الحكم بغير ما أنزل الله
تكلم الشيخ حفظه الله عن الحكم بغير ما أنزل الله من المنطلق التاريخي، مبيناً أن بداية البشرية كانت على التوحيد، وظلت عشرة قرون حتى بدأ الخلاف وظهر الشرك، فانقسم الناس إلى قسمين: مؤمنين ومشركين، وأول ما بدأ الحكم بغير ما أنزل الله عن طريق العمل بالأعراف، ثم ظهرت بعض القوانين المكتوبة كقانون حمورابي أو القانون الروماني ثم قامت الثورة الفرنسية، وظهرت خلال ذلك الدساتير المكتوبة.
ومع سقوط الخلافة العثمانية بدأت الدول الإسلامية بالاقتداء بالغرب، وهكذا دخلت الدساتير أكثر البلاد الإسلامية.
ثم تحدث الشيخ حفظه الله عن موضوع الحكم بما أنزل الله، مبيناً أهميته، ثم ذكر كلاماً للشيخ الشنقيطي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) [الشورى:10]، وذكر الآيات التي تدل على صفات من يستحق الحكم، وأن هذه الصفات كلها خاصة بالله عز وجل، وعلى هذا فلا يحق أن يحكم خلق الله إلا وفق شرع الله.(1/1)
مراحل التشريع على وجه الأرض
نبدأ باستعرض تاريخ الحكم بغير ما أنزل الله، ونشأته في الجماعة الإنسانية منذ أن خلقها الله تبارك وتعالى إلى اليوم.(1/2)
عشرة قرون يتحاكمون إلى شرع الله
فنقول: إن آدم وذريته من بعده كانوا على التوحيد عشرة قرون، كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه، فكانوا يتحاكمون إلى شرع الله، وهذه أول قضية نخالف فيها من يكتبون في تاريخ التشريع في العالم، لأنهم يزعمون أن الإنسانية تطورت وبدأت أولاً بالأعراف وأحكام شيخ القبيلة، ثم القوانين غير المكتوبة، ثم لما اكتمل التطور الذي ظهر في العصر الحديث وما قبله في العصر الروماني، ظهرت القوانين المكتوبة المدونة الآن بما يسمى الدساتير، ثم القوانين بفروعها المدني والتجاري والإداري إلى آخره، ثم اللوائح التنفيذية لها، وهذا هو الفرق بين قولنا نحن المسلمين وبين قولهم.(1/3)
بداية الشرك والخلاف
والقصد أنه لما وقع الاختلاف ووقعت الأمة في الشرك، بعث الله النبيين، وأرسل الرسل، وأنزل الكتاب، والكتاب هنا اسم جنس، والمقصود به جنس الكتب، وأنزل الله تعالى الكتب لتحكم بين الناس فيما يختلفون فيه، فلم يترك الله تبارك وتعالى الإنسانية هملاً، ولم يترك الجماعة البشرية بلا كتاب ولا شريعة تنظم حياتهم، فلا يزعم زاعم أن الكتب السماوية إنما نزلت لتنظيم ما يسمونه بالجانب الروحي فقط، وتركت للناس الاحتكام إلى الطواغيت أو الأهواء أو الشرائع الوضعية عامة.(1/4)
انقسام تاريخ الإنسانية إلى خطين
انقسم تاريخ الإنسانية إلى خطين: الأول: أصحاب اليمين: وهؤلاء موجودون على مدار التاريخ وهم يحتكمون إلى شرع الله.
الثاني: المنحرفون المشركون التاركون لدين الله ولشرعه، الذين يحتكمون إلى الطواغيت على اختلاف أنواعها كما سنذكر.
أما أصحاب اليمين فهؤلاء كانوا كما في القرآن والسنة على نوعين: النوع الأول: الأنبياء والرسل، وهذا واضح جداً ولا تخفى الأمثلة على ذلك، مثل: داود وسليمان: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء:78 - 79] وهكذا بقية الرسل، ولهذا قال الله تعالى عن التوراة: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة:44].
فكان النبيون يحكمون -عموماً- في جميع مراحل التاريخ، حيثما وجد النبي فإنه يحكم بين المؤمنين وبين أتباعه فيما يشجر بينهم، ثم منهم من تقام له دولة كبيرة كما كان لسليمان عليه السلام، ومنهم من يكون أقل، فالمقصود أن أتباع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم يحتكمون إلى الرسل، وكما صح أيضاً عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي}.
النوع الثاني: الملوك العادلون الذين يحكمون بين الناس بما أنزل الله ويتبعون شرعه، وإن لم يكونوا أنبياء، وهذا كثير في التاريخ أن ملوكاً آمنوا بدين الله، واتبعوا هديه، وورثوا شريعة من شرائعه، أو بعث فيهم نبي من أنبيائه فآمنوا به أمثال طالوت فقد كان ملكاً، وكان الأنبياء في عهده يخبرونه بحكم الله، وكذلك ذي القرنين من أعظم ملوك الدنيا الذي ذكره الله تبارك وتعالى في القرآن -وهو غير ذي القرنين الذين يسمونه المقدوني الوثني اليوناني، فذاك على الإيمان والتوحيد كما ذكر الله تبارك وتعالى، وهذا مشرك ملحد- ثم جاء من بعدهم الكثير.(1/5)
كيف نشأ الحكم بغير ما أنزل الله
أما النموذج الثاني الذي هو موضوع حديثنا، وهو كيف نشأت القوانين الوضعية، وكيف نشأ الحكم بغير ما أنزل الله حتى أصبح الناس يتحاكمون إلى شرع غير شرع الله؟ فأما كيف وجدت هذه الشرائع فبحسب ترتيبها.(1/6)
الاحتكام إلى الأعراف
أول ما وجد عند الناس من الانحراف هو الاحتكام إلى الأعراف والعادات والتقاليد وشيوخ القبائل والملوك المتسلطين المتألهين، فلم تكن القوانين مكتوبة.
فالمرحلة الأولى من مراحل الانحراف لم تكن القوانين مكتوبة، فلم يضاهوا فيها شرع الله، وهذه المرحلة موجودة في كثير من الأمم البدائية، وما تزال إلى هذه اللحظة عند الأمم البدائية التي لم تعرف الكتابة، فيحتكمون إلى هذه الأعراف والتقاليد والأوضاع المألوفة كما في البوادي، حتى في البلاد الإسلامية وجزيرة العرب.(1/7)
بداية تدوين القانون
ومع ذلك فإن التاريخ القديم قد سجل لنا بعض الأحكام التي وجدت والتي ربما نقشت أو كتبت، ومن أشهرها قوانين الملك الآشوري القديم حمورابي، والتي يعتبرها القانونيون أساساً للتشريع الحديث، وأن هذا الرجل من تجديداته وإبداعاته أنه وضع شرائع، فالرجل إذا قتل رجلاً أو سرق ثوراً فله حكم كذا وكذا من العقوبة، ويجعلون هذا عصراً جديداً للتقنين ولمعرفة الأحكام، بينما نحن نعتقد أن هذه القوانين -على ضئلتها وقلتها- ما كان فيها من خير وحق فإنه يحتمل أن يكون أُخِذها عن شريعة نبي لم يذكر، وإما من بقايا كتب ورسالات أنزلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإما أن يكون اجتهاداً ووافق بعض الصواب، ثم جاء بالباقي من عند نفسه كأي طاغوت من الطواغيت يضع من عنده تشريعات، فنجد فيها ما يوافق الحق أحياناً اتفاقاً، وأما الباقي فهو مردود عليه، ولا يعد ذلك فتحاً ولا تجديداً، وإنما يعد انحرافاً واحتكاماً إلى الطاغوت، ولو أنهم رجعوا إلى دين الله وإلى شرعه لوجدوا خيراً كثيراً، فكل أمة أنزل الله تبارك وتعالى لها من الشرع والدين ما يكفل لها حياتها ونظامها.
ثم في التاريخ الوسيط -كما يسمونه- القرون الوسطى، نجد أن أشهر من وجدت عندهم من الأمم التشريعات والقوانين المكتوبة هم الرومان، ولذلك إلى الآن يقولون: إن القانون الروماني هو أفضل وأوسع وأشمل أنواع القوانين المعروفة في القرون الوسطى، لأنهم لا يعدون شريعة الإسلام ودين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شرعاً، ولا يعترفون به مع أنه كان يحكم الحياة جميعها، وهو تشريع مكتوب أيضاً.
فالمقصود أن المرحلة الثانية هي مرحلة تدوين القوانين، وأنها أول ما ابتدأت بشكلها القريب من المعاصر في عصر الامبراطورية البيزنطية أو الامبراطورية الرومانية، وأشهر هذه القوانين قوانين الامبراطور جوستنيان الذي ظهر في أوائل القرن السابع، أو في أواخر القرن السادس الميلادي، فهو معاصر لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقريباً، وبلغت الامبراطورية الرومانية في عصره شأناً عظيماً، وكتبت القوانين المسماة قوانين جوستنيان.
وكان دينهم في ذلك الزمان هو النصرانية؛ لأن النصرانية دخلت إلى أوروبا عام (325م) والامبراطور الذي اعتنق النصرانية وأدخلها في بلاده هو قسطنطين، وهو الذي جمع الأساقفة واختار دين التثليث، وترك مذهب التوحيد.
وأخذ هذا الدين المنحرف من المحرف الأكبر شاؤول الذي غير اسمه إلى بولس اليهودي.
وهنا نعرف قضية بني إسرائيل، فعيسى عليه السلام كان رسولاً إلى بني إسرائيل خاصة بنص القرآن، وكما في الأناجيل أيضاً يقول: 'إنما بعثت إلى خراف بيت إسرائيل الضالة'.
ولهذا يذكرون قصة المرأة الفينيقية أو السورية التي ذكرت في الأناجيل المحرفة أنها جاءت إلى عيسى عليه السلام واشتكت أن فيها روحاً شريرة، أي بها مس من الجن وقالت: يا روح الله! عالجني أو أعطني مما أعطاك الله، فقال: يا امرأة من أين أنت؟ فقالت: فينيقية، أو قالت: سورية.
فقال لها: 'إنما بعثت إلى خراف بيت إسرائيل الضالة' فبكت وتضرعت، وقالت: إن لم تعطني الخير فمن أين أذهب؟ حتى آواها ورضي أن يعلمها وأن تكون من المدعوين.
فالشاهد أن عيسى عليه السلام أنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إليه الإنجيل مكملاً لما بين يديه من التوراة، وفيه زيادة أحكام مثل: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50] وفيه تخفيف من الآصار والأغلال التي كانت على اليهود، وفيه تحليل بعض ما كان محرماً في شريعة التوراة، فهو كتاب مكمل في حدود بني إسرائيل، هذه القضية الأولى.
والقضية الأخرى: أنه هل وصل هذا الكتاب نفسه -مع أنه لم يكن تشريعاً للعالم كله- إلى الرومان أو إلى غيرهم كما أنزله الله؟ فقد وقع التحريف والطمس والتبديل والتغيير على يد بولس وعلى يد أناس آخرين.
حتى أنه مرت مراحل كثيرة كان الامبراطور يأمر بكتابة الإنجيل من جديد وحذف ما لا يكون مناسباً، فيأتي الأحبار والرهبان الكبار ويكتبون ويحرفون الكلم عن مواضعه {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79] كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنهم، فلم يكن الإنجيل شرعاً عاماً، وما نراه اليوم من انتشار المنصرين في جيمع أنحاء العالم وطبع الإنجيل إلى أكثر من ألف ومائتي لغة، كل ذلك خارج عن الأصل الذي بعث الله تبارك وتعالى عيسى عليه السلام من أجله، حتى لو كانوا يدعون إلى الإنجيل الحقيقي، فهو لم يكن شرعاً عاماً، ولا ديناً للإنسانية عاماً هذا أولاً.
والأمر الآخر أنه لم يصل إلى تلك الأمم الإنجيل الحقيقي، إذ قد حرف وبدل، ومع ما فيه من تحريف، فلا يوجد فيه من التشريعات والتنظيمات ما يكفل الحياة؛ لأن الناس إذا حرفوا شيئاً وطمسوه وبدلوه لا يمكن أن تكون فيه الديمومة والمنفعة الكاملة، وعليه فإن الأناجيل الموجودة بالجملة ليس فيها تشريعات كافية، مع العلم أن هذه الكتب أنزلت محدودة في الزمان والمكان إلى بعثة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعندما أنزل الله القرآن وأرسل محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ:28] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] لم يعد يُعمل بكتاب غير القرآن الذي أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والاحتكام إنما يكون إليه فقط.
ولما لم تجد الدولة النصرانية الكفاية في تسيير شئون حياتها وتلبية احتياجات الناس بسبب النقص الحاصل في التوراة، ووجدت نفسها أنها في حاجة إلى تنظيمات وإلى تشريعات، ووجدوا أن لهم أعرافاً وقوانين وأنظمة فجاء جوستنيان وأمثاله فنظموها، ثم كتب بعد ذلك عدة قوانين وانتشرت حتى سمي القانون الروماني، وهذه قصة التاريخ أو التقنين في العصور الوسطى كما يسمونها.(1/8)
قيام الثورة الفرنسية
المرحلة الثالثة: وهذه هي المعلم الفاصل في تاريخ أوروبا الذي يعتبرونه فجر العصر الحديث والإنسانية كلها، وهي الثورة الفرنسية التي قامت سنة (1789م)، فأقامت لأول مرة في تاريخ أوروبا النصرانية مبادئ لا تستند إلى الدين في شيء، وجعلت ارتكاز الحياة والاحتكام في الحياة إلى أهواء الناس، وكان شعارهم وهم يتظاهرون ويذبحون ويسفكون الدماء: اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس، أي: أنهم يقضون على الإقطاع الملكي من جهة وعلى الدين من جهة أخرى، لتقوم دولة علمانية لا تحتكم إلى الدين في شيء، كذلك نحيت التوراة والإنجيل وما فيها من أحكام، وابتدأ الناس في وضع الأحكام الوضعية والقوانين الوضعية، وأخذوا يفكرون في إنشاء دساتير.(1/9)
طريقة الدساتير المكتوبة
وبعد الثورة الفرنسية ظهر نابليون الذي اجتاح معظم أوروبا، هذا الطاغوت الكبير عندما ظهر وضع لهم القانون الأول المكتوب في أوروبا وهو المعروف بقانون " نابليون " وضعه عام (1804 م)، وهو عبارة عن مدونة في الأحكام أغلبها يتعلق في المعاملات وما أشبه ذلك، فانقسم بعد ذلك التاريخ الأوروبي التشريعي -أي: التقنيني- على فرعين: الفرع الذي أخذ بالاتجاه الفرنسي، وهذا يضع التقنينات التفصيلية في كل شيء، وفرنسا نموذج لذلك، فهناك قانون التجارة، وقانون القضاء، ودستور البلاد.
ثم القوانين الفرعية: القانون المدني، والقانون التجاري، والقانون الإداري، وكل ذلك نما مع الزمن وتطور وتتدرج إلى أن وصل إلى المرحلة التي نراها اليوم.(1/10)
طريقة القوانين غير المكتوبة
وهذا الاتجاه قابله اتجاه آخر، وهو الاتجاه الذي ساد في بريطانيا ويمثله في الدرجة الأساسية الإنجليز، وهم لا يأخذون التقنين على أنه مواد مكتوبة، وإنما أخذوا طريقة العرف المتبع أو القوانين غير المكتوبة نظام السوابق، فيأتون إلى القضاء الإنجليزي، فإذا وقعت قضية إن كان لها سابقة رجع إلى ما كان قد عمل به وحكم به الأولون، وإن كانت قضية جديدة فهذه توضع وتكون سابقة، وهكذا، فيسمى نظام السوابق، وهو نظام غير مدون على الشكل الفرنسي.
والعالم الإسلامي نقل النموذجين فتجد هنالك دولاً أخذت الطريقة الفرنسية فتكتب الدستور مائة مادة أو مائتين مادة، ثم بعد ذلك تغيره، وكل أمر من أمورها ترجع فيه إلى مادة من مواد الدستور، وبعضهم جرى على الطريقة الإنجليزية -الأنجلو سكسونية- وهي طريقة الرجوع إلى الأعراف، فيقال: قد سبق أنه في عام كذا صدر مرسوم بكذا، وهكذا تدرس اللجنة القضائية القضية وتتخذ فيها حكماً، ثم يصبح سابقة، وتأتي قضية أخرى تدرسها كذلك، فيسمى نظام السوابق.
ففي الولايات المتحدة الأمريكية حصل فيها دمج بين النظامين، فمن جهة الدستور فمكتوب، وهو الذي يفخر به الأمريكيون؛ لأنهم وضعوه عند قيام اتحاد الولايات الأمريكية، وفي نفس الوقت نجد أن الأنظمة في أمريكا كالقانون المدني والتجاري وما أشبه ذلك على الطريقة الإنجليزية ليس مكتوباً، وإنما هو حسب السوابق، فهذا مجمل للكيفية التي يحتكم بها هؤلاء المتحاكمون إلى الطواغيت وإلى القوانين.(1/11)
القوانين الغربية
أما كيف نشأت هذه القوانين وتسربت إلى العالم الإسلامي فنقول:(1/12)
ظهور أول نموذج في العالم الإسلامي
النموذج الوحيد الذي عرفه العالم الإسلامي من القوانين هو نموذج الياسق أو الياسا، الذي أتى به التتار، وشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية تكلم في فتواه المشهورة عن التتار، وهو أكثر من فصّل في الياسق، وما هو حاله وشأنه وتاريخه.
وكذلك المقريزي في كتاب الخطط عندما تكلم عن المماليك في مصر، وأنهم كانوا يتحاكمون إلى الياسق، قال: وهذا الياسق عبارة عن كتاب وضعه جنكيز خان.
والحافظ ابن كثير رحمه الله ذكر ذلك باقتضاب في تفسير قول الله تبارك وتعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] قال: مثل ما يتحاكم به التتار إلى كتابهم الذي يسمى الياسق، وجنكيز خان من أكبر الطواغيت في العصر الوسيط أو التاريخ الإسلامي، فقد جمع القبائل الهمجية من المغول في أواسط آسيا ثم اكتسح بهم والجانب الشرقي من العالم الإسلامي بلاد ما وراء النهر، وهي بلاد عظيمة فسيحة جداً، وكان في أيام الدولة الخوارزمية، وما كان أحد يأبه لهذه القبائل، واجتاحت هذه القبائل بعد حروب دامية الجانب الشرقي من العالم الإسلامي ودمرته، ثم أتوا على بلاد السند التي تسمى الآن باكستان، وبلاد خراسان وأفغانستان، وشمال إيران ثم بلاد فارس، ثم وصل حفيده هولاكو إلى بغداد عام (656هـ) التي كانت فيها وقعة التتار المشهورة في بغداد، وكانوا يعتقدون أنه إله، وأنه ابن الشمس، ولهذا شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في رده عليهم يقول: 'هذه شمس، نزلت إلى الخيمة، ثم حملت به أمه ودخلت الخيمة' كيف هذا؟! فهذا اعتراف منهم بأنهم لا يعرفون له أباً، فهو ابن غير شرعي -نعوذ بالله- والشاهد أن هذه العقيدة هي التي يعتقدها أكثر المجوس إلى الآن، حتى اليابانيون يعتقدون أن الامبراطور من سلالة الشمس، وهي نفس العقيدة القديمة الموجودة عند البوذيين المجوس في شرق آسيا.
فقالوا إن هذا الرجل لما كان بهذه العظمة وبهذه المنزلة جمع هذه القبائل ووضع لهم تشريعات وقوانين، وكتبها كما يقول المقريزي في ألواح من الفولاذ، وجعلها شرعاً في بنيه يحتكمون إليها، وهو أقرب إلى القوانين العسكرية المعروفة الآن.
لكن كما يقول ابن كثير رحمه الله: 'اشتمل على بعض الأحكام من المجوسية واليهودية وبعض الأحكام اقتبسها من الشريعة الإسلامية، وأحكام أخرى وضعها من عنده فجمع وغيَّر وبَدَّل كما يشاء {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] '.
ولما غزا هولاكو بغداد واجتاح التتار العالم الإسلامي، حصل أن بعض التتار أسلموا لكنه كان ضعيفاً كإسلام كثير ممن يعيش في دول الغرب ليس لهم من الدين إلا الاسم، وكانت قوة الإسلام متمركزة في بلاد الشام ومصر.
وهنا تأتي فتوى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله في التتار ذلك الحين، التي كان سببها كما ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية أن الناس اختلفوا في شأن التتار، فقال قوم: كيف نقاتلهم وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهذه الشبهة القديمة الحديثة المتجددة، وقال قوم: يقاتلون قتال البغاة، وقال قوم: يقاتلون قتال الخوارج فاختلف الناس في أمرهم، وصارت ضجة ولم يحسم العلماء الموقف في شأنهم، فيقول الحافظ ابن كثير: فأصدر شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله فتواه في شأنهم، فاجتمعت عليها الكلمة، واتفقت عليها الأمة والحمد لله، وهو أنه قال: إنهم يحتكمون إلى الياسق الذي وضعه الطاغوت جنكيز خان فلم يحكموا بشرع الله، فهذا مما يبرر قتالهم قتال الخارجين على شريعة الله تعالى ودينه، فبناءً على ذلك وفق الله تعالى المسلمين كما يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله واجتمعت كلمتهم وخرجوا ومعهم شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله، لقتال التتار صفاً واحداً، وكان شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله يقاتلهم ويبشر المسلمين بالنصر، حتى كسر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شوكة التتار وخفض أمرهم وانتصر عليهم المسلمون.(1/13)
بداية دخول القوانين الوضعية
وجاءت بعد ذلك الدولة العثمانية وظل الإسلام والشرع كما هو في كتب الفقه، حتى تدنت هذه الأمة في الحضارة، وانحطت في جميع المجالات، وظهر الغرب بقوة عصرية مادية تنظيمية، فحصلت الفتنة بالكفار وركوب سننهم وطرائقهم، والدخول فيما دخلوا فيه، كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فقال المسلمون: لا بد أن نقتبس من الغرب هذه الحضارة، وظهر أعداد من الذين يسمون المستنيرين في مصر وتركيا، فظهر الشيخ رفاعة الطهطاوي وظهر خير الدين التوسي، وأما في تركيا فقد ظهرت على مستوى رئيس الوزراء وأمثاله، فكانت هناك دعوة إلى اقتباس هذه النظم المفيدة حسب زعمهم.
وظهرت في تركيا الدعوة المسماة بالتنظيمات، وصدر قانون التنظيمات الأول لعام (1255هـ)، وقيل: إنه لا بد من الاقتباس من تنظيمات الأمم الراقية، واعتبار أن هذه القوانين قوانين راقية، وأنها جديرة بأن تقتبس.
وكالعادة بدأت القوانين تحاصر الشريعة الإسلامية، فأول ما ابتدأت بالمعاملات والتنظيم العسكري، واستقدم خبراء من السويد وفرنسا لتنظيم الجيش العثماني ليكون من الجيوش الحديثة.
وفي المجال التجاري كانت الدولة تتعامل مع أوروبا تجارياً، فأخذوا القوانين الفرنسية التجارية، وأخذوا نفس المواد، وغيروا فيها شيئاً ما حتى أصبح يسمى القانون العثماني التجاري، والتنظيمات الإدارية أخذوا بها عندما ظهرت فكرة البرلمانات والمجالس النيابية في أوروبا.
وهكذا شيئاً فشيئاً حتى ظهر ما سموه الدستور عام (1908م) أيام السلطان عبد الحميد، ولما ظهر الدستور قالوا: الآن وصلنا إلى أن نكون أمة حديثة وأمة راقية متمدنة لها دستور تحتكم إليه، وتتعامل بمقتضاه، ويكفل حرية جميع المواطنين، ثم حدثت مشكلة الثورة على الدستور وإلغاء الدستور.
فالمقصود أن العملية انتهت بإلغاء نظام الخلافة على يد كمال أتاتورك عام (1924م)، وانتهت بذلك كل الأحكام الشرعية تقريباً، وما بقي منها شيء في تركيا، ومسخوا الإسلام مسخاً كلياً، حتى أنهم ألغو الأذان وغيروه، فأصبح المؤذن لا يؤذن باللغة العربية، وألغو الحروف العربية، ومزقوا الحجاب، وفرضوا هذه القبعة الصليبية، وكل ما فيه تغريب فرضوه بالقوة، هذا في تركيا.
وفي العالم الإسلامي بدأت المحاولات أيام سعيد باشا وحلمي باشا لتطوير البلاد، وأول ما وضع الدستور المصري عام (1923م)، وأعلن عند الناس وافتخرت مصر بأنها وضعت دستوراً، وأصبحت أمة حديثة تسير على القوانين الحديثة، والتحقت بركب الأمم الراقية التي هي في الحقيقة أمم غاوية، ثم توالت بعد ذلك الدول العربية والإسلامية بالأخذ بالقوانين حتى عمت هذه القوانين أكثر أنحاء العالم الإسلامي.
وهناك دولة أخرى لا ينبغي أن ننساها وهي الهند فعندما جاء الإنجليز كانت الشريعة الإسلامية هي الأصل، وكان ملوك المغول الذين يحكمون الهند مسلمين، ومنهم أرونق زيب هذا الملك العالم وأمثاله.
فقامت الحكومة الإنجليزية بإلغاء الشريعة الإسلامية، وأعطت الأفضلية لعباد البقر، وهم الأكثرية لأن المسلمين اشتغلوا ببناء تاج محل، وبناء القباب، وبناء المشاهد، واشتغلوا باللهو والطرب، بل وصل ببعضهم الأمر إلى الإلحاد، وتركوا الدعوة إلى الله، وظل عباد البقر، يعبدون البقر فجاء الإنجليز فطمسوا شريعة الله، وحكموا بين الناس القوانين الوضعية التي قبلها ورضيها عباد البقر.
ولذلك نجد أن الهند وباكستان وبنجلادش التي هي باكستان الشرقية هي أكثر الأمم تقريباً في العالم تقليداً وتبعية للنظام الإنجليزي، فنفس الطريقة في الأحكام والبرلمان والانتخاب واختصاصات رئيس الدولة، واختصاصات رئيس الوزراء؛ لأنها مأخوذة حرفياً من الإنجليز، ومن أشهر القانونيين الذين وضعوا القوانين أو الدساتير في العالم العربي عبد الرزاق السنهوري، فقد وضع القانون المدني المصري، ثم انتدب لوضع قوانين في عدة بلاد عربية أخرى.
وبذلك وصلت الأمة إلى الحالة التي ترونها اليوم من غياب حكم الله، والاحتكام إلى غير شرع الله في أكثر أنحاء العالم الإسلامي، وأخذ الناس يتحاكمون إلى الطاغوت الذي قال الله تبارك وتعالى فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60] إلى آخر الآيات، فالتحاكم إلى الطاغوت هو السائد في العالم الإسلامي، وإن تعرضنا لشمال أفريقيا فإنها تعرضت كذلك لمسخ أكبر على يد فرنسا والله المستعان.(1/14)
موقع الحكم بما أنزل الله من الدين وأهميته
قال المصنف رحمه الله تعالى: 'وهنا أمر يجب أن يُتفطَّن له، وهو أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً ينقل عن الملة، وقد يكون معصية كبيرة أو صغيرة، ويكون كفراً إما مجازياً وإما كفراً أصغر، على القولين المذكورين.
وذلك بحسب حال الحاكم: فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه، أو استهان به مع تيقنه به أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر، وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله، وعلمه في هذه الواقعة وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا عاصٍ، ويسمى كافراً كُفراً مجازياً أو كفراً أصغر.
وإن جهل حكم الله فيها، مع بذل جهده، واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأ، فهذا مخطئ، له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور'.
موضوع الحكم بما أنزل الله موضوع مهم وخطير وعظيم الشأن، وقد كثر فيه الجدل والنزاع في القديم، ولكنه في هذا الزمن أصبح أكثر مما سبق، ولا بد للمؤمن الذي يريد أن يعرف دينه، وأن يعرف معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أن يعلم حقيقة هذا الأمر ومنزلته ومكانته من دين الإسلام، وهذا -إن شاء الله- الذي سنجعله تقدمة أولى لكلام المصنف رحمه الله، فسنتحدث عن أهمية الحكم بما أنزل الله، وما موقعه، وما مكانته، وما علاقته بتوحيد الله تعالى والإيمان به؟ ثم نتحدث -إن شاء الله- بعد ذلك عن تاريخ الانحراف في حياة البشرية عن الحكم بالكتب التي أنزلها الله تعالى، وهي كتاب واحد باعتبار أن غايتها واحدة وهدفها واحد ودعوتها الأساسية واحدة، ومتى ظهرت القوانين الوضعية؟ سواء منها المكتوب أو العرفي غير المكتوب؟ ثم ما وصلت إليه الحالة في العالم الإسلامي المعاصر بهذا الشأن.
وبعد ذلك -إن شاء الله- سوف نتكلم بالتفصيل في آيات الحكم، ولا سيما قول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] ونبين ما وقع عندها من إشكال عند بعض الفرق والطوائف، وما هو منهج أهل السنة والجماعة ومذهبهم في هذا الشأن.
فهذه الثلاث الأصول لا بد من معرفتها ثم بعد ذلك نشرع في كلام المصنف رحمه الله، لأن هذا الموضوع المهم لم يكن علماء العقيدة وعلماء السلف الصالح قديماً يكثرون من الحديث عنه، وإن كانوا قد تكلموا فيه كما تكلموا في سائر الأمور؛ لأنه لم يكن في عصرهم من ينكر حكم الله، أو يخرج على حكم الله، أو يجاهر بأنه لا يتحاكم إلى شرع الله، ومع هذا يزعم بأنه مسلم، وإنما ذكر الله تعالى هذه الحالة عن المنافقين: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء:60] فهذه حالة شاذة وقعت في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فأول فقرة هي: موقع الحكم بما أنزل الله وأهميته.
ونقول: إن الحكم بما أنزل الله هو جزء من التوحيد، فعندما يقول المسلم كلمة التوحيد التي بها يدخل الإنسان في الإسلام، فمعنى ذلك أنه قد التزم وأقر بألا يتحاكم إلا إلى الله وإلى شرعه، وإلى ما أنزله، وأنه كافر بالطاغوت، لأن معنى شهادة أن لا إله إلا الله هي -كما بين الله تعالى-: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256].
فهذه هي شهادة أن لا إله إلا الله مكونة من ركنين: ركن النفي: لا إله، وهو الكفر بالطاغوت.
وركن الإثبات: إلا الله، وهو الإيمان بالله، والشهادة بأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعناها طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع.
فمعنى الشهادة بأنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أن يحكَّم قوله الذي هو الوحي سواء كان مبلغاً إياه عن الله أم من عند نفسه؛ لأنه لا ينطق عن الهوى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] فلا يقدم بين يديَّ الله ولا بين يديّ كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برأي ولا هوى، ولا معقول كما كان يسميه الأولون من علم الكلام أو أي شيء يعارضه.
فكلمة مسلم أو مؤمن تعني: أن الإنسان مذعن منقاد مستسلم لأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يتحاكم إلى غير الله عز وجل أبداً، وإنما ذكر الله من يريد أن يتحاكم إلى غير شرع الله عن المنافقين، سواء كانوا في الأمم السابقة كاليهود: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [آل عمران:23] أو كانوا منافقي هذه الأمة: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور:48] {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:49] {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:50].
فهذا حالهم وهذا شأنهم، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، فهم ليسوا مقرين حقيقةً بأن الله هو الإله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو رسول الله، ولم يشهدوا بذلك حقاً، ولو شهدوا به حقاً وآمنوا به صدقاً لما عدلوا عن التحاكم إليه، وتحاكموا إلى غير شرع الله، وإلى غير ما جاء به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والكلام في هذا كثير جداً مما ذكر الله تعالى في القرآن، ومما بينه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السنة، ومما تكلم به العلماء، ومنها ما ذكره وتكلم به العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في هذا الشأن، وهو من هو في علمه وفضله وتبحره وتوسعه في العلم والفقه واللغة والبيان، وهو رحمه الله ورضي عنه وأرضاه عاش في عصرنا هذا، وأدرك هذه القوانين، وعرف خطرها وضررها وشرها، وتكلم فيها وفي أهلها بمقتضى كتاب الله تعالى.
كما ذكر في كتابه: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، فبين في تفسير سورة الشورى في قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى:10] فذكر أمراً عظيماً جداً متعلقاً بهذا الشأن، وهو أنه رحمه الله ربط موضوع التحاكم إلى شرع الله وإلى ما أنزله بصفاته سبحانه تعالى.
فبين أنه لا يستحق أحد أن يتبع شرعه إلا من كانت صفاته هي صفات الألوهية، وهو الله تعالى الذي لا ينازعه ولا يشاركه أحد في هذه الصفات، ومن لم يكن إلهاً متصفاً بصفات الألوهية الحقة فإنه لا يصلح أن يتحاكم إليه ولا إلى قوله، لما فيه من الضعف والجهل والعجز والهوى، وسائر صفات النقص التي لا بد أن تعتري كل مشرع من دون الله، ولعلنا -إن شاء الله- نأتي على بعض ما في القوانين الوضعية من تناقض وتضارب وخلل ظاهر، سواء ما كان منها في الشرق أو الغرب وهذا واضح بين والحمد لله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82].
ففيها كلها اختلافات وتناقضات، والعاقل إذا تأملها أيقن وصدَّق أن شرع الله هو وحده الحق، وأنه لا خير ولا سعادة ولا صلاح إلا في اتباع شرع الله الحكيم العليم السميع البصير الخالق الرازق إلى آخر الصفات التي ربطها فضيلة الشيخ رحمه الله بهذا الموضوع.(1/15)
من يملك حق التشريع
يقول: 'اعلم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بيَّن في آيات كثيرة صفات من يستحق أن يكون الحكم له، ويؤخذ منه التشريع، ويؤخذ منه التحليل والتحريم، فعلى كل عاقل أن يتأمل الصفات المذكورة التي سنوضحها الآن -إن شاء الله- ويقابلها مع صفات البشر المشرِّعين للقوانين الوضعية، فينظر هل تنطبق عليهم صفات من له التشريع، سبحان الله وتعالى عن ذلك، فإن كانت تنطبق عليهم -ولن يكون- فليتبع تشريعهم، وإن ظهر يقيناً أنهم أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك، فليقف بهم عند حدهم، ولا يجاوزه بهم إلى مقام الربوبية' يبين الشيخ: أننا إن وجدنا أن صفات من له التشريع سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تنطبق عليهم -ولن يكون ذلك- فلنتبع تشريعهم، وإلا فلا نتخذهم طواغيت ونتبع ما يشرعون من دون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال: 'وتعالى الله أن يكون له شريك في عبادته أو حكمه أو ملكه' جعل الثلاثة -العبادة والملك والحكم- كما جاء في القرآن في مواضع كثيرة خاصة به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا يجوز أن يشرك به في عبادته ولا في حكمه ولا في ملكه.(1/16)
الصفة الأولى
يقول: 'فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها تعالى صفات من له الحكم والتشريع قوله: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10] ثم قال مبيناً صفات من له الحكم: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى:10] '.
فقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10] بيَّن بعده صفات هذا الإله الذي لا يستحق غيره أن يرجع إليه وإذا وقع النزاع أن يتحاكم إليه؛ لأنه لا يوجد فيه هذه الصفات، فهي صفات خاصة بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ' {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشورى:11 - 12] '.
يقول الشيخ رحمه الله بعدما أورد هذه الآيات: 'فهل في الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي تفوَّض إليه الأمور، ويتوكل عليه.
وهذه من قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى:10] '.(1/17)
الصفة الثانية
ثم قال: 'وأنه فاطر السماوات والأرض أي خالقها ومخترعها على غير مثال سابق'.(1/18)
الصفة الثالثة
ثم قال: 'وأنه هو الذي خلق للبشر أزواجاً' وهذه من قوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً} [الشورى:11].
وهذه من صفات الله التي بها ومن أجلها يستحق وحده أن يتحاكم إليه، فإنه لا يمكن لأحد أن يخلق شيئاً ولو ذباباً ولو اجتمعوا له، ومع ذلك فإن الله جعل في هذا الخلق آية عظيمة وهي أنه جعل من كل شيء زوجين، فجعل الزوجية هي قاعدة عامة في الحياة، سواء منها الحياة الإنسانية أو غيرها، ولذلك من أعظم وأهم التشريعات التي أنزل الله تعالى ومن أولها ما يتعلق بالأسرة، وما يتعلق بالعلاقة بين الزوجين وبين الأبناء، وهذا هو أهم جانب من جوانب التشريع.
ولذلك تجد أن الناس اليوم في العالم الإسلامي رغم أنهم أخذوا القوانين الوضعية في شئون الاقتصاد والمال، وفي الشئون السياسية والتعليمية وفي أمور كثيرة، يظل هذا الجانب معترفاً به إلى حدٍ ما، لأنه إذا فُقد لم يبق للإنسان معنى أنه مسلم أبداً، وهو ما يسمونه هم في القوانين الوضعية: الأحوال الشخصية.
فيقول تعالى في ذلك: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] يقول الشيخ رحمه الله: 'وخلق لهم أزواج الأنعام الثمانية المذكورة في قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:143] ' فهو سبحانه المستحق وحده للعبادة، والمستحق وحده لأن يؤخذ منه التشريع.(1/19)
الصفة الرابعة والخامسة
قال: 'وأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] ' فهل يمكن أن يقال في أي مشرع كائناً من كان: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]؟ جل الله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] وهاتان الصفتان من أعظم ومن أخص صفات الله تعالى، فهو الذي يحكم ويشرع ويحلل ويحرم؛ لأنه السميع الذي أحاط سمعه بكل المسموعات، والبصير الذي أحاط بصره بكل شيء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(1/20)
الصفة السادسة
قال: 'وأنه: له مقاليد السماوات والأرض' الحكم والتشريع إنما يكون من الحاكم عادة، أو ينفذه الحاكم، حتى إن اقترح فهو من شأن الحاكم فمن الذي له مقاليد السماوات والأرض؟! الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وهل يمكن لأحد أن ينازع في هذا أو يدعي أنه له مقاليد السماوات والأرض؟ فهذا لا يمكن أبداً، بل الناس في هذا العصر الذي يسمونه عصر العلم وتسخير العلم للطبيعة وللكون -كما يسمونها- هم أكثر معرفة بكثير جداً ممن كان قبلهم بعظمة هذا الكون وسعته، ولا يرون ولا يعلمون منه إلا ما دون السماء الدنيا، بل جزءاً من ذلك، ومع ذلك فلا يمكن لأحد أن يقول: لي مقاليد السماوات والأرض.
أو أن يقول: أنا ربكم الأعلى، الكلمة التي قالها فرعون وهو في منتهى غروره، ليخدع بها أولئك السذج البلهاء الذين لا يفقهون ولا يعقلون: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] فهل يستطيع أحد أن يدعي ذلك، أو أن عاقلاً يفكر ويزعم أن أحداً له مقاليد السماوات والأرض فهذا؟ لا يمكن أن يحدث.
فالذي يتحاكم إليه هو من له مقاليد السماوات والأرض.(1/21)
الصفة السابعة
يقول: 'وأنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، أي: يضيقه على من يشاء' وهنا نلحظ أن كثيراً من المناهج الوضعية والقوانين تتعلق بالنواحي المالية والأرزاق، كالاشتراكيين الذين ادعوا أنهم أصحاب العدالة، وكادوا أن يسيطروا على الدنيا، فهؤلاء إنما بنوا نظريتهم على أساس العدالة في التوزيع كما يزعمون.
والآخرون الرأسماليون الذين يحتكرون العالم ويمتصون خيراته وثرواته، ويبنون نظريتهم على أساس حرية التجارة، وحرية الربح، وحرية العمل، وحرية الكسب إلى آخر ذلك، فهؤلاء وهؤلاء يجعلون أساس نظمهم الوضعية وقوانينهم البشرية هو المال أو الرزق، وذلك بيده وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو إذاً الذي يجب أن يتحاكم إليه وحده ولا يشرك به في ذلك.
ثم يقول الشيخ بعد قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29] يقول الشيخ رحمه الله: 'فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم ولا تقبلوا تشريعاً من كافرٍ خسيس حقير جاهل'.(1/22)
الصفة الثامنة
يقول: 'ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف: 26] ' فلا يمكن لأحدٍ أن يدعي ذلك، لأن النفوس حجبت عنه، ولهذا سمي غيباً: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} [لقمان:34] فأي نفس كائنة من كانت لا تدري ماذا سيحدث لها ولو كان هذا الأمر بعد ساعة أو بعد حين، كما قال الشاعر:
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله لكنني عن علم ما في غدٍ عمي
فانظر إلى هذه النقطة العظيمة: أو ليست القوانين قواعد أو أحكام توضع ليسير عليها الناس، فالذي وضعها لا يدري ماذا سيقع؟ وكيف ستكون الأمور؟ فكيف يوكل إليه أن يشرع؟! ولهذا تجد الذين يشرعون ويضعون القوانين من دون الله يضعون من التخبطات والانحرافات والظلم والحيف الشيء الكثير.
ثم يأتي بعد ذلك زمن وإذا بذلك القانون لا يفي بالحاجة ولا يكفي للمطلوب، ثم تكلف لجان أخرى أو مشرعين آخرين أو برلمان آخر بحسب الدول المختلفة، ويبدءون من جديد، ويقولون: هذا لم يعد يصلح الآن، ولم يعد يتناسب مع هذا التوسع، ويضعون قانوناً جديداً، ويبدءون في تطبيقه، ثم سرعان ما ينخرم ذلك ويبلى، وتجد بعض القوانين الوضعية في المادة أو المادتين في القانون تأتيها من التعقيبات ومن الاستثناءات حتى تصبح ملفاً ضخماً، وكل ذلك لأنهم بشر لا يعلمون الغيب، والله تعالى يقول: {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الكهف:26] فهذا صفات من لا يشرك معه في حكمه، بل هو وحده له الحكم.
ويتكلم الشيخ عن هذه الآية: {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] فيقول: 'فهل في الكفرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأن له غيب السماوات والأرض، وأن يبالغ في سمعه وبصره لإحاطة سمعه بكل المسموعات وبصره بكل المبصرات؟ '.
وقوله تعالى: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] أي: وهو رب كل شيء وولي كل شيء، فكيف يكون لغيره أن يشرع وأن يحلل ويحرم، ثم قال في قوله تعالى: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26]: 'فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته' والمقصود بالعبادة هنا الصلاة والصيام وما أشبه ذلك.
ومعنى ذلك أن من اتبع شرعاً غير شرع الله فهو كمن صلى وسجد وصام وحج لغير الله، فالإشراك به في هذا، كالإشراك به في هذا، يوضحه بجلاء قوله تعالى عن أهل الكتاب: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31] كما صح في تفسيرها، وهو أنهم لم يكونوا يسجدون أو يركعون لهم، ولكنهم اتبعوهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال، ويقول الشيخ أيضاً عند قوله تعالى: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26]: 'وفي قراءة ابن عامر من السبعة: {وَلا تُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] بصيغة النهي، وقال في الإشراك به في عبادته: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] فالأمران سواء' والآيتان في سورة واحدة، يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] ثم قال: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] '.
فالموضوع واحد، والحكم واحد، والشأن واحد، فلا يشرك بالله لا في تشريعه، ولا في أمره ونهيه، ولا في عبادته والتقرب إليه والتمسك بأمره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(1/23)
الصفة التاسعة
يقول الشيخ رحمه الله: 'ومن الآيات الدالة على ذلك -أي: من الآيات الدالة على أنه لا يجوز لأحدٍ أبداً أن يتبع شرعاً غير شرع الله، وأن الله تعالى هو وحده المستحق لأن يؤخذ منه التشريع- قوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88].
قال: فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأنه الإله الواحد، وأن كل شيء هالك إلا وجهه؟! ' الذي له البقاء ودوام الحياة لكمال حياته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26] فكل هؤلاء هالكون ميتون، فكيف يوكل التشريع إلى أموات وإلى هالكين! قال: 'وأن الخلائق يرجعون إليه' وهذا من قوله تعالى: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88] فلا رجوع إلا إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قال: 'تبارك ربنا وتعاظم وتقدس أن يوصف أخس خلقه بصفاته'.(1/24)
الصفة العاشرة
ثم قال: 'ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12] فهل في الكفرة الفجرة المشرعين النظم الشيطانية من يستحق أن يوصف في أعظم كتاب سماوي بأنه العلي الكبير؟! ' {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12].
أي: العلي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علو الذات، وعلو القهر، وعلو العظمة، وعلو القدر والمكانة وكل ما يليق بجلاله، ولا يشاركه أحد في هذه أبداً، وهو الكبير سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فمن يشاركه في ذلك؟! يقول الشيخ: 'سبحانك ربنا وتعاليت عن كل ما لا يليق بكمالك وجلالك'.(1/25)
الصفة الحادية عشرة
ثم قال رحمه الله: 'ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:70 - 73].
فهل في مشرعي القوانين الوضعية من يستحق أن يوصف بأن له الحمد في الأولى والآخرة؟! ' وهذا من الحكم العجيبة، فإن هذا الليل وهذا النهار لا يملك أحدٌ كائناً من كان أن يدبره إلا الله تعالى، وكل الخلائق يستفيدون من هذه النعم العظيمة، والله تعالى هو الذي يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، وهو الذي سخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى، وهو الذي يعبد وحده، ويتبع شرعه وحده، ويطاع أمره وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وما عداه فلا يستحق شيئاً من ذلك أبداً.(1/26)
الصفة الثانية عشرة
ثم قال: 'ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40] فهل في أولئك من يستحق أن يوصف بأنه هو الإله المعبود وحده، وأن عبادته وحده هي الدين القيم؟! سبحان الله وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً'.
فالحكم بما أنزل الله، واتباع دين الله تعالى هو من عبادة الله تعالى، فمن فرق وقال: نعبد الله بالصلاة والصوم والزكاة ونجعلها لله، وأما الحكم فهو لغير الله من قال ذلك كائناً من كان من الآراء أو المذاهب أو النظريات أو المشرعين، فقد فصل بين هذين وأشرك بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما فعل المشركون من قبل عندما جعلوا لله نصيباً مما ذرأ من الحرث والأنعام وجعلوا لغير الله نصيباً، فهذا هو الشرك بعينه، وهذا هو الذي نهى الله عنه وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:116] {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40] هذا هو الدين القيم، وما عدا ذلك فهو تلبيسات، ودين ممزوج فيه الشرك والنفاق والبدع والضلال وإن ظن صاحبه أنه على شيء.(1/27)
الصفة الثالثة عشرة
قال: 'ومنها -أي من الآيات الدالة على صفات من يستحق أن يعبد ويتبع في التشريع وفي التحليل وفي التحريم وهو الله وحده- قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف:67] فهل فيهم من يستحق أن يتوكل عليه وتفوض الأمور إليه! ' وهذا لا يوجد في أحد منهم.(1/28)
الصفة الثالثة عشرة
قال: 'ومنها قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:49 - 50] فهل في أولئك المشرعين من يستحق أن يوصف بأن حكمه بما أنزل الله وأنه مخالف لاتباع الهوى؟! ' هذا لا يمكن؛ لأن المشرِّع أو القانوني أو المنظر إنما يضع أو يكتب أو يقرر من خلال ثقافته وفكره، وما يرى أنه صواب، فهو متبع لهواه بلا ريب، لأن كل ما خالف شرع الله ودين الله تعالى فهو هوى.
فجعل الله تعالى شيئين متقابلين إما ما أنزل الله، وإما أهواء الذين لا يعلمون، فمهما كانوا في العلم الدنيوي فإنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون، ومهما ادعوا أنهم بلغوا من المعرفة فهم لا يعلمون؛ لأن هذا حكم الله عليهم، ولذلك نجد أن سائر من اشتغل بهذه العلوم يعلمون أن الإنسان إذا اجتهد وتخصص وبحث في الأمور التجريبية، أو الطبيعية، أو الرياضية، أو ما أشبه ذلك أنه يأتي بشيء نافع ولو في دنياه، ويكون ذلك من العلم الظاهر في الحياة الدنيا، ولكن تجد أن الفرق كبير جداً بين النظريات العلمية كما تسمى في عصرنا الحاضر بالتجريبي والتطبيقي، وبين الدراسات والنظريات التي يسمونها الإنسانية، التي تتعلق بعلم النفس، وعلم الاجتماع، والإدارة والنظم، والقوانين أو ما أشبه ذلك، تجد الفرق بين هذين كبيراً جداً، وتجد أنها أهواء كما ذكر الله تبارك وتعالى.
والدراسات النفسية والاجتماعية مأخوذة ومركبة على أهواء كثيرة، وأراء متناقضة مختلفة، فلا يجد الباحث شيئاً يستطيع أن يجزم بأنه حق، قال: 'وأن من تولى أصابه الله ببعض ذنوبه' أي: شرع غير شرع الله ثم تولى عما شرع الله، أصابه الله ببعض ذنوبه: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} [آل عمران:32] أي: عن اتباع ما تحكم به من الحق، وما أنزلنا من الكتاب والشرع: {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة:49].
وكل أمة وكل فرد وكل مجتمع لم يحكم بما أنزل الله فلا بد أن يصيبه الله ببعض ذنوبه، يقول: 'لأن الذنوب لا يؤاخذ بجميعها إلا في الآخرة' فالمؤاخذة بجميع الذنوب لا تكون إلا في الآخرة، لكن في الدنيا يؤاخذ ببعض ما كسبوا ويعفوا عن كثير، مع أنه لا يصيبهم إلا بما كسبت أيديهم، لكنه يعفو ويصفح ويتجاوز ويمهل حتى إذا ظن الظالمون أن ذلك منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إهمال أو نسيان، أخذهم بغتة فإذا هم مبلسون.
قال: 'وهل هناك أيضاً من يوصف أنه لا حكم أحسن من حكمه لقوم يؤمنون؟! '.
وفي قوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة:50] نجد أن الأحكام على نوعين فقط لا ثالث لهما: إما حكم الله الذي أنزله في كتابه أو جاء به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما أخذ منه، وهذا كله يشمله حكم الله، أو حكم الجاهلية، سواء كان تشريعات بدائية أو أعراف البادية، أو سلوم القبائل، أو كانت نظم ودراسات متطورة حديثة في أرقى المجتمعات حضارة، فكلها يطلق عليها اسم واحد، وهي أنها حكم الجاهلية، ولا فرق بينها.
ولذلك يلبس أحياناً على العقول بأن حكم الجاهلية هو الذي كان في الجاهلية الأولى قبل الإسلام فقط، لكن الذي يأتي من دول الغرب والباحثين والدارسين ومن الفقهاء -فقهائهم- لا يسمى جاهلية!! بل هذه دراسات علمية أو نظريات علمية!!! إلى أن يقول: ' {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57] فهل فيهم من يستحق بأن يوصف بأنه يقص الحق، وأنه خير الفاصلين؟! ' ويفصل في الأمور كلها!(1/29)
الصفة الخامسة عشرة
قال: 'ومنها قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [الأنعام:114 - 115] الآية.
فهل في أولئك المذكورين من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي أنزل هذا الكتاب مفصلاً، والذي يشهد أهل الكتاب أنه منزل من ربك بالحق، وبأنه تمت كلماته صدقاً وعدلاً، أي: صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام، وأنه لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم؟! سبحان ربنا ما أعظمه وما أجل شأنه! ' وتأمل قوله: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً} [الأنعام:114] فهي مثل قوله تعالى: {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً} [الأعراف:140] وقال: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] فجعل العبادة والحكم سواء، وهنا جعل اتخاذ غير الله رباً أو اتخاذ غير الله حكماً سواء.
إذاً: هو وحده له الحكم، وهو وحده له العبادة، والشرك في هذه كالشرك في تلك.(1/30)
الصفة السادسة عشرة
قال: 'ومنها قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس:59] فهل في أولئك المذكورين من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي ينزل الرزق للخلائق، وأنه لا يمكن أن يكون تحليل ولا تحريم إلا بإذنه؟! لأن من الضروري أن من خلق الرزق وأنزله هو الذي له التصرف فيه بالتحليل والتحريم' فقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً} [يونس:59] وهذا من أقدم أنواع التشريع الذي عرفه الناس، وهو أن العالم بما فطروا عليه من التعبد لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما أشركوا به غيره وأرادوا أن يتقربوا إليه، أخذوا ينذرون لغير الله، ويجعلون شيئاً مما أعطوا من الرزق لغير الله، وحرموا بعضاً وأحلوا بعضاً، فاتبعوا في ذلك شركاءهم، وقد سماهم الله شركاء: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام:137] وقال في آية أخرى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121].
ومن أنواع الإشراك بالله في التحليل والتحريم أنهم جعلوا البحيرة وغيرها من الأنعام محرم أكلها أو ركوبها كما قال الله عنهم: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ} [الأنعام:138] وجعلوا تشريعات من عند أنفسهم، وهي تشريعات البدائيين كما يسميها الآن العصريون، فأول ما عرف أنهم جعلوا هذا حلال وهذا حرام، ثم تطورت بهم الأحوال فيما بعد حتى حرموا بعض ما رزقهم الله تعالى، مما أحل من فضله عز وجل.
والخلاصة من المقدمة الأولى: أن الحكم بما أنزل الله أصل من أصول الدين وجزء من توحيد الله، ومن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى وآله وصحبه أجمعين.(1/31)
شرح رسالة تحكيم القوانين
شرع الشيخ -سدده الله- في شرح رسالة تحكيم القوانين للإمام محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والتي تعرض فيها لوجوب رد النزاع إلى الله ورسوله، وأقام الأدلة على ذلك، وبيَّن أنه لا أحسن من حكم الله جل وعلا، فهو الشامل الصالح لكل زمان ومكان؛ لأنه صادر عن لطيف خبير سبحانه وتعالى.
وبيَّن بعض الحالات التي يكفر فيها الحاكم بغير ما أنزل الله كفراً أكبر مخرجاً من الملة.
ونبه على مدى خطر مضاهاة القوانين الوضعية للمحاكم الشرعية ومعاندتها للشرع، ثم نبه على أن الإيمان قول وعمل، وأنها متلازمة لا يغني ركن منها عن ركن، وأخيراً ذكر من القسم الأول -الكفر المخرج من الملة- ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر من عادات الآباء والأجداد، وبين أنه لا زال موجوداً، وأنه من الكفر الأكبر المخرج من الملة.(2/1)
التحاكم إلى القوانين الوضعية
موضوع هذا الدرس هو في الحكم بغير ما أنزل الله، وفي ذلك رسالة قيمة صغيرة الحجم، كبيرة الفائدة، عظيمة النفع؛ للعالم المجتهد الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، وسوف نشرحها شرحاً موجزاً إن شاء الله تعالى.
يقول رحمه الله: 'إن من الكفر الأكبر المستبين، تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين، على قلب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين'.
فهذه أول عبارة بدأها الشيخ لعلمه بالاختلاف الواقع في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله.
وهل هو مخرج من الملة أو غير مخرج! فبدأ بتأصيل الأصل، وهذا من كمال الفقه والحكمة في الدعوة، وهو أن الداعية إذا أراد أن يتكلم في أمر وفي هذا الأمر تفصيل، ومنه -مثلاً- جائز وواجب، وأصل واستثناء، وبعضه مجمل وبعضه مبين، فالحكمة أن يبدأ بتقرير الأصل العام وبتقرير القاعدة الكلية، ثم بعد ذلك يبين ما يستثنى من ذلك، أو ما لا يدخل ضمن هذه القاعدة.
فيقول رحمه الله: ' إن من الكفر الأكبر المستبين، تنزيل القانون اللعين، منزلة ما نزل به الروح الأمين، على قلب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، في الحكم به بين العالمين'.
وهذه حقيقة بدهية! لا يجوز أن يماري فيها أي مسلم، وانطلاقاً منها تأتي التفريعات، فكيف يجعل القانون الذي يضعه البشر بأهوائهم وشهواتهم، ويفترون على الله به الكذب، بمنزلة ما نزل به الروح الأمين -جبريل عليه السلام- على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! لا يرضى بذلك مؤمنٌ أبداً.
يقول: ' في الحكم به بين العالمين، والرد إليه عند تنازع المتنازعين؛ مناقضةً ومعاندةً لقول الله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] '.(2/2)
تحاكم إلى الطاغوت
يقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: ' والطاغوت مشتق من الطغيان، وهو: مجاوزة الحد، فكل من حكم بغير ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو حاكم إلى غير ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد حكم بالطاغوت وحاكم إليه، وذلك أنه من حق كل أحد -أي: من واجبه- أن يكون حاكماً بما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقط لا بخلافه، كما أن من حق كل أحد أن يحاكم إلى ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن حكم بخلافه أو حاكم إلى خلافه فقد طغى، وجاوز حده حكماً أو تحكيماً، فصار بذلك طاغوتاً لتجاوزه حدَّه'.
وأحياناً يكون طاغوتاً؛ لأنه تجاوز حده وافترى على الله الكذب، وقال: أنا أشرع للناس ما فيه مصلحة لهم، وأضع القوانين لذلك.
وأحياناً قد يتجاوز بالشيء حده وهو ليس بمتجاوز بذاته كما لو اجتهد مجتهد من الأئمة المجتهدين في مسائل وأفتى فيها، فجاء أناس من أتباعه فقدموا كلامه على كلام الله ورسوله فردوا كل شيء اختلفوا فيه إلى كلامه، وقدَّموا كلامه على كلام الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن هؤلاء قد جعلوه طاغوتاً وتجاوزوا به حده، إذ حدَّه أن يكون عبداً صالحاً لله، أو إماماً مجتهداً إن كان كذلك، حتى الملك المقرب جبريل عليه السلام حدَّه أن يكون ملكاً لله، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدَّه أن يكون عبد الله ورسوله، وخيرته من خلقه إلى آخر ما ذكر الله تعالى عنه، وأخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نفسه.
لكن أن يعبد من دون الله، أو أن يُدعى جبريل أو محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو غيرهم، ويستعان بهم، ويصرف لهم شيء من الربوبية أو الألوهية؛ فمن فعل ذلك فقد تجاوز بهم الحد، فإن هذا من الكفر الصريح.
وينبغي أن نفرق بين الطاغوت الحقيقي وبين من يُتخذ أو يُجعل طاغوتاً وليس هو بطاغوت، وإنما جعله طاغوتاً من تجاوز حده الشرعي من الناس.
ومثاله: عيسى عليه السلام، فقد اتُخذ إلهاً من دون الله، فلا يُسمَّى طاغوتاً وحاشاه، وقد قال فيما ذكره الله عنه: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة:117]، ولكن النصارى غلوا فيه وجاوزوا به حده.(2/3)
الأدلة على ذلك
يقول: ' وقد نفى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الإيمان عمن لم يُحكِّموا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما شجر بينهم، نفياً مؤكداً بتكرار أداة النفي وبالقسم، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] '.
أكد سبحانه نفي الإيمان عمن لم يُحكَّموا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما شجر بينهم بأمرين: بتكرار أداة النفي وهي "لا" في قوله: (فلا)، وقوله: (لا يؤمنون)، وبالقسم في قوله: (وربك).
يقول: 'ولم يكتف تعالى وتقدَّس منهم بمجرد التحكيم للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يضيفوا إلى ذلك عدم وجود شيء من الحرج في نفوسهم، بقوله جل شأنه: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء:65] والحرج: هو الضيق '.
ولهذا يقال: أرض حرجة، أو مكان حرج، أي: كثير الشجر ملتف شجره.
يقول: 'بل لا بد من اتساع صدورهم لذلك'.
أي: تتسع صدورهم وتنتفخ وتسر بحكم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
'وسلامتها من القلق والاضطراب'.
فلا قلق ولا اضطراب من حكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: 'ولم يكتف تعالى -أيضاً- هنا بهذين الأمرين -أي: بالتحكيم وعدم الضيق- حتى يضموا إليهما أمراً ثالثاً هو التسليم: وهو كمال الانقياد لحكمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بحيث يتخلون هاهنا من أي تعلق للنفس بهذا الشيء، ويسلموا ذلك إلى الحُكم الحق أتم تسليم، ولهذا أكد ذلك -أي: التسليم- بالمصدر المؤكَّد وهو قوله جل شأنه (تَسْلِيماً) المُبيِّن أنه لا يُكتفى هاهنا بالتسليم بل لا بد من التسليم المطلق '.(2/4)
مراتب الدين بالنسبة لتحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين حول هذه الآية: ' إن هذه الآية اشتملت على مراتب الدين الثلاث، فالدين مراتب ثلاث كما جاء في حديث جبريل عليه السلام' أي: إن هذه الآية بالنسبة لتحكيم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولاتباع هديه جاءت على مراتب الدين الثلاث، فمقام الإسلام هو مقام التحكيم، فمن لم يحكم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فليس بمسلم.
فإذا حكَّم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان في صدره ضيق وحرج ولم يسلم تسليماً فهذا ليس بمؤمن، فبتحكيمه للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج بذلك عن أن يكون كافراً، ولكنه لم يدخل في عداد المؤمنين؛ لأنه لم ينتف الحرج والضيق من صدره لحكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والله تبارك وتعالى إنما أثنى في القرآن ووعد بالجنة لمن اتصف بمرتبة الإيمان، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون} [المؤمنون:1] وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15]، وقال جل شأنه: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:1 - 3] وغير ذلك من الآيات.
فانتفاء الحرج هو المقام الثاني، وهو مقام الإيمان.
والمقام الثالث: هو مقام الإحسان؛ فإذا حكَّم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يكن في نفسه حرج، وسلَّم بذلك كمال التسليم فهذا قد بلغ الغاية العظمى، وهي مقام الإحسان.
ومن حكَّم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يكن في نفسه حرج من حكمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكنه لم يبلغ الغاية العظمى في ذلك وهو أنه لم يُسلم كمال التسليم، فهذا مسلمٌ مؤمنٌ وليس بمحسنٍ؛ لعدم حصول كمال التسليم منه.
فهذه الآية اشتملت على هذه المراتب الثلاث، والشاهد هو: أن من لم يُحكِّم الرسول صلى الله عليه وسلم فليس بمسلم.
ثم يقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: 'وتأمل ما في الآية الأولى وهي قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] كيف ذكر النكرة وهي قوله: (شيء) في سياق الشرط، وهو قوله جل شأنه: (فَإِنْ تَنَازَعْتُم) المفيد للعموم، فيما يتصور التنازع فيه جنساً وقدراً '.
أي: في أي جنس من أجناس التنازع، وفي أي قدر، وفي أي أمر كان كبيراً أو صغيراً، فيدخل في ذلك كل خلاف ونزاع، سواء في أسماء الله وصفاته، أو في الإيمان، أو في أمور العقيدة، أو الأحكام الفقهية، أوفي الحقوق والدماء والأموال والأعراض وكل شيء.
قال: ' ثم تأمّل كيف جعل ذلك شرطاً في حصول الإيمان بالله واليوم الآخر بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر} [النساء:59] '.
وكلمة (شيء) هي أعمّ كلمة في اللغة كما يقول اللغويون، لأنها تطلق على الكبير والصغير، فكلها يمكن أن تُطلق عليه.
وهي هنا عامة تماماً؛ لأنها حاءت نكرة في سياق الشرط، ويمكن أن تُطلق على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كما في قوله عز وجل: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام:19] فيجوز أن يطلق عليه شيء ولكن أي شيء هو؟ هو جل وتعالى أعظم وأكبر من كل شيء!
رأيت الله أكبر كل شيء محاولة وأكثرهم جنوداً
فالقضية الكبرى المتنازع فيما بين اثنين على ممكلة عظيمة نقول إن هذه القضية شيء، وكذا لو تنازعا على ربع درهم لقلنا إنهما تنازعا على شيء وتحاكما عليه، فكل أجناس وأنواع القضايا تدخل في وجوب التحاكم ورد التنازع فيها إلى الله ورسوله؛ لأنها ضمن كلمة (شيء) في قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} [النساء:59] ولهذا قال في الآية الأخرى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10] وفيها (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ) فحكم هذا الشرط (من شيء)، وتقدمها الجار والمجرور لزيادة تأكيد العموم، وهو التحاكم إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ورد التنازع إليه عز وجل في كل شيء، بحيث لا يخرج شيء عن ذلك.
فشرط الإيمان بالله واليوم الآخر هو رد التنازع في أي شيء إلى الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60] فدعوى الإيمان زعم، أما في الحقيقة فليسوا بمؤمنين، ولهذا قال تعالى: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النساء:60].
قال رحمه الله: ' ثم قال جل شأنه: (ذَلِكَ خَيْرٌ) فشيء يطلق الله عليه أنه خير لا يتطرق إليه شرٌ أبداً، بل هو خيرٌ محض، عاجلاً وآجلاً، ثم قال: (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي: عاقبة في الدنيا والآخرة ' فرُد الأمر إلى الله ورسوله هو أحسن عاقبة في الدنيا والآخرة، وفي الحاضر والمستقبل، وفي كل زمن وعصر ولو كره المنافقون.(2/5)
الغفلة عن عواقب التحاكم إلى غير الشرع
قال: 'فيفيد -أي: هذا الكلام- أن الرد إلى غير الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عند التنازع شر محض وأسوأ عاقبة في الدنيا والآخرة '.
وهذا واقع تشهد به أحوال الأمم في هذا الزمان وفي غيره؛ أن التحاكم إلى غير شرع الله والتقاضي إلى غير ما أنزل الله شر في الدنيا، وما ينتظرهم عند الله تبارك وتعالى أعظم من ذلك وأشد، قال تعالى: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم:33].
يقول: 'عكس ما يقوله المنافقون'.
أي: أن هذا الذي قرره الله هو 'عكس ما يقوله المنافقون' فهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، والطاغوت هو القانون وزناً ومعنى، فالطاغوت يعني القانون، والقانون يعني الطاغوت.
والطاغوت: هو ما تجاوز به العبد حده عموماً من معبودٍ أو متبوعٍ أو مطاعٍ في غير طاعة الله ورسوله.
فطاغوت كل قوم هو ما يعبدونه من دون الله أو يتحاكمون إليه ويطيعونه في غير طاعة الله، ومن ذلك هذه القوانين الوضعية فهؤلاء المنافقون يقولون: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء:62]، وهذه دعاوى قديمة وحديثة، ولهذا فلا يظن أن أحداً يتجرأ على الله عز وجل من غير تأويل ولا شبهة ولا دعوى، فحتى الأصنام لما عبدت لم تعبد إلا بتأويل، مع أنها حجارة صماء بكماء كما يراها العقلاء؛ لكنهم قالوا: هذه الحجارة نحتت على صورة "ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر" وهؤلاء رجال صالحون لهم عند الله مكانة فنحن نحب هذه الصور لكي نتذكر عبادتهم، ثم عبدت من دون الله بعد أن دُرس العلم.
وهؤلاء المتحاكمون إلى القوانين الوضعية لا يقولون: هذا القرآن ليس بجيد؛ بل يقولون: نحن نحب القرآن والسنة ولا نريد أن نخالفهما؛ لكننا نريد أن نوفق بينها وبين متطلبات القرن العشرين، وبين الإسلام وبين متطلبات الحياة الحديثة، فنتحاكم إلى القوانين ونحن لم نخرج عن الإسلام ونحن نحب القرآن والسنة، فتراهم يعتمرون ويحجون ويطوفون ويسعون، وربما يتصدقون ويصومون ويصلون، لكن يقولون: نحن الآن في القرن العشرين، والعالم قد تحضَّر، والأحوال قد تغيَّرت، والأمور قد تطورت، فلا بد أن نوفق بين الإسلام وبين متطلبات الحياة الجديدة، فنسمح بالأنظمة والقوانين، ونطور موضوع المرأة والحياة الاجتماعية ولا نزال مسلمين!! فهم لا يقولون: اكفروا بالله، ولم يوجد أحد قام وقال: اكفروا أيها الناس! ولذلك فإن مشكلة الشعوب المغفلة، والأمم التي يحيطها مكر الليل والنهار أنها تنتظر من يقول لها: اكفري بالله حتى تتنبه إلى خطورة المؤامرة، وأعداء الله أذكى من أن يقولوا لهم ذلك، لأن هذه أساليبهم ومهارتهم.
فكل عصر فيه تلبيس وكيد يناسبه، ومعلمهم الأول إبليس لم يقل لأبينا آدم عليه السلام: اكفر بالله، بل قال كما قال تعالى عنه: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21]، وقال: {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120]، وقال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20].
فهؤلاء وأمثالهم وإن تسموا وادعوا أنهم مصلحون وقالو: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] فقد بين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كذبهم وباطلهم، فقال: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) [البقرة:12].
ومن العجيب أن كل من يكتب في تنحية شرع الله أمثال جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي ومدحت باشا في اصطلاح المفكرين الغربيين والمستشرقين وأذنابهم يسمونهم: المصلحين أو زعماء الإصلاح حتى أنهم أطلقوا على حركة كمال أتاتورك: (الحركة الإصلاحية)!! قال: 'وعكس ما عليه القانونيون من حكمهم على القانون بحاجة العالم، بل ضرورتهم إلى التحاكم إليه، وهذا سوء ظن صِرْف بما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ'.
أي: أن من يقول: لا بد أن نضع القوانين أو نتحاكم إلى القوانين في شئون العقوبات، أو ما يسمونه بقانون العقوبات أو الجزاء، أو في القانون المدني، أو في القانون التجاري، أو في المعاملات التجارية عموماً، أو في المعاملات المالية، أو في أي جانب من هذه الجوانب، من يقولون ذلك فهم إنما يسيئون الظن بما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن معنى كلامهم ولازمه: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إما أنه لم يعلم بأن العصر سيتغير، وأن الأحوال سوف تتطور، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ومن قال أو اعتقد ذلك فقد كفر.
وإما أن يقولوا: إنه يعلم لكنه لم ينزل لذلك أحكاماً، فيكون - تعالى الله عن ذلك - قد تركنا هملاً في أمور عظيمة نحتاجها، ويكون هذا الكتاب ليس فيه تفصيل كل شيء، ويكون أمره بأن نحتكم إلى الله ورسوله في كل شيء، وأن نرد كل شيء تنازعنا فيه إلى الله لغواً؛ لأنه يأمرنا بالرجوع إليه في كل شيء مع أنه لم ينزل فيه أحكاماً لكل شيء، وهذا تناقض لا يفعله أي عاقل، فكيف بالله -تعالى الله عن ذلك- فهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليمٌ حكيم، وهو الذي أنزل هذا الكتاب مفصلاً: {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] وهو الذي أمرنا أن نجتهد وأن نبحث، وجعل للمجتهد المصيب أجرين وللمخطئ أجر.
يقول: 'ومحض استنقاص لبيان الله ورسوله، والحكم عليه بعدم الكفاية للناس عند التنازع وسوء العاقبة في الدنيا والآخرة.
إن هذا لازم لهم'.
فلا بد أن يلزمهم ذلك، أو أن يذعنوا لحكم لله ويتوبوا ويعودوا إلى شرع الله وإلى ما أنزل الله.
قال: 'وتأمل أيضاً ما في الآية الثانية من العموم، وذلك في قوله تعالى: {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] فإن اسم الموصول - (ما) بمعنى الذي- مع صلته من صيغ العموم عند الأصوليين وغيرهم، وذلك العموم والشمول هو من ناحية الأجناس والأنواع كما أنه من ناحية القَدْر'.
فمن ناحية النوع: كمال أو دم أو عرض أو حقوق أو بين الدول بعضها مع بعض، أو بين دولة وفرد، أو بين جماعة وجماعة، أو بين فرد وفرد، فكل ذلك داخل في "ما" من حيث النوع.
ومن ناحية المقدار: في درهم أو درهمين أو أكثر أو أقل لأنها تدل على العموم.
يقول: 'فلا فرق هنا بين نوع ونوع، كما أنه لا فرق بين القليل والكثير، وقد نفى الله الإيمان عمن أراد التحاكم إلى غير ما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المنافقين'.
هذا دليل آخر كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60] وهنا يظهر فقه الشيخ -رحمه الله- ودقة استنباطه؛ فإن قوله: (أَلَمْ تَرَ) أسلوب يستلفت الذهن، فكأنه يقول: انظر وتعجب، أيها المخاطب! وإن كان الأصل في الخطاب أنه للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في هذه الآية وفي كل آية فيها هذا الأسلوب {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1] ثم قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} [النساء:60] فهم ما آمنوا في الحقيقة ولكنهم يزعمون، والزعم هو الكذب يقوله ولا حقيقة ولا صحة له.
يقول: 'فإن قوله عز وجل: {يَزْعُمُونَ} [النساء:60] تكذيب لهم فيما ادعوه من الإيمان، فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع الإيمان في قلب عبد أصلاً، بل أحدهما ينافي الآخر'.
وانظروا قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا} [النساء:60] فهم لم يتحاكموا إلى الطاغوت، ولم يتبعوه، ولم يتخذوه ديناً، ولم يلزموا الناس به ويردوهم إليه بالقوة؛ بل أرادوا أن يتحاكموا إلى الطاغوت، ويرون أنه لا بأس به، ومع ذلك نفى الله عنهم الإيمان ووصفهم بما وصفهم به.
وبهذا يظهر أن الأمر يتعلق بالإرادة، فإن الإنسان إذا أراد الكفر قد يكفر بذلك إذا استحله، وإن لم يفعل الكفر، ومثل هذا من لا يمتلك الأموال والبنوك بل هو فقير، لكنه يدافع عن أكلة الربا وعن البنوك؛ فإنه يأثم مثلهم وإن استحل ذلك فيكفر وإن لم يأكل.(2/6)
موقف القانونيين من الأحكام الشرعية
قال: ' وتأمل قوله عز وجل: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء:60] ' فبعد أن قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء:60] أكَّد ذلك بقوله: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء:60]، وهذا من أصرح الأدلة على أن تحكيم غير الشرع كفر وتحكيم القوانين الوضعيه كفر.
قال: ' تعرف منه معاندة القانونيين وإراداتهم خلاف مراد الله منهم حول هذا الصدد، فالمراد منهم شرعاً، والذي تُعبدوا به هو: الكفر بالطاغوت لا تحكيمه: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة:59] ' قال تعالى: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء:60] قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256] والعروة الوثقى: هي شهادة أن لا إله إلا الله، وهي نفي الكفر بالطاغوت وإثبات الإيمان بالله.
فإذا تأمل الإنسان ذلك -كما يقول الشيخ رحمه الله- عرف معاندة القانونيين وإرادتهم خلاف مراد الله، فالله تعالى أمر أن يكفر بالطاغوت، وأن يتحاكم إلى ما أنزل الله، وهؤلاء يوجبون على الناس التحاكم إلى ما يشرعون، ويصرفونهم عن التحاكم إلى شرع الله وإلى دينه.(2/7)
القانونيون وتناقضاتهم
يقول الشيخ: 'وأما القانونيون فمتناقضون حيث يزعمون الإيمان بما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويناقضون ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً' سبحان الله! وكأنَّ هذه الآيات ما نزلت إلا علينا في هذا الزمن ' وقد قال الله تعالى في أمثال هؤلاء: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} [النساء:151] ' أي: الذين يفرقون بين الله ورسوله، ويقولون: {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [النساء:150]، وقال تعالى: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} [الحجر:90] أي: الذين قسموا القرآن والدين، وكما قال تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:91] أي: أجزاءً يأخذون بعضاً ويتركون بعضاً.
فتجد هؤلاء يؤمنون بالله ويوحدونه، ويقرون أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم النبيين، وأنه نبي للعالمين، وأنه أمرنا بالصلاة والزكاة والصوم وإلخ.
كل هذا يقرون ويؤمنون به؛ لكن إذا ما جئنا إلى الكلام عن الربا مثلاً: تراه يضطرب، ويجادل، ويؤول النصوص ويحرفها، فقائل يقول: نريد الاشتراكية؛ لأنها تمنع الاستغلال، وتساوي في الملكية بين الشعب والحكومة! ومع أنه يصلي ويصوم إلا أنه في الجانب الاقتصادي يريد الاشتراكية.
وآخر يقول: لا.
لا نريد الاشتراكية، نحن نريد الاقتصاد الحر، لأنه ليس فيه قيود بأن هذا حلال وهذا حرام؛ فهو يريد الرأسمالية!! وتجد ثالثاً يقول: الدين كله طيب ونؤمن به؛ لكن موضوع المرأة مشكل فإن المرأة في بعض دول العالم أصبحت رئيسة للبلاد، وفي بعضها وزيرة وأنتم لا تزالون تمنعونها من العمل، وتقولون: تبقى في بيتها، ولا تشهد حتى صلاة الجماعة، والرجال قوامون على النساء!! هذا مع أنه يصلي ويصوم.
وتجد رابعاً يقول: في مسألة معاداة الكفار، وعدم موالاتهم مع كثرة النصوص المبينة، لذلك تجده يقول: كان هذا في السابق قبل النظام العالمي الجديد، أما الآن فقد أصبحنا أسرة دولية، ومجتمعاً دولياً واحداً، ولم يعد هناك عداوات، فتقول له: ونصوص القرآن؟ فيقول: القرآن صحيح ولا ينكره؛ لكنه يفرغ الآيات عن مقتضاها ويحرفها؛ ولهذا لم ترَ في إذاعات العالم الإسلامي وصحافته وتلفازه من يقول ويصف دول الكفر بأنها دول كافرة، وإنما قد يقولون: دولاً غير إسلامية.
والأمثلة على ذلك تطول، ونظرة سريعة على أحوال كثير من المسلمين اليوم تبين لك بجلاء أن منهم من يؤمن ببعض ويكفر ببعض، والله المستعان.
يقول الشيخ رحمه الله: ' أما القانونيون فمتناقضون '.
لإنهم يفرقون بين الله ورسله، ويفرقون بين أحكام الله وبين أحكام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا كثيراً جداً، فتجد أن بعض الناس يهتم ويحرص على بعض السنن، مثل: تقديم طعام العَشاء على صلاة العِشاء إذا حضر، لكن لو ذكرت له اللحية -مثلاً- فإنه يأبى أن يلتزم بها، وقس على ذلك، فيأخذ ما يوافق الهوى ويترك منها ما يخالفه، نعوذ بالله من ذلك.
وتجد ذلك في بعض المسائل الفقهية المختلف فيها؛ فإذا أراد أن يكشف وجه المرأة، قال لك: قال بعض العلماء: إنه ليس بعورة ولا شيء فيه! أما إذا كان الكلام عن قريبته، فهو لا يريد أن يراها أحد، ويقول: لا يجوز الكشف، وهذا هو ما سماه الله نفاقاً، وهو النفاق بعينه؛ لأنه جعل القرآن والسنة عضين، يأخذ منهما ما يوافق الهوى ويترك ما يخالفه!! يقول رحمه الله: 'ثم انظر كيف ردت هذه الآية الكريمة على القانونيين ما زعموه من حسن زبالة أذهانهم، ونحاتة أفكارهم بقوله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] ' قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: 'ينكر تعالى على من خرج من حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعَدَل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله؛ كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم'.
فهذا هو المثال الأول: وهو أن أهل الجاهلية كانوا يتحاكمون إلى الطواغيت والكهان، فيذهبون إلى الكاهن ليحكم بينهم، أو إلى شيخ القبيلة، أو إلى الأزلام يضربونها.
قال -والكلام لا يزال لـ ابن كثير -: 'وكما يُحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم كتاباً مجموعاً من أحكام، قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه'.
هذا هو المثال الثاني، وهو يدل على فقه ابن كثير وفهمه للواقع.
وهذا الكتاب الذي وضعه جنكيز خان هو " الياسق "، وكما قال الشيخ -رحمه الله-: 'وقد اقتبسه من شرائع شتى وكثير مما فيه مأخوذ من الشريعة الإسلامية'.
فكأن جنكيز خان جعل الشريعة الإسلامية مصدراً أصلياً ولم يجعله احتياطياً، فكيف بمن يجعل الشريعة الإسلامية مصدراً احتياطياً وليس هو أول المصادر الاحتياطية، فغالباً ما يكون الثالث أو الرابع؟! يقول: 'فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله، وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمن فعل ذلك -أي: من تحاكم إلى هذه الأهواء سواء كانت الجاهلية أو أحكام الياسق - فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يُحكِّم سواه في قليل ولا كثير، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة:50] أي: يبتغون ويريدون وعن حكم الله يعدلون: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] أي: ومن أعدل من الله في حكمه، لمن عَقَل عن الله شرعه وآمن به وأيقن، وعلم أن الله أحكم الحاكمين، وأرحم من الوالدة بولدها، فإنه تعالى العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء' انتهى كلام ابن كثير.
فهذه الصفات كلها لله وحده.
أولاً: علم الله تبارك وتعالى الذي أحاط بكل شيء علماً، وهو كما قال الشيخ الأمين رحمه الله: أنه لا يستطيع أن يشرع إلا من كان علمه محيطاً بكل شيء وليس ذلك لأحد إلا لله وحده تبارك وتعالى.
وثانياً: قدرة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على كل شيء؛ فإن العاجز الضعيف لا يمكن ولا يصلح أن يكون مشرعاً.
وثالثاً: عدل الله الكامل، فالله هو العادل في كل شيء، ثم هو أرحم من الوالدة بولدها، وعندما قال الله تعالى في حق عبده ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] ظن كثير من الناس أن رحمة الله تعالى بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مختصة بالمسلمين، والحقيقة أن الله رحم به العالمين، حتى الكفار نالهم من رحمة الله ببعثة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشيء الكثير، فإن أهل الذمة أمنوا على أنفسهم وعلى أموالهم، والمحاربون الذين يحاربهم المسلمون وجدوا هذه الحرب التي لا نظير لها في التاريخ حرباً إسلامية، فلا مثلة فيها، ولا قتل لصغير ولا لكبير ولا امرأة ولا للرهبان المعتكفين في الصوامع.(2/8)
اتباعهم لإرادة الشيطان
قال: 'ثم تأمل قوله تعالى: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ} [النساء:60] كيف دل على أن ذلك ضلال؟! '.
وهذا حال من يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت.
فيقول الشيخ: 'وهؤلاء القانونيون يرونه من الهدى'.
أي: التحاكم إلى الطاغوت، ويقولون: هذا شيء حسن، وهذا رُقي وتطور، بل ربما يفتخرون بقولهم: في عام كذا وضعنا نظاماً وقانوناً للبنوك الاقتصادية، وفي عام كذا وضع القانون المدني، ويرون أن هذا اهتداءً، وأن الأمة قبله كانت في حالة تخلف وفي ضلال، عكس ما قاله الله تبارك وتعالى تماماً!! كما دلت الآية.
يقول الشيخ: 'كما دلت الآية على أنه من إرادة الشيطان'.
فالتحاكم إلى الطواغيت أو القوانين هذا من إرادة الشيطان، فهو يريد أن يُضلهم فيتحاكمون إليها.
يقول الشيخ: 'عكس ما يتصور القانونيون من بُعْدهم من الشيطان، وأنه فيه مصلحة الإنسان، فتكون على زعمهم مرادات الشيطان هي صلاح الإنسان، ومراد الرحمن وما بعث به سيد ولد عدنان، معزولاً من هذا الوصف ومنحىً عن هذا الشأن'.
فهم قلبوها، فجعلوا الحكمة والرحمة والمصلحة في مرادات الشيطان، وأمَّا ما أنزله الرحمن، وما أراد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهذا فيه-كما يزعمون - التأخر والانحطاط، أو عدم الصلاحية.
قال: 'وقد قال تعالى منكراً على هذا الضرب من الناس، ومقرراً ابتغاءهم أحكام الجاهلية، وموضحاً أنه لا حكم أحسن من حكمه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] فتأمل هذه الآية الكريمة، وكيف دلت على أن قسمة الحكم ثنائية '.
فالحكم حكمان لا ثالث لهما، وأي حكم في الدنيا لا يخرج عن هذين الحكمين.
يقول: ' وأنه ليس بعد حكم الله تعالى إلا حكم الجاهلية، الموضح أن القانونيين في زمرة أهل الجاهلية شاءوا أم أبوا، بل هم أسوأ منهم حالاً وأكذب منهم مقالاً، ذلك أن أهل الجاهلية لا تناقض لديهم حول هذا الصدد '.
والجاهلية المطلقة هي الجاهلية، وإن كانت الجاهلية قد انتهت ببعثة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا أن هناك جاهلية حديثة لكنها مقيدة ببلد أو بجماعة أو بفرد أو بحكم ما كالجاهلية الغربية بأحكامها، ومن يريد التحاكم إلى الطاغوت من أبناء هذه الأمة.
يقول الشيخ: ' ذلك أن أهل الجاهلية لا تناقض لديهم حول هذا الصدد ' لأنهم لا يؤمنون بالله ولا برسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يدّعون ذلك، ولا يزعمون أنهم يؤمنون بالقرآن؛ فلذلك تحاكموا إلى خلاف ما جاء في القرآن والسنة فهم ليسوا متناقضين؛ لكن المتناقض هو من يزعم الإيمان ويدعيه ثم يتحاكم إلى أحكام هؤلاء الجاهليين.(2/9)
وأن احكم بينهم بما أنزل الله
قال الشيخ رحمه الله: 'وقد قال -عز شأنه- قبل ذلك مخاطباً نبيه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:48]، وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49]، وقال تعالى مخيّراً نبيه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الحكم بين اليهود والإعراض عنهم إن جاءوه لذلك: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42] والقسط هو العدل، ولا عدل حقاً إلا حكم الله ورسوله، والحكم بخلافه هو الجور والظلم والضلال والكفر والفسوق'.
يبين الشيخ أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمر نبيه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها في هذه الآيات الثلاث، وهي: {فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:48]، وفي الأخرى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49]، وفي الثالثة: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة:42]، وهذه كلها تدل على أنه لا يجوز لأحد أن يحكم إلا بما أنزل الله، وأن الحكم بما أنزل الله هو القسط والعدل، وأن ما عداه هو الجور والظلم والكفر، أما تخيير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الحكم بين الكفار أو تركه، فبعض العلماء يقول: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُيِّر في أول الآيات ثم أوجب الله تبارك وتعالى عليه أن يحكم بينهم بقوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:48] فلا تخيير؛ بل يجب على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحكم بينهم بما أنزل الله، وبعض العلماء يقولون: لا نسخ في الآيات وإنما المقصود بالآية الأولى قوم، والمقصود بالآية الأخرى آخرون، فالذين خُيِّر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أن يحكم بينهم أو أن يعرض عنهم قوم ليسوا داخلين تحت حكمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليسوا من أتباع الدولة الإسلامية التي رأسها وحاكمها هو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا هو الراجح لأن اليهود منهم من كان داخلاً تحت حكم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنهم: قبائل أخرى كخيبر لم يدخلوا في حكمه إلا بعد أن جاهدهم.
والمقصود أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمر في هذه الآيات الثلاث أن يحكم بينهم بما أنزل الله، وأن هذا الحكم بما أنزل الله هو القسط، ثم يقول الشيخ بعد ذلك: 'ولهذا قال تعالى بعد ذلك: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] '.
فهذه الثلاث الآيات في موضوع الحكم، وهي ضمن الآيات التي سوف نتعرض لها -إن شاء الله تعالى- بالتفصيل، ونبين هل هي أوصاف لموصوف واحد؟ فالذين يحكمون بغير ما أنزل الله تنطبق عليهم هذه الصفات الثلاث بأنهم كافرون وظالمون وفاسقون؟ أو أن الكافرين قوم، والظالمين قوم، والفاسقين قوم؟ ثم من هم هؤلاء: هل هم أهل الكتاب خاصة؟ أو أنهم كل من تشملهم الآية من اليهود ومن المسلمين ومن غيرهم؟ أو أنّ هناك بعض تفصيل؟ أو أن المسألة كفر دون كفر؟! كل هذا سيرد -إن شاء الله تعالى- وإنما المقصود هنا أن الشيخ يريد أن يبين أن الله تعالى أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ثلاث آيات بأن يحكم بينهم بما أنزل الله، وأن يحكم بينهم بالقسط، وأن من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق.(2/10)
مظاهر الحكم بغير ما أنزل الله
قال: 'فانظر كيف سجَّل الله تعالى على الحاكمين بغير ما أنزل الله الكفر والظلم والفسوق، ومن الممتنع أن يُسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً ولا يكون كافراً، بل هو كافر مطلقاً، إما كفر عمل، وإما كفر اعتقاد، وما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية من رواية طاوس وغيره يدل أنَّ الحاكم بغير ما أنزل الله كافر، إما كفر اعتقاد ناقل عن الملة، وإما كفر عمل لا ينقل عن الملة'.
وهذا التفصيل يدل على فقه الشيخ، وما أظن أحداً سبقه إليه.(2/11)
تجويز الحكم بغير ما أنزل الله
الرابع: ' ألا يعتقد كون حكم الحاكم بغير ما أنزل الله مماثلاً لحكم الله ورسوله، فضلاً أن يعتقد كونه أحسن منه، لكن اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله، فهذا كالذي قبله يصدق عليه ما يصدق عليه، لا عتقاده جواز ما عُلِمَ بالنصوص الصحيحة الصريحة القاطعة تحريمه'.
وهذا -أيضاً- نوع كالذي قبله نوع من أنواع الكفر الأكبر الناقل من الملة - نسأل الله السلامة والعافية - وكثير من الناس لا يأبهون ولا يتنبهون لهذا، ولو أن المسلمين عرفوا حقيقة العقيدة والتوحيد، وحقيقة تعظيم كتاب الله وتعظيم شعائر الله، وتعظيم حرمات الله، وكانت فيهم الغيرة على دين الله؛ لكان حالهم اليوم غير هذا الحال وإلى الله المشتكى.(2/12)
سن القوانين
يقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: 'الخامس: وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندةً للشرع، ومكابرةً لأحكامه، ومشاقةً لله ولرسوله، ومضاهاةً بالمحاكم الشرعية، إعداداً وإمداداً وإرصاداً، وتأصيلاً وتفريعاً وتشكيلاً وتنويعاً وحكماً وإلزاماً، ومراجع ومستندات.
فكما أنَّ للمحاكم الشرعية مراجع مستمدات، مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلهذه المحاكم مراجع، هي: القانون المُلفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك'.
هذا النوع الخامس هو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع ومكابرة لأحكامه؛ لأن الأنواع الأولى قد تفعل فردياً أو على سبيل الاعتقاد، لكن هذا النوع أعظم وأشد ضرراً وخطراً لأنه عام للأمة، وهو أن يأتي أحد فيفتح المحاكم غير الشرعية ويقيمها في البلاد طولاً وعرضاً، ويجعل لها أنواعاً وتفريعات ومراجع ومستندات إلى آخر ما ذكر الشيخ رحمه الله، ويلزم الناس بالتحاكم إليها والرجوع إليها عند التنازع وألاَّ يرجعوا إلى سواها.
فهذا أكبر وأعظم وأشد، في جحد ما أنزل الله تبارك وتعالى وإنكاره وعدم الإقرار به، وإن قالوا بألسنتهم: إنا نقربه؛ لأن الواقع يخالف ذلك تماماً، وفي ذلك -كما ذكر الشيخ- معاندة للشرع حيث يفرض حكم غير حكم الله تبارك وتعالى على الناس، وفيه مكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يتخذ غير ما أنزل شرعاً، وأن يتخذ سبيل غير سبيل المؤمنين، ومضاهاةً للمحاكم الشرعية، وهذه من علامات أنه كفر أكبر، فإن من دلائل ذلك أن في هذه المحاكم وفي بنائها وفتحها وتفريعها مضاهاة للمحاكم الشرعية.(2/13)
مساواة حكم غير الله به
يقول: ' النوع الثالث: ألا يعتقد كونه أحسن من حكم الله ورسوله، لكن اعتقد أنه مثله'.
وهذا مثلما قال التتار: رجلان عظيمان، محمد وجنكيز خان، ومثلما يقول بعض الناس اليوم: ينبغي للناس أن يتبعوا الأحكام التي جاءت بها الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية وكأنها سواء، فنسأل الله السلامة والعافية.
فيقول: 'فهذا - أي: من اعتقد أن حكم غير الله مساوياً لحكمه - كالنوعين اللذين قبله، في كونه كافراً الكفر الناقل عن الملة'.
أي: كمن فضَّل القوانين الوضعية على المنزل، أو كمن جحد أحقية الحكم المنزل.
يقول الشيخ: 'كافر الكفر الناقل عن الملة لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق'.
كما يقول أهل النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97 - 98] فهم في ضلال مبين؛ لأنهم سوّوهم برب العالمين في التعظيم والمحبة والإجلال واتباع أمرهم وتقدير كلامهم، وهذا هو العدل الذي قال الله تبارك وتعالى فيه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] والعدل: هو التسوية في المحبة والإجلال، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165].
ولا يشترط أن يسووا بينهم في الخلق والرزق، والإحياء والإماتة والتدبير، بل كان الجاهليون يعتقدون أن الخلق والرزق والإحياء وتدبير الأمر، وإنزال المطر، ونحو ذلك كله هو من فعل الله وحده لا شريك له قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]، والآية الأخرى: {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87].
فلم تكن القضية عندهم في الخلق والرزق، وإنما كانت في الإجلال والتعظيم والتوقير، فمن قال: إن كلام الله وحكم الله تعالى مثل حكم ذلك القانون الوضعي الخبيث أو نظيره، فإنه يكون كافراً كفراً أكبر ناقلاً له عن الملة، لأنه سوّى بين الخالق والمخلوق.
يقول: 'لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق، والمناقضة والمعاندة لقوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى:11] ونحوها من الآيات الكريمة الدالة على تفرد الرب بالكمال، وتنزيهه عن مماثلة المخلوقين في الذات والصفات والأفعال، والحكم بين الناس فيما يتنازعون فيه '.
وهذا يُذكرنا بكلام الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله عندما قال: ما صفات من يستحق أن يحكم بين الناس؟ {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} [الشورى:10 - 11] مثلاً.
فمن هذه صفته فهو الذي يتحاكم إليه، فإذا جاء أحد فقال: حكم الله وحكم غير الله سواء، فمعنى ذلك أنه خلع تلك الصفات التي تفرد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بها على ذلك المخلوق، الذي لا يمكن أن تكون فيه هذه الصفات، وبهذا تجد التشابه الكبير بين كلام الإمام الشنقيطي والشيخ محمد بن إبراهيم؛ وذلك لأن أهل السنة ينهلون من منهل واحد، ويغترفون من معين واحد، فمهما اختلفت عصورهم أو ألفاظهم أو اجتهاداتهم فإن هنالك تشابه واتفاق فيما يذهبون إليه من الأحكام ومن الآراء.(2/14)
فهم خاطئ
يقول: 'وليس معنى ما ذكره العلماء من تغير الفتوى بتغير الأحوال ما ظنه من قلَّ نصيبهم أو عُدِم من معرفة مدارك الأحكام وعللها، حيث ظنوا أن معنى ذلك بحسب ما يلائم إراداتهم الشهوانية البهيمية، وأغراضهم الدنيوية، وتصوراتهم الخاطئة الوبية، ولهذا تجدهم يحامون عليها، ويجعلون النصوص تابعةً لها، منقادة إليها مهما أمكنهم، فيُحرفون لذلك الكلم عن مواضعه، وحينئذٍ معنى تغير الفتوى بتغير الأحوال والأزمان مراد العلماء منه: ما كان مُستصْحَبة فيه الأصول الشرعية، والعلل المرعية، والمصالح التي جنسها مراد لله تعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ'.
والشيخ رحمه الله يرد على من أثاروا في هذه الأيام مسألة تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان -وإن كان لما قالوا نصيب من الحق- إلا أن الدين في نظر هؤلاء يتجدد ويتقلب بحسب هذه الإرادات الشهوانية، والأغراض البهيمية كما يشاءون.
ولذلك ينبغي أن يُعلم أن الأحكام الشرعية ثابتة، وأنها مبنية على العلل الثابتة التي لا يُمكن أن تتغير، فالناس هم الذين يتغيرون، ويجب أن نرد تغيرهم إلى الحق الذي تغيروا عنه، فكل الأحكام جعلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى محققة للمصالح ونافية للمفاسد، والخير والشر، والمصالح والمفاسد كلها ثابتة لا تتغير.
أما مسألة الضروريات أو ما يباح في وقت الضرورة فهذا شيء آخر، فهناك أمور تدخلها الضرورة، وهناك أمور لا تدخلها الضرورة كما بين ابن القيم رحمه الله.
فمثلاً: كون الميتة تُباح أو يُباح شرب الخمر للمضطر {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173] وما أشبه ذلك، فهذا يدخل في بعض الأحكام.
أما مسألة الإيمان والكفر والموالاة والمعاداة بالقلب فلا اضطرار في ذلك أبداً، وإنما نص الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعفا عن أمر واحد فقط في حال الاضطرار وهو: أن يقول الإنسان بلسانه كلمة الكفر، كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَان} [النحل:106] فالقلب لا ضرورة فيه، ولا يستطيع أحد كائناً من كان أن يبحث أو يفتش عن قلبك، وأن يعلم ما في داخلك، أما اللسان فيسمعونه، فلهذا إذا اضطر الإنسان في حالة التعذيب الشديد -كما وقع لبعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في أول الإسلام- أن يقول كلمة الكفر بلسانه، ولكنه في قلبه يعتقد الحق ويؤمن به ولا يتزحزح عنه.
فتغير الفتوى -حنيئذٍ- حق، ولكن لا تتغير الأحكام، ولا تتغير النصوص، ولا تتغير مقاصد الشارع، والحِكَم التي جعلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مناطاً للأحكام، ولذلك إذا تغيَّر الحكم -كما في حالة الضرورة- فإننا نجد أن العلة وأن المناط الشرعي مقصود هناك.
فمثلاً: لمَّا حرَّم الله تبارك وتعالى الميتة كان ذلك لحكمة ومصلحة مقصودة من ذلك، فإذا أباحها للمضطر لم يتغير الحكم ولم تتغير المصالح، بل هي موجودة وهي حفظ النفس، إذا وصل الحال بالإنسان إما أن يموت وإما أن يأكل من الميتة، وفي هذا الموضع المصلحة أعظم وأظهر لما فيها من الضرر في دينه وفي دنياه، فهنا نقدم مصلحة على مصلحة.
إذاً: فالمصالح باقية، والحِكَمُ باقية، والنصوص باقية، والأحكام باقية، وإنما تتغير بحسب الأحوال، أما إذا خضع الأمر لأهواء الناس أو لآرائهم أو لشهواتهم، أو كما يسمونه هم [لنمو المجتمع] ومسايرةً للمجتمعات الحديثة والمجتمعات الملحدة الكافرة، فإن ذلك خروج عن هذه الحكم والمصالح جميعاً، ولذلك فلا حجة فيه.
فهم يقولون نحن ننشر الفساد ونبثه بين الناس؛ فإذا ما انتشر فإنهم سوف يقبلون بالواقع ويفتون بالجواز ولو بعد عشرين سنة، فالمناط في نظر هؤلاء هو رغبة الناس وأهوائهم، بينما نحن نقول: المسألة مرتبطة بأصول وبأحكام شرعية قطعية ثابتة لا تتغير كما ذكر الشيخ رحمه الله.
فيقول: 'ليس معنى ما ذكره العلماء من تغير الفتوى بتغير الأحوال ما ظنه من قل نصيبهم أو عُدِمَ مِنْ معرفة مدارك الأحكام وعللها، حيث ظنوا أن معنى ذلك بحسب ما يلائم إراداتهم الشهوانية البهيمية، وأغراضهم الدنيوية، وتصوراتهم الخاطئة الوبية، ولهذا تجدهم يحامون عليها، ويجعلون النصوص تابعة لها، منقادة إليها، مهما أمكنهم، فيُحرفون لذلك الكلم عن مواضعه'.
وما أكثر ما يقع من تحريف الكلم عن مواضعه والاستدلال بالآيات في غير مواضعها.
يقول: 'وحينئذ معنى تغير الفتوى بتغير الأحوال والأزمان مراد العلماء منه: ما كان مستصحبة فيه الأصول الشرعية، والعلل المرعية، والمصالح التي جنسها مراد لله تعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ'.
وذلك كما لو كثر في الناس شرب الخمر، أكثر من ذي قبل، فقيل: إنه ما دام ذلك قد وقع فلنجعل عقوبة السائق إذا خالف أو عمل حادثاً وهو سكران ضعف ما إذا كان غير سكران في العقوبة المعروفة العادية في النظام أو الحق، ليكون زجراً له عن ذلك، فالمصلحة هنا أن ينزجر الناس عما حرم الله.
وهكذا فإن كل ما نراه يخل بهذه المصلحة فإنه يجوز لنا أن نجتهد وأن نحدث ما يمنع ويردع الإخلال بهذه المصلحة من أحكام أو من عقوبات ما دام في ضمن التعزيز الشرعي والضوابط الشرعية.
قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه- 'يُجدُّ للناس من الأقضية مثل ما يُجدُّون من القضايا'.
فكلما استجد الناس قضية نجد لهم أيضاً نحن من الأقضية، فنقضي على تلك، وهكذا فما دامت المصلحة والحكمة مراعاة فإن تغيير الفتوى جائز، بل قد يكون ضرورياً، وفي ذلك حكمة عظيمة من حكم التشريع، وهو أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد جعل هذا الكتاب محكماً، وجعل أحكامه محكمة، ومع ذلك فإنها تتلائم فعلاً مع الأحوال، وتتحقق المصلحة في أي حال كانت، وفي أي ظرف كان، وفي أي زمان وفي أي مكان، ولهذا قال بعض العلماء: حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله، وليس معنى هذا أن يتلاعب بالدين باسم المصلحة، فما نص الشرع على تحريمه فهو مفسدة لا مصلحة فيه بحال، لكن المراد بهذا ما كان من الأمور المتغيرة المتجددة الحادثة واجتهد من له الحق في الاجتهاد أن في ذلك مصلحة فثم شرع الله.
يقول الشيخ: 'ومن المعلوم أن أرباب القوانين الوضعية عن ذلك بمعزل، وأنهم لا يقولون إلا على ما يلائم مراداتهم كائنة ما كانت، والواقع أصدق شاهد'.
أهل القوانين الوضعية لا ينظرون إلى مسألة المصالح الشرعية والعلل المرعية، وإنما ينظرون إلى أهوائهم وشهواتهم.
وبهذا ينتهي الحديث عن النوع الثاني من أنواع الكفر الاعتقادي.(2/15)
تفضيل حكم غير الله على حكم الله
قال: 'الثاني: ألا يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله كون حكم الله ورسوله حقاً'.
وهذا بخلاف الأول الذي جحد وأنكر ذلك.
يقول: "لكن اعتقد أن حكم غير الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحسن من حكمه وأتم وأشمل لما يحتاجه الناس من الحكم بينهم عند التنازع'.
وهذا النوع يقع في كثيرٍ من الكتابات أو التعبيرات، فيأتي بعض الناس ويتكلم في التربية أو في القانون أو في النظام الاجتماعي - مثلاً - فيذكر كيف كان الحال عند الرومان، ثم عند اليونان، ثم في الإسلام، ويبين أن الإسلام جاء بتوجيهات في ذلك، ويذكر بعض الأحاديث ثم يذكر النظريات الحديثة ويتوسع فيها، ويبين فضلها ومزاياها وهذا يدلك على أن هذا الكاتب يرى أن هذه النظرية أفضل مما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن لم ينطق وإن لم يتكلم، لكن عرضه وسياقه للموضوع يشعر ويوحي بذلك، نسأل الله السلامة والعافية.
يقول الشيخ: 'إما مطلقاً -أي: أن بعض الناس يرى أن حكم غير الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل من حكمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مطلقاً- أو بالنسبة إلى ما استجد من الحوادث التي نشأت عن تطور الزمان وتغير الأحوال'.
فتقول بعض الدول: أمَّا ما يتعلق بالأحوال الشخصية كالطلاق، والحقوق، والمعاشرة بين الزوجين، والنفقة، والعدة، فهذه تؤخذ من الإسلام، ويتحاكم إليه، أما في النواحي التجارية وأنظمة العمل والعمال والقوانين المدنية وما إلى ذلك، فلا يرى الرجوع في ذلك إلى الإسلام.
والبعض يرى أنه لا في هذا ولا في هذا حتى بالنسبة للأحوال المدنية أو الأحوال الشخصية لا يتحاكم إلى الإسلام؛ لأن تغير الإنسان اقتصادياً واجتماعياً يجعله يتغير شخصياً ونفسياً وخلقياً وسلوكياً، فما دام أن ما سبق قد تغيَّر، فإن الدين وحكمه لا يتمشَّى معه، فينكرون بذلك حكم الله في الكل، نسأل الله السلامة والعافية.
يقول: 'وهذا -أيضاً- لا ريب أنه كفر لتفضيله أحكام المخلوقين التي هي محض زبالة الأذهان، وصرف حثالة الأفكار، على حكم الحكيم الحميد -هذا تعليل من الشيخ رحمه الله في تكفير القائل بهذا القول- ثم قال الشيخ: وحكم الله ورسوله لا يختلف في ذاته باختلاف الأزمان، وتطور الأحوال، وتجدد الحوادث، فإنه ما من قضية -كائنة ما كانت- إلا وحكمها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصاً أو ظاهراً أو استنباطاً أو غير ذلك، عَلِمَ ذلك من علمه وجهله من جهله'.
فحكم الله لا يتغير، والله تبارك وتعالى قد أتمه {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلا} [الأنعام:115]؛ فقد أتم الله تعالى الكتاب صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام، وأنزله مفصلاً، وجعله تبياناً لكل شيء، فهو شامل، والحكم الذي فيه حكم معين ومحدد، لا يختلف باختلاف الأزمان، وتغير الأحوال والبيئات أبداً.
وما من قضية ولا كائنة ولا واقعة تقع إلا وحكمها في كتاب الله وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إما [نصاً] بآية تدل عليها أو حديث، كما جاء في آيات الدين، وآيات الربا، والأحكام المعروفة، كالصيام والزكاة وما أشبه ذلك، وكذلك في السنة كما هو معلوم.
[أو ظاهراً]: بأن تدل عليها النصوص دلالة ظاهرة، وتكون الدلالة على غيرها أرجح، لأن النص هو ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً، وأما الظاهر فهو ما احتمل وجهاً آخر؛ ولذلك يختلف العلماء وتتنوع اجتهاداتهم.
[أو استنباطاً]: فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد جعل هذا الكتاب العظيم مجالاً لأولي الألباب، لأولي النهي، لقوم يعقلون، لقوم يتفكرون، أي: يتفكرون ويستنبطون ويستخرجون من هذا الذكر الحكيم والقرآن العظيم ما يقيمون به حياتهم، فيتحاكمون إليه، وأكثرهم فقهاً هو من وفقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فكان أكثر تدبراً واستنباطاً من غيره، فإنه يستنبط ويعلم ما لا يعلمه الآخر ولكل أجره ونصيبه.
فالاستنباط وجه من وجوه الاستدلال بالكتاب والسنة -وهذا واضح- فإن كثيراً من الأشياء التي استجدت في هذا العصر، يستدل عليها علماؤنا الأجلاء بالآيات من كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا من فضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على العلماء وعلى الناس.
ومن حكمته تعالى وفضله أن جعل هذا الكتاب بهذه المنزلة والمكانة، ولو جاءت عصور أخرى، وتغيرت الأحوال، وتجددت بأشكال أخرى؛ فإنه يُقيِّض ويُسخِّر من يستنبط الأحكام ويأخذها من هذا الكتاب، ويتحاكم الناس إليها، ويكونون سائرين على ما أنزل الله بمقتضى هذا الاستنباط الذي أوتيه أرباب الفقه والفكر والتدبر.(2/16)
جحد أحقيَّة حكم الله
قال: 'أما الأول وهو كفر الاعتقاد'.
هذا هو الكفر المخرج من الملة، الذي يكون صاحبه قد ارتد وخرج من دين الإسلام بالكلية ولا يرجع إليه إلا بتجديد الإيمان والتوبة من هذا الكفر.
قال: ' فهو أنواع، أحدها: أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله أحقية حكم الله ورسوله'.
فيقول: لا يجب على الناس أن يتحاكموا إلى ما أنزل الله، فهذا لا ريب ولا شك في تكفيره؛ لأنه أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، وجحد أمراً قطعياً في كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومتواتراً في سنة وسيرة محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
يقول: 'وهو معنى ما رُوي عن ابن عباس واختاره ابن جرير أن ذلك هو جحود ما أنزل الله من الحكم الشرعي، وهذا ما لا نزاع فيه بين أهل العلم'.
أي: إن جَحْدَ أيَّ حكم من الأحكام الثابتة القطعية فلا نزاع بين أهل العلم أنه كفر، فلو أن أحداً جحد وجوب الصلاة أو وجوب الزكاة، أو وجوب صوم رمضان، أو وجوب الجهاد، أو أي أمر من هذه الأمور المعلومة، فإنه يكفر ويخرج من الملة.
قال الشيخ: 'فإن الأصول المتقررة المتفق عليها بينهم -أي: أهل العلم- أن من جحد أصلاً من أصول الدين أو فرعاً مجمعاً عليه، أو أنكر حرفاً مما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطعياً فإنه كافر الكفر الناقل عن الملة'.
وهذا النوع هو الذي لا يكون إلا ممن جاهر بالردة، أو ممن لم يلتزم دين الإسلام كاليهود والنصارى وأشباههم، فهم لا يرون أن التحاكم إلى الكتاب والسنة واجب، أو أن الإنسان يجب عليه أن يصلي أو يصوم أو يعف عن الزنى أو الخمر، فهذه الأمور خارجة عندهم عن دائرة الوجوب، لأنهم -أصلاً- جاحدون لما أنزل الله، ومن جحد شيئاً من ذلك فهو كمن جحد كل ما أنزل الله؛ حتى وإن زعم أنه مسلم فإنه يكون جاحداً للكل!! وهذا بالنسبة للأحكام موجود فيمن ينتسب إلى الإسلام، ومن ذلك من يقول: إن العصر قد تغير، وإن الزمان قد اختلف، وإن الحكم بما أنزل الله إنما كان واجباً في زمن كانت الإنسانية فيه بدائية، والحياة بدائية، والأحوال أقرب إلى البساطة، أما الآن في عصر الحضارة والتعقيد والتطور فإنه لا يجب، وهذا يقولونه: إما بلسان الحال أو بلسان المقال، وهو كفر مخرج من الملة، فهذا النوع الأول، وقد عده سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز من نواقض الإسلام.(2/17)
المرجع القانوني
قوله: 'إعداداً وإمدادا، ً وإرصاداً وتأصيلاً وتفريعاً، وتشكيلاً وتنويعاً، وحكماً وإلزاماً، ومراجع ومستندات'.
هذا دليل على أن الشيخ رحمه الله لديه خبرة ومعرفة جيدة بواقع المحاكم القانونية، فإنها -كما ذكر- وضعت ورتبت كما لو كانت محاكم شرعية، من حيث المراجع والمصادر والإمداد والسجلات والأنواع، وهذا شيء عجيب جداً! فتجد في أكثر بلاد العالم الإسلامي مثل هذه المحاكم، محاكم ابتدائية -كما يسمونها- ثم محاكم النقض! أو المحاكم الاستئنافية التي تستأنف عندها الأحكام، وتنقض أحكام المحاكم التي دونها، وهناك فوق ذلك المحكمة العليا، أو المحكمة الدستورية، أو المجلس الأعلى للقضاء -وبلا شك القضاء غير الشرعي- وهناك محاكم إدارية، ومحاكم تجارية، ومحاكم مدنية، ومحاكم جزائية، ومحاكم عمالية، ولها مراجع ومصادر ويرجعون إلى أصول القوانين التي استمدت منها القوانين.
فتجدهم يقولون: قد رجعنا إلى ما قاله الفقيه فلان -يسمون أصحابهم فقهاء- وما قاله القانوني فلان وفلان، ورجعنا إلى أصل هذه المادة في القانون الفرنسي، فوجدنا فيها كذا، ثم وجدنا كذا، وبناءً عليه حكمنا بكذا، فيرجعون رجوعاً صريحاً واضحاً إلى ذلك.
بل إن الأمر تجاوز هذا، فترى الكليات القانونية التي بدأت بفروع وبأقسام صغيرة، ثم في النهاية أصبحت كليات مستقلة للقوانين من بعد المرحلة الثانوية التعليمية إلى الدكتوراه، ولها أساتذة متخصصون، ولها مراجع ولها استمدادات، ثم بعد ذلك يتخرج الطالب من الكلية التي يسمونها كلية الحقوق أو كلية القانون، ويتعين في درجة دنيا من درجات السلم القضائي، ثم يرتفع ويترقى حتى يصبح في المحكمة العليا، أو رئيساً للمحكمة العليا وهو المنصب الأعلى في تلك البلاد التي تحكم بغير ما أنزل الله، نسأل الله العفو والعافية.
فهذا فيه -كما ذكر الشيخ- مكابرة ومعاندة ومشاقة ومضاهاة لحكم الله، وللمحاكم الشرعية، فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع ومستمدات، ومرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلهذه المحاكم -أيضاً- مراجع هي: القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني.
وقد سبق أن بينا أن أكثر القوانين في العالم العربي والدول الإسلامية تستمد من القانون الفرنسي وأشباهه كالقانون السويسري؛ لأنها قوانين تعتمد وتقوم على التقنين وهو التشريع المكتوب الذي يفصل في مواد قانونية.
أما القانون الأمريكي أو الإنجليزي -والأمريكان تبع للإنجليز في هذا- فهو لا يقوم على الكتابة القانونية المفصلة، فالشرع والحكم عندهم يعتمد على نظام السوابق، العرف القضائي، وما تعارفت عليه المحكمة، ولذلك إذا جاءت قضية ينظرون: هل سبق أن حكمت المحكمة ولو قبل ثلاثين سنة أو أربعين أو أكثر في مثل هذه القضية؟ فإن وجدوا لها سابقة حكموا بمثل ما حكم من قبلهم، وإن لم يجدوا لها سابقة فإنهم يجتمعون ويقررون، ثم يصبح هذا الحكم سابقة لمن بعدهم ويبنى عليه ويقاس عليه في المستقبل.
يقول: ' ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة، وغير ذلك '.
وأيضاً قد يخلطون مع القوانين الوضعية، الأخذ من مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة، فقد ينتسب بعض الناس إلى الشريعة ويأتي ببدع في الأحكام، وهذا -مع الأسف- هو النموذج الذي يراد له الآن أن يظهر وأن ينتشر في العالم الإسلامي، مثل بدعة (الإسلام العصري) وهذه البدعة الخطيرة معناها أن الإسلام يزيد لمصلحة العصر.
أو يضفي عليه ثوب العصر، أو يطور ليلائم العصر، أو ما أشبه ذلك من العبارات، وهذه الدعوة الخبيثة لا تنكر النص القرآني، لكنها تفقده قيمته ومعناه بما تحوره ليوافق كما يزعمون "روح العصر".
فهم ليسوا دعاةً بالضرورة إلى تحكيم القوانين الوضعية مباشرةً، لكن يقولون: الفتوى تتغير بتغير الأحوال والأزمان، فالحدود يمكن أن توقف في بعض الأحيان، وبعض الأحكام لا بد من تعديلها وإعادة النظر فيها، وبعض القضايا لابد من الرجوع فيها إلى أقوال معينة ولا نلتزم بأقوال، حتى قالوا لو وجدنا ما يوافق العصر في أقوال الزيدية أو الهادوية أو الجعفرية الرافضة -لعملنا به، لأننا عندما نلتزم بأن نأخذ برأي الجمهور، أو المجمع عليه، ونترك ما شذ عن هذا الإجماع، فهذا قد يكون فيه تضييع، وربما يكون الإجماع قائماً على شيء لا يوافق العصر ولا يتماشى مع روح الحياة الحديثة، ويكون القول الشاذ أو المرجوح، أو الذي قالت به إحدى الطوائف، أو أحد المجتهدين في عصور التاريخ الطويلة هو الأفضل.
مثلما يأخذون عن هذا الرافضي الطوفي -والغريب أنه كان حنبلياً أشعرياً رافضياً- وكم فرح هؤلاء القوم بمقولته: إن المصلحة تقدم على النص الشرعي!! فأخذوا بها وظلوا يؤصلون لها ويروجون لها.
فهؤلاء المبتدعون المنتسبون إلى الشريعة يحسن ويحلو للقانونيين أن يأخذوا منهم؛ لأنهم في الحقيقة لا يختلفون كثيراً عن أصحاب القوانين الوضعية، الذين يريدون أن يوفِّقوا بين هذا الدين وبين لوازم أو متطلبات الحياة الحديثة، فيبقى الدين نصوصاً مكتوبة يقرأها الناس ويتبركون بها لا غير وهو في الواقع يؤوَّل ويحرف الكلم عن مواضعه، فمنها ما يُلغى، ومنها ما يلوى عنقه، ومنها ما يغير عن حقيقته، والمقصود واحد من الجميع وهو الذي ذكره الله تعالى عن المنافقين من أنهم يقولون: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء:62].(2/18)
توحيد العبادة وتوحيد الحاكمية
يقول: 'فكما لا يسجد الخلق إلا لله، ولا يعبدون إلا إياه، ولا يعبدون المخلوق، فكذلك يجب ألاَّ يرضخوا ولا يخضعوا أو ينقادوا إلا لحكم الحكيم العليم، الحميد، الرؤف الرحيم'.
والقرآن صريح في هذا وواضح، ولو أن الناس يتدبرون كلام الله تبارك وتعالى كسورة الأنعام وهي التي ذكر فيها التشريعات، وذكر فيها ضرورة الحكم بما أنزل الله، وهي سورة التوحيد العظمى في القرآن، فيقول فيها: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:14].
ولو أن الناس تدبروا لفهموا من هذه الآية أن من الشرك أن يتخذ الإنسان ولياً من دون الله يخافه ويدعوه ويرجوه ويتقيه كما يفعل عباد الأولياء والصالحين إلخ.
وقال أيضاً في آخر السورة: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:164] الله تعالى رب كل شيء، فكيف يكون الله تبارك وتعالى رب كل شيء {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} [الرعد:15] {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] ويأتي هذا الإنسان المخلوق الضعيف فلا يتخذه رباً، وإنما يتخذ غيره من الأرباب إما من الأصنام، وإما من الطواغيت من البشر كفرعون وأمثاله؟! وهذا -أيضاً- نوع معروف أن من فعله فإنه كافر.
وقال في نفس السورة: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} [الأنعام:114] وقال في الآية التي بعدها: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:115 - 116] فكما أنَّا لا نتخذ غير الله إلهاً وولياً ولا رباً ولا خالقاً ولا رازقاً، فكيف نتخذ غير الله حكماً، وهو الذي أنزل هذا الكتاب المفصل، وقد تمت كلمته صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام؟! وكيف نطيع البشر في مخالفة أمر الله وإن كثروا! {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه} [الأنعام:116] قال بعد ذلك: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121].
فالقضية واحدة كما ذكر الشيخ، فاتخاذ غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حكماً، هي مثل اتخاذ غير الله تعالى ولياً وإلهاً ورباً خالقاً رازقاً، لا يختلف هذا عن هذا.
إذاً: لماذا يستنكر المسلمون أو يستعظمون ويستبشعون أن يعبد غير الله وأن يصلى ويسجد لغير الله، ولايستبشعون أو يستفظعون أن يتحاكم إلى غير الله، وأن يتخذ غير الله تعالى حكماً، وأن يتخذ كتاب الله ظهرياً، ويؤتى بقوانين البشر المتألهين والمتسلطين، وتحكم في الدماء والأموال والأعراض والرقاب؟! هذا ما يريد الشيخ رحمه الله تعالى أن يوضحه، وقد سبق الإشارة إلى كثرة الأدلة في ذلك والحمد لله.
يقول الشيخ: 'دون حكم المخلوق الظلوم الجهول -كما قال تعالى عنه: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72]، وهكذا حال الإنسان- الذي أهلكته الشكوك، والشهوات والشبهات، واستولت على قلوبهم الغفلة والقسوة والظلمات '.
ألا ترى أن المسلم لا يجوز له أن يقلد عالماً من علماء الإسلام أو مفتياً في كل ما يقوله أو يفتي به؟ لأن هذا لا يكون إلا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي يؤخذ عنه كل قول يقوله، أما من عداه فيؤخذ من قوله ويرد؛ فإذا كان هذا في حق علماء الأمة وإن كانوا الأئمة الأربعة، أو من هو أفضل منهم ممن تقدمهم من التابعين أو من الصحابة، فكيف في حق أصحاب التشريع والقانون الوضعي الذين لا صلة لهم بالدين ولا بالعبودية؟!! إذا كان قد يخطئ العالم المجتهد فكيف بالكافر الملحد المتصف بالظلم، والجهل، والكفر، والطغيان والشكوك، والشبهات، والشهوات، وكلها مجتمعة فيه! ولذلك تأتي أحكامهم وشرائعهم بالعجب العجاب من هذه التناقضات -نسأل الله العفو والعافية- حتى إن العاقل منهم لو تأمل لما صدق أنهم يحتكمون إلى هذه الشرائع! ولعجب منهم كيف يؤمنون بها! وما ذلك إلا لخفاء وجهل كثير من الناس بحقائق الدين وشرائعه، بسبب سيطرة الإعلام الغربي -ولو من بعيد- من قبل اليهودية والصهيونية والإلحادية والعلمانية والنصرانية، وتوجيه الإعلام توجيهاً خاصاً، فيجهل كثير من الناس حقيقة ما أنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثم تجدهم يعجبون ويندهشون عندما يجدون أحكام الله وما فيها من العدالة والسهولة مما لم يكن يخطر لهم على بال.
وقد سمعنا برنامجاً في صوت أمريكا عن امرأة مسلمة متخصصة في الدراسات القرآنية والإسلامية في إحدى الجامعات، فتقول: إن المرأة في الإسلام ترث ويحق لها التملك إلى درجة تثير الدهشة عندنا نحن الغربيين! ثم تقول: وإن في المملكة العربية السعودية حيث تطبق أحكام الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بالميراث تملك المرأة ما يعادل (40%) من الممتلكات فتعجبت!! وقالت: إن هذا شيء عجيب جداً، ولا أدري من أين أخذت الرقم؟ ونحن لا نستغرب ولا جديد فيه عندنا أن النساء يملكن الأموال العظيمة، لكن الغرب وبسبب جهلهم بدين الله أصيبوا بهذه الدهشة.
يقول الشيخ رحمه الله: ' فيجب على العقلاء أن يربأوا بأنفسهم عنه، لما فيه من الاستعباد لهم، والتحكم فيهم بالأهواء، والأغراض، والأغلاط، والأخطاء، فضلاً عن كونه كفراً بنص قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون َ} [المائدة:44].
أي: فضلاً عن أن هذا كفر، فالعاقل يربأ بنفسه عن أن يكون عبداً لبشر مخلوق مثله، والله تعالى بعث الرسل في جميع الأزمان يذكرون الناس بهذا، أن كيف تعبدون بشراً أمثالكم؟! وكيف تدعون من دون الله من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا حياةً ولا موتاً؟!(2/19)
حكم سن القوانين
يقول الشيخ رحمه الله: ' فهذه المحاكم الآن -هذا في زمنه رحمه الله وقد توفي عام (1389هـ)، وألف هذه الرسالة عام (1380هـ)، "في كثير من أمصار الإسلام مهيأة مكملة، مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب إثر أسراب "، فهم لا يجدون مكاناً يتحاكمون فيه إلا هذه المحاكم بمختلف أسمائها وأنواعها وأشكالها.
يقول: يحكم حكامها بينهم، بما يُخالف حكم السنة والكتاب، من أحكام ذلك القانون وتلزمهم به'.
أي: إلزام السلطة التنفيذية -ممثلة بمجلس الوزراء وما يتعلق به- للناس بأحكام هذه المحاكم.
يقول رحمه الله: 'وتقرهم عليه، وتحتمه عليهم، فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة للشهادة بأن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة؟! '.
أي: وإن زعم أصحابه أنهم مسلمون، وإن صلوا وصاموا وحجوا البيت وهم ما زالوا يتحاكمون إلى هذه القوانين ويلزمون بها الناس، ويحتمونها على الأمة، ويعرضون عن كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويجعلونها وراء ظهورهم.
فهل هناك كفر أكبر من هذا كما يقول الشيخ رحمه الله؟ لا كفر أشد من هذا، حتى وإن قال: كلام الله حق وخير، ودينه حق، ورسوله حق، فلا ينفعهم ذلك ولا يكون مؤمناً أبداً.
ومثلهم كمثل أحبار أهل الكتاب الذين كانوا يشهدون بصدق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن لا يؤمنون به ولا يتبعونه، فما نفعهم ذلك، بل قاتلهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسبى ذراريهم وأموالهم، وكذلك هؤلاء، فمن أين جاءهم وصف الإسلام وهم بهذا الحال من المناقضة لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!(2/20)
الادلة على كفر المشرِّع والمتحاكم
يقول الشيخ: 'وذِكْرُ أدلة جميع ما قدمنا على وجه البسط معلومة معروفة لا يحتمل ذكرها هذا الموضع!! -الأدلة على أن هذا كفر أكبر مخرج من الملة معلومة معروفة، وقد سبق ذكر بعضها والحمد لله- يقول: " فيا معشر العقلاء! ويا جماعات الأذكياء وأولي النهى! كيف ترضون أن تجري عليكم أحكام أمثالكم، وأفكار أشباهكم، أو من هم دونكم، ممن يجوز عليهم الخطأ، بل خطأهم أكثر من صوابهم بكثير، بل لا صواب في حكمهم إلا ما هو مستمد من حكم الله ورسوله نصاً أو استنباطاً " -وهذا هو الواقع!! كيف يرضى هؤلاء أن يؤلهوا بشراً مثلهم أو أقل منهم ولا خير في أحكامهم- يقول: تدعونهم يحكمون في أنفسكم، ودمائكم، وأبشاركم، وأعراضكم، وفي أهاليكم، من أزواجكم وذراريكم، وفي أموالكم، وسائر حقوقكم، ويتركون ويرفضون أن يحكموا فيكم بحكم الله ورسوله الذي لا يتطرق إليه الخطأ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد'.
وهنا يخاطب الشيخ رحمه الله العلماء والعقلاء، والأمة عامة التي فرضت عليها هذه الأحكام مستنكراً عليهم رضاهم بها، ولو أن الناس أنكروا هذه المحاكم وهذه الأحكام، لكان الحال غير هذا الحال، لكنهم استمرأوا ذلك، وسكتوا وأخلدوا إليه، وأصبحوا يرونه كأنه أمراً عادياً.
ولذلك أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حريصون أشد الحرص على الوقوف في وجه كل داعية يدعو الناس في أي بلد من البلاد إلى الاحتكام الكامل والكلي إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن ذلك يخالف تمام المخالفة ما يريدونه من نشر الفاحشة والرذيلة وإبقاء التبعية، وفرض العبودية على هذه الأمة، لتظل تعيش في ركاب الأمم النصرانية الغربية.
فالشيخ رحمه الله يستثير النفوس، ويستنفر الهمم؛ لتقف في وجه هذا التيار الخبيث، الذي يريد أن يجعل هذه الأمة تابعاً ذليلاً لتلك الأمم في هذا الكفر والشرك الأكبر والعياذ بالله.
يقول: 'وخضوع الناس ورضوخهم لحكم ربهم خضوع ورضوخٌ لحكم من خلقهم تعالى ليعبدوه، فكما لا يسجد الخلق إلا لله ولا يعبدون إلا إياه ولا يعبدون المخلوق، فكذلك يجب ألا يرضخوا ولا يخضعوا أو ينقادوا إلا لحكم الحكيم العليم الحميد، الرؤوف الرحيم، دون حكم المخلوق الظلوم الجهول، الذي أهلكته الشكوك والشهوات والشبهات'.
فبين الشيخ أن معنى أنكم مؤمنون، وأنكم تعبدون الله، وأنكم مسلمون أن ترضخوا لأحكام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن تنقادوا لها، وإلا كيف تقولون: لا نعبد إلا إياه ولا نسجد إلا له، ثم تتحاكمون إلى غير شرعه، هذا لا يمكن بل هذا هو الشرك، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر ذلك في القرآن، فإن مما ذكره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من صفات أهل الكتاب الذين أوجب الله تبارك وتعالى على المؤمنين جهادهم، وضرب الجزية عليهم، أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، فإذا كان من يحكِّم التوراة ويتحاكم إليها كافر؛ لأنه يحكم بشريعة منسوخة مع ما فيها من الأحكام التي لم تحرف، كتحريمهم الربا على اليهود فيما بينهم، وتحريم بيع الغرر، والغش، وعند النصارى كل الفواحش ما ظهر منها وما بطن محرمة، فكيف بمن يتبع أقواماً لا صلة لهم بالدين وإنما هم علمانيون لا دينيون، ملحدون كالمشرعين الغربيين اليوم، يحكموا والشرائع والقوانين الوضعية التي وضعتها حثالة الأفكار؟!! لا شك أن هذا الثاني أشد كفراً وأعظم جرماً.(2/21)
علاقة الظاهر بالباطن ودلالته عليه
ولابد من الإشارة إلى أنه من الخطأ أن نسأل أصحاب القوانين الوضعية الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، ويأصلون ويفرعون، ونقول لهم: هل تقرون بحكم الله أو لا؟ وهل تفضلون القوانين الوضعية على حكم الله أو لا تفضلون؟ وبناءً على هذا السؤال نحكم عليهم، فهذا ليس بسديد، لأن الله تعالى قد فطر النفوس على أنها تختار الأفضل وتفعله، ولهذا إذا كان هناك طالب في كلية ما، ثم تركها وانتقل إلى كلية أخرى فهل يتصور أنه يفضل الكلية التي تركها؟ لا؛ فإن هذا لا يفعله عاقل، ولهذا فلا نحتاج أن نسأله: هل تفضل الكلية التي انتقلت إليها أولاً؟ بل السؤال الذي ينبغي أن يطرح: لماذا فضلت هذه الكلية على غيرها؟ هذا سؤال العقلاء، وهكذا من خطب امرأة ثم عدل عنها إلى أخرى وعلى ذلك فهؤلاء القوم المحكِّمون للقوانين الوضعية لا يُسألون هل هم مفضلون لهذه القوانين اللعينة على شرع الله وحكمه أم لا؟ فالإقرار اللفظي هنا لا قيمة له.
ومثالهم -كما قد بينا- مثال اليهود والنصارى المقرون بنبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولمَّا ينقادوا له ويتبعوه، فلم ينفعهم ذلك الإقرار، وذلك الاعتراف.
وهذه المسألة مرتبطة بما يذهب إليه أهل السنة والجماعة، من أن الإيمان قول وعمل، قول بالقلب واللسان، وعمل بالقلب واللسان والجوارح، فلا ينفع قول بدون عمل القلب وعمل الجوارح، فتنبه! ومن الجهل بمكان أن نظل نتلمس المبررات والحجج الواهية، لمثل هؤلاء المشرعين للقوانين الوضعية، وشبيه هذا من يقول: عبادة الله أفضل، وليله ونهاره وهو يذبح للأصنام ويدعوها وينذر لها! فلا يعد هذا مؤمناً ولا كرامة.
والقصد أن هؤلاء الذين يقيمون هذه الأحكام في بلاد المسلمين ويتبعون هذه الشرائع ويلزمون المسلمين بها، خارجون عن الملة، ومهما انتسبوا إلى الإسلام فلا حقيقة لهذا الانتساب، وهذه الأنظمة غير شرعية إطلاقاً -الشرعية بالمعنى الإسلامي لا الشرعية الدولية والشرعية القانونية- فنحن لا نعترف بشرع غير شرع الله، فإذا قلنا: هذه الشرعية، فمعنى ذلك أن الله تعالى أذن بها وشرعها وأنزلها، أما غير ذلك فغير شرعي، وهذا الذي يجب أن يعتقده كل مسلم، وأن يعلم أنه من صميم عقيدة أن لا إله إلا الله التي معناها الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256] والطاغوت هو الذي قال الله تعالى فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء:60] والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لما ذكر أنواع الطواغيت الخمسة، ذكر نوعين من الخمسة، أحدهما: إبليس، وهو خارج عن البشر، والأربعة من الإنس: نوع هو الحاكم بغير ما أنزل الله، والآخر الحاكم الجائر المغير لأحكام الله.
أي: أن نصف طواغيت البشر هم في طواغيت الحكم والتشريع كما هم في طاغوت العبادة، وادعاء علم الغيب والكهانة، فهذا شرك وذاك شرك، وهذا طاغوت وذاك طاغوت.
فلا ينبغي للدعاة أن يتحدثوا عن جانب من الشرك، ونوع من الطاغوت، ويهملوا الآخر، وإنما الواجب أن يتكلموا في كل طاغوت، وفي كل نوع من أنواع الشرك بمقدار خطره وانتشاره في البيئة، لكن نحن الدعاة في الجملة يجب أن تكون نظرتنا متوازنة ومتساوية لهؤلاء.(2/22)
التحاكم إلى الأعراف القبلية
قال الشيخ: 'السادس: ما يحكم به كثيرٌ من رؤساء العشائر والقبائل من البوادي ونحوهم، من حكايات آبائهم وأجدادهم وعاداتهم التي يسمونها: (سلومهم)، يتوارثون ذلك منهم ويحكمون به، ويحضون على التحاكم إليه عند النزاع، بقاءً على أحكام الجاهلية، وإعراضاً ورغبةً عن حكم الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا حول ولا قوة إلا بالله'.
هذا النوع قديم جديد، فهو قديم منذ أن انحرف الناس عن التوحيد وعن طاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، واتبعوا أهواءهم، وأطاعوا سادتهم وكبراءهم، وهو جديد، إذ ما يزال إلى اليوم في كثير من أنحاء الأرض.
والأصل أن القوانين المنحرفة عن دين الله وعن هدى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قوانين عرفية غير مكتوبة، تتعامل بها القبيلة مع أفرادها، والقبيلة مع القبيلة، والمجتمعات القبلية مع المجتمعات القبلية الأخرى، وهذه القبائل تجتمع ويكون بينها نظام طاغوتي يتحاكمون إليه، سواء وضعه شيخ القبيلة أو وضعه الساحر أو الكاهن أو أياً كان واضعه؛ لأنه العادة في تلك القبائل، وهذا موجود إلى الآن في قبائل أمريكا الوسطى والجنوبية، وقبائل المناطق الاستوائية من إفريقيا وفي قبائل آسيا الوسطى والمناطق النائية من آسيا، وكذلك في قبائل جزر الهند الشرقية وغيرها- أن لديها زعيماً للعشيرة أو شيخاً، ولديها - غالباً - الساحر أو الكاهن الذي يقوم بوظيفة التطلع إلى السماء بزعمهم كعادة المنجمين، وإخبار القبيلة بما ينبغي أن تفعله وإخبارها بالأمطار أو بعدم الأمطار، والحكم فيما بينها أيضاً عند الخلاف وما أشبه ذلك، ومع الزمن تتولد وتترسب لدى القبيلة قوانين، ترسخ وتثبت حتى تصبح هي التي يتحاكمون إليها ولا يقبلون حكم غيرها.
فهذه الأحكام القبلية هي التي نشأت وظهرت منها القوانين المكتوبة، لأنه عندما تتقدم المجتمعات وتترقى أكثر في التمدن والاجتماع والحضارة المادية، فإنها تحول تلك القوانين إلى قوانين مكتوبة، ثم تصبح دستوراً مكتوباً كما ذكرنا ذلك سابقاً.(2/23)
مثال للأعراف القبلية التي تحكم من دون الله
أحببت أن أعرج على وثيقة قديمة في منطقة غامد وزهران الواقعتان في الجزيرة العربية حتى تطلعوا على شيء مما كان يوضع أو يجعل ليتحاكموا إليه، وربما يوجد في مناطق أخرى ما هو أشد منها، وهذا نموذج فقط للوثيقة المكتوبة، فلم تكن مجرد قانون عرفي وإنما كانت قانوناً مكتوباً.
وهذه الوثيقة كتبت عام (1260هـ) تسمى (الشدّة) بمعنى: العقد والمعاهدة، وهي تعتبر نموذجاً لفكر يعتبر راقياً، وفيها شيء من الأحكام الشرعية ونوع من حفظ الحقوق بالإضافة إلى مخالفات واضحة كما لا يخفى.
أولها يقول: 'الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، لقد تحاضر جماعة من المسلمين ممن يأتي أسماؤهم -ثم ذكرت الأسماء- وإنه عهد موروث حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين، ما دام الله يُعبد، والماء يورد، والغراب أسود، والناس تصلي على محمد'.
وهذا من قوة التأكيد في العهد بين القبيلتين، إلى أن ذكروا بعض الأحكام، وأولها قولهم: 'يعامل المثل بالمثل في كل شيء' وهذه قاعدة صحيحة ما لم تخالف نصاً شرعياً، أي: بالنسبة للأسواق والمعاملات التجارية يُعامل المثل بالمثل.
وتقول: 'والسوق من المتكفلات يكفل الجار جاره والسبيل والمتبع والضيف، يكفل كل من يهبط فيه'.
كان النظام عندهم أن السوق يكفل كل من يهبط فيه، فإذا كانت قرية من القرى سوقها يوم السبت، وقرية سوقها الأحد، فالقرية التي سوقها يوم الأحد يكون كل ما يُراق من دماء أو يقع من مشاكل أو سرقة أو أي مشكلة في حدود هذا السوق وما حوله، فهو في ضمان وكفالة القبيلة التي فيها السوق، أي: عليها أن تحمي الجار والضعيف وتأخذ الحق للمظلوم حتى تخرجه من حدودها إلى حدود القبيلة الأخرى فينتهي دورهم 'إذا هبط إلى سوق آخر' وهبط بمعني: تسوق.
والشاهد قولهم: 'والمقروعات والمشتبهات فيها قول عارفة'.
فكانوا يتحاكمون إذا اشتبهت الأمور إلى قول عارفة، وهو رجل صاحب خبرة، فإذا اشتبهوا في مكيال أو ميزان أو في أمر من الأمور أتوا بهذا الرجل، فإذا حكم بينهم ألزم الناس به، ومضوا عليه.
إلى أن يقول في هجرة الجار: 'ذنبه على جنبه'.
كان عندهم نظام الجوار، والإنسان إذا قتل أو ارتكب أي مصيبة في بلده يجار عند قبيلة تحميه، فينزل في هذه القبيلة ويعيش حتى يصبح من أهلها وينسى أصله القديم، فإذا فعل شيئاً فذنبه على جنبه.
أي: فليس له قبيلة تدافع عنه، ولا أحد يحاكم عنه، لكن لو اعتدي عليه فإن القبيلة تكفله كما لو كان من أبنائها، ثم يقول: ' فالذي يخدم بماله دون رجاله فله (65 ريال) ومآكلها ذبيحة وبيضاء من عراق'.
أي: بأن الإنسان الذي يخدم ضيفه أو يعطي أي شيء في مناسبة: ' فينشرون له البيضاء' أي: قماش أبيض يرفعونه في السوق، ويقولون: هذه البيضاء لفلان، علامة على أنه فعل جميلاً وأكرم الضيوف وفعل وفعل، ويتنافس الناس في رفع الراية البيضاء.
ثم يقول: 'ومن نقى غير علق ولا دعاية فله البيضاء، وهي رأسان من القماش'.
والرأس هو الطاقة الكاملة، ومعنى هذا الكلام: أنه إذا أجرم شخص وعمل مصيبة من غير ما علق، والعلق هو أن يضع الشخص رهناً أو (معدالاً) كما يسمونه، فإذا جاءت جماعة وشكت من فلان واتهمته فإن هذا الرجل يأخذ أغلى ما عنده، وغالباً أغلى ما عندهم هو السلاح، فيضع ذلك السلاح عند القبيلة وقد تأخذ منه القبيلة أكثر من ذلك أو أقل، ثم بعد ذلك إما أن يحاموا عليه وإما أن يخرج من الفضيحة بريء، فإذا أخطأ أتى أمام الناس -ويكون ذلك غالباً في السوق- فيضرب نفسه بالجنبية أو بأي شيء حتى يعاقب نفسه بنفسه، فتقول له الجماعة: يكفي وقد اعترفت وعَرفْت الحق بنفسك، فإذا فعل ذلك نشروا له البيضاء.
يقول: 'سبعة رءوس مطابيح' يحدد القماش، حتى لا يكون فيه فرق بين قبيلة وأخرى أو بين سوق وآخر.
' سبعة رءوس مطابيح مردوفة'، من نوع القماش الذي يسمونه المضرم الذي لونه داكن، والذي يفعل منه خرائط الدقيق يذكر اللوازم إذا عزر أحداً وذبح أحد ' وقوانينها سمنها ولبنها وذبائحها تبعها، فالذي يذبح ضيفه لأجل أن يأخذ ماله فلا له وقا ' والوقا هو: الجوار، أي: لا يجاور أحداً، وهذا بخلاف ما لو قتل شخصاً كائناً من كان ثم التجأ إلى واحد من الجماعة فإن له الوقا، والقبيلة تحميه.
أما إذا نزل بإنسان ضيفُ فقتل الضيف من أجل أن يأخذ ماله، فهذا ما له من وقا، ولا يجوز لأحد أن يحميه، ولا بد أن تعاقبه القبيلة، وهذا من تقديرهم للضيف، وهي عادة عربية قديمة وإسلامية ما تزال والحمد لله.
يقول: ' ولا له في ماله شيء 'وحكمه أن تأخذ القبيلة ماله الذي أخذه من الضيف، والذي له فتتحكم فيه.
'والذي يبيع رفيقه فلا فيه وجه' الوجه نفس الالتجاء، ومعنى ذلك أنه لو كان هناك اثنان في قبيلة ما ثم جاء رجل من قبيلة آخرى وهجم عليهما فمن لم يقاتل مع رفيقه ويدافع عنه فإنه قد باع رفيقه، فما له وجه عندهم ولا أحد يحميه ولا له قيمة، وفي هذا حكم من أحكام الجاهلية التي كانت موجودة عندهم، إذ أن الرفيق قد يكون هو الظالم أحياناً وهو المعتدي، فهم لا يفرقون في ذلك بين الظالم والمظلوم، والمعتدى عليه في عرضه أو ماله، فإذا قامت الحرب عندهم أو دعى الداعي فيجب أن يكون الرفيق مع رفيقه حتى الموت، وكذلك في أمر الشهادة: فإن الواحد منهم لا يشهد على رفيقه أبداً، وأقل أحواله أنه يسكت، فإن شهد عليه -شهادة حق- فماله وجه عند الجماعة أبداً، فهكذا العرف الجاهلي نسأل الله السلامة والعافية.
ثم يقول: 'والبير التي على الطريق فعلى راعيها إما دفنها، إلا يهب عليها شهود أقران، وإلا يحمل ضررها' أي: ضرر البئر التي على الطريق.
'والهيماء من الإبل والجمل العادي، والثور النطاح، وليس معه قائد يحمل ضرره، والضمان يلزم لكل شيء'.
وهذه قاعدة من قواعد العرب، وباب من أبواب الشرع، فلا شك أن الضمان باباً من أبواب الشرع، لكن قد لا يضمن، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ' المعدن جبار، والعجماء جبار'، فهذه لا يضمن فيها شرعاً، فليس على الرجل في الشرع أن يضمن العامل، فلو أنك اتخذت عاملاً يبني لك بناء، فسقط من أعلى البناء، فليس عليك شيء شرعاً، وكذلك لو أنك اتخذت عامداً؛ لاستخراج المعادن، فوقع المنجم على العامل فيه، فمات، فليس عليك شيء.
ذوالبئر جبار أيضاً، -هدر في الشرع- بمعنى إذا كان لديك بئر، ووقع إنسان فيها، فليس على صاحبها شيء، ما لم يكن هناك تفريط.
وكذلك العجماء جبار، والعجماء هي الدابة وجبار أي: هدر، ما لم يكن منك تفريط، فلو أن إنساناً لديه دواب وجمال أو ثيران أو ما أشبه ذلك، فوقعت معركة أو مشكلة بين هذا الجمل وبين شخص بين الناس، وأكله الجمل، أو نطحه الثور فمات، أو رفسه الحمار أو البغل فمات، فإنه ليس على صحابه شيء شرعاً، ما لم يكن تعمد الاعتداء أو الإضرار، أو كان هناك تفريط معين.
إذاً: هذه الأمور في الشرع تعتبر هدراً ليس فيها شيء، فلا يضمن أصحابها، لكن هؤلاء الأعراب كانوا يخالفون، وهذا مثل القوانين الحديثة، فهي تلزم صاحب العمل، وتغرِّمه بذلك.
يقول: ' وإن ذُبح المستعمل -أي: الشغال الأجير- فعلى الذي استعمله نصف الدية، وإن كان بعيداً من طرف الجماعة، فعليهم -أي: القبيلة- الدية ' أي: إذا قُتل أو ذُبح شخص في داخل القبيلة، فنصف الدية على صاحب العمل الذي أتى به ليعمل عنده، وصاحب العمل ليس له أي ذنب في ذلك، قالوا: وإن كان بعيداً عن طرف الجماعة، فعلى القبيلة الدية.
