانوا يتبعون الأعراف والعادات والتقاليد، ويتركون أوامر الله ورسوله، وكانوا يعبدون الأحبار والرهبان، يتبعونهم في تحليل الحرام، وتحريم الحلال، فكل ذلك لم ينفع المشركين، ولم ينفع اليهود والنصارى، ولم يصيروا موحدين، بل كانوا مشركين، وتوعدهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالنار، أعاذنا الله وإياكم منها.(38/13)
كيف يزرع التوحيد
قال الشيخ: حسّان الراضي كما يعلم الجميع أن الرسول عليه الصلاة والسلام مكث ثلاث عشرة سنة في مكة يدعو الناس إلى التوحيد، وكان الناس في مكة يعبدون آلهة مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكانوا يحبونها، ويصرفون عليها أموالاً كثيرة، ويعطرونها، ويظنون أن هذه الآلهة سوف تنفعهم.
والمحبة تأتي إذا خلط الإنسان الجهد والمال من أجل الشيء، فمثلاً: إنسان يعمل عشر سنوات لجمع المال، حتى صار ثلاثين أو أربعين ألف ريال، فهو يحب هذه الأربعين ألف ريال؛ لأنه اجتهد من أجلها، فإذا أخذ هذا المال ووضعه في سيارة، فإن هذا الإنسان يحب هذه السيارة، فتنتقل المحبة من المال إلى سيارته، فيصبح يلمع السيارة ويحافظ عليها ولا يريد أن يلمسها أحد.
فهؤلاء بذلوا أموالاً كثيرة، وأوقاتاً كثيرة من أجل هذه الآلهة، فجاءت محبة الآلهة في قلوبهم، فكانت عملية إخراج هذه المحبة من قلوبهم عملية ليست بالسهلة أبداً، ولكن يسَّر الله أن تخرج بإذن الله هذه المحبة من قلوبهم، وتُستبدل بمحبة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وباليقين بأنه لا إله ولا معبود يستحق العبادة حقاً إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فيسهل عليه امتثال أوامر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ولهذا عندما اكتمل التوحيد في قلوب الصحابة، كان امتثال أمر الله أمر سهل، فكان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما يأمرهم بأمر كان جميع الصحابة يمتثلون أمر الله سبحانه، فإذا جاء الأمر أن صلوا في المسجد فإنهم كلهم يصلون في المسجد، أو جاء الأمر بأن لا تشربوا الخمر، كلهم يريقون الخمر، وعندما نزلت آية الحجاب التزمت جميع النساء المسلمات بالحجاب.
لقد كان الجهد في زرع التوحيد في القلوب، وفي إخراج المحبة لهذه الآلهة، التي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر، وهذا كان فيه سب لآبائهم وتسفيه لأحلامهم، وسب لآلهتهم أيضاً؛ لأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا بد أن يتكلم، ويقول: إن هذه الآلهة لا تسمع ولا تبصر ولا تستطيع أن تنفعكم شيئاً.
كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: بأن هذه الأصنام لا تسمع ولا تبصر، ولا تنفع شيئاً، فهذا سب للآلهة، وتسفيه لأحلامهم، القائلة: بأن هذه الآلهة تشفع لنا، كما قال تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، فكان في هذا تحطيم لأحلامهم كلها.
فعندما يأتي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المشرك وهو يعبد هذه الآلهة ثلاثين سنة، وهو يعلم أنها ليست الخالقة، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87]، فهو يعلم أن الله هو الخالق والرازق، ولكنه يظن أن هذه الآلهة تقربه إلى الله، ولهذا بذل الأموال والأوقات، من أجل هذا، ويأتي الرسول فيقول له: إن هذا كلام ضلال، فهذا تسفيه وتحطيم لأحلامه كلها، ولهذا كانوا يرفضون هذا الشيء.
وكان فيه أيضاً سب لآبائهم، لأنهم وجدوا آباءهم على ملة، وعلى طريقة، وهم يتبعون طريق آبائهم، فكأنما محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لهم: إن آباءكم لا يعقلون ولا يفهمون شيئاً، فكان هذا سب للآباء، وهذا ما كان يقوله كفار قريش: إن محمداً سفَّه أحلامنا، وسبَّ آباءنا، وعاب آلهتنا، وهو في الحقيقة ما سب الآباء، وما قال: أنت أبوك كذا أو كذا، فكانت العملية في غاية الصعوبة في إخراج هذا اليقين، وهذه المحبة من هذا القلب، وإبدالها بالتوحيد.
فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يدعو إلى توحيد الألوهية، ولكن هذا التوحيد يدخل عن طريق باب توحيد الربوبية فيجب أن يعلم الإنسان أنه لا يقربه لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا ولي، ولا ملك، ولا جن، ولا نبي، فلقد كان إبراهيم عليه السلام أسوة حسنة، فعندما أوقدوا له النار، وأرادوا أن يقذفوا به فيها، وقد كانت ناراً عظيمة جداً، ما رأى أحد مثلها.
وضعوا إبراهيم على المنجنيق وهو وحيد، كل العالم ضد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فعندما ضربوا المنجنيق، وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام في الهواء، جاء إليه جبريل، وقد انقطعت جميع الأسباب المادية -لكن انظر إلى هذا الاختبار- وهو في طريقه إلى النار يأتي جبريل إليه بالحبل المادي الوحيد.
فيقول: هل لك إلينا حاجة؟ تريد مني خدمة؟ فهذا جبريل الملك العظيم، الذي يستطيع بإذن الله أن يطفئ هذه النار، أو أن يحول طريق إبراهيم إلى مكان آخر، ولكن عندما يكتمل التوحيد في الشخص، ويعلم أنه لا ينجيه إلا الله، فلا يستعين بأحد إلا بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فيقول: أما منك فلا! لا حاجة لي بك، ولكن من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فلا يستطيع الإنسان ولا للحظة أن يسأل الله أن لا يستعين بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وكذلك الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما كان في غزوة من الغزوات، ونام تحت الشجرة، وعلق سيفه عليه الصلاة والسلام والصحابة نائمون، فجاء أحد المشركين وسلَّ سيفه؛ فاستيقظ عليه الصلاة والسلام، -وكما تعلمون عندما يستيقظ الإنسان من النوم، لا يكون مسيطراً على فكره وقلبه- وهذا المشرك قد سلَّ سيف الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو يقول له: من يمنعك مني؟ فما تردد عليه الصلاة السلام؛ لأن قلبه مملوء بعظمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويعلم بأن الله هو الناصر، وهو المميت، وهو المحيي، وأن هذا السيف والله لا يتحرك ولا يقطع، إلا بأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو لا يخاف إلا الله، ولا يعبد إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فقال للمشرك: الله، هذا التوحيد يجب أن ينمو في قلوب شباب المسلمين.(38/14)
مراتب التوحيد
قال الشيخ: سفر الحوالي حفظه الله.
الإيمان أو التوحيد، قد يكونان مترادفين، إذا علمنا وعرفنا كيف فسر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإيمان لجبريل عليه السلام، كان هذا آخر عمله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن جبريل عليه السلام أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد عودته من حجة الوداع، ومعلوم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توفي بعد حجة الوداع بفترة وجيزة، في شهرين وكذا من الأيام.
وفي الحديث {بينما نحن عند الرسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه -جلسة المتعلم أمام الشيخ المعلم- فقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، فقال: صدقت، فقال الصحابة: عجبنا له يسأله ويصدقه، فقال: أخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، فقال: صدقت إلخ}.
فالتوحيد هو: تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله.
فهذا الحديث جاء فيه أن مسميات مراتب الدين ثلاثة: الإسلام والإيمان والإحسان، فلما علمه قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: {هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم}.
إذاً ديننا بهذه الثلاثة، بالإيمان وبالإسلام وبالإحسان، ولو تأملنا في هذه المراتب الثلاثة، لوجدنا أن الناس يتفاوتون فيها، ولوجدنا العلاقة بين هذه الأنواع جميعاً، فإن الإنسان الذي يشهد أن لا إله إلا الله، ويصوم ويصلي، لا بد أن يكون مؤمناً بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهذا الإيمان قد يبلغ ببعض الناس إلى أن يصل إلى درجة الإحسان، وهو أن يصبح الإنسان يعبد الله كأنه يراه، فهذا التوحيد على نوعين: توحيد الأعمال الظاهرة، وتوحيد الأعمال الباطنة.(38/15)
توحيد الأعمال الظاهرة
الأعمال الظاهرة: هي التي سماها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث بالإٍسلام، فهو الأعمال الظاهرة للتوحيد، أن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ونصلي ونصوم ونحج ونزكي، فتكون جميع أنواع العبادات من الأعمال الظاهرة التي هي أعمال الجوارح خالصة لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(38/16)
توحيد الأعمال الباطنة
الأعمال الباطنة هي: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، أن يكون الإنسان رجاؤه وخوفه وتوكله وإنابته ويقينه وإخباته وإذعانه، وكل الأعمال القلبية لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(38/17)
الإيمان يزيد وينقص
وهذان الركنان: الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، منهما تترتب حقيقة تفاوت الإيمان وأنه يزيد وينقص، مثلاً لو نظرنا إلى الصلاة، نجد أن بعض الناس أكثر أجراً في صلاته من بعض، فالواحد منا -أحياناً- يصلي الفجر صلاةً خاشعةً ويستيقن ويحمد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على ذلك؛ لأنه استحضر قلبه، فهذه صلاة أداها بما يرضيه ويريده، لكن قد يأتي يوم ثانٍ أو فريضة أخرى، وإذا به ينشغل ويهتم ويوسوس في الصلاة، ولا يدري إلا وقد سلم الإمام، وربما لو سهى الإمام لا ينتبه إلى ذلك.
إذاً: هذا دليل على أن الأعمال تتفاوت، فحركات الجوارح نفس الحركات تقريباً، أنت وراء الإمام في الفريضة ما الذي جعل صلاتك في وقتٍ عالية، وصلاتك الأخرى قليلة جداً؟! فبعض الناس لا يكتب له إلا عُشر الصلاة، وبعضهم لا يكتب له شيء، لكن من الناس من تكتب له كلها، نصفها، أو ثلثها، أو ربعها، إلى عشرها كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذاً: هذا التفاوت ما سببه؟ سببه أعمال القلب، وإيمان القلب، فعندما يكون الخشوع واستحضار القلب لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، تكون العبادة أكفأ.
وكذلك لا يمكن أن يوجد عمل في القلب حقيقي، وإيمان في القلب حقيقي، إلا ويظهر أثره على الجوارح، تجد أحدهم يقول: أنا موحد لله عز وجل تماماً، لكنه يحلف بغير الله، فلو وحد الله ما حلف بغير الله، فإذا ذهب يدعو غير الله فهذا أعظم، فلو كان التوحيد في قلبك كما تقول لما دعوت إلا الله، وكيف يكون التوحيد متكاملاً في القلب وتدعو غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ فإذاً بهذا يعرف الإنسان إيمانه عندما يشعر أن صلاته أحياناً تزداد، وأحياناً تقل، فالإيمان يزيد وينقص، ولذلك الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، لما حول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، قال بعض الصحابة ما حال صلاتنا التي صليناها إلى الشام، وقال بعضهم: إخواننا الذين ماتوا قبل أن تتحول القبلة ليس لهم شيء حتى لو صلوا؛ فأنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] أي صلاتكم.
فإن الصلاة هي الإيمان، والإيمان هو الصلاة، لأنها جزء منه، فكل عمل من الأعمال يطلق عليه الإيمان، فبر الوالدين من الإيمان، والصيام من الإيمان، والزكاة من الإيمان، والإحسان إلى الفقراء من الإيمان، فكل هذه الأعمال الصالحة من الإيمان، عمل الجوارح مع عمل القلب جميعاً، فإذا كانت هذه الأعمال تزيد وتنقص، فالإيمان يزيد وينقص.
وكذلك التوحيد يزيد وينقص، فعندما يأتي جبريل إلى إبراهيم عليه السلام، فيقول: ألك حاجة؟ فيقول: أما إليك فلا، فهذا غاية التوحيد، لكن من الذي يحقق مثل هذه الدرجة، إنهم قلة قليلة.
ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة:124].
وفي الموقف الآخر لما رأى في المنام ما رأى -ورؤيا الأنبياء وحي- لم يأته جبريل، بل أعظم من ذلك، لقد خاطبه الله عز وجل، فقال: يا إبراهيم! اذبح ابنك، فأضجعه إبراهيم وأخذ السكين، حتى أنزل الله تعالى عليه: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:105].
فلما حقق إبراهيم عليه السلام هذ التوحيد، صار إمام الموحدين، {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123]، فنحن الآن ننتسب إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى إبراهيم عليه السلام، إمام الموحدين الأول.