'وإن أخذ أو احتاج دية للجماعة فللجماعة ثلثها، فإذا جاء شخص وأخذ دية شخص أجير قُتل في قبيلة ثانية، فالجماعة -جماعة الذي أخذ الدية- لها ثلثها، إن كان من سد الريع'والريع: هو الذي نسميه الآن: الجبهة، وفي الحدود بين الدول المتقاتلة، والقبائل المتحاربة.
' فإن كان من سد الريع'يعني وقع من الجبهة، أي: من المقاتلين الأعداء، هذا الحكم.
وما كان داخل قبيلة فله حكم آخر، وإن كانت الدية من الجماعة، فلإقاربه الثلث، والثلثين للجماعة.
ثم يقولون: ' والرجل إذا قتل واجتلى'.
وهو الذي نسميه الآن لاجئ، أي: ترك دياره ورحل إلى ديار بعيدة، فإن اصطلح على ديته الجماعة أو القبيلة فعليهم الحساب من ثمار بلاده، فيضعوا يدهم على البلاد ويحاسبوا، هذا إذا كانت القبيلة هي التي دفعت الدية لرجل من خارج القبيلة، فيزرعون بلاده، ويجمعون الدية ويعطونها القبيلة، ثم يستردون الدية من ثمار بلاده، باعتباره قد انتقل ولم يعد يعرف ولا يعلم أين هو، أي: لا نستطيع أن نأخذ منه أي شيء.
' وإن خلصوا بقتل' أي: اصطلحوا بقتل ' فثمار البلاد تُحمَّل إلا أن يكون قتل خطأ، فلا لهم حساب ' وهذه من أحكام الجاهلية والعياذ بالله، ومن الجور الذي نهى عنه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأمرنا بالعدل ولو كان ذا قربى وما ذكرناه هو كمثال فقط.
وفي هذا شبه بالأحكام الدولية وتعامل الدول بعضها مع البعض، وكذلك هنا تجد الأحكام التي تتعلق بالقبيلة مع القبيلة، والأحكام الجنائية، وأحكام المعاملات وتشمل الأحكام التجارية كما في كلامهم عن السوق وغيره، وتشمل الأحكام العمالية كما في أحكام المستأجر والأجير إذا قتل.
فأحكام تلك المجتمعات وتقاليدها وقوانينها وقواعدها بحسب عصرها يمكن أن تعتبر قوانين متكاملة، أو مسودات قوانين جاهزة.
فهذه الوثيقة نموذج من الأحكام التي كانوا يتحاكمون إليها وربما كان عند بعض القبائل ما هو أسوأ وما هو أشد من ذلك، ومما عرفناه من كبارهم أنهم يحكمون في السارق أحياناً بأخذ ربع ماله إذا سرق ولا حدَّ عليه، أو يرهن رهينة معينة، وإذا وقع الزنا من إنسان وثبت عليه فإنه أيضاً يفتدي ببلاد أو بمال من المجني عليهم، وهكذا فحتى الحدود فقد كانت لديهم أحكام وكانت لديهم قوانين يرجعون لها.(2/24)
التحاكم إلى السلوم والأعراف القبلية
فهذه الأحكام والقوانين -كما يقول الشيخ محمد رحمه الله- من جنس الحكم بغير ما أنزل الله المخرج من الملة، لأنه التزام وتحاكم إلى شرع غير شرع الله، وتعاقدهم وتعاهدهم وتعاونهم على تثبيت هذه الأحكام، وإقامتها، ومعاقبة من يخالفها، فهذا النوع يدخل في النوع المكفر، بغض النظر عن الحكم على الأشخاص أو أنهم لا يجدون غير ذلك، فنحن لا نتكلم عن المتحاكمين، وإنما نتكلم عن الحكم في ذاته، أي أن الحكم بغير ما أنزل الله في هذه الصورة -وإن لم يكن على ما سبق من التفصيل- كفر أكبر.
يقول الشيخ: ' وعاداتهم التي يسمونها سلومهم، يتوارثون ذلك منهم، ويحكمون به، ويحضون على التحاكم إليه عند النزاع، بقاءً على أحكام الجاهلية، وإعراضاً ورغبةً عن حكم الله ورسوله، فلا حول ولا قوة إلا بالله '.
فهؤلاء أناس عندهم حكم الله، وفي إمكانهم أن يتحاكموا إليه، ولكنهم يعرضون عنه ويتحاكمون إلى الطاغوت.
والدليل على ذلك أنهم كانوا يتحاكمون في الميراث والإرث إلى شرع الله، وفي الدماء إلى غير شرع الله، فلو أرادوا حكم الشرع لعمموه لكنهم لم يلتزموه.
ولا شك أن الدولة في ذلك الزمن -الدولة العثمانية أو دولة الأشراف- لم تكن تقيم حكم الله عز وجل فيما بينهم، ولم تضبط الأمن، ثم هم أيضاً يتحاكمون إليها رغبة عن حكم الله، وإلا فقد كان في إمكانهم أن يصطلحوا -على الأقل- على ما يستطيعون أن يتحاكموا إليه من شرع الله، ثم الباقي يكون في ضرورات معينة، لكن المشكلة أن التواطؤ قد حصل، والإهمال حاصل من الدول ومن الأفراد، فلا يحتكمون إلى الشرع إلا في أمور الميراث -مثلاً- أو في الأمور الزوجية كالطلاق والزواج وما إلى ذلك، مع ما يدخل ذلك من بدع كثيرة.
نقول: لكن إذا أعرضوا عن حكم الله ورسوله، وأعرضوا عن الاحتكام إلى كتاب الله، وتعمدوا الإبقاء على هذه الأحكام الجاهلية حتى مع إمكانية الاستغناء عنها، فإنهم بذلك يقعون في هذا النوع الخطير الغليظ، وهو كما ذكر الشيخ نوع يخرج من الملة نسأل الله العفو والعافية.
وبذلك نعرف خطر التحاكم إلى غير الكتاب والسنة وإلى غير الشريعة، وأنه خطر عظيم سواءً على الدول أو على القبائل أو على الأفراد، فالكل يجب أن يعبد الله وحده وأن يتحاكم إلى حكم الله وحده، ولا يجوز لأحد أن يتحاكم إلى شرع غير شرع الله، كما لا يجوز له أن يعبد أحداً غير الله أو يدعو أحد غير الله، وهذه هي القاعدة العامة.
ثم ينتقل الشيخ رحمه الله إلى القسم الآخر، وقد سبق وأن قال: ' ومن الممتنع أن يسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً ولا يكون كافراً؛ بل هو كافر مطلقاً، إما كفر عمل وإما كفر اعتقاد، ثم قال: أما الأول: وهو كفر الاعتقاد فهو أنواع ' وذكر منها الستة.(2/25)
النظام العشائري في العالم الإسلامي
ظل النظام العشائري أو القبلي سائداً حتى في العالم الإسلامي، فما يزال هذا النظام في بلاد الشام إلى اليوم، ففيها: نظام العشيرة، وحاكم العشيرة، وشيخ العشيرة، وأعراف العشيرة تتحكم وتسيطر على الناس ويتحاكمون إليها، والحكومات في بعض الدول تقر أحكام العشيرة؛ لأنها تخلصها من مشاكل الناس من جهة، ولأن الناس أصلاً لا يقبلون إلا حكم العشيرة، فمهما حاولت الدولة أن ترغمهم على أحكامها أو قوانينها فإنهم لا يقبلون ذلك.
أما في إفريقيا وغيرها من المناطق فمعروف أن الطابع القبلي ما يزال سائداً كما هو سائد أيضاً في المناطق الداخلية من آسيا في شمال باكستان وفي أفغانستان، فالنظام السائد هو نظام القبيلة وعرفها، وما اجتمعت عليه القبيلة.
وكلام الشيخ محمد رحمه الله لعله مأخوذ من كلام شَيْخ الإِسْلامِ في القبائل أو في أحكام القبائل التي كانت تعيش في أيامه، والتي سُئِلَ عنها وعن حكمها.(2/26)
النظام الإقطاعي في أوروبا
ومن جانب آخر نجد أن أوروبا خاصة عاشت نظاماً أبشع وأسوأ من الأنظمة القبلية الأخرى، وهو النظام المعروف بالنظام الإقطاعي، وهذا النظام فيه من الظلم على الإنسان ما لم يشهده أي نظام آخر في التاريخ، وخاصة عندما كانت أوروبا غارقة في ظلمات القرون الوسطى وقبل أن تظهر فيها حركات التحرر، أو حركات العتق التي يسمونها الليبرالية.
هنالك كان القانون والشرع والنظام يضعه المالك الذي يملك الإقطاعية، والإقطاعية قد تكون قرى ومناطق كبيرة، وقد تكون ما يعادل في هذا الزمان إقليماً، أو إمارة، أو محافظة، فكلها يملكها رجل واحد هو الرجل الإقطاعي، وهذا الرجل هو الذي يشرع كما يشاء ويفعل ما يشاء بكل من هو داخل هذه الإقطاعية، فالكل يحرثون ويحصدون ويجمعون، والسيد يتحكم في ذلك؛ لأنه يملك الأرض ومن عليها، فيتحكم في الثروة ويحوزها كلها إليه، ويتحكم في نسائهم وأموالهم ودمائهم، فله التصرف المطلق في كل شيء.
ولذلك فـ أوروبا لما عانت من هذا النظام الإقطاعي المرارة والألم عممته، وهذا أحد الأخطاء التي يرتكبها المؤرخون في تاريخ التشريع أو التقنين أو تاريخ التطور الاجتماعي أو تاريخ علم الاجتماع إلخ.
فيظنون أن هذا النظام قد عمَّ العالم كله بهذا الشكل، ثم ينظرون إلى العالم الإسلامي اليوم، ويقولون: إنه ما زال يعيش في الإقطاع ويتهمونه بأنه دول إقطاعية.
ولا شك أن الإقطاع وجد بشكل من أشكاله في أيام الدولة العثمانية، لكنه لم يوجد بشكل كامل كما في أوروبا وهو ليس من الإسلام أصلاً، ثم إنه غير موجود الآن، والشاهد على أن النظام الإقطاعي شهد أسوأ وأشد أنواع التسلط والظلم؛ أن التشريع كان يستمد من المالك الإقطاعي الذي يملك الأرض ومن عليها، وهو الذي يشرع لهم كل شيء، وهذا من أفحش وأشد أنواع الظلم، حتى أنه كان لا يحق لأي رجل من الإقطاعية أن يتزوج أو أن يدخل بزوجته إلاَّ بعد أن يراها السيد المالك الإقطاعي، فإن أعجبته فإنه يدخل بها قبل زوجها ويفعل بها الفاحشة، وإن لم تعجبه تركها، فوصلوا إلى حالات من الظلم قد لا يكون لها نظير.
ومن المؤلم والمؤسف أن نذكر أن نظام الإقطاع سخَّر كثيراً من المسلمين وجعلهم عبيداً في الأراضي، فدرجتهم أدنى من درجة المزارعين والفلاحين، وهؤلاء العبيد هم من الأندلس الذين هجِّروا وطُردوا، وهم من المسلمين الذين أسروا في الحروب الصليبية وفي غيرها، فأرغموا على أن يتركوا دينهم، وأن يعيشوا عبيداً للأرض، يخدمون المزارعين الذين هم ملك للسيد أو للمالك الإقطاعي، وهكذا دائماً تجد معاملة كل من لا يعرف الله عز وجل ولا يوحده ولا يخافه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذا هو حاله مقترن به الظلم والجهل والجبروت والتسلط، وخاصةً من اليهود والنصارى وأمثالهم على المسلمين، وهذه -في جانب من جوانبها- هي عقوبة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على المسلمين، على ما فعلوا وارتكبوا وفرطوا في دينهم.(2/27)
الحالة الثانية من الحكم بغير ما أنزل الله
ثم قال: ' وأما القسم الثاني '.
و (أما) هذه هنا معطوفة على أما التي في القسم الأول وهو كفر الاعتقاد الأكبر المخرج من الملة الذي ذكر المصنف تحته ستة أنواع، قال: ' وأما القسم الثاني من قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله، وهو الذي لا يُخرج من الملة.
أي: كفر العمل لا كفر الاعتقاد.(2/28)
تفسير ابن عباس لآية الحكم
قال: ' فقد تقدم أن تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لقول الله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] قد شمل ذلك القسم، وذلك في قوله رضي الله عنه في الآية: [[كفر دون كفر]] وقوله أيضاً: [[ليس بالكفر الذي تذهبون إليه]] '.
فهو يشير إلى ما تقدم في كلام المصنف رحمه الله: أن الحكم بغير ما أنزل الله كفر، ومن الممتنع ومن المحال أن يسمي الله تبارك وتعالى ذنباً ما كفراً ولا يكون صاحبه كافراً؛ لكن عند التفصيل ننظر هل هذا الكفر كفر أكبر ينقل عن الملة أم هو كفر أصغر لا ينقل عن الملة.
فالأول هو كفر الاعتقاد، والآخر هو كفر العمل، وهذا هو المقصود، فهو كفر فعلي، فهو يقول: إن ما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره من السلف -على ما سنفصل إن شاء الله من أن الآية تشمل الكفر الأكبر فهي كذلك تشتمل على الكفر الأصغر، وإن كانت في الأصل نزلت في الكفر الأكبر.(2/29)
مثال توضيحي
قال: ' وذلك -وهذا تعريفه- أن تَحمِلَه شهوتهُ وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أنَّ حكمَ الله ورسوله هو الحقُ، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى '.
فإذا أردنا توضيح المسألة أكثر، فنقول وبالتعبير السائد الآن أو بشكل أكثر بساطة ووضوحاً: إن القاضي سواء كان قاضياً في محكمة أو مجرد قاضٍ يقضي -وكل من قضى في مسألة فهو قاضٍ- إما أن يكون شرعه ودينه وقانونه ونظامه الذي يحكم به هو ما أنزل الله -كما سيأتي في الآثار والنقاش الذي دار بين الخوارج وبين أبي مجلز رحمه الله، وإما أن يكون شرعه وقانونه ودينه شيئاً آخر، كالشرائع المنسوخة في التوراة والإنجيل، أو قوانين موضوعة مثل شرائع التتار أو شريعة نابليون، أو أي قانون من القوانين الوضعية، وهذا هو مفترق الطرق، فهذان قسمان لا صلة بينهما؛ فهذا متبع وملتزم ومنقاد ومستسلم لأمر الله ودينه وشرعه، وهذا يتحاكم ويحكم ويتبع وينقاد ويستسلم لدين غير دين الله، وشرع غير شرع الله فهو شريعته ونظامه، وهو دينه، كما ذكر الله سبحانه في سورة يوسف {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف:76] فمعنى في دين الملك أي: في حكمه وفي شرعه، وكل إنسان شرعه ونظامه هو دينه.
فهذا شيء وذلك شيء آخر.(2/30)
القسم الأول: الملتزم بحكم الله
ونرجع إلى القسم الأول: وهم المنقادون لحكم الله والمؤمنون والملتزمون به، والمستسلمون له، هل هم في كل مرة وفي كل حكم يحكمون بما أنزل الله في الواقع، أو أنهم قد يخالفون أمر الله؟ تقع المخالفة وتقع المعصية والجهل والخطأ والتأويل، فإن هذه هي مثل سائر العبادات، وسائر شعب الإيمان، فليس كل من يلتزم الإيمان والإسلام يكون مقيماً له كاملاً، بل يقع من أهل الإيمان مخالفة لما آمنوا به، فقد يقع الزنا ممن يؤمن بأن الله قد حرَّم الزنا ويكرهه ولا يريده، ويوجد من يعتقد تحريم السرقة أو الرشوة أو الربا ويفعلها، فهذه معاصٍ تقع من المؤمن.
لكن يوجد من المؤمنين من هو ملتزم بما أنزل الله كاملاً، أي: يطبقه ويقيمه.
وهنا نقول: هذا الفرق بين هؤلاء وبين أولئك، فالقاضي الملتزم بما أنزل الله، والذي هو دينه ومنهجه ونظامه الذي يحكم به ويتحاكم إليه ولا يُقر بغيره ولا يعتقد حكماً آخر غيره، هو حكم الله وشرع الله، وهو كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما تفرع عنهما من أنواع الإجماع وأقوال الفقهاء من الصحابة ومن بعدهم.
فإذا جاء القاضي رجل من قرابته، أو من له عليه مال، أو رجل من أصحاب السلطان أو من أصحاب الشهوات، فحكم في القضية كما قاله المصنف: ' تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله '.
أي: وهو معتقد في نفسه أن الحكم الحق هو ما أنزل الله، وأن الشرع الحق هو ما شرعه الله واعترف على نفسه بالخطأ، وأن هذا الذي حكم به لم يحمله على فعله إلا الشهوة والهوى وطاعة الشيطان، فهذه الحالة الأولى في هذه القضية.
أما لو أنه التزم شرعاً غير شرع الله، حتى ولو كان في محكمة شرعية، لكنه التزم أن كل من أتاه في حد زنا أن يحكم فيه بما تحكم به شريعة نابليون -مثلاً- أن هذا هو من حق الزوج، وننظر إلى المرأة هل هي دون عمر الثامن عشرة سنة؟ وهل هي مغصوبة أو غير مغصوبة؟ متزوجة أم غير متزوجة؟ والأمر يرجع إلى الزوج أو يحكم عليه بكذا (جُنيه) أو يسجن، فإذا كان هذا شرعه وهذا دينه فإن هذا غير ملتزمٍ أصلاً بما أنزل الله، لكن هذا الكلام الذي نقوله هو في هذه الحالة التي قضى فيها القاضي بما أنزل الله، وقد يخالف أمر الله عن عمد وعن هوى.(2/31)
القسم الثاني: الجاهل والمتأول
وقد يخالفه عن جهل بحكم الله سبحانه، إذ ليس كل من وليَّ القضاء والحكم بين الناس يعلم جميع ما أنزل الله ويعرف الأحكام، وإن كان الواجب ألاَّ يعين إلا من هو في درجة الاجتهاد، وقد يولى شخص فيحكم في هذه المسألة أو في بعض المسائل بما أنزل الله خطأً منه في ذلك فيظن أن هذا الذي فعل حده.
القتل أو القطع فيخلط بين الحدين، وقد يقع في الخطأ ويقع منه التأويل، والتأويل له أبواب.
فبعض القضاة يتأول الآية على غير وجهها، والحديث على غير وجهه ويخالف حكم الله تعالى فيه.
وبعض القضاة يقول: مذهبنا لا يعتبر هذا الحديث دالاً على ذلك لأنه خالف ظاهر القرآن، ومخالفة الحديث ظاهر القرآن يعتبر نسخاً إلى آخره، وهناك أمور تفصيلية لا داعي للاستطراد فيها، كالأصول الفقهية في المذاهب الأربعة وغيرها، فقد يَرد الإنسان حكم الله الذي يدين به أهل الحق لأصل من أصول مذهبه التي يتوهم ويظن أنها حق وهي غير كذلك، فيحكم بها، فهذا متأول له اجتهاد وإن كان غير سائغ وغير مقبول.
المهم أن المخالفة لحكم الله تقع إما خطأً، وإما اجتهاداً وتأولاً، وقد يقع هوىً وشهوة، والكلام هنا هو في المخالف اتباعاً للهوى واتباعاً للشهوة، وهو في بلد يحكم بما أنزل الله، وفي محكمة تحكم بما أنزل الله، وهو مستسلم لأمر الله، معتقد أن من حَكَّم شرعاً غير شرع الله، ومن أحل القوانين الوضعية محل شرع الله، فقد كفر.
كل هذا موجود لديه، لكنه عدل عن حكم الله في هذه القضية أو في هذه المسألة اتباعاً للهوى وللشهوة أو لأي داعٍ من دواعي معصية الله، كما تعرض للإنسان في كل الأحكام، وكما تعرض له في الزنا وشرب الخمر وكل المعاصي، فهذا هو الذي لا يكون خارجاً عن الملة.
ولكن كما قال المصنف رحمه الله: ' وهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملة، فإنه معصية عظمى '.
وكلام المصنف في هذه المسألة سيأتي له إيضاح من أقوال العلماء إن شاء الله.
قال: ' وهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملة، فإنه معصية عظمى' -أي: هذا الحكم الذي حكم به- أكبر من الكبائر، كالزنا، وشرب الخمر، والسرقة، واليمين الغموس، وغيرها، وهذا الفعل أكبر من بقية الكبائر لأن المعصية التي سميت كفراً، أعظم من المعصية التي لم تسمَّ في لسان الشرع كفراً.
'فإن معصية سماها الله في كتابه كفراً، أعظم من معصية لم يسمها كفراً'.
وهذا تقدم شرحه في أول الكلام، عند ذكر النصوص المبينة لأنواع الكفر.
قال: ' نسأل الله أن يجمع المسلمين على التحاكم إلى كتابه، انقياداً ورضاءً، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه '.
وبذلك انتهت فتوى الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله.(2/32)
فتوى الشيخ ابن باز عن الحاكمية
وبهذه المناسبة أيضا نجد أن سماحة الشيخ ابن باز حفظه الله، وقد صدرت -والحمد لله- مجلدات من مجموع فتاواه، وسيصدر قريباً إن شاء الله المجلد السابع وهو تحت الطبع.
وفي المجلد الرابع من مجموع الفتاوى للشيخ صفحة (416) سئل عن حكم من يحكم بغير ما أنزل الله وهذا نص
السؤال
السؤال: هل يعتبر الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله كفاراً، وإذا قلنا: إنهم مسلمون فماذا نقول عن قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]؟ وهذا نشر في مجلة الدعوة العدد (963) في [5/ 2/1405هـ].
الجواب
يقول: 'الحكام بغير ما أنزل الله أقسام، تختلف أحكامهم بحسب اعتقادهم وأعمالهم، فمن حكم بغير ما أنزل الله يرى أن ذلك أحسن من شرع الله فهو كافر عند جميع المسلمين، وهكذا من يحكِّم القوانين الوضعية بدلاً من شرع الله ويرى أن ذلك جائزاً، حتى وإن قال: إن تحكيم الشريعة أفضل فهو كافر لكونه استحل ما حرم الله".
أي: من أجاز الحكم بغير ما أنزل الله من القوانين الوضعية، ولو قال: إن تحكيم الشريعة أفضل -وهذا كمن ذكرنا لكم- مثل من يقول:
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً
يقول: 'ولو قال: إن تحكيم الشريعة أفضل فهو كافر لكونه استحل ما حرم الله، أما من حكم بغير ما أنزل الله اتباعاً للهوى أو لرشوة أو لعداوة بينه وبين المحكوم عليه'.
أي عداوة شخصية، أو لكونه من غير بلده أو جنسيته، أو لكونه من قبيلة ضد قبيلته، أو على مذهب غير مذهبه، ونحن مأمورون بالعدل لأننا مسلمون، ومن أهم خصائص وعلامات أهل السنة العدل حتى لو جاءك كتابي -يهودي أو نصراني- من أهل الذمة، ممن يعيش بين المسلمين بعقد ذمة، ومسلم من خيار الناس، ومن أفاضل الناس، وأنت قاضٍ، فالواجب عليك ألاَّ تحكم رأساً لهذا التقي البار المجاهد، العلامة إلى آخره على الكتابي، بل لا بد أن تسمع من الطرفين، وتنظر في الحجتين، وتقضي بما أنزل الله، بعد أن تتأمل هل الحق لليهودي أو لهذا العلامة المجاهد، فالعدل هو ديننا لا نحيف ولا نجور.
فالشيخ حفظه الله يقول: " قد يحكم إما اتباعاً للهوى أو لرشوة أو لعداوة بينه بين المحكوم عليه".
ولا عداوة أعظم من عداوة الدين، ومع ذلك لا بد أن نعدل في الحكم.
قال:" أو لأسباب أخرى، وهو يعلم -يعتقد- أنه عاص لله بذلك، وأن الواجب عليه تحكيم شرع الله، فهذا يعتبر من أهل المعاصي والكبائر، ويعتبر قد أتى كفراً أصغر وظلماً أصغر، وفسقاً أصغر".
لأن الظلم الأكبر هو الشرك، كما قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] والفسق الأكبر هو الكفر بدليل قوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50] وهذا فسق أكبر أي: كفر مخرج من الملة، فهذا الذي حكم بغير ما أنزل الله في هذه الواقعة وفي هذه القضية، نظراً لهوى أو لعداوة أو لقرابة أو لعصبية إلخ وهو موقن بشرع الله ومنقاد له ومستعصم به، ويعلم أنه عاصٍ لله، وأنه خالف ما أنزل الله إلخ هذا يكون كَفَرَ كفراً أصغر، وظلم ظلماً أصغر وفسقاً أصغر غير مخرج من الملة.
قال: 'كما جاء هذا المعنى عن ابن عباس وعن طاوس وعن جماعة من السلف الصالح وهو المعروف عند أهل العلم والله ولي التوفيق' وبهذا ينتهي نقل فتوى الشيخين الفاضلين، محمد بن إبراهيم رحمه الله، وابن باز حفظه الله، في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله.(2/33)
حكم المجتهد المخطئ
لعل شخصاً استشكل عليه أمرٌ وهو: هل يوجد من اجتهد ليحكم بما أنزل الله لكن لم يوفق لذلك؟
الجواب
نعم، نحن ذكرنا أنه ليس كل أحد يصيب في حكم الله، فقد يجتهد فيخطئ وله أجر، ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر} وهذا واضح، وهو من فضل الله على هذه الأمة وعلى أهل العلم والفقه والاستنباط منها.
وأيضاً لا يفهم أن القاضي المؤهل-معنى كونه مؤهلاً- أنه لا يخطئ في حكم الله في كل قضاء يقضي به، لا يشترط ذلك، لكنه أهلٌ للقضاء، وفيه الشروط التي جمعها بعض العلماء واعتبروها فيمن يكون في هذا المنصب الشرعي، فهذا اجتهد ولكنه أخطأ وما أكثر ما يخطئ الناس! ولو أنا ذهبنا نتتبع أخطاءهم لم يولَّ أحد، فالمخطئ لا يدخل في كلامنا ولا يدخل الجاهل من غير تقصير، ولكن كلامنا فيمن يعصي وهو يعلم أنه عاصٍ، وأنه مخالف لحكم الله وأنه اتبع هواه وشهوته.(2/34)
مفهوم الجهاد
في هذا الدرس تحدث الشيخ حفظه الله تعالى عن مفهوم الجهاد، في إطار مناقشة كلام للشيخ عبد الله عزام -رحمه الله- في كتابه "الدفاع عن أراضي المسلمين أهم فروض الأعيان"، وقد علق الشيخ على عنوان الكتاب، مبيناً أن أهم فروض الأعيان هو التوحيد، وأن الجهاد إنما هو لأجل تحقيقه لا لأجل الأرض، ورد على استدلالات المؤلف مبيناً مذاهب الفقهاء، ثم حث الأمة على الدعوة والتوحيد، حتى يتحقق النصر في الجهاد الأكبر.(3/1)
تصحيح مفهوم الجهاد
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: إن هناك قضية ثارت عند الشباب وأثيرت، وما كنت أحب أن أدلي برأيي الخاص فيها، وليس ذلك من باب التواضع، ولكنها الحقيقة؛ لأننا نريد أن يكون علماؤنا -جزاهم الله خيراً- هم الذين يفتون؛ لأنهم أهلٌ لذلك في مثل هذه الأمور.
لكن لما رأينا أن العلماء قد حصل بينهم بعض الاختلاف، ورأينا اندفاع الشباب إلى جهة واحدة والأخذ بها فقط، ولم يتفطنوا إلى غيرها من الجهات ولم يتبينوا الأمر كما ينبغي، أحببنا أن ندلي في هذه القضية برأينا، ونحن لا نعتبر أنفسنا إلا أننا إخوة نتذاكر ونتناصح، ونتعاون على ما يرضي الله.
فالكلام الذي سأقوله لا تعتبروه فتوى نهائية، بل نعتبر الموضوع موضوع مذاكرة، يقبل المناصحة والمناقشة، وإذا كنا نقول ونقول دائماً: إن العلماء الأجلاء، بل حتى الأئمة الأربعة، إذا وجدنا أحداً منهم يخالف الدليل، فإننا لا نأخذ بقوله، فما بالكم بنا نحن طلبة العلم؟! فمن حق كل إنسان إذا رأى في الكلام الذي أقوله خطأً أو التباساً أن يناقش؛ لنصل جميعاً إلى الحق، فلعل ذلك يكتب أو ينشر أو يقرأ بطريقة أفضل من الآن.
نحن نسمع عن الجهاد، ولا يوجد مسلم لا يسمع أخبار هذا الجهاد، وكل مسلم يتمنى أن ينصر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المجاهدين في أفغانستان، وفي كل مكان، وهذا أمر لا يشك فيه أي مسلم، ونحن نعلم قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق} ونعرف أن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، ونعلم أن هذا الدين لن تقوم له قائمة إلا بالجهاد في سبيل الله عز وجل.
بل إننا ننكر على الذين يظنون أن الجهاد في سبيل الله هو مجرد دعوة فقط، ويستبعدون السيف استبعاداً نهائياً، ويفسرون (في سبيل الله): على أن معناه هو مجرد الخروج أو الدعوة! فإن منهج أهل السنة والجماعة واضح في هذه المسألة، كما هو معروف في أبواب العقيدة، فالمسألة ليست مجالاً للنقاش في أصلها؛ لأنها قضية اعتقاد، فإن يكن هناك مثبطون عن الجهاد، أو لا يريدون الجهاد، أو يصرفون الناس عنه، أو يؤولون آيات الجهاد وأحكام الجهاد، فهذا شيء مرفوض في منهج أهل السنة والجماعة، ولا يقره أي إنسان.
لكن هذا الأمر شيء، وقضية الغلو في مفهوم الجهاد شيء آخر، وهي أن يأتي أناس ويقولون: الدعوة إلى الله لا تقوم إلا عن طريق الجهاد فلابد أن نجاهد! أو يأتي أناس ويقولون: إن الجهاد في مكان ما فرض عين على كل مسلم ومسلمة؛ فلا يستأذن الرجل أبويه، ولا تستأذن الزوجة زوجها مهما كان، بل يترك عمله ويذهب ليجاهد في هذا المكان؛ أياً كان ذلك المكان! هذا لا يقر، وهو غير الإقرار بحكم الجهاد وفرضية الجهاد، وأنه لابد منه لهذا الدين ولقيام الدعوة.
فقد أصبحنا الآن نناقش ونعايش ونسمع فتوى أنه يجب علي وعليك وعلى كل إنسان في المجتمع أن يترك أهله وعمله ووالديه وكل شيء، ويذهب إلى مكان ما ليجاهد، لا نقول: أفغانستان وحدها؛ لأنه قد يأتي قائل ويقول: أريد مكاناً آخر، فهل هذا هو الحكم الشرعي الصحيح الذي يتوافق مع قواعد النصوص التي نص عليها أهل السنة والجماعة؟ أم أن هذا كلام فيه نظر، ويحتاج إلى دقة، ويحتاج إلى أن يبحث ويتأمل؟(3/2)
وقفات مع كتاب عبد الله عزام
والذي دفعنا لهذا الكلام هو صدور كتاب عنوانه: (الدفاع عن أراضي المسلمين أهم فروض الأعيان).
وهذا العنوان أثار عجبي، فنحن منذ زمن طويل نقرأ أن أهم وأوجب فرض فرضه الله سبحانه على عباده هو توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده، فكيف نقول: إن الدفاع عن الأراضي هو أهم فروض الأعيان؟! هذا شيء عجيب يستوقف الإنسان المنصف المخلص ليرجع إلى أصل القضية.
وأنا أقول: فَرقٌ بين من يقول: "إن الجهاد واجب" -وقد أفتى بذلك الشيخ عبد العزيز بن باز جزاه الله خيراً- أي: على المسلمين عموماً بما يستطيعون، وبين من يقول: الجهاد أو الدفاع عن أراضي المسلمين أهم فروض الأعيان.
في أي كتاب هذا القول وبأية سنة؟! لابد أن نعرف الغلو الواقع في هذا العنوان وفي هذا الكتاب؛ مع أننا لا ننكر أصل القضية، ولكن نحن نعلم من دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن أهم فروض الأعيان هو عبادة الله وحده، والإخلاص لله وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن أجل ذلك نجاهد لتكون كلمة الله هي العليا، فليست القضية قضية أرض ولا تراب.(3/3)
معارضة عنوان الكتاب للأحاديث الصحيحة
والأدلة من نفس هذا الكتاب، فمثلاً: الحديث الذي ذكره في بداية الكتاب يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له}.
وهذا الحديث جاء به الشيخ في أول الكتاب! فلماذا بعث محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسيف؟ أحتى يدافع عن أراضي الإسلام؟ أم حتى يعبد الله وحده لا شريك له؟ إن أهم فروض الأعيان -وهو الفرض الذي من أجله فرض الجهاد- أن يعبد الله وحده لا شريك له.
وكون ذلك لا يتحقق إلا بالجهاد مسألة أخرى؛ مع أنه قد يتحقق بغير الجهاد أحياناً، فلذلك لابد أن نعد أنفسنا ونعد أمتنا لتحقيق الفرض العيني الواجب على كل مسلم وعلى كل مكلف، وهو توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
لما بعث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذ بن جبل إلى اليمن أمره بقوله: {فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله} ولا يعني هذا أنهم لا يجاهدون الكفار، بل يجاهدون؛ لكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره أن يبدأ بأهم فروض الأعيان وهو توحيد الله.
ثم قال له: {فإن هم أجابوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات}.
ثم بعد ذلك الزكاة، وبعد ذلك تأتي الأحكام الأخرى فلا يجوز أن نخرج عما أنزل الله، وعما شرع الله.(3/4)
معارضة عنوان الكتاب للآيات القرآنية
ونذكر نفس الآيات التي ذكرها الشيخ: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} [الحج:40].
فقد أذن الله للمؤمنين بالجهاد؛ حتى لا تهدم المساجد التي يذكر فيها اسم الله كثيراً، وهذا يدل على أن أهم شيء يجب أن نحافظ عليه هو الدين، هو أن تبقى المساجد يذكر فيها اسم الله عز وجل، وأن تبقى أماكن العبادة لله وحده.
فهذا الذي من أجله ندعو ومن أجله نجاهد، وبناءً على ذلك نعمل بفرض العين الأساسي الذي يجب على كل مسلم أن يعمل من أجله، فإذا اعتدي على بقعة من بقاع المسلمين وجاهدنا المعتدي، فليس من أجل الدفاع عن الأرض، بل من أجل المساجد، ومن أجل ألا يعبد إلا الله وحده، إذا استبانت هذه القضية فحينئذٍ نسأل: ما حكم هذه البقعة؟ هل نذهب جميعاً؟ هل يذهب بعضنا؟ هل نساعد؟ فتلك أحكام أخرى.
والشيخ -غفر الله لنا وله- يقول: أفتى الشيخ -يعني الشيخ عبد العزيز بن باز - بأن هذه الرسالة طيبة، ووافق عليها، ولكنه اقترح علي أن أختصرها؛ حتى يكتب لي مقدمة، وبعد ذلك يقول: كان الوقت ضيقاً أيام الحج، ولم يتسع المجال لعرضها عليه مرة أخرى، ولذلك لا نستطيع أن نقول: إن الشيخ ابن باز أقر هذه الرسالة.
ثم يقول: أفتى الشيخ ابن باز في مسجد ابن لادن في جدة وفي الجامع الكبير بـ الرياض أن الجهاد اليوم فرض عين وهذا الكلام مجمل، أي: فتوى الشيخ ابن باز بأن الجهاد فرض عين.
فأنا أقول: إن الجهاد فرض عين؛ لكن إذا كان الجهاد فرض عين، فهل يعني ذلك أن نلزم كل إنسان بالذهاب إلى الجهاد؟ أم نأخذ أهم فروض الأعيان؟ وفروض الأعيان هل هي فرض واحد أم فروض؟ الشيخ عبد الله قال: "أهم فروض الأعيان" فلنفترض أنها خمسة مثلاً أو سبعة، فهي عدة فروض، فما هو أهمها؟ نبدأ بذكرها واحداً واحداً، فإذا ذكرنا أحدها، نظرنا: هل هو أهمها؟ فقد يكون فرض عين؛ لكن ترتيبه العاشر أو الثامن أو الرابع أو الثاني، فكون الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله قال: "إن هذا فرض عين" لا يعني أنه أهم فروض الأعيان، وأن به نبدأ الآن، وننطلق وننسى ما عداه من الفروض! وهذا الشيء ينبغي أن يعلم.(3/5)
متى يصير الجهاد فرض عين
يقول: 'اتفق السلف والخلف وجميع الفقهاء والمحدثين في جميع العصور الإسلامية، أنه إذا اعتدي على شبر من أراضي المسلمين؛ أصبح الجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة، بحيث يخرج الولد دون إذن والده، والمرأة دون إذن زوجها'.
هذا الكلام غير صحيح، وإذا أردتم أن ننقضه، وأن نبين أن هذا غير صحيح فمن نفس الكتاب، وليس من أي كتاب آخر، فهذا الكلام من صفحة (6)، فلننظر إلى صفحة (11)، فقد أتى فيها بكلام الشيخ عبد الله علوان، وكرره ص22 من نفس الكتاب.
يقول: 'قال ابن عابدين من فقهاء الحنفية: وفرض عين إن هجم العدو على ثغر من ثغور الإسلام، فيصير فرض عين على من قرب منهم -تأملوا ما قال! فقد قال: على من قرب منهم، ولم يقل: على كل مسلم ومسلمة، فهو كلام مختلف، ثم قال:- فأما من كان وراءهم على بعدٍ من العدو فهو فرض كفاية إذا لم يحتج إليهم، فإن احتيج إليهم بأن عجز من كان بقرب العدو عن المقاومة، أو لم يعجزوا عنهم، لكن تكاسلوا ولم يجاهدوا، فإنه يفترض على من يليهم '.
فالقول بأن الجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة بإطلاق خطأ؛ لأن الفقهاء ما اتفقوا على هذا، وإنما قالوا: على أهل البلد القريب، ثم على من يليهم، ثم على من يليهم وهكذا.
ثم إن الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله يقول: 'بسم الله الرحمن الرحيم لقد سمعت ما كتبه أخونا عبد الله عزام بحكم الدفاع عن أراض المسلمين التي احتلها أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأعداؤهم من أجناس الكفار، والبالغ 120 صفحة، وهو كتاب جيد، أرى أن يعرض على رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية لتقرير ما تراه في ذلك ونشره، ليعم الانتفاع بمضمونه، ونسأل الله تعالى أن يجعلنا من المجاهدين في سبيله'.
وهذا الكلام حق فهو يقول: أنا أرى أن هذه الرسالة جيدة، وتعرض على الرئاسة، وهذا كلام نحن نقوله، فليس في هذا تزكية، والشيخ عبد الله عزام ذكره هنا على أساس أنه تزكية، وأن الكلام حق ومجمع عليه بين العلماء.
فلنرجع إلى الأدلة التي ذكرها الشيخ -غفر الله لنا وله- يقول مثلاً: 'من أهم الفرائض الغائبة والواجبات المنسية فريضة الجهاد التي غابت عن واقع المسلمين، فأصبحوا كغثاء السيل' وهذا كلام صحيح، فمن أهم الفرائض التي تركها المسلمون الجهاد، هنا (من أهم) وهناك (أهم)، وهذه هي المشكلة يا شيخ! هناك فرق بين (أهم) و (ومن أهم)، ولا ينبغي أن نقع في التناقض، والمسألة دماء، والمسألة أنفس، فالإنسان إذا أفتى في أمر بدرهم أو دينار لا يجوز أن يتسرع فيه، فكيف إذا كانت الفتوى تتعلق بالدماء والأنفس؟ العنوان (أهم) وبالداخل (من أهم)، فلو استبدلت (أهم) بـ (من أهم) فنحن معك وعندها يكون هناك ما هو أهم منه نقدمه عليه.
هذا الكلام في (ص:19) وأعاده في (ص:20) يقول: "أنواع الجهاد: جهاد الدفع -أي دفع الكفار عن بلادنا- وهذا يكون فرض عين، بل أهم فروض الأعيان'.(3/6)
رأي ابن تيمية
ويستشهد على أنه أهم فروض الأعيان بكلام شَيْخ الإِسْلامِ، يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية كما نقله المؤلف؛ لأن كلام شَيْخ الإِسْلامِ له قبله كلام وبعده كلام، لكن فقط نقرأ ما كتب هو يقول: 'وأما قتال الدفع، وهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين، فواجب إجماعاً -وهناك فرق بين واجب وبين فرض عين- والعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه' فهو يقرر أن أهم فروض الأعيان هو الإيمان والتوحيد، بعد ذلك يأتي الدفع؛ فكيف يستشهد بكلام شَيْخ الإِسْلامِ على أنه أهم فروض الأعيان؟!(3/7)
مذاهب الفقهاء الأربعة
نرجع إلى كلام الفقهاء: أولاً: مذهب الحنفية: وقد قرأنا لكم نصهم فهم يرون التدرج، يكون فرض العين على أهل البلد الذين يهاجمهم الكفار، وفرض كفاية على من يليهم، ثم يتدرج وتتسع الدائرة حتى تشمل جميع بلاد المسلمين.
ثانياً: مذهب المالكية: وقد ذكر عنهم ما في حاشية الدسوقي فقط، وهذا لا يعبر عن كلام المالكية، بل حتى الحنفية لا نسلِّم أن ما قاله ابن عابدين يكفي، لكن لنفترض ذلك، والشيخ أخذ في المذهب أشد ما يجد فيه، يقول المالكية: "توجه الدفع على كل أحد، وإن كان امرأةً أو عبداً أو صبياً، ويخرجون ولو منعهم الوالي والزوج ورب البيت"، وهذا الكلام: "توجه الدفع على كل أحد" نص معلق؛ لأننا لا نعرف ما هو الشرط، فلا نستطيع أن نقول: إن فيه حجة، حتى نعرف متى يتوجه الدفع؛ لأنه لم يذكر هل ذلك إذا دخلوا بلاد المسلمين؟ هل إذا دخلوا البلدة نفسها؟ هل إذا دخلوا بلاداً بعيدة بأطراف الثغور؟ لا ندري، فهذا لا دليل فيه.
ثالثاً: مذهب الشافعية: يقول: "جاء في نهاية المحتاج للـ الرملي: فإن دخلوا بلدة لنا، وصار بيننا وبينهم دون مسافة القصر، فيلزم أهلها الدفع حتى من لا جهاد عليهم من فقير، وولد، وعبد، ومَدين وامرأة".
الشافعية اشترطوا -ليكون الجهاد فرض عين- أن يكون بيننا وبين العدو أقل من مسافة القصر، أي: 80 كيلو، وبعض العلماء يقول: 48ميلاً فنفهم من كلام الشافعية أن العدو إذا لم يكن بينك وبينه مسافة القصر، فلا يجب عليك وجوباً عينياً حينها أن تجاهد، فهل في هذا الكلام الذي يقول: (وصار بيننا وبينهم دون مسافة القصر) دليل لمن يقول: إنه فرض عين على جميع المسلمين في أطراف الدنيا كما في العنوان؟! فعلى مذهب الشافعية؛ لا يجب الجهاد حتى على المسلمين الذين في باكستان قريباً من الحدود بقدر 80 كيلو متر، إِذَنْ هذا لا دليل فيه! رابعاً: عند الحنابلة: يقول ابن قدامة: ' ويتعين الجهاد في ثلاثة مواضع: إذا التقى الزحفان، وتقابل الصفان.
ثانياً: إذا نزل الكافر ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم ' وأيضاً لا شاهد في هذا.
' الثالث: إذا استنفر الإمام قوماً لزمهم النفير '.
هذه القضية الثالثة: إذا استنفر إمام المسلمين قوماً لزمهم النفير، وإذا لم يستنفرهم الإمام لم يلزمهم، فنرجع إلى قضية أخرى وهي قضية الإمام العام للمسلمين، وقد جاء كلام الفقهاء على هذه الصيغة؛ لأنهم يتصورون أن الأمة الإسلامية لها إمام واحد -هذا هو الأصل- ويحكمها جميعاً خليفة واحد، كما كان في عهد الراشدين ومن بعدهم، وهذا الإمام إذا استنفر قوماً وجب عليهم؛ لأنه ينظر إلى المصلحة نظرة متكاملة، فهو أعرف بالحدود.
فيقول: "الحدود الشرقية ليس فيها مشكلة، لكن عندنا في الغرب عدو، تعالوا يا أهل الشرق واذهبوا إلى الغرب"؛ لأنه بلد واحد، وحالتنا نحن المسلمين في هذا العصر مختلفة تماماً، الواقع الآن أن المسلمين مقسمون إلى دول، وكل دولة لها حدود مع الأخرى، فلا ينطبق عليها أن واحداً يحكم بلداً بعيداً يستنفر بقية البلاد، فكيف وهو لا يوجد إمام حتى في البلاد التي تريد أن نُستنفر إليها، وإنما جبهات مختلفة؟! نسأل الله أن يجمع كلمتهم على الحق إنه سميع مجيب.
فكلام ابن قدامة ليس فيه دليل.
نأتي الآن إلى كلام ابن تيمية: ويقول ابن تيمية: ' إذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب، وأنه يجب النفير إليه بلا إذن والد ولا غريم، ونصوص أحمد صريحة بهذا '، وليس في هذا دليل لكلام الشيخ عبد الله، فهل هذا ينطبق مع كلام الشيخ عبد الله حيث يقول: اتفق السلف والخلف وجميع الفقهاء والمحدثين في جميع العصور الإسلامية، أنه إذا اعتدي على شبر من أراضي المسلمين، أصبح الجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة، بحيث يخرج الولد دون إذن والده، والمرأة دون إذن زوجها أين هذا من هذا؟ فليس هناك دليل، وكما نلاحظ الحنفية دليلهم صريح، وكلام المالكية معلق، وكلام الشافعية والحنابلة ليس فيه دليل، وهكذا انتهت المذاهب الأربعة التي يظن الشيخ أنها أجمعت على أن ما يقوله صحيح.(3/8)
مناقشة نصوص النفير
بعد ذلك يأتي بآيات النفير العام يقول: ' ويقول الله عز وجل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193] والفتنة هي: الشرك، كما قال ابن عباس والسدي، وعند نزول الكفار واستيلائهم على الديار، فالأمة مهددة في دينها ومعرضة للشك في عقيدتها؛ فيجب القتال لحماية الدين والنفس والعرض والمال ' وهذا كلام حسن.
المناقشة: إذاً: الجهاد من أجل الدين، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193]، والفتنة هي: الشرك، فيجب أن نقاتل المشركين حتى لا يكون شرك؛ لأنه لو لم نقاتلهم لاحتلوا بلادنا، ولتمكنوا فنشروا الشرك.
إذاً: الذي نحاربه نحن هو الشرك، وليس لأن فلاناً احتل بلدي، مع أن الدفاع عن البلاد مطلوب؛ لكن ليس هو القضية التي من أجلها نزلت الآية، ليس هو الجهاد الذي نقول: "إنه فرض عين"، فهو شيء آخر، الجهاد الذي هو ذورة سنام الإسلام، والذي به جاهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأصل فيه أنه من أجل أن يكون الدين كله لله، وألا يشرك بالله عز وجل.
إذاً: نحن نحارب المشرك سواء كان أخي أو ابن عمي أو أبي أو في بلدي أو من بعيد جاء بالسيف ليحتل بلدي، فلو جاءنا مشرك؛ لكن لم يأتِ بالسيف، وإنما جاءنا بكتاب أو بقبر، أفلا نحارب هذا المشرك؟ بلى.
فإننا إذا لم نحاربه فقد أبطلنا مفهوم الجهاد؛ لأن الجهاد إنما يكون من أجل إزالة الشرك، فإذا وجد الشرك في أية صورة من صوره، فيجب أن يجاهد بالقلم أو بالسيف إذا لم يمكن دفعه إلا بالسيف أو بأي شكل من أشكال الجهاد.(3/9)
حديث: {وإذا استنفرتم فانفروا}
ثم يقول الشيخ: ' وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا} ومدار الواجب: على حاجة المسلمين أو استنفار الإمام كما قال ابن القيم '.
المناقشة: الحديث لم يذكر حاجة المسلمين، وإنما قال: {وإذا استنفرتم} ومن أين لنا أن مدار الواجب على شيئين: على الحاجة وعلى الاستنفار؟! نحن لا ننكر أن الحاجة توجب؛ لكن نحن نقول: إن الحديث لم ينص إلا على شيء واحد وهو الاستنفار، ولم يذكر الحاجة، والحاجة تحتاج إلى دليل خارج الحديث، فهذا التخيير ليس موجوداً في الحديث، ثم إن الوجوب شيء وفرضية العين شيء آخر، ثم فرضية العين درجات، فبعض الفروض أهم من بعض.(3/10)
قاعدة الضرورات الخمس
ثم يقول: ' إن كل دين نزل من عند الله جعل لحفظ الضرورات الخمس: الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال -ومن هذا يقول- يجب الجهاد '.
المناقشة: نقول: هذا الكلام لا غبار عليه؛ لكنه لا يصلح دليلاً؛ لأن الجهاد فرض مهم ولا بد منه للدين، ونحن متفقون على ذلك، ولا يخالف في ذلك إلا الرافضة أو من لا يُعتدُّ بكلامهم، أو أناس غافلون عن الدين تماماً، أما من هو مهتم بدينه فلا ينكر أبداً أن الجهاد مهم؛ لكن هل يدل على أن الجهاد فرض عين، وأنه أهم فروض الأعيان؟ لا.
لا يدل على ذلك.
مثلاً: لو رجعنا إلى كلام الشيخ يقول في (ص:41): ' والحفاظ على الدين مقدم على الحفاظ على النفوس ' ثم ذهب يفصل دليل: الحفاظ على الدين مقدم على الحفاظ على النفوس، والحفاظ على النفوس أولى من الحفاظ على المال.
المناقشة: نقول: هذا صحيح، إذاً: أهم شيء هو الحفاظ على الدين، وأول شيء هو التوحيد، فهو جزاه الله خيراً يريد الحق، ولهذا تجده في مواضع كلامه الأخير يناقض كلامه الأول، فما دام أهم شيء هو الدين، وأهم شيء هو التوحيد، وأكبر هدف نسعى إليه هو إزالة الشرك، إذن نجعل القضية في موضعها الصحيح ولا نغلو في شيء من ذلك.(3/11)
دفع الصائل وقتال الفئة الباغية
ثم ذكر حكم الصائل وأنه يجب أن يدفع، وذكر أيضاً قتال الفئة الباغية.
المناقشة: هذا كلام ليس له علاقة بفرضية العين على جميع المسلمين، فمن صِيل عليه وجب عليه أن يدافع عن نفسه، وهذا معروف، ولا دلالة في وجوب قتال الفئة الباغية إذا لم تندفع بالإصلاح، على أن الجهاد فرض عين على كل المسلمين، وفي وقت معين، وفي مكان معين أنت تفرضه، وليس بين المسألتين أية علاقة.
وتترسُ الكفار بالمسلمين لا يمكن أن يؤدي إلى أن يكون الجهاد فرض عين على كل المسلمين، ولا علاقة بين المسألتين، ويقول: ' هذا دليل على أن الجهاد فرض عين ' والحقيقة أنه لا يوجد دليل، وحتى هذه المسألة -مع أنه لا شاهد فيها- هي أيضاً فيها خلاف كما يفيده كلام ابن تيمية، حيث قال: ' فإن الأئمة متفقون على أن الكفار لو تترسوا بأسرى المسلمين وضيق على المسلمين إذا لم يقاتلوا، جاز رمي أولئك المسلمين على أحد قولي العلماء '.(3/12)
أولويات الجهاد
ثم يتكلم: ' لماذا أفغانستان أو فلسطين أو غيرها؟ ' ونحن نحتاج هنا أن نتكلم قليلاً عن فلسطين، وعن أفغانستان بالذات.
فنقول: نحن متفقون على أن الجهاد فرض على الأمة الإسلامية، وأن تواطؤ المسلمين على ترك الجهاد يأثم به المسلمون جميعاً، ويجب أن يكون فيهم المجاهدون، ولا سيما من أجل الأصل الأول الذي يحارب المسلمون عليه الآن في كل مكان، وهو توحيد الله وعبادة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذه قضية حكمية لا نختلف فيها، لكن نرجع إلى القضايا في الواقع، ونرجع إلى معرفة الأحكام الشرعية المنصوص عليها؛ لنرى انطباق هذه على تلك.(3/13)
البدء بالمرتدين والمنافقين وأهل البدع المحاربين
نقول: المسلمون إذا أرادوا أن يجاهدوا في سبيل الله، وكان لهم أعداء، وكان الأعداء نوعين: النوع الأول: مرتدون كبني حنيفة الذين كانوا مع مسيلمة ومن معه.
النوع الآخر: كفار صرحاء مثل الروم أو الفرس، فبأي العدوين يبدأ المسلمون؟ لا ينبغي أن يوجد خلاف في أن أهم وأوجب القتال هو قتال المرتدين قبل قتال العدو الخارجي، فلو وجد عندنا قوم تجمعوا على بدعة من البدع، وكانت لهم شوكة ومنعة، وفارقوا بها جماعة المسلمين فأيهما أولى: قتالهم أو قتال الروم والفرس؟ قتالهم أولى، والدليل أن الصحابة -رضي الله عنهم- قاتلوا الخوارج وأجمعوا على قتالهم؛ لأنهم تجمعوا على بدعة فارقوا بها جماعة المسلمين، أرأيتم لو أننا فتحنا أرض فارس كلها، وتركنا الخوارج فدخلوا وأفسدوا دين الإسلام الذي في فارس والذي في جزيرة العرب، ماذا نستفيد لو كان المسلمون على دين الخوارج؟ لم نستفد شيئاً، بل ضاعت بيضة الدين وحوزته، فكون الروم أو الفرس يقاتلون هذا مكسب؛ فلا نضيع بيضة الدين، ونضيع رأس المال من أجل المكسب.
فأول ما يجب أن يبدأ به في القتال هو قتال أهل البدع المارقين الذين يجتمعون ولهم منعة وشوكة، يخرجون بها على صفوف المسلمين، وأعظم من ذلك قتال المرتدين ردة صريحة كاملة كبني حنيفة وأمثالهم، ولو طبقنا هذا على واقع الأمة الإسلامية نجد أن الباطنيين والملاحدة -جميعاً في أي بلد وجدوا- هم أولى بالقتال من العدو الخارجي الذي هو شرقي أو غربي، فهم أولى الناس به.(3/14)
البدء بأشرف البقاع
إننا إذا وصلنا إلى القول بأن أهم الفروض في هذه المرحلة -وهو التوحيد- قد تحقق، ثم ننتقل إلى واجب أو فرض آخر علينا، وهو أننا نطهر بلاد المسلمين من الأعداء الذين احتلوها، فما هي أول بقعة يجب أن تطهر؟ نقول: أولاً: الجزيرة العربية؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نص على ذلك وأوصانا به عند الموت، وطبق ذلك الخلفاء الراشدون، فقال: {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان} ثم القدس؛ لأنها أفضل، ثم الشام عموماً؛ لأنها أرض الإسلام، وأرض فتحها الصحابة.
فالبلدان تتفاوت في أهميتها كتفاوت الأعداء وكتفاوت الفروض، ولها أحكام ولها ترتيب، فننتقل من الأهم إلى المهم؛ إلا إذا عرفنا أنه لا يجب علينا هذا الشيء، فيجب أن ننتقل إلى ما بعده، ونستعمل أنواع الجهاد: جهاد الدعوة، جهاد العلم، جهاد السيف.
ولا بد أن نسير على الترتيب الشرعي، كالبدء بالمرتدين، ثم من حيث الأراضي كالبدء بـ جزيرة العرب، ثم أرض فلسطين، ثم ما بعدها.
فإذا كانت جزيرة العرب كلها على التوحيد والإيمان، وما فيها حزب ولا جماعة ولا دولة قائمة على الشيوعية أو على الشرك، فعندها ننتقل إلى فلسطين.
فقول الشيخ هنا: "نبدأ بـ أفغانستان " كلام مناقض للأدلة الشرعية، وهذا هو الذي ينبغي لنا أن نعرفه، فلا يمكن أن تبنى الأحكام الشرعية، وأن يستنفر الناس على مجرد رأي، ولا مانع من أن يبدي المرء رأيه.
لكن ليس له أن يلزم به الأمة، ولا يغلو فيه، حتى يتأكد أن من يخالفه لا حجة له، أو أنه ضعيف الحجة، ويجب علينا أن نكون في ديننا على نور من ربنا وعلى بصيرة وعلى برهان، والمسألة مسألة أنفس تباع، وليست قضية درهم أو دينار قابلة للحل ببساطة!(3/15)
حكم الاستعانة بالمشركين في الجهاد
ننتقل إلى قضية أخرى، وهي قضية غريبة في الحقيقة، يقول: ' هل نقاتل مع مسلمين ليسوا على مستوى معين من الإيمان؟ '.
ثم يرجح الشيخ عبد الله عزام جواز ذلك، ويستدل على ذلك بأنه يجوز أن نستعين بالكفار! وهذا يدخلنا في مشكلة خطيرة، وهي الاستعانة بالكفار في الجهاد؛ لأنه لو فتح هذا الباب فسيضيع الجهاد كله، ثم يجيب ويقول: ' وقد اتفق الفقهاء الأربعة على جواز الاستعانة بالكفار بشروط: أولاً: أن يكون حكم الإسلام هو الظاهر ' أي: يكون المسلمون أقوى من مجموع المشركين.
' ثانياً: أن يكون الكافر حسن الظن بالمسلمين وتؤمن خيانته لهم.
ثالثاً: أن يكون المسلمون بحاجة إلى الكفار '.(3/16)
مذاهب الفقهاء في الاستعانة بالمشركين
ولنستعرض أقوال المذاهب الأربعة: أولاً: مذهب الحنفية: رأي الحنفية: قال محمد بن الحسن: ' لا بأس أن يستعين المسلمون بأهل الشرك على أهل الشرك إذا كان حكم الإسلام هو الغالب '، وقال الجصاص: ' وقال أصحابنا: لا بأس بالاستعانة بالمشركين على غيرهم من المشركين إذا كانوا متى ظهروا كان حكم الإسلام هو الظاهر ' فرأي الحنفية أصحاب الرأي يوافق ما قال، فله فيه دليل ثم ننتقل إلى المالكية.
ثانياً: مذهب المالكية: قال ابن القاسم: ' ولا أرى أن يستعينوا بهم يقاتلون معهم إلا أن يكونوا نواتية أو خدماً -النواتية: هم خدم الدواب- فلا أرى بذلك بأساً '.
وقال مالك: ' لا أرى أن يستعان بالمشركين على المشركين إلا أن يكونوا خدماً '.
فكأن مالكاً يقول: المسلمون يحاربون وعندهم دواب، ويحتاجون أناساً يخدمونهم في خدمات النظافة، أو يجمعون الحطب، أو يطبخون أو أية خدمة معينة، فيمكن أن يأتوا ببعض المشركين يخدمونهم في هذه الأشياء، والمسلمون هم الغالبون، فيجوز استخدام المشركين بهذا الشرط: أي: ألا يكون لهم نفوذ، وألا تكون لهم جبهة، وألا يكون لهم قتال، ولا أي شيء، فلا دليل في هذا للشيخ، بل بالعكس هذا دليل ضد ما يقول.
ثالثاً: مذهب الشافعية: يقول الرملي صاحب كتاب نهاية المحتاج: ' وللإمام أو نائبه الاستعانة بكفار ولو أهل حرب؛ كأن يعرف حسن رأيهم فينا، ويشترط في الاستعانة: احتياجنا لهم لنحو خدمة أو قتال لقلةٍ ' فقد ذكر شرط الخدمة أو الحاجة للقتال، فالحكم ليس باتفاق الفقهاء كما قال الشيخ.
رابعاً: مذهب الحنابلة: قال ابن قدامة: ' وعن أحمد ما يدل على جواز الاستعانة بالمشرك؛ بل روي عن أحمد أنه يقسم للكافر من الغنائم إذا غزا مع الإمام خلافاً للجمهور الذين لا يقسمون له '.
القول الراجح في حكم الاستعانة بالمشركين: هناك رواية عن أحمد مع كلام الحنفية توافق ما قاله الشيخ، لكن المالكية والشافعية ورواية عن أحمد تخالف قوله.
وهناك حديث صحيح في صحيح مسلم ذكره الشيخ هنا، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لمشركٍ يوم بدر: ارجع فلن أستعين بمشرك}.
وحديث آخر يقول فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنا لا نستعين بالمشركين على المشركين} فالمذهب الصحيح والقول الصحيح هو ما دل عليه الحديث الصحيح: {لا نستعين بالمشركين على المشركين} والعلماء الذين قالوا: "نأخذهم خدماً" رأوا أن هذا لا يخالف الحديث؛ لأن الحديث ينص على الاستعانة في القتال، وهذه إنما هي خدمة، وقالوا: لعل هذا لا يدخل.
فكلام الأئمة الأربعة يوافق الحديث إلا الحنفية مع رواية أحمد فإنها مخالفة للحديث فكيف يقول: اتفق الأئمة الأربعة على ذلك؟! ثم يبني على جواز الاستعانة بالمشرك، جواز الاستعانة بالمسلم الذي عنده شركيات، ليقاتل معنا الكفار، وهذا استدلال مع الفارق، وتعسف لا يصح أبداً.(3/17)
الجهاد في أفغانستان
بعد ذلك أقول للمسلمين ولنفسي: إن الجهاد في أفغانستان مسئولية جميع المسلمين وفي كل مكان، وإنه يجب علينا أن نساعدهم بما نستطيع، وبالأخص ما هم أحوج ما يكونون إليه؛ وهو المال، فنبذل ما نستطيع من أموالنا فلنساعدهم.
لكن لا نصرف المال كله لهم؛ فالمجاعة تقتل إخواننا في إفريقيا، وإخواننا في الفلبين، كذلك في يوغسلافيا وفي بلغاريا، والمسلمون في كل مكان مثل الأيتام على مأدبة اللئام.
ونحن -بحمد الله- في هذا البلد مستورون، فنتبرع بنصيب أوفى لإخواننا الأفغان، لكنا أيضاً لا ننسى غيرهم، وكذلك إذا كان عندنا هنا جيران فقراء، فلا نتركهم لنعطي أهل مكان بعيد، بل نتصدق هنا وهناك، ونحاول أن نعطي هنا وهناك.(3/18)
نصائح في طريق الجهاد والدعوة
أولاً: ننصح إخواننا جميعاً بتوحيد الله عز وجل، وإخلاص العبادة لله عز وجل، ولا يستنكف أحد عن النصيحة، ويقول: أنت تتهمني في عقيدتي؛ فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربَّى أصحابه على هذا، والله عز وجل ينزل القرآن عليهم ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136].
يخاطبهم وهم مؤمنون بصفة الإيمان ويأمرهم مع ذلك به، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرات عديدة يقوي إيمانهم ويبين لهم الدلائل؛ فليس هذا اتهاماً لهم أنهم ما آمنوا، لكن هذا أهم شرط من شروط النصر، قال تعالى: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55].
فإذا كان عندك عشرة آلاف مجاهد من العامة لم يتربوا التربية الكافية، كما يقول الشيخ عبد الله، فنحن لا نقول: لا يمكن أن نجعل العشرة آلاف يعدلون المليون، بل إن عندنا وسيلة تجعل العشرة آلاف يعدلون المليون، وهي: الإيمان الصحيح.
فهذا سعد رضي الله عنه يكتب إلى عمر يريد ثلاثة آلاف مقاتل، فيرسل له القعقاع بن عمرو وحده، ويقول: أرسلت لك ثلاثة آلاف! وهو وحده، لكنه بمنزلة ثلاثة آلاف.
فالمجاهد المسلم في أفغانستان أو في أي مكان إذا عرف التوحيد وحقيقة الإخلاص لله عز وجل، حولناه من فرد إلى مائة إلى ألف وربما إلى ثلاثة آلاف، وهذا من أسباب النصر بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فإذا حققنا التوحيد انتصرنا على أنفسنا؛ لأن المسألة ليست مسألة أرض وتراب، المسألة مسألة توحيد الله، فإذا فعلنا ذلك انتصرنا على أنفسنا، وانتصرنا على عدونا بإذن الله.
ومن استطاع في إجازة ربيع أو غيرها أن يأخذ معه ما يستطيع من كتب إسلامية في العقيدة ويذهب إلى هناك، أو إلى أي بلد، فيعلمهم التوحيد والإيمان، فجزاه الله خيراً، وبهذا نجعل الأمة الإسلامية في حماية من عدوها.
ويوم هُزِمَ المسلمون في أحد قال لهم الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] فهو من عند أنفسهم.
ولم يقع الشرك في عبادة الله، وإنما وقع شرك الإرادة، وهو لا يخرج من الملة إلا إذا غلب على القلب.
وقد ذكر الله عز وجل شرك الإرادة في قوله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:152] وقد كانوا قليلاً من الرماة، إذ كان الرماة خمسين رجلاً عشرة منهم بقوا على الجبل، وأربعون نزلوا.
ففي الجيش كله أربعون نفراً يريدون الدنيا، ويمكن ألا يكون كل الأربعين كذلك، لكن وافق بعضهم بعضاً وتتابعوا يريدون الغنائم، وما دام في الجيش من يريد الدنيا فلن ينتصر الجيش، والمسلمون إنما ينهزمون في كل مكان؛ لأن فيهم من يريد الدنيا، وفيهم من يجاهد الآن وهدفه أن تكون الدولة له، أو على الأقل أن تكون هناك وزارة له ولحزبه.
ونحن لا نقول هذا لنثبط هممهم، لكن إذا كانت هذه هي الحقيقة فيجب أن نعرفها، وأن نتعاون على إزالتها، فما دام فينا من يريد الدنيا فلن ننتصر، فكيف إذا وقع ما هو أكبر من شرك الإرادة، وهو شرك العبادة؟! وهذا قد يقع، بل هو واقع في أنحاء العالم الإسلامي، وما أكثر ذلك! نسأل الله أن يهدي جميع المسلمين.
ولا بد أن نتفطن لهذا الشيء، ونعرف أهم الواجبات وأوجبها علينا جميعاً؛ بالنسبة لإخواننا المسلمين في كل مكان، وهو أن نخلص عبادتنا ونياتنا لله عز وجل في كل أمر من الأمور، وحينئذٍ ينصرنا الله عز وجل، وذلك عليه يسير.
إن الكفار ليسوا شيئاً بالنسبة لقوة الله عز وجل، بل لا يسلط الله عز وجل الكفار علينا إلا إذا كنا نستحق ذلك؛ كما قال سبحانه: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141] والله تعالى لا يخلف الميعاد، فقد قال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:87] {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139].
فإذا غَلَبَنا الكفار بأي نوع من أنواع الغلبة، فلنتهم أنفسنا أولاً؛ فإنما سلط الله علينا عدونا بذنوبنا، فنفتش عنها ونتوب منها.
إذا كان الله عز وجل سلَّط الكفار على الصحابة؛ لأن نفراً يسيراً منهم يريدون الدنيا؛ فكيف لا يسلط الكفار على الأمة الإسلامية اليوم والدنيا أكبر همها؟! لا غرابة في الأمر، بل كما قال عز وجل: {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [المائدة:15] وأنه لو يؤاخذنا بذنوبنا؛ لكان الحال أعظم مما نرى بكثير.
كل المسلمين يعرفون أن الزنا حرام، ومع ذلك ففي كثير من البلاد المسلمة يفشو الزنا، والبلد الوحيد الذي فيه هيئة أمر بمعروف هي السعودية، أما البلاد الأخرى فيوجد فيها مراقص وملاهي.
والخمر في بعض البلدان تُشرب علناً في الفنادق وفي الشوارع، بل ويوجد أكبر من ذلك، ثم نقول: لماذا لا ننتصر؟! سبحان الله! يا أخي: أنا ما انتصرت على قارورة أمنع نفسي عنها؛ فكيف ينصرني الله على العالمين؟! ذنب واحد يكفي لأن نهزم، فكيف وقد اجتمعت فينا مصائب وذنوب؟! الذنب الواحد منها لو وقع في أمة لأهلكها؟! وقد أهلك الله الأمم قبلنا بذنب من الذنوب، أهلك قوم لوط بذنب، وهذا الذنب انتشر -والله المستعان- في أكثر بلاد المسلمين!! ومن فضل الله على هذه الأمة أنه أكرم نبيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستجاب له بأنه لا يهلكهم بسنة عامة، وأنه لا يرسل عليهم عذاباً من فوقهم أو من تحت أرجلهم، أي: لا يهلكهم هلاكاً عاماً، ولا يمسخهم مسخاً عاماً، ولا يغرقهم غرقاً عاماً، بل يكون فيهم طائفة منصورة باقية على الحق، لا يضرها من خالفها.
وأهم ما يجب علينا -نحن طلبة العلم- أن نكون من هذه الطائفة المنصورة الذين يحققون هذا الدين قولاً وعملاً، ويجتهدون في تحقيق التوحيد في أنفسهم، ويدعون الناس إليه، ويجاهدون في الله حق جهاده، بجهاد العلم وبجهاد السيف، وهذه الطائفة المنصورة باقية، وهي التي يحفظ الله الأمة بسببها، وهذا ما أحببنا أن نتعرض له، ونسأل الله أن يغفر لنا وللمؤلف ولإخواننا المسلمين.(3/19)
الأسئلة(3/20)
أصل خلق آدم عليه السلام
السؤال
قال تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29] فهل معناها أن آدم خلق من روح الله؟
الجواب
ليس هكذا يا إخوان! الله عز وجل قال: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29] ولم يقل خلقته, فهو ليس مخلوقاً من روح الله, بل نفخ الله فيه الروح, والإضافة هذه قد بينا لكم حكمها في مواضع سابقة.(3/21)
الإفراط في استعمال الطرفة في الدعوة إلى الله
السؤال
يرد إلينا أحياناً وسائل وصيغ لا تخلو من طرافة, وذلك بحجة أنها من أساليب الدعوة الحديثة, وهذه الصيغة جاءت هنا كمثال: تذكرة غير التذكرة الأولى: لمزيد من المعلومات يرجى الاتصال الفوري بكتاب الله وسنة رسوله, ملاحظة: الاتصال مباشر ومجاناً ولا داعي لتأكيد الحجز، فما الحكم في مثل هذه العبارات؟
الجواب
يا إخوان! لا ينبغي أن يمتهن دين الله, وتمتهن الدعوة إلى هذا الحد, فهذه العبارات لا تجوز، هدانا الله وإياكم.(3/22)
حكم أهل الفترة
السؤال
يطالب الناس يوم القيامة بذكر ما أجابوا به المرسلين، فهل يطالب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أصحاب الفترات بين الرسل والذين لم تبلغهم الدعوة بالإقرار والإشهاد عليهم فقط؟
الجواب
بل له حكم آخر -الذي لم تبلغه على الإطلاق- لكن قد نظن أن فلاناً من أصحاب الفترة وهو ليس كذلك، مثل قريش ومن معهم من العرب، الذين انحرفوا عن دين التوحيد الذي كان عليه الخليل عليه السلام إلى الشرك.
فهؤلاء لا نستطيع أن نجزم أنهم من أهل فترة، لأن دين إبراهيم عليه السلام كان متوارثاً، بينهم وكان فيهم الحنفاء الموحدون الذين لم يعبدوا غير الله عز وجل، فلا نستطيع أن نجزم أنهم أهل فترة في الجملة، أما على الأعيان فيوجد من أعيان الناس من لم يبلغه دين، وهذا حكمه إلى الله، وأقول: إنه لا ينبغي أن نشغل أنفسنا في قضايا لا يرد عليها علم أو اعتقاد أو عمل لنا.(3/23)
خلقنا في عالم الذر
السؤال
هل خلقنا خلقاً كاملاً ونحن في عالم الذر؟
الجواب
ما خلقنا خلقاً كاملاً، وإنما استخرجت أرواحنا وكلمها الله عز وجل ثم ردها.(3/24)
الجهاد الأكبر
السؤال
هل جهاد النفس هو الجهاد الأكبر؟ وما مدى صحة الحديث القائل: {رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر}؟
الجواب
الحديث غير صحيح، وكلمة (في سبيل الله) إذا أطلقت؛ فالأصل فيها هو جهاد الكفار، والجهاد الأكبر هو قتال الكفار، ولكن أيضاً لا ننسى أن الجهاد نفسه -كما قلنا- درجات: جهاد الدعوة، وجهاد العلم، وجهاد القتال؛ فلو جادلت الكفار ودعوتهم وناظرتهم وصبرت على عدائهم، لكان هذا جهاداً، فليس جهادك فقط أن تقاتلهم، فهذا أيضاً جهاد الدعوة الذي قال الله عنه لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان:52]، أي: بالقرآن، وسماه جهاداً كبيراً.
وفي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم:9] قال بعض السلف: أي: جاهد الكفار بالسيف، وجاهد المنافقين بالحجة، وذلك كما قال الله عز وجل: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} [النساء:63] فالله تعالى يأمره أن يجاهد المنافقين بإقامة الحجة، مثل من يقول: أنا مسلم! وعنده شركيات، فإنه يُجَاَهدُ جهاداً قولياً، جهاد حجة وبيان ودعوة.
ولكن الجهاد بالسيف رغم عظم شأنه قد يكون من أهون أنواع الجهاد، فإذا قام في المسلمين قائمة فإنه قد يجتمع في اليوم الواحد عشرة آلاف، وينفع فيه الذي يستطيع أن يحمل السيف فقط، وكل واحد يستطيع أن يمارس فيه دوراً، لكن جهاد الدعوة لا يستطيع له ولا ينفع فيه إلا قليل جداً؛ فطلبة العلم في كل بلد قليل، والذي ينفع منهم للدعوة قليل، وهذه هي المشكلة، والجهاد الأساس الذي نجتهد ونسعى في تحصيله، ولولاه ما نفع الجهاد، أنك تجمع الناس وتعلمهم وتربيهم.
فالقبائل في أي بلد من البلدان، إذا استنفروا نفروا كلهم من أجل جهاد الكفار، أو قتال أية طائفة، لكن لو كانت عندهم عادة اجتماعية من العادات السيئة فإنهم ليسوا مستعدين أن يتنازلوا عنها حتى لو قاتلتهم بالسيف، فمن أصعب الأمور أن تستقيم النفوس على دين الله عز وجل، أما الاستنفار لقتال الآخرين فإن كثيراً من الناس يرونه سهلاً، وهؤلاء غالباً يفرون عند أول لقاء؛ لأن المسألة عندهم ليست من أجل الدعوة، بل من أجل أنهم استنفروا، أو يطمعون في مغنم ما.
والقضية دقيقة تحتاج إلى تفصيل أكثر من هذا.(3/25)
أهل الفترة
السؤال
ألا يدل قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} [المائدة:19] على أن قريشاً في ذلك العصر كانوا على فترة؟
الجواب
الفترة هي الانقطاع، {عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} [المائدة:19] أي: على انقطاع من الرسل، والخطاب لأهل الكتاب، وأهل الكتاب ليسوا أهل فترة؛ لأن عندهم علماً بالكتاب كما أنهم حرفوه عامدين، وهل يدل هذا على أن قريشاً كانوا أهل فترة؟ نقول: الوقت وقت فترة؛ لكن هذا لا ينطبق عليهم بأعيانهم، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما جاء رجل يسأله عن أبيه قال: {أبي وأبوك في النار} وأيضاً قال: {استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي} فالحكم لا يشمل كل واحد بعينه.(3/26)
أنواع العقائد
السؤال
كم أنواع العقائد؟ وهل هناك للكفار عقائد؟
الجواب
العقائد نوعان: عقائد صحيحة، وعقائد باطلة.
وعند الكفار عقائد لكنها باطلة، أي: عندهم دين، فالدين هو العقيدة والإيمان، كما قال تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] لهم دين لكنه دين باطل {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران:19].(3/27)
حكم زيارة القبور لرؤية العظام
السؤال
ما حكم من يزور القبور لكي يرى العظام في القبور؟ وهل يجوز لهم ذلك؟
الجواب
إذا كان قصد السائل أن يذهب إلى القبر، فيفتح القبر من أجل أن يرى العظام، فهذا لا يجوز.(3/28)
واجب المسلمين أمام نعم الله
نعم الله كثيرة تترى، لا يستطيع الإنسان لها حصراً ولا عدا، فهي متمثلة أمامه في كل شيء، بل في ذاته هو، ومع ذلك تجد بعض الناس غافلين عن هذه النعم جاحدين لها، وفي هذه المادة ينبه الشيخ على بعض هذه النعم كنعمة الخلق والهداية، وواجب المسلم نحوها، ثم يبين أهمية وجود الصالحين المصلحين في المجتمع، موصياً الناس بالاقتداء بهم والاستجابة لندائهم.(4/1)
من نعم الله علينا
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، له وأشهد أن محمداًَ عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: أيها الإخوة الكرام: أحمد الله تبارك وتعالى أولاً وهو أهل الحمد والثناء، وأشكره عز وجل وهو لذلك أهل، ثم أشكركم على أن أتحتم لنا هذه الفرصة لنذكر الله تبارك وتعالى، ونتذاكر فيما ينفعنا ويُقربنا إلى مرضاته عز وجل.
وما هذا بغريب عليكم، فهذه البلاد -ولله الحمد- مصدر ومهد للخير والإيمان، خرج منها صحابة كرام، وفاتحون، وعلماء عظام، وما تزال -بإذن الله تبارك وتعالى- منبعاً للخير ومصدراً للهدى، وما يدرينا فلعل في آخر هذه الأمة من يكون كأولها بإذن الله تبارك وتعالى، وما هذا الشباب الذي بدأ يُقبل على حفظ القرآن وتجويده وتلاوته آناء الليل وآناء النهار، وما هؤلاء الذين أخذوا يتخرجون من الجامعات وينشرون الدعوة في هذه المنطقة إلا بواكير الخير وبداياته.
فهذا هو الخير الذي نرجوه، ونحن إن جئنا من بعيد فإنما نأتي لنشارك في الخير والأجر، وإلا ففي هذه البلاد -ولله الحمد- من لديه من العلم والخير والدعوة والجهد الشيء الكثير الذي يفوق ما عندنا، ولكن المحبة في الله توجب التزاور والتذاكر، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى على عباده المؤمنين.
تعلمون أن الله تبارك وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]، وكما قال تبارك وتعالى في الحديث القدسي: {يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً.
يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً} فهو عز وجل كما قال -أيضاً- في نفس الحديث: {إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني}.
فلا نستطيع أن ننفعه أو أن نضره، بل هو غني عن عبادتنا وطاعتنا مهما أطعناه، وكذلك لا تضره معصيتنا مهما عصيناه، فإن عصينا واستكبرنا وعاندنا وأبينا إلا أن نحيد عن أمر الله، فالخسارة والضرر علينا في الدنيا والآخرة، وإن آمنا بالله واتقيناه وأطعناه في كل أمر واجتنبنا ما نهى عنه فالخير لنا في الدنيا والآخرة.(4/2)
وجعلنا الليل لباساً
لو تأملت كيف تستيقظ، من الذي أعطاك العافية؟ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، من الذي هيأ لك أن تقوم؟ كم من نائم نام تلك الليلة ولم يستيقظ إلا والملكان يسألانه في قبره، وأنت أيقظك الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حياً سليماً معافاً، وقد بت ونمت وعندك الأولاد والخير والنعمة والراحة.
والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أخبر بأقل من هذا فقال: {من بات وهو آمن في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه وليلته، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها} سبحان الله! عافية في بدنك تلك الليلة، وأكل على قدر تلك الليلة، وأمن في تلك الليلة تنام وأنت مطمئن لا يهاجمك عدو ولا شيء يضرك، كأنما حيزت لك الدنيا.
ولو أن عبداً ملك الدنيا جميعاً من أولها إلى آخرها من شرقها إلى غربها، لكان غاية وأعظم ما يتنعم به في تلك الليلة هو هذه النعمة، هو أن ينام وهو مطمئن وشبعان وآمن معافى وماذا غير ذلك؟ وهل في الدنيا شيء بعد ذلك يطلب؟ لا شيء.
فالله تعالى أنعم عليك أيها العبد وأنت مغمور بنعم الله ولا تدري، وربما أن النوم يدرك بعضنا -يأتيه النوم في الليل غصباً عنه- وهو يفكر كيف أن فلاناً عنده من الأموال، وفلاناً عنده من النعم، وفلاناً أخذ وأخذ، وفلاناً ربح وتاجر وأنا ليس لديَّ إلا هذا الشيء القليل، نسي تلك النعمة لأنه ينظر إلى غيره، وهذا عكس ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن.(4/3)
كيف ندرك نعمة الله علينا
والمؤمن التقي الذي يرجو لقاء الله، كيف ينظر في أمر الدنيا وكيف ينظر في أمر الآخرة؟ إذا نظرت في أمر الدنيا وشأنها فانظر إلى من هو دونك، من هو أقل منك مالاً وأولاداً وعافية فذلك أحرى وأجدر وأليق ألاَّ تزدري نعمة الله عليك، وتعلم أنه أنعم عليك بنعم عظيمة فتعرف نعمة الله عليك ومن خلال هذه النعمة، من خلال هذه النظرة إلى من هو دونك.
ولكن إذا نظرت أو تدَّبرت أو تفكَّرت في الآخرة فانظر إلى من هو أعلى منك، فإن كنت تقرأ شيئاً من كتاب الله فانظر إلى من يحفظه ويقرأه كله.
إن كنت تؤدي شيئاً من فرائض الله أو بعضها فانظر إلى من يأتي بالفرائض وبالنوافل وزاد على ذلك من الخير ومن البر.
إن كنت تدعو إلى الله وفتح الله على يديك من الخير فانظر إلى من دعوا إلى الله تبارك وتعالى فأحيا الله بهم أمماً من الضلالة ومن الجهل، فالمقصود أن الإنسان إذا كانت هذه نظرته عرف وعلم نعمة الله تبارك وتعالى عليه.
فهو الذي أعطاك العافية، والصحة، والفراغ، فإذا قمت واستيقظت وعبدت الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وصليت الفجر جماعة في المسجد فقل: الحمد لله الذي منَّ عليّ بهذا، فإذا جاء الإنسان إلى هذا المسجد وصلّى وذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإنه يكون قد أحسن؟ إلى نفسه، نال الأجر، والثواب، ونال الخير والبركة في بدنه وفي يومه ذلك بفضل الله تبارك وتعالى.
إذاً: الفضل لله، بنعمته وبهداه وبتقواه ننال الخير في الدنيا والآخرة.(4/4)
نعمة الهداية
حتى هدايتك جعلها الله تبارك وتعالى ميسورة، ولم يتركنا الله تبارك وتعالى سُدى لا نؤمر ولا نُنهى، بل بعث إلينا رسولاً من أنفسنا {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم:4] فمن رحمة الله تبارك وتعالى أن بعث في كل أمة رسولاً بلسان قومه ليبين لهم، وليعلمهم كيف يهتدون إلى طريق الله، وكيف ينعمون بالحياة المطمئنة الطيبة في الدنيا، ثم يلقون الله تبارك وتعالى فيدخلون دار كرامته حيث النعيم المقيم الأبدي.
فجعل الهداية -أيضاً- ميسورة لكل إنسان بما بعث الله به هؤلاء الرسل الكرام، وأفضلهم وخاتمهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمنَّ الله تبارك وتعالى علينا بهذا الدين وبهذا الإيمان، ويسر لنا القرآن {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17].
يسر لنا هذا القرآن، فإذا قرأناه أو سمعناه نجد هذه الرقة والعذوبة والمتعة العجيبة للقاريء والسامع، هذا القرآن يسره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وامتنَّ علينا بتعليمه {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:1 - 4].
وأعظم نعمة هي تعليم القرآن، وبغير هذا القرآن، وبغير هذا الهدى يكون الإنسان كالحيوان.
والحيوان كذلك مهَّد الله له العيش، ويسره له، ورزقه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو رب كل دابة، وهو الذي يهيئ لها رزقها وإن كانت في ظلمات الأرض وأينما كانت، لكن الإنسان ما الذي يفرق بينه وبين هذا الحيوان؟ إنه هذا القرآن، وهذا الهدى، وهذه الرسالة.
ومع ذلك فكيف يكون حال العبد وكيف تكون مقابلة هذه النعمة؟ نحن في صلاتنا نقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] هو عز وجل أمرني أن أصلي في اليوم خمس صلوات، وأن أستيقظ لصلاة الفجر ثم أؤدي بقية الفرائض، فهل لي منة، هل لي فضل إذا أديَّت هذه العبادة التي أوجبها الله تبارك وتعالى؟!(4/5)
نعمة الخلق
هذه قاعدة عظيمة يجب أن يعلمها عباد الله المتقون -جعلنا الله وإياكم منهم- أنه يجب على كل منا ألا ينسى وأن يتذكر دائماً أن ما أصابه من حسنة وخير فمن ربه، وأن ما أصابه من شر ونكد وشظف عيش وبلاء وأذىً فمن ذنبه، وقد قال ذلك رب العزة والجلال لأفضل خلقه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79].
ولو أن العبد تأمل ونظر كما أمره ربه عز وجل أن ينظر {فَلْيَنْظُرِ الإنسانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5]، {فَلْيَنْظُرِ الإنسان إِلَى طَعَامِهِ} [عبس:24].
لو نظر في ذلك لعلم حقاً أن هذا ما قُرر وما قيل: إنه ما أصابه من خير فهو من ربه، وما أصابه من شر فهو بسبب ذنبه ومعصيته لله عز وجل.
وإلا فما هو هذا العبد؟ من أنت أيها المخلوق الضعيف إذ كنت صغيراً أو كبيراً، ذكراً أو أنثى، أميراً أو حقيراً عند الناس، غنياً أو فقيراً في دنيا الناس، من أنت؟! أياً كان هذا الإنسان، ماذا لو نظر الإنسان مم خلق؟ {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:6] من نطفة حقيرة قذرة، والآن يقول ويقرر الأطباء: إنه لم يخلق من النطفة كلها بل من جزء منها ضئيلٍ جداً لا يرى إلا بالمجاهر.
سبحان الله! هذا المتكبر على الله، المعرض عن كتاب الله، الذي لا يبالي بقال الله ولا قال رسول الله، ولا يبالي بما ارتكب من محارم الله، خُلِقَ من هذه النطفة الحقيرة.
سبحان الله! ومن الذي خلقه؟ ومن الذي جعله في قرار مكين؟ ومن الذي غذاه في ظلمات ثلاث في بطن أمه؟! وهو عز وجل ييسر له الغذاء وييسر له كل أسباب الحياة.
حتى إذا انقضى الأمر، وبلغ الأجل الذي قدَّره الله تبارك وتعالى، وجاء هذا المولود وخرج إلى هذا الوجود، هيأ الله تبارك وتعالى له أسباب الحياة الدنيا مما لم يكن ميسوراً له وهو في بطن أمه، ومما لم يكن محتاجاً إليه وهو في بطن أمه، والآن ينتقل إلى عالم جديد يحتاج فيه إلى الغذاء والهواء، ويحتاج فيه إلى من يرعاه ويحفظه ويحوطه برعاية مباشرة، يسر الله تبارك وتعالى له ذلك فهداه الله تعالى من الزيف.
يولد الطفل من الذي علمه؟ {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} [النحل:78] علَّمه أن يرضع من هذا الثدي، ولو أن الله لم يُعلِّمه ذلك من يستطيع أن يعلمه من الناس أو من الأطباء؟! لا يستطيع أحد أن يعلم المولود في يومه الأول، بل في عامه الأول فما بعد، إلا بعد حين أن يُعلَّمه شيئاً من الأمور.
ولكن الله تبارك وتعالى علَّمه وهداه أن يأخذ هذا الثدي وأن يتغذى به، وهذا الثدي قد هيئ فيه درجة حرارة معينة مناسبة، وبغذاء مناسب لمن ولد الآن، بخلاف إذا رضع منه الطفل في عامه الثاني.
فقد هيئ الله له في الحليب المواد التي تكفي وتغذي من قد عاش سنة فأكثر.
فسبحان الله! الذي يحوطه برعايته، ويحوطه بعنايته ويهيئ له في كل حالة وفي كل وقت ما يناسبه وما يلائمه مما يحتاج إليه هذا الإنسان.
من الذي جعل الأم تحوطك برعايتها وعنايتها إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإلا فبعد أن لقيت ما لقيت من الوحم ومن التعب أثناء الولادة ثم ما بعدها من مشاق عظيمة لألقتك وذهبت بعيداً وتركتك وتخلت عنك.
والمرأة هي من أغلظ الناس قلباً، وأخبثهم طباعاً وجلافةً، فإذا وُلد لها ولدٌ كانت من أحن الناس وأرقهم على هذا الولد، وإذا قيل لأي أم أعطينا هذا الولد لنذبحه، وخذي ما شئت من أموال الدنيا؟ والله لا تجدون أماً ترضى بهذا أبداً، سبحان الله العظيم! كيف نزلت هذه المحبة، من أين هبطت هذه الرحمة والشفقة على ذلك القلب الغليظ الجافي؟ من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لكي يحوطك أيها الإنسان، ولكي تتربى وتتغذى في نعمه تبارك وتعالى، سخر لك الأب وسخر لك كل ما يعيشك.(4/6)
رحيم غفور(4/7)
دفع العذاب وتأخيره
وتعلمون بم يدفع الله العذاب ويؤخره ويؤجله؟ أقول: هذا لأن بعض من أعمى الله بصيرته، وختم على قلبه وأضله، لا يكف آناء الليل أو النهار عن السخرية والوقيعة والاستهزاء بمن هدى الله تبارك وتعالى من الشباب الصالحين.
ما الذي يدفع عنا عذاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذا أراد أن يعذبنا؟ نعوذ بالله من العذاب؛ إنه دعاء الصالحين.
إذن نستبقي هؤلاء الصالحين، ونحمد الله إذا كثر هؤلاء الشباب الذين يقرءون كتاب الله ويحفظونه، ويدعون إلى الخير، وإلى الالتزام بالحجاب، ويدعون ألى ترك الربا، والزنا، وإلى ترك المنكرات، وإلى ترك الغناء والملاهي.
إن وجود هؤلاء بيننا يدعوننا نعمة، وبدعوتهم للإصلاح وبدعائهم لله يدفع الله العذاب {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] ما دام فينا مصلحون، ولا يدري الفاسق، الفاجر، اللاهي، العابث الساهر ليله كله، والنائم نهاره عن طاعة الله، ما يدري أن النعمة هذه أنها بفضل الله أولاً ثم بوجود الأخيار الأتقياء، لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما يعذبنا وهؤلاء مصلحون يدعون إلى تقوى الله، ويسألونه المعافاة ودفع البلاء.
فينظر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لأعمالنا، فإن استجبنا لهؤلاء الدعاة واتبعنا ما يقولون، ليس ما يقولون لأنفسهم بل قولهم: قال الله وقال رسول الله؛ رحمنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإن قابلناهم بالرد والاستهزاء والسخرية جاء العذاب -نسأل الله العفو والعافية- وحتى وإن أتى العذاب في الدنيا على الجميع فإنهم يبعثون على نياتهم، وأم المؤمنين رضي الله تعالى عنها لما سألت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم.
إذا كثر الخبث} إذا كثر الخبث يأتي الهلاك وإن كان فينا صالحون.
لكن متى يمتنع العذاب؟ إذا كان فينا مصلحون.
إذاً الحمد لله أن هؤلاء الدعاة يدعوننا، وإذا لم يدعونا ظلوا صالحين ونحن ما زلنا عاصين جاء العذاب، ولو كثر الصالحون، لكن إذا كان المصلحون يدعوننا ونحن نسمع وفينا من يستجيب، دفعنا وأجلنا وأخرنا -بإذن الله- عذاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي لا يُرد عن القوم المجرمين إلا بالتوبة، وبالإيمان، وبالإنابة، وبالضراعة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فنحن -والله- في غفلة عظيمة، قلوب قاسية، نتقلب في نعم الله ولا نذكر الله إلا قليلاً، وإذا عبدناه واتقيناه أتانا الشيطان وجعل المنة والفضل لنا، وقال: أنتم من المهتدين، ومن المتقين، وأنت أحسن من غيرك، وأنت فيك وفيك، ليزين لك عدو الله أسباب الضلال، وليحبط عملك.
نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يمنَّ علينا وعليكم بالهداية والاستقامة، وأن يعيذنا من شر الشيطان، ونزغاته، ووساوسه.(4/8)
استعجال العذاب
إذا ذكر العباد بالله كان حالهم أنهم يستعجلون عذاب الله، ويقولون: أين عذاب الله؟ كثير من الناس قد لا يقول هذا بلسانه، ولكن يقوله بحاله، لأنه لم يتب {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:12].
وإذا لم يستغفروا الله، ولا بالوا بأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإذاًَ كأنهم يقولون: أين ما وعد الله به من العذاب؟ الوعاظ والخطباء يوم الجمعة، والناصحون، والمذكرون، يقولون لنا: إن عصينا الله فسوف يُعذبنا، وإن اتقينا الله فسوف يُنعم علينا، فيأتي الشيطان ويقول: كم عصينا الله؟ ولم يحصل إلا استمرار النعم، لا يوجد إلا نعمة الزاد.
لا.
هذا جهل، وهذا ضلال عظيم، ولا تنظر إلى كرمه، ولا تنظر إلى استدراجه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا تنظر إلى إمهاله للمجرمين سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإنه إذا أخذ فإنه يأخذ أخذ عزيز مقتدر، منتقم جبار، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لا تنظر إلى ذلك وانظر إلى أن هذا الباب، يجب أن يستغل، إن زاد الخير فهو استدراج {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:44] يفتح الله أبواب كل شيء، إذا نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء.
لا تقل كما قال الله تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:204 - 207] كم عمرك يا مسكين؟ تقول: أنا من حين خلقت وأنا أعصي الله وما أصابني شيء، هذا العمر كم سنة يكون؟ لقد أهلك الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من كان قبلنا من القرون الذين أخبرنا الله تبارك وتعالى عنهم {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [سبأ:45].
كم المعشار؟ قال المفسرون في المعشار: هو عشر العشر {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم:9].
الله أكبر! عمروا الأرض، وزرعوا، وبنوا أكثر منا، وكانوا أكثر منا أموالاً، وأولاداً، ومع ذلك أهلكهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأخذهم بذنوبهم؛ وإن كان قد أمهلهم ما أمهلهم {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} [الشعراء:204].
لا والله، لا نستعجل عذاب الله {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207] تذهب تلك النعمة في لحظة انتقام واحدة ويفرون ويركضون، لو جاء زلزال -عافانا الله وإياكم- ادعوا الله دائماً أن يعافينا وإياكم من الزلازل والفتن.
الزلازل هذه أمرها عظيم، وشأنها خطير، وقد كانت هذه الجزيرة العربية في منأى وفي مأمن عنها كما كانوا يقولون، يقولون: إن جزيرة العرب وهذه الجبال التي يُسمونها الدرع العربي في مأمن من الزلازل إلى أن حدث قبل سنوات زلازل في مناطق قريبة، والآن تسجل هزات على طول الساحل -نسأل الله العفو والعافية- وفي كل منطقة تقريباً تسجل هزات خفيفة وقد تكون قريبة مما يكون بعده الدمار والناس في غفلة.
لكن لو نزلت لركض الناس وهربوا، وأول ما يخرج منه الإنسان ويهرب منه ربما ذلك البيت الذي أفنى عمره كله وهو يزخرفه ويزينه، ويشتري الثريات من مكان، والبلاط من مكان، والزينة من مكان، ويهتم به أعظم الاهتمام، ولهذا يقول تعالى: {لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ} [الأنبياء:13] لا يفكر لا في مسكنه ولا في شيء آخر، يريد أن ينجو فقط بنفسه، تصبح الأرض مثل الماء فلا تضع رجلك إلا وتنزلق فيها {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83].
والله ما هي من الظالمين ببعيد، ولا يدفعها إلا أن نتوب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا تستطيع قوة، ولا معدات، ولا آلات، ولا وسائل إنقاذ، ولا أي شيء أن يدفعها إذا جاءت هي أو غيرها إلا أن نتوب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن نجأر ونتضرع إلى الله، وألا نستعين على معصية الله بنعمه.
الإنسان الآن يأكل نعمة الله، والموسيقى تعزف في وسيلة من وسائل الإعلام أو أمامه، نقول: الأمم والقرى قبلنا، ونحن نفعل مثل ما فعلوا وأكثر، أين شكر نعمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يؤذن المؤذن ويصلي الناس، والموسيقى تعزف والغناء يسمع في السيارة أو في البيت ونحن غافلون.
سبحان الله! هذا نذير النجاة، أم نذير الهلاك؟ يذهب الناس للاستسقاء ويستغيثون الله أن يغيث هذه البلاد وأن يرحمها -نسأل الله أن يستجيب لنا إنه سميع مجيب- وبعضهم يسمع الغناء والملاهي في البيت أو في السيارة في غفلة تامة، وربما كانوا في المقاهي يلهون ويلعبون، وهذا والله نذير الهلاك، هذا نذير العذاب إلا أن نتوب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(4/9)
يقبل التوبة ويعفو عن السيئات
فإذا قلَّت النعمة وإذا لم تنزل الأمطار وإذا قلَّت البركة، فإلى من يرجع الأمر؟ إلى ذنوبنا.
فيجب أن يعلم العبد أن ما أصابه من خير فمن ربه، ولكن ما أصابه من شر فمن ذنبه {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن:17]، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96].
لا تنفد خزائنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن إذا لم يؤمنوا لم يتقوا وكذبوا، فيأخذهم بما كانوا يكسبون، بذنوبهم، ومع ذلك {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [المائدة:15]، {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:34].
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتجاوز وهو كريم، كرمه لا يُحد ولا يُوصف، وكما أشرنا فإنه لا يمد المؤمنين ويرزقهم ويغيثهم فحسب، بل حتى الكافرين إذا أخلصوا في الدعاء إليه.
وكذلك ليست نعمته وكرمه ورحمته خاصة بالمتقين، بل يفتح الباب للمجرمين وللمذنبين وللمدبرين أن تعالوا ويناديهم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: يا عبادي يا عبادي.
الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال في مثل هذه الحالة: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] سبحان الله! كان يكفينا أن نعلم أننا إذا تبنا وآمنا وعملنا الصالحات أن يعفو عنا، اللهم لك الحمد عفوت عنا، ولكن ليس كرمه عند هذا الحد، بل يتكرم بالعفو عنا ويتكرم بأن يُبدل تلك السيئات حسنات، الكفة التي كانت على الشمال مثل الجبال تتحول إلى اليمين إلى الحسنات مثل الجبال أيضاً، بماذا؟ بأن نتوب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن نستغفر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالله تعالى {يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل}، سبحان الله! غني عنا، وغني عن عبادتنا، وغني عن طاعتنا لا تضره معصيتنا ولا يبالي بنا.
ولكن لو عصيناه لم يبال بأي واد هلكنا، ومع ذلك يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار.
الله أكبر! ما أكرم هذا الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.(4/10)
هو الرحمن الرحيم
قال الله عز وجل: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
قال السلف رحمهم الله: فضل الله ورحمته: هي القرآن، والإسلام، والإيمان، والوحي، ورسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكل ذلك صحيح وهذا هو من زيادة الأمثلة المتنوعة لشيء واحد.
الله تعالى أنعم علينا بهذا الدين، فبه نفرح وهو خيرٌ مما يجمعون، فمهما جمعنا في الدنيا، فإن هذا الدين الذي أعطانا الله هو خير مما نجمع، من هم أغنى أغنياء العالم؟ -والغنى لله الحق تبارك وتعالى- هم اليهود.
أيها الإخوة: هذه البنوك الربوية التي تمتد من بلادهم إلى بلادنا -مع الأسف- أكثرها وأكبرها لليهود، وهل اليهود مكرمون عند الله؟ {لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافر منها شربة ماء} أبداً، لكن لا تعدل ذلك ولا تساويه عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإنما كما قال: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء:20] نمد المؤمنين ونمد الكافرين، لماذا؟ لأنه لا رب إلا الله {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] نقولها في الفاتحة في كل ركعة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] لا رب سواه، ولا رازق سواه، فهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي يرزق.
الرب الذي ربى جميع العالمين بنعمه، ولهذا يستجيب تبارك وتعالى {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62].
هل قال الله تعالى أمن يجيب المؤمنين إذا دعوه؟ المضطر أياً كان مؤمناً كان أو كافراً إن دعا الله أغاثه الله؛ لأنه لا مغيث إلا الله، ولا رب إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإذا دعوه أغاثهم ولو لم يغثهم لم يغثهم أحد أبداً، لكنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي يمنُّ على الكافر وعلى المؤمن، وما كان عطاؤه محظوراً، بل نعمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نازلة، مستديمة، مستفيضة على هؤلاء العباد.(4/11)
وصية خاتمة
أوصي نفسي أولاً وأوصيكم بتقوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإنها وصية الله إلى الأولين والآخرين {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] ولا تكون تقوى الله إلا باجتناب ما حرم الله والعمل بما يرضي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن نستغفر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن نستشعر دائماً وأبداً أننا مذنبون وأننا مفرطون ومقصرون في جنب الله، ومقصرون في حق الله، وأنه لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، وأننا لن ندخل الجنة بأعمالنا مهما كثرت، فإن ما نعمله من عمل، وكل ما نأتيه من العبادة لا يكافئ ولا يقابل نعمة صغرى من نعم الله، ولكن ندخلها برحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن الفضل بيد الله أولاًَ وأخيراً وفي كل حين وفي كل ساعة؛ فهو خلقنا ورزقنا وهدانا وأنعم علينا.
واعلموا أن هناك فريضة منسية مهملة يجب أن نحييها نحن -جميعاً- وهي ما أمر الله تبارك وتعالى به حين قال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] نحن -إلا من رحم الله- في مثل هذه المناطق عندنا طبيعة وعادة متعارف عليها وهي المجاملة، والمداهنة، والمراءاة.
لا أستطيع أن أقول: يا فلان! اتق الله، يا أخي! حجِّب زوجتك، وانتبه لأبنائك لا يكونوا مع الفساق، يا أخي! لماذا لا نراك في المسجد -إلا من رحم الله منا- من يؤِّدي الدعوة المباشرة بالنصح وبالحكمة وبالموعظة الحسنة.
لكن إذا كنا تكلمنا بذلك الفاجر تارك الدين، وهذا والله ليس أسلوب الأنبياء ولا عباد الله الصالحين، ويجب أن ندعو إلى الله وأن نفرح إذا كان فينا من يدعو إلى الله، وأنتم بلا شك تفرحون إذا جاءكم من يدعوكم إلى الله من أي مكان، وهذا دليل الإيمان، وهذا شيء ملموس ويشاهده كل من جاء إلى هذه البلاد والحمد لله.
لكن يجب أن تكون فرحتكم بمن يمنُّ الله تعالى عليهم بالهداية والعلم والدعوة من أبناء هذه القرى والمناطق أشد وأعظم، لأن الزائر غريب ضيف ليلة في السنة وربما ليلة في العمر يمر عليكم.
لكن إذا أنبت الله النبات الحسن الطيب من أبنائكم في حلقات التحفيظ، وفي المعاهد العلمية، والمراكز الصيفية، والمساجد، ومنتديات الخير، فهذا خير باق مستمر تستفيدون منه في كل وقت ويرجع إليها الجاهل فيتعلم، والمستفيد فيستفيد، وينشرون الخير والعلم طوال السنة.
نحن -كما تشاهدون- هذه الأيام من فضل الله تعالى في الأسبوع مرتين أو ثلاثاً ولكن كما سمعنا وعلمنا أن هذه أمور موسمية -أي في هذا الموسم- حيث يأتي الزوار أو الدعاة أو ما أشبه ذلك مع أن الخير -والحمد لله- في المنطقة وأبناؤها موجودون.
فيجب أن نحيي هذه الدعوة وأن نقابلها بالفرح والاستبشار، وأن نهيئ لها في كل مكان، لكي تثمر وتؤتي ثمارها بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لأن هذا خير وبركة دائمة مستمرة لدينا هنا وليست وافدة زائرة تأتي ثم ترتحل.
فيجب أن نفرح إذا جاءنا الواعظ، أو جاءنا المذكر، أو الناصح، كما نفرح إذا أمطرنا، وجاءتنا السيول، والبركات والنعم، والغيث من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وكيف نفرح بالغيث في بلادنا ولا نفرح بغيث الإيمان في قلوبنا؟ نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يُوفقنا وإياكم لما يُحب ويرضى وأن يجنبنا من فتنة القول كما يجنبنا من فتنة العمل إنه سميع مجيب.
وهذا كما أشرت -والحمد لله- أمر ملموس وواضح أن الإقبال على الخير وعلى ذكر الله أصبح -والحمد لله- أمراً ظاهراً يحبه الجميع، ونحمد الله تبارك وتعالى على ذلك، ونسأله زيادة الإيمان في قلوبنا جميعاً.
لكن كما أشرت وأعيد للتكرار أن الدعوة التي تنطلق من أبناء هذه البلاد إذا تعاونوا فهي دائمة وثابتة، ولا يعني ذلك أن الذي من خارجها لا يأتي، بل كل منطقة تتحرك في داخلها يأتي الدعاة إليها من الخارج.
نحن لنا إخوة وزملاء من هذه البلاد -والحمد لله- ومما حولها خير منا وأفضل منا علماً وعملاً، ويدرسون هنا في المتوسطات وفي الثانويات وفي المعاهد، أو يدرسون هناك وهم -والحمد لله- يقومون بما نقوم به وأكثر وأفضل.
إذاً القضية ليست قضية أنه لا يوجد طاقات تقيم هذه الدعوة والندوات باستمرار، لكن يجب أن يتعاون هؤلاء الإخوة من جهة، كما يجب علينا -نحن جميعاً هنا- أن نفتح لهم سبل الخير، وأن نعينهم عليه، وأن يجدوا فينا من التجاوب والاستماع والحرص ما يشجعهم ويعينهم على طلب الخير، وإلا فهذه المراكز -كما تعلمون- أن أصحابها لا يتقاضون عليها أجراً لا انتداباً ولا راتباً ولا ربع راتب ولا شيء؛ وإنما يفعلون ذلك احتساباً لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فأنا وأمثالي من المدرسين فرحنا بالعطلة نتمشى ونذهب إلى أهلنا وإلى أولادنا ونذهب إلى كل مكان، وهذا الرجل انتهى من الاختبار وفتح المركز، هل لأنه ليس لديه أولاد أو أهل؟ ربما عنده مثل ما عندي أو أكثر ومن الأعمال، لكن عنده احتساب، وعنده رغبة في الأجر، ورغبة في الآخرة، ورغبة فيما عند الله أنه يلم شتات أبنائنا في هذه العطلة، والمؤمن لا يعرف العطلة إلا إذا مات ولقي الله، أما في الحياة فهو مسئول، ومحاسب عن وقته دائماً، فيأتون في هذه العطلة بما يحفظ الله به شبابنا.
فإذا جاءتنا هذه المراكز وهذه المواسم الخيرة والمخيمات، وكذلك الندوات فيجب أن نستفيد منها، لينفعنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في قلوبنا جميعاً.(4/12)
الأسئلة(4/13)
تنزيل حكم الجهاد
السؤال
ما حكم الجهاد في الوقت الحاضر أثابك الله؟
الجواب
الجهاد في القرآن واجب على طلبة العلم {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان:52] جهاد الدعوة، وجهاد النفس على طاعة الله واجب -أيضاً- في كل زمان ومكان وعلى كل إنسان، وأما جهاد الأعداء، وقتال الكفار فهو نوعان: الأول: جهاد الطلب.
والثاني: جهاد الدفع.
فأما جهاد الدفع فهو إذا نزل الكفار في بلدان المسلمين، وجب على أهلها أن يردوه، هم ومن حولهم حتى تتسع الدائرة إلى من هو أبعد منهم ممن لديه القدرة عليه.
وأما جهاد الدعوة فهو أفضل الجهاد كما جاهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أن ندعو وأن نقيم دين الله في أنفسنا، ونقيمه في مجتمعنا، ثم نخرج ونغزو الأمم ونفتح البلاد لتدين بدين الإسلام وتخضع له وتنقاد لأحكامه.
بعد أن نكون قد حققنا الإيمان والتوحيد، ودعونا إلى الله وانتصرنا على أنفسنا ثم ننتصر بإذن الله على أعدائنا، فهذان جهادان يجب علينا الآن في كل بلد من بلاد المسلمين أن نسعى إلى جهاد الدعوة، ونبدأ بالدعوة إلى الله وننتهي بقتال الكفار وفتح بلادهم.
هذا كله يسمى جهاد الدعوة، وهذا الذي كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أما جهاد الدفع فأكثر بلاد المسلمين محتلة التي لم يدخلها الروس، يحكمها الباطنيون والبعثيون والإشتراكيون والديمقراطيون، كلها مذاهب كفرية أين تذهب ومن الذي يذهب؟ وما الذي لا تدع؟ الواجب أن يحيي اليوم جهاد الدعوة ابتداءً من الدعوة المجردة وانتهاءً بقتال الكفار، لتكون كلمة الله هي العليا {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193] ولا نستطيع أن نقول أكثر من هذا في هذا المقام والحمد لله رب العالمين، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا ولكم العلم النافع والعمل الصالح، وصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(4/14)
الفرق الإسلامية
السؤال
ما رأيك أن يجتمع المسلمون يداً واحدة بمختلف عقائدهم من صوفي وأشعري وغير ذلك يداً واحدة ضد الأعداء ثم بعد ذلك نصلح أنفسنا؟ ثانياً: هل نعتبر أصحاب الفرق والملل كفاراً أم مسلمين، وأقصد الذين يؤولون الصفات وفي هذا انتقاص لحق الله سبحانه؟
الجواب
بالنسبة للفقرة الأولى فلا تحتاج إلى كثرة شرح، فهذه نضرب لكم فيها مثالاً واحداً لو أن عدواً لنا هناك على رأس الجبل، فقال أحدنا: اعطونا العميان والعرجان والمكسرين والعجائز وكل واحد نحارب به العدو وبعد ذلك نداوي أنفسنا، هل يعقل هذا الكلام؟ نقول: لا يقاوم العدو حقيقةً ولا يحاربه إلا القادر النشيط القوي، فوالله ما لم نعالج أنفسنا فلن نستطيع أن نحارب عدونا وقد جربنا في كل بلد يُحارب فيه أهل الشرك والضلال والبدع والموبقات، الصحابة الكرام أفضل جيل، وأطهر جيل على هذه الأرض عصوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى معصية نعتبرها اليوم عادية.
قال لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد {هذا الجبل لا تبرحوه انتصرنا أم انهزمنا} فكانت الدائرة على الكفار وانهزموا وذهبوا وجاء المسلمون يقتسمون الغنائم، وأولئك على الجبل، فقال قائدهم: [[لا تبرحوا فإن نبيكم نهاكم عن ذلك]] فعصوه ونزلوا إلا عشرة نفر، فلما نزلوا التف المشركون من وراء الجبل وكانت الهزيمة، وقتل من صناديد المسلمين سبعون، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقع له ما كاد أن يودي بحياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هزيمة بسبب ماذا؟ بسبب معصية واحدة حصلت من أفضل وأطهر جيل.
هذه المعصية منعت النصر من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فكيف إذا كان فينا المبتدعة وفينا المؤول والمعطل وفينا الشيعي والمخرف والكاهن والدجال وكل شيء؟! ونقول: نواجه العدو أول شيء وبعد ذلك نصلح أنفسنا؟! أولاً: نصلح أنفسنا وقبل أن نجاهد الأعداء نجاهد أنفسنا بطاعة الله، أو مع ذلك فهذا أمر لا بد منه ويكفينا ذلك.
وأما هل يعتبرون كفاراً؟ الذين يؤولون لا يعتبرون كفاراً في الجملة -أي: ليس أهل التأويل أهل كفر- وإنما نسميهم أهل بدعة وضلال وانحراف، لكن في آحادهم قد يوجد فيهم منافقون في الباطن، فيوجد من الصوفية ومن الأشعرية ومن المؤولة منافقون في الباطن، لكن الذي ظاهره فقط أنه يؤول الصفات أو يبتدع بدعاً غير مكفرة هذا لا نكفره في الجملة ولا نكفر فرقة في الجملة، بل هم من أهل الوعيد، إن شاء الله غفر لهم، وإن شاء عذبهم فإن كان لهم من الجهاد والحسنات والإيمان باليوم الآخر ما يوازي أو يزيد عن هذا الذنب غفر الله لهم، وإن كان غير ذلك فهم مؤاخذون كأهل الذنوب والمعاصي، أما أهل البدع المكفرة كما يقول: كـ غلاة الصوفية وغلاة الشيعة والجهمية الذين ينكرون جميع الصفات وأشباههم.
فهؤلاء كفار خارجين من الملة، فهناك فرق خارجة من الملة، وهناك فرق غير خارجة من الملة، ولكنهم من أهل الوعيد، والفرقة الناجية هم الذين على مثل ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، جعلنا الله وإياكم منهم إنه سميع مجيب.(4/15)
حكم الإسبال في الثياب
السؤال
هل يستطيل الإنسان بالثياب؟
الجواب
لا يستطيل الإنسان بالثياب، إذا كنا لا نقوم من طاعة الله إلا بالقليل الذي لا يكلف شيئاً، مثلاً: إذا قلت لبعض الناس ذلك؟ يقول: نحن الحمد لله فينا أشياء بسيطة، مادامت بسيطة تجنبها، فلا يعقل أن شخصاً يحمل حجراً كبيراً، وتقول له: احمل هذا، يقول: هذا بسيط اتركه.
يا أخي! لو حملت الصغير قبل أن تحمل هذا الكبير، لكن هذا دليل أن التزامنا ضعيف.
إذاً إعفاء اللحية شيء بسيط، فالحمد لله الذي جعله بسيطاً لا يكلفك شيئاً، بل يوفر عليك في دنياك وفي آخرتك، وأيضاً تقصير الثوب بسيط، ولا ينظر الله إلى المسبل إزاره، ولا عقوبة أعظم من هذه، وبعض العلماء يرى أن صلاته لا تصح ولا تقبل وإذا قبلت فهو عاصٍ آثم، فالإثم ملاحق له.
إذا رأيت إنساناً مسبلاً ثيابه، عرفت أنه من أهل الكبر، وإذا رأيت إنساناً رافعاً إزاره أو ثوبه على الكعب عرفت أن هذا عليه سمات من الخير.
ما أمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء إلا والخير كل الخير فيه، ولا نهانا عن شيء إلا والشر كل الشر فيه، عرفنا ذلك أو جهلناه.
فيجب علينا أن نتقي الله في أوامره وفي هديه وفي سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن أوجب ما يجب علينا في هذه الحالة أننا لا نستهزئ بمن يطبق السنة، يكفي أنني مُقصِّر، وأني مذنب، فإذا زدت على الذنب ذنباً أعظم وهو الاستهزاء بشعائر الدين التي كفر الله بها المنافقين {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66] هذا ذنب أعظم وهو الاستهزاء بالمتمسكين بالسنة أو الثياب، أو بتعليم القرآن، أو بحضور الجمعة والجماعات، أو بحضور حلقات الذكر.
الاستهزاء بهم أعظم جرماً وذنباً من أن تترك هذه الفروض أو السنن وهو مما أخرج الله به المنافقين من الإيمان نسأل الله العفو العافية.(4/16)
حكم الغناء
السؤال
ما حكم الغناء مع ذكر الدليل لتحريمه، وما هي الطريقة لاجتنابه بعد الانغماس فيه؟
الجواب
الغناء كلمة عامة نفصل فيها -إن شاء الله- بإيجاز: الغناء يطلق على شيئين يجب أن نفرق بينهما.
الأول: إنسان مع غنمه في الجبل أو متكئ في بيته، وأعجبته قصيدة ما فغنىَّ بها هذا يسمى غناء.
الثاني: مع موسيقى ورقص نساء أو رجال وفرقة يسمونها فرقة ترقص؛ هذه يسمونها أيضاً غناء.
ويأتي بعض العلماء أو بعض الناس، ويقول: العلماء اختلفوا في الغناء منهم من يقول: حلال، ومنهم من يقول: حرام.
الحقيقة أنهم لم يختلفوا لو تبينا ذلك، ولكن تكلم كل منهم في شيء، بعض العلماء من علماء المدينة في الصدر الأول قالوا: 'إن أهل المدينة يبيحون الغناء'.
كيف أهل المدينة يبيحون الغناء؟ الغناء ذاك الذي ليس فيه أي شيء، يحدث نافع عن عبد الله بن عمر 'لما كان ماشياً وجد راعياً معه قصبة يزمر فيها، فوضع ابن عمر إصبعه في أذنيه -سدها- يقول نافع: وأنا يومئذ صغير، فسألته فقال: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع الراعي فوضع يديه هكذا'.
فالغناء الذي فيه موسيقى وفيه آلات، وفيه معازف حرام، كما بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: {سيأتي على الناس زمان يستحلون فيه الحر والحرير والخمر والمعازف}، فهذا الغناء حرام، الزنا والحرير والخمر والمعازف والقمار هذه محرمات قطعية، ونافع يقول: ' وأنا يومئذ صغير ' يقول: أنا ما وضعت إصبعي في أذني لأني صغير لأنني لا أدري ولا أعرف الحكم، يعتذر أنه لم يسد أذنه عن سماع القصبة، قصبة الراعي.
فبالله لو رأوا الفرقة الموسيقية ورأوا الأفلام في الفيديو وفي التلفزيون، ورأوا الملايين التي تُبذر للمطربين والمطربات، هل يمكن أن يختلف العلماء؟ يقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [لقمان:6] يقول عبد الله بن مسعود [[والله الذي لا إله غيره إنه الغناء]] يحلف ونؤثمه! بل صدق والله.
ويقول ابن عباس رضي الله عنه: [[الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع]] هذا الذي نراه، وقد ورد فيه من الزجر ما تقشعر منه الأبدان.
وأنا أحيل الإخوة وفيكم طلبة علم أحيلكم إلى كتاب وهو كتاب عظيم في هذا الباب وغيره، كتاب إغاثة اللهفان في هذا الباب، ذكر خمسين وجهاً في ضرر الغناء، وذكر من كلام السلف ما يعتبر به الإنسان.
وقد أباح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للنساء في العرس الدف، وفرق بين الدف والطبل، ولكن متى؟ ليس في كل وقت، بل في الزواج فقط وماعدا ذلك فيحرم.
فلنتق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في أنفسنا، ولنتق الله في هذه الملاهي، والمعازف التي ألهتنا عن ذكر الله وشغلتنا عن طاعة الله، وأصبح العلماء لا يجدون لهم مكاناً في المجتمع، والفساق المغنون تعلق صورهم في أعلى الأماكن، كصور الملوك والأمراء، لماذا؟ لأنهم وجدوا شهوات الناس تحُب الغناء.
لو أنه قيل لنا: إن الشيخ ابن باز يأتي لهذه المنطقة -وإن شاء الله يأتي لهذه المنطقة- فإن كثيراً من الناس لن يفرحوا؛ كما لو قيل: المطرب الفلاني آتٍ إلى المنطقة، يأتون من كل مكان وليروه ولو استطاع النساء لأتين وخرجن ليروا هذا المطرب العظيم، لماذا؟ نحن أشهرنا وأعلينا الفساق وأظهرناهم، وجعلنا المتقين في الدرجة الأقل.
وكما تعلمون من واقعنا وبيئتنا أنها بيئة قبلية أصيلة، من أبناء الأسر الأصيلة، فأي شيخ قبيلة أو رجل محترم أو إنسان طيب يرضى أن يكون ابنه يضرب هذا الطبل أو يعمله؟ بالله هل يرضى أحد هذا الشيء؟ إخوانه سوف يتبرؤون منه وأرحامه وعمه وأبوه، فإذاً هذه مهنة حقيرة وضيعة، فإذا جاءت في التلفزيون ارتحنا؛ وقلنا هذا فنان عظيم، لماذا عظيم؟ لأنه بعيد، أما إذا كان قريباً لك، تقول: هذا خير فيه الطبال الزمار، الذي ما فيه خير لا نعرفه ولا يعرفنا، ولا يقرب لنا ولا نقرب له.
لا يا أخي! لا تنظر بميزانين، واجعل ميزانك واحداً، وهو ميزان الدين والشرع، وما وضعه الشرع ضعه، وما رفعه الشرع والدين فارفعه يرفعك الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(4/17)
حكم تقصير اللحية
السؤال
ما حكم الإسلام في تقصير اللحية وحلق العارض كما يفعل كثير من إخواننا هداهم الله؟ ونسأل الله لنا ولكم التوفيق.
الجواب
هذا مما يتكرر فيه الكلام -والحمد لله- من الوعاظ ومن العلماء وما علينا إلا نسمع فنعمل.
هذه اللحية شعيرة من الشعائر الظاهرة، فالحجاب للمرأة واللحية للرجل، ثم صلاة الجماعة وصلاة العيدين وصلاة الكسوف هذه شعائر، لأنني قد أذكر الله وقد لا أذكر، وقد أصلي في الليل، وقد لا أصلي.
قد أقرأ القرآن وقد لا اقرأ فلا أحد يدري، لكن الشعائر الظاهرة هي التي تعطي الإنسان صفته، فإذا سافر أحدنا إلى بلد ووجد نساء ذلك البلد متحجبات، قال: والله وجدت بلداً مستقيمة، وأهلها طيبون مسلمون، أخالطتهم وكلمتهم؟ قال: لا نعرف لغتهم لكن نساءهم محجبات، كيف عرف؟ عرف بشعيرة ظاهرة.
وإذا ذهبت إلى بلد أو بلدة أو مدرسة ووجدت المدرسين كلهم ملتحيين، إذا المدرسة طيبة، لماذا؟ لأنه وجد عليهم المظهر، هذه شعيرة ظاهرة يجب أن نظهرها، وهي علامة فارقة بين المتبعين لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين المتبعين للمجوس واليهود والنصارى.
آباؤنا وأجدادنا ما عرفوا حلق اللحية، هذا موجود فيهم ما عرفوه أبداً، وبعض العلماء يقول بحثنا فوجدنا أنه لم يعرف المسلمون حلق اللحية إلا منذ ثمانين سنة فقط، لا في مصر، ولا في الجزائر، ولا في المغرب، ولا في أي بلد من البلدان، لم يعرف المسلمون حلق اللحية إلا منذ حوالي ثمانين سنة فقط، عندما دخل الإنجليز والفرنسيون إلى بلادنا، وإلا فإن العاصي والفاجر والذي يصلي والذي لا يصلي لا يمكن أن يحلقها هذه الشعرات التي لا نأبه بها لو أن أحداً أتلف لحية أحد ولم تنبت بعد ذلك، ماذا فيها؟ اسألوا القضاة، عشر الدية أو ربعها؟ بل فيها دية كاملة ونحن نزيلها بلا مقابل هذه خسارة.
إذاً نقول: هذا لا تشهيراً ولا تشفياً لبعض الإخوان المقصرين، الذين يقصرون لحاهم ويحلقونها، فنحن فينا ذنوب ربما أعظم مما فيهم، لكن هذه من الشعائر الظاهرة، هذه من علامات الخير وعلامة اتباع الأنبياء، علامة أننا على منهج رسول الله، مخالفين للمجوس، ويجب أن نتمسك بها.
لا يقول الإنسان: كيف أتمسك؟ بعض الناس يقول: أنا عندي خير ولو كنت أحلق لحيتي.
يا أخي! إعفاء اللحية وتقصير الثوب والله أسهل، ما رأيكم في الذي لا يستطيع أن يأتي بالأشياء السهلة، فهل يقدر أن يأتي بالأشياء الكبيرة؟ إعفاء اللحية ليس سوى تركها فلا تحلقها، وإسبال الثوب توفر على نفسك عند الخياط حاجة من الفلوس، وتوفر وتبعد الوسخ والقذر عن ثوبك فترفعه قليلاً، فلا يضر رفع الثوب إلى الكعبين.(4/18)
حكم تارك الصلاة
السؤال
لقد سمعت من بعض الشيوخ أن من ترك الجمعة ثلاث مرات متتابعات فإن الله يختم على قلبه، ما هو مخرج من فعل ذلك، لأن السائل يقول: هو منهم؟
الجواب
نسأل الله العفو والعافية، نسأل الله أن يجنب قلوبنا وقلوبكم من هذه القسوة والغفلة والختم، فإذا كان كما قال الأخ هذا يختم ويطبع على قلبه إذا ترك الجمعة ثلاث مرات، ما الذي يجعل المسلم يترك صلاة الجمعة إلا مرض مستأصل قد قطَّع قلبه وغلَّفه، وهذا بعد ذلك لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، هذا من أعظم الذنوب، لأن ترك الصلاة جماعة غير الجمعة ذنب عظيم توعد عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يُحرق البيوت، بل لولا ما فيها من الذرية لأحرق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيوتهم، لكن فيها نساء وفيها أطفال لا تجب عليهم الجماعة، فكيف بالذين يتركون الجمعة؟ هذا أعظم من ترك فريضة الجماعة، وهذا عيد المسلمين الأسبوعي.
ومما يؤسف له أن بعض الناس يستغلون يوم الجمعة في رحلات أو في أعمال لا تقرب من الله، بل ربما -أيضاً- يسهرون سهرات طويلة ليلة الجمعة على أفلام خبيثة ثم ينامون عن صلاة الفجر يوم الجمعة، وربما -أيضاً- عن صلاة الجمعة، وأسباب الشر كثيرة وهذه من أعظم الذنوب، لأن تركها كفر كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتركها يخرج من الملة، من ترك الصلاة عامداً متعمداً لم يؤدها فقد خرج من الملة حتى إذا صلى عاد إلى الملة -نسأل الله العفو والعافية- والأحاديث في ذلك كثيرة لا يتسع المجال لسردها.
ما هو المخرج؟ المخرج من كل ذنب هو التوبة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والاستعانة بأهل الخير ليعينوه وليذكروه بالله، ويحضر مجالس الذكر، ويوصي جيرانه وأقرباءه وأهله بأن يوقظوه إن كان نائماً عن صلاة الفجر أو غيرها، ويستعين على نفسه وعلى شيطانه بدعائه الله بالهداية؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل الهداية بالمجاهدة {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
لكن الذي لا يصلى ويقول: كيف المخرج؟ فالمخرج منك أنت، وفي أمور دنيانا لا نسأل عن مثل هذا المخرج لأن الواحد منا يكدح ويعمل ويجتهد في دنياه فلا يقصر أبداً، فلا يمكن للإنسان أن يقول ماذا أفعل وهو جالس لا يعمل؟ فهو لا يقولها لك في أمور الدنيا إلا بعد أن يقول: حاولت وتعبت ولم أجد وظيفة، إذاً ابحث لي عن شيء.
فكذلك في هذا نجتهد أننا نطيع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] كلنا نحب النوم، والرحلة، ونحب الراحة، لكن يجب أن نُرغم أنفسنا على طاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثم نرتاح ونرتحل في غير الأوقات التي أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها بعبادته وطاعته.(4/19)
النبي سليمان والجن
السؤال
نبي الله سليمان تحدث أن الجن لا يعلمون الغيب؟
الجواب
نبي الله سليمان سخر الله له أكابر الجن، وكما قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} [سبأ:14] فلا تأكل الأرض أجساد الأنبياء، وتوفي وقبضه الله وهو قائم عليه السلام وبيده العصا متكئ عليها، فكان الجن يأتون وينظرون إليه ويشتغلون؛ لأن الله سخَّرهم لسليمان {وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35] أي إذا مات سليمان عتق الجن من الخدمة، فكانوا ينتظرون موت سليمان حتى يعفو من الخدمة ويصبحوا أحراراً، فكانوا يأتون فينظرون فإذا بسليمان واقف، فيشتغلون ويعملون في العبودية، وما دلهم على موته إلا دابة الأرض، هذه الدابة التي تأكل الخشب أكلت العصا فسقطت العصا فسقط سليمان، يقول تعالى: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14] لو كانوا يعلمون الغيب، فمجرد ما مات وعلموا أصحابهم عتقوا، لكن بقوا في العذاب المهين سنين وراء سنين، وهم يقولون: إن نبي الله سليمان حي.
وكل ما كان عن علم وخبرة لا يدخل في هذا الباب، المهندسون أو الجيولوجيون الذين يقولون: إن الماء على بعد كذا، هذا غير ذلك، هذا الذي هو صاحب خبرة وحرفة وعلم ولا يجزم، وإنما يقول: بإذن الله وينظر إلى عروق الأرض وما أعطاهم الله من العلم فيها، فهذا لا بأس به، ولا يدخل في ذلك ما سبق، أما إذا كان عنده حضرة يحتضر، وقالوا له الجن: في هذا المكان شيء وأخبر به، فهذا لا يخلوا إما أنه يدعي علم الغيب، وإما أنه يذبح للجن -والعياذ بالله- ويقرب لهم من القربات، مما يجعلهم يخبرونه.
ولهذا يوم القيامة يقول: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ} [الأنعام:128] أي: أضللتم كثيراً من الإنس وأخذتوهم وعبدوكم من دون الله (وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ) يجاوبون {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام:128] كيف كانوا؟ كنا نذبح لهم ويعلمونا، يأتونا وندعوهم ويعالجونا، إنما استفدنا واستفادوا، لكنه متاع قليل -نسأل الله العافية- متاع ووراؤه جهنم، والله ليس بمتاع ولا استمتاع، فيقع الاستمتاع من الطرفين، يقول: اذبح له في المكان الفلاني؛ لأنهم جن، الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يطلعهم على ما لا يطلعنا عليه.
أما العلم البحت فلاشيء فيه، فالعلم يرفع الله به الوضيع الحقير من الناس، يأتوه الملوك ويسلموا على يده ويستفتونه، بل يرفع الله الكلاب حتى الكلاب يرفعها بالعلم، فالكلب المعلم {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4] الكلب العادي إذا أكل من طعامك أو ولغ في الإناء، فيجب عليك أن تغسله سبعاً إحداها بالتراب، لكن الكلب المعلم إذا اصطاد شيئاً فإن ريقه طاهر، وتأكل هذا الشيء، وانظروا كيف يجعل العلم، الشيء طاهراً ولو كان نجساً؟! فكيف إذا تفقهنا في ديننا -نسأل الله أن يفقهنا وإياكم في الدين- فما كان نتيجة العلم والخبرة والتجربة فلا يدخل في باب الكهانة والشعوذة، وإنما الذي يدخل في الشرك هو الكهانة.
أما دعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل: يا محمد احفظنا أو يا جبريل أو يا ابن عباس أيضاً فهذا من الشرك، وقد تقدم ما يكفي أن دعاء غير الله شرك.
الحلف بغير الله يعد من الشرك، (من شرك الألفاظ) {من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك} كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الآخر الصحيح: {من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت} فمن حلف بغير الله فهذا من شرك الألفاظ لا يخرج من الملة لكنه أكبر وأخطر من الذنوب الأخرى، لأن الشرك أخطر الذنوب، والشرك الأصغر أخطر من أكبر الذنوب التي ليست بشرك، وإن حلف بغير الله معتقداً تعظيم المحلوف به كتعظيم الله أو أكثر، كما يقال لبعضهم: يحلف بالله قال: لا أصدق حتى تحلف بالولي فلان أو بالسيد فلان، وعندنا هنا شيء آخر، يقولون: ما نصدق حتى تطلق، إذا حلف بشيء غير الله، ويعتقد أنه أعظم من الحلف بالله وأبلغ، فيكون حينئذٍ من الشرك الأكبر.
إذا حلف بغير الله معتقداً تعظيمه كتعظيم الله أو أكثر أصبح من الشرك الأكبر، أما إذا حلف بغير الله فقط هكذا فهذا على خطر عظيم، وأما إن حلف بغير الله بلفظ يجري على لسانه من غير قصد فيجب عليه أن يستغفر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الحين، وأن يشهد أن لا إله إلا الله.(4/20)
ميراث المرأة
السؤال
يقع بعض الناس في قطيعة الرحم وذلك بسبب منع بعض الورثة من حقوقهم، وخاصة المرأة؟
الجواب
ما خالف قوم أمر الله إلا ندموا في الدنيا قبل الآخرة، وقد فصَّل والله تبارك وتعالى أحكام الميراث، ولم يدعها لنبي ولا لعالم ولا لمفتٍ، وإنما هو عز وجل فصلها في كتابه، الأصول والأسس للمواريث، ثم فرَّع العلماء على هذه الأصول ما فرعوا ونحن ضعينا هذه الأصول في هذه المناطق، ومنطقتنا هذه إلا من وفقه الله تعالى، ولهذا نندم في الدنيا قبل الآخرة.
كيف نندم في الدنيا؟ الرجل يتعب على البلاد، فمثلاً إن جاءت ثمرة -إلا من رحم الله- فإنها تكون قليلة الثمار، لكن المشاكل في البلاد والدعاوى كثيرة والتعب كثير، فيحفر الآبار ويتعب ويبني ويعمل ويجتهد ويفعل كل شيء، وهو يتعب فيه، فإذا كبر أولاد البنت أو الأخت، وقالوا يا خال نريد حقنا، أنكرهم وجحدهم ثم تعب في المشاكل، وفي القضاء، وفي المحاكم، وشهد الشهود، وأخذوا حقهم جاهزاً، يتندم على ما خسر، وتعب، وكسب، وعلى ما حفظ من محارم، ومن مخازن، ومن كذا وكذا تحمَّلها كلها طول الدهر، وأخذها أبناء الأخت باردة مبردة وعمروا وأنشأوا فيها، فتكون القطيعة بينه وبينهم والعداوة الشديدة، لماذا؟ لو أنه مجرد أن مات الأب قسمت التركة وأخذت المرأة نصيبها وأخذت حقها لبقيت القلوب سليمة ونظيفة، هذا حق ليس فيه شيء، ولكانت صلة الرحم موجودة، ولكان الذي تعبت فيه لك، ما تعبت لأولاد الناس -كما يقولون- وما يدفع الناس أن يقطعوا أرحامهم من أخوات وقريبات إلا مثل هذه الأمور، أنه تعب وأفاد، وأنه وسع، وأنه ربما المساحة كانت صغيرة وزاد كبرها، ويشهد الشهود على الركيد كله ونصفه أو أكثر، ثم يأتي الحكم فيما بعد، بأن المساحة للمرأة، فيندم على ذلك.
هكذا والله ما نخالف الله في شيء إلا نندم حتى في الدنيا فضلاً عن الآخرة، والعبر كثيرة لكن ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار.
يجب علينا -أيها الإخوان- أن نتق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وألاَّ نفرق بين دين الله، ونؤمن ببعض ونكفر ببعض، الذي أمرني أن أخرج زكاة الفطر وأخرج زكاة مالي وأن أحج وأصلي، هو -أيضاً- الذي فرض حق الوريث والوارثات وإن كنَّ نساءً، فهو الذي فرض ذلك، لماذا أطيعه في شيء وأعصيه في شيء؟ وأتخير من الدين ما يناسبني فأعمل به، وأترك مالا يناسبني ولا يعجبني، ألنا الخيرة أم لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ يجب أن نطيع الله ونعلم أننا عباد لسنا مخيرين في أمر الله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] أبداً، وإنما الاتباع والسمع والطاعة لله في هذه الحقوق جميعاً.(4/21)
الشرك والسحر
السؤال
دعاء الجن والاعتقاد في الكهان أنهم يعلمون الغيب، ودعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -مثل قولك: الله ومحمد- والحلف بغير الله، أرجو من فضيلتكم البيان هل هذه الأمور من الشرك المخرج من الملة أم لا؟ وما حكم من يخالف من يوجد عندهم هذا علماً أنه أنكر عليهم وأرشدهم وخاصة الأقارب؟
الجواب
أولاً: نسأل الله أن يرحمنا وأن يعافينا وإياكم من الشرك، وكما قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] هذا الخطاب لمن؟ لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول رب العزة والجلال لأفضل الخلق وخاتم الرسل، رسول العالمين ورحمته إليهم، يقول: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) وهذا ليس فقط للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده، بل لمن قبله من الأنبياء فنحذر الشرك {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72].
فعافانا الله وإياكم من الشرك، وكيف نشرك ونحن أمة التوحيد الذين نقول: نشهد أن لا إله إلا الله؟ نقولها ثم ننقضها، فمن نواقضها الشرك بالله بأي نوع من أنواع الشرك -عافنا الله وإياكم- فمثل هذه الأمور كلها نجتنبها وغيرها، فإذا ما اجتنبنا الشرك بالله وعرفنا أنه خطير، فلا نستنكر ممن يحُذرنا من الشرك؛ لأنه خطير حذَّر الله منه الأنبياء.
ننظر إلى دعاء الجن إذا دعاهم الإنسان واعتقد أنهم يضرون وينفعون، وقال: يا فلان من الجن! افعل وافعل، يا جن! افعلوا به وافعلوا وخذوه، معتقداً دعائهم، كما يدعو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهذا القصد، فهذا شرك أكبر، ودعاء غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شرك أكبر مخرج من الملة؛ لأن حقيقة الشرك هي هذه؛ لأن العبادة هي الدعاء كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {الدعاء هو العبادة} ويقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60].
إذا العبادة هي الدعاء والدعاء هو العبادة، فلا يدعو أحد أحداً إلا وقد عبده وهذا مما لا شك فيه، لكن إن كان قالها لأن اللسان قد اعتادها فقط ولا يقصدها ولا يعتقد حقيقتها؛ فيجب عليه أن يكفرها بشهادة أن لا إله إلا الله، يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، كما كان الصحابة الكرام أول ما أسلموا وما زالت تجري على ألسنتهم بعض ألفاظ من الشرك، والحلف بغير الله.
ويجب علينا أن ننصحهم جميعاً بغض النظر أننا نقول: خرجت من الملة، أو ما خرجت، نقول: دعاء غير الله شرك أكبر، ونقول: اتق الله ولا تشرك بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
والاعتقاد في الكهان أنهم يعلمون الغيب هذا أيضاً من الكفر المخرج من الملة، لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {وَعِنْدَهُ} [الأنعام:59] وتقديم الظرف هنا للاختصاص، أي: أن علم الغيب له وليس عنده أحد غيره {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59] فإذا أتى شخص وقال: فلان يعلم الغيب، واعتقد ذلك كفر بهذه الآية وبأمثالها وكثير من الآيات والأحاديث.
فلا يجوز لأحد أن يعتقد أن أحداً يعلم الغيب؛ حتى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعلم الغيب إلا ما علَّمه الله وأظهره الله تبارك وتعالى عليه، ولهذا الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمة الله عليه- ونقرأ هذا في مناهجنا والحمد لله، ذكر من رءوس الطواغيت الخمسة من ادعى علم الغيب، الذي يدعي علم الغيب ليس مجرد مشرك، بل هو طاغوت، والطاغوت أعظم من المشركين، لأن المشركين إنما يشركون لتعلقهم بالطاغوت واتباعهم له، فالطاغوت مادة وأساس الشرك مثل هؤلاء.
وحقاً والله! انظروا الكهان المنتشرين في بعض المناطق، يدعون أنهم يعلمون الغيب، ويخبرون الإنسان باسمه واسم زوجته وأمه وكذا وكذا فيما يزعمون وفيما يدعون، فكم من الناس من يعتقد في هؤلاء، فيشرك الناس بسببهم، فهؤلاء طواغيت ولا غرابة أنهم يخبرونا بأمور غيبية.
ونقول: إنهم يطلعونا على أمور قد تكون غيباً بالنسبة لنا، وهي ليست بغيب بالنسبة لهم، وإنما يوحي بعضهم إلى بعض، هؤلاء لهم قرناء كل إنسان منا له قرين من الشياطين، والشياطين يوحي بعضها إلى بعض {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء:221 - 223] كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكما بين في الحديث يكذب مائة مرة ويصدق مرة واحدة، يفتن الله تعالى الناس بمرة واحدة يصدق فيها ذلك الكاهن، يلقي الشيطان الكلمة التي سمعها من الملأ الأعلى -من الملائكة- يلقيها قبل أن يدركه الشهاب -فتنة من الله- فيسمعها وليه من الإنس -الكاهن- فيخلط معها مائة كذبة، ويقول: فلان ستكون له كذا ويكون أمراً صحيحاً، وفلان وفلان، فيكذب معها مائة كذبة، فإذا اكتشف الناس أمره وقالوا: هذا كذاب، قال: ذاك اليوم كذا وبان كذبه، قال: هذا وإذا هو كذب، جاء الشيطان وأولياؤه وأعوانه، وقالوا: نسيتم تلك المرة عندما قال وبان صدقه! فيذكرون الناس بواحدة وينسون المائة الكذبة، لأن هؤلاء أعوانه من شياطين الجن والإنس يتعاونون.
فليس هناك غيب، لا يعلم الغيب إلا الله، وإنما وحي يوحيه الشياطين بعضهم إلى بعض، قرينك من الشياطين يذهب إلى الكاهن ويقول: سيأتيك فلان بن فلان واسم أمه كذا، واسم زوجته كذا، وعندها مرض كذا وكذا، ويدخل عليه، فيقول له: أنا أعرف لماذا أتيت أنت فلان بن فلان، وزوجتك كذا وعندها مرض كذا، فيقول: هذا الكلام صحيح، فلو لم يكن عنده برهان ما كان ليقول هذا الكلام ليدلس به علينا، لكن الشيطان ينسينا كلام الله وسنة رسوله، ويخرجنا من الملة بهذه الحيل الشيطانية الخبيثة عافنا الله وإياكم منها.(4/22)
عقوق الوالدين
السؤال
بعض الشباب يصدر منهم العقوق لآبائهم، فما نصيحتكم لمثل هؤلاء؟
الجواب
هؤلاء الشباب مهما كانت تقواهم، ومهما كانت طاعتهم إذا عقوا آباءهم وأمهاتهم فهم والله على خطر، لأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أوصى في الأب المشرك؛ المجاهد لأبنائه من المؤمنين أن يكفروا، يقول الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15] الأب حتى لو كان كافراً يجب على الابن أن يصاحبه بالمعروف، وأن يحسن إليه مكافأة منه، ومن ذا الذي يكافئ أباه إلا كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إلا من وجده عبداً فاشتراه فأعتقه} ولكن من الذي يجازي والديه أو أباه بما قدم له من الخير ومن الفضل، مقابل ماله عليه من الحق.
فلنتق الله نحن الأبناء والشباب في آباءنا وأمهاتنا، ومن جانب آخر: يجب على الآباء أن يتقوا الله في أبناءهم، ويجب على الآباء أن ينظروا هل تربيتنا لأبنائنا مما يوجب العقوق أو مما يوجب الإحسان، وإذا لم تحسن إلى ابنك ولم توجهه ولم ترشده ولم تقومه، فكيف ترجو منه أن يكون باراً بك، والأمثلة كثيرة من واقع حياتنا، ومن واقع من قبلنا لا يتسع المجال لها، لكن المسئولية مزدوجة من الآباء ومن الأبناء، أن يتقي الله كل واحد منهما في حق الآخر.(4/23)
توجيه الآباء للأبناء
السؤال
بعض الآباء يحضرون إلى المسجد دائماً إلا أنهم لا يحضرون أبناءهم للصلاة، فإذا نصحته قال: لا أستطيع أن أحضره، فهل يعتبر الأب في هذا الحالة آثم؟ وما هو العلاج؟
الجواب
يجب على الإنسان كما أنه يتقي الله ويحرص على الخير لنفسه أن يدعو إليه أبناءه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] وكان إسماعيل كما وصفه الله أنه {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [مريم:55]، هذه من صفات المرضيين عند الله تبارك وتعالى.
نحن نشكو في هذه الأيام من ضعف السلطة الأبوية، ليست فقط مع الأبناء، بل مع الزوجات، يقول: لا استطيع، وإن تكلمنا عن الأبناء قال: لا أستطيع، وإن تحدثنا إلى المدرسين ومدراء المدارس عن الطلاب، قالوا: لا نقدر، فعندنا خلل في تربيتنا، وهو ضعف السلطة عن إيقاع التأديب أو التوجيه، لماذا؟ ما السبب؟ لعلنا نذكره فيستعين الآباء على شيء من تربية أبنائهم.
السبب أن التوجيه ليس موحداً، كما كان في السابق، ففي السابق كان الطفل لا يتلقى التوجيه إلا من الأب، ولهذا على ما كان فينا من الجهل، كان الأبناء يقدرون آباءهم، أما الآن فالتوجيه متعدد، والمناهج متعددة الطرق، الأفلام توجه، وملاعب الكرة توجه، والبشكات والسهرات توجه، وجلساء السوء ينصحون ويوجهون، ويأتي الأب ينصح ويوجه فيضيع توجيهه مع هؤلاء، لأن المصادر تعددت.
وخطيب الجمعة يخطب ويذكرنا بالله ويعظنا خطبة ربع ساعة أو نصف ماذا تعمل مع أفلام ومسلسلات وحلقات ومجلات وصحف وملاعب ومقاهٍ ومجالس سوء، ماذا تصنع هذه مع تلك؟ لا تؤثر، ولذلك أصبحت السلطة ضعيفة، سواء من الأب أو من المربي أو من الزوج؛ لأن هذا سبب من أسبابها، وهو تخلخل في التربية، وتخلخل في التوجيه الاجتماعي مما أدى بنا إلى هذا.