فإبراهيم عليه السلام دعا الله تبارك وتعالى أن يبعث إمام الموحدين وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي نشر هذا التوحيد، ولهذا يقول الله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:68]، فنحن أولى الناس بإبراهيم، وقال رداً على اليهود والنصارى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67]، إذاً التوحيد درجة عالية جداً، فمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كان في الغار ومعه الصديق، كما قال تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، كان فؤاد أبي بكر رضي الله عنه يرجف، ويقول: {يا رسول الله! والله لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدمه لرآنا}، وإذا رأوهم انتهت الجهود والاحتياطات التي بذلت، في لحظة واحدة، لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدمه فقط.
فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تحزن إن الله معنا}، هذا هو التوحيد، لكن هل كل النفوس تطيق ذلك؟ لا، الأدلة على ذلك أن التوحيد درجات تتفاوت، ويزيد وينقص.
وعندما جاءت الأحزاب وأحاطوا بـ المدينة، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محاصر هو وأصحابه فيها، في تلك اللحظة ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً، هذا الزلزال الشديد ظهر فيه الموحد الصادق، الذي يؤمن بالله عز وجل وواثق من نصر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وسقط من سقط، وما أكثر من يسقط ممن يدعون الإيمان حين يصطدم بلحظة الاختبار وفي لحظة الابتلاء، كما قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3]، فهذه الآية تبين أن هناك اختباراً وابتلاءً، فعندما جاءت الأحزاب، ظهرت حقيقة المنافقين، كما قال تعالى: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً} [الأحزاب:13].
وهكذا نحن نريد أن ندعو إلى الله، ونغير منكراً من المنكرات، وأن نذهب إلى إخوانٍ لنا في الله عز وجل في الشارع، هذا يبيع أفلاماً خليعة، وهذا أغاني محرمة، وهذا فاتح المقهى وقت الصلاة، نكلمه بالحسنى، بالمعروف، ونعرفه ونعرف الآخر، فكلنا إخوان ومسلمون بحمد الله، ونعرف بعضنا بعضا، هذا ولد عمي، وهذا رفيقي، وهذا زميل أخي، كلهم في الحي، لا نحاول بسلطة ولا بعسكري، نحن نكلمه بالمحبة والأخوة.
فعلينا أن نخاطب قلوبنا، هل نحن فعلاً عندنا الجرأة وعندنا الإيمان؟ نحن لا تحيط بنا الأحزاب، ولا الأعداء، ولا شيء من ذلك، بل والله إذا نصحت أحداً، فإنه يشكرك ويحترمك، ونحن ما نريد الشكر والاحترام لنا، نحن نريد أن يطاع الله.
لكن أقول: هذا عاجل بشرى المؤمن، ومما يشجع الإنسان أن يقال له: يا أخي! اتقِ الله تعالى، أنت دائماً تأكل من الحرام، يا أخي! اتقِ الله، جزاك الله خيراً، الدنيا فانية والمال الحرام، أو يا أخي! الناس تبيع الفاكهة، وتبيع أدوات كهرباء، وتبيع أشياء فيها فائدة، وأنت تبيع أفلاماً! من أول الفلم عشق وغرام وهيام؟ يا أخي، أنت إنسان عاقل، وأنت كذا، جزاك الله خيراً، وإن شاء الله يتقبل هذا منك، وهذا أقل شيء، فأنت أديت ما عليك نحو أبناء هذه الأمة.
كذلك جارك الذي لا يصلي، متى ضربت عليه الباب؟! وقلت له: يا أخي نريدك أن تصلي، عندما نريد أن نعرف إيماننا، فإننا نقيسه بإيمان الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- نعرف أننا ندعي أننا فقط أدعياء، إلا من رحمه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
الشاهد من هذا كله هو أن الإيمان يزيد وينقص، وأن التوحيد يزيد وينقص، فإذا انطبق توحيد الله عز وجل؛ فإنه يظهر على الأعمال، والجوارح، وفي الدعوة، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتضحية والجهاد من أجل هذا الدين، ومن أجل التقرب إلى الله وحده، وبقدر نقص التوحيد ونقصان حقيقته، نجد أن الخلل وقع.
انظروا إلى الرزق الذي كان المشركون يؤمنون به، كان المشركون يؤمنون بأن الله هو الرازق وحده، مع أنه يوجد في هذه الأمة من يدعو غير الله أن يرزقه، وبعض الناس لو قلت له: يا أخي! اتق الله، أو قلت له: يا أخي! إن العمل في هذا المكان حرام، وهذه فتاوى العلماء، وهذا كلام الله ورسوله، لا يجوز أن تعمل في هذا المكان تجده يقول: أين أذهب؟ هذا مصدر رزقي.
ولو أتيته وقلت له: يا أخي! اتق الله عز وجل وانه عن المنكر، أنت -مثلاً- تعمل في هذا المحل وفيه المنكرات، ادع صاحب المحل عندما يأتي، وقل له: هذا منكر، يقول: لو كلمته يقطع رزقي، يا سبحان الله! إذاً: ما كانت الجاهلية تُقُّر به وهو أن الله هو الرازق، نجعله نحن للمخلوق دون أن نشعر، فنقول: المخلوق هو الرازق، ولو أنك لو تركت العمل في هذا المكان المحرم، أو عند هذا الإنسان الذي لا تستطيع أن تقول له: اتقِ الله! لربما يعوضك الله عز وجل خيراً منه، ولو لم يكن لك أي عوض، إلا أنك وحدت الله حقيقة التوحيد، وآمنت بالله حقيقة الإيمان لكفى.
والخلاصة من ذلك: أن الإيمان يزيد وينقص، وأن التوحيد يزيد وينقص، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا وإياكم جميعاً لتحقيق التوحيد، والعمل به، والدعوة إليه، والصبر على الأذى فيه، إنه سميع مجيب، والله أعلم.(38/18)
إنا خلقناكم من ذكر وإنثى
قال الشيخ: حسّان الراضي ِِخلق الإنسان للرجل والمرأة له أربع حالات: إما أن يخلق من الرجل والمرأة، وإما أن يخلق من الرجل دون المرأة، وإما أن يخلق من المرأة دون الرجل، وإما أن يخلق بدون الرجل وبدون المرأة.
وأصعب الحالات بلا شك هو الخلق بدون رجل ولا امرأة، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على كل شيء قدير، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يرينا بعض قدرته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فينا، فالله قادر على كل الأربع الحالات، أما التي بدون رجل وبدون امرأة كخلق آدم عليه السلام، خلقه من تراب ونفخ فيه من روحه وقال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له: كن، فكان آدم عليه السلام، وخلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حواء من ضلع آدم، فخلقت من رجل بدون مرأة، وخلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بقية الخلق من آدم وحواء، من رجل وامرأة، فلم يتبق إلا خلق إنسان من امرأة دون رجل، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أكمل بخلق عيسى عليه الصلاة والسلام الحالة الرابعة وهي خلق الإنسان من امرأة دون رجل.
ولقد ضل النصارى وهم يحسبون أنهم مهتدون، فقالوا: إن عيسى عليه الصلاة والسلام ابن الله!! وهذا القول كفر والعياذ بالله، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أوضح أن من قال هذا: أنه كافر، وكذلك من قال: إن الله ثالث ثلاثة أنه كافر، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إله واحد لا شريك له، لم يلد ولم يولد، ليس له صاحبة؛ فإذا كان له ولد، فأين الصاحبة؟! فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى واحد، ولا يحتاج سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلى ولد، ولا إلى صاحبة ولا إلى أحد.(38/19)
الغلو من أسباب الضلال
قال الشيخ: سفر الحوالي حفظه الله.
من أكبر أسباب الضلال في الأمم التي قبلنا وفي هذه الأمة، الغلو في المخلوقين والبشر، فآدم عليه السلام خلقه أعظم من خلق عيسى، ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59] قالها في سورة آل عمران في معرض الرد على أهل الكتاب، لما جاء قسيس نجران والوفد الذين معه إلى المدينة، إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وناظروه في ذلك، فأنزل الله تبارك وتعالى صدر سورة آل عمران، رداً على النصارى في آي كثيرة، منها هذه الآيات.
دعوى النصارى بأن الآلهة ثلاثة، وإشراكهم بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في ذلك، من أسبابها المشكلة التي يعاني منها المسلمون اليوم، وهي مشكلة الغلو في الصالحين، وفي الأنبياء.
إن الغلو في أي إنسان بأن يزيد من قدره الذي جعله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له، هذا من باب الضلال والشرك، فالمسيح عليه السلام، وأمه عليها السلام كانوا من بني إسرائيل -كما تعلمون- فماذا كان موقف القوم منهما، بعد أن أكرمهما الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بما أكرم الأنبياء؟ كانوا على فئتين: أما اليهود فقالوا والعياذ بالله: إن مريم زانية! وأن هذا المسيح ابن زنا! والعياذ بالله، وهذا غلو في غاية الدناءة، أما الطرف الآخر فقالوا: إن هذا ليس بشراً، هذا إله، فرفعوه إلى أعلى؛ ولهذا رد الله تبارك وتعالى عليهم بأعظم مما رد على أي بدعة أو شبهة، فقال: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75].
هذه الآية لها مغزى، "كانا يأكلان الطعام" معناه: وجود الحاجة البشرية فيهما والفقر يظهر في أكل الطعام، فالإنسان أكثر شيء يحتاجه في حياته اليومية أن يأكل الطعام.
لذلك فإنَّ الرئيس، والحقير، والصغير، والكبير، والغني، والفقير، وكل مخلوق هو يسعى إلى الرزق لأكل الطعام، فيجد الحاجة إلى الطعام وإلى التقوت به، فمن كان في حاجة إلى أكل الطعام، لا يمكن أن يكون إلهاً أبداً، وأكثر من ذلك فالذي يأكل الطعام، تخرج منه الفضلات فهل يليق بالإله أن ينسب إليه هذا الشيء -والعياذ بالله- فلو فكَّر هؤلاء، وحكَّموا عقولهم، لكان ََََالتوحيد هو دينهم، لكن أضلهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بسبب هذا الغلو.
وهؤلاء -كما تسمعون- في صوت الإنجيل، وفي مونتكارلو، وفي ساعة الإسلام، وفي الإذاعات التي تصلهم ليلاً ونهاراً، وفي كل ليلة، وفي كل وقت، وفي كل خطبة، وفي محاضرة، وفي نظرة في الكنائس، يرددون أن المسيح إنما كان إلهاً، وإنما كان بهذه المكانة، لأنه خلَّص البشرية، خلص بني الإنسان من الخطيئة.
بعض الناس يقول: ما دامت أمريكا وأوروبا وفرنسا صنعوا الطائرات والصواريخ والأقمار الفضائية وكذا، كيف ستكون عقائدهم رديئة مفتقرة؟ ما دام هناك هذا الإنتاج المادي والتكنولوجي والكمبيوتر؛ فلا بد أيضاً أن عقائدهم ودينهم وفكرهم يكون على هذا المستوى!! وهذا غير صحيح أبداً، هذا ظلم، هذا له مجال، وهذا له مجال آخر، الدين اتباع وهدى من الله عز وجل، أما الصناعة فكل إنسان يعمل أكثر، ويفكر أكثر، وينتج أكثر، يحقق فيها أكثر، أياً كان دينه، الصينيون صنعوا القنبلة الذرية، بل وعباد البقر الهنود صنعوا القنبلة الذرية، إذاً: القنبلة الذرية ليست حكراً على أصحاب الفكر الغربيين، يمكن أن المجوسي، وعابد البقر، وعابد الشجر، وعابد الحجر، وأي إنسان أن يعمل ويحقق.
الشبهة أن النصارى قالوا: آدم أكل من الشجرة فوقعت البشرية في الخطيئة، فلما أراد الله أن يخلص الإنسان من الخطيئة، ضحَّى بابنه الوحيد -تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا- وذبحه صلباً، فكفرت الخطايا عن البشرية.
جواب الشبهة: فلو ناقشناها بالعقل حتى بدون نقل مع أي إنسان عنده عقل لقلنا: أولاً: آدم هو الذي أخطأ، والذي أغواه بالخطيئة هو الشيطان، لو كان الذي ضحى به الله عز وجل هو ابن الشيطان، فلن يكون هذا من العدل، لكن يقتل الذي أغواه وهو الشيطان، فهم يدعون أنه لم يقتل الشيطان الذي أغواه ولا ابن الذي أغواه، وإنما قتل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ابنه الوحيد للتكفير عن الخطيئة، فلماذا؟ ومن يقبل هذا الكلام؟ الأمر الثاني: أن الله ليس بعاجز أن يغفر الخطيئة، فالله يقول: يا عبدي! قد غفرت لك، أما أن يضحي بابنه فهذا عجيب! فمثلاً واحد أخطأ عليك -ولله المثل الأعلى- هل تذبح ولدك من أجل أن تغفر له، اعف عنه وسامحه وانتهت الإشكالية، لكن كيف يقبل العقل هذا؟ أما أعداؤه اليهود الذين قالوا: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] وقالوا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64].
فاليهود قالوا: إنه ابن زنا، وأنتم تقولون أيها النصارى: إنه ابن الله، فصلبوه وذبحوه، بكل راحة وسهولة، فكيف يكون هذا ابن الله؟ تعالى عن ذلك علواً كبيراً، ما قدروا الله حق قدره، وما عظموه حق تعظيمه، فأي عاقل يسمع كلام النصارى هؤلاء لا يمكن أن يصدقه.