فإذا أردنا أن نستعيد ذلك، فيجب أن نحرص -أولاً- على إعادة توحد السلطة التوجيهية، بمعنى: أن الأب يوجه للخير، والمدرس للخير، وخطيب الجمعة كلهم يوجهون للخير، والمجالس تكون مجالس خير، وأيضاً وسائل الإعلام يجب أن تكون على خير، وإلا فلا ينظر ولا يستمع إلى ما فيها من شر.
فإذا كنا كذلك نجد أن الزوجة تطيع زوجها، والابن يطيع أباه، والأب يحترم أبناءه ويعرف قدرهم، وبهذا أصبحنا في مسار تربوي سليم بإذن الله.(4/24)
مجالس الغيبة والنميمة
السؤال
كثير من المجالس يحدث فيها الغيبة والنميمة، وكذلك الاستهزاء بالملتزمين، فما الحكم في ذلك؟
الجواب
هذه الغيبة والنميمة وهذه المجالس، كل إنسان منا يجب أن يتقي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن يعلم كما قال عز وجل: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].
ويوم القيامة ماذا يقول المجرمون إذا رأوا الكتاب: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49]، ويقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما من قوم جلسوا مجلساً لم يذكروا الله تعالى فيه، ولم يصلوا على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا كان عليهم ترة يوم القيامة} كان نقيصة وحسرة وندامة عليهم يوم القيامة، لأنهم جلسوا ولم يذكروا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لو جلسوا وتحدثوا فقط في دنيا حلال وقاموا، لوجدوا أن هذا نقص يوم القيامة، فكيف إذا كان الحديث في الحرام، نسأل الله العفو والعافية.
ما الذي يكب الناس على مناخرهم في النار، كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لـ معاذ {ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم}.
ألا ترى أن كلمة من الغيبة والنميمة قد تفسد ما بين زوج وزوجه، وما بين قبيلة وقبيلة، وما بين قريب وقريبه.
إذاً من الذي قطع الأرحام؟ ومن الذي كان السبب في هذا الفساد العظيم؟ تلك الكلمة، الكلمة التي قالها النمام أو قالها المغتاب، وهذه الغيبة هي جزء مما يجب أن نذكر أنفسنا به -جميعاً- وهو حق المسلم على المسلم، ونحن في ما بين الله عز وجل وبيننا في تقصير شديد، ولكن هو أخف مما بيننا بعضنا مع بعض.
ونحن بالذات في هذه المناطق وهذه القبائل نخشى أن نجاهر -والحمد لله- بكثير من المعاصي من فضل الله، لكن مع بعضنا بعضاً فلا نبالي أن نجاهر ولو برفع السلاح في وجه المسلم، وهذه هي الجاهلية بعينها، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {سباب المسلم فسوق وقتاله كفر}.
انظروا هذه المصيبة، يقول في خطبته في يوم النحر أو في يوم عرفة: {لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض} هذه أعمال الكفار، أعمال الجاهلية، ويجب أن تتقي الله من الغيبة والنميمة والفساد والمضاربات والمنازعات، وكل ما يخل في حق أخيك المسلم.
إن المسلم عند الله هو كل من قال: لا إله إلا الله، لكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتي لنا بمفهوم آخر يصحح به نظرتنا: {المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده} هذا هو المسلم، وإلا دعوى لا إله إلا الله كثير من يدعيها، مجرد الصلاة كثير يصلي لكن إذا لم يسلم المسلمون من أذاه فلم يحقق حقيقة الدين ولا حقيقة الإسلام.
لماذا قدم اللسان على اليد؟ هذا -والله أعلم- لأن أصل كل شر هو من اللسان، حتى الاقتتال باليد يسبقه التخاصم والتلاعن -نسأل الله العفو والعافية- ثم يكون التماسك بالأيدي، فاللسان إذا حفظناه فهو حجاب لما بعده، هذه قاعدة -مثلاً- وعليها أمرنا الله أن نغض النظر عن النساء، فإذا غضضنا النظر عن النساء لم نقع في الزنا، وأمرنا الله أن نجتنب الشبهات، فإن كنت لا أعرف هذا أحلال أم حرام أجتنبه، فإذا اجتنبت الشبهات لم آكل من الحرام، فهذه قواعد شرعية عظيمة، حتى يكون كل إنسان يتوقى بترك الأخف حتى لا يقع في الأعظم، فنتوقى أن نؤذي المسلمين بألسنتنا، وبذلك نضمن -بإذن الله- أننا لن نؤذيهم بأيدينا، والله أعلم.(4/25)
الاحتجاج بأن الإيمان في القلب
السؤال
إذا أردت أن أنصح إنساناً يقول: الإيمان في القلب، رغم أن سلوكه مخالف لذلك، فماذا أجيب مثل هذا وفقكم الله؟
الجواب
أولاً: نسأل الله أن يهدي مثل هذا الإنسان {وَكَانَ اْلإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54] إن كانت المسألة بالجدال؛ فإنه يقدر أن يقول: الإيمان في قلبي، ويقول: أنت ما اطلعت على قلبي، ويقول: وما أدراك أني كذا وكذا، كل هذا يقوله جدلاً.
أما إن كانت محبة ونصيحة، يقول: جزاك الله خيراً وأحسن الله إليك، ويعمل بالنصيحة، هذا الذي يجب، وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم إذا ذكّر بالله وإذا نصح، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ يقول: {التقوى هاهنا، التقوى هاهنا} نعم، لماذا قالها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالها ليبين لنا معنى الحديث الآخر الصحيح {إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم}.
لماذا؟ لأن بعض الناس يمكن أن يعمل الطيب، ويظهر بمظهر حسن، ويظهر مع المتقين في المظهر وقلبه خالٍ من الإيمان، فهذا نقول له: التقوى في القلب، اجعل قلبك يخشع لله، ويجب أن يعلم أن التقوى في القلب لا في المظهر.
لكن إنسان يأتي ولا يوجد له مظهر فهذه حالة أخرى لا نعكس دين الله، لا نجعل هذا لهذا وهذا لهذا، فقد جعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى محل دواء لداء، ولو أعطيت دواء لداء آخر ما صلح، فدواء الذي يظن أن الدين مظهر وقلبه خاوٍ من الإيمان أن يعلم أن الله إنما ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا، فيتق الله في قلبه ويؤمن بالله في قلبه، ولا يظن أن المظهر يكفي، والعكس الذي لا مظهر له من مظاهر الخير ولا يحرص عليه ويدعي أن الإيمان في قلبه، نقول له: أين هذا الإيمان، أين ثمرته، أين نتيجته؟ ما نكذبك -إن شاء الله- عندك إيمان، ولكن أظهر ثمرة هذا الإيمان، يجب أن نراها، وإلا فإنها دعوى، وأي دعوى لا يصدقها البرهان أو الدليل لا تقبل، فنحن والله لا نخشى إلا على الذين يُحبون الخير ويحرصون عليه، ويؤدون الجماعة والجمعة، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، نخشى عليهم أن تكون قلوبهم فيها ضعف إيمان أو خالية منه، عافانا الله وإياكم.
أما ذاك الذي لا يأتي هذه الأفعال ولا يعمل من أعمال الخير شيئاً، ويدَّعي الإيمان هذا والله على خطر عظيم، نخاف على ذلك، فكيف خوفنا على هذا الذي لا يعمل شيئاً أبد.
نسأل الله أن يهدي قلوبنا وأن يصلحها، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو القدوة في ذلك وهو أكثر الناس إيماناً، وكذلك أصحابه كانوا أكثر الناس امتثالاً وطاعة وعملاً، لأنهم كانوا أكثر إيماناً في قلوبهم.(4/26)
شهادة الزور
السؤال
هناك أناس لا يتركون الصلاة في الجماعة وغيرها إلا أنه قد لا يتورع عن شهادة الزور ويكتم شهادة الحق إن طلبت منه؟
الجواب
مثل هذا السؤال يتكرر دائماً ونستشف منه أشياء: أولاً: كثرة الدعاوى في منطقتنا هذه، لماذا نحتاج إلى شهادة الزور أو نحتاج إلى شهادة الحق؟ كل هذا بسبب كثرة الدعاوى.
ولو عرف كل إنسان حقه ووقف عند حده، ما احتجنا إلى شهادة الزور ولا إلى شهادة حق.
لكن الدعاوى لكثرتها عندنا هنا، فيأتي الإنسان ويأتي ما نسميه القالة ويأخذ القالة، لا بد أن ينتصر بحق أو بباطل، لا حول ولا قوة إلا بالله.
ويأتي القريب والصديق والرحيم، ولا بد أن يعينه وأن ينصره، سبحان الله! كان الناس في الجاهلية يقولون: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، هذه قاعدة من قواعد الجاهلية، فجاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لأصحابه الكرام: {انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً فتعجب الصحابة رضي الله عنهم- هذه قاعدة الجاهلية يقولها نبي الهدى والرحمة والعدالة- فقالوا: يا رسول الله عرفنا كيف ننصره إذا كان مظلوماً، فكيف ننصره إذا كان ظالماً؟ قال: تردعه وتحجزه عن الظلم فذلك نصره}.
كم واحد منا يطبق هذا الشيء في منطقتنا؟ نرجو أن يكونوا كثيرين، ونرجو أيضاً أن يزداد الذين إذا رأوا الظالم أخاً أو قريباً أو رحيماً أو جاراً أو شريكاً، ينصرونه بأن يردعوه عن ظلمه، فلا يحتاج إلى شاهد ولا إلى مشهود.
ومع ذلك فمن أدَّى صلاة الجماعة وشهد شهادة الزور، أو من حافظ على الصلاة والزكاة والصيام والحج وذكر الله وقراءة القرآن، لكنه يمشي بالنميمة ويفسد ما بين الناس، ويوقع ما بين الأقرباء والشركاء والجيران، ويرتكب الموبقات التي لا يلقي لها بالاً، هذا من هو؟ هذا هو المفلس كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {أتدرون من المفلس؟ قالوا: يا رسول الله! المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع} هذا مفلس، أي: أنه فقير ما عنده شيء، ولكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريد أن يعدل موازيننا، دائماً موازيننا أن الظالم لا ينصر إلا أن يعاون، قال: {تنصره بأن تردعه} إذاً غيرنا الميزان.
أيضاً هنا نغير الميزان، فالمفلس ما هو الذي هو هذا حاله، والذي فيه خير، ليس الذي عنده أموال كما نقول هنا في المنطقة، نقول: فلان فيه خير، أي: أن عنده أموال وعنده وظيفة.
ليس هذا هو المعنى، فموازيننا يجب أن نعدلها، وأن نزنها بميزان الله، {المفلس هو الذي يأتي يوم القيامة وعنده من الحسنات مثل جبال تهامة ولكن يأتي وقد شتم هذا، وظلم هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا، وسفك دم هذا، فيؤخذ من تلك الحسنات، فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن كفت وإلا أخذت من سيئاتهم فطرحت عليه فطرح في النار} نسأل الله العفو والعافية، فهذا المفلس.
فيا إخوان! نسأل الله أن لا يكون فينا شقي ولا محروم ولا مفلس.
فلا نشهد الزور، ويجب أن نعلم أن شهادة الزور يا إخوان لها معنيان في ديننا كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72].
شهادة الزور التي نعرفها جميعاً أن يشهد الإنسان بغير الحق.
وشهادة الزور، أي: الحضور، حضور اللهو واللعب وحضور ما يشغل عن طاعة الله، هذه شهادة اللهو.
شهد الزور: أي حضره.
فمن شهد ما يلهي عن طاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -أيضاً- فقد شهد الزور.
فعلى كل حال من اتقى الله وصلى وصام لا يشهد الزور لا بهذا المعنى ولا بذاك المعنى إن شاء الله.(4/27)
حكم استخدام الخادمات والعمال الكفار
السؤال
ما حكم الخادمات في البيوت، وكذلك العمال في المؤسسات إذا كانوا كفاراً؟
الجواب
هذه المنطقة -مع الأسف- وأقولها بصراحة، آباؤنا يعلمون والكبار منا يعلمون، ويظنونا مثل الجاهل الذي لا يدري.
كان آباؤنا يخدمون في المدن، يتمنى الواحد أن يخدم بالحجر والطين في البيت يسمونه (مجاود)، في أي مكان في تهامة أو في المدن، ليجد ما يقيتنا وما يعيشنا.
وكان كثير من الآباء -كما نقلوا لنا- يسأل الله ويتمنى أنه لو جاء له أكل يأكله بما يكفي في ذلك اليوم أن يفرش السجادة، ويعبد الله ذاك اليوم، ولا يريد شيئاً من الدنيا أبداً.
ولكن لما فتحت الدنيا، ثم فتحت، وإذا بنا نستقدم الناس يخدموننا من أطراف الأرض، من شعوب كنا نخدمها في الحج، والله إن من آبائنا من خدمهم في غير مقابل إلا أن يجد ما يأكل، لا يعطونه إلا ما يأكل من بقايا طعامهم، واسألوا آباءنا عن هذا.
والآن نستقدمهم ليخدمونا، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] لنفرض أن الله أنعم علينا وأخذ نعمتهم، أو ليس الحال سينتقل والدول ستزول، وننتقل عافانا الله وإياكم.
إذاًَ: يجب أن نشكر نعمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بما يلي: أولاً: أننا أصبحنا نستورد الخدم والخادمات -اللهم لك الحمد- هذه والله نعم عظيمة.
أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وهو من هذه البلاد الطيبة، يقول: أبو هريرة يمتخط في الكتان.
ولما فتح الله عليه وصار عنده منديل -من القطن- من الكتان، فقال: أبو هريرة يمتخط بالكتان، استشعر هذه النعمة العظيمة لما أنعم الله بها عليه، ونحن الآن أبناء أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وقبيلته وكلنا في المنطقة جميعاً أصبحنا نستقدم أهل الدنيا، بعضهم تكون الخادمة متعلمة وتأتي لتخدم الأمية مسكينة لا تعرف شيئاً، وتلك متعلمة ومن بلاد متطورة قبلنا، -سبحان الله- هذه عجيبة، لكن يجب أن نأخذ منها العبرة وهي: أننا إن عصينا الله أزالنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فخدمنا الناس كما كنا نخدمهم، فهل نعصي الله بذلك؟ اللهم لا.
والمرأة إذا استقدمت لا يجوز أن تستقدم إلا بمحرم، من كان مضطراً ولا بد أن يأتي، فيأتي بها مع محرم وليعزلها عن أهله وعن بيته، لا يجوز أن يراها ولا يجوز لمحرمها أن يرى أهله أبداً وهذا شيء لا بد منه.
وإن كانت من غير محرم فلا يجوز أن تبقى في هذه البلاد، ولا يجوز أن تحج ولا أن تعتمر؛ لأنه لا محرم لها، ومن سيكون معها لو أردنا أن نسفرها؟! قالوا: تسافر مع صاحبها الذي استقدمها، لأنه هو الذي أتى بها، وهل هو محرم لها؟ والله ليس بمحرم.
إذاً يكون البلاء وما أكثر ما يقع، واسألوا المحاكم والهيئات في المدن، وأيضاً ربما في القرى عن جراء ما يقع من ذلك.
هذا إذا كانت مسلمة، أما إن كانت الخادمة كافرة أو العامل كافراً، فإنه يحرم ولا يجوز أن يُؤتى به إلى جزيرة العرب، بل وفي مكة، والرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوصى في مرض موته -ولا يوصي في ذلك الوقت إلا لأمر مهم مثل الصلاة وأمثالها- بألاَّ يجتمع في جزيرة العرب دينان، {أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب، لا يجتمع فيها دينان}.
وقد أفتى علماء اللجنة الدائمة للإفتاء جميعاً، والشيخ عبد العزيز -رحمه الله- وحده، وكذلك بقية العلماء؛ وبينوا بمقتضى هذا الحديث وغيره أنه لا يجوز ولا يحل أن يستقدم أحد العمال الأجانب الكفار، لأن الأجنبي هو الكافر، ولا يجوز أن يستقدم الكافر أياً كان، وإنما إذا جاز شيء من ذلك فللضرورة للحاكم ولولي الأمر في أمور حساسة لا يمكن أن يجيدها أو يعرفها المسلمون، أما نحن نستقدمهم لأتفه الأعمال، نسأل الله العفو والعافية.
وإلا فـ الهند فيها (مائة مليون) مسلم، ومع ذلك يذهب بعض الناس ولا يسعه (المائة مليون) ويأتينا بعابد البقرة، هنا أنا رأيتهم وسألتهم: خياط، وعامل، وسواق كلهم عباد بقر، وعابد النار من اليابان ومن الفلبين ومن كوريا، لماذا يا إخوان؟ والله إن هذا نذير الهلاك إلا أن نرجع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونوالي من والى الله ونعادي من عادى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ما أحب أن أطيل لكثرة الأسئلة، ولكن لعل فيما مضى عبرة إن شاء الله.(4/28)
الشيوعية بين السقوط وإعادة البناء
تحدث الشيخ حفظه الله في هذه المادة عن حقيقة الشيوعية، وما هي المراحل التي مرت بها الشيوعية حتى باتت قوة مؤثرة على الصعيد الدولي، كما بين دور المعسكر الغربي في السعي إلى إضعاف المعسكر السوفييتي الذي يمثل مركز الشيوعية في العالم، ومن ثم القضاء عليه ليتسنى للمعسكر الغربي الانفراد بالسيطرة على ثروات الأمم، وقد استخدم الغربيون لهذه المهمة رجلاً من داخل المعسكر الشيوعي، والذي كان له دور فاعل في القضاء على هذه القوة المنافسة، وكان هذا الرجل هو الرئيس الروسي جورباتشوف.
ثم تحدث الشيخ عن مستقبل العالم وأشار إلى أن المستقبل في آخر الزمان هو لهذا الدين، ودعم كلامه ببشارات من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.(5/1)
أهمية الحديث عن الشيوعية
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد المبعوث رحمة للعالمين، القائل: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وكتب الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم} وعلى آله وأصحابه وسلفنا الصالح أجمعين.
وبعد: فأشكر الله تبارك وتعالى على ما أنعم به علينا من نعمة الإيمان.
أما الموضوع الذي نريد أن نتحدث عنه، ونريد أن نستمع جميعاً، ونحرص كل الحرص على كل ما له علاقة به وعلى كل تحليل له، وهو موضوع (الشيوعية بين السقوط وإعادة البناء) ومستقبل العالم الإسلامي في ضوء هذه التحولات العالمية الكبرى.
هذا الموضوع موضوع مهم للغاية، ومتشعب جداً، ولا يستطيع الإنسان أن يحدد كيف يبدأ وكيف ينتهي، أو كيف يلم بأطرافه.
أما أهميته فلا تخفى على أحد، فنحن جزء من هذا العالم المتغير المتماوج، والعالم تقارب بشكل لم يسبق له نظير مطلقاً، وأصداء التغييرات العالمية تدخل -لا نقول كل دولة أو كل مدينة- بل نقول: تدخل كل بيت يومياً، وقضايا مصيرية تتحدد بناء عليها مصائر الشعوب ومستقبل الأمم، ومثل هذه الأمور لا يجوز أن تمضي هكذا دون أن نستعمل انتباهنا بالتحليل والتدقيق.
ونحن الأمة الإسلامية مع الأسف الشديد، تعودنا في الآونة الأخيرة، على ما يمكن أن نسميه (الأحلام أو الدغدغات العاطفية) أمام قضايا كبرى كان ينبغي لنا، بل يجب علينا أن نأخذها مأخذ الجد والعقل والدراسة، والتحليل العلمي المنطقي البعيد كل البعد عن الآثار العاطفية، على ما للعاطفة من دور.
وهذا الحدث العظيم، نموذج لذلك، ونعني به ما يجري الآن في الاتحاد السوفيتي وقد شارف على إكمال السنة الخامسة من بداية عملية أو فكرة إعادة البناء، كما نادى بها الرئيس السوفيتي جورباتشوف، فماذا وراء هذه العملية؟ وماذا يريد بها جورباتشوف؟ وما هي أصداؤها في الغرب؟ وما هي آثارها في واقع الأمة الإسلامية؟ كلها قضايا مهمة.
وإنني لأقول وأؤكد؛ أنني إن استطعت أن أثير الانتباه إلى أهمية القضية وتحليلها ودراستها، فإنني أكون -إن شاء الله- قد نجحت فيما أريد، بغض النظر عن أي تفصيل آخر، إذ الموضوع أخطر وأهم مما يخيل لنا، ومما كتب أو قيل في الأعم الغالب عن هذا الحدث العظيم، الذي وصف بحق بأنه أكبر حدث في تاريخ العالم المعاصر بعد الحرب العالمية الثانية.
أو ليس عجيباً أن ذلك الستار الحديدي ينهار! أو ليس عجيباً أن دولاً استبدادية دكتاتورية، تنهار في أسابيع متلاحقة! وكأنها أمور تجري على المسرح، وإنما هو مسرح الحياة الكبير، وبطل هذا المسرح، وبطل هذه اللعبة رجل داهية متميز له صفات سوف نعرض لبعضها -إن شاء الله- في الحديث عن خططه وأعماله، جعلته يكون -كما أجري في أكثر من إحصاء- رجل العالم للسنوات الحالية.
أو ليس عجيباً! أن الاتحاد السوفيتي يتغير تغيراً مفاجئاً مذهلاً إلى حد الإعلان أن الحزب الشيوعي لن يحتكر السلطة، وأن البلاد تؤمن بالتعددية الحزبية، إنها لأمور لا بد أن تشد الانتباه، ولا بد أن يتصدى لها المؤمنون، والحريصون على مستقبل هذا الأمة بكل تحليل وتدقيق.
ونحمد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بادئ ذي بدئ أننا نثق في المستقبل البعيد، بلا ريب ولا مرية، ولكن يجب علينا أن نحسب الحساب في مستقبلنا الحالي، في واقعنا المعاصر، ولمستقبلنا القريب، وكيف يمكن أن نكون على مستوى التحدي، وعلى مستوى المواجهة.
إن الشيوعية التي كانت بعبع العالم وصنمه في الستينيات الميلادية (الثمانينات الهجرية) مذهب فكري معروف لدى العالم كله، ولكنه في الوقت نفسه مجهول، فمعروف أنه نظام جماعي استبدادي مطلق، وأنه نظام شمولي -كما يسمى- ونظام عقائدي يبني كل صغيرة وكبيرة على العقيدة والمبدأ، ويفسر التاريخ تفسيراً مبنياً ومشتقاً من العقيدة.
يحلل جميع الأحداث تحليلاً مبنياً على العقيدة الماركسية، ولكن الحقائق الخفية، أو المجهول لا يظهر إلا بعد حين، ومما ينبغي أن يعلم -ونحن لا نستطيع بالطبع عرض الشيوعية كاملة- ولكن نعرض فقط ما يتعلق بالتفسير المادي للتأريخ لنصل منه إلى المرحلة المعاصرة التي هي محل النزاع ومحل النظر والتحليل.(5/2)
المراحل التي مرت بها الإنسانية عند الشيوعية
إن الشيوعية تقسم تاريخ الإنسانية إلى مراحل خمس، وهي بإيجاز:(5/3)
مرحلة الشيوعية البدائية
مرحلة الشيوعية البدائية -كما تصوروها- وهي أن العالم أول ما وجد كان شيوعياً بحتاً، ويسمونها الشيوعية الأولى أو البدائية، أي تماماً على ما نطلق عليه نحن، (بحق وحقيقة) كما نطق به وصرح به كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من أن البشرية الأولى أول ما كانت على الإسلام: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:213] قال المفسرون: أي: على الإسلام ثم اختلفوا بعد ذلك وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث عياض بن حمار - الصحيح-: {وإني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين} فهكذا عشرة قرون، كانوا على التوحيد حتى ظهر الشرك في قوم نوح.
والمقصود أن هذه هي المرحلة الأولى كما يزعمون.(5/4)
مرحلة الرق
يتبعها بعد ذلك، أو جاء بعدها مرحلة الرق، والانتقال من مرحلة إلى مرحلة، وسببه عامل مادي بحت.
كيف انتقلت الإنسانية بزعمهم كما نظرها ماركس وفريدرك أنجلز وغيرهما إلى مرحلة الرق؟ قالوا: عندما اكتشفت الزراعة عن طريق المرأة -كما يقولون- ورأوا أن البذور التي تتساقط تنبت، فكان هذا العامل الاقتصادي عاملاً أساسيا واحداً للانتقال إلى المرحلة التي تليها وهي مرحلة الرق.(5/5)
مرحلة الإقطاع
بعد مرحلة الرق يقولون: انتقلت الإنسانية أو المجتمع البشري بعمومه إلى مرحلة الإقطاع، وكيف انتشر الإقطاع؟ أيضاً بعامل مادي، والمقصود أن المراحل المهمة هي الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية.(5/6)
مرحلة الرأسمالية
وكان الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية نتيجة اكتشاف الآلة، كما يقولون في أوروبا الثورة أو الانقلاب الصناعي.(5/7)
مرحلة الشيوعية
ثم المرحلة الأخيرة بعد الشيوعية الأولى والرق والإقطاع والرأسمالية، تأتي المرحلة الأخيرة التي لا بد أن تقع حتماً وهي الشيوعية النهائية.
المرحلة الأخيرة هي مرحلة سيادة الشيوعية وسيطرة الشيوعية على العالم كله، حيث تلغى الدول، فلا دولة، ولا أسرة، ولا ملكية خاصة، ولا قوانين، ولا مبادئ، ولا أخلاق، إلا مبادئ (البروليتاريا) أي الطبقة الكادحة التي سوف تحكم العالم أجمع، ويكون الفردوس الذي يحلم به الناس جميعاً، كل بحسب طاقته، ولكل بحسب كفايته.
هكذا حَلُم الفكر الشيوعي وأسس هذا في التطبيق أو في مبدأ المنهج النظري وهو -كما هو معلوم- تحوير لمنهج الجدل، أو (الديلكتاليكي)، الذي وضعه هيجل الفيلسوف المثالي الذي هو أكبر فيلسوف ظهر في أوروبا في عصورها كلها، وعلى الأقل في العصر التاسع عشر، أو العصر الحديث، فحول عالم المثل الخيالية، إلى عالم الواقع، وحول التطور الذي نادى به داروين من نظرية علمية بيولوجية (أحيائية) إلى أن وضع أساساً للتغير الحتمي، عندما يصبح العالم حتماً وقهراً شيوعياً.(5/8)
حقيقة الشيوعية ونبذة عنها في فترة حكامها
نسوق هذه الحقيقة لنقول: إن الفكر الشيوعي يقول- وهذا من ضرورياته ولا ردة عن هذا المبدأ- إن العالم حتماً سيصل إلى مرحلة الشيوعية المطلقة، وحكومة أو مجتمع البروليتاريا (أي الطبقة الكادحة).
والتراجع عن هذه الفكرة هو هدم لكل الأسس الخمسة، هدم للتفسير المادي للتاريخ بأكمله، وبالتالي فهو هدم للنظرية الماركسية، وللنظرية الشيوعية مطلقاً، هذا من جهة المنهج.
أما من جهة التطبيق فـ الشيوعية أول ما وجدت كوجود حقيقي- بغض النظر عن حكومة الكوميو التي وجدت في باريس أو غيرها مما يسمى بالشيوعيات الساذجة- وجدت وجوداً فعلياً في ثورة عام (1917م)، في الاتحاد السوفيتي عندما ثار الشيوعيون، بل في الحقيقة ثار الشعب الروسي الذي ضغط على الحكومات القيصرية وعلى الاضطهاد والظلم والإقطاع، ثار بعد أن توالت الثورات -طبعاً كانت أول ثورة في أوروبا هي الثورة الفرنسية عام (1787م) - ثم توالت الثورات وآخر ثورة تقريباً هي الثورة الروسية (1917م).
عندما قامت الثورة، كان أول من قام بها فئات لا يهمنا الآن الحديث عنها، وإنما يهمنا أن الشيوعيين تسلقوا وقطفوا ثمرة الثورة بعد أشهر من قيامها، وحولوها إلى ثورة شيوعية، وكان هذا أول انعطاف عن المراحل الخمس، التي وضعها ماركس، وذلك أن روسيا انتقلت من دولة زراعية إلى دولة شيوعية، وهنا نقطة مهمة بالنسبة للتأريخ.
كان الحاكم الأول هو لينين وهو رجل يهودي معروف وهو أول من حكم ونَظَّر.
اضطر لينين إلى تنظير جديد، يتناسب مع المرحلة الموجودة، فقد كان ماركس وفريدرك قد تنبأ بأن الدولة المهيأة لأن تكون شيوعية هي بريطانيا، والسبب هو أنها الدولة التي بلغت قمة الرأسمالية في ذلك الزمن، فبالتالي النقلة الطبيعية من رأسمالية إلى شيوعية سهلة عليها.
أما النقلة من مجتمع زراعي إلى مجتمع شيوعي، فمعنى ذلك أنه لا بد من مرور بالمرحلة الحتمية الجبرية، التي هي المرحلة الخامسة، وهذه قضية فكرية، صاحبها في الواقع أن لينين عندما حكم البلاد، سلم الحكم -أو كما زعم- إلى مجالس السوفيت والبروليتاريا فعجزوا عن إدارة البلاد -وطبيعي أن يعجزوا عن ذلك- وهنا تدخل لينين ولخطط مقصودة أراد أن يحرف المسار عن التطبيق الحرفي للشيوعية.
انقسمت الفئة أو الطغمة الشيوعية على نفسها في تلك الأثناء، وظهر المصطلح المعروف وهو البلشفيك والمشفيك، والبلشفيك معناها الأكثرية، والمشفيك معناها الأقلية.
الأكثرية كانت تدعي أنها على منهج لينين، وكان منها جوزيف استالين الطاغية المعروف المشهور، والمشفيك الأقلية، كان لها نظرة في التطبيق تختلف، ولها تفسير للاشتراكية الحقيقة تختلف وكانت بزعامة تراوتسكي.(5/9)
الحكم الشيوعي في عهد إستالين
وحصل الانشقاق الأول، ومن هنا ظهر الانتقاد، والقول بأن الشيوعية لم تطبق وأن الانحراف وقع عن مبادئ ماركس على يد لينين.
توفي لينين وانتهى عام (1925م)، وورث الحكم الطاغية الرهيب المستبد استالين الذي دمر الشعوب، ولا سيما الأمم الإسلامية وقتل منها عشرات الملايين في مجزرة رهيبة بعد أن وضعت لهم الوعود المعسولة، بأن حكم القيصر وظلمه قد انتهى، وإننا نحن رسل الإنسانية والعدالة والحرية، وأن في إمكان المسلمين بل يجب عليهم أن يكونوا معنا يداً واحدة في هذا العصر الجديد الزاهي، لنحقق العدالة والأخوة والمحبة.
وخُدع المسلمون بالطبع، أو طائفة كبيرة منهم -على الأقل- بهذه العهود المعسولة والأماني، ثم عقبها انقضاض استالين وبكل شراسة وعنف، على الإبادة الجماعية للمسلمين والتهجير الجماعي، حتى إن جمهوريات إسلامية كاملة، هُجِّر أهلها بالكامل، وأحل محلها مستوطنون من روسيا ومن النصارى، ونزح بهؤلاء المسلمين إلى سيبيريا والمصانع في مناطق أخرى.
فترة استالين هذه سماها جورباتشوف نفسه في كتابه إعادة البناء: "مرحلة عبادة الفرد"، وهكذا كان بالفعل، ومع ذلك، حتى جورباتشوف نفسه يعتذر لـ استالين بأن ظروف الحرب والأوضاع الدولية أملت عليه بعض التصرفات وإن كان لا يرى أنها كافية للعذر.
مرت مرحلة استالين، وكانت العلاقة مع العالم متأثرة فعلاً بظروف الحرب العالمية الثانية، وكان الغرب والشرق - أعني غرب أوروبا وشرقها- مضطراً للتعاون والاندماج في سبيل القضاء على النازية والفاشية على هتلر وموسليني دول المحور (محور الوسط).
كان لا بد من شيء من هذا، فـ استالين جعل هذا غطاءٌ لحكم استبدادي مطلق، ولتعديلات جذرية في المنهج الشيوعي فكراً وتطبيقاً على أن الأمر أمر مرحلي! وأن المسألة لن تتجاوز استثناءات وقتية أملتها الظروف، وبعد هذه الإجراءات الاستثنائية، وبعد انتهاء الحرب يمكن أن تعود الأمور إلى مجاريها، ولكن طال الأمد جداً وحكم هذا الطاغوت حكماً طويلاً، وكانت العلاقة مع الغرب كما قلنا علاقة وئام بسبب الموقف الموحد من النازية والفاشية.
أعقب ذلك - ونحن نوجز الأحقاب سريعاً حتى نصل إلى المرحلة الحالية- مرحلة خورتشوف.
جاء خورتشوف وقال: 'إن استالين انحرف' وندد بسياسة استالين تنديداً فضيعاً، وقال لا بد من العودة إلى منهج لينين العظيم، وهناك ما يشبه النكتة وهي حقيقة وقعت، بعد أن تولى خورتشوف رئاسة الاتحاد السوفيتي، وعقد اجتماعاً موسعاً في اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، أخذ يتحدث لهم عن مساوئ استالين، ومظالمه واستبداده ودكتاتوريته، فجاءته أوراق، ومن جملة الأوراق جاءت ورقة مكتوب فيها: أين كنت يوم كان استالين يصنع هذه الأمور؟ وهو سؤال وجيه.
طبعاً كان موجوداً في الوزارة، مشتركاً في كل النشاطات، ومع ذلك كان ساكتاً، والآن يندد تنديداً رهيباً فضيعاً.
وكان خورتشوف داهية خبيثاً كالباقين هؤلاء، طبعاً وهم يهود، فـ لينين يهودي، واستالين يهودي، وخورتشوف يهودي، وبرجنيف يهودي.
فقال: من الذي كتب هذه الورقة لأتناقش معه؟ فلم يرفع أحد يده.
قال له: كنت أنا في أيام استالين كما أنت الآن في أيامي.
إذن من يستطيع التكلم، فالقضية واحدة! المهم أن اللاحق ينتقد السابق، وهكذا.(5/10)
الحكم الشيوعي في عهد خورتشوف
خورتشوف مرحلته تميزت بما يسمى بالتعايش السلمي، وقد كان معاصراً لـ جون كنيدي الرئيس الأمريكي القوي، وهو الذي حدثت في أيامه أزمة صواريخ كوبا وغيرها، وانتشر السلاح النووي في العالم، وكادت أن تؤدي إلى حرب عالمية ثالثة.
فاضطر الاتحاد السوفيتي أمام ضغوط كثيرة، إلى إعلان ما يسمى بالتعايش السلمي والتآلف بين الشعوب، وكانت مرحلة الحرب الباردة التي استمرت، ولكن اتفق الطرفان على أن لا يبدأ أحدهما الآخر بهجوم.
وكان الهدف الشيوعي في هذه المرحلة يتلخص في: تنشيط الأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية، وفي العالم الإسلامي، وفي العالم الثالث- لتقوم الثورات تلقائياً من داخل هذه الشعوب.
وتسيطر الأحزاب الشيوعية، وحينئذٍ تسيطر الشيوعية على العالم.
وبذل الاتحاد السوفيتي لـ خورتشوف جهوداً كبرى مضنية، لنشر الشيوعية ومساعدات كبرى ضخمة للأحزاب الشيوعية التي لم يبق بلد في العالم إلا وأنشئت فيه، حتى الدول الغربية التي هي أشد حرباً للفكر الشيوعي (كـ أمريكا مثلاً).
وجدت الأحزاب الشيوعية، واستطاعوا أن يقيموا حتى في العالم الإسلامي دولاً شيوعية ومن بعضها قامت ثورات شيوعية ولكنها فشلت، كما حدث في السودان، وكما حدث في إندونيسيا فتحكم عدة أيام ثم تنتهي، وأما الأحزاب كأحزاب فبقيت منتشرة وموجودة في الدول كلها، وعن طريق دول عدم الانحياز وغيرها استطاعوا إيجاد مجالات أوسع للتغلغل الفكري والثقافي لنشر الشيوعية في العالم.
ولكن الذي حصل أنه عندما ذهب خورتشوف وجاء دور برجنيف وكان هو الرجل البارز في هذه المرحلة، رأى أن الأمر لم يؤد دوره المطلوب، وأن الوضع قد تفاقم داخلياً وخارجياً، وأن الشيوعية كادت بالفعل بل فشلت فشلاً ذريعاً بأن تسيطر على العالم، وبدا هذا لديهم في مرحلة برجنيف.
وقد كان الأمل معلقاً في الحقيقة على الأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية، ومدى ما تصل إليه من نجاح، وعلى التغيير الداخلي، إذ الانهيار الذي حصل في الاتحاد السوفيتي كان فضيعاًَ جداً في المجال الزراعي، وفي المجال الصناعي تفوق الغرب تفوقاً بعيد المدى.
استيقظ العالم في أكثر من منطقة وبدأ ينافس الشرق والغرب، ظهرت اليابان، وظهرت كوريا، ثم بدأت تظهر بعض الدول التي بدأت تنافس، فكان هناك خطر محدق بوجود الاتحاد السوفيتي كقوة عالمية عظمى، وكان لا بد من إعادة الحساب مرة أخرى.(5/11)
الحكم الشيوعي في عهد ميخائيل جورباتشوف
هنا اصطنع بشكل ما ميخائيل جورباتشوف، وقد كان أعضاء الحزب الشيوعي الكبار كلهم من العجائز، الذين تعدوا السبعين أو الثمانين، وهذا الشاب الوحيد الذي رُبّي على أعين الحزب -بغض النظر عن الخلاف في هذه القضية على أية حال- لكن الأحداث الواضحة الجلية تدل على أن هذا الشاب ربي، وأنه يجمع بين الذكاء، والثقافة الواسعة في الفكر الشيوعي، والدهاء السياسي، والقدرة على إقناع الجماهير، وكل هذه الصفات جمعت في ميخائيل جورباتشوف، ورقي بسرعة إلى أن أصبح قابضاً على أعلى المناصب.
وهنا طرف لا بد أن نعرض له: وهو أن الغرب تدخل إلى حد ما في إذكاء جماهيرية وشعبية جورباتشوف، وفي فتح مجالات جديدة أمامه, ووعود معسولة فيما لو قام بنوع التجديد الذي بيِّت له.
نستطيع نحن المسلمين -أو أي محلل آخر- أن نقول: إن وراء ذلك اتفاقاً سرياً ما وسيكشف، لكن سنحصد الأحداث الظاهرية نوعاً ما، حتى نرى ما ستكون النتيجة.
فجأة يبرز جورباتشوف ويبرز زعيماً أوحداً كما برز استالين، وكما كان خورتشوف وكما كان برجنيف في فترة ما يسيطر على أزمة الأمور.(5/12)
الأحداث التي استغلها جورباتشوف لتحقيق أهدافه
من القضايا البسيطة أنه عندما أريد لـ جورباتشوف وافتعل له أن يصبح مستبداً، رأى أن أقوى سلطة يمكن أن تقف أمامه الجيش، فالحزب فهو منظّر فكري ويستطيع أن يسيطر إلى حدٍ ما، لكن الجيش هو المشكلة.
فكان لا بد أن يغير القيادات: قيادة الاستخبارات، وقيادة القوات الجوية والبحرية، فكانت القشة التي قصمت ظهر البعير -كما يقال- وهي تلك القصة الغريبة جداً التي ذهلنا جميعاً لها، ثم مرت كأي حدث من الأحداث العابرة دون أن تحلل التحليل السليم خاصة من المسلمين على الأقل، وهي قصة الطائرة الشراعية الصغيرة التي اختطفها أو دخل بها شاب وعشيقتة -جعلت معه عشيقة لتبدو القضية قضية مغامرة حب- واستطاع أن يطير من ألمانيا ويخترق الحدود السوفيتية، بطريقة الله أعلم بكيفيتها -ولابد من وجود تواطؤ طبعاً- وينزل في الساحة الحمراء، ويطل المسئولون في أقوى دولة كما تزعم، والتي تريد أن تنافس أمريكا في حرب النجوم، يطلون ويجدون أن طائرة غريبة، قد نزلت ووقعت في الساحة الحمراء، أين الدفاعات الجوية؟ أين الرادارات؟ أسئلة كثيرة.
بناءً على ذلك قرر جورباتشوف أن هذا المجتمع يحتاج إلى تجديد، فأقال وزير الدفاع، وقائد القوات الجوية، وقائد كذا، وقائد كذا، دفعة واحدة، وينحى هؤلاء الذين أدوا إلى هذه الفضيحة كما قيل، وتخلص منهم وجاء بالعناصر التي يريد.
بعد ذلك جاءت عدة حوادث كانت ذريعة إلى الاستمرار، وهي - كمثال - الزلازل التي حصلت في أرمينيا، فقد استطاع جورباتشوف بدهائه أن يوظفها توظيفاً رهيباً، والزلزال طبعاً حصل قضاءً من الله وهذا معلوم.
أرسل الاتحاد السوفيتي بمعداته الثقيلة للإنقاذ، وإذا بها هزيلة لا تستطيع أن تفعل شيئاً، فاضطر جورباتشوف للاستنجاد بالغرب، فمد الغرب يده بسرعة، فهي قضية إنسانية، كعادة الغرب عندما تهبُّ نخوته الإنسانية في أي قضية غربية، وتختفي تماماً في أي قضية أو نكبة إسلامية، وإذا به يهبُّ لنجدة أرمينيا، وإذا بالناس يرون العجب العجاب.
وقبل ذلك حدث -أيضاً- الإشعاع الذري الذي تسرب من معمل تشر نوبل، في الاتحاد السوفيتي، فوقف الاتحاد السوفيتي عاجزاً عن السيطرة أمام آثار الإشعاع، ويأتي الغرب بالتكنولوجيا، ويستطيع أن يحاصر التسرب.
المقصود أن عدة أحداث حدثت وجورباتشوف يوظفها لمصلحة فكرة: أن هذا التخلف الفظيع الذي تعيشه الاتحاد السوفيتي كان بسبب التطبيق السيئ للاشتراكية، كان بسبب عبادة الفرد، كان بسبب التجاوزات التي ارتكبوها واستطاع الأعداء أن يتفوقوا عليهم إلى آخر ذلك، عندها أصدر جورباتشوف كتابه إعادة البناء وكان قد مضى على ما سماه بـ إعادة البناء أو البروستريكا سنتان ونصف.
عندما طبع الكتاب، وكان هذا الكتاب شرحاً لوجهة نظر جورباتشوف نفسه في إعادة البناء، نوجزه في نقاط بسيطة: جورباتشوف يرى أن إعادة البناء ضرورية جداً، وأنه لا تنازل على الإطلاق عن الاشتراكية، وأنه لا يقبل أية مساومة على المبدأ، وأن مستقبل الإنسانية جمعاء مرهون بالتطبيق الحقيقي للمبادئ التي نادى بها ماركس ولينين، فهي قضية لا تقبل النقاش عنده -ولاحظوا هذا شيء مهم نضعه في الاعتبار- ثم يطرح وضعاً سياسياً جديداً، يقول: مع هذا كله نحن جزء من العالم، يجب أن نتعايش، تحدث عن العالم الثالث، تحدث عن الولايات المتحدة الأمريكية تحدث عن أوروبا بعد حديثه الطويل عن الاتحاد السوفيتي طبعاً.
تعرض لقضايا كانت أهم قضية فيه -وهي التي نريد أن نصل منها إلى ما يجب علينا نحن المسلمين في هذه المرحلة الخطيرة- وهي مسألة العلاقة مع أوروبا، والعلاقة مع أمريكا، وكيف تكون هذه العلاقة؟ وهذه مسألة مهمة جداً سنضطر أن نتجاوز عنها قليلاً لنتحدث عن أوروبا الغربية ماذا كانت تعمل قبل إعادة البناء وأثنائها! وكيف كان العالم الغربي يفكر؟!(5/13)
موقف الغرب من الشيوعية
العالم الغربي سلاحه ووسيلته الكبرى للتنديد بـ الشيوعية والثلم والطعن في الاتحاد السوفيتي أنه مجتمع كبت وإرهاب، وفقر ومذلة، مجتمع اللاإنسانية، وهو كذلك، وفخر أوروبا الغربية ليس بأن لديها منهجاً، أو أن لديها رسالة تقدمها إلى العالم، الفخر الوحيد لها أن لديها الديمقراطية، وإعطاء الحرية للشعوب، أما غير ذلك لا توجد عقيدة محددة ينتهجها الغرب.
إذاً: في ظل هذا بدأ الغرب يحس بالخطر المحدق به من الجهتين: 1 - من جهة خطورة الاتحاد السوفيتي كقوة عقائدية ضخمة، هذه ناحية مهمة.
2 - ومن جهة أخرى خطورة الولايات المتحدة الأمريكية، وهي قوة اقتصادية ضخمة.
أوروبا الغربية بالذات وجدت نفسها محاطة بالقوتين العظيمتين، وهي التي تدعي أنها أساس الحضارة الإسلامية.
لا يوجد لدى أوروبا شيء، فقد تداعت أوروبا الغربية وقالت: لا بد من وحدة أوروبية، وبدأت -طبعاً- بالسوق الأوروبية كما هو معلوم، ثم انتقلت بعد ذلك إلى مرحلة الوحدة الأوروبية التي ستعلن بوحدة البرلمان الأوروبي، ووحدة المواقف ووحدة القضايا، واستمرت في عملية مدروسة مبرمجة، لتصل بعد سنتين تقريباً إلى إعلان الوحدة الكاملة بين دول أوروبا، هذا برنامج خطير ولم يكن ليفوت الرفاق في موسكو معرفة هذا البرنامج.
أما الولايات المتحدة الأمريكية، فتنظر للموضوع بمنظار أن الغرب غرب كله، وتحاول توظيف الوحدة الأوروبية لتضرب الاتحاد السوفيتي في العمق، وروسيا في ظل هذا الوضع لديها مشكلة ألمانيا، كما هو معلوم.
كما أن الجيوش المرابطة في أوروبا قرابة سبعمائة ألف، تكاليفها باهضة.
أيضاً لديها تحدٍ عالمي في أمريكا الوسطى وفي الشرق وفي كل مكان، ولا بد أن تقف دولة مواجهة لـ أمريكا وهي لا تستطيع ذلك.
فكان لابد لـ جورباتشوف -وهنا نقطة مهمة- أن يقطع الطريق ضد توحد الغرب الأوروبي ضده، وضد أوروبا الشرقية فقام بإعلان الديمقراطية، وهو بهذا يسلب الغرب الشعار الذي لوح به ويفخر به على العالم كله.
ففتح أولاً- وهذه نقطه مهمة -لم يبدأ بـ روسيا وإنما بدأ بالدول الأخرى بولندا، لأن العمال فرضوا أنفسهم بالقوة من سنوات وهم ثائرون، ثم قليلاً قليلاً، وكانت مجزرة رومانيا الفظيعة.(5/14)
جورباتشوف ينتقل إلى ديموقراطي
أخيراً كان التغيير الذي أعلن في الاتحاد السوفيتي نفسه وهو أن الحزب الشيوعي لا يحتكر السلطة، وإنما تكون حكومات ديمقراطية وهنا تضعضع العالم الغربي واهتز وشعر بالخطر فعلاً، وبدأت التحليلات الغربية تختلف، طائفة من الغربيين أبدوا الارتياح الكامل، لهذه الخطوات الديمقراطية، وتفاءلوا بمستقبل زاهٍ للإنسانية -كما نسمع الآن ويردد كثيراً- وأن الإنسانية والعالم الإنساني مقبل على مرحلة انفراج، وأن النظم الشمولية ستنتهي، وأن الديكتاتوريات ستسقط، وأن وأن وأن إلخ.
وقالوا: إن هذا نتيجة ثورة الإنسانية، وتفاعل الحرية في قلوب العالم أجمع، هذه كانت تحليلات، وتحليلات أخرى تقول: لا! الاتحاد السوفيتي دائماً يلدغ والشيوعية لم يتنازل عنها، وإنما هذه حركة التفاف وعملية مخادعة وهكذا اختلفت التحليلات.
والذي يتتبع العملية يقول: لا يمكن أن تكون هذه إلا عملية مقصودة إذ كيف يكون السقوط بهذه الدقة.
ثم لماذا في كل دولة يسقط فيها الحزب الشيوعي يبرز في محله الشيوعيون الناقمون، أو الإصلاحيون كما يسمون، فكأن تراو تسكي الذي قتله استالين عام (1940م) قد أعيد من جديد، أو غيره كالدولية الثانية والثالثة والرابعة.
مجموعة الأحزاب الشيوعية (خارج الاتحاد السوفيتي): يرون أيضاً الارتياح التي تقابل به الأحزاب الشيوعية في بلادها هذا الحدث، فيقول: لا بد أن هذا أمر دبر بليل، ووراؤه ما وراؤه من خطر على أوروبا.
على أية حال وصلت بعض التحليلات إلى القول بأن جورباتشوف دسيسة أمريكية، ربي على عين أمريكا، ووضع ليهدم الشيوعية وليأتِ في مؤتمر مالطا ويقول لـ بوش: نحن لن نتقاسم العالم معكم.
والبعض الآخر يقول بالعكس: إن جورباتشوف هو الذي سيحتوي العالم، ويريد أن يحتوي العالم عن طريق هذا الخداع، المهم أنها تحليلات مختلفة، لكن نقتصر نحن على الأمور الظاهرة، ثم لنا الحق جميعاً أن نستنتج منها ما نستنتجه.
القضية الأساسية هي: أن الأحزاب الاشتراكية في أوروبا، والشيوعية تكاد أن تكون هي الحاكمة في كثير من دول أوروبا، في فرنسا، في إيطاليا، في البرتغال، في دول عدة.
الشيوعيون أو الاشتراكيون على الأقل، إما حاكمون، وإما لهم أحياناً فوق (40%) من الأصوات كما في الانتخابات الحرة التي أجريت في دول أوروبا الغربية.
إذاً هناك عمق شيوعي ثقافي فكري داخل أوروبا الغربية مؤيد لـ جورباتشوف، ثم إذا سحب جورباتشوف الأنظمة الديكتاتورية التي عفنت، وسخط عليها الناس واستبدلها بأوضاع قريبة، مما تطالب به الأحزاب الشيوعية تقريباً في أوروبا الغريبة، فإنه سيوفر على نفسه النفقات الباهضة للمنافسة النووية، ليدعم نشر الشيوعية بطريقة الفكر والثقافة.
وقد صرح بأنا نريد أن ننشر الفكرة عن طريق اقتناع الناس بها، لا عن طريق إرغام الناس أن يكونوا شيوعيين، كما كان في الماضي، وواثق أن أوروبا الغربية ليست لديها عقيدة ولا مبادئ، وأن الشركات الأمريكية سوف تنظر للموضوع نظر ريبة.
ثم إن جورباتشوف يرى -قد صرح بهذا في إعادة البناء - أنا نحن الأوروبيون، أوروبا بيتنا المشترك -هكذا بالنص- ونحن مثل ناس في شقق، فـ ألمانيا وبريطانيا وفرنسا شقق في هذا البيت حتى يقول: لماذا يقبل الغرب على الثقافة الأمريكية: ثقافة الجنس، ثقافة العنف، ثقافة الجريمة، ويترك الآداب الإنسانية الأوروبية، نحن يجمعنا أدب واحد، تجمعنا حضارة واحدة، يجمعنا دين واحد، حتى يقول: الدين وحَّدنا وهو الكاثوليكية، واختلفوا على مرور ألف سنة على دخول الكاثوليكية إلى الاتحاد السوفيتي.
يقول: وأوروبا شيء واحد، عندما ننظر إلى ضرورة أن تعود ألمانيا دولة واحدة، وتسحب منها القوات الأجنبية، فـ روسيا جغرافياً موجودة في أوروبا، لكن أمريكا إذا سحبت قواتها تكون من وراء البحار، إذن هنا نقطة أساسية في العملية الاستراتيجية العسكرية ما بين الدولتين.
طبعاً الإعلان الذي أعلن عن توحد أوروبا هو توحد دول يسكنها ثلاثمائة وخمسة وعشرون مليوناً، ومعنى ذلك أنها أكثر من الولايات المتحدة الأمريكية، ومن الاتحاد السوفيتي التي يسكنهما تقريباً مائتان وسبعون مليوناً.
إذاً: أوروبا ستكون أقوى سكانياً، وجورباتشوف يريد احتواء هذا بطريقة أن يضيف إلى الثلاثمائة وخمسة وعشرين مليوناً المائتين والسبعين مليوناً الذين في الاتحاد السوفيتي فتصبح أوربا قوية.
ويقول: نحن لدينا خبرات، لدينا تقدم في إنتاج الفولاذ وغيره، ولدينا موارد هائلة، ولدينا امتداد جغرافي كبير، نستطيع توظيف الأموال الأوروبية فيه، وبذلك ينفصل الغرب عن الولايات المتحدة الأمريكية، فتكون النتيجة أن توجد أوروبا الموحدة، والتي إذا ضمت لها أوروبا الشرقية مع الاتحاد السوفيتي سيكون شيء لا يكاد يصدق، أكثر من سبعمائة مليون قوة بشرية وعلمية هائلة، وتجد أوروبا الغربية إما أن توافق وإما لا قيمة لها، شعاراتها مفقودة، وستجد على الأقل أن الأحزاب الشيوعية فيها والاشتراكية ستطالب وتقول: لم لا ينظم الاتحاد السوفيتي إلى أوروبا الغربية؟ فإذا قيل: إنها دولة استبدادية، سيقال لهم: لقد انتهت الاستبدادية، وانتهى الظلم وانتهت الاشتراكيات، والآن أصبحت أحزاب ديمقراطية، فلماذا لا تمدون لهم يد العون؟ والشيوعية متغلغلة حتى في غير الأحزاب الشيوعية، ومتغلغلة في أوروبا الغربية، والنتيجة المتوقعة أنه ستقتنع أوروبا، بشكل ما على الأقل، ويعجب المرء عندما يسمع طبعاً نداءات جورباتشوف المتكررة بتعجيل مؤتمر الأمن القومي الأوروبي، وإدخال الاتحاد السوفيتي ضمن هذا المؤتمر، وأن تُعلن أوروبا الموحدة ومن ضمنها الاتحاد السوفيتي.
إذاً سوف تتوحد أوروبا بشكل ما؛ لتصبح سبعمائة مليون أو أكثر لتكون قوة واحدة في مواجهة العالم، وبطبيعة الحال الأموال الأوروبية بدأت تتدفق من ألمانيا الغربية غيرها، إلى دول أوروبا الشرقية، وهذا أقوى شيء يؤمن به الغرب، وهو الاقتصاد والوحدة الاقتصادية.
يبقى هناك أمريكا هل ستستسلم أمريكا بهذه السهولة، وتعطي أوروبا شرقها وغربها لقمة سائغة لـ جورباتشوف؟ هذا غير معقول، فلا يمكن أن أمريكا التي أنست الناس كل أنواع الاستبداد والاستعمار القديم، باستعمارها الفظيع الحالي للعالم كله تقريباً جوه وبحره، وإنما أمريكا وجدت عدة وسائل لتضغط بها على الاتحاد السوفيتي.(5/15)
علاقة إعادة البناء بالأمة المسلمة
وهنا -وأرجو عدم المؤاخذة على الاختصار الذي نضطر إليه- ندخل في قضية ما يمس الأمة الإسلامية بالذات وبالنص: الولايات المتحدة الأمريكية يهمها أولاً استرضاء إسرائيل، لأن اللوبي اليهودي مسيطر عليها، كما على الطرفين طبعاً، فهو وسيلة ضغط على الاتحاد السوفيتي وعلى أوروبا الشرقية.
أولاً: تغيير الموقف من إسرائيل، وجورباتشوف يقول: نحن من الدول التي أسست إسرائيل، يقول هذا في إعادة البناء، وليس لنا موقف معادٍ لإسرائيل، ونؤمن بحق إسرائيل في الوجود، لكن لا توجد علاقات أو مواقف سياسية معروفه معلنة في الأمم المتحدة، أو الفيتو.
الآن أمريكا والغرب تضغط على الاتحاد السوفيتي، ودول أوروبا الشرقية لهجرة اليهود الروس، وهي هجرة فضيعة جداً، وعلى غفلة الأمة الإسلامية وعلى غفلة الأمة العربية استيقظت لما رأت هذا الخطر المحدق، وأصبحت على ألسنة جميع الناس تقريباً، والصحافة العربية والإسلامية، وهي مسألة الهجرة اليهودية، لأنه كما أعلنت منظمة التحرير وهي المصدر الرسمي على أية حال، ما تعرضت له الانتفاضة في فلسطين، أنه أكثر من عشرة أو اثني عشر ألف جرحى، يقارب العدد ستين ألفاً بين جريح وسجين وقتيل، وثلاثمائة ألف حالة إجهاض متعمدة من اليهود لإجهاض النساء المسلمات في فلسطين يقابل ذلك هذه الأيام بالمعدل الذي أعلن، معدل ثلاثمائة يهودي سوفيتي يصلون يومياً إلى فلسطين، ففي عامٍ وصل قرابة خمسة وسبعين ألف يهودي، وهم يزدادون عاماً بعد عام، لا شك أنه وجود بشري مكثف.
قرأنا أن إسرائيل بنت مائتي ألف وحدة سكنية جاهزة لاستقبال اليهود من أوروبا الشرقية، أي إذا افترضنا تقديرياً أن الأسرة تتكون من خمسة أفراد فمعنى ذلك أن مليون يهودي سيصلون إلى الأرض المحتلة فلسطين الإسلامية، وسيسكنون في المناطق التي فيها وجود إسلامي، والتي يوجد فيها العرب.
أما بالنسبة لـ أمريكا، فمن مصلحة أمريكا من الناحية الاقتصادية أيضاً التغلغل داخل الاتحاد السوفيتي وإمداده، وبناء وإنشاء المشاريع، والشركات الأمريكية تضغط -كما هو معروف- على الحكومة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي مفتوح كما تبين الآن لمشاريع رهيبة تربح وتجني منها الشركات الأمريكية أرباحاً خيالية كبرى.(5/16)
العدو المشترك بين الشرق والغرب هو الإسلام
أهم من هذا كله: العدو المشترك للشرق والغرب الذي لا بد أن يتوحدوا ليقفوا أمامه.
أرنلد توينبي أكبر مؤرخ غربي في العصر الحديث يقول: 'نستطيع أن نتحاور مع الشيوعية (وهذا في فترة الحرب الباردة)، نستطيع أن نتحاور مع كل دين إلا الإسلام، فإنه يضل العدو الأبدي لنا' هذه كلمة مفكر، أما الساسة فيعلمون ذلك وأكثر.
وأذكر مثالين على ذلك: الأول: حدث في الجزائر أن خرجت ثلاثة آلاف امرأة شيوعية بمظاهرة، يطالبن بإلغاء دستور الأسرة؛ لأنه ينص على شيء من الشريعة، فقامت الرابطة الإسلامية، وهي امتداد لدعوة الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمة الله عليه، وأخرجت قيل: خمسمائة ألف وقيل مليون امرأة مسلمة محجبة، ورفعن شعارات -وأنتم رأيتم جميعاً صورهن في الصحف- احكمونا بالإسلام، لا نريد إلا الإسلام، لا نريد إلا القرآن، ففزع الشيوعيون وغيرهم فزعاً رهيباً، ليس هذا هو الشاهد، بل الشاهد أن الرئيس أعلن أنه إن وصل الأصوليون إلى الحكم في الجزائر، فسأضطر للتدخل عسكرياً، كما تدخل بوش في بنما.
الثاني: وهو ما حصل في اليمن الجنوبي، حدث قد ينظر إليه أنه بسيط ونشرته الصحف، أنه قامت فتيات المدارس الثانوية، بمظاهرات يردن الفصل عن الطلاب ويردن الحجاب، وكان استنفار شديد فضيع من السلطات الشيوعية لهذا الحدث.
لأنه طولب بإلغاء مادة التربية الرياضية في المدارس، وطولب بالفصل بين الذكور والإناث، وطولب بالحجاب، لقد كان شيئاً فضيعاً جداً لا يمكن أن يتخيله العقل في دولة كانت ماركسية حرفياً، وآخر من استجاب لعملية إعادة البناء.
وبالمناسبة خذوها عابرة وهي أن ما أراد جورباتشوف أن يطبقه في روسيا من التوحد مع الغرب تحت ستار إعادة البناء، بدأت الدول الشيوعية أو الدائرة في فلك جورباتشوف، تحاول أن تتوحد مع الجيران مهما اختلفوا معهم، وهنا تأخذون العبرة، واللبيب بالإشارة يفهم.
هذان الحدثان يعطيان قناعة أن العالم الصليبي الأوروبي، يكن الحقد الشديد على الإسلام.
بدأت العملية في أمريكا بطريقة غريبة، مع ما نشر وما ينشر من حقد على الإسلام لكنه كان محصوراً في المثقفين تقريباً، كيف استطاع الأمريكان أن يجعلوا هذا الحقد الدفين على الإسلام يتوقد بطريقة شعبية؟ قاموا بإنتاج أفلام خيالية بحتة على مدى ثلاث ساعات أو أربع ساعات تتحدث عن مستقبل أمريكا، منها: فيلم مشهور، كيف إذا هاجم الاتحاد السوفيتي أمريكا -مثلاً- وانتشر وبيع أكثر من مائة مليون، ومعه أفلام أخرى، نهاية أمريكا تكون على يد رجل راكب جمل معمم، من أتباع محمد، ويأتي ويحتل أوروبا، ثم يدخل إلى أمريكا ويدمر الحضارة الأمريكية، وهكذا يكون المضمون واحد، وهذا يؤدي إلى أن الشعب يظل في مخيلته هذه الفكرة وإن كانت قصصاً وحكايات ولكن باللاشعور يترسب أن هذا هو العدو، وأن هذا هو الخطر.
وللعلم هذا - أيضاً - حدث في عام (1983م) أن الاستخبارات الأمريكية موَّلت أكثر من مائة وعشرين ندوة لدراسة الصحوة الإسلامية، أي: أكثر من معدل ندوة كل ثلاثة أيام، لدراسة الصحوة الإسلامية في معظم أنحاء العالم.
فالغرب والشرق حذر من العدو الأساسي وهو العالم الإسلامي، فكيف نتوقع إذا توحد الشرق والغرب؟ أعني أن أمريكا أمام هذه الأمور ستتوحد مع الغرب نوعاً ما، أقول: لا نفرض صورة الاتحادات، ولكن سيصل الأمر إلى أن ألف مليون على الأقل من الصليبيين من أوروبا شرقها وغربها وأمريكا ستصبح وفق إرادة واحدة، وقرار واحداً بأي شكل اتخذ هذا القرار فليس مهماً، وذلك للوقوف في وجه هذا العدو الذي بدأ يستيقظ، وبدأ يهدد العالم الغربي كما يقولون.(5/17)
مستقبل العالم الإسلامي في ظل التحزبات الكفرية
كيف يكون مستقبل العالم الإسلامي في ظل هذه العملية إن استمرت الأمور كما هي عليه الآن، مع غفلة الأمة الإسلامية، مع ما تعانيه من التبعية السياسية والاقتصادية والفكرية، ومع ما تعانيه من الفرقة والانقسام، ليس على مستوى الشعوب، ولا على مستوى الحكومات؛ بل على مستوى الدعاة.
لا توجد دعوة إسلامية على الأقل موحدة لتواجه هذا الخطر، كيف نتصور وضع العالم الإسلامي عندما يكون القرار الدولي واحداً، وقد كنا نعاني الأمرَّين وهو مختلف، فنوعاً ما يستطيع الناس في ظل الاختلاف الدولي أن يجدوا ثغرة أو منفذاً، أو على الأقل نشراً للأخبار إن انتهكت روسيا فتنشر أمريكا أحياناً، أو العكس، فأمور الخلخلة السياسية قد تعطي شيئاً من الانفتاح الذي قد يعطي بعض الاطمئنان.
لكن كيف لو توحد هذا العالم وهو مقدم على ذلك؟ هنا سيكون المستقبل خطيراً جداً، وأنا أترك النتيجة والتحليل الأخير لكل إنسان، لأني قلت: المهم لدي هو أن تتضح الصورة، وأن يتضح هذا الخطر الداهم، ولكن هذا لا يمنعني من أن أطرح ما وصلت إليه من وجهة نظر؛ لعلها تكون لبنة على ما ستصلون إليه -إن شاء الله- في تحليلكم الأوسع أفقاً ونظراً مني.
مستقبل الأمة الإسلامية قريب، الأحزاب الاشتراكية، والأنظمة الشيوعية، والأنظمة الاستبدادية الشمولية -كما تسمى- سوف تنتهي -فعلاً- وتختفي، وسوف يشهد العالم الإسلامي - على تحليلي الشخصي- انفتاحاً أيضاً قريباً من الانفتاح الذي في أوروبا الشرقية، ولكن لحساب من؟ هنا المشكلة.
قد يسمح لبعض الجماعات والدعوات والحركات الإسلامية، التي لها وجود شعبي بأن تشارك جزئياً في الحكومات الديمقراطية، التي ستقوم على أنقاض الحكومات الشمولية الموجودة الآن في العالم الإسلامي.
سوف تنفتح العلاقات بشكل أكبر، لأن الحرج ارتفع بالنسبة لـ روسيا، وهو مرتفع من قديم طبعاً بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فسوف يكون الغزو الثقافي والاقتصادي والتبعية بشكل أكبر، وهنا سيجد العالم الإسلامي نفسه منقسماً إلى قسمين رئيسين تقريباً: قسم سيفرح بالوزارتين أو الثلاث الوزارات، أو بعض النقابات، وينسى القضية الأساسية ويندمج في هذا الواقع، ومع الزمان سوف يرى أنه في النهاية سيخسر قضيته كلها.
القسم الآخر وهو الطبيعي ولا بد أن يوجد الطرف الذي يسميه الغربيون "الأصوليون، المتشددون، المتزمتون" إلى آخره، لن يرضى إلا بالإسلام الواضح الجلي الكامل النقي، وهذا القسم أمامه أحد احتمالين: إما أن يقضي عليه القسم الأول، لأنه لن يتدخل الغرب وقد أخذ الدرس الرهيب في أفغانستان وفي غيره، ولن يتدخل بشكل مباشر؛ بل حتى عقائدياً لا أتوقع أن يتدخل الغرب؛ لأنه لو جاء بـ الشيوعية أو الاشتراكية الوجودية، أو أي فكرة لتقاوم، فلا يمكن أن أي إنسان عرف منهج الكتاب والسنة أو كما يسمونه الأصولية أن يصدق أي فكرة غربية، فالحصانة تلقائية لا يمكن أن يفكر فيها الغرب، لكن ربما تنجح.
نقول: إما أن يقضي عليه الغرب بواسطة الطرف المعتدل -كما يسمى- الذي يؤمن بالموديل إسلام، إسلام الموضة والإسلام المتطور.
التوقع الثاني: أنه تسيطر هذه الدعوات السنية -التي تعتمد منهج الكتاب والسنة- ويكون لها قوة، وتملك زمام الأمور، فماذا؟ فالنتيجة إذا لم يستطع الغرب أن يقضي عليها عن طريق الحركات الداخلية فإنه لا بد أن يتدخل الغرب عسكرياً، كما أنذر وتوعد ميتران وغيره، لأن الغرب سيجد أنه لا مفر له من المواجهة.
هل في إمكان الغرب أن يواجه بالغرور، والكبرياء، والتكنولوجيا المتفوقة، وحرب النجوم إلخ؟ كل ذلك يهيئ للغرب الاشتباك المباشر، والإنزال المباشر في الأرض الإسلامية.
وستكون النتيجة إذا حصل الإنزال المباشر أن الأمة الإسلامية تهب هبة رجل واحد، وتتفانى وسيخسر الغرب في هذه المرحلة -لو حصلت طبعاً- الطرف الذي يسميه المعتدل، أو أكثر.
وعلى أية حال سوف تستيقظ الشعوب، وسوف تكون هناك مواجهة عامة كما حدث في أفغانستان وهذا مثال بسيط وواضح، وقضية واضحة لكم والحمد لله.
لو أن أيام الملكية بقيت لسيطرت أمريكا على الأوضاع في أفغانستان عن طرق الملك والحكومة الملكية الفاسدة الموجودة البعيدة عن شرع الله والاهتداء بهداه، وتحقق كل شيء لـ أمريكا من خلاله، لو أن ذلك حصل لم يكن لدى الشعب الأفغاني المسلم هذا الوعي الآن بالأحداث والخطر، ولن يكون هذا الجهاد طبعاً؛ لأن الذي حصل كان نتيجة العدوان المباشر بالإنزال المباشر، فهب الناس هبة رجل واحد، والحمد لله.
إذاً سيستثار العالم الإسلامي، والغرب المتفوق تكنولوجياً ستدفعه هذه القوة والحقد الصليبي إلى القضاء المباشر، والإنزال المباشر لجيوش غربية.
وليس سراً أن أكثر من مائتين وخمسين ألف جندي أمريكي يتدربون في صحراء وسط الولايات المتحدة الأمريكية، للتكيف مع المناخ الصحراوي، وهؤلاء معدون لأي إنزال سريع في أي وقت من الأوقات، وهذا شيء يعرفه العالم كله.
والأساطيل تملأ جميع البحار والخلجان والمنافذ، والإنزال هذا بأبسط ما يمكن ستكون مواجهة حاسمة عليها.
الوضع مخيف جداً ولا بد أن نأخذه مأخذ الجد.
ولكن لا بد من قضية أذكرها وأختم بها: نحن لا نتمنى لقاء العدو كما أرشد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن أنفع وأجدى للإسلام المواجهة المباشرة مع الغرب، من وجود أنظمة نفاق، وإسلام أمريكاني، أو إسلام مروض كما يقال.
هذا أنفع للمسلمين وأسرع لليقظة، وآثار الحروب الصليبية أكبر دليل على ذلك، فإن الهجمة الصليبية أيقظت الأمة الإسلامية.
وسأذكر أثراً واحداً: عندما قدمت الحملة الصليبية الأولى، كان في دمشق وهي أكبر مدينة إسلامية في بلاد الشام التي استهدفها الصليبيون مدرسة واحدة شرعية، كأنها كلية باعتبار ما نحن فيه الآن، لكن عندما قام صلاح الدين كان ما يقارب مائة مدرسة في دمشق؛ لأن العلم بين الشباب أهم شيء، فهو يؤدي إلى أن الأمة تعي وتعرف إلى أي شيء ترجع، إلى الدقة العلمية والتحليل العلمي والمواجهة العلمية.
كان على ميمنة صلاح الدين ابن قدامة رحمه الله صاحب المغني.
وكان من العلماء الأفذاذ الذين واجهوا التتار، شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية والذي كان في وسط المعمعة، ويرفع الحماس.
والمقصود أن الأمة استيقظت بعد القرن الخامس، قرن الهبوط، وقرن الموت، وقرن الضعف القرن الذي سيطرت فيه الرافضة على العالم الإسلامي، وسيطرت فيه الباطنية، ثم يعقبه بعد ذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية فكانت تلك الحياة العجيبة.
الآن الأمة الإسلامية على أي ثقافة تعيش؟ على أي علم تعيش؟ بعد علم السلف طبعاً بعد كتب الأصول والحديث القديمة، لكن انظروا لمن تقرأ؟ إنها تقرأ لـ ابن تيمية، ولـ ابن قدامة، ولـ ابن حجر، وللنووي، وللذهبي، وللمزني، ولـ ابن كثير، ولـ ابن رجب سبحان الله! متى ظهر هؤلاء الأفذاذ! لقد ظهروا بعد مرحلة الحروب الصليبية والتتار، أي: بعد أن استفزت واستنفرت الأمة الإسلامية وأظهرت قيادات.
ظهر صلاح الدين وهو رجل جدد سيرة الخلفاء الراشدين، وظهر نور الدين محمود، وهو رجل أحيا سيرة الخلفاء الراشدين، وللأسف غفلت عنه الأمة وعن عماد الدين وغيرهم.
فظهرت قيادات سياسية وعسكرية وعلمية، وعادت الأمة من جديد، وقاومت من جديد.(5/18)
بشائر النبي صلى الله عليه وسلم بأن المستقبل لهذا الدين
نقول هذا إذا حدث، قد يكون وقد لا يكون، ولكن يهمنا أن نذكر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشر بهذا كله في أحاديث كثيرة.
بشر في آخر الزمان بسيطرة الأمة الإسلامية وتفوقها، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بـ الأعماق أو بدابق} والروم هم الغرب، ((الم * غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم:1 - 2] وهي (الامبراطورية الرومانية) كانت أوروبا امبراطورية شرقية وامبراطورية غربية، وأوروبا كلها هي الروم، {تقوم الساعة والروم أكثر الناس}، أي: أقوى الناس، والأكثر في لغة العرب من معانيه: الأقوى والأظهر {لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بـ الأعماق أو بـ دابق} وثم أحاديث كثيرة لا يمكن أن نستعرضها ولكن ليرجع إليها في صحيح مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة.
من أهمها حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه، ونافع بن عتبة، لما قال نافع رضي الله عنه قال: {قدم إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أناس من جهة المغرب، يعني من غرب المدينة فانفرد بهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرجت إليه خشيه أن يغتالوه فإذا به يقول: تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله لكم، ثم تغزون فارس، فيفتحها الله لكم، ثم تغزون الروم فيفتحها الله لكم، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله لكم، قال نافع بن عتبة رضي الله عنه لـ جابر: قال يا جابر، أُرى أن الروم تفتح قبل الدجال}.
ومع ذلك أيضاً نذكر الحديث الآخر الذي يذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه، أن المسلمين سينقسمون إلى ثلاث فرق -وهو حديث صحيح ومعروف- أثناء المواجهة مع الروم اليوم الأول ثم الثاني ثم الثالث، ثلاث فرق تكون في المعركة مع الروم، فرقة يفرون لا يرضى الله عنهم أبداً -عياذاً بالله- وثلث يقتلون وهم من خير الشهداء عند الله، والثلث الثالث تكون الدائرة لهم بإذن الله.
وفي الحديث الآخر يقول عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: {سُئل رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي المدينتين تفتح أولاً قال: مدينة هرقل تفتح أولاً قبل روميا} فـ القسطنطينية تفتح أولاً، ثم تفتح روما، أو روميا مقر البابوية الكاثوليكية، وهي العاصمة الدينية لـ أوروبا.
إذاً عندنا بشائر والحمد لله بأن المستقبل في الأخير للإسلام، مهما توحد الغرب، وأنه مهما حصل من معارك على يد الغرب فالنهاية للمسلمين بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكني أعود فأذكر وأوجز، أن الواقع الآن، والمستقبل القريب منذر بخطر عظيم يستدعي منا أن تتضافر الجهود جميعاً لبيان معنى لا إله إلا الله، لبيان الولاء للمؤمنين، والعداء للكافرين، ولبيان حقائق الإسلام، كما أنزلها الله تعالى، وكما بلغها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكما طبقها السلف الصالح وأصلوها في كتبهم، وبإلغاء بل بمحاربة شديدة لكل دعوى تدَّعي أنها تبدل أو تغير أو تجدد في دين الله سبحانه ما ليس منه فتجعله مرناً أو عصرياً، إلى آخر الدعاوى التي يأتي بها هؤلاء الذين سينبتون على أعين الغزاة الروم الجدد.(5/19)
حاجة الأمة الإسلامية إلى اليقظة العلمية
نحتاج إلى يقظة علمية، ولا تكفي هذه الصحوة العاطفية التي نشهدها، بل يجب أن تكون يقظة علمية، كما كان العلماء في الماضي، وأن تقاد الأمة بطريق العلماء.
نحتاج إلى وعي مركز وقوي ونشط، ومعرفة بالواقع، ومعرفة الأعداء وغزوهم، وخططهم ومحاولاتهم.
وأن نستبعد دائماً الانفعالات العاطفية، والتحليلات والتفسيرات السطحية أو الساذجة أو القريبة التي قد تكون أحياناً حقناً مخدرة للأمة دون أن نشعر، وأن نعلم أن الزمن يتقارب، والأمم تتقارب، وأن التقارب الذي حصل أو قد يحصل الآن في أوروبا لتوحدها، كان حقيقة مبنياً على تقاربٍ فعلي، وهو أن الرأسمالية تنازلت للعمال كثيراً، وأن الشيوعية أعطت أيضاً الناس ملكية خاصة فتقاربت الأنظمة، ثم تقاربت الأمم بطريق وسائل الاتصال، حتى أصبح العالم كما يسمى قرية إعلامية! ثم توحدت التوحد الصليبي القديم، وبدأت الآن كل أمة في العالم تنبش وتبحث عن ماضيها، وتفتخر برجالها الأولين، فـ الهند تريد أن تظهر، واليابان، وكوريا، وكوبا وغيرها كذلك، كل أمة تريد أن تظهر وتفتخر بماضيها، ونخشى أن تضيع الهوية الإسلامية إن لم يكن لدينا هذه الجدية.
والزمن سريع جداً وما نستطيع أن نعمله اليوم، لا يجوز أن نؤخره إلى غد، ويجب أن تتركز الجهود نحو هذه المقاومة، مقاومة الأعداء الداخليين!! الذين يريدون إبعادنا عن منهج الكتاب والسنة بالبدع والضلالات في الوقت نفسه ولا انفصام بينهما، محاربة بالغزو الفكري بكل أشكاله وألوانه وصوره.
فلابد أن نقاومهم مقاومة إيجابية حقيقية، حتى لو أدى الأمر إلى أن الإنسان المسلم يفكر في السلعة التي يشتريها بريال واحد من الغرباء، يفكر قبل أن يشتريها، لأننا لا بد أن نستغني عن هذا العدو، وما دمنا نعيش على استجدائه ثقافياً، واقتصادياً، وفكرياً، فلا بد أن سيطرته تظل مفروضة علينا، ولا بد أن يأتي يوم ندفع فيه ثمن هذا الترف الكاذب، الذي تعيشه الدول الغنية في العالم الإسلامي، ومرارة الحرمان المفروض على الدول الأخرى الفقيرة، سندفع ثمنه، لأنا أضعنا الفرصة في أن نحاول أن نواجه مواجهة شاملة وعامة، وعلى مستوى تكوّن العقيدة، وتكّون أحكام الله، ويكون منهج السلف الصالح هو الذي يوجهه في كل صغيرة وكبيرة.
إلى هنا أختم حديثي، وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يكتب لي ولكم الأجر إنه سميع مجيب.(5/20)
الأسئلة(5/21)
مدى تأثير روسيا على الجمهوريات الإسلامية المجاورة
السؤال
ما هو تأثير هذه التطورات على الجمهوريات الإسلامية في روسيا، وهل للشيعة تدخل في روسيا وما موقف روسيا منه؟
الجواب
طبعاً التأثير العام حاصل، فكما حصل انتعاش في دول أوروبا الشرقية، حصل أيضاً انتعاش للمسلمين، والأمل كبير في رفع هذا الكابوس الرهيب.
وبدأنا نسمع عن إنشاء مساجد، وإرسال مصاحف، وأمور طيبة، وأتوقع أن يكون لها شيء من الحقيقة؛ لكن أقول: لا ننسى تجربة استالين ولينين أول ما أعطوا المسلمين المصحف - مصحف عثماني أي من أيام عثمان رضي الله عنه- الذي يقولون إن القيصر يحتفظ به، وأهدوه للمسلمين وأعلنوا الأخّوة والمحبة، وأعلنوا زيادة المساجد، وأعلنوا وأعلنوا أكثر من خمس سنوات، وكانت بعد ذلك الإبادة التي تحدثنا عنها.
العدو اللدود لن ينسى أبداً أننا أعداؤه، حتى لو تناسينا نحن عداوته، فالآن الشعوب حتى الأفراد الذين غرقوا في الغرب إعجاباً به وانبهاراً بما عنده، ليس لهم قيمة عند الغربيين بل ويعتبرونهم أعداء.
الآن الاتحاد السوفيتي لا يثق في الأحزاب الشيوعية العربية، ولا في الأحزاب الشيوعية الإسلامية، وهنا طرفة قالها السادات، قال: هو في الدنيا كلها يوجد قسم ديني في حزب شيوعي في مصر يوجد قسم ديني، ومحاضرات إسلامية، في ضمن الحزب.
المقصود يا إخوان اللعبة لا ينبغي أن تتكرر، ولا ينبغي أن نخدع، الغرب ينظر إلينا ويعتبر أن هذا وإن كان شيوعياً ماركسياً فاسمه محمد وعبد الله وفلان، فإذن لن يعطيه الولاء كما يعطيه للإنسان الأوروبي.
أذكر قصة ذكرها جورباتشوف في كتابه (إعادة البناء) يقول: 'عمل فلم مشترك بين الروس والأمريكان يبحرون خلال نهر الفولجا، يقول وكنت أقول للرئيس الأمريكي انظر، هل تستطيع أن تميز الأمريكيين من الروس؟ قال: لا، لا يمكن' ما معنى ذلك: معناه أنا شعب واحد، أمة واحدة، دين واحد، حضارة واحدة، لا يكاد يوجد بيننا أي فرق، العدو اللدود هو المسلم.
حتى الآن لم يؤخذ رأي الأحزاب الشيوعية، إلا ما كان منها عميلاً صرفاً، فهو ينفذ المخطط في منطقته بطريقته -مثلاً- وليست الثقة الكاملة في أية حال، فكيف يوثق بالمسلمين أن يرجعوا إلى الإسلام.
قلت -وقد أشرت إليه سابقاً-: سيسمح بلون من التدين -أو قد يسمى إسلاماً- ولكن ليس الإسلام الذي أنزله الله، ولا الإسلام الذي طبقه وآمن به السلف الصالح هذا يجب أن نؤمن به وأن نضعه في الاعتبار.
أما بالنسبة لـ الشيعة لا نملك معلومات وافية، عما يحدث في أذربيجان باعتبارها مواليه لـ إيران وفيها شيعة، وإن كانت أذربيجان فتحت في عهد الخلفاء الراشدين وهي على سنّة، حتى إيران كانت على السُنّة إلى أيام الصفويين وهناك أبيدت السنة إبادة تامة أو شبه شاملة، في معظم مناطق إيران ما عدا المناطق التي كان يسيطر عليها العثمانيون الأتراك.
أقول: لا نستطيع لأن المصادر غربية، وأنا أتحفظ كثيراً أن أتكلم عن أي شيء من خلال المصادر الغربية وحدها، ولذلك لما تكلمت عن جورباتشوف، اعتمدت على نفس كتابه وبالتحليل العام لا ندخل في تفاصيل أخرى، حتى نتمكن من معلومات أكثر.(5/22)
موقف العالم الثالث من النقلة الشيوعية وما حقيقته
السؤال
بما أن الشيخ تطرق للأحزاب الاشتراكية التابعة للحزب الشيوعي في روسيا، ما هو موقف دول العالم الثالث التي تتبع وتوالي النظام الشيوعي بعد التطور الجديد؟ سؤال ثان: في إحدى المؤتمرات الإسلامية قال أحد المفكرين: إن تلك النقلة التغييرية في فكر الشيوعية هي حيلة ووسيلة للدخول إلى أوروبا والغرب عن طريق تلك النقلة فما تعليقكم على ذلك؟ سؤال آخر: يقول أحد أعضاء الأحزاب الشيوعية العربية: إن انهيار الشيوعية في تلك البلاد، ناتج عن عدم التطبيق الصحيح لتلك المبادئ، أما الأحزاب العربية فلا زالت في مرحلة التطبيق فما رد فضيلتكم على ذلك؟
الجواب
بالنسبة للعالم الثالث، فإنه لم يكن له رأي، بل تقرر القرارات ثم تطبق، وأفضل حال للعالم الثالث، أن يتعامل مع أقل الظروف سوءً، أو يتصرف مع القرار الذي لا يملك له دفعاً.
وبالنسبة للعالم الثالث، فإنه ينضم كله تقريباً ضمن ما يسمى بدول عدم الانحياز، وهي دول في الغالب الأغلب عليها الاتجاه الاشتراكي نفسه، ثم هذا العالم وأمام الديون المتراكمة، أمام الضغوط الكبرى عليه لا يستطيع إلا أن يستسلم للأمل الخادع، ولهذا نجد العالم الثالث صحافته متفائلة بالانفراج الدولي بالأوضاع الحالية، بالتحسن الذي سيطرأ على الحضارة الإنسانية، إلى آخره، وستظل الأحلام تدغدغه.
على أية حال تهمنا قضية أساسية فيما يسمى بالعالم الثالث، فما كان منه صليبياً لم ينسه السخاء الغربي، وعلى الأقل من العمالة، بالمساعدات والقروض وغيرها، وما كان منه إسلامياً فسوف يتعرض لعقوبات أقسى، ولأوضاع أشد بلا ريب، إلا في حدود ما يمكن أن يسمح بإبقائه ليكون منطقة استهلاك للإنتاج الغربي هذا هو المتوقع في الجملة.
بالنسبة للذي قال إنه وسيلة، أقول: نعم، هذه وجهة نظر وهي تطرح في الساحة وأستطيع أن أقول: إنها وجهة نظر جورباتشوف الحقيقية، التي يريدها ونستشفها من أعماله: التغلغل داخل المجتمعات الغربية عن طريق الأحزاب الشيوعية، وعن طريق نشر الفكر الشيوعي، وعن طريق تحديث الفكر العالمي كما يسمى.
أما قول الشيوعي العربي: إن انهيار الشيوعية بسبب أنها لم تطبق تطبيقاً نهائياً، وأن الأحزاب العربية الشيوعية في مرحلة التطبيق، فنقول كما قال الشاعر:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود
لم يؤخذ قول الأحزاب العربية، ولن يؤخذ إن حضروا وإن غابوا، لا أحد يهمه كلامهم، وكما عبر أحدهم يقول: أنا أخشى أن تستمر هذه الموجة من إعادة البناء، حتى تصل إلى حد أن ينتقد ماركس ولينين نفسه، أخاف أن يصل إلى حد الردة الكبرى.
فالآن هذه القضايا عنده هي ارتكاب كبائر، وانحراف، وبدع، ويخاف أن يصل الأمر إلى الردة الكبرى، إنهم متخوفون على سمعة لينين أكثر من جورباتشوف نفسه.
هؤلاء ما قيمتهم ما وزنهم، حتى يقولو: إنا نطبق أو لا نطبق؟ لقد فشلت الشيوعية، وانهارت كمبدأ وكفكرة، متى طبقت الشيوعية تطبيقاً صحيحاً، حتى نقول إنها تراجعت؟ فهي لم تطبق أصلاً تطبيقاً كاملاً؛ لأنها لا يمكن أن تطبق في الواقع تطبيقاً كاملاً، وكما أشرنا إلى تلكم التجارب الشيوعية تجربة لينينية، تجربة إستالينية، تجربة خوروتشوفيه، ثم تجربة برجنيف وجورباتشوف، فهذا الكلام هراء أو هو من الدغدغة العاطفية الذي تعيشها الأمة الإسلامية أحياناً، أو تحصل لدى الأحزاب الشيوعية.(5/23)
أثر الجهاد الأفغاني على روسيا
السؤال
ما أثر الجهاد الأفغاني على روسيا؟ وهل انسحاب الروس الحاصل هو عن عجز أم خطة جديدة لـ روسيا؟
الجواب
أما أثر الجهاد الأفغاني على روسيا، فبالطبع كانت تجربة مُرة، لم يكن يتوقع الاتحاد السوفيتي، حتى أعداء إعادة البناء المحافظين أشد المحافظة، لم يكونوا يتوقعون تلك النتيجة التي حصلت ولله الحمد على يد هذا الشعب المسلم، ولذلك لجأوا إلى المناورات السياسية كما رأينا.
الآن أعلن الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية معاً الاتفاق على إعادة الملك، وأن يتولى الأمور في أفغانستان ولو لفترة وجيزة، بديلاً عن المجاهدين وعن نجيب الله معاً، وهذا من نتائج الوفاق الدولي الذي نقول في ظل الوفاق سنجد أنفسنا في مواقف صعبة للغاية.
المقصود أن الجهاد الأفغاني كان له أثر كبير جداً، وجورباتشوف استطاع أن يوظف هذا لمصلحة إعادة البناء، ويعتبرها من الأخطاء، ويقول: لو أن إعادة البناء كانت مطبقة من قبل أو كان لها رأي أو دور بارز لما كان هذا التدخل.
فقد قال في كتابه - ولا بد أن يتطرق هذا الكلام إلى الأذهان - نعم هذا البلد اضطررنا أن نتدخل فيه لمّا أن رأيناه يكاد أن يقع في قبضة الإمبريالية الأمريكية، وبيننا وبين أفغانستان اتفاقية دفاع مشترك، وقد طلبت منا أكثر من عشر مرات الحكومة الأفغانية التدخل لتخليصها من يد الإمبريالية.
فاضطررنا حماية للإنسان الأفغاني -كالعادة في الشعارات - ويقول: كنا نأمل أن نصل إلى حل عاجل في القضية، ولكن تزويد أمريكا للثوار بصواريخ (ستنجر) وأمثالها مما يؤجل في عملية الحل والحسم في أفغانستان، وبالطبع في المنظور القريب إن لم يجمع الناس على عودة الملك -وطبعاً لن يجمعوا- سوف تقسم أفغانستان هذا هو المتوقع! ونسأل الله أن يعين إخواننا المجاهدين هناك على أية حال، ولكن هناك بوادر لتقسيم البلد إلى منطقة شيوعية وإلى منطقة أخرى للمجاهدين، أو شكل من الأشكال والله أعلم ماذا يكون بعد ذلك.
أما الجواب عن الطرف الثاني من السؤال وهو: انسحاب الروس عن عجز أم فيه خطة.
أقول: الاثنان معاً.
أولاً: فيه خسائر فادحة.
ثانياً: الخطة واضحة انسحب الروس، ولم ينسحبوا جميعاً بل بقي المستشارون والعقول المدبرة.
ثالثاً: أرطال المساعدات تتدفق إلى أفغانستان إلى الحكومة الشيوعية.
رابعاً: المليارات تتدفق أيضاً عليهم.
خامساً: في المحافل الدولية ما زال الاتحاد السوفيتي مصراً على رأيه في أن أمريكا مع المجاهدين، فهو لا بد أن يكون مع الشيوعيين.
فاللعبة ستطول، وكسب جورباتشوف من جهة نوعاً من حفظ ماء الوجه بالانسحاب، ومن جهة أخرى يريد أن يكسب الموقف في النهاية وهو فرض حكومة قريبة من الشيوعية أو شيوعية في منطقة ما -على الأقل- وإن تم التقسيم، لن يفرط هؤلاء المجرمون بسهولة، ولا نقول هذا تثبيطاً، فالمستقبل للإسلام، والأمل موجود، لكن يجب أن نضع الحقائق ونترك الأحلام العاطفية الهائجة.(5/24)
مدى قدرة العالم الإسلامي على مواجهة الدول العظمى
السؤال
بعد الأحداث الأخيرة، ما هو توقعك لأثر اتحاد الألمانيتين على وجود قوتين عظميين في العالم، وما هو أثر ذلك على العالم الإسلامي؟ وسؤال أيضاً عن العالم الإسلامي وقدرته على مقابلة ما فعله جورباتشوف، وهل يستطيعون الدخول في مثل هذا المجال أم لا؟
الجواب
بالنسبة لتوحيد الألمانيتين أمر عادي جداً أن يتوحدا، وسيتوحدا في ظل اتفاقيات صارمة للسيطرة على ألمانيا لكيلا تعود إلى قوتها السابقة فتهدد المعسكرين، وسوف تتدفق رءوس الأموال.
وطبعاً ألمانيا الغربية من أقوى دول العالم اقتصادياً، وسوف تتدفق ملياراتها وشركاتها على أوروبا الشرقية، ويرتاح الاتحاد السوفيتي من النفقات الباهضة التي ينفقها على قرابة سبعمائة ألف جندي في أوروبا الشرقية، وبطبيعة الحال سيحرج الولايات المتحدة الأمريكية التي إن أبقت سلاحها وقواتها فهي تظهر أمام العالم أنها تريد الاحتلال ولا ترغب في السلام، وإن سحبتها فسوف تتراجع إلى وراء البحار كما أشرنا، بينما الاتحاد السوفيتي وجوده حاضر، ووجوده الفعلي قريب، ولا سيما مع وجود عابرات القارات في حالة الاضطرار إلى ذلك.
فقضية ألمانيا جزء من القضية الكبرى، وتأثيرها علينا نحن المسلمين لا يشكل أي أهمية بقدر ما يشكل على أوروبا الشرقية.
وأثر ذلك على العالم الإسلامي أننا في ظل الخلاف بين الشرق والغرب، وضعنا هذا المتردي المحزن المؤلم الذي عبر عنه الشاعر:
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه
كيف تظنونه في ظل الوفاق، وفي ظل التكتل القوي الدولي الذي كما قال جورباتشوف نراعي مصالحنا المشتركة نحن، وننسق ونتفق ونتحاور، ثم الاتجاه إلى الآخرين "الأعداء" بموقف موحد وقوي.(5/25)
البديل الديمقراطي للشيوعية
السؤال
أغلب المحللين يتوقعون أن يكون الحل الغربي الديمقراطي بديلاً للشيوعية، فهل يمكن أن يكون ذلك؟
الجواب
هذه طبعاً سذاجة من جهة.
يجب أن نعلم أن الغرب مفخرته في التاريخ كله الديمقراطية، الغرب ماذا حقق للإنسانية؟ الإنسان الغربي يعيش أسوأ أنواع الاضطهاد إلى أن جاءت الثورة الفرنسية ثم ظهرت الديمقراطية.
ليس للغرب أي ميزة فكرية، عدا هذه التي تسمى الديمقراطية أو حرية الإنسان، ولهذه الإعلانات المتكررة عن حقوق الإنسان وانتهاكاتها في دول العالم الثالث، وكذا وكذا، لإيهام الناس أكثر بأن الغرب والديمقراطية هي الحل.
لكن هل الديمقراطية سوف تسيطر على العالم لتصبح عقيدة المستقبل -كما يقول الناعقون في الغرب وأتباعهم هنا- في الشرق؟ لا، الأحزاب الشيوعية نفسها تدعي أنها ديمقراطية، هل قام في العالم الإسلامي دولة اشتراكية ما سمت نفسها الديمقراطية؟ كل واحد يدعيها، ويرفع لواءها، ويُسمى بها، فالقضية ليست بهذه البساطة، فمبدأ مرن ومنهج مرن واسع، كل إنسان يمكن أن يدعيه.
على النمط الغربي الكامل (100%).
نقول: يكفي أن من إفرازاته أن الأحزاب الشيوعية والاشتراكية تحكم كثيراً من البلاد، فما بالكم بالدولة التي هي الشيوعية الأم.
افرض أنه سمح لغير الحزب الشيوعي بالحكم كما قد يحدث في روسيا كما في تشيكوسلوفاكيا وغيرها فالحكام سيكونون شيوعيين أو اشتراكيين لكن ليسوا من الحزب الشيوعي.
ما الفرق؟ لا شيء! هذه الخسارة المحدودة هنا يعوضها احتواء والتفاف حول العالم الأوروبي الغربي بأكمله ليوضع في حوزة أنظمة أو عقول مدبرة، تسعى إلى مستقبل أوسع للاشتراكية كما يقول جورباتشوف.(5/26)
استغلال اليهود لحدث التطور الروسي
السؤال
هل استغل اليهود حدث التطور الروسي الجديد، وما هي علاقة الهجرة الروسية الجديدة بالتطور؟
الجواب
طبعاً من أول لحظة، وتعجبون كيف أنه عندما التقى بوش وجورباتشوف وأعلن عن الهجرة اشتراطاً وبدأت شركات الطيران تتطوع، أو حتى تنذر نفسها لحمل المهاجرين.
إذاً هو اتفاق واضح.
ما قيمة مائة ألف هاجروا إلى دولة ما؟ ما قيمة الهجرة بالنسبة لمسائل السباق النووي، حرب النجوم، التسلح، تراكم الديون، الشمال الغني والجنوب الفقير -كما يسمى- قضايا خطيرة جداً، ومع ذلك قضية اليهود في الصدارة وفي القمة في كل لقاء وعلى كل لسان، والآن اقرأ أي صحيفة تجد الأحاديث والأخبار عن هذه الهجرة بما يدل على عمق المسألة، والجدية في تطبيقها.(5/27)
كتب سياسية عن أحداث إعادة البناء
السؤال
يسأل عن كتب تفيد في مثل هذا الموضوع وتحليلات سياسية؟
الجواب
الكتب طبعاً لا أدري، لأننا نحن المسلمين لا نستيقظ إلا بعد فوات الأوان، ولهذا قلت: اعتبروا هذا الكلام من أخيكم نصيحة ولفت انتباه.
وأن تبدءوا بالبحث والتحليل، فيجب على الأمة أن يكون لديها هؤلاء المفكرون.
أما التحليلات التحليلات التي في الساحة الآن سطحية، وحقيقة أنا قرأت تحليلات لكنها سطحية للغاية، وأنا لا أدعي العمق، لكن أقول بالنسبة لما نراه في ظاهر الأمر أمامنا في الساحة الغربية، وفي الصحافة الغربية وفي كلام جوربا تشوف نفسه، ليس ما ذكر قريباً من الواقع أبداً، ولذلك نحتاج إلى جهدنا نحن المسلمين وإلى أن أقول هناك واجب يقع على الصحافة الإسلامية بالذات، أنها ترسل المراسلين، وتستكتب المحللين وتكتب بعمق وبتتبع دقيق وإن طال الزمن؛ لأنا لا نملك الأقلام ولا الأجهزة، لكن مهما طال الزمن يجب أن يكتب تحليل علمي موضوعي مجرد.(5/28)
دور الصين الشيوعية
السؤال
عن الصين الشيوعية، وما دورها الحالي والمتوقع في نظركم مستقبلاً؟
الجواب
طبعاً أريد للصين الشيوعية أن تكون فيها إعادة بناء وعلى أيدي الطلبة، سحقت ثورة الطلبة بشكل رهيب جداً والأصابع الغربية واضحة، حتى إننا سمعنا وقرأنا: أن الولايات المتحدة أعطت حق اللجوء السياسي لأربعين ألف طالب صيني يدرسون في الولايات المتحدة دفعة واحدة، بينما لو ذهب داعية مسلم قد يضل سنة أو سنتين لا يحصل على إقامة في هذه الدول التي تدعي الحرية والإنسانية، فالغرب وراء الحدث، لكن الحكومة والسلطة العسكرية تواجهه بعنف، ولها وجهة نظر تختلف عن نظرة جورباتشوف، وفي نفس اليوم الذي أعلن فيه جورباتشوف أن الحزب الشيوعي لن يحتكر السلطة بعد اليوم أعلنت الصين رفض هذه الفكرة، وأن الحزب الشيوعي سيظل محتكراً للسلطة.(5/29)
موجز عن جهاد فلسطين
السؤال
هل بالإمكان أن تعطينا موجز عن جهاد فلسطين من نظرة إسلامية صافية والآمال المتعلقة على ذلك؟
الجواب
الجهاد الفلسطيني أول ما بدء قام على أيدي الدعاة الإسلاميين، وقبل أن تعلم به الجبهات العلمانية، فلم تسمع به إلا بعد شهرين تقريباً، وقام في قطاع غزة، وعلى يد دعاة معروفين، واتجاهه أيضاً اتجاه إسلامي معروف وواضح، وأذكر لكم أن أحد المصادر في هذا: بعثة أمريكية لتقصي الحقائق ذهبت ونشرت هذا في مجلة الجيل، وكتابها فلسطينيون وليست إسلامية؛ لكنها ذكرت ترجمة للتحليل، تقول البعثة: الذين يذهبون إلى الضفة الغربية لا يرون الأمور على حقيقتها؛ لأن الضفة الغربية منطبعة بطابع غربي واضح، أما الطابع المتدين الواضح فهو في قطاع غزة، حيث بدأت حركة الانتفاضة، وإلى الآن قطاع كبير والحمد لله من هذه الحركة بيد الشباب المسلم.
-طبعاً- مؤامرات دولية وأشياء كثيرة ومستقبل مؤلم، لكنها موجودة كحقيقة.
الغرب يركز على الأحداث، وعلى المظاهرات، وعلى الإضرابات التي تنظمها القيادات العلمانية، والفتيات عاريات الصدور والشعور، لكنه إلا ما غلبه أحياناً الصور، ولكنه يطمس ما يكون في المساجد وما يكون من تكبير، وما يقوم به الدعاة والعلماء المسلمون إلا ما غلبه أحياناً.
وما يدور على مستوى الساحة العامة يدور بالنسبة لقضية فلسطين، إما الترويض وإظهار نوع من الإسلام المرن المطور، وإما المقاومة، وفي النهاية سنجد اليهود والمنظمات العلمانية جبهة واحدة لاستئصال الإسلاميين فيما لو كان لهم وجود فعلي.
وهذه حقائق لا شك فيها، ولا نقولها اعتباطاً بل تجارب مريرة مرت بها حركات الجهاد الإسلامية في معظم البلاد التي كانت مستعمرة تقريباً.(5/30)
الفرق بين بعض المصطلحات الشيوعية
السؤال
ما هو الفرق بين الاشتراكية واشتراكية الإسلام، والماركسية والشيوعية ويقول: وهل المصطلحات مترادفة وهل في الإسلام شيوعية؟
الجواب
بالنسبة للاشتراكية أو الشيوعية فالمصطلحان مترادفان تقريباً لكن لماذا أفرد كلمة الاشتراكية وبدأت تروج.
الاشتركية تعبر عن وجهة نظر أو تصور اقتصادي تقريباً، ولذلك وجد غربيون قبل ماركس، مثل سانس سيمون الفرنسي - على سبيل المثال - نادى ب الاشتراكية وقامت حكومة تقريباً اشتراكية وهي حكومة الكوميون كما تسمى سنة سبعين في القرن التاسع عشر في فرنسا اشتراكية كأنها ترمز إلى مبدأ اقتصادي بينما الشيوعية معناها كأنه يعطي دلالة العقيدة الأشمل، هذا تقريباً الفرق، ولكن المصطلحان يكادان يكونان شيئاً واحداً وهو في الواقع كذلك.
مصطلح الاشتركية الإسلامية، أو الشيوعية الإسلامية، أو ماركسي إسلامي، هذه نغمة غريبة، أو نشاز، ذكرت أو تعمد ذكرها منذ أيام خورتشوف.
لما وجد أن الشيوعية لم تنجح، فأول حزبين شيوعيين في العالم الإسلامي هم الحزب الشيوعي الفلسطيني، والحزب الشيوعي المصري ومعها تقريباً الحزب الشيوعي العراقي، وفي روسيا يعلقون الآمال بمتى تثور الشيوعية في مصر؟ ومتى تثور في العراق؟ فلما جاء الروس أيام جمال عبد الناصر إلى مصر، وجدوا أن الشيوعية لا وجود لها ولا يمكن أن تنتشر.
فاتخذوا مبدأ الاشتراكية الذي -كما قلنا- لا يضفي طابعاً عاماً بل كأنه مجرد اقتصاد، وأما فصل الدين عن الحياة، فالمسجد موجود وتطبيق الاشتراكية موجود.
واتخذوا أيضاً مبدأ استكتاب بعض الناس من صنفين: الصنف الأول: شيوعيون مثل الشرقاوي وحسن حنفي ومحمد عمارة، وبدءوا يكتبون عن الإسلام، الإسلام الشيوعي، الإسلام الاشتراكي، اشتراكية أبي ذر إلى آخره.
والصنف الآخر: وهو الذي عرضت له في المحاضرة الذي يوصف بأنه المعتدل والمرن، انخدع أو بحسن نية المهم أنهم كتبوا عن اشتراكية الإسلام، كما كتب الداعية الإسلامي المعروف مصطفى السباعي رحمة الله عليه، وكما كتب الشيخ محمد الغزالي وغيره، فوجدت الكلمة من الطرفين ولكن أولئك لهم هدف بعيد، وهؤلاء مجرد مخدوعون مع الأسف.
والحمد لله أن كثيراً من الإسلاميين عدلوا رأيهم لكن الآن الإسلاميين مخدوعون بـ الديمقراطية، واقرءوا الصحف تجدون أنهم أكثر من يستكتبون -كما في الشرق الأوسط وغيرها- عن الديمقراطية وحرية المرأة، الحرية عموماً.(5/31)
تأثير الأحداث الجديدة على الحداثة
السؤال
ما تأثير الأحداث الجديدة على الحداثة وهل لها علاقة بـ الشيوعية، وما موقف روادها من التغيرات الجارية على الساحة؟
الجواب
الحداثة هي أحد وسائل التعمق الفكري لنشر الشيوعية لا عن طريق الثورة، ولكن عن طريق البروستريكا إعادة البناء، وهناك شيوعي فرنسي معروف وهو زعيم بارز من أكبر زعماء الشيوعية كان نظيراً لـ رجاء جارودي الذي قد يكون له دورٌ آخر، ولكن يهمنا الآن هنري لوفيفر، وهنري هذا شيوعي معروف بارز جداً في فرنسا كتب كتاباً اسمه الحداثة، يقول: إن الحداثة هي ظل الثورة الغائبة هنا، وغير المكتملة هناك، الحداثة هي ظل الثورة الشيوعية الغائبة في فرنسا، وغير المكتملة في موسكو.
لأنه يريد أن تطبق الشيوعية وأن تعم العالم، وذكر أنه بواسطة الحداثة يمكن أن يعاد العالم المقلوب ليقف على قدميه وليعرف الحقائق، ويقول: نستفيد من الحداثة في هدم رموز الماضي: الأديان، والعادات، والتقاليد وكل شيء تمهيداً لإقامة الشيوعية النهائية الأخيرة، التي لا أخلاق فيها ولا قيم ولا مبادئ، ولذلك عندما تتعمد الحداثة ضرب اللغة وهدمها، يُقال: قضية أدبية، قضية لغوية لا علاقة لها بالدين.
والحقيقة أن ضرب اللغة "ضرب النص" أكبر عملية ضرب يمكن أن توجه إلى أي دين، فلو أن أحداً أراد أن يهدم القرآن مثلاً، فهل تتوقع أنه يحرق نفس المصاحف؟ لو هدم النص القرآني وقال: النص القرآني ليست دلالته كذا، كما فعلت الباطنية، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] قالوا: البقرة عائشة إلى آخر التأويلات الباطنية التي أفقدت القرآن معناه تماماً، وأفقدت الحديث معناه تماماً وجردته، فإذا جردت اللغة من مدلولاتها، فالنص الشرعي "القرآن والسنة" لم يعد لهما مدلول، إذن الأمة لم يعد لها قرآن، وإن كان موجوداً مكتوباً، فقد جرد من معناه ومن دلالته، وهذه أحد أهداف الحداثة.
والعلاقة بين الواقعية الاشتراكية، أو كما تسمى "المذهب الواقعي الاشتراكي" وبين الشيوعية أنها نسخة طبق الأصل، واستالين هو الذي استطاع أن يأتي ويجعل جاكوسن المجرم الملحد وأمثاله يمثلون المدرسة الروسية الشكلية وهي أساس الحداثة، فالمدرسة الشكلية الروسية هي أساس فكرة الحداثة والبنائية في عالم الغرب ثم في العالم الذي صدرت إليه.
عموماً: الاتجاه الواقعي في الحداثة هو نسخة عن الفكر الشيوعي.
وإذا أردت مراجعة أية مقالة حداثية واقعية ستجدها تتكلم عن الحوارات الجدلية، الديليكتيك، الصراع، الطبقية إلى آخره، وتجده مليء بالمصطلحات الشيوعية، وبعد ذلك له ما بعده، لماذا؟! لأن الأحزاب الشيوعية أخفقت كتنظيم، فاستعيض عن ذلك بفكرة ثقافية تتغلغل في الصحافة، وفي الأندية الأدبية، وفي كل مكان دون أن يشعر أن وراءها هدف آخر، ومن الثقافة ينشأ التنظيم، هذه هي عملية إعادة البناء، يقول جورباتشوف: من الثقافة ينشأ التنظيم، فأول شيء ثقافة شيوعية ثم بعد ذلك ننظم الناس، لكن يبدءون ينظمون الناس في الشيوعية ثم يثقفون المجتمعات بها أو عن طريق الثورة فلا تنجح.(5/32)
النظر إلى المناهج لا إلى الأشخاص
السؤال
يقول الشيخ رحمه الله إن محمد عمارة من الشيوعيين، وللتنبيه هو على طريق الحق الآن؟
الجواب
أنا ما كنت أريد التعرض للأسماء؛ لأن الأسماء تسبب إشكالاً، ولكن أقول: استكتبوا وهم شيوعيون في الأصل، هل الآن كتاباتهم من الكتابات الإسلامية، أسأل الله أن يكون رأيي خطأ، ولكن ستثبت الأيام على أية حال، ولا أستطيع أن أفصل الآن، ولو كان في وقت آخر للحديث المفصل عن هذه النوعية المستكتبة هذا وأمثاله لهم مدرسة فكرية معينة، ولهم اتجاه واضح، تتبناهم اتجاهات أو دول واضح ولاؤها.
أقول: هذا الرجل وفهمي هويدي وكمال أبو المجد وحسن حنفي وعبد الرحمن الشرقاوي لهم اتجاه معروف.
وأقول: ما كنت أريد أن أذكر الأسماء لما تثيره من حرج وحساسية، وأقول بصراحة: بهذه المناسبة نحن أمة لم نرتق إلى أن ننظر إلى المناهج بغض النظر عن الأشخاص، أمة لا تزال ترتبط أمورها بالأشخاص، أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي وقف في أشد اللحظات حرجاً في تأريخ الأمة الإسلامية على الإطلاق يقول: [[من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت]] يقول في هذا الموقف وفي حق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لحكمة واضحة.
نحن لدينا منهج، فعادة إذا ذكر الأشخاص بعض الناس لعاطفة ما، أو نظرة ما، أو حب لشخص ما ينعكس هذا الأثر على إخفاء المنهج، أو تشويه المنهج، أو الغض من قيمة المنهج مقابل الشخص، بينما المفروض أن كل الأشخاص هم يخدمون هذا المنهج، وكلنا يجب أن نسعى من أجل هذا المنهج، ومن أجل إقامة هذا الدين بغض النظر عن الأشخاص دون أن نظلمهم، ودون أن نتجنى على أحد، وقد نخطئ في حقهم طبعاً ونتراجع، ولكن يبقى أن المنهج فوق جميع الأشخاص، فأقول هذا كقضية عامة، وإن كان هذا الرجل في ذاته لا يستحق هذا الشيء.
والحمد لله رب العالمين.(5/33)
إبلاغ الأمة بكيفية محبة الرسول
إن من مقتضيات الإيمان المحبة لله ولرسوله، ولا يكون الحب صادقاً حتى يكون المحب مطيعاً في كل شيء، ومن ادعى المحبة وخالف من يحب فهو كاذب في دعواه.
ولقد تجسدت المحبة الشرعية التي يجب أن تكون لله ولرسوله في واقع الصحابة رضوان الله عليهم، فكانوا يمثلون في ذلك منهجاً وسطاً لا إفراط ولا تفريط، ولعل أرقى منزلة يبلغها المحب هي التي وصل إليها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي منزلة العبودية.(6/1)
شرك المحبة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فنحن في زمان قست فيه القلوب، وانقطعت فيه أواصر المحبة، وقلبت فيه المفاهيم، ولبس الأعداء ثياب الأصدقاء، وتبارى المبغضون والمعادون ليتزيوا بزي المحبين والمخلصين، في هذا الزمان نحن أحوج ما نكون إلى الحديث عن المحبة، ولا نعني المحبة التي فقدها الناس فيما بينهم، وإنما: المحبة العظمى، التي لا سعادة ولا راحة ولا طمأنينة للقلوب البشرية إلا بها، وهي محبة الله تبارك وتعالى ومحبة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والمحبة شأنها عظيم وأمرها جليل، فإنها من أعظم أعمال الإيمان، لأن الإيمان قول وعمل كما هو عليه إجماع أهل السنة والجماعة، والمحبة هي أساس كل عمل من الأعمال، كما أن الصدق هو أساس كل قول من الأقوال، فأعظم أعمال القلوب هما: المحبة والصدق، ولهذا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الدين النصيحة} والنصيحة تتضمن الصدق والمحبة معاً، فإنك إذا نصحت لأحد أو نصحت أحداً فإنك تحبه وتصدق له، وهذان هما أعظم أعمال القلوب، والمحبة هي أساس جميع الأعمال سواء أعمال القلوب أم أعمال الجوارح.
فلا دين ولا إيمان لمن لا محبة له، ونعني بذلك المحبة الشرعية أو المحبة الإرادية الاختيارية، لا المحبة الطبعية الفطرية، فهذه المحبة الشرعية الإرادية الاختيارية هي التي وقع فيها الضلال والانحراف، وبسببها عبد غير الله تبارك وتعالى، ووقعت الإنسانية في أعظم ذنب عُصي الله به وهو الشرك به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فلو تأملنا حقيقة العبادة التي خلقنا من أجلها، وخلق الله تبارك وتعالى الجن والإنس لها، لوجدنا أن العبادة إنما هي درجة من درجات المحبة، فمن عبد شيئاً فإنما عبده لأنه أحبه حباً عظيماً في قلبه اقتضى واستوجب ذلك الحب أن يعبده ويطيعه ويرجوه ويخافه ويصرف له جميع أنواع العبادات.(6/2)
لوازم المحبة
محبة والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تبع لمحبة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومحبة الله من لوازم الإيمان ولا يُحب الله ولا يدعي محبته أحد لا يتابع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا قالت اليهود والنصارى كما حكى الله عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]، فالدعوى المجردة كلٌ يدعيها، حيث يدعي اليهود أنهم أحباب الله، ويدعي النصارى أنهم أحباب الله، ويدعي أصحاب الضلال أو أصحاب البدع أنهم أحباب الله وأحباب رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن ما الذي يميز ذلك ويصدقه أو يكذبه؟ أقول: هنا آية عظيمة قال عنها السلف: إنها آية الامتحان، التي يقضي الله بها على الدعاوى ويبين الحقيقة من الزيف: يقول الله تبارك وتعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] فسماها السلف آية الامتحان: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] فهل الأمر متروك لكل من ادعى دعوى محبة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعباده الصالحين، وهل هذه دعاوى تقال أم أنها حقائق تصدقها الأقوال والأعمال- أعمال القلوب وأعمال الجوارح-؟ لا، فالأمر أعظم من ذلك: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] وهذه الآية من تدبرها وجد فيها دلالة عظيمة على ما بلغه القرآن مما لا يبلغه كلام أي أحد، لأنه كلام الله عز وجل، الذي قال فيه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88] فيها بيان وبلاغة عظيمة؛ لأن هذه الآية تضمنت شرطين في آية واحدة، شرطين اتصل بعضهما ببعض، الشرط الأول وهو: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} [آل عمران:31] فـ (إن) أداة الشرط، و (تحبون الله) الشرط، وجوابه {فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31]، ثم جعل جواب الشرط شرطاً وجعل له جواباً آخر قال: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].
ولهذا إذا أردتم أن تعرفوا فقه السلف الصالح وفهمهم لكتاب الله، وكيف أحبوا الله ورسوله حق المحبة، وذلك عندما فهموا كلام الله وفهموا حقيقة الإيمان، فانظروا إلى قول القائل منهم: "ليس الشأن أن تُحِب ولكن الشأن أن تُحَب ' كيف هذا؟ اليهود قالوا: نحن نحب عزيراً، ونحب موسى، ونحب الله، والنصارى ألّهوا المسيح عليه السلام من دون الله، وقالوا هو ابن الله، فهم يحبونه ويدعون ذلك ويزعمونه، ويرون أنه من محبتهم لعيسى أن يقولوا: إنه ابن الله، وأنه إله، فليس الشأن بأن تُحبوا، لكن الشأن بأن تُحَبُّوا أنتم، أي: أن يحبكم الله عز وجل، ويحمد لكم هذه الأعمال التي تزعمونها والمحبة التي تدعونها، والله يقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} [آل عمران:31] فيا من تدعون محبة الله، وما من مؤمن ولا مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا وهو يقول أنا أحب الله، ولو كان في قلبه مثقال ذرة مما يضاد ذلك لما كان مؤمناً، فيقولون: نحن نحب الله، إذاً: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31] فإذا اتبعناه ماذا يحصل، {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] فهذا هو الأساس والغرض وهو أن يحبنا الله عز وجل، فلا يحبنا الله إلا إذا كنا متبعين لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظاهراً وباطناً.
أما ادعاؤنا بأننا نحب الله، أو نحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا يلزم منه ذلك، فقد ندعي ذلك ونكون غير محبوبين عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولكن إذا أحبنا الله فلن يحب الله عز وجل إلا من كان حقيقة محباً لله ومحباً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يكون ذلك إلا لمن كان متبعاً لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان يطابق قوله فعله، ولا يأتمر إلا بأمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما كان يفعل الصحابة الكرام.(6/3)
عاقبة شرك المحبة
ومن هنا جاء الوعيد الشديد في حق هذه الأمة إن هي ركنت إلى أي صارفٍ أو مُغرٍ أو ملهٍ عن محبة الله ومحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24] فهذا فسق وعمل يستوجب الوعيد الشديد: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24] وهذا الأمر من أول بداياته أن يُذهب الله تبارك وتعالى النصر والعز والتمكين، ويورث تلك الأمة الذل والخسارة والضياع، كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحديث الذي يقارب معنى هذه الآية: {إذا تركتم الجهاد وتبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر، سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم}، وهذا هو الوهن الذي أخبر عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو حب الدنيا وكراهية الموت، لكن إذا كان الله ورسوله أحب إلينا من كل هذه المغريات والشهوات والملهيات فهذه هي حقيقة الإيمان، ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً} ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث الآخر: {ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار} فهذه هي حقيقة أو ضرورة المحبة، أن يكون قلب الإنسان ممتلئاً بحب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحب رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحب ما أمر الله ورسوله به، ولا يكون في قلبه أدنى مثقال ذرة من كره الله، أو كره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو كراهية شيء مما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد وقع في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قصة ذكرها الله تبارك وتعالى في القرآن في شأن المنافقين الذين خلت قلوبهم من محبة الله ومحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -عافنا الله وإياكم من النفاق- يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] فهذه الآيات نزلت في المنافقين لما أظهروا بغض أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكرههم واستهزاءهم بهم، فهم لم يستهزئوا بالله عز وجل بعباراتهم التي قالوها، ولم يستهزئوا برسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يظهروا بغض الله عز وجل، أو بغض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما أظهروا بغض الصحابة على طريق الاستهزاء بهم، الاستهزاء الذي ينمُّ عما في القلب من بغضاء وعداوة وحقد يتنافى مع المحبة التي أمر الله تعالى بها له ولرسوله وللمؤمنين، فقالوا: {ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أوسع بطوناً ولا أجبن عند اللقاء}، فهم سخروا واستهزءوا بالصحابة الكرام من القراء، بأنهم يقبلون عند الطعام، ويتأخرون عند الفزع وعند مجيء العدو، وكأن حال المنافقين العكس، وهذا هو أبطل الباطل وأكذب الكذب فماذا كانت النتيجة، أنزل الله تبارك وتعالى هذه الآيات: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65] وهذا الذي وقع، فعندما سألهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا: إنما كنا نمزح ونلهو ونخوض ونلعب، ولم نكن نقصد الإساءة إلى الصحابة وإلى هؤلاء القراء، فبماذا رد الله تبارك وتعالى؟ أرشد الله رسوله وعلمه كيف الرد عليهم: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65] فهم لم يذكروا الله عز وجل في كلامهم ولم يذكروا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي: لم يستهزئوا بهما، وإنما استهزءوا بالقراء، ولكن الرد أتى من عند الله عز وجل: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65] ثم يقول: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66] فعملكم هذا لا يغفره عذر، ولا يطهره ما تقولون وما تزعمون، بل هذا مخرج لكم من دين الإسلام -والعياذ بالله-.(6/4)
شرك المحبة في الجاهلية
ومن هنا نرى كيف أن المشركين مع أنهم لم يكونوا يشركون بالله تبارك وتعالى شيئاً في الخلق أو الرزق أو التدبير أو الإحياء أو الإماتة ونحو ذلك، إلا أنهم كانوا مشركين بالله تعالى شركاً أكبر وما ذلك إلا لأنهم كما قال الله تعالى فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّه} [البقرة:165] فبهذا ينحل الإشكال الذي لم يفقهه كثير من الناس في باب الإيمان بالله ومعرفة التوحيد والشرك، وهي أنهم لم يفهموا كيف أن الله تبارك وتعالى يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] فالمشركون كانوا يعدلون بربهم كما نطق بذلك القرآن، وفي الآية الأخرى {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97 - 98] فقد وقع من المشركين العدل بالله، فقد عدلوا به غيره وجعلوه مثله، ووقع منهم التسوية بين الله وبين غيره، فكيف نوفق بين هذا وبين إيمانهم بأن الله هو الخالق والرازق والمدبر كما نطق القرآن في كثير من الآيات بأن الله تعالى متفرد بالخلق والرزق والإحياء والإماتة وتدبير الأمر؟ ومن هنا نقول ونعلم أن سبب ذلك هو المحبة، فإنهم لما عظموا وأحبوا هذه المعبودات، وأعطوها من الإجلال والتقدير والانقياد القلبي مثل ما هو لله عز وجل؛ كانوا بذلك مشركين، ولذلك أرسلت فيهم الرسل لتبين لهم أنه لا تُصرف أي نوع من أنواع العبادة إلا لله وحده، فالحب إذاً لله وحده، وهذا هو الحب الشرعي الاختياري الإرادي.(6/5)
أول شرك وقع في المحبة
وأول أمة ارتكبت الظلم العظيم والشرك بالله هي أمة نوح عليه السلام، وقد قص الله تبارك وتعالى علينا أمرهم، وبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، فبداية ذلك الشرك كان بالضلال في المحبة، فقد ضلوا في محبة الصالحين: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح:23] وهؤلاء كما فسرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَْهِ وَسَلَّمَ أسماء رجال صالحين من قوم نوح، كان قوم نوح يحبونهم ويعظمونهم لله وفي ذات الله؛ لأنهم يعبدون الله، ولأنهم أولياء الله عز وجل؛ لأنهم يرونهم أقرب إلى الله منهم، فأحبوهم وعظموهم من أجل ذلك، فلما ماتوا قالوا: نخشى أن تموت ذكراهم بموتهم، فقالوا: لا بد أن نتذكرهم لنحبهم ولنحب الله ولنعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما كانوا يعبدونه، فصوروهم، ثم تناسخ العلم وعبدت تلك الصور وأصبحت أصناماً، وأصبحت الصور والأصنام آلهة معبودات من دون الله عز وجل حتى إنه لما بُعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لكل قبيلة من العرب صنمها المسمى بأسماء هؤلاء، كما بين ذلك عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في الحديث نفسه.
فإذاً معرفة حقيقة المحبة ضرورية جداً، والانحراف فيها قد يوقع في الشرك وفي الذنب العظيم الذي يحبط كل طاعة، ولذلك أيضاً نجد أنه لا بد أن يحب العبد ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن يحب رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن لم يكن في قلبه حب لله ولرسوله فهذا ليس بمؤمن وليس بمسلم، بل ذلك مقتضٍ لأن يحبط عمله وترد جميع أفعاله وأعماله، وإن كانت حسنة في ظاهرها، والله سبحانه قد بين ذلك من حال المنافقين الذين يزعمون الإيمان ولكنهم كانوا في حقيقة قلوبهم يكرهون ما أنزل الله ويكرهون أوامره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9] فلما كرهوا ما أنزل الله أحبط أعمالهم، وفي الآية الأخرى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54]، فالإنفاق والعمل إذا لم يكن عن محبة للمتقرب إليه وهو الله تبارك وتعالى، وإذا لم يكن عن محبة لهذا العمل الذي شرعه الله وأمر به، فإن ذلك لا ينفع صاحبه شيئاً ولا يجدي ذلك العمل مهما كان.(6/6)
المحبة الشرعية
الصديق الأعظم أبو بكر رضي الله عنه، بلغ الدرجة العليا في الصديقية؛ لأن هواه وميوله طابقت ما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول، فكان لا يبلغه عن النبي شيء إلا ويقول: [[إن كان قاله فقد صدق]]، قبل أن يسمعه منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمر إلا وهو ممتثل.(6/7)
محبة أصحاب الرسول له
ثم الصحابة في ذلك درجات في نفس ذلك الأمر، ولهذا لما قال عمر الفاروق رضي الله عنه وهو ثاني رجل في هذه الأمة في الإيمان وفي الدرجة العليا بعد الصديق الأكبر: ' يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي ' وانظروا إلى صدق الصحابة رضي الله عنهم، حيث كان يقول ذلك وهو صادق، ومن الذي يزعم أنه يحب رسول الله أكثر من أصحابه، فمن قال ذلك فهو كاذب كائناً من كان.
فهذا الفاروق الذي يلي الصديق في الدرجة يقول: ' لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي -فهل أقره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال: والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الآن يا عمر ' الآن أصبح عمر عمراً، وأصبح فاروقاً، وأصبح على الدرجة المطلوبة التي ينبغي أن يكون عليها عمر ومن يقتدي بـ عمر، وهو أن يكون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحب إليه من نفسه {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين} هذا ما قاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاتباعه وطاعته وتحكيمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل أمر، هي التي تستوجب ذلك وتقتضيه وهي التي تدل وتترجم هذه المحبة، لأنها -كما قلنا- ليست محبة عاطفية، وليست مجرد ميل قلبي، وإنما هي محبة شرعية إرادية اختيارية، وبلا شك أنها مع ميل القلب ومع إرادته، لكن لا نترك ميول القلب وإرادته تذهب ذات اليمين وذات الشمال وإلا لوقعنا في أمور إما أنها انتقاص لمنزلة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإما أنها غلو فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو لم تكن محبة شرعية منضبطة بأمر الله ورسوله، فلا بد إذا خرجت عن ذلك أن تذهب تشطح إما يميناً وإما شمالاً، حتى محبة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(6/8)
الانحراف في المحبة
إذا نظرنا إلى واقع الناس، فإن أي إنسان يحب إنساناً مهما كان صادقاً في ذلك الحب وحتى لو كانت أماً تحب أبناءها، لكنها لا تعرف حقيقة هذا الابن، فإنها قد تمدحه بما يسخر منه الناس وتظن أنها تمدحه، والناس يعلمون أن هذا ذم في الواقع، وكذلك محبة أي شخص.
وقد ورد في أثر إسرائيلي -وكما هو معلوم أننا لا نصدق ولا نكذب هذه الآثار، ولكن المقصود منا هو أخذ العبرة- ورد أن عابداً من عباد بني إسرائيل وكان عمله رعي الحمير، وله حمار يرعاه ولا يعرف هذا الراعي من أحوال الدنيا شيئاً، ولكنه كان مجتهداً في العبادة ومجتهداً في طاعة الله فيما يرى وبقدر ما يعلم، فبلغ في نظره من محبة الله عز وجل عنده أنه قال: يا ربي لو أن لك حماراً لرعيته مع حماري، وهذا من المحبة، وهل هو كاذب في هذا الكلام؟ لا، فهذه هي درجة تعظيم الله في قلبه، هذا هو ظنه وهذا غاية ما يعتقد، ولذلك نهينا عن طريق المغضوب عليهم وعن طريق الضالين، وأمرنا باتباع الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فطريقنا طريق الاتباع لا طريق الضلال.
وقد ورد أن الشاعر علي بن الجهم لما قيل له أنت شاعر من شعراء البوادي والصحاري، فلو ذهبت إلى الخليفة ومدحته لأعطاك الجوائز وأصبحت من المعظمين في الدنيا، فقال: أذهب، فذهب إلى الخليفة وأعد قصيدة في نظره أنها لا أمدح للخليفة منها، ولا أشد منها في نظره وفي حدود تعبيره ولغته، ففيها الثناء والتعظيم وفيها التقدير للخليفة، الذي يطمع الشاعر من ورائه بالعطاء الجزل والحياة المترفة في بغداد، فقال له:
أنت كالكلب في الحفاظ على العهد وكالتيس في قراع الخطوب
فضحك منه الناس، كيف تخاطب أمير المؤمنين وتقول أنت كالتيس وكالكلب؟! ففعل هذا الرجل هل كان يقصد به الضحك على نفسه؟ هل كان يقصد أن يسيء إلى الخليفة ويسيء إلى نفسه؟ لا، أبداً، لم يقصد ذلك، ولكن هذه غاية محبته وغاية ما يستطيع أن يعبر عنه، لذا قال هذه العبارات.(6/9)
مظاهر الانحراف في المحبة
والأمة الإسلامية قد وقعت في كلا طرفي الانحراف، فوجد منها من غلا في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أخرجه عن العبودية فجعله إلهاً معبوداً من دون الله تبارك وتعالى، وهذا ماحصل من كثير من الطوائف وحصل حتى مع غيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عباد الله من الصحابة، كما فعل مع أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، أو الحسين أو من التابعين أو من بعدهم من عباد الله الصالحين، أو من يدعي صلاحهم، فحصل الغلو وفتح هذا الباب الذي هو باب هلاك، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنما هلك الذين من قبلكم بالغلو} لما غلو في الدين وغلو في أنبيائهم فغلت هذه الأمة تبعاً لهم، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذه بالقذه حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه} فرفع هؤلاء أنبياءهم فوق حقيقتهم، ورفعت طوائف من هذه الأمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوق حقيقته التي هي معلومة بصريح القرآن وصريح السنة، وهذا ما وقع وعَمَّ به البلاء، وواجب على كل من يؤمن به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويحبه -جعلنا الله وإياكم منهم- أن يدافع عن التوحيد ويسد الذرائع المفضية إلى الشرك، بأن يبين للناس منزلة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحقيقية، ويحذرهم من الوقوع في الشرك ومن الغلو فيه.
والجانب الآخر: وقع فيه أكثر المسلمين من العامة، بل حتى من العلماء وغيرهم، وهو أنهم قصروا في متابعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقدموا أحوال غيره على أحواله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت مصيبة المسلمين في العشرة القرون الماضية أنهم يقدمون أقوال بعض العلماء على قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويتعصبون لهم، وهذا بخلاف ما أمر به أولئك العلماء الأجلاء أنفسهم، وكان ذلك يُعدُّ -وهو كذلك- تقديماً بين يدي الله ورسوله، وإساءة للأدب مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولما ناظر ابن القيم رحمه الله أحد هؤلاء ممن يأتيه الحديث الصحيح فيرده لأن فلاناً قال كذا، فقال له: أرأيت لو أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيٌّ الآن يخاطبنا بأمرٍ وقال: افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا، أكنت تأتمر بأمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو تقول: أعرض هذا الأمر على قول فلان، أو هذا الأمر يخالف ما قاله فلان من الناس؟ قال: بل أمتثل وأبادر تواً وفوراً، قال: فما الفرق؟ فإذا كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد لحق بالرفيق الأعلى فسنته وأمره بعد وفاته كأمره في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا بد من التأدب مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتأدب مع سنته كما كان التأدب مع شخصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته، بألا يقدم أحد بين يدي الله ورسوله، ولا يرفع صوته فوق صوت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكذلك يجب أن يتأدب معه بعد وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بألا يرفع رأياً فوق سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فهذه كانت مصيبة الأمة الإسلامية التي حلت بها إلى أن جاءنا الغزو الفكري الحديث، وجاءنا الضلال الكبير الذي وقعت فيه الأمة في الأزمنة الأخيرة، وهي أنها قدمت القوانين الوضعية والأحكام البشرية على كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأعرضت عما جاء به من الكتاب والسنة والهدي، فحصل بذلك الضلال العظيم، وحصل الكفر المبين لكثير من الناس الذين شَرَّعوا هذه القوانين وسنوها وألزموا الناس بها -نسأل الله العفو والعافية-.
فلم يعد للمسلمين في كثير من البلاد شيء يتمسكون به إلا أنهم يؤدون بعضاًَ من الشعائر التي تشابه ما يؤديه النصارى من الشعائر، أما حقيقة الإيمان والاتباع الكامل وحقيقة الإذعان الذي هو حقيقة الشهادة بأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد أشرك به غيره، وأصبح الاتباع لغيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمناهج التعليم، ومناهج الحياة، ومناهج الاقتصاد كل هذه تؤخذ من غير شرعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم مع ذلك يقولون: نحن نحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! ويوجد فيهم من يقول: إنه يحب الله ورسوله، فيأكل الربا أو يستحله ويزعم أنه يحب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! ويوالي أعداء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اليهود والنصارى والمجوس والبوذيين ويزعم أنه يحب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! إذا ما نظرنا إلى واقعنا اليوم -مثلاً- التاجر الذي يستقدم العمال الكفرة، هل هذا في الحقيقة محققاً لمحبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! لِمَ لا يأتي بالمسلمين؟ يأتي بمن لو سأله عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقال: دجال كذاب مفتري -والعياذ بالله- فيأتي به ويكرمه ويعطيه المبالغ العظيمة التي ربما كانت أكثر مما يعطي المسلم، ثم يقول: أنا أحب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهل هذا حق؟! وكيف تقرأ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يبغض الزنا، والربا، والنفاق، ثم تأتي ويقع منك الزنا والربا والنفاق والغيبة والنميمة والإساءة إلى الجار والخيانة، كل ذلك مما يتنافى مع دعوى محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا لا يرضاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولو رأى ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لغضب أشد الغضب، وتألم أشد الألم، ثم يفعله من يفعله ويقول: أنا أحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!! فهذا هو المعيار، وبهذا نعرف أين نحن من محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا حكمنا غير شرعه وأطعنا غير أمره، وصدقنا غير خبره، وعبدنا الله بغير سنته، فماذا بقي لنا من محبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!! والواقع كثير، وظلامه كثيف، والانحرافات كثيرة، ولكن هذا كله لا يعفينا من أن نقول الحقيقة، وأن ندعو إليها، وأن نبدأ بأنفسنا، وأن نعرف أين نحن من الشهادة لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعبودية والرسالة التي أمرنا الله بها، وهل محبتنا وهوانا وقلوبنا وخيرتنا تبعاً لما يقضيه الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أم أنها تتبع الهوى وإن ضربنا بما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صفحاً؟ فهذا هو المحك، وهذا هو المعيار.
نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، ونكتفي بهذا المقدار، وفي أسئلتكم ما يذكرنا بما أنقصنا ولا بد أننا أنقصنا، فالحديث عن محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طويل وعظيم، ونحن دون أن نوفيه حقه، نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم من المحبين له حق المحبة، المطيعين له حق الطاعة، إنه سميع مجيب.(6/10)
الغلو والتفريط في محبة الرسول
وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث عبادة بن الصامت في الصحيحين: {من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله أدخله الله الجنة على ما كان من العمل} والشاهد فيه قوله: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله)، فهذه هي الشهادة التي استهان بها من ضل في محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: كل الناس يقولون هو عبد الله ورسوله، ونحن نريد شيئاً جديداً وخيل إليهم أنهم بغير ذلك يعظمونه ويعزرونه ويوقرونه، وكأن هذا لا يكفي، مع أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما نص عليه، ولهذا قال العلماء في شرح هذا الحديث: إن هذا الحديث تضمن الرد على الطائفتين المنحرفتين في شأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الطائفة التي غلت فيه، والطائفة التي قصرت في حقه وفي محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذه فكلمة (عبده وسوله) عظيمة غير هينة، كيف ذلك؟ أقول: قوله (عبده): هذه الكلمة هي أعظم مدح يمدح به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أن يكون عبداً لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مع تضمنها ألا يزاد عن قدره، لأنه مهما كان فهو عبد، فالعبودية هي أخص أوصافه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا قيل عبد الله ورسوله فهو ينصرف إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في حديث الشفاعة، عندما قال عيسى عليه السلام عندما جاءه الناس يستشفعون به: {اذهبوا إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر}، ولما خير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين العبودية والرسالة وبين الملك والرسالة، فاختار أن يكون عبداً رسولاً، فالعبودية أكبر من الملك وأكبر من كل شيء، قد وصفه الله بالعبودية في أعظم وأشرف أحواله، فقال جل شأنه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1] فلم ينل أحد من المخلوقين الدرجة التي نالها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ليلة الإسراء، فهذه الحادثة العظيمة العجيبة التي لم يبلغها أحد، قال الله في وصفه وهو يخبر عن هذا الحدث العظيم: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] أي: كامل العبودية الذي استحق هذه المنقبة وهذه المفخرة العظيمة التي لم ينلها أحد غيره.
وهذا في مقام التعظيم.
وفي مقام الدعوة قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنه {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19] أي الذي لا عبد له سواه، والحقيقة أن المقصود منها أي: لا عبد كامل العبودية أو لا عبد وصل إلى كماله الذي وصله في كمال العبودية.
فإذاً العبودية أمرها عظيم، فإذا وصفت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه عبد الله ورسوله فقد وصفته بأخص أوصافه وأعظم أوصافه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع ذلك يُشعر هذا الوصف بأنك لا تتجاوز به حده، فهو عبد مهما ترقى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو يترقى في مقام العبودية، وما أكرمه الله تعالى به من شيء، أو أطلعه على شيء من الغيب، أو سخر له شيئاً مما في السماوات أو في الأرض، أو امتن عليه بأي أمر خارق عظيم، فهو بتحقيقه للعبودية ولبلوغه كمال العبودية.
فمن دعاه أو استغاث به مع الله أو من دون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أو من قال أنه يتصرف في الكون كما يشاء، أو أنه يعلم الغيب كله، أو أن بيده مقاليد كل شيء، ويعلم متى تقوم الساعة، وغير ذلك مما قاله المفترون والمبطلون، فهذا معتقداً أن محمداً عبد الله، لأنه أعطاه وأصبغ عليه صفات الألوهية، فهذا ناقض لقوله (عبده) هذا طرف.
والطرف الآخر: هم المفرطون المقصرون في محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي اتباعه، فكلمة (ورسوله) توحي بأنه لا رسول له إلا هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي الحقيقة أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرسول الكامل الرسالة الذي بعث لجميع العالمين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ:28] وبدين عام شامل لكل ما يحتاج إليه الإنسان مما يقربه إلى ربه، ومما يحقق له السعادة في معاشه وفي دنياه، فالرسول الكامل الرسالة هو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن لم يحب هذا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو لم يشهد أنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن اتبع شرعاً غير شرعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو لم يشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] فمن قصر في متابعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن قدّم قول أحد على قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كائناً من كان؛ فإنه لم يشهد حقيقة الشهادة بأن محمداً رسول الله، لأن مقتضى ذلك ومعناه أن يُحبَّ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر حتى من النفس، قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] فيحب ويعطى الأولوية حتى على النفس؟ وكونه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقتضي أن يصدق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل خبر يخبر به، دون أن نعرض ذلك الخبر على رأي فلان أو فلان، أو أي مقياس من المقاييس، وأن نطيعه في كل أمر ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وأن نبتعد عن كل ما نهى عنه وزجر، وألا نعبد الله تبارك وتعالى إلا بما شرع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو العبد الكامل العبودية، والرسول الذي بين الدين وأكمل الله به الرسالة وختمها، فنعبد ربنا كما شرع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا نبتدع في دين الله ولا نزيد ولا ننقص ولا نضل ولا ننحرف، فبذلك نكون قد حققنا الشهادة، وهي أن محمداً عبده ورسوله، وهذا هو أكمل وأخص أوصافه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(6/11)
الغلو في المحبة
والمقصود أن الأمر ليس أمر عاطفة، كما يقول صاحب البردة:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
فهو يقول: لا تقل ابن الله وقل أي شيء، فهذا ليس من محبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا من تعظيم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا من تعزيره وتوقيره الذي أمر الله به، فكل إنسان إذا أطلق سجيته فقد يشطح ذات اليمين وذات الشمال، ولهذا الغالبية من الناس انحرفوا في محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخاصة في القرن التاسع والعاشر والحادي عشر، إلى أن أصبح الحال أنك إذا قرأت ما كتبوه عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقارنته بما تعلم وبما يعلمه المسلمون الذين يقرءون سيرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المصدر الأول للسيرة وهو القرآن الكريم، الذي فيه سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفاته وكثير من أعماله وأحواله وحدود بشريته وحدود مقامه في القرآن، وأيضاً في الأحاديث الصحيحة، فإذا قارنت ذلك مع ما تقرأه لهؤلاء المتأخرين عن وصف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطابقته بما تجده في القرآن والسنة تجد الفارق العجيب، تجد أن هؤلاء لا يتكلمون عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك الإنسان المكرم الذي أوحى الله إليه، وأنزل إليه الروح الأمين، وهدى به العالمين، ونشر به وقوم به الملة المعوجة، وفتح به الآذان الصم، والقلوب الغلف، والأعين العمي و، مما هو معروف من صفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل عن شخصية غريبة أسطورية لا تظن ولا تتوقع أنها وجدت على هذه الأرض أو توجد، فيصفونه بأنه خلق من نور الله، وأنه وجد قبل الكائنات، وأنه حي أبداً، وأنه يحضر كل مكان يقام له فيه محافل بدعية وما أشبه ذلك، وأنه يتكلم ويرى ويسمع ويخاطب، ويُرى في اليقظة، ويأمر وينهى ويشرِّع، ويخاطب الأولياء ويقول لهم أشياء وصفات غريبة، إذا قارنتها بما تعلم من صفات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، علمت أن هذا ليس هو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي نعرف صفته من القرآن ومن السنة الصحيحة، فبلغ بهم الغلو إلى هذا الحد -نسأل الله العفو والعافية-.
ومع ذلك يزعمون ويدعون أن ذلك محبة واتباع وأن من خالفهم في ذلك فهو عدو للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو مبغض له، وهذا هو المعيار الذي جعلوه، أما ما جعله الله في كتابه فهو قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] وقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] فهذا هو الذي أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به، وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] وقال في سورة النور: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47] وإن ادعوا الإيمان وإن ادعوا المحبة لا يمكن أن يكونوا مؤمنين ولا محبين إذا خالفوا ما أمر الله به وما جاء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأعظم ما جاء به المرسلون صلوات الله عليهم هو التوحيد، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] فهذا أعظم شيء جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجاهد الناس فيه.
وقد قال له ربه عز وجل وهو المجاهد في التوحيد وللتوحيد، والذي سد كل الذرائع إلى الشرك: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66] والخطاب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إمام الموحدين، المجاهد في ذات الله، وعمره كله في توحيد الله يقول له ربه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] وكما قال من قبل لإبراهيم الخليل، وهو إمام الموحدين قبله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج:26] فنهاه عن الشرك كما نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونحن من بعدهما تبعٌ لهما، فإذا كان هذا أعظم ما أمر الله تعالى به وأعظم ما جاء الأنبياء به وعلى رأسهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد ولد آدم يوم القيامة، الذي أظهر الله تبارك وتعالى به الدين القويم، ونشر الله به دينه وأظهره على الدين كله، حتى دانت له الأرض جميعاً إلا ما قل، وإذا كان التوحيد هو أعظم الأمور عند النبي صلى الله عليه سلم فأعدى عدو له هو من يأتي بالشرك، ومن يدعو إلى الشرك، كائناً من كان وزاعماً ما زعم من محبة الله أو محبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فالرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقبل من أصحابه أن يرفعوه فوق منزلته التي أنزله الله إياها، مع ما كانوا يقدرونه ويوقرونه ويعزرونه وهم أعرف الناس بذلك، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: [[ما كان أحد أحب إلى أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أبداً لا يمكن أن يكون أحد، وقال:- وما كانوا يقومون له لعلمهم أنه كان يكره ذلك]] مع هذه المحبة العظيمة للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي كانوا يتتبعون آثار وضوئه، ويأخذون شعره إذا حلق، ويتمنون أن يصافحوه أو أن يروه، فمجرد رؤيته كانت شيئاً عظيماً بالنسبة لهم، ومع محبتهم العظيمة له كان إذا دخل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرادوا أن يقوموا له -لأنهم يشعرون بالمحبة- ولكن لا يفعلون ذلك لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكره ذلك، وقد نهاهم عنه، وقال: {إنما هذا فعل الأعاجم مع ملوكهم} فهذا ليس من دين الإسلام، وليس من اتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا لا يفعلونه مع شدة محبتهم للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تلك المحبة التي كانوا يحتسبونها عند الله على أنها أعظم عمل من الأعمال كما جاء في حديث أنس رضي الله عنه: {قدم أعرابي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وما أعددت لها؟ فقال: ما أعددت لها كثير صيام ولا صلاة ولا صدقة، غير أني أحب الله ورسوله، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المرء مع من أحب، يقول أنس رضي الله عنه: فما فرحنا بشيءٍ يومئذٍ فرحنا بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المرء مع من أحب فأنا والله أحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر وعمر وأرجو أن أحشر معهم}.
فهم كانوا يعرفون المحبة ويحتسبونها كأعظم عمل من الأعمال، ويرجون بها أن يبلغوا من المنزلة والدرجة ما لا تبلغه أعمالهم من المنزلة والدرجة، ولكن مع ذلك ورغم هذه المحبة وعمقها، هل كانوا يخالفون أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى فيما يتعلق بتعظيمه؟ لا، لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سد جميع الطرق والذرائع التي تؤدي إلى ذلك.(6/12)
الأسئلة(6/13)
كيفية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
لقد نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمته عن اتخاذ القبور مساجد فكيف رضي السلف بأن يدخلوا قبره في مسجده، خصوصاً أن ذلك فتح باباً لم يسد إلى الآن؟
الجواب
إدخال القبر في المسجد حدث في زمن قرب المائة أو بعد الثمانين من الهجرة، وهو لم يدخل في الحقيقة وإنما أدخلت حجرات أمهات المؤمنين، وبقي القبر محاذياً، ثم مع الزمن توسع المسجد وصار من حوله فراغات، ومع الزمن وضعت عليه قبة، وهكذا تدرج الأمر كحال غيره من الانحرافات التي وقعت فيها الأمة، فهذا لم يقره السلف الصالح، وإذا أردتم تفصيل ذلك فأقرءوا كتاب الجواب الباهر لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، فإنه تحدث في هذا الموضوع وأفاد وأجاد رحمه الله.
وعلى أية حال فإن كل تغيير حادث يتنافى مع ما أمر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن محبتنا له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإيماننا به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوجب علينا أن نغير ذلك وألا نقره، لكن الأمر حدث بتدرج وحصل بملابسات، وإن فتح باباً لأهل الأهواء لكن الأمر لا يقتضي وقوع ذلك، ولكنهم يتلمسون أن يدخلوا من أي باب، وكتاب الجواب الباهر فيه الغنية.(6/14)
حكم تخصيص ليلة إسبوعية لدراسة السيرة
السؤال
هل هناك فرق بين تخصيص ليلة أسبوعية لقراءة ودراسة سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين عمل مولد كل أسبوع أو شهر، دون تقيد بزمان يعتقد فيه فضل معين له؟
الجواب
عمل مولد، سواء جعلناه مرة في السنة أو مرة في الشهر أو مرة كل يوم، فهذه الكلمة في ذاتها تشعركم وتدلكم على أن الأمر بدعة، لأنه لم يأت هذا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عن الصحابة، لكن لو أردنا -مثلاً- درساً في الحديث أو درساً في السيرة، فهل الدروس وطلب العلم بدعة، أو تحديدها بيوم معين بدعة؟ هذا ليس فيه شيء، بل كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كما في صحيح البخاري يحدث كل خميس، وكان يقول: [[أكره أن أملكم فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتخولنا بالموعظة]] فهذا لا يدخل في البدع، فإذا أردنا أن نعلم الناس في المسجد ونقرأ عليهم سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونعرفهم بسننه وآدابه وشمائله الكريمة، فلا بأس سواء أكان يوماً أم يومين أو في أي وقت، بل كل ما استطعنا إلى ذلك، بل نقول: إن مما يجب على الأمة الإسلامية أن تجعل سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مادة إجبارية في جميع مراحل التعليم ولا نقيد ذلك ونقول: حسب الإمكانيات! ويجب على كل المسلمين أن يتعلموا ما استطاعوا من سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنته وآدابه.
وبهذه المناسبة يوجد أناس يقولون: لا بد أن نعلم أولادنا محبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واقترحوا يوماً في السنة في المدارس الابتدائية لذكرى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولتعلم سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وظنوا أنهم جاءوا بجديد وأنهم عظموا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -نعوذ بالله من الانتكاس- إذا انتكس عقل الإنسان وانتكس إيمانه، فأصبحت محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنده وغاية طلبه أن يجعل يوماً في السنة لذلك، مع ما في ذلك من مضاهاة لأهل البدع في المولد، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: {البخيل من ذكرت عنده ولم يصل علي} فبالله عليكم! أي بخل تصفون به من يقول نخصص للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً من السنة في المدارس؟ فهذا هو أبخل البخل، نحن نقول لو طالبت أو طالب أي إنسان أن تكون مادة السيرة يومياً لقلنا هذا موضوع قابل للدراسة، ونرجو من المدارس أن تحققه، ثم يجب أن نذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاتنا ونصلي عليه، ونذكره إذا سمعنا الأذان، ونذكره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دخلنا المسجد، نذكره في أوقات كثيرة غير ما ورد من ذكره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المطلق، بل يكون ذكره صلى الله عليه وسلم بالامتثال بسنته -فمثلاً- إذا رأيت شاباً مؤمناً يتمثل في مظهره سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنك تذكر في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا رأيت القرآن تذكرت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه هو الذي جاءنا بهذا القرآن، فمتى يغفل المؤمن عن ذكرى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى نقول: يكون له يوم في السنة.
فيجب علينا أن تكون محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تملك شغاف قلوبنا، وكل أمر من أمورنا نزنها بميزانه، ونطبقه على سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيكون تذكرنا له في الحقيقة في كل وقت، وفي كل عمل، فإذا نظرت في الشارع إلى امرأة فأتذكر أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرني أن أغض بصري فأغضه، وإذا سمعت صوتها فأتذكر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن أن أسمع صوت النساء، وهكذا في كل أمر من الأمور أجد أنني ملزم باتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومقتدياً به فيه.
وحسبنا الله ونعم الوكيل وإنا لله وإنا إليه راجعون، وأسأل الله أن يكتب لنا الأجر، ولعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يتيح لنا فرصة أخرى فنجيب على بعض الأسئلة أو نتحدث عن هذا الموضوع، فإننا لم نوف محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حقها، مهما قلنا ومهما تحدثنا، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(6/15)
شبهة القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم خلق من نور وأنه أول المخلوقات
السؤال
ما مدى صحة قول بعض الناس: إن نور الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلق قبل خلق الكون، أو أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أول المخلوقات وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذا من الغلو، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله} وهذا الغلو نقله أولئك الناس عن الأديان الباطلة، ومن المعلوم لمن قرأ دين المجوس أنهم هم الذين يعتقدون في أحد أنبيائهم أنه مخلوق من النور، وأن نوره من نور الله، وأنه خلق قبل المخلوقات، فاتبعنا في ذلك من كان قبلنا -والعياذ بالله- أما رسولنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما من عاقل من مسلم أو كافر إلا ويعلم أنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب إلى آخر النسب المعروف، وأن أمه فلانة، وأنه ولد في مكة، وإذا قلت له: أنه وجد قبل نوح، أو بين عيسى وموسى، يقول لك: لا إنما وجد بعد عيسى، فكيف يكون إذاً أول المخلوقات؟ فهذا كلام كل العقلاء في العالم، لكن من شروط أصحاب الخرافة والغلو والضلالة عندهم حتى تكون خرافياً أن تلغي عقلك أولاً، فلو استخدمت العقل فلن تخرف أبداً، فأي واحد يستخدم عقله لا يخرف، فإذا قلت له: لماذا يحتفل بالمولد، ومولد من هو؟ يقول لك: مولد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولماذا؟ لأنه ولد في هذا اليوم فنحن نحتفل بهذا اليوم، ومتى؟ قال في عام الفيل.
فنقول له: أثناء كلامك في الموالد أنت تقول إنه خلق قبل الكائنات، وأنت تحتفل في ذكرى ميلاده أنه في عام الفيل، أليس في هذا تناقض؟! لو كانت هناك عقول تفكر.
فالمسألة ليست داخلة تحت نطاق العقل، بل قد خرجت من نطاق العقل إلى نطاق الخرافة، والإنسان إذا ألغى عقله فإنه لا يحده حد من الاعتقادات الباطلة والخيالات الكاذبة.(6/16)
الجواب على من يقول: ليس كل بدعة ضلالة
السؤال
كيف نرد على الذين يقولون: ليس كل بدعة ضلالة؟
الجواب
الردود كثيرة وليست رداً واحداً، وحسبك في كل بدعة أن تعلم من أوجدها، ومتى أسست؛ لتعرف هل فعل ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم لا، فأي دليل يريده هذا الذي يجادل ويخاصم والذين يكذبون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {كل بدعة ضلالة} فـ (كل) لفظ كلي، فمن قال: إن بعض البدع حسنة فقد أخطأ، فإذا أتينا إلى الفصل -مثلاً- وقلنا: كل الطلاب حاضرون، ثم قال بعض الإخوان: لا، بعض الطلاب لم يحضروا، أليس هذا نقضاً للكلام الأول؟ فإذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل بدعة ضلالة، ثم يأتي من يقول لا هناك بدعة حسنة، ويستدل بأدلة قياساً أو إما استحساناً، فيلتمس وينتحل من الأدلة التي لا دلالة فيها لقوله ليعارض بذلك وليكذب الدليل الصريح القطعي الذي كان يكرره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبه، وهو: كل بدعة ضلالة، فهو يقر أن هذه عملت بعد وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقرون لكنه يتحمل لها أدلة أخرى، وهذا هو حال أهل البدع، نسأل الله أن يعافينا وإياكم.
واعلموا بأننا لم نكلف بأن يهتدي أهل البدع ولا أهل الشرك، ولا يقل أحدكم تعبت معهم فلم يهتدوا، وإنما أمرنا أن نقيم الحجة عليهم، وأن ندعو إلى الله وأن نبلغ الحق، وإلا فرسولنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا أحد أبلغ منه ولا أحد أنقل للدعوة منه ولا أفضل من صفاته وأخلاقه، مع ذلك فقد كفر به من كفر، وكذبه من كذبه، حتى قاتلوه في بدر وفي الأحزاب وغير ذلك، فنحن ليس علينا إلا البلاغ، فإذا كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه البلاغ فقط، فنحن من باب أولى علينا ذلك، وليس علينا أن يقتنع أولئك، وشبهاتهم لن تنقضِ؛ لأن الدافع لهم ليس الدليل، وإنما مرض في القلب لن ينتهِ إلا إذا تابوا، فمرض القلب دائماً يبحث ويتنقل من دليل إلى دليل، ومن شبهة إلى شبهة حتى ولو لم يجد شيئاً، نسأل الله أن يعافينا وإياكم.(6/17)
إطلاق لفظة (عبقري) على النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
يقال إن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبقري فهل هذا الكلام صحيح؟ أليس مقولتنا هذه تجعله مثل العباقرة الذين ظهروا في التاريخ؟
الجواب
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حسبه من الأوصاف والثناء ما أثنى به عليه ربه عز وجل، فإذا جاءنا أحد وقال هذا عبقري أو عبقرية محمد، أو كان محمد رجلاً محنكاً داهيةً سياسياً ذكياً، وصنع كذا، وحقيقة فإن هذا ما يكتب فيه المستشرقون، ويقع فيه بعض المؤرخين من المسلمين أو من يدعي الإسلام، فتجدون أن هذه الصفات تتجرد وتخلو عن وصفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرسالة وبالنبوة في الأعم الأغلب، هذا يقول: عبقرية محمد، وهذا يقول: بطل الأبطال، وهذا يقول: الرجولة عند محمد، وكل ذلك يقتضي ولو بالتلميح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس السر فيما حقق وأنجز هو الوحي الذي أوحاه الله إليه، واختصه به، واصطفاه به دون العالمين، إنما هو عبقري والعباقرة كثير، فلو ترجع لكلامهم تجدهم يقولون: حمورابي عبقري، حتى فرعون عندهم عبقري، وأديسون عبقري، وهتلر عبقري، وماركس ولينين، إذاً العبقرية وصف إنساني، وهو وصف عام مشترك، فهذا لا يجوز.
فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو رسول الله، والله سبحانه قد وهبه كمال العقل ووهبه كمال الخلق، ولكن أعظم وصف له، وسبب كل ما ناله من الله تعالى وأظهره على يديه من الخير؛ هو أنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصطفاه بذلك وأظهره على العالمين، وشريعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليست نتاج عبقريته، فهو لم يشرع الحدود ويشرع كذا لأنه عبقري، لا، إنما هي وحي: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:45] فهذا حكم الله وهذا أمر الله، وانظروا إلى سورة النور وفيها الحدود العديدة: حد الزنا، وحد القذف، وما أشبه ذلك، ماذا قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور:1] فالذي شرع هذه الحدود هو الله، وقال في الآية الأخرى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] فالأمر فيها لله، والذي حكم بها وقضى فيها هو الله، وليس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس ذلك هو نتاج عبقريته.(6/18)
جهاد النفس في عمل الطاعات
السؤال
أخ يقول: أنا أحب الله عز وجل وأحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر من كل شيء، ومصدق لكل ما جاء به، ولكني في بعض الأحيان لا أعمل بفضائل الأعمال لكسل مني فهل هذا يجرح في محبتي هذه؟
الجواب
هنيئاً لهذا الأخ أنه يحب الله ويحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر من كل شيء، ونسأل الله سبحانه أن يثبته على ذلك، وأن يجعلني وإياكم ننال هذه الدرجة.
ونقول لهذا الأخ: جهاد النفس لا بد منه، فـ حنظلة وجد ذلك في نفسه، {فمر بـ أبي بكر وهو يبكي فقال مالك يا حنظلة قال نافق حنظلة يا أبا بكر نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة كأنه رأي عين فإذا رجعنا إلى الأزواج والضيعة نسينا كثيرا قال فوالله إنا لكذلك، فذهبا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ}.
فالنفوس مثل الترمومتر ترتفع وتنخفض، فإذا حصل لك نقص وشعرت بشيء من هذا فحاول أن تقوي إيمانك وأن تحافظ عليه في الدرجة العليا، فلو أن الإيمان إذا وصل إلى درجة عالية يبقى على ذلك لكنا في غاية السعادة؛ لأنه ما من مؤمن ولا عبد لله عز وجل إلا ويمر به حالات يحس فيها بطعم الإيمان وبلذة الإيمان، لكن لا تدوم لنا، هذه هي المشكلة أو هذه هي المصيبة أنها لا تدوم لنا، فتسمع كلام الله عز وجل فيرق قلبك وتدمع عينك، وتتذكر الآخرة، وتنظر إلى ملكوت الله عز وجل، فتشعر بأنك في درجة من اليقين تتمنى ألا تذهب عنك، لكن ما الذي يحصل لك بعد فترة؟ تسمع نفس الآيات ولا تشعر بذلك الشعور، وتنظر نفس النظر في الكون فلا تشعر بذلك الشعور، وتتأمل وتفكر وتجاهد نفسك وإذا بك تشعر أن إيمانك ليس بذلك، فهذا هو دور الجهاد، وهنا محل الجهاد ومحل السباق بين المؤمنين، فعلينا أيها الإخوة الكرام -أوصي نفسي بهذا أولاً وأوصي إخواني وأنصحهم لله عز وجل- أن نبذل جهدنا ما استطعنا بأن نرفع درجة إيماننا ومحبتنا لله ومحبتنا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والله سبحانه يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] فنرجو أن يحقق الله لنا ذلك بجهادنا له.(6/19)
حكم لفظة (والنبي)
السؤال
ما رأيك في قول: والنبي، ليس بنية الحلف، وإنما معناها عند قائلها لو سمحت، كما تقول: والنبي أعطني القلم؟
الجواب
الحلف بغير الله عز وجل شرك، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك} فالحلف بغير الله لو أتى على لسانك بغير قصد، نقول: كفرِّها كما كان أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكفرون، فعندما أسلم أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانوا في جاهليتهم يحلفون باللات والعزى وكان يسبق أحياناً على لسان أحدهم أن يقول: واللات والعزى، لأنهم بشر وحديثو عهد بإسلام، والقلوب تحتاج إلى تنقية وجهاد، فعلمهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا فعلوا ذلك أن يقولوا: {أشهد أن لا إله إلا الله}، فقل: لا إله إلا الله، ووحد الله لتتخلص من شائبة الشرك التي وقعت فيها حينما حلفت بغير الله، وأرغم نفسك وجاهدها على ألا تقع في الشرك، ولو كان ذلك في شرك الألفاظ، نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لاجتناب الشرك دقيقه وجليله.(6/20)
حكم انتقاص أهل العلم
السؤال
ما حكم من يسب أحد رجال العلم وأئمة الإسلام وشيوخه ويدعي أنهم كاذبون، وكيف يعامل مثله؟
الجواب
هؤلاء الذين يسبون علماء المسلمين المشهود لهم بالخير والفضل والمكانة، والذين لم ترتفع كلمتهم عند الأمة إلا لتعظيمهم لأمر الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ألم تسمعوا ما ذكرناه من حال الذين أنزل الله تبارك وتعالى فيهم: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65] فهم استهزءوا بالقراء، فالذين يستهزئون بعلماء الإسلام الأجلاء المجمع على فضلهم ومكانتهم واتباعهم لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحرصهم على ذلك، ويحتقرونهم، وينتقصونهم، إن كان ذلك منهم احتقاراً لما هم عليه من التوحيد ومناقضة البدعة، فهذا عين ما وقع فيه المنافقون، فيقال لهم ما قاله الله تعالى لأصحابهم -نسأل الله العفو والعافية-.
وإن كان لصفة شخصية أو عيب في الخلقة، أي: لا لدينه ولا لعلمه ولا لدعوته إلى السنة، فإن هذا يعد كبيرة، لأن الاستهزاء بالمسلم كبيرة، أيُّ مسلم: {بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم} فإذا كان أخاك المسلم: أخاك، أو جارك، أو زميلك تحقره فهذه كبيرة، فكيف إذا احتقرت علماء الإسلام واستهزأت بهم؟! وهذا يشعر الناس بأنه احتقار لما هم عليه من العلم والدين، فأمر هؤلاء الناس -نسأل الله أن يعافينا وإياكم من حالهم- دائر بين النفاق القلبي المحض وبين الوقوع في كبيرة من الكبائر، ونرجو الله سبحانه أن يعافي قلوبنا وقلوبهم وقلوب المسلمين من ذلك، وأن يقدر الإنسان حق قدره ولا نظلمه كائناً من كان، فإننا أمرنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة:8] وفي آية أخرى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:135] فلو كان رجل من أهل البدع وله حسنات، وله باع في العلم وله باع في الجهاد، وله باع في إنكار المنكرات الظاهرة، ولكن مع ذلك فيه بدع، لما جاز لنا نحن أهل السنة أن نغمط قدره، ونجحد علمه، ونجحد إنكاره المنكر وجهاده، فهذا لا يجوز، فنحن أمرنا بالعدل ونحن أمة العدل، فإذا لم تعدل الأمة الإسلامية فمن يعدل؟! لكن هناك أناس أكل الحقد قلوبهم فأعماهم وأصمهم عن العدل، فتجدهم يجحدون كل فضائل الإنسان، لأنه يقول: قال الله وقال رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا قال ذلك وسمعه الناس ظنوا فيهم أنهم على بدعة وهم كذلك، فهذا لا يجوز منهم نسأل الله أن يهدينا وإياهم.(6/21)
فعل الكبائر ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
هل يكون فعل المعاصي الكبائر كانت أو الصغائر، منافياً لمحبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن} علماً بأن اقتضاء محبة الله طاعته في كل أمر ونهي؟
الجواب
نعم، مقتضى محبته وطاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا ترتكب الكبائر، فمن ارتكب هذه الكبائر الموبقات فإن ذلك دليل على أنه غير محبٍ للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وانتفاء ذلك كلياً إن استحلها، وإما ناقص المحبة إن لم يستحل ذلك، لكن يأتي الإشكال في قول بعض الناس: إن الرجل الذي كان يدعى حماراً والذي جلده النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شرب الخمر وهو من الصحابة، {فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تلعنوه، فإنه يحب الله ورسوله} فإذا قال قائل هذا يحب الله ورسوله ومع ذلك شرب الخمر، فهل هذا ينافي ما تقولونه من أن محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تستلزم وتقتضي ألا يعصى أمره وألا ترتكب الكبائر؟ نقول: لا منافاة، لأن هذا الرجل نطق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق وأخبرنا أنه يحب الله ورسوله، مع أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث آخر لما جاء سعد بن مالك يزكي رجلاً قال: {يا رسول الله، إن علمناه لمؤمناً، فقال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو مسلماً، فيكررها: إن علمناه لمؤمناً، فيقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو مسلماً} فهو يزكيه والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقلل من ذلك ولا يجعله في درجة المؤمنين بل في درجة المسلمين وهي أقل، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطلعه الله أن هذا ليس بمؤمن بل مسلم، وأطلعه على أن هذا وإن شرب الخمر فإنه يحب الله ورسوله.
فنقف عندما أخبرنا به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذه خصوصية له، ونحن لا نعلم القلوب ولا نعلم الغيوب، ولكن نحن نرى الظاهر، فظاهر من عصى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدل على أن قلبه خال من محبته الكاملة أو من محبته بالكلية -عافانا الله وإياكم من ذلك- هذا بالإضافة إلى ما قيل أن هذا الرجل كان بدرياً، وأصحاب بدر تعلمون حالهم وشأنهم، فإذاً القاعدة على عمومها، كل من عصى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخالف أمره فلا بد أن ذلك نقصاً في محبته له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن ادعى من المحبة ما ادعى.(6/22)
إطلاق لفظ سيدنا على الرسول صلى الله عليه وسلم
السؤال
ما رأيكم فيمن يقول: سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
الجواب
الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صح عنه في حديث الشفاعة أنه قال: {أنا سيد ولد آدم يوم القيامة} ولا شك عندنا في أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو سيد ولد آدم كما أخبر، وسيد الأولين والآخرين، وهو سيدنا نعم.
لكن الخلاف بيننا وبين أهل البدع ليس في أننا لا نقول: سيدنا، وهم يقولون: سيدنا، لا الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين أهل الضلالة والشرك أن أهل السنة والجماعة يقولون: عبد الله ورسوله، ويثبتون له السيادة دون أن يدخلوها في الصلاة أو في الأذان ولكنها ثابتة له، وأما أولئك فإنهم يؤلهونه.
فحقيقة الخلاف هي في: هل هو إله أم بشر؟ لا بكونه سيداً أو غير سيد، يريدوننا أن نقول إنه إله، لكن لا والله لا نقول: ذلك، وإن غضبوا مهما غضبوا، وإن اتهمونا بأننا نكرهه -والعياذ بالله-، لا والله لا نقول بأنه إله، وإنما أمرنا أن نعبد الله وحده فقط، وأمرنا كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له} هو بُعث لذلك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا الذي دعا إليه ونحن ندعو إليه مع قوله: {وكتب الذل والصغار على من خالف أمري} فنحن نؤمن بذلك ونقول: كل من خالف أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو اتنقص قدره فهو الأذل، وهو الصاغر وهو الأبتر: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر:3] وكل من أبغض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا نصيب له في الإسلام أبداً، ولكن لا نقول إنه إله، حاشا والله.
فهذه الكلمة نقولها ونستخدمها، ولكن هل نقول في صلاتنا ونحن في التشهد: اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، لا نقول ذلك، فإن قيل: لماذا تكرهون الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، -عياذاً بالله-؟ فنقول: إن هذا لم يرد، وما علّم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه الصلاة عليه بهذه اللفظة، بل كان يعلمهم ذلك كما يعلمهم السورة من القرآن، فهل علمهم فيها (سيدنا)؟ لا، لم يعلمهم، إذاً فلا نقولها، فإذا كنت أنا أتكلم وأخطب في مكان وقلت: وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، أو مثلاً: هذا ما قاله سيدنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا لا شيء فيه، فهذا الكلام خارج مواضع القيد والمواضع التي يجب علينا أن نتعبد فيها.
ثم نعود للقضية من جانب آخر، وإن كانت قد لا تستحق، لكن لأنها تدلكم على أصل الموضوع بين أهل السنة وبين أهل البدعة، وهي وصفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسيادة، فهل فيه توقير وتعزير له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورفع لشأنه أكثر من وصفه بالعبودية والرسالة؟ انظروا إلى حال العرب في الجاهلية، كيف كانت منزلة أبي جهل في قريش؟ تقول: كان سيد قريش، وكيف كانت منزلة فرعون في قومه؟ كان سيد قومه، وهتلر سيد النازية، وفلان سيد الشيوعية، فكلمة سيد بذاتها لا تقتضي مدحاً ولا ذماً، ولهذا نقول -مثلاً- إن سعد بن معاذ كان سيد قومه، وهو من أفضلهم ومن أبرهم ومن أتقاهم، ونقول: عيينة بن حصن سيد غطفان كان سيد قومه وهو شرهم قبل أن يسلم، فالمسألة أن السيادة في ذاتها لا تقتضي مزيد اختصاص ومدح، ولهذا الذين يقولون هذه اللفظة ويجادلون فيها يقولون: سيدنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسيدنا أبو بكر وسيدنا عمر وسيدنا عثمان، وسيدنا علي، وهذا لفظ يشترك معه فيه الصحابة وغيرهم، كما يقولون أيضاً سيدنا الشافعي، وسيدنا أبو حنيفة، فهم الآن جاءوا بألفاظ يشترك فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيره معه، ونحن إذا قلنا: عبده ورسوله، جئنا بوصف لا يشاركه فيه أحد، إذاً أي الطائفتين أحق بمدحه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبتوقيره وبإنزاله منزلته؟ بلا شك أن الجواب واضح.(6/23)
حكم الطعام الذي يقدم في الموالد
السؤال
يزعم أصحاب البدع أن الطعام يكثر في الموالد مع أنه قليل الكمية وذلك ببركة الموالد وهذا الزعم يصدقه العامة؟
الجواب
على كل حال إذا صدق العامة بالبدعة من أساسها، فلا غرابة أن يصدقوا بلوازمها وتوابعها، فيقال: إن الطعام يكثر؛ لأنه أقيم في هذه البدعة، وهذا الطعام مما لا يجوز تناوله فكيف يبارك الله عز وجل في أمر مبتدع، ولا يجوز للمسلم أن يشارك فيه؛ لأنه ما عمل إلا من أجل هذه البدعة، فالعوام لا عبرة بما يفعلون.(6/24)
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
في يوم الجمعة والإمام يخطب وأنا أصلي، والإمام ذكر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهل أصلي عليه أم عندما أنتهي من الصلاة؟
الجواب
الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واجبة، وعلى القول الصحيح هي ركن من أركان الصلاة، وهذا يدل على أن المؤمن يصلي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل صلاة من صلواته، غير ما يصلي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا ذُكر، وغير السنن الواردة في المواضع التي يصلى فيها على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكل ما كان الإنسان أكثر التزاماً بالسنة وأكثر اتباعاً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أكثر صلاة عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن لا نصلي عليه إلا بما ورد، وفي المواضع التي وردت -أي بالتقييد-، فمثلاً: إذا كان الإنسان يصلي فإنه لا يقطع قراءته في الصلاة ليصلي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنما يصلي عليه في موضعها من صلاته، ثم يصلي عليه بعد سلامه، ويكثر من الصلاة عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا من أعظم القربات ومن أعظم الأذكار، كما روى الإمام أحمد رضي الله عنه: {أنه ما جلس قوماً في مجلساً لم يذكروا الله تعالى فيه ولم يصلوا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا كان حسرة عليهم يوم القيامة} حسرةً وندامة لأنهم لم يذكروا الله ولم يصلوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(6/25)
حكم كتابة (ص) بدل صلى الله عليه وسلم
السؤال
الاكتفاء بحرف الصاد في الكتابة عند الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
الجواب
الذي ينبغي أن نعمله وأن نبادر إليه هو أن نصلي عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفظاً كاملاً ونكتب ذلك كاملاً، ولكن لو أن أحداً لم يكتب ذلك أصلاً عندما كتب الكتاب واكتفى بالصلاة والسلام عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باللفظ فإن ذلك جائز، ولذلك نجد بعض المخطوطات من كتب السلف، ليس فيها هذا الشيء مكتوباً، ولا نظن فيهم أنهم لم يقولوه لفظاً أبداً، فالواجب علينا ونحن نقرأ ذلك إذا قرأنا ذكره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلفظنا به كما هو ظننا بـ السلف الصالح أنهم تلفظوا به، هذا والله أعلم.(6/26)
حكم شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
ما حكم زيارة المدينة؟ وكيف يكون السلام على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وما حكم اصطحاب النساء معنا في الزيارة؟
الجواب
النساء يسافرن السفر الواجب والمسنون مع الشروط الشرعية مع ذي محرم، فالمرأة التي تسافر للحج إذا كان واجباً عليها كحجة الإسلام، وكذلك إذا كان الحج أو العمرة تطوعاً فلها أن تسافر، وتشد الرحل لأنه في عمل طاعة، وكذلك زيارة مسجد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي من الطاعة ومن القربات، فللمرأة أن تسافر مع محرمها لزيارة مسجد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا شيء في ذلك، بل لها الأجر كما لمحرمها أو وليها -إن شاء الله تعالى-.
أما زيارة القبور إذا وصلت إلى المدينة، فليس لها أن تذهب إلى البقيع، وإلى قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتزاحم الرجال، وتذهب إلى قبور أخرى، وإذا كنا نحن الرجال يجوز لنا أن ننوي بالزيارة زيارة مسجده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا زيارة قبره، فما بالك بالنساء اللاتي نهين عن زيارة القبور على أصح قولي العلماء.
وأما الرجل فإنه يزور القبور كما أمر وشرع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى عند السلام على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يسلم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى صاحبيه بأدب وبتوقير، كما كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يفعل: [[السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه]]، ويسلم على أهل البقيع بما ورد، ويسلم على شهداء أحد كما ورد، ويزور القبور كما نفعل نحن في مكة قبل أن نرحل ونسافر، ولا نتجاوز ما ورد في ذلك.
وأما زيارة قبور النساء فقد ورد النهي فيها، ولهذا قلت: على أصح قولي العلماء، فلو أنها - مثلاً- في مكة، فعلى القول الراجح الصحيح لا تزور القبور في مكة، ولكن البعض يفهم أنه لا تشد الرحال لزيارة المدينة، فنقول: لا، إذا شددت الرحل لزيارة مسجد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يجوز، ولو أن أحداً من الرجال شد الرحل لزيارة قبر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يكون مبتدعاً، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد} أي: لزيارة المسجد لا القبر، فالمرأة حكمها بذلك حكم الرجل، فهذا سفر سنة، وشد الرحل سنة وقربى من القربات، فتذهب معه إلى المدينة، وتزور معه المدينة وتزور مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتصلي فيه كالرجل، لكن لا تذهب إلى القبور، بل يذهب الرجل وحده وهي لا تذهب.(6/27)
ثبوت أن أبا النبي صلى الله عليه وسلم في النار
السؤال
قال بعض الناس في الحديث الذي يقول فيه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عندما جاء رجل يسأله عن أبيه، فقال له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أبي وأبوك في النار}، فقال هذا الرجل: إن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك وهو عضبان، ولكن نرجو أن يكون أبُ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجنة؟
الجواب
هذا الكلام من التأويل الباطل الذي يفسد الحديث، لأن الله سبحانه قد برأ نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أن يقول الكذب، حتى وإن قلنا أنه قال قولاً وهو غضبان، لأن الله سبحانه يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] فمن يؤول ذلك ويقول أن حديث {أبي وأبوك في النار}، قال ذلك وهو غضبان فهذا كذب، ولو أن شخصاً قال لك -حتى وهو غضبان- سأعطيك كذا لو فعلت كذا وكذا، وتبين لك خلافه، فتعتقد أنه كذب عليك، وإن كان قالها وهو في حالة غضب، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينطق عن الهوى.
ولهذا لما كان بعض الصحابة يكتب حديثه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال بعضهم الآخر: {تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا فأمسكت عن الكتاب فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم -فهل قال: اكتبوا عني في الرضا؟ ولا تكتبوا في الغضب؟ - قال: اكتب فو الذي نفسي بيده ما يخرج مني إلا الحق} ثم إن الحديث ليس فيه غضب: {أبي وأبوك في النار} هذا الحديث ليس فيه غضب ولا ما يستدعي الغضب، فلا يرد كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الواضح الصريح بأقاويل الناس كائناً من كان.(6/28)
وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
يقول البعض إن محبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقتضي اتباعه، لكنها أيضاً أمر عاطفي زائد على الاتباع، فما حكم الإسلام في هذا؟
الجواب
نقول: نعم، فهي ليست أمراً عاطفياً فحسب، فالمحبة عمل قلبي من أعمال القلوب؛ بل كما قال السلف أساس كل عمل من أعمال القلوب والجوارح المحبة، كما أن أساس كل قول من أقوال القلوب والجوارح هو الصدق، فالمحبة والصدق هما أساس أعمال القلوب، كما أوضحنا ذلك في المقدمة، فإذاً محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمل من أعمال القلوب، ومقتضاه انقياد القلب وانقياد الجوارح، فهي بذلك أمر زائد على ذلك، هذا الذي رأيته وتأملت فيما جاء في الكتاب والسنة والله تعالى أعلم.(6/29)
ابتداع المولد
السؤال
يقول الأخ: من هو أول من ابتدع الاحتفال بذكرى المولد وقد سمعت شريطاً للشيخ القطان أنه أبو سعيد الكبري، أو قريب من هذا الاسم، وقال إنه من القرن السابع أو السادس، فما صحة هذا جزاكم الله خيراً؟ سؤال آخر: نريد جواباً حول المولد من أول من ابتدعه، وما حكم فعله؟
الجواب
نقول إذا بينا أنه مبتدع فقد اتضح لكم حكمه، ثم إن المحقق أن أول من ابتدأ الاحتفال بما يسمى المولد النبوي هم العبيديون الفاطميون، وهم -كما أسلفنا- عبيديون من يهود الفرس، فهم يهود ومجوس، أرادوا تدمير الإسلام وهدم الدين، وتعاونوا مع الصليبيين الذين جاءوا لاحتلال بلاد الإسلام، وسيرتهم معروفه، وما قاله فيهم علماء الإسلام الثقات معروف ومذكور، فكانوا زنادقة ملاحدة، كما قال فيهم الإمام الغزالي، وصدق هذه العبارة ابن تيمية: كان ظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض، أي ظاهراً هم رافضة شيعة، لكنهم واقعاً كانوا ملاحدة زنادقة، فهذا هو القول الصحيح في أول من ابتدع المولد، لكن لماذا فعلوا ذلك؟ هنا تختلف آراء وتحليلات المؤرخين.
فبعضهم يقول: إنهم احتفلوا بالمولد ليصرفوا الناس عما يعلمونه فيهم من الإلحاد ومن البدع ومن الزندقة والضلال، فيخدعون العوام ويقولون لهم: إننا نحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن نسبنا إليه حقيقي بدليل أننا نحتفل بمولده ونعظم ذكرى مولده، هذا قول أو موجز للقول الأول.
القول الثاني: قال بعض المحللين: لا، هؤلاء القوم يهود، ويبغضون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويبغضون دين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويعلمون أن جدتهم اليهودية قد وضعت السم في ذراع الشاة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأكل منه، فقطع أبهره فكان ذلك سبب وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهم يحتفلون بذكرى مولده في الثاني عشر من ربيع الأول، وهي ذكرى وفاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهي ذكرى موت عدوهم اللدود الذي طردهم من المدينة وأجلاهم منها، وأذهب دينهم وملكهم ومجدهم، وانتقمت منه جدتهم اليهودية بهذا العمل فيخلدون ذكرى هذه الجدة اليهودية، ويريدون أن يحتفلوا بذكرى موت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويجعلونها عيداً يتفاخرون به.
والواقع أننا إذا نظرنا إلى كلا التحليلين ونظرنا إلى واقع العبيديين فإننا نجد أنه لا تعارض بينهما، وأن القول الثاني أقرب، لأن العبيديين كانوا كما ثبت، والآن قد اتضحت كتبهم ونشرها أتباعهم الذين إلى اليوم يسمون بالفاطميين، وهم فرقتان الأغاخانية والبهرة، وكلا الفرقتين نشرت كتبهم، وما ثبت وصح عنهم عن الحاكم العبيدي وغيره: أنه كان لا يؤمن بالله ولا يؤمن باليوم الآخر ولا يؤمن بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنهم كانوا أعدى أعداء المسلمين، فقد افتعلوا هذا الاحتفال لأنهم وجدوا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد لقي ربه ومات في هذا اليوم، فيحتفلون بذلك، هم في أنفسهم جعلوه عيداً لذكرى وفاة عدوهم الأعظم، وبالنسبة للأمة المخدوعة جعلوه ملهاة لهم، ويزعمون أنهم يحبون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنهم من ذريته، فيجتمع فيهم كلا الأمرين، وهذا هو أصل هذه البدعة.
ثم فيما بعد انتشرت في البلاد، ثم وضع وأدخل فيها ما أدخل، حتى تحولت في كثير من الأحيان من مجرد بدعة إلى أن أصبح فيها الشرك الأكبر -والعياذ بالله- كأن يقال فيها أو في أناشيدها:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
وما أشبه ذلك من قراءة الموالد البدعية التي في بعضها إخراج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن حد العبودية ومقامها، إلى درجة الألوهية.(6/30)
محبة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
السؤال
من معاني محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محبة أهل بيته حتى ولو كانوا على غير هداه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كيف تردون على هذا؟
الجواب
محبة أهل بيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هي تبع لمحبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي مما يقره أهل السنة والجماعة ويؤمنون به، وإمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله لما ضربه المعتصم وعذبه وآذاه في ذات الله عز وجل، حتى أنه ضُرب فانفتقت خاصرته وخرجت منها أمعاؤه، وكاد أن يقضى عليه، فجاءه بعض أصحابه وأصفيائه، وقالوا له: يا إمام! لم لا تدع الله على هذا الظالم؟ وكان الإمام أحمد معروفاً عنه في أصحابه وفي من عاشره أنه كان مجاب الدعوة لصلاحه ولفضله ولاقتدائه بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكانوا يرون أنه لو دعاء على هذا الظالم لاستجاب الله تعالى دعوته، هكذا ظنهم في الإمام أحمد، لما يرون فيه من شدة التمسك بالسنة، فقالوا: ادع الله على هذا الظالم -أي المعتصم - فقال الإمام أحمد: 'لا أفعل ذلك، فإنني قد استغفرت له، ودعوت الله أن يغفر له لقرابته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ' فانظروا إلى محبة أهل السنة لآل بيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى وهو يفعل ذلك؛ فلقرابته من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعلته يقول أنا أغفر للمعتصم ذلك، ولا أطالبه بشيءٍ ولا أدعو عليه؛ بل لا أطالبه أمام الله عز وجل لقرابته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأكثر الناس حباً -المحبة الحقيقية الشرعية- لآل البيت هم أهل السنة والجماعة.
وأما غيرهم فإنه: إما عظمهم وألههم، وإما كفرهم وفسقهم -والعياذ بالله- لكن من خرج من آل البيت عما شرعه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه لا ينفعه ذلك فهذا عمه أبو طالب الذي حمى الدعوة ونصرها وأيدها، لمّا لم يذعن لأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشهادة، لم يكن من المؤمنين، فكل من خرج عن دين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينفعه ذلك، ولذلك قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا فاطمة بنت محمد يا كذا يا كذا لا أغني عنك من الله شيئاً، فكل من خرج عن ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مهما كانت قرابته فإن ذلك النسب لا ينفعه أبداً، ولا ينفعه إلا أن يكون على ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأولى الناس بأن يقتدوا به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يدافعوا عن سنته وأن يمنعوا الابتداع في الدين هم آل بيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فنحن نعرف لهم حقهم وقدرهم، كما أوصانا بذلك نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونطيع وصيته فيهم، ولكن أيضاً نوصيهم وندعوهم ونأمرهم بما أمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به من تقوى الله والتمسك بالسنة وعدم الخروج عليها، فهذا أيضاً من حق آل بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علينا، فإذا جيء بمن ألحد أو أشرك منهم فلا كرامة له حينئذٍ لأننا عرضناه على ميزان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوجدناه بريئاً منه تمام البراءة فإذاً نحن كذلك نتبرأ منه.(6/31)
الانتساب إلى آل البيت
السؤال
هل بقي من آل البيت أحد؟
الجواب
لم ينقطع آل بيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهم موجودون، لكن لو كان السؤال: هل ادعى أحد أنه من أهل البيت وليس منهم؟ نقول: نعم، وأكبر مثال على ذلك أولئك المجوس الملاحدة العبيديون الذين يقولون نحن فاطميون، يدعون أنهم من ذريه فاطمة رضي الله عنها، وهم في الحقيقة يهود مجوس من الفرس، وثبت ذلك عند الأمة، والعلماء في ذلك محاضر ودونوا ذلك في الكتب، وأنهم ليسوا من ذرية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وغيرهم يشابههم كثير، فهذا واقع، لكن ذلك لا يعني أنه لم يبقِ من آل بيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحد، فهم موجودون ومعروفون والنسب الصادق واضح، وهم معروفون سواء في هذه البلاد أو في غيرها.(6/32)
كيف تنال شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
هناك من يدعي أن محبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يستشفع به، فكيف تردون على هذا؟
الجواب
الذين يطمعون ويريدون ويرغبون في شفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويأملونها -ونحن منهم وأنتم منهم نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لذلك- كثير ويريدون ذلك، والله سبحانه كريم فهل ضيق الله سبحانه هذا الأمر وهذا الطلب الذي يحبه عباده المؤمنون؟ فالله من كرمه ومنَّه وفضله على هذه الأمة أن جعل الوسيلة والثمن المقدم لشفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمراً ميسوراً متكرراً يغفل عنه أكثر المسلمين، ثم يذهبون ويقعون في الشرك الذي يخرجهم من الدين، ويخرجهم من محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويظنون أنهم بذلك ينالون الشفاعة، لا والله، فشفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تنال بالشرك وإنما تنال بأمر هين ولكنه عظيم، هين لا مشقة للنفس والجسد إذا عملت به، وعظيم إذا أخذناه بقلب صادق وعملنا به بقلب صادق، والتزمنا بفعله، فبماذا ننال شفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ إذا أذن المؤذن وقلنا ما صح وما ورد مما تحفظونه جميعاً، فقد وعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من قال ذلك بقوله: {كنت له شفيعاً يوم القيامة} سبحان الله! فلا يوجد مسوغ للذهاب إلى الشرك والبدع، فهذا الذكر هو مما يؤهلنا لنيل شفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
انظروا كيف يكون حال أهل البدع مشابهاً لحال اليهود الذين يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، ففي ديننا فسحة وسعة، حتى التوسل إلى الله سبحانه بأسمائه وصفاته ما أعظم ذلك وما أكثره، حجبونا عن ذلك كله على كثرة ما جاء في القرآن والسنة، وقالوا لا يوجد غير التوسل بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجعلوا الوسيلة التي أمر الله تعالى بها في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] التي هي كل عمل صالح يقرب إلى الله حصروها هم فقط في الذوات، أن تتعلق بذوات المخلوقين من نبي أو ولي، فانظروا كيف يحجرون رحمة الله الواسعة، وكيف يخرجون الأمة من الطريق المستقيم السهل إلى الأساليب التي تخرجهم إما عن الصراط المستقيم وإما عن الدين بالكلية، عافنا الله وإياكم.(6/33)
مدح النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
إذا قيل أن من معاني محبة المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التغني بشمائله وصفاته الخلقية وسماته الجمالية، إلى درجة العشق، فكيف تردون على هذا؟
الجواب
نعم هذا واقع، من الناس من لا يقرأ من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم إلا صفاته الخَلْقية، ويغفل عن صفاته الخُلقية وهي في الدرجة العليا، فالله اصطفاه واختاره حتى في خلقته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن ليس معنى هذا أننا نشتغل بهذا الجانب ونتغنى به ونردد فيه الأشعار والقصائد ونترك الجانب الأعظم والأمر المهم.
انظروا كيف كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وهم الذين عرفوا محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إن أعظم ما اهتموا به هو طاعته واتباع أمره، والاقتداء بسنته ولم يغفلوا أيضاً الجانب الآخر، لكن يجعلون لكل شيء قدره الشرعي الصحيح.
ولننظر إلى شعب الإيمان، ولنقس على هذا لتقريب كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان} فشعب الإيمان أي: درجات منها ما هو أعلى ومنها ما هو أدنى، فإماطة الأذى عن الطريق لا نستهين بها ولا نحتقرها فهذا خطأ، وكذلك من الخطأ أن نجعلها في درجة الحياء، أو أن نجعلها في درجة شهادة لا إله إلا الله.
وأضرب مثلاً لتقريب ما أقول: وذهبت إلى أمريكا لكي أدعو الأمريكان إلى الله، وقلت لهم إننا كنا أمة جاهلية في ضلال وفي كذا وكذا، كما كان العرب في الجاهلية، فبعث الله تعالى فينا رسولاً، أغر الثنايا، أكحل العينين، أجردٌ أزهرٍ وذكرت كل ما جاء في صفاته الخَلْقية، هل أنا في الحقيقة بهذا العمل أُعرِّف الإسلام حقيقةً، وأُعَرِّف دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا لا شك أنه مما جاء من صفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن عندما وصفته لهم بهذا الشكل أكون مسيئاً؛ لأنني وضعت الشيء في غير موضعه، بل عليَّ أن أصفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأعظم أوصافه، فيما دعانا إليه من التوحيد، وبما أنقذنا به من الضلالة، وبما أخرجنا به من الظلمات إلى النور، وما أمرنا به، فإذا تعرضت له في ذاته ولأخلاقه أذكر كرمه وحلمه وصدقه وأمانته، ثم أتعرض بعد ذلك لصفاته الخلقية، فلابد أن نضع الشيء في موضعه الصحيح، كذلك عندما نعلم أبناءنا وأنفسنا ونقرأ سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونهتم بها، فإن علينا أن نهتم بأعظم شيء وهو ما دعا إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو توحيد الله ومحبه رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووجوب التزام أمره، وكيف كان يعبد ربه عز وجل فنعبد ربنا كما عبده، ثم بعد ذلك نبين صفاته وشمائله، أما أن يأت قائل ويقول: القمل لا يؤذيه والذباب لا يقع عليه، وكان وكان حتى ينتحل هذه الأشياء، فالقوم أتوا بما لم يرد، ويظنون أنهم يعظمون بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنهم يعرضون له قدوة حسنة أمام الناس، وأن ذلك مما يجعل المسلمين يحبونه، ويجعل الكافرين يتبعونه ويؤمنون به، فهذا مثل ما تقدم عن عابد بني إسرائيل، ومثل ما قلنا عن علي بن الجهم عندما وصف الخليفة، فهؤلاء يتكلمون بالشيء الذي يظنون أنه غاية في المدح، وهو في الحقيقة إن لم يكن فيه ذنب -كما وجد من بعض من وصف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأقل ما فيه أنه ليس هو الذي يوصف به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الحقيقة.(6/34)
التوحيد والفرقة
السؤال
هناك شبهة تقول إن الدعوة إلى التوحيد ونبذ البدع يؤدي إلى تشتيت الأمة وفرقتها رغم أنها بحاجة إلى الاتحاد والتعاون؟ فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
الحقيقة أن الأمة الإسلامية اليوم مفرقة، لا يماري في ذلك أحد، فلا تكاد تجد رجلين على قلب واحد، فهي أمة مفرقة ممزقة، والذي يدعوها إلى الكتاب والسنة لا يفرقها -وهي في الواقع مفرقةٌ أصلاً- وإنما يدعوها إلى ما أمر الله سبحانه به حين قال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] فلم يقل واتحدوا، ولم يقل ولا تفرقوا -فقط- بل قال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] أي تمسكوا بصراطه المستقيم ولا تفرقوا عنه، فليس الأمر مجرد اجتماع، فهل يرضى أي مسلم أن تجتمع الأمة على الشرك والبدع؟! إذاً: فلا بد أن نجتمع على الكتاب والسنة، وهل هذه الدعوة مسموعة مقبولة؟ لو دعوت الناس أنت للاجتماع على الكتاب والسنة، أو إذا دعوت أمة الإسلام إلى الاجتماع على الكتاب والسنة، هل دعوتك مسموعة؟ في الواقع لا، وإنما سيتبعك ويسمع منك ويتعاون معك البعض، وبعض منهم لن يقبل ذلك، لماذا؟ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر أنها ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقه، فأنت تطلب المحال إذا أردت أن تجعلها فرقة واحدة حقيقةً وواقعاً، لأنها ثلاث وسبعون، لكن أن تطمع في ذلك وترجوه بأن تدعوها إليه فنعم، فنحن أمرنا أن ندعو اليهود والنصارى إلى التوحيد مع علمنا بأن منهم من سيبقى على كفره ويموت عليه، فذلك مطلوب منا شرعاً، وإن كان لم يتحقق واقعاً، لكن المقصود هنا من العبرة أنه مادام أن ذلك غير متحقق واقعاً فلا نخرج عن الشرع بل ندعو إلى ما أمر الله تعالى أن ندعو إليه شرعاً.(6/35)
القراءة في كتاب إحياء علوم الدين للغزالي
السؤال
قرأت كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، فوقعت في مشكلة تتمثل في الجانب التصوفي أو الجانب الروحي الذي تحدث عنه الإمام، فهو يستدل بالكتاب والسنة فأين الحقيقة من ذلك؟
الجواب
الإمام الغزالي رحمه الله، يقول فيه بعض العلماء: أمرضه الشفاء -وهو الكتاب الذي ألفه ابن سينا - فكتب الإحياء، فجاء قوم يريدون الحياة لقلوبهم عن طريق الإحياء، فنخشى أن يميتهم الإحياء، لأن الأمر ليس كما ذكره الأخ وهو أنه يستدل بالكتاب والسنة فقط لا، فالإمام الغزالي رحمه الله -ونحن نتكلم عن الإحياء بالذات فيه من التخليط والغلط الشيء الكثير- مع أنه يستدل بالكتاب والسنة لكنه يأتي بالأحاديث الموضوعة والضعيفة وبأقوال أهل التصوف وبكلام لا أصل له في الكتاب ولا في السنة، على ما فيه من فوائد لا تنكر، وعلى ما فيه من استنباطات، وعلى ما فيه من عبر جعلت بعض العلماء يوجزه ويلخصه ويستخلص منه الفوائد المفيدة ويترك ما عدا ذلك، هذا في خصوص الإحياء، وأما الإمام الغزالي في ذاته، فإنه في آخر أمره مات وصحيح البخاري على صدره، وعرف في الأخير أن الطريق الوحيد للحق وللوصول إلى الله سبحانه هو اتباع الكتاب والسنة، ولهذا مات وهو يقرأ في صحيح البخاري وهو أصح كتاب بعد القرآن، ونرجو الله أن يجعل ذلك مغفرة له وأن يغفر لنا جميعاً، لكن الإحياء يجب ألا يقرأه الشاب المبتدئ الذي يريد أن ينمي جانب التقوى أو الجانب الروحي، فعندنا كتاب الله عز وجل فيه العبرة والعظة، وعندنا ما صح من كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي كتاب الرقائق في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم وفي غيرهما من الكتب فيها من العظة والعبرة ما يغني عن الإحياء وغير الإحياء.(6/36)
حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في قبره ورده السلام على الناس
السؤال
لقد ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون} وثبت عنه: {ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي فأرد عليه} وثبت عنه: إن الله وكل ملكاً أعطاه سمع العباد فما من مسلم يصلي علي إلا وبلغني منه الصلاة} أو كما قال، فما نوع هذه الحياة التي امتاز الأنبياء عن غيرهم بها إن كنا نقول إنها حياة برزخية؟ ثم كيف نوفق بين هذه الأحاديث التي ظاهرها التعارض، وإذا ردت روحه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه فهل يعني هذا أن روحه لا تزال مردودة في الليل والنهار، لكثرة من يسلم عليه في مشارق الأرض ومغاربها؟ وهل يسمع هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السلام عليه عند قبره؟ وإن كان الجواب بالنفي، فلماذا شرع لزوار القبور السلام على الموتى؟
الجواب
الجواب يحتاج إلى رسالة، ولكن نوجز مراعين الإفادة، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا شك عندنا في موته، وقبل أن نتحدث عن حياته بعد الموت نقرر أولاً: هل مات أم لا، فقد قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] وقال: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144] فقد مات صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما في صريح القرآن والسنة وإجماع الأمة، ومن زعم أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يمت فهو كافر، إذاً فقد مات صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي: مات الميتة التي كتبها الله على من عاش هذه الحياة الدنيا التي نحياها نحن اليوم، والتي سنموت كما مات صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد كتب الله تعالى الموت على جميع النفوس، الصالح منها والطالح.
ثم صح عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه بعد موته يرد السلام على من يصلي ويسلم عليه، إذاً هناك شيء آخر، بل هنالك آية في كتاب الله عز وجل، تقول: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] إذاً الشهداء أحياء والأنبياء أحياء، فأي الحياتين تكون أكمل وأعظم؟ حياة الأنبياء بلا شك هي أعظم من حياة الشهداء، ونقول في الموت: ميتة الحياة الدنيوية، والحياة الأخرى لا نعلم كنهها ولا حقيقتها إلا لما يأتينا من نص فنؤمن به، ولا نتردد في ذلك، ولا نعارضه بعقولنا وآرائنا، فإذاً هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في حياة برزخية أكمل من حياة الشهداء، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ولا تعارض بين الأحاديث ولله الحمد في ذلك.
أما كونه يرد السلام على من يسلم عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيكون معنى ذلك أن روحه ما تزال مترددة، نقول ما دمنا قررنا أنها حياة برزخية لا نعرف كنهها، فكيف نجادل فيما لا نعرف؟ فهل ترجع روحه وترد السلام، ثم تذهب ثم ترجع؟ نحن لا نعرف نوع الحياة أصلاً لكن الواجب علينا فيها هو أن نسلم ونؤمن بهذه الأحاديث ولا نبحث ولا نخوض فيما وراء ذلك، هذا هو مقتضى الإيمان به وبكل ما يخبر عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأما سماعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن يسلم عليه عند قبره، أو غيره من الموتى، فهذا أيضاً لا يتعارض مع ذلك، فالمسلم إذا سلم وأسمع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الموتى ذلك فهذا نفس الشيء، وهو أنه راجع إلى نوع الحياة البرزخية التي يحيونها، ولولا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شرع لنا ذلك ما فعلناه، ولما زرنا القبور، ولما سلمنا على الموتى، فما دمنا نسير في حدود ما شرع، وما دمنا متبعين لما جاء به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلن نضل ولن نشقى.
أما إذا قيل: إنه ما دام حياً إذاً ندعوه، ونستغيث به، ونتوسل به، فنقول: لا، هذا خطأ، فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم، كانوا يتوسلون بدعائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستسقوا بدعائه في حياته، ولما مات استسقوا بعمه العباس، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موجود ولكن لم يقولوا أنه حي، وعرفوا أن هذا العمل يكون من الأحياء وأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بموته لا تلحقه الأحكام التي كانت له في حياته ولكن في حدود ما ورد فقط، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح أمر عمر أن يطلب من أويس القرني وهو تابعي، أن يستغفر له، فلماذا يطللب منه وهو من التابعين ولا يطلب ذلك من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ نقول: هكذا شرع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعد وفاته لا نتقرب ولا نعمل أي عمل إلا بما ورد عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقط، والكلام في هذا كثير، وحسبنا ذلك.(6/37)
أهمية الوقت
تحدث الشيخ حفظه الله عن الوقت وأهميته بالنسبة للمؤمن، ثم ضرب لذلك أمثلة من حياة الأنبياء والعلماء، موضحاً كيف يستطيع المسلم مهما كان عمله أن يستفيد من وقته، ثم بين السر في تفوق المسلمين على عدوهم رغم قلة العدد والعتاد، مركزاً على طاقات المجتمع المعطلة وكيفية استغلالها.(7/1)
قيمة الوقت عند المسلم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.
وبعد: فإن مما تشهد له الآيات والأحاديث أن الوقت هو الحياة، وقد نبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عباده المؤمنين إلى ذلك بتنبيهات عظيمة، لا ينبغي لمسلم أن تفوته، بل يجب على كل مؤمن أن يتذكرها ليعرف قيمة العمر، وقيمة الوقت والحياة، ومن تلك التنبيهات العملية التي يعيشها المسلم كل يوم: هذه الصلوات الخمس التي شرعها الله تبارك وتعالى، وجعلها على المؤمنين كتاباً موقوتاً.
وأكثر إنسانٍ في هذه الدنيا يعرف قيمة الوقت هو المؤمن، لأنه أول ما يستيقظ يعلم أن الوقت وقت صلاة الفجر، فإذا صلى الفجر يعلم أنه بعد ساعات سيأتي وقت صلاة الظهر، فإذا جاء الظهر، يَعدُّ ذلك فاصلاً بين وقتٍ ووقتٍ آخر، ثم يصلي العصر ويعد ذلك استقبالاً لوقت آخر غير الوقت الذي مضى، فإذا غربت الشمس وصلى المغرب علم أنه قد استقبل ليلة جديدة، ثم إذا صلى العشاء علم أن وقتاً قد انتهى، وأنه من الآن فصاعداً علي واجبات وأعمال أقضيها في الوقت الباقي.
وهكذا بهذه الصورة المبسطة التي لا تخفى على أي عاقل، فالمسلم مهما كان عمله فإنه يرى أن وقته ما هو إلا هذه الأيام، وهو مجزأ بهذه الطريقة، وكذلك -أيضاً- العمر كله والسنة كلها، كيف يجدها الإنسان؟ تبدأ السنة -مثلاً- في محرم والإنسان يعمل بما شرعه الله -سبحانه- في هذا الشهر، ويبدأ يُعد لعام جديد، ثم يستقبل أيامه ويعلم أن هذه الشهور هي اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم، ثم يأتي أعظم الشهور وهو رمضان ويعقب رمضان شوال، ثم الحج، فينتهي العام بانتهاء الموسم، ويجد المؤمن أنه ما بين رمضان ورمضان كأنه ما بين لحظة ولحظة، وما بين الحج والحج كأنه ما بين لحظة ولحظة، ولكن بدورة هذه المواسم، وبدورة هذه الصلوات في اليوم، يشعر المسلم بقيمة الحياة وبقيمة الوقت، وأما الأمم التي لا تعرف هذه المواسم والعبادات فتوقيتها هو توقيت بأعياد مجونها وفسقها وخلاعتها، كعيد رأس السنة مثلاً.
بل كما يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية: 'الأمم الوثنية الهمجية في الهند والصين، وبعض أطراف البلاد التي ليس لها دين ولا كتاب كانت لا تعرف الأسابيع ' فلا تعرف الأسبوع ولا تعرف الأيام كما نعرفها نحن، فعندنا الوقت مجزأ، فيوجد يوم في الأسبوع هو يوم عيد، وهو يوم الجمعة، ولنا فيه واجبات تختلف، وعبادات تختلف عن الأيام الأخرى، فنشعر أن اليوم قد مضى، لأن الظهر صليناه والعصر صليناه، إذًا فقد أتى المغرب، إذاً فاليوم انتهى فنشعر بذلك، ونشعر بأن الأسبوع قد انقضى لأننا صلينا الجمعة، ونشعر بأن السنة تمر لأننا صمنا رمضان، وجاء الحج، والعبادات: وهي أركان الإسلام الثلاثة الصيام والحج والزكاة، مبنية على الحول أيضاً وهي التي تحسب الحول، كلها مما يذكر بأهمية الوقت وبأهمية العمر، فما الذي يصرف الإنسان وقته فيه.(7/2)
فوائد من سورة العصر
إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أقسم بالعصر فقال: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3] قال بعض العلماء: في إقسامه -سبحانه- بالعصر تنبيه لعباده المؤمنين إلى المحافظة على الوقت، وأن نصيبك من هذه الحياة هو هذا الوقت وهذا الزمن فتشغله بهذه الأربع، وإلا كنت من الخاسرين، عافاني الله وإياكم وأعاذنا من الخسارة، فنشغل أوقاتنا بهذه الأربع التي من لم يكن كذلك فهو خاسر إما كلية أو جزئية وهي: الإيمان، والعمل الصالح، والدعوة إلى الله، والصبر على الأذى في سبيل الدعوة إلى الله.(7/3)
قادة الناس في الوقت
إن قادة من عرفوا الوقت وقدروا قيمته هم الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- ولهذا نجد أن الأنبياء هم قادة الناس في هذه الأربع، في الإيمان والعلم، وفي العمل الصالح، والدعوة إلى الله، وفي الصبر على الأذى في الدعوة إلى الله، فهؤلاء هم الفائزون المفلحون الرابحون الربح الأكبر في الدنيا والآخرة، وأما غيرهم فبمقدار ما يضيع من طلب العلم ومعرفته -لأن الإيمان لا يكون إلا به- وبمقدار ما يضيع من العمل الصالح ويفرط في طاعة الله، وبمقدار ما يفرط في الدعوة إلى الله أو في الصبر عليها، يكون خسرانه ونقص عمله.
ولو تدبر الإنسان لوجد أن العمر محدود جداً، وأعمار هذه الأمة كما بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ما بين الستين إلى السبعين وقليل من يجوز ذلك} وستون سنة -في الحقيقة- لا تكاد تعد شيئاً مذكوراً لو تأمل العبد وتفطن، وإن كان الشباب يَغُر، وإن كان الشيطان يغر، وإن كانت زهرة الحياة الدنيا تخدع، لأن هذه الستين تمر منها ثلثها وهي عشرون سنة والإنسان في طفولة، ثم في شبه طفولة، وكل أب ابنه دون العشرين لا يزال يعتبره بحاجة إلى الرعاية والعناية والاهتمام! ثم الثلثان لمن مد الله -تعالى- في عمره، وهي أربعون سنة، كم يذهب منها للنوم؟ حسب بعض العلماء وبعض الحكماء ذلك فقالوا: وجدنا أن الإنسان العادي ينام ثلث عمره، إذاً فسوف ينام ثلث هذه الأربعين، ثم كم لطعامه، وكم لشرابه، ثم كم يأخذ الناس من وقته في الأمور المباحة، فإن بعض الناس يسلم عليك فيريد من وقتك نصف ساعة، وهذا شيء نشاهده نحن، طفل يمسك بك ويضيع عليك ساعة، وكثير من الناس لا يشعر بقيمة هذا الزمن ولا بأهميته وكأن أمراً ما كان! ولو دقق وحسب لوجد أن العمر ضيق وقصير بشكل يدعو إلى الغرابة.(7/4)
مثال من علماء الأمة
لولا أن الله -تبارك وتعالى- يبارك في أعمار المؤمنين لما استطاع دعاة الهدى وأئمة التقى وعلماء الصلاح والإصلاح أن يفعلوا شيئاً، ماذا نفعل لو أردت أنا وإياكم أن ننسخ كتب شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية باليد؟ قد تنتهي الأربعين سنة ولم نكتبها أو شبه ذلك -سبحان الله- فكيف يكون الحال إذا كان هو يفكر ويجمع العلم، ثم متى يكتب، ومتى يفتي؟! وأين عبادته وقد كان من أعبد الناس؟! ولنمثل بالعلماء المتأخرين حتى لا يقال إن الأنبياء والصحابة شيء آخر، ولا شك أنهم كذلك، لكن نقول: القدوة موجودة حتى في المتأخرين، في عصور الظلمات وفي عصور الانحراف فلابد أن يوجد من يحافظ على العمر ويعرف أهميته، كـ النووي رحمه الله وابن الجوزي، كيف كتبوا هذه الكتب، شيء عجيب! أحصى بعض ما كتبه بعضهم في اليوم فوجد أنه كراسة، والكراسة عشرون ورقة، كراسة في يوم! فأين النوم، وأين الأكل، وأين حقوق الأهل، وأين العبادة، وأين، وأين؟! كل هذا بالبركة، لأنهم عرفوا قيمة هذه الحياة، فسخر الله -تبارك وتعالى- طاقاتهم وهممهم فتوجهوا إلى أمر واحد.
والآن نجد كل من يُسمَّوُن بعلماء النفس والاجتماع، وكل المجربين حتى الآباء والأمهات، يقولون: إذا أردت أن تنجز أعمالك فحدد هدفاً واحداً واجتهد فيه، واعزم -بإذن الله- على أن تنجزه، لكن إذا حددت هدفين أو ثلاثة فقد تضيع الثلاثة ولا تحصل على شيء، وأما أولئك فقد جعلوا الهم هماً واحداً، كان أحدهم يصبح وهمه رضا الله والفوز بطاعته وجنته والدار الآخرة، وحدوا لذلك الهم، فإن عَبد فهو يرجو ما عند الله، وإن كَتب فهو يرجو ما عند الله , وإن خَطب فهو يرجو ما عند الله، وإن تزوج فهو يرجو ما عند الله، وإن جمع المال فهو يرجو ما عند الله، فالهم واحد ولكن الأعمال تختلف، ولهذا نجد أنهم كانوا جيلاً عظيمًا، وجيلاً واسعاً، ومع ذلك يقول تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] كيف جمع الله وقال: (سبلنا) مع أنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يقول: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] فهنا الصراط واحد، والسبل هي طرق الضلال والغواية التي على كل طريق منها داعٍ من دعاة جهنم -عياذاً بالله- لكن {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، فالسبل هنا هي طرق الخير الداخلة في الصراط وهو صراط واحد، وطرق الخير فيه مختلفة، ومن هنا كان تفاوت الناس الصالحين في عمارة الأوقات، لأن إنساناً آتاه الله تبارك وتعالى العلم فوقته في العلم، وآخر آتاه الله القوة فوقته في الجهاد، وآخر آتاه الله تعالى القدرة على العبادة، فوقته في عبادة وذكر وهكذا، مع وجود الواجبات المشتركة العامة، لكن من فضل الله -سبحانه- وتيسيره أنه جعل لكل إنسان ما يعمر به وقته من الخير، ومع ذلك فإن هناك كنوزاً ثمينة وغنائم باردة لكل مسلم، ولكل متقٍ لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(7/5)
أمثلة في كثرة طرق الخير وتيسرها(7/6)
الخيرية في مهنة الزراعة
لو أخذنا مثالاً على ذلك، مهنة الفلاحة، ومعلوم أن الفلاحة هي أشق مهنة، وأكثر الناس في العالم قديماً وحديثاً مهنتهم الفلاحة، حتى الدول الصناعية الكبرى في العالم تجد أن الفلاحة وتربية الحيوان أكثر موارد الثروة عندهم، وأكثر قطاع من الناس يشتغل بها تقريباً، فكيف يحافظ على وقته وهو فلاح يعمل في الأرض، ولو حفظ وقته فيها لرأيت العجب العجاب، وذلك بأمور: أولاً: أن يعلم أنه يزرع للآخرة، فهو في حياته الدنيا يزرع، ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أصدق الأسماء حارث وهمام} وكل إنسان هو حارث في الحقيقة، فأنا حارث باعتباري إنساناً، وأيضا عملي الخاص في الدنيا هو الفلاحة، فإذاً ماذا أفعل؟ انظر إلى هذه الشجرة التي أبذرها وكيف أرعاها، وكيف أنميها من جهة الدنيا، فأنا أنمي وأسقي وأريد أن تثمر وأن تكبر لأكسب بعد ذلك -بإذن الله- وأعف نفسي عن الناس، وهذا حق ومباح والله بارك فيها وقدر فيها أقواتها، وجعل الأرض بهذه المثابة من فضله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
لكن أتفكر كيف أن الفلاَّح تحصل له هذه الكنوز العظيمة التي يحصل عليها العلماء ويحصل عليها طلبة العلم من أين أجني مثلها؟ فأنا عندي كنوز وأستطيع أن أزرع، في الجنة وأنا في الدنيا، لأن الجنة قيعان وغراسها ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فأنت تزرع الأرض إذا قلت سبحان الله والحمد لله، فهذه التسبيحة نخلة، والتحميدة نخلة، والتهليلة نخلة، ومن هنا نقول للفلاح: قارن بين الفلاحتين -الله أكبر! - كيف نقارن بين نخلة أزرعها في الدنيا تمضي عليها السنوات الطوال حتى أجني ثمرتها، ومع ذلك فلو أن شخصاً قال لك: هذا النوع ممتاز (سكري) وهو ممتاز جداً، وبعد خمس سنوات ستأكل -إن شاء الله- منها، وتجني منها عشرين أو ثلاثين كيلو، فإنك ستقول: أنا أشتريها منك بثلاثة أو بأربعة آلاف، وأزرع فيها وأنا مطمئن لأني بعد خمس سنوات سآكل من هذا التمر الشهي، ولا يوجد من يقول لك: إنك خسران في هذه البضاعة! وهذا الوقت الذي أمضيه في سقيها والاعتناء بها، وهذه ثمرتها وهذه في الدنيا، فأين الجنة، وأين غراس الجنة؟! الجنة تَغرس فيها بمجرد الذكر، ولا تسقي ولا تتعب، وأين الجنة من هذا التراب؟! من الذي يقارن بين هذه الدار وتلك الدار، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر -سبحان الله! - أين أنهارها من أنهارها؟! وأين ظِلالها من ظِلالها؟! وأين زوجاتها من زوجاتها؟! وأين ولدانها من ولدانها؟! وأين وأين، من المقارنات التي لا تنتهي! ليس هناك نسبة للمقارنة أبداً! ومع ذلك فأنا أستطيع أن أعمل هذه الأعمال في هذه الدنيا، ولا أخسر الآخرة، بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(7/7)
الخيرية في التجارة
وكذلك التاجر، الذي يريد أن يربح، كيف تربح لو أنك تشتري وتتصدق؟! هذا لا شك من الخير العظيم، لكن نفرض أنك تاجر، وهذه التجارة على قدر ما يقيم حياتك وما تنفق به على عيالك، فنقول: هناك التجارة العظمى، التي تنجي من عذاب عظيم، التجارة مع رب العالمين في الطاعات.
تقول: كيف؟ نقول لك: أُعمر وقتك بالتجارة حتى وأنت في دكانك وفي محلك وفي أي مكان تكون فيه، وتاجر مع الله بهذه الغنيمة الباردة، هذه الكنوز التي يغفل عنها أكثر الناس إلا من رحم ربي، إذا قلت: [لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير] عشر مرات بعد صلاة الفجر في الصباح، كنت كمن أعتق أربع رقاب من ولد إسماعيل وهي أغلى أنواع الرقاب، فلو أن صاحب مال قال: أنا من إيماني ومن إخلاصي لله تعالى سأشتري أغلى الرقاب التي هي العرب من ذرية إسماعيل، وأعتقها لوجه الله -سبحانه- فيعتق الله كل عضو مني بعضو منها من النار لكان تاجراً عظيماً، لكن هذا الإنسان التاجر الذي لا يجد هذه التجارة عنده وعند أي تاجر يكفيه أن يقول هذا الذكر، فانظروا كيف أننا نغفل عن التجارة مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد يمر على أحدنا اليوم والشهر -والله المستعان- وما قال هذا الذكر العظيم وكم يمر على بعض الناس ولا يذكر هذا الذكر ولا يقوله.(7/8)
المسلمون الأوائل والوقت
ولو تأملنا كيف اغتنم السلف الصالح أوقاتهم؟ لرأينا عجباً عجاباً وبحراً عباباً، لا نستطيع أن نفيه حقه.
كان أبو سليمان الداراني يقول: ' أحب ما عندي في الدنيا الليل، ولولا الليل لما أسفت على شيء من الدنيا, وإن أهل الدنيا لم ينالوا شيئاً من لذة أهل الجنة، إلا ما يجده أهل العبادة في الليل ' وهذه هي التي عبر عنها شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية عندما قال: 'إني لأكون في حالٍ أقول فيه لو أن أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي خير كبير' ليس كمن قال:
ما قيمة الليل لولا العود والوتر
لا بل:
ما قيمة الليل لا تتلى به السور
كان عبد الله بن قيس رضي الله عنه الذي كان يقال له: راهب هذه الأمة يقول عندما جاءه الموت: 'والله لا أبكي على ذهاب الدنيا -كما يبكي الناس عند الموت على الأموال وعلى الأهل- ولكني أبكي على ظمأ الهواجر في الصيف، وقيام الليلة الباردة في الشتاء' فهو يبكي على هذا الوقت، لأنهم كانوا يصومون في شدة الحر، ويقومون الليلة الباردة في الشتاء.
ما أبعد حالنا عن حالهم! كانوا يعلمون أن هذا الوقت غنيمة وأنه فرصة يجب أن تستغل وأن تغتنم لعبادة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولهذا ما كان يفوت أحدهم شيئاً من وقته أبداً، كان إما طاعة وإما عبادة، وكله عبادات وطاعات أو صلاة أو صيام أو فكر أو تذكر، فلا يخلو المؤمن من الفكر أو الشكر أو الذكر.
والفكر: شيء عظيم يغفل عنه كثير من الناس، ألا ترون أننا في هذه الأيام فيما يسمى بالعطلة، والتي نعطل فيها كل شيء، حتى إن البعض قد يعطل الجمعة والجماعة وكل شيء، لأنها عطلة! كلا، بل الأصل أن الإنسان إذا أراد أن يذهب إلى بلد آخر، فأمامه فرصة عظيمة لاغتنام الوقت في التفكر في آيات الله، وفي مخلوقات الله، والتفكر في ملكوت السماوات والأرض، فهذا البحر أليس فيه ما يثير العجب العجاب عند المؤمن؟! وهذه الكواكب والنجوم، لو تفكر الإنسان التفكر الصحيح لكان فيه من صفات المتقين، بل لكان في الذروة وهم أولو الألباب كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] سبحان الله! كيف هذه النجوم وهذه السماء وهذا الليل والنهار؟! فأنت تنظر وتقف مع الناس وكلهم ينظر إلى البحر وأنت تنظر معهم، ولكن شتان بين ناظر وناظر! ترى الحيوانات والمخلوقات، ولكن شتان بين ناظر وناظر، هذا ينظر في السمكة أنها سمينة تصلح للأكل، أما الآخر فينظر فيجد عجائب خلق الله، فيقول: سبحان الذي جعلها تعيش في الماء، وأنا أعيش في الهواء سبحان الله العظيم! ويعلم أنها تسبح الله، حتى الصغار التي لا نكاد نراها تسبح الله، والبر والبحر كله مليء بمن يسبح الله، {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] ونحن غافلون لاهون لاعبون عابثون نضيع الأعمار والأوقات.
ونقول: نتمتع ثم بعد ذلك نطيع الله ونتقيه، وهذا هو طول الأمل وهو أكثر ما خافه السلف الصالح، ولهذا كان يقول أحدهم: والله إني لأصلي الفريضة فلا أنتظر ما بعدها وإلا فلماذا خشعوا في صلاتهم؟! لأن الواحد منهم كان يصلي صلاة مودع، لا ينتظر ما يصلي بعدها، فهذه هي الأخيرة فيخشع، والثانية الأخيرة فيخشع، فكان العمر كله خشوعٌ وعبادة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وليس هناك طول أمل.
وطول الأمل عجيب عند بعض الناس، وقد أخبرني أحدهم فقال: تعاقد أحد التجار مع شركة -وهي شركة كافرة- على بناء مصنع من المصانع، فقال لهم: كم يمكن أن يستمر المصنع إذا أخذناه على أصل الأنواع والآلات؟ قالوا: يمكن أن يعمل مائتي سنة، ونضمن لك أن المصنع ما يزال يعمل هذه المدة، قال وبعد هذا أقفله! فكم عمرك ستين أو ثمانين، وكم بقي لك من عمرك؛ ولكن قد أودع الله في الإنسان طبيعة حب التراث حباً جماً ولا شك كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8].(7/9)
نصف الورع ونصف العلم
لكن يا ابن آدم! ماذا يشبعك في هذه الحياة الدنيا، ما الذي يمتعك في هذه الدنيا، وما الذي يكفيك منها، ولهذا قال بعض السلف: إن نصف الورع ونصف العلم، في حديثين، قال: أما نصف العلم فهو في {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه}، وأما نصف الورع فهو في: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وأنا -حقيقة- عندما قرأت هذه العبارة تعجبت كيف أتى بها هنا! ولا شك أنهم أفقه منا وأسبق منا إلى كل خير لكن ماذا يريد بقوله: {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه} وكيف يكون نصف العلم؟ لو قال: المحافظة على الوقت لكان هذا ممكنًا، لكنه يتحدث عن الوقت وجاء بها في باب نصف العلم، فرجعت إلى نفسي فقلت: نعم، لا شك ولابد أن لهم حكمة، لأنك لو شغلت وقتك في العلم -وأفضل ما يُعمر به الوقت هو طلب العلم، فالوقت كله لو حصرته في العلم فهذا أفضل، وأعني العلم الذي يورث الخشية والعمل والتقوى، فيكون الإنسان عالماً بالله وبأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كما قال سفيان - لو فرغت وقتك وعمرك كله للعلم وحده فكم ستحصل من العلم؟ ليس ما تريد، بل أقل منه، فخذ هذه القاعدة معك {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه}، فإنك لو طبقتها فكم ستوفر من الأوقات! فكأن أكثر الناس في الحقيقة نصف عمره هو فيما لا يعنيه، وكل واحد منا ينظر في نفسه، فلو علمت هذا وطبقته وتمثلته في نفسك لكنت فعلاً حائزاً على نصف العلم والنصف الآخر لديك، لأن العلم له فضول، حتى بعض المسائل من واقعنا لها فضول.
وأضرب لك مثالاً من واقعنا: عندما يأتينا العالم من العلماء الذين وقتهم ثمين جداً -لأنه لو لم يأتنا في هذا اليوم لنفع الله به في بلد آخر، ولأفتى فتوى تقيم الإسلام في بلد، كشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية لما أفتى في التتار هبوا للجهاد من أطراف الدنيا- فهل جاءونا نحن لكي نضيع عليهم أوقاتهم فيما لا يعنيهم، فالأسئلة التي نسأله مكررة ومعروف رأيه فيها من قبل أن يولد، وليس فيها جديد، وكلامه ليس فيه جديد، ونترك قضايا مهمة جداً فلا نعرضها عليه، فأضعنا أوقاتنا وأوقات العلماء، فلو كنا نعرف نصف العلم ونطلبه لكان الحال غير الحال، إذًا فنترك ما لا يعنينا.
وأسئلة أكثر الناس، وحتى بعض طلبة العلم من باب الفضول، وفضول العلم وفضول المسائل يأتي من قبل الشيطان، ولهذا كان السلف الصالح لا يتكلمون إلا فيما وقع، ولما قيل لـ ابن عمر رضي الله عنه: أرأيت لو أن رجلاً فعل كذا، قال: [[دع أرأيت في اليمن]] فلا يوجد عندنا أرأيت فإذا وقع فاسأل، ولا تقل أرأيت لو كان كذا كيف أفعل، وإذا وقع كذا ماذا يكون، ولكن اشغل وقتك الثمين وهذا العقل والذهن وهذه الطاقة التي أعطاك الله إياها وهذا العمر الثمين فيما يعنيك، فإن الواجبات محدودة.(7/10)
أهمية المحافظة على الأوقات
وأحب أن أنتقل إلى قضية مهمة جداً نغفل عنها كأمة في مجموعنا، وهي مسألة أننا لو حافظنا على أوقاتنا لكنا نقود العالم كله، وهنا سِّر عظيم لا يدركه إلا المؤمن، كيف ذلك؟ لنفرض أن عشرة ملايين من المسلمين استقاموا على الحق، فإن هؤلاء العشرة ملايين يستطيعون أن يقودوا العالم، بل بأقل من هؤلاء.
ففي عهد الصحابة رضوان الله عليهم كان العدد أقل، وسادوا العالم، وملكوا الدنيا، ونشروا الخير في شرق الدنيا وغربها، بهذا السبب لما عرفوا حق الوقت، فعبدوا الله بما يناسب هذا الوقت، فأعطوا كل وقت حقه، أعطوا الصلاة حقها وأعطوا الأهل حقهم، وأعطوا الجهاد حقه، وأعطوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حقه، ففي هذا العمر المحدود فتحوها.
نابليون دنش بيلير قال 'هؤلاء فتحوا نصف العالم في نصف قرن' كيف هذا؟! في أقل من خمسين سنة! والحقيقة أن القضية ترجع إلى سر رباني!(7/11)
بين المحافظة والضياع
هنا فرق بيننا وبين الكافرين، ولهذا نحن نغلب الكفار بأقل عدد وأقل عدة، إذا كنا مؤمنين بالله {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] والكفار كما يقال الآن يخدعوننا بهذا القول، يقولون: إن الكفار عندهم جد وعمل ونشاط وكذا وكذا، وهذا صحيح، ولا شك أنهم يعملون لكن هم يعملون ثمان ساعات ويجتهدون لدنيا هم، ولا شك أن تفوقهم في الدنيا مبني على سنة ربانية، لكن هذا الكافر كم يضيع من الطاقة التي وضعها الله تعالى فيه أو المواهب، فكم تأخذ الخمرة إذا سكر؟ وكم يأخذ الحشيش إذا كان من المعربدين المحششين؟ وإذا كان من المدخنين فكم يأخذ الدخان من طاقته الجسدية، وأيضاً من قواه العقلية؟! والزنا وما أدراك ما الزنا -نعوذ بالله- ماذا يفعل الزنا بالطاقة العقلية والقلبية -نسأل الله العفو والعافية- إذًا فهذا مبدد الطاقة.
وفي إحدى الإحصائيات التي تتحدث عن هذه المسألة تقول: إن الفرد عندهم يعمل بربع طاقته فقط، وربما تكون اليابان أكثر عملاً من أمريكا، أي أن الفرد الواحد يعمل بربع طاقته، فالأمة تعمل بربع طاقتها، ولهذا تفوقوا وعملوا ونحن المسلمين لا تبدد الطاقة عندنا في زنا ولا خمر ولا حشيش ولا لهو ولا لعب ولا تدخين، فيكون الذهن أصفى وأنقى وأقوى، فلو أتينا باثنين أحدهما مسلم والآخر كافر ودرسناهم الإثنين في الفيزياء النووية أو في علم الفلك، ونفس المستوى والمعدل الذهني واحد، إلا أن هذا المسلم استيعاب محفوظه -بإذن الله سبحانه وتعالى- أقوى ومن المستحيل أن يتفوق هذا الكافر عليه، ولذلك تجد من الأمثلة المشاهدة الحية الآن الكثير، فتجد -والحمد لله- شباباً يذهب من بلاد العالم الإسلامي يدرس في أمريكا ويدرس في مجالات دقيقة جداً لا يدخلها إلا العباقرة الأفذاذ من أمريكا، وهذا الشاب يشغل وقته في عبادة الله -وهذا مفروغ منه- فلابد أن يصلي ويصوم ويعبد الله، ويقوم بحق زوجته فليس كأولئك، -وأيضاً- ضيافة وزيارة إخوانه في الله، وتراه يقوم بالدعوة إلى الله، ومرتبط بمركز إسلامي في دعوة ويترجم ويتكلم ويدعو، وفي آخر السنة يتفوق على الأمريكي في الدراسة، مع أنا لا نقول: تفوق على السكير العربيد، بل يتفوق على الأمريكي الذي وقته كله مجتهد في العلم لكن أصل الطاقة مبدد، مهما حاول أن يجمعها شتت الله شمله وفرق همه، لأنه لا يرجو الله ولا يرجو الدار الآخرة، وإنما يجمع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الشمل ويجمع الهم لمن أصبح وهمه الآخرة كهؤلاء الشباب والحمد لله.
ولذلك فإن أعدى عدو لهذه الأمة أو من يخدم أعداءها، وهو يشعر أو لا يشعر هو الذي يريد أن تبدد طاقات هذه الأمة، وأن يبدد أغلى ثروة عندها وهي أوقات الشباب تذهب وتضيع في الفراغ، وفراغ عجيب أدركه أولئك الكفار، فقد ذكرت البرازيل أنه يجب أن يوضع حد لموضوع كرة القدم، ونشر هذا في الجرائد الرياضية وغيرها، قالت البرازيل: إن ملايين العمال يتأثر عملهم بسبب المباريات، فيصيب المصنع أو المعمل شلل كلي، أو شلل جزئي فتشغل الأمة بأوقات المباريات، والكرة تتجدد، فما بين الحين إلى الآخر دورة وراء دورة؛ لكي لا يستقر العقل من كثرة ما يدور، فأمة عقلها في ليله ونهاره يجري ويلهث لابد من حل له، بل وجدوا أن ساعات العمل تضيع، وطاقات الأمة تضيع، وهم كفار لا يؤمنون بالآخرة، ويهمهم أن يقضي العامل وقته في إجازة وفي فراغ ولا يكون مجرمًا.
وأكبر هدف الآن في الولايات المتحدة الأمريكية يتحقق في أن أوقات الفراغ لا تكثِّر الجرائم، هذا هدف عظيم أما أن يفعل الناس ما شاءوا فليفعلوا، ولهذا أصبحوا يبنون مجمعات كبيرة جداً للمنتزهات ومجمعات كبيرة فيها جميع أنواع الألاعيب والأهازيل، وأرانا بعض الإخوان إياه قال: هذه من أجل الأطفال في العطلة أو في المساء في غير وقت الدراسة، وفي جميع أوقات الفراغ حتى لا يتعاطى المخدرات، ومع ذلك يدخل الشاب يلعب ثم يعود مخدراً فلا فائدة؛ لأن الإيمان لا يوجد.
فأصبح الوقت طاقة، فأكبر ما يسعون إليه أن لا تأتي بشيء عكسي، أما المؤمن فيعرف قيمة العمر وقيمة الحياة يروى أن بعض السلف الصالح مر بقوم وهم في ملهى أو في مقهى جالسون، فأخذ يتألم! فقيل له: مالك؟ قال: والله آسف، وأتمنى لو أن الأوقات تشترى كما تشترى البضاعة لاشترينا من هؤلاء أوقاتهم، تجده البعض يعود من العمل ثم يذهب يسهر في قهوة إلى قريب الفجر كل يوم، فيضيع عشر ساعات أو ثمان أو خمس كل يوم! أو يسهر على أنواع من اللعب إما لعباً فردياً أو لعباً جماعياً، فيا ليت الأوقات تشترى.
إن من الناس من يبحث عن دقيقة أو ساعة أو يوم لكنها لا تباع! وليس بمقدوره أن يشتري! ومن الناس من يبحث عن قتل الوقت! نحن الأمة التي جعلها الله تعالى أمة حية بهذا القرآن: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122] ويجب أن نحيي الأمم بهذا القرآن، إلا أننا أصبحنا نتكلم عن قتل الوقت، كيف نقتله والعياذ بالله، كأنه نوع من المضادة اللفظية -على الأقل- ولما أمر الله أن تحيا القلوب والأوقات، أصبحوا يسمون ما يلهى به أو يقتل من العمر إحياءً لليلة فيقولون: حفلة أو زواج في هذه الليلة يحييها المطرب الفلاني أعوذ بالله! ووالله إنه ليميتها ويبددها ويشلها ويعطلها، لكن هكذا مفهومنا للحياة، مفهومنا للعمر أصبح يتمشى مع المفاهيم الغربية، فهي ترجمات حرفية للكلمات الغربية، نسأل الله العفو والعافية، وأسأله تعالى أن ينفعنا بما نسمع وبما نقول.(7/12)
سر رباني
يمكن أن نستدل على هذا السر الرباني بالأدلة الواقعية من كلام الذين لا يؤمنون بالآخرة، ولكن يؤمنون بالعمل وبالجد والاجتهاد وضرورة حفظ الوقت، وهذا فقط للمعرفة والمقارنة لا غير.
أُجريت تحاليل -وهذه من الأشياء التي نستفيد منها جميعاً- في موضوع الطاقة الإنسانية، ما مقدار هذه الطاقة البشرية وما قوتها، وكل من يبحث في الإنسان وطاقاته المخزونة يقولون: شيء عجيب جداً! فإن الإنسان -أيَّ إنسان- يختزن من الطاقات ما لا يكاد يصدق! فلو أتينا إلى الإنسان العادي جداً، ومستواه من الذكاء عادي (متوسط)، فيمكن لهذا الإنسان لو فجر الطاقات التي فيه، أن يكون من أعظم العباقرة، وأكبر مما نتصور، ويمكن أن يكون من أعظم القادة في العالم، ويمكن أن يكون من أكبر المؤلفين في العالم، ويمكن أن يكون من أكبر المكتشفين في العالم، كيف؟ فيقولون إن الطاقة مختزنة وموجودة، لكنها تحتاج إلى ما يثيرها وإلى شيء يفجرها.
فمثلاً: المتسابقون في الماراثون "السباق الطويل" وهو من عادات وبدع الجاهلية اليونانية ومن أديانهم، جعلوه شعيرة دينية يتسابقون عند جبال الألب جبال الآلهة ويقولون: هذه الجبال تسكنها الآلهة، وهذه عقائد دينية باطلة وانتشرت في العالم فيما بعد، فالمتسابق بعد عشرة أو عشرين كيلو إذا سقط وانتهى ولم تعد له قدرة على شيء يقول الأطباء عندما يفحصونه: ما زال هناك طاقة مخزونة حتى الآن، وهي طاقة عضوية لم تنتهي، وهذا شيء عجيب.
فما الدليل على ذلك؟ قالوا: إذا سقط المتسابق وهو يكاد يغمى عليه، وإذا بأسد فاغر فاه يريد أن يأكله فإنه سوف يقفز ويجري -فسبحان الله- من أين جاءت هذه الطاقة؟ هل نزلت عليه من السماء، قالوا: هذا دليل على أن الطاقة مخزونة موجودة، وكان بإمكانه أن يستغلها في الوقت الباقي وقد يكسب السباق، إلا أن المثير للطاقة والمفجر للطاقة كان ضعيفًا ولو كان موجودًا فيمكن أن يصبح بشكل أكبر.
لكن إذا ما أتينا لكي نطبق هذه القاعدة على واقع الجيل الأول وهم الصحابة رضوان الله تعالى عنهم، ماذا كانوا؟ كانوا أعراباً من الناس، وكل العرب كانوا كذلك، فكان منهم قريش وهم أهل فضل كذلك بنو تميم واليمن كغيرهم من الناس، لكن لما آمنوا وأسلموا كيف تفجرت هذه الطاقات، وكيف تولدت هذه المواهب؟ خذوا مثالاً: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كان يرعى الغنم في نواحي مكة، والرعاة في التاريخ آلاف بل ملايين، لكن إذا أسلم وآمن هذا الراعي -وغيره من الصحابة كذلك- فإنه يتحول إلى شيء عجيب.
مدينة الكوفة في الدولة الإسلامية التي تبلغ شهرتها شرق الدنيا وغربها، كان من أبرز الأئمة الأعلام فيها والذي تضرب إليه أكباد الإبل عبد الله بن مسعود ذاك الراعي! فكيف تفجرت وكيف أثيرت فيه الطاقات؟ فالقضية هي الإثارة، فتأتي الإثارة عند الصحابة رضي الله عنهم -وأسأل الله أن تأتينا في قلوبنا- فلم يروا كالجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها.
قال بعض السلف: إني أريد أن أنام فأتذكر الجنة أو النار فأهب كالمجنون، فلا يأتي نوم بعد ذلك فيقرأ القرآن ويصلي، سبحان الله يريد أن يجلس، فيتذكر أن واجباً عليه في الجهاد، أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكيف تريد أن تجعل هذا الوقت وقت راحة، ويأتيه فيه مثير قوي؟! والحمد لله أن خلق المؤمن كذلك، فقد يأتيه الأمر من أمور إخوانه وربما كان على فراش النوم فيستيقظ وينشط لذلك العمل، وكأنه لم يرد أن ينام بل كأنه كان يبحث عن العمل، ولربما عمل بعمل أخيه الساعات الطوال، ومن هنا نعرف سر انتصار الصحابة رضي الله عنهم لأن طاقاتهم كلها فجرت، هنالك الجنة وأنت تريد أن تنام فتتذكر الجنة، وما فيها من الحور والولدان، كما قال ذلكم الصحابي: ليس بيني وبين الجنة إلا أن أقتل، فرمى التمرات واقتحم ساحة المعركة، لأن هذه جنة فهذا هو المثير الأقوى، أنك تذكر الجنة فتتقدم، أو تخاف من النار فتتأخر، ولذلك تمكن المؤمن من ترك أشد الشهوات عنفواناً وضغطاً وقوةً كما حصل ليوسف عليه السلام، بل كما جاء عن الرجل الذي كان في الغار، لما أتت ابنة عمه وجلس منها كما يجلس الرجل من أهله فقالت: {اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه} فجاءته تقوى الله وكل تلك الشهوة تتفجر فقام وتركها لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لأنه يأتي ما هو أقوى من كل شهوة وأقوى من كل غريزة وأقوى من كل مثير، فينسى الإنسان كل شيء ويعود قوياً مستقيماً ويفجر هذه الطاقة وهذه الحواس في الخير، يقول أحد السلف رحمه الله وهو وقد وثب على كبر سنة وثبة عظيمة -أي قفز- فلما رآها بعض الناس تعجبوا وقالوا: رجل كبير ويقفز هذه القفزة الهائلة، قال: هذه أعضاء حفظناها في الصغر مما حرم الله، فحفظها الله لنا في الكبر فسبحان الله! لا تتبدد الطاقة فهي موجودة، فالنظر طاقة جعله الله -سبحانه- لنا، وركز نظرك وفكرك تجد العجب العجاب، ولكن هذه الطاقة هذه كالبترول لوأراقه صاحبه على الأرض فلن يستفيد منه أحد لكن لو وضعه في السيارة وشغلها لمشت السيارة بإذن الله.(7/13)
الأسئلة(7/14)
ضياع الوقت من الموت
السؤال
ما معنى قول ابن القيم رحمه الله في كتابه الفوائد: ' ضياع الوقت أشد من الموت '
الجواب
لأن ضياع الوقت يقطع عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها، وإذا مات الإنسان وهو متقٍ مؤمن فإنه ينقطع عن الدنيا وأهلها، ويجاور الملأ الأعلى ويترك هذا الملأ، وهذا ليس بخسران بل هو فوز رابح، وكل الناس هالك وراحل، ولكنه هو رحل من هذا الملأ إلى الملأ الأعلى، ومن هذه الدار إلى دار القرار والنعيم والحمد لله، لكن المشكلة ضياع الوقت في غير طاعة، لأنه يقطعك عن الله وعن الدار الآخرة، ولهذا تجد الذين يضيعون أوقاتهم في اللهو واللعب ويضيعون الطاعات، تجد قلوبهم قاسية مختوم مطبوع عليها، وتجد أحدهم حماراً في النهار جيفة بالليل، ولربما أصبحت العكس الآن فهو حمار بالليل لأنه أكثر إقامته، فهو حمار في وقت إقامته، وجيفه في وقت نومه -والعياذ بالله- لأنه مقطوع عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإن ذكرته بالله، قلت له: اتق الله أو أي شيء مما يقربه من الله، لكنه مقطوع الصلة بينه وبين الله، ولهذا فهو ميت:
ليس من مات فاستراح بميتٍ إنما الميت ميت الأحياء
وميت الأحياء: حي بالشعور والإحساس ولكنه ميت القلب والإيمان نسأل الله العفو والعافية.(7/15)
الانشغال بمشاكل الناس
السؤال
أنا أحد الشباب الذين لهم دور في نشاط الحي والحمد لله، ولكن هذا يأخذ علي أغلب وقتي في حل المشاكل والاجتماعات وفي أشياء أخرى، علماً بأن هذه المشاكل قديمة جداً وقد ضيعت أوقات الشباب الذين سبقوني في الحي وأنا لا أرى أي تقدم في هذه المشاكل، فهي تختفي فترة ثم تعود، فأنا في حيرة من أمري، هل أبقى على هذه الحال علماً بأني لو بقيت لكنت شبه الشمعة تضيء للناس وتحرق نفسها، وقد أستطيع أحياناً أن لا أحترق لكن يذهب علي وقت قد استغله لنفسي مثل الرحلات والخرجات والجلسات، وقد فكرت في الانقطاع الكلي والاستفادة من وقتي لنفسي، لكن أنكر علي الكثير من الإخوان بحجة كتمان العلم وعدم خدمة الغير، وأنا في حيرة من أمري ولا يمكن أن أكون وسطاً فهذه بالنسبة لي لا أستطيع لظروف هذه المشاكل علماً أنها مكررة، وحلها شبه مستحيل؟
الجواب
هذا من قدر الله الذي ابتلانا به، ولابد أن نصبر، وأن نوفق ونسدد ونقارب فهذه مشكلتنا كلنا، فأحياناً نقول: نسحب التلفون حتى لا يدخل أحد علينا، فتأتيك أشياء أخر، فهذه مشكلة، وخاصة كما تفضل الأخ، فقد يكون في الحي إمام مسجد أو داعية، فماذا يفعل؟! هذا يريد أن يتوب، وهذا يريد أن يهتدي، وهذا عنده مشكلة يريد أن يحلها، فلابد أن نجتهد، فهذا الزمان تقارب الناس فيه، وتقاربت وسائل الاتصال فيه، وأصبح يمكن للشخص أن يشغلك من أمريكا وأنا بعض الليالي تأتني مكالمة حوالي نصف ساعة من أمريكا، فإن أغلقت الباب أتاك من يدق عليك من جهة أخرى، كان الناس يرحلون في السابق على الإبل وأما الآن فالتلفون قد قرّب الأماكن، وهذه ضرورة فماذا تفعل؟ والوسطية شيء جميل وليست بمستحيلة وهذا شيء لابد منه، وهذا قدرنا وهكذا أراد الله، فلابد أن نجتهد في ذلك، فلو أقفلنا الأبواب والوسائل جميعاً وبقينا على أنفسنا فقط، فإن ذلك لا ينفع ولا يليق بنا ولا ينبغي لنا، ولو فتحنا الباب على مصراعيه، فلن نستفيد أبداً، والناس كل منهم يأتيك ويظن أنه الوحيد، ويقول لك: عشر دقائق، وما علم أن هذه الكلمة يقولها كل أحد قبله، وأن الأعشار ضيعت الأعمال، فلابد من التوفيق ولهذا نقول للإخوة: يجب أن نتقِ الله في أوقات بعضنا، ونحفظ أوقات إخواننا، والشباب لابد لهم من مربين ولابد لهم من موجهين وهذا لا شك فيه، وهذه ضرورة لابد منها.
لكن أن الأخ كما قال: يربي ويربي ويحل مشكلة ثم تعود فهذا خلل فينا نحن، فالذي يربينا ربانا واجتهد وتعب، ثم ننتكس ونعود وكأنه لم يفعل شيئاً، فلابد أن يكون التعاون منا ومنه، ولا بد أن يصبر الأخ هذا على ما يلاقي من إخوانه وعلى الإخوان أن يتوجهوا، وأن يحافظوا على وقت أخيهم أو موجههم مثلاً.
وأيضاً ما يتعلق بالعامة، وإن كنا أحياناً نتعب معهم ونضيع الوقت معهم، بكلمة كيف الحال، وكيف الأخبار، وكيف الأمطار، وكيف الدراسة؟! لكن ينبغي أن لا نجرح شعورهم، فلابد أن نصبر لأنه هكذا أراد الله، ولعل دعوة مثل هؤلاء الناس هي التي تبارك لك في ربع ساعة تقرأ فيها، ولعل بركة هذا العلم والدعوة هي في مثل دعاء هؤلاء الناس، أو في الإحسان إليهم أو شيء من هذا والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أعظم الناس عبادة ودعوة ومحافظة على الوقت، استوقفته عجوز ووقف معها حتى قضى حاجتها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلابد أن نصبر، ومع ذلك ينبغي من الناس الإلحاف.
ولما سأل رجلٌ رجلاً آخر وطلبه ولم يعطه قال: أين الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة؟! قال: ذهبوا مع الذين لا يسألون الناس إلحافاً، فلابد من الطرفين، ولابد أن تؤثر ولو كان بك تعب أو ظروف ونسأل الله أن يعيننا على هذه الأعذار.(7/16)
تأسيس قاعدة الدعوة إلى الله
السؤال
أنا أتجول أحياناً فأجد كثيراً من الشباب على معصية الله -والعياذ بالله- فأفكر وأهم أن أذهب إليهم وأدعوهم، ثم أفكر وأقول لو فتح الله على قلوبهم واهتدوا كيف أتابعهم فيما بعد وأنا مشغول جداً فأخاف أن يعودوا إلى ما كانوا عليه، فكأننا ننفخ في رماد إلا أن يكون هذا شبيهاً ببعض رجال الدعوة الذين يذهبون إلى الخارج فيسلم بعض الكفار على أيديهم ثم يتركونهم ويرجعون إلى بلادهم؟
الجواب
قضية كيف نحافظ على طاقة الأمة، لا شك أن هذه الأمور مما يجب أن ننبه إليها، ونرجو أن يستوعبها الإخوة وخاصة هذا الجمع فكلنا طلاب علم، فأقول: يجب علينا أن ندرك أن المجاهدين والعاملين في الأمة قليل وأن أثمن الأوقات هي أوقاتهم، ومن هنا فعلينا أن لا نبدد هذه الطاقة فهو حرام، وإن كان أحدهم يقول: أنا لم أبذل شيئاً، فأقول لك: لا يا أخي بدلاً من الذهاب إلى تجمعات الشباب هؤلاء في الكورنيش لتنصحهم، أو في البر لتتكلم معهم، فهذا في الحقيقة ليس عملك الدائم في حياتك، بل اجتهد وركز على مسجدك وعلى الشباب الذين يدرسون معك، ومع من حولك، فأنا أرى أن يركز أحدنا ولو على مدى معين، فلا تنتظر أن يأتيك المشايخ، ولو أنك كل أسبوع تدعو إلى الله في بلد فإنك لا تؤدي شيئاً، أنا أعترف بهذا ولا نغالط أنفسنا، نعم إنه قد يوجد الخير، لكن لا توجد ثمرة أكيدة، مثل أن تتابع بذرة معينة.
فالتركيز لابد منه، ولكن أيضاً إن ذهبت إلى المكان النائي على الشاطئ، ولقيت أناساً على الطريق في وقت الصلاة فكلمهم وأنصحهم أما أن تقول: أذهب إلى السوق وأنهى عن المنكر فإنك تضيع عمرك كله، فالسوق كله منكرات، ولن تستفيد منه علماً ولا أي شيء آخر، لكن إذا ذهبت إلى السوق ثم رأيت المنكر فأنكره، ففرق بين الصورتين لكن نحن كدعاة لابد أن يكون للسوق مكان، وللشاطئ مكان في حساب الدعاة ككل، لكن فردياً لا، ولهذا نقول: إن الأمة في حاجة إلى تجميع الجهود، واستخلاصها بأفضل أسلوب، كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينمي الطاقات ويربيها، ويضع هذا للقضاء، وهذا للعلم، وهذا للجهاد، أهَّلَهم فلما قبض صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإذا بهذا أقضى الناس، وهذا أعلم الناس، وهذا أشجع الناس، لما رُبيت الطاقات ورُكزت في أهداف محددة.
بعض الإخوة ذهبوا إلى كوريا، ودخل عدد من الكوريين في الإسلام ولكن لم يتابعهم أحد، قالوا: المفروض أن نتابعهم، وجاءوا إلى هيئة الإغاثة وجاءوا إلى الرابطة وقالوا: تابعوهم، قالوا: نحن ضيعنا دولاً مسلمة، فكيف نتابع عشرين شخصاً أصلهم في كوريا فيجب أن نكون واقعيين وندرس الأمر بفعل الثمرة الحقيقية.
إن البلد أو الأمة الإسلامية لابد لها من قاعدة تتأسس وتكون منطلقاً، ومن هنا كان حرص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الهجرة، ومن هنا كان الذين آمنوا ولم يهاجروا ليس على المسلمين من ولايتهم من شيء، لأنهم لم يهاجروا إلى بلد الإسلام وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع على الهجرة حتى فتحت مكة حتى تكون قاعدة للإسلام وحتى تكون مرتكزًا للإسلام وهذا المرتكز يمد العالم، لكن إذا كان بلا قاعدة وبلا مرتكز فلا فائدة، وعندما نقول: بلدنا هذا، فهل يمكن أن يكون هناك مرتكزاً للإسلام بديلاً عنه، لا يوجد لسببين: أولاً: السبب التاريخي الموروث وهو: وجود الحرمين فيه وهو منبع الهداية والحمد لله.
ثانياً: أنه الآن أكثر المجتمعات الإسلامية قرباً من المنبع وأكثرها محافظة، إذًا فهذا نجعله قاعدة، ولهذا أرى أن تركز أهم الجهود هنا ولا نترك الخارج، فإذا كنت مبتعثاً في مكان ما فلا يمنع أن أركز عليه، وهذا لا ينافي أن يكون اهتمامي الكلي منصب على القاعدة.
وكما ترون الجهاد الأفغاني، والجهاد الفلبيني -مثلاً- هذه البلاد هي مصدر العلم والتصور الصحيح للجهاد عندهم، ولذلك فهم يأتون إلى هذه البلاد وكذلك هي مصدر المال.
فلو أن هنا قاعدة مؤسسة تأسيساً كاملاً بحيث أن كل تجارنا يتبرعون، وكل شبابنا دعاة ومخلصون ومضحون، فكيف ستكون الأمة؟! كنا سنمدهم بأقوى المدد وينتصرون أعظم انتصار، والآن المضحون قليل، ومع ذلك فعلنا الأعاجيب ونفع الله بهم -والحمد لله- منفعة كبيرة، وهم قليل، ولو كان ما يصرف على اللهو واللعب يصرف على صميم الدعوة، وحفظ كتاب الله، وعلى حفظ أوقات الشباب، فكيف يكون الشباب؟! ونحن الآن على قلة الشباب فعلوا الأعاجيب، كما قلت لكم في أمريكا وغيرها، لو كان كل الشباب على مستوى هؤلاء الشباب لفتحنا العالم مرة ثانية، وما ذلك على الله بعزيز، ولا غرابة في ذلك أبداً، ولحققنا ما يسمى معجزات وهذا في وضع الضعف، فكيف لو كنا في حالة القوة وكانت الأمة كلها قاعدة للدعوة إلى الله.
شباب في أمريكا يدفعون من راتبهم وهم يدرسون، من أجل أن يستأجروا قناة في التلفزيون يدعون إلى الله سبحانه، والأمة في مجموعها تستطيع أن تشتري في أمريكا خمسين قناة أو أكثر، لأن الأمة عندما تدفع فليست كفرد، فأنا الآن -مثلاً- لي قدرة أن أدفع عشرة ريال، لكن البلد يستطيع أن يدفع عشرة ملايين، فقد يهتدي العالم كله -بإذن الله- ولا يبقى إلا من حقت عليه الضلالة، ومن هنا كانت ضرورة التركيز وأن نهتم بهذا البلد أن لا تفتك به المخدرات والأفلام، ولا تفتك به المغريات والملهيات، ونؤسس قاعدة الإسلام الكبرى -إن شاء الله- ومنطلقه العظيم هذا البلد، وهذه قد بشر بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن معتصم المسلمين في آخر الزمان يكون في بلاد الشام -إن شاء الله- وقلعة الإسلام ستكون هناك لكن هذا دليل على أن جزيرة العرب مضمونة، عندما نكون في بلاد الشام ونحارب الروم وغيرهم في بلاد الشام ويكون فسطاط المسلمين كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بـ الغوطة من دمشق، وهو مخيم القيادة، ومعنى ذلك أن الجزيرة العربية مضمونة.
ومن هنا حتى لا تبدد الطاقات أرى أنه لو ركزت الدعوة في شبابنا وفي مدارسنا وفي حاراتنا فبهذا نكسب الأمرين معاً، نكسب الدعوة هنا في القاعدة، ونكسب الخارج لأن هذا المرتكز هو الفئة التي هي فئة كل مؤمن كما قال عمر رضي الله عنه: أنا فئة كل مؤمن.
كان المسلمون إذا وجدوا أن أعداءهم أكثر من ضعفيهم وما يستطيعون القتال يفروا ولا يقولون: قد فررنا؛ لأن الله قد قال: {إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَة} [الأنفال:16] فهم يعتزون بهذه القاعدة، وبفضل الله أن هذه البلاد عجيبة، فقد أودع الله فيها من الطاقات العقلية والطاقات المادية ما لم يودعه في غيرها، وتتهافت وتسعى إليها قلوب ألف مليون مسلم، وفي بعض البلاد إذا مشيت وأنت بالغترة يكادون أن يقطعونها ويقبلونها والحمد لله.
الأمر الآخر: هذه الصحراء كانت سياجاً لنا في الماضي، فالروم والفرس لم تكن لهم قدرة على دخولها، حتى الإنجليز قالوا: لن ندخل هذه البلاد خمسون ألف جندي تذوب رءوسهم من شدة الشمس، في الصحراء ومن يستطيع أن يقاتل في الصحراء! ولنغض الطرف عن جزيرة العرب، فالآن جاءت التكنولوجيا المتطورة ولم تصبح مشكلة -أيضًا- فقد أعطانا الله في جوف هذه الصحراء قوة ما كنا نحلم بها، وهي قوة البترول والذهب والكنوز والطاقة الشمسية التي يقول العلماء عنها: إن كان البديل عن البترول فهو الطاقة الشمسية، ووجدوا أن أمريكا وأوروبا يغطيها السحاب طوال العام، وأكثر مخزون للطاقة الشمسية في الربع الخالي، فلا مشكلة لدينا لأن الأمر في أيدينا وستظل هي التي -بإذن الله- يمكن أن تكون قاعدة لفتح الدنيا كلها، فلهذا يجب تركيز الجهود، ولهذا نحن نتألم عندما نرى كثيراً من الإخوان يتكلم عن مشكلة الاختلاط ويتضاعف عندنا الألم إذا علمنا أنه يجب علينا بذل عمل أكثر، وهؤلاء هم شباب الأمة الذين يجب أن يكونوا مرتكزاً وقاعدة للدعوة إلى الله، فـ الشيوعية تأتي من كل جهة، والعلمانية، الإباحية، والرافضة، والقاديانية، كل منهم يطمع فينا، وتداعوا علينا كما تداعى الأكلة على قصعتها، ونحن الذين يجب أن نفتح الدنيا بالإيمان، وأنتم ترون الآن كيف تضيع الأوقات وكيف تبدد الطاقات؟! والله المستعان! ولهذا أقول: كل إنسان منا لابد أن يستشعر واجبه، ويضحي في سبيل هذا الواجب، ويستعين بالله على ذلك ونحاول أن نركز الجهود.
والحمد لله رب العالمين.(7/17)
حكم تارك الصلاة
السؤال
عندي أختان متزوجتان برجلين لا يصليان، وأكثر أقاربي لا يصلون، فكيف يكون موقفي؟ مع العلم بأني نصحت أزواج أخواتي، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
لم يذكر الأخ هل نصح الأختين أم لا، وهل تصليان أم لا، لأنه إن كانت الزوجة لا تصلي والزوج كذلك لا يصلي فالله المستعان! لكن إذا كان الزوج يصلي والزوجة لا تصلي أو العكس فهنا تكون المشكلة، إذ كيف تبقى مسلمة في عصمة كافر، أو كيف يرضى مسلم ببقاء عصمة كافره، فهنا الخلل، ولذلك نقول: على أية حال لابد من بذل النصح والاجتهاد معهم في الدعوة إلى الله، وإلى إقامة الصلاة ولا تقطعهما، واجتهد في النصيحة.
وهذا معلوم فإن كثير من الخلق يرفض الدعوة وقليل منهم من يقبل، وإن قبل أحد فلنفسه، وإن لم يقبل أحد فما خسرنا شيئاً والحمد لله، وهذا عملنا فلا نيأس ولا نقنط ولا نتخلى عن هذا الواجب، ولا نهجر الناس لمجرد أنا لا نستطيع أن ندعوهم إلى الله إلا بعد أن نرى أننا استنفذنا كل ما نستطيع، والله سبحانه يتولى أمرنا وأمرهم، وكثير من الناس قد لا يسمعك الآن لكن قد يهديه الله بعد أيام أو بعد سنين، ولو على كبر فلا تحتقر أن تلقي إليه الخير الآن لعله يتذكره يوماً ما، ولو قبل الموت يتذكر ويتوب ويشهد أن لا إله إلا الله، ويتمنى لو عوفيت لعبدت الله ولصليت، فقد يموت على خير مما لو مات وهو مستحل لترك الصلاة مثلاً، نسأل الله العفو والعافية.(7/18)
استغلال الوقت في الأمور المباحة
السؤال
هل تكون الألعاب المباحة مضيعة للوقت؟
الجواب
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {كل لهو يلهو به المرء باطل إلا ثلاث ملاعبة الرجل أهله وفرسه وسلاحه فإنهن من الحق} هذه من الحق وما عداها فباطل، والباطل قد يكون حراماً وقد يكون مكروهاً لما يشتمل عليه من عدم التفرغ إلى الحق، والمهم أنه ليس في ميزان المكسب، بل في ميزان الخسارة، فإن لم يكن هو خسارة وتجارة خاسرة في ذاتها، فأقل ما فيه أنه أضاع الوقت عن المتاجرة الرابحة، ومن هنا وتطبيقاً لذلك وإيماناً بأهمية الوقت والحياة كانت حياة السلف الصالح النموذج الواضح في المحافظة على الوقت من اللهو واللعب، ولكن كيف كانوا يفعلون كانوا كما قال معاذ لـ أبي موسى كما في الصحيح {أما أنا فأنام وأقوم فأصلي، وأحتسب في نومتي كما أحتسب في قومتي}، يعني أن المؤمن لا يضيع أي شيء من وقته، لكن ما كان من وقتك ليس في صميم الجد فهو للترويح عن النفس ولتقوى على هذا الجهد، ولهذا قال بعض السلف في مثل هذا الموضع: إن النفس كالدابة، فإن أجهدت الدابة فسرت بها ثلاثة أيام ولم تطعمها ولم ترحها، هلكت وماتت ولم توصلك إلى المراد، وإن رفقت بها وخففت وأطعمتها وصلت بإذن الله، فلابد من شيء مما يستجم به المؤمن ويستعين به على الطاعة، لكن لا يكون في حرام ولا في لهو أو لعب، بل بعض من وفقه الله للخير، وفي سير السلف الصالح نماذج لذلك يقول: إذا أظلمت علي الأمور وكثرت علي الهموم أذهب إلى المقابر، وكان يحدثني شخص قبل أيام فقال: إذا كثرت علي الهموم جداً والمشاكل أذهب إلى المقابر، وأرى أحوالهم وأعتبر بها فيذهب الهم كله، سبحان الله! هذا موفق للخير، وآخر يتفكر في المخلوقات فينظر في ملكوت السماوات والأرض ويتعجب، في الليل والنهار التي جعلها الله تعالى خلفة كيف تسير؟! وكيف تسير هذه الكواكب؟! ويتفكر في الأحياء والأموات والطيور والأعشاب وكل شيء يفكر فيه، فيكون ارتاح من عمله من جهة، ومن جهة أخرى وهي الأهم: أنه ذكر الله وعبده وقضى وقته بما يرضي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهكذا المؤمن بإمكانه أن لا يخسر أي شيء من وقته.(7/19)
ضياع الأوقات
السؤال
تواجهنا صعوبات في استغلال وقتنا عند الاجتماع بالأهل والإخوان وفي الحفلات والعزائم، ويكثر في ذلك الكلام غير المفيد فما هو الحل؟
الجواب
أولاً: لا أرى الحل في أن الإنسان دائمًا يأخذ معه كتاباً، ويقول ما دمنا نذهب إلى الوليمة وعند الأهل والأقارب فنأخذ معنا كتاباً! وهذا واقع فإننا نرى بعض الإخوان يسلم على أمه وأبيه، ثم تذهب أمه لتأتي بالشاي وهو يفتح الكتاب ويبدأ يكتب ويحلل، يا ولدي لماذا هذا؟ يقول: لكي أحافظ على وقتي! نقول: نعم أن الإنسان لا يضيع وقته لكن ليس من إضاعة الوقت أن تجلس مع أمك أو أبيك وتؤنسهما في الحديث، وتشرح لهما بعض الأمور حتى لو كلموك، وأنت قد ترى أنه كلام عادي لكن لابد أن تطيل النفس معهم وكذلك الأهل والأبناء وكذلك الجيران، بل احتسب أنت هذا الوقت وحاول أن توظف هذا الكلام ولو كان عادياً جداً لتأليفهم على الخير ولتحبيبه إليهم ولإفادتهم ولتستفيد أنت -أيضاً- فهذا مكسب لك وأجر إن شاء الله، ولا يجوز أن نفهم أن الجد في طلب العلم وفي الدعوة والعبادة معناه أن كل الوقت خشوع وقراءة وبكاء، بل نكون كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد قام بأعظم فأعظم الواجبات وهو واجب الدعوة والنذارة للعالمين، ومع ذلك كيف كانت حياته وعشرته ومباسطته لأهله ولضيفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللوفود كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنموذجاً فريد جداً والحمد لله الذي حفظ لنا سيرته، وإلا كنا نتخبط ونجتهد، قد نقول: إنه ما كان ينام أو ما أشبه ذلك فلا داعي لهذه الافتراضات، فالسيرة الصحيحة موجودة نقرؤها ونعمل كما عمل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن ذلك في حفلات الزواج أنا لا أرى أنه كلما تجمع الناس تكلمت مدة طويلة ثلاث ساعات حتى يأتي العشاء! هذا غير صحيح، لكن لا بأس بأن يتكلم شخص كلمة خفيفة وذاك يأتي بشيء آخر وهكذا حتى تكون الجلسة متنوعة، فلا نجعلها على شكل واحد معين فنتْعب ونتعِب، ونمَل ونُمِل.(7/20)
علاج النسيان وتفاوت القدرات
السؤال
أنا طالب في أحد المدارس الشرعية أشتكي من النسيان، فقد نسيت دروس الترم الأول مع بعض الأجزاء من القرآن، حيث إن ما أحفظه بالأمس أنساه اليوم، وجاءت الإجازة وعلي ست مواد شرعية أريد مراجعتها ولكني أؤجل إلى غد حتى هذا اليوم، وأنا لم أنته من كتاب، فما سبب النسيان للمواد الشرعية والقرآن، وبماذا تنصحني في استغلال وقتي؟
الجواب
إما أن يكون النسيان هذا لأسباب تتعلق بتفريط من الأخ، أو أنه من الله عز وجل وكل شيء من الله.
لكن هناك سبب مباشر منه، وهو أن بعض الناس لا يذاكر ولا يهتم ولا يقرأ ويضيع وقته ويلعب، وإذا حفظ السورة من القرآن فلا يراجعها، ثم يقول نسيت! حتى لو درست وفهمت، فكل شيء له طريقته، وفرق بين الحافظة وبين الذاكرة، فأنت قد تحفظ الدرس أول ما يشرحه المدرس، لكن إذا لم تراجعه فلا تذكره، فأناس عندهم حافظة وليس عندهم ذاكرة، وأناس عندهم ذاكرة وما عندهم حافظة، يعني يحفظ ببطء شديد لكنه إذا حفظ رسخ الحفظ، لأن الذاكرة قوية، وهناك من لديه ذاكرة وحافظة، وأناس لا يوجد عنده شيء، لكن نقول: إن الله سبحانه جعل الناس مواهب، فإن كان لديك موهبة لكنك لا تذاكر ثم تقول: أنا فهمته لكن نسيته، فمرِّن الذاكرة بدوام الاستذكار، وحياة العلم مراجعته ومذاكرته، أما من يقول: أنا أقرأ وأراجع ولكن إذا ذهبت إلى البيت لا أفهم شيئاً، فنقول لك كما قال الأصمعي: 'أتى رجل إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي، وقال: أريد أن أتعلم العروض، فلم يفهمه، ومر عليه أول يوم وثاني يوم ثم قال له الخليل: قطع هذا البيت:
إذا لم تستطع شيئًا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع
' فقطع الدرس ولم يعد، وعلم أنه لا يمكن أن يتعلم هذا العلم، فإذا لم يوفق الله العبد على طلب العلم فلا يتعب نفسه فيه ويذهب ليتعلم شيئاً آخر، فقد يكون عاملاً نشيطاً أو مهندساً أو ميكانيكياً أو أي شيء آخر من الأشياء التي لا يراد لها جهد وكدٌّ كبير، ولا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها، أما إرغام النفس على ما تأباه فهذا لا يكون ومما لا يؤدي إلى نتيجة.(7/21)
محافظة الطالب على وقته
السؤال
كيف يستطيع طالب المدرسة المحافظة على وقته، وأنت تعلم ما يتخلل الفترة الدراسية من الوقت الذي قد يقول قائل: لا أستطيع أن أستفيد من وقتي لأعمال الآخرة؟
الجواب
على كل حال هناك أمور نحن لا نريدها، لكن إذا فرضت علينا مثل النظام المطور، ونحن في الجامعة نشتكي ونصيح ومع ذلك يدرس، وإذا به يعمم على الثانويات، وقالوا: إنه من الممكن أن يطبق في ثانويات البنات، الشاهد فرضاً أنه وقع، كما في الثانويات المطورة، فالمؤمن يحاول أن يكون مرناً مع أي حادث، ومع أي ظرف فيوظفه ويسخره لما ينفعه، فخذ كتابك معك، أو خذ أي شيء من وسائل الفائدة معك، واجلس أنت وزملاءك في ساعات الفراغ هذه إن كانت موجودة لتستفيد من الوقت، وحاول أن تكيف واقعك لتستفيد من الوقت بقدر ما تستطيع، ما دام أنه أمر واقع لا مفر منه.
لو استطعنا أن نغير وأن نقضي على هذا بأن تتبنى المدرسة شيئاً مفيداً كأن يكون هناك حلقات تحفيظ قرآن أو نشاط في الدعوة الإسلامية لكان هذا شيئاً جيداً، وهذا الواجب وهذا هو المفروض، لكن إذا لم يوجد أي شيء فلا تعذر بل لا بد أن تجتهد، فتسبح الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وتذكره وحدك، وتقرأ القرآن وحدك، أو تخاطب أحد الطلاب وتدعوه إلى الخير في هذا الوقت فهذا أيضاً فرصة، حتى لو أن الإنسان ينشط جسمه ويمرنه بأي شكل ويستفيد من وقته، هذا أيضاً شيء مفيد، والمهم أن لا تضيِّع هذا الوقت في خسارة.(7/22)
تذكر الموت باعث للنشاط
السؤال
أنا شاب هداني الله بعد الضلال وأعاني من مشكلة وهي أنني أذكر الموت كثيراً، وعند ذكري له فإني أبقى في الفراش وأشعر بتكاسل وخوف شديد، ولا أستطيع عمل أي شيء وأخاف الانتكاس؟
الجواب
هذا عكس المفروض، فإن المفروض أن يعطيك ذلك قوة في الإثارة والطاقة، وهذا عجيب -يا أخي- هداني الله وإياك، هل من يذكر الموت يتكاسل؟! قد يكون الأخ عنده ظرف آخر، لكن أقول: الصحابة لما كانوا يتذكرون الموت كانوا يهبون ويعملون ويجتهدون لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
إذا تذكرت الموت، فتذكر أن الله سيسألك عن الصلاة فقم إليها ولا تتكاسل عنها، وتذكر أنه يجب قبل أن يدركني الموت أن أستفيد من هذا الوقت في طاعة الله، فاجتهد في طاعة الله وفي طلب علم أو دعوة أو أمر بالمعروف ونهي عن المنكر.
إن تذكر الموت قوة إيجابية للمؤمن وهو كما أشرنا من أعظم ما يثير همة المؤمن ويجعل طاقته تزداد يوماً بعد يوم، فيتذكر أنه سيموت فيجتهد أن يلقى الله سبحانه بأوفر وأوفى نصيب من العمل الصالح.(7/23)
ضبط الأوقات نابع من صدق القلب
السؤال
نرى الغرب الكافر يحرص على وقته ولا يفرط فيه، ونحن المسلمين نضيع أوقاتنا سدى، هل لليهود دور في ذلك؟
الجواب
الدور للقلوب الضعيفة، واليهود ما غصبونا ولا ضيعوا أوقاتنا، لكن اليهود يستغلون الأحداث ولا يصنعونها، لأن اليهود وجدوا أمة لاهية تحب اللهو، أما لو كانت أمة لا تقبل اللهو فكيف يلهيها اليهود؟! ولنفرض أنهم عملوا أفلامًا ومجلات ولم يشتريها أحد، وأحياناً يوزعونها مجاناً -وهذا يحصل- لكن لم يهتم بها أحد فإنها تموت، لكن لما كانت الأمة تحب اللهو واللعب والمباريات حدث كل هذا، ولهذا كتبوا في البروتوكولات؛ أنه لابد من تشجيع المباريات والفنون إلى آخره لأنها تلهي الأميين وتشغلهم، ويخطط اليهود في غفلة هؤلاء الأميين عما يراد بهم، فالمشكلة أننا نحن نضيع أوقاتنا والغرب الكافر لا يضبط أوقاته، وبعض الناس يظن أن الإنسان الغربي يضبط وقته ليؤدي العمل، وهو يضبط وقته ليذهب إلى الملهى أو المرقص أو الخمارة، فلابد من أوقات معينة يعربد فيها وأوقات أخرى لكي ينام، فالعبرة ليست بضبط الوقت، ولكن ما الدافع وراء ضبط الوقت.
ولهذا هم استفادوا من هذا الجانب في دنياهم لأن المحافظة على الوقت تفيد في الدنيا ولا ريب، وخسروا أوقاتهم وخسروا آخرتهم بلا ريب، لكن في الدنيا خسروا الأمن والراحة والطمأنينة لأن هذا الضبط لغير الله ولغير الخير، أما نحن المسلمين فنضيع الأوقات ولا نضبطها، لكن مهما كان فالمسلم -وعلى الأقل المصلي- هو أضبط من الغربيين إن شاء الله، وأحرص منهم على الوقت.
وأذكر مرة أنه زارنا ضيف في الجامعة الإسلامية -لكن أنسى اسمه الآن- وهو شاعر أمريكي من شعراء الهيبيز فجاء وأسلم وقابلناه في الجامعة الإسلامية فقلنا له: ما هو سبب إسلامك؟ فقال: ذهبت مع شركة إلى اليمن، واخترت اليمن لما بلغني أنه ليس فيها أي أثر للحضارة الغربية خاصة ذاك اليوم، في أوائل (1390 أو 1392هـ) الله أعلم، فقلت أعيش بعيدًا عن الحضارة، لأنهم يكرهون الحضارة، قال: ذهبت إلى هناك وتعبت مع العمال، وجربت معهم كل وسيلة من صياح وشجار ولكن لا فائدة فهم فوضويون في كل شيء، في أكلهم وشربهم ونومهم، وفي إحدى المرات كنت أراقبهم فإذا أذن المؤذن قام واحد منهم وتقدم للصلاة وهم يصفون خلفه، فإذا ركع ركعوا، وإذا سجد سجدوا، وإذا سلم سلموا، وهكذا في اليوم الثاني والثالث، فقلت للمترجم: قل لهم أنتم أمة غريبة جدًا! عملكم فوضى إلا هذه الحالة فما هو السر في هذا؟ فقال: إنها الصلاة وهذا هو دين الإسلام، فقلت: إن كان الإسلام يضبطكم وأنتم همج بهذا الشكل فأنا مسلم.
فنحن أمة همج لم يضبطنا إلا الإسلام، حتى المعربدين منا تجده يعربد بهمجية مما يجعله محل انتقاد من المعربدين الآخرين، لأننا -فعلاً- قوم لم نتأدب إلا بالإسلام ولا ننضبط ولا نستقيم إلا به، ولا ننتصر إلا به، وما زلت أذكر أننا لو أقمنا الصلاة لحاربنا بها المخدرات وضياع الأوقات، ومن فضل الله علينا أننا كلنا متفقون عليها ولا يشك فيها أحد، فوالله لو أقمناها حق الإقامة لما احتجنا إلى ما نحارب به هذه الأمم ولما خسرنا هذه الخسارة، فلو أقمناها لضبطت أوقاتنا وأعمالنا وأعمارنا، فكل شيء يضبط بإذن الله لو أقمنا الصلاة حق الإقامة، لكن الله المستعان!(7/24)
معارضة أوقات العمل لأوقات العبادة
السؤال
لماذا لم يستغل الدارسون الواضعون لأنظمة العمال توقيت العبادات في توقيت أوقات العمل، -فمثلاً- لماذا لا تكون أوقات العمل والدراسة بين الفجر والظهر؟
الجواب
هذا هو المفروض، وأذكر عندما كنا في الجامعة الإسلامية وكان الشيخ ابن باز رحمه الله رئيساً للجامعة في رمضان قالوا: هل يعقل أن تكون مثل الدوائر الأخرى، نداوم من الساعة العاشرة إلى الثالثة؟! فقالوا: نبدأ الدوام بعد الفجر بنصف ساعة وما يأتي الظهر إلا وقد انتهى الدوام، وسبحان الله شيء عجيب من الهدوء! ومحافظة على الوقت.
إن المشهود والمعروف في الدواوين الإسلامية والعمال المسلمين والقضاة والولاة قديماً كانت أعمالهم تبدأ من بعد صلاة الفجر فيبدءون الحياة إلى صلاة الظهر، وهو وقت طويل ومبارك، ويكفي لإنجاز معظم الأمور، لكن هذه الأيام وفي أثناء العمل تذهب ساعة بحجة الصلاة، والله أعلم من يصلي ومن لا يصلي، والمهم هو ضياع الوقت، أما الصلاة فهي حياة، وبعد هذا نرجع قريب العصر وخاصة في الأوقات التي يقصر فيها النهار، فيضطر كثير من الناس أن يتغدى وقت صلاة العصر ولا يصلي جماعة، وهذا أمر مشهود كما تلاحظون في نقصان الناس في صلاة العصر وكثرتهم في صلاة المغرب، ثم ينام إلى المغرب وربما لا يصلي المغرب، وإذا سألته؟ قال: الدوام! فهل أنت خلقت للعبادة أم للدوام؟! فمن المفروض أن يكون الدوام في أوقات مناسبة، لكن نحن يجب أن نعرف حق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وطاعة الله ومراعاة الوقت في هذا، وعموماً- أنظمة العمل والعمال في الوطن الإسلامي مشتقة أو منقولة من النظام الذي وضعه مكتب العمل الدولي في جنيف التابع للأمم المتحدة، والذين وضعوه كفار لا يعرفون الآخرة ولا يعرفون صلاة ولا شيئاً، فلذلك نجد أن من وفقه الله -كما في بعض الدول وبعض الإدارات- يضع وقتاً للصلاة من عنده هو، وإلا فالنظام العالمي ليس فيه وقت صلاة، وإنما وقت يسمونه وقت غداء، لهذا في بعض الشركات -سبحان الله! - لا تستطيع أن تصلي إلا في وقت الغداء، فالصلاة ليست محسوبة نسأل الله العافية.
فهذا جزء من التفكير العلماني: أناس يخططون ولا يضعون في حسابهم الآخرة أو الإسلام، وإن كانوا غربيين فهل نتبعهم ونقلدهم ونقتبس منهم بغير وعي؟!(7/25)
العلمانية في طورها الجديد
في هذه المادة تحدث الشيخ حفظه الله عن العلمانية بوجهها الجديد، مبيناً الأسباب التي جعلت العلمانية فرضاً علينا، وموضحاً الفكرة التي خرج بها العلمانيون أخيراً، ثم ذكر الخطة التي اتفق عليها العلمانيون مع الشيوعية ضد الإسلام، والمذاهب الجديدة التي أتى بها العلمانيون باسم الإسلام، مستعرضاً أهداف العلمانية، ومحذراً من هجمتها الشرسة على مصادرنا الإسلامية وتمييعها لثوابت ومسلَّمات الأمة,(8/1)
مفاسد العلمانية
الحمد لله القائل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيرا ً) [الفرقان:31] وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد القائل: {تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك} وصلى الله وسلم وبارك على آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين وبعد: فلا شك -أيها الإخوة- في الله أن العلمانية بتلك المنزلة من الخطورة، وأنكم جميعاً -والحمد لله- على علم بها، فالعلمانية هي أكثر المذاهب الفكرية وضوحاً وجلاءًَ في الواقع المشاهد المحسوس، وإن كانت ربما تبدو غامضة في الذهن، فهي منهج واقعي ضخم، تعيش الأرض جميعاً -إلا ما رحم ربك- هذا المبدأ، وهذا المنهج القائم على الشرك بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو أعظم وأكبر ذنب عصي الله عز وجل به، القائم على أن الدين الذي أنزله الله تبارك وتعالى والكتاب والحق الذي شرعه لا شأن له في حياة الناس، بل ذلك الشأن للأرباب والمتفرقين والمتألهين من العباد والأنظمة والمناهج، وليس لله عز وجل -في نظر أولئك المجرمين- من نصيب، إلا ما يُؤدَّى من شعائر تعبدية، أو ما يسمى بالصلة الروحية به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، هذه قضية معروفة عن هذا المنهج في كل مكان وجد فيه؛ ولا سيما حيث نبتت بذوره الخبيثة في أوروبا المجرمة الشاردة عن دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شرقها وغربها، الشيوعي منها والرأسمالي.
ولا يهمنا الآن أن نتحدث عن العلمانية، بقدر ما يهمنا الحديث عن الطور الجديد الذي تعيشه، فإن الأفكار تنمو كما تنمو الأمم، وتتطور كما يتطور الأفراد أو الكائنات الحية، وإنه لا يليق بالأمة الإسلامية أن تقف عند تصور محدد لمجابهة فكرة خطيرة، بينما تلك الفكرة قد انتقلت إلى مرحلة أعلى من المجابهة، وإلى درجة أكثر من التنظير، فيجب علينا أن نعيش كل مرحلة وأن نجتهد في مواجهة كل مستوى من مستويات الانحراف، بحسب مقتضى الأحوال.(8/2)
أهداف العلمانية
العلمانية - أيها الإخوة الكرام- فرضت على العالم الإسلامي -وهي غريبة عنه- لأسبابٍ كثيرة لا مجال لذكرها الآن، ولكننا نجملها في سببين.
السبب الأول هو: أن الأمة الإسلامية قد تركت كتاب الله عز وجل وراء ظهورها، وتركت سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحكَّمت آراء الرجال، واتبعت الفرق والطرق البدعية والضلالات التي عشعشت وفرخت في الأمة، وبذلك كانت أهلاً لأن تتقبل العبودية الفكرية لأية أمة قوية غازية، ثم جاءت هذه الأمة القوية ممثلة في أوروبا الصليبية التي كانت وما تزال أخطر عدو للإسلام والمسلمين، إذ يجتمع فيها اليهود والنصارى، وهما العدو اللدود لهذا الدين، منذ أن أظهر الله تبارك وتعالى محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعثه، وهم يكيدون له ذلك الكيد العظيم {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] هذا شأنهم دائماً وذاك ديدنهم.
والسبب الآخر هو: أن هذه العلمانية فرضت في حالة تناسب حال الأمة، يومئذ تلك الأمة المنحرفة الضالة عن الكتاب والسنة، والبعيدة عن منهج الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وعن العلم الشرعي الصحيح، وعن دعوة التوحيد الحقيقية وقد كانت الدعوة موجودة -والحمد لله- وقد دعا إليها المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، ولكن الأقطار الأخرى التي لم تشملها الدعوة ظهرت فيها العلمانية وطبقها المستعمر، ثم طبقها خلفاؤه من بعده، ولا يخفى عليكم الرموز، أو الأصنام الكبرى للعلمانية، ابتداء من أتاتورك وانتهاء بأبي رقيبة وأمثاله.
فهذه مرحلة من مراحل العلمانية، العداء فيها سافراً، واضحاً والتحدي لله ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صارخاً، ويكون الإنكار والمكابرة لحقائق هذا الدين، وتكون الشعارات والرايات المرفوعة: اشتراكية قومية، بعثية تحررية وحدوية، إلى آخر الشعارات الزائفة الباطلة.
أما المسلم أياً كان اسمه، وأياً كان انتماءه وثناؤه فهو رجعي متأخر، يجب إبادته، وسوف تسحقه حتمية التاريخ، وسوف تسحقه الجماهير والشعوب -كما يقال- المتحررة من نيران التخلف والجمود.
هذه مرحلة، ولكنها انتهت، وابتدأت صفحة جديدة، هي التي يجب أن نهتم بها الآن، وأن نعي خطرها، وما مقتضى هذا التغير؟(8/3)
مقتضيات التغيير في العلمانية
لهذا التغيير المنشود في العلمانية مقتضيات عدة منها: أولاً: أن الهجوم المباشر على الإسلام لم يؤدِّ النتيجة المطلوبة.
أن يقف الزعيم، أو الحزب، أو الصحفي، أو الكاتب، فيسب الله تعالى، ويسب رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويسب الحجاب، ويسب تحريم الربا، أو ينكر ذلك، وأشباهه؛ هذه مرحلة عفا عليها الزمن، ولم تؤد الدور المطلوب، وقد فشلت وأخفقت إخفاقاً ذريعاً واضحاً للأسياد في الشرق والغرب.
ثانياً: أنه قد ظهرت -والحمد لله- هذه الصحوة الطيبة المباركة في كل مكان، وهذه الدعوات التجديدية على تفاوت فيما بينها تطالب بالعودة إلى الكتاب والسنة.
وهنا وجد الأعداء أنفسهم أمام أمرين: مواجهة بين صحوة ناشئة تطالب بالإسلام عقيدة ومنهجاً للحياة، وبين شعارات وأفكار مهترئة متلاشية، لا قيمة لها في واقع الحياة، ذاقت الأمة مراراتها، وتحاول التخلص منها، ولم يبق لها من سبب للوجود، إلا السيطرة والسلطان والقوة التي يفرضها الغرب من جهة، وأتباعه من عملائه وأوليائه من جهة أخرى، فكان لا بد من التغيير، ومن وضع خطط جديدة.
وهذه الدلالة على التغيير كثيرة جداً، ونكتفي بسرد أمثلة محدودة من ذلك؛ لأن ما يهمنا هو أن ننبه بهذا الخطر الجديد الوافد، وهو: أنه في الولايات المتحدة الأمريكية -زعيمة الصليبية العالمية، وأعدى عدو للإسلام في هذا العصر، ولكنه عدوٌ ماكرٌ خبيث- دُرِسَ الموضوع، ومن التقارير التي ظهرت واشتهرت.
التقرير الذي نُشِر في أيام الرئيس جونسون، ونشره الأستاذ سعد جمعة والشيخ محمد محمود الصواف في معركة الإسلام، وغيرهما، مِمن اطلع على التقرير ونشره.
وكذلك تتابعت الدراسات فيها، وأنشئت أقسام في وزارة الخارجية، وفي وكالة الاستخبارات الأمريكية، كما أنشئت أقسام أكاديمية بحتة، وتوسع في الدراسات الاستشراقية، وعقد فيها عدة مؤتمرات للمستشرقين، وتبنت خطة جديدة، ومرحلة جديدة، كان قد نظر لها تقريباً المستشرق الإنجليزي جيف، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى نجد الشيوعية -التي نرى في هذه الأيام، أنها أصبحت حديث العالم في كل مكان- أنها قد خططت لذلك، في وثيقة مشابهة، بل نقول: إنها أفادت من التجربة الأمريكية أيضاً -وثائقياً- كما أفادت من تجاربها الخاصة، إذ كانت تطمع أن تكون هي العقيدة المسيطرة على العالم الإسلامي في الثمانينات الهجرية، والستينات الميلادية، ولا بأس أن نقرأ عليكم نتفاً من هذه الوثيقة الشيوعية، التي لا نزال نرى آثارها في واقع الحياة، والتي -كما قلت- تعطينا صورة عن الفكر الصليبي في جملته، ثم نشرع في الحديث عن تطبيق هذه الخطة سواء من الشرق أو الغرب لوضع مرحلة جديدة للعلمانية.(8/4)
فضح بعض الخطط العلمانية
بعد تبين إخفاق المرحلة الأولى، جاءت هذه الوثيقة، وقد نشرت من ضمن ما نشرت في كتاب الشيوعية والأديان للأستاذ طارق الحجي ونشرتها مجلة كلمة الحق أيضاً، ونتجاوز المقدمة على أهميتها: أولاً: 'مهادنة الإسلام لتتم الغلبة عليه، والمهادنة لأجل، حتى نضمن أيضاً السيطرة، ونجتنب الشعوب العربية بالاشتراكية ' ثانياً: تشويه سمعة رجال الدين -هم ليسوا رجال دين، وإنما علماء، ولكن على تعبيرهم النصراني الكنسي- والحكام المتدينين واتهامهم بالعمالة للاستعمار والصهيونية من الفقرة السادسة: 'الحيلولة دون قيام حركات دينية في البلاد، مهما كان شأنها ضعيفاً، والعمل الدائم يقظة لمحو أي انبعاث ديني، والضرب بعنف لا رحمة فيه لكل من يدعو إلى الدين، ولو أدى إلى الموت وهذا بالذات داخل الاتحاد السوفيتي ' من الفقرة السابعة: ومع هذا لا يغيب عنا أن للدين دوره الخطير في بناء المجتمعات، ولهذا وجب أن نحاصره من كل الجهات وفي كل مكان وإلصاق التهم به، وتنفير الناس منه بالأسلوب -انظروا هذا الشرط- الذي لا ينم عن معاداة الإسلام.
من الفقرة العاشرة: ' إن فصم روابط الدين ومحو الدين لا يتمان بهدم المساجد، لأن الدين يكمن في الضمير' استفادوا من تجربتهم أيام لينين واستالين، حينما هدموا المساجد، والكنائس أيضاً والمعابد عموماً فقالوا: إن القضاء على الدين لا يمكن أن يتم بهدم المساجد، لماذا ' لأن الدين يكمن في الضمير، والمطلوب هو هدم الضمير الديني' وإشغال الناس بكل ما يبعدهم عن الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ومن الفقرة الثانية عشر: ' خداع الجماهير ومن ذلك أن نقول عن محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه إمام اشتراكي، فهو فقير وتبعه فقراء، وحارب الأغنياء المحتكرين، والإقطاعيين، والرأسماليين، والمرابين، وثار عليهم، وعلى هذا النحو يجب أن نصور الأنبياء والرسل، ونبعد القداسات الروحية والوحي والمعجزات عنهم بقدر الإمكان فهم عباقرة عظماء فقط؛ لنجعلهم بشراً عاديين حتى يسهل علينا القضاء على الهالة التي أوجدوها لأنفسهم، وأوجدها لهم أتباعهم المهوسون '.
من الفقرة الثامنة عشرة: ' نشر الأفكار الإلحادية، بل نشر كل فكرة تضعف الشعور الديني، والعقيدة الدينية، وزعزعة الثقة في رجال الدين، في كل قطر إسلامي ' انتبهوا كم يكررون الفصل بين الشعوب، والعلماء، والطعن في العلماء، واتهام العلماء والدعاة.
يقول في الفقرة التاسعة عشرة: ' لا بأس من استخدام الدين، لهدم الدين، ولا بأس من أداء الزعماء الاشتراكيين بعض الفرائض الدينية الجماعية كصلاة الجمعة وصلاة التراويح وأحياناً العيدين للتضليل والخداع، على أن لا يطول زمن ذلك ' ولا يستمر ولا ينظر إليه على أنه شيء أبدي لكن فقط لمخادعة الجماهير.
ومن الفقرة العشرين: ' إلصاق كل عيوب الدراويش، وخطايا رجال الدين بالدين نفسه ' كل الدراويش كالصوفية ونحوهم كل خطيئة يرتكبونها، وفساد، ونهم وجشع للدنيا وانحراف سلوكي، أو أخلاقي، أو أي عمل يلصق بالدين، فيشوه بالدين من خلال المشوهين ممن ينتسبون إليه.
من الفقرة الحادية والعشرين: ' تسمية الإسلام الذي تؤيده الاشتراكية لبلوغ مآربها، وتحقيق غايتها بالدين الصحيح -هذا هو الإسلام الصحيح- والدين الثوري، والدين المتطور، ودين المستقبل ' هذه الأوصاف كلها للإسلام الذي يضعونه، لا الإسلام الذي أنزله الله تبارك وتعالى على عبده ورسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ' حتى يتم تجريد الإسلام، الذي جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من خصائصه ومعالمه، والاحتفاظ منه بالاسم فقط، لأن العرب إلا القليل مسلمون بطبيعتهم، فليكونوا الآن مسلمين اسماً، اشتراكيين فعلاً، حتى يذوب الاسم كما ذاب معنى ' اشتركيين أو ديمقراطيين فأي تسمية لا تهم.
من الفقرة الثالثة والعشرين: ' وإذا وجدنا من الضروري مهادنة الدين وتأييده، وجب أن تكون المهادنة لأجل ' لاحظوا كم كرروا هذا التنبيه (المهادنة لأجل) فيفتحون الأبواب لما يسمى الانفتاحات أو الحريات حتى تنخدع الشعوب الإسلامية الواقعة تحت سلطتهم، وتبدأ في إظهار أنفسها والدعوة، ثم يكون بعد ذلك الانقضاض والتخطيط.
من الفقرة الخامسة والعشرين: ' الاهتمام بالإسلام مقصود منه: أولاً: استخدام الإسلام في تحطيم الإسلام ' وسنرى عند الحديث عن التطبيق إن شاء الله.
' وثانياً: استخدام الإسلام للدخول إلى شعوب العالم الإسلامي ' للتغلغل ونشر المبادئ الغربية، في شعوب العالم الإسلامي.
السادس والعشرين: ' وباسم تصحيح المفاهيم الإسلامية ' انظروا شيوعيون، يصححون دين الإسلام وينقونه، سبحان الله! قال: ' وباسم تصحيح المفاهيم الإسلامية، وتنقيته من الشوائب، وتحت ستار الإسلام، يتم القضاء عليه بأن يستبدل به الاشتراكية ' أو أي منهج على أية حال.