لكن المصيبة ليست في النصارى، بل المصيبة أن هذه الأمة غلت في عباد الله الصالحين، في أوليائها، وصلحائها، وأنبيائها، كما غلا أولئك، فهناك من يدعي لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يتصرف في هذا الكون، وأن روحه تدور في كل مكان، ومن يقول: إن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أجله خلق الكون، وأنه يعلم الغيب كله، وكل شيء، حتى الخلق استأثر به، وأن على الإنسان أن يستغفره، وأن يطلبه في أي مكان، وهكذا.
حتى إن بعضهم، أو من غير هذه الأمة، جعل العبادة لغير الله، فتجده يستغيث بغير الله، ويدعو غير الله، ويقول: إن الله أعطى هؤلاء الناس التصرف في الكون، وأن هؤلاء أولياء، ولهم كرامات، وهم أحياء في قبورهم، فمن أتاهم إلى قبورهم، ودعاهم وذهب إلى الصلاة عندهم فهو كذا وكذا، مثلما غلا النصارى في عيسى، لكن هؤلاء قالوا: ابن الله، وهؤلاء قالوا: نبي الله، فالفرق أن كلمة ابن منهية عند المسلمين.
ولذلك قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله} قولوا: عبد الله ورسوله فقط.
الرسول لا يرضى أن يأتي فيجاهد الناس هذا الجهاد الطويل، ليترك الناس الشرك، ثم يأتي هؤلاء الناس ليدعوه هو، وهو الذي جاء لمحاربة الشرك، فيدعوه ليشرك بينه وبين الله، فلا يرضى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك أبداً، ولا يرضى بذلك أي أحد من عباد الله الصالحين، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57].
فالمدعوون والمعبودون من الأولياء الصالحين هم أنفسهم يبتغون إلى الله الوسيلة، وهم أنفسهم يدعون الله، ونحن لا ندري ما حالهم عند الله، إلا من كان نبياً، أو من شهد له النبي بأنه من أهل الجنة، وغير ذلك لا ندري ما حاله عند الله، هو خائف من عذاب الله، ويرجو رحمته، فكيف يعبد هؤلاء من دون الله؟ نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجنبنا ويجنب المسلمين -جميعاً- طرائق أهل الكتاب وسنن أهل الكتاب، ويجعلنا من المؤمنين الموحدين، إنه سميع مجيب.(38/20)
جوانب من توحيد الألوهية
في هذه المادة يبتدئ الشيخ ببيان أن التوحيد هو دعوة الرسل جميعاً، موضحاً موقف المشركين من توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، ثم حذر من الشرك وبين أسبابه وبعض صوره ومظاهره، مبيناً حكم إتيان السحرة والعرافين والكهان، وبعض أحوالهم وأضرارهم على الفرد والمجتمع، وطرقهم في ترويج أكاذيبهم، ثم بيَّن حكم تعلم السحر وتعليمه، مع ذكر بعض شبه السحرة والكهان والرد عليها.(39/1)
أسباب طرح الموضوع وأهميته
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،، نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن ينفعنا جميعاً بهذا الموضوع، وأن يكتب لنا ولكم الأجر والثواب إنه سميع مجيب.
إن الموضوع الذي نريد الحديث عنه هو: نبذة مختصرة عن (جوانب من توحيد الألوهية)، وهذا الموضوع قد تكون له تتمة لاحقة - بإذن الله - فيما يتعلق بهذا الأصل العظيم والركن الركين من أركان الدين: ألا وهو (توحيد الألوهية).
إن الكلام فيه لا جديد فيه على بعض منا، فماذا عسانا أن نأتي من جديد في أمر ندعو إليه جميعاً، لكن -أولاً- لأهمية الموضوع كان لا بد من التذكير به.
ثانياً: لغموض بعض قضاياه وغموض جوانب أو مسائل تتصل به، فكان لابد أن تجلى، ولا يضيرنا شيئاً أن يتكرر فيه الكلام؛ فإن الله تبارك وتعالى قد أكثر من الحديث والبيان والتفصيل فيه بما لم يأت على أمر آخر من أمور الدين، فعامة القرآن المكي وجملة من القرآن المدني إنما يتحدث عن توحيد الألوهية.(39/2)
التوحيد هو دعوة الرسل جميعاً
التوحيد هو الذي بعث الله تبارك وتعالى به رسله أجمعين، ومن أجله كانت الخصومة وكانت المعركة بين الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- وبين أممهم.
وقد بين الله تبارك وتعالى ذلك بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] فبين أن التوحيد هو دعوة الرسل جميعاً؛ وهذا على سبيل الإجمال، وكذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] أي عبادة الله وحده لا شريك له واجتناب الطاغوت الذي هو: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع، أو مطاع، فهذه هي حقيقة توحيد الألوهية وشهادة أن لا إله إلا الله.
وقد ذكر الله تبارك وتعالى التوحيد على سبيل التفصيل، فإن الله أنزل على خاتم رسله -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القرآن العظيم، وهذا الكتاب كما وصفه الله عز وجل هو: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [هود:1 - 2].
فهذه الآية هي خلاصة هذا الكتاب، الذي أنزله الله تبارك وتعالى مفصلاً على عبده ورسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيه ذكر وتفصيل لتوحيد الألوهية.(39/3)
موقف المشركين من توحيد الألوهية
ذكر القرآن هذا التوحيد على سبيل التفصيل على لسان أول الرسل نوح عليه السلام؛ فإن الله تبارك وتعالى أخبر عنه في السورة نفسها أنه دعا قومه بنفس الدعوة، فقال تعالى على لسانه: {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود:26] وقال في آيات الأعراف: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:59] ثم أخبر الله تبارك وتعالى عن بقية الرسل بأنهم جاءوا بهذه الدعوة أيضاً، فقال: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [الأعراف:65] وقال أيضاً: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73] وقال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:85].
فكل الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- كانت دعوتهم هي التوحيد وقد فهم أقوامهم وأممهم ذلك وعرفوه.
ولهذا قال قوم هود عليه السلام له: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف:70] فهم أنفسهم قد عرفوا ما معنى قوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] ولذلك قالوا: أجئتنا لنعبد الله وحده أي (لنفرده وحده بالعبادة) ونذر ما كان يعبد آباؤنا (من الشرك)، فقد كانوا يعبدون الله ويعبدون معه تلك الأصنام والمعبودات، ولكنهم لما عُرِّفوا توحيد الألولهية فعرفوه، أنكروه.
وهذا ما أنكره -أيضاً- قوم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال تعالى عنهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] أي كيف يكون ذلك؟! فهم بذلك قد ردوا كل دعوة إلى تحقيق توحيد الألوهية، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:35 - 36] وهكذا هي كل الأمم استكبرت على الدعوة إلى توحيد الله عبادته، وإلى شهادة أن لا إله إلا الله.(39/4)
موقف المشركين من توحيد الربوبية
وأما ما يتعلق ببعض جوانب الربوبية، وما ينسب إلى الله تبارك وتعالى من أفعال؛ فإن المشركين أنفسهم كانوا مقرين بها إلا من شذ، ومن جعل هذا التوحيد هو الغاية التي من أجلها بعثت الرسل وأنزلت الكتب وخلق الخلق كما يفعله المتكلمون في كتبهم التي يسمونها -العقيدة والتوحيد- وهي كتب كلام، فذلك من الضلال المبين ولا ريب في ذلك؛ لأن الله تبارك وتعالى أخبر في كثير من الآيات، أن المشركين كانوا يقرون بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي يرزق، ويخلق، ويتصرف، ويملك قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس:31].
فهم يقرون بتوحيد الربوبية فلماذا إذاً كانوا كفاراً؟ ولماذا كانوا مشركين؟ لأنهم عبدوا غير الله، ولهذا قال تعالى: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس:32] أي إذا كانت هذه هي أفعاله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإذا كنتم كما قال الله عنكم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] وقال أيضاًَ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9] فلماذا تعبدون غير الله؟! ولماذا تدعون غير الله؟! ولماذا تتوجهون بقرباتكم وصلاتكم ونسككم ودعائكم إلى غير الله تبارك وتعالى؟! إذاً: فالقضية واضحة بالنسبة لما كان بين الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وبين أقوامهم، وما هذه إلا آيات قليلة من جملة آيات عظيمة في كتاب الله، توضح أهمية هذا الجانب وهو (توحيد الألوهية، وضرورة الدعوة إليه، والتذكير به.(39/5)
الشرك
وإذ قد ذكرنا ذلك فلابد أن نتعرض للشرك وخطورته وبعض شبه أهله.(39/6)
التحذير من الشرك
وتتجلى شدة التحذير من الشرك في قوله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] هذا الكلام يخاطَبُ به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكمل الخلق عبودية لله، وأعلم الخلق بالله، وأتقى الخلق لله تبارك وتعالى ولم يقل ذلك له وحده؛ بل قد قيل لمن هم قبله من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، فكلهم خوطبوا بهذا، فبعد أن ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أولئك الأنبياء بالتوحيد في سورة الأنعام عقب بقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] ويخاطب الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا وهو الأبعد من الناس عن الوقوع في الشرك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لتكون لنا نحن من بعده العبرة والعظة.
فنحن أولى بأن نحذر من الوقوع في الشرك، وأن نلتزم ونؤمن ونعتقد وندعو إلى توحيد الألوهية، وهو عبادة الله وحده لا شريك له؛ وألا يعبد غيره ولا يدعى غيره في كل ما شرع سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من أنواع العبادات الكثيرة والمتنوعة التي يجمعها جميعاً أنها الدعاء؛ كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الدعاء هو العبادة} وكما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] فجعل الدعاء هو العبادة، وهو كذلك.
فهذا أصل عظيم يقرَّر في كتاب الله تبارك وتعالى لأهمية هذا النوع من أنواع التوحيد الثلاثة.
إذاً: يجب علينا أن نعلم لماذا وقع من وقع في الشرك من هذا الجانب؟ لماذا أشرك المشركون؟ ولماذا أخلُّوا بتوحيد الألوهية؟ وبماذا رد الله تبارك وتعالى عليهم هذه الشبهات؟ وما هذه الحجة الواهية التي سوغت الشرك بالله في هذا الجانب من جوانب التوحيد.(39/7)
سبب الشرك
لقد بين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذه الحجة، وأنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] وقالوا أيضاً: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18].
إذاً: أصل الشرك الأول الذي وقع في الأرض يرجع لهذا السبب وهذا الأصل، فقد عبد قوم نوح وداً، وسواعاً، ويغوث، ويعوق، ونسراً، وهؤلاء هم رجال صالحون عبادٌ لله تبارك وتعالى عُبِدُوا من دون الله، واستمر الشرك بعد ذلك وتطور؛ فعُبدت الملائكة وعُبد بعض الأنبياء، وأصل هذا كله وسببه هو اعتقاد أولئك أن هؤلاء سوف يقربونهم إلى الله زلفى؛ فإذا عبدوا هؤلاء الأولياء قربوهم إلى الله.
ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله.
فمعنى كلامهم: أننا لا نستطيع أن نعبد الله مباشرة، وهذا ما يقوله بعض العامة، ممن يقع في هذا الشرك الآن فيقول: (أنا ضعيف وأنا مذنب وكلي خطايا فكيف أدعو الله مباشرة.
كيف! لا أستطيع! لكن أدعو الله بواسطة هؤلاء وأتوسل إلى الله تبارك وتعالى بهؤلاء) مثل: الحسن أو الحسين أو علي وغيرهم أو حتى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو بقية من يُعبَدُون من دون الله تبارك وتعالى سواء أكانوا من الأولياء أم من العباد الصالحين أم ممن جعلوا كذلك، مثل: عبد القادر الجيلاني أو أحمد الرفاعي أو البدوي أو غيرهم.(39/8)
شبهة الشرك
كثير هم في أنحاء العالم الإسلامي -مما لا يدخل تحت الحصر- من يدعون غير الله ويقول: (إنما أريد التوسل بهم إلى الله تبارك وتعالى) وربما قال بعضهم: إن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] فيقول: لا أستطيع أن أدعو الله مباشرة، والله أمرني أن أتخذ إليه الوسيلة؛ وهي الواسطة التي بيني وبين الله، فأنا أتوسل إليه بهؤلاء الصالحين هذه هي شبهتهم.
وقد رد الله تبارك وتعالى عليها أعظم الرد فيقول الله عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء:57] فهؤلاء المدعوون من الأنبياء ومن الملائكة والصالحين، هم أنفسهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب.
إذاً: الوسيلة ليست هؤلاء لأنهم يبتغون إلى الله الوسيلة.