وهذا إشارة إلى الوثيقة الأمريكية، وقراءة موجزه لبعض ما جاء في الوثيقة السوفيتية، وهناك وثائق أخرى مهمة منها ما ينشر في مجلة المجتمع عن محاضر الكونجرس الأمريكي، وكذلك نشرت في مجلة الوطن العربي محاضر أخرى وجلسات تتعلق بالصحوة الإسلامية، وهناك أيضاً الكتب التي كتبها نيتشل -وأمثاله- عن الصحوة الإسلامية، وهذه منشورة وموجودة، كما نشرت مجلة المستقبل العربي، ونقلتها عنها بعض الكتب الإسلامية الأخرى، وفحواها أن المخابرات الأمريكية عقدت في عام 1983م -في تلك السنة فقط- 120 ندوة لدراسة الصحوة الإسلامية.
ونحن نعلم مقدماً أن هذا لا يخيفنا -والحمد لله- مهما خططوا، لكن يجب علينا أن نعرف واجبنا ونعرف العدو، ونعرف كيف نقاومه، أما أن تخيفنا هذه الأرقام وهذه الخطط فلا تخيفنا إذا اتقينا وصبرنا، {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] كما أخبر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنما نذكر هذا ليحفزنا إلى مزيد من الصبر، ومزيد من التقوى ومعرفة حال هؤلاء وكيفية مقاومتهم.(8/5)
التسميات التي أطلقها العلمانيون على الإسلام
بعد ذلك ننتقل إلى التطبيق الذي حصل.
فقد ظهرت في السنوات الأخيرة أسماء منها ما يسمى "اليسار الإسلامي"، ونحن نعرف أن الإسلام ليس به يسار ويمين {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] لا يسار إسلامي، ولا يمين إسلامي.
كما ظهرت ما تسمى بالحركات التجديدية، وهي تجدد كل شيء ولا تقف، ولا تلتزم بالتجديد الذي أمرنا به، ويجب علينا جميعاً أن نجدده وهو: العودة بالناس للكتاب والسنة، ولكنها تجدد ما سنذكره.
ظهرت باسم النقد الذاتي: مؤلفات أو اتجاهات باسم النقد الذاتي، وتقصد بذلك:- نقد الحركات الإسلامية والدعوات الإسلامية.
أولاً: أكثر ما ينقدون وينتقدون أو يتغافلون ويتجاهلون، هو دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمة الله عليه- هذه لا قيمة لها عندهم، ولا تحسب على أنها دعوة تجديديه، وإنما ينظر إليها على أنها شكلية، قشور، تقليدية، إلى آخر ما يلصقونه بها من معايب ومن تهم، إن لم يتجاهلونها بالكلية، ولا ينظرون إليها، ولا إلى آثارها الضخمة -والحمد لله- التي لا تزال حية في الواقع على مستوى الأمة الإسلامية جميعاً.
ثم ينقدون الدعوات الإسلامية الأخرى، من باب الدخول إلى الشباب في الحركات والدعوات والجماعات الإسلامية الذين رأوا انحرافات، وتململوا، وكاد اليأس أن يستولي على قلوبهم مما يرون من الأخطاء، فدخلوا إليهم عن طريق هدم الأصول التي من الممكن أن تحيي الأمل في نفوسهم، وجرفهم إلى ما يريدون باسم النقد الذاتي، وإلى نشر الأفكار التي يدعون إليها.
يظهرون تارة باسم الإنسانية والدعوة إلى التعاون العالمي، ضمن مواثيق الأمم المتحدة، وهكذا تتعدد الأسماء، ولكن المقصود من ذلك واحد.
بالطبع لن نستطيع أن نأتي بالنماذج من كلامهم، وحتى الأسماء أو المؤلفات، ولكن سأحاول -إن شاء الله- أن أوجز المجالات التي أوجدوا بالفعل فيها مبادئ محددة لهم، وقضايا رئيسية؛ ويندرج تحتها فرعيات كثيرة.(8/6)
مستهدفات العلمانية
أولاً: مسألة العقيدة: هؤلاء الذين يسمون تجديديين، أو مصلحين، أو عصريين، أو تطويريين أو يساريين إسلاميين، إلى آخر هذه الأسماء المختلفة، عندهم توحيد الأسماء والصفات لا يذكر ولا يهتمون به، ويعتبرون الحديث فيه من اللغو الباطل، الذي لا يجوز أن يدخل فيه.
توحيد الألوهية عندهم، والحديث عن الشرك، وأشباهه لا يمثل عندهم شيئاً، فهم قوم يرون أن كل من انتسب إلى الإسلام فهو مسلم، حتى أصحاب الضلالات، كالماركسيين، فالذي اسمه محمد أو عبد الله أو إلى آخره من أسماء المسلمين، فهم يعتبرونه مسلماً، وكذلك الاشتراكيون البعثييون وغيرهم، يعتبرون هؤلاء مسلمين، فليس عندهم توحيد ألوهية، ولا توحيد في الأسماء والصفات مطلقاً، فالقاعدة عندهم أن كل من انتسب للإسلام وآمن بأن الله موجود فهو مسلم، ولا يفكرون في ما بعد ذلك.
بل بعضهم جاهر وقال: إن البهائية والقاديانية والرافضة وأشباههم لا مانع أن يسموا مسلمين، ولا فرق بيننا وبينهم، وبعضهم يقول: لا، إن الاثنتين والسبعين فرقة، التي أخبر عنها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يخرج من ذلك إلا البهائية والقاديانية فقط، أما البقية كلهم من أهل السنة، فـ الخوارج والمعتزلة والشيعة كلها فرق إسلامية، ولا حرج.
ثانياً: ما موقفهم من الشريعة، ومن تطبيق شريعة الله، ومن الأحكام، ومن إقامة الحدود.
لهم موقف عجيب جداً، يقولون: أولاً: لا مانع من وجود أحزاب لا تطالب بإقامة شريعة الله، وصرح بعضهم -وربما قرأتم لبعض المغفلين الذين انساقوا وراءهم- أنه لا مانع من قيام أحزاب شيوعية في ظل الحكومة الإسلامية، أو في المجتمع الإسلامي، المهم أن تلتزم بالإسلام كحل - سبحان الله -كيف تلتزم؟! أما الديمقراطية فالكل يسعى إليها، وينعق بها، وأذكر لكم -مثالاً فقط- ما يدور في صفحات جريدة الشرق الأوسط، فهم بين الحين والحين يأتون بشيخ جديد ليبث أن الديمقراطية هي الإسلام، وأن الإسلام هو الديمقراطية، وعليه فلا يمكن إقامة شريعة الله، ولا إقامة حكم الله، ولا إقامة الحدود، إذاً على من يقام حد الردة! إذا كنا نسمح بوجود أحزاب شيوعية، فعلى من يقام حد الردة؟ إذا كنا نقول: إن حرية الرأي يجب أن تستمر، حتى يقول كل إنسان ما شاء؟! يظهر في هذا الأثر الواضح في حياة أولئك الناس في الغرب، ولتعمدهم السير في ركاب العلمانية الجديدة التي يقودها الاستعمار الغربي ويخطط لها، لإحلالها محل العلمانية الملفوظة المرفوضة التي بدأت -والحمد لله- الآن تنهار في العالم الإسلامي.
طبعاً لديهم مصادر، والتاريخ مملوء بالاننحرافات، فقد رجعوا إلى مثل الطوفي الذي يقول: [[إن المصلحة تقدم على النص]] وأخذوا منه، وأخذوا من شذوذات داوود بن علي الظاهري وأخذوا من شذوذات ابن حزم وأخذوا من شذوذات بعض المؤلفين للقواعد الفقهية، واستنتجوا من ذلك أن الإسلام لا يمكن أن يطبق نصاً وحرفاً، الإسلام عندهم مباديء عامة، وليس أحكاماً تفصيلية مقررة، يضربون كتاب الله بعضه ببعض.
يقولون مثلاً: قوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] يضربون بها قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38].
يقولون: الآن المجتمعات في هذا العصر، تعيش في حالة من الإنهاك الاقتصادي، ومن السيطرة الغربية، وكذا وكذا، فلا يمكن إقامة السرقة، وحد الزنا، لأنه أقيم في أول الإسلام لأمر مصلحي، والآن لا يمكن أن تقام الحدود، فيبقى الإسلام دعوة عامة للعدل، لكن يمكن أن يطبق العدل، عن طريق الأنظمة والقوانين الوضعية.
فلا يرضون بأخذ أحكام شرعية من قول الله وقول رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويعتبرونها حرفية مرفوضة تماماً.
يقولون: وجد منافقون في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان لهم رأس كما ورد في السيرة أن عبد الله بن أبي رأس النفاق، فيستدلون بهذا على جواز وجود أحزاب معارضة شيوعية أو يمينية أو يسارية كما قلنا.
وفي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] يقولون: إذاً: كيف نقسم العالم إلى دار كفر، ودار إسلام، وكيف نجعل دية المسلم، غير دية الكافر، وكيف لا نقتص للكافر من المسلم إذا قتله، والله تعالى يقول هذه الآيات؟ وهكذا يضربون الأحكام الشرعية فيلغون الأحكام التفصيلية باستنباطات جديدة مباشرة من النصوص الشرعية، بمنهج انتقائي غريب.(8/7)
مهاجمة العلمانية للمنابع الإسلامية
بعد ذلك يأتون إلى الأصول التي يجتمع عليها الناس ويفهمون منها، ويأخذون منها أحكامهم ودينهم، فيضربونها ضربة قاضية.
فمثلاً: نحن عندنا علوم معيارية، وعلم أصول الفقه، وهذا يضبط كيف نستنبط الأحكام؟ وما هي مصادر الاستنباط؟ إلى آخر ذلك، فيضربون أصول الفقه ويقولون: لا بد من أصول فقه جديد، وكذلك القياس؛ يقولون: لا بد من القياس الواسع، بمعنى: قس أي شيء على أي شيء كما يحلو لك، وكذلك المصلحة الواسعة، ليست المصلحة الشرعية، بل المصلحة الواسعة التي يمكن أن تلغي النصوص، وكذلك الإجماع المقيد، يقولون: أنتم تقولون: إن الإجماع إجماع مجتهدي الأمة! وهذا غير ما عندنا من الإجماع المقيد قال بعضهم: إذا أجمع طلاب مدرسة ثانوية على شيء، فهذا إجماع، ولو أجمعت جمعية على شيء فهذا إجماع.
فيقولون: لماذا نقيد الإجماع بإجماع المجتهدين؟ ولم هذه الشروط الصعبة؟ وهذا مؤداه هدم هذه الأصول؛ لأنها إذا هدمت يبقى القرآن، والسنة ألفاظاً عائمة لا تستفاد منها أحكام، وتقرأ للتبرك، أو في الصلاة، أما في الواقع، فلا يمكن لأحد أن يطبقها أو أن يقيمها.
قالوا أيضاً فيما ما يتعلق بأصول الحديث: أصول الحديث هذه يجب إعادة النظر فيها، وقد تجرأ بعضهم -عياذاً بالله- فصرح وقال: من القواعد التي يجب إعادة النظر فيها أن علماء الجرح والتعديل قرروا أن الصحابة كلهم عدول.
قال: وهذا ليس صحيحاً! فليس بمجرد أنه رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وآمن به يكون عدلاً! فجاء باجتهاد لم يسبق إليه وقال: نضع شروطاً لقبول رواية الصحابي، نقول منها: أن لا يروي الصحابي حديثاً فيه مصلحة له أو لمن يواليه حتى نضمن أنه لم يبتدع من عنده.
أي أنه يتهم الصحابة بالكذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمصالح شخصية والعياذ بالله.
ثم يأتي إلى الصحيحين ويقول: لا نسلم بأن كل ما في الصحيحين صحيح، بل لا بد أن نعرض ما فيهما على القرائن والنظر العقلي، والتاريخ، والتحليل النفسي، والتحليل الاجتماعي، ويهذون بعبارات إذا رآها الإنسان يقول: صحيح! إذن لا بد أن نعيد النظر، فيشككون الناس في قيمة السنة النبوية.
أما الفقه فهجومهم عليه عجيب: فهم يدخلون من مدخل سلفي، فيقولون أول شيء: الحجة هو الكتاب والسنة، وآراء الرجال لا حجة فيها، فنقول: ما شاء الله، كلام طيب! لكن ماذا يريدون؟ يريدون فصل كلام السلف وفصل تطبيق السلف وكلامهم وتفسيرهم وفهمهم للكتاب والسنة فصلاً كاملاً، فيأخذون هم مباشرة من القرآن والسنة؛ وأنت تأخذ مباشرة، فيقلبون الآيات كما ذكرنا، ويضربون كتاب الله بعضه ببعض، ويضربون الحديث بعضه ببعض كما يشاءون، ويصححون ويضعفون كما يشاءون، أما كلام الأئمة العلماء وفهمهم وعملهم وتطبيقهم ومؤلفاتهم فهذا كلام بشر، ويقولون: فرق بين الدين وبين فهم الدين وصورة التدين، ففهم الدين يختلف بحسب العصور، وصورة التدين تختلف بحسب العصور، أما الدين فهو النص فقط، ثم كل يفهمه كما يشاء.
وهجموا هجوماً آخر فقالوا: كتب الفقه المطولات المعقدات تستطرد وتطيل النفس في أبواب الحيض والنفاس، والصلاة، والصيام والزكاة، ولكنها لا تتعرض لأبواب الإمامة والخلافة ونظام الحكم والشورى لماذا؟ قالوا: لأنها كتبت في أيام سيطرة الحكام الاستبداديين، والعلماء كانوا يسيرون في ركاب السلطة، فهو فقه مرحلي، مؤقت، فقه كان يتكلم باسم الطبقة المسيطرة، وباسم الحكام وأولياء الأمور في تلك المرحلة.
طبعاً معروف أننا لم نجد في كتب الفقه، أو قد لا نجد على العموم ما يتعلق بالإمامة والخلافة؟ لأن باب الإمامة أرفع عندنا من أن يذكر في أبواب الفقه، فهو موجود في كتب العقيدة كما تعلمون، الإمامة من مسائل العقيدة.
ونظراً لما جرى من الخوارج وغيرهم، فهم يأتون إلى هذا الشيء.
يقولون: الفقه الإسلامي فقه عنصري! كيف هذا؟ قالوا: انظر كيف أن الفقهاء يقسمون الدور إلى دار حرب ودار إسلام، وهذه مرحلة نتيجة الحروب الصليبية التي كانت دائرة، ونتيجة أن الناس في العصور الوسطى كان النصراني يكفر المسلم، والمسلم يكفر النصراني، أما الآن فلا، العالم انفتح الآن، وصارت هناك حقوق للإنسان، ولا يصلح بعد الآن، أن نقول: فقه للمسلمين وفقه لغير المسلمين، دار إسلام ودار حرب، هذا كله كلام لا قيمة له الآن.
بعد ذلك إذا جئنا للاقتصاد يأتونك بالعجب العجاب، البنوك لا بد منها، الفوائد الربوية ضرورية، ومن الذي يقول: إن الفوائد ليست حلالاً؟! ويدافعون عنها أشد الدفاع، المؤسسات الرأسمالية تقوم كما هو الحال في الدول الغربية، وكذلك الشركات تقوم على النمط الغربي، وهذا من الإسلام ومن الديمقراطية ومن حرية المال، أو من الاشتراكية، كما في الوثيقة الاشتراكية، واليسار الإسلامي يقول: الماء والنار والكلأ مباحة للجميع، ويقاس على ذلك كل وسائل الإنتاج، ويقاس على ذلك المصانع والتأمين إلخ.
فتكون الأحكام كلها نسخة من الغرب، ولا تؤخذ من الفقه الإسلامي، ولا من كتاب الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وبالذات في هذا الجانب.(8/8)
المرأة والحجاب
موضوع المرأة والحجاب، ماذا يقول فيه العلمانيون الجدد؟ الذين يلبسون ثوب الإسلام المزعوم، فضفاضاً واسعاً، ويقولون: المجتمع الإسلامي، ليس مجتمعاً منفصلاً، المرأة فيه لا تختلط بالرجال؛ بل هو مجتمع مختلط، ولكنه فقط محتشم لا منفصل، هذا شعارهم! وما هو تفصيل هذه الحشمة؟ تغطية الوجه ينكرونها تماماً، الحجاب الحقيقي الذي هو أن تكون المرأة في بيتها، فإن خرجت فهي مغطية لوجهها وسائر جسمها ينكرونه، ويقولون: يجب أن تخرج المرأة، والمرأة مظلومة، والفقه الأعوج، أو الفقه الميت إلى آخره، هو الذي يحبس المرأة في البيت، أو يأمرها بأن تغطي وجهها، وأننا نخجل ونستحيي أن يرانا الغربيون ونساؤنا يغطين وجوههن، والغربيات يحكمن الدول، جاء هذا على ألسنة كثيرين وليس رجلاً واحداً فقط، إنما هذا كاتجاه ومنهج لإفساد المرأة المسلمة.
والفن ماذا يقولون؟ لهم رسائل في ذلك، ولهم كتب منها كتاب الدين والفن، منها كتاب آراء تقدمية في الفكر الإسلامي يقولون: يوجد في الفقه الإسلامي آراء تقدمية سبقت عصرها.
إذن عندنا كنوز خفية ما نعلمها، انظروا إلى ابن حزم كيف أباح الغناء، هذا فكر تقدمي، والآن القرن العشرين بدأ الإنسان المعاصر يحس بأهمية الغناء وضرورته، لكن المتزمتين والمتشددين يقولون: البخاري روى وفلان قال، وابن القيم ذكر خمسين وجهاً في تحريمه، كله كلام لا قيمة له في نظرهم.
ومن الآراء التقدمية أو التحررية والتجديدية قول بعضهم: الرقص إن كان المقصود منه إثارة الشهوات فلا ينبغي، وأما إن كان المقصود منه بعض الشعور، والإحساس بالجمال، وتنمية الشعور بالجمال، وتنبيه الناس إلى بديع خلق الله، فهو قد يخدم أغراضاً إسلامية، وكذلك الموسيقى، ولهذا فهم من أشد الناس تضجراً بتوبة المغنين والممثلين والمطربين، يتضجرون في الصحف علانية ولا يستحيون وهم يرفعون أسماء إسلامية ويدعون ذلك، ويرون أن المرأة يمكن أن تقوم بأي عمل حتى بالتوسع في مسألة الغناء والسينما.
وكل منهم يجتهد، ويفصل كما شاء، حتى إن أحدهم دخل كلية وفيها جدار يفصل الطلبة عن الطالبات؛ قال: لو كان الأمر بيدي لهدمت هذا الجدار، وبعضهم ينادي ويجاهر بأنه يجب أن يتخلص الناس من مسألة تدريس البنات عن طريق الشبكة التلفزيونية، كما هو موجود مثلاً عندنا هنا في مكة والحمد لله.
بل بعضهم يتندر حين سئل عن قيادة النساء للسيارات.
فقال: إن كنتم في الدول التي تحرم ذلك - يسخر من مجتمعنا هنا - هذا لا يجوز، والعلماء سوف يفتونكم أنكم انحرفتم، أما إن كنتم تؤمنون أن المرأة بشر، وأنها إنسان مثل أي إنسان فما المانع أنها تقود السيارة، وأنها تعمل كل شيء؟ فيلجئون إلى أساليب شتى لنشر هذه الضلالات.
ومما سبق يتبين أن هذه هجمة جديدة يهاجم بها هذا الدين، وعلمانية جديدة تلبس ثوباً فضفاضاً واسعاً، تحت شعاراتٍ ونداءات إسلامية مختلفة هي العدو الذي سيواجه الدعوة الإسلامية الآن، وفي المستقبل القريب، أما من ينادون علانية بإنكار وجود الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أو تكذيب كتاب الله -عز وجل- جهاراً نهاراً، أو الطعن في سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جهاراً نهاراً، فهؤلاء أصبحوا يتلاشون ويتساقطون.
وهذه المرحلة الجديدة لها رموزها، ولها كتابها، ومعاهدها، ومؤسساتها، وصحافتها، وهذه لا أقولها إلا لأذكركم بها، وستعرفون الكثير منها -إن شاء الله- أينما وجدتم مثل هذه الأفكار، فستجدون وراء ذلك المكر الخبيث.
فأنبهكم جميعاً إلى خطر هذه المرحلة، وأن نكون متيقظين لمقاومة هذه الهجمة الجديدة، التي تهدم الإسلام باسم الإسلام- كما سمعنا في وثائقهم هذه.
هذا واسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتقبل مني ومنكم، وأن أكون قد وفقت على هذا الإيجاز المخل لأنبه -إخوتي الكرام- إلى خطر هذه المرحلة الجديدة التي تعيشها الصحوة الإسلامية.(8/9)
الأسئلة(8/10)
أهداف العلمانية في المرأة المسلمة
السؤال
فضيلة الشيخ ما هي أهداف العلمانية التي تحققت خاصة فيما يتعلق بالمرأة المسلمة؟
الجواب
العلمانية في المرحلة السابقة حققت إخراج المرأة المسلمة من بيتها، تحدياً لقول الله تبارك وتعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] فأخرجتها من البيت وزجت بها في متاهات الانحراف والضلالات والفجور والفسق والعهر، المرأة المسلمة التي كانت قبل ثمانين سنة لا يرى منها شيء في أكثر أنحاء العالم الإسلامي، أصبحت اليوم -إلاّ ما قلَّ- تبدو وتبدي مفاتنها للناس جميعاً وفي كل مكان، بحجة التحرر، وبحجة التطور والتنمية والإسهام في ترقية الوطن إلى آخر، ونجحوا في ذلك.
والعلمانية الجديدة الخبيثة هذه التي أشرت إليها فعلت ما هو أنكى من ذلك، حتى أنه بلغني عن بعضهم ومعهم مراكز في الولايات المتحدة الأمريكية خاصة -هناك يربون ويغذون- وصلوا إلى حد أن يعقدوا لرجل كافر على امرأة مسلمة -عياذاً بالله- وبعضهم جاهر وطالب بذلك، وبعضهم كتب أن اليهود والنصارى مسلمون مؤمنون مثلنا، ولا يجوز أن ننظر إليهم نظرة عنصرية -نسأل الله العفو والعافية- وبعضهم قال: إنما قوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] هذه الآية في سورة الممتحنة هي في ظروف صلح الحديبية، وهي مرحلة وقتية وظروف وقتية، يعني: يريدون أن يهدموا أساسيات في مسألة العلاقة بين المسلمة وغيرها، ومن ذلك ما يتعلق بقضية الميراث، بعضهم يقول: كيف -وهم يدعون الإسلام- لا نعطي المرأة إلا نصف ميراث الرجل مع أنها الآن تخرج وتعمل وتتوظف وتنفق؟ يقول: المرأة إذا كانت موظفة وإذا كانت البنت موظفة وتأخذ راتباً، والولد ليس عنده راتب ومات الأب، وبالعكس، إذن: لا بد أن نراعي وظيفة أو حالة الأسرة ولا ننظر إلى مجرد أن (للذكر مثل حظ الأنثيين) إلى آخر ما يرددون -نسأل الله العفو والعافية- من هذا الكفر الصريح.
ولكن المشكلة أن الذين يرددون هذه العبارات الآن أناس يصلون -أو يتظاهرون بذلك- ويتكلمون عن الإسلام، ويرفعون الرايات والشعارات الإسلامية، وهذا هو الخطر المحدق بالمرأة المسلمة في هذه المرحلة، لا يأتون ويقولون: اخرجي سافرة، بل يقولون: الحجاب ليس من الإسلام، والمرأة تكون محتشمة وتخرج وتفعل ما تشاء، وهم يضمنون -والأعداء من ورائهم ضامنون- أنها إذا خرجت فستكشف أول الأمر الوجه -كما يزعمون- ثم تكشف الساقين والنحر والشعر، ثم تقع بعد ذلك المصيبة.(8/11)
نصيحة للشباب
السؤال
فضيلة الشيخ ما نصيحتكم لهؤلاء الشباب في هذه الصحوة الطاهرة المباركة، خصوصاً أننا نعيش بين فكي الشيوعية والعلمانية والمذاهب الأخرى؟
الجواب
أول شيء أوصي وأنصح به إخواني هو تقوى الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - هذه وصية الله إلى الأولين والآخرين {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131].
وأن نخلص أعمالنا جميعاً لله؛ لأن العلمانية شرك، ونحن ندعو إلى التوحيد وإلى الإخلاص {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] هذه دعوتنا، وأن نصبر ونعلم أمتنا الصبر {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] لا بد من الصبر ولا بد من التقوى لندفع كيد الأعداء وأن نتعلم العلم الشرعي ونصبر على ذلك.
إن مما يؤلمنا في هذه الصحوة هو أن الشباب يرضون بالثقافة السطحية أو العابرة، نحن لا نقلل -والحمد لله- من شأن المحاضرات ولا الندوات ولا أي شيء، ولكن نقول: هذه خطوط عامة، وهذه نقاط على الطريق فقط، ومعالم تعطيكم إنارات فكرية عامة، أما ما يجب عليكم فردياً فهو العلم والمركز والدروس العلمية المركزة المستديمة طويلة المدى، التي تعطيك معرفة تفصيلية بالأحكام الشرعية وبالعقيدة قبل ذلك، وتعطيك التفصيل لسبيل المجرمين أيضاً {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55].
لتعرف سبيله بالتفصيل، وتدرس الفرق والمذاهب الفكرية بالتفصيل، وأما ما نراه الآن فهذه هي ظاهرة طيبة من جهة العامة، لكن من جهة الإخوة المثقفين وطلاب العلم لا، وهو الإقبال على ما سهل، والشباب مع الأسف إذا أعطيته كتاباً أربعين صفحة يقول: هذا طويل، يريد عشر صفحات فقط، وإذا أعطيته شريطاً ثلاث ساعات، يقول: يا ليته ساعة-مثلاً- فهو يريد أي شيء خفيف، هذه حقيقة، أمةٌ تواجه هذه العداوات الشرسة وهذه المؤامرات الحاقدة على طول التاريخ لا بد أن تكون على مستوى المواجهة، ولا بد من رجال يقودون هذه المواجهة، ولا بد من أناس لا تأخذهم في الحق لومة لائم، ولكن يقولون الحق بالحجة العلمية والبرهان الذي أنزله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويزنون الأمور بالميزان الحق الذي شرعه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأنزله.
هذا هو المفقود الآن؛ والناس كلهم يعرفون أن الزنا حرام، وكلهم يعرفون أن الاختلاط حرام، لكن لماذا لا تأثير لمعرفة الكثير من الناس؟ لأنه لا يأتون بهذا التأثير في مقام الحجة العلمية الشرعية المقنعة المؤثرة، ولهذا -والحمد لله- إذا رأينا سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله أو أمثاله من العلماء كتب فتوى عن التبرج أو عن السائقين أو عن الخدم، ما عليك إلا أن تصورها وتطبعها وتضعها على مسجد أو تعطيها أي واحد بيده، فتكون حجة كافية، لأنها صدرت من عالم.
بينما الخطيب قد يخطب ويكتب أضعاف أضعاف ما في هذه الفتوى وهذا شيء معروف، لكن هل لها نفس قيمة فتوى الشيخ؟ لا، إذن: العلم ضروري، ولا بد أن نقيم حجة الله على العالمين، وعلى المسلمين، وعلى أنفسنا لنعبد الله، لا بد من علم، ولا بد من صبر على ذلك، هذه بعض الوصايا التي تشير إلى ما بعدها إن شاء الله.(8/12)
التعريف ببعض رموز العلمانية الجديدة
السؤال
نرجو من فضيلتكم ذكر بعض زعماء العلمانية الموجودين في الوقت الحاضر؟
الجواب
ما كنت أحب ذكر الأسماء؛ لأن الأسماء يثار حولها الإشكالات؛ لكن لعلي أذكر على سبيل براءة الذمة بعض من تعرضنا لأفكارهم، ونادوا بشيء مما قلته أو بكله، وكتبهم موجودة ومقالاتهم الصحفية موجودة، منهم: الدكتور حسن الترابي، ومنهم فهمي هويدي ومنهم كمال أبو المجد ومنهم محمد عمارة ومنهم حسن حنفي، ومنهم بعض المنتمين إلى بعض الدعوات الإسلامية وهؤلاء معروفون ومشهورون ولا داعي للتنصيص على أسمائهم.
ومنهم: خالص جلبي ومنهم أيضاً أسماء أخرى بعضها مشهورة وبعضها أقل شهرة.(8/13)
حكم قراءة كتب الشيوعية والعلمانية
السؤال
هل تنصحون طالب العلم أن يقرأ كتب الشيوعية والعلمانية للتعرف على مذاهبهم وأهدافها؟
الجواب
بالنسبة لأي طالب علم وأي كتاب عن الشيوعية لا، لكن يجب أن يكون في الأمة من يقرأ ومن يتصدر لهدم وتخريب هذه الأفكار، ومما يوجب ذلك ويجعلنا نوسع الدائرة في ذلك أن هذه الأفكار تطرح يومياً، الآن لم يعد غريباً، هذا السؤال لو سألناه قبل عشرين أو ثلاثين سنة -كما كنا نسأل علماءنا تلك الأيام أو يسألهم الناس- يقولون: لا حاجة لكم -مثلاً- لكن الآن أي جريدة ليس فيها ذكر للشيوعية؟ وأي جريدة ليس فيها دعوة علمانية؟ وأي مجلة وأي مسلسل وأي مقالة إلا ما كان إسلامياً صرفاً، ما دمنا نعيشها واقعاً فلا بد أن نعرفها، ولكن يتفاوت الأمر بحسب الحاجة، وبحسب المؤهل الذي أهل الله به الإنسان، وما أوتي من القدرة على الاستيعاب، وأقل ما يجب تحقيقه أن تبين وتفضح حقيقة هذين المذهبين للناس.(8/14)
كيف نتعرف على العلماني
السؤال
فضيلة الشيخ: كيف نتعرف على شخصية العلماني، وكيف نحاربه ونرده إلى الله عز وجل؟
الجواب
يعرف بظاهر القول، ويعرف بلحن القول كما أخبر الله تعالى عن المنافقين، فمنهم من يجاهر ويظهر القول بأن الإسلام لا علاقة له بالحياة، وكما يقولون: كلما أردنا تطويراً أو ترفيهاً أو تقدماً صاحوا في وجوهنا، وقالوا: حرام! بعضهم يجاهر بذلك، وبعضهم يخفي، ويقول: الإسلام لا يتنافى مع التطور، والإسلام دين التقدم، والإسلام دين الحرية ودين الكرامة الإنسانية، هذا شيء طيب، لكن ماذا يقصد به؟ يقصدون بذلك تذويب الإسلام وتمييعه، وبهذه الكلمات الفضفاضة يدخلون ما يشاءون من الانحرافات والضلالات والبدع.
وبحسب -أيضاً- نوع العلماني ودرجته في الانتماء إلى العلمانية، أو حسب المجال الذي يتحدث فيه إن كان أديباً، إن كان سياسياً، إن كان اقتصادياً، إن كان باحثاً إلخ، لابد أن يظهر ذلك، والمهم أن المسلم واضح، وهو من يحتكم في كل أمر من أموره إلى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وينطلق في تصوراته جميعاً منهما {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] هذا هو المنهاج الإسلامي في العلم والبحث والنظرة إلى الحياة جميعاً.(8/15)
أهم الكتب التي تتحدث عن الصوفية والعلمانية
السؤال
فضيلة الشيخ من هو أفضل من كتب عن الطرق الصوفية والعلمانية وما هي الكتب الجديدة في هذا الباب وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
الصوفية الكلام عنها كثير جداً نظراً لتشعبها وتعدد ما كتب عنها، وكتب عنها شَيْخ الإِسْلامِ رحمة الله عليه، وكتب عنها ابن القيم ضمن ما كتب وتعرض له، وكتب عنها كثير من الباحثين في القديم والحديث، وهي أكثر مما تحصى، وكذلك العلمانية كتب عنها كتابات كثيرة إما في العموم وإما كتابات مختصة بجوانب منها مثل: القومية وعلاقتها بالعلمانية، مثل: الاشتراكية وأمثالها، وأتصور أن المراجع -إن شاء الله- موجودة ولا تخفى على أحد.(8/16)
علاقة الفرق الإسلامية القديمة بالحديثة منها
السؤال
فضيلة الشيخ هل هناك علاقة بين الفرق السابقة الضالة التي وجدت مثل المعتزلة والمرجئة وبين الماسونية والاشتراكية والعلمانية؟
الجواب
العلمانية الحديثة هذه التي تسمى العصرية والعقلانية وبعضهم يصرح: بأننا على منهج المعتزلة، وبعضهم يقول: نحن المعتزلة الجدد، ولماذا يحبون الرافضة ويميلون إليهم وعلاقتهم بهم قوية؟ لأن الروافض -كما تعلمون هؤلاء الشيعة - هم في الأسماء والصفات والقدر معتزلة، ويضيفون إلى ذلك ما يختص بهم مما يتعلق بالخلافة، والإمامة، وتحريف القرآن، وتكفير الصحابة إلى آخر العقائد الكفرية المعروفة، لكن هم في الحقيقة معتزلة، فمن هنا يتبنون مذاهب المعتزلة، وبعضهم يتبنى الباطنية، وبعضهم يعتبر أن الحركات الباطنية تجربة اشتراكية، وكل من انتسب إلى الإسلام عندهم مسلم، فيعتبرونها كلها تجارب وكلها صور مرحلية لتطبيق الإسلام، ونحن في هذا العصر نطبق صورة تلائم القرن العشرين أو الحادي والعشرين.(8/17)
تسرب الوثائق الأمريكية والشيوعية
السؤال
كيف تسربت الوثائق الأمريكية والشيوعية إلى وسائل الإعلام، ألا ترى أنه يحتمل أن يكون ذلك أمراً مدبراً من هاتين الدولتين؟
الجواب
لا يستبعد، وعلى أية حال لا يهمنا كيف؟ فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما جعل هؤلاء الناس -كما يظن بعض الإخوة- لا يمكن أن يخترقوا ولا يعرفوا، وأذكر لكم قصة وقعت وأثارت الرأي العام الأمريكي، حتى تعرفوا حكم الله: طالب تقدم إلى معهد أمريكي مشهور -معهد للتكنولوجيا التطبيقية مشهور عالمياً- يريد الالتحاق بالمعهد، ورُفض لأنه صغير السن ولأنه لم تتوافر الشروط فيه، فذهب واجتهد في البيت، واستخدم كمبيوتراً، واستطاع بأساليب معينة أن يدخل على كمبيوتر البنتاغون (وزارة الدفاع الأمريكية) وهي الأخطر في العالم، واستطاع أن يسحب أسرار ومعلومات، فشعرت الوزارة بأن الكمبيوتر مدخول عليه، وهناك شيء يجذب المعلومات، تعبوا، وفكروا، وتحروا، وعندهم وسائل رهيبة في التحري، واكتشفوا أن هذا الشاب جالس في غرفته، وكل معلومة هناك تدخل في الكمبيوتر يحصل عليها هذا الشاب الطفل، فذهلوا كيف لو أنه عميل للمخابرات الروسية -مثلاً-؟ واشتهرت القصة وفضحت، فنحن لا نستغرب، بل الحقيقة أنه من استهتارهم بنا، وقد قالها المجرم، قال: إن العرب لا يقرءون، أنا أقول بصراحة: ما الذي يمنعهم من أن ينشروا مخططات، ونحن -لو نشروها- هل سنقرأ، وإن قرأناها هل سنعمل؟ وإن عملنا كم العامل؟ وكم سيقف ضد هذه المخططات؟ لو قام واحد يفضح المخططات سيقف ألف عميل من المغفلين أو من المأجورين من المسلمين، قبل أن يحصل أي تحرك هناك من الغرب، ولا يحتاج أن يقف الغرب؛ لأن دعاة الضلالة الذين حذر منهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موجودون هنا، فلذلك لا يهمهم، وحتى لو تسربت بإرادتهم.(8/18)
حكم دراسة علم الاجتماع
السؤال
بما أن تعلم علم الاجتماع كما ذكرت في كتابك العلمانية كان على أيدي الكفار وأعداء الدين، وأرادوا به هدم الدين والأخلاق، واعتبارها مرحلة من المراحل وليست أمراً فطرياً، فما حكم دراستها؟
الجواب
علم الاجتماع يمكن أن يكون على نوعين: علم اجتماع إسلامي، وعلم اجتماع لاديني أو علماني، وهذا الذي وجد في أوروبا، ولا يوجد ولا يمكن أن يوجد تصور أعظم ولا أبين من كتاب الله عز وجل في بيان كيف تقوم المجتمعات، وكيف تسقط؟ منهج واضح يحدثنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن أخبار القرون الأولى ويأمرنا بأن نعتبر {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف:111] ويأمرنا أن نتعظ كيف قامت المجتمعات، وكيف سقطت؟ وما هو أثر الترف؟ وما هو أثر الأكابر إذا طغوا واستبدوا في الأرض -كفرعون وأمثاله-؟ وما أثر الجشع وحب الدنيا -كقارون وأمثاله-؟ وكيف تقوم المجتمعات على العدل وكيف تسقط بالبغي؟ كل ذلك موضح في كتاب الله كقواعد وأصول عظيمة، لا يمكن أن يوجد لها نظير، وفسرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضاً في حديث من السنة فهي واضحة جداً.
ويوجد هناك -والحمد لله- دراسات اجتماعية إسلامية متحررة تماماً من النظرة العلمانية، وهذه يجب أن تدرس سميناها علم الاجتماع أو لم نسمها، أما أن تدرس العلوم الاجتماعية بالمنظور الغربي، فالحكم عليها كشأنها وغيرها من العلوم التي يحرم قراءتها، أو تدريسها على المسلمين، وإنما يجب أحياناً الاطلاع عليها لبيان زيفها وضلالها وخطرها.(8/19)
معنى لفظ العلمانية
السؤال
ما معنى لفظ علمانية؟
الجواب
لفظة علمانية ترجمت على أساس أنها ترجمة لكلمة العلم، وكأن الدين مقابل العلم، لأنه في أوروبا وجد الصراع بين الدين والعلم، لكن في الحقيقة الكلمة في الأصل الأوروبي لا تعني العلم ولا علاقة لها بالعلم، وإنما تعني كلمتين هما: الدنيوية أو اللادينية، لكن ترجمت باسم العلم تمويهاً، فإذا قال أحد: أنا أقيم دولة لا دينية، فهذه قضية، لكن: دولة علمانية، هذه ليس فيها حرج، فإقامة دولة علمانية، أو إقامة مجتمع علماني، ليس فيه حرج؛ لأن الإسلام دين العلم، فيمهون علينا.(8/20)
صورة العلمانية في الصحافة العربية
السؤال
ما هي صور العلمانية في الصحافة العربية؟ وهل العلمانية منتشرة في الخليج؟
الجواب
الحداثة هي جزء من العصرية والعقلانية، لكن تدعى أن علاقتها فقط بالشعر، أو بالقصة، أو باللغة، أو بالأدب، والواقع أنه لا يمكن أن تفصل جانباً من جوانب الحياة عن الآخر، هل نستطيع أن نفصل الجانب الاجتماعي عن الجانب الاقتصادي؟ لا يمكن، هل نستطيع أن نفصل الجانب السياسي عن الجانب التربوي التعليمي؟ لا يمكن، لأنه مجتمع واحد، والفرد واحد، فهم عندما يهدمون اللغة العربية والأدب العربي، يهدمون الإسلام قطعاً وسيضغطون على الصحافة الخبيثة الوافدة الحداثة تأخذ صوراً شتى: حداثة مدروسة أو حداثة ملتزمة بالمذهبية -كما تدعى- من حيث الأدب والرواية والقصة، وهناك أيضاً حداثة على مستوى الفن عموماً، تحديث للطرائق والأساليب الفنية، تحديث حتى في الأساليب الاقتصادية وفي أساليب الغزو الفكري وغيرها.
والحداثة ككلمة عامة في أصلها الأوروبي تعني: الانقطاع والانبتات عن الماضي تماماً، يعني (مودرترم) وهذا المودرترم هو الذي يعبر عنه بالنسبة للإسلام المودرن أو الموضة، أو الإسلام الأمريكي، فالحداثة تريد أن تفصل الناس عن فهم الكتاب والسنة بإفقاد النص دلالته، كما قال أحد كبارهم مع الأسف: إن النص الواحد إذا قرأته تفهم منه شيء، وأنت أيضاً لو قرأته مرة أخرى تفهم منه شيئاً آخر، والمؤلف والكاتب لو قرأ النص يفهم منه شيئاً آخر، والمؤلف نفسه لو قرأ ما كتب يفهم منه شيئاً آخر.
إذن كيف يفهم الناس القرآن؟ ألم تقل الباطنية: إن للقرآن ظاهراً وباطناً، والباطن له باطن، والباطن له باطن، إلى سبعمائة باطن! أليس هذا هو كلام الباطنية؟ فتختلف الصور وتختلف المظاهر ولكن الحقيقة واحدة، وهي الفصل بين الناس وبين كتاب الله وبين سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولهذا فالعلم الشرعي الصحيح هو الحل، وهو أهم شيء لمواجهة هذه الدعاوى، فالذي لا يعرف كتب الفقه ولا يعرف كتب الأصول، ولا يعرف أصول الحديث، تمشي عليه هذه الدعاوى، لكن الذي يعلم ويدرس -والحمد لله- العلم الشرعي، لا تقف هذه الدعاوى الذي ذكرناها ولا أضعافها ولا تساوي عنده مثقال ذرة، لأنه يعرف العلم الذي هو فيه.
أما ضعيف العلم فينساق وراء هذه الترهات والأراجيف، ولهذا تجدون أتباع هذا المنهج والناعقين بهذه الأفكار، غالباً -بل ربما كانوا جميعاً- من الدارسين دراسة غير شرعية، وإنما تطفلوا على الدعوة وعلى الدراسات الشرعية.
ولا نزكي الدارسين دراسات شرعية بإطلاق، ولا نقصد أن نغمط أي إنسان، فالحمد لله الدين مفتوح، ويوجد من الإخوة في مجالات أو دراسات غير شرعية من تخصص وأبدع، لكن هذا أخذ العلم من أصوله فأصبح كأنه دارسٌ له دراسة شرعية، أما أولئك فلا يأتون البيوت من أبوابها، ولا يأخذون العلم من أصوله وطرائقه.(8/21)
فصل الدين عن الدولة
السؤال
كثير من الناس أو بعضهم يسمعون بأن العلمانية هي فصل الدين عن الدولة فما معنى ذلك؟
الجواب
العلمانية هي: إقامة المجتمع أو الدولة على غير الدين، أي: أن الدين في المسجد -تصلي فقط- لكن أموالك في البنوك الربوية، زوجتك لا تتحجب، النساء يعملن مع الرجال في كل شيء، الصحافة تكتب ما تشاء، دور السينما تبث ما تشاء، التربية والتعليم المناهج فيها علمانية بحتة، لا دينية بحتة، الولاء والبراء يفقد تماماً في التعامل الدولي أو الفردي، ولا توالي الأمة لأنها مؤمنة، ولا تعادى لأنها كافرة، إنما الدين مسألة فردية روحية، تريد المسجد فهو مفتوح، تريد أن تصوم صم، لا أحد يرغمك على أن تفطر، وهذه مرحلة سيعقبها ما هو أشد من ذلك وهو محاربة الإسلام في هذه الأمور.(8/22)
الفرق بين الماسونية والعلمانية
السؤال
هل هناك فرق بين الماسونية والعلمانية؟ وهل هنالك علاقة بين العلمانية والحداثيين؟
الجواب
الماسونية هي أفاعي الشر الخفية، التي تخطط لإعادة سيطرة اليهود وحكمهم للعالم، ومن المذاهب التي تروج لها الماسونية، الشيوعية والعلمانية عموماً، وهذه من جملة المذاهب، ومن المؤكد أن بعض من يدعون إلى هذه العلمانية الجديدة التي تسمى (العصرية أو العصرانية أو العقلانية أو الإنسانية كما ذكرنا أو التجديدية إلى آخر هذه الأسماء) من المؤكد أن بعضهم له علاقة وارتباط ما بالاستخبارات الدولية وبالماسونية دون أن نتهم أحداً بعينه، لكن نقول: هذا مؤكد، وهذا موجود، وسوف تثبته الأيام، وقد أثبتت الأيام عن السابقين ما أصبح واضحاً كالشمس في رابعة النهار.(8/23)
حكم من جمع بين الإسلام والعلمانية
السؤال
فضيلة الشيخ إني أحبك في الله، لقد سألت أحد الشيوعيين فوجدته يصلي فقلت له: أعرف أنك شيوعي فلماذا تصلي؟! فقال: أنا إنسان مسلم وعقيدتي صحيحة، ولكنني شيوعي اقتصادياً! فماذا تقولون مثل هذا؟
الجواب
هذا هو شاهد لما قلنا، فهم مأمورون -كما قرأنا في الوثيقة- أن يظهروا الصلاة والشعائر، فالزعماء مأمورون، فكيف الأذناب! لا بد أن يظهر الصلاة ويظهر الشعائر حتى يدخل إلى قلوب الناس لئلا ينفروا منه، لكن هذه مرحلة مؤقتة، إلى أن يأتي اليوم الذي يمحون الإسلام فيه محواً.
أو يوجد نوع مما يسمونه " الإسلام يتعايش معهم" يعني: لو وجد نوع من الإسلام يرضى بوزارتين أو ثلاث وزارات، وقليل من الانتخابات، وبعض النقابات، ويسلِّم بوجود إسرائيل، ولا يعترض على الفساد من الانحلال الخلقي، والاجتماعي، ولا يعترض على وجود الربا، ولا على القوانين الوضعية، هذا لا يمنعون منه أن يبقى كطائفة أقلية، أو طائفة في المجتمع لا مانع منه، الإسلام الأمريكاني أو (المودرن إسلام) كما يسمونه الأمريكيون، وهم الذين يسعون إلى وجوده لكن الإسلام الحقيقي لا يرضون به.
فهذه مرحلة مؤقتة -كما قرأنا في الوثيقة- بدأوا بأتاتورك وأمثاله، جاهروا بإلغاء الدين، وكذلك عبد الناصر فقد ملئوا السجون، وحاربوا الإسلام بمجاهرة، فكانت النتيجة عكسية، الآن قالوا: لا، ابدءوا بملاينة الإسلام وإظهاره، ثم تستأصلونه قليلاً قليلاً، لاحظتم كيف الخطة! اختلفت في التكتيك وفي الأسلوب، لكن النتيجة والغاية ما تزال واحدة.(8/24)
منهج الأنبياء في الدعوة
بدأ الشيخ حفظه الله ببيان أهمية الموضوع؛ ثم تكلم عن قوله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي) [يوسف:108] من حيث اشتمالها على منهج الدعوة وغايتها، وبين أن وجهي القراءة في هذه الآية يؤديان إلى معنيين صحيحين، وبين أن كل أساليب الدعوة المشروعة تحقق هدفاً واحداً.
موضحاً خطر التنازل عن الحق، وأعقب ذلك ببيان أساليب الدعوة التي اشتملت عليها آية سورة النحل، وأصناف الناس من حيث استخدام الأسلوب الأمثل معهم؛ مع بيان حقائق هذه الأساليب والفهم الخاطئ لها من قبل بعض الناس.(9/1)
اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى جميع الأنبياء الذين دعوا إلى الله، وجاهدوا في الله حق جهاده، وتحملوا في سبيل ذلك كل أذى، وصبروا على كل ابتلاء، حتى قتل منهم من قتل، وأوذي منهم من أوذي، فأقام الله تبارك وتعالى بهم الدين، وأقام الحجة على العالمين, ورضي الله -تبارك وتعالى- عن الصحابة الكرام، الذين اقتفوا نهج نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم ومن اتبعهم من السلف الصالح بإحسان، فكانوا خير دعاة إلى خير منهج، ونسأله -تبارك وتعالى- بأسمائه الحسنى أن يلحقنا بهم على طريق الدعوة الصحيح، وأن يجعلنا ممن يدعو إليه على بصيرة، فلا يدعو إلى غيره أبداً، ولا يدعو إليه على ضلالة أبداً.
أما بعد: فموضوع منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله ليس بالموضوع الهين، فإنه أمر جلل، والأمة الإسلامية اليوم، وهي تشهد صحوة وتوبة وأوبة إلى الله، وتشهد -في الوقت نفسه- مناهج وطرقاً مختلفة في الدعوة إلى الله هي أحوج ما تكون إلى معرفة منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنهج الأنبياء الكرام في الدعوة إلى الله؛ فليس هناك منهج يقتدى به في الدعوة والعلم والعمل إلا منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن تبعه من الصحابة الكرام والسلف الصالح.
ولا يصلح آخر هذا الأمة إلا بما صلح به أولها وبما أصلح أولها، فيجب أن نعي هذه الحقيقة وهذا البرهان الذي بينه الله في كتابه أجلى بيان، وليس في قدرة الإنسان أن يعرض عامة منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة إلى الله، فضلاً عن سائر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولكننا نأخذ من كتاب الله ما نص الله فيه نصاً على غاية الدعوة ومنهجها، وما طبقه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي كان خلقه القرآن، والذي عمل بما أنزله الله عليه وبلغه غاية العمل والبلاغ.
أولاً:- المنهج النبوي في الدعوة إلى الله:- إن الله تبارك وتعالى في الذكر الحكيم والقرآن المبين، الذي أعجز الجن والإنس أن يأتوا بمثله؛ ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، قد ذكر منهج الدعوة وحدده في آية واحدة موجزة من كتابه كاملاً غير منقوص، ولو تأملها كل الدعاة، ولو تدبرها كل من يقرأ كتاب الله؛ لما وُجِد هذا الاختلاف والافتراق في ساحة الدعوة إلى الله.
ومن هنا نعرف قيمة القرآن، ونعرف قدر القرآن، ونعرف مدى تفريطنا في كتاب الله عز وجل.
فإذا أردنا الهدى، والحق، والخير، فهو في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فلا نذهب ونتخبط في التجارب يميناً وشمالاً، والله في آية واحدة جامعة قد بيَّن لنا كيف ندعو إليه؛ وفي آية أخرى بيَّن لنا أساليب الدعوة وطرائقها.
فكأن موضوع الدرس سيتركز على شرح هاتين الآيتين، وليتنا نستطيع أن نشرح هاتين الآيتين، فما بالكم ببقية الآيات والقصص، التي أنزلها الله وقصها علينا في الدعوة إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟! أما الآية الجامعة الأولى فهي قول الله في آخر سورة يوسف -عليه السلام-: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] فهذه الآية فيها منهج الدعوة كاملاً، وفيها غاية الدعوة، وفيها إشارة إلى الأسلوب الأمثل في الدعوة، على ما سنبينه إن شاء الله.
وجوه قراءة الآية: وفي الآية وجهان، لا بد أن نبينهما قبل أن نشرع في بيان تفصيل الآية، لأن المعنى يترتب عليهما: الوجه الأول: أن تقرأ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] ثم تقول: {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
والوجه الثاني في قراءتها تقرأها: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] ففي كل وجه معنى يختلف عن المعنى الآخر على ما سنورده إن شاء الله تعالى.
فالله يقول لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو إمام الدعاة، وهو الذي دعا إلى ربه خير دعوة، وبعث بأعم الرسالات وأكملها يقول له: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف:108] أي: قل للناس جميعاً للمؤمنين والكافرين: {هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف:108] والإشارة هنا للتعظيم وللفت الأنظار؛ أي هذه سبيلي وطريقتي ومنهجي، وهذا شأني، وهذا حالي، وهذا عملي، وهذا ديدني، وهذا شغلي الشاغل وهو أن أدعو إلى الله.
ولو وقفنا عند كلمة أدعو، حيث كان شأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته كلها: الدعوة إلى الله، والجهاد من أجل الدعوة إلى الله، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نفسه: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له}.
فالجهاد إنما هو من أجل الدعوة إلى الله، ومن أجل إعلاء كلمة الله قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} وليس هنالك من هدف آخر وكل هدف مشروع فهو تبع لهذا الهدف الأسمى (وهو أن يعبد الله وحده لا شريك له).
ففي أي بلد، وفي أي موضع، وفي أي وقت الجهاد إنما يكون لتحقيق هذا الهدف؛ قال سبحانه: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] وهذه الآية بعد قوله تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] فجعل الله الإذن بالجهاد مرتبطاً بتلك الغاية، وهي: أن يقام الدين، وأن تقام الصلاة، وأن يؤمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر.
فجهاده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو من أجل الدعوة، وحياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أصحابه وهو يعلمهم ما أنزل الله عليه من الكتاب والحكمة هي دعوة إلى الله؛ وما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلقي المعلومات لتحفظ أو ليصبح الناس علماء، ولا كان الصحابة الكرام يتلقونها لمجرد أن يكونوا علماء أيضاً وإنما هي دعوة إلى الله، فما يأمرهم به من أمر كانوا يمتثلونه ويتقربون به إلى الله ويبلغونه إلى من خلفهم، وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أمرهم بأمر؛ فهو أتقاهم لله، وأول من يعمل به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فكله من أجل الله ولذات الله.
وكذلك حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع زوجاته الطيبات الطاهرات كانت دعوة إلى الله؛ لتتعلم الأمة كيف تعاشر أزواجها.
ثانياً: حياته: وكذلك حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أعدائه، ومع جيرانه، ومع كل من عاشره كانت دعوة إلى الله؛ لنعرف كيف نحارب كما حارب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكيف نحب كما أحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكيف نعامل المسلمين كما عاملهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فشأنه في كل حياته دعوة إلى الله، حتى وهو يمشي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فمشيته دعوة إلى الله، حتى كان الصحابة الكرام يعرفون أيهم أكثر شبهاً في هديه وسمته بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال عمرو بن ميمون الأودي: "إن ابن مسعود كان كذلك، ثم كان بعده حذيفة "، فكانوا يتشبهون به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هديه الظاهر، فما بالكم بهديه الباطن وإيمانه القلبي؟! هكذا كانت نظرتهم إليه، فقد بعثه الله لنا قدوة، وجعل لنا فيه أسوة، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب:21] وكل مؤمن من أتباعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فهو على حظ من ذلك، فليكثر أو يقل! فإذاً: حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلها دعوة.
{أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه والسلف الصالح؛ كانوا يدعون إلى الله وحده لا شريك له، ورحم الله الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب حين قال تعليقاً على هذه الآية، عندما أوردها في كتاب التوحيد، في باب الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله: وفي قوله: {إِلَى اللَّهِ}: ' التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيراً الناس لو دعا إلى الحق؛ فهو يدعو إلى نفسه ' -عافنا الله وإياكم- وهذا من أخطر الأمراض وأدقها، نسأل الله أن يعافينا وإياكم أجمعين من أمراض القلوب.
فمرض القلب: أن يدعو الإنسان إلى غير الله، ويظن أن دعوته هي إلى الله، وإن كان لا يدعو إلا بالكتاب والسنة، ولكن مرض القلب هذا يأتي، فيوهن دعوته، ويوهن إيمانه؛ حتى تصبح كلماته مثل الهواء جوفاء لا معنى لها ولا قيمة؛ لأنها ليست إلى الله وليست خالصة لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وأما الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً ومنهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ما دعوا إلا إلى الله؛ ولهذا نجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكلمه عمه، ويساومه قومه فقالوا له: {{إن كنت تريد الملك ملكناك، وإن كنت تريد الزوجة زوجناك، وإن كنت تريد المال أعطيناك}} فعرضوا عليه كل شيء؛ حتى عرضوا عليه أن يعبدوا إلهه سنة، ويعبد هوآلهتهم سنة، وكل ذلك ليصرفوه عن هدفه، وهو ل(9/2)
من أسس منهج الدعوة إلى الله
ومن لوازم ذلك ومما يبين ويدل على أن الدعوة إنما هي إلى الله: أولاً: أن تكون الموالاة والمعاداة في الله؛ فإذا إذا أحببت رجلاً؛ فلأنه أطاع الله، وعبد الله من أي بلد كان أو من أي لون كان أو على يد أي إنسان اهتدى؛ فإذا فعلت ذلك فأنت تدعو إلى الله بإذن الله.
وأما إذا كنت تواليه لنفسك، أو تعاديه لنفسك، أو تحب أن تكون هدايته على يدك من أجل نفسك ومن أجل طائفتك، ومن أجل منهجك الذي ارتضيته أنت في الدعوة إلى الله، أو ما أشبه ذلك، مما يصرف الدعوة عن أن تكون إلى الله؛ فهذه الدعوة ليست لله.
وعلامة ذلك: أن من يدعو إلى الله يذكر بالله، ويذكر بسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا ما تأتلف عليه القلوب وتجتمع عليه الأمة جميعاً، وأما من يدعو إلى غير الله؛ فإنه إنما يذكر بالرأي أو الإمام أو الشيخ أو المنهج الذي يرتضيه! فلهذا تجده دائماً يدعو إلى ذلك الشيء، ويثني عليه ويدندن حوله, ويتكلم به.
فهذه علامة، وكل إنسان منا عليه أن يقيس قلبه وينظر إليه؛ فإن أول ما يجب لتصحيح مسار الدعوة إلى الله في العصر الحاضر، أن نتجرد جميعاً من كل غرض، وهوى، وهدف؛ إلى أن تكون دعوتنا إلى الله وحده لا شريك له.
فالمحبة والموالاة والمعاداة لا تكون إلا في ذات الله ومن أجل الله.
ثانياً ومن لوازم ذلك ونتائجه ألا يحرص الداعية على كثرة الأتباع.
نحن نريد الهداية للناس جميعاً كما كان الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- فكانوا يدعونهم إلى الحق الجلي الصحيح؛ فيقبله من يقبله، ويأباه من يأباه؛ وبهذا كانوا دعاةً إلى الله وحده.
يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث الصحيح: {ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، ورأيت النبي ومعه الرهط أو الرهيط، ورأيت النبي وليس معه أحد} سبحان الله! أنبياء وليس معهم أحد! فهل الأنبياء لا يعرفون أسلوب الدعوة؟ لا.
والعياذ بالله، بل هم أعلم الناس بأسلوب الدعوة إلى الله؛ ولكنهم دعوا إلى التوحيد؛ فرفضته القلوب الغافلة، ورفضته الأهواء؛ كما قال سبحانه عنهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، وقال عنهم: {أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:36].
فالأنبياء لم يساوموا قومهم ولم يداهنوهم ولم يتنازلوا لهم عن شيء؛ بل أعلنوها دعوة واضحة صريحة، كما أمر الله وكما يجب أن تكون.
فَمَْن منَّ الله عليه بالإيمان كما أخبرنا الله عن بعض أتباع أنبيائه؛ فهؤلاء آمنوا ودخلوا في دين الله (في التوحيد)؛ فكانوا مؤمنين حقاً، ومنهم من أعرض فلا يبالي بهم الله وإن كثروا، ومن لم يتبعه أحد فلا شيء عليه ولا حرج عليه؛ المهم أن يلقى ربه يوم القيامة وقد بلغ رسالته وهذا هو ما قاله الله لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] أي: فإذا بلغت الحق كاملاً، وجاهدت في الله حق جهاده بالحكمة وبالموعظة الحسنة وبالمجادلة -على التفصيل الذي سيأتي إن شاء الله في آية سورة النحل- ولم يستجب لك أحد؛ فلا شيء عليك ولا حرج عليك، المهم ألا تتنازل وألا تتبع الأهواء من أجل أن يكثر الأتباع، وأن يتجمع الرعاع؛ فهذا ليس من منهج الدعوة إلى الله، ولا مما سلكه أنبياء الله.
فإن رغبات الناس وشهواتهم وميولهم لا تتناهى ولا تحد.
فبعض الناس -مثلاً- يقول: ادع إلى الله ونحن معك؛ لكن لا تتعرض لموضوع النساء والتبرج فهذا شيء لا نستطيع أن نلتزمه (نحن نتبعك ونصلي ونتعلم الخير ونتبرع ونبني المساجد، وفي كل شيء؛ لكن موضوع المرأة وألا نرى النساء ولا نجلس معهن؛ فهذا شيءٌ خاص؛ فنرجوك ألا تقترب من هذا الموضوع).
والآخر يريد أن تدعو إلى الله وتتكلم عن الحجاب، وتنهى عن السفور والتبرج، وتحث على كل شيء؛ لكن لا تتعرض للربا؛ لأن الرجل صاحب بنك، فقل ما شئت إلا هذا الشيء.
فإذا اتبعنا أهواء الناس ليكثر الأتباع ويتجمع الرعاع؛ فقد تركنا ما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ وللأسلوب تفاصيل ستأتي ولكن الأصل أن ندعو إلى دين الله كاملاً غير منقوص، وألا نبالي بنتيجة الدعوة، وألا نبالي بمن اتبع أو من لم يتبع.
أما في الأسلوب فهذه وسيلة سيأتي الحديث عنها إن شاء الله تبارك وتعالى.
وتحقيقاً لكون دعوة الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- إلى الله، تجدون أنهم يصرحون لأقوامهم بذلك؛ فهذا نوح -عليه السلام- يقول لقومه: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [هود:29]، ويقول هود عليه السلام: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} [هود:51] ويقول الله للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [سبأ:47] وهكذا الأنبياء دائماً لا يبتغون مالاً، ولا أجراً، ولا يراعون مدحاً ولا ذماً؛ وإنما يريدون وجهه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يطاع الله ويتبع أمره.
وعلى هذا المنهج سار الدعاة إلى الله بحق، فنشر الله دينه ونصره بأمثالهم ابتداءً من الصحابة الكرام، وانتهاءً بمن جدد الله به الدين من أئمة الدعوة المستقيمين؛ فليس هنالك غرض من أغراض الدنيا الفانية.
أما بعض الدعاة -مع الأسف- لو عرض عليه منصب لترك الدعوة إلى الله، ولو عرض عليه مرتب ضخم لترك الدعوة إلى الله، ولو عرضت عليه قضية من قضايا الدنيا التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة؛ لسال لعابه وترك الدعوة إلى الله.
فهذا لا يدعو إلى الله ولو كان يدعو إلى الله؛ لما رضي بدلاً عن دعوته بشيء من ذلك، وإنما هي دعوة إلى ما تحقق له، وهذا هو الذي قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه وفي أمثاله: {فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه}.
وأول من يؤتى يوم القيامة -كما ثبت في الحديث الصحيح- بثلاثة: (القارئ المرائي- والمجاهد المرائي- والمنفق المرائي)، فيقال لكلٍ منهم: لم تعلمت؟ لم جاهدت؟ لم أنفقت؟ فيقول: من أجلك يا رب، فيقال له: كذبت؛ إنما فعلت ليقال: تعلمت، أو دعوت، أو قرأت، وليقال: داعية أو عالم؛ فلا يقبل منه ذلك، وكذلك المجاهد، وكذلك المنفق.
فتحقيق الإخلاص: أن تكون الدعوة إلى الله، هو أعظم أمر يجب أن نعرفه جميعاً، فندعو إلى الله، لا إلى رأي ولا منهج ولا فكرة ولا طائفة ولا فرقة ولا مذهب ولا شيخ ولا إمام ولا أي مخلوق كائناً من كان، فالله لم يرض لنا أن ننتسب إلى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ننتسب إلى غيره، فقال تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [الحج:78] فلو قال أحد: نحن محمديون، قلنا: لا! نحن مسلمون.
فلا ننتسب حتى إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما ننتسب كما علمنا ربنا بقوله: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79] فنحن نسبتنا واسمنا وانتماؤنا إنما هي إلى الإسلام كما أنزله الله، وكما أمر الله؛ وهذا مما يحقق أن تكون الدعوة إلى الله.
نعود إلى الآية فنقول: الوجه الأول: (أي: بالوقف) في قراءة الآية: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] فيكون المعنى: أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو إلى الله، وأنه على بصيرة هو ومن اتبعه.
والوجه الثاني من قراءة الآية: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] (بالوصل) فيكون المعنى: أن دعوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بصيرة هو ومن تبعه، وكلا المعنيين صحيح.(9/3)
الدعوة إلى الله على بصيرة
قوله تعالى: {عَلَى بَصِيرَةٍ} أي: ليست الدعوة إلى الله انفعالات ولا عواطف ولا صرخات ولا تأوهات؛ وإنما هي بصيرة؛ فيجب أن ندعو إلى الله على بصيرة.
وقوله تعالى: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] أخرج الذين يدعون إلى غير الله؛ فبقي المخلصون الذين يدعون إلى الله، وهؤلاء حالهم بين من يدعو إلى الله على بصيرة، وبين من يدعو إلى الله على غير بصيرة (وكلاهما يدعو إلى الله).
إذاً: لا بد أن نعرف هذا المعنى الثاني، الذي يخرج طائفة من طوائف الدعاة إلى الله، وهو (البصيرة في الدعوة) فما هي البصيرة؟(9/4)
أولا: حقيقة البصيرة
أما البصيرة فهي كما قال ابن القيم -رحمه الله-: "إن البصيرة هي أن يتعلم ويتفقه في الدين؛ حتى يصبح في قلبه من النور لرؤية الحق مثلما ترى العين المرئي".
فالبصيرة أن يصبح قلبك يرى الحق مثلما ترى عينك الشيء المرئي، وهذه درجة عظيمة؛ فليس لكل إنسان أن يزعمها أو يدعيها؛ ولهذا فعند تفسير الحكمة، في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125] يتبين لنا ذلك.
فالبصيرة هذه لا تكون إلا بالعلم، وأساسها العلم، والبصيرة أيضاً تجمع صفات كثيرة، منها: الحكمة؛ فهي إن لم تكن مرادفة للحكمة؛ فهي تشمل معنى الحكمة؛ لأن الذي يدعو إلى الله إن دعا بالحكمة، أو بالموعظة، أو بالمجادلة، أو بالقتال؛ فكل ذلك -إذا كان على مثل ما دعا إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا بد أن يكون على بصيرة؛ فتكون على بصيرة في كيفية الدعوة، وإلى أي شيء تدعو.
ألا ترون أن بعض الناس قد يدعون إلى فضائل الأعمال، وينسون الدعوة إلى التوحيد، فأين البصيرة؟! ألا ترون أن بعض الناس قد يدعو رجلاً قريباً من الخير فينفره فيبتعد عن الخير بالمرة، فأين البصيرة؟! ألا ترى أن إنساناً قد يدعو شخصاً إلى ترك منكر، فينتج عن دعوته حصول منكر أكبر، فأين البصيرة؟!(9/5)
ثانياً: أهمية الدعوة إلى على بصيرة.
فلو أن البصيرة موجودة، لحصلت النتائج الحسنة بإذن الله، أو قامت الحجة على من يريد الله أن يقيمها عليه من المعاندين والمستكبرين.
لكن بعض الناس إن دعا إلى طلب العلم، فقد يدعو إليه على غير بصيرة، وإن أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر فقد يفعل ذلك على غير بصيرة، وقد يدعو إلى الجهاد في سبيل الله؛ ولكن على غير بصيرة، (إما إلى غير راية أو إلى راية عمِّية)، والمقصود: أنها على غير بصيرة.
وحتى التوحيد فقد يدعو إلى توحيد الله، وإلى المنهج الصحيح الذي بعث الله به رسله، ولكن على غير بصيرة.
إذاً: البصيرة أمرها عظيم، وأسأل الله أن يجعلنا وإخواننا المسلمين ممن آتاهم الله البصيرة والحكمة في الدعوة إليه، إنه على كل شيء قدير.
فلابد إذاً من الأسلوب الحسن ومن العلم، ولابد من معرفة المصلحة من المفسدة؛ ولهذا يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله: "ليس الفقيه أو المتبحر الذي يقول هذا حلال وهذا حرام! -ومعرفة الحلال والحرام فقه عظيم ولا يستهان به- ولكن أفقه من ذلك والفقيه الكامل هو الذي يعرف أرجح المصلحتين وأقل المفسدتين.
وكما نلاحظ في عصرنا الحاضر، فنحن اليوم في عصر غربة، انتشر فيه الفساد، وأهدرت المصالح.
فلا بد من بصيرة في أي أمر من الأمور؛ لنعرف ما هو أرجح المصلحتين، وأقل المفسدتين، فإن كان أمامك مفسدتان، ولا بد أن تقع إحداهما، فتتجاوز الكبرى وترتكب الأخف، فهذه هي البصيرة، وهذا هو الفقه الذي نريد أن يكون عليه الدعاة إلى الله وطلاب العلم جميعاً.
وهذا المنهج ليس خاصاً بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد قال الله في الآية: {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] أو معناها على الوجه الآخر: أنا ومن اتبعني ندعو إلى الله على بصيرة.
فهذا أمر الله، ونحن أتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا بد أن ندعو إلى الله على بصيرة؛ فإذا دعا داعٍ إلى غير الله أو على غير بصيرة من الله، فهذا ليس متبعاً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا كلام الله: {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] فإن كنت من أتباعه، فلا بد أن تقتفي أثره في الدعوة إلى الله، بأن تكون دعوتنا على بصيرة، وأن نكون على بصيرة من أمرنا في تعلم كتاب ربنا وسنة رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتفقه في الدين والصبر واليقين.(9/6)
ثالثاً: الصفات التي يجب أن تتحقق في أتباع الأنبياء حتى تكون لهم الإمامة في الدين
إن الله سبحانه جعل في أتباع الأنبياء الذين يدعون إلى الله صفتين؛ إذا تحققتا كان لهم الإمامة في الدين، يقول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] فبالصبر واليقين؛ تتحقق الإمامة في الدين، ويتحقق اتباع المرسلين صلوات الله وسلامة عليهم أجمعين؛ فهم كانوا الغاية في الصبر، وكانوا الغاية في اليقين، وحسبكم أن تعلموا أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يفارقه الصبر واليقين في كل المواقف الصعبة التي مرت به (وهو طريد في الغار يطمئن صاحبه -وأثناء الهجرة يبشر سراقة بن مالك بسواري كسرى- وهو يحفر الخندق والخوف يحيط به من كل ناحية، فيضرب بالفأس ويقول: الله أكبر! الله أكبر! ويبشر أصحابه بملك كسرى وقيصر) فلم يفارقه اليقين والصبر -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أبداً، وكان أصحابه مثلاً في الصبر واليقين، يقتدى بهم ويسترشد بطريقتهم، وكانوا خير حواريين لخير نبي.
فباليقين وبالصبر وبالاتباع تتحق البصيرة، ونكون على المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى.(9/7)
أهمية تنزيه الله في منهج الدعوة
ثم يقول الله: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} [يوسف:108] وكلنا نقول: سبحان الله؛ إما بعد الصلاة وإما نافلة؛ فهي من أفضل الذكر ومن الكلمات التي هي خير الكلمات وأفضلها بعد القرآن، نقول: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) ولكن أين حقيقة هذه الكلمة من قلوبنا؟! وأين تحقيق كلمة سبحان الله في حياتنا؟! فليست هي كلمة تقال باللسان فقط، فالله لم يذكرها في آية الدعوة وفي منهج الدعوة لمجرد أنها قول باللسان؛ بل هي كلمة لها مدلولها العظيم والعميق، وخاصة عندما تأتي في منهج الدعوة إلى الله.
فإن معنى الدعوة إلى الله، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {حتى يعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحده لا شريك له}، فكل نبي جاء ليقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] وكل الأنبياء جاءوا يدعون إلى التوحيد، والتوحيد هو تنزيه الله عن أن يكون له ند أو يعدل به أحد أو يسوى به أحد، في المحبة والإجلال والخوف والرغبة والرجاء والطاعة والإنابة والخشية وجميع أنواع العبادة.
فسبحانه أن يكون له شريك، وسبحانه أن يكون له ولد، أو أن تكون له صاحبة، أو أن يكون له نظير، أو مثيل سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فهذه هي غاية الدعوة إلى الله! أن ننزه الله سبحانه عن الشريك والنظير والند والمثيل.
فمعنى سبحان الله أي: أنزه الله عما لا يليق به.
فذكر التسبيح في مقام الدعوة وفي آية الدعوة أدل وأوقع ما يكون على أن الغرض من الدعوة هو أن ينزه الله عما لا يليق به.
فلو عرفنا الله حق معرفته ما عصاه منا أحد أبداً؛ ولكن لما لم نقدر الله حق قدره، ولم نعرف الله حق معرفته؛ وقعت هذه المعاصي والذنوب وهذه المخالفات التي ضجَّت منها الأرض والسماوات، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
حقيقة التنزية: فأين تنزيه الله؟! كم من الناس من يشرك بالله ويدعو غير الله! وكم من الناس من ينبذ كتاب الله وراء ظهره، ويتحاكم إلى القوانين البشرية وإلى الطواغيت التي وضعها طواغيت البشر! وكم من الناس رفضوا سنة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واتبعوا آراء الرجال! وكم من الناس يعصون الله جهاراً نهاراً على علم ومعرفة بأن هذا حرام! فكل هؤلاء لم ينزهوا الله ولم يسبحوه، حتى لو كانوا ممن يقولون: (سبحان الله) ألف مرة في اليوم؛ لكنهم في الحقيقة لم ينزهوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وكذلك المعترضون على أقدار الله لم ينزهوا الله؛ إن وقع القدر وكان فيه خير لأحد من المسلمين؛ اعترض بعضهم على قدر الله لأنه لم يقع له، سبحان الله! فهذا الذي يعترض على قدر الله لا ينزه الله، فيقع الخلل في القدر كما وقع الخلل في التوحيد.
وإن كان له الخير قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:78] أي: باجتهادي وجهدي -كما قال قارون وأمثاله- فأين تنزيه الله سبحانه؟! فهذا ملكه وهذا خلقه! وهذا المعترض ليس له من الأمر شيء، قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54] فليس لأحد الحق في أن يعترض على الله؛ ولهذا يقول الله: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:159 - 160] فعباد الله المخلصون والمصطفون الأخيار، هم الذين ينزهون الله، فهم الذين يرتضون حكمه الشرعي ولا يخالفونه، ويرتضون حكمه القدري، ويصبرون عليه إن كان شراً، وإن كان خيراً حمدوا الله وأثنوا عليه، وردوا الأمر والفضل كله إلى الله، وأما ما يصفه به غيرهم فليس فيه تنزيه لله.
فالدعوة التي لا يكون هدفها أن ينزه الله وأن يعرف الله وأن يقدر الله حق قدره ليست دعوة صحيحة سليمة، ولا خير فيها ولن تنتج مهما كثر الأتباع وتجمع الرعاع؛ فإن هذا ليس هو الأسلوب الصحيح ولا هو ما أمر الله به من المنهج الذي يرتضيه.(9/8)
البراءة من المشركين أصل في منهج الدعوة
وأما قوله تعالى: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، فهنا أيضاً قاعدة عظيمة في هذه الآية يجب على كل مؤمن وبالأحرى على كل داعية أن يقف عندها: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] فالمنهج الصحيح والمنهج النبوي في الدعوة إلى الله من ضرورياته وأصوله، البراءة من المشركين، فالمشركون لسنا منهم في شيء، حتى إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {لا تتراءى نارهما} فلا يرى المؤمن نار المشرك، ولا يرى المشرك نار المؤمن.
فإذا كان هذا في جبل وهذا في جبل، ورأى أحدهما نار الآخر، فعلى المؤمن أن يذهب بناره بعيداً في جبل آخر؛ حتى لا يرى نار المشرك ولا يرى المشرك ناره، (فهذه المجانبة الحسية والمعنوية).
{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] أي: في عبادتهم لغير الله، وفي تعظيمهم لغير الله، وفي اتباعهم لغير شرع الله، وفي استهزائهم بدين الله، وفي استهانتهم بأوامر الله.
فلا أقول: إنني أدعو إلى الله؛ ثم أقف في صف أعداء الله! فهذا هو التناقض الذي ليس بعده تناقض؛ ولهذا فكل داعية يداهن المجرمين والملحدين والمشركين فقد أخرج نفسه من صفوف الدعاة الذين يدعون إلى الله على منهج أنبياء الله؛ وليسمِ نفسه بعد ذلك ما شاء.
فالبراءة من المشركين حتى في أحوالهم الظاهرة، أو حتى في لباسهم المختص بهم، أو في مظهرهم المختص بهم، أو حتى في السفر إلى بلادهم، فلا يذهب المسلم إلى بلاد المشركين إلا لضرورة؛ لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تتراءى نارهما} إلا لضرورة لا يمكن العدول عنها أبداً.
فأهل التوحيد وأهل الشرك صنفان متمايزان وعدوان متحاربان، ولا يمكن أن يلتقيا.
فالدعوة إلى التقريب بين الأديان وإلى الحوار بين الأديان، ليست من الدعوة إلى الله في شيء.
فهؤلاء الذين يدعون إلى التقارب يريدون أن نتقارب مع من؟! مع عبدة الأبقار؟ أم مع عبدة العجل (اليهود)؟ أم مع عبدة عيسى وعبدة الصليب (النصارى)! مع من يكون التقارب؟! إن المنهج الرباني: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] فهي البراءة الكاملة، التي لا التقاء معها.
فالدعوة إلى الله لا تؤمن بهذه القضية أبداً، بل إن دعوتنا إلى التوحيد، وأعدى عدوٍ لنا هو: الشرك والمشركين.
فالروافض وأصحاب الشرك وأصحاب الأضرحة والقبور من الصوفيين، وكل من خرج عن التوحيد وعبد غير الله، ودعا غير الله، وألحد وأشرك بالله؛ أنحن وإياهم نتقارب ونكون يداً واحدة ونتعاون؟! فعلى ماذا؟! ولماذا؟! وأين المنهج الرباني والنبوي: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]؟! فلا بد فيه من البراءة من الشرك وأهله كما فعل إبراهيم -عليه السلام- مع أبيه وقومه؛ وإلا فلسنا دعاة إلى الله، ولا يتقارب ويواد المشركين إلا أحد رجلين، إما رجل لا يبالي بمنهج الدعوة إلى الله، سواء اتبع فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو اتبع شيخه أو قائده أو رأياً فكرياً.
وإما: رجل جاهل لا يعرف أعداء الله، ويظن أنه إذا مد اليد لأعداء الله ووالاهم وتقارب معهم أنه لم يأتِ بشيء، ولم يخرج عن الملة القويمة، وينسى أن الله تعالى أمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول حال الدعوة إليه: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] فليتبرأ من الشرك كما تبرأ الخليل عليه السلام، وكما أمر الله نبيه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123] أي: فتبرأ من المشركين ولو لم يتبعك أحد.
فلا مناصفة ولا التقاء في وسط الطريق بين المؤمن الموحد وبين المشرك المعاند، ولا يكون ذلك أبداً.
فالله لما قال لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] قد بين (في هذه الآية) منهج الدعوة إلى الله، والأصول التي يجب أن تراعى، والأركان التي يجب أن تتحقق، لكي تكون الدعوة حقيقة، ولكي يكون المسلم من بعده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على منهجه في ذلك.(9/9)
أساليب الدعوة إلى الله
وأما الآية الأخرى التي تبين منهج الدعوة؛ لكن فيما يتعلق بالأسلوب المتخذ في الدعوة، فهي قوله تبارك وتعالى في آخر سورة النحل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، فالله أمره هناك أن يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف:108] وأن يبين للناس ما هي سبيله، وما هي طريقته، وما سبب خصومته مع أولئك البشر.
وهنا يأمره الله أن يدعو إليه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [يوسف:108] نلاحظ أنه عند ذكر المنهج وذكر الأسلوب لا يتغير الهدف وهو الإخلاص، وأن يكون الأمر لله، ولكن لأن الكلام هنا عن الأسلوب فجاء السبيل أو الطريقة التي يسلكها الداعية، الذي نعبر عنه بكلمة الأسلوب، فنقول: أسلوب الدعوة، فأمر الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة.
والناس بالنسبة إلى الحق وإلى اتباعه على ثلاثة أصناف:(9/10)
الدعوة إلى الله بالحكمة
الصنف الأول: صنف مؤمن راغب في الحق، يريده ويحبه ويضحي من أجله ويجاهد في سبيله؛ فهؤلاء الذين أمر الله رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يصبر نفسه معهم، فقال سبحانه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28] وهؤلاء هم الذين كان منهم الصحابة الكرام، وكان منهم أيضاً من كان في زمن نوح عليه السلام وهم من آمن به، فجاءه قومه، وقالوا: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود:27] وأصروا عليه أن يطردهم، فقال: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} [هود:29].
فهؤلاء أمر الله وأرشد إلى أن نتخذ معهم في الدعوة (الحكمة) فهذا الإنسان هو في يدك تربيه وتدعوه وهو مستسلم مذعن للحق؛ فالحكمة تكون في تربيته ليأخذ الحق، كما قال عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- وغيره من السلف في قوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79]، قال: [[الرباني هو الذي يعلم الناس صغار العلم قبل كباره]] فأي شخص تراه مقبلاً على الخير ومحباً له وراغباً فيه؛ فهذا لا بد أن تدعوه بالحكمة، وتكون بالرفق، والقوة معاً، والترغيب والترهيب.
وكلمة الحكمة أعظم وأشمل من أن تحصى؛ ولهذا كما يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: الحكمة لم توصف بأنها حسنة؛ لأنها لا تكون إلا حسنة، فلو لم تكن حسنة ما سميت حكمة، حتى في كلام العرب إذا قيل هذا الشيء محكم أي: لا عيب فيه، وأحكمت الشيء: أي وضعته في الوضع الصحيح بلا عيب كما قال الله في حق القرآن العظيم: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود:1] وحتى أن العرب تسمي الشيء الذي تجعله في اللجام لتضبط به الدابة بالحَكَمَة.
فالأتباع الراغبون في الخير، المحبون للحق، تكون دعوتنا لهم بالحكمة، أي: بصغار العلم قبل كباره، وبالقدوة التي يرونها، كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فقد سئلت أم المؤمنين عن خلقه فقالت: {كان خلقه القرآن}.
فأتباعه وأحبابه المؤمنون به يرون القرآن متمثلاً في خلقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فيحبونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يزكيهم ويربيهم ويسوسهم بأفضل وأرقى أنواع التعليم والتربية والتزكية والسياسة حتى يستقيموا على أمر الله وعلى دين الله.
فلا تقل هذا راغب وهذا محب للحق؛ فتأمره وتنهاه وتشدد عليه بدون أي اهتمام ومراعاةٍ لأساليب التربية النبوية؛ فهذا قد يسبب له تخبطاً وإرباكاً؛ فهذا الأسلوب ليس من الحكمة.
وإن كان راغباً، وإن كان محباً، وإن كان طالباً للحق، فلا بد معه من الحكمة.(9/11)
الدعوة إلى الله بالموعظة الحسنة
ثم الصنف الثاني: وهو من وقع في الغفلة؛ إما غفلة أصلية لازمة كغفلة المنافقين، فيكون غافلاً عن ذكر الله لا يريد الله ولا رسوله ولا الدار الآخرة؛ وإما غفلة تعرض للمؤمنين بسبب الشهوات، ونتيجة لحب الدنيا، ونتيجة لإغواء الشيطان.
فعلاج هذا النوع الذي تعتريه الغفلة هو: الموعظة الحسنة، قال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]، فمثلاً رجل فاتح دكانه والصلاة تقام؛ فتقول له: يا أخي جزاك الله خيراً الصلاة! فهو يسمع جزاك الله خيراً ويتذكر، كما قال تعالى: {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] فهو إنسان يحب الخير ويحب الحق ويرغب فيه؛ لكنه في غفلة عنه؛ فليس هو جاهلاً لكنه غافل.
ونلاحظ أن الموعظة قيدت بالحسنة، أما الحكمة فلم تقيد؛ لأنه إذا كان التصرف غير سليم فليس من الحكمة أصلاً.
لكن المواعظ نوعان: موعظة حسنة، وموعظة غير حسنة؛ فقد تقف وتقول: قال الله وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ولكن هذا الكلام في غير موضعه الصحيح، فتكون موعظة ولكنها ليست حسنة، وليست هي المنهج أو الأسلوب الذي أمر الله تبارك وتعالى به.
إذاً: لا بد من الحكمة مع من يستحق الحكمة، ولا بد للغافل من الموعظة، حتى أن الله قال في حق المنافقين: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} [النساء:63] وهذا من الموعظة التي يكون لها وقع وتأثير في النفوس، حتى تنزجر، لأنها نفوس مريضة أو ضعيفة الإيمان، وكما هو معلوم كان المنافقون منهم من هو صريح في الكفر المحض، ومنهم من كان مريضاً يتردد بين الكفر والإيمان، ومنهم من كان غافلاً أو ضعيف الإيمان؛ فهؤلاء تجدي وتنفع معهم الموعظة الحسنة والأسلوب الحسن، وهنا لا بد أن نقف عند قضية الحكمة والموعظة الحسنة.
فكثيراً ما يساء فهم معنى الحكمة في الدعوة إلى الله؛ ولهذا تخبط الناس فأخذ بعض الناس بشق، وأخذ آخرون بشق آخر، فتفرقوا وفرقوا أمر الدعوة، وكانوا شيعاً.
فالحكمة لا بد فيها من تحقق المصلحة وانتفاء المفسدة، والمصلحة قد تتحقق بالرفق واللين، فقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غايةً في الرفق والرحمة واللين؛ حتى إنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وكان يأمر أصحابه بذلك ويقول: {يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا}.
ولكن هنالك في الجانب الآخر مصلحة لا تتحقق إلا بالحزم والقوة والشدة، ومن أجل ذلك جعل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أساليب الدعوة إلى الله الضرب، فقال: {مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر}.
وبعض الناس يقول: (يا أخي الدعوة بالحكمة، والحكمة ألَّا تضربه).
فإلى متى اللين؟ لا يمكن أن تُرَّبيه ثلاث سنوات بالدعوة وجانب اللين، ثم لا يصلي!! فهذا يكون ممن يستحق الضرب، ثلاث سنوات وهو لا يسمع الكلام، ثم لا يستحق الضرب بعدها! وخاصة أنها سن التوجيه لدى الطفل؛ فإذا لم يتوجه في ثلاث سنوات، إذاً فنفسه عاتية، ولا بد أن تزجر وأن يستأصل دافع الشر منها.
ولا ينسى الإنسان جانب اللين والرفق والموعظة نهائياً، حتى يكبر الابن، ثم يأتي يضربه مباشرةً؛ فهنا يكون الخطأ، وليس الخطأ أنه استخدم الضرب، فالضرب أسلوب أقره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمر به؛ ولكن الخطأ أنه استخدم جانباً فقط من جوانب الأسلوب الحسن، ومن جوانب الحكمة، فبعض الناس إذا ضُرب يصلي، وبعض الناس إذا أُمر وذُكِّر صلَّى؛ لأن بعض الناس يكفيه جانب من الحق؛ ولكن ليس كل الناس هكذا؛ فبعض الناس لا بد له من الأمرين معاً (الموعظة والتوجيه)، فإذا لم ينزجر (فالضرب).
فإنسان تقول له: الصلاة! فقد أذن المؤذن، فتعال إلى الصلاة، فيستجيب لك، فهذا ينبغي أن تكون معه رفيقاً رقيقاً.
أما الذي تكون المرة الثانية، والثالثة، والعاشرة، وأنت تدعوه وتنصحه، والرجل لا يبالي لا بأذان ولا بإقامة، ولا بصلاة حينئذٍ: إذا اتخذت معه الشدة، فمن الخطأ أن يقال عنك: هذا ليس عنده حكمة.
فكل إنسان يعرف أن الصلاة واجبة، وهذا الرجل يسمع المؤذن يؤذن، والمسجد يمتلئ، وجيرانه يغلقون محلاتهم، فإذا جاء أحدٌ لينصحه قيل له: أين الرفق؟ وأين أسلوب الدعوة الصحيح؟.
لا.
هذا خطأ، فالدعوة الصحيحة والحكمة أن هذا لا بد أن يردع، وليس فقط مجرد التعهد، هذا أضعف مما شرعه الله فليس هناك (بعد التوحيد) أعظم من الصلاة؛ فإذا استهين بها بهذا الشكل المجاهر؛ فأسلوب الدعوة والحكمة في الدعوة هو أن يردع ردعاً زاجراً يرتدع به كل من سمع ذلك.
فكل إنسان مثل هذا، إذا أراد أن تشرح له وتبين له، فالعشرات من الناس سيكونون هكذا.
فلو أن كل واحد يفتح محله يريدك أن تلقي له محاضرة عن أهمية الصلاة؛ فليس هذا من الحكمة.
وكذلك الزوجة، قال تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] فإن هذا من الحكمة وهو مما أنزل الله.
إذاً لابد أن نعرف أن الحكمة هي تحقيق المصلحة والتزكية والتربية بغاية القوة مع غاية الرحمة.
وهذه هي ميزتنا، فالجهاد في سبيل الله في غاية القوة، وقوة الأمة في الجهاد، وأشجع من حارب هو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه؛ لكنهم كانوا أرحم الناس.
فكان يعلمهم ويقول: {لا تقتلوا المرأة، ولا الرجل الكبير، ولا الصغير، ولا أصحاب الصوامع ولا تحرقوا نخلاً، ولا تمثلوا} فكانوا في غاية القوة مع غاية الرحمة، إذاً فليست الدعوة مجرد جانب واحد؛ بل لا بد من الجانبين، وإن أنتجت الدعوة نتيجة استخدام جانب واحد؛ فهو لأنه جانب من الحق، وليس لأنه الحق كله، فبعضهم يقول: أنا جرَّبت فوجدت أن أسلوب اللين ممتاز؛ فقد استجاب لي عدد كبير فنقول له: هذا لأنك على جانب من الحق.
والثاني يقول: لا أريد إلا القوة، فإذا قلت لأحدهم: هذا حرام وهذا شرك، خاف واتبع الحق فنقول له أيضاً: لأن هذا جانب من الحق، فأصبت أنت في هذا الجانب، وذاك في ذاك الجانب، لكن لو جمعتما الجانبين، لكانت النتائج أكبر وأعظم.
ولهذا إذا نظرت إلى من خالفك، وإلى من نفر بسبب أسلوبك، أو نظرت إلى من لم يأت ويتبعك، لأنك لم تنتهج المنهج الذي أمر الله به، والذي كان عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فسترى أن الفارق كبير بين استخدام جانب واحد من الحكمة، وبين استخدام الجانبين.(9/12)
الدعوة إلى الله بالمجادلة
ثم الفقرة الثالثة من موضوعات الدعوة، ومن طرق الدعوة، وهي قوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
فقد تقدم أن الأصناف ثلاثة.
الأول: المقبل المؤمن الراغب المقتنع بالحق.
والثاني: الغافل الذي يذكر بالحق.
والثالث: وهو المعاند المحاجج المعرض، فالأسلوب الأمثل مع مثل هذا في الدعوة هو قوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
فلم يقل بالجدل الحسن ولا بالمجادلة الحسنة؛ بل قال: (بالتي هي أحسن)، فالحكمة جاءت مجردة من أي وصف، وأما الموعظة فقد جاءت موصوفة بأنها حسنه، والجدال جاء موصوفاً بالتي هي أحسن.
إذاً: هناك عبر ودقائق في كلام الله؛ فلا بد أن نتدبر كلام الله، وأن نتفطن له؛ فليس منه لفظة ولا كلمة إلا ولها مدلول.
فقوله: {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] لأن الجدال: الأصل فيه أنه لا يؤدي إلى ثمرة في الدعوة، لأنه لا يكون إلا بين متخاصمين متنافرين لا يقبل أحدهما من الآخر؛ ولهذا يكون بالتي هي أحسن، (ليس بالحسنة)؛ بل بالتي هي أحسن، أي: اختر أيسر الطرق وأفضل الطرق في البداية، وليس الطريق الحسن، وليس الطريق الصواب فقط، بل ما هو أفضل أنواع الصواب، وأفضل أنواع الحق.
إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] والتي هي أحسن: درجة أعلى من مجرد أن تكون حسنة، وهي إشارة إلى الجدال الأمثل؛ فعندما نكون في حالة جدال، يكون الاحتياط أكثر، والتدقيق في العبارات وفي المواقف وفي كل شيء يكون أكثر وأشد؛ لأنك مع خصم، ومع معارض ومخالف؛ فإن جئت بلفظة أو كلمة أو تصرف قد لا تكون قصدته ولا أردته فإنه يحسبه عليك ويعرض، ويكون في ذلك فتنة وصدُّ عن سبيل الله دون أن تشعر؛ وهذا يقع كثيراً.
فلا بد في منهج الدعوة من أن يكون الجدال بالتي هي أحسن، وهكذا فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بل هكذا فعل كل الدعاة إلى الله.
والقرآن كله في الحقيقة من أوله إلى آخره، عندما يقص شأن المشركين ودعوتهم ويرد شبهاتهم؛ فهو من المجادلة بالتي هي أحسن.
فتجد أنه يجادلهم ويبين لهم حقارة آلهتهم، وأنها لا تنفع ولا تضر ولا تغني، وأنها لا تقربهم إلى الله، وأنهم إن فعلوا ذلك فإن مصيرهم إلى النار؛ يذكرهم بما جرى للأمم قبلهم لما كفرت ولما عصت الله وما سلط الله تبارك وتعالى عليها من العذاب، ويذكرهم بنصره لعباده ولأنبيائه ولأوليائه الماضين؛ ليعتبر هؤلاء المخاطبون، فكل ذلك من نوع المجادلة بالتي هي أحسن وكما قال حبر الأمة عبد الله بن عباس: [[ما من شبهة يأتي بها مبتدع أو داعية أو ذو شبهة -إلى أن تقوم الساعة- إلا وجوابها في القرآن، علمه من علمه، وجهله من جهله]] ولهذا فأفضل أنواع المجادلة: هو أن تستخدم الأسلوب القرآني في الدعوة إلى الله.
والجدال في أصله ليس المقصود به أن تجذب الناس إلى الحق وإلى الخير؛ بل هو لإقامة الحجة على المعاند؛ ولهذا صاحب المرحلة الثالثة، لو كان ممن نريد أن نجذبه إلى الحق والخير لكان حالنا معه هو الوعظ، أي: الموعظة الحسنة، لكن هذا المعارض المخالف المصر الجاحد، حالنا معه أن نقيم عليه الحجة، ولا نيأس من أن الله قد يهديه فيستجيب؛ ولهذا يكون بالتي هي أحسن طمعاً لعل الله أن يهديه؛ ولكن مع ذلك لا يجوز أن يغلب علينا الطمع، فنجعله منهجاً للدعوة.
فإذا قابلت إنساناً وجادلته وحاججته؛ فاعرف أنك قد هدمت ما بينك وبينه من جسور، وغاية ما في الأمر -إن كنت موفقاً في الدعوة- أنك أقمت عليه الحجة فقط، وإن حصل غير ذلك فاحمد الله؛ لأن هذا من فضل الله، فهو بخلاف الأصل، وإلا فالرجل كان ممن يستحق الموعظة، وأنت أخطأت وجئته بالجدال ولكن الله فتح عليه، فاهتدى ورجع.
أما لو كان فعلاً وحقاً لا ينفع معه الوعظ؛ ففي هذه الحالة لا يكون الجدال إلا إقامةً للحجة؛ ولهذا فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يبعث أصحابه الدعاة إلى ملوك الأرض ليجادلوهم، وهذه قاعدة كثير من الناس يخالفها، فتجدهم يقرءون في الكتب، ويتفقهون في بعض الأمور، وينتهجون مناهج في الدعوة؛ فإذا قلت لأحدهم: لماذا؟ قال لك: حتى نجادل أولئك الناس، وحتى نجادل الملحدين واليهود، النصارى.
وهذا ليس هو المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله.
فالمنهج الصحيح في الدعوة: أن نعرض الحق؛ فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب إلى ملوك الأرض بآيات بينات، وأرسل رسله مبلغين عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن الله قد بعث رسولاً يدعو إلى الله وحده لا شريك له، فكان يبعث بالرسالة إلى أحد الملوك، فإن قرأها وآمن فالحمد لله، كما كتب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لـ هرقل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64] فهذه آية كتبها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي: فإن أردت الإسلام فأسلم، وإن لم ترد الإسلام فاشهد بأنا مسلمون، والأمر بيننا وبينك هو ما شرعه الله من الجهاد أو الجزية، فليست مناظرات أو مجادلات قلتم وقلنا فهذا ليس من منهج الدعوة، وإنما يكون ذلك إذا احتجنا إلى إقامة الحجة.
حتى مع المشركين، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يطْمئن نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن الأمر ليس نقصاً في البينات، ولا خللاً في الدعوة، ولا قصوراً في الحجة؛ وإنما الأمر عناد واستكبار، فقال سبحانه: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور:44] أي: فلا يقولوا: هذا عذاب جاء من عند الله، وقال سبحانه: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا} [الأنعام:25].
فالمسألة ليست قضية آيات ولا حجج كما بين سبحانه في قوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:111].
فلو أرسل الله لهم رسولاً وأيدَّه بجميع المعجزات، لقالوا كما في الآية: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:14 - 15].
إذاً: فالذي ليس عنده استعداد لأن يؤمن؛ لن يؤمن مهما عرضت عليه من الحجة إلا أن يشاء الله؛ لأن مشيئة الله فوق كل شيء؛ لكن منهج الدعوة في هذه الحالة هو إقامة الحجة كما أقامها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على مشركي قريش والعرب، وكما أقام نبي الله موسى الحجة على فرعون، فجادله ثم أراه الآيات التي أعطاه الله إياها آية بعد آيه، وهو يؤمن إذا اشتد عليه الوباء من الجراد والضفادع، والطوفان ثم إذا ذهب ذلك رجع وقومه إلى ما كانوا عليه من الكفر.
فإذاً: يجب علينا أن نعرف أن المنهج الذي أمر به الله، والذي انتهجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورسل الله صلوات الله وسلامه عليهم هو ما بيناه في الآيتين، سواءٌ ما تعلق بالأسلوب أو الغاية.
فيجب علينا أن تكون حياتنا كلها دعوة، وأن تكون دعوتنا إلى الله وحده لا شريك له، وأن تكون على بصيرة وعلم وفقه وحكمة وتحقيق للمصلحة، وأن ننزه الله؛ فنجعل هدف الدعوة هو تنزيهه عن الند والنظير والشريك والمثيل، وأن نتبرأ من المشركين فلا نوادّهم أبداً.
وأما في الأسلوب: فيجب أن ندعو بالحكمة مع ذلك الذي يحب الحق ويرغبه؛ لنربيه ونزكيه عليه؛ ومع الغافل ندعوه إلى الله بالموعظة الحسنة؛ فنذكره بربه فيعود ويؤوب إليه، ومع المعاند بالمجادلة بالتي هي أحسن؛ حتى تقام الحجة عليه؛ فنكون شهداء عليه بما أنزل الله، ويكون الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهيداً على هذه الأمة؛ لأنه قد بلَّغها.
وبهذا نكون بإذن الله -تبارك وتعالى- قد دعونا إلى الله، وقد سلكنا المنهج الأمثل في الدعوة.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم ذلك، وأن يجعلنا من المقتدين بنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمقتفين لنهجه ونهج أصحابه الكرام في دعوتنا وأمرنا ونهينا وعلمنا وجميع شئوننا، وأن يوفق الله -تبارك وتعالى- دعاة الإسلام جميعاً إلى أن يتوحدوا على كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويذروا التفرق والابتداع؛ وأخذ بعض الدين أو جانب منه وترك الجانب الآخر، إنه سميع مجيب الدعاء.
والحمد لله رب العالمين.(9/13)
الأسئلة(9/14)
أساليب الدعوة بين الاجتهاد والتوقيف
السؤال
هل الدعوة إلى الله مقتصرة على هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه والسلف الصالح، أم كل أسلوب محبب إلى الناس ندعو عن طريقه إلى الله؟
الجواب
لا بد أن يكون كل أسلوب في الدعوة إلى الله موافقاً لما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما كان عليه السلف الصالح، أو ما أرشد إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو أقره ولا تعارض بين أن يكون هنالك أساليب جديدة أو محببة ندعو بها إلى الله وبين أن يكون على ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن اتباع منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة إلى الله ليس مجرد أن نقول نفس الألفاظ التي قالها، أو نتصرف نفس التصرفات التي فعلها؛ وإنما نقتفي منهجه.
فمن أمور الدعوة ما هو موسع فيه؛ فنحن أُمرنا بالبصيرة، وأُمرنا بالحكمة، وأُمرنا بالمجادلة، وهذه أمور موسعة؛ لأن الوقائع لا تنتهي، والزمان يتغير، والأحوال تختلف؛ ولكن في حدود ذلك المنهج المرسوم، فلا نتعداه ولا نخرج عنه؛ فنجدد ولكن في حدوده، ونغير ولكن في إطاره، ولا نخرج عن ذلك أبداً.
فإذا جاء إنسان بمنهج فيه بدعة، قلنا له: هذا المنهج مخالف لمنهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما فيه من البدعة، لا لأن فيه أسلوباً ما دعا به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كأن يكون هناك وسائل إعلام تختلف عما كانت عليه في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من صحافة أو إذاعة مثلاً، أو كأن يكون هناك نوع من تجمع الناس يختلف عما كان في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فهذه الأمور التي هي تبع للأزمان ولاختلافها تدور مع المصالح؛ ولهذا يسميها العلماء المصالح المرسلة؛ أما الصميم والهدف، حتى في الأسلوب أي: في الأساسيات، فلا خروج عما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحال من الأحوال، وليس تحبيب الناس هو الهدف؛ ولكن الهدف هو أن يقبلوا على الحق؛ سواء كان هذا بطريق يحبها الناس أم فيها بعض المشقة.
فما دمنا منتهجين منهج الحكمة؛ فهذا -إن شاء الله- سيؤدي إلى ما نريد؛ أما منهج التحبيب أو التحبب؛ فكلمة عامة؛ فقد يتحبب بعض الناس إلى الناس بالتساهل بأمرٍ من الأمور، أو بالتظاهر بأنه لا يتمسك بالسنة كاملة ولا يطبقها؛ حتى يقول هؤلاء الناس: هذا يألف ويؤلف، وأمثال ذلك مما قد يكون فيه شيء من التنازل عن الحق.(9/15)
ارتباط الجهاد بالدعوة
السؤال
هل الجهاد في سبيل الله مرتبط بالدعوة إلى الله؟ أم أن هذين العملين الصالحين منفصلان؟
الجواب
إن الجهاد إنما يكون لأجل الدعوة، وهو أحد وسائل الدعوة، فإذا تجرد الجهاد عن ذلك، كأن كان الجهاد من أجل الأرض -عياذاً بالله- أو من أجل التسلط والحكم والتحكم، أو من أجل أي غرض آخر؛ فإنه يخرج عن صفة الجهاد الشرعية بمقدار ما يخرج عن المنهج الصحيح؛ وهو أن يكون لإعلاء كلمة الله، ولا يكون فيه غرض لذوات المجاهدين؛ فإذا كان الغرض لذات المجاهد، كأن يجاهد ليحكم -مثلاً- أو ليصبح زعيماً أو يجاهد ليحوز مالاً؛ فهذا الذي ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه المجاهد المرائي، الذي يؤتى به يوم القيامة فيقال له: لم جاهدت؟ فيقول: فيك يا رب، فيقال: كذبت؛ إنما فعلت ليقال كذا وقد قيل، ويؤمر به فيسحب إلى النار.
وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث القدسي عن ربه عز وجل: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي غيري تركته وشركه} فحتى الجهاد -مع أنه تضحية بالنفس وتقديم لها- لا بد أن يكون خالصاً لوجه الله، ومن أجل توحيد الله، وإقامة دين الله ولا حظ للنفس فيه؛ وإلا فإن الشيوعيين والملحدين والقوميين وكل أنواع المجرمين في الأرض، يقاتلون ويقتلون من أجل المبادئ التي يدعون إليها، وكل أنواع المحتلين يقاتلون ليرفعوا الاحتلال عن بلادهم فإذاً: لا بد من الإخلاص لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وهدف الجهاد هو هدف الدعوة، فهو كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له} فهو يدعو إلى أن يعبد الله وحده لا شريك له، ويجاهد من أجل أن يعبد الله وحده لا شريك له، ولهذا لا يرتبط الجهاد الذي هو جهاد الطلب وجهاد الدعوة، بأرض معينة، ويجب أن نفرق بين جهاد الدعوة والطلب، وجهاد الدفع.
أما جهاد الطلب والدعوة فهو كما قال تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة:191] فالمؤمن يجاهد في سبيل الله كما جاهد الصحابة الكرام في أي مكان؛ لإقامة دين الله ومن أجل الدعوة إلى الله.
فلما ضاقت الحيلة بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه في مكة، هاجروا إلى المدينة؛ ففي أي بلد يمكن أن تقيم فيه دين الله، فلتكن دعوتك وليكن جهادك، ولا يرتبط بجهة معينة.
أما جهاد الدفع: فهو إذا احتل الكفار بلداً من بلاد المسلمين وسيطروا عليه؛ فإنه يجب على أهل ذلك البلد أن ينفروا لدفعهم، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وهذا جهاد آخر غير جهاد الدعوة والطلب.(9/16)
اختلاف أسلوب الدعوة بسبب اختلاف الأحوال
السؤال
كيف يدعو الإنسان في بيته، وبين والديه، وبين أقربائه، وفي مدرسته؟
الجواب
الدعوة لا تختلف في مكان عن مكان إلا بحسب اختلاف البيئة؛ فالهدف لا يختلف، والأسلوب لا يختلف؛ لكن من شخص إلى شخص ومن مكان إلى مكان تختلف الدعوة بحسب ذلك الإنسان؛ فدعوتك مع الوالدين، تختلف عن دعوتك مع غيرهما؛ لأن الوالدين لهما حق علينا؛ كما بين سبحانه: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] فلا يجوز الإعراض الكامل عنهما.
فلو أن شاباً من الشباب أبوه من أهل الشرك والضلال والدعوة إلى البدع والشر والإجرام؛ فعلى هذا الشاب أن يدعوه وأن ينصحه، لكن مع ذلك لا بد أن يعاشره بالمعروف، كما قال سبحانه: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] فلا جفوة كاملة؛ بل يظل يتودد ويتقرب إليه ويحسن عشرته ويعامله بالحسنى، ويدعو الله له، ويبذل كل وسيلة، حتى يهديه الله كما حرص إبراهيم الخليل -إمام الموحدين- على أن يهدي الله أباه، وكيف كان يدعو له كما بين القرآن الكريم.
والزميل أو الجار يختلف عن أي إنسان عادي تقابله في مكان ما؛ فهذا الجار أو الزميل لا بد أن يكون هنالك من الحكمة ومن المداراة ومن سياسة الدعوة معه ما يختلف عن ذلك الذي التقيت به لقاءً عابراً قد يكفي فيه أن تبين له الحق بالهدوء والأسلوب الطيب، ثم تدعه يذهب كما يشاء.
فالتفرقة في الدعوة لا تكون إلا بحسب الأحوال.(9/17)
توجيه في أسلوب دعوة أهل البدع والضلال
السؤال
لدي قريب يتعامل مع المشعوذين، فنصحته ولكن دون جدوى، فتركته ولم أزره ولم أدخل بيته.
فما رأيك في ذلك؟
الجواب
إن التعامل مع الدجالين والمشعوذين من الظواهر السيئة، ومع الأسف فقد بدأت تنتشر؛ وليس ذلك إلا نتيجة لغياب الدعوة إلى العقيدة الصحيحة من وسائل الإعلام والمنابر الخاصة والعامة.
فإذا قصرنا نحن الدعاة في دعوة الناس إلى العقيدة الصحيحة وبيان التوحيد وبيان الشرك وخطر الخرافات والبدع؛ فلا نستغرب أن يقع في الناس ما يقع.
ولهذا كَثُرَ الذهاب إلى المشعوذين والدجالين مع أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد حسم هذا الأمر، فقال: {من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد} لأن مما أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59] فلا يعلم الغيب إلا الله، أو من أطلعه الله -من رسله- على شيء من الغيب.
فأمَّا الذي يذهب لا بقصد أنه يصدق الكاهن؛ لكن كما يفعل بعض الناس، يذهب إلى بلد من البلدان للسياحة؛ فيجد أُناساً يقرؤون الفنجان أويجد سحرة؛ ومن جملة السياحة في تلك البلاد، أنه يذهب إليهم، ويعرض لهم مشكلته، ويعطيهم مبلغاً من المال على سبيل الاستهزاء ولا يبالي بأي جواب يقولونه فهذا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه: {من أتى عرافاً أو كاهناً لم تقبل له صلاة أربعين يوماً} فأعظم الأعمال وأزكاها عند الله -إذا حسنت وصلحت- هي الصلة بين العبد وبين الله، تنقطع أربعين يوماً إذا ذهبت إلى أي كاهن وما صدقته ولا اعتقدت صدقه، إنما من أجل الفرجة أو السياحة أو لتنظر ماذا يقول؛ فيأتي إلى الكاهن إنسانٌ جاهل ويصدقه؛ فإذا قلت له: لماذا ذهبت إلى الكاهن وصدقته؟ قال لك: رأيت فلاناً يذهب إليه.
فنيتك أنت لا يدري بها الناس وهكذا؛ فتكون أنت ممن كَثَّرَ سواد أهل الشر.
وأقول لصاحب السؤال: لا تهجره، وزره وانصحه ونوّع في النصيحة؛ وإن رأيت أنها لا تجدي معه نصيحتك؛ فأرسل إليه من ينفعه الله بنصيحته كأي إنسان مستقيم أو صاحب خير، كقريبٍ لك يعرفه ويثق فيه.
المهم أن تبذل الوسيلة؛ فإن بذلت وعجزت فإن ابن نوح عليه السلام كفر، وامرأة لوط عليه السلام كفرت، وأبا إبراهيم عليه السلام كفر، وعم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفر؛ وقال تعالى: {ِإنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].
فتجتهد في الدعوة وتصبر، والعاقبة للمتقين، والهداية من الله رب العالمين.(9/18)
علاقة الدعوة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
هل الدعوة والتبليغ هي نفسها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعنى "هل هما أمران متلازمان لا يفترقان" أم أن هناك فرق بينهما؟
الجواب
هما متلازمان، أو نقول: بينهما عموم وخصوص، فالدعوة إلى الله، كما قال الله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] فكل عمل عمله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعوة إلى الله، فإن أمر بالمعروف فقد دعا إلى الله، وإن نهى عن المنكر فقد دعا إلى الله، وإن جاهد فقد دعا إلى الله، وإن علم الناس العلم فقد دعا إلى الله، وهكذا كل ذلك دعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سهم عظيمٌ من سهام الإسلام، وهو شعار هذه الأمة كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] فأية دعوة لا تأمر بالمعروف ولا تنهى عن المنكر، فقد أخرجت نفسها عن الخيرية التي جعلها الله في هذه الأمة واختصها بها، ولهذا قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79] فلما لم يتناهوا عن المنكر لعنوا، وهذا الأمة لما كانت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر كانت خير أمة أخرجت للناس.
فلا بد في الدعوة إلى الله من ذلك، فالمنكر الأكبر هو الشرك، والأنبياء جميعاً إنما جاءوا يدعون إلى التوحيد، ونبذ الشرك، فالمعروف الأكبر هو: التوحيد، والمنكر الأكبر هو: الشرك؛ فالذي يدعو إلى الله، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ ثم بعد ذلك تأتى الكبائر من زنا وربا وتبرج وفواحش، ما ظهر منها وما بطن، والفواحش الباطنة مثل: الغفلة والقسوة وعدم الإيمان الصادق بالله والغش للمسلمين والحقد عليهم والأعمال القلبية الباطنية التي هي من الكبائر كالحسد والشح، فكل هذه الأعمال القلبية من الكبائر وإن كانت قلبية؛ ولكن لا بد أن يظهر أثرها على صاحبها عافنا الله وإياكم منها.(9/19)
المعيار الذي تقاس به الجماعات الإسلامية
السؤال
بعض الجماعات في الدعوة، هل هي على منهج الأنبياء أم على غير ذلك؟
الجواب
نحن لا نريد أن نقول فلان وفلان؛ بل نبين منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة، والمخالفون لا يتناهى عددهم في كل زمان ومكان، ولكن الحق واحد؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] فالسبل كثيرة لا نهاية لها، لكن الحق واحد وواضح؛ فاحرص على أن تعرف الحق، فإذا عرفته فاجعله معياراً تقيس به جميع الناس وجميع الأحوال.(9/20)
حكم الرغبة في كثرة المستجيبين للدعوة
السؤال
إذا كان الأخ له جماعة في المسجد، أو في البيت يذكرهم بالله، ويتذاكرون في كتاب الله والدعوة إلى الله ويحب أن يكثروا، فهل هذا يدخل في قولكم لا يحرص الداعي على كثرة الأتباع؟
الجواب
حتى لا يُفهم الكلام خطأً، أقول: إننا نحب أن كل المسلمين يأتون إلى الصلاة في المسجد، وإذا قام واعظ يعظ فإنه يحب أن كل الناس يجلسون ويستمعون إليه.
إذاً فالداعية إلى الله سواءٌ كان مدرساً في مدرسته، أو إماماً في مسجد، أو داعية في جماعته أو في قبيلته، كل من يدعو إلى الله على بصيرة وبالأسلوب الأمثل؛ هذا لا شك أنه يحرص على أن يستجيب له أكبر عدد، وهذا يحمد عليه؛ ولكن الذي تحدثنا عنه بأنه مذموم هو أنه من أجل الكثرة يراعي جانب الناس وجانب الاستكثار منهم؛ فيتهاون ويداهن ويجامل في شيء مما شرعه الله.
فالمذموم هو المداهنة والمجاملة في أمر من أمور الدين؛ أما أن الإنسان يريد الخير لكل الناس، فنحن نطمع ونرجو ونتمنى أن يدخل اليهود في الإسلام، وأن يدخل عُبَّاد الأبقار في الإسلام، بل ونحرص على ذلك، ويجب أن نبذل الجهود لذلك، لكن لا نتنازل عن ديننا، ولا نلتقي معهم في منتصف الطريق، فنقرهم على كفرهم وعلى إلحادهم وعلى ضلالهم؛ فهذه مسألة، وتلك مسألة أخرى.(9/21)
حكم التحذير من كتب أهل البدع
السؤال
بعض الناس يقولون لا تحذروا الناس من المبتدعين ومن كتب المبتدعة، وأن هذا ليس بأسلوب دعوة، فما قولكم في ذلك؟
الجواب
أما أسلوب الدعوة فقد جعل الله من أساسياته: تنزيه الله والبراءة من المشركين وكل الأنبياء ما أتوا إلى أممهم إلا ليقولوا: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59].
فالتحذير من كتب البدع والضلالة هو أوجب من التحذير من الزنا والربا وشرب الخمر والمخدرات وأمثالها من الجرائم؛ لأن المعاصي درجات، وأعظم المعاصي وأعلاها وأشدها هو الشرك والكفر بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ ثم يلي ذلك الابتداع في الدين؛ ثم يلي ذلك الكبائر.
ولهذا فأصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاتلوا الخوارج؛ بل هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أمر بقتالهم وأخبر عن ذلك؛ ففرح الصحابة -رضي الله عنهم- لما كان ذلك على أيديهم لما سمعوا من بشرى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى قال: {خير قتيل من قتلوه} وحين قال عنهم: {هم شر قتلى تحت أديم السماء} وغير ذلك مما وردت فيه أخبار الخوارج، وهي ثابتة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن الصحابة الكرام، ولم يقل الصحابة شيئاً من ذلك إلا عن علم من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه من أمر الغيب.
فالصحابة الكرام قاتلوا الخوارج لأنهم ابتدعوا في الدين، فكيف نتهاون مع أهل البدع ومع كتب البدع؟! والصحابة -رضي الله عنهم- توعدوا القدرية الذين ابتدعوا في القدر فقط، وهو جانب واحد من جوانب العقيدة، وليس هو جانب الشرك، بل إن البدعة في القدر قصد أصحابها هو المحافظة على التوحيد.
فأنكروا القدر حتى لا يحتج العصاة به، فيقولون: قدر الله، ويفعلون المعاصي.
فكان قصدهم زيادة تمسك الناس بالأمر والنهي، ومع ذلك يقول عبد الله بن عباس -رضي الله عنه-: [[لو أمكنني الله من أحدهم لدققت عنقه]] وكان قد كبر سنه وعمي، وعبد الله بن عمر -رضي الله عنه- لما بلّغة بعض التابعين عن القدرية الذين ظهروا في البصرة، قال: [[أبلغوهم أنني منهم براء وأنهم مني براء]] فتبرأ منهم رحمه الله، ثم بيَّن أنه لا يقبل لهم عمل؛ ولو أنَّ أحدهم أنفق مثل أُحدٍ ذهباً لم يُقبل منه حتى يُؤمن بالقدر، ثم ذكر لهم حديث جبريل الذي رواه عن أبيه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فانظروا كيف وقف الصحابة الكرام من أهل البدع ومن أهل الضلال! وانظروا إلى تهاوننا معهم الذي أدَّى إلى أن تُباع كتب الدجالين وتوزع والله المستعان، وهذا من أسباب تفرق المسلمين، ومن أسباب تقهقرهم!! لأن المؤمنين وخاصة من الشباب المقبلين على الدين؛ لو لم يروا إلا طريقاً واحداً لاتبعوه.
فعندما يترك أحدهم المخدرات والخمر والزنا، ويحافظ على الصلاة؛ ويريد الهداية، فيجد طرقاً كثيرة؛ فإنه يحتار أيها يتبع؛ فقد يقع في أحد سبل الضلال، فيخرج إلى الشر؛ بل قد يكون قد خرج من كبائر وجرائم وفواحش، فيقع في البدع ثم في الشرك عياذاً بالله؛ فيكون حاله قبل أن يعرف هؤلاء القوم ويقرأ كتبهم أهون وأخف من حاله بعد ذلك.
نسأل الله أن يعافي هذه الأمة وأن يقيها شر هؤلاء المبتدعة.(9/22)
حكم مخالطة أهل المعاصي
السؤال
إذا جلست عند جماعة ودعوتهم إلى صلاة الجماعة، ولكنهم رفضوا الذهاب إلى المسجد؛ لأنهم مشغولون بلهو كالنظر في مباراة كرة القدم في تلفاز أو ورقة لعب، ثم صلوا جماعة في مجلسهم؛ فهل يجوز أن أرجع إليهم وأجالسهم وأتحدث معهم، أم أعتزلهم نهائياً؟
الجواب
كِلا طرفي قصد الأمور ذميم، فلا تكون الجفوة النهائية ولا ينبغي هذا، وخاصة إذا كانوا زملاء أو أقرباء، والاحتكاك بينك وبينهم وارد، ولا ينبغي أيضاً أن ترجع إليهم -وكأنهم لم يفعلوا أي شيء- فتجلس معهم؛ بل لا بد أن تنكر عليهم وأن تحثهم على الذهاب إلى المسجد؛ ثم تعيد لهم الكَّرة بعد رجوعك إليهم؛ ثم تبين لهم الخسارة التي لحقت بهم؛ لأنهم صلوا هنا ولم يصلوا في المسجد، وتبين لهم حكم صلاة الجماعة، وتذكر لهم أحاديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي توعد فيها المتخلفين عن صلاة الجماعة.
فصلاة الجماعة أمرها خطير لا كما يقول بعض الناس: صلاة الجماعة سنة، أو فرض كفاية، وأضرب لكم مثالاً من الواقع؛ حتى تعرفوا أهمية صلاة الجماعة: في بعض الدول التي ينتشر فيها مذهب من المذاهب التي تقول: إن صلاة الجماعة سنة، تهاون الناس بالأذان وصلاة الجماعة، وحتى المساجد لم يعد لها ذلك الوقع والاهتمام -كما حصل في تركستان والأندلس وغيرها- فجاء أعداء الله إلى هذا البلد، فهدموا المساجد، ومزقو المصاحف، -وأكثر الناس لا يعلم ذلك فانقطع الأذان في المسجد، وأكثر الناس لا يهتم لذلك؛ لأن الأصل عندهم أن صلاة الجماعة سنة.
لكن الأمة التي تعرف أهمية صلاة الجماعة وأهمية المسجد، لو جاءت في يوم من الأيام والمؤذن قد أضاع المفتاح؛ تجدها تتعجب لماذا المسجد مغلق؟! ولماذا لم نُصلِّ اليوم؟! فهذه أحست أن هناك شيئاً فُقد، وهو أنهم لم يصلوا في المسجد.
فتجد أنهم يبذلون كل جهدهم ليبنوا مسجداً أو ليوسعوا مسجداً، ويهتمون به وبنظافته وبإمامته وبكل شيء؛ وذلك لأنهم يقدرون أهمية المسجد وأهمية صلاة الجماعة؛ ولهذا اقتطعت أطراف بلاد الإسلام التي تهاونت بصلاة الجماعة وبسهولة؛ لأن الناس لا يجمعهم جامع ولا تربطهم رابطة؛ ولأن شعائر الإسلام الظاهرة محيت رويداً رويداً حتى اضمحلت نسأل الله العفو والعافية.(9/23)
من أسباب ضعف الإيمان وعلاجه
السؤال
عندما أكون في حلقة ذكر أو خطبة، أحس بعلو الإيمان، وبالحماس للدعوة، وعندما أخرج من مكان الذكر، أحس بنقص كبير وكسل.
فما الدواء؟
الجواب
هذا ما شكاه أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعضهم لبعض، ثم شكوا ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فنحن نحتاج دائماً إلى التذكير والمناصحة، فالقلوب لا تثبت على حال ولو أنها تثبت على حال واحد؛ لاجتهد الإنسان يوماً من الدهر أو أسبوعاً أو شهراً وعبأ هذا القلب إيماناً ويقيناً؛ ثم انطلق وهو آمن مطمئن.
ولكن الحقيقة أنك ما بين لحظة ولحظة، ويوم ويوم، وفريضة وفريضة؛ ترى التغير وتحس النقص في قلبك؛ ولهذا لا بد من التعاهد، ولا نيأس ولا نقنط إذا حصل لنا هذا -كما أوصى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه ألا ييأسوا ولا يقنطوا- فهذا أمر نسبي؛ لكن لا بد من التذاكر والتناصح، واتخاذ كل الوسائل لتقوية الإيمان من ذكرٍ لله وقراءةٍ للقرآن وزيارةٍ للمقابر وتذكر لأحوال الناس الذين مضوا إلى ربهم عز وجل، وكل ما من شأنه أن يجعل هذا القلب ليناً مطمئناً بذكر الله نسأل الله أن يجعل قلوبنا جميعاً كذلك!(9/24)
حكم الإنكار على أهل البدع
السؤال
أليس من الدعوة أن ننكر على أهل البدع بدعهم، إذا كانت الاستطاعة موجودة؟ وهذه البدع منها الاجتماع على قراءة القرآن في بيت الجنازة، وكذلك ما يقومون به قبل الدفن من السير به خطوات معدودة وهم يحملون الجنازة على أكتافهم، ويزعمون أن السير بها هكذا وعلى ثلاث منازل فيها أجر عظيم، وأيضاً وضع ورق شجر سدر تحت العيون أثناء إجراء الكفن، ووضع أشجار حشيش أو برسيم عند وضعه في القبر، فما حكم الشرع في كل ذلك؟
الجواب
بلى! هذا من الدعوة وهذا مما يجب علينا، ولا يجوز أن نسكت على ذلك، إنما نحاول بما نستطيع وبالأسلوب الأمثل أن ننكر.
فما يقع عند الموت من هذه التختيمات وبدع الجنائز، مثله مثل كثير من البدع، وهو مما لا يجوز أن يقرَّ في المجتمع، وإن لم يمكن إلا الأخذ على أيديهم بالقوة، فلا بد أن تبلغ الجهات المختصة بذلك، ثم تتخذ منهم الموقف الصحيح بالقوة أيضاً، وإذا كان الإنسان له ولاية على شيء من هذه الأمور؛ فلا بد أن يغيرها باليد، كما لو كانت الجنازة لابنه أو لزوجته أو لمن يستطيع أن ينكر عليهم، أو كان الاجتماع في بيت أحد ممن يستطيع أن ينكر عليهم ويغير باليد، فلا يجوز له أن ينتقل إلى التغيير باللسان، إلا بعد أن يبذل جهده للإنكار والتغيير باليد.(9/25)
كيفية دعوة أصحاب المناصب والعوام
السؤال
كيف ندعو أصحاب المناصب، أو المتكبرين إلى الله؟ وكيف ندعو العوام إلى الله؟
الجواب
لا يوجد فرق من حيث أهداف الدعوة؛ وإنما الفرق أن صاحب الموكب الكبير أو صاحب الشأن أو صاحب المال، ينبغي أن يُدعى بما لا يشعر أن فيه احتقاراً له؛ لأن غرور الدنيا والمنصب والمال، وكثرة النفاق والمنافقين يجعله دائماً يشعر أنه فوق الناس.
فإذا جاءه داعية ودعاه إلى الله وخاطبه بأي خطاب؛ فإنه ينفر؛ فالإنسان المؤمن المسلم الذي فيه معاصي وفيه تقصير، ينبغي أن يخاطب بالحسنى وبما يليق بمثله، ويذكر بالله، ويؤتى له من الباب الذي يقتنع به؛ فإن كان صاحب منصب فيذكر بنعمة الله عليه بهذا المنصب، وأنه إذا اتقى الله فسيهتدي من تحت إدارته أو سلطته؛ وإن كان صاحب مال يذكر بنعمة الله عليه بهذا المال، وأنه لو أنفقه في سبيل الله فسوف يحصل له الخير، وهكذا أما العوام فلهم أسلوبهم وهو: الرفق بهم، وأن نأخذهم بالأسلوب الحسن؛ لأنهم أشبه بالقطيع من الدواب -وأكثر الناس هذا حاله- ولهذا فأهل البدع يحتوشونهم ويجتالونهم بمثل هذا الأسلوب.
فلا بد أن نخاطب كل واحد منهم بما يناسبه مع أننا في الحالين نخاطبهم من منطلق أصول الدعوة وأساسياتها، والأهم فالأهم، فلا نتساهل ولا نتهاون ولا نقدم غير الأهم على الأهم.(9/26)
حيلة شيطانية لصرف الدعاة عن الدعوة إلى الله
السؤال
أريد أن أكون داعية إلى الله، وأن أكون خطيباً وواعظاً في المساجد، ولكن يوسوس الشيطان لي، وأحس ضعفاً من ناحية الإخلاص، فما الحل؟
الجواب
توكل على الله، فالشيطان يقول: لو دعوت إلى الله فربما لا تخلص؛ فهذا مثلما لو جاءك الشيطان وقال: إن صليت فقد ترائي في الصلاة، إذاً: لا تصلِّ فهل تطيعه؟ قطعاً لن تطيعه، وهذه هي نفس تلك، والشيطان له أساليب.
فهذا الخبيث والعدو اللدود -من عهد آدم إلى اليوم- عنده هذه الخبرة الطويلة، وعنده هذا التمكين الذي أعطاه الله إياه؛ فهو يجري من ابن آدم مجرى الدم، ويوسوس له، وكل هذا التمكين يسخره من أجل الإغواء.
فيأتي إلى أحدنا فيقول له: أنت افعل الفواحش والموبقات، ولا تُصلِّ ولا تصم، ويطمئن إلى جانبه، ويأتي إلى الآخر ويقول له: اجتهد في الإخلاص وفي ترك الرياء، واجتهد في كذا؛ لأنك مراءٍ، فلا تحبط عملك؛ فإذا أقره واستيقن بذلك، قال لك: لا تقم وتدعو إلى الله؛ لأنك لو دعوت فسيكون ذلك من الرياء، ولا تظهر طاعة من الطاعات أمام الناس -وهي من الطاعات التي أمر الله أن تظهر- لأن هذا قد يكون فيه الرياء! فيمنعه من الدعوة إلى الله؛ بل ويخرجه عن الصراط المستقيم الذي كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه.
فإياك وهذا العدو، وتوكل على الله، وجاهد نفسك على الدعوة، وجاهدها أيضاً على الإخلاص في الدعوة، فحياتنا كلها جهاد.(9/27)
حكم الدعوة إلى الله بالأحاديث الضعيفة والموضوعة
السؤال
هل الذين يدعون إلى الله سبحانه بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، موافقون لمنهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
الجواب
كيف يكونون موافقين، وقد قال الله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]؟! فليس من البصيرة الدعوة إلى الله بالجهل، أو بالأحاديث الموضوعة والضعيفة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار}، وفي رواية: {من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار} وقال: {ومن حدث بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبَين أو الكاذبِين}.
فلا يجوز أن تدعو إلى الله بأحاديث لا تعرف صحتها، أو قصص وحكايات مما هب ودب؛ ففي كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العبر والمواعظ والقصص ما يغنينا.
فالصحابة الكرام اتعظوا موعظة كبرى -كما في الحديث الصحيح- لما أنزل الله عليهم: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:1 - 8] وما أعظمها من موعظة؛ فنحن نسمعها ونقرأها؛ ولكن أين هذه القلوب من تلك القلوب؟ وكم في القرآن والأحاديث الصحيحة من مواعظ عظيمة! أفنترك هذا ونأتي بأحاديث مختلفة أو واهية وقصص وحكايات لا أصل لها؟! فهذا لا يجوز، وليس من منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة إلى الله.(9/28)
العلاقة بين صحة المقصد وصحة الأسلوب
السؤال
كيف تكون الدعوة إلى التوحيد -في بعض الأحيان- على غير بصيرة؟
الجواب
هذا قد يكون؛ لأن صحة المقصد لا تعني صحة الأسلوب.
فقد يكون هناك إنسان يدعو إلى توحيد الألوهية والعبادة، وإلى توحيد الأسماء والصفات؛ لكنه على غير بصيرة، ولا يدري ما الفرق -مثلاً- بين ما يخرج من الملة وما لا يخرج من الملة، ولا يدري ما هو الأسلوب الأمثل في الدعوة إلى الله، وأين يضع الحكمة، وأين يضع الموعظة الحسنة، وأين يضع المجادلة بالتي هي أحسن، وقد يكون جاهلاً بحال المدعو، فيكلمه عن التوحيد من أحد جوانبه، وهذا المدعو واقع في شرك آخر؛ فحتى الدعوة إلى التوحيد لا بد أن تكون على بصيرة، والله تبارك وتعالى قال: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] وهذا هو توحيد الله، وقال أيضاً: {عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] مع أنها إلى الله، فلا بد أن تكون على بصيرة.(9/29)
كيفية تجديد العزيمة والإيمان
السؤال
في بداية الهداية كنت أدعو إلى الله بقوة، ولا أخاف أحداً، وبعد سنة أو أقل قل عزمي؛ حتى أني لم أعد أقوم لصلاة الفجر في بعض الأحيان، فماذا أفعل حتى أستعيد القوة في ديني؟
الجواب
هذا الحال كحالنا جميعاً، تعترينا القوة ويعترينا الضعف والمرض، ولا بد أن نقوي إيماننا.
فعليك بتلاوة كتاب الله عز وجل، وأن تجلس مع أهل الخير الذين يقربونك من الله، وأن تحرص على أن يوجهوك، وأن يدعوك، وأن يوقظوك، واحرص على مجاورتهم، أو السكن معهم؛ لأن هؤلاء هم خير عون لك على هذا الشأن، ولا تيأس أيضاً، فقد يكون في بعض التراخي خير من جهة أن الإنسان يجدد العزم والهمة مرة ثانية، ويراجع تلك الهمة وتلك العزيمة وتلك القوة؛ فربما أنها لم تكن على بصيرة؛ لأن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فبعض الناس في بداية الدعوة، وأول ما يهتدي يندفع اندفاعاً شديداً، وبعد ذلك تكون له فترة، وهنا يكون الافتراق، إما أن تكون الفترة إلى السنة، فيرجع من الاندفاع إلى الاقتصار والاعتدال كما هي السنة؛ وإما أن يرجع إلى المروق -والعياذ بالله- أو إلى بدعة من البدع؛ وهذا يخرج عن الطريق المستقيم، وهذا ما قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا المقام.(9/30)
حكم قول المدعو: التقوى هاهنا
السؤال
كيف أفعل إذا أردت أن أدعو؟ فبعض الناس يقول: التقوى في القلب، التقوى هاهنا؟
الجواب
صحيح أن التقوى في القلب، وهذا ما قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما في الحديث الصحيح: {وأشار إلى صدره ثلاثاً} ولكن ما معنى ذلك؟ كثيراً ما انعكست المفاهيم في حياة الأمة؛ حتى أصبحوا يضعون الشيء في غير موضعه.
ففي الحديث ينبهنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عدم الاكتفاء بالموافقة الظاهرة، وأنه لا بد من الخشوع الباطن، ولا بد من الانقياد الباطن؛ فأصل كل انقياد وإذعان وإنابة وإخبات ويقين وتوكل وصبر هو القلب؛ لأنه الذي يرشدنا إلى ذلك، وأما نحن فنعكس ذلك ونجعل ظاهرنا فاسداً؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول التقوى في القلب، وهذا عكس ما أمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو من التلاعب ومن التحريف.
وقد يدخل فيما أخبر عن اليهود بأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه؛ بل أمرنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نصلح ظاهرنا وباطننا، وأن نهتم بالباطن؛ فقد يقف الإنسان في الصلاة وقفة الخاشع المنيب والقلب لا خشوع فيه؛ فيقال له: إنما الخشوع خشوع القلب.
لكن كإنسان معرض لا يريد أن يصلي أو أن يعبد الله، ويقول: التقوى هاهنا ويذهب فنقول له: أين أثرها؟ وأين حقيقتها؟ نعم! التقوى هاهنا! ولهذا نقول لك: أنر قلبك بذكر الله، ولو اتقيت الله في قلبك ولان وخشع لذكر الله؛ لجعل الجوارح تنقاد، وتأتي بك إلى بيت الله، وتأتي بك إلى حيث أمر الله، وتبعدك عن كل ما نهى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذه هي الحقيقة التي لا بد أن نعرفها.(9/31)
حكم الدعوة إلى عدم نشر العقيدة الصحيحة
السؤال
كثيراً من الناس بل من الدعاة، يدَّعون أن الحكمة هي ترك الأمور المختلف فيها، ويعنون بذلك الأمور العقدية سواءً في توحيد الألوهية، أو ما يتعلق بتوحيد الأسماء والصفات، فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
إذا أخذنا بهذه القاعدة -كما ذكرها السائل- فإنه لن يبقى من ديننا شيء؛ لأن بعض الناس يقول: ادع إلى كل شيء لكن لا تتعرض للشرك، وآخر يقول: ادع إلى كل شيء ولكن لا تتعرض للبدعة، والآخر يقول: ادع إلى كل شيء إلا الربا والرابع يقول: إلا الزنا، وآخر يقول: يا أخي! نحن وإياك نتفق على أن ندعو هذا الإنسان إلى الصلاة ونترك عقيدته أياً كانت؛ فدعوناه فجاء يصلي، وجاء واحد من أهل البدع فأدخله في صلاة بدعية، ثم صلوات بدعية، لا أول لها ولا آخر، وقال: نلين قلبه -فقط- لله، فإذا لان قلبه لله؛ فليفعل ما يشاء.
فلان قلبه للدين والإيمان والآخرة، وإذا به لا يتورع عن أي بدعة، إما عن جهل، وإما عن تبعية لأصحاب الضلال، فما الفائدة؟! فإذا كان الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قد أقام الخلاف بين أهل التوحيد والإيمان -كما في الآية: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]- وجعله أساساً من أساسيات الدعوة، وهو البراءة من المشركين؛ أفنأتي نحن ونقول: نريد دعوة من غير خلاف؟! والله تعالى يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112]، وفي الآية الأخرى: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31]؟! فالدعوة لا بد لها من عدو.
هل قرأتم أن نبياً دعا إلى الله ولم يعارضه أحد؟ وهل سمعتم أن رجلاً دعا إلى السنة ولم يخالفه أهل البدع؟! فلو تركنا الناس وأهواءهم لما استقامت لنا دعوة ولا دين.
وأما بعض الأمور الخلافية الفرعية التي اختلف فيها الصحابة الكرام؛ فإنها لا تفرق عن الصراط المستقيم، ولا ينبغي أن نتفرق فيها وأن نختلف عليها؛ وهذا حق.
أما التوحيد فهو الأساس، فإذا ضيعناه وقبلنا الخلاف فيه؛ فلا خير في دعوتنا على الإطلاق! وإلام سوف ندعو الناس إذا تركوا توحيد الله وأقررناهم عليه؟! فهذا غاية الجهل بحقيقة الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
والحمد لله رب العالمين.(9/32)
غاية الدعوة
تحدث الشيخ حفظه الله عن الغاية من مشروعية الدعوة وأمر الله بها، لتوحيد الله عز وجل، وهو الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، ثم تحدث عن الشرك، وكيف حذر الله عز وجل خير خلقه محمداً صلى الله عليه وسلم منه وكيف حذر منه إمام الموحدين إبراهيم عليه السلام.
وقد بين أن الشرك هو أعظم خطر على أعمال القلوب التي هي مناط صلاح الأعمال، ثم ختم حديثه بالكلام عن التوحيد وكيفية تحقيقه تحقيقاً كاملاً في واقع حياتنا.(10/1)
أهمية موضوع غاية الدعوة
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له, وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن أمر الدعوة إلى الله، ومنهجها أمر مهم, والحاجة إليه ملحة، لأن المسلمين اليوم بعد أن انتبهوا وأفاقوا ووجدوا حالهم بعيداً عما شرع الله, وعما كان عليه الجيل الأول المبارك, ووجدوا أن الكفار سيطروا عليهم وغزوهم ودخلوا عليهم من كل منفذ, فعندما أفاقت هذه الأمة وجدت أنه لا حياة لها ولا قيام ولا خير فيها إلا بإحياء الدعوة إلى الله.
ولكن كيف تكون الدعوة إليه تبارك وتعالى؟ وما السبيل القويم الذي تتحقق به الدعوة التي يرضاها الله, ويرضى عنها, ويقبلها ويبارك فيها, وتعيد لهذه الأمة مكانتها في العالمين, واستخلافها في الأرض؟ إن المسلمين قد دب بينهم داء الأمم التي من قبلنا, بل هي أدواء وعلل, منها: أنهم ابتعدوا عن المنهج الصحيح في عبادة الله تعالى, ومِنْ ثم انحرفوا في منهج الدعوة إلى الله تبارك وتعالى, إلا من وفقه الله في الدعوة إليه عز وجل, كما أمر تبارك وتعالى نبيه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قال له: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
فهذه الآية العظيمة الجامعة, فيها منهج الدعوة إلى الله تبارك وتعالى كاملاً لمن تدبره وفطن إليه.(10/2)
دعوة التوحيد
نحب أن نوضح أول قضية من قضايا الدعوة, بل من قضايا الإيمان جميعاً التي لا يمكن ولا يصح أن نتجاوزها أبداً, وهي التي ذكرها الله تبارك وتعالى في هذه الآية في قوله: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108].
فهذه الكلمة ليست كلمة عابرة، وليست جملة عادية، كما نتحدث ونقول في بعض العبارات والجمل التي لا مكان لها، بل إنها هي الأساس, وهي: نقطة البداية في هذا الأمر العظيم, وهي أن تكون الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهاهنا مفترق الطرق بين من يدعو إلى الله, وبين من يدعو إلى غير الله, وإن ظن أو زعم أنه يدعو إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
والدعوة إلى الله معناها: الدعوة إلى توحيد الله تبارك وتعالى الذي أرسل الله عز وجل به جميع الرسل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وإذا قرأنا في كتاب الله نجد أن كل نبي بعث إلى قومه، قال لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، فهذه هي القضية التي تتكرر دائماً, وبعدها تأتي كل قضية أخرى، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] هذه هي القضية الأساس.
فإذاً أول ما ندعو إليه, وأول ما نعبد الله تعالى به: هو توحيد الله عز وجل.
والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بعث معاذاً إلى اليمن , ماذا قال له؟ قال: {إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله}، وفي رواية {عبادة الله} وفي رواية: {إلى أن يوحدوا الله} وكلها روايات صحيحة, ومعناها حق وصحيح, فعبادة الله هي: شهادة أن لا إله إلا الله, وهي توحيد الله.(10/3)
حقيقة التوحيد
أول ما يبدأ به الداعية هو توحيد الله تبارك وتعالى, ولا يقل قائل: إن التوحيد متحقق وموجود, لأن الذي يقول ذلك, لا يفهم من توحيد الله وعبادته، إلا أنه يقول: أشهد أن لا إله إلا الله, ولو أن الله تبارك وتعالى بعث الرسل ليقولوا للناس: قولوا: لا إله إلا الله, مجرد قول باللسان بلا حقيقة ولا معنى, ولا شروط, ولا اجتناب نواقض, لقالتها الأمم, وما كانت هذه المعارك مستمرة التي ترتب عليها -كما تقرءون في كتاب الله- الهلاك والدمار لكل من خالف ذلك, والفوز والنجاة لمن وحِّد الله, وأطاع الرسل واتبعهم.
فهذه قضية عظيمة, ولو أن الأمر أمر نطق فقط لما كان هذا الجهد العظيم, ولما كانت هذه التضحيات الكبيرة, النهايات العظيمة المفزعة المروعة، ولكنه لتحقيق أن يوحدوا الله, وأن يعبدوا الله, وأن يشهدوا أن لا إله إلا الله.
ومعنى ذلك: أن يُطيعوه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وأن يقفوا عند حدوده, ويتبعوا أوامره, ويجتنبوا نواهيه, ويتقربوا له عز وجل بكل عمل من أعمال القلوب, بالصدق والإنابة والرغبة والرهبة والرجاء والاستعانة والاستعاذة, ولا يتبعون غير نبيه، ولا يتحاكمون إلى غير شرعه, ولا يتبعون عادات ولا تقاليد, ولا ما كان عليه الآباء والأجداد, ولا قوانين, ولا بدع, ولا مناهج, إلا ما شرع الله, وما أنزله الله تبارك وتعالى.
ففي كل أمر مما يقربهم من الله يسألون: ماذا قال الله فيه؟ وما أنزل الله فيه من الوحي قرآناً أو سنة.(10/4)
التوحيد هو أول الأمر وآخره
أول شيءٍ في الدعوة إلى الله وفي عبادة الله, هو توحيد الله تبارك وتعالى، فبالنسبة لك يا أخي المسلم الشهادة هي أول شيء وآخره، فالمحتضر -مثلاً- الذي جاءته الوفاة, وهو على فراش الموت نلقنه شهادة أن لا إله إلا الله, فهل المقصود فيها اللفظ فقط؟ لا, المقصود أن يموت وهو موحد لله تبارك وتعالى, فأول ما يدخل العبد به الإسلام هو شهادة أن لا إله إلا الله, وآخر ما يقوله وما يلقنونه هو: شهادة أن لا إله إلا الله.
إذاً أعظم شيء هو التوحيد, وهو أول شيء وآخره.(10/5)
الجهاد لأجل التوحيد
لماذا نجاهد؟ نجاهد من أجل التوحيد: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] , إذاً الغرض من الجهاد ألَّا يكون هناك فتنة, وما هي الفتنة؟ الفتنة كما ذكرت في الحديث الصحيح: (الفتنة الشرك) فنقاتل الكفار حتى لا يكون هناك شرك, وحتى يكون الدين كله لله, فلا يعبد إلا الله, ولا يتبع إلا شرع الله, ولا يطاع إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أو من أمر الله تعالى بطاعته تبعاً لطاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كالأنبياء وولاة الأمر من علماء وأمراء, الذين يُعلمون الناس ويحكمون بينهم بما أنزل الله.
ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يصف حاله ووضعه ونفسه بناءً على ما ذكر ربه عز وجل, عندما قال له ربه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] فكأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يترجم ذلك الأمر فيقول: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة} فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث بالسيف وبالجهاد, ولا يقوم ديننا هذا إلا على الجهاد, ولا يمكن أبداً أن يقوم إلا على الجهاد بجميع أنواع ودرجات الجهاد.
فالمؤمن في جهاد مع نفسه وهواه, ومع شيطانه ومع أعدائه, وجاءت لفظة [السيف] في الحديث ليدل على المرتبة العليا للجهاد, التي لا يقوم ولا يتحقق الدين إلا بها.
ولكن الجهاد والسيف والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله من أجل ماذا؟ يقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له} فهذا هو الغرض الوحيد، وهو أن يُعبد الله وحده لا شريك له {وجعل رزقي تحت ظل رمحي} فكل الأنبياء لهم مكاسب يكسبون منها, فمنهم من كان نجاراً, ومنهم من كان حداداً, ومنهم من رعى الغنم وكلهم رعوا الغنم, وكل نبي له مهنة.
والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من فضله وحكمته البالغة بعث هؤلاء الأنبياء من البشر: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً} [الإسراء:95] لكن نحن بشر, فبعث منا بشراً يعمل ويكدح, ويحتاج أن يأكل ويشرب وينام, ويمشي في الأسواق كما نفعل, والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أين يأتي بدخله؟ يأتي بدخله من خلال أشرف وأعظم وأعلى أنواع المكاسب, وهو: {وجعل رزقي تحت ظل رمحي}، فلو أن الأمة الإسلامية آمنت بالله ووحدت الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق توحيده, لأكلت من تحت ظل رمحها.
فالكفار يبنون الحضارة ثم تكون للمسلمين, والفرس والروم بنوا حضارتهم في ألفين سنة، وأجروا فيها الأنهار, وسقوا الأشجار, وبنوا القصور, وفتحوا القنوات العظيمة, وبنوا الطرق الرومانية التي تمتد من شمال أوروبا إلى مصر وجزيرة العرب , كل ذلك فعلوه, فكان ماذا؟ كان غنيمة للمسلمين, غنيمة لمن وحد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فخرجوا من هذه الجزيرة حفاة عراة جائعين, إلا ما كان منهم ميسور الحال وما أقلهم, فأورثهم الله تبارك وتعالى تلك الحضارات, وتلك القصور، وتلك المباني.