فما هي الوسيلة؟ وما الذي اتخذه الأنبياء والملائكة والصالحون عموماً وسيلة إلى الله؟ إنما اتخذوا العمل الصالح (الإيمان، والتقوى، واليقين، والإخلاص، والصبر، والاستقامة على دين الله تبارك وتعالى) فهؤلاء عبدوا الله وتقربوا إلى الله تبارك وتعالى، فهم بذلك يبتغون إلى ربهم الوسيلة، أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه؛ لأنهم لا يأمنون على أنفسهم، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا يملكون جنة ولا ناراً، فكيف يتخذون آلهة؟ كيف يتخذون مدعوين من دون الله بدعوى أنهم وسطاء أو شفعاء وهم أنفسهم لا يملكون ذلك؟ بل هم يرجون رحمة الله ويخافون عذابه تبارك وتعالى، قال تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء:57] أي يحذر منه كل أحد وكلٌ يخاف من عذاب الله عز وجل.
فإذا كان هذا حال هؤلاء المدعوون الذين يُدعون من غير الله، فكيف يجوز لأحد أن يدعوهم؟! فقطع الله تعالى بذلك كل حبائل المشركين المتعلقين بهؤلاءالصالحين ووسائلهم وشبهاتهم.(39/9)
التوسل وحقيقته
لقد بين الله عز وجل حقيقة توسل عباده المؤمنين، فأعظم عبدٍ وأعلى من وصل إلى درجة من درجات العبودية لله تبارك وتعالى وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو كان لأحد أن يتوسل بأحد لكان أحق الناس بالتوسل به هو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
لكن ماذا قال الله تبارك وتعالى؟ وماذا أخبر عن المؤمنين؛ لقد ذكر عنهم أنهم يقولون: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} [آل عمران:193]، فمن هذا المنادي إلا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قالوا: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران:193].
فلماذا نتوسل إلى الله تبارك وتعالى به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا نتوسل إلى الله تبارك وتعالى، بهذا الإيمان الذي هو أعظم وسيلة امتثالاً لقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] أي: تقربوا إلى الله تبارك وتعالى بالأعمال الصالحة والطاعات المشروعة وهكذا فسرها السلف الصالح رضوان الله تبارك وتعالى عليهم؟! إذاً ينبغي أن نعلم هذه الحقيقة، وأعظم الناس اتباعاً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم أقرب الخلق إلى الله تبارك وتعالى بعد الأنبياء وهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم.
فكيف كان توسلهم؟ إنما كانوا يعبدون الله تبارك وتعالى، وإنما توسلوا إلى الله تبارك وتعالى بأعمالهم الصالحة، اجتهاداً منهم في متابعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي محبته التي تستلزم وتقتضي اتباعه، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].
فمن أراد حقيقة التوسل؛ فعليه باتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن اتبعه وآمن به وصدقه فيما أخبر ولم يعبد الله تبارك وتعالى إلا بما شرع؛ فإنه قد توسل إلى الله تبارك وتعالى توسلاً صحيحاً.(39/10)
أنواع التوسل
والتوسل أنواع: (أ) توسل شركي وهو: دعاء غير الله تبارك وتعالى كما أوضحنا.
(ب) بدعي وهو: التوسل بالذوات.
وإنما يكون التوسل إلى الله تبارك وتعالى، بأسمائه وصفاته وبالأعمال الصالحة، كما فعل الثلاثة الذين أطبقت عليهم الصخرة في الغار؛ فتوسلوا إلى الله تبارك وتعالى بصالح أعمالهم، وهذا لأنهم عملوا ذلك من أجل الله تعالى.
فالأمر جليٌ وواضح -ولله الحمد- إلا من أغشى الله تبارك وتعالى بصيرته من دعاة (الرفض والتشيع والتصوف وأمثالهم) الذين ضلوا وأضلوا هذه الأمة، وجعلوها أشبه ما تكون بأمم الكفر والشرك التي لم تعرف الله تبارك وتعالى، ولم تعرف التوحيد ولم يأتها رسول منذ أحقاب من الدهور! إنما ورثته من عادات وتقاليد وضلالات وشركيات، كحال أهل الهند والصين وأمثالهم ممن لم يهد الله قلوبهم ولم يشرح صدورهم للإسلام! فهؤلاء قد ضلوا وأضلوا، وهذا الجانب قد وضح إن شاء الله تبارك وتعالى.(39/11)
السحر والكهانة
الجانب الآخر من جوانب هذا التوحيد وهو جانب عظيم ونحتاج للحديث عنه في هذه الأيام -وأيضاً في كل الأيام- وهو ما يتعلق بإتيان الكهان والسحرة والمشعوذين، فقد عم هذا البلاء وطم -ولا حول ولا قوة إلا بالله- حتى أصبحت البيوت تضج وتشتكي، والهواتف والرسائل تأتي تباعاً إلى أهل العلم والدعوة ممن يشكون مما حل بهم.(39/12)
لا يظهر على غيبه أحداً
بعد أن كان هذا الأمر من أقل ما يمكن، وإذا به ينتشر وإذا بشره يستطير -ولا حول ولا قوة إلا بالله- فما هو موقفنا جميعاً من هؤلاء؟ وما حقيقة ما يقوله أولئك أو ما يدعونه؟ وهل يعلم الغيب أحد غير الله تبارك وتعالى؟.
سبحان الله العظيم! يذهب الناس إليهم ويسألونهم عن ضالة فقدت أو عن أمر يريدونه أو عن عمل أو عقد يريدون أن يبرموه، وهل الزواج سيكون موفقاً أم غير موفق؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! هل هؤلاء يعلمون الغيب؟! ألم يقل الله تبارك وتعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59] وتقديم الظرف أو المعمول دائماً يشعر بالاختصاص، كما في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] أي وحدك نعبد ولا نعبد غيرك، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام:59] أي ليست عند أحد سواه، ولا يعلمها إلا هو، فلا يعلم الغيب أي (الغيب المطلق) إلا الله تبارك وتعالى، كما قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65] فكيف يليق هذا بمن يعلم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنفسه لا يعلم الغيب، بل قال: {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام:50] وقال: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف:188] سبحان الله! ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب أكان يبعث سبعين من خيار الصحابة من القراء، إلى بئر معونة فيقتلون جميعاً ولا يرجع منهم أحد؟!! هذا لا يمكن أن يفعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو كان يعلم الغيب أكان يوم أحد يخرج ويقع له ولأصحابه ما وقع؟! أم كان سيبقى في المدينة كما أشار عليه من أشار -أمور كثيرة واضحة- وفي حادثة الإفك لما افتري على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كان ينتظر أعظم الانتظار وهو موقف ما أشده على النفس وما أشقه على قلوب أهل الغيرة والإيمان -وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أغير هذه الأمة ولا أغير منه إلا الله تبارك وتعالى- لكنه انتظر حتى نزلت براءتها من عند الله تبارك وتعالى؛ فلو كان يعلم الغيب -أيضاً- لأخبرهم وانتهى الأمر وهكذا أمور كثيرة جداً في سيرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذاً فهو لا يعلم الغيب، فيا سبحان الله! إذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعلم الغيب، ولا يعلمه أبو بكر ولا عمر ولا من دونهم؛ فكيف يعلمه هؤلاء الذين يدَّعون ذلك الآن من الدجالين المشعوذين الذين يذهب إليهم ولا حول ولا قوة إلا بالله؟!!(39/13)
حكم إتيان السحرة والكهان
أما حكم من يذهب إليهم فليس هيناً كما يحسبه بعض الناس؛ فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوضح ذلك وبينه بقوله: {من أتى عرافاً أو كاهناً لم تقبل له صلاة أربعين يوماً أو أربعين ليلة} وفي الحديث الآخر: {من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} ولا تعارض بين الأمرين، فلو أن أحداً ذهب إلى عراف أو إلى كاهن أو إلى قارئة الفنجان أو خطاط رمل أو منجم أو فلكي -كما يسمونهم أحيانا الفلكيين! - أو إلى أي شيء من هذه الأمور، كمن يذهب إليه في مقابلة صحفية، أو يذهب إليه ليرى أحواله وليتفقد ما عنده، من غير أن يصدقه بما يقول، فإن هذا لا تقبل له الصلاة أربعين يوماً والعياذ بالله!! فبالله عليكم! أفضل الأعمال التي بها نرجو النجاة عند الله تبارك وتعالى بعد توحيده والتي هي كالنهر الغمر الجاري نغتسل كل يوم فيه من الخطايا والذنوب التي تقترفها جوارحنا تذهب هكذا ولا تتقبل، ويكون قد أداها فقط، لأن هذا بدافع الفضول، يقول: أذهب لأرى ماذا يفعل هذا، ولماذا يتجمع هؤلاء عنده؟ بهذا فقط، أما لو ذهب إليه فصدقه بما يقول كأن يقول مثلاً: أنت ستتزوج فلانة وتنجب منها أولاداً؛ والوظيفة ستترقى فيها لمرتبة كذا، أو كذا، أو يقول: عندما ضاع منك الشيء الفلاني أخذه فلان، أو عندما وقع لك المرض الفلاني كان بسبب فلان، أو أي أمر من هذه الأمور، فإن صدقته بما يقول؛ فقد كفرت بما أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذاً فالأمر عظيم وعظيم جداً ولماذا كفر؟ لأن مما أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59] فمن زعم أن أحداً يعلم الغيب فقد كفر بهذه الآية وأمثالها.(39/14)
آثار السحر والكهانة وأضرارهما
من اعتقد أو ظن أن هؤلاء السحرة والكهان يعلمون الغيب فقد وقع في الفتنة العظمى فيفتن الناس في دينهم، ولا سيما ضعفاء العقول من كبار السن مثلاً أو الصغار أو النساء، وكل ضعيف عقلٍ أياً كان.
وهذه صورة أخرى لهذا الشرك، فهو شرك مركب: لأنه قد خوف بعض الناس من هذا الكاهن أو الساحر، بأنه قد أخبر عن فلان، وحدَّث بما وقع لفلان، وما سيقع لفلان إذاً: فيمكن أن يراني الآن؛ فتجد -والعياذ بالله- أن الخوف من غير الله واضح جداً.
والخوف المقصود به: هو ما دون الطبيعي، أما الخوف الطبيعي: فهو أن تخاف من وحش أو حادث أو بئر؛ لكن الخوف الذي هو عن غيب، فيقال: فلان كاهن فلا تتكلم، ولا تجعله يفعل بنا كذا فيؤذينا؛ فيجعله كأنه رب، وكأنه إله فوق رأسه -والعياذ بالله- بل وكأنه ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد؛ وكأنه الذي له الكرام الكاتبين يكتبون ما يقول ولو كان في أبعد مكان، حتى والله إن بعضهم -من بعد مئات الأميال أو ألوف الأميال- يقول: لا تتكلم في كذا، لا نستطيع أن نقول على السادة الفلانيين كذا! فهذا لا يكون إلا عبودية لغير الله، فأي خوف مثل ذلك إلا الخوف من الله؟! فهؤلاء -أيضاً- قد ضلوا وأضلوا، ولهذا جعل الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإمام الداعية المجدد الذي جدد الله تبارك وتعالى به التوحيد والملة -من أنواع الطواغيت الخمسة الكبار- أي رؤساء الطواغيت الكبار (من ادعى شيئاً من علم الغيب) فليس هو مجرد كافر فحسب؛ بل هو أفظع من ذلك، فهو طاغوت والطاغوت: مادة الكفر وسبب الكفر؛ فلأجله وبه وبتصديقه يقع الكفر في فئام عظيمة من الناس، وهذا هو الواقع في كل الأوقات ولا حول ولا قوة إلا بالله.(39/15)
حكم تعلم السحر وتعليمه
وعن حكم تعلم السحر وتعليمه فقد قال الله تبارك وتعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] فقال {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] إذاً: فتعليم السحر وتعلمه كفر، قال تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102] الله أكبر! جعل الله تبارك وتعالى الحجة قائمة على من يتعلم هذا العلم الخبيث أنه من فتنة الملكين اللذين جعلهما الله تبارك وتعالى فتنة، فيقولان: إنما نحن فتنة فلا تكفر، أي: لو علمناك هذا العلم وذهبت لتفعل ذلك، فقد كفرت؛ فلا تكفر.
ولذلك من تعلم ذلك فقد تعلم السحر، والحجة قائمة عليه؛ لأن هذا التعلم كفر -والعياذ بالله- فهل هناك زاجر للمؤمن عن هذا العمل الخبيث أشد وأعظم من الكفر ومن تعلم ذلك؟ قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102] فأصحاب الذنوب -وكلنا مذنبون- يرجى لهم في الآخرة خيرٌ، فيخرج من النار من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، بتيسير الله تبارك وتعالى للشافعين أن يشفعوا فيه؛ فكل هؤلاء مهما ارتكبوا من الأعمال يرجى لهم الخير، أما الكافر أو المشرك فهو الذي لا يرجى له الخير وما له في الآخرة من خلاق؛ وليس له في الآخرة إلا النار، فمن هم هؤلاء؟ إنهم الكفار الذين ارتدوا عن الدين ووقعوا في الشرك المبين -والعياذ بالله- إذاً: فمن تعلَّم هذا العلم وعلمه وعمل به أو صدق أصحابه فهو داخل في هذا الوعيد الشديد، وقد خسر الدنيا والآخرة، وما له من حيلة إلا أن يستغفر الله تبارك وتعالى ويتوب إليه، ويرجع عما كان يعمل، ويتدارك قبل أن يدركه الأجل ويأتيه الموت، وهو على هذا الكفر العظيم، نسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظنا وإياكم من ذلك.(39/16)
نصائح وتوجيهات
أولاً: علينا أن نحفظ أبناءنا ونساءنا وأمهاتنا وآباءنا من هذا الداء العظيم الذي انتشر في زماننا هذا؛ لأن كثيراً من الناس ربما ذهب بعض أهله إلى هؤلاء الكهان أو السحرة وهو لا يعلم، فيقعون في الشرك وهم يصلون ويصومون ويحجون ويزكون، وبيوتهم تخلوا من المنكرات وفيهم خير كثير، ولكن لن ينفعهم شيء من ذلك إذا وقعوا في هذا الشرك، قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] أي أن الشرك: يحبط الأعمال ويحرم من دخول الجنة ويستحق صاحبه الخلود في النار؛ وهذا أمر عظيم يجب أن نذكِّر به وألا نمل من التذكير به.