ونحن الآن -مثلاً- نقول: العالم الغربي لديهم الحضارة والعلم والتطور والتقدم والتكنولوجيا, ولو وحدنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق توحيده, وذهبنا في سبيله، ودعونا إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكان هذا هو همنا, وكان ذلك شغلنا الشاغل، كما قال في الآية سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف:108] أي: هذا هو فعلي, وهذه هي طريقتي, وهذا هو عملي, أدعو إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ولو فعلنا ذلك لكنا بفقرنا هذا وعلى تأخرنا هذا -ونحن لا نريد التأخر في التكنولوجيا أو التقنية, ولا نريد الفقر, ولا نريد الجوع- لكنا منتصرين عليهم ولأورثنا الله تبارك وتعالى هذه الحضارات جميعها, فمنهم من يؤمن, فيسلم هو وما لديه من حضارة, ومنهم من نجاهده فيعطينا الله ملكه وحضارته غنيمة للمسلمين, بماذا؟ بتوحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, فلو وحَّدناه سبحانه لغزوناهم في عقر دارهم, ولما كانت لهم أي فرصة ليغزونا في دارنا, كما هو حال بلاد المسلمين اليوم إلا ما رحم الله.
إذاً: {وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وكتب الذل والصغار على من خالف أمري} وهذا هو حال المسلمين اليوم، إلا من كان في عز الطاعة وفي عز الدعوة إلى الله, أما البقية فهم في ذل, وإن جمعوا من المال ما جمعوا, وإن حازوا من المناصب ما حازوا, فهم بالنسبة للكفار في ذل, لماذا؟ لأنهم خالفوا أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ونحن قوم أعزنا الله بالإسلام, فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله, فإذا تمسكنا بهذا الدين, وأخذنا بأسباب الدنيا وهي من الدين ومطلوبة، فإن الله تعالى يوفقنا وينصرنا على كل عدو.
أما إذا تركنا ديننا وأردنا العزة والقوة في آلات نشتريها, ومعدات نستوردها, وصناعات نظن أنها تحقق لنا ما نريد, فلن يكون ذلك أبداً , إلا بدين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
{ومن تشبه بقوم فهو منهم} فمن تشبه بالكرام وبالمقربين: من أنبياء أبرار ودعاة ومجاهدين وصالحين, كان منهم, وإن تشبه بالكفار كان منهم, وإن تشبه بالمنافقين أو المبتدعين أو الضالين أو الفاجرين كان كذلك منهم: {من تشبه بقوم فهو منهم} وكأننا نلمس داخل الحديث أملاً, وهو أنكم إن كنتم تريدون العزة, وإن كنتم تريدون النجاح فهو في دعوتكم وفي جهادكم وفي عملكم أيها المسلمون: {من تشبه بقوم فهو منهم} فتشبهوا به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, بأن تكونوا مجاهدين داعين إلى أن يُعبد الله وحده لا شريك له, وليكن رزقكم تحت ظل رماحكم, فتكونوا مثله, وتنالوا ما نال الصحابة الكرام من الفوز والغنيمة في الدنيا والآخرة.
فإذاً الجهاد والأمر بالمعروف من أجل ماذا؟ من أجل توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(10/6)
التوحيد في سورة الفاتحة
الصلاة على أهميتها التي تعلمونها جميعاً, إنما هي من أجل توحيد الله تبارك وتعالى فهي كلها توحيد: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18]؛ فمن أجل توحيد الله نقف بين يدي ربنا عز وجل, ونقول: الله أكبر، وهذا من توحيد الله, ونقرأ أم الكتاب ركناً في كل ركعة من صلاتنا, وهي في توحيد الله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] نوحد الله توحيد الربوبية.
{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] وهذا توحيد الأسماء والصفات.
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] وهذا من الأسماء والصفات ولكنه يتعلق بأمر عظيم, ولا يمكن أن يُوحد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلا به, وهو الإيمان باليوم الآخر وبالوقوف بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين} [الفاتحة:5] فهذه الآية هي معنى لا إله إلا الله, ففي الشهادة: الحصر، جاء بـ (لا وإلا) , وهنا جاء الحصر بالضمير المفعول المتقدم, أي: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] وكأنك قلت: وحدك لا غيرك يا رب نعبدك.
إذاً: هذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله, فهو الغاية سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وهو المقصود والمعبود وحده.
ومن يعيننا على ذلك؟ وما الوسيلة التي نحقق بها ذلك؟ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين} [الفاتحة:5] فأيضاً نستعين به وحده على تحقيق توحيده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحده لا شريك له، فله العبادة ومنه العون.
إن أمرنا نأمر بما يرضي الله, ونستعين على ذلك به, وإن دعونا ندعو إلى الله, ونستعين على ذلك به, وإن جاهدنا نجاهد من أجل إعلاء كلمة الله, ومن أجل توحيد الله, ونستعين على ذلك بالله.
إذاً لا بد منهما: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وأيضاً و {َإِيَّاكَ نَسْتَعِين} وهذا هو توحيد الألوهية.
ثم ندعو الله تبارك وتعالى في كل ركعة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6 - 7] فعندما ندعو الله بذلك, فنحن نأتي بنوع آخر من أنواع التوحيد -وإن كان هو جزءً من توحيد الألوهية- وهو أننا نوحد ربنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى باتباع شرعه, وباتباع رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما جاء به من الدين, فلا نعبد الله إلا كما عبد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ولا ندعو إلا الله إلا كما دعى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(10/7)
أقسام الناس في العبادة
وديننا الإسلامي مبناه على أصلين عظيمين: الأول: ألَّا يُعبد إلا الله.
والآخر: أن يعبد الله بما شرع ولا يعبد بالأهواء والبدع.
ولا يكون حالنا في دعوتنا أو عبادتنا أحد الحالين اللتين خرج بهما أصحابهما عن الصراط المستقيم: الحالة الأولى: حالة من علم الحق وعرفه, ولكنه أعرض عنه واجتنبه، وهؤلاء هم اليهود المغضوب عليهم, وكل من سلك طريقهم, كما ورد عن ابن عباس وعن سفيان بن عيينة رضي الله عنهما: [[من ضل من علمائنا ففيه شبه من اليهود]] ولا نعني بالعالم -فقط- ذلك الذي هو عضو في هيئة كبار العلماء بل المغضوب عليه في هذه الحالة هو: كل من علم شيئاً من دين الله ولم يعمل به ففيه شبه من اليهود, يعلم أن الزنا حرام فيزني, أو أن الخمر حرام فيشربها, أو أن النظر إلى المرأة الأجنبية حرام وكل ليلة ينظر إليها, أو أن الربا حرام ويرابي ويتعامل مع المرابين كل يوم, هذا هو المتعرض لكونه من المغضوب عليهم، سأل الله العفو والعافية.
إذاً ما فائدة العلم إذا لم نعمل به؟ الحالة الثانية: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] والضالون هم الطرف الآخر: وهم الذين عبدوا الله على ضلالة, وعبدوا الله على بدعة وعلى هوى وجهل, فلم يعبدوه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على علم وعلى بصيرة, وانظروا ماذا في الآية نفسها -آية الدعوة-: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108].
إذاً: أول شيء الدعوة إلى الله، لا إلى غيره أبداً, لا إلى النفس, ولا إلى الشيخ, أو الإمام أو من أحب أو من كره! لا أدعو إلا إلى الله وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على بصيرة, فلا ندعو على ضلالة, ولا ندعو على بدعة, ولا ندعو على رأي يخالف ما أنزل الله, بل على بصيرة وعلى علم من الله, وعلى برهان وحجة ونور وكتاب أو سنة.
{أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] أي: ليس هذا الأمر خاصاً برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل أنا ومن اتبعني, فهذا هو شأن كل أتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, أنهم يدعون أولاً وقبل كل شيء إلى توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإلى أن يُعبد الله وحده لا شريك له, فلا يشرك به أبداً بأي شيء, وهذا هو شأنهم.(10/8)
غرض الدعوة إلى الله
وغرض الدعوة وهدفها هو تنزيه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكثير من الناس لا يفقه غرض الدعوة إلى الله، ألا ترون المشركين والمنحرفين عن الدعوة الصحيحة؟ لو تدبرت أحوالهم لوجدت أنهم لا يسبحون الله, ولا نقصد أنهم لا يقولون: سبحان الله؟ لا, بل هذه يقولها أكثر الناس وأكثر المصلين من أهل البدع والضلالة والشرك, بل نقصد أنهم لا ينزهون الله عما لا يليق به, وهي لا تعني كلمة أو لفظاً باللسان, بل تنزيه الله عما لا يليق به.
والنصارى عندما قالوا: إن لله تعالى ولداً, هل هم مسبحون لله؟ لا أبداً: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ* إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) [المؤمنون:91] عباد الله المخلصين فقط، أما غيرهم فإنهم لا يسبحون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بل ينسبون له الولد والصاحبة، ويزعمون أن معه شريكاً.
والذين يقولون: إن الشريعة أو الدين لا يصلح للتطبيق في القرن العشرين, قرن الحضارة والعلم والتكنولوجيا, هؤلاء لا يسبحون الله ولا ينزهون الله عما لا يليق به, بل هم ينسبون إليه ما لا يليق به, وهو أنه -تعالى عن ذلك- جاهل لا يدري أن الحضارة ستأتي, أو هو يعلم أن القرن العشرين سيأتي بحضارته, لكنه لا يستطيع أن يجعل له من الشرع ما يلائمه وما يناسبه, تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
إذاً لا يسبحون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وكل من دعا إلى اشتراكية أو ديمقراطية أو بعثية أو أي اسم مهما كان: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً* لَعَنَهُ اللَّه) [النساء:117].
فكل من دعى إلى غير الله فنهايته أن يصل إلى الشيطان، لأن هؤلاء لم يسبحوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: مثل الذي يقول: الإسلام كله يعجبني بل وأدعو إليه, وأرجو وأحب أن تدعوني إليه -أيها الدعاة- إلا مسألة المرأة, فلا بد أن تعمل ولا بد أن تخرج وأن تتبرج وأن تشارك في وسائل الإعلام وفي كل مجال, فهل نزّه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذا؟! لا، لم ينزه الله أبداً، لأنه اعترض على حكم من أحكام الله, ورأى أن رأيه أفضل منه.
إذاً ندعوه إلى أن يؤمن بالله, وأن يسبح الله, ويوحد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فغرض الدعوة هو تسبيح الله وأن ينزّه الله, فتنزيه الله ركن أساس في الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد ضربنا الأمثلة على ذلك.(10/9)
التحذير من الشرك
{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:79] بعد أن ذكرنا جانب الإيمان, نأتي الآن إلى الاحتراز, فنحترز من أعظم ذنب عُصِيَ الله به، الذنب الذي لا يغفره الله أبداً إلا لمن تاب, الذنب الذي حرم الله تبارك وتعالى على فاعله أو صاحبه الجنة أبداً إلا أن يتوب, ومن لقي الله وهو مذنب بهذا الذنب فإن مصيره الخلود في النار, فما هو هذا الذنب العظيم؟ إنه الشرك: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:79].(10/10)
تحذير الأنبياء من الشرك
إبراهيم عليه السلام لما دعا الله {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:35] , قال ابن تيمية رحمه الله: 'ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم'.
الله أكبر! إمام الموحدين الذي حطَّم الأصنام يدعو بهذا الدعاء, والذي جاهد لكي لا يعبد إلا الله, والذي ذبح ابنه امتثالاً لأمر الله, وإن لم يقع الذبح لكن قد فعله وصدق الرؤيا, وامتثل أمر الله, من أجل توحيده لله، وامتثاله لأمر الله, المر الذي هو فامتثله رؤيا رآها فتله للجبين.
وهذا إبراهيم عليه السلام الذي هاجر في الله، وفي ذات الله، ودعا إلى الله, وجعله الله إماماً للناس, وأوحى إلى داعية التوحيد العظيم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123] هذا نفسه يدعو الله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:35] يدعو الله أن يجنبه الشرك, سبحان الله! إذاً الشرك خطير, يقول ابن تيمية رحمه الله: 'ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم' من يأمن؟ لا تقل: إن الكلام قد كثر كل يوم عن الشرك, والناس موحدون والحمد لله وهم مسلمون, سبحان الله! هل أنت أكثر توحيداً من إبراهيم الخليل؟! لا، والله, لما أمره الله تعالى أن يبني هذا البيت العظيم, الذي هو قبلة الموحدين في جميع أنحاء العالم إلى يوم الدين, ماذا قال تبارك وتعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} [الحج:26] يا إبراهيم! ابن البيت، ولا تشرك بي شيئاً, فهذا أول أمر يؤمر به إمام الموحدين: ألَّا يشرك بالله, فلم يقل: يا رب! أنا إمام الموحدين, أنا الذي وحدتك تنهاني عن الشرك؟ وإذا نهيت أحداً أو تكلمت أو حذَّرت من الشرك, قيل: ليس عند هؤلاء الناس إلا الشرك؟ ولا يتكلمون بغير الشرك؟ سبحان الله! وماذا قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو إمام الدعاة إلى الله، الذي يجب على كل داعية أن يقتدي به إذا كان من أتباعه: {وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66].
فمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول له ربه: قد أوحي إليك يا رسول الله, وإلى الذين من قبلك من الرسل -ومنهم إبراهيم إمام الموحدين- لئن وقع منك ذلك الشرك ليحبطن عملك.
سبحان الله! العمل كله؟ نعم, الجهاد, والدعوة, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والهجرة, والصلاة, والزكاة, كل ذلك يحبط منك يا رسول الله ومن قبلك لو أشركتم بالله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] فهو خاسر, مع أنه يأتي بتجارة كبيرة جداً ولكنه خاسر في الحقيقة.
فبعض الناس كالنصارى -مثلاً- ترك الزواج، وترك الدنيا، ولكنه يذكر الله ليل نهار، انقطع عن كل شيء إلا عن العبادة -كما يزعمون- لكن يوم القيامة: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:103 - 104].
يقول: يا أخي! أنا أحمد الله، وأنا دائماً أذكر الله, وأصلي, وكل يوم أقرأ القرآن, ودائماً في جهاد, ودائماً آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر, فيقول: ما الذي تريده منا؟ نقول: هذه الثروة العظيمة من الحسنات لا تقبل ولا تتحقق إلا بتوحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, اجتنب الشرك, ولا تأنف ولا تستكبر عمن يقول لك: لا تشرك بالله, لأنه قال: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] فتذهب كل هذه الأعمال: {وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] الذين يرون هذه الأعمال العظيمة تذهب هباءً منثوراً, ولا يستفيدون منها بشيء: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} وهنا {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5].
هنا قدّم الضمير، وهناك قدم الاسم العلم: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:66] هكذا أمرنا ربنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, فأول الأمر وآخره هو توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(10/11)
الشرك في أعمال القلوب
توحيد الله يقوم بتحقيق أعمال القلوب, أن تكون خالصة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن أهم أعمال القلوب: الإخلاص {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5] وبعد ذلك: {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة:5] الإخلاص لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، الصدق مع الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، وقد قالها بعد أن ذكر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أصناف الناس السابقين من الأولين، ثم ذكر الذين مردوا على النفاق , ثم ذكر الذين هم مريدون لأمر الله, ثم ذكر الثلاثة الذين خلفوا, ثم ذكر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] أي: مع الأولين والسابقين، مع الأولين لا مع المنافقين الذين ذكر الله شأنهم في هذه السورة -التوبة- وفي غيرها, فلا بد أن تصدق مع الله، ويجب على كل إنسان أن يكون صادقاً مع ربه بإيمانه به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وليس نطقاً بقوله.
ومن أعمال القلوب التي تحقق لنا التوحيد: الخوف من الله وحده لا شريك له, ولو فطن الدعاة إلى هذا لرأيت العجب العجاب في الدعوة إلى الله, ولو أن كل مؤمن لم يخف إلا الله, ولم يخف أحداً من البشر كائناً من كان في أمر يغضب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لرأيت العجب العجاب من التمكين والعز والنصر.
لكن الإنسان يقول: لو اتقيت الله, ولو اتبعت ما أمر الله، لفعل بي فلان الذي هو أعلى مني في الوظيفة كذا! فهو يخاف من فلان لأنه أقوى منه, ويخاف من كذا، فأخافنا الشيطان: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران:175].
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل ذلك الخوف منه وحده, ولو خفنا من أعداء الله ولم نخف من الله فلن ينصرنا الله تبارك وتعالى عليهم أبداً, بل جعل الله تعالى طريق النصر كما بين: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] فالأعداء يكيدون لنا، ولا توجد وسيلة مما في علمنا أو عقولنا أو خيالنا إلا وقد حاربونا بها, وهذا حق كما ترون الآن في هذا الزمن, وفي كل لحظة، وفي كل دقيقة, فنحن مستهدفون ومحاربون, بالذات في هذا البلد الآمن المطمئن, القائم على دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, ففي كل لحظة تجد الحرب الشرسة علينا، لكن إذا خفنا منهم إذاً أشركنا, فما الطريق؟ وما الحل لمواجهتهم؟ {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} [آل عمران:120].
إذا صبرنا واتقينا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] لا يضرك كيدهم أبداً.
أقول: الأعداء يُخططون لنا ولكل المسلمين، وكثير من المسلمين لا يعرفون ذلك، انظروا إلى ما في التلفاز، وإلى ما فيه من المسلسلات، وإلى الفيديو، فإن هذا من تخطيط الأعداء لإفساد الأخلاق, وكثير من الناس يقولون: لا أستطيع أن أصبر على مشاهدة هذه الأشياء, ثم يسأل: لماذا الأعداء ينتصرون علينا؟ أنا أقول: إذا كنت لا تستطيع أن تصبر على هذا، فكيف ينصرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ونحن بغير تقوى؟! نحن المسلمين لم ننتصر على أنفسنا وعلى شهواتنا، فكيف ينصرنا الله على الكافرين؟! نحن المسلمين إذا تمكن بعضنا من بعض, تجد أن تقوى الله لا تمنعه ولا تردعه من أن ينتقم منه أو أن يظلمه إلا من رحمه الله, لكن هذا هو العموم، فكيف يولي الله الظالمين؟ كيف يورث الله الأرض للظالمين؟ وانظروا كم في المحاكم، والشرط، والإمارات، والإدارات من شكاوى لا بد فيها من ظالم ومظلوم, فنحن نظلم بعضناً بعضاً بهذه الكمية الهائلة, ونريد أن يورثنا الله الأرض, ونقول: لماذا لا يُمكِّن الله لنا نحن المسلمين في الأرض؟ وكل جمعة ندعو: اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين, ومجد ووحد واجمع! دعاء لا عمل معه, فكيف يولي الله الظالمين؟ لو جمع كلمتنا ونحن بغير تقوى ولا صبر لدمرنا الدين -والعياذ بالله- لكن تفرقنا في هذه الحالة أفضل وأحسن, فهذه حكمة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
إذاً لا ينفع إلا أن نصبر وأن نتقي الله, والشاهد أن الخوف من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, هو أحد أهم أعمال القلب التي يجب أن يوحد الله بها.
والصبر من أعمال القلب أيضاً, التي يجب أن تُفرد وأن تتحقق، فإذا كنا ندعو إلى توحيد الله وإلى العقيدة الصحيحة, فمعنى هذا أن ندعو أيضاً إلى الصبر؟ حيث نصبر على طاعة الله, ونصبر عن معصية الله, ونصبر على أحكام الله الشرعية, ونصبر على أحكام الله القدرية, وعلى المصائب التي تقع ويكون موقفنا منها الصبر, لأن الله تعالى هو الذي قدَّر ذلك وكتبه قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
وأيضاً: الرغبة, والإنابة, وكثير مما ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم من أعمال القلوب يجب أن نحققها وأن نوحد الله فيها.(10/12)
لكي نحقق التوحيد
وإذا أردتم أن نوجز ذلك كله، فنقول: كلٌ منا يقرأ كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن هذا هو مصدرنا الأول في عقيدتنا وشريعتنا، وكل ما ينبغي علينا هو أن نقرأ هذا القرآن، وانظروا ماذا يريد منكم منزله وقائله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -مثلاً-: أنا أقرأ وأنظر ماذا يريد مني ربي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إذا ذكر لي العبر عن الأمم الماضية, ماذا يريد؟ وإذا ذكر لي طريق الجنة وطريق النار, ماذا يريد؟ فإذاً أكون كما يريد الله, وأدعو إلى هذا الذي يريده الله مني, وأمتثله بنفسي وأدعو إليه, وإذا قرأنا ذلك فإن علينا بعد ذلك أن ننظر كيف يدعو الناس؟ كيف تدعو المناهج البدعية إلى الله؟ فنعرف أنها تبتعد عن منهج الدعوة الصحيح بمقدار بعدها عن هذه الحقيقة التي نقرؤها في سورة الفاتحة, وفي الإخلاص، وفي الكافرون، وفي العصر، وفي التكاثر، وفي الفجر، وفي عمّ, ففي أي سورة هناك قضايا محددة مهمة, يتنوع الحديث عنها, ولكنها قضية واحدة, هي توحيد الله, وطاعة الله, وامتثال أمر الله, والعمل من أجل الجنة والفوز برضى الله, وترك كل ما يُؤدي إلى غضب الله وإلى عقوبته, وإلى الدخول في النار التي أعدها الله للكافرين, عافانا الله وإياكم منها.
فأعظم شيء في منهج الدعوة إلى الله, هو أن تكون الدعوة إلى الله على توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فإن قيل: هذا يحتاج إلى عمل طويل, وجهد كثير؟ نقول: نعم, هذا حق, لكن لا طريق غيره, فإن كنت تريد طريقاً آخر فلن يوصلك إلى ما تريد, واذهب إلى ما شئت من الطرق التي تراها معبدة أو سهلة, لكن لن تصل إلى الهدف, فالطريق إلى تحقيق توحيد الله والدعوة إلى الله حقاً هي هكذا, وهذا هو حالها وشأنها, ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استمر عشر سنوات في مكة وهو يربي الناس على معنى (لا إله إلا الله) ثم نزلت الصلاة فزادت معنى (لا إله إلا الله) رسوخاً وثباتاً، ثم ذهب إلى المدينة وشرع الجهاد من أجل (لا إله إلا الله) ثم جاءت الزكاة من أجل إقامة دين الله, ومن أجل الإنفاق على المجاهدين في سبيل الله, ولإعلاء كلمة الله, ثم جاء الصوم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} لماذا؟ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] فهذه الشريعة من أجل تحقيق التقوى التي جاءت بها (لا إله إلا الله) ثم شرع الحج وهو إلى البيت الذي بناه إبراهيم: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} [الحج:26] فتحج وأنت تقول: لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك لبيك, كل مرة وأنت تكرر معنى شهادة أن لا إله إلا الله.
إذاًَ: أعظم شيءٍ يجب أن نحققه هو توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن تكون كل عباداتنا خالصة لوجه الله, موافقة لشرع الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأعظم مادة يجب أن نهتم بها في المدارس هي مادة التوحيد, وهي القرآن؛ لأن القرآن هو مصدر العقيدة الأول، والحديث -وهو المصدر الثاني للدين وللعقيدة، فلا نعطي هذه المواد إلا للمدرس الكفء، الذي يستطيع أن يُبين للطلبة هذا الدين، ويحبب إليهم هذا الدينز ويجب أن نعلم أن علوم الطبيعة والأحياء وكل ما يتعلق بالعلوم المسماة اليوم: المواد العلمية, كلها تخدم التوحيد -والحمد لله- لأنها من النظر في ملكوت السماوات والأرض, ومن التفكر في آيات الله, ومن السير في الأرض: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [العنكبوت:20].
وعلم التاريخ -أيضاً- مما يخدم العقيدة ويجليها ويوضحها, إذا كان المنهج والمدرس صالحين، لأن الله قص علينا في القرآن الكثير منه, وانظروا إلى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر:6 - 13] فكيف ندرس هذا الكلام في حصة القرآن, ثم إذا جئنا بمادة التاريخ، يقول: الفراعنة كانوا وبنوا وعملوا وشيدوا, ومع الزمن ومع الغزوات وكذا ذهبت حضارتهم, هذا غير ما قرأنا في الآيات قبل قليل، يجب أن تربط الآيات مع التاريخ.
والحمد لله أننا ما زلنا على مستوى جيد -والحق يقال- ولو وجد المدرس الذي يحسن ويزيد شرحها وعرضها لكان الخير بإذن الله.
والمقصود: أن كل المواد تخدم العقيدة الصحيحة, وكل ما يمكن للإنسان أن يستغله للخير يجب أن يُسخره من أجل هذه العقيدة، ومن أجل التوحيد، ومن أجل أن يعبد الله وحده لا شريك له، جعلنا الله وإياكم من الموحدين المؤمنين, إنه سميع مجيب.(10/13)
الأسئلة(10/14)
الدعوة في أبناء المنطقة
السؤال
نيريد من فضيلة الشيخ توجيه نصيحة للطلاب الذين يدرسون في المدن، وفي الجامعات، ولكن عندما يتخرجون لا يرغبون في الرجوع إلى المنطقة, علماً أن المدارس وغيرها بحاجة إليهم؟
الجواب
إن الدعوة إلى الله كما في هذه الآية -التي كانت موضوع المحاضرة-: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] , فيجب على أتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدعوا إلى الله, ومن درس وطلب العلم الشرعي الذي ينفع ويفيد, فأولى به وأحرى أن ينذر عشيرته الأقربين, والطفيل بن عمرو الدوسي عندما عرف توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جاء إلى قومه وهدى الله تعالى به دوساً, كما دعا لها نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكذلك كان حال الصحابة الكرام رضوان الله تبارك وتعالى عليهم, ونحن لا نقول إن الإنسان لا يدعو إلى الله إلا في بلده, بل يدعو إلى الله في المدن وفي القرى وفي الأرياف, ولكن من أتيح له أن يأتي إلى بلده وإلى قبيلته وإلى عشيرته وأن يدعو إلى الله فيها, فأنا أرى أن ذلك في الحقيقة أولى.
ويعرف بعض الإخوان أن في الجامعة عندنا, أننا نقول له: اذهب إلى المنطقة, وتعين فيها, وننصحهم بذلك لما رأينا من الحاجة هنا, لأننا كنا نظن أن الدعوة إلى الله في المدن أحوج، نظراً لما تتميز به هذه المناطق الريفية -والحمد لله- من التمسك بالفضائل والأخلاق الطيبة, والعادات الحسنة, لكن لما رأينا أنها قد ابتليت كما ابتلي فيها غيرها, وأن الأمر والحاجة عامة هنا وهناك.
فإذاً ينبغي أن يتوجه أهل هذه المنطقة إليها، وكذلك كل من بقي هناك ورأى أن من المصلحة والخير للدعوة أن يبقى هناك, فالواجب هو الدعوة إلى الله على الجميع وفي كل مكان.(10/15)
أسباب التقاعس عن الدعوة
السؤال
بعض الدعاة نراهم في فترة من الفترات أصحاب نشاط دائم في الدعوة إلى الله, ثم فجأة يصيبهم تقاعس عن الدعوة, والركون إلى كسب المنفعة, فما هي الأسباب بارك الله فيكم؟
الجواب
الأسباب كثيرة, ونحن قلنا: إن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية, والإنسان إذا دعا إلى الله فإنما يعبد الله, والعبادة جميعاً هي كذلك.
وكما تلاحظ أنك أحياناً تصلي لله صلاة خاشعة وتقرأ القرآن في خشوع, وأحياناً لا تجد ذلك الخشوع في صلاتك ولا قراءتك, والدعوة هي جزء من العبادة, والشيطان الذي يأتيك في قراءتك وصلاتك, يأتيك -أيضاً- في دعوتك, لكن ربما كان المثبط في الدعوة والداعي إلى الكسل فيها أقوى، لأن فيها ما نسميه: الاحتكاك بالناس, فالأرحام حزنوا، والأقارب تأثروا, والأبناء رفضوا, والجماعة وفلان , وهذا لا بد فيه هكذا, وتجده يقول لنفسه: إذا اهتديت أنا في نفسي واستقمت وتركت الدعوة, فربما هذا أفضل من هذه المشاكل كلها.
وفي الحقيقة أنه لا يهتدي إلا من دعا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وهذا من تزيين الشيطان ليضلك، وأنت تظن أن الإنسان إذا بدأ يضعف عن دعوة الغير إلى الله ويتنازل، فإنه يضعف عن التمسك بأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا شيء مشاهد.
فيا إخوان! الحث الحث! والعزيمة العزيمة! وهذا ديننا دين العزيمة, ودين أخذ الإيمان بقوة, ولا نعني الغلو في الدين, ولكن نقول: يؤخذ الدين بصدق وبإخلاص, حتى ما كان فيه من الرخص, تؤخذ أيضاً عن الإيمان, وعن الصدق, وهي رخصة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, فبذلك نكون صادقين مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, ولا مجال للداعية إلى الله أن يتثاقل أبداً, وكل إنسان يعمل في أي مجال يمكن أن يقول: قد بلغت الغاية, إلا من كان على سبيل طلب العلم الشرعي, أو على سبيل الدعوة إلى الله, فإنه مهما دعا إلى الله فهو ما زال مقصراً, ومهما تعلم من العلم الشرعي يجد أنه في حاجة إلى أن يتعلم، لأن هذا الطريق لم يتفاوت الناس إلا فيه, ولماذا الدرجات العلى في الجنة؛ وبين الدرجة والدرجة مثل ما بين السماء والأرض؟ لأن هذا التفاوت هو ما بين العزيمة وبين الكسل, وما بين الإقدام وبين التواني والتراخي.
ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا ولكم جميعاً العزيمة على الرشد، والإقدام على الخير, وأن نأخذ ديننا بقوة في كل ما أمر به الله.(10/16)
من وسائل الدعوة إلى الله
السؤال
البعض من غيرته على دينه يرى المنكر فيذهب إلى صاحبه ليغيره, وقد لا يوفق بأسلوب صحيح للتفاهم مع ذلك الإنسان, فتكون المشاكل بينه وبين صاحب المنكر، بعدها يحمل ذلك الداعية في قلبه شيئاً عليه, وقد يكون ذلك من باب الانتصار للنفس, فما نصيحتكم لمثل أولئك؟
الجواب
لا حول ولا قوة إلا بالله, أنا قلت: إنه لم يتح لنا أن نتحدث عن الجانب الآخر, وهو كيفية الدعوة أو وسيلتها, ولعل بعض الناس يحتاج شيئاً من ذلك, فإن الدعوة إلى الله لا بد فيها من الحكمة ثم الموعظة الحسنة, ثم المجادلة بالتي هي أحسن, وأخيراً بعد ذلك كله المجالدة والجهاد بالقوة, ولابد للإنسان الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من ذلك كله, لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الدعوة, والدعوة هي أمر بالمعروف ونهي عن المنكر, ولكن أكبر ما نحذر منه هو الشرك, وأعظم ما ندعو إليه هو التوحيد, وكل ديننا قائم على ذلك.
وحظ النفس إذا دخل في أي شيء هلك صاحبه وحبط عمله -والعياذ بالله- إلا أن يتوب ويستغفر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فلا بد من الأسلوب الحسن، وإنكار المنكر، ولا يعني الأسلوب المباشر, أو الطريقة المباشرة في الإنكار, بأن تقول لمن يفعل شيئاً: لم تفعل كذا؟ لا.
يا أخي! التغيير والإنكار لا بد له من أسلوب, ولذلك عندما ننظر إلى الأمة في مجموعها, نقول: لا بد من دعاة إلى الله يدعون إلى توحيد الله وإلى عبادة الله, هذا من أجل أن تتحول إلى ما يرضي الله, وإلى طاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن طريق هؤلاء.
أيضاً: البصيرة والعلم والحكمة والأسلوب المناسب أمور لا بد منها في الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يعني ذلك أن الإنسان يقول: إذاً لا أدعو إلى الله, وبعض الناس يرى المنكر أمامه، فتقول له: لماذا لا تنكر؟ يقول: لا بد من الحكمة, والحكمة لا تعني عدم العمل, ولكن المقصود بها العمل بالأسلوب الأمثل والأسلوب الصحيح.
فالمنكر الذي في بيته يغيره باليد إن كان في ولايته, أو كان يستطيع أن يغيره بيده, فإن كان المنكر لا يدخل في نطاق ولايته الشرعية ولكن يتعلق بالآخرين, فلا بد أن أواجه الناس بالنصيحة وبالموعظة وبالأسلوب الأمثل, ثم بعد ذلك أدعو من له ولاية شرعية لتغيير هذا المنكر, وأنصحه وأعظه إن كان راضياً بالمنكر أن لا يرضى به, وإن كان لا يرضى به, فأبين له أن ينكره وهكذا.
فالكلام في هذا يطول, ونقول: لا بد في الدعوة إلى الله وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من الحكمة والأسلوب الحسن, وترك حظ النفس دائماً بعيداً، عافانا الله وإياكم من النفس وشهواتها وحظها.(10/17)
نصيحة للآباء والأبناء
السؤال
فضيلة الشيخ: نرجو منكم توجيه الأباء ونصحهم، لأن البعض منهم قد يمنع ابنه من مخالطة الصالحين، بحجة أن ابنه قد يتشدد بالدين أو يخالفهم في ما هم فيه من عادات سيئة؟
الجواب
الحمد لله، الحقيقة أنه يجب أن تكون النصيحة للطرفين للآباء وللأبناء: أما الآباء كما هو موضوع السؤال، فلأنك أيها الأب أعظم وأحب من لديك في هذه الدنيا هم أبناؤك، تفتديهم بمالك بل وبنفسك، ولا شيء عندك أغلى من أبنائك، ولا شيء عندك أحب ولا أفضل مما يسعدهم ومما يبلغهم الفوز أو النجاح أو المستقبل الباهر، وأي فوز ونجاح ومستقبل أعظم من تقوى الله، ومن عبادة الله، ومن اتباع أمر الله ودينه، والفوز بالجنة! لا شيء أبداً.
فكيف تمنع ابنك من التزود بالإيمان، وتمنعه من التقوى والتقرب إلى الله والاجتهاد في الطريق الذي يُؤدي به إلى الجنة ويبعده عن النار، وهو حضور حلقات الذكر والعلم ومجالسة الأخيار، وإن كانت العادات، أو التقاليد، وإن كان ما كان.
لما فتحت علينا الدنيا في السنوات الأخيرة، تركنا عاداتنا كلها من أجل أن نحقق شيئاً من هذه الدنيا، بعض الحرف كنا ننظر لها على أنها غير طيبة، ثم وجدنا فيها الأرباح والمكاسب فتنافسنا فيها، بعض الأشياء التي كانت في الحفلات، وفي الولائم وفي أمورنا الخاصة، فلما وجدنا أن المادة تتحقق بخلاف العادات رمينا بالعادات جانباً من أجل أن نحقق الربح المادي، فكيف لا نرمي بالعادات جانباً في مقابل تحقيق الربح الأكبر؟! {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَاز} [آل عمران:185] فالفوز الأكبر أن يكون الإنسان مطيعاً لله ومتقياً له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأي قرة عين لك إذا كنت تدعو الله كما أمر عباد الرحمن: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] فأي قرة عين لك خير من أن يكون لك ابنٌ نشأ في طاعة الله، ونشأ في عبادة الله فيكون ممن يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله يوم القيامة؟! فربما شفع لك وأنت على ذنوب عظيمة، وربما ألحقك الله في درجته في الجنة وأنت على تقصير عظيم، لأن هذا الابن الصالح البار إنما هو منك.
فإذاً يجب على الآباء والمقصرين منهم -وكلنا مقصرون- أن نحمد الله بأن رزقنا أبناء صالحين يجبرون ما فينا من تقصير، ولعلهم ينفعوننا عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لأننا نحتسب تربيتهم ونحتسب تقويمهم وتوجيههم على الحق عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وأما النصيحة التي ينبغي أن تكون مزدوجة فهي إلى الشباب وإلى الأبناء، فلا ينبغي أيها الشباب المؤمنون الطاهرون أبداً أن يكون حالك مع أبيك قبل الهداية أفضل من حالك معه بعد أن اهتديت، كيف تكون هذه الهداية؟ والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] فإذا كان هذا الحال معهم وهما يجاهدانك على الشرك والحمد لله ليس في آبائنا من يجاهدنا على الشرك، لكن بعضهم يجاهدنا على البدع أو المعاصي أو العادات الجماعية وهي أقل من الشرك فلا تطعهما، لكن: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15] اتبع سبيلهم، واحضر حلقاتهم ودروسهم، واستفد منهم وشاركهم، لكن مع ذلك صاحب هذين الأبوين في الدنيا معروفاً، وكن باراً بهما وإن كانا كافرين، فلا بد من مصاحبتهم بالمعروف وإن كانا كافرين مجاهدين لك على الكفر.
فحقهما عظيم، ولهذا قرنه الله بحقه -كما تعلمون- ولا يخفى على أحد منكم حق الوالدين، لكن لا يأتيكم الشيطان من باب أنني اهتديت، وأبي يكرهني لأنني اهتديت، فما يأمرني أبي به فهو خطأ! لا يا أخي، قد لا يكون الكره لأنك اهتديت، لكن قد يكون الكره لأنك أخطأت في أمر من أمور الدنيا، فقد يكون لأنك لم تتوظف كما أراد، أو لم تبن كما أراد، أو خالفت بعض العادات وهو يرغب أن تتمسك بها، وهكذا لا نجعل الشيطان يأتي ويقول: كل هذه المعاملة لأنك اهتديت، فإذاً اجعل هدايتك سبباً لعقوق الوالدين.
لا، فإن من الهداية بر الوالدين، ولو أننا أحسنا إلى والدينا، وإلى جيراننا، وإلى أرحامنا، وإلى زملائنا وعاملناهم بالخلق الحسن الفاضل، لكان هذا أكبر مكسب في الدعوة.
وأنا أقول: أحب دائماً أن أسمع الآباء إذا مدحوا أبناءهم أن لا يأتوا بكلمة: لكنه، فتجده يقول: ولدي مستقيم وطيب والحمد لله يحفظ القرآن، ثم إذا سكت حمدت الله، ثم يقول: لكن فيه وفيه فأتألم والله، حتى ولو كان الأب على غير الصواب، لكن يجب أن يكون لديك حكمة لكي تقضي على (لكن هذه) وعلى ما بعدها، وأن تجعل محبة أبيك لك محبة حقيقية كاملة من جميع الوجوه، فإذا لم تكن حكمتي أنا كداعية تنفعني مع أبي وأمي وزوجتي وأبنائي، فأين أستخدمها، وأين يظهر أثر هذه الحكمة؟! فالحقيقة أن الموضوع مهم لأنه يتعلق بالعلاقات الأسرية، وفي كتاب الله عز وجل إذا كان الموضوع يتعلق بالعلاقات الأسرية تجدون أن الله يفصله تفصيلاً، ويربطه بالتقوى، ويكثر فيه الوعد أو الوعيد، وهذا شيء عجيب لماذا؟ لأن هذا عمل يومي، فمهما كان سبب نجاحك في الدعوة، ولو كان بيتك يضايقك فإنك لا تستطيع أن تدعو إلى الله، ولا أن تعبد الله أبداً؛ لأنه سوف يشوش عليك في صلاتك، وفي قراءتك، وفي عملك؛ وفي كل شيء.
فهذه من حكمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فلا نهضم هذا الجانب، ولعل النصيحة تكون ثلاثية لا ثنائية.
فأنصح المدرسين والموجهين أن يكملوا مهمة الآباء في البيوت ويبينوا للأبناء ضرورة بر الوالدين والإحسان إليهما مع عدم المجاملة في الحق أو المداهنة فيه، أو أن يعصى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إرضاءً لهما.
فالواجب هو على الأبناء وعلى الأباء وعلى المربين والموجهين وعلى المدرسين وعلينا أجمعين.(10/18)
حقيقة الفن التشكيلي وحكمه
السؤال
ما المقصود بالفن التشكيلي وإلى أي شيء يهدف؟
الجواب
الكلام في هذا يطول، ونحن كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه} والفن إذا كان المقصود به ما يراد أو ما نظنه الآن نحن من الفن وهو: إظهار صور معينة من خلق الله، أو مما يعتلج في نفس الفنان أو الشاعر كأن يقول قصيدة جميلة، أو يرسم منظراً جميلاً لا حرج في كل ذلك، وهذا إن لم يكن فيه تأثير على جوانب الدين وصميم التوحيد فهي مما تباح.
والحمد لله أن في ديننا فسحة وهو الحنيفية السمحة، لكن إذا ارتبط أدبنا وفننا وشعرنا ونثرنا بمناهج مستوردة لا ندري ما حقيقتها، فأنا أنظر إلى لوحة وأقول هذه تشكيلة، لكن إذا سألت الفنان عنها قال: أنا سريالي، والآخر يقول: أنا واقعي، والآخر رومانتيكي.
والآخر يقول: تكعيبي، والخامس يقول: أنا مستقبلي، فما هي هذه التكعيبية والمستقبلية والرومانتيكية، سبحان الله!! هذه ليست مناظر بل هذه عقائد وأديان، فهي تعبير عن أديان واعتقادات معينة نشأت في بيئة لا تؤمن بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والغرب يربطون نهضتهم في القرن الثالث عشر والرابع عشر بنشأة الأدب والفن، فأول ما بدأت وانطلقت النهضة الأوروبية والحضارة الغربية، من إحياء الآداب الإغريقية، وهذا شيء معروف لا ينكره أي إنسان مُطلِّع على الفكر الغربي والحضارة الغربية.
فبدأت الحضارة الغربية تشق طريقها بعيداً عن الدين، وعن عصر الظلمات المرتبط عندهم بالدين بشعر دانتي وبـ مايكل أنجلو وبيكاسوا وأمثالهم من الرسامين ومن الشعراء والأدباء.
ثم بعد ذلك ظهرت العلوم التجريبية، وأول ما ظهرت في القرن السابع عشر تقريباً، وأول ما بدأت بالآداب، وهذه آداب جاهلية وثنية ثم تطورت على شكل مدارس واتجاهات لا داعي لذكرها، وقد لا تفهم إذا أطلنا في ذكرها، حتى وصلنا إلى ما يُسمى في هذا الزمان بهذه الفنون، أو المدارس في الفن، وهي في الحقيقة عقائد.
مثلاً: إذا نظرنا إلى المدرسة الرومانسية أو الرومانتيكية نجد أنها تقوم على الطبيعة في الأساس وعلى المناظر الطبيعية ومناجاة الطبيعة إلى غير ذلك.
والسريالية تقوم على الأحلام، لأن سريالي معناها: فوق الواقع، وما فوق الواقع لا يرسم لك شجرة أو نهر، فهذا يعتبر فن كلاسيكي وتقليدي لا يرضى به، لكن يرسم لك منظراً، عبارة عن ألوان متداخلة متشابكة لا تستطيع أن تفهم منها ما يريد الفنان، وإذا سألته يقول: يمكن أي شخص منا أن يرى اللوحة ويفهم منها أي شيء.
وأنا أنقل لكم قصتين واقعيتين، والقصص تروح على النفوس أحياناً.
القصة الأولى: كان معرض الفن التشكيلي في باريس قبل سنوات، فجاء الزوار من جميع أنحاء العالم، وعرضت اللوحات، وقبل الافتتاح عملوا مسحاً عاماً وقاموا بتنظيف المعرض، فأحد عمال النظافة -عمال أُميين ونحن أيضاً أميين بالنسبة للفن لا ندري كيف شكل اللوحة ولا نعلم ما فيها- نظف إحدى اللوحات ثم قلبها ونكسها -وهذا الكلام موجود في المجلات، وربما منكم من قرأه- وجاء الناس وتزاحموا عند هذه اللوحة، وأخذوا يتعجبون منها، كيف هذا المنظر؟ وماذا يريد الشاعر؟ وكيف هذه الألوان؟ وكيف وكيف؟ فبلغ الأمر إلى صاحب المعرض أن هناك أناس متجمعين، وصاحب المعرض ليس فناناً، إنما هو أمي لا يدري، وقال: لا تؤاخذونا، فإن اللوحة منكوسة، ثم أعاد اللوحة كما هي، ولم يعلم أن الإعجاب إنما أتى من كونها منكوسة.
والقصة الثانية: وهي واقعية: إذا قرأتم عن حياة الرسام الرومانسي المشهور بيكاسوا يقولون في حياته: إنه أراد أن يأتي بلوحة لم يسبقه إليها أحد، فماذا فعل؟ أخذ إناءً كبيراً وجعل فيه ألواناً وخلطها مع بعضها، ووضع لوحةً عند ذيل حمار، وأخذ الحمار يصبغ الألوان بذيله، فأصبحت بزعمهم لوحة، ثم بيعت بآلاف الدولارات، وحدَّث بهذا تلاميذه ونشروا ذلك عند الحديث عن حياته.
قد يتعجب أحد ويقول: هؤلاء ضد الفن، فنقول: نحن لسنا ضد الفن، ولا ضد الأصالة، ولا ضد أي شيء جميل أبداً، فديننا دين الجمال، ودين الفسحة، وديننا دين النظافة، وديننا دين التفكر، لكن نحن ضد التبعية العمياء، أناس مرضى، لا يدري أحدهم لماذا جاء لهذه الحياة؟ وهو يعاني من الألم النفسي ومن التمزق الداخلي، وأكثرهم ينتحر لأنه لا يعرف لهذه الحياة قيمة ولا معنى، لكن وجد الناس يشهرون به ويمدحونه لأنه سريالي، أو فرويدي، وهو إنما يأتي بهذه الأحلام من الفراغ.
فنقول: إن كان هذا الفن عن الأصالة، وتعبير عن أمور حقيقية أو جيدة أو يخدم هدفاً أدبياً فنياً سامياً فمرحباً به، وأنا ما رأيته، ولكن أقول: إن كان كذلك فالحمد لله، وإن كان كما نقرأ عادةً، فيقولون: فنان سعودي سريالي، وفنان سعودي رومانسي وهكذا إلى آخره فلا يا أخي.
الفنان المسلم يجب أن يكون مسلماً حقاً لا ينتمي إلى أي مدرسة من هذه المدارس، وعليه أن يتقيد في رسمه بالأصالة، وبما جاء عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويرسم الشيء الذي فيه العظة، وما أكثر وما أوسع المجال في ذلك والحمد لله.(10/19)
الموازنة بين الأعمال
السؤال
أحب العمل في المراكز الصيفية وأسعى جاهداً لذلك، وقد يكون أكثر وقتي فيه ومن أجله، لكني أرى نفسي مقصراً في قراءة القرآن مثلاً، وفي المحافظة على الأوراد التي كنت أحافظ عليها، وأحس كذلك ببعض الضعف في إيماني، لأني حريصٌ على هداية الآخرين ومقصرٌ في نفسي، فما نصيحتكم؟
الجواب
أنصح نفسي وإخواني بالتوازن في أمورنا جميعا، ً وليس هناك تعارض بين العلم وبين الدعوة، ولا تعارض بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج البيت، وداخل البيت، ولا بين العمل بأمر الله في النفس وبين دعوة الناس إلى العمل به، والحقيقة من أين يأتي التعارض، ومن أين يأتي الخلل؟ يأتي الخلل مني أنا، من تصرف الداعية نفسه، فلو أنني غلبت جانباً على آخر ولم أكن متوازناً في هذه الأمور فإنه سوف يحدث هذا الذي ذكر.
وانظروا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو أعبد الناس لربه عز وجل، وأكثر الناس جهاداً، وأكثرهم أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر خارج البيت، وأعظم الناس قياماً بحق الزوجة هو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأعظم الناس قياماً في حق أمر المسلمين والرعية التي كان يرعاها هو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيجب أن نسعى إلى التوازن وإن كان التوازن صعباً، لكن علينا أن نسعى إليه، وأن نجاهد أنفسنا فيه، لعل الله أن يحقق لنا ذلك.
ونقول: إن الإنسان يجب أن يقدم الأفضل على الفاضل، والفاضل على المفضول، لأن الإنسان قد يقرأ القرآن لوحده، لكن إذا ذهب إلى حلقة في المركز فيها تجويد وتفسير، فأيهما أفضل: قرآتي وحدي -وقد أغفل- بغير تجويد وبغير تفسير أم تلك التي في الحلقة؟ لا، تلك التي في المركز أفضل وهكذا.
وأيهما أفضل: أن أجلس وأسبح الله وأذكر الله -وهذا شيء عظيم ولا شك فيه- أم أن أنكر منكراً أمامي؟ في الحقيقة إنكار المنكر أفضل لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيراً لك من حمر النعم} أي: من أعظم ما في هذه الدنيا من المتاع.
أحياناً يكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي أفضل عمل، وأفضل حتى من الذكر وهكذا، فيجب أن يكون عندك من الفقه ما توازن به بين هذه الأمور وتقدم الأفضل ثم الفاضل ثم المفضول.(10/20)
التشبه بالكفار
السؤال
تقليد الغرب أصبح من الأمور التي نشاهدها في عصرنا هذا، وخاصة بين الشباب الذين لا يعرفون طريق الحق، فمنهم من يقلدهم في أخلاقهم، ومنهم من يقلدهم في ملابسهم، ولذلك فإنني حين أرى هذا المنظر أحزن عليهم، وحينما أريد أن أدعوهم إلى الحق فإنهم يعرضون عن ذلك، فهل نحن مؤاخذون في ذلك، وما هي الطريقة المثلى في دعوتهم؟
الجواب
تقليد الغرب هو عرض وليس هو أصل المرض، ولكن هو عرض من أعراض المرض، وأصل المرض هو أننا لم نعبد الله ولم نؤمن به ونوحده كما أمر، ولهذا تحقق ما قاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه} وكما في الرواية الأخرى: {لو أن أحدهم أتى امرأته على قارعة الطريق لفعلتم} حتى عندما صنعوا أفلاماً جنسية صنع المسلمون أفلاماً جنسية -نسأل الله العفو والعافية- وهذه مصيبة عظيمة إذا وقعت في المسلمين، ولذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي أشرنا إليه من قبل: {من تشبه بقوم فهو منهم} فمن تشبه بالكفار بعقائدهم وأحوالهم أصبح منهم، ومن تشبه بالأخيار فهو أيضاً منهم، فهذه المصيبة الكبرى التي هي عرض من أعراض المرض الأساسي.
أما بالنسبة لقول الأخ: هل نحن مؤاخذون؟ نعم؛ نحن مؤاخذون إن لم ندعُ إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا الغزو الفكري وهذا الانبهار بحضارة الغرب وعاداته لا يمكن أن يقاوم إلا بعمل وبجهد إيماني قوي ومتواصل، وعلى جميع الجبهات، وعلى جميع المستويات، لأنه مُكثف ومُركَّز، ويستخدم كل الوسائل والطرق، ولا يمكن أن يقاوم بجهود محدودة أو معدودة أبداً، بل المدرسة تنظر إلى الطلاب وإلى حالهم، ونحارب هذا التقليد في البيت، وكذلك الدعاة أئمة المساجد، وكل إنسان كما قال الأخ: يحزن عندما يرى هذا، وهذا الحزن يجب أن يتحول إلى دعوة، بل إلى دعاء أيضاً.
ومن الدعوة: الدعاء وهو أن ندعو الله أن يهديهم، وهذه قضية قد ننساها.
أقول: قد دعوت ونصحت وما استجاب لي، لكن هل دعوت الله بيني وبين ربي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا الإنسان لا يعلم، اللهم اهدي فلاناً، لماذا لا ندعو الله؟ وخاصة بعض الناس لو هداهم الله لاهتدى على أيديهم كثير، ولسد باب من أبواب الشر على الدعوة، وعلى الإيمان، فندعو الله أن يهديهم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونبذل الجهود لهدايتهم، وهذا التقليد وغيره هو مما يجب أن نعالجه، وهذا هو شأننا، وهذا هو طريقنا وسبيلنا كما أمر الله، أن ندعو إليه على بصيرة، وأن نحارب هذه الظواهر السيئة الشاذة بجميع أنواعها.(10/21)
الموقف من الذين يطعنون في الصحوة
السؤال
يلاحظ في هذه الأيام صحوة إسلامية مما يُبشر بالخير -والحمد لله- ولكن بعض الناس الذين نجتمع معهم يحاولون الاستهزاء، ويعلقون على الشباب الملتزمين، ويقولون: كل شيء برحمة الله وليس بأعمالنا ولا دخل لأعمالنا في دخول الجنة، ولكن برحمته، فما هو واجبنا حيال هؤلاء الشباب؟
الجواب
أولاً: الصحوة الإسلامية ليست نشازاً ولا شذوذاً، بل الصحوة الإسلامية هي توبة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أمة كانت ضالة شاردة بعيدة عن أمر الله، ثم اهتدت إلى طريق الله وإلى كتابه وإلى سنة رسوله، فما الشذوذ وما الغرابة من هذه الصحوة؟ والصحوة الإسلامية في بلادنا هذه بالذات، لماذا هي أكبر صحوة، ولماذا شبابها -والحمد لله- أكثر الشباب استقامة؟ لأن الصحوة عواملها عندنا ذاتية والحمد لله؛ فمناهجنا مستقيمة.
انظر إلى التوحيد والفقه والحديث في الابتدائي والمتوسط والثانوي، وهناك ثقافة إسلامية في الجامعة، أيضاً توجد الكليات الشرعية، فهذه المناهج -والحمد لله- سليمة، ونقول: إن هذا الكلام هو بحكم الغالب، ولا نعني أنه ليس فيه ملاحظات، لكن المقصود أنها إذا كانت مناهجنا من كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا نستغرب أن يكون الطلاب على كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولكن نستغرب من الشاب الذي يقرأ التوحيد والحديث والفقه بجميع مراحله الدراسية، ثم يكون منحرفاً فاسقاً في المقاهي ودور المخدرات، فمن أين جاء الشذوذ؟! جاء الشذوذ ممن شذ عن المنهج الذي درسه، وأيضاً شذ عن تعليم الآباء والأجداد، كل الأباء يدعون الله أن يصلح أبناءهم.
إذاً لماذا عندما صلح ابنك تقول: فيه وفيه، فأنت فيما مضى دعوت الله أن يصلحه، وقد أصلحه الله، فهل يصلحه على ما في خاطرك أنت، أنه يصلي فقط ويعمر الدنيا للدنيا؟ لا يا أخي! أصلحه الله كما يريده الله، وتوجيهاتك ونصائحك ودعاءك له من أسباب صلاحه، فأين الشذوذ في صلاحه واهتدائه؟ لا شذوذ أبداً، وعلماؤنا -والحمد لله- هم الذين يقودون الصحوة الإسلامية ويرشدونها، وترون دائماً أن الناس أحب شيء إليهم لو جاء الشيخ عبد العزيز بن باز وأعظم فرحة تزف إليهم لو قيل: إن الشيخ عبد العزيز بن باز سيأتي يوم كذا ليحاضر في مكان كذا، فيأتي الناس من كل المناطق، لماذا؟ لأن الصحوة الإسلامية يقودها ويوجهها العلماء، فهل علماؤنا فيهم شذوذ، لا شذوذ -والحمد لله- بل هم على الكتاب والسنة.
إذاً من أين يأتي الشذوذ؟ من الذين يتهمون الشباب، ويتهمون الصحوة الإسلامية.
فنحن توحدنا على توحيد الله، وما قامت هذه البلاد ولا تأسست هذه المملكة إلا نتيجة ثمرة من ثمرات التوحيد للإمام المجدد الداعية الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمة الله عليه- فدولة قامت على التوحيد، ودعوة قامت على التوحيد، وبلاد توحدت على التوحيد وعلى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أين الشذوذ فيها؟! بل الشاذ هو في من يخالف سبيل الصحوة الإسلامية، في من يقلد الغرب أو الشرق، أو يستورد ملاهيهم، وما يبعدنا عن ديننا وعن توحيد ربنا عز وجل، هذا هو الشاذ وإن كثر، وذاك هو الأصل وإن قل.
إذاً لماذا الاستنكار والاستغراب على هذه الصحوة؟ أما قولهم: إنه لا أحد يدخل الجنة بعمله بل برحمته سبحانه؟ فنعم؛ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لن يدخل الجنة أحد بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته} وهذا لا يتعارض مع قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] وقوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] ويقول: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72]، وفي الحديث: {لن يدخل أحد بعمله} والجاهل قد يتصور أن هناك تعارضاً، لكن من يعرف كلام الله ولغة العرب فلا تعارض لديه، فقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] الباء هنا سببية، فبسبب العمل الصالح تدخل الجنة أو قد تدخل النار -عافنا الله وإياكم من النار- وبسبب العمل الصالح وبتوحيدهم وبإيمانهم، أي: بسبب إيمانهم وبتوحيدهم أدخلوا الجنة، وما يقوله بعض الناس حق إن كانت الباء هنا للعوض، أي: لا يدخل الجنة أحد بعمله، أي: عوضاً عن عمله وهذا صحيح، فلن يدخل أحد الجنة عوضاً عن عمله، لأن ما أنعم الله به علينا من النعم لا يوازي ما نعبد الله تعالى به من العبادة، ولا يوازي نعمة بسيطة من الله، فهو الذي أعطانا العلم، وأعطانا الهداية، وأعطانا الجسم، وأعطانا القوة، وأعطانا الغذاء والعافية، فنعبده بأمر بسيط مما أعطانا، ونريد عوضاً عن ذلك الجنة، لا يا أخي! هو الذي أعطاك أصلاً، وهو الذي هداك، فإذا قلنا: إن الباء للعوض لا، لا أحد يدخل الجنة بعمله، أي: عوضاً عن عمله، ولكن رحمة من الله أنه جعل العمل سبباً لدخول الجنة.
إذاً هناك فرق بين هذه الباء وتلك الباء، والعوام لا يفهمون الفرق بين باء العوض وباء السببية، لكن نحاول نحن أن نفهمهم ونوضحها لهم بطريقتنا إن شاء الله، وكل واحد منا يعلمها لهم بأسلوبه الذي يمكن أن يفهموا به المقصود.(10/22)
المناهج التعليمية
السؤال
تحدثتم عن أهمية المربين والمدرسين والمناهج التعليمية، ولكن نلاحظ أن بعض مدراء المدارس يضعون المواد الدينية في آخر الجدول الدراسي، وتكون هذه المواد في آخر اليوم حيث يكون الطالب مرهقاً، وكذلك نلاحظ وضعها في نهاية جداول الاختبارات سواء في الفصل أم في نهايته، فما توجيهكم للأولئك؟
الجواب
الحقيقة أن الواجب على الجميع أن يهتموا بديننا، ونحن -والحمد لله- من الناحية الرسمية أهم شيء عندنا هي مواد التربية الإسلامية، فهي أول ما يكتب في الشهادة وأول ما يذكر، وهي المواد التي تُسمى مواد أساسية، بحيث إن الرسوب فيها والنجاح لا بد أن يتجاوز الـ (50%) أو أكثر، فمن الناحية الرسمية الأمر لا اعتراض عليه، لكن من الناحية التطبيقية بعض الإخوة مديري المدارس قد يخطئ فننصحهم، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يرشدنا وإياهم إلى أن يلتزموا أولاً بأمر الله في تعظيم ما عظم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ وهو أمر هذا الدين.
ثم أيضاً: الالتزام بالمنهج العام للتعليم لبلادنا في جميع مستوياته، وهو أن الأساس والاهتمام والتركيز هو لمواد التربية الإسلامية، ثم ما يكملها ويعين عليها وهو اللغة العربية، ثم تأتي بعد ذلك جميع المواد، فيجب علينا أن نعرف هذا وليس هذا نظرياً على ورق بل حقيقةً وتطبيقاً وعملاً، ويجب على المسئولين أن يتابعوهم بذلك، وأن ينبهوهم إليه؛ لأن هذا من باب: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].(10/23)
حكم تفضيل الكفار على المسلمين
السؤال
فضيلة الشيخ يقول بعض المسلمين: إن الكفار أفضل من بعض المسلمين، ويقصد أن الكفار لا يغشون ولا يخدعون، أفيدونا في مثل هذه المقولات، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
ذكر العلماء -رحمهم الله- في أنواع وألفاظ الكفر -وهذا في القديم قبل عصر الحضارة الغربية- أن يقول رجل: اليهود أفضل من المسلمين؛ لأنهم يعطون أجرة المعلمين قبل المسلمين، حيث كانت رواتب المدرسين ليست مثلما الآن من الوزارات، فكانوا في حلقات مجانية، واليهود دائماً تجار وكانوا يحرصون على تعليم أبنائهم، لأنهم أقلية والمسلمين أكثرية، والأقلية دائماً تحرص وتجتهد أنها تنافس الأكثرية، واليهود يدفعون قبل المسلمين، وكان المسلمون كما هم الآن لا يهمهم تعليم أبنائهم، فكان يقول بعض المعلمين وبعض المؤدبين: اليهود أفضل من المسلمين، ويبين سبب الأفضلية؛ لأنهم يدفعون أجرتهم قبل المسلمين، وقد ذكر العلماء ذلك في كتب الفقه، وأن هذا من الكلمات المكفرة، عافنا الله وإياكم.
فمن أجل دينار أو درهم تجعل اليهود أفضل من المسلمين! إذاً العقيدة عندك بعد الدينار والدرهم، وأهم شيء عندك الدينار والدرهم، وبعد ذلك الدين أو العقيدة أو الإيمان، وكذلك اليوم إذا قلنا عبارة مشابهة: الكفار أفضل من المسلمين، لماذا؟ قال: لأنهم لا يغشون ولا يكذبون.
أولاً: الكفار يكذبون ويغشون ويسرقون وينهبون لكن على غير طريقتنا، فالكافر لا يأكل مثلنا مائة ألف أو عشرة آلف رشوة، لكن الكافر يأخذ المشروع الذي يمكن تنفيذه بمليون ريال وينفذه بمائة مليون أو بخمسين مليون، فهذا ليس غشاً في ظاهر الحال، فهو عقد وقَّعناه معه، لكنه في الحقيقة غش مدروس، غش الأذكياء والمتحضرين لا غش المتأخرين والرجعيين، فمن قال: إن الكفار لا يغشون فقد أخطأ.
وأضرب لكم مثلاً: المياه الإقليمية، جميع دول العالم اثني عشرة كيلو متر والولايات المتحدة مائتين كيلو متر لماذا؟ أليس في هذا غش؟ إذا سقطت طائرة فيها خمسمائة راكب، قالوا: أنقذوا منهم الأمريكيين وإن اختطفوهم وسلموا أجروا المقابلة مع الأمريكي فقط، وهذه الشعوب أليست بشراً؟ فهم يغشون بل أكبر غش، وعندهم أكبر عنصرية في كل أمورهم.
وقد تقع مشكلة في أبعد بلدان العالم، وتكون فتنة داخلية قامت، وإذا بالكفار يتدخلون فيها ويعطون هذا السلاح، وهذا يدعمونه لهدم هذا البلد، ولتأجيج الفتنة ولينفذوا مخطاطتهم.
فالكفار لا يأكلون فرداً ولكن يأكلون شعباً بأكمله، فالكفار يتسببون في أن شعباً من الشعوب ينكب نكبة عظيمة في كل موارده وخيراته، فإذا نكب أرسلت عندهم الجمعيات الخيرية لجنة للإغاثة والإنقاذ، لكن من الذي نكبه في الأصل؟ هم، فيأتي ويقول: يا أخي، هم يبعثون فرق إغاثة وإسعاف مجانية، وهؤلاء الكفار أمرهم عجيب، هذا إذا لم تستخدم هذه الفرق في التبشير وإخراج أولئك عن دينهم.
فنحن نغفل عن أشياء كبيرة، الواحد منا الآن إذا كان في صندوق فإنه يحسب نفسه محبوساً، لكن إذا كبرنا الصندوق -مثلاً- أصبح مائة متر مربع فإنه يرى نفسه لم يحبس، فالكفار عرفوا كيف يمددون صندوقهم فيستوعب العالم كله في أيديهم، والعالم يقول: إنه حر، وأنه يتنفس كما يشاء، وهو لا يخرج أبداً عما يخططون ويريدون.
إذاً: لا يجوز أبداً تزكية الكفار، لأن الواقع يكذب ذلك، ولأن ما أخبر الله به عنهم هو كذلك، إلا كأفراد إن وجد منهم فرد لم يغشك، فتقول: هذا الكافر تعاملت معه ولم يغشنِ في كذا، لكن أن تقول: إنه أفضل من المسلمين فلا يجوز هذا، وتفضيل الكافر على المسلم هو من ألفاظ الكفر -والعياذ بالله- ولو أنك قلت لمسلم: أنت مسلم والغش لا يجوز، وكيف تغشني وهذا الكافر لم يغشني؟ تريد أن تزجره وتبين له لكان أفضل، ولكان كلامك صحيحاً؛ لأنك تقول: أنت يا مسلم! كيف تغشني، والكافر الذي لا خير فيه لم يغشني؟ أما أن تقول: إنه خير من المسلم فلا، فإنه لا خير فيهم أبداً، فإن الكفار يريدون ألَّا يبقى لنا مال ولا جاه ولا أخلاق ولا حتى صحة، ولا شيء إلا نهبوه، لكن بطرقهم وبأساليبهم.
فيجب علينا أن نجعل ولاءنا لله ولرسوله وللمؤمنين، ونخلص في عداوتنا ونمحضها للكافرين أياً كان دينهم.(10/24)
ضرورة الحرص على صلاة الجماعة
السؤال يقول: أنا رجل أصلي في المسجد -ولله الحمد- ولكن لا يوجد من يوقظني لصلاة الفجر؟ ماذا أفعل؟
الجواب
الحمد لله أنك تصلي في المسجد، وحريص على الصلاة في المسجد، لكن يجب عليك أن تستكمل الإيمان، ولا صعوبة في الاستيقاظ لصلاة الفجر عن طريق الساعة المنبهة، وهي موجودة في كل مكان.
وأضرب لكم مثالاً: إذا كان شخص منا على موعد مهم في دنياه أقل ما فيه إذا كانت الرحلة -مثلاً- ستقلع الساعة أربع ونصف ليلاً تجدنا نسهر طول الليل ولا ننام، وإذا قلت له: يا أخي! لماذا لا تنام وأنا أوقظك؟ قال: لا أطمئن، وأخاف أن تفوت الرحلة.
وهذه صلاتك أعظم من كل رحلة، هذه الصلاة غالية، اذهب إلى أي شاب مسلم مستقيم، ولا أقول الكبار لأنهم أحرص على الدنيا لكن الصغار، وقل له: لا تصلي الظهر اليوم وأعطيك عشرة ملايين؟ أو عشرين مليون واترك صلاة الظهر، فماذا سيكون الرد؟ والله لا يقبل أحد منكم هذا.
إذاً الصلاة غالية جداً، لكن إذا اجتهدت ونمت مبكراً وأخذت بالأسباب ولم تستيقظ فإن الله يعفو عنك، وهذه نعمة من الله ورحمة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه لا يؤاخذنا إلا بما فرطنا، والتفريط يكون إذا لم نأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى أداء حق الله وعبادة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وأوصي نفسي وإخواني جميعاً بأن نجتهد في هذا الأمر الذي يبدو أنه قد يكون عسيراً وعظيماً، ولكنه يسير على من يسره الله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45].(10/25)
التفريط في صلاة الجماعة
السؤال
بعض الناس يصلون -ولله الحمد- وعندهم نزعة طيبة، لكن لا يهتمون بالصلاة، وينصحون بهذا، لكن لا يكترثون في هذا، مع العلم أنهم يصلون، لكن نود منكم بارك الله فيكم أن توجهوا أولئك، والسامع يبلغ الغائب؟
الجواب
الحقيقة أن صلاة الجماعة من أعظم شعائر الإسلام التي إذا تركناها تركنا سنة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، ولم يعهد ولم يعرف في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحد ترك صلاة الجماعة إلا المنافقين كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله: [[ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق]] ولهذا جاء في الحديث الشريف الوعيد الشديد، كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لولا ما في البيوت من الذرية لهممت بأن آمر بالصلاة فتقام، وآمر رجلاً فيؤم الناس، فأخالف إلى أقوام فأحرق عليهم بيوتهم}.
وهل تظنون أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحرق البيت ويحرق من فيه، ويستحق من فيه الحرق، وإتلاف أو تعريض منزله للإتلاف على أمر هين؟ لا، وليس هو إلا على أمر عظيم، ويظن بعض الناس -مع الأسف الشديد- أن العلماء كما يقولون: إن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبعة وعشرين درجة، يظن أن العلماء كلامهم متعلق بالتفضيل، فإذا كان لا يريد إلا درجة فإنه يصلي الفرض في البيت، وهذا غير صحيح، ولا بد أن نعلم أن العلماء -رحمهم الله- اختلفوا هل تصح الصلاة في البيت؟ أي: هل تصح الصلاة في البيت مع إمكان أن تصلى جماعة أو لا تصح، لماذا؟ لأنه لم يرد ولم يثبت في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبداً أن مؤمناً غير معذور صلى في بيته، بل لا يصلي غير معذور في بيته إلا المنافق الذي حبط عمله -والعياذ بالله- فبعض العلماء يرى أنها لا تصح، وأن الجماعة شرط في صحتها، والبعض يرى أن الجماعة سنة مؤكدة، وأنها ليست شرطاً في صحة الصلاة، إذاً الأمر عظيم.
ونجيب على القول الآخر الذي يقول: إنها سنة مؤكدة بأنه هل أحد من الناس في دنيانا الحقيرة التافهة يرضى أن يعمل عند شخص بريال، وهو يستطيع أن يعمل عند جاره بسبعة وعشرين ريالاً؟ ولو كانت ستة وعشرين، ولو كانت خمسة وعشرين، أو أربعة وعشرين، فإنه يقول: أنا مظلوم، وإذا قال له صاحب المحل: علاوتك ناقصة عشرة ريال، فإنه يقول: لماذا وأنا أستحقها؟ وكيف تنقص علي حتى ريالاً أو ريالين؟ فنجعل هذا ميزاناً للتفاضل، فلماذا في دنيانا نضبط المعايير والمقاييس والموازين ونتفحص؟ وكما يقول بعض الإخوة: إنك لا تعطي صاحب دكان خسمائة ريال إلا ويضعها على السراج ويفركها، ويتأكد منها قبل أن يصرفها لك، فهو يتأكد من الدنيا، ولا يقبل الغش فيها، لكن ديننا أعظم وأهم، فكيف لا نهتم بالغش الذي في قلوبنا.
فعلينا أن ننصح هذه القلوب لله ولطاعة الله ولعبادته، ولا بد أن تنصح للمسلمين فتحبهم وتحب لهم الخير كائناً من كانوا، وتنصح لنفسك أولاً بأن تنجوا من عذاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتكون نفسك صادقة في إيمانها ناصحة فيه.
فأذكر نفسي وإخواني جميعاً بأهمية هذه الشعيرة العظمى، وتعلمون أن الاجتماع أمر عظيم من أمور هذا الدين، وتعلمون أن صلاة الجمعة يجب أن تقام في جميع بلاد المسلمين، في مسجد واحد من مدينة المسلمين، وكان هذا هو الحال مهما كبرت المدينة إلى قرب نهاية القرن الثالث، وبغداد على كبرها وقد كانت أكبر مدن العالم وفيها ملايين السكان، ومع ذلك تقام جمعة واحدة، ومكة جمعة واحدة، والقاهرة جمعة واحدة، وهذا هو الأصل أن يكون لأهل البلد جمعة واحدة لا جمعتين؛ لأن ديننا يقوم على الاجتماع وعلى تكثير المسلمين، وعلى إرهاب عدوهم وعلى إغاظته والفاجر والمنافق إذا رأى الأمة كلها ملئت هذا البر كله وكلهم يصلون الجمعة، وهو متخلف فإنه يأتيه الوازع من نفسه وقد يدفعه ذلك إلأى أن يهتدي -بإذن الله- فالاجتماع وتكثير المسلمين في أمور الخير وفي شعائر الله يجب أن نحرص عليه في أنفسنا، وأن ندعو أيضاً المسلمين إليه.(10/26)
حكم استقدام الخادمات والعمال غير المسلمين
السؤال
الملاحظ كثرة العمال غير المسلمين من بلاد الهند وغيرها وكذلك استقدام الخادمات غير المسلمات، فما توجيهكم في هذه الأمور؟
الجواب
مما أوصى به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرض موته، ولا شك أن هذا دليل على أهميته، أنه قال: {أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب، لا يجتمع فيها دينان} فهذه الجزيرة - جزيرة العرب - لا يجتمع فيها دينان، وقد صدرت الفتاوى والتوجيهات، وتتوالى من اللجنة الدائمة للإفتاء ومن علمائنا -والحمد لله- مما يوجب تطبيق هذا الحديث، وتنفيذه على الجميع، وهو أنه لا يجوز للمسلم أن يستقدم العمال الكفرة من أي بلد، وأن لا يوليهم، ولا يأمنهم، وكيف نؤمنهم وقد خونهم الله؟! وكيف نعزهم وقد أذلهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟! وكيف نأتي بالكافر ونعطيه من الأموال، وربما كان سائقاً أو خادماً أو خادمة فيطلع على الأعراض، وأخذ الأموال، وربما نهب العرض، وقتل النفس؟ وكم فُعل ذلك، لكن لا نعتبر من تلك الأحداث، بل نعصِ الله تعالى، ولا أحد يعصي الله إلا ويذوق جزاء معصيته لله تعالى.
فإن كانوا كفاراً لا يجوز أن يُستقدموا، بل يجب أن يرحلوا فوراً إلا في الأمور الاختصاصية الدقيقة، ولاسيما ما كان من الشئون العامة من أمر يتعلق بالحكومة، أو بولي الأمر ويرون أن هذا اختصاص لا بد منه، أما مشاريعنا وأعمالنا العادية فما الاختصاص الذي لا يجيده إلا كافر؟ ليس عندنا أبداً شيء من هذا.
ثم إن الخادمات والسائقين لهم مصيبة أخرى: وهي ما يحدث من الاختلاط، وما يحدث من انتهاك الأعراض، ومن الدمار الخلقي والاجتماعي وما أكثر ما وقع من ذلك، ولكن من الذي يعتبر، وأقل ما فيه أن الخلوة موجودة، حتى لو كانت مسلمة كبيرة في السن ومتمسكة بالدين، لكن الخلوة موجودة ولا محرم لها، ولا نعني أننا نأتي لهما بمحرم ونفرد لهما مكاناً مستقلاً، لكن نقول للذي يستقدم خادمة أو سائقاً -ولو كان كبيراً-: الخلوة حرام.
يقول سعيد بن المسيب رحمة الله عليه إمام التابعين وهو من الإيمان والتقوى يقول: [[لو استأمنت على خزائن الدنيا جميعاً لأمنت نفسي عليها، ولا آمنها على جارية أو على عجوز شوهاء بنت ثمانين سنة]] لا أستأمن نفسي على المرأة، لأن هذه رغبة جنسية، وهذا الدافع لا يمكن للإنسان -أحياناً- أن يحول وأن يقف دونه أبداً، فقد يأمن الإنسان نفسه أن لا يغش ولا يكذب ولا يخون أو كذا، لكن لا أحد يأمن نفسه أن يقع في الزنا، ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما خلا رجل بامرأة -رجل مطلق، لأن (رجل) نكرة- إلا كان الشيطان ثالثهما} ولا يقول أحد: أنا قلبي نظيف، فرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك في صيغة العموم، وقال للصحابة: {على رسلكما إنها صفية قالا: سبحان الله! أفيك نشك يا رسول الله؟! قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم} وأمور كثيرة جداً، واسألوا الواقع عن هؤلاء الخدم والسائقين.
والحمد لله، نحن لا نحتاج إلى الخادمات، حتى لو أن الأسرة تساعدت فيما بينها فلا يوجد حرج، فعندما يكون الناس في الدوام أو في المدارس، تنفع أهلك ثم تذهب.
وأيضاً: أين البنات وأين القريبات؟ فإذا قال شخص: إن زوجته أو أمه مريضة أو عنده ولادة، فهل لا بد من خادمة؟ ونحن نجد أنه إذا ولدت امرأة فإنهم يأتون لها من أطراف القرية، وهذا معروف، فهذه تأتي بالثيران والبقر، وهذه تأتي بالأكل، وهذه تطبخ، وهذه تكنس البيت.
سبحان الله!! كل يوم يمرون عليها ويتعاونون فيما بينهم، وهذه عادات طيبة وصلة رحم، أما الآن فإنها تريد أن تجلس أمام التلفاز ولا تعلم شيئاً عن عمتها أو خالتها، ويقولون: احضر خادمة، سبحان الله!! تركنا صلة الرحم وتركنا العادات الطيبة ونريد أن نعصي الله.(10/27)
بعض المحاذير الشرعية في العزاء
السؤال
العزاء عند أهل الميت وإعداد الولائم من القادرين وغير القادرين على ذلك لمدة ثلاثة أيام، فما هو حكم الإسلام في ذلك أثابكم الله؟
الجواب
هذه بدعة منكرة ولا يجوز أن تقر من أهل العلم والدعوة والصلاح، فحسبنا أن نعلم أن: {كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار} وأن: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} ويترتب على ذلك من محظورات شرعية منها: 1 - تكليف أهل الميت مالا يطيقون مع أنه يجب أن نواسيهم وأن نعزيهم.
2 - ومنها أن ينفق على هذه الولائم من تركة الميت وهذا حرام، وقد نهانا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن ذلك: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل} [البقرة:188]، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه} فهذا المال من التركة هو من حق الورثة، وقد يكونون أيتاماً أو عجائز ضعفاء، والبعض يأخذ من التركة وينفق على الذين يأتون من أطراف الدنيا، لا يجوز ذلك، بل يكتفى -كما كان الحال أولاً- بشيء من القهوة أو الشاي من الأمور العادية التي لا مشقة فيها بالنسبة للمستقبلين، بل ينبغي أن يعلم أن السنة أن يصنع طعام لأهل الميت كما في الحديث: {اصنعوا لآل جعفر طعاماً} فنأتي ونعطيهم نوعاً من الطعام، ولا نأتي بالغنم معنا، ونقول: اصنعوا طعاماً؟ لا ليس هذا، بل نذهب إليهم بما يكفيهم للغداء أو العشاء، ولا نأتي بالذبائح ونجلس نأكل معهم، ونقول: نطبق السنة، لا إذا كنا لا نطبق سنة إلا ببدعة كبيرة فنترك السنة هذه، فهذا ليس من السنة، فالسنة أن تأتي إليه ومعك شيء من الطعام وتعطيه أهل الميت، أو شيء من الفاكهة أو الطعام المطبوخ -مثلاً- وتعطيهم إياه، هذه هي السنة إن شاء الله.(10/28)
الاحتجاج بالقدر على المعصية
السؤال
البعض يحتج بالقدر حينما ينصح بالهداية إذا كان غير مهتدٍ، ويقول: هذا من قدر الله، فما هو تعليقكم على ذلك؟
الجواب
نعم؛ كل شيء بقدر الله، فإن أصيب العبد بمصيبة، وقال: هذا بقدر الله، أي: يجب عليّ أن أصبر وأن أحتسب وألَّا أقنط فهذا حق، وهذا الذي أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به عباده الصالحين حتى يؤمنوا بالله، وهو أن يؤمنوا بالقدر خيره وشره من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23] لأن كل ذلك في كتاب عند الله.
أما إذا كان الإنسان يفعل المعصية ويُصر عليها، ويقول: كل هذا بقدر الله، فهذا لا يقولها من باب الإيمان بالقدر، بل يقولها من باب الاحتجاج بالقدر، وهناك فرق بين الإيمان بالقدر وبين الاحتجاج بالقدر، فهذا لا يقول: آمنا بالله بل كما قال المشركون: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148] وهذا صحيح، فلو شاء الله ما أشركوا، والله قال في نفس الآيات بعد ذلك: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام:107] لكن: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149] لماذا؟ لأن كل شيء بمشيئة الله، لكن ما قالها الكفار بناءً على حزن وعلى ندم، فلو أن أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه عندما تأخر عن الإسلام، قال: لو شاء الله لآمنت أول ما يأتي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، فإننا نقول: هذا صحيح، لماذا؟ لأنه يعزي نفسه على تأخر إسلامه رضي الله عنه.
أما من يقول: لو شاء الله أسلمت، وهو مشرك ومصر على الشرك، ويحتج بالقدر ويعبد الصنم، ويقول: لو شاء الله ما أشركت، فهذا كإبليس: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:39] الإنسان المسلم لا يقول: ما دام الله أغواني فسوف أستمر، وما دام الله لم يرد أن أصلي فسوف أستمر ولا أصلي! فإنه يكون بهذا من القدرية الإبليسية أو القدرية المشركية الذين يحتجون بالقدر، إما على الاستمرار في المعصية، كما فعل إبليس وكما قال قائلهم: ما دام أن الله لم يهدني فسوف أستمر في ترك الصلاة، وهذه هي القدرية الإبليسية.
وأما القدرية المشركية فهم الذين يحتجون بقدر الله على أمر الله، ويعارضون قدر الله بأمره، ولهذا قال عز وجل بعد هذه الآيتين في سورة النحل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل:36].
إذاً من هدى الله هداه توفيقاً منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن ضل وحقت عليه الضلالة فهذا جزاء كفره، ولو أنه تعالى يُقر الشرك ما بعث في كل أمة رسولاً يدعوهم إلى التوحيد، ولو أنه يقر ترك الصلاة ما أمرنا وشرع لنا أن نصلي وهكذا.
فلا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعايب والذنوب، وإنما يحتج بالقدر على النكبات والمصائب: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156].
فإذا قيل لشخص: لماذا مات ولدك؟ قال: الحمد لله، هذا قدر الله، وهذا أمر الله، فإن هذا حق، أما إذا قيل لشخص: لماذا لا تصلي؟ قال: هذا قدر الله، وهذا أمر الله، نقول: كذبت، إن الله تعالى أمرك أن تصلي، وصحيح أن هذا بقدر، لكن لو صليت لكان هذا -أيضاً- بقدر الله.
فنسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم من المؤمنين بالله وكتبه ورسوله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.(10/29)
شبهات وشهوات
تكلم الشيخ حفظه الله عن العمر وأهمية المحافظة عليه باستغلال الأوقات، موضحاً فوائد اللقاء مع الإخوة في الله، ثم تكلم عن مرحلة طلب العلم وأهميتها في حياة الشباب، ووضح حاجة الأمة إلى الدعوة، وإمكانية الدعوة من خلال المساجد، مبيناً أهمية تصحيح المفاهيم والمعايير المتعلقة بذلك على ما جاء في الكتاب والسنة.(11/1)
قيمة العمر
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن من نعمة الله علينا أن يجد الإنسان إخوة في الله يسكنون متجاورين متعاونين على تقوى الله وطاعته، يتواصون بالحق ويتواصون بالصبر، ويُذكِّر بعضهم بعضاً، فالعمر محدود، والرحيل قريب، والراحلون إلى الدار الآخرة يزيدون المؤمن إيماناً بضرورة الجد والعمل وقصر الأمل، ويذكرون الغافل عن الله وآياته، والمضيع للعمر في اللهو واللعب وما لا يجدي بحتمية هذا المصير.
فإذا وُجِدَ الإنسان إخوة في الله يدرس ويسكن معهم، فإنهم يعينونه على تقوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وما يقرب إليه، ويذكِّرونه بأمر الله، فهي نعمة كبرى خاصة في هذا الزمن، الذي تكالبت فيه الفتن واشرأبت بأعناقها من كل مكان، وحوصر الشباب المسلم في نفسه وما حوله من كل جهة لكي ينجرف وينحرف وراء الشهوات والضلالات والبدع، فجديرٌ بنا في هذا العصر أن نتآخى في الله، وأن نتعاون في ذاته، وأن نضحي لكي ينقذ كل منا نفسه وأخاه.
والمتأمل في عمر الإنسان يجده معدوداً محدوداً قصيراً؛ إذ أن سنوات الطالب الجامعي أربع سنوات، وهي قليلة جداً في حساب الزمن، فإذا نظرنا إلى العمر وأنه قليل، فإنها تكون قليلة من ذلك القليل.
فعلى الإنسان أن يتقي الله في هذا العمر، وأن يجعل هذه السنين مناسبة عظيمة، وفرصة كبرى، وغنيمة يغتنمها؛ لكي يتعلم ما ينفعه، ويقربه إلى الله، ولكي يستعد للدعوة إلى الله على منهاج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالآن تستطيع أن تسأل وأن تتردد على حِلَقِ الذكر، وتذهب إلى من تريد لتستفيد منه علماً وخيراً، وتستطيع أن تدعو إلى الله، وإن أخطأت أو تجاوزت فإن ذلك يكون في هذه الفترة مقبولاً منك؛ لأنك في مرحلة الطلب.
وأنت أيضاً -غالباً- متفرغ للدراسة، فلا مشاغل عائلية، ولا أعباء ولا مشكلات، ولكن حالك إذا تخَّرجت وعدت إلى بلدك سيتغير، فستخرج إلى الحياة العامة، وستنشغل بالأهل وأعباء الحياة، وستكثر عليك المسئوليات، وعندئذٍ ستندم على ساعات أو ليالي أو أيام مضت في السكن لم تستفد منها، فالعاجز يندم على تفريطه، والمجد يندم على عدم اجتهاده أكثر، وهي تجربة يشعر بها كل من مر بها، ويندم ويتأسف على تلك الأيام أن لو اغتنمناها أكثر فأكثر، حيث ثورة الشباب والفراغ، وحيث الإخوة في الله، وإمكانية التقويم والتصحيح، وحيث إمكانية السؤال.(11/2)
شباب الجامعة وواجبات الدعوة
ونحن أبناء جامعة أم القرى يجب علينا أن نتقي الله في أنفسنا، وأن نكون صادقين، وصرحاء مع حقوق الله علينا، فلابد لنا من التأثير في مجتمعنا وما حول جامعتنا، بل لا بد أن نعد العدة لأن نقوم بها خارج هذه البلدة أيضاً.
فكل شاب مسلم في أي بلد في العالم يلام إن قصَّر في الدعوة إلى الله، ولكن طالب جامعة أم القرى إن قصر كان اللوم في حقه أعظم، وإن عمل كل أحد فالواجب عليه أكبر وأكثر.
تضم هذه الجامعة حسب الإحصائيات الأخيرة ما يقارب (15000) طالب وطالبة.
فيا سبحان الله! لو فرضنا أن منهم (1500) فقط دعاة، فهل يكون حالنا كهذا الحال؟! أقول: دائماً يجب أن نكون صرحاء، ولا سيما إذا لم يكن فينا غريب، وليس غير الإخوة في الله، فلنكن صادقين في انتهاز الفرص، وأن نتحدث نحن منتسبي هذه الجامعة وهذه الكليات الشرعية، ونحن وحدنا عن الشباب الضائع، فالشباب الضائع اللاهي الذي يعبث حول الجامعة لابد من نصيحته ودعوته إلى الله، فالمساكن القريبة والمقاهي والملاهي لابد من بذل الجهد في نصيحتها، فإقامة الدعوة في السكن شيء طيب لكن لا نكتفي به.(11/3)
أهمية الدعوة
إن نسبة معينة فقط من الشباب هي التي تشارك وتفيد وتستفيد، أما البقية فإنها لا تفعل ذلك، مع أنه لا بد لطالب العلم -الذي يتعلم ليدعو إلى الله- من أن يكون له برنامج للدعوة خاصة في هذا الزمن.
هذه جامعة أم القرى، وهذا هو الطالب الذي لو سألته: أتطلب العلم لوجه الله؟ هل تطلب العلم لتدعو إلى الله؟ فسوف يجيب: نعم! ولا شك، وأنا أقول بصراحة: لو سألنا هذا السؤال في أحد الاختبارات فمن سيجيب بلا؟ لا أحد، وفي الواقع الذي يطبق قلة: فكأننا نكذب على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ماذا عملنا في هذا البلد الحرام؟ وكيف هو حال ما حول مكة؟ أتعلمون أنه يعرض كثيراً، ومما عرض أخيراً على سماحة والدنا الكريم، وشيخنا الفاضل: الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله وأطال عمره، ونفعنا بعلمه، عرض عليه تقريرات، أو تقارير عن مناطق تبعد عن مكة ما بين (30 - 40) كيلومتر فقط؛ وبعضهم يأتي إلى مكة، وهم لا يحسنون قراءة الفاتحة، ولا يعرفون الأصول الثلاثة: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ حتى أن فضيلة الشيخ عبد الله الفنتوخ مدير عام الدعوة هو بنفسه قال: أنا سألت واحداً منهم: من ربك؟ فقال: محمد! وهذا في الأماكن القريبة، فأقول: لابد أن نجلس وحدنا، لنكون صادقين وصرحاء مع أنفسنا، ولا نكذب، قد نخدع أي أحد -ونعوذ بالله أن يكون فينا أحد مخادع- لكن لا يخادع الإنسان نفسه، ولا ينبغي أن يخدع نفسه، لأن هذا مصيرك، وهذه مسئوليتك بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أين دعوتك؟ وأين تبليغك لدين الله؟ وما العذر في ذلك؟ يذهب الشاب منا إلى أهله، أو إلى بلده، أو قبيلته في العطل، في مدة تطول أو تقصر كم منا الذين يدعون إلى الله ويصبرون، ويبلغون قومهم إذا رجعوا إليهم؟ أليس هذا هو واجبنا جميعاً؟ وإلا فلم التحصيل؟ ولم الاستكثار من حجة الله علينا؟! لما سئل أحد السلف عن طلب الزيادة في العلم، فقال: هل عملت بما قد علمت؟ قال: لا.
قال: فلم تستكثر إذن من حجة الله عليك؟! وأقول: لم نكمل الجامعة إلا وكلٌ منا يريد أن يواصل الدراسة، لنستكثر من الحجة، ماجستير ثم دكتوراة، وماذا بعد ذلك؟ قد يموت الإنسان ولم يكمل شيئاً من هذه المراحل، وأكثر من يموت هم الشباب، قال بعض السلف الصالح: ' أكثر من يموت الشباب، ومن أراد أن يعرف صدق ذلك فلينظر إلى قلة الشيوخ '، فكم عجوزاً ترى في هذا البلد؟ وكم ترى إنساناً مسناً محدودب الظهر؟ إنهم قليل جداً؛ لأن الناس يموتون، وهم ما يزالون أقوياء، وفي سن الشباب، وما حوله، إذن فماذا ننتظر؟! سبحان الله العظيم!(11/4)
من فوائد صلاة الجماعة
الأمة تجتمع عندنا خمس مرات في اليوم، دع الذي لا يصلي، وانظر إلى الذين يجتمعون عندك في اليوم خمس مرات ماذا قدمت لهم؟ هل دعوتهم إلى الله ليكون لك مثل أجورهم دون أن ينقص ذلك من أجرك شيئاً؟ ولا أزال أتذكر كلمة ذلك المجرم الأثيم لينين، الزعيم الشيوعي المعروف، عندما اقتحمت جحافل الثورة الشيوعية المدن والدول الإسلامية التي تزيد مساحتها على مساحة الدول العربية مجتمعة، تركستان، وبلاد ما وراء النهر، اجتاحها أولئك الشيوعيين، واجتاحوا الدول التي تدين بـ النصرانية، فأذعنت وسلمت، ودول تدين بأديان أخرى من المشركين فأذعنت وسلمت.
لكن المسلمين قاموا وجاهدوا أكثر من ثلاثين سنة، لا أحد يدري عنهم، فكثير من مشاكل المسلمين لا يدرى عنها؛ لأن الأمة في لهوها ولعبها وغفلتها، فقال لينين: لم هذه المقاومة؟ وما السر؟ قالوا: إن المسلمين يجتمعون، قال: فرقوهم، فشحن أعداداً هائلة إلى سيبيريا، وإلى المصانع في الشمال، فما نفع ذلك، فسائل المجرم عن السر في ذلك؟ فقالوا له: هؤلاء يجتمعون في اليوم الواحد خمس مرات، وفي كل حي يجتمعون في الأسبوع مرة، ولا يكاد يغيب منهم أحد، وهذا من دينهم، فعجب هذا المجرم والطاغوت، وقال: لو اجتمع الناس عندي خمس مرات في اليوم لجعلت العالم كله شيوعياً! خمس مرات يأتيك الناس، أنا لا أطلب منك أن تلقي خمسة مواعظ بعد كل صلاة! لكن تسلم على هذا، وتكلم هذا، وتنصح هذا، تعظهم جميعاً، وأحياناً تكلمهم جميعاً، وتنشئ علاقات صداقة ومحبة معهم، لتقربهم إلى الخير، لترى ما عندهم، هذه هي التي من أجلها بنيت المساجد، وشرعت الجماعة، وعبادة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأداء الصلاة أمر عظيم، لكن لا نفوت الحكم والمصالح، فكلها متداخلة متشابكة، فنجد منافع عظيمة في الصلاة، والحج، والزكاة، والصيام، كلها فيها المنافع، وهي لا تنفصل، وهي لمصلحتنا، وإلا فالله تعالى غني عنا، فمن الخير لنا أن نسجد لربنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لتطمئن قلوبنا بذكره، ولننسى هذه القسوة والغفلة التي يكابدها الناس الذين شغلوا بالحياة الدنيا، ثم يذكر بعضنا بعضاً ليكسب الأجر.
إذا قام في ذهن الشاب المسلم هذا الإحساس بضرورة الاستفادة من العمر، واستغلال الوقت للأجر، ولما يقربه من الله، ولزيادة الحسنات، تجده شعلة من الحركة، والدعوة إلى الله.
كان بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم إذا أثقلته العبادة، أو القراءة، أو الجلوس مع أهله وزوجاته، يخرج إلى السوق، ليجد شيئاً يكسب به الأجر، فيخرج يسلم على الناس، فإذا رأى منكراً أنكره، وإن لم ير المنكر، فيلقي عليهم السلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والآخر يرد عليه، فيكون كسب: ثلاثين حسنة، ومن غيره ثلاثين وهكذا، فلا يرجع إلى البيت إلا وقد كسب هذه الحسنات العظيمة، وكان فيها نوع من الصلة لإخوانه المسلمين، والتعرف على أحوالهم، وكان فيها نوع من إنكار المنكر، فلو لم يكلم الناس فإنهم إذا رأوا مثل هذا الإنسان، يستحيون أن يظهروا المنكر أمامه.
أمَّا نحن فقد غفلنا عن مدارسنا، وأسواقنا، وغفلنا عن مقاهينا، وغفلنا عن قبائلنا، وربما عن أسرنا، وربما يكون فينا من يغفل حتى عن نفسه.
إذن ما فائدتنا؟ وما قيمتنا في هذه الحياة؟ هل للشباب وللجامعات من قيمة إلا بقيمة العلم والدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟!(11/5)
دعوة إلى تصحيح المعايير والمفاهيم
هل يصح أن تكون معاييرنا هي معايير ذلك الإنسان الذي لا يعرف الله واليوم الآخر، أو من العامة الذين لم يتعلموا ما تعلمنا؟ انظروا إلى المعايير التي علَّمها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه، وعلَّمها القرآن للمؤمنين! وانظروا إلى معايير الناس، وانظروا هل معاييرنا نحن كما عليه الناس، أم كما عليه الوحي والدليل؟ فالفائز في أذهان كثير من الناس هو الذي ربح في تجارته، والذي ربح في اللهو واللعب، والذي غنم أي شيء من متاع الدنيا الفانية، فهذا الذي يُسَّمى الفائز، لكن الفائز عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والفائز في معايير القرآن والسنة هو كما قال تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20] هذا هو الفائز، والمفلس عند الناس الذي لا درهم عنده ولا متاع، وليس عنده مال، وهذا مفهومهم، لكن عند طلبة العلم في منهج الوحي، المفلس هو الذي أخبر عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعلمون الحديث.
من العالم؟ العالم عند الناس من حفظ وحوى، وتحَّدث وتفلسف، هذا هو العالم عندهم، لكن في ميزان الشرع العالم هو العالم بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وبحق الله، وإن كان غيره أحفظ منه، لكنه يحفظ ويقرأ، ويعلم ويعرف ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويعلم ما خلقه الله لأجله ويقتدي به الناس بدعوته إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
أما من أوتي علماً، فطلب به الدنيا، وتكسب به، وطلب العاجلة، وأخلد إلى الأرض، فلا خير فيه ولا في علمه، كما قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} [الأعراف:176].
وقد استشهد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالعلماء وجعلهم شهداء على ألوهيته، قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران:18]، ولم يستشهد من أهل الدنيا أحداً إلا هؤلاء، أهل العلم.
وقال في الآية الأخرى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء:197]، وقال تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف:10] فالعلماء يشهدون في الأمور العظيمة، وهؤلاء الذين يستشهدهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذا هو العالم الحقيقي، لكن عند الناس غير ذلك، وكذلك السعيد عند الناس هو الذي جمع المال والأولاد، والذي حاز زهرة، وفتنة الحياة الدنيا، مع أنه قد يُعذب بهذه الأموال والأولاد، فإنما هي فتنة في الدنيا، لكن عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في ميزان الوحي، من السعيد؟ ومن المطمئن؟ وهكذا.
يجب أن نصحح معاييرنا، ومفاهيمنا ونتوجه إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بقلوبٍ صادقة وعزيمة ثابتة، وبإقبال على الآخرة وانصراف عن ملهيات الدنيا، ولا نكون كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، ولا نكون كالشباب الخاسر، وكل إنسان خاسر كما قال تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2]، فكل الجنس الإنساني بهذا القسم في خسارة ماحقة: الملوك، والأغنياء، والأثرياء، والوزراء من أهل الدنيا، وكل ما ترى أمامك، كلهم خاسرون، إلا من استثنى الله، وقد ذكر صفاتهم، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:3]، فأول صفتهم الإيمان.
وثانيها: العمل الصالح {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر:3].
وثالثها: التواصي بالحق، فهم لا يجهلون الحق، يعرفونه كلهم، ويتواصون به أيضاً؛ لأني قد أعرف الحق وأضعف عنه، وقد أعرفه وأجبن عنه، قد أعرفه وأنساه وأغفل عنه، فتوصيني وتذكرني وأنا أذكرك، لا نقول: هذا يفهم ويعرف كل شيء، كما أن كل مسلم يعلم أن الصلاة حكمها كذا، وحكم تاركها كذا، لكن أكثر الناس لا يصلون، يعلمون لكن يفعلون، فلذلك قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر:3]، فيذكر بعضهم بعضاً، {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3].
ورابعاً: التواصي بالصبر، فلا يقول له: إذا رأيت أن الموضوع صعب فاتركه: (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)، اصبر واستمر وادع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فيجب أن ينصح بعضنا بعضاً، وأن ننتهز كل فرصة نجد أنفسنا فيها معاً لنتذاكر بواجبنا في هذه الجامعة، ومسئوليتنا أمام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، سواء ونحن ندرس، أو بعد التخرج نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا وإياكم لكل خير، إنه سميع مجيب.(11/6)
الأسئلة(11/7)
المنهج الصحيح في التعامل مع المبتدعة
السؤال
ما هو المنهج الصحيح في التعامل مع مبتدع يحاول نشر بدعته من خلال مؤلفاته، نرجو توضيح ذلك من خلال مواقف السلف الصالح مع المبتدعة، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
التعامل مع المبتدعة ليس له صورة، ولا حالة واحدة، بل إن كل أمور التعامل والمعاملة هكذا دائماً تختلف صورها؛ لأن البيئات، والأحوال تختلف؛ فالمبتدع الذي ينشأ أو يأتي ببدعة في بيئة مؤمنة عارفة بالحق، ويريد أن يضلها، ويصد عن سبيل الله، ويشذ بذلك عن جمهور الأمة، يختلف حكمه عن مبتدع نشأ في بيئة مليئة بالبدع، ليس للحق فيها صولة، وليس لـ أهل السنة فيها كلمة، ولكن هم قلة.
أي: إن كان أهل السنة في قوة، وكان أمرهم ظاهراً، وكان بيدهم أن يردعوا صاحب البدعة، فإذا استطاعوا باليد فلا يؤجلوا ولا ينزلوا إلى درجة اللسان، وإذا استطاعوا باللسان فلا ينبغي لهم التراجع إلى الإنكار عليه بالقلب.
أما إذا كان أهل السنة قلةً، وكانت البيئة مليئة بالبدع كما هو حال بعض الدول في هذا الزمان، وكان أهل السنة لا يستطيعون أن يظهروا سنتهم ودينهم وقولهم الحق، فإن الحكم حينئذٍ يختلف، والتعامل يختلف، فأي كتاب من كتب العقيدة تقرءون فيه تجدون قضية هجر أهل البدع واضحة جداً، بل إن سيرة الكثير من السلف الصالح رضوان الله عليهم تنبئنا عن معاملتهم لأهل البدع وأنهم هجروهم، فلا كلام لهم يسمع، ولا كتب لهم تنشر أو تقرأ، وكان بعضهم يقسم بالله ألَّا يظله هو والمبتدع سقف واحد، كما فعل ميمون بن مهران رضي الله تعالى عنه، وكان أيوب السختياني لا يسمح لأحد من المبتدعة أن يتكلم عنده أبداً، وغيرهم كثير، خاصة في عصر التابعين، حيث ظهرت أول البدع: الخوارج، والمرجئة، والقدرية، وتعلمون ماذا قال ابن عمر رضي الله تعالى عنه كما في حديث جبريل عليه السلام، وماذا قال ابن عباس -أيضاً- في أهل القدر.
وبالجملة فهي مواقف كثيرة جداً تمتلئ بها كتب العقيدة وكتب السير في مثل هذه الحالة.
لكن إذا كان الحال والأمر، كحال الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه، مع أهل الفتنة في زمنه عندما يكبل أهل السنة بالأغلال، ويرتفع شأن البدعة، فإنه لا ينفع الهجر، فإنما يهجر الإنسان لكي يرتدع، أما إذا كانت الأكثرية ضده، وإذا كان من يهجره قليل الشأن، ضعيف العدد، فإنه لا يأبه له، فالمجتمع حوله كثير، يعيش فيه، ويعبث كما يشاء، فما فائدة الهجر؟ وقد نص على ذلك شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله في أكثر من رسالة له وفي أكثر من موضع: أن الهجر يتبع المصلحة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما تعلمون في أول الإسلام- في بدر وأحد لم يعاقب ولم يهجر من تخلف عن الغزو؛ لأن الأمة في أول أمرها، لكن بعد غزوة تبوك تعلمون حالة الثلاثة الذين خلفوا، وكيف كان مصيرهم، وكيف عوقبوا تلك العقوبة، فالهجر له أحكام، سواء في حق المبتدع أو العاصي.
ولكن في جميع العصور، والأوقات، وبحسب الطاقة والإمكان، يجب أن يكون هناك لله قائم بالحجة، وهذا أمر تكَّفل الله تعالى به، ولا بد أن يكون بإذن الله، لكن يجب أن يجتهد أهل السنة، وكل إنسان ليكون من أولئك، وليكون ذلك الرجل الذي يقوم لله تعالى بالحجة؛ لأنه كما قال الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه: 'إذا سكت العالم تقية، وسكت الجاهل لجهله، فمتى يظهر الحق؟! '.
فلا بد أن يتحمل أناس من أهل السنة حتى يظهروا كلمة الحق ويصدعوا بها، وأن يقفوا موقف الأنبياء مهما كلفهم ذلك، لكي يكونوا مرتكزاً لمن يرغب في الحق، وليكونوا مناراً لأهل الحق، وحجة قائمة على أهل البدعة والضلال.
فيجب أن يقام ذلك بحسب الطاقة، والإمكان، وهو على الأمة فرض كفاية، لكن كل إنسان بذاته، يُعادى ويوالى أو يُهجر بحسب المصلحة، وأيضاً يختلف الحال بين من له ولاية، ومن ليس له ولاية، فالسلطان كما كان المأمون مع الإمام أحمد، أو الأب مع ابنه، لا يعامل كما يعامل أي مبتدع آخر في الشارع، لأن له عليك حقاً، أو له عليك ولاية، فيجب أن تراعي هذا الحق، وهذه الولاية، وأن يكون إنكارك عليه وعلى بدعته بأفضل وأحسن الطرق، وبما يختلف عن معاملة أي إنسان آخر.(11/8)
أسلوب الدعوة
السؤال
نحن شباب ملتزم، ونريد أن ننصح بعض الإخوان لدينا في السكن، فما هو الأسلوب الذي ننتهجه؟ وهناك في السكن من لا يصلي، فكيف نتعامل مع مثل هؤلاء الشباب حتى يَصِلُوا إلى طريق الهداية والنور والفلاح؟
الجواب
الحمد لله على وجود هذا الشعور الدعوي، وهكذا يجب أن يكون كل متبع للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، فمن كانوا من أتباعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا بد أن يدعوا إلى الله، ولا سيما الإخوة في السكن، وتعلمون أن الدين النصيحة، وأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يبايعون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على النصح لكل مسلم، فمن يرضى أن يكون أحد من إخوانه المسلمين من أهل النار؟! بعض السلف الصالح رضوان الله عليهم وصلت به الحساسية إلى حد أن يقول: 'وددت أن جسمي قد قرض بالمقاريض، وأن أحداً لم يعص الله عز وجل'.
فهؤلاء الذين تأخذهم الغيرة على محارم الله، والغيرة أن يُعصى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو الذي خلق هذا الإنسان الضعيف، العاجز، المسكين، هذا الذي لو دخلت في رجله شوكة لصرخ، ولدعا الله، ولاستغاث بالله، هذا المسكين لا يؤدي حق الله، ولا يصلي وهو طالب علم، وفي جامعة أم القرى، فتلك مصيبة عظمى! فينبغي أن تشفق عليه أكثر، ويجب ألاَّ تدَّخر وسعاً في إيصال الحق إليه، بالصبر الطويل، والصبر الجميل، والصفح الجميل، بأي أسلوب حتى لو وصل الأمر إلى القوة، فإن القوة من الحكمة، ولا ينكر ذلك إلا جاهل بسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125]، فالقوة من الحكمة، والحزم، والزجر كله من الحكمة.
المهم أن يكون في موضعه؛ لأن الحكمة: هي وضع الشيء في موضعه، فكل ما كان في موضعه فهو حكمة، وإن كان قوة، أو حزماً، وردعاً، وإن كان تأديباً، أعني من المسئولين القائمين على الإسكان أو الكلية، أو ما أشبه ذلك، لكن لا نبدأ بذلك، وهذا شيء آخر.
والمقصود أن نستفرغ طاقتنا وجهدنا في نصيحة هؤلاء الإخوة، وفي تذكيرهم بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وفي بيان أننا لا نريد لهم إلا الخير، ولا نريد منهم شيئاً، كما أمر الله رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} [الأنعام:90]، وكما يقول عن نوح: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً} [هود:29]، {ومَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ:47].
سبحان الله! لأنه إذا علم أنك لا تريد له إلا الخير، وبالأسلوب الحسن، ولا تريد منه أي مطمع، فإنه حينئذٍ إما أن يستجيب، وإما ألا يكون لديه عذر، بخلاف ما لو رأى فيك رغبة في التشفي، أو شدة، أو غلظة، أو عنفاً، أو تكون النصحية كأنها نوع من حظ النفس والاستعلاء والتسلط عليه، فإن هذا يكون حائلاً بينه وبين الحق.
فيجب أن نبذل جهداً، وأن نأخذهم بأرق الأساليب أولاً، ثم نُنوع تارةً موعظةً، وتارةً تخويفاً بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتارةً ترغيباً فيما عند الله، وتارةً بزيارة، وتارةً بهدية، وتارة بحديث طيب وهكذا.
وهذه أمور تعامل واحتكاك مستمر، فكلما كنت أكثر مقدرة على الصبر، وعلى تنويع الأسلوب، واستيعاب تنوع النفوس وأحوال المدعوين المخاطبين، كنت أكثر نجاحاً في الدعوة، على أن الإنسان قد يضيق صدره كما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ضاق صدره، وعلى أن الإنسان قد يألم، ولا بد أن يألم الداعية، وقد يتعرض لما لا يطيق، ولكن نرجو إذا اجتهدنا وصبرنا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لن يضيع جهودنا، ولن يخيب آمالنا.(11/9)
الجدال أضراره وعلاجه
السؤال
نحن شباب في هذا السكن، ونواجه من بعض الشباب كثرة الجدال، وتضيع كثير من الفوائد التي نحب أن نستفيد منها، نرجو منكم -أيها الشيخ- توضيح ذلك؟
الجواب
الجدل من الأمراض التي يُصاب به الناس إذا انحرفوا، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل}، والعياذ بالله.
فالضلال علامته الاختلاف والجدل والتفرق ولا بد، وهما مقترنان، لأن المختلفين لا بد أن يتجادلا، ونقصد به: الجدل المذموم، وهذا لا يحدث إلا إذا مرضت القلوب، فيضيع الوقت في أمور لا خير فيها ولا فائدة.
وأقول: إن مما يدَّخره الشيطان ويعده للقضاء على هذه النبتات الطيبة، وعلى هذا الشباب الغض الناشئ في عبادة الله عز وجل أن يلقي بينهم الخلاف والجدل حتى في الأمور العلمية، فقد يظن المتنازعان أنها مما شرع الله، وأن الغرض الوصول فيها إلى الحق، ويكون هناك هوىً خفي لم يشعروا به.
ثم إن هناك هدىً سنهُ لنا صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكم من المسائل اختلفوا فيها! وانظروا إلى نسبة الاختلاف في المسائل، وقد وقع بينهم خلاف، لكن كلما جاءت العصور، اتسعت شقة الخلاف وتوسعت، حتى وصلت الآن إلى ما ترى الحال عليه بين المسلمين، حالٌ يرثى لها، أمَّا هم فكانوا أقل الناس تكلفاً، وجدالاً؛ لأنهم قوم شُغِلُوا أولاً بأنفسهم، وشغلوا بالعمل عن الجدال، أما طلب الحق ومعرفته، وبيانه للناس، والتفاهم مع الإخوة في الله للوصول إلى الحق فلا بأس في ذلك، لكن إذا وصل للمراء وللجدال الذي هو إضاعة للوقت، وإن خُيِّل إلينا أنه حق، فلا! حتى في المسائل العلمية.
مثلاً: مسألتان فيها قولان للعلماء منذ الصحابة إلى الآن، فلم الجدال فيها؟! أنت تأخذ طرفاً، وهذا يأخذ طرفاً آخر.
وأقول: هناك مسائل قد علم فيها الخلاف وهو قديم، ولا جديد فيها، لن تأتي أنت بجديد، ولن يأتي الآخر بجديد فيها، فيكون موقفنا في مثل هذه المسائل أن كُلاَّ منا يتقي الله، ويأخذ بما يرى أنه الحق، ولا يجادل الآخر في ذلك، وإذا شُغلنا بدعوة الناس، ودعوة أنفسنا، وإلزامها بطاعة الله وبالحق الواضح الصريح الذي لا جدال فيه ولا خلاف، فوالله لن نجد وقتاً لمثل هذه الأمور أبداً.
فالجدال هو من الدعوة إلى الله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، والمجادلة بالتي هي أحسن هي من أساليب الدعوة إلى الله، لكنه كدفع الصائل، فإذا صال عليك تقاتله، ولا تجعله أسلوب الدعوة الأول، فما بالك بالجدال الذي هو مراء مذموم لا خير فيه؟ إن هذا المراء الذي لا خير فيه، من تركه وهو محق، فهو مُبشر ببيت في الجنة، كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليؤدبنا وليعلمنا ألَّا نجادل، وأن نترك المراء وإن كنا محقين، فما بالك إذا كانت شبهات وأمور مشتبهة بين متجادلين؟! ونحن -مع الأسف- في مناهجنا العلمية نؤتى العلم، ونؤتى القرآن قبل الإيمان، وهذه من أسباب هذه المشكلات، فيأتي الطالب من الثانوية -وكلنا كذلك نأتي بشهادات ثانوية- فيدخل الجامعة، فيقرأ في التفسير خلافات، ويقرأ في الفقه والحديث خلافات، وهو لم يفقه الحق بعد، ولم يعرف الأمور المجمع عليها، ولم يعرف الأساسيات واليقينيات التي ترسخ في قلبه، ويبدأ بالجدل، فلا بد أن يُؤثر ذلك على حياته.
ولهذا انظروا كيف يكون تأثير الجدال، أو الخلاف على العامة، حتى في أمور علمية هي حق! لو قلت للعامة في أيام الحج: اختلف الصحابة رضوان الله عليهم في التمتع، وفي كذا، فإنه يتعجب من اختلاف الصحابة أولاً، ومن اختلافهم في الحج ثانياً، ولأنه يرى أن ذلك لا يتناسب مع مقامهم ولا مع ركنية الحج مع أن كلامك حق وواقع، لكن نحن طلبة العلم لم نعد نبالي، فلو قرأنا أن في مسألة من المسائل عشرة أقوال أو خمسة أقوال، فلن نستغرب، لأننا قد تعودنا الجدال، والخلاف، فلم يعد هذا الامر غريباً علينا.
وهذه مشكلة في الحقيقة، مشكلة من حيث تربيتنا، لأنه حتى العلماء الذين اختلفوا في المسائل، لا نتصور كما يتصور بعض العامة: أن الأئمة الأربعة كانوا جالسين مع بعض، وهذا يقول كذا، وهذا يقول كذا، وهذا يناقش الثاني؛ فهذا جهل، وليس الأمر كذلك، فأحدهم اجتهد وقال رأياً، ولم يلزم الناس به، والآخر في خراسان أو في مصر اجتهد وقال رأياً، فجاء من بعدهم وجمع الأقوال، وقال: قال الشافعي وقال مالك وقال ابن حزم فيجد نفسه في متاهة من الخلافات سبحان الله! ما هكذا كان يطرح العلم! أقول: الذي يريد أن يتعمق في العلم -ولا بد أن يتعمق وأن يجتهد ويعرف الأدلة- يجعل ذلك بعد أن يفقه الضروريات، ولهذا قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79]: [[الرباني هو الذي يعلم الناس صغار العلم قبل كباره]]، فلا تشغل الناس بالفروع قبل أن يعرفوا الأصول الثلاثة، فتعرض عليهم خلافات شرعية، لكن خذ الناس بالأساس أولاً، فاشرح لهم معنى لا إله إلا الله، وبين لهم أحكام الصلاة الأساسية، ولا تناقش في جلسة الاستراحة وأن فيها خلافاً، فأنت ترى كيف علَّم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسيء صلاته، والذي أساء صلاته أمام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأكثر المسلمين اليوم كذلك إلا ما رحم ربك.
اعرض عليه ما يقيم صلاته من الأركان والواجبات وهكذا، ثم بعد ذلك إذا تفقه وتعلم، أو جاء الوقت المناسب فأعطه الشيء الضروري بقوة وبإصرار وبوضوح، والشيء الواجب بأقل من ذلك، والشيء الذي هو من النوافل أعطه إياه بما يناسب أنه نافلة؛ لأننا إذا تجادلنا في المندوبات فلا شك أننا سننسى الأصول والأركان والضروريات.
وهذه مشكلة الشباب المتعلم الآن وهي من المشاكل التربوية، والمنهجية المهمة، ونحن نشكر للطلاب توجههم إلى طلب العلم، لكن منهج طلب العلم ليس بهذه الطريقة، وكذلك إثارة الخلافات التي تقع بين العلماء، فأحدهم يقول: ما رأيك في كلام الشيخ فلان؟ والآخر يقول: أنا مع فلان، ولست مع فلان! فمن أنا؟! ومن أنت؟! ففلان لا يزداد بكوني معه، وفلان لا ينقص بكوني لست معه، فلنتأدب مع علمائنا المعاصرين أيضاً، ولينظر الإنسان في الأدلة، وليتق الله، وليتبع ما يرى أنه الحق، ولا يجادل، ولا يلزم الآخرين إلا بأمر هو يعلم أنه سنة، وأن الآخر على بدعة، أو هو على حق، والآخر على باطل، أو من باب النصح يرى أن هذا هو الأفضل، فيبين له على سبيل النصح لا على سبيل المجادلة، وأرجو ألاَّ يُفهم هذا الكلام خطأً، فكثير من هذه الأمور المنهجية قد تفهم خطأً.(11/10)
الخروج من أماكن المنكر
السؤال
هل يجب أن نخرج من المكان الذي يوجد فيه منكر حتى نكون ممن أنكر بقلبه؟
الجواب
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على مراتب، والأحوال تختلف، فالكلام في إنكار المنكر قريب مما يُقال في التعامل مع أهل البدع؛ لأن البدع من المنكر، فالأحوال تختلف، فلم تخرج؟ إن قلت: أخرج لأنني لا أستطيع أن أنكر باليد ولا باللسان، وقد رأيت هذا المنكر، وغاية ما أستطيع أن أنكر به أن أخرج، فعليك أن تسأل نفسك أولاً: هل هناك مفسدة أو لا؟ أما إن كنت تخرج، وأنت تستطيع أن تتكلم، أو تنكر باليد فلا تخرج، أنكر ثم اخرج إن رأيت المصلحة في ذلك، وكذلك بالعكس، والإنسان الذي يخرج وفي خروجه مفسدة أكبر من ذلك المنكر، أو قد يحدث منكر أكبر من ذلك المنكر، إما من الجالسين، وإما من غيرهم، فيجب عليه ألاَّ يفعل، ونحن نعيش في واقع، فلا نكون بعيدين عن هذا الواقع، وهذا له أمثلة كثيرة، لكن أضرب لكم مثالاً: أكثر الناس مبتلون بالتدخين، فإذا جلست أنت معهم وهم يدخنون وهم من أقربائك، أو من زملائك، وتعلم أنهم يُدخنون، أو رأيت أحدهم يدخن، وتعلم أنك لو خرجت لارتكبوا محرمات أكثر، كإضاعة الصلاة أو اللهو أو اللعب أكثر من ذلك، فعليك أن تتحمل هذا في سبيل تحقيق مصلحة أخرى، إذا جزمت أو علمت أنك لو خرجت ارتكبوا منكراً أعظم، ولا شك أن ترك الصلاة أعظم من شرب الدخان.
فإذن يجب أن تُفكر والصور كثيرة جداً في الواقع.
وبالعكس لو تصورت أن خروجك سيجعلهم يألمون ويأسفون ويعتذرون، ويكفون عن المنكر، فحينئذٍ تخرج، فهذه الأمور دائماً مرتبطة بالمصلحة، وهذا مرجعه إلى حكمتك وخبرتك أنت في مجال الدعوة، واستعن بالله -عز وجل- فإن أخطأت فلك أجر، وإن أصبت فلك أجران.(11/11)
إحياء ليلة السابع والعشرين من رجب
السؤال
في شهر رجب تزدحم مكة بالزوار والمعتمرين، وعندما سألنا بعضهم عن سبب مجيئهم، أجاب بقوله: لقد أتينا لنحيي الليلة الرجبية، وهي ليلة السابع والعشرين، ونحن نأتي لأداء العمرة فيها، حيث إن لهذه الليلة فضيلة عظيمة، فنرجو منكم التوضيح، هل قيام هذه الليلة وأداء العمرة فيها ورد فيه دليل؟
الجواب
هذا الدين قام على أصلين عظيمين: الأصل الأول: ألاَّ يُعبد إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
والأصل الثاني: أن يعبد الله تعالى بما شرع ولا يُعبد بالبدع.
والناس إن حققوا الأول فكثيراً ما ينسون الثاني، ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} والجار والمجرور هنا متعلق باسم فاعل، بمعنى حاكم: {ليس عليه أمرنا} أي: ليس أمرنا حاكماً عليه وضابطاً له ومهيمناً عليه، {فهو رد} أي: مردود على صاحبه، وإن ظن أنه يحسن صنعاً بذلك، فإن الرهبان من البوذيين والنصارى وغيرهم الذين حبسوا أنفسهم عن ملذات الدنيا ومتاعها، لا نشك في أنهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً، وأنهم يعبدون الله بزعمهم، ولكنَّ عملهم خاسر، فهؤلاء هم الأخسرون أعمالاً، قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:103 - 104]، وحين ننظر هل ورد في كتاب الله أو في سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يدل على فضل هذه الليلة أو على تفضيل شيء من العبادة فيها، فلا نجد، وهكذا كَتَبَ وقرَّر علماء الحديث وعلماء أهل السنة، بل علماء البدع -إن صح أنهم علماء وفيهم من هو عالم ولكن أضله الله على علم- لا يجدون دليلاً على ذلك، وإذا أردت أن تعرف أهل البدع، أو أردت أن تعرف أن ما يعملونه بدعة، فانظر إلى أدلة أهل البدع، لترى العجب العجاب فإن أدلتهم تتنوع إلى ما يلي: الدليل الأول: عمومات بعيدة ليست في موضع النزاع، وليست فيما اختلف فيه، لكنهم يدخلون ما يشاءون ضمن هذا التعميم الأول.
والدليل الثاني: الحديث الموضوع.
والدليل الثالث: فعل المشايخ.
والدليل الرابع: إجماع الأمة في العصور المتأخرة عليها.
فتقرأ أدلة كثيرة كلها لو دققت فيها فهي لا شيء، وليس منها دليل في الحقيقة، وهذه من علامات أهل البدع، في هذه البدعة وفي غيرها، وهذا منهجهم، وهذه طريقتهم.
أما الرجل من أهل السنة فإنه يقول: فعلت كذا لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعله، وقلت كذا لأن الله تعالى قال كذا، فالحق واضح مثل الشمس، فهؤلاء ليس عندهم أي دليل على اختصاص هذا الشهر بعبادة معينة، لا دليل على الإطلاق، بل القرآن الكريم الذي يقرؤه كل أحد، قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيه: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة:36] فما الذي نفعله فيها قال: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36] أي: أن الأشهر الحرم لها فضل زماني عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد شرع الله لنا أموراً لها فضل زماني، كما شرع أموراً لها فضل مكاني، فـ مكة -مثلاً- لها فضل مكاني ولها حرمة، والزمن له حرمة، فما الذي شرع في هذا المكان، أو ما الذي شرع في هذا الزمان؟ قال تعالى: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36]، أي: إذا كان الإنسان لا يُؤدِّي الصلاة جماعة، نقول له: حتى في الشهر الحرام لا تؤديها جماعة، فالذي لا يُؤدي الصلاة جماعة آثم في جميع السنة، وهو في الشهر الحرام وفي البلد الحرام أكثر إثماً، والذي لا يغض نظره، فكلما رأى امرأة شاردة أو ورادة ينظر إليها فنقول له: يا أخي! اتق الله، أنت في البلد الحرام.
وكذلك يا أخي! اتق الله، فأنت في شهر حرام، فهذا هو المقصود من قوله تعالى: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36].
فإذا كنت حريصاً على طاعة الله، فليكن حرصك على طاعة الله في الشهر الحرام، أو في البلد الحرام أكثر، فلا يوجد خصوصية معينة إلا ما شرعه الله -مثلاً- في البلد الحرام، كالطواف، والحج، والعبادات المشروعة فيه، وهذه خاصة به، لكن غير ذلك، فالظهر في البلد الحرام أربع ركعات، وفي غيرها أربع ركعات، فلا أزيد على ذلك، وألتزم بالصلاة على وقتها في البلد الحرام أكثر، وأكون حذراً من تفويتها فيها أعظم مما أكون في غيره، وكذلك في الشهر الحرام.
والناس يغفلون عن مسألة الحرمة للزمان أو المكان، ويأتون بما لم يشرعه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فيدَّعون لـ مكة، أو لـ منى من الحرمات ما لا حقيقة له، وفي الجانب الآخر -أيضاً- يدَّعون لبعض الأشهر أو بعض الأيام المفضلة أو المحرمة ما لا حقيقة له، والمقصود أن هذه الليلة لم يثبت في فضلها أو خصوصيتها شيء.(11/12)
دراسة التربية الفنية
السؤال
أنا طالب في الجامعة، وتخصصي التربية الفنية، وهذه هي السنة الثانية لي، وقد نصحني بعض الأصدقاء بالتحويل إلى كلية الشريعة، وأنا متأكد من حبهم لي وجزاهم الله خيراً، ولي رغبة أنا أيضاً في الشريعة، فما رأي فضيلتكم، وأنا أحب أن أدعو إلى الله، فهل يمكنني أن أدعو عن طريق التربية الفنية؟
الجواب
ننظر إلى هذا الأمر من جانبين: الجانب الأول: هذه القضية في عمومها.
والجانب الآخر: هذا الأخ في ذاته بخصوصه.
أما مسألة وجود التربية الفنية، فنقول: لو استطعنا ألَّا يكون في مدارسنا تربية فنية أصلاً، أو في المجالات العامة على الأقل، لكان ذلك خيراً، ونحن الآن لا نستطيع أن نلغي قسم التربية الفنية من الجامعة عملياً.
إذاً: يجب أن نخفف ما أمكن، ويجب علينا أن نجتهد لإصلاح المناهج بهذا القسم، ويجب علينا أن نلتزم في هذا القسم، وفي هذه المادة، بألا نخرج عن المباح، وفي المباح سعة والحمد لله، وقد يكون مجالاً للدعوة لو استغل، لأن أي مجال هو في أصله حلال، وليست الحرمة فيه من أصله، يمكن أن يستغل في الدعوة إلى الله، كالكيمياء أو الفيزياء أو أي مجال حتى التجارة.
أي شيء ما لم يكن من أصله حراماً يمكن أن يُستغل ويستفاد منه في الدعوة إلى الله، فيمكن وببساطة أن توضع مناهج في قسم التربية الفنية لا منكر فيها، ويمكن إن كان ولا بد من تقرير مادة التربية الفنية أن تقرر بما لا منكر فيه، فالتربية الفنية منها الخط، ومنها ما لا روح فيه، ومنها الحديث عن المشاعر الإنسانية تجاه هذه الأمور.
إذا كان الحديث عنها بما يتفق مع ما في كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كالاتعاظ بما يشاهده الإنسان في الكون من آيات الله، وأمثال ذلك، فهذه أمور قد تكون مجالاً خيِّراً للدعوة.
لكن أن تصوَّر ذوات الأرواح، وخاصة إذا كانت باليد والنحت والتماثيل فهذا لا يجوز، وهذا منكر، فإذا كنت في هذا القسم لا تستطيع أن تتخلص من هذا المنكر، فحينئذٍ يجب عليك أن تتركه، وإذا كنت تستطيع أن تتجنبه أو أن تكون مجاهداً لتجنبه، ولمن بعدك أن يتجنبه، فأقول: نكون جميعاً يداًً واحدة من أجل إنكار هذا المنكر، ثم بعد التخرج إن كانت الوزارة لا يلزم منهجها بمحرم، فالحمد لله هذه نعمة، واجتهد وادع إلى الله، وإن كانت فيها ما يرتكب به الحرام فلنتعاون على أن نزيله، فإن عجزنا ولم يبق إلا أن نفعل المحرم فلا نفعله، فلا يجوز من أول الأمر أن نترك هذه الجوانب لغيرنا، من الفجار والفساق، يرسمون المناظر الخليعة، ويَعلمون الشباب ويفسدون عقولهم، يأتي أستاذ الفنية بعد أستاذ التوحيد -مثلاً- فينسخ ما قاله أستاذ التوحيد أو التفسير بصورة خليعة أو بمنظر قبيح أو بكلمة خبيثة.
ويجب أن نتفطن إلى أمر آخر عظيم أكبر من مسألة التصوير، وهو أن المذاهب الفنية الآن عقائد إلحادية، وهي جزء مما يُسمى الحداثة، والحداثة كلمة جديدة لكن هي معنى كلمة: اللامعقول، أو الضياع، فإتجاهات الضياع والفلسفات الضائعة في العالم، منذ أكثر من مائة سنة في أوروبا، وصلتنا هنا -مع الأسف- فتجد الإنسان يرسم لك لوحة ويقول: أنا سريالي، والآخر يقول: أن واقعي، وهذا انطباعي، سبحان الله وأنت لا تدري ما القصة؟ نحن درسنا -مثلاً- في الابتدائي التربية الفنية، كنا نرسم منظراً، أو نرسم شجرة أو جبلاً مثل الجبل الذي خلقه الله، ونأخذ درجة وننجح.
لكن الآن يأتي الإنسان بألوان عجيبة وخطوط متعرجة، ثم يقول لك: هذا حلم! ولا أفهم كيف رسمه حلماً، لكنه يقول لك: ذلك وإذا كنت سريالي، ومعنى السريالية ما فوق الواقعية، يقول لك: ليس الفن محاكاة الطبيعة، فحاكي الطبيعة يرسم مثل الطبيعة، لكن ارسم حلماً! ارسم الأمل حينما ينبعث من القلب! ولا أعرف كيف أرسمه في لوحة، وكل إنسان يمكن أن يقرأها أو يفهمها أو يفسرها على مزاجه، وكلما كانت أغمق وأعمق كانت أكثر إبداعاً في نظرهم، وهناك مذاهب كثيرة.
فأصبح الطلاب في الثانوية يتعلم الإنسان منهم أن يكون سريالياً أو واقعياً، وبعض هذه الأفكار يسارية، وبعضها ثورية، وبعضها إلحادية، وكلها جاءتنا من بيئات كافرة وكلها غير إسلامية، وإن اختلفت في التسميات، فأقول: إذا كان هذا، فلا يجوز أن يترك هذا الجانب بالكلية، بل أحياناً قد يرتكب المنكر الأخف في مقابل دفع المنكر الأعظم، وأرجو أن تفهموها على عمومها في هذا المجال أو غيره، إذا كان ارتكابنا للمنكر الأخف يُؤدي إلى دفع المنكر الأعظم؛ فلا بأس بذلك إن شاء الله، وهكذا الحياة، وهكذا الدعوة إلى الله، لا بد فيها من تحمل أشياء، لا سيما في زمن الانحراف، فنحن قد لا نستطيع أن نفعل شيئاً من الحق إلا بارتكاب بعض الشيء مما يكون فيه بعض الخطأ أو بعض المنكر أحياناً.
وأقول: إن الأمر كذلك، لأن الزمان قد فسد، ولا بد أن نختلط بالناس -مثلاً- ونحن نكره ذلك، وفيه ما فيه، لكن لا يمكن أن ندعوهم إلا إذا اختلطنا بهم، ولا بد أن نُشارك في بعض الأعمال، وإن كان فيها ما فيها، وأن ندخل بعض المجالات وإن كان فيها ما فيها، لكن ما دام لدينا هدف أعظم وأسمى، فلنصبر ولنتحمل ولنسلك هذه المجالات بعد ذلك على هذا الأخ في ذاته أن يستشير ويفكر، ونسأل الله أن يختار لنا وله الخير، إنه سميع مجيب.(11/13)
حكم شرب الدخان وحلق اللحية ولعب البيلوت
السؤال
ما هو حكم شرب الدخان؟ وأيضاً حلق اللحية؟ ثم حكم لعب البلوت؟
الجواب
أما التدخين فقد سّقَيْتُم بدعوة غيركم مع الأسف، فالأمة الإسلامية أمة خُلقت لتكون قائدة، وإذا بها مقودة، خلقت لتكون رائدة وإذا بها آخر الركب، كان همَّ السلف الصالح رضوان الله عليهم أن يقودوا العالم إلى الخير، فكانوا أئمة يهدون بأمر الله، صابرين، موقنين، فجئنا في آخر الزمان فجعلنا همنا أن نلتحق بركب الحضارة، وأن نتعلق بالذيل حتى في كل شيء، وقد جعلنا هذا هو همنا وهدفنا.
ولهذا حرمت أمريكا التدخين، وحرمته بريطانيا، وحرمته اليابان، ومنعوا التدخين وحاربوه وكافحوه، فبدأ بعض الناس عندنا يُحارب التدخين ويمنع التدخين، لكن قبل سنوات كان التدخين من علامات الرجولة، فالذي بدأ يدخن يقال: إنه صار رجلاً، إذا جلس المجلس وأخرج السيجارة وبدأ يدخن، أو يشرب الشيشة فكأنها كانت علامات للالتحاق بركب الحضارة الأوروبية الفاجرة.
فأقول: هل نعرض في تحريم التدخين الأدلة الشرعية؟ ونطبق قواعد الأصول عليه: أنه خبيث، وأنه ضار، وأنه يكلف الأمة كذا، سبحان الله! اسأل كل مدخن عن التدخين، ماذا يقول لك؟ هل فيهم من يقول: إنه لذيذ وصحي ومنعش؟! لا يمكن أبداً، وإن كانت الدعايات تزينه باسم المتعة والنكهة والحياة، وهذا كذب، وهو يعرف أنه كذب، ويقول: هذا شر، بل من الناس من يدفعه حياؤه من التدخين ألاَّ يُدخن إلا في دورة المياه -أعزكم الله- ولو كان شيئاً مما يحبه الله ويرضاه؛ لأخرجه أمام الناس، لكن إذا جاءه شخص مثله مدخن انبسط إليه لأنه مثله، وإذا جاء من يستحيي منه ذهب إلى حيث الشياطين، إلى بيت الخلاء! ونقول: ليست القضية قضية التدخين ومعرفة حكم التدخين، بل القضية هل القلوب حية أم ميتة ومريضة؟ هذه هي القضية، وعلامات القلب المريض كثيرة، ومن أوضحها: أنه أمامك يقول: هذا ضار، وهذا فيه.
ثم يقول: لكنه مكروه، فتراه يُجادل في الدين، ويتكلم بما لا يعلم، فيزيد على ارتكاب المحرم أن ينصب نفسه مفتياً، ليقول: مكروه، فيجعل لنفسه عذراً أن يرتكبه، وهذا هو حال الذين يخادعون أنفسهم، ومريض القلب لا تأمن عليه أن يفتري على الله، وأن يقول الكذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يقول: هذا الدين كذا، والحق كذا، وهؤلاء المتشددون كذا، ويطيل في كلام يعلم أنه باطل، لكن أصل القلب مريض، والأمة مريضة.
اليابان منعت وبحزم وقوة التدخين في القطارات، ولو كانت الرحلة من جنوب اليابان إلى شماله، ونحن أمة القرآن والإسلام، مع علمنا بأن التدخين مضر ويجب أن يمنع في كل الأوقات والأماكن، لكننا نجد بعض الناس يعترض على منعه لمدة ساعة وربع إذا كانت الرحلة داخلية وكأنهم يمنعون التدخين من أجل غيرنا لا من أجلنا نحن.
ديننا يحرم علينا الخبائث ومع ذلك لم يمتنع الناس من التدخين، وهؤلاء ليس لهم دين، وتجد مع ذلك أن اليابان حرمتها في كل مكان، وأمريكا وبريطانيا نسبة انخفاض التدخين فيها (15%) سنوياً، والإحصائيات التي عرضها الدكتور محمد علي البار من مصادر عالمية أن في الدول الأوروبية ينخفض التدخين بنسبة (15%) سنوياً، لأن ضحايا التدخين في أمريكا مثلاً (300.
000) سنوياً، وأمريكا لم تخض حرباً خسرت فيها سنوياً (300.
000) ولا (3000)! لكن التدخين يقتل (300.
000) سنوياً فهي تحاربه أشد المحاربة، بينما نحن -مع الأسف- ترتفع احصائيات نسبة التدخين في سنوات في المملكة بنسبة (850%) بسبب العمالة الوافدة والشباب المتأثر بالعادات السيئة نعم! هناك إجراءات للحد من التدخين لكنها غير شاملة ولا كافية، بل دون المتوسطة، فالصحافة الداخلية منعت من الدعاية للتدخين، لكن المجلات والصحف التي تأتي من الخارج فيها أضعاف أضعاف ما في الصحافة الداخلية.
اللحية فيها حكم شرعي، وبعض الناس يقول: (أنا لا أهتم بالشكليات، وهذه أمور ظاهرية، ونحن يهمنا أن ندعو إلى الله، وأن نهتم باللب ونترك القشور!).
وهذا فهم قاصر لأنه ليس في ديننا قشور ترمى! بل ديننا كله لب وخير نعم! فيه أهم ومهم، وركن وواجب ومندوب، لكن لا يقال: قشور!! ثم إن عادة الناس أن الشيء الشكلي يكون أسهل وأبسط من الأساسي، فمثلاً: لو كانت الجندية أن ألبس بدلة عسكرية فحسب لكان الأمر هيناً، أما أن أتمرن وأتدرب وأجري وأركض فهذا شيء صعب، فالشكل سهل لكن الحقيقة صعبة، فإذا لم يعمل الإنسان بالشيء السهل والهين فلا شك أنه على الواجب والأمر الشاق أضعف وأجبن.
تقصير الثوب أرضى لربك وأطهر لثوبك، وهو لا يكلفك شيئاً إلا أن تأتي الخياط ليقصره قليلاً من ستين سنتمتر إلى ثمانية وخمسين سنتمتر، فتكون قد أبعدت نفسك عن الوعيد وعن مشابهة العصاة، وتأسيت بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه، وإذا لم تفعل -وهو أمر سهل وشكلي وبسيط- فأنت عن فعل الواجب أضعف، ولتركه أحرى وأجدر.
الإيمان بالله سهل وهين لكنه تكاليف وفيه الخير كما قال الله تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} [النساء:39]، ماذا على الإنسان إذا آمن بالله وهو سهل التكاليف؟! بل إن أعباء الإيمان أسهل من أعباء الكفر والشرك والإلحاد! لأنك إذا لم تحارب في صف المؤمنين حاربت في صف الكافرين، وإن لم تتبع الرسول اتبعت أبا لهب وأبا جهل وفرعون، فهذه مشقة وتلك مشقة، لكن شتان بين هذه وتلك! ماذا يضيرك أن تعفي لحيتك كما كانت سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ والله لا يضيرك شيئا، ً بل هذه فطرة ورجولة فوق أنها سنة، بل الناس عندما كانوا على الفطرة لم يكن فيهم من يحلق لحيته، انظروا صور عظماء وأبطال العالم الغربي في القرن (19 و18م) فالزعماء والسياسيون والعلماء والمخترعون كلهم ملتحون، ولم يعرف حلق اللحية -حتى في الغرب- إلا منذ زمن قريب، ولم يعرف في البلاد الإسلامية إلا مع مجيء الإنجليز والفرنسيين، وكان أمراً لا يفعله أحد، وفي بلادنا أعجب وأعجب، فكل الناس -الذي يصلي والذي لا يصلي والذي يعرف الدين والذي لا يعرف الدين عندهم اللحية علامة الرجولة- فإذا عزمك وضع يده على لحيته، وإذا وعدك أمسك لحيته، إذا قالوا: كم قتلنا من بني فلان؟ قالوا: عشرين لحية، يعنون عشرين رجلاً لأن اللحية رمز الرجولة.
هذا للتذكير بالفطرة، والفطرة في كل شيء وليس في شأن اللحية فقط، فكل من يُحب شخصاً فإنه يقتدي ويتشبه به وإن لم يأمره بذلك، والإنسان الذي يُحب اللاهين واللاعبين والمطربين والمجرمين يعجب بصورتهم وبأشكالهم وبكلامهم وبلباسهم، فيقتدي بهم وهو لم يأمره ولم يجبره على ذلك، وما أمر المجرم المطرب اليهودي الماسوني مايكل جاكسون وأمثاله ببعيد، إذ قيل له: إن العرب يسمعون أغانيك فقال: لو أعلم أن العرب يسمعون غنائي لاعتزلت الغناء! حقداً وبغضاً في العرب؛ لأنه يقول: أنا من شهود يهوه -منظمة يهودية معروفة- فصرح بأنه من هذه المنظمة اليهودية، ومع ذلك أعجبوا به! فبالله عليكم من يُحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وأين الثرى من الثريا- ويريد أن يكون من أهل الجنة، ومن أهل الخير والفضيلة ومن الأئمة، وليس تبعاً ولا ذيلاً ألاَّ يقتدي ويتشبه به، وإن لم يأمره؟ فكيف وقد أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! وأضف إلى ذلك أنه لم يأمره فقط، بل أخبره أن هذه شعيرة أعدائه، فقال: {خالفوا المجوس}، وهم أشد كفراً من أهل الكتاب، ومع ذلك نفعله طواعية.
وأما لعب البليوت فأين نحن من السلف الصالح؟! إذ كان أحدهم -أظنه طلحة بن مصرف رضي الله عنه- جالساً فدخلت عليه ابنته، وكان معه بعض العلماء من السلف من أصحابه يتحدثون ويذكرون الله، فدخلت ابنة له صغيرة، فقالت: يا أبتاه! أريد أن ألعب! فأعرض عنها، ثم قالت: يا أبتاه أريد أن ألعب! فأعرض عنها واشتغل، فأطالت الكلام لأن الطفل يلح ويلح، فقال له أحد أصحابه: قل لها: العبي حتى نستمر في الحديث وتذهب الطفلة، قال: 'لا أريد أن أجد في صحيفتي لعباً' وهو من المباح! لأن بعض السلف يرى أن كل ما يقوله الإنسان يكتب، وبعضهم يرى أنه لا يكتب إلا ما يتعلق بالحلال والحرام، فلا يريد أن يجد في صحيفته كلمة (العبي) فضلاً أن يلعب هو، بل لو قالها لقالها لطفلة صغيرة لا مؤاخذة عليها، ونحن أمة لاعبة لاهية في كل شيء حتى في حق الله.
ومن هذا العبث أني مرة قرأت لأحد الوزراء -وكان وزيراً وشاعراً- يقول مستحسراً: لو كان الشاعر من الشعبية مثل لاعب الكرة! أي: كان هذا هو الذي ينبغي وهذا عجيب.
سبحان الله! فأمة لاعبة لا يمكن أن تنتصر، ولا أن تحقق ما أراد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولا ما تريد هي لنفسها أبداً.
بل تفكر في عمرك -وأكثر الأمة لا يجاوز عمرها الستين ونحوها- كم للنوم وللأكل والشراب؟ ما يقارب النصف، وقد أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه: {لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه}، وهذا مما يسأل عنه، فإذا أبليت الساعات الطوال - البلوت لا بد من الطول فيه، بل أشواطه أطول من أشواط الكرة- وأفنيتها في اللعب واللهو فإنك لن تجد الحسنات يوم القيامة.
والشاب الجاد لا يجد من الوقت ما يفعل به بعض الواجبات؛ فكيف باللعب؟ ولهذا قال بعض الصالحين لما مر على أناس وجدهم في ملهى -مثل المقهى الآن- تحسَّرِ، وقال لمن كان معه: (لو أن الوقت يُشترى لاشتريت من هؤلاء أوقاتهم).
فهو يريد أن يكمل القرآن والتفسير، أو الحفظ، أو أن يقرأ من السنة، أو يعلِّم، أو يدعو إلى الله، أو يعمل أعباء(11/14)
الغزو الفكري
السؤال
فضيلة الشيخ: إننا نحبك في الله ماهو الغزو الفكري؟ وما خطره على الإسلام؟ وما رأيكم في كتاب سلمان رشدي مصائد شيطانية الذي أحدث ضجة في العالم؟ والذي يدور حوله هذا الكتاب؟
الجواب
الغزو الفكري شرحه يُذكرني بكتاب هارون الرشيد إلى نقفور لما كتب إليه كتاباً فردَّ هارون الرشيد عليه بقوله: [[الجواب ما ترى لا ما تسمع!]].
فالغزو الفكري هو واقع الأمة الذي نراه ونلمسه، أمة مغزوة في كل جانب، ما ترك أعداء الله وسيلة إلا واستهدفونا بها خاصة في هذه البلاد، لأننا نحن قلب العالم الإسلامي، ونملك من مقومات القيادة ما يجعل أعداء الإسلام يحقدون علينا وينقمون منا ويخططون لنا أضعاف ما يخططون لغيرنا؛ لأنه كلما كان العدو أقوى كان حرصك على تدميره أكثر، ونحن نمتلك من مقومات البقاء ما منَّ الله به علينا -ونسأل الله أن يديمه وأن يزيده قوة- ولهذا فهم يهدفون إلى تحطيمنا وتدميرنا بالشهوات والشبهات أكثر بكثير من غيرنا.
انظر إلى ما حولك! واذهب إلى المكتبات ستجد الكثير من الكتب والمجلات تسهل الغزو الفكري، اذهب إلى المناهج ستجد الغزو الفكري دخل وتغلل فيها، اذهب إلى أمورنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية لترى آثار الغزو الفكري في كل مكان، في المرأة المسلمة، والتاجر، حتى الطفل جعلوا له مجلات خاصة، وبعضها يتكلم عن وحدة الوجود وعن ابن عربي والمعراج الروحي سبحان الله! حتى الصوفية الكافرة الحلولية الوجودية تذكر في مجلات الأطفال! وغير ذلك كثير.
الأفلام ووسائل الإعلام العامة، حتى تفكير الناس واهتماماتهم تغيرت، كانوا قبل سنوات يهتمون بأمر الآخرة، أما الآن فقد شغلتهم الأعمال والمؤسسات والتجارات، ويا ليتهم يبنون لهذه البلاد ولهذا الدين! وإنما يفتخر هذا بأنه يبيع لليابان، ويفتخر هذا بأنه يبيع بضائع أمريكية! والمستفيد أعداء الله يأخذون أموالنا ويعطونها لأولئك وتكون لهم نسبة، وهكذا أصبحت حياتنا مغزوة من كل جانب، حتى المساجد لو استطاعوا أن يجعلوا فيها الصلبان لجعلوه فيها، ولو استطاعوا أن يعبثوا أكثر لعبثوا، ونحن في غفلة! فهم يخططون وبإحكام رويداً رويداً، ويأتون بقضية من القضايا ليروا رد الفعل، فإن أنكرها الناس سكتوا وأخروها، وإن سكت الناس، وقالوا: بسيطة وصغيرة أتوا بما هو أكبر وأكبر، فإذا استحكم الأمر نظر أهل الحق بعضهم إلى بعض، ووجدوا أنفسهم قلة فرادى حيارى لا حول لهم ولا قوة، وهكذا في كل أمر من الأمور.