ثانياً: يجب علينا أن نحارب هؤلاء بالإبلاغ عنهم، ومكاتبة الجهات المسئولة حتى نقضي عليهم، سواء كانت الهيئات أو وزارة الصحة، أو أي جهة تستطيع أن تضبطهم وترفعهم إلى من يقيم عليهم حد الله تبارك وتعالى، كما يجب أن يمنع هؤلاء وأن يزجروا لأنهم مادة الكفر وسببه في هذه الأرض والعياذ بالله.
ومما لا شك فيه أن هذا الكفر يكون عظيماً وشنيعاً فكيف إذا كان في بلد مقدس (مكة، أو المدينة) فإنه أشد ما يكون في هذا البلد الطاهر المقدس، نسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظ بلاد المسلمين ويطهرها منهم.(39/17)
السحرة وترويج الأكاذيب
إن هؤلاء السحرة والكهان لهم شبهات وطرق معروفة لدى كثير من الناس إلا عند بعض العامة وضعاف الإيمان الذين قد تمر عليهم هذه الأكاذيب.
فمن هذه الشبهات: صدقهم في بعض الأخبار، وهي لا تذكر بالنسبة إلى كذبهم، وهذا ما جعل البعض يصدقهم؛ فبعض الناس يقول: أخبرني أن الضالة الفلانية في مكان كذا، وأنه حصل لي كذا، وهذا حق وصدق.
فنقول: هذه شبهة شيطانية باطلة؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبرنا أن هذه الفتنة ستقع؛ فقال: {فربما ألقيت الكلمة قبل أن يدركه الشهاب} والشهاب يرسله الله تبارك وتعالى رجوماً للشياطين -حتى يعلم الناس أن ما أنزل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق وصدق- {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء:210 - 212].
ولهذا لما وجد الجن (السماء) {مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} [الجن:8] أيقنوا وآمنوا؛ وكان ذلك إيحاءً وإرهاصاً ببعثته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك فإن هذا الجني أو الشيطان قد يدركه الشهاب قبل أن يقول الكلمة، وربما لا يدركه إلا بعد أن يقولها، ويلقيها إلى الكاهن؛ يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فيكذب معها مائة كذبة} فهذه كلمة واحدة متيقن منها؛ لأن الشيطان استرق السمع من الملائكة؛ فإذا قضى الله تبارك وتعالى الأمر في السماء وحدث به جبريل، ثم حدث جبريل به من دونه تتحدث به الملائكة أن الله تبارك وتعالى قضى بكذا، فيلتقطه هذا الخبيث (الشيطان) ويهوي به؛ فيهوي الشهاب وراءه فربما ألقاها إلى وليه (الكاهن) قبل أن يدركه الشهاب.
فمثلاً: كانت هذه الكلمة (سيموت فلان أو سيقع كذا) فماذا يحدث؟ يأتي هذا الكاهن المتمرس المتدرب على الكذب فيكذب معها مائة كذبة، وهذه فتنة من الله تبارك وتعالى، - فإذا تاب وقال له الناس: أتذكر ذاك اليوم فيعلم أنه قد وقع في شر أعماله؛ وهناك كثير ممن مَنَّ الله عليهم بالهداية، ففي الفتاوى ذكر شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله أن بعض من هداه الله بَيَّنَ هذه الأكاذيب كلها.
وفي زماننا هذا يذكر أحدهم فيقول: (والله ما كنت كاهناً ولم يلْقِ لي أحد بكلمة؛ لكني رأيت أن بعض الأحيان يقول: أحدهم كلمة فتقع) وهكذا صارت مهنة يتكسب منها فيكذب ويكذب وتقع كلمة مما قاله؛ فيذكر الناس بها ويترك المائة كذبة.
فهؤلاء الكهان هم أولياء الشياطين وهذه هي شبهتهم في ادعائهم أنهم يطلعون على أمور الغيب، نسأل الله أن يعافينا وأن يعيذنا منهم.(39/18)
شبهة السحرة والرد عليها
وأما شبهة السحرة فهم يقولون: (نحن إنما نكتب الآيات ونرقي بالآيات، وليس عندنا شيء إلا القرآن)! وكلهم يقولون ذلك.
أولاً: هذا كذب، لأن هناك فرق بين من يرقي بكتاب الله تبارك وتعالى وبين هؤلاء السحرة؛ فلو أن أحد الناس فتش وقرأ ما يكتبون له؛ لعرف أنهم لا يكتبون قرآناً وآيات فقط، بل إنهم يكتبون، ما لا يفهم معناه، وهذا يدل على أنه الشرك.
وهذه الكتابات استغاثات بطواغيت الجن، وفيها خطوط ومربعات ومثلثات أو حروف أو أعداد معينة ثم يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فيكون مثل الكاهن ويوهم الناس أنه قرأ قرآناً وآيات؛ ولكن لماذا لا ينظر هؤلاء الناس إلى باقي ما كتب من الطلاسم الشركية.
أما القرآن فيمكن أن يقرأهُ الكافر، بل وحتى المستشرق يمكن أن يستشهد به، لكن ماذا بعده؟ وماذا معه مما لا يفهم معناه؟! فهذا هو الخطأ وهذه هي المصيبة.
فـ (كتب السحر) و (علم السحر) توارثته السحرة من أيام تلك الفتنة (أيام الملكين بـ بابل) إلى الآن، فقد جعلوا فيه الرموز والطلاسم باللغات القديمة -السريانية أو الآرامية أو غير ذلك- والمهم أنها رموز تدل على هذا الشرك.(39/19)
كيفية الوقاية من السحر
إذاً فما هو الحل وما هو العلاج لهذا الداء؟ أولاً: أن نعرف أن الله تبارك وتعالى غفور رحيم، وأنه أرحم بنا من الأم برضيعها، وأن الله تبارك وتعالى علمنا عداوة الشيطان وأولياءه، فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6] فحذر منه أبانا آدم وحذرنا منه؛ لأن الله تبارك وتعالى يعلم ما له من تأثير حين قال {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] وهو يعلم أنه يزين ويمكر ويوسوس، وله كيد، فهو ذو شأن في هذه الأمور فهل يترك الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين بلا وقاية؟! كلا والله، فالله هو الرحيم بعباده المؤمنين، وهو الذي يحفظ أولياءه؛ فهل يتركهم بغير سلاح يقاومون به عدوه الأكبر وحزبه الذين هم أعداء الله؟! لا يمكن أبداً؛ فلننظر إلى رحمة الله تبارك وتعالى وهي أنه (كلما كانت حاجة البشر إلى أمر من الأمور أعظم، كلما جعله الله تبارك وتعالى أيسر وأرخص وأسهل) فمثلاً نحن نحتاج الهواء وكل منا يحتاج أن يتنفس، ولذلك فقد جعل الله تبارك وتعالى الهواء مجاناً، فالحمد لله أنه في كل مكان ولو كان الهواء يشترى ويباع؛ لما تنفس منه إلا الأغنياء، لكنها حكمة من الله تبارك وتعالى، وكذلك (الماء) فهو ضروري للحياة، وقد جعله الله تبارك وتعالى ميسراً ومجاناً، وإن كان أقل من الهواء لكن المهم أنه موجود وسهل ورخيص، ومثال آخر وهو (الملح) فلو كان الملح في الغلاء مثل الأرز لما سهل علينا الحصول عليه؛ فيمكن أن تأكل أكل اليوم من غير أرز؛ لكن! لا يمكن أن تأكل أكلاً من غير ملح؛ فلشدة الحاجة إلى الملح جعله الله تبارك وتعالى سهلاً وميسوراً ورخيصاً وهكذا.
فنحن أحوج ما نكون إلى شيءٍ نتحصن به من هذا العدو الخبيث الماكر الذي كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه: {إنه يجري من ابن آدم مجرى الدم} فبالتأكيد أنه لا يليق برحمة الله وبحكمة الله أن يكون المحصن لنا من هذا العدو الخبيث فيه صعوبة، مثلاً: كأن يجتمع الآلاف أو الأمة أو القبيلة أو القرية عند واحد -فقط- يقرءون عليه شيئاً من القرآن؛ ولو كان كذلك لكانت رحمة الله تبارك وتعالى ضيقة، وتعالى الله عن ذلك، لكنه إنما شرع لنا جميعاً ما نتحصن به، وليس كما حدث أيام الكوليرا والحمى الشوكية حينما انتشر التحصين في كل شارع وفي كل مكان وفي الحرم وعند أبواب المساجد وفي المدارس؛ وباء عظيم؛ لكنه ليس أكبر من وباء الشياطين؛ الذي جعل الله تعالى علاجه عاماً ميسوراً وسهلاً ودواءً موجوداً في كل بيت؛ فما هو هذا الدواء؟ (إنه قرآن أو ذكر) فهذا أو ذاك، الكبير والصغير حتى لو لم يقرأ فيمكن أن تعلمه بعض الآيات، والأذكار السهلة الميسورة، التي تقيه وتكون حصناً وحرزاً له من الشيطان، ومنها آية الكرسي، وأذكار أخرى، والأدلة في ذلك كثيرة ومعروفة.
فمثلاً قول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) من الذي لا يستطيع أن يقول ذلك، وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] وقراءة المعوذتين, وغيرها؛ وقول: {باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء إلخ} وكذلك {أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق} فهي كثيرة ميسرة -والحمد لله- أيضاً فأيها حفظت وأيها قلت؛ فأنت إلى خير -والحمد لله- ولكثرة طرق هذا العدو ولشدة بأسه علينا فلابد أن يكون هذا السلاح في القلب، لأنه لو أن الجندي -مثلاً- كان في معركة ونام أو غفل عن سلاحه، وداهمه العدو فأسره فسيكون استخراجه من الأسر فيه صعوبة؛ وكذلك الشيطان إذا دخل عن طريق السحر.(39/20)
حقيقة السحر
السحر: هو النفث في العقد قال تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] والنفاثات في العقد هن: السواحر؛ لأن الغالب أن الذي يتعاطاه إما نساءٌ من الإنس أو من الجن، وأما قوله تعالى {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5] فهي العين، فإذا غفل الإنسان عن سلاحه؛ وقع وأصيب بالسحر أو أصيب بالعين وصعب علاجه، وأما الذي لا يغفل عن سلاحه ولا يتركه أبداً، وإنما يتحصن به ويتوكل على الله تبارك وتعالى فلا خوف عليه إنما كان؛ فالله حافظٌ له، لأنه قد عمل بما علَّمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الشأن، واحتاط به فإن وقع له بعد ذلك أمر فليعلم أنه ابتلاء من الله تبارك وتعالى.
فكما يبتلى فلان بسرطان -عافانا الله وإياكم- أو بحادث؛ فيموت أو يمرض -أيضاً- يقع الابتلاء بهذه العين، أو بهذا السحر، أو بأي شيء فمن ابتلي بذلك فلا يقنط ولا يجزع، بل يصبر ويتعالج ويحتسب، ولا يجعل هذه الأمور الخفية تذهب به؛ فيضيع إيمانه وتوحيده ويذهب إلى الكهان والمشعوذين والدجالين، -نسأل الله العفو والعافية-.(39/21)
طرق الشيطان في الإغواء
إن مادة الشرك محسومة ومقطوعة -بفضل الله تبارك وتعالى- بذكر الله تبارك وتعالى، وباليقين في الله تبارك وتعالى، وبمعرفة أن هذا الشيطان الخبيث لا سلطان له على المؤمنين أبداً، كما قال سبحانه: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل:99] فلا سلطان له عليهم ولا يطيقهم، بل يخافهم هو وأولياؤه.
فـ عمر رضي الله عنه كان إذا سلك فجاً سلك الشيطان فجاً آخر الله أكبر! لا يمكن أن يلتقي به أبداً!؛ لقوة إيمانه.
وهكذا فكل من ذكر الله تبارك وتعالى وأكثر من ذكر الله فله نصيب من هذا، ولذلك إذا ذُكر الله خنس الشيطان، وإذا نسي العبد عاد ووسوس -والعياذ بالله- ولكن كيده ضعيف؛ ولهذا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح لما شكا إليه الصحابة من الوسوسة وما يجدون مما لا يستطيعون الحديث عنه، قال: {الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة} فالشيطان لا يأتي أحداً من الناس ويذهب به ليفعل كذا، إنما هي خواطر تأتي؛ فإذا استعاذ بالله وأعرض عنها ذهبت، ولهذا لا نسترسل معه في أية وسوسة.