ترى أقلاماً صغيرة فيها صور خبيثة، وعلبة كبريت فيها صورة خبيثة، وعلبة الصابون كذلك، فكل شيء تراه في حياتك اليومية لا تجد فيه شيئاً يذكرك بالله، وإنما يذكرك بالشهوة، وبإضاعة العمر، وبكل ما يبعدك عن الله وعن اليوم الآخر، فقد دخل الغزو الفكري في كل المجالات.
ولكن نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفق الدعاة والقائمين على أمر هذه الأمة من العلماء وكل من يهمهم أمرها إلى القضاء عليه ومحاربته ومكافحته، فنحن ما ترك سبيل إلا واستُهدِفنا به، وأذكر مثالاً واحداً وهو المخدرات، ففي أمريكا تباع بالملايين، ويقبض على العصابة بأشد الطرق تطوراً، وإذا قبض على كيلو أو كيلوين من الحشيش في أحد المطارات ثارت ضجة إعلامية حولها.
لكننا نحن نستهدف بكميات كبيرة جداً وشبه مجانية؛ لأن وراء هذه المخدرات مجتمعات تعادي هذه البلاد وتعادي الإسلام، وتريد أن ينتشر هذا الداء ولو دفعوا من أجله، بل حتى أفلام الفيديو في أمريكا أغلى من هنا، وبعض المواد التي تحتوي على شحوم خنزير هناك غالية، وتأتي إلى بلاد المسلمين فتجدها رخيصة، وأشياء كثيرة لا يمكن أن تفسرها إلا أن هناك غزواً وتخطيطاً حتى في النواحي المادية، وهم يعبدون المادة يعبدون الدرهم والدينار والدولار، لكنهم يضحون بها من أجل أن يفسدوا شباب الإسلام في كل مكان.
أما موضوع سلمان رشدي والقصائد الشيطانية والضجة التي أحدثها، فأنا أعجب من الضجة ولا أعجب من الكتاب ولا من المؤلف، فهو كاتب معادٍ للإسلام أو مرتد، سواء كان الاسم حقيقياً أو وهمياً، ومن أي بلد كان، ولم يأت بجديد، لأن الإسلام يستهدف ويكتب عنه في كل زمان ومكان.
والذي أتعجب منه أن الرافضة يعلنون استنكارهم منه وردته وقتله، وتتأزم العلاقات مع بريطانيا من أجل ذلك، مع أن ما قاله سلمان رشدي أقل بكثير مما قالته الرافضة في كتابهم الكافي، بل فيه أضعاف أضعاف ما قاله سلمان رشدي من الاستهزاء والسخرية، وقذف أمهات المؤمنين وقذف الأنبياء والتطاول على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
نحن المسلمون كما مثَّل مالك بن نبي عندما قال: إنه يمارس على المسلمين مثل ما يحدث في مصارعة الثيران: خرقة حمراء يلوح بها المصارع، والثور بقوته وعضلاته ينطح الخرقة، ويكرر ويكرر، ثم يطعنه المصارع من الخلف حتى يموت! كلما رأونا اتجهنا اتجاهاً صحيحاً رفعوا لنا خرقة حمراء فشغلونا بها، إما أن شغلونا بـ سلمان رشدي، أو بطفل الأنابيب، أو بأي أمر آخر، إنهم يريدون أن يشغلونا عن خططهم التي تفتك بنا في بلادنا.
بل إنهم نجحوا في بلاد قريبة عربية في منع أي كتاب لـ ابن تيمية أو محمد بن عبد الوهاب بل ربما القرآن! وقد تتهم بذلك وتدخل السجن! هذا في بلاد فتحها الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- بل بعض هذه البلاد لا مصدر لها لمعرفة الدين والحق إلا برنامج (نور على الدرب!) وهناك أمم بأكملها بهذا المثابة لا تذكر، فإذا جاء مجنون في آخر الدنيا صحنا وشجبنا واستنكرنا.
نعم! ينكر على من يقول في الله وفي رسوله مالا ينبغي وندين هذا الشيء، لكن لا نغفل عما هو أكبر وأشد وأعظم وأقرب أو نتناساه، بل لا بد أن يكون موضوع بحثنا دائماً عن هذا الخطر الداهم الساحق، وهو استئصال الإسلام في بلاد الإسلام الذي فتحها الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- ثم بعد ذلك أحوال المسلمين عامة كـ أفغانستان مثلاً وهي تمر بأخطر مرحلة في هذه الأيام.
وأشير إلى معنى الدعاية -كاستطراد- فهي قد تطلق كلمة ويرادبها الحق، وقد تطلق ويراد بها الباطل، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما كتب إلى هرقل وقال له: أدعوك بدعاية الإسلام.
أي: دعاية الحق.(11/15)
حكم التورية
السؤال
ما حكم التورية؟ وهل ورد ذلك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
الجواب
التورية والمعاريض وردت في مواضع منها ما ذكر السؤال في السيرة ومنها غير ذلك، والضابط لها هو ألاَّ تكون كذباً صريحاً، بأن يفهم السائل أو المخاطب فهماً من النص، ولكن المتكلم يريد غير ذلك، ولكن ما فهمه صحيح من حيث اللفظ، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال للرجل: {نحن من ماء}، وهذه حقيقة فنحن خلقنا الله من ماء، لكن من ماء مهين، والأعرابي ظن من موضع فيه ماء، وكما قال الخليل عليه السلام: هذه أختي، ففهم المخاطب أنه يعني أخته شقيقته، وهو أراد أخته في الدين.
فهذه اللفظة صحيحة من زاوية المتكلم ويقصد بها معنى آخر، ويظن بها المستمع معنى صحيحاً، وأمثال ذلك كثير، ونحن قد نحتاج إلى المعاريض، ولكن ليس أسلوب المؤمن هو المخادعة، ولا أسلوب السياسة الحديثة -الغاية تبرر الوسيلة- بل المؤمن إنسان صادق، لكن تأتي مواقف يضطر فيها إلى أن يقول بالمعاريض أو التورية؛ لأن المؤمن لا يكذب، ومع ذلك يُراعى ألاَّ يكثر من المعاريض؛ لأن الإكثار من أي شيء قد يخرج الإنسان عن الحد الشرعي له، وربما تجاوزه إلى المذموم.(11/16)
المسلم والدين
السؤال
كان أخي في شركة مازدة أقام في الشركة الصلاة ولم تكن تقام فيها، وعندما جاء مسئول نصراني كان أول عمل عمله أنه طرده من الشركة؛ لأنه يزعجه بالأذان والإقامة؛ فكيف يحارب الإنسان في بلده؟ ولم جعلت السلطة في يد الكافر؟
الجواب
الحقيقة أن هذا المسلم ضعيف؛ لأن السلطة ما جعلت للكافر على المسلم، لكن هناك أناساً باعوا دينهم بدنياهم من أصحاب الشركات والمؤسسات من الذين يهمهم الربح فقط، سواء كان العامل كافراً، أو رافضياً، أو صوفياً ملحداً لا يهمه، المهم تاجر يمشي بضاعته وتجارته، فلا يمكن في بلد الإسلام أن يطرد الإنسان لأنه يؤذن ويصلي إلا إذا كان هذا الإنسان ضعيف، أو أن تكون الهيئة في تلك البلد ضعيفة، أو لا يوجد أحد من أهل الخير ذو شخصية قوية، وعلى الأخ أن يتأكد مما قال، وأنا -إن شاء الله- سأبذل ما أستطيع، فلا يمكن أن يكون هذا الكلام صحيحاً بالإطلاق.(11/17)
خطر الاختلاف
السؤال
نرجو من فضيلتكم كلمة تنصح بها بعض الشباب الذين نزغ الشيطان بينهما حتى تباغضوا وتحاسدوا، وحتى أصبحوا يتنازعون على الجزئيات فتعطلوا بسبب ذلك عن الدعوة في سبيل الله، جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أذكركم بأن هذه هي التي سماها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحالقة، فقال: {لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين} فالتفرق والبغضاء والشحناء نهى عنها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105]، فالتفرق يكون في الدين بالبدع، ويكون بالشحناء التي كانت غالباً ما تؤدي بأصحابها إلى البدع، حتى قال بعض السلف لما سئل ما الذي دفع أهل الأهواء من القدرية والمرجئة والرافضة إلى البدع؟ قال: الخصومات! فقد كانت البدعة فكرة يمكن أن يقولها الشخص ويمكن ألاَّ يقولها، لكن لما خاصمه فيها آخر اشتدت واشتدَّ، وأخذ يبحث عن أدلة وعن مؤيدين، فاشتد الآخر وأخذ يبحث عن أدلة ومؤيدين، فأصبح هذا على فرقة وهذا على فرقة، والأصل أنها كانت فكرة، أو كلمة عابرة كان يمكن أن توأد وتذهب، فاحذروا الخصومات، واحذروا الاختلاف.
وأقول لكم: لو أن شباب أهل السنة الذين يؤمنون بالكتاب والسنة، ولا يدعون إلا إلى الله وحده، ولا يهمهم إلا اتباع الحق وهدي السلف الصالح لو يتركون كل الخلافات والجزئيات وما أشبه ذلك، ويجتمعون كلهم من جميع أنحاء العالم وقاوموا البدع لربما لم يستطيعوا أن يقضوا على بدعة واحدة! فما بالكم إذا تفرقنا واختلفنا وتجادلنا وأضعنا الأوقات؟! فالله المستعان! نسأل الله أن يبصرنا جميعاً في الدين ويجنبنا الفرقة والاختلاف.(11/18)
طريقة طلب العلم
السؤال
هذا سؤال من شقين: الشق الأول يقول فيه: ما هي طريقة طلب العلم؟ هل هي بالقراءة أم أخذاً برءوس أقلام الفتوى وكفى أم ماذا؟ ثم في الشق الآخر: هناك بعض الشباب من يرى أن إصلاح المجتمع يكون بأن نتعلم ونجلس في غرفنا على الكتب، وعدم الحركة ثم بعد ذلك ندعو، والفريق الآخر يرى أن إصلاح المجتمع في التربية والاحتكاك ومناقشة المعارض، فأي الطريقين خير؟
الجواب
طريقة طلب العلم ليس كما قال الأخ رءوس أقلام! فطلب العلم من الجهاد، والإنسان يطلب المزيد من العلم، وهذا الذي أمر الله تعالى به نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أعلم الناس بربه، فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114]، فالإنسان يحرص على طلب العلم، وهذا هو ميراث النبوة، وليس هناك أعظم من هذا الميراث، ويجب علينا أن نجتهد -حسب الطاقة والإمكان- في تحصيل العلم النافع الذي يُقرب إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا نكتفي بالقراءة عن السؤال، ولا بالسؤال عن التمحيص والتدقيق والفهم والاجتهاد، ونشتغل بالعلم، وليكن ذلك هو طلبنا، وسير السلف الصالح عجيبة في هذا الشأن، فقد كانوا يتذاكرون ويقرءون ويتبادلون ويتساءلون، ويكتب بعضهم إلى بعض وغير ذلك، كما كتب الخطيب البغدادي وغيره في هذا الشأن.
أما بالنسبة لاختلاف نظرة الشباب في إصلاح المجتمع، فواحد يقول: أتعلم أولاً ثم أدعو ثانياً، والآخر يقول: ندعو الآن، وبعضهم يقول: لا نحتاج للعلم، لأن العلم قد يُؤدي إلى الكبر والغرور، أو إضاعة الوقت، فندعو ولو على جهل! والمسلم وكل مسلم داعية بحسبه، حتى العامي داعية، مثلاً: إذا كان يمشي في الشارع ورأى شخصاً لا يُصلي، والناس يذهبون إلى المسجد، فهنا لا بد عليه أن يقول له: (يا أخي! قم صلِّ) فهو داعية في هذا الامر؛ لأن كل واحد يعلم أن الصلاة واجبة، والأذان قد أذن، والناس يدخلون المسجد، وهذا جالس! فالعامة يجب أن يأمر بعضهم بعضاً بالصلاة وما علم من الدين بالضرورة، أما إذا كنت تقصد بالعلم الإنكار على أهل البدع، والتصدي للغزو الفكري وما أشبه ذلك، فنعم؛ عليك أن تتبحر وتتوسع في العلم الشرعي لتقاوم به هذه الضلالات، ولكن لا تنس أن تقول للناس الأمور البدهية والمعروفة وتذكرهم وتعظهم ولو بما يعرفون، تذكرهم بالجنة وبالنار، ومعنى شهادة لا إله إلا الله وشهادة أن محمداً رسول الله، وبأركان الإسلام، وبالحث على الصلوات، وبر الوالدين، وأمثال ذلك من الأمور الواضحة.
فكل مسلم هو داعية إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بما علم، فإذا علمت آية واحدة فبلغها؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {بلغوا عني ولو آية} فإذا علمت حكماً واحداً، فادع إلى الله، وبين للناس هذا الحكم، فإن سألوك عما لا تعلم فقل: لا أعلم، لأنه لا يشترط إذا قلت للإنسان: (يا أخي! هداك الله، أذن المؤذن قم إلى الصلاة) أن أكون حافظاً لجميع أحكام الصلاة! فندعو إلى الله بما نعلم؛ كل بحسبه، وكل في موقعه، أما المسائل العميقة، والفتوى في الأمور الدقيقة، والنوازل العصرية، والفرق الضالة فلا بد من علم قوي، ولا بد أن يكون في الأمة من هو كذلك، لكن لو أن طاقاتي لا تؤهلني إلى ذلك، فإنني أدعو بما أعلم وبما أستطيع، وأحيل على العالم ما لا أستطيع وهكذا، فنكون جميعاً يداً واحدة متعاونة على الخير والعلم النافع إن شاء الله.(11/19)
الكتب التي يبدأ بها طالب العلم
السؤال
امتداداً لما سبق يقول هنا الأخ: ما هي الكتب التي تدلنا عليها في طلب العلم والمختصرات؟
الجواب
أول كتاب هو كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي اتخذه الناس مهجوراً، واتخذوه ظهيراً إلا من رحم الله، ثم إجمالاً أنصح الشاب المبتدئ ألاَّ يبدأ بالمطولات؛ لأن بعضهم يبدأ في الفقه بـ المغني، ويبدأ في الحديث بـ فتح الباري، ثم بـ فتاوى شَيْخ الإِسْلامِ، ولا شك أنه يضيع بهذه الطريقة.
ورحم الله علماء السلف الصالح ومشايخنا وأساتذتنا الذين كانوا في الحرمين وكيف كانوا يعلمون الناس جميع العلوم، ويبدءون بالمتون الميسرة السهلة، ففي الفقه مثلاً يبدأون بـ العمدة وهكذا.
فالمقصود أن نبدأ باليسير السهل في اللغة والتفسير، أو في الحديث والمصطلح وغيرها، نبدأ بالمنظومات السهلة والمتون، ثم بعد ذلك نأخذ الشروح المتوسطة السعة، ثم بعد ذلك نأخذ كتب الحواشي الطويلة ونتعمق فيها بما يفتح الله علينا.
وهذه هي الطريقة الصحيحة والطريقة المعتمدة، حفظ الأساسيات ثم فهم الشروح، وعندما لم نتبع هذه الطريقة وجد فينا الخلل، فتجد الإنسان -ما شاء الله- متقناً مثلاً في حفظ القرآن أو في جانب السنة لكنه مضيع في جوانب أخرى، فجيلنا كله جيل مخضرم في كل شيء، لكن نرجو من الله أن يجعل الجيل -الذي هو الآن ما يزال في الثانويات وفي الجامعات- أفضل حالاً؛ لأنه -والحمد لله- يأخذ المنهج أخذاً متكاملاً واضحاً، الأخذَ السليمَ الصحيح، ولهذا أرجو أن يكونوا أفضل حالاً منا إن شاء الله تعالى.(11/20)
العالم الإسلامي في ظل الوفاق الدولي
تكلم الشيخ حفظه الله في هذا الدرس عن مخططات الغرب في مواجهة الصحوة الإسلامية، وبين الوفاق الذي تم بين المعسكرين الشرقي والغربي، منبهاً إلى ضرورة تآزر الجهود وتوحد المسلمين لمواجهة مثل هذه المخططات، ومبيناً أن المصالح المشتركة بين دول العالم الإسلامي أهم وأعمق من تلك المصالح المادية التي تربط بين غيرهم من التكتلات.(12/1)
أهمية دراسة مستقبل العالم الإسلامي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد أما بعد: فالواقع أن الثورة التقنية التي يعيشها العالم -والتي تسمى بحقٍ ثورة- لم يشهد العالم لها نظيراً من قبل، هي أحد الأسباب التي تجعل مستقبل العالمي الإسلامي في ظل الوفاق الدولي أمراً بالغ الأهمية، دراسةً وبحثاً واستمراراً لما هو موجود من الجهود، من أجل درء الأخطار عن هذه الأمة، ومن أجل تلمس طريق النور في هذا المستقبل المظلم الحالك.
والوفاق الدولي لا يخفى على كثير حاله، حيث كانت هذه الدنيا تحت ظل عصبة الأمم التي كانت هيئة أقرب ما تكون إلى الشكلية، ثم كانت الحرب العالمية الثانية التي قضت عليها، ونتيجة لها خرج المعسكران الكبيران: المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي، الأول: شيوعي ديكتاتوري، والثاني: ديمقراطي ليبرالي.
وكانت مرحلة الأمم المتحدة ومؤسساتها المتنوعة، وكذلك رفع شعارات الإنسانية، وحقوق الإنسان إلى آخر تلك الشعارات التي ظهر زيفها -كما سنستعرض إن شاء الله- والمقصود أن هذين العملاقين -كما يسميان- أو هاتين الكتلتين اقتسمتا العالم، أو اتفقتا على ذلك، على أن هذا الوفاق -الذي يسمى- لم يكن دائماً وفاق محبة وسلام، بل كان الصراع، وكانت الأزمات التي نذكر منها على سبيل المثال أزمة كوبا، بين الرئيسين جون كيندي المقتول وخرتشوف ثم ما حصل بعد ذلك من مرحلة ما يسمى بالحرب الباردة، -الحرب الإعلامية بين الطرفين- حيث كانت المعسكرات الغربية، وبالذات الولايات المتحدة الأمريكية تطلق على الاتحاد السوفيتي: امبراطورية الشر، وامبراطورية الشيطان، وامبراطورية الاستبداد والاستعمار.
وكانت المعسكرات الشرقية ومن لف لفها ينبذون أمريكا؛ لأنها زعيمة الإمبريالية العالمية، والتسلط العالمي، وانتهاك حقوق الإنسان، وحرياته، وثمرات شعوبه، ومقدراتها.(12/2)
اتفاق طرفي الصراع في العالم
ولكن العجب الذي حصل في الفترة الأخيرة: هو ما جرى أولاً في روسيافيك ثم في مالطا من اتفاق هاتين القوتين، فإن العالم كله ذهل ودهش له ولنتائجه، ولا شك أن ما جرى في أوروبا الشرقية وبالسرعة المذهلة التي روعت العالم يدل على أن الأمر جد، وأن الأمر خطير، وأن ذلك الاتفاق له ما بعده.
لقد أعلن كلٌ من الطرفين أنه لن يعادي الآخر، وأشد من ذلك ما أصبح ظاهراً في لهجة زعيم الشيوعية العالمية -التي كانت تندد ليل نهار بخطر الاستعمار الأمريكي- عندما يقول: نحن وهم، فقيل له -أي: جورباتشوف -: من نحن ومن هم؟ قال: نحن الاتحاد السوفيتي وأوروبا وأمريكا وهم: الصين واليابان والعالم الإسلامي.
الوحدة الأوروبية وهي من أعظم ثمرات هذا الاتفاق إن لم تكن من محركاته في الأصل، لأن أوروبا تعرف أنها فقدت سيطرتها التي امتدت قروناً، وكما تعلمون أنه بعد حوالي سنتين سوف تكون أوروبا موحدة، كالدولة الواحدة.
وسوف يدخل في هذا الاتحاد -وقد بدأت المفاوضات في ذلك- الكتلة الشرقية أيضاً، فتصبح أوروبا شرقها وغربها قوة واحدة، ولا يهمنا أن تكون قوةً اقتصاديةًَ سياسيةً اجتماعيةً أياً كان الشكل، المهم أن تأثير هذه القوة سيكون رهيباً، وأن الأحداث سوف تؤكد ذلك بما لا ريب فيه.
ووحدة أوروبا ومع الاتحاد السوفيتي مع أمريكا التي تحدثنا عنها في محاضرات سابقة، عندما تصبح حقيقة واقعة، فإن الذي سيدفع الثمن بالدرجة الأولى هو العالم الإسلامي؛ لأنه -كما سنستعرض- هو العدو المستهدف بالدرجة الأولى لكلا القوتين، بل نستطيع من الآن أن نقول: إنهم أصبحوا قوة واحدة صليبية يهودية كما أخبرنا الله تعالى آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] فهم الآن بعضهم أولياء بعض، ويشكلون قوة دولية واحدة، ولذلك نتائجهم خطيرة كما أشرنا على هذا العالم من أي زاوية نظرت، وفي أي مجال اتجهت، أعني: على العالم الإسلامي بالدرجة الأولى.(12/3)
حقيقة زعيمي الوفاق الدولي
إنه ليس سراً أن نقول: إن زعيمي هذا الوفاق كل منهما كان رئيساً للاستخبارات في بلده، ومعلوم حال الاستخبارات سواء في الاتحاد السوفيتي أو في الولايات المتحدة الأمريكية، تدبير المؤامرات، والانقلابات، وعدم التورع عن أي جريمة مهما كانت، وارتكاب أي فظيعة من الفظائع، والإقدام على أي عمل مهما كان شنيعاً وبأي معيار ديني أو خلقي، هذه صفة ووظيفة المخابرات في هذا العالم الطاغي الصليبي الحاقد، وكل من الرجلين كان رئيساً للاستخبارات في بلده أمداً طويلاً، ومن هنا فالقرارات المتخذة لا بد أن تنطبع بالصفات الشخصية لكلا الزعيمين.
وإذا وضعنا في الاعتبار من يسيَّر هذين، لعلمنا أنها هي القوى اليهودية الخفية المتسترة لعلمنا إلى أي جحيم يمكن أن تلقى به الإنسانية، ولا سيما العالم الإسلامي في ظل تحكم هذه القوة الصليبية المتحدة.
والكل يخاف من العالم الإسلامي، ويُحذِّر من الصحوة الإسلامية، وينادي بالويل والثبور إذا تمكن المسلمون من تحقيق أدنى شيء وأدنى قدر من الحرية أو من الدعوة إلى دينهم الذي يدينون به، وهذه حقائق وأدلتها كثيرة جداً.
ونستطيع أن نستعرض ونذكر ما صرح به الرئيس ميتران عندما تكلم عن الجهاد الإسلامي في فلسطين، يقول بالحرف الواحد: 'إن الذي يحدث في المناطق المحتلة يهدد بانتشار وباء التطرف الإسلامي في كل المنطقة' فهو يسمي عودة المسلمين إلى دينهم تطرفاً إسلامياً، ويعتبره وباءً، كما يسمى الطاعون أو الكوليرا أو الإيدز وباءً، هذا هو الوباء الذي يمكن أن ينتشر.(12/4)
دراسات أمريكية للصحوة الإسلامية
وأما أمريكا فالعجب العجاب! أنها تخطط منذ أمدٍ بعيد على المستوى الحكومي وعلى مستوى المؤسسات، وأذكر مثالاً واحداً: مؤسسة فورد: حيث إنها تمول دراسات كثيرة، وتصدر كتباً كثيرة منذ أكثر من ثلاثين سنة، تتعلق بدراسة أوضاع العالم الإسلامي، ومستقبل العالم الإسلامي، ودور الحركة أو الدعوة الإسلامية أو الصحوة الإسلامية في هذا العالم، حتى على مستوى القطاع الخاص فإن أمريكا تخطط وتفكر.
ومن العجيب أن معهداً للدراسات الاستراتيجية مشهور في أمريكا، وهو معهد بوفر؛ تحدث عن السياسة العالمية ابتداءً من نهاية القرن العشرين، ونشر ذلك قبل أكثر من عشر سنوات، وذكر فيه أن العالم سيرى قبل نهاية هذا القرن انهياراً للأنظمة الحاكمة -ونحن رأيناه الآن قبل نهاية عقد الثمانينات- وقال ضمن التقرير: 'سوف تنهار الأنظمة الموجودة في العالم: الماركسية، والشيوعية، والديموقراطية، والنقابية والنازية ' ذكر هذه الخمسة مع أن الموجود منها في الواقع هو: الماركسية والشيوعية وهما شيء واحد، والديموقراطية، لكن هكذا قال.
ثم تنبأ بأنه في نهاية هذا القرن سوف يشهد العالم كله عودة إلى الدين، سواء الكاثوليكية في أوروبا، أو العالم الإسلامي، وحذر أشد التحذير من الصحوة الإسلامية، وهذا الكلام كان قبل أكثر من عشر سنوات، وذكر على سبيل المثال، كما قال تقرير المعهد: ' أن المسلم الأسود يهدد مجتمع الولايات المتحدة الأمريكية، وأن المسلمين في الاتحاد السوفيتي يشكلون خطراً كبيراً على مستقبله؛ لأنه من المتوقع أن يصل عددهم إلى (40%) من سكان الاتحاد السوفيتي جميعاً قبل نهاية هذا القرن' هكذا حذر، وهذا مقتطفات من التقرير نشرها الدكتور مصطفى محمد حلمي في كتابه: الصحوة الإسلامية عودة إلى الذات (ص:167).(12/5)
وثائق تدل على طبيعة الوفاق الدولي
وإذا أردنا أن نستعرض بعض الوثائق التي تدل على طبيعة الوفاق الدولي، وما حدث في أوروبا الشرقية، فنذكر وثيقة وهي عبارة عن تقرير نشرته صحيفة اللوموند الفرنسية وقد كتب هذا المقال في أثناء تساقط الأنظمة في أوروبا الشرقية.
يقول: ' تشهد إسرائيل هذه الأيام كل ما يجري في دول أوروبا الشرقية باهتمام كبير؛ نظراً لأنها تجد في ذلك فرصة مواتية لإعادة علاقاتها الدبلوماسية مع كلاً من هذه الدول، والواقع أن هذا ليس فقط موضع اهتمام إسرائيل وإنما هناك أهداف أخرى تسعى لتحقيقها، إذ ترى بأن علاقاتها مع تلك الدول منذ حرب 1967م قد حرمها من روابط أهم بكثير من مجرد النواحي الدبلوماسية' فالقضية ليست هي قضية إعادة علاقات، وقد أعيدت كما تعلمون، يقول: لا، هناك روابط أخص من روابط دبلوماسية، يريدها اليهود المحتلون من أوروبا الشرقية ما هي؟ يقول: 'إذ يرى بعض الإسرائيليين أن عودة العلاقات بين إسرائيل ودول أوروبا الشرقية هو بمثابة العودة إلى قطاع من العالم ترتبط به إسرائيل منذ وقت طويل بروابط عاطفية وثقافية، بل وروحية قوية ومتعددة' فما معنى روابط عاطفية وروحية إلى آخره هو الدين؛ لأن معظم اليهود المقيمين في الأرض المحتلة الآن، في دولة إسرائيل -كما تسمى- معظمهم من أوروبا الشرقية.
يقول: 'ويرى البروفيسور شلومو مكلوري أنها إذا كانت لإسرائيل علاقة عميقة دائماً مع أوروبا -يعني: ككل- فإن أوروبا هذه هي التي تضرب في أعماقها جذور الشعب اليهودي " أي: أوروبا الشرقية {{أي: فيوراتو، وفيينا وبرار، وأديسا، وبيتاريا، ولتوانيا وليس في باريس أو لندن أو بروكسل، كما يرى شلومو بأنه كلما استعادت دول شرق أوروبا هويتها، وامتلاك ناصية أمورها فمن الممكن لعدد كبير من الإسرائيليين أن يعيدوا علاقاتهم وارتباطهم بثقافة أوروبية كانوا بمثابة عضو مشترك فيها بشكل كامل، وذلك من خلال لغات وآداب مارسوها في أقاليم ومدن سكنها يهود أوروبا منذ القرن الخامس عشر}} لماذا من القرن الخامس عشر؟ أي منذ أن طُرد المسلمون من الأندلس، واحتلت الأندلس الحكومة الصليبية بزعامة فريدناند وإيزابلا فطُرد المسلمون وطُرد اليهود كذلك، فالمسلمون خرجوا وقتلوا وأبيدوا في محاكم التفتيش، وأيضاً طرد اليهود لأن الصليبيين فريدناند وإيزابلا طردا اليهود، فهاجروا إلى أوروبا الشرقية، حيث كان كثير من هذه الدول تحت حكم الدولة العثمانية.
إذاً يقول: إن الرابطة الأساس هي الرابطة الدينية، وإن إسرائيل تسعى إلى تحرر أوروبا الشرقية من الستار الحديدي، رغم أن الشيوعية فكرة يهودية، ورغم أن القائمين عليها يؤدون أعظم الخدمة لليهود، وعلى سبيل المثال: زعيم رومانيا خدماته لليهود واسعة، وهو مهندس كثير من مشاريع اللقاءات بين الزعماء العرب وبين بعض زعماء اليهود، ومع ذلك فإنهم يريدون أن تتخلى هذه الزعامات ليأتي مستقبل آخر، لتكون العلاقات فيه أقوى وليكون الارتباط الروحي -كما يقولون- بين اليهود المقيمين في الأرض المحتلة وبين اليهود في أوروبا الشرقية.(12/6)
أحوال الاتحاد السوفيتي في ظل الوفاق الدولي
وإذا انتقلنا إلى الاتحاد السوفيتي، ونحن الآن نركز على الكتلة الشرقية، أقول: أركز عليها؛ لأن علاقة اليهود بـ أمريكا والعالم الصليبي أشهر من أن تذكر، وأصبحت العجوز في بلادنا أو في أي مكان تعلم -فضلاً عن المثقف- أن أي قرار تصوت عليه أمريكا في مجلس الأمن مثلاً فإنه سيكون لخدمة إسرائيل، وأن أي مطلب تريده إسرائيل فإنه سينفذ، فالقضية أصبحت لا تحتاج إلى أدلة.
ولكن نريد أن نركز على الاتحاد السوفيتي الذي يتشدق في هذه الأيام عنه بأنه انفتح على الحرية، والسلام، والديمقراطية، والمحبة، وهذا الفخ الذي يراد أن يوقع فيه العالم الإسلامي في ظل الوفاق الدولي، على أننا سنعرج على أمريكا عند الحديث عن تضخيم الصحوة الإسلامية، والتحذير من مخاطرها -إن شاء الله- في صحيفة الحياة التي تصدر في لندن وهي كانت صحيفة لبنانية من قبل- يقول الكاتب: ' موسكو حذرت مجموعة من الكتاب الروس البارزين القيادة السوفيتية من تصاعد النشاطات الصهيونية -كتاب مثقفون وزعماء في الأدب حذروا من تصاعد النشاطات الصهيونية في الاتحاد السوفيتي - مما يهدد بتحويل الحوار الروسي اليهودي إلى مواجهة حتى الموت' بين اليهود الذين تمكنوا الآن نتيجة إعادة البناء (البروستريكا) وبين القوميين الروس الذين لا يريدون أن يسيطر على بلادهم إلا هم لا أولئك الغرباء.
ثم يقول: 'وفي رسالة نشرتها صحيفة تصدر من روسيا الناطقة باسم: اتحاد الأدباء في روسيا الاتحادية، اتهم الكتاب الروس الصحافة السوفيتية بشن حملة دعائية شعواء ضد الحركة القومية الداعية إلى انبعاث روسيا، وأكدوا أن هذه الحملة تنظم للتستر على الفاشية الجديدة التي تجسدت في اتحاد الصهاينة السوفييت {{فهم يسمون اتحاد المجالس العليا السوفيتية اتحاد الصهاينة السوفيتية، كأنه لا يعمل فيه إلا الصهاينة فقط.
وحذروا أن بعض الصحف المركزية التي تؤجج الهستريا بشأن منظمة الذكرى}} وهي منظمة قومية روسية لعلنا نستعرض بعض ما يتعلق بها أيضاً، فهي منظمة تعلن العداء لليهود، وأن اليهود سيطروا على بلادهم.
ثم يقول الكتاب: إن مقاومة هذه المنظمة، أو الذي يجري بينها وبين اليهود نخشى أن يتحول إلى اتجاه عكسي أي: إلى تجميد الصهيونية مخفية عن الرأي العام السوفيتي.
{{وأشارت إلى تورط منظمة فيتار بالمذابح ضد اللاجئين الفلسطينيين في مخيمي صبرا وشاتيلا، والمئات من الجرائم البشعة الأخرى التي اهتز لها العالم مراراً}} وهذه من الأسرار التي لأول مرة تنشر عن صبرا وشاتيلا ويكون لليهود السوفييت مشاركة فيها.
ثم يقول: {{وأعرب الكتاب الروس عن استيائهم من عقد مؤتمر لمنظمات يهودية سوفيتية في موسكو نهاية العام الماضي (1989م) وأضافوا أنه: اجتاحت الاتحاد السوفيتي بعد هذا المؤتمر حملات دعائية تميزت بالعنصرية المتطرفة، واتهموا الصهاينة السوفييت بافتعال خرافة عن الفاشية الروسية، إلى أن يقول: وأدان المثقفون الروس ما وصفوه برد الاعتبار للعقيدة الصهيونية، وقيام وسائل الإعلام السوفيتية بتمجيد الشخصيات الاجتماعية والثقافية من أصل يهودي}} أي: أن الأدباء والمثقفين والكتاب والشعراء الذين من أصل يهودي، هم الذين يحفون بالدعاية الضخمة بـ الاتحاد السوفيتي وفي غيره.
ثم يقول: {{حتى المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي يعمل على تغيير صفحة الصهيونية المجرمة}} إلى آخر الكلام، ولا نريد الإطالة فيه، وإنما ننتقل إلى الحديث -كما قلنا- عن هذه المنظمة: بانيات، أي: منظمة الذكرى؛ وهي منظمة قومية روسية، هالها أن اليهود بدءوا يتمكنون بشكل علني واضح في الاتحاد السوفيتي منذ قيام جورباتشوف وعملية إعادة البناء -كما تسمى- فأخذت تدافع عن الماضي القومي لـ روسيا القيصرية، وتريد إحياء الصليبية القيصرية، ولاحظوا بين فكين: فك الصهيونية اليهودية وفك الصليبية القيصرية أيضاً؛ وكلاهما نحن سندفع الثمن إن انتصرا أو تفوقا.
وهذه مقتطفات قصيرة: {{النائب الأول لوزير الخارجية السوفيتية ذكر أن الإشاعات قد تكون وراءها عناصر قريبة لإسرائيل}} والإشاعات هي عن المجازر والمذابح التي قد يؤدي إليها هذا الصراع.
{{وأصبحت منظمة بانيات تنظيماً قوياً له مئات الآلاف من المناصرين، ويعد أعضاؤه بعشرات الآلاف وهم يرتدون في اجتماعاتهم قمصاناً سوداً، رسم عليها ناقوس -لاحظوا الصليبية كيف تعود- يرمز إلى أن الوقت حان لاستيقاظ روسيا من سباتها، وتتخذ المنظمة شعاراً لها رسماً للقديس وهو يطعن التنين}} ويذكر أن الإشاعات عن المذابح ضد اليهود تحدد الخامس من آيار مايو المقبل موعداً لها، وفي هذا اليوم من كل عام يحتفل المسيحيون الروس الأرثوذكس بعيد لتقديس جورج، يعني: وعدت هذه المنظمة بأنه في آيار مايو -لعلنا نرى ماذا يجري عندها- يوم الاحتفال بذكرى هذا القديس وهو من القديسين الكبار الأرثوذكس في الاتحاد السوفيتي، في يوم عيده سوف تقوم هذه المنظمة بعمليات مجازر أو عمليات دامية ضد اليهود في روسيا.
المهم انظروا كيف أن هذه الحقائق التي أراد الله تعالى أن تكشف على يد هذه المنظمة وأمثالها.
يقول: {{سألت الحياة فاسولين -زعيم المنظمة- عن مغزى اختيار منظمته لهذا القديس شعاراً لها، أي: لماذا اخترتم هذا القديس النصراني شعاراً لكم؟ -فقال: إن أوروبا - أي: أوروبا الغربية- التي خبرت الفكر اليهودي الماسوني عبر الثورة الفرنسية رحلت هذا الفكر إلى روسيا بعد أن ألبسته رداءً ماركسياً، وأوروبا التي تنتهل اليوم كرامتنا القومية هي سبب مصائبنا على رغم أن روسيا كانت الحصن المنيع الذي وقاها من الجحافل الآسيوية}} وهذا تصريح واضح بأن الماسونية هي وراء الثورة الفرنسية، وأنها هي وراء الحركة الشيوعية ووراء ما جرى في الثورة -كما سيأتي من كلامه- إذاً يقول: {{إن أوروبا التي خبرت الفكر اليهودي الماسوني -وهذه حقيقة- عبر الثورة الفرنسية رحلت هذا الفكر إلى روسيا}}.
ثم يقول: {{إن روسيا هي التي حمت أوروبا من الجحافل الآسيوية}} ما المقصود بالجحافل الآسيوية التي وقفت روسيا صداً منيعاً دون دخول هؤلاء أوروبا؟ الدولة العثمانية قرون طويلة وهي تكاد أن تجتاح أوروبا، وأكبر عدو كان يقف في وجهها هو روسيا القيصرية، وهذه حقيقة فعلاً، فهم يجعلون هذه جحافل آسيوية وأوروبا التي تعتبر العالم في الحقيقة هو أوروبا وما عداه فهم همج لا قيمة لهم، ولا سيما العالم الإسلامي.
يقول فاسولين: {{وما حصل عام (1917م) وهو عام قيام الثورة الشيوعية كان انقلاباً منافياً للقانون، وكان للصهاينة دورهم فيه، وإثر ذلك أحيطت بلادنا بأسلاك شائكة وقطعت جذور الأمة، وأبيد عقلها وضميرها، وحورب الدين الذي يعتنقه شعبها، والقديس جورج الذي يطعن التنين، يرمز إلى انتفاض شعبنا ضد العدو}} فهي انتفاضة صليبية ضد السيطرة الصهيونية -كما يقول- {{ويرى فاسولين أن البروستريكا خلقت وضعاً استطاع معه أدعياء اليسار أن يحتكروا الديمقراطية ويفرضوا رأياً بروسترياً واحداً، لقد سيطروا على وسائل الإعلام وهم يكممون على الأفواه المعارضة، ولسان منظمتنا -كما يقول- خير شاهد على ذلك.
ويصدر اليهود صحفاً ومطبوعات -لاحظوا كلامه- بفضل الرسالي- يعني: رءوس الأموال المتدفقة من الخارج، بينما الشعب الروسي عاجز عن التبشير بآرائه, لأن الأموال حكر على الحزب والسلطة}} ثم ذكر كلاماً كثيراً ويكفينا منه هذا وهو: أن هذه الحركة الصليبية الروسية تقول: إن عملية إعادة البناء وزعامة جورباتشوف قد أدت إلى أن يُحكم اليهود قبضتهم وسيطرتهم على الاتحاد السوفيتي، وأنهم يهود صهاينة، ومعروف كلمة صهاينة عند الغرب والشرق؛ أي: الذين يؤيدون إسرائيل، وحريصون على إقامتها.
وليس غريباً بعد ذلك أن نرى الهجرة اليهودية إلى الأرض المحتلة، وليس غريباً أن تتطوع شركات الطيران في أوروبا الشرقية وغيرها لنقل أولئك اليهود، وأن تتبرع الولايات المتحدة الأمريكية بإنشاء وبناء الوحدات السكنية لهؤلاء اليهود، وأن يصرخ الشرق والغرب من هؤلاء الأطفال الذين يقذفون بالحجارة فقط هؤلاء المحتلين، فتعاون الشرق والغرب من أجل القضاء على هذا الجهاد -جهاد الحجارة البسيط- لا لأجله، ولا لأجل أرض فلسطين فقط، بل ليُحكموا قبضتهم وسيطرتهم على الأمة الإسلامية عامة.(12/7)
تهويل الصحوة الإسلامية
كما تعلمون الصحوة الإسلامية حقيقة قائمة، والعودة إلى هذا الدين واقع؛ وهذا من فضل الله تعالى على هذه الأمة، ولا غرابة فيه، فليس غريباً أن التائب يعود إلى الله فرداً أو أمة أو جماعة، لكن الغريب هو أن من عرف الله لا يرجع إليه وإن أسرف على نفسه بالمعاصي، لكن تضخيم هذه الصحوة وتهويلها ودراستها هذا هو الذي يدعو إلى أن ينظر ماذا يراد منها.
ولقد نشر كاتب أمريكي من أصل لبناني اسمه مايكل سابا مقالة ترجمتها صحيفة الحياة أيضاً، بعنوان (إعلام أمريكا وخطر المسلمين).
هذه المقالة عن ندوة عقدها مستشار الرئيس الأمريكي كارتر لشئون الأمن القومي؛ وبالمناسبة الرئيس الأمريكي كارتر الآن يتحرك بنشاط عجيب وكذلك كيسنجر فـ كارتر هذا ومعاونوه الأولون بدءوا يتحركون من أجل خبرتهم السابقة ومعرفتهم بحال المنطقة، ونجد أن كارتر يهتم بالجهاد الأفغاني ويذهب إلى هنالك، من أجل دعم التنصير بين المسلمين، واستغلال الجوع والفقر والحاجة الشديدة التي يعاني منها المجاهدون والمهاجرون من أجل التنصير وفرض الحل الغربي على الجهاد الأفغاني، كما نجده يذهب إلى أفريقيا ويقيم ويتنقل بين دولها: كـ الحبشة وجنوب السودان مع جون قرنق وبكل وضوح يمده بالعالم الغربي، ومع الجبهة الشعبية لتحرير أرتيريا كما تسمى بكل قوتهم، ومع التنصير في كينيا وفي الصومال، ويؤلمنا أن نقول: إنهم يشترون أبناء وبنات المسلمين بأبخس الأثمان، منظمات خطيرة وكثيرة تشتري أبناء المسلمين في الصومال وكينيا والحبشة وغيرها، ويخسرون الآلاف بوسائل النقل إلى أوروبا، هذه الحقائق كثيرة وتقرءونها كثيراً.
فنقول: هذه الندوة هي ندوة لأولئك الزعماء السابقين، وكان موضوعها عن الأرمن وأحداث أرمينيا، ولكن الحقد يأبى إلا أن يظهر، وقد حولوا الموضوع إلى مسألة عودة إسلامية، وخطر إسلامي، أين الخطر الإسلامي؟ انظروا -قبل أن نقرأ هذا الكلام- الفرق بين جورباتشوف في الحالين وكأنه رجلان مختلفان، ففي الحالة الأولى هو رجل ديمقراطي هادئ متزن يزور بنفسه دول في بحر البلطيق التي تؤيد الانفصال، ويجلس مع أعضاء برلمانها، ويناقش الكتاب، بل ظهر في التلفزيون وفي الشارع يتحدث مع الناس ويكلمهم ويقول: نريد الديمقراطية ونريد أن تنحل القضية فيما بيننا وبينكم بالوسائل الموازية وبالطرق الحكيمة وبكل هدوء.
أما إذا نظرنا إليه كيف يتعامل مع المناطق الإسلامية التي تحت حكمه، فإن ذلك الحمل الوديع الديمقراطي الهادئ ينقلب إلى وحش أو دب متلطخ بالدماء، فالدبابات تنزل تدك المدن، والجيش الأحمر يهدم كل شيء، والاعتقالات بالآلاف، والمقابر الجماعية، لأنه هنا يتعامل مع مسلمين، لكن هناك كان يتعامل مع أبناء دينه، وهذا شيء واضح وجلي، والأخبار العالمية تؤكده بوضوح وليس محتاجاً إلى تأكيد.
والشاهد حول الموضوع من أرمينيا إلى العالم الإسلامي، ويقول: {{في الغرب لا يمكن لأحد أن يشهد مساعي تقوم بها جهات غير مسلمة سواء كانت مسيحية أو يهودية أو حتى هندوسية للقتال من أجل الحرية بالحد الذي يرقى إلى درجة الحرب المقدسة، فهذا النمط محصور بالنسبة إلى الغربيين في تعريف المسلمين بالذات}}.
فالهندوس والنصارى واليهود في أي بلد في العالم يطالبون ويثورون ولا غبار عليهم، كما يقول الكاتب وهو نصراني أمريكي، لكن إذا قامت أي حركة إسلامية مهما كان شأنها قيل: هذه حرب مقدسة خطرها يمتد إلى العالم كله، فخصوا هذا الشعار للمسلمين.(12/8)
عناوين الصحف والتهويل من الصحوة الإسلامية
وهناك بعض العناوين التي كانت الصحافة الأمريكية تتحدث عنها عند أحداث أرمينيا ومن هذه العناوين يقول: نيران هوجاء في الجمهوريات الإسلامية، وهذا عنوان مفجع! عنوان آخر: المدى البعيد لظلال المآذن، لماذا؟ لأن إعادة البناء سمحت للمسلمين بأن يأذنوا.
الصحافة الأمريكية تجعل عناوين ضخمة "ظلال المآذن"، وبعد هذا الأذان تهويل، حتى يكبت هذا الدين، فهم لا يريدون أن يسمعوا كلمة (الله أكبر) ولا أن ترتفع كلمة (الله أكبر) في أي بلد، أما الكنيسة الكاثوليكية فتحتفل ويفتخر جورباتشوف في كتابه إعادة البناء، لأنها احتفلت واحتفلت معها روسيا كلها بمناسبة مرور ألف سنة على إنشائها، ويذهب هو إلى -ما يسمى- قداسة البابا ويحصل على التبريكات منه، لكن الأذان لا يراد أن يرفع في الاتحاد السوفيتي، ولا في أي مكان في العالم.
عنوان آخر: عش الدبابير في جنوب السوفييت.
عنوان آخر: السكان المسلمون يحشدون التحدي ضد السوفييت، أي تحدي؟ كما تعلمون علماؤهم المفتون لا يكادون يعرفون بعض حقائق الإسلام البسيطة، لأنهم تربوا تربية في ظل الحديد والنار والتسلط، وفحصوا ومحصوا حتى أصبح لا يمكن أن يتزعم المسلمون أو يقوم بأمرهم إلا من لا يعرف من الإسلام إلا رسوم معينة يمدح ويثني على الحكومة السوفيتية في كل كلمة أكثر مما يتحدث عن الإسلام والله المستعان.
يقول: {{وتدفع هذه العناوين -جميعاً- القارئ للاعتقاد بأن المسلمين في شكل ما ليسوا تهديداً للسوفيت وحدهم بل إنهم حسب ما تصورهم الصحافة الأمريكية تهديداً للبشرية جمعاء}} هذا هو الخطأ.(12/9)
الأفلام الأمريكية ودورها في التهويل
كما عملوا بعض الأفلام الأمريكية، ويمكن أنكم سمعتم عنها، والأفلام تترسب في اللاشعور لكنها تأثر على الشعور وعلى الوعي، وهذه أفلام على مدار ثلاث ساعات بعضها يتحدث عن غزو العرب، كيف إذا دخل العرب أمريكا وجاءوا وهم راكبون الجمال، وفيهم قذارة ووساخة -ومعروف كيف يصورون العرب- وكيف يهجمون على نيويورك فينهبونها وينهبوا واشنطن إلى أن يصلوا إلى كاليفورنيا وكيف يفعلون ويفعلون، فتتشوه صورة الإنسان المسلم عند الملايين من الناس، وإن كان بعضهم يراها نوع من السذاجة أو النكتة فلا يتصور وقوعها.
لكن هذه الأشياء إذا ترسبت في اللاشعور تتحول إلى حقائق واعية فيما بعد.
إن من عجائب ما ذكر في الصحافة الأمريكية ما نشر في صحيفة النيويورك تايمز يقول: {{إن المتطرف يأتي إلى الصحراء}} ومعلوم أنهم قد تحدثوا عن الأرمن والمسلمين والنصارى، وذكروا أن المسلمين في الاتحاد السوفيتي يسكنون في الصحراء، وأما النصارى فيسكنون في الغابات، واستنتجوا من هذا قاعدة، تقول صحيفة النيويورك تايمز: ' إن المتطرف يأتي من الصحراء، والمبدع يأتي من الغابات، وربما كان هذا هو الفارق الأكبر بين الشرق والغرب' الفرق بين الشرق الغرب أن الشرقي يأتي من الصحراء فيكون متطرفاً أصولياً، أما الغربي فيأتي من الغابات فيكون مبدعاً ومتحضراً.
ومن الغرائب أيضاً التي تحدثت عنها الصحافة الأمريكية، تقول: {{أوردت الصحف الغربية أواخر كانون الثاني يناير وأوائل الشهر الماضي شباط أن من وصفتهم بمتطرفين سياسيين في أذربيجان -متطرف أو أصولي معروف ماذا يراد بهذا- يقول: قد يستولون على أسلحة ذرية في مواقع خارج عاصمة جمهورية باكو وهذه إحدى المناطق التي تزيد على العشر، وفيها مواقع لمخزونات للأسلحة الذرية في أراضي الاتحاد السوفيتي إلى أن يقول: وهذا تلميح واضح إلى أن احتمال وقوع هذه الأسلحة الذرية في أيدي متطرفون مسلمين يعتبر تهديداً خاصاً للبشرية}} ولاحظوا: أن المسلمين لو تحركوا في الاتحاد السوفيتي وإلى الآن ليس لهم حركة ذات شأن، يمكن أن يسيطروا على مناطق ذرية؛ فإذا سيطروا عليها فإن هذا يشكل تهديداً للبشرية، سبحان الله! الآن ما يقارب ثلاثين دولة في العالم تملك أسلحة ذرية نووية، لكن الخطر فقط على الإنسانية من أين؟ من أن لو امتلك ذلك السلاح المسلمون، وتذكرون ماذا قيل عندما عملت باكستان مفاعلاً نووياً، وما قيل عن ضياء الحق، وأن هذه كما قال هنري كيسنجر: هذه قنبلة إسلامية، وأعلن الحرب الصليبية عليها، إلى آخر تلك الأوصاف، وظلت الأحداث تجري حتى قتلوه وجاءوا بهذه الموالية الرافضية التي تاريخها وحياتها معروف لديهم هناك في أمريكا.
ويقول: مايكل سابا: وهذا أيضاً أسلوبٌ لترسيخ رواية القنبلة الإسلامية وخطرها على العالم المتمدن، وهي الرواية التي دأب على سردها مراراً وتكراراً الخبراء الاستراتيجيون العاملون لصالح إسرائيل، فحقيقة الأمر أن إسرائيل تشكل بالفعل تهديداً نووياً لبقية دول العالم.
يقول: الحقيقة أن التهديد النووي تشكله دولة إسرائيل، لكن المتهم المظلوم هو هذا العالم الإسلامي المسكين.
ويقول: ويحتمل أن تتردد القصة الجديدة عن الخطر الإسلامي على العالم المتمدن أكثر فأكثر للمستقبل.
ثم قال: وقد نقلت صحيفة نيويورك تايمز عن دبلوماسيين في أثينا قولهم: {{إن هناك قلاقل متزايدة في اليونان وبلغاريا حيال الاضطرابات بين الأقليات المسلمة هناك}}.
وبهذه المناسبة فإن دولة ألبانيا، الدولة الاشتراكية أو الشيوعية الوحيدة التي أكثرية سكانها مسلمون في أوروبا، إلى الآن هذه الدولة ما رأينا فيها بروستريكا، ولا حصل فيها أي شيء؛ لأن الأكثرية مسلمة، على ضعف إسلامهم وفهمهم له، لكن لا يراد لها أن تحصل على شيء حصلت عليه الجمهوريات في جميع أوروبا الشرقية؛ وهي دويلة صغيرة لا وزن لها في العالم، ومع ذلك حرمت من هذا الحق، ومما أعطيت جميع الدول.
والآن تشكو اليونان وبلغاريا من الاضطرابات التي قد تجعلها دول مواجهة في أوروبا ضد انتشار التطرف الإسلامي! سبحان الله، فأمروا المسلم أن يغير اسمه وجوباً، ويعقد عقد زواجه في الكنيسة، ومن الصلاة، يمنع من الحصول على أي كتاب إسلامي، ويمنع من آداء الحج أو العمرة، ويمنع من أي شيء من دينه، ومع ذلك يقول المسئولون في تلك الدول: إننا الآن دول مواجهه بالنسبة لـ أوروبا لأننا نحن على الجبهة الشرقية في مواجهة التطرف الإسلامي الذي يهدد أوروبا.(12/10)
مستقبل العالم الإسلامي في ضوء الوفاق الدولي
لعلنا نكتفي بهذا القدر فيما يتعلق بكلامهم عن احتمالات المستقبل، وخطرهم، وما ينددون به، وسنستعرض ذلك بشيء مبسط جداً.
فنقول: كيف يمكن أن يكون مستقبل العالم الإسلامي بعدما سمعنا، وعلى أثر هذه المقتطفات القليلة؟(12/11)
المستقبل من الناحية السياسية والاقتصادية
المستقبل من الناحية السياسية والاقتصادية، ماذا تتوقعون أن يكون المستقبل إذا أصبحت أوروبا دولة واحدة، وأصبح الشرق والغرب تكتلاً واحداً وقوةً واحدة، وبعد سنتين سيتم ذلك تقريباً -كما أشرنا- وسوف يواجه العالم الإسلامي انتكاسةً اقتصاديةً كبرى.
الآن لا يخفى عليكم، أن بعض دول العالم الإسلامي قبل عشر سنوات أو خمسة عشر سنة كان الريال السعودي يعادل وحدة من وحدات عملات بعض الدول، وفي هذه الأيام تشتري بالريال ما يعادل أربعمائة وحدة، دول كثيرة ما نستطيع أن نذكرها، دول كثيرة الآن بالريال تشتري أربعمائة وحدة من عملات هذه الدول، ماذا سيكون المستقبل؟! هذه نتيجة تعويم الدولار، ونتيجة الخطة الاقتصادية الأمريكية الخبيثة، ولكن ماذا تتوقعون في المستقبل؟! مشاكل كثيرة جداً: أولاً: أن رءوس الأموال الغربية سوف تتدفق إلى أوروبا الشرقية ومن ذلك ألمانيا؛ سوف تكون محط الأنظار، لماذا؟ لأن الثروات والمواد الخام ومنها البترول موجودة فيها بشكل كبير، وأيضاً الضعف والنقص الشديد للتكنولوجيا موجود، حيث إن اليد العاملة رخيصة جداً، جاءوا بصورهم وألمانيا الغربية تعطي الألمان الشرقيين، كل واحد تعطيه مبلغ معين من الماركات وينهال على المأكولات والأكشاك العادية في شوارع برلين، ينهالون بشكل عجيب؛ فيأكلون من هذه الحلوى، وهذه الأشياء، لأن هذه الأشياء ما رأوها في حياتهم، مع أن ألمانيا الشرقية من أكثر دول أوروبا الشرقية تقدماً، لهذا سيجدون فيها العمالة الرخيصة جداً، والمواد الخام، والتقنية المتخلفة.
إذاًَ سوف تتحول الاستثمارات إلى أوروبا الشرقية.
وفي اجتماع عقد منذ شهر تقريباً في الولايات المتحدة الأمريكية، في الغرفة التجارية العربية الأمريكية عقد هذا الاجتماع، وتحدث رئيس الغرفة وهو رجل أمريكي، وقال: إن مستقبل العالم الإسلامي -أي مستقبل العالم العربي هو يقول بتعبيره- الاقتصادي سيكون سيئاً للغاية في الفترة القريبة جداً هذه، وذلك لأن رءوس الأموال الأمريكية سوف تنساق إلى أوروبا الشرقية، وذكر على سبيل المثال إحدى دول الخليج المهمة كثيرة التعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية، كيف أنه في السنة الماضية انخفض حجم التبادل بينها وبين أمريكا إلى (50%) ومن المتوقع في المستقبل أن يزداد ذلك، وأن يكون هذا التناقص عاماً للمنطقة كلها.
وهذا الاجتماع جاء عقب اجتماع الرئيس بوش برجال الأعمال الأمريكيين، وأوصاهم ووجههم، قائلاً: يجب أن تتجه اهتماماتكم إلى أوروبا الشرقية وأن تنسوا ما عدا ذلك، فهنا ستكون كارثة اقتصادية للعالم الإسلامي، لأن الدول الفقيرة المدينة ستزداد ديوناً وفقراً مبقعاً وتتراكم ديونها الربوية للغرب بشكل مذهل، والدول الغنية سوف تفتقر وتصبح دولاً مدينة.
هذا الذي يبدو الآن كما ذكر بأرقام ذكرها رئيس الغرفة التجارية العربية الأمريكية.
وهذا من الأمثلة عليه، أذكر مثالاً واحداً فقط: بعض دول الخليج -والحمد لله- أنتجت من المواد البتروكيماوية منتجات عالية الجودة والامتياز، وعلى المواصفات العالمية، ثم ذهبت في البواخر وجالت شواطئ الدول الأوروبية فلم تستقبلها أي دولة، ولم يستقبلها أي ميناء رغم مواصفاتها العالية، بل وضع في وجهها الضرائب الجمركية الباهضة والحواجز التي جعلتها تعود أدراجها وتبيع حمولتها في بعض الدول الآسيوية الشاطئية، فهذا أحد الأمثلة وكلكم تعرفونه.
وقيسوا على ذلك في المستقبل، إذا اتحدت أوروبا أكثر جمركياً وإدارياً واقتصادياً فسوف تواجهنا، حتى لو تفوقنا عليهم، وحتى لو أنتجنا أفضل الصنع لن يشتروا منا؛ لأنها صليبية حاقدة واضحة، ومع ذلك فإننا بالعكس أكثر ما ينتجه العالم الإسلامي ما هو إلا مواد خام يستهلكها العالم الغربي في صناعته، هذا أكثر شيء عند العالم الإسلامي.(12/12)
خطر المؤسسات الربوية على الاقتصاد
وأسوء من هذا -ولنخرج عن موضوعنا قليلاً وهو له علاقة بالموضوع- أن الدول الغنية في العالم الإسلامي أو في الأفراد الأغنياء أو المجتمعات الغنية؛ تستهلك كل ثروتها وتهدر ثروتها للغرب في أمور تافهة، وفي كماليات وأشياء كثيرة يمكن أن تستغني عنها، وتحتفظ بأموالها وتوظفها للإنتاج، بل أنكى منه أن المؤسسات الربوية في العالم الإسلامي هي التي تدعم وتقفل الأبواب في وجوه المؤسسات الاقتصادية الإسلامية، مع أن المؤسسات الربوية جميعاً ترتبط بالمؤسسات الربوية الغربية، ولا يخفى عليكم الأمثلة: العطور، والأزياء، وأدوات التجميل وهذه تنتج بأقل تكلفة ولكنها تباع بأسعار خيالية.
خذ أية جريدة من جرائدنا بدون استثناء، وانظر إلى هذه الصور الفاضحة والدعاية الخليعة للعطورات والأزياء وما يتعلق بهما، ومعلوم أن المرأة إن كانت تعمل، فالراتب كله أو نصفه لهذه الأشياء، والرجل أيضاً استرضاءً للمرأة يفعل ذلك، وهناك أمور غريبة جداً تحصل من الترف.
أيضاً: ما معنى أن تصبح هذه الحمامات، ونوادي تخفيف الوزن كما تسمى أو التخسيس ضمن المستشفيات، فالآن يوجد في المستشفيات حمامات للسباحة وللتخسيس!! إننا نعيش في ترف كاذب والعالم يهددنا بكوارث اقتصادية خطيرة.
الآن المرأة المسلمة لا تبالي أن تشتري فستاناً بـ (5000) ريال، أو بـ (10000) ريال، وأحياناً بأضعاف ذلك، لا تبالي أبداً، وإخواننا المسلمون يموتون جوعاً، المجاهدون وغير المجاهدين، ومع ذلك أيضاً نحن يتهددنا مستقبل أسود -والعياذ بالله- إن بقينا على هذه الحالة، ترف كاذب وأموال تهدر يومياً، وملايين في أسواقنا تدفع يومياً إلى جيوب المؤسسات اليهودية للأزياء والموضات والتجميل وما أشبه ذلك.
وهذا غير الترف في الأشياء الأخرى: كالكماليات، والأثاث، والموبيليات، وأمور أخرى كثيرة.
والمفروض ونحن نرى هذا العالم الغربي الصليبي الحاقد يتكاتف ضدنا ويعلن حرباً صليبية علينا ألا نعطيه قرشاً واحداً، أما ما كان ضرورياً أن نستورده فلنستورده من دول أخرى غير هذه الدول، وإن كانت كافرة هي الأخرى، لكن هذا عدو لدود، عدونا منذ أن ظهرت دعوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى التوحيد وحتى قيام الساعة، والحرب بيننا وبينهم دائرة لم تتوقف لحظة واحدة، والأحاديث الصحيحة تؤيد ذلك وتؤكده، وأخطر المعارك ستدور بين المسلمين وبين الغرب -الدول الصليبية- في أرض الشام وفي القسطنطينية إلى أن يظهر الدجال والمعارك قائمة، وقد ذكرنا ذلك في محاضرات سابقة تتعلق بهذا الموضوع، والمقصود أن المستقبل الاقتصادي والسياسي في العالم الإسلامي سيكون مظلماً في ظل هذا الوفاق الدولي الخبيث.(12/13)
المستقبل الثقافي والاجتماعي للعالم الإسلامي
كما قلت: من الموافقات الطيبة أن تكون هذه المحاضرة في الاتصالات فإن ثورة الاتصالات العالمية هذه ستهدد العالم الإسلامي في ثقافته ودينه ولغته وأحواله الاجتماعية بما لا يكاد يخطر لنا على البال، والبث التلفزيوني المباشر أصبح وشيكاً، بل بُث وكما تعلمون أن بعض الدول بدأت تلتقطه، ويعملون على أنه في خلال فترة يسيرة جداً يستكمل تغطية العالم كله، وخطر ذلك على العقيدة كالشمس لا يخفى على أحد، لا سيما إذا علمنا أن النصرانية في الفاتيكان بدأت تستعيد قوتها، وأنها أطلقت ثلاثة أقمار صناعية، لتغطي العالم كله لأن كل قمر يغطي ثلث الكرة الأرضية، وكلها تبث التنصير على المسلمين، وتريد أن تنصر العالم ولا سيما العالم الإسلامي، وهذا غير الإباحية وغير الانحلال ووالله الذي لا إله غيره -ونحن في هذا الشهر المفضل- إن ما في إعلامنا من البلايا ليكفي خزياً وعاراً أن تربى الأمة عليه، والحمد لله أنها تتربى على مصادر أخرى، وإلا لو تربت على ما يعرض فقط في التلفزيون لرأينا العجب العجاب من الإباحية، فكيف إذا استقبلنا خلاعات الشرق والغرب بهذه الوسائل المتقدمة المتطورة؟! وهذا قريب، ولن يمضي أكثر من سنتين تقريباً إلا ويصبح هذا أمراً واقعاً.
أمور أخرى أخطر، وهي غير البث التلفزيوني المباشر، ونحن عندنا الآن جمارك في المطار ورقابة المطبوعات، والمطبوعة التي لا تناسب الأخلاق والقيم، أو ما يسمى كذلك، فهي لا تدخل، وفي المستقبل القريب عن طريق الكمبيوتر، وعن طريق الاشتراك في تلكسات متطورة لن يستطيع أحد أن يراقب أية مطبوعة، لأنك تأخذ الجهاز وتشتريه، وترسل الشيك لكي تشترك في أي فرع من أي بنك وفي أي مكان من مراكز الإنتاج الثقافية -كما تسمى- أو السينمائية، فتأتيك المطبوعة ملونة جاهزة في بيتك.
ويقال: أنه بعد سنوات قليلة لن يحتاج الناس أن يشتروا صحيفة أو يشتركوا فيها، أو -يأتي عبر البريد، لأنها سوف تنتقل عن طريق الأقمار الصناعية وعن طريق هذه الأجهزة، فـ جريدة الشرق الأوسط -مثلاً- تطبع في لندن وجدة وفي الظهران، والأهرام وغيرها تطبع في أي مكان في العالم، وهذا الذي يُعمل الآن بشكل كبير سيصبح فردياً، وسوف يصبح الفرد الواحد في بيته وبجهاز ثمنه ضئيل جداً أن يشترك في أية مطبوعة في العالم وتظهر أمامه كاملة أمامه، إن كانت دعاية سياسية مغرضة فهي موجودة، أو دعاية ضد الإسلام وتحطيم للعقيدة فهي موجودة أمامه، أو كانت خلاعة ودعارة وانحطاط فهي موجودة، وتعلمون لو فتح هذا المجال، فإن الذين سيشتركون في بنوك المعلومات الثقافية، وبنوك المعلومات السياسية التي تعطيك أخبار العالم، يمكن أن يكونوا (10%) أو (1%)، أما أكثر الناس فسيحرص على الاشتراك في المجلات الخليعة والأفلام الخليعة ويفرح بذلك؛ لأنه لا جمارك تراقب ولا مراقب إعلامي عليها فالجهاز عنده والمطبوعة تصله.
ومن المشكلات العظيمة في ظل هذا الوفاق التي سوف تكون: ازدياد النشاط السياحي -كما يسمى- والإباحي بالمعنى الصحيح، ولا سيما مع القفزة المتوقعة في عالم الطيران فالعالم يتحرك بسرعة مذهلة، ونحن متخلفون جداً بل حتى في تفكيرنا، واعذروني لأن هذه الموضوعات يجب أن نكون فيها صرحاء، ويجب أن نقول كلمة الحق، وهذا هو الميثاق الذي أخذه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه، وإلا فلا خير فينا إن لم نقلها، ولا خير في من يهمه الأمر إن لم يسمعها، العالم يعيش في تحرك مذهل وبسرعة مذهلة، ونحن -وأخص طلبة العلم- جامدين بالمعنى الكامل، واسمحوا لي لو استطردت قليلاً، دروس الحرم -ونحن مقبلون عليها- دروس علمية، اسمع ما سجل عام 1405 أو 6 أو 7 أو 8 أو 9 أو 10، الموضوع والكلام فيها واحد.
أنا وأنتم معي نرى نفس المجلس عند العلماء يسأل: ما رأيك يا شيخ في عدد ركعات التراويح؟ فيعيد الكلام الذي قاله قبل 10 سنين أو 20 سنة هي نفس القضية وسؤال آخر: ما رأيك يا شيخ في تحريك الإصبع؟ وما رأيك يا شيخ في كذا؟ ما رأيك يا شيخ في الجماعة الفلانية؟ كلام مكرر، فأضعنا أوقات العلماء، وأضعنا أوقاتنا في قضايا مكررة، بل ربما نتشاجر ونختلف ونتضارب عليها، والعالم يتغير كما قلت أحياناً بالدقيقة، وهناك أشياء تحصل قد تهدد أصل عقيدتنا وأصل ديننا، فنحن المستهدفون من تحرك هذا العالم كله ولا سيما بلدنا هذه؛ لأنها هي منبع النور والخير والأصالة، وهي المؤهلة لأن تقود العالم الإسلامي، وكل المؤهلات موجودة فيها، ونضيع أوقاتنا وأوقات علمائنا في غفلة عن هذا الواقع الذي يتلاحق من حولنا بأحداث رهيبة جداً.
فنقول: الثورة في عالم الطيران هي سباق محموم بين شركات الطيران، كما هو بين شركة الإرباص الفرنسية وشركة البوينج الأمريكية على هذه المرحلة القادمة، سباق قد تختصر فيه المسافات إلى النصف خلال السنوات القليلة القادمة، حيث قد تقطع المسافة بين جدة ونيويورك في 5 ساعات تقريباً، وقد تقطع إذا استمرت أو نجحت الدراسات إلى مدينة الدعارة بانكوك قد تكون مثلاً ثلاث ساعات ونصف أو حول ذلك، بمعنى أننا في ظل هذه الشهوات المحمومة عند شبابنا مع الأسف، وهذه الرغبات التي لا تشبع من الانهماك في الملذات، والجواز مفتوح إلى دول العالم ما عدا إسرائيل أو غيرها، والفلوس موجودة، سوف يكون لهذا نتائجه الخطيرة، وسوف نسمع من يقول -وقد قيل-: الحل عندنا أن نجعل جدة العروس، وكأنها العروس، أي: لا بد أن تكون متبرجة لكل أحد، قالوا: نجعل جدة مدينة سياحية -وقد قرأنا ذلك- فنستقطب أبناءنا فيها، وجدة أفضل من بانكوك كما نُشر، جدة أفضل ألف مرة من بانكوك! وبعد هذا الحل لدرء الفساد الخارجي أن نستقدم الفساد ونستورده! وننشئ مدناً ساحلية أو غير ساحلية ويكون فيها ما ترون من ألوان الفساد والاختلاط، وما سيأتي في المستقبل سيكون أدهى، ولا سيما مع ضعف الدعوة، وانشغالنا نحن طلبة العلم بأشياء بعيدة عن هذا الواقع، ومع ضعف -إن لم نقل حرب- هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومع غيرها من الأمور.(12/14)
تجنب أخطار الوفاق الدولي
كيف سيكون مستقبل الإسلام في ظل هذه الأوضاع! وكيف يقاوم هذا الخطر؟! وما الحل؟! الحل سهل وهو بأيدينا نحن، فنحن ورثة الكتاب الهادي بأيدينا: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32] ومعنا الرسول الهادي صلوات الله وسلامه عليه، نقرأ كلامه كأنه قاله اليوم، وكأن جبريل ما نزل بهذا القرآن إلا البارحة، فكله بين أيدينا نحن أمة الهداية والخير وأمة النصر، مهما كثر أعداؤنا فالحل بأيدينا، وهو في أن نتقي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] إذا اتقينا الله حفظنا الله تعالى من كل سوء، لكن إذا لم نتقِ الله وسايرنا الشرق والغرب في شهواتهم، سلطهم الله تبارك وتعالى علينا، قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] مهما كادوا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] وبالتقوى ننتصر على أكثر وأكبر الأعداد -بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ويذلهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويرفعنا الله عز وجل درجات عالية، فننظر إلى هذا العالم مهما اجتمعت قواه وكأنه حشرات، إذا اتقينا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وعظمناه، وعرفنا قوته، هانت قوة الشرق أو الغرب مهما بلغت ومهما تعاونوا علينا، وقد تعاونوا علينا في كل مرحلة من مراحل التاريخ.
ومن الحل أن يكون المسلمون أمة واحدة كما في الآيات: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103].
وبهذه المناسبة أقول: سمعت كثيراً من الدعاة وخاصة من يأتي من خارج المملكة، يقولون: الحل الخلافة الإسلامية، وهذا شيء جميل ولا شك، فالحل أن تقوم الخلافة، ولكن أوروبا والشرق والغرب يخطون خطوات عملية، فهذه السنة تنظم الجمارك، والسنة الآتية السوق المشتركة تكون أكثر، والسنة التي بعدها يتحد البرلمان، حتى يتوحدوا، ونحن نعيش في الخيالات، ونردد الحل إعادة الخلافة! وهل سينزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خليفة من السماء؟! لن ينزل من السماء إلا عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان، ولن ننتظر حتى ينزل بل سنجتهد فإن نزل فينا فالحمد لله.
يجب أن نجتهد نحن، لكن لن يأتي خليفة، وإذا جاء فأين سيعيش هذا المسكين؟ وفي أي بلد سيعيش؟ بل إنه في أكثر دول العالم العربي والإسلامي سيعدم لو علم أنه هذا خليفة المسلمين، فهي خيالات لا ندعها تذهب بنا بعيداً، وبعضهم حدثني في هذا، فقلت: تتمنون الخلافة والخليفة ولا شك أن هذا حلم، ولا شك أنه إذا تحقق سنفتح العالم لكن أولاً ضعوا لنا حلولاً واقعية تؤدي إلى ذلك.
إن واقع الأمة الآن هو مثل إنسان مراهق مشلول مكسر، يهجم عليه اللصوص والمجرمون من كل جهة، يسأل: ما الحل؟ فيقول: أن يكون عندي ولد يحميني، وهو مفتول العضلات قوي الذراعين، ويدعو الله أن يرزقه ولداً، وهو غير متزوج وليس عنده قوة على ذلك، ونقول دائماً: ادعوا الله أن يرزق المسلمين بخليفة، فكما أنه لن يأتي الولد إلا بزوجة وبقوة وبنشاط وبتربية، فكذلك الخليفة يمكن أن يوجد لكن بعد أن توجد الأمة.(12/15)
إزالة أسباب الفرقة
أقول: إذا كان الحل هو في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} [آل عمران:103] فهل توحدنا نحن الدعاة الآن حتى يأتي خليفة يلم ألف مليون من الغثاء؟ أليس داعي الوحدة موجوداً بيننا وهو كتاب الله: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)؟! حبل الله: كتابه ودينه وصراطه المستقيم، فلمَ لا تتوحد جهود الدعاة في كل مكان على الكتاب والسنة؟! يجب علينا أن نزيل كل أسباب الفرقة، ومنهج الكتاب والسنة أوضح وأجلى وأوسع المناهج، فهو يحتمل تعدد الاجتهادات وتعدد الأحوال والبيئات، ففي بلد تكون الدعوة جهاداً بالسيف، وفي بلد تكون جهاداً بالدعوة، وفي بلد يكون أفراداً، يسع هذا المنهج كل شيء، ولا يسعه منهج آخر، ولن يجمعنا زعيم أو متبوع غير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولن يجمعنا تاريخ غير تاريخنا الإسلامي وتاريخ خلفائنا الراشدين، فلنتوحد نحن الدعاة.
أما ما دام فينا دعاة للـ عصرانية والعقلانية، ودعاة للمقاعد النيابية والحريات السياسية، ودعاة للبدعة، ودعاة للتصوف، ودعاة للتقارب مع الرافضة، والكل يقولون: دعاة، والكل يقولون: يجب أن تقوم الدولة الإسلامية والخلافة الإسلامية، فلن نتوحد ولن نعمل شيئاً.(12/16)
توحيد قلوب الشباب
ومن الحلول -ويجب أن تكون عملية وسريعة وتدخل في برنامج كل داعية منا- توحيد قلوب هؤلاء الشباب، وإزالة كل ما يثير الفرقة والخلاف أو ما يجعل الفرقة والخلاف تدب بينهم، وأن يجتمعوا على الأصول والأهداف العليا والمواجهة، وكل بحسبه، وفي موقعة، وكل بما يتناسب مع بيئته، ومع ما أعطاه الله تبارك وتعالى من المواهب، وبذلك نستطيع -إن شاء الله- أن نقاوم ونغير صورة هذا المستقبل الذي يهددنا إن ظللنا نعيش في حالتنا هذه.(12/17)
التقوى والضراعة إلى الله
وأكرر وأقول: إنه لا بد لهذا الشباب من زيادة التقوى وتقوية الصلة بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76]، ويقول: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام:43].
وليس لدينا الآن حل إلا قوة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة} وهذه الشرور المقبلة لا بد لنا فيها من قول ذلك في كل مكان، وفي الدنيا والآخرة، وفي كل أزمة ومواجهة.
تقول زينب بنت جحش رضي الله عنها كما روى ذلك الإمام أحمد والبخاري ومسلم رحمهم الله: {قام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم من نومه وهو محمر الوجه، فقال: لا إله إلا الله! ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بيده}.
هذه الأخطار القادمة يستكشفها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما أوحى الله إليه ويحذر الأمة منها، ونحن نرى الشر الآن وكأنه قد وقع في ظل القوى العالمية المتكتلة ضدنا، فكيف نقاومه؟! في كل عداوة وفي كل موقف يجب أن يكون لدينا تقوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والضراعة إليه، وإذا كان فينا عباد صالحون فدعوة من أحدهم في جوف الليل تهدم صواريخ أمريكا وروسيا بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا نقول ذلك متخلين عن الجانب المادي أبداً، بل نقول: لدينا جانب لا يوجد لديهم، أما الجانب المادي فقد قال ربنا تبارك وتعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] فنبذل ما استطعنا، لكن الجانب الذي نملكه ولا يملكونه هو تقوى الله، وهو الدعاء والتضرع إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(12/18)
إشراك جميع الناس في المعركة
هذه المعركة معركة كل فرد مسلم، وليست معركة الدعاة فقط، فهل استفدنا نحن من إخواننا أو آبائنا أو من الذين نسميهم العامة؟! هل أحسسناهم بهذه المعركة؟! هل أشعرناهم بخطرها وطلبنا من كل منهم أن يُمَّد الدعوة بأي شيء ولو بالدعاء؟! الذي لا يملك شيئاً فليدعو الله للدعاة، وللمجاهدين، وللعلماء العاملين، فهذا من الأسلحة الغائبة عن الشرق والغرب، ونحن كما يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم} سبحان الله! بضعفائنا ننتصر؟! ولكننا لا نحسب لهم حساباً، ونظن أن الاتفاقيات الدولية، أو أن الانحياز إلى أحد المعسكرات يجعلنا نبقى في سلامة من هذا الاجتياح الخطير.
نقول: لا! المواجهة في المرحلة القادمة هي تيار كاسح مدمر يأكل الأخضر واليابس، وكما قيل: ليست معركتنا في هذه المرحلة معركة منتصر أو منهزم، ولكن المعركة معركة وجود أو عدم وجود! لو تسلط علينا هذا الاستعمار ببثه المباشر وبغزوه الثقافي وبسيطرته الثقافية لمدة عقدين أو ثلاثة عقود، فربما امتسخنا مسخاً كاملاً، حتى لا يبقى لنا أي وجود أصلاً، ونعوذ بالله من ذلك! لكن إن قمنا وواجهنا ذلك معتصمين بحبل الله، ومنتهجين منهج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة والجهاد والعمل، فسوف يكون إنقاذ الإنسانية على أيدينا -بإذن الله- وليس فقط إنقاذ أنفسنا وها هي المناطق الساخنة كما تسمى الآن أفغانستان ولبنان وفلسطين وأرتيريا والفلبين، وكل المناطق التي فيها جهاد أو نشاط إسلامي إلى حد ما، هذه المناطق دليل على ذلك، ورعب الشرق والغرب مما يقع ويدور في هذه البلاد دليل على أن المستقبل مفتاحه بأيدينا، وأنه قريب جداً من هذه المناطق، ونحن نقول: -حسبما يدور هذه الأيام- لا نستبعد أن تقوم دولة إسرائيل بأي عمل عسكري في المنطقة، وقد يكون عملها مفتاح الخير في المنطقة؛ لأننا نعيش في غفلة، ولا بد أن نؤدب حتى نستيقظ، وهذه الأمة لا تستيقظ إلا بضربة، فما انتشرت الدعوة الإسلامية ولا قامت إلا بعد هزيمة (1387هـ - 1967م) ولعل فيما يحدث إيقاظاً لنا.
الخلاصة: نقول: الخطر أكثر وأكبر من أن نستوعبه في محاضرة أو محاضرات، وهذه حقيقة يجب أن تعلموها، والحل بأيدينا نحن ألا نتواكل، وألا نقول: الدعاة! العلماء! المفكرون! إن القضية قضية كل فرد منا، وهذه القضية تهدد كل بيت وكل فرد في هذه المرحلة التي نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يصرف عن المسلمين شرها بعودة صادقة إلى الله.
كما أن العودة الصادقة إلى الله تتضمن في أول ما تتضمن: التزود من التقوى والصبر والاستعانة بالصبر والصلاة، لا سيما الدعاة الصادقون المؤمنون الذين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، والذين تجتمع حولهم هذه الأمة بإذن الله، فيكون بذلك النصر الذي وعد الله تبارك وتعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51]، {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105].
وهذا بفضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(12/19)
الأسئلة(12/20)
تنبؤات بالمستقبل وحقيقة البروستيريكا
السؤال
هذا سؤال يقول: اسمحوا لي أن أسأل هذا السؤال: هل لديكم أي تنبؤ تحليلي للمستقبل خلال سنواته القادمة؟ وما هو موقف الإسلام؟ وماذا لنا أن نعمل ونحن نجابه بتخطيط قوي يهودي مسيحي إزاء الإسلام؟ وأيضاً يقول: كلمة البروستريكا إعادة البناء، والشخص الذي يقودها أشك كثيراً أن من خلفه اليهود يساندونه بقوة، أرجو إجلاء الأمرين؟
الجواب
الحقيقة ورد في الكلام السابق ما يجيب على هذا، لكن أقول: أولاً: المستقبل في السنوات القادمة: ستكون الحالة فيه كالحالات التي تعتري الأمم عندما يحاط بها، أو تعتري الفريسة عندما تهاجمها السباع الضارية، وسيكون العالم الإسلامي في حالة اهتزاز.
ونقول: نتوقع -إن شاء الله- أن هذا الاهتزاز سيوقظ همماً كثيرة، ونحن -في الحقيقة وبكل صراحة- لا نعلق الأمل في مستقبلنا القريب هذا على التكتلات الشكلية في العالم الإسلامي، أي: المنظمات والمؤتمرات الشكلية الرسمية، هذه قد تعين أحياناً في التنبيه إلى بعض القضايا أو تعطي الأمة شعوراً بأن الوحدة ممكنة أو شيء من هذا، لكن لا يعلق عليها الأمل في الحل، وإنما سوف تشهد السنوات القليلة القادمة نوعاً -والله تعالى أعلم- من الهزة العميقة التي توقظ شعور كثير من الشباب المسلم على اختلاف مستوياتهم الفكرية وباختلاف مواقعهم في المسئولية -إن شاء الله- سوف تهز حتى بعض المسئولين وحتى بعض القادة، وهكذا مما قد يتيح للأمة أن تعيد النظر في مواقفها، ويكون ذلك بداية للحل والمخرج -بإذن الله تعالى- وأرجو أن يوفقني الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لإصدار درس عن الحروب الصليبية وكيف استيقظت الأمة؟ وكيف قاومتها؟ لأن هذا يرتبط بنفس الموضوع.
وكيف أنها بعد النوم الطويل بدأت اليقظة هنا وهناك، ثم تطورت حتى نجحت -بإذن الله- وليس كما يقولون: التاريخ يعيد نفسه، لا.
بل نقول: سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
فمن خلال استعراضنا للحرب الصليبية، وكيف انتصر المسلمون؟ وكيف قاوموا؟ سنجد بعض الحلول العملية الواقعية التي سوف نسلكها -إن شاء الله- فننتصر في الحرب الصليبية الساحقة الماحقة التي نعيشها هذه الأيام.
أما بالنسبة للبروستريكا وكون اليهود وراءها فهذا صحيح، وهو كما سبق من أن اليهود أكبر من استفاد من عملية إعادة البناء، وعندما نقول اليهود لا نعني بهم اليهود في الاتحاد السوفيتي فقط، بل هم استفادوا الفائدة الكبرى، واليهود في الأرض المحتلة استفادوا فائدة كبرى -أيضاً- وكذلك اليهود في أمريكا وفي أوروبا كل أولئك استفادوا، كيف استفادوا؟ اليهود في أمريكا الذين يملكون البنوك والمؤسسات الضخمة، وفي أوروبا الغربية أول من استفاد بنقل استثماراتهم في دول أوروبا الشرقية، فمن أي زاوية نظرت تجد أن اليهود أكبر المستفيدين من هذه العملية -عملية إعادة البناء كما تسمى- ولا غرابة فإن برجنيف نفسه كان يهودياً ومن قبله ماركس كان يهودياً، وكل زعماء الشيوعية مثل تراوتسكي الذي كان عدواً لهم وانشق عنهم، والآن يعودون إلى بعض نظرياته، أيضاً هو يهودي معروف، ويعلم الروس كلهم أن هؤلاء يهود.
فاليهود وراء كثير من الأحداث، وهم الذين يخططون وراءها بل إنهم أحياناً يتعمدون أن يأتوا بأشياء عجيبة، كما حصل منهم بعد مؤتمر مالطا.
شيء آخر بعض الإخوة الذين اطلعوا ورصدوا هذه القضايا، وجدوا أن أكثر الزعماء في أوروبا الشرقية بعد البروستريكا هذه من اليهود، وكذلك وزراء الخارجيات ورؤساء الوزارات وبعض رؤساء الحكومات يهود في ظل الأوضاع الجديدة، ولا شك أن هذا يؤيد ما أشار إليه السائل أثابه الله.(12/21)
علاقة الجهاد الأفغاني بسقوط الشيوعية
السؤال
اعترف كثير من الشرقيين والغربيين بالعلاقة بين انهيار الشيوعية الحاقدة والجهاد الأفغاني؟
الجواب
لا شك أن هذا أحد الأسباب، وقد قلت في كلمة سابقة: إن هذا مما عجل بالعملية، وإلا فإن العملية الحقيقية مبيتة، ولكن هذا السبب جاء من أحد الأسباب التي جعلت العملية تأخذ دورها وحجمها، وهو مثال لما نذكره في المرحلة القادمة، فهم سحبوا الجيوش ولكن المساعدات تتدفق والمؤامرات تحاك، ولم يتغير موقفها من القضية، وإنما الذي تغير هو التحرك أو الاستراتيجية بما يناسب المرحلة، أما العداوة والحقد والتخطيط فلم يتغير منه شيء.(12/22)
حتمية المواجهة والمستقبل في أفغانستان
السؤال
ما رأيكم في أن البث المباشر القادم وسيلة مساعدة للوفاق الأوروبي مع الكتل الشرقية؟ وهل الوفاق الدولي من جهة والصحوة الإسلامية من جهة تتوقع منها الحرب العسكرية بين المسلمين والكفار؟ وهل قيام دولة إسلامية في أفغانستان سوف يكون بداية تلك الحرب؟
الجواب
أما أن يكون البث المباشر فكذلك فنعم، وأما أن الصحوة ستكون منها حرب بين المسلمين والكفار، أي: سوف تكون هناك مواجهة، نعم بلا شك، لأنه لن يحل الموقف إلا مواجهة دامية بين الصحوة الإسلامية وبين الكفار، فلا بد من ذلك مهما حاولنا لابد منه ولكن بعد كم؟ الله أعلم، هل سيكون ذلك بعد قرن أو قرنين أو عشرين سنة؟ المهم لابد من الدم، وهذا ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قتال اليهود والروم، فلا بد من ذلك في المستقبل القريب، كما تشهد الأحداث أيضاً وفي المستقبل البعيد كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة.
أما قيام دولة إسلامية في أفغانستان هل يكون بداية لتلك الحرب؟ نرجو من الله أن تقوم الدولة الإسلامية في أفغانستان، ونرجو من الله إن قامت أن تكون إسلامية حقة، لأنه في ظل هذا الواقع لن يسمح الشرق والغرب بقيام دولة إسلامية، وإن قامت فستكون خليطاً من أدعياء الإسلام والمنافقين مع المجاهدين الحقيقيين الصادقين، وهذه مرحلة أصعب من مرحلة المواجهة.
الآن عندما قام وزير الدفاع بالانقلاب وادعى أنه مع المجاهدين فإن الغرب والشرق، قالوا: إنه انضم إلى المجاهدين، وبعض المجاهدين أعلن ذلك، وحصل شيء من التضارب، وكأن العملية أصبحت أن شيوعياً ينشق فيأتي فيشارك المجاهدين فتقوم دولة، فيكون هذا الشيوعي -مثلاً- وزيراً فيها، بالإضافة إلى العلمانيين والصوفيين الموجودين الذين لا يهمهم إلا الولاء لـ أمريكا والغرب، فهذه كلها تجعل المستقبل في أفغانستان وفي غيره حالكاً، إلا إذا تمسكنا بالحل، كما ذكرنا وأشرنا إليه، فسوف ننتصر -بإذن الله- في أفغانستان وفي كل مكان، والعداوة في كل مكان لا تقل عن أفغانستان.
لكن هذا لأنه الجرح الدامي، والجرح النازف اليوم أمامنا، وإلا ففي كل بلد المواجهة قائمة، والتخطيط لإفساد المسلمين ولإبعادهم عن دينهم ولمنعهم من الاحتكام لشريعة ربهم قائم في كل مكان.
لكن أقول بصراحة: إنني أتوقع أن المرحلة القادمة في أفغانستان -ولا بد أن نقول الحقيقة- أتوقع انشقاقات وانقسامات، أي لن تكون أرض أفغانستان موحدة، لن تتوحد، ولا يمكن أن يسمحوا بأن تتوحد في ظل حكومة للمجاهدين، نحن ندعو الله أن يحقق ذلك للمجاهدين، وهو قدير سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن في ظل أوضاعهم وضعفهم وتخاذلنا نحن على المستوى العام -ولا نعني أفراداً قلائل- فإن ذلك لا يؤثر شيئاً.
أقول: سوف يجعلون منها مناطق نفوذ موزعة، والله أعلم إلى متى تستمر هذه الحالة؟! وهي جزء من الأمة الإسلامية الموبوءة المريضة، وإن كانت فيها عوامل يقظة أكثر من غيرها لأسباب هيأها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(12/23)
طريق القوة
السؤال
يقول الأخ: ذكرتم أنه إذا اتحدت أوروبا الغربية والشرقية والدولتان الكبيرتان روسيا وأمريكا فسوف يصبحون أقوى منا فقط بالقوة العسكرية، أرجو الإيضاح بماذا سنصبح أقوى منهم، هل بفرقتنا أم بانقسامنا إلى فرق ومذاهب، أم بأدبنا المحدث، أم بسياستنا سياسة الوفاق؟
الجواب
هذا جواب وليس سؤالاً.
وطبعاً لن نكون بأي شيء من هذه أقوياء.(12/24)
دور العلماء في المواجهة
السؤال
الأخ يقول: نسأل الله أن يثبتنا وإياكم! بعد أن أدركنا خطر الوفاق الدولي على شعوبنا الإسلامية من جميع النواحي، فما هو دور المسلمين والعلماء منهم كأفراد، خاصة وأن معظم الأنظمة تسير بشعوبها نحو المجزرة وما يريده أعداؤها؟
الجواب
الله المستعان! هذه الأمة مضاعة، وخاسرة البضاعة بين حكام استخفوها وعلماء أضلوها إلا ما رحم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن حقيقة الأمر أن أكثر من ينفذ خطط هؤلاء الأعداء والمجرمين هم عملاؤها وأذنابهم الذين يحاربون الإسلام في ديار المسلمين، أكثر مما لو كان الخواجات يباشرون ذلك بأنفسهم إلا ما رحم الله، والعلماء أيضاً أو الدعاة أو ما يسمون العلماء الرسميين -إلا من رحم الله- هم من أسباب التخدير الذي تعيشه الشعوب الإسلامية؛ لأنهم مستعدون في ركاب الأوضاع القائمة لدنياهم ولمطامعهم ولمآربهم أن يؤيدوا أي وضع، وأي شيء يرتضيه القائمون على هذه الأوضاع.
ونحن نتكلم الآن عن رقعة عريضة، مليار من الغثاء، ولذلك يجب على من فقه دين الله، وعرف كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيضاح الحق للناس بما يستطيع، قل كلمة الحق ولا تخشَ في الله لومة لائم؛ لأن أخطر من هذا الوفاق ومن هذا الغزو أن تظل الأمة في غفلة عنه، مهما تعللنا بأي شيء نبقيها في غفلة عنه، ونحن نعلم خطره، وهذه جريمة سوف يسألنا الله تعالى يوم القيامة عنها، ولهذا قلت: هذا واجب كل فرد وكل إنسان منا في بيته، وإدارته، وفي كل مكان، أن يسعى إلى تحريك وإيقاظ الأمة لدينها وإيمانها بأن يوضح لهم خطر هذه المرحلة التي سوف نعيشها في ظل الوفاق الدولي.(12/25)
حال الدعوة في الاتحاد السوفيتي
السؤال
الأخ يقول: صرح مفتي مصر قبل أيام في الصحف أن سياسة إعادة البناء قد استفاد منها مسلمو الاتحاد السوفيتي، فإلى أي مدى تؤيدون هذا الرأي؟
الجواب
أولاً: المفتون يتكلمون بصفتهم الرسمية السياسية، ولو تكلم بغير ذلك لأقيل من منصبه، وقد نعذره بأن هذا أقصى ما يستطيع أن يقوم به.
ثانياً: نحن لا ننكر أننا يمكن أن نستفيد من أي وضع، حتى في أمريكا، حتى داخل الأرض المحتلة، يمكن أن نستفيد من أي وضع جديد أو قديم.
لكن هل نحن أهل لأن نستفيد؟ هل المسلمون في الاتحاد السوفيتي في حالة تأهلهم للإفادة؟ أم أن الإسلام الذي يفرحون به هو أنهم أذنوا واجتمعوا لصلاة الجمعة؟ وقد تكون الخطبة نسخة مكتوبة للجميع، وقد تحيا بعض الطرق الصوفية، وقد تكون بعض الاحتفالات عيد المولد وعيد النصف من شعبان كما سمعنا، فهذا فهمهم.
ونحن نقول: المسلمون خارج الاتحاد السوفيتي أما الذين هم مضطهدون كما في بعض الدول، فهذا لا يملك لنفسه حولاً ولا طولاً حتى ينفعهم، لكن في الدول التي يمكن أن تنفع -فهل خططنا لذلك؟ هل تهيأنا؟ هل استعددنا لذلك؟ الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء، هي الجهة الوحيدة التي لا يحوم حولها شك ولا غبار في القيام بواجب الدعوة إلى الله في الخارج، كم عندها من الدعاة؟ كم تتوقعوا؟ هل هم آلاف؟ لا أبداً، يمكن (400) أو (500) أو اجعلوهم (2.
000) فهل سيغيرون أمريكا وأوروبا وروسيا وغيرها؟! ماذا يمكن أن نعمل، نحن على مستوى بلدنا هذا، بلد الإسلام والخير والدعوة -والحمد لله- والعلم وكل شيء، بعض الأحياء وبعض المدن لا تجد فيها داعية، فكيف تتوقع أن يكون حال غيرها من بلاد الفساد.
أقول: كيف إذاًَ، وبأي شيء سنمد المسلمين في الاتحاد السوفيتي وغيرها؟ فإلى الله المشتكى، والله المستعان.(12/26)
التعليق على قرار أن القدس عاصمة لليهود
السؤال
يقول الأخ: كلنا استمع قبل أيام إلى ما أعلنه مجلس الشيوخ الأمريكي عن إعلان القدس عاصمة يهودية، ما هو تعليقكم على هذا؟ سؤال من مسلم حائر؟
الجواب
لا تقل: حائر، لا يوجد حيرة، وإن كانت الظلمات تحير! إن فلسطين بلد احتلوه وأخذوه بالقوة، وإنني أحياناً والله أضحك عندما أسمع في الأخبار الاعتراض على ضم القدس إلى إسرائيل، وأنا لا أفهم ما معنى هذا الشيء.
نحن لو أخذنا شيئاً بالقوة هل سوف يعترض علينا أحد ويقول: لماذا تضمونها؟ إذاً لماذا قاتلنا؟ ولماذا جاهدنا؟ نحن لا نريد أن نرجع إلى شعار الزعماء الذين باعوا الأرض، ويقولون: ما يؤخذ بالقوة فلن يسترد إلا بالقوة، لكن الكلمة هي كلمة حق، وإن قالها الخونة، فعلاً ما أخذ بالقوة فلن يرجع إلا بالقوة، وإذا هجم عليك عدوك وأخذ منك أي شيء فلا تقل: كيف تعتبرها من أملاكك؟! وهل يعتبرها من أملاكك أنت؟! سبحان الله! هذا هو الشيء البديهي والطبيعي.(12/27)
هجرة اليهود
السؤال
يقول الأخ: نحن نعرف أن اليهود في الاتحاد السوفيتي (6.
000.
000) ستة ملايين، وأن الآن الهجرة مستمرة إلى تل أبيب وأكثرهم علماء؟
الجواب
طبعاً علماء ومهندسون وأطباء، حتى العجائز فهن عجائز من نوع آخر، فها هي جولدا مائير تلك العجوز الروسية كيف فتكت بزعماء الثوريين العسكريين، كلهم قاومتهم هذه العجوز.(12/28)
حلم إسرائيل في السيطرة من النيل إلى الفرات
السؤال
هل ستحقق الصهيونية حلم إسرائيل الكبرى الموجود عندهم في التوراة من النيل إلى الفرات؟
الجواب
بهذه المناسبة أقول: إن المشكلة الآن ليست مشكلة أرض، وهذه قضية مهمة جداً، شعار إسرائيل من الفرات إلى النيل الآن لم يعد له معنى بالمعنى الحرفي، فهي لا تريد أرضاً تحكمها، بل هي الآن مستعدة أن تتنازل حتى عن أجزاء من الضفة الغربية، فالقضية ليست قضية أرض، لأنه كما أشرنا في ظل الاتصالات العالمية القوية والتشابك الإعلامي الدولي، القضية ليست قضية أرض، بل القضية قضية من يملك المال والإعلام والتأثير.
إسرائيل تملك القنبلة الذرية والأقمار الصناعية، وهي تنازلت لـ مصر عن القناة وما حولها مقابل أن تدخل مصر معها ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً، فطوت مصر كلها تحت لوائها مقابل هذه الرقعة البسيطة من الأرض، فليست الأرض مشكلة عندها، فهي مستعدة لو اطمأنت أن تترك حتى الضفة الغربية، وتعمل فيها دويلة فلسطينية علمانية مقابل أن تسيطر على المنطقة ثقافياً وتجارياً واجتماعياً بكل أشكال التأثير، والآن العالم كله لا يفكر في مسألة الأرض بقدر ما يفكر في مسألة القوة والانتشار والنفوذ، فهذا هو الذي تسعى إليه إسرائيل وسيتحقق بالهجرة الروسية وبغيرها.
فهي ضربت تونس والمفاعل في بغداد، وهددت بضرب المفاعل النووي في باكستان، ماذا تريد أكبر من هذا؟ مهما صغرت أرضها فإنها تضرب في أي مكان على مسافة (5000) ميل شرقاً أو غرباً، ولا يهمها الأرض بل يكفيها ذلك، والقضية الآن أن العالم كله يفكر كيف يسيطر إعلامياً وثقافياً واقتصادياً.(12/29)
توجيه الصحوة
السؤال
يقول الأخ: نجد أن هناك صحوة إسلامية، فما هو العمل لتوجيه هذه الصحوة؟
الجواب
أهم شيء هو العلم بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وانتهاج منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والتعاون الواعي بالواقع ودراسته دراسة عقلية دون العواطف، انهزمت الشيوعية، وأمريكا سوف تنهار، وليس على الله بعزيز أن تنهار في (24) ساعة، لكننا نخادع أنفسنا عندما نقول: إن أمريكا سوف تنهار بالإيدز أو بالجريمة، نعم هي عوامل مدمرة، لكن فيها من عوامل البقاء ما يجعل حربنا معها حرباً ضروساً.
فلا نخادع أنفسنا بل ندرس الواقع دراسة عقلية بعيدة عن العواطف.(12/30)
أثر الوحدة اليمنية على جنوب اليمن
السؤال
ما هو أثر الوحدة اليمنية على الشيوعية في جنوب اليمن؟
الجواب
هذه الوحدة لعبة من لعب الشيوعية، فـ الشيوعية مدت يدها للوحدة مع أوروبا الغربية، فكيف نستغرب أن أذناب الماركسيين في أي مكان يمدون أيديهم للوحدة مع أي دولة، فهذه لعبة ماركسية شيوعية يريدون بها بالذات في العالم الإسلامي القضاء على التوجهات الإسلامية التي بدأت تثمر في كل مكان.
واليمن وهو ذخر وكنز للإسلام -بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- كما جاء في الحديث، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الله أوحى إلي أن أستقبل الشام وأستدبر اليمن} وقال: {قد جعلت لك ما أمامك غنيمة وما وراءك ذخراً} أو كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فالغنيمة هي بلاد الشام، بلاد المعارك، وستظل المعارك فيها مع الروم، والمنطقة التي تمد الإسلام بالرجال وبالعلم -إن شاء الله- هي هذه المنطقة وهي اليمن عموماً، ولا نعني بذلك اليمن السياسي بل اليمن الجغرافي، فالكثافة السكانية فيها موجودة، والفطرة أيضاً موجودة، فأكبر تجمع بشري في جزيرة العرب هو في هذه المنطقة، فهي -بإذن الله- كما أمدت المسلمين في الحروب مع الفرس والروم سوف تمدهم -أيضاً- في أي وقت، وقد انتشرت فيها الدعوة الإسلامية السُنية، لكن لأن ميزته أنه شعب قبلي أصيل انتشرت فيه بشكل أكثر -والحمد لله- ومن هنا يأتي الماركسيون وأذنابهم ليقضوا على هذه العودة، وعلى هذا التوجه، والله من ورائهم محيط، ونسأل الله أن ينصر إخواننا المسلمين هناك وفي كل مكان.(12/31)
الحداثة وتفجير اللغة
السؤال
أخ يسأل عن تفجير اللغة الذي يدور في النوادي الأدبية؟
الجواب
هذه الأسماء أسماء براقة لتفجير الإسلام والقيم والمعايير الثابتة، واللغة هي وعاء الرسالة، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم:4] ونحن لا نعرف القرآن والسنة إلا باللغة، والقرآن ما هو إلا كلام رب العالمين، والسنة ما هي إلا كلام رسول رب العالمين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا فجروا اللغة تفجر كل شيء، ولم يعد لنا شيء، لكنهم عرفوا كيف يحتالون علينا، لما سموها حداثة تنكر لهم الناس بعد أن عرفوا خطر الحداثة فبدءوا يغيرون العناوين، فقالوا: تجديد وتفجير وتجريد وتطوير أي اسم، وكلما فقهنا اسماً غيروه، واللعبة على ما هي عليه، والاسم فقط يتغير.(12/32)
هجرة المسلمين إلى فلسطين
السؤال
يقول الأخ: ماذا فعلنا نحن المسلمين ضد الهجرة اليهودية، ولماذا لا يكون لنا نحن المسلمين هجرة إلى فلسطين، وإلى متى ونحن صامتون، أم نحن نقول كلاماً؟
الجواب
كيف نهاجر إلى فلسطين؟! ومن الذي سيعطينا جوازات للسفر؟! لكن نقول: نحن يجب أن نهاجر إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن المشكلة أننا حاربنا الله، وأننا قطعنا العلاقة والصلة معه، فقطع الله عنا حبل نصره، وأوكلنا إلى هؤلاء المجرمين، فلنهاجر إلى الله كما قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50] ولو فررنا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهاجرنا إليه، وهجرنا معاصيه، وكل دواعي الشر والفساد والشهوات، وتجردنا له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لحقق الله لنا كل خير.
وبهذه المناسبة بعض الصحف مثل جريدة المحرر ذكرت نكتة عدة مرات، تقول: العرب عندهم هجرة، لكنها ليست كالتي إلى إسرائيل، فإسرائيل تهاجر إليها العقول والطاقات من الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية، والمسلمون تهاجر إليهم البوذيات والنصرانيات، أي الخادمات والطباخات والمربيات والماشطات إلى آخره، وفي بعض الإحصائيات وقد لا تصدقون -أظن ذلك في عام (1403هـ) إن لم تخني الذاكرة- كان عدد الخادمات اللاتي استقدمنَ للمملكة (300.
000) خادمة، معنى ذلك أنهم الآن يقاربون الـ (1.
000.
000) وفي بعض البيوت فيها خمس أو ست، هذه خادمة، والأخرى خياطة، وتلك طباخة إلى آخره، فماذا سيربون؟!(12/33)
الجهاد المنظم في فلسطين
السؤال
ألا يوجد أمل لجهاد منظم كالجهاد الأفغاني لاسترداد القدس الإسلامية من اليهود؟
الجواب
يجب أن نعلم أن كل شيء يسبقه خطوات، أي أن الجهاد المنظم قبله أشياء، ومع ذلك فإن الجهاد المنظم موجود الآن في فلسطين، فالموجود في فلسطين الآن نوعان من الجهاد: الجهاد الذي يستخدم الرصاص والمقاومة، وقد تفجر أول ما تفجر في غزة، بل من الجامعة الإسلامية ومن دعاة على منهج السنة، أو من المنتمين إلى جماعة الجهاد في مصر، والمقصود أن أول ما تفجر هناك، وهذا هو القائم هناك.
والنوع الآخر: هو جهاد الحجارة وهو الأكثر وجوداً في الضفة الغربية، وهم الذين لا يستخدمون الرصاص، وإنما يستخدمون الحجارة فقط.
فهذا وهذا كلٌ له دوره، فنحن نقول: الجهاد موجود، من يمده؟ ومن يساعده؟ هذه مشكلة مليار مسلم! وما استطعنا أن نوجد قناة لإيصال المال، ونحن مطمئنون إلى إخواننا المجاهدين هناك، وأنا سألت: كيف نوصل لهم؟ بعض الناس أحرجونا يقول: عندي (1000) أو (2000) ريال على قدر الحال، فقلت: اسأل، فسألت فقالوا: إن دخل شيء أو وصل شيء فإنه يحول عن طريق أمريكا أو دول أوروبية، ألف مليون لا يوجد عندنا وسيلة لنعطيهم شيئاً، وكل يوم عندهم إضرابات واضطرابات وتدمير، من أين يأتيهم المال؟ ومن أين يأكلون؟ ومن أين يشربون؟ فضلاً عن أن نقول: من أين يجاهدون؟ فهم تفتك بهم الأمراض، فمن يعالجهم؟ والله المستعان، فقبل هذه الخطوة نحتاج إلى خطوات.(12/34)
الإعلام الإسلامي
السؤال
ما هو دور الإعلام الإسلامي تجاه هذا الغزو السوفيتي اليهودي؟
الجواب
أقول: أين الإعلام الإسلامي؟ ثم بعد ذلك نقول: ما دورهم؟(12/35)
عداوة منظمة الذكرى لليهود الروس
السؤال
لماذا تعادي منظمة الذكرى اليهود الروس، هل هو من أجل السيطرة على الحكم، أم أنه حرب بين يهود ونصارى؟
الجواب
الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر أنهم مختلفون، والخلاف بين اليهود والنصارى قديم، وما جمعهم علينا إلا فرقتنا نحن وتفرقنا وذلنا، والعداوة قائمة بينهم فإن هؤلاء القوميين الروس لما فتح لهم المجال قليلاً بـ الديمقراطية يريدون إعادة بلدهم، وأخذتهم الغيرة على أمتهم وعلى بلادهم أن يسيطر عليها اليهود الذين أكثرهم من أوروبا، بينما الروس كثير منهم وكثير من متكلميهم من الجزء الأسيوي، أي: من الاتحاد السوفيتي -كما يسمى- فلا غرابة أن تكون هناك دعوة كما في أمريكا، فإن فيها يهوداً يعدون بالملايين يمكن (3.
000.
000) تقريباً، يقفون ضد الأكثرية اليهودية الموالية لإسرائيل، لكن ليس هناك من يستثمر هذا الخلاف أصلاً، ولهذا هم متفقون علينا مهما اختلفوا، لأنه ليس هناك من يستثمر هذا الخلاف.(12/36)
مذهب المجاهدين في روسيا
السؤال
يقول الأخ: قرأت في بعض المجلات أن المسلمين الثوار في الاتحاد السوفيتي من الشيعة، هل هذا صحيح؟
الجواب
في بعض المناطق يوجد شيعة، وذلك في المناطق القريبة من إيران كـ أذربيجان، وإن كانت في الأصل سنة، فـ أذربيجان فتحت في زمن عثمان رضي الله تعالى عنه، ولكن في أيام الصفويين -الحكومة الشيعية التي كانت في إيران - أبيدوا إبادة تامة تقريباً، وأصبحت منطقة شيعية أو شبه شيعية، أما تركستان والمناطق الإسلامية الكبرى فكلهم -والحمد لله- من السنة.(12/37)
اللجوء إلى المنظمات الدولية
السؤال
الأخ ينتقد لماذا الأمة الإسلامية يركضون وراء الشرق والغرب، ويذهبون إلى الأمم المتحدة من أجل السلام؟
الجواب
هذا جزء من واقعنا الذي نسأل الله أن يغيره إلى خير منه، وإذا أوجدنا الأسرة المسلمة فهي النواة للمجتمع المسلم ثم للدولة المسلمة -بإذن الله- أما إذا فتحنا سيل الشهوات والشبهات، وظللنا نتلهف ونتحسر، والشباب يغرق في هذه الرذائل، ووسائل الإعلام تدفعه إليها، والإباحية الإعلامية تدفعه إليها، فلن نتقدم خطوة واحدة، ففي الحقيقة أن مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة.(12/38)
سياسة الوفاق الدولي
السؤال
بعض الزعماء العرب حذروا من سياسة الوفاق؟
الجواب
نعم! لمعرفتهم بخطرها، ولكن لعل هذا من حسنات هذا التغيير على ما فيه من مساوئ.
فالوضع الدولي يقتضي تغيير بعض الواجهات في العالم الإسلامي، ولا أتوقع أن التغيير يكون إلى الأفضل، لكن مما ذاقت الأمة الإسلامية من بعض المجرمين الذين تسلطوا عليها بباطنيتهم وشيوعيتهم وإلحادهم أكثر من عشرين سنة، لعل في الخلاص منهم فرجاً -إن شاء الله- ولعله يكون قريباً، ولعل ذهابهم فرصة ألا تجتمع الأمة بعد ذلك على ضلالة -بإذن الله- بل سيكون فيها من يدعو إلى الخير ومن ينصره الله، ويكون فيها من سيتلاءم مع الوضع الجديد الذي يريده الوفاق الدولي.
لكن فيما يبدو لي -والعلم عند الله- أن الوفاق الدولي غير راضٍ على بقاء هذه الأوضاع كما هي، ولا سيما بعض القيادات التي استهلكت واستنفدت كل الشعارات، وكان المؤمل أن تتراجع هي كما تراجعت أوروبا الشرقية، ولكنهم لا يريدون أن يتراجعوا عن شيء، بل ما يزالون يسكرون أحلام الناس بالإنجازات الثورية الضخمة الهائلة، وهي إنجازات معروفة للجميع لا تخفى على أحد! هذا وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعل أعمالنا جميعاً خالصة لوجهه الكريم، وأن ينفعنا جميعاً بما نسمع ونقول.
وأسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا لما يحب ويرضى، والحمد لله رب العالمين.(12/39)
مقومات المجتمع المسلم
المجتمع المسلم له مقومات يقوم عليها لأداء رسالته، وهذه المقومات قد بينها الشيخ في هذه المادة، فذكر من هذه المقومات التوحيد وما يتضمنه من التحاكم إلى شرع الله مستدلاً بالكتاب والسنة، ثم ذكر المقوم الثاني وهو اتباع السنة وترك البدعة، وبين أن الإسلام حث على اتباع السنة وترك البدعة، مدعماً ذلك بذكر ما ألحقه الله بأهل البدع من العقوبة، ثم ذكر المقوم الثالث وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبين أنه من خصائص هذه الأمة موضحاً أهميته ومكانته في الدين، وما هو الواجب نحو هذه الشعيرة، وأما المقوم الرابع فهو العدل، الذي تجسد في معاملة المسلمين، وذكر كيف كانت معاملتهم فيما بينهم ولمن كان تحت أيديهم من غيرهم إبّان قوة دولة الإسلام، ثم ذكر المقوم الخامس وهو حسن الخلق بين المسلمين، وضرب بعض الأمثلة التي تبين أثر وأبعاد حسن الخلق في المجتمع المسلم.(13/1)
المقوم الأول: تقديم أمر الله
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:- رأى بعض الإخوة الكرام -أثابهم الله- أن نحدثهم عن موضوع مهم وعظيم، وهو مقومات المجتمع المسلم، وليس بإمكاننا أن نحيط بهذه القضية ولا بهذا العنوان من جميع جوانبه، ولكن نظراً لما تعيشه هذه الأمة اليوم من فقدانٍ لمقومات اجتماعها وذهابٍ لشخصيتها وذاتيتها التي تميزها بين الأمم، فنحن في حاجة بلا ريب إلى أن نعرف مقومات مجتمعنا -ولو على سبيل الإجمال- التي يفترق بها عن غيره من مجتمعات الكفر والضلالة، فإن الدنيا اليوم قد تقاربت، تقارب الزمان والمكان، نتيجة وسائل الإعلام ووسائل الاتصال والنقل، حتى أصبحت -كما يسمونها- قرية إعلامية، فأصبحت الأمة الإسلامية أحوج من ذي قبل إلى معرفة مقومات اجتماعها، مع ما اعتراها من ضعفٍ وتراخٍ وتحللٍ وافتراقٍ وغير ذلك؛ من دواعي ضرورة معرفة مقومات هذا المجتمع المؤمن الذي ميزنا الله -تبارك وتعالى- وشرفنا به.
إن مقومات المجتمع المسلم هي القضية الأولى التي لا يمكن أن نتجاوزها في الحديث أبداً.
إننا عندما نتحدث عن المقومات، فإننا نتحدث عن أول الواجبات، وعن أول ما فرض الله -تبارك وتعالى-، مما جاءت به رسل الله الكرام، وإن مما يجب علينا أن نصرف همنا في الدعوة إليه هو توحيد الله وحده لا شريك له، فهذه أعظم ميزة وأعظم مقوم، وأول منازل الطريق التي لا يجوز ولا ينبغي بحالٍ من الأحوال أن نتجاوزها أبداً.
إن الإسلام إنما أُخِذَ من الاستسلام لله تبارك وتعالى بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك، وأهله، وهذه دعوة الله تبارك وتعالى بعث بها أنبياءه جميعاً، فما من نبي بعثه الله تبارك وتعالى إلا قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:23] كما قص الله -تبارك وتعالى- علينا من كلام أنبيائه فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود:2]، وغير ذلك من الآيات، وكذلك لما بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسوله معاذ بن جبل الصحابي الجليل والداعية العظيم إلى اليمن قال له: {فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله} وفي رواية: {إلى عبادة الله} وفي رواية {إلى توحيد الله} وكلها روايات صحيحة تدل على أن المعنى واحد كما سمعنا في الآيات.
إن أساس القضايا وأولها جميعاً هو الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله، أي: إلى توحيد الله، وأن لا يعبد إلا الله -تبارك وتعالى- والتي عليها جاهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعليها أُسِسَ هذا البيت الذي شرفت به هذه المدينة، بل شرفت به الدنيا كلها، كما قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} [الحج:26] فالأساس هو ترك الشرك، والبراءة منه ومن أهله.
وهذه البلدة الطاهرة -والحمد لله- قامت على ذلك وستظل كذلك بإذن الله، فلقد انتشر نور الإيمان والتوحيد حتى عم ما شاء الله تبارك وتعالى أن يعم مما زوى الله تبارك وتعالى من الأرض لنبيه محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأراه كيف سيبلغ ملك أمته، وأين تبلغ دعوته، كما بشَّر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هذا الدين سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، وهذا الدين هو التوحيد.(13/2)
التحاكم إلى شرع الله
إن هذا المقوم هو جزء من التوحيد، وهو مقوم مهم من مقومات المجتمع المسلم الذي يحفظ له انتماءه وتحقيقه لإسلامه وانتسابه إليه، ألا وهو التحاكم إلى شرع الله تعالى، وإن من أعجب العجب أن المسلمين في العصور المتأخرة يدّعون الإسلام اسماً، ولكنهم أتوا بعقائد ونحل ومبادئ وضعية سواءً أكانت شرقية أم غربية، ثم جعلوا هذه العقائد هي التي يستمدون منها المناهج والقيم والمعايير في الاقتصاد والسياسة والإعلام وسائر جوانب الحياة، وحصروا دين الله والعبادة والتوحيد، وضيقوا عليها في شعائر معينة، فتوهم العامة أن في إمكان الإنسان أن يكون موحداً أو عابداً؛ ومع ذلك يعتقد بعض هذه العقائد، كأن يكون اشتراكياً أو ديمقراطياً أو بعثياً أو ما أشبه ذلك من الضلالات والكفريات، عياذاً بالله تبارك وتعالى.
إن التحاكم إلى ما أنزل الله، ونبذ كل شرعةٍ تخالف شريعة الله، هو جزءٌ من توحيد الله -تبارك وتعالى- ومن عبادته وحده، ففي سورة الأنعام ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذه القضايا وفَّصل فيها، فجعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اتخاذ الولي والحَكَم من دونه، كل ذلك لا يجوز ولا يليق، وإنما الولي والرب والإله والحَكَم هو الله وحده لا شريك له، فقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]، وقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، وفي الآية الأخرى: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، وفي الثالثة: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، وغير ذلك من الآيات التي تدل على أن من أهم مقومات المجتمع المسلم وتحقيقه لتوحيد الله أن يكون الحكم لله تبارك وتعالى بالرد إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(13/3)
عدم تقديم أمر بين شرع الله ورسوله
إن ذلك يشمل أيضاً ترك التعصب المذموم المقيت لآراء الرجال، والتأدب مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومع سنته، وألا يقدم بين يدي الله ورسوله كلام أحدٍ كائناً من كان، وإن كان صحابياً جليلاً أو إماماً متبوعاً أو عالماً مجتهداً، فالتقديم والاعتماد والاستدلال إنما يكون أولاً من كلام الله ثم كلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم ما وافقهما، وإذا كانت المسألة موضع اجتهاد وتنازع فقد أُمِرْنَا أن نرد النزاع إلى الله وإلى الرسول فيما وقع فيه التنازع، ثم يجتهد كلٌ منا في تحقيق ما أمر الله، وما حكم به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعد ذلك لا مانع من أن تختلف الاجتهادات.
إذا اتفقنا على منهج الاستدلال، ومنهج الاستمداد والتلقي من الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم نقدم عليه قول أحد كائناً من كان، لا شيخ طريقة كما يفعل الضلال من الصوفية وأمثالهم، ولا رأي متكلم كما يفعل أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية وأشباههم، ولا كلام الأئمة المزعومون أنهم معصومون -كما يفعل الروافض والباطنية وأشباههم-، ولا المذاهب الوضعية الباطلة التي انتسب إليها كثير من المسلمين في هذا الزمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
إن المجتمع المسلم هو المجتمع الذي يحكمه شرع الله، ودين الله، وتقام فيه حدود الله، كما شرع الله، ولن يقوم هذا المجتمع أبداً إذا لم تقم فيه حدود الله -كما شرع الله- على الشريف والضعيف وعلى الرفيع والوضيع، وأن تقام لوجه الله تبارك وتعالى لا من أجل رياءٍ ولا سمعة، ولا لمجرد الحفاظ على الأمن والحياة -وإن كانت مطلوبة- ولكن الأساس من ذلك هو عبادة الله تبارك وتعالى ولا يصح إيمان المجتمع إلا بتحقيق هذه العبادة، كما قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
ولو نظرنا إلى مجتمعاتنا التي انحرفت عن شرع الله وأتت بالقوانين الوضعية، كيف حالها؟ وكيف مآلها من التفسخ والتفكك؟! حتى أصبحت كلمة الإسلام إذا أطلقت غريبة عندهم، ومن يدعو إلى الإسلام أصبح غريباً في بعض المجتمعات التي تدَّعي أنها إسلامية والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فالواجب على جميع المسلمين أن يتحاكموا إلى ما أنزل الله -تبارك وتعالى- وقد أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ترك التحاكم إلى الشرع من أسباب هلاك الأمم فقال: {إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق - وهذا ينطبق على غير السرقة - فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد} فإذا كانت إقامة الحدود على بعض الناس دون بعض، والمحاباة فيها والمجاملة فيها سبباً للهلاك، فما بالكم إذا نُحيِّ شرع الله تبارك وتعالى بالكلية، واحتكم إلى الدساتير الوضعية التي يضعها البشر، كما عبَّر عنها سماحة الإمام الشيخ الداعية محمد بن إبراهيم رحمة الله تعالى عليه المتوفى عام (1389م) -مفتي هذه الديار قبل سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله والذي سمى هذه القوانين: 'زبالة الأذهان، وحثالة الأفكار' فهم يضعون ويغيرون ويبدلون كما يشاءون، ويأمرون الناس أن يحتكموا إليها، ويطلبون منهم ذلك، ويلزمونهم بها إلزاماً، ولذلك فإنه -رحمه الله- جعل فتح المحاكم الوضعية وتهيئتها للناس، وأن يكون لها سجلات ومراجع ومستمدات كما للمحاكم الشرعية، نوعاً من أنواع الكفر الأكبر، ذكر ذلك في رسالته القيمة على صغر حجمها رسالة تحكيم القوانين.(13/4)
المقوم الثاني: اتباع السنة وترك البدعة
إن أعظم وصية أوصى الله -تبارك وتعالى- بها، ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد توحيد الله، هو اتباع السنة وترك البدعة.(13/5)
الحث على اتباع السنة وترك البدعة
وتأتي البدعة البدعة في المرتبة الثانية بالنسبة إلى أعظم المحرمات، فاتباع البدع هو في الدرجة الثانية بعد الكفر وقبل الكبائر العملية، والكبائر الاعتقادية العلمية هي أشد وأعظم جرماً من الكبائر العملية، كالزنى أو السرقة أو شرب الخمر، ولهذا نهانا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن اتباع الهوى، وأمرنا كما قال تبارك وتعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153].
والعبد المؤمن يقول في كل ركعة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] فبعد أن وحدنا الله -تبارك وتعالى- وأفردناه بالربوبية والألوهية وآمنا به وحده {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] نطلبه وندعوه أن يثبتنا على الصراط المستقيم، وهو السنة، وما ورد فيه من أقوالٍ أخرى فهي لا تخرج عن ذلك، فالقرآن، أو السنة، أو طريق الشيخين، أو طريق الصحابة؛ المقصود بها كلها كلمة السنة بمعناها العام، التي تعني هدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل شأن وفي كل أمر ابتداءً من التوحيد، وانتهاءً بأقل درجات المندوبات بل المباحات.
فالاتباع يكون لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة} ولهذا أوصى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بها، وأوصى بها رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103].
وهذه وإن كانت تشمل كل أنواع التفرق، إلا أن أعظم وأشد أنواع التفرق جرماً هو التفرق في الدين، وهذا ما حذَّرنا الله -تبارك وتعالى- منه حتى لا نشابه المشركين الذين قال عنهم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء} [الأنعام:159] فالأمم قبلنا جميعاً، من اليهود والنصارى وغيرهم قد وقعوا في الشرك جميعاً، وفرقوا دينهم، وكانوا شيعاً، أما نحن فأمرنا باتباع سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي أوصى ووعظ بها صلوات الله وسلامه عليه، ونهى عن البدع والمحدثات، وقال: {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار}.(13/6)
عقوبة أهل البدع
كان السلف الصالح رضوان الله عليهم ينكرون أشد الإنكار على ما ظهر من بدع في أيامهم كما أنكر عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه على بدعٍ في التسبيح فعلها بعض القراء، ثم لما ظهرت الفرق المبتدعة وتميز أهل السنة، رأينا كيف كانت عقوبتها، فإن علياً رضي الله تعالى عنه -وهو إمام زمانه وخليفة عصره- لما خرجت الرافضة -التي تنتسب إليه إلى اليوم- لم تكن عقوبتهم عنده إلا الحرق، وهذا ما أنكره عليه عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه، ولكن المقصود أنهم اتفقوا على القتل وإن اختلفوا في كيفيته، ولهذا قال:
لما رأيت الأمر أمراً منكرا أججت ناري ودعوت قنبرا
وقال شاعرهم:
لترميني بنا المصائب حيث شاءت إذا لم ترم بي في الحفرتين
وهي الحفر التي أوقدها من النار لما قالوا: أنت هو! قال: ومن هو؟ قالوا: الله، تعالى الله عما يشركون.
والطائفة الأخرى التي خرجت في زمن الخلفاء الراشدين هي: الخوارج، وهؤلاء أيضاً قاتلهم علي ٌ رضي الله تعالى عنه، وفرح وسر هو والصحابة الكرام بقتالهم، وابتهجوا بذلك، وجعلوا ذلك من آيات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الدالة على صدق رسالة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما في حديث ذي الثدية، وجعلوه دليلاً على صحة إمامة علي رضي الله تعالى عنه وأن ذلك من كراماته؛ لأنه وُفقَ إلى قتل هؤلاء الذين قال فيهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لو أدركتهم لقتلتهم قتل عاد} فكانت معركة النهروان وغيرها ممن قتل فيها هؤلاء.
فعقوبة أهل البدع -وإن لم يدعوا إلى الشرك الصريح- كعقوبة الخوارج، أما إذا دعو إلى الشرك كما دعا إليه الروافض الأولون والمتأخرون، وكما يدعوا إليه المتصوفون في هذا الزمان، وفي كل الأزمان، الذين اتبعوا الطرق والسبل التي نهى الله -تبارك وتعالى- عن اتباعها وأصبحوا ينعقون بالشرك الأكبر، ويزعمون أن مع الله إلهاً آخر، فهؤلاء خرجوا عن حد الابتداع ودخلوا في حد الشرك، حيث يقولون: إن هناك من يعلم الغيب غير الله، وإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الأول والآخر والظاهر والباطن، تعالى الله عما يشركون، فأعطوه خصائص الألوهية، وأسماء الله تعالى وصفاته وغير ذلك.
فلو كان المُشرَك به مع الله -تبارك وتعالى- أفضل خلقه وأحبهم إليه وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو أفضل الملائكة وهو جبريل عليه السلام، فإن الله تبارك وتعالى لا يرضى ذلك أبداً، فكيف بعبادة من دونهم من الأولياء أو الصالحين، فكيف بضلالات وبدع وشركيات وخرافات عند من ليس لهم حظٌ من الولاية، وإنما هم مفترون، وإن كثيراً من الأضرحة التي تزار وتعبد في أنحاء العالم الإسلامي اليوم ليس فيها أحد أصلاً، بل ربما يوجد فيها من ليس له في الإسلام حظ من الولاية، فإذا كنا ننكر على من يأتِ بالشرك عند قبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو قبر أحد من الصحابة، أو أي أحد من الأنبياء، فكيف بمن يفعله عند من لا حظ له من الولاية أصلاً، فكله شركٌ وباطل نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يحمي هذه الأمة منه إنه سميع مجيب.(13/7)
المقوم الثالث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إن من مقومات المجتمع المسلم والأمة المسلمة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال الله تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110](13/8)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصائص هذه الأمة
ولا شيء يتقدم على الإيمان بالله أبداً، لكن هذه الآية تتحدث عن خصائص هذه الأمة التي تفرقها عن غيرها، فقدم ما يخصها عما تشترك فيه مع غيرها، ولقد وجد في الأمم قبلنا من يؤمن بالله، لكن خاصية هذه الأمة أنها أُخرجت للناس، وأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولذلك هذا المقام في الدنيا يحق لها به المقام الآخر في اليوم الآخر، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] فهذا مقوم عظيم من مقومات المجتمع، ومقومات الأمة والدولة، كما ذكر الله -تبارك وتعالى-: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] فلا تصلح حياة الأمة الإسلامية ولا تقوم أبداً إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(13/9)
أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إن هذه الشعيرة العظمى يراد طمسها، وإذا طمست فلن يبق بين المجتمع المسلم وغيره من المجتمعات الكافرة أي فرق؛ بل تنتشر الضلالات والبدع والشركيات ويتحول المجتمع المسلم إلى مجتمعٍ مشرك، أو متسم باسم الإسلام ظاهراً فقط، ولا فرق بينه وبين غيره، يعلن صاحب الإلحاد بإلحاده، وصاحب البدعة ببدعته، ويتنصر من تنصر، ويتهود من تهود، ويعبد الأصنام من يعبدها، فلا أحد ينكر على أحد، فلو تركت شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكان هذا هو المآل في النهاية عياذاً بالله.
وانظروا إلى حال المجتمعات المسلمة التي تركت هذه الشعيرة، ألم يصل بهم الأمر إلى هذه الحالة، لقد أصبح الرجل يدَّعي أي مذهب، وينتحل ما شاء من النحل، وجاهر اليهود والنصارى بمذاهبهم، وأصبحت لهم المناصب الكبيرة في الدولة، وجاهر أهل البدع ببدعهم، وكل من لديه نحلة ضالة أعلن بها وجاهر لفقد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولهذا يسعى أعداء الله والمجرمون إلى أن يطمسوه بالكلية، وخاصةً في هذه البلاد، ولكنها والحمد لله لم تترك ذلك أبداً.
إن الناس -والحمد لله- لا يمكن أن يتخلوا عن دينهم في هذه البلاد خاصة ً، بل والحمد لله قد عادت الصحوة وعمت كل مكان، فلا يمكن للمسلمين أن يتخلوا عن دينهم، ويتخلوا عن هذه الشعيرة العظيمة.(13/10)
الواجب تجاه هذه الشعيرة
إن من أوجب ما يجب على طلاب العلم إحياء هذه الشعيرة، بأن تحيا في البيت والشارع، والمدرسة، وفي كل مكان، بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى أينما كنا، لا ينبغي أن نتحرج أن نقول لمن في بيتنا، أو لقريبنا، أو لجارنا، أو لمن في الشارع، أو الدكان؛ بالأسلوب الحكيم الحسن: صلِّ، أو اتق الله، أو هذا حرام، أو هذا منكر، أو خذ هذا الكتاب، أو هذا الشريط النافع، أو هذا إعلان لمحاضرة، أو أي عمل من أعمال الخير؛ بل يجب أن تحيا النصيحة في المجتمع، وفي الإدارات الحكومية، وفي كل مكان، بحيث يشعر أصحاب المنكر بأنهم يرتكبون المنكر، وأن الأمة تحتقرهم، وأن الأمة ترذلهم لا لكبرٍ عنهم؛ أو لأنهم أصحاب مالٍ أو ثراءٍ أو منصب؛ ولكن لأنهم يعصون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فإذا تركوا المنكر فهم إخوة وأحبة لنا، إذا رأى الناس ذلك عظموا أمر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وأحبوا الله -عز وجل- وتمسكوا بدينه.
وتجد بعض الناس يرتكب المنكر وهو لا يزال في بدايته في أول الطريق، ولو وجد من يقول له: لِمَ تفعل كذا؟ لرجع، وبعضهم قد بدأ قليلاً، ولو وجد من قال: لِمَ، وزاد عليها: كيف تفعل كذا وكذا لرجع، وبعضهم أيضاً لو وجد كتاباً أو شريطاً أو حديثاً حسناً لرجع، وبعضهم قد غاص في البدع والضلالات أو في المنكر والفسق فهذا أمرٌ آخر، لكن كثيراً من الناس قريبون من الخير أو هم على حافة الخير، فإذا حركتهم ولو قليلاً يبتعدون عن الشر بإذن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فهذه من أعظم مقومات المجتمع المسلم التي يحفظه الله تبارك وتعالى بها.(13/11)
المقوم الرابع: العدل
ومن أعظم وأهم مقومات المجتمع المسلم العدل؛ لأن السماوات والأرض إنما قامت بالعدل، وأمر الله تعالى به في القول، وأمر به في العمل، وأمر به في كل شيء، قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152]، وقال: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، وقال: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:7 - 9]، وغير ذلك كثير، فهذه الأمة أمة العدل.
ولذلك كان من سنة الخلفاء الراشدين ما أمر به عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه حين جعل مكان بعض العبارات التي لا تليق في خطب الجمعة هذه الآية الكريمة العظيمة الجامعة {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90].
فالعدل مطلوب من هذه الأمة بالذات، بل من كل أحد، وهو محببٌ إلى النفوس جميعاً، وتطلبه كل الفطر والعقول في المجتمعات كافة، الكافر منها والمؤمن، فكلها تريد العدل، وكلها تدَّعيه، وتحبه وتنشده، ولكن الأمة التي تعرف الحق وهديت إلى الحق وبه يعدلون هي هذه الأمة والحمد لله، التي أعطاها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- العدل لا مبادئ عامة -كما يزعمون- ولكن حقائق وأحكاماً تفصيلية، مفصل لك كيف تعدل في بيتك وكيف تعدل في عملك وكيف تعدل في ولايتك إذا كنت قاضياً أو أميراً؟ فالحكم واضح أمامك.
كل الأحكام فصَّلها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- تفصيلاً في كتابه أو في سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن سيرة الخلفاء الراشدين، فهي الأمة التي تستطيع وحدها أن تقوم بالعدل في هذا العالم الظالم المظلم الذي أحدقت به الظلمات والمظالم من كل مكان.
وأي أمة في الدنيا الآن تملك العدل أو تستطيع أن تعدل بين أفرادها فضلاً عن العدل بين الناس؟! إن أفضل ما لدى الغرب: هو ما يزعمونه من الديمقراطيات، وأي عدلٍ في الديمقراطيات؟! إننا نأسف أسفاً شديداً أن تصبح هذه الديمقراطيات هي الهدف الذي يتطلع إليه بعض المسلمين! الذين أعطاهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل هذا العلم والحقائق، وأنزل إليهم الكتاب مفصلاً، فكيف تطلبونها؟! إن الرجل الذي لا يملك المال، لا يملك النفقة الانتخابية، وبالتالي لا يمكن أن يرشح، وبالتالي لن يصل إلى شيء في هذا العالم، فبقدر رأس مال الإنسان في الدول الديمقراطية الغربية، تكون مكانته وقيمته، فأين العدل إذاً؟ إن الضعفاء من العمال ومن طبقة صغار الموظفين مسحوقون مظلومون لا يؤبه لهم بشيء، نعم هناك مبادئ وضعوها وأجمعوا عليها ويحاولون أن يصلوا إلى شيء من العدل وأنَّى لهم ذلك.
إن هذا العدل يجب أن نحييه في هذه الأمة في بيوتنا لنكون من المقسطين كما قال صلى الله عليه وسلم: {إن المقسطين على منابر من نور، عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين وهم الذين يعدلون في أهليهم وما ولوا} هكذا يجب أن نكون، وهذا عدلٌُ تغنَّى به الناس قديماً وحديثاً.
إن ما يعيشه العالم اليوم فهو جاهلية، وإن شئت فقل هذه مثل تلك سواء، من لم يعرف الله أو من جهل الله -عز وجل- فهو في جاهلية في أي عصرٍ كان وفي أي مصرٍ عاش.
كان العرب في الجاهلية يتغنون في أشعارهم بعدل كسرى الذي لم يشملهم يوماً واحداً من حياتهم بعدله، مثلما نجد اليوم العالم الإسلامي والدول العربية تتغنى بعدل الديمقراطية وتفرح بها مع أنه لم يشملها شيء من خيرها إن كان فيها خير، ويقولون لما قتل:
همُ قتلوه كي يكونوا مكانه كما غدرت يوماً بكسرى مرازبه
إلى آخر ما تغنوا به، حتى جاء الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بهذا الدين، فعرف الناس حقيقة العدل، ورحم الله من قال:
أتى عمر فأنسى عدل كسرى كذلك كان عهد الراشدين
نسي الناس عدل كسرى، فما هو عدله بالنسبة إلى عدل عمر رضي الله تعالى عنه وإلى عدل من بعده؟ والقضية ليست قضية عمر، إنها قضية الدين والإسلام الذي حول أولئك الجاهليين من جفاة غلاظ الأكباد إلى أمة رحيمة مشفقة عادلة.
وجاء حفيده عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، وحدث ما حدث من فتح بعض المدن التي هي اليوم ضمن ما يسمونه الاتحاد السوفيتي، ودخل الجيش المسلم بقيادة قتيبة بن مسلم، واقتحم المدينة بعد أن صالح أهلها لكثرة ما غدروا به، فعلم أهلها أن المسلمين أمة العدل وأنهم لا يقرون الظلم، فأتوا إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، وقالوا: بلغنا عنكم العدل، وقد صالحنا قائدكم ثم غدر بنا وفتحها، فلما تبين عمر رضي الله تعالى عنه ذلك؛ أمر الجيش المسلم أن يخرج من المدينة بعد أن فتحها، وقد غدروا به ولم يقل هذا جزاء غدرتكم، فلما خرجوا ورأى أهل المدينة ذلك عياناً، عجبوا لهذا العدل، فقالوا: نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ودخلوا في الإسلام وما زالت بلاد إسلام، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يفك أسرها.
كان الناس يرون عدل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كما رأت الدنيا كلها هذا العدل الذي هو أحوج ما تكون إليه الأمة اليوم، وظل العدل -ولله الحمد- شيمة هذه الأمة وإن قل عمَّا كان في الصدر الأول.
ولا يزال تاريخ الصليبيين الأوائل عندما اجتمعت أوروبا الصليبية أول مرة -ولا زالت تجتمع في كل مرة- ينطق بعدل صلاح الدين ,ونور الدين وقد عجبوا من هذه الأمة كيف تعيش هذه الحياة الكريمة؟ وكيف تعدل هذا العدل الذي هو من شيم الأنبياء لا من شيم ملوك الدنيا كما عبَّروا هم بذلك، وكثيرٌ منهم بقي في بلاد العالم الإسلامي، وأسلم لما رأى تلك الحياة الكريمة، وتلك العدالة التي تنشدها النفوس ولم تجدها إلا في ظل هذا الدين.(13/12)
المقوم الخامس: حسن الخلق
هناك مقوم آخر مهم من مقومات المجتمع المسلم وهو حسن الخلق بين المسلمين، ونحن طلبة العلم أحوج ما نكون إلى حسن الخلق، فقد كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما وصفته أم المؤمنين عائشة: {كان خلقه القرآن}، وكما قال صلى الله عليه وسلم وكفى بذلك فضلاً: {إن الرجل ليبلغ درجة الصائم القائم بحسن خلقه} فبحسن الخلق مع الأخ، والزوجة، والابن، ومع الصديق، والعدو يبلغون تلك الدرجة العظيمة، حتى كان كثير من الناس من العصاة والفجار والفساق يرون من حسن خلق الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم ومن بَعَدهُم ما يجعل قلوبهم ترق وتلين ويتركون ما كانوا عليه من الفسق والفجور، وهذا كثيرٌ جداً في عهد الصحابة والتابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
ومنها قصة صلة بن أشيم رضي الله تعالى عنه -وهو من التابعين-، لما كان يذهب إلى الصحراء في الليل ويمر بشباب يلهون ويعبثون -مثل ما نرى الشباب هذه الأيام في الكازينوهات والملاعب- في الليل، فقال: [[إن قوماً -يضرب لهم مثلاً وهو يمشي- كانوا مسافرين قضوا الليل في اللعب وغفلوا في النهار فأنى يدركون الطريق أو فأنى يصلون]] يضرب لهم المثل أول الليل ويمشي، وفي اليوم الثاني قال أحدهم: والله إنه ليريدنا ويعنينا، ويقول لنا: نحن أمامنا طريق، وأمامنا سفر وهو الانتقال إلى الدار الآخرة، ومع ذلك نضيع هذه الأوقات، فأفاقوا من غفلتهم، وكانوا قرابة العشرين شاباً فأصبحوا من خيار شباب الإسلام.
لقد استيقظوا بحسن الخلق في الدعوة، وبحسن التعامل وبالرفق، وبعض المحدثين كما يُذكر عن شعبة رضي الله تعالى عنه، وهو الإمام المحدث المشهور الثقة، الذي قال عنه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: 'كان أمةً وحده في هذا العلم'، كان ماراً في طريق مجتازاً يحيط به طلاب العلم من كل جهة ويحتفون به، فخرج رجلٌ من شرار الناس، من الفساق -كما هم في كل زمان ومكان- فقال: من هذا؟ احتقاراً له، قالوا: هذا شعبة المحدث، قال: محدث! قالوا: نعم، فأمسك بتلابيبه، وقال: حدثني استهزاءً وسخريةً.
فأراد طلابه أن يبطشوا به؛ وكان موقفاً حرجاً، رجل عليه أمارات الفسق وليس به من سمات الخير شيء، وبكل هذه الوقاحة ويعرض له في الطريق ويقبض عليه، حدثني حدثني، فأراد أن ينفلت منه، فقال: لست من أهل هذا العلم، فقال: لا إلا أن تحدثني، فقال: حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {إذا لم تستح فاصنع ما شئت} فوقع في قلب الرجل موقعاً عظيماً، وعرف أنها موعظة له، وليس مجرد تحديث.
فعاد إلى بيته وبدأ يغير حاله، فقال: والله لا بد أن أغير حالي، والله لقد حدثني حديثاً عظيماً، والله لأستحين من الله، ثم عقد العزم وتاب واستغفر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وأناب ورحل إلى مالك رضي الله تعالى عنه، وأصبح من كبار المحدثين، ثم كان يقول ما رويت عن شعبة إلا هذا الحديث، وبقيت روايته عن مالك وأصحابه رضي الله تعالى عنهم.
أقول: إن هناك نماذج لحسن الخلق في الدعوة والصبر، والتحمل، ونجد -والحمد لله- حسن الخلق بين الشباب المسلم، وإن كان بحاجة إلى أن نحث عليه، لكن قد نفتقده مع غيرهم، فأحسنوا وارفقوا حتى بأهل الفسق والفجور، واصبروا وتحملوا، وأبشروا بالعاقبة بإذن الله -تبارك وتعالى-، قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، ولهذا قال عباد الله المرسلون لأممهم {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا} [إبراهيم:12] توعدوهم بالأذى فوعدوهم بالصبر.
فحسن الخلق -أيها الإخوة- من أعظم المقومات كما قال الشاعر:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ومن أعظم ذلك حسن الخلق مع المدعوين، ومقابلة إساءتهم بالإحسان، ومقابلة أذاهم بالصبر والتحمل كما أوصى العبد الحكيم ابنه {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17].
والحمد لله رب العالمين.(13/13)
الأسئلة(13/14)
الاختلاط وأثره السيئ
السؤال
هل عدمت المستشفيات من الطبيبات حتى يدخل الطبيب على المرأة في الولادة ويدخل عامل النظافة إلى قسم النساء بدون رقيب؟ نريد حلاً لهذه القضية المؤلمة التي بدأت تكثر في هذه الأوقات، ولماذا لا يتعاقد مع جهاز طبي نسائي كامل يخصص للنساء؟
الجواب
الأمم بإرادتها، وتلك سنة من سنن الله تبارك وتعالى، حيث جعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الإنسان -فضلاً عن الأمة- من الطاقات ما لا نظير له في أي مخلوق، فمن الممكن أن يحقق الفرد أو الأمة أشياء عجيبة جداً لا تخطر على البال، ولهذا يوجد من الأفراد من هو أمة بذاته مما يحقق من الأعمال، وأصل ذلك كله الإرادة التي تعني: العزيمة الصادقة ولا سيما على الرشد وعلى أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
إن أمة لديها إرادة أن تعبد الله وحده لا شريك له، ولديها إرادة أن تكون أمة متميزة مستغنية عن غيرها، وتكون أمة قائمة على أمر الله كما شرع الله تستطيع ذلك بإذن الله، ولا نقول: لا يوجد كوادر، فمهما قلنا ذلك إذا وجدت الإرادة وجد كل شيء، ليس في هذه المسألة فحسب؛ بل إن صدقنا مع الله وإن أردنا حقاً أن نقضي على الربا، والله لنقضين عليه قضاءً مبرماً، ونعيش بعد ذلك عيشةً سعيدةً هنيئةً فيها البركة والنماء لا المحق والخسارة.
إن أردنا الحجاب والعفاف والصون والله نستطيع ذلك، وما الذي يمنعنا؟ ماذا علينا لو آمنا بالله واليوم الآخر حق الإيمان، ماذا علينا لو تمسكنا بما كان عليه السلف الصالح؟ والله ليس علينا شيء.
لكننا لا نريد! وهنا المشكلة يعتذرون بقلة الطاقات، أو ليست المستشفيات مختلطة؟ افصلوا هذا عن هذا، ويعتذرون أحياناً بالمال، أوَلسنا نسخِّر المال في لهوٍ ولعب؟ فخير وأوجب وأولى ما يسخر فيه المال في حفظ العرض وصون الشرف، والعفاف والفضيلة والطهارة، حتى لو كانت نساء ذميات كتابيات في ظل الدولة الإسلامية وجب أن ينفق المسلمون من بيت المال ما يحفظون به عفافهن، وحرمتهن، حتى لا ينتشر الفساد في الأرض، فكيف بالمؤمنات الحرائر العفيفات الطاهرات، اللواتي يكتبن رسائل تدمي القلب.