فمثلاً: يقول لك: اعمل معصية كذا وذنب كذا، وهذا هين وهذا كذا، وهذا ليس شركاً، وهذه ليست بدعة، وهذه ستستغفر الله تبارك وتعالى منها وتتوب إليه.
فكل هذا يجب أن نتوب منه، وأن نحذر وأن نعلم أنه -أي الشيطان- عدونا كما أخبر الله تبارك وتعالى بقوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6] فإنه يوم القيامة يتبرأ منا، ويقول: ما دعوتكم ولا أغويتكم كما ذكر الله تبارك وتعالى ذلك في سورة إبراهيم وغيرها.
كانت هذه بعض الجوانب المهمة من جوانب التوحيد، وهناك جوانب أخرى كجانب (التشريع والطاعة والاتباع) نتطرق إليها -إن شاء الله- في وقفات أخرى.
وإن شاء الله تعالى نجيب على جملة من الأسئلة التي تكون نافعة للتحذير من هذه الأمور، وتعين على نشر هذه الدعوة والدين والتوحيد، وكل ما يتعلق بالألوهية يجب أن نجعله أهم وأول ما ينشر في المجتمع، وبعد ذلك تأتي بقية الأوامر والنواهي، نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى.(39/22)
الأسئلة(39/23)
كيفية معرفة السحر
السؤال
ما حكم من يذهب إلى هؤلاء السحرة والكهان لغرض إبطال السحر إذا عرفه أو وجده، فيذهب إليهم من أجل أن يتأكد من أن ما وجده سحراً؟
الجواب
لا يذهب إليهم، ومن كان يريد التأكد من أن ذلك سحر أم لا؛ نقول له من الآن: كل ما كان من باب الرموز الكتابية كحروف، أو أعداد، أو مربعات، أو مثلثات، فهو من هذا القبيل؛ فلا تذهب إليهم، لأنه سحر، وزيادة في التأكيد عليه الذهاب إلى أي شيخ من المشايخ ويسأله عما وجده.
أما إذا وجده وعرف أنه سحر فعليه أن يتلفه ليحرق العين التي بها السحر؛ -والمعلوم أنهم -أي السحرة- إنما يفعلون ذلك على شعر من شعر الإنسان، أو شيء من ملابسه الداخلية أو أظفار أو ما أشبه ذلك، مما له علاقة، فينفث فيه -والعياذ بالله- ثم توضع الرقى والعزائم ويُستغاث بغير الله، ويُلفُّ ويوضَعُ في شيء كما فُعل بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مشط ومشاطة.
وأما إتلاف السحر: فإنه تتلف مادته فتدق وتحرق، حتى ينتهى منها، ثم يعالج صاحبها.
وبإذن الله تبارك وتعالى لو وضعت لأحد وهو ممن يداوم على ذكر الله -كما ذكرنا-؛ فإنه لا يضره ذلك شيئاً لأن كيدهم ضعيف.(39/24)
حكم الأبراج وتوقعات مشجعي الكرة
السؤال
ما رأيكم في توقعات مشجعي الكرة حول نتيجة المباراة القادمة، فكل واحد منهم يحدد النتيجة بالتقدير؟ وما حكم الأبراج وما يكتب عنها في الجرائد والمجلات؟
الجواب
أما الأبراج فلا شك أنها كهانة، والعجيب -حتى نعرف أن هذا كذب ودجل- أن المجلة تطبع -أحياناً- مليون عدد، وفيها هذه الأبراج مثل (الثور أو الميزان) فيقرؤها مليون من البشر، فكيف يكونون كلهم في برج واحد؛ فهل ولدوا كلهم في يوم واحد؟! ويقع لهم الشيء نفسه؟! وهذا دليل واضح على أن هذا كذب، وإنما هو ضحك على الناس فقط لتُقرأ وتشترى هذه المجلة، ثم إنها تكون دائماً بكلام عام، فبعضها يقول: (لا يمكن لك أن تقدم على العمل الذي تريد، أو لا تتردد فيما تتوقع) فهو كلام عام يصلح لكل أحد، فيقول أحدهم: فعلاً -والله- قرأت وما ترددت فكان ذلك، وهذا كذب وبهتان -والعياذ بالله- من هذا الشيطان وأوليائه؛ فهذه من الكهانة وكما في الحديث {ومن اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر} فهذه شعبة من الكهانة ومن التنجيم ومن السحر.
أما توقعات المحللين الرياضيين أو المشجعين من أن النتيجة قد تكون (2/ 3) أو (4/ 10) أو غير ذلك؛ فهذا يدخل في باب الرجم بالغيب من مكان بعيد، فهم إن ادعوا أن هذه النتيجة عن علم عندهم دخل ذلك في الكهانة؛ وإن قالوها تقديراً، أي لأن هذا فريق قوي مثلاً وهذا فريق ضعيف فهو رجم بالغيب وهذا كلام باطل، وبعض النوادي وبعض المشجعين، قد تعامل فعلاً مع الكهان ليخبروه بذلك.
وننقل لكم قصة واقعية تماماً نقلها لنا اثنان من الثقات، عن رجل يأتيه الناس وهو ليس بكاهن، ولكنه يتكهن بالكذب فيضحك على الناس.
والقصة هي: أنه تحدث أحدهم إلى رئيس نادٍ من النوادي، فقال له: إذا لم ينتصر الفريق غداً فلك عليَّ كذا وكذا، وأموالكم مرجوعة، وأنا متأكد من ذلك تماماً، وبعد ما وضع السماعة قال: هذا كلام فاضٍ يمتحننا هؤلاء الناس به (عن رأينا في النتائج) ويقول هذا الدجّال: ونحن نريد أن نعيش ونأخذ من هؤلاء، والمشكلة هي إذا لم يصح الخبر فماذا أفعل؟ ثم يقول: لكن هذا سهل ستمر وتنقضي المسألة! فهم يقولون هذا؛ لأن الشرك يولد الفجور، والفجور يولد بعضه بعضاً؛ فإذا لم تأتِ النتيجة كما توقع، يقول: أكيد أن الفريق الثاني ذهب إلى كاهن آخر له علاقة بملك الجن الأكبر الذي يملك السبع السفلى كلها.
ومعلوم أن حدود السيطرة الشيطانية لا تتعدى إلى هذه الدرجة، فيضحك عليهم بهذا.
فأمثال هؤلاء يأكلون الأموال ويوقعون غيرهم في التصديق بأخبارهم الكاذبة؛ فيكذبون على هؤلاء ثم يبحثون عن غيرهم وهكذا فوالله أن هذا لا ينبغي ويجب التنبيه عليه دائماً؛ فنسأل الله تبارك وتعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يجنبنا شرور هؤلاء.(39/25)
حكم شد الرحال إلى المساجد
السؤال
يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد الحديث}.
فكيف نرد بهذا على من يقول: إنه ليس في هذا الحديث دلالة على عدم قصد زيارة قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك قولهم: لو كان قبر أمي في المدينة فهل أسافر لأزور قبرها؛ لأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بزيارة القبور، هذا وهو قبر أمي، فكيف بقبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكيف أرد عليه؟
الجواب
هذا الحديث الكلام فيه طويل، لأن أهل البدع أكثروا من تأويله كما أولوا أحاديث الصفات وغيرها، فمعنى الحديث لا تشد الرحال بغرض العبادة والتقرب إلى الله والتعبد له إلا إلى هذه الثلاثة المساجد؛ لما لها من أفضليه؛ أما إذا كنت في مسجد في مدينة ثم ذهبت إلى مسجد آخر في مدينة أخرى غير هذه المساجد الثلاثة، وليس له أي مزية على مسجدك الذي أنت فيه، فلماذا تشد الرحال إليه؟! وأما إذا شددت الرحال إلى مدينة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو إلى مسجده وهنالك زرت قبره الشريف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو من أفضل ومن خير ما يزار، وزرت البقيع أيضاً، وزرت شهداء أحد فلا بأس، فالإشكال في نية زيارة القبر، والمشروع أن تنوي زيارة المسجد، وليس زيارة القبر، أما إذا زرت المسجد أو كنت في المدينة فزرت القبر؛ فلا بأس أيضاً.(39/26)
حكم الحزن على المبتدع إذا مات
السؤال
مات صوفي عندنا فرق قلبي لموته وحزنت لهذا، فهل هذا قدح في توحيدي؟
الجواب
إن كان هذا الذي مات ممن تعلم عنه الشرك؛ فلا تأس على القوم الكافرين؛ فقد قامت عليه الحجة؛ ولكن إذا تألمت أو حزنت أو تحسرت لمجرد الموت لأنه موت، وليس لأن الميت فلان، فهذا من التذكر ومن الاعتبار؛ ومعلوم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه كانوا يعتبرون ويتعظون حتى بجنازة اليهود أو غيرهم فالاعتبار والاتعاظ شيء آخر.
أما أن تحزن له وهو قد كان من الواقعين في الشرك، فلا.
وإذا كان من أقربائك وحزنت، فهذا يعني أن الجهة منفصلة، فتكون قد حزنت وتألمت لأنه قريبك، وتحزن لما وقع فيه من شرك وبدع -والعياذ بالله- إذا مات على ذلك؛ وليس لمجرد أنك فقدته فقط، ويمكن أن تحزن لهذا ولا تحزن لذاك، فالناس يرون الحزن ويرون الدمع ولا يدرون لأي شيء هو.(39/27)
طلب الدعاء من الغير وأحوال الداعي
السؤال
زوجتي مصابة بمرض نفسي، فنطلب منكم ومن الإخوة الأفاضل الدعاء لها بالشفاء؟
الجواب
ينبغي أن لا ينسى بعضنا بعضاً من الدعاء، كلما دعوت الله تبارك وتعالى ورأيت أنك في ساعة إجابة وتوفيق من الله تبارك وتعالى وسددت في الدعاء، فقد تعين به إخوانك المسلمين، من الدعاة والصالحين.
والملك يقول لك: آمين ولك مثل ذلك، فادع الله لأخيك منفرداً، وادع الله لأخيك مع دعائك لنفسك، وأنت الرابح إن شاء الله تبارك وتعالى.
ونحن لا نحب -في الحقيقة- أن يعتمد الإنسان على دعاء الآخرين، وهذا مما يجعل بعض العلماء يكره ذلك ويزجر عنه؛ لأن الإنسان قد يتوكل ويعتمد على دعاء الآخرين فلا يدعو الله تبارك وتعالى، فحاله: (يا شيخ: ادع الله لي، أو يا فلان بالله ادع لي) فنقول: أنت أولى وأرجى من يدعو، ونحن ندعو الله تبارك وتعالى جميعاً أن يشفيها ويشفي أمراض المسلمين إنه سميع مجيب، فادعو الله تبارك وتعالى دائماً بهذا.
ولكن تأكد أن صاحب الحاجة والضرورة هو الذي يدعو ويستجاب له قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] فالمضطر يدعو لأن هذه القضية وهذا المرض في أهله: في أمه في أبيه فيدعو باضطرار لأن الدعاء بدون ضراعة وانكسار لا يرجى منه الإجابة كالذي يدعو ويشك بالإجابة، فالضراعة والانكسار والذل بين يدي الله، وإظهار الافتقار إليه سبحانه وشدة الحاجة مما يرجى به إجابة الدعاء إن شاء الله تبارك وتعالى.(39/28)
تأويل الرؤى والأحلام
السؤال
هل تأويل الرؤى والأحلام من ادعاء الغيب؟
الجواب
لا ليست ادعاءً للغيب، بل هي علم علمه الله تبارك وتعالى لنبيه يوسف عليه السلام ومكنه منه، ويعلمه لمن يشاء وكذلك علمه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكثير من الصالحين ومن أهل الخير والفضل في هذه الأمة يعبرون الرؤى، ولها موازين ومعايير منضبطة لا مجال الآن لشرحها.(39/29)
من أحكام التوبة
السؤال
يقول الأخ أنت تقول من أتى كاهناً أو عرافاً فقد كفر، فهل لهذا الرجل توبة؟
الجواب
نعم ندعوه إلى التوبة، فكل مذنب مدعو إلى التوبة {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] هذه الآية في حق التائب، لأن الله يغفر الذنوب جميعاً، ولو كانت شركاً أو كفراً، ولو كان ممن قاتل الأنبياء وقتل من أصحابهم وفعل ما فعل إذا تاب كما حدث لبعض الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما من لقي الله تبارك وتعالى وهو غير تائب، فينطبق عليه قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] لأنه لم يتب من الشرك، فالله قد يغفر الذنب لمن لم يتب إذا كان دون الشرك.
وحتى القاتل له توبة -وقد فصلنا هذا في شرح الطحاوية في موضوع التوبة- فالصحيح أن القاتل أيضاً له توبة، وأن الله تبارك وتعالى يتجاوز عما كان له من حق، ويتحمل عنه ما للمقتول إذا تاب وصدق في ذلك.
أما من قال من العلماء: إنه لا توبة له، فإنهم إنما نظروا لكون ذلك حقاً للمقتول، فقالوا: هذا حق للمقتول والله -تبارك وتعالى- إنما يعفو ويصفح عن حقه، وهذا مرجوح فإن الله تبارك وتعالى قادر بفضله أن يعفو عما له، وأن يتحمل ما لغيره وأن يرضيه بما يشاء.(39/30)
حكم وجود الكفار في جزيرة العرب
السؤال
ما هو موقفنا من الهندوس الموجودين في هذا البلد؟
الجواب
عندما تقول: في هذا البلد فليس مكة فقط، إنما نعني جزيرة العرب، كما في الحديث {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان} فيجب أن يخرجوا من هذه البلاد الطاهرة ولا نعني مكة، بل ومن جزيرة العرب كلها- وهي تشمل من أطراف الفرات وبلاد الشام إلى قعر عدن، ومن الخليج إلى البحر الأحمر، فكل هذه جزيرة العرب، ولا يجوز أن يبقى فيها مشرك إلا لضرورة أو عابر سبيل فقط، فقد كان عمر رضي الله عنه يعطيهم ثلاثة أيام، ليبيعوا خارج المدينة، فيشتري منهم المسلمون ثم ينصرفون، أما الإقامة فلا يجوز لهم ذلك.(39/31)
حكم الشرك بعلم أو بغير علم
السؤال
تعلم أن الشرك بالله أمر عظيم، وإذا أشرك الإنسان بالله وهو يعلم، فهو خالد مخلد في النار -والعياذ بالله-؛ لكن إذا أشرك بالله وهو لا يعلم فما عقابه؟
الجواب
من أشرك بالله وهو لا يعلم، فالواجب عليه وعلينا أن نقول: كما في الحديث {اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم} فمن وقع في شيء وهو لا يعلم أنه شرك؛ فإن رحمة الله تبارك وتعالى واسعة قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15] فمن حلف بغير الله تبارك وتعالى -مثلاً- وهو لا يعلم أن هذا من الشرك، فإن الله لا يؤاخذه، ولكن عليه أن يتقِ الله تبارك وتعالى وأن يتعلم التوحيد.
فعلينا أن نعلم الناس التوحيد، لأن القضية ليست أن نتناقش: هل يعذر أو لا يعذر؟ أهو جاهل أم لا؟ فإذا صرفنا عن هذا الجدل العقيم، واشتغلنا بدعوة الناس التوحيد وإقامة الحجة، وتركنا أمورهم إلى الله تبارك وتعالى، لكان هذا هو الواجب، وهو الذي فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه.(39/32)
حكم مناصرة الكفار على المسلمين
السؤال
إن من نواقض الإسلام معاونة الكفار ومناصرتهم على المسلمين.
نريد منكم الشرح المفيد لهذا الناقض؟
الجواب
هذا واضح، وليس فيه شيء، ولا يحتاج إلى شرح، فكون الإنسان معاوناً ومناصراً للمشركين على المؤمنين إما بيده، أو بقلمه، أو لسانه، أو ماله، فهذا واضح، وكلما كانت الراية متميزة؛ كان الحكم أوضح؛ فإذا تميزت راية الإيمان من راية الكفر، وجاء من اختار أن يكون مع أهل الكفر على أهل الإيمان؛ فهذا لا شك أنه أصبح منهم، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] والعياذ بالله.
وأما مناصرتهم بدواعي الشهوة وحب الدنيا، كأن ينم إليهم بشيء أو يتجسس إلى الكفار بشيء، أو يتتبع عورات المسلمين لمصلحة يظنها أو ما أشبه ذلك؛ فهذا كما وقع لـ حاطب رضي الله عنه، وهذا ذنب عظيم، بلا شك، ولهذا أقر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمر لما قال: {يا رسول الله دعني أضرب عنقه فإنه منافق} فأقر عمر على شدة الإنكار، لكن لم يأذن له بقتله، وجعل المانع شيئاً آخر، قال: {إنه من أهل بدر} إذن فليس المانع أن هذا ليس ذنباً أو أن صاحبه ليس منافقاً أو أن صاحبه لا يستحق العقوبة، بل المانع أمر آخر خارج عن القضية وهو في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم}(39/33)
توسل الأعمى بالنبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
إن في أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يتوسلون به (بذاته) ويستغيثون به، وحجتهم حديث الأعمى حيث قال: {اللهم إني أتوسل إليك بنبيك} أي: يا محمد نتوسل بك إلى الله؟
الجواب
الحديث صحيح صححه شَيْخ الإِسْلامِ وغيره، ولكن كيف نفهم هذا الحديث؟ هذا الحديث هو توسل بدعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته وهذا ما يعنيه الرجل.
وللتوضيح نقول: كم كان في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المكفوفين؟ أليسوا كثيراً؟! فلو أن كل أعمى يدعو بهذا الدعاء ثم يرد الله تبارك وتعالى عليه بصره، لكان الدعاء عاماً، لكن لأنه خاص بهذا الرجل، ولأنه خاص بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي حياته فلا يقاس عليه غيره من العميان في هذا الزمان، وهذا من باب أولى.(39/34)
اعتقاد أحقية الشرع مع الحكم بغيره
السؤال
هل يكفر كفراً مخرجاً من الملة من لم يحكم شرع الله، ولو كان يعتقد أن حكم الله هو الحق؟
الجواب
هناك قاعدة عظيمة تنفع الجميع وهي أنه (لا يكفي أن يعتقد الإنسان أن هذا هو الحق، بل لا بد من الانقياد والإذعان والاتباع له) ولو كان الاعتقاد بأن هذا هو الحق يكفي، لكان أهل الكتاب كلهم مؤمنين وفي الجنة؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] ويقول عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14] فيمكن لأحدهم أن يحكم ويأمر وينهى ويقتل ويسجن ويفعل كل شيء بأحكام الجاهلية والطاغوت، وإذا كُلّمِ قال: أنا أعتقد في داخل نفسي أن الشريعة حق.
قال شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية: هذا مثل الذي يحارب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو أي نبي ويقاتله ويعين أعداءه عليه، وإذا سئل قال: أنا أعلم أنه نبي، فما الفائدة من هذا العلم؟ ولهذا لما جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حبران من اليهود وقالا: يا محمد ما هي الآيات التي أنزل الله تبارك وتعالى على موسى وهارون؟! فقرأ عليهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوصايا العشر، فقالا: نشهد إنك نبي، ثم انصرفا، (فشهدا أنه نبي وذهبا) فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما يمنعكما أن تتبعاني} إذاً: هما شهدا ولكنهما ما أذعنا وما انقادا واستسلما وما دخلا في الدين؛ فلا يكفي أن يقول الإنسان: أشهد أن الشريعة حق، وأن الشريعة رائعة وعظيمة، فمهما قال فلا يمكن أن يدخل في الشريعة حتى ينقاد ويسلم، وهذا مثل أي أحدٍ من المشركين يشهد بصدق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفضله كـ أبي طالب الذي قال:
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا
فبالرغم أنه قال ذلك، لكن هل هو مؤمن؟ وهو الذي أنزل الله تبارك وتعالى في حقه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، وما ذاك إلا لأنه أقر ولم يذعن، فلا يكفي مجرد الإقرار أو النطق، ولهذا لعلكم -إن شاء الله- تسمحون لي بهذه الفائدة وهي: أنه عندما نقول: الإقرار بالشهادتين شرط الدخول في الإسلام، فماذا نعني بالإقرار؟ الإقرار له معنيان: الأول: بمعنى: (إنشاء الالتزام والإذعان) وهذا الذي جاء في القرآن، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81] وهذا الإقرار معناه (التزمنا وانقدنا وأذعنا) فإذا جاء هذا الرسول آمنا به.
والإقرار -أيضاً- بمعنى الإخبار عن الحقيقة، وهذا ما يستعمله الفقهاء فمثلاً: إذا ادعى رجل على رجل وقال: لي عنده ألف دينار، فقال له الرجل: أقر أن له عندي ألف دينار، ولكن لا أدفعها له، فهذا الإقرار مجرد إخبار عن الواقع، ولا يستلزم الإذعان، فإذا قال أقر فقط، فإنه يمكن أن يستدرك ويقول: أقر ولكن لا أدفع له ذلك، أو أقر ولكنني قد أديت حقه.
إذاً هذا مجرد إخبار عن الواقع.
فالإخبار عن الواقع ليس إيماناً، فلو أن أحداً قال: شرع الله أفضل، والقرآن هو كتاب الله المبين من باب الإخبار عن الواقع -وهو الواقع أصلاً- فلا يؤدي ذلك إلى شيء ولا ينفعه في شيء؛ إلا أن يقوله على سبيل الانقياد له، والإذعان والإيمان به واتباعه.
وانظروا المستشرقين! ما أكثر ما يكتبون أن الإسلام حق، وأن الإسلام عظيم، وأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحل مشاكل الدنيا جميعاً وهو يشرب فنجان قهوة! فهذا الكلام حق وإخبار عن الواقع، بأن الإسلام يحل مشاكل الإنسانية، وأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق، لكن! هل ينفعهم هذا؟! وهل نعدهم بذلك مؤمنين؟ لا ليسوا بمؤمنين.(39/35)
حكم الصلاة خلف المبتدع
السؤال
هناك إمام مسجد في مكة يعمل أشياء عجيبة، يقول هات فنجان شاي أقرأ لك فيه فيكون أمرك ميسراً؛ ويكتب أوراقاً ويقول: ضعها فوق الباب وربنا سيعطيك سؤالك، إلخ؟
الجواب
هذا الذي ذكرناه سابقاً، هو نفس الكلام.
وأما كونه إماماً فهذا شيء آخر؛ فالأصل أن نصلي خلف كل مسلم مستور الحال، أما من علمنا عنه يقيناً أنه كاهن أو ساحر أو أنه جهمي، أو خارجي، أو رافضي، فمن علم ذلك فإنه يتجنب الصلاة خلفه، بل ربما كانت الصلاة خلفه باطلة، فإذا خرج من الملة، فالصلاة خلفه تكون باطلة، لكن هذا في حق من يعلم ذلك، أما من لم يعلم وصلى خلف إنسان مجهول الحال وسلم ومضى، فصلاته صحيحة؛ وذاك عليه الإثم؛ لكن الواجب ألا يولَّى أحد من هؤلاء الصلاة، وإمامة المسلمين الصغرى، والواجب أن يكون في الجهات المسئولة عن المساجد من ينقب ويفتش ويتأكد من ذلك حتى يكون الأئمة جميعاً كلهم على العقيدة الصحيحة الصافية بإذن الله تبارك وتعالى.
فمن علم ذلك فلا يتعمد الصلاة خلفه، أما من صلى خلفه وهو لا يعلم؛ فهذا أمر آخر، لكن إذا علمت أنه مبتدع، ولا نعني به الذي لم يتلبس بشيء من البدع؛ بل مبتدع بمعنى: أنه على أصل من أصول بدعية؛ فهذا لا تصح ولا تجوز الصلاة خلفه، إلا إذا لم يكن هناك غيره، أما إذا كانت بدعته مغلظة، وتخرج به إلى حد الشرك، (بحيث إن صلاته باطلة)؛ فالصلاة خلفه أيضاً باطلة في حق من علم ذلك، فإذا كان في بلد بعيدة، وليس أمامه إلا أن يصلي في البيت أو خلف هؤلاء المشركين؛ فليصل في البيت، لكن -الحمد لله- في أغلب بلاد الإسلام تجد من تصلي خلفه وتطمئن إليه بإذن الله تبارك وتعالى، وينبغي الإبلاغ عن هؤلاء.
أما الوسائل التي نستطيع بها محاربة هؤلاء في هذا الوقت: فمنها: نشر التوحيد، وإحياء السنة، والدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وبيان خطر الشرك ونواقض الشهادتين وغير ذلك، وبكل الوسائل الممكنة لدينا -وهذا أعظم ما يحارب به هؤلاء- ومن ذلك التبليغ عنهم أيضاً ورفعهم إلى المحاكم لتحكم فيهم بحكم الله.(39/36)
الخوف من السحرة والكهان
السؤال
بعض الناس إذا قلت له: تعال لنشتكي هذا الساحر وهذا الكاهن، تجده يخاف أن يصيبه أذى من السحر أو من الجن، فماذا تقول لهؤلاء؟
الجواب
هذا الخوف هو من الشرك -والعياذ بالله- قال تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] فيجب علينا ألا نخاف إلا الله، وأن نحذر من هذا الشرك -كما ذكرنا-.(39/37)
جهل الناس بالسحرة وخطرهم
السؤال
يوجد في قريتنا رجل يخرج الجن، وجميع أهل القرية يذهبون إليه، فتتوافد إليه الجموع من القرية ومن القرى الأخرى، فهم يقطعون المفاوز البعيدة لكي يذهبون إليه، ويحترمونه ولا يسمحون لأحد أن يتكلم عليه، وإذا سبه أحد يقولون: إنه سوف يضرك.