إحداهن تقول: والله إنني لا أذهب إلى السوق أو إلى أي مكان -إذا اضطررت أن أخرج من البيت- إلّا متغطية متحجبة حجاباً كاملاً لا يرى مني ظفر، فإذا جاءت الولادة فإنه يأتي الطبيب الأجنبي -وقد يكون كافراً أو ملحداً- فيرى مني كل شيء حتى عورتي، أين غيرتكم يا دعاة ويا علماء ويا طلبة علم؟! إلى هذا الحد حتى عامل النظافة يدخل، سبحان الله العظيم! لماذا لا نعين من يقوم بهذا العمل؟ فكل من يفتح مستوصفاً أو مستشفىً نسائياً متخصصاً نعينه، ونمده بالمال والطاقات وبكل جهد، فإن هذا من إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا من أوجب الواجبات، والحمد لله فليس هذا بغريبٍ علينا، وانظروا تعليم البنات عندما قام ووضعت له ضوابط، كان فيه خير كثير والحمد لله، رغم ما دخله من خلل، لكن فيه خير كثير، فلِمَ لا يكون الحال في المستشفيات كذلك؟ عجيبٌ جداً أنه إذا قبض على الرجل والمرأة مختليين، -وكان هذا الرجل مدرساً -مثلاً- وهي مدرسة- فإنه ينكر عليهما لأنهما اختليا، أما إذا كانا طبيباً وطبيبة، أو طبيباً وممرضة، فنحن الذين نهيئ لهم الغرفة والخلوة، ونهيئ لهم كيف يختليان، فكيف يقع هذا التناقض؟ من الذي حرَّم هذا وأحلَّ هذا؟ أليست الخلوة حراماً على كل أحد وكيفما كان؟! المدِّرسة لا تأتي إلا بمحرم، والممرضة تأتي بغير محرم هذا أمر عجيب، قانونان ونظامان في بلد واحد، وفي أمة واحدة، لماذا هذا؟ أليست هذه الممرضات أقرب إلى الفسق من المدِّرسات؟ وخاصة أن كثيراً من معاهد المعلمات وكليات البنات منفصلة حتى في خارج المملكة، فسبحان الله! هذه بحجاب وصون وأوامر مشددة، وتلك منفلتة لا يماثلها إلا ما يسمونه بالمضيفات خادمات الطائرات.
يجب علينا أن نتق الله، فلا عذر لنا في معصية الله ونحن أمة تملك أعظم الموارد المالية، وتملك أكبر الطاقات البشرية، والله لو أردنا أن نشتري أكبر العقول في الغرب -ليس في الشرق فقط- التي تصنع القنابل النووية لاشتريناها؛ وجاءتنا راغمة.
فالمال موجود، والغيرة موجودة -إن شاء الله- لكن علينا أن نغير بقدر الاستطاعة، فهذا يطالب وهذا يخاطب، وهذا يخطب الجمعة، وهذا يكتب في الجريدة، وسيأتي الخير بإذن الله، وما ضاع حق وراءه مطالب، وهذه قضية حافظ عليها العرب في جاهليتهم، وحافظ عليها أجدادنا قبل أن تبلغهم دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وقبل أن يروا نور التوحيد، إنهم كانوا يسمون المرأة وإلى اليوم بالعار، وكلمة العار تطلق على المرأة وهذا من المجاز في اللغة؛ لأن أي شيء يمسها فهو العار.
والآن أصبحنا نتهاون بهذه القضية، بعض الأزواج أو المحارم -أياً كان- يرمي بها عند باب المستشفى ويذهب ولا يعلم ماذا يُصنَع بها، عجيب! إلى هذا الحد، فإذا رخصت عندك امرأتك أو عرضك إلى هذا الحد، فما الذي تعظم؟ وما هو أغلى شيء عندك؟ وأعني بعد إيمانك؛ لكن نتكلم عن هذا الأمر الظاهر الذي تغار له القلوب، فالمسلم لا يرضى بذلك، وإن المؤمن لا يرضى لكافرٍ أن يرى عورة كافرة لا تحل له، وليست من محارمه، فكيف نرضى أن ترى عورة المرأة المسلمة من فجار أو فساق أياً ما كانت العلل في ذلك، ما عدا الضرورات القصوى التي يجب أن يوضع لها ضوابط، ولا تنفلت هكذا، والله أعلم.(13/15)
حكم عمل الكفار في جزيرة العرب
السؤال
رجل يعمل في مستشفى حراء، ومستشفى حراء خارج مكة -خارج الحرم- وكأن كل شيء خارج الحرم فهو حلال؟
الجواب
من قال هذا؟ ما حرم الله فهو الحرام، في خارج الحرم وفي جدة، وفي جزيرة العرب بالذات ثم في كل مكان، ومن ذلك استقدام الكفار، فلا يجتمع في جزيرة العرب دينان أبداً، هذه وصية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد انعقد عليها إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم في زمن عمر رضي الله تعالى عنه، فأصبحت إجماعاً لا يجوز أن يخرق، وعليها والحمد لله فتاوى علمائنا.
وقد قرأتم الفتوى الطويلة لسماحة الشيخ عبد العزيز رحمه الله له في فتاواه المنشورة مؤخراً عن استقدام العمال الكفرة في الجزيرة كلها وهي من نهر الفرات ونهر العاصي، وأطراف الشام إلى قعر عدن، ومن الخليج أو بحر البصرة -كما يسمى قديماً- إلى البحر الأحمر، هذه جزيرة العرب فلا يجوز أن يدخلها نصراني ولا يجتمع فيها دينان.
فكيف يكون كما قال السائل: ممرض ورئيسة قسم التمريض في المستشفى كله -وليس في القسم فقط- امرأة فلبينية نصرانية صليبية متعصبة جداً -هذا كلامه- ويكفي أنها كافرة حتى لو لم تكن متعصبة، المهم أنها نجس ورجس وتعمل رئيسة للتمريض، فكيف نتوقع أن يكون التمريض؟ المسلم الفاسق لا يجوز أن يتولى إمامة الصلاة مع وجود الأخيار إلا إذا كانوا كلهم فساقاً فيؤم أمثلهم، ولا يولى الأب على ابنه إذا كان فاسقاً، وتنتقل الحضانة إلى الخيِّر الصالح، فكيف بالكافرة تُولى على التمريض كله في مستشفى في بلد الله الحرام؟ الله المستعان، هذا من المنكرات.
ويقول السائل: إنها ترأسني وتتحكم فيّ.
أقول: ما دام أنها رئيسة فلا بد أن تتحكم، وهذه من المنكرات التي يجب أن نتعاون على إنكارها، وأنا إن شاء الله سأحتفظ بهذه الورقة وأتأكد من الموضوع، ونحاول ما نستطيع في إنكار هذا المنكر.(13/16)
واجبنا نحو انتشار المنكرات
السؤال
ما واجب العلماء والشباب نحو انتشار المنكرات في مكة، خاصةً محلات الأزياء والبنوك، ومحلات تسجيل الأغاني والفيديو وغيرها؟
الجواب
يجب علينا جميعاً أن ننكر المنكرات، ولا نقول: العلماء، أو الدعاة، أو الجهة الفلانية! لا، فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، ربما يأتي أمر شديد اللهجة من وزارة الداخلية بعدم التبرج، وإقفال الملاهي الساعة الحادية عشرة ليلاً أو الكازينوهات، ولا يعمل به في بعض المناطق أو بعض المدن، وربما تذهب أنت الشاب طالب العلم في مقتبل العمر، وتعظ وتنصح صاحب الكازينو ومن فيه، فيفتح الله على يديك فيقبل وربما يهتدي ويقفله بالكلية، فلا نجعل الأمور كلها دائماً من فوق وبأوامر وبعلماء وبوسائل ضغط، لِمَ لا نبذل نحن وسيلة الدعوة؟ بالزيارات، والمناصحة، والكتابة، والشريط، والهاتف.
وكثير من المنكرات تغير بالهاتف، ماذا عليك لو اتصلت بصاحب محل، وقلت له: لماذا كذا وكذا؟ يا أخي! اتق الله أنا أخوك في الله مسلم أنصحك فقط، فإن صاح أو كشر، فضع السماعة ولم يضرك شيء، ولا يستطيع أن يضربك، فأنت بعيد عنه، وإن سمع منك فالحمد لله، فعلينا بتقوى الله، فالله تعالى يقول لنا يوم القيامة: ما منعك أن تنكر ذلك المنكر؟ فتقول: يا رب! خوف الناس -أعوذ بالله- ماذا يقول لك الله عز وجل تخاف الناس ولا تخافني، إلى هذا الحد، ابذلوا جهدكم بما تستطيعون، فكم من صاحب منكر سمع وقبل النصيحة بالدعوة إلى الله.
ثم -أيضاً- يكتب العلماء إلى كل من له سلطة وتقام عليه الحجة في إنكار هذه المنكرات ولا سيما في هذا البلد الحرام الذي جعل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- له من المنزلة والمكانة حيث قال: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25].(13/17)
طرق الوصول إلى مقومات المجتمع المسلم
السؤال
بعد ما عرفنا مقومات المجتمع المسلم ولله الحمد، ما هي أفضل الطرق لسلوك هذه المقومات؟
الجواب
هو طريق طلب العلم والدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل بكتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد اشتملت على هذه المقومات وعلى ما هو أعم منها.(13/18)
التمسك بالقديم ليس من أسباب التخلف الاجتماعي
السؤال
ندرس في مدارسنا في المرحلة الثانوية مادة الاجتماع، وفي هذه المادة موضوع بعنوان (أسباب التخلف الاجتماعي) ومن ضمن هذه الأسباب سببٌ يقول: إن التمسك بالقديم من أسباب هذا التخلف، ولذلك يجب تركه ونبذه؟
الجواب
أحب من الأخ الفاضل أن يصور الورقة أو الصفحة التي فيها هذا الكلام ويصور غلاف الكتاب ويأتيني به إن شاء الله حتى تكون العبارة أكثر دقة، وأنا لا أستبعد أنها موجودة، ولا أتهم الأخ، لكن حتى إذا تكلمنا -إن شاء الله- نتكلم عن بينة، وإلا فحقاً هناك دعوى عريضة قائمة في الدنيا اليوم أن التمسك بالقديم من أسباب التخلف، والقديم يعنون به (القرآن والسنة) وعمل الصحابة، وحتى التقاليد والعادات الطيبة المأثورة عن الآباء والأمهات والأجداد؛ كل ذلك يجعلونه قديماً، لكن ما دام أنه في منهج، فيجب أن ينكر عليه بلجنة إدارة التطوير التربوي في الوزارة، فعلى الأخ أن يصور الغلاف ويطبع هذه الصفحة، ويأتيني بها، وإن شاء الله نكتب عليها بإذن الله أو نتخذ ما نراه إن شاء الله تعالى.(13/19)
منكرات النساء في الأفراح
السؤال
كما تعلمون أنه في وقت الإجازة تكثر الزواجات، وعند النساء منكرات كثيرة مثل: الغناء، ولبس القصير، والغيبة، والنميمة، فما حكم الذهاب إلى الأفراح والزواجات نأمل توجيه نصيحة وجزاكم الله خير؟
الجواب
يكفي أن أنقل هذه النصيحة للرجال أن يتقوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فإن الله سائلٌ كل راعٍ عما استرعاه، وقد استرعاكم على هؤلاء النساء، وأمركم بحفظهن وصونهن.(13/20)
المشجع على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
نرجو من فضيلتكم بيان المقومات المساعدة لتقوية الشجاعة في قلب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر؟
الجواب
إذا أردت أن تكون شجاعاً في قول كلمة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعليك بشيء واحد فقط هين ولكنه عظيم، اعرف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتذكر الله، وعظمته، وتذكر أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي يملك الضر والنفع وإليه المنتهى، وبيده خزائن كل شيء، وأن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه لك، ولو اجتمعت على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه عليك، واقدر ربك حق قدره.
ثم تفكر في نعمته عليك، وأن هذه النعم لو أعطاك أحد من الناس عشر معشارها؛ وطلب منك أن تضرب أحداً، أو تأمر أحداً، أو تتكلم عمن تكلم فيه؛ لفعلت ذلك إكراماً لعطيته، والله تعالى قد أعطاك هذه النعم جميعاً، وأمرك أن تقول كلمة الحق من كتابه ومن سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم انظر إلى المدعوين أنهم مثلك بشر، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا يملكون موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، كلهم مفتقرٌ إلى الله، وكلهم بحاجة إليه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في كل أمر من الأمور، ولا يملك أن يضرك أحد بشيء.
فأنكر عليهم بالأسلوب الحسن والحكمة كما أمر الله، والحكمة وضع الشيء في موضعه، فالقوة تكون في موضع القوة، والقول في موضع القول، والصمت في موضع الصمت، والشدة في موضع الشدة، وهكذا فإذا عرفت ربك وقدَّرته حق قدره، وعرفت نعمته عليك، وعرفت ضعف المخلوقين وافتقارهم إليه وأنهم كلهم عبيده، وأن أمرهم ونواصيهم بيده، فما يمنعك أن تنكر عليهم، والله لا يمنعك حينئذٍ شيء بإذن الله، وهذا يحتاج إلى ممارسة وإلى تمرين، نسأل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يعيننا عليه لنبلغه.(13/21)
الواسطة والتوكل على الله
السؤال
من مقومات المجتمع المسلم العدل، والعدل والواسطة، بشكلها الحالي ضدان لا يتفقان، سؤالي هو: ما موقف الشباب المسلم من استخدام الواسطة التي عمت وطمت حتى إننا لا نستطيع الحصول على أي حق من حقوقنا كبر أو صغر في أي جهة أو مؤسسة إلا عن طريق من يعرف ذلك الشخص المسئول مما أفقدنا لذة ومعنى التوكل على الله، فهل هي منافية لهذا التوكل، وما موقفنا منها؟
الجواب
الشفاعة نوعان: شفاعة حسنة ومن يشفعها يكن له نصيب منها، وشفاعة سيئة ومن يشفعها يكن عليه كفلٌ منها، والإنسان قد يحتاج للإنسان، والكل يحتاجون إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولكن المشكلة أنه خرج الأمر من طور طلب المساعدة أو الحاجة إلى طور الواسطة -كما تسمى- التي تسقط الحقوق أو تجلب ما ليس للإنسان من الحقوق، وتفشت هذه الظاهرة، فكانت في أول الأمر نادرة، وبالذات عند المسئولين، ثم أصبح الأمر عادياً جداً، فكل من يأتي لمعاملة فأول ما يسلِّم على المدير يعطيه الورقة، ثم بعد ذلك يحدثه عن الموضوع، وربما بعض الأمور تخبر بالتلفون وهي تحتاج إلى ملفات وأوراق -من أجل الواسطة- ويتعطل من لا شفيع له، وإن كان مستوفياً أو مستكملاً لكل الإجراءات النظامية.
هذه إحدى العلل التي ابتلي بها المسلمون عندما فقدوا التمسك بالإيمان بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، والعدل والإنصاف، وهذا داء يجب أن يعالج من الجميع.
أما منافاته للتوكل، فنعم قد ينافي التوكل؛ لأن منافاة التوكل قد تكون مما ينافي أصله، فهذا شرك، كمن يتوكل على غير الله -تبارك وتعالى- أو يدعوه أو يستغيث به، وقد ينافي كمال التوكل، وأقل ما في هذا أنه ينافي كمال التوكل وربما ينافي الكمال الواجب لا الكمال المستحب، فيقع الإنسان في كبيرة، نسأل الله العفو والعافية.(13/22)
حصر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بعض المنكرات
السؤال
إن من المقومات الأساسية للمجتمع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكننا نجد من يحصر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقصد أو بغير قصد في بعض المنكرات كترك صلاة الجماعة وغير ذلك، ونحن نرى المنكرات تبث عبر وسائل الإعلام بشتى أنواعها وفي الكتب والمناهج، ثم ينكَر على من ينكِر ذلك، فهل من كلمة حتى نحافظ على تماسك المجتمع وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يحفظ لأمتنا ومجتمعنا تماسكه، وإيمانه، ووحدته في ظل كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا شك أن ترك صلاة الجماعة من أعظم المنكرات، لكن الاقتصار عليه وحده واعتبار أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاص فقط بالصلاة، هذا نتيجة انحراف منا، وخلل في التطبيق، انحصرت دعوتنا وإنكارنا قليلاً قليلاً حتى أصبح هذا حالنا.
أول ما كانت الهيئات قبل حوالي عشرين سنة، كانت تفتش المطارات، والجمارك وكانت تقوم بما تقوم به البلديات اليوم، من الكشف في الأسواق عن الغش والتحايل والتلاعب -وهذا من عمل المحتسب الذي ورد في أعمال المحتسب التي نص عليها الفقهاء-، وكانت تقوم بأعمال الشُرط وأعمال المحاكم وغيرها، من الأعمال التي كانت أقرب إلى ديوان الاحتساب المعروف في التاريخ الإسلامي.
ثم تقلص العمل شيئاً فشيئاً، فبعد ذلك تقلص المبدأ، وأصبح المبدأ هو أن الإنكار فقط على ترك الصلاة، وإن كان ترك صلاة الجماعة لا شك أنه منكر، لكن كل منكر يجب أن ينكر، المنكر ما أنكره الله وأعظمه الشرك، والمعروف هو ما جعله الله -تبارك وتعالى- معروفاً وأعظمه توحيد الله عز وجل.(13/23)
تفكك الاتحاد السوفيتي
السؤال
نسمع هذه الأيام ما يدور في الاتحاد السوفيتي من سقوط بعض أحزاب الشيوعية، ولا نسمع شيئاً عن الجمهوريات الإسلامية؟
الجواب
المسلمون كما قال الشاعر:
ويقضى الأمر حين تغيب تيمٌ ولا يستأمرون وهم شهود
ما دخل المسلمين في الموضوع؟ المسلمون فرحوا وهللوا بعودة جورباتشوف والحمد لله وأيدنا.
هذه القضية، وفرحنا أن دول البلطيق ستستقل إن شاء الله، ولكن ماذا عندنا؟ هذا الذي يهمنا، أما مائة مليون مسلم، وبلاد إسلامية مساحتها أكثر من مساحة الدول العربية، اثنا عشر مليون كيلو متر مربع، احتلها هؤلاء المجرمون؛ ولا يستطيعون أن يقيموا من شعائر دينهم شيئاً، اضطهاد، وعذاب، وفتنة، ودمار، دمروا اللغة العربية، والحرف العربي، يدرسوهم الإلحاد مكان الدين.
فلما جاء جورباتشوف والبروستريكا ماذا غير؟ حول أو أراد التحول -إلى الآن ما تحول تحولاً كاملاً- من الشيوعية إلى الصليبية، فهو صليبي ينادي ويصرخ بصرخات صليبية، منها الصرخة التي أطلقها مع بداية البروستريكا وهي أنه يجب على حكومة الولايات المتحدة أن تضع يدها في يد الاتحاد السوفيتي لضرب الحركة الأصولية في العالم الإسلامي، وضرب الدعوة.
هذا جورباتشوف الذي بعث الكاثوليكية وذهب يتذلل إلى البابا ليكسب ولاءه، ماذا فعل مع المسلمين؟ سحقت الدبابات المناطق الإسلامية في أذربيجان وفي غيرها، أما لتوانيا وأخواتها فالتذليل والتبشير ووعد الاستقلال، وكل ما تريدون.
حتى المساعدات التي تقدم للاتحاد السوفيتي والهبات والعطايا من الغرب أو من غيره، إنما تنفق بالدرجة الأولى على الشعوب الأوروبية، أما الشعوب الآسيوية وإن كانت غير مسلمة، فهي على درجة ثانية، أما المسلمين فإن كان لهم شيء فهو أتفه نصيب، ولكن نحن أمة أصبحنا، كأننا ليس لنا ذات مستقلة، ولا شخصية، وإنما لما رأينا هذه الدولة تسقط وتتفكك، هرعنا وهلعنا، ولماذا يتفكك؟ سبحان الله العظيم! ما كأننا سقطت منا أمم، ذهبت الأندلس ونسيناها، ثم ذهبت الهند بأكملها، وقد كانت تحت حكمنا، بل موسكو دفعت الجزية للمسلمين أكثر من قرنين، وكانت تحت حكم المسلمين، وضيعنا إفريقيا ووضيعنا دولاً كثيرة يحكمها الصليبيون، ثم نقول: كيف يتفكك الاتحاد السوفيتي؟ ثم تسدي جرائدنا النصيحة الفاضلة القيمة لـ جورباتشوف يجب عليك أن تعمل كذا، وانتبه من كذا، نصح عجيب جداً لهم، فبعض الجرائد ثمان صفحات تكتب عن جورباتشوف، وما كتبوا عن القضية الأفغانية ربما ولا سطر أو سطرين.
وبالمناسبة فإننا نطلب منكم التبرع لإخوانكم المجاهدين الذين تكالبت عليهم قوى الكفر فلو أننا أمة تعرف الله وتعرف دينه، وتعرف من توالي ومن تعادي، لكان موقفنا من هذه الأحداث غير هذا الموقف تماماً.(13/24)
النظام الدولي الجديد وحربه ضد الإسلام
السؤال
صراحة وحقيقة في ظل الوفاق الدولي الجديد الجهاد الأفغاني اليوم هو بالدرجة الأولى قضية أمريكية وليس قضية سوفيتية ولهذا لم تكن تتغير الصورة كثيراً؟
الجواب
بعد عودة جورباتشوف لم يتغير شيء، لكن لو لم يعد، لربما كان هناك شيء من التغير، نقول: ربما لكسبت بعض الشعوب المضطهدة أو المستضعفة، لكن ما كان ذلك، وقدر الله ولعل في ذلك خير على أية حال، فالقضية هي قضية أمريكية باسم النظام العالمي الجديد، والقوى الصليبية كلها اليوم تقف ضد المسلمين في أفغانستان والفلبين، والحبشة وأرتيريا والصومال وفي كل مكان.
وقد توعدوا -ونسأل الله أن يخلف وعدهم وظنهم- بأن المرحلة القادمة بعد إحلال السلام فيما يسمى في بالشرق الأوسط، وإخضاع المنطقة لهم سينقلون الميدان إلى القارة الهندية وإلى إندونيسيا؛ ليقضوا على القوة البشرية للمسلمين في هذه المناطق والقوة العلمية، العالم الصليبي اليوم هو الذي يتحكم في العالم الإسلامي بهذا التحكم، فـ الاتحاد السوفيتي جزء الآن مما يسمى بالنظام الدولي الجديد؛ والخطة بالأساس تضعها أمريكا، ثم تتبعها المجموعة الأوروبية، ثم بالدرجة الثالثة الاتحاد السوفيتي.(13/25)
سورة الحجرات ومقومات المجتمع المسلم
السؤال
سورة الحجرات تضمنت بعض المبادئ التي يجب أن يقوم عليها المجتمع المسلم فنرجوا توضيحها؟
الجواب
أشرنا إلى بعضها، وأنبهكم إلى قراءتها وإلى قراءة تفسيرها، وهناك من كتب فيها موضوعاً مستقلاً.
وفي الأخير أسأل الله الكريم، رب العرش العظيم، أن يرزقني وإياكم الإخلاص في القول والعمل، وأن ينفعنا بما نسمع وما نقول، إنه سميعٌ مجيب.
والحمد لله رب العالمين.(13/26)
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح
في هذه المادة تحدث الشيخ حفظه الله تعالى عن الديانة النصرانية، وذكر أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته لمعتنقيها، ثم ذكر نبذة عن تحريف العقيدة النصرانية، وانتشارها في أوروبا.
متطرقاً لصلب الموضوع وهو الحديث عن كتاب (الجواب الصحيح) لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وبين أهمية الكتاب، وتكلم عن بعض مباحثه، ثم استعرض نشرة خاصة عن التنصير والمنصرين في العالم، موضحاً جهود النصارى ومحاولاتهم -قديماً وحديثاً- لتنصير المسلمين ولا سيما في جزيرة العرب, مستعرضاً وسائلهم في ذلك, وأماكن تواجدهم.
ثم تحدث الشيخ عن فكرة تنفيذ مشروع ترجمة كتاب شيخ الإسلام (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) إلى لغات العالم, ومن ثم يكون نواة لأعمال أخرى لمقاومة التنصير ومحاربته.(14/1)
نبذة عن النصرانية
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد القائل: {والذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار} وبعد: فالحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً على ما أفاء به علينا من النعم، ومن أعظمها نعمة الإسلام فهي أعظمها جميعاً، ونعمة اتباع سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن الاجتماع واللقاء الحافل الحاشد الذي حصل كان اجتماعاً عظيماً مباركاً، كما عبر عنه فضيلة العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، فقال: 'لا أعلم في تاريخ المنطقة حفلاً مثله' وهذه شهادة من هذا العلامة الثقة على كبر سنه وغزارة علمه، نعم إنه حفل لا نقول: إن المنطقة لم تشهد مثله قط، بل نقول: إنه لم تشهد مثله منطقة أخرى، فنسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك جهود القائمين عليه، وأن يوفق جميع العاملين لإحياء سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يحقق لهم نصره المبين الذي وعد به عباده المؤمنين {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] وإنني لأعجز كل العجز مهما كانت العبارات عن شكركم وعن تقديري لحفاوتكم، وإكرامكم البالغ الذي لا أستحق جزءاً يسيراً منه، ولكنه طبعكم الكريم، فأسأل الله تبارك وتعالى أن يجازيكم عن هذا خير الجزاء، وأن يجعلنا جميعاً خداماً وجنوداً لدينه، ولدعوته.
ولقد كان من توفيق الله تبارك وتعالى لهذه الفكرة التي نريد في هذا الدرس أن نعرضها على هذه الوجوه الخيرة الطيبة، أن يأتي هذا اللقاء بعد ذاك اللقاء الحاشد، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى.
وحفظ سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما تعلمون يكون على نوعين: أما النوع الأول: حفظها في ذاتها واتقانها.
والنوع الثاني: هو حفظها بالذب عنها، والدفاع عن حوضها، ودفع شبهات المبطلين الذين يكيدون لها، وهذا هو الجانب الذي أرجو أن يكون ما أعرضه في هذا الدرس كافياً في حدود طاقتنا البشرية، لكي نسد هذا العجز والخلل بإذن الله تبارك وتعالى، فإن سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودينه وشرعه لها علينا حق عظيم، فهي الأمانة التي حُملنا إياها نحن معاشر طلبة العلم، وهي الميثاق الذي أخذه الله تبارك وتعالى، وهي الميراث الذي أورثنا إياه رسول الهدى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك فإنه من الواجب علينا أن نجتهد في حفظها كل الاجتهاد ولا نألوا في حفظها.
وحفظ السنة والشريعة والدين بدفع الصائل عليها، وإقامة الحجة عليه، وجهاده بالقرآن جهاداً كبيراً، هذا يستدعي جهوداً عظيمة نعجز عنها، ولا سيما من كان في هذا الزمان والله المستعان، ولكن الله بفضله وجوده ومنَّه وكرمه منَّ علينا بوسائل عظيمة، ومنَّ علينا بعلماء أفذاذ في الماضي قاموا بهذا الواجب قياماً عظيماً، ولو أننا قمنا بإحياء ما كتبوه ونشره وشرحه وإيضاحه لكان ذلك عملاً عظيماً، ثم نسد ما بقي مما استجد من ضلالات وشبهات وغيرها مما يقتضي الحال أن نبينه، وأن نكون قائمين لله تبارك وتعالى بالحجة في عصرنا الذي نحن فيه.
والأعداء الذين يكيدون لسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم كثيرون جداً، وعلى رأسهم أهل الكتاب الذين ذكر الله تبارك وتعالى عداوتهم وحسدهم ومكرهم وغيظهم لنا -لأن الله تعالى بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العرب الأميين- في غير ما موضع من كتابه، يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] ويقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران:100] فهذا شأنهم، وهذا دأبهم في جميع العصور منذ أن بعث الله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأقام عليهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحجة، ولا سيما النصارى الذين هم موضوع هذا الدرس.
فقد أقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم الحجة عندما أتاه وفد نجران، وقرأ عليهم ما أنزل الله تبارك وتعالى عليه من الحجج العظيمة في صدر سورة آل عمران، وكذلك كتابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى هرقل والمقوقس وغيرهما من ملوك النصارى، وجهاده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للنصارى معروف كما حدث في غزوة تبوك، وأمثال ذلك مما يظهر به عداوة هؤلاء، ويظهر به أيضاً أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام بأمر الله وبمجاهدتهم وإقامة الحجة عليهم؛ فإنهم كانوا أول كافر به، وبالذات اليهود، ثم إنهم عادوه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك حذر أمته من عداوتهم، وأخبر عن ذلك بأنهم في آخر الزمان سيجتمعون وينزلون بـ الأعماق أو بـ دابق لمقاتلة المسلمين، والأحاديث في الفتن والملاحم كثيرة، ولن تنتهي هذه المعركة مع أهل الكتاب إلا بنزول المسيح عليه السلام عبد الله ورسوله، الذي ألهوه وعبدوه من دون الله، فإذا نزل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَم وكسر الصليب، وقتل الخنزير، ورفع الجزية، وقتل المشركين هؤلاء، حينئذٍ يظهر الحق، وتتطهر الأرض من شرك هؤلاء المنتسبين إليه زوراً وظلماً وعدواناً.
إن الكلام في هذا الموضوع -أيها الإخوة- طويل، وحقيقة الأمر أن موضوعنا في هذا الدرس إنما هو غرفة من بحر شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، وهو كذلك عمل بطريقة أو بطرق -لأنها قد تكون أكثر من طريقة- مما اقترحه فضيلة أخونا الشيخ سلمان بن فهد العودة -حفظه الله- في مقاومة التنصير، ومن هنا كان لا بد أن نتعرض بشيء من العجلة للبداية التاريخية لهذه العداوة ولهذا التنصير، ثم للكتاب الذي هو الموضوع الرئيس في عملنا، ثم نوجز لكم شيئاً مما نريد أن نعمله إن شاء الله.(14/2)
تحريف العقيدة النصرانية
العقيدة النصرانية حُرِّفت وبُدِّلت وغُيِّرت كما أخبر الله تبارك وتعالى وكما يشهد بذلك الواقع، فكثرت الأناجيل بعد رفع المسيح عليه السلام كثرة عجيبة، حتى إنه في نهاية المائة الثانية الميلادية أقرت المجامع الكنسية الأناجيل الأربعة الموجودة والمعروفة الآن، وهي أربعة من ضمن ما يزيد على سبعين إنجيلاً متفاوتة مختلفة، وهي في ذاتها متناقضة ومختلفة في كثير من الأمور بل في أعظم الأمور، كدعوى الألوهية للمسيح ودعوى البنوة وصلبه {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] غير أن من أعظم ما وقع فيها من تحريف وهو الذي يهمنا بسبب الحديث عن التنصير أن بولس الذي يدعون أنه بولس الرسول أو شاؤل اليهودي كما كان يسمى، قد بدل دين المسيح وحوله من دين محدود في بني إسرائيل فقط إلى دين عالمي، والله تبارك وتعالى بيَّن في كتابه أن عيسى إنما هو رسول إلى بني إسرائيل {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيل} [آل عمران:49] ولم يبعث الله تعالى قبل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً إلى العالمين كافة، بل هذا من خصائصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما ثبت ذلك في أكثر من حديث وآية، والمقصود أن المسيحية كما تسمى وهي النصرانية أو ما جاء به المسيح عليه السلام من الحق والدين والدعوة إنما كانت محصورة في بني إسرائيل، وبذلك تنطق الأناجيل الموجودة إلى الآن بين أيديهم، فإنها تذكر أن المسيح عليه السلام جاءت إليه امرأة فينيقية أو سورية، وتختلف الأناجيل في قصتها، ولكن المقصود أنها جاءت إليه عليه السلام فرَّدها، وقال: إنما بعثت إلى خراف بني إسرائيل الضالة، أي أنه لم يبعث إلا إلى بني إسرائيل، ومع ذلك فإن بولس قد ذهب إلى عدة بلاد وأرسل الوعاظ في أماكن كثيرة من العالم لنشر هذا الدين، وأهم جزء نُشر فيه هذا الدين وانتشرت فيه عقيدته هو أوروبا، العدو اللدود للإسلام والمسلمين منذ ذلك الحين وإلى قيام الساعة، وهي التي كانت تعرف بالدولة الرومية، أو الامبراطورية الرومانية البيزنطية، كما يعرفونها.(14/3)
نشر الديانة النصرانية في أوروبا
هنالك في مجمع نيقيه في سنة 325 م عُقِدَ المجمع وقُرِّرَتْ العقيدة الباطلة، واعتنق قسطنطين ملك الروم دينهم، وعُمِّدَ وانتشر هذا الدين، ثم اجتاحت أوروبا بعد ذلك موجات من الغزو البربري الذي يسمونه الغزو الهمجي من قبل شعوب الشمال النورمانديين وأمثالهم، اجتاح هؤلاء الامبراطورية الرومانية، ودمروا روما حوالي سنة 410م، ومن 410م إلى 1210م وهي قرابة ثمانمائة عام لم تعرف أوروبا علماً ولا هدى، ولم يؤلف فيها كتاب واحد على الإطلاق، والكتاب الوحيد المعروف والمقروء فيها خلال الثمانية قرون هو الكتاب المقدس -التوراة والأناجيل فقط- وفي هذا الظلام الدامس نشأت الأفكار، ونشأت الضلالات، ونشأت البدع، ونشأت الفرق، إلا أن أمراً واحداً لم يتغير وأجمعت عليه كل الفرق والطوائف وهو عداوة الإسلام والمسلمين، ومن ثم كانت الحملات الصليبية التي تعلمون وقائعها، ولا داعي للتفصيل فيها، عندما قامت تلك الحملات ولأول مرة في تاريخ أوروبا، تنفتح أعين الأوروبيون على النور، وعلى الحق، وعلى الخير، وعلى الإنسانية، فإنها لم تكن تعرف للإنسان أنه إنسان حتى جاء أولئك إلى العالم الإسلامي المتمدن المتحضر، حينئذٍ بدأ ما يمكن أن نسميه الغزو الفكري أو الغزو التنصيري في العالم الإسلامي.(14/4)
مباحث من كتاب (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)
ومن أعظم من ألف في بيان تحريفات النصارى، وتنافضاتهم: شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح(14/5)
سبب تأليف الكتاب
وسبب تأليف شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله لكتابه: هو أن أحد بطارقتهم وعلماء دينهم اجتاز بعض أنحاء العالم الإسلامي في تركيا وغيرها، وعاد إليهم وأخذ يخطب ويقول: 'إن المسلمين على دين باطل محرف، وإني قد قابلت علماءهم وناظرتهم، فأفحمتهم وأبطلت دينهم، وحطمت شبهاتهم' إلى آخر ما افترى وكذب به هذا المفتري، فلما بلغ ذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله أخذته الغيرة الإيمانية، فجرد سيف الحق على هذا الباطل، وسيف الحجة الإيمانية على تلك الشبهات المفتراة الداحضة، ففندها واحدة واحدة، وأبطل كلامهم، وجاءنا بهذا الكتاب الفذ الذي لم يكتب قبله مثله ولا بعده.
ورحم الله شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية هذا العلم العلامة الجهبذ الفهامة، كم من طواغيت قد حطمها! طاغوت المنطق فنده ودمره قبل أن تعرف ذلك أوروبا بأكثر من خمسة قرون، لأن هيجل المعروف في التاريخ الأوروبي بأنه دمر أو قضى على منطق أرسطو لم يكتب شيئاً مما يقارب عشرة أو عشرين في المائة مما كتبه شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله، ونقول: هذا والحمد لله عن علم واطلاع، والغربيون يسمون هيجل إله العلم أو إله الفكر، تعالى الله عما يقولون! ولو اطلعوا على كلام شَيْخ الإِسْلامِ ونظروا بعين الإنصاف والتجرد لكانوا يؤمنون بالله وبرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا فقط في المنطق، وأيضاً رد على المتكلمين، وتعلمون كتابه العظيم درء تعارض العقل والنقل، وكتابه الآخر نقض التأسيس وغير ذلك ورد على الأشعرية، ورد على المؤولة، ورد على الرافضة بكتابه العظيم المشهور منهاج السنة، وهنا رد على اليهود والنصارى في هذا الكتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، وهكذا رحمه الله.
فالكتاب لا نظير له في بابه لأنه من تأليف هذا العلامة رحمه الله رحمة واسعة، وإن كان شَيْخ الإِسْلامِ في الحقيقة لا يحتاج هو ولا كتبه إلى تعريف، ولكني رأيت أن أعرض لشيء مما في هذا الكتاب لسبب أراه مهماً، وهو أن بعض طلاب العلم إن لم أقل الكثير ممن عرفته وسألته وناقشته عند بداية فكرتنا هذه ومشروعنا هذا يقولون: إنهم لم يقرءوه، ووقع لي أن سبب ذلك أن كثيراً من الإخوة طلاب العلم أو العلماء بارك الله فيهم جميعاً يقولون: إن الكتاب يتحدث عن الأقانيم وعن الصلب وعن فرق النصارى وغير ذلك من أمور قد لا يكون من الضروري أن يطلع عليها إلا من يريد التجرد للرد على هؤلاء، وربما لا يكون كثير من هؤلاء لديه هذا الاهتمام بهذا القدر.
لذلك أحببت أن أطلعكم على بعض ما أرى من نقول، وأرجو ألا أطيل فيها عليكم -إن شاء الله- لكنها تبين لكم غزارة ما في هذا الكتاب من علم، وتنوع موضوعاته، فالكتاب في الحقيقة ليس فقط فيما يتعلق بالنصارى، بل هو يقرر تقريراً عجيباً عظيماً حقائق قد لا توجد ولا أظنها توجد في أي كتاب آخر غيره، إنها علوم جمة يحتويها هذا الكتاب، فهو دائرة معارف أو معلمة في علم مقارنة الأديان.(14/6)
مباحث في علم العقيدة
وهو يحوي من ضمن ما يحوي: علم العقيدة وهو أشرف العلوم وأفضلها، توحيد الأسماء والصفات، وفيه قواعد عظيمة ذكرها رحمه الله تعالى.
من ذلك القاعدة العامة في توحيد الأسماء والصفات المعروفة، إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه أو أثبته له رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلى آخره مع شرحها، ومن ذلك بيان حقيقة ما يضاف إلى الله تبارك وتعالى، والتفريق بين ما يضاف إليه عز وجل من ذوات قائمة بنفسها، وبين ما يضاف إليه تعالى من المعاني التي لا تقوم إلا بغيرها، لأن النصارى يحتجون بكون المسيح كلمة الله أو روح الله، فقرر هذه القاعدة رحمه الله وبين أن الذوات القائمة بنفسها، كما في قول الله تبارك وتعالى: {نَاقَةُ اللَّهِ} [الأعراف:73] أو في قولنا بيت الله أو ما أشبه ذلك، فهذه لا تكون صفاتاً لله، وأما ما لا يقوم بنفسه من المعاني فإنها تكون صفاتاً لله، وفصل القول في هذا رحمه الله.
ثم تعرض لتوحيد الألوهية، وبين فيه حقائق عظيمة فيما وقعت فيه الصوفية وأشباههم، والنصارى من تعظيم الموتى والغلو فيهم إلى حد عبادتهم، وما أحدثوه من البدع عند القبور والتصوير وغير ذلك في مواضع كثيرة، وكيف وقع فيها النصارى ومن تبعهم من المسلمين، وهذا أيضاً جانب عظيم، ولا يخفى على أمثالكم أنه لو كتب للمسلمين اليوم أو ترجم أو حقق لهم كتاب، عن الغلو في الموتى وحكم الاستغاثة بهم ودعائهم، لربما رفضه الكثير وقالوا: هؤلاء وهابية أو هؤلاء لا يؤمنون بكرامات الصالحين أو ينكرون حق الأولياء أو ما أشبه ذلك، لكن إذا قدم إليهم هذا ضمن الرد على النصارى.
تقبلوه لشدة حاجة المسلمين اليوم كما تعلمون إلى الرد على النصارى، فإذا قرأه المسلم، فإنه يقرؤه من باب معرفة باطل هؤلاء النصارى والرد عليهم، فيستفيد أنه يصحح عقيدته هو أيضاً، فتكون الفائدة مزدوجة، وسماحة الوالد الشيخ عبد العزيز رحمه الله لما عرضت عليه الفكرة، سُرَّ بها جداً، وقال: هذا عمل عظيم (عصفوران بحجر واحد) وهذا مما سيحققه هذا الكتاب إذا ترجم بإذن الله كما سنبين.(14/7)
النبوات
وهناك علوم عظيمة من أعظمها ما يتعلق بالنبوة وإثباتها وحقيقتها والمعجزات، فقد ذكر رحمه الله في هذا الكتاب أن معجزات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو الآيات الدالة على صدقه تزيد على الألف، وذكر منها منها نماذج عظيمة لا توجد مجموعة بهذا الإيضاح وهذا الأسلوب وهذه القوة وهذه الحجة في أي كتاب آخر؛ فهو من أعظم الكتب في دلائل النبوة وإثبات نبوة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(14/8)
التفسير
وفي الكتاب -أيضاً- مباحث وموضوعات عظيمة: في علم التفسير، كما في الآيات التي تتعلق بأهل الكتاب وأحكامهم، وكما هو مثلاً في موضوع الصلب أو رفع المسيح، أو كون ما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته وما أشبه ذلك من آيات قد تشكل وتتعلق بأنبياء قبله، كما في ذكره رحمه الله لقصة موسى عليه السلام وذهابه إلى مدين، وهل كان صهره هو شعيب النبي أم غيره؟ وأمثال ذلك من مواضع، وتعلمون شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله إذا حقق المسألة كيف يبدع، وكيف يغوص في الأعماق.(14/9)
علوم أخرى
كما أنه تعرض فيه كثيراً لعلوم كثيرة: كعلم الحديث، وعلم المصطلح، ومسائل فقهية عظيمة النفع جداً، وربما لا تجد التحقيق هذا في آي كتاب آخر من كتب الفقه، وكذلك تعرض لعلم النفس ولعلم الاجتماع ولعلم الحكم ولعلم السياسة، وقارن أحوال المسلمين في ذلك بأحوال الروم؛ بل إنه تعرض لعلم المنطق ونقده، ونقد الفلاسفة وفند شبهاتهم في معرض رده على النصارى، وما احتجوا به من شبهات فلسفية، وأيضاً تعرض -رحمه الله- لعلم الطبيعة، وله في هذا كلام قد نورد بعضه، وكذلك تعرض لعلم اللغة ولعلم الترجمة عندما تعرض للإنجيل والتوراة وأشباهها.
ثم إن الكتاب يتضمن فوائد علمية من نواحي أخرى، مثلاً: يتضمن الرجوع إلى مصادر مفقودة، أو ربما تكون نادرة أو مخطوطة في هذا الزمن، مما يكشف اطلاع شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله اطلاعاً عظيماً ودقيقاً واسعاً على واقع عصره وعلى أحواله، وعلى الفرق التي هي فيه من أمور ثبتت صحتها الآن، عندما يسر الله تبارك وتعالى وجمعت العلوم، واستطعنا أن نعرف الكتب في أي مكتبة في العالم مما كتب عن الإسلام أو ضده.(14/10)
نماذج من الردود والحجج
وذكر كثيراً من الردود والحجج فمن ذلك مثلاً أنه رحمه الله تعرض للرد على النصارى، وإبطال دينهم وإثبات أنهم على باطل بحجج عظيمة أذكر شيئاً منها إجمالاً:(14/11)
إبطاله لدين النصارى
عندما بين أن دين النصارى باطل سواءٌ صدقوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم كذبوه، إن آمنوا به أو لم يؤمنوا فدينهم باطل، وإن قالوا: إنه مبعوث إلى العرب خاصة -كما هو قول بعضهم- أو أنه ليس بنبي مطلقاً، فعلى أي التقديرين فدينهم باطل، ثم بين ذلك؛ لأنه إن كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دينه حقاً -وهو كذلك- فهو قد أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبلغ عن ربه أن دينهم باطل، فيلزمهم اعتقاد أن دينهم باطل، هذا موجز وإلا فالكلام نفيس جداً، وإن كانوا يقولون: إن دينه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باطل كما هو قولهم الآن فإنه يلزم من ذلك لأي عاقل منهم أن يكون دينهم باطلاً؛ لماذا؟ لأنه ما من طريقة وما من وسيلة تثبتون بها صحة دينكم إلا وقد ثبتت في حق دين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم وأكبر وأقوى، فإذا بطلت هذه فقد بطل الأضعف والأقل والأدنى، فعليه يكون دينكم باطلاً، وهي حجج عظيمة في هذه الصفحات، ويضرب أمثلة تدل على علم وعلى اطلاع، فيقول: 'من قال: إن هارون ويوشع وداود وسليمان كانوا أنبياء، وموسى لم يكن نبياً، فهذا من هذا القبيل؛ لأن نبوة موسى عليه السلام أعظم، أو من قال: إن داود وسليمان ويوشع ويحيى كانوا أنبياء، والمسيح لم يكن نبياً، فهو أيضاً باطل؛ لأن دلائل نبوة المسيح أظهر فكذلك من قال: إن هؤلاء جميعاً أنبياء ولكن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن نبياً، فحجته داحضة؛ لأن دلائل ظهور ذلك أعظم وأظهر'.
ثم أخذ يضرب أمثلة لطيفة جداً، فيقول: 'لو قال قائل: إن زفر وابن القاسم والمزني والأثرم كانوا فقهاء وكل واحد منهم ينتمي إلى مذهب من المذاهب الأربعة وإن أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وأحمد لم يكونوا فقهاء، أو قال: إن الأخفش وابن الأنباري والمبرد كانوا نحاة، والخليل، وسيبويه والفراء لم يكونوا نحاة فهذا مستحيل، ولا يوافقه أحد من أهل هذا الفن، وأيضاً لو قال أحد: إن صاحب الملكي والمسيحي ونحوهما من كتب الطب كانوا أطباء، ولكن بقراط وجالينوس ونحوهما لم يكونوا أطباء، فقوله مردود عند الأطباء وأصحاب كل فن يعرفون المتقدم في هذا الفن، ولا يمكن أن يقروا بصحة علم الأدنى، ويتركوا الأفضل أو الأعلى' ثم قال: 'ولو قال: إن كوشيار والخرقي ونحوهما كانوا يعرفون علم الهيئة -الجغرافيا- وبطليموس ونحوه لم يكن لهم علم بالهيئة -الجغرافيا الفلكية- لكان قوله في غاية البطلان' ثم تكلم بكلام نفيس لولا الإطالة لأكملته، ولكن حسبكم أن تراجعوا الكتاب.(14/12)
الاستدلال على ثبوت الإسلام بالتواتر
ويستدل -أيضاً- على بطلان دينهم بدليل عقلي لا يستطيع أي عاقل مهما كان دينه أن يرده، وهو الاستدلال بعدم التواتر فيما من حقه أن يثبت متواتراً في عرف الناس والعقلاء أجمعين، فمثلاً يقول: لو ادعى مدع أنه يوم الجمعة أو يوم العيد قُتِلَ الخطيب ولم يصلِّ الناس الجمعة أو العيد، فإنه لا يصدق قوله؛ لأن الأصل فيه أن ينقل متواتراً وأن يشتهر عند الناس ويستفيض، أو ادعى أن بعض الملوك قتل علانية، وهو في موكبه مثلاً فهذا لا يمكن أن ينقله واحد فقط؛ لأنه يستفيض ويشتهر، أو ادعى أحد أنه بعث نبي بين المسيح ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو جاء بعد محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتاب مثل القرآن، أو ادعى أحد أن قريشاً أو غيرهم عارضوا القرآن وجاءوا بكتاب يماثل القرآن، أو ادعى أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بحج بيت غير البيت العتيق، أو أوجب صوم شهر غير شهر رمضان، أو أوجب صلاة سادسة وقت الضحى وهكذا فكل هذه لا يمكن أن تسلم للمدعي، لأنها لو حدثت فعلاً لاستفاض نقلها واشتهر أمرها.
وفي معرض الرد على النصارى، يرد على طوائف الضلال جميعاً وهذا شأنه رحمه الله، فإنك تذهب لتريد فائدة معينة، وإذا بك تخرج بفوائد عظيمة مركبة.
ثم يبين أن أهل العلم بأحوال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقطعون بكذب الأحاديث التي فيها الوصية لأحد بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علانية بين الناس من دون اشتهار ذلك وتواتره بناء على هذه القواعد العقلية المقررة، والتي هم أهلها وأخبر الناس بها، فمثلاً يقطع من يعلم مغازي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لم يقاتل في غزوة تبوك وأنه لم يغز العراق ولا اليمن بنفسه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه لم يحج بعد الهجرة إلا حجة الوداع، وهكذا؛ فلو أن أحداً أخطأ وروى حديثاً بهذا الشأن فإن العلماء يعلمون قطعاً أن هذا الحديث باطل، ويستدلون به على أحد أمرين: إما أنه أخطأ، وإما أنه تعمد الكذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهكذا.
ثم ذكر أمثلة منها: الحديث المشهور في الوضع {لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل} لما زاد عليه بعضهم (أو جناح) عُلمَ أن هذه اللفظة موضوعة وهكذا، ثم يستطرد في ذكر علوم كثيرة فلا تريد وأنت تقرأ أن تفارق هذا الكتاب أبداً.
ثم يستطرد فيصل إلى القضية المهمة -قضية النبوة- فيقول: 'لو قيل: إن مسيلمة الكذاب لم يُقَاتل، لأن النصارى يدعون ذلك ليستشهدوا على أن النبوة قد ظهر من يدعيها، أو الرافضة تقول: إنما قوتل مسيلمة؛ لأنه لم يؤد الزكاة، وهذا رد عليه رحمه الله في منهاج السنة، فهو هنا يرد رداً مجملاً فإنهم لما قالوا: إن الخليفة أبا بكر رضي الله تعالى عنه لم تجمع الأمة على خلافته، بدليل أن بني حنيفة لم يبايعوه، فيقول شَيْخ الإِسْلامِ: هؤلاء اتبعوا مسيلمة الكذاب الذي ليس من الإسلام في شيء لا هو ولا من آمن معه ولا من اتبعه، فلا يكون قولهم هذا حجة' ثم يستطرد في الكلام عنه وعن الأسود العنسي إلى آخر كلامه في هذا الباب.(14/13)
دلائل الاستدلال بالخبر
ثم يأتي إلى موضع آخر، وهو يعطينا أيضاً قوة حجته وقواعد عظيمة في فنون كثيرة لا تجدها بهذا الجمع والاتقان والإجمال -كما في هذا الكتاب-، إلا في غيره من كتبه رحمه الله، وهي: معرفة صدق الخبر ولو كان خبراً واحد، وكيف نعرف صدق الخبر وكيف لا نعرفه؛ ليبين أن النصارى يقعون في ضلال كبير بسبب هذا، فيصدقون الكاذب أو يكذبون الصدوق، فيبين أن من يخبر بالخبر قد يكون كاذباً وقد يكون صادقاً، ولا يجزم بأن أحداً صادق مطلقاً ولا أن أحداً كاذب مطلقاً إلا بالقرائن التي تحف به وبخبره وبإفادته له، فيقول: 'الناس يعلمون أن خبر الواحد قد يقوم دليل على صدقه فيعلم أنه صدق وإن كان خبرا واحدا، وقد يقوم الدليل على كذبه، فيعلم أنه كذب وإن كان قد أخبر به ألوف -فالقضية ليست قضية عدد فقط، إنما هي قرائن وموازين عقلية سليمة لا بد منها، ثم يقول: وتلك القرائن والدلائل قد تكون صفاتاً في المخبر من جهة علمه ودينه وتحريه الصدق، بحيث يعلم قطعاً أنه لا يتعمد الكذب -ثم يستطرد ويمثل بعلماء الحديث رضي الله عنهم وأرضاهم، فيقول:- كما يعلم علماء أهل الحديث علماً يقينياً قطعياً أن ابن عمر وعائشة وأبو سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وأمثالهم، لم يكونوا يتعمدون الكذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فضلاً عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي إلى آخره، بل يعلمون علماً يقينياً بأن الثوري ومالك وشعبة ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل والبخاري وأبا زرعة وأبا داود وأمثالهم لا يتعمدون الكذب في الحديث' هذا جانب.
والجانب الآخر أنه قد تكون الدلائل هي صفات في المخبَر به أي: في الحقائق التي يخبر بها المخْبِر، التي يُعلم بها أن ذلك المخبر لا يكذب في مثل ذلك الخبر، ويضرب لذلك أمثلة عقلية فيقول: ' كحاجب الأمير إذا قال بحضرته لعسكره: إن الأمير قد أذن لكم بالانصراف، أو أمركم أن تركبوا غداً أو قال: قد أمرَّ عليكم فلاناً ونحو ذلك، فإنهم يعلمون أنه لم يتعمد الكذب في مثل هذا وإن لم يكن بحضرته، فكيف إذا كان بحضرته؟! وإن كانوا قد يكذبونه في غير هذا، مع أن هذا الحاجب قد يكون كذاباً لكن إذا قال هذا بحضرة الأمير أو الملك أو الخليفة عُلم صدقه كل هذه الدلائل العقلية يركب عليها رحمه الله فيما بعد صدق رسالة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ '.(14/14)
رده عليهم في احتجاجهم بالمتشابه
ثم يأتي في ضمن إبطاله لحججهم مثلاً: عندما ينقلون نقولاً متشابهة -وهذا ما يسمى الاستدلال بالمتشابه وترك المحكم- واليهود والنصارى والكفار والملحدون وأهل البدع قديماً وحديثاً مشكلتهم الرئيسة هي هذا، لأن كلامهم لو تجرد من الدليل ما قبله أحد، لكنهم يستدلون بمتشابه وبشبهات ويتركون المحكم، فمثلاً ما يقوله النصارى في مواضع: إن الله في المسيح، أو إن الله في قلب فلان مثلاً، يقول شَيْخ الإِسْلامِ: 'هذه لا تقتضي الحلول كما تزعمون -ثم يأتي بتقسيم عقلي عجيب، يقول:- إن وجود الأشياء على أنواع، فالشيء له وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في البنان' أو وجود عيني، ووجود علمي، ووجود رسمي، ووجود لفظي وهذا كلام عجيب ولا بد من شرحه.
فالموجود في الأعيان: هو الشيء الخارج، أي الأجسام الخارجة.
والموجود في الأذهان: هو تصور هذا الشيء في الذهن.
والموجود في اللسان: هو نطقك به، كما تقول لم يرد البخاري فهذا هو الوجود اللفظي، فإذا قلت: البخاري هنا، فأنت تعني أن البخاري مكتوب هنا، فهذا الوجود الرسمي، فيقول: من أي نوع من أنواع الوجود عندما نقول: إن الله في قلب فلان؟ ثم يوضح فيقول: 'ليس وجوداً ذاتياً يقتضي الحلول بل وقع في هذا الحلول النصارى ووقع فيه الصوفية، ويستطرد ويذكر الذين قالوا من الصوفية بكلمات تعني عقيدة الحلول كمثل: سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله، أو ما أشبه ذلك من الكفريات الشطحية ' ويقول: 'إنه إذا قيل: إن الله في قلب فلان أو ما في قلب فلان إلا الله قالها بحسن النية، فالمقصود بذلك محبته والإخلاص له والتقرب إليه، وهذا لا يقتضي الوجود الذاتي' وهكذا.(14/15)
تناقض كتب النصارى وحيل رهبانهم
ومن التحقيقات البديعة التي تجدونها في هذا الكتاب وشهد لها المؤلفون المعاصرون، أنه رحمه الله يقول لبيان تحريف النصارى: 'إن أصح ما عندكم بإجماع أهل الكتاب جميعاً هي التوراة، التي هي الأسفار الخمسة -ثم ما بني عليها على اختلاف كبير فيما بينهم في هذا، يقول:- هذا هو أصح الكتب عند أهل الكتاب نسخة السامرة غير النسخة الموجودة الأخرى، حتى في الكلمات العشر أو الوصايا العشر' وفعلاً الآن توجد كتب محققة عن التوراة السامرية يظهر مخالفتها للتوراة اليهودية المعروفة، وهذا من بديع التحقيق والاطلاع لديه رحمه الله تعالى رحمة واسعة، ثم يقول: 'وكذلك رأينا في الزبور نسخاً متعددة يخالف بعضها بعضاً مخالفة كثيرة في كثير من الألفاظ والمعاني يقطع من رآها أن كثيراً منها كذب على زبور داود عليه السلام، وأما الأناجيل فالاضطراب فيها أعظم من الاضطراب في التوراة' ثم يأتي بعد ذلك إلى إكمال الموضوع.
أيضاً مما يدل على معرفته للواقع من جهة، واطلاعه على المؤلفات من جهة أخرى، قوله رحمه الله مثلاً: 'وقد صنف بعض الناس مصنفاً في حيل الرهبان، وقد ذكر عجائب منها.
أن يجعلوا في الماء زيتاً على المنارة ثم يوقد فيظنون أن الماء انقلب زيتاً'، والحيلة أنهم يجعلون الزيت في الأعلى لأنه يطفو فوق الماء ويصبون الماء، فإذا ظهر في المنارة وقدح فيه أصبح زيتاً، وقالوا: هذا من كرامات العذراء ومن كرامات الراهب، وهذا من الحيل.
وذكر من الحيل أيضاً: النخلة التي يقال إنها تصعد إلى الراهب وقد بين أن هذه النخلة مغروسة في سفينة، وأن هناك سداً، فإذا أريد -كما يزعمون- أن تُرى هذه المعجزة: فتح الماء فتعلو السفينة فترتفع النخلة إلى محاذاة الراهب، فإذا أجري الماء نزلت، فيقال: إنها ارتفعت إليه وأكل من جناها ثم هبطت!! وغيرها من أنواع الحيل والمخاريق.
ولم يكتف بالحيل عند النصارى، بل يأتي أيضاً بما عند المسلمين، وهذا من عدله رحمه الله، فيذكر أن هذا الشطح وهذا الدجل أيضاً موجود عند الصوفية وأمثالهم، وأن هذه الأحوال الشيطانية والمخاريق البهتانية، يوجد عند أهل الإلحاد المبدلين لدين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثلها.
ثم يتعرض في أثناء كلامه إلى تكلم الجني على لسان المصروع، وأنه يتكلم بكلام لا يعرفه ذلك المصروع ولا يدري عنه؛ لأن المتكلم هو الجني أو الشيطان المتلبس به، وقد يخبر بعض الحاضرين بما في قلبه، ويكون ذلك من الشيطان، فإذا فارق الشيطان ذلك الشخص لم يدر ما قال، وهذا هو الواقع كما ذكر رحمه الله.(14/16)
سبقه إلى العلوم ونقده لعلم المنطق
ثم يأتي إلى تقسيم العلوم، وكيف أن اليونانيين قسموها إلى علوم طبيعية، وعلوم رياضية، وعلوم إلهية أو ما بعد الطبيعة، ثم يقسم العلوم وأحوال الناس فيها فيبين أن العلوم هناك علوم تجريبية، وعلوم عقلية، وعلوم حسية إلى آخر الأنواع التي لم يُسبق رحمه الله إلى تفصيل القول فيها، ولا عرفه الأوروبيون ولا الغربيون إلا في العصر الحديث فقط.
وشَيْخ الإِسْلامِ يبين ذلك ويريد منه أن يبطل قولهم في التثليث.
أيضاً نقد المنطق، وإن كنت لا أريد الإطالة فيه، لأن كثيراً من الإخوان ربما لا يهمهم ذلك؛ لأنه لا يحتاج إليه الذكي، ولا ينتفع به البليد، لكن في علم المنطق موضوع مهم جداً وهو في التعريفات، ونحتاجه في جميع العلوم، وهو أنهم يفرقون في التعريف بين الذاتي الذي هو جزء الماهية، وبين العرضي اللازم للماهية، فيأتي شَيْخ الإِسْلامِ هنا ويبطل هذا الكلام بحجج عجيبة، ويقول: لا فرق بين هذا وهذا، يقول: 'إن ما يسمى تمام الماهية، والداخل في الماهية، والخارج عنها واللازم لها، يعود عند التحقيق إلى ما يدل عليه اللفظ بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام'.
الدلالات الثلاث المعروفة عندنا، فيقول: كل ما يقولونه يرجع إلى هذه الثلاثة، فليست المسألة تمام الماهية أو داخله في الماهية، أو عرض لازم للماهية، ويطيل في هذا وفيه كلام طويل ينقد به المنطق نقداً بديعاً عجيباً؛ ليصل به إلى نقد قولهم في الجوهر، وأن الأقانيم مركبة، وأن الجوهر ذاتي، وكلام في طبيعة المسيح إلى غير ذلك.(14/17)
رده على من قال بنسخ الجهاد
ثم يأتي رحمه الله بعد ذلك يناقش قضية مهمة، وهي قول بعض العلماء: إن آيات جدال أهل الكتاب منسوخة بآيات الجهاد، ونحن في هذا الزمن مع هذا الإفك الذي يسمونه الحوار الإسلامي المسيحي الآن يقولون بالعكس، يقولون: لا قتال ولا جهاد، وإنما القضية فقط هي الحوار، أطراف متساوية تتعاون لتحقيق خير البشرية -كما يقولون-، يُقتِّلُون المسلمين في كل مكان، ويريدون أن يخرجوهم من دينهم في كل مكان، ويستغلون جوعهم وفقرهم ومرضهم، وهو أسوأ وأبشع أنواع الاستغلال الإنساني، لإخراجهم من الحق إلى الباطل ومن النور إلى الظلمات، ثم يقولون: حوار بين الأديان من أجل مصلحة الإنسانية.
يرد شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله على هذا كالعادة، ولا يكتفي بالقول بأن المجادلة لا تعترض مع المجاهدة، وله في ذلك عدة ردود، بل يستطرد ليبين ما حقيقة النصر، ويعطينا مواضع مفيدة جداً وعظيمة ترد على من ينكر النسخ مطلقاً.
كما تعلمون أن بعض الأصوليين ينكر النسخ مطلقاً، والبعض يكثر منه جداً، فهو يأتيك بمواضع محددة هي الأدلة الصحيحة للنسخ وما عداها فهو يحتمل مثلاً.(14/18)
قاعدة في المناظرة
أيضاً في علم المناظرة والمجادلة والبحث وهو من العلوم العظيمة النافعة، ولا سيما والشيخ رحمه الله تعالى يجادلهم، ويقرر قواعد وأصولاً عظيمة نافعة، فمثلاً القاعدة المعروفة عند كثير من الناس، كما ذكر رحمه الله أن النافي لا دليل عليه، يقول الشيخ: لا؛ بل إن النافي للشيء يجب عليه الدليل على ما ينفيه، كما أن المثبت للشيء يجب عليه الدليل على يثبته، وأما ما يحكم بأن النافي ليس عليه دليل، أو التفريق بين العقليات والشرعيات وإيجاب ذلك في العقليات دون الشرعيات، فيقول: هذا خطأ، وهؤلاء اشتبه عليهم النافي بالمانع المطالب.
وهناك فرق بين النافي وبين المانع المطالب، فإن من أثبت شيئاً فقال له آخر: أنا لا أعلمه ولا أوافقك عليه ولا أسلم لك حتى تأتي بالدليل، كان هذا مصيباً، ولم يكن على هذا المانع المطالب بالدليل دليل، وإنما الدليل على المثبت بخلاف من نفى ما أثبته غيره فإن عليه بالدليل؛ إلى آخر ما قاله وهو كلام نفيس جداً لا يمكننا الإطالة فيه.(14/19)
قاعدة تاريخية
من بديع التحقيق، وهو يدل من ناحية أخرى على تبحره واطلاعه -رحمه الله-: الاطلاع على علم التاريخ والاستدلال به، فعندما يثبت النصارى -وإلى الآن كما تعلمون- ويسمون البابا: الرسول، ويسمون مندوبه: القاصد، ويدَّعون أن أحبارهم رسل، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد بين حال هؤلاء فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:34]، وهذا حال أكثرهم كما رأى ذلك سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه في بعضهم، والمقصود أنهم يقولون: إن الرسل المذكورين في سورة يس، هم من رسل المسيح، وأرسلهم المسيح فيقول شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: 'لا؛ بل الرسل هؤلاء مرسلون من عند الله ويستدل استدلالاً علميا واضحا بالتاريخ فيقول:- إن الله ذكر بعد ذلك أنه عذبهم وأنه أهلكهم، حتى قال: {إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس:29]، ومعلوم عند الناس أن أهل أنطاكية لم يصبهم ذلك بعد مبعث المسيح لأنهم قد آمنوا به' أي بعد الميلاد لم تدمر أنطاكية.
ثم يعقب بعد ذلك بذكر قاعدة عظيمة جداً في التاريخ قل من يتفطن لها من المؤرخين إلا من كان يربط التاريخ بالعلم والإرث النبوي، يقول: 'ومما يبين ذلك أن المعروف عند أهل العلم أنه بعد نزول التوراةلم يهلك الله مكذبي الأمم بعذاب سماوي يعمهم كما أهلك قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وفرعون وغيرهم، بل أمر المؤمنين بجهاد الكفار' فهذه من قواعد التاريخ التي يجب أن تعلم: أن الله منذ أن أنزل التوراة لم يهلك أمة من الأمم المكذبة برمتها، وإنما فرض الجهاد على أهل هذه الكتب التوراة أو الإنجيل أو القرآن، فهم الذين يجاهدون وليس العذاب من عند الله، وهذا مما يدل عليه قول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} [القصص:43] فبين الله تعالى أنه أهلك القرون الأولى، ثم أنزل الكتاب، وبعد ذلك لم يهلك قرناً أو أمة بعامة.(14/20)
الكلام على البينات وعلم اليقين
وفي موضع آخر يأتي رحمه الله بكلام نفيس قل أن يوجد له نظير، أو أظن أنه لا نظير له في كتب الفقه وهو ما يتعلق بالقضاء والبينات، ومتى تكون البينة على المدعي، ومتى تكون على المدعى عليه، وما الحكم إذا نكل هذا أو حلف هذا، كلام نفيس جداً لكنني لا أريد الإطالة فيه.
وفي علم النفس يتعرض رحمه الله إلى الحديث بأن غاية علم الفلاسفة أو ما يسمونه الحكمة العملية هو: أن النفس فيها شهوة وغضب من حيث القوة العملية، ولها نظر من جهة القوة العلمية، ثم يقررون أن كمال الشهوة في العفة وكمال الغضب في الحلم والشجاعة، وكمال القوة النظرية في العلم، وهكذا يكون كلامهم كله في حدود ما يفكرون وما تقترحه عقولهم، فيأتي رحمه الله فيقول: وما ذكروه من العمل متعلق بالندب، لكنهم لم يثبتوا خاصية النفس، ما هي؟ وما هو الذي به تكون حقيقتها وتزكوا وتطهر وتكمل؟ يقول: هو محبة الله وتوحيده؛ فإن كل علم النفس المتجرد عن ربط هذه النفس بخالقها تبارك وتعالى وتوحيده وكمال الذل والخضوع والمحبة له، هو باطل، وهو لغو، وهو إنما يتعرض لأمور خارجية عرضية شكلية مما يمكن أن يعمله الناس.
ثم يقول: 'إن محبة الله تبارك وتعالى وتوحيده هو الغاية التي فيها صلاح للنفس وهي عبادة الله وحده لاشريك له، فلا صلاح للنفس ولا كمال لها إلا في ذلك، وبدون ذلك تكون فاسدة لا صلاح لها' ثم يطيل في بسط ذلك رحمه الله.(14/21)
كلامه رحمه الله في علم الطيران
ولعل من طريف ما نختتم به من الأمثلة أن شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله تكلم حتى في علم الطيران، وقد يقول قائل: ما المناسبة بين علم الطيران وكتاب الجواب الصحيح؟ فأقول: إن موضوع رفع المسيح عليه السلام ينكره الفلاسفة، ويقولون: إن الجسم الثقيل لا يمكن أن يرتفع أو يصعد في الفضاء، فيرد عليهم شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله ويقول: 'إن هذا القول ضعيف في غاية الضعف، فإن صعود الأجسام الثقيلة إلى الهواء مما تواترت به الأخبار في أمور متعددة، مثل عرش بلقيس الذي حمل من اليمن إلى الشام في لحظة، عندما قال سليمان: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل:38] ومثل حمل الريح لسليمان عليه السلام، ومثل حمل قرى قوم لوط ثم إلقاؤها في الهواء، ومثل المسرى إلى بيت المقدس ' وهذا من حكمته -رحمه الله- أنه بدأ بالأمثلة التي يعرفونها؛ لأنه يخاطب كفاراً، وهي في كتبهم، وفي الأخير ذكر مسرى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعراجه، وأيضاً لا بد أن يستطرد وأن يصحح العقيدة، فيقول: 'ورجال كثيرون في زماننا وغير زماننا يُحملون من مكان إلى مكان في الهواء -وهو ما تفعله الشياطين مع الصوفية وأشباههم ثم يقول: ومعلوم أن النار والهواء الخفيف تحركه حركة قسرية فيهبط' يذكر قانوناً من قوانين الفيزياء.
'والتراب والماء ثقيلان يحركان حركة قسرية فيصعد، وهذا مما جرت به العادة' ولعل فيما تقدم كفاية من حيث أهمية الكتاب، واشتماله على علوم جمة وموضوعات غزيرة متفرقة، وأصول وقواعد عظيمة في علوم شتى، ولننتقل الآن إلى ما نريد أن نعمله تجاه هذا الكتاب القيم العظيم.(14/22)
طرح مشروع ترجمة الكتاب وإيضاح خطر التنصير
والفكرة المبدئية هي: أننا نريد أن نترجم هذا الكتاب إلى كل اللغات الحية في العالم، وما ذلك -بإذن الله تعالى- بعزيز ولا صعب المنال إذا خلصت النية -نسأل الله لنا ولكم ذلك- وصحت العزيمة وكان التعاون من إخواننا المسلمين على هذا العمل، ولا نريد الاكتفاء بالترجمة فقط، بل لا بد من الشرح والتعليق والإيضاح؛ لأن كثيراً مما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ يحتاج إلى إيضاح وإلى بسط بلغة العصر، ثم نحتاج إلى ما لا بد منه، وهو الفِرَق التي ظهرت بعد شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله من النصارى، فلا بد أن نوضحها ونبين حالها، ونرد على شبهاتها التي ربما لم ترد في هذا الكتاب، وكل ذلك يجب أن ينشر في العالم كله لأسباب لا تخفى على مثلكم.
لكن لعلي أن أوجز لكم بعض البواعث التي حركت هذا المشروع الذي أساسه هذا الكتاب: أولاً: أننا ننظر إلى أننا نعيش في مرحلة كتلك المرحلة التي كانت الأمة الإسلامية تعيشها في أيام شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله، فعندما كتب ذلك الراهب أو الأسقف، وافترى ما افترى نحن الآن نجد الكذب العظيم الذي تتناقله وسائل الإعلام في كل مكان وفي كل آن بمثل هذا القول المفترى الباطل الداحض، والأمة الإسلامية -ولله الحمد- هي الآن في حالة صحوة ويقظة ونهضة كما نهضت في عهد شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، وكان لها ما كان من مقاومة الصليبيين والتتار بالجهاد بنوعيه: الجهاد بالقرآن، والجهاد في الميدان، فالحال كالحال، وما أشبه الليلة بالبارحة! وما أحوجنا الآن؛ بل الحاجة أعظم وأعظم إلى أن ينشر هذا الكتاب، كما كانت كتبه رحمه الله في تلك الحقبة التاريخية المهمة من حياة وتاريخ الأمة الإسلامية.
نحن الآن نعيش هذا التحدي الصليبي المعاصر الذي يريد أن يدمر وجودنا، وأن يسحق كياننا، وألا يبقي لهذه الأمة وجوداً على الإطلاق، يريدون أن يملكوها عقيدة وسياسة واقتصاداً وإعلاماً ومناهجاً وفي كل منحىً من مناحي الحياة، وأن تصبح جزءاً من ممتلكاتهم العريضة، وتصبح تابعاً ذليلاً لهم لا تملك مجرد مقوم من مقومات الذات أو الشعور بالذات، وإنما أجزاء ممزعة ممزقة تابعة للغرب في ظل ما يسمونه بالنظام الدولي الجديد، وهذا التحدي جعلهم يتطاولون على ديننا وعلى رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى هذه البلاد التي يعتبرونها مقر الإسلام الأول، وأنها لا بد أن تدمر ويقام فيها دينهم، فتدمر العقيدة الصحيحة فيها لينتشر فيها دينهم الباطل، ولذلك كانت لهم جهود خاصة لنشر دينهم في هذه البلاد.
ومن أشهر ما يجب أن يُذكر أن صومئيل زويمر الخبيث المبشر والمنصر المعروف، والذي كان رئيساً لمؤتمر القدس عام 1906 ثم استقر في البحرين كما تعلمون، وكان يريد في الأصل أن يستقر في جدة، وخطط لإنشاء معهد تنصيري فيها، وذلك لينفذ منه إلى مكة وإلى المدينة، ووضع الخطة لذلك إلا أن الدولة العثمانية وهذا مما يحسب لها من حسناتها لم تكن تسمح بدخول النصارى واليهود جزيرة العرب على الإطلاق، وكل المستشرقين الذين دخلوها، وكتبوا عن الإسلام والمسلمين فيها إنما دخلوا متنكرين كأنهم مسلمون وكأنهم حجاج وهم أفراد قلة، ولم يظفروا في هذه الجزيرة بموضع قدم ولا بإقامة على الإطلاق مدة حكم الدولة العثمانية، ولذلك ذهب إلى البحرين لأنها كانت مستعمرة بريطانية، وأنشأ المركز الذي لا يزال إلى الآن منطلقاً لنشر النصرانية في هذه البلاد الطاهرة.
وأحدثكم عن تجربتي أنا، فقد جاءتني باسمي الشخصي وعلى عنواني رسائل تنصيرية، واحدة منها اسمها البذور، تتكلم عن الأناجيل، ويريدون مني أن أدخل في دينهم الحق كما يزعمون، نعم هذا أنا ولا أقوله عن غيري، وجاءت مئات من الرسائل، وجاءت رسالة أخرى ليست بهذا الشكل، ولكنها رسالة للحوار، كتبها أحد الذين درسوا الأديان، وذكر اسمه وولايته وعنوانه وأنه يريد نوعاً من المحاورة والمناظرة، وأثبت أنه يكفر بكثير مما في الأناجيل، وأن لديه شك فيما يعتقده المسلمون في بعض الأمور، ويريد أن نقدم له الرأي -رأي الإسلام كما يقول- في مثل هذه الأمور وهكذا.
ولا يخفى عليكم كم تأتي في البريد مما قد يتلف كثير منه فلا يدخل، لكن الذي يصل إلى الإخوة مما يتجاوز الرقابة البريدية، كمٌ من الأناجيل.
وكتاب عاصفة الصحراء الذي كتب بعد الحرب الأخيرة بين الغرب والعراق، يريدون بالعاصفة جانباً آخر وهو نشر دينهم، والذي رد عليه الشيخ أحمد ديدات بنفس العنوان.
فذكروا بما لا يتسع المقام الآن لشرحه أنهم يطمعون في تنصير أبناء هذه البلاد.
ثانياً: الحقيقة التي يجب أن أضيفها هنا وهي أيضاً من البواعث على الترجمة، أنني دعوت الإخوة منذ أكثر من سنتين إلى أن كلاً منا يبدي رأيه في كيفية محاربة التنصير.
والحمد لله جمعت لدي رسائل كثيرة، واقتراحات عظيمة ونافعة، ثم جاء أخونا الشيخ سلمان حفظه الله (ولا عطر بعد عروس) فتعرض لهذا الموضوع وقلت له: كنت أريد أن ألقي محاضرة عن صانعي الخيام في نفس الأسابيع وأنا أتحدث عن هذا المشروع، فلما ظهرت أشرطته اكتفيت بذلك، وذلك دون أن ينسق بعضنا مع بعض، أو يكلم بعضنا بعضاً؛ لأن الإحساس بالخطر واحد، ولأن ما يأتي إليه يأتي إليَّ مثله، لأن المسلمين الآن يضجون في هذه البلاد -ولا أقول في غيرها- من هذا الخطر التنصيري الدامي، فجاء الشعور واحداً مشتركاً، فجاءتني عدة اقتراحات وحلول، وكان منها أن نقوم بعمل علمي، إذ نحن لا نستطيع أن نجاهدهم بالسيف، ولا نستطيع أن ننشئ جمعيات ذات الأموال العريضة كما يفعلون، فما الحل إلا أن نجاهدهم بالعلم والبيان، فكان أن اخترت وعزمت -بفضل الله وتوفيقه- على أن نترجم هذا الكتاب.(14/23)
نشرة أبحاث عن التنصير والمنصرين
هذه النشرة إحدى النشرات التي وزعت وربما رأيتموها، وهي بعنوان: هل تعلم وسأقرؤها عليكم على عجل، وهي من إصدار الندوة العالمية للشباب.
عدد النصارى في العالم: مليار وسبعمائة وواحد وعشرين مليوناً.
- عدد المنظمات التنصيرية في العالم: أربعة وعشرون ألفاً وخمسمائة وثمانين منظمة هذا قبل ثلاث سنوات وهذه المنظمات بعضها يمتلك مئات الملايين من الدولارات.
- عدد المنظمات التنصيرية العاملة في مجال الخدمات: عشرون ألفاً وسبعمائة منظمة تعمل في مجال الخدمات العامة، والطب، والإغاثة، وما أشبه ذلك.
- عدد المنظمات التنصيرية التي ترسل منصرين: (يتخرجون من معاهد لاهوتية عليا، ويذهبون للتنصير) ثلاثة آلاف وثمانمائة وثمانين منظمة.
- عدد المعاهد التنصيرية التي تخرج القساوسة والدعاة: ثمانية وتسعون ألفاً وسبعمائة وعشرين معهداً!! نحن نفرح والحمد لله أن يوجد مركز في العالم الإسلامي، أو مقر لتحفيظ سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو مقر لتحفيظ القرآن أو ما أشبه ذلك، لكن المعاهد عند هؤلاء تقارب مائة ألف معهد، وإذا توقعنا أن يفتحوا في خلال الثلاث السنوات معاهد أخرى، فالمائة ألف تكون رقماً واقعياً، مائة ألف معهد يخرج القساوسة لنشر هذا الدين.
سبحان الله العظيم! والله الذي لا إله غيره لولا أن هذا الدين حق لما بقي له قائمة، ولولا أن دينهم باطل لما بقي على ظهر الدنيا إلا نصراني، جهود عظيمة: مائة ألف معهد! وهذه هي المعاهد الثابتة، وأما الدورات الطارئة فإنها لا تحسب! ولهم دورات ولهم جولات وأمور أخرى، لكن هذه فقط هي المعاهد الثابتة.
- عدد المنصرين في البلدان الخارجية غير الأصوليين الإنجيليين في أمريكا وأمثالها: مائتان وثلاثة وسبعون ألفاً وسبعمائة وسبعين منصراً، وهؤلاء أيضاً المتفرغون للتنصير!! ونحن نفرح عندما تقوم مؤسسة بكفالة عشرة دعاة! والحمد لله بدأت مؤسسات تقوم هنا في المملكة تكفل عشرة دعاة، أو عشرين داعية يدعون إلى الله، فمثلاً: الرئاسة العامة للإفتاء والدعوة والإرشاد عندها ثلاثمائة داعية، والرابطة يمكن أن يكون فيها مائتين أو ثلاثمائة، والحمد لله على ذلك.
لكن هؤلاء وهم على الباطل عندهم هذه الآلاف، وهذا في الخارج غير الداخل، وهذا في حالة التفرغ الكلي، أما في الإجازات -وهذا شيء يعرفه الإخوة المسلمون- فإنه في أمريكا يمكن أن يسمحوا لأي موظف أمريكي أن يتبرع بسنة أو سنتين أو أكثر للعمل التنصيري الخيري، فيرسل إلى تلك البلاد، وتسهل له كافة الإمكانات، ويظل راتبه وخدمته تمشي في قطاع العمل الذي يعمل فيه كما كان يعمل، ثم يرجع بعد ذلك إلى عمله، بعد أن يقوم بالخدمة التي أراد، وهذا أمر معلوم.
وإذا أراد أحد أن يتبرع، فما يتبرع به فإنه يقتطع من الضرائب التي تستحق عليه، وتأخذها الحكومة منه، فسواءً أُعطيت الحكومة ضرائب أو أُعطيت للكنيسة فلا فرق عندهم نظامياً، ولهذا يلجأ الناس إلى أن يدفعوا إلى الكنائس، وسوف نذكر لكم كم يدفعون لها:- - عدد الكتب المؤلفة لأغراض التنصير: اثنان وعشرون ألفاً ومائة كتاب، وهذا بجميع اللغات؛ بل بجميع اللهجات، وقد وزع ورأيته في جدة، فقرأت من الأناجيل بجميع اللهجات، باللهجة المصرية واللبنانية والجزائرية، وغيرها، ومن كثرة تعمقهم ترجم الإنجيل إلى ألف ومائتان لغة، ولم ينتهِ الأمر إلى هذا الحد، بل أخذوا يترجمون إلى اللهجات.
المجلات والدوريات والنشرات: ألفان ومائتان وسبعون نشرة ومجلة، وبجميع اللغات، والبعض منها يطبع ملايين النسخ، ولا نقول عشرات الألوف، بل ملايين النسخ إما شهرياً وإما أسبوعياً.
- محطات الإذاعة والتلفاز العاملة لأغراض التنصير: ألف وتسعمائة محطة، وبعض هذه المحطات ينشر عبر الأقمار الصناعية إلى مائة بلد أو أكثر.
- الوسائل: الكمبيوتر، الأقمار الصناعية، الطائرات!! رأيت فلماً عن التنصير -عجيباً- بالطائرات، يطير مجموعة من الدعاة المنصرين بطائرة خاصة، حتى يقعوا على مكان في الغابة أو في أعلى الجبل فيه أناس من الهنود الحمر مثلاً أو غيرهم، فيأتون إليهم وهم في قذارتهم وعريهم، فيغسلونهم بأيديهم، يغسلونهم بالشامبو والصابون وينظفونهم ويلبسونهم، ويعالجون أمراضهم، ثم يدعونهم إلى النصرانية، فكل الوسائل مهيأة لهم بشكل قد لا نصدقه نحن، مطارات، ومستشفيات، ومطاعم، وأمور عجيبة؛ ومع هذا فإنهم قد يبقون في البلد الواحد عشر سنوات ولا ينصرون شخصاً، تضحيات وجهود مبذولة، مع أن النتائج غريبة في الضآلة، ونحن والحمد لله إذا نشر كلمة أو شريط يسلم أناس كثيرون والحمد لله، ففي الدرس الماضي، عدد الذين أشهروا إسلامهم: أربعة عشر، من عرض بسيط للإخوة قاموا به لهذا الدين، وقد افتتح في المدينة الصناعية في جدة مركز خاص لهؤلاء، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا وإياهم لما يحب ويرضى.
- مجموع التبرعات الكنسية لأغراض التنصير: مائة وواحد وخمسون ألف مليون دولار.
وإذا قدرنا ميزانية المملكة العربية السعودية بما يعادل خمسة عشر ألف مليون دولار، فمعنى ذلك أنه في عام واحد وفي سنة واحدة فقط يتبرعون للتنصير بما يعادل ميزانية المملكة عشرة أضعاف وأكثر! ونحن إذا فكرنا في إنشاء مشروع، وقلنا هذا المشروع يكلف عشرة ملايين، وضع الناس أيديهم على رءوسهم: من أين لنا ذلك، نعم من أين؟! لكن أقول: هذا المشروع سنعرضه على الأمة ونطرحه عليها، وهي وغيرتها وشيمتها وإيمانها، إنما الذي علينا نحن أن نتقن الترجمة ونقدمها، ثم لا بد أن نطبعها بإذن الله وأن ننشرها، لكن العجيب فعلاً أن تكون مثل هذه المليارات للكفر والباطل ونحن لا نقدم شيئاً لديننا، فيا سبحان الله!!(14/24)
إنشاء مركز للبحث والترجمة
بناء على ما تقدم: قررنا فكرة إنشاء مركز للبحث والترجمة، ويبدأ أول ما يبدأ بتحقيق وترجمة كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ويكون مقره في مدينة جدة، وأهدافه كما رسمت: أولاً: ترجمة ونشر الكتاب إلى اللغات الحية في العالم.
ثانياً: تأسيس معلمة أو دائرة معارف فكرية في الأديان والفرق والمذاهب الفكرية المعاصرة، بجميع اللغات أيضاً إن شاء الله.
ثالثاً: الرد على الشبهات والافتراءات التي يثيرها المستشرقون والمنصرون التي نستقبلها من جميع أنحاء العالم وبجميع اللغات على المدى البعيد.
رابعاً: الدعوة إلى الإسلام وتقديم الخدمات العلمية المتنوعة للداخلين فيه حديثاً.
خامساً: متابعة ورصد النشاط التبشيري أو التنصيري في العالم الإسلامي وغيره من الحركات الهدامة.
سادساً: إنشاء مركز بالوثائق والمعلومات التي تخدم الدعوة والدعاة.
سابعاً: تشجيع البحوث والدراسات، ولا سيما الدراسات العقدية المقارنة.
ثامناً: تقديم الاستشارات العلمية في مجال الأديان والفرق والمذاهب الفكرية المعاصرة.
وهذا النشاط يشمل ترجمة، ويشمل نشراً وتوزيعاً وإهداء، وأضرب لكم مثلاً: الجامعات الأمريكية والمعاهد تقدر بعشرة آلاف، ونريد بإذن الله تعالى أن نهدي لكل جامعة في أمريكا وأوروبا وغيرها، ما لا يقل عن نسختين إهداء، فضلاً عما قد يكون بسعر التكلفة، لكن لا بد من إهداء وبتجليد فاخر معين، وهذا يقتضي كماً كبيراً من الآلاف، وهذا رقم لا شك تدركون ضخامته، وأيضاً نصدر رسائل تؤخذ من الكتاب أو من غيره ترد على الشبهات وتناقشها، وتنشر أيضاً بجميع اللغات، وتنسيق الاتصال بين المراكز المختلفة التي تُعنى بهذا الشأن، وتوفير المراجع والوثائق للدعاة في كل مكان.
وأما البداية وسنة التأسيس فتحتاج الانطلاقة فقط إلى مليون ريال بعد الضغط الشديد والاقتصاد، وإذا أردتم أن أضرب لكم -مثلاً- كم يحتاج طباعة الكتاب باللغة الإنجليزية، ونحن قد بدأنا في هذا والحمد لله، والمترجم أخ أمريكي مسلم، درس اللاهوت في بلاده، ثم هداه الله للإسلام وتعمق فيه والحمد لله، وأصبح يفهم كلام شَيْخ الإِسْلامِ فهماً جيداً، وقد كدت أن آتي به لكن كان الحجز والوقت غير مناسب، والآن بدأنا به باللغة الإنجليزية لنجعلها أصلاً، ثم بعد ذلك يستعين بها من يترجم إلى غيرها مما هو قريب منها من اللغات اللاتينية.
إذا أردنا أن نطبع خمسمائة ألف نسخة، وعدد المجلدات ستة مجلدات تقريباً، وتكلفة المجلد الواحد يساوي تقريباً عشرة ريالات، فمعنى ذلك أن ترجمته إلى الإنجليزية فقط، يكلف ثلاثين مليون ريال، وإذا أردنا الإنجليزية والفرنسية فتكون ستين مليون ريال، وقس على ذلك بقية اللغات، وقد عرضنا الموضوع على مشايخنا الكرام، فأيدونا كل التأييد وهذا تأييد سماحة الشيخ عبد العزيز رحمه الله، ومما قاله فيه عن الكتاب: 'والعمل عظيم، ونافع للمسلمين وغيرهم -كما تقدم- والكتاب عظيم ونفعه كبير، والمؤلف معروف لدى العلماء وغيرهم، بإمامته وعلمه الغزير، وقيامه بالرد على طوائف المشركين والمبتدعة -رحمه الله رحمة واسعة- وأسأل الله أن يضاعف لكم المثوبة إنه جواد كريم'.
وأيضاً شيخنا: الشيخ محمد العثيمين زكى المشروع وقال: 'قرأت كتابكم المتضمن ترجمة كتاب شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله الجواب الصحيح، ولا شك أن نشر مثل هذا الكتاب فيه فائدتان: إحداهما: دفع الشبهات التي قد يظن بها من يظن من المسلمين، والثانية: بيان الحق لمن أراد الله تعالى هدايته من النصارى إذا قاموا صادقين ونظروا بعين العدل والإنصاف، وهم إذا اهتدوا إلى الإسلام وكانوا من أهله فيرجى أن يؤتوا أجرهم مرتين -ثم يقول:- وأنا أؤيد مشروعكم هذا لما فيه من الخير الكثير والنفع العميم، وفقنا الله وإياكم لما فيه رضاه ونفع عباده' وشكر الله لفضيلته.
والحقيقة أن الشيخ محمد هو أول من تبرع نقدياً لهذا المشروع جزاه الله خيراً، وأما سماحة الشيخ عبد العزيز فتعلمون ولا يخفى عليكم أيضاً كرمه، فإنه كتب لبعض التجار ويريد أن يجمع مبالغ تودع لذلك يقدمها لنا، فكتب باسمه رحمه الله إلى عدد من التجار والأعيان والمسؤولين وكل من يرى أن يكتب له؛ ليجمع المبلغ لما رأى أنه بهذه الضخامة، ولا شك أن المشروع يحتاج إلى الجهد العلمي وإلى الجهد المادي، وإلى التعاون من جميع جوانبه من الإخوة الكرام المسلمين في كل مكان.(14/25)
جهود التنصير في الجزيرة العربية
الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً، ولم تكن له صاحبة، ولم يكن له شريكٌ في الملك، والحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، ولم يجعل له عوجا، وأمره بأن يقول للذين جعلوا لله ولدا: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُون} [آل عمران:64].
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وحطم الأصنام وقضى على الطواغيت ورفع راية التوحيد, وأعز الله تبارك وتعالى به ملة إبراهيم ودين إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط الذين كانوا جميعاً لا يعبدون إلا الله، ولا يؤمنون إلا بالله وحده لا يجعلون له صاحبة ولا ولدا.
ثم أما بعد: فإن الموضوع الذي نريد الحديث عنه في هذا الدرس -نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا في ذلك، وأن يتقبل منا ومنكم- هو تكملة لحلقة تقدمت عن هذا الكتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، وما منكم إلا ويعلم أن هذا هو عنوان الكتاب العظيم الذي ألفه وكتبه الشيخ الإمام العلامة المجاهد شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية , رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه وجزاه خير الجزاء على ما قدم لهذه الأمة من جهود في كل ميدان من ميادين العلم، وما رفع الله تبارك وتعالى به من رايات الحق، وما نكَّس بكتاباته وبعلمه من رايات الباطل، وهذه هي الحلقة الأخيرة في هذا الموضوع.
وإن الموضوع أو المشروع الذي نتحدث عنه في هذا الدرس هو منكم وإليكم, وتعلمون جميعاً أننا قد ذكرنا أكثر من مرة أن كل أخ لديه أي اقتراح أو فكرة لمقاومة التنصير ومجابهته فليتقدم بها, وقد جمعت بالفعل, وقد أفدت منها فائدة عظمى, وأشكر كل أخ بذل جهده وكتب لنا شيئا من ذلك، وأشكركم جميعاً على تعاونكم وعلى غيرتكم في هذا الشأن، وانبثاقاً وانطلاقاً من واقع نعلمه ونشهده هنا من أعمال التنصير وجهوده ومما اقترحتم وكتبتم -وفقكم الله جميعاً- كان هذا المشروع وبرز, وسوف نحدثكم عنه إن شاء الله في آخر المحاضرة.(14/26)
تحريف الدين النصراني
إننا نواجه غزواً فكرياً وسلوكياً عظيماً جداً يقوم به هؤلاء الوثنيون، يدَّعون الإيمان بالمسيح عليه السلام وهم منه براء, وهو منهم بريء يجعلون لله تبارك وتعالى ولدا، ويقولون: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] ويقولون: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17].
واتخذوا المسيح وأمه إلهين من دون الله، فهذه العقائد الوثنية المرفوضة، والتي بيَّن علماء الأديان والمؤرخون قديماً وحديثاً أنها ليست من عند الله تبارك وتعالى في شيء وشهد بذلك كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالبحوث جميعاً تُجمِع على أن ما يعتقده هؤلاء هو من بقايا الوثنيات السابقة التي أدخلها عليهم بولس الذي كان يسمى شاؤل اليهودي، فغير الدين الذي جاء به المسيح عليه السلام، ومع ذلك فإنهم مع شركهم ووثنيتهم وإلحادهم وسبهم لله تبارك وتعالى وقولهم فيه ما لم يقله أحد إلا من شابههم من قبل من المشركين الأولين -مع ذلك كله- فإنهم أشد الأمم في الأرض اليوم حرصاً على نشر هذا الدين الباطل.
وأعجب من ذلك أنهم أشد ما يكونون نشراً له وحرصاً على تبليغه في بلاد المسلمين، بين المؤمنين الموحدين الذين يشهدون: أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وهم يريدون هذه البلاد بالذات.(14/27)
جهود التنصير قديماً
وأذكر عن جهودهم في تنصير العالم الإسلامي أمثلة عابرة، وسوف ينصب الحديث عن جهودهم في تنصير هذه الجزيرة بالذات، ومدينة جدة على وجه الخصوص، فمتى بدأ هذا العمل؟ من الناحية التاريخية: نجد أطماعهم قديمة للدخول في هذه البلاد، ففي أيام الحروب الصليبية حاولوا ذلك مراراً, وأوضح مثالٍ على ذلك أن إحدى الحملات الصليبية في أيام صلاح الدين رحمه الله استطاعت أن تدخل إلى ميناء ينبع , ومن هنالك اقتحم بعض أفرادها الجبال وتوغلوا فيها، وحاصرهم المسلمون، وأُبيدوا عندما وصلت طائفة منهم قرب مدينة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وكان غرضهم إغاظة المسلمين، بنبش قبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإحراق جثته قاتلهم الله وقبحهم، ولكن خيب الله فَأْلَهُمْ وظنهم.
ومن هنا انصب اهتمام صلاح الدين رحمه الله على تقوية الموانئ الإسلامية على البحر الأحمر بجانبيه الشرقي والغربي، وينتهي عهده، ويأتي بعد ذلك بأمد عصر المماليك، وتبدأ أوروبا تفكر في الالتفاف حول العالم الإسلامي عن طريق الكشوفات والرحلات التي ابتدأها البرتغاليون، ومن هنا ظهرت لهم فكرة جديدة، وهي الدخول إلى جدة واحتلالها، ومن ثم اقتحام مكة والمدينة.
وقد حاول البرتغاليون ذلك في زمن المماليك ثم في زمن الدولة العثمانية، ولكن الدولة العثمانية تصدت لهم، وهذا من أعمالها المشكورة في التاريخ، ولما عرفت هذه الأطماع أعلنت أن البحر الأبيض المتوسط كله بحيرة إسلامية، وأن البحر الأحمر كله بحيرة إسلامية، ومنعت دخول السفن والبواخر النصرانية في البحر الأحمر من أوله إلى آخره، ووسعت ميناء عدن، وجعلته مقراً لاستقبال كل البواخر التي تقدم من أوروبا وغيرها للنصارى، وآخر مدى يمكن أن تصل إليه سفنهم هو ميناء المخا في اليمن جنوب الحديدة، ولا يمكن أن يتعدوا ذلك شمالاً؛ بل يفرغون حمولتهم في سفن إسلامية تحملها إلى جدة أو ينبع أو السويس حتى لا يقربوا البحر الأحمر بتاتاً.
وكذلك عملت الدولة العثمانية على ألا يدخلوا الخليج مطلقاً, فبذلك استطاعت أن تحفظ الجزيرة بحرياً، لأنهم لم يستطيعوا في ذلك الحين أن يدخلوها أو ينفذوا إليها.
وظل هذا العمل حتى سقطت الدولة العثمانية، وجاء الاستعمار الذي خلفها، وجاءت الحملات الصليبية تحت رايات الاستعمار الجديد, وحينئذٍ عادت إلى أذهانهم فكرة اقتحام هذه الجزيرة، وهذه الأماكن المقدسة، وجاء المُنَصِّر المشهور الذي لا يخفى اسمه على أحد في عالم التنصير والذي باسمه اليوم تسمى كليات ومعاهد في التنصير في أمريكا وغيرها وهو زويمر، فجاء بالفكرة وأحياها، وأراد أن يتخذ من جدة مقراً له في أواخر الدولة العثمانية, وفي ظل الحكم البريطاني الذي كان يدعي المهادنة والمصادقة للدولة العثمانية، فلم يستطع الإقامة في جدة؛ لأن هذه البلاد من طبعها في تلك الأيام أن ترفض كل من لا يدين بالإسلام، ليست الحكومات بل الشعوب، وعلم أن كثيراً ممن جاءوا إلى هذه الجزيرة من قبله قد قتلوا ورجموا, فرجم بعضهم في اليمن , ورجم بعضهم في نجد , ورجم بعضهم في الحجاز، ولم يستطع أحد أن يدخل هذه الديار إلا من تزيَّا بزي المسلمين، وادعى أنه اعتنق الإسلام ودخله, وكثير من هؤلاء دخلوا تحت شعار وستار اكتشاف جزيرة العرب.
ولكم أن تقرءوا الكتاب المعروف الذي حققه وأخرجه حمد الجاسر بعنوان (اكتشاف جزيرة العرب) يعتبرون ذلك اكتشافاً، منهم بلجراف وهوجارث، ومنهم كذلك امرأة تدعى جروترد بل وكانت نائبة للمندوب السامي في العراق , وأمثالهم ممن كانوا يجمعون بين الجاسوسية والتنصير تحت شعار التنقيب عن الآثار.
وكان زويمر يعلم أن من تقدموه لقوا حتفهم ولاقوا مصيراً غير حسن, فبدأ عمله في البحرين، وقال كلمة مشهورة، قال: 'عن طريق الخليج نستطيع الوصول إلى الحجاز ' فبدأ العمل في البحرين، وأسس هنالك مركزاً للتنصير الذي لا يزال إلى اليوم من أكبر أوكار التنصير في جزيرة العرب، وكانت تحت حكم الإنجليز، فبدأ زويمر هنالك عام (1905م)، ثم عقد في عام (1910م) مؤتمر أدمبره في بريطانيا، وهو مؤتمر ضخم مشهور كبير جداً، وكان من أهم المواضيع التي عقد من أجلها كيفية الدخول إلى الحرمين واقتحامهما، وأعاد زويمر في المؤتمر الفكرة وطرح الموضوع وقال: لا بد من ذلك، واقترح لذلك أن ينشأ تحت الانتداب البريطاني وفي ظله معهداً خاصاً للتنصير في جدة، لأنها كما قال: بوابة مكة والمدينة؛ ولكن المشروع أيضاً تعثر، وكانت الأحداث التي جاءت من بعده وهي الحرب العالمية الثانية جديرة بأن لا يفتح وينفذ هذا المشروع، ولكن العمل استمر في الجانب الآخر -أي في الخليج - فأنشئوا في الكويت وأنشئوا في الموانئ التي تسمى الآن دولة الإمارات مراكز تنصيرية، وكذلك في البصرة في جنوب العراق.
فكانت جدة كما ترون هي محط أنظار هؤلاء، ولكنهم لم يستطيعوا أن يصلوا إليها في ذلك الحين، فبقيت لديهم محفوظة في قلوبهم، لكنهم لم يستطيعوا ذلك عملياً إلا عن طريق السفارات أو القنصليات؛ أما الوسيلة التي اتخذوها للتنصير في الخليج، فكانت قوية وفعالة، وكان من أعظم الوسائل في ذلك أنه عندما تفجر النفط في المنطقة الشرقية، جاءت الشركات الأمريكية الأربع، التي وحدت باسم أرامكو.
وعندما جاءت أرامكو جاء معها المنصرون والمستشرقون، بل إن الذي أبرم العقد أول الأمر وجاب المنطقة كان مستشرقاً يتكلم اللغة العربية، ودرسها في بلاد الشام مع الإرساليات التنصيرية، فهو من المستشرقين، والشريط الذي توزعه شركة أرامكو عن تاريخها ونشأتها يظهر فيه ذلك بوضوح.
ولما نزلت أرامكو بَنَتْ أكبر مستوطنة تنصيرية في العالم، وإلى الآن لا يوجد أكبر منها، وتبلغ مساحتها حوالي 160 كيلو متر مربع، ولها منفذ على البحر، ولا يستطيع أحد أن يدخل إليها إلا من يريدون، وكانوا يمارسون كل شعائر دينهم كما يريدون، ويخططون كما يريدون، ولا أستطرد في ذلك، لكن أذكر لكم مثالاً واحداً مما عملته شركة أرامكو أول ما نزلت، وهو يبين أنها لم تكن مجرد شركة بترول، وذلك أنها أرسلت مندوبيها لجمع المخطوطات، فكانوا يتجولون في المساجد: في المنطقة الشرقية , وفي الرياض , وفي القصيم، وفي مناطق أخرى، حتى جمعوا كل ما وجدوه في المساجد أو عند بعض الأشخاص, وشروا المخطوطات بثمن بخس، وجمعت جميعاً في مكتبة أرامكو في الظهران، وأرسل بعضها إلى مكتبة الكونجرس في أمريكا ولا تزال هنالك، فهي شركة ذات عمل مزدوج، وكان لأتباع زويمر والقائمين على منهجه اليد الطولى في أن تظل مستوطنة كبرى لهم، ينفذون من خلالها إلى الخليج كله، وتحت ستار وشعار البترول، لكنهم يعملون في حذر شديد جداً، وبشكل سري لا بشكل مكشوف؛ لأنها وصية بولس لهم، عندما كانوا في ظل الاضطهاد الروماني، قال لهم بولس في رسائله: 'إذا عجزتم أن تكونوا وعّاظاً، فكونوا من صانعي الخيام' فاذهبوا إلى القرى والأرياف، وكأنكم تصنعون الخيام وتبيعونها، وعظوهم بهذا الدين ومن هنا أصبح المصطلح المشهور عنهم، وهو صانعو الخيام، أو الخيامون.
وليست الخيام وحدها، بل أي عمل, أو أي حرفة, أو أي مهنة فهي داخلة تحت وصية بولس، فدخلوا بهذا الاتجاه، ولذلك اسألوا أي موظف من قدماء الموظفين في الشركة، كانوا يحرصون على النصراني، إن كان مصرياً أو سورياً أو ليبياً أو عراقياً قبل أي عربي غير نصراني، حتى في الهند تجد أن كثيراً من موظفي أرامكو الهنود نصارى, رغم أن النصارى في الهند لا يشكلون إلا واحداً بالمائة من السكان، لأنها شركة تنصيرية، ومكتبها في نيودلهي يشترط بأن يكون المتقدم نصرانياً في الدرجة الأولى.
كانت هذه هي المركز الوحيد, حتى شاء الله تعالى وجاءت الطفرة الهائلة في هذه البلاد جميعاً, والقفزة العمرانية, والتوسع الكبير في الحياة الدنيا ومباهجها, ومفاتنها، وهي نعمة لا شك والحمد لله على ذلك، لكنها في جانبها الآخر نقمة.(14/28)
جهود التنصير حديثاً
عندما جاء عام (1395هـ) بعد ارتفاع أسعار النفط، وما بعدها من الأعوام، بدأ الناس يتوافدون على هذه البلاد من جميع الأقطار, وفتحت الأبواب على مصراعيها؛ مع أنهم كانوا من قبل كذلك, لكن الانفتاح الكبير إنما حدث بعد هذا التاريخ، وكان أكبر مقر وأكبر مركز لهذا الانفتاح هو مدينة جدة بالذات، فسكنوها بمختلف الأديان والألوان والأجناس، حتى أصبح المسلم غريباً فيها، ولا أحد منكم إلا وهو يذكر ذلك، وإلى الآن هناك أماكن كثيرة من جدة أنت غريب فيها، لكن قبل بضع سنوات كنت إذا مررت في شارع قابل، أو شارع الملك عبد العزيز أو غيرها، ورأيت إنساناً يلبس شماغاً، فإنك تراه غريباً بينهم؛ لأنهم كانوا أكثرية، وجاءوا بتخطيط عميق وبعيد المدى، ومن هناك بدءوا يعملون في أكثر من مجال، لم يعد في إمكاننا أن نحصر المجالات التي بدأ التنصير يعمل أو يشتغل فيها, سواءً على الطريقة المكشوفة, أي: طريقة الدعوة السافرة الصريحة إلى دينهم، أم على طريقة الخيامين التي هي الدعوة المبطنة المتسترة التي تدخل إلى الناس وهم لا يشعرون، والتي من أساسياتها أن يخرج المسلم من دينه، هذه المرحلة الأولى, ثم بعد ذلك يدخل الجيل الثاني أو الثالث في دين النصرانية، لكن الجيل الأول مهمتهم معه أن يخرج من الإسلام وينسلخ منه, ويتزيا بزي الحضارة الغربية ظاهراً وباطناً.
وعندما توسع وانتشر هذا أصبح المسلم يحار! وأصبح في غربة! لا يدري كيف يقاوم هذا؟! لا يدري ماذا يفعل بهؤلاء الناس؟! فكثير منا أطرقوا رءوسهم, وقالوا: لا حرج في هذا وكثير لم يهتموا بالموضوع, لأن همهم هو الدنيا، حتى إن البعض إذا قيل له: لِمَ لَمْ تأت بعمال من المسلمين, يقول: يهمني إنجاز العمارة، أو المشروع، والمسلمون يصلون ويعتمرون وهم يتأخرون في العمل, لكن هؤلاء جادون في العمل!! فأهم شيء عند كثير من الناس الدنيا! وأصبحت الدنيا عندهم أعظم من الدين! والعياذ بالله، وصدق فينا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {دينار أحب إلى أحدهم من صلاته} وفعلاً صارت هذه القاعدة في تلك الأيام، ولا يزال لها أثر إلى اليوم، فتوغلوا في كثير من مجالات الحياة قبل أن تفيق الصحوة الإسلامية وتبدأ تمارس بعض المجالات الدعوية التي شهدتموها جميعاً, والحمد لله.
وعندما تأتي للدعوة إلى الله في هذا البلد, وقد قرأت في الكتب عن التنصير وأعماله، تفاجئ وأنت ترى هذه الأعمال أمام عينيك مكشوفة وواضحة في قطاعات كثيرة!! حتى إنني فكرت مرة, وقلت: لماذا لا نعرض على الإخوان بعض الإحصائيات عن الشركات التي يديرها نصارى؟ ثم قلت لنفسي: قد نكون بهذا العمل مثل الذي يعد نجوم السماء أو يعد موج البحر! هل أستطيع أن أحصي الشركات في جدة وحدها التي يديرها ويرأسها بالكامل مدراء نصارى، ولا يوظفون إلا نصارى، ويمنعون الشاب المسلم أو العمال المسلمين من الصلاة؟! لا أستطيع ذلك أبداً!! رغم ما جمع لدي من حقائق في هذا، فقلت: لا يمكن أن نستطيع ذلك، ولا نضيع وقت الإخوان بالحديث عنهم, أو ذكر أسمائهم أو أعمالهم أو وظائفهم, لكنها موجودة ومعروفة؛ إنما الذي يمكن في الجملة أن نشير إليه هو أوكار التنصير.(14/29)
أوكار التنصير
فمن أوكار التنصير المستشفيات: وهي كثيرة جداً في جدة كما تعلمون، منها المستشفيات العسكرية, التي تديرها شركات من هؤلاء القوم، ومنها المستشفيات الحكومية العامة، ومنها: المستشفيات والمستوصفات الخاصة.
وهذا القطاع من أخطر القطاعات، وأين ما ذهبت فتجدهم فيه ظاهرين، وتجد أعمالهم إن كنت منقباً وكان لديك عينان كما في المثل: من كان له عينان نظر بهما رأيت في كل هذه المستشفيات أعمال التنصير ماثلة للعيان، ولا داعي للتعديد أو للتفصيل، ولعلنا نذكر نموذجاً واحداً وهو الذي تذكرونه في الدرس كما نبهنا عليه، وقلنا: نرجو أن نجد من ينكر لجرأتهم ووقاحتهم، أعني المنصرين فيه، وهو مستشفى الملك عبد العزيز، ولم يحدث شيء من ذلك، فأحببت أن أذكره كمثال فقط: المنصرون -زعماء التنصير- في مستشفى الملك عبد العزيز: 1 - د: صارفو: أخصائي النساء والتوليد: وهو قسيس وداعية للتنصير، وتعرض بدعوته لبعض المسلمين صراحة، فدعاهم إلى الإيمان بـ النصرانية صراحة، وهو يقيم في منزله وبالاشتراك مع أصحابه اجتماعاً تنصيرياً باسم الإخوة، أو الإخوان، يجتمعون فيه لمدارسة شئون التنصير في المستشفى, وفي هذا البلد، يرافقه ويعاونه: 2 - د: بنكولي: أخصائي جراحة الأطفال، وهو يجتمع مع د/ صارفو، وزوجة الدكتور/ بنكولي تحمل على صدرها لافتة مكتوب عليها بالإنجليزية ما معناه: أنا أحب المسيح، وهذه الشعارات تباع في المستشفى ولدينا نماذج منها، وتباع ملصقات في السوبر ماركت أو السوق الصغير في المستشفى، وفيها شعارات ملصقة عن المسيح وما أشبه ذلك، وموجود منها نماذج معي أيضاً.
3 - د: لايث: أخصائي المسالك البولية، انظروا الاختصاصات! توليد، أطفال، مسالك؛ لأنهم يريدون من وراء ذلك شيئاً، ولا أظن أنه يخفىعلى واحد منكم، ما حصل منه في التعقيم الذي ثبت في عدة حالات وفي عدة مستشفيات؛ وهذا الطبيب لايث، كان هو وزوجته في إيران ثم في البحرين، وقد استطاعت زوجته أن تنصر أربعة من المسلمين في البحرين، ثم ذهبوا إلى جنوب إفريقيا، ثم جاءوا إلى جدة، والزوجة نشطة جداً أنشط من الزوج، فأرادت أن تعمل في مدرسة خاصة من أجل أن تنشر هذا الدين، فاستطاعت أن تتعاقد مع دار الحنان، لتدرس اللغة الإنجليزية، المحببة لدى الجميع, والتي يراد أن تكون من الابتدائي, فتحت شعار اللغة تأتي هذه المرأة التي تدعى هيلين، وتدرس في دار الحنان، ومن هنالك بدأت في أعمالها التنصيرية مع الأطفال، حتى إنها تحرص على تعلم اللغة العربية، وإقامة علاقات قوية جداً مع العاملين والعاملات في المدرسة أو في خارجها، وتأتي بأفلام تنصيرية، أو دعاية للتنصير معها، ومن الأطفال الذين تهتم بهم: أسرة إنجليزية مسلمة, يرجع الأطفال إلى أمهم المسلمة, ويسألونها: لماذا لا يوجد عندنا إنجيل مثل كتاب أولاد هيلين؟! ولماذا -يا أماه- ليس عندنا صورة لعائلة الرب مثل هيلين وأبنائها؟!! وهذا دليل على أنها ناجحة ونشطة في عملها هذا، وغير ذلك كثير ولا نطيل بذكر الأمثلة.
والمهم أن المستشفيات هي أحد أوكار التنصير، ولهم أكثر من هدف في ذلك، وقد عملوا في عدة مناطق، وثبتت قضايا تعقيم قام بها أطباء أقباط، كما ثبتت أيضاً قضايا أخرى، ومنها محاولة تنصير بعض العوام من سكان المناطق النائية، ولولا أن الله تعالى قدر لتنصرت أسرة مسلمة بأكملها في إحدى المناطق، لا نريد أن نذكرها، وبعضكم يعرفها، ولا حول ولا قوة إلا بالله! أيضاً: المدينة الصناعية، وما أدراك ما المدينة الصناعية! - المدينة الصناعية التي في إحدى مصانعها بني مسجد وظل سنتين، والعمال المسلمون بجواره لا يستطيعون أن يصلوا فيه، ولا نسمي لكن القضية معروفة.
يوجد بها -كما قيل- عشرون ألفا أو ثمانية عشر ألفاً أكثرهم نصارى، من العمال والمهندسين ومن الخبراء إلى آخره، يسكنون فيها، ويقومون بتنصير من يعيشون معهم من البوذيين وأشباههم، فيأتي البوذي بوذياً ويرجع نصرانياً، واكتشفت عدة شبكات للتنصير في المدينة الصناعية، بعضها إيطالي كاثوليكي، وبعضها يتبع الجمعيات البروتستانتية الأمريكية، وبعضها الأرثوذكسي.
من الأوكار أيضاً: - جامعة الملك عبد العزيز , وقد تكلمنا عن هذا الموضوع، وقد وصلتنا الأدلة والإثباتات على ذلك، والمعاملة ذهبت ولا تزال تدور ولا ندري متى تنتهي، لكن هناك حقائق عن أعمال التنصير بين العاملات والعاملين في الجامعة من الفلبينيين وغيرهم، وبكل برود وعدم اكتراث، وعدم اهتمام, يبارك لهم رسمياً بأعياد الميلاد ويهنئون بها، بل ربما يحضر البعض حفلاتهم في ذلك ولا يبالون بشعائر دينهم!! - الخطوط السعودية، وهي وكر من أوكارهم، وأذكر لكم مثالاً واحداً فقط: الخطوط السعودية تعطي إعفاءات للأعمال الخيرية، وهذا شيء طيب في الحقيقة، لكن بعض الطيارين الأمريكان يجمعون من هذه البلاد التبرعات ويحملونها مجاناً في طيارات الخطوط السعودية، فإذا نزلوا في باكستان أو بنجلادش، أوصلوها إلى منظمة تنصيرية تستقبلهم في المطار أو يذهبون إليها، وهذا أيضاً ثابت، وتحدثنا عن هذه القضية فيما مضى، فلا نطيل وإنما قصدنا التمثيل، ويضيق الوقت عن الاستطراد.
- المدارس الخاصة -وهذه أمرها عجيب- ففي بعض المدارس الخاصة ثبت لدينا وتواتر أنها تقوم بنشاط تنصيري مكثف، بمدرسات أمريكيات ولبنانيات وغيرهن، وأنهم يقومون جميعاً بأعمال لا منهجية: نشاطات خارج المنهج، ورحلات إلى البحر يومين أو ثلاثة أيام، ورحلات إلى مناطق أخرى، ومن خلالها يربون الأولاد والبنات على الأفكار التنصيرية تدريجياً.
كذلك هناك معاهد التدريب، ومعاهد اللغات, ومعاهد الكمبيوتر, إلى آخره, وهي كثيرة.
ولدي وثائق وحقائق عن كثير منها، تنتشر في جدة، ويذهب إليها الناس ليتعلموا اللغة العربية، أو الكمبيوتر، أو دورة إدارية، أو ما أشبه ذلك.
وإنما يسيرون وفق خطط تنصيرية محددة الأهداف، ومبرمجة تماماً، والمناهج تدل على ذلك، والأسلوب يدل على ذلك، وسلوك المدرسين أو المدرسات يدل على ذلك، وفي النهاية يخرجون بثمرات واضحة ولا شك فيها، ولو لم يكن منها إلا الخطوة الأولى كما يقولون وهي: إخراج المسلم من دينه، ثم بعد ذلك الجيل الآخر يدخل في دينهم، وهنا تلتقي العلمانية والتنصير، أو جهود التغريب وجهود التنصير، فالتغريب خطوة إلى التنصير؛ ولذلك تتعاون المؤسسات والشبكات التنصيرية في جميع أنحاء العالم مع الحكومات, والمستعمرات، ومع وزارات الخارجية، ومع الاستخبارات الغربية؛ لأنهم يعتبرون أن هذا مقدمة لهذا, وأن هذا مصير إلى هذا، وكتاب (التبشير والاستعمار) وإن كان قديماً، لكنه مثال لعملهم الذي تطور فيما بعد وارتقى, وخاصة بعد مؤتمر كولورادوا الشهير الذي أصدر الكتاب المترجم الذي رأيتموه, الكتاب الضخم والذي لا بد أنكم اطلعتم عليه، ولديهم مؤتمر ضخم سيعقدونه بعد حوالي ثلاثة أشهر أو أربعة، لإتمام ما عقدوا من قبل.
- كذلك الأسواق والتجارة: وهي من أهم المنافذ التي ينفذون منها فهم خبثاء جداً، يهمهم أن يرتفع شعار الصليب على المباني, والرخام، وعلى صدور الشباب في الملابس, وعلى صدور النساء، في حِلق الأذان, وفي الأقلام، وفي أي شيء، صورة المسيح المصلوب كما يزعمون، أو على الأقل الصليب وحده, يهمهم أن تنتشر في كل مكان؛ لأن هذا يهيئ الأذهان للتنصير مستقبلاً.
وكذلك عن طريق الوكالات التجارية, وعن طريق البضائع, وعن طريق كثير من هذه المنافذ يدخلون أيضاً إلى عقول المسلمين ولا سيما المرأة.(14/30)
الأوساط التي يعشعش فيها التنصير
وللتنصير مجالات كثيرة فمنها:(14/31)
النساء
المجمعات السكنية: وكما تلاحظون في جدة مجمعات ضخمة, لا يدخلها أحد غيرهم, وهم يريدون ذلك، فمن خلال الباب لا يدخل أحد, وأما في الداخل فإنهم يفعلون كل شيء, حتى التنصير, حتى المخدرات, وكل أنواع الفساد، والذي يُدخلونه ممن يثقون فيه، فيدخل ويشاركهم في مثل هذه الأمور والعياذ بالله، وهي مجمعات كثيرة، بعضها تسمى قرية, وبعضها يسمى مجمع إلى آخر ما تعلمون، وهي في أماكن كثيرة من جدة، لا يتسع الوقت لحصرها.
وأضرب لكم مثلاً على دخولهم إلى عالم المرأة, لأنهم يعلمون أن كل امرأة تحتاج إلى الطبيخ, لأنه عمل النساء, خاصة في مجتمعنا هذا -والحمد لله- وأي بيت يريد أن يطبخ, فإنه لا بد له أن يحتاج إلى الزيت، وعن طريق زيت عافية -كما يسمونه- أرادوا أن يدخلوا إلى أسرار البيوت التي لا يعرفها أحد، فأنا وأنت لا نقدر أن نعرف ما اسم زوجة جارنا في الشقة, وما عملها, وكم عمرها, لكنهم وعن طريق نشرات بعنوان (عالم عافية للسيدات) التي وزعوها, ونشروها، استطاعوا أن يعرفوا الاسم, والعمر, والعنوان، والعمل, والهواية, ثم بعد التعرف تبدأ لقاءات في مطعم كذا أو في فندق كذا، ثم بعد ذلك الحديث عن التسريحات, وعن الأصباغ, وعن الفنون, ثم بعد ذلك القيام بالرحلات للخارج, وهنالك تستقبل عن طريق المنصرات, وهكذا! عمل بطيء ولكنه أكيد المفعول لإفساد المرأة المسلمة.(14/32)
الأطفال
أما كيف يدخلون عالم الأطفال؟ فمن خلال هذا المثال -وسأضرب صفحاً عن الأمثلة المتعلقة بكبار السن، وكتب المرتدين التي توزع وأتكلم فقط عما يعملوه للأطفال- أحد أعمالهم هذه المجلة التي تسمى الأشبال.
مجلة الأشبال هذه, إذا تأملتها فإن أول ما تجد في الداخل، هو اسم الجلالة, كما هو مكتوب عادة عندنا في المساجد، فتظن أنها مجلة إسلامية، وكلمة (الأشبال): كلمة عربية, فتقول: هذه مجلة لأطفال المسلمين، ثم إذا بدأت تقرأ فيها تجد الموضوعات الأولى تتحدث عن خلق الله, وعن حياة النمل, وكيف يمكن للطفل أن يقوم ببعض التجارب مع النمل، فهي مسلية ومضحكة، فينجذب الطفل لمتابعة هذه المجلة، ثم بعد ذلك ينتقل إلى موضوع عن الصداقة والأصدقاء، وتقول: هذه الفقرة يحتاجها الشباب، ثم يتحدث عن قصة طويلة تشرح موضوع الغيرة بين الأطفال، وهذا موجود بين الشباب في العلاقات، هذا يصاحب هذا وهذا يعارض هذا، ثم يختتمون فقرات المجلة بقولهم: إن كلمة خالدة من كتاب الله الكريم فانتبهوا إلى قولهم: من كتاب الله الكريم، وما قالوا: الإنجيل، فأي طفل يقرأ هذا الكلام فسيظن أنه في القرآن، وكم رأينا من أناس يقولون: قال الله, ثم يأتي أحياناً بحكمة، ويأتي أحياناً بحديث! ويقول قال الله، فكيف بالأطفال؟! يقول: 'إن كلمة خالدة من كتاب الله الكريم، تنفعك لمثل هذه الظروف، من يكثر الأصحاب يخرب نفسه, ولكن يوجد صديق أقرب من الأخ, إن اسم هذا الصديق هو عيسى' ولا يقولون: هو ابن مريم, بل يكتفون بكلمة (عيسى) فيتساءل هذا الطفل عن عيسى هذا, من هو؟ من هذا الذي هو أقرب إليّ من جميع أصدقائي؟ وإذا سأل والديه فليس لهم وقت يرشدونه فيه.
وقد يفتح إذاعة أحياناً, كإذاعة مونتكارلو، ساعة الإصلاح، فإذا بها تتحدث أن عيسى هو الذي صلب من أجلنا, وخلصنا, وأنقذنا، فيتذكر أن هذا هو الذي يجب علي أن أصاحبه.
وهكذا, والمهم أنهم أثاروا في ذهنه قضية مهمة من خلال أصدقائك الذين تغار منهم أو يغارون منك.
وبعد ذلك يكتب عن موضوع (إنه حيران) موضوع الحيرة وكيف يمكن أن تحل حيرته، ثم يأتي بقصة، والقصة كما تعلمون مصورة كعادة مجلات الأطفال، ويبتدئون كتابتها بخط كبير.
فيقولون فيها: 'ذات مرة جاء واحد من علماء الدين -لاحظوا أنه لم يقل راهب أو قسيس كما هو في أصل القصة- إلى عيسى -وأيضاً ما قال ابن مريم-.
وسأله: يا معلم, ماذا أعمل لكي تكون حياة الخلود من نصيبي؟ فأجابه عيسى: أحب الله, وقريبك.
لكن هذا الرجل عاد وسأل: من هو قريبي؟ ' فأخبره عيسى بهذه القصة.
ثم يأتون بقصة، تصور وتشرح على أنها حكاية بين عالم الدين وبين عيسى، وهي قصة تنصيرية، غايتها وخلاصتها الرحمة والشفقة بالفقراء والضعفاء.
ثم بعد ذلك يعرضون في مجلة حقائق عن بلادنا: البلد: جمهورية موريتانيا الإسلامية الموقع: , اللغات: إلخ.
ثم يقول: في القرن الثامن الميلادي فتحها العرب، وفي سنة (1902م) أصبحت مستعمرة فرنسية، ثم حصلت على استقلالها سنة (1960م)، إذاً يقول: العرب فاتحون ومستعمرون، ولا نجد للإسلام أي ذكر.
بعد ذلك نجد -وهذا هو بيت القصيد- صور الأطفال الذين يراسلون هذه المجلة، وبعضهم لم يرسل الصور، والأطفال هم من المغرب، والسودان والجزائر، ومصر، وتونس، ونيجيريا، والأردن، وسوريا، واليمن، وعُمان، والسعودية، والكويت.
فيراسلونهم وتنشر صورهم هاهنا، وفي الأخير يكتبون إعلاناً مهماً مضمونه: أننا نعرف أن الكثيرين من أصدقائك سوف يتمتعون ويستفيدون إذا حصلوا على مجلة الأشبال، وأنت تستطيع مساعدتهم بالحصول عليها بواسطة إرسال خمسة أسماء من أصدقائك إلينا، مع عناوينهم وأعمارهم وصورهم إذا استطعت، ثم يرسلونها إليهم على عناوينهم، ولا يدري الطفل من أين جاءت إليه، وتأتيه بالمجان، ثم بعد ذلك يقولون له: هل لديك أية مشكلة؟ أو تفتش عن حل؟ نحن بعون الله تعالى وحده نعينك على هذا فاكتب لنا, ونحن نعينك على الحل أيضاً.
ويعرضون -أيضاً- في المجلة كلمة (لأشبالنا): 'تستطيع أن تتعلم الكثير عن الصداقة الحقيقية من خلال سيرة سيدنا عيسى المسيح' الآن بدأت كلمة سيدنا المسيح! في آخر المجلة!! في الأول: مذكور "عيسى" فقط وثم رجل دين، أو واعظ يعظ رجال الدين، بعدها سيدنا عيسى المسيح، وهنا يضع لك مبادئ ونقاطاً معينة، كيف تستخرج الصداقة والعلاقة منها، لكن من خلال سيرة سيدنا عيسى المسيح، وهنا بعض المبادئ عن الصداقة يمكنك أن تتعلمها من سيرته العطرة، ثم يذكر لك المثال.
وحقيقة إننا نريد أن نُذكر بأنواع وألوان هذا الغزو الذي تغلغل في عقول أطفالنا, ونسائنا, وصغارنا, وكبارنا, ونحن لا نعلم.(14/33)
جنسيات المنصرين
قد تقولون: ما جنسيات هؤلاء المنصرين؟، أقول لكم: هم من كل الجنسيات.(14/34)
العرب اللبنانيون والأقباط
وهم من أخبث أنواعهم، لأن كثيراً منا لا يفطن لهم، فإذا رآه يسلم عليه أو يكلمه ظن أنه مسلم, وهو نصراني: إما من الأقباط, وإما من اللبنانيين المارون، وهم من أخبث الطوائف، لأنهم يتغلغلون عند الكبراء، وعند التجار الكبار، وعند المسؤولين، ويتغلغلون بوسائل كثيرة جداً, منها المشروع, ومنها غير المشروع، ولا يبالون ولا يتورعون، فلو أتيت بواحد منهم وهو لا يملك ديناراً واحداً, ثم أتيته بعد سنة أو سنتين أو ثلاث، تجده قد ملك السيارة الفاخرة، والعمارة و، ما تدري من أين جاءوا بها، فيهم نوع من الذكاء والشيطنة والدهاء، ولا شك أنهم يتعاونون في هذا، وهؤلاء يجتمعون، ومثال على ذلك: اللبنانيون مثلاً يجتمعون، وتأتيهم الأشرطة, وتأتيهم الأفلام من بيروت، ويقيمون القُدَّاسات, ويحتفلون, ويصنعون ذلك في أكثر من مبنى من مباني الشركات وغيرها، وهذا أيضاً موجود بالوثائق.(14/35)
الأوربيون والغربيون
وهؤلاء يتغلغلون في معظم الإدارات, وينفذون إلى الناس من خلال كونهم غربيين، فالإنسان الغربي لا يمس، وذاته مصونة مقدسة، ولا يستطيع أحد أن ينتقده، ولا يستطيع أحد في الطريق أن يفتشه، ولا يستطيع أحد أن يوقفه ولا يسأله، بل مجرد أن يُرى الدم الأحمر والشعر الأشقر فلا يُكلم، ولا يقال له: من أين جئت؟ ولا ماذا فعلت؟ ولا ماذا تصنع؟ الثقة المطلقة فيهم، وهم ينفذون في المجتمع من خلال هذا الأمر، ويفعلون ما يشاءون.
فأنشئوا نوادٍ خاصة للرجال، ونوادٍ للسيدات، ويقيمون رحلات في الإدارات التي يعملون فيها مع الموظفين وغيرهم إلى الأماكن التي يريدون؛ مثلاً: والرحلات تنطلق من جدة إلى خيبر وتنطلق من جدة إلى وادي فاطمة، وإلى الطائف، يفعلون كل شيء ولا يبالون.
ومن خلالهم لا يكون تنصير فقط، بل هناك رصد أيضاً لهذا المجتمع, ولمعرفة مكامن القوة فيه واتجاهاته.
وما الكلمات التي تكتب في الصحافة الغربية عن هذه البلاد والصحوة فيها، والأصوليون وما إلى ذلك إلا من آثار هؤلاء الذين بيننا، ونحن لا نعلم ولا ندري عنهم شيئاً، ولا يفتشون في دخول ولا خروج؛ فكل الوسائل لديهم متوفرة وممكنة!(14/36)
الكوريون والفلبينيون وغيرهم
وقد تعجبون من كوريا التي ما دخلها الدين النصراني إلا من قريب، أن يكون منها منصرون يعملون في هذه البلاد لتنصير إخوانهم الكوريين وغيرهم.
وطبعة الإنجيل الكبيرة التي توزع في إفريقيا وغيرها بالملايين، هي طبعة كورية، طبعها النصارى الكوريون بدعم من المؤسسات التنصيرية.
وهناك حركة تنصيرية مضادة، ولها نشاط كبير في جدة مع الفلبينيين الذين أسلموا، تهاجمهم من أجل إرجاعهم إلى الدين الذي كانوا عليه.
بين السرلانكيين وغيرهم، فكل هذه الشعوب، يوجد بينها من يريد أن يردها عن الإسلام إلى النصرانية، أو يثبتهم على دينهم إن كانوا نصارى، أما إذا كانوا بوذيين أو غير ذلك، فهؤلاء من أسهل ما يكون أن يُدْعَوا إلى النصرانية في هذه البلاد.
ولعل هناك جوانب أخرى لا نستطيع الإطالة فيها، لأترك لكم المجال في الحقيقة، بعد أن نعرض المشروع بإيجاز للتساؤل عن المشروع بالذات.(14/37)
من وسائل التنصير
إن للتنصير وسائل عدة منها:(14/38)
توزيع النشرات التبشيرية
أرسلوا نشرات إلى بعض المدارس المتوسطة، كباراً وصغاراً، وذلك غير ما يتلف في البريد، ولا شك أن في البريد وفي المنافذ أخوة مخلصين، ويتلفون الكثير من ذلك، لكن هذا الذي يتسرب، ومن جملتها: نشرة بعنوان (شهادة القرآن)، وهذه وزعت أيام وجودهم هنا أيام الحرب.
ومنها نشرة تقول: في دعايتها للإنجيل: 'إن الإنجيل هو كلمة الله التي لم تتغير -وهذا من الكذب على الله, ثم يقولون:- إن الإنجيل قد ترجم إلى أكثر من ألف وأربع مائة لغة'.
ومن ذلك أنه ترجم داخل اللغة الواحدة إلى عدة لهجات -وقد قرأنا ذلك في درس سابق- ترجم باللهجة المصرية، واللهجة اللبنانية, ولهجة بدوية للبدو، وترجموه إلى جميع اللهجات حتى يقربوه إلى أفهام الناس, ثم يقولون في الدعاية: ' الرب أعطانا كلمته بدون ثمن, ونحن المسيحيين نحب أن نعطيها أصدقاءنا المسلمين بدون ثمن -ثم يقولون:- وما عليك إلا أن تعبئ البطاقة وتأتيك الأشرطة مجاناً' لأنهم كما أخذوها بغير ثمن يعطونها بغير ثمن!!(14/39)
الطعن في الدين واستخدام البث المباشر
وهكذا فعلوا ويفعلون, وأذكر مثالاً على هذا, وقد أوردناه لكم أبو فيليب هذا عاش هنا وكان من زمرة الخيَّامين, فلما رجع إلى أمريكا كتب.
يقول: 'أكثر ما آلمني في السعودية أننا نرى ملايين من الناس يذهبون إلى أماكن العبادة يومياً عدة مرات, ولكنهم -للأسف- يعبدون الله على ضلال' يتحرق قلب أبو فيليب أننا لا نعبد الله كما يعبدونه, ويريد أن نشرك بالله ما لم ينزل به سلطانا, ويريد أن نجعل له صاحبه ولداً, ونجعل له شريكاً! ويعجب الواحد منا من شدة حرقتهم على ذلك، وهذا الكلام إذا قرأه الإنسان الأمريكي -وهو من أسذج الشعوب- يتأثر كثيراً, وتظل هذه القضية في حسه, ويقول: فعلاً لماذا لا أتبرع؟.
ونتيجة ذلك تكون هذه التبرعات مبالغ خيالية, وقد ذكرنا أن مجموع التبرعات -كما نشر ذلك في مصدر تنصيري موثوق- مائة وواحد وخمسون ألف مليون دولار, جمعتها الكنيسة في سنة واحدة، أي ما يعادل ميزانية المملكة عشر سنوات، ولذلك يستفيدون من هذه الأموال فائدة كبيرة جداً.
ونذكر لكم مثالاً واحداً من أمثلة إفادتهم من هذه الأموال ضد هذه البلاد: عندما بدأ البث المصري يصل إلى جدة أو خطط له لكي يصل إلى جدة , قالوا: لا بد أن نستفيد من هذا البث لإدخال النصرانية إلى جدة وهذا كان قبل البث المباشر.
فأقاموا شركة تنصيرية في يوليو 1998م كما نشرت جريدة المسلمين بأنه بدأت في القاهرة الخطوة الأولى لمشروع تنصيري مشترك بين الفاتيكان والتلفاز المصري حول إنتاج مسلسل معاني القرآن الكريم، وهذه الفكرة خبيثة بحيث لا يستطيع أحد أن ينكر عليهم ذلك.
وأيضاً قالوا: هذه البلاد متدينة، وأفضل شيء يجعلها تقبل عليه هو عن القرآن، فعملوا على إنتاج مسلسل معاني القرآن الكريم بالرسوم المتحركة التي تجذب عقول ملايين الأطفال, وتقوم بإنتاجه إحدى شركات النشر الكاثوليكية التي يقوم بالإشراف عليها مجموعة من القساوسة، وتخضع للإشراف المباشر من قبل أضخم مؤسسة تنصيرية في العالم وهي الفاتيكان.
وعهدت الشركة الكاثوليكية بالأعمال التي تتم في القاهرة لشركة مصرية وضعت تحت تصرفها (21.
000.
000) دولاراً لإعداد الفيلم.
وتخيل شركة مصرية تعطى مبدئيا مبلغ واحد وعشرين مليون دولار.
ينفقون من سعة هائلة، ولا بد أن يكون مثل هذا العمل مما تتنافس وتتسابق عليه الشركات المصرية لكي تظهره في أروع وأبدع ما يمكن بغض النظر هل هو ضد الدين أو معه، وتعلمون أن تجارة الفنانين هي الدعارة والفساد والانحلال والإلحاد، فكيف إذا جاءت هذه المبالغ الخيالية في عمل مبدئي, وربما إذا انتهى تكون ضعف ذلك المبلغ, وذلك مقابل حلقات تعرض -ستة وعشرين حلقة- فما بالك بالجهود المستمرة للجامعات التي تعد بالمئات والآلاف في إفريقيا وغيرها، وللمراكز التنصيرية التعليمية, وللمستشفيات التي تقطع العالم ذهاباً وإياباً.(14/40)
التخطيط والكيد لبلاد الإسلام
عندهم خطة -وهذه البلاد من جملة ما تشمله الخطة- وهي خطة التنصير عام (2000م) نادى بها البابا عندما زار غرب إفريقيا في عام (1412هـ) في شعبان, وأقيم له أكبر قداس في الإستاد الرياضي وهو الملعب الذي أقيمت فيه بطولة إفريقيا , وجاء النصارى وأتباعهم من جميع دول غرب إفريقيا , ونقلت تلك المقابلات بالأقمار الصناعية إلى أنحاء العالم، ليس كشيخ من شيوخ الإسلام لا يدري به أحد, لا في التلفاز ولا في الإذاعة, بل ينقل بالأقمار الصناعية؛ ينقل هذا الكاهن الأكبر للوثنية البوليسية التي تنتسب إلى المسيح وهو بريء منها, وهناك أعلن أنه في عام (2000) ستكون إفريقيا نصرانية، وكذا إندونيسيا وقد لا يتم بالكامل, لكن المقصود أن إندونيسيا تعتبر هدفاً كبيراً لهم, لأن عدد سكانها يقارب المائتين مليون, وكذلك نيجيريا تعتبر هدفاً كبيراً لتنصيرها لأنها أكبر دولة إفريقية، وكذلك أفغانستان وباكستان وبنجلادش كلها لها برامج خاصة للغاية، لأنها تعيش أوضاع حروب, وفتن, وفيضانات, وكوارث, ومآسٍ, فهذه من أسهل ما يمكن أن ينصِّروها، وعندما أتى الداعية الشيخ: أحمد ديدات , رأيت نماذج من الرسائل التي ألفها باكستانيون مرتدون -والعياذ بالله- وعندي نماذج منها وفيها يقول: إنه كان في ظلام, وكان في حيرة, وكان يذهب إلى المسجد فلا يجد الحقيقة، وكان يسأل علماء الدين فيتهربون منه -اختلاقات من عنده- ولما تعرف على دين النصارى, فدخل فيه وآمن اطمأن قلبه, وينشرون هذا بجميع اللغات, ومنها اللغة العربية، وهكذا يريدون أن يزينوا للناس، كذلك في كل البلاد التي لا نستطيع أن نحصرها, والمقصود أن لديهم أعمالاً هائلة, منها ما أشرنا إليه في هذه الإشارات العابرة.
ونقول: وماذا بعد هذا الطوفان؟ وماذا بعد هذا المد الهائل؟ وماذا بعد هذه الجهود التي نجدها في كل شارع، وفي كل شركة، وفي كل مكان؟! وماذا بعد هذا الموج العاتم, وهذا التيار الهائل الذي سينصب علينا من الأقمار الصناعية فيما بعد؟! وما هو موقفنا من ذلك؟ هل سنظل نقول: قاتلهم الله, ولعنهم الله, لقد فعلوا كذا, وعملوا كذا، ونظل نخطب؟! هذا لا يعفينا أمام الله عز وجل, وإن كانت التوعية بهذا في المنابر والخطب مفيدة, وهي ضرورية ومقدمة للعمل, لكن لا نكتفي بالمقدمة, بل لا بد أن نعمل وأن نواجه هذه الجهود بشيء مهما قل، حتى لو تخلت هذه الأمة -ولن تتخلى عن دينها- فلا بد أن يقوم لله تعالى من يقوم بإعلاء كلمة الدين، وأن يعمل أي عمل لمواجهة هؤلاء المجرمين، ونحن لا نعمل لأنفسنا, بل نعمل لله عز وجل, ولذلك نحن نثق بنصر الله، ولم تنجح جهودهم الهائلة والضخمة, لأنهم يعملون لغير الله، وإلا لو كانوا على الحق, لما بقي على ظهر الأرض أحد إلا دخل دينهم، إذ من الذي يملك هذه الوسائل؟! حتى الطائرات, وكذلك المطارات يملكونها في كثير من بلاد العالم!!(14/41)
مواجهة التنصير
لقد عزمنا على أن نقوم بعمل يقاوم جهود المنصرين، واسترشدنا بمشورتكم وبآرائكم وباقتراحاتكم الكثيرة، وتوصلنا إلى هذا المشروع، وهذه هي فكرته ببساطه: هي أنه لا بد من عمل ما، ونحن لا نستطيع أن نفتح مستشفيات, أو مطارات, أو جامعات, لا نستطيع إلا في حدود ما أعطانا الله, وهو أن ننشر العلم الصحيح والعقيدة الصحيحة, ونرد شبه هؤلاء بالرد العلمي، الذي هو مجالنا وبضاعتنا الوحيدة.
فكّرت في هذا مع بعض الإخوة الأفاضل -جزاهم الله خيرا- وقلنا: ولم لا يكون ذلك, ولم لا تكون البداية في ترجمة ذلك الكتاب العظيم الذي كتبه شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله, عندما رأى بدايات محاولات التنصير، وهو كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح.(14/42)
ترجمة كتاب الجواب الصحيح
إن خير ما نبدأ به في هذا المشروع هو ترجمة كتاب شَيْخ الإِسْلامِ الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح فيترجم إلى كل اللغات, ولا يكفي أن يكتب ويعلق عليه باللغة العربية، نحن الآن في عالم متشابك لا تكفي لغة واحدة ولا حتى الإنجليزية أو الألمانية أو غيرها، لأنها لا تكفي إلا طبقة مثقفة, فلابد أن يترجم هذا الكتاب إلى جميع اللغات.
وقد عرضت هذا الموضوع على علمائنا الأفاضل جزاهم الله خيراً, ولقد قابلوه بكل ترحاب, ومنهم سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز , ومحمد العثيمين , وعبد الله الجبرين , وكل العلماء، ولقد سرهم هذا العمل، وجعلوا من أنفسهم القدوة في تأييد هذا المشروع ودعمه والتبرع له؛ فحقيقة إن أول من أيده وأول من كتب عنه هم هؤلاء العلماء الأجلاء بارك الله فيهم ووفقهم وجزاهم عنا كل خير وبدعائهم وبتشجيعهم, وبتشجيعكم نرجو أن يستمر هذا العمل وأن ينجح بعون الله تبارك وتعالى, وأن تكون ترجمة الكتاب نواةً لأعمال أخرى.(14/43)
توزيع النشرات العقدية
ومن المقترحات المهمة أن تستخلص منه نشرات عن التثليث والتنصير, وكل القضايا العقدية المهمة, وتوزع بجميع اللغات, تهدى أو تباع بسعر التكلفة إذا عجزنا من الناحية المالية, كل هذا ضمن خطة معينة مرسومة والحمد لله.
وبين يدي الآن هذه الدراسة -دراسة تكاليف المشروع- وربما أكون قد أشرت إليها في المحاضرات السابقة إشارات مجملة، فلا أريد أن أكررها الآن, إنما أقول: إن هذه بداية وخطوة إن شاء الله لتكوين مركز صغير للترجمة، ترجمة الكتاب وتلك النشرات المتفرعة عنه إن شاء الله.(14/44)
تعاون الدعاة وتفعيل الأنشطة الدعوية في بلاد النصارى
ثم بعد ذلك يكون لنا في كل بلاد العالم من يتعاون معنا -وهذا موجود والحمد لله- من إخواننا المسلمين في كل مكان, ولا يوجد بلاد في أي مكان حتى البلاد الغربية إلا ولنا إخوة مسلمون، لديهم مراكز دعوية, ولديهم أنشطة, يريدون كتباً، ونحن نرسل إليهم ونمدهم ونساعدهم, فيكون هذا التواصل بين المسلمين من أجل مقاومة هذا العدو الشرس، الذي يريد أن يقضي علينا جميعاً، فيكون هذا المركز الصغير، أو المشروع الصغير نواة التعاون بين المسلمين في هذا الجانب, أعني: جانب مقاومة التنصير ورصده، ومتابعة تحركات أصحابه وأتباعه رصداً علمياً بعيداً عن العاطفة والانفعال، ورد الشبهات رداً علمياً بأقوى الحجج، وفي المحاضرة الأولى تحدثت عن قيمة الكتاب وأهميته وتبحره, وهذا أظنه لا يحتاج إلى إعادة، ولا تحتاجون إلى ذكره لأنكم تعلمون من هو شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله، ونحن كما قال ابن القيم رحمه الله قال: 'نحن من بحره نغترف' فنحن نغترف من بحره, ونبسط عباراته, ونزيد إضافات لما حدث من فتن وضلالات وبدع وفرق جديدة عندهم, ونتمم ما عمله رحمه الله، ثم ننشره إن شاء الله بجميع اللغات.
وما يقف في سبيل هذا المشروع هو عقبتان: الأولى: هي الناحية المادية، والثانية: هي الناحية العلمية، والحمد لله قد توفر لنا من الناحية العلمية أخ أمريكي هداه الله تعالى للإسلام, وكان قد درس دينهم وتعمق فيه, ويعرف بعضاً من لغاته الأساسية، بالإضافة إلى إتقانه اللغات الإنجليزية، والحمد لله أنه قد أثبت كفاءة في فهمه للكتاب ودقته في ذلك, وقد بدأ في الترجمة، وهذه اللغة الإنجليزية نجعلها أساساً ثانياً مع اللغة العربية لدى من يترجم إلى اللغات الأوروبية، أما اللغات الإسلامية مثل الهوسا والأوردو والتركية والفارسية، فهذه الترجمة إليها من العربية ليس فيها إشكال كبير والحمد لله لأنها سهلة، وقد استعد كثير من الإخوة للتعاون معنا في المجال العلمي: تنقيح المصطلحات, وتخريج الأحاديث والروايات؛ فنحن نعمل سوياً مع إخوة متخصصين في اللغات والأديان.
الجانب الآخر: هو الجانب المادي, وأقول لكم: إنه جانب مكلف كثيراً، حتى إن سماحة الشيخ الوالد عبد العزيز عندما قلت له: قد يكلف ثلاثين مليوناً، على أساس أن تكلفة المجلد الواحد مثلاً عشرة ريالات، وعدد مجلدات الكتاب ستة مجلدات, ونحتاج أن نترجم خمسمائة ألف نسخة فقط, فتبلغ التكلفة الإجمالية ثلاثون مليون ريال, فقال الشيخ: لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، قلنا: سنفعل ما بوسعنا ثم نضعه للأمة، ونأمل إن شاء الله أملاً كبيراً جداً في غيرة هذه الأمة, وفي حرصها على دينها، وفي مقاومتها لهؤلاء الأعداء، فيمكن أن يغطى هذا الجانب بوسائل وبأسباب كثيرة ليس هذا مجالها.
وليس المقصود من هذه المحاضرة أن نجمع التبرعات، وإنما المقصود أن نعلن لكم عن الفكرة، وأن نبين لكم المشروع وأهميته، وليس المقصود أن نقول لكم: نجمع شيئاً من المال اليوم أو غداً ثم نمضي!! لا فهذا عمل متكامل، ويحتاج إلى جهود مستمرة، فنريد من كل أخ منكم أن يعد نفسه جندياً للإسلام، إن رأيت أي نشرة تنصيرية فأرسل بها، إن سمعت أي خبر عن التنصير في جريدة أو مجلة فاكتبه، أو وجدت شبهة