والعجيب أن له نتائج في علاج المصابين بالجن! ومن العجائب أنه إذا كانت المريضة فتاة مصابة بالجن؛ فإنه يأخذها عنده حتى تشفى من المرض بدون محرم؟!
الجواب
قد يوجد ذلك ويسكت عنه، وهكذا المجرمون وقطاع الطريق إلى الله، ليس لهم في الآخرة من خلاق، فيتمتعون في الحياة الدنيا بالحلال والحرام؛ فيأكلون المال الباطل بهذا العمل الباطل والمحرم، ويرتكبون الفواحش والموبقات، ويقولون: نحن أولياء الله.
والمصيبة أنهم ليسوا مثل قاطع الطريق الحقيقي، الذي يقف على طريق المسلمين بسلاحه، وربما انتهك الحرمات أو أكل الأموال؛ فهذا مجرم واضح.
بل المشكلة أنه بالرغم من الأفعال يدعي الولاية، بل ويعظمه الناس ويخافونه.
ونحن نتكلم عن مثل هذه الحالة، وليس عن أي إنسان يقرأ ويرقي بالرقى الشرعية.(39/38)
توبة الساحر
السؤال
هل يستتاب الساحر وتقبل توبته؟
الجواب
الصحيح أن كل مذنب تقبل توبته، وأنه يُدعى إلى التوبة، لكن قال بعض العلماء: إن مثل الزنديق، أو الساحر أو غيرهم لا ندري كيف يتوبون؛ لأن الزنديق هو المنافق في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو يقول: أنا مؤمن وكذلك الساحر لأنه أمر خفي، فقالوا: لأجل ذلك وحسماً لمادة هذا الفساد في الأرض! فإنه يقتل ولا تقبل توبته في أحكام الدنيا، أما عند الله فكل من تاب من ذنب فإن الله تبارك وتعالى يقبله كائناً ما كان ذنبه.(39/39)
حكم الفتوى بغير علم
السؤال
ما حكم الفتوى على الله تبارك وتعالى بغير علم؟
الجواب
هذه كثيرة في كل مكان، ولا يجوز لأحد أن يفتي على الله بغير علم، فلا يفتى بجواز تقصير اللحية أو بجواز إطالة الثوب أو بجواز الكشف على غير المحارم، فليتق الله تبارك وتعالى ولا يتحمل آثام الناس.(39/40)
التحذير من الكتب المشبوهه
السؤال
هذا سؤال طويل، لكن مضمونه يقول: إن هناك كتباً مؤلفة حديثاً وحتى قديماً، تنتشر في المكتبات، تبرر للصوفية عملهم، وكذلك جميع المشعوذين وأن بعض أعلام السلف كانوا متصوفين إلخ؟
الجواب
هذه مما يجب أن تحارب وينبه عليها.
فأما ما كان تصوفاً محضاً وغلب شره، فهذا يمنع بالكلية، وأما ما كان فيه خير -كما في حلية الأولياء - ففيه خير وأحاديث نافعة عظيمة، ولكن فيه خبط من هذا القبيل، فهذا ينبه كل طالب علم أو كل مشترٍ له؛ بأن هذا الكتاب ليس كل ما فيه من الأحاديث المرفوعة صحيحاً، ولا ما يذكر فيه عن التصوف وغيره.(39/41)
حكم تعلم السحر
السؤال
ما حكم من يتعلم السحر ولا يضر به أحداً ولا يعمل به؟
الجواب
ما الفائدة من ذلك؟ ولكن -على كل حال- فتعلمه كفر، فإذا قيل: وإن لم يضر أحداً؟ نقول: نعم فإنه يوجد كفار يضرون أنفسهم فقط، ويوجد كفار يضرون غيرهم، فلا ينفعه إذا فعل الكفر أن يقول: لا أضر به أحد!(39/42)
التحذير من قصيدة البردة
السؤال
توجد مكتبة دينية في الطائف تبيع شريطاً فيه قصيدة البردة للبوصيري؟
الجواب
نسأل الله تبارك وتعالى العفو والعافية، هذه لما فيها من شرك، لا يسمح أن تباع، لا في الطائف ولا في غيرها.(39/43)
كراهية الكافر
السؤال
هل يجوز للمسلم أن يكره الكافر؟
الجواب
يجب كره الكفار، فهؤلاء أعداء الله تبارك وتعالى قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22] فلا يمكن أن يجتمع الإيمان ومحبة الكفار أبداً -إن كان هذا قصد السائل.(39/44)
الحث على حضور مجالس العلم
الب
السؤال
يقام في هذا المسجد ثلاثة دروس، للشيخ الذبيان والشيخ المحيميد والشيخ الرقيمان، ولكن الحضور قليل وغير مشجع.
الجواب
هذا لا يصح ولا ينبغي بارك الله فيكم، أكرموا من أكرمنا وفرغ وقته، وجاء ليعلمنا الخير، وكثروا سواد المسلمين، ولو كان ما يقال ربما لا جديد فيه أحياناً لكن ثقوا أن مثل هذه الدروس فيها خير وفيها بركة، فاحضروا وشجعوا على الحضور، وخذوا من أقربائكم وجيرانكم في الحي، ومن زملائكم في العمل لحضور هذه الدروس، وحثوهم وكثروا بهم مثل هذه الحلقات المفيدة بإذن الله تبارك وتعالى.(39/45)
حكم كتابة المحو
السؤال
يسأل عن كتابة المحو وحكمه؟
الجواب
المحو هذا تكتب آياته وتوضع في الجسم أو غيره، وقد ورد عن بعض السلف، ولكنني ما وجدت له دليلاً يسوغه؛ ولا سيما وقد كثر إرفاقه كما أشرنا بالطلسمات والسحر وما أشبه ذلك، ويغني عنه والحمد لله، النفث في الماء وشربه، وأنا لا أرى إلا العدول عنه، وهو مثل تعليق القرآن وغيره، ولو جاء عن بعض السلف، فالأصل أن تسد الذرائع في هذا الباب.(39/46)
النهي عن المنكر عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
يقول الأخ رأينا في المسجد النبوي عند قبر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض الأمور الشركية، فهل ننكر على هؤلاء؟
الجواب
يجب أن ننكر الشرك في أي مكان، ولكن بالأسلوب المناسب للزمان والمكان، وما يفعل عند قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو في الحقيقة منكر عظيم، ويجب أن يتعاون الجميع على إنكاره، صاحب السلطة بسلطته، وصاحب العلم بعلمه، وصاحب النصيحة بنصيحته، لأنه يأتي بعض الناس -جهلاً منهم أو وقوعاً في الشرك عن عمد- فيستدبرون الكعبة ويستقبلون القبر، ويقولون: يا رسول الله! فيدعون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويتخذونه إلهاً من دون الله، وهذا لا شك أنه شرك، وهو أعظم ما ينكر، بل هو المنكر الأكبر، فإذا كنا خير أمة أخرجت للناس، وأمرنا الله تبارك وتعالى أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، فأكبر المنكرات التي يجب أن ننكرها هو مثل هذا.(39/47)
حكم الذبح لغير الله
السؤال
بين الناس عادة، وهي أنهم إذا قطعوا شجرة يذبحون شاة، ويضعون الفرث على مقطع الشجرة، وإذا قطع أحدهم شجر سدرة أو أي شجر يذبح، أو إذا ذهب إلى مكان قالوا: إذا نزلت إلى مكان تفتتح يجب أن تذبح حتى تكتفي من شر الجن؟
الجواب
نعوذ بالله! هذا ذبح لغير الله وهو شرك، والله تعالى يقول: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163] ويقول: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] فمن ذبح لغير الله تبارك وتعالى فقد أشرك.(39/48)
حكم علم الأرصاد
السؤال
هناك رجل عنده علم في النجوم وأمور الرياح، فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
إن كان هذا فيما يتعلق بالأرصاد، ومعرفة النجوم من جهة السنن الكونية التي جعلها الله تبارك وتعالى، كمعرفة أنه في هذه الأيام تهب الرياح ويشتد البرد، وينتج هذا نوع من الفواكه ولا ينتج النوع الآخر، فهذا قد علم بالتجربة من خلال تعاقب هذه الفصول سنين طويلة، فهذا لا يدخل في التنجيم ولا في الكهانة، ولكن يجب أن يقرن بقول: (إن شاء الله) أو (بإذن الله) أو ينسب إلى الله فيقال: إن الله تبارك وتعالى يجعل هذا الفصل أو الشهر أو هذه النجوم إذا طلعت علامة لكذا، ولوقوع أو لنضج كذا، فهذا إذا نسب الفعل إلى الله تبارك وتعالى انتفى بذلك الحرج.
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتقبل مني ومنكم، وأن ينفعنا بما نسمع وما نقول، وأن يتولانا في الدنيا والآخرة إنه سميع مجيب.(39/49)
العبودية الصحيحة
الحرية المزعومة اليوم في عصرنا الحاضر ما هي إلا نداءات زائفة، وشعارات براقة، تهدف إلى هدم الدين، وتقويض أساسه، والتمرد على الشرع، والتجرؤ على ارتكاب الباطل، ومخالفة الحق.
والحياة السعيدة لا تتحقق إلا بالعبودية لله سبحانه وتعالى بمعناها الصحيح الذي كان عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين.
وفي هذه المادة يبتدئ الشيخ بالتساؤل عن حقيقة الحرية في عصرنا الحاضر، ثم يبين المفهوم الصحيح لمعنى العبودية، وانحراف الناس عنه، موضحاً أن المخرج من هذا هو التمسك بالكتاب والسنة على فهم سلف الأمة.(40/1)
المفهوم الصحيح للعبودية
إن الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: نقول لكم جميعاً: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
"العبودية الصحيحة"، هذا العنوان قد يثير الانتباه، وقد يقال: نحن الآن في عصر العبودية أم في عصر الحرية؟ فنقول: نحن الآن في عصرٍ يدّعي أهله جميعاً شرقاً وغرباً أنه عصر الحرية!! ولم تبلغ دعوة الحرية في أي وقت من الأوقات، وفي أي قرن من القرون مثلما بلغت في هذا القرن.
إنَّ هذه الحرية المدَّعاة والمزعومة التي يعيش العالم شرقاً وغرباً على أحلامها، وعلى أوهامها، بلغت بهم مبلغاً عظيماً، حتى إنك لو واجهت أحداً من هؤلاء وقلت له: إنك عبد، أو إنك تعيش في عبودية، لغضب منك ونفر أشد النفور؛ لأن التمرد على الله -عز وجل- والاستكبار عن عبادة الله -عز وجل- لم يبلغ في أي وقت من الأوقات، مثلما بلغ في هذا القرن المسمى "قرن الحضارة والرقي والتطور"! وهل العالم البشري فعلاً يعيش الآن في عصر الحرية أم في عصر العبودية؟ وإذا كان يعيش في عصر العبودية فما سر هذه العبودية؟ ولمن تُقدم هذه العبودية؟ وما هي العبودية الصحيحة البديلة التي يجب أن يتعبد البشر بها؟ ومن هو المعبود الأوحد الذي يجب أن تتجه إليه العبودية وحده لا شريك له؟ يجب أن نعلم أن هذه القضية ليست قضيتنا نحن المسلمين فقط، بل هي قضية العالم كله، هذا العالم المخدوع الذي يظن أنه في عصر الحرية، وهو مكبلٌ بأنواع العبوديات، وأغلالها، ولكنها جميعاً مع الأسف ليست لله عز وجل، وإنما هي عبوديات لأربابٍ من دون الله.
فكيف نعرف حقيقة العبودية؟ وكيف نعرف أننا نعيش في قرن العبودية الأكبر؟ وكيف نعرف أن هذا العالم هو أبعد ما يكون عن الحرية الصحيحة؟ وأين نجد الحرية الصحيحة؟ وكيف نعرف العبودية الصحيحة؟!! إن مفهوم العبودية هو نفسه مفهوم العبادة، الذي قال الله تبارك وتعالى فيه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فهو الغاية من خلق الإنس والجن، فالغاية من وجود الثقلين هو عبادة الله، وهو العبودية الصحيحة لله تعالى، وقد شرَّف الله تبارك وتعالى أحب خلقه إليه وأعظمهم عنده، وهو رسولنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أعلى درجات التكريم بأن قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1] قال (بِعَبْدِهِ) في لحظة التكريم التي لم يبلغها أحد، إذ لم يبلغ أحد من البشر من التكريم إلى أن يرفعه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إليه، كما رُفع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الإسراء، ومع ذلك يقول الله تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1].
فهذه غاية الأوصاف، وغاية الألقاب التي يحرص كثيرٌ من الناس على أن يضخموها، فأعظم لقب، وأشرف وصف اختاره الله عز وجل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أنه عبد، ونقول في الشهادة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
إذاً: أعظم مقام، وأعظم رتبة، هي العبودية، فكلما تحققت فيك العبودية لله -عز وجل- أكثر، كلَّما كنت أعظم درجة، وأعلى رتبة، وهذا هو المعيار والميزان الصحيح.(40/2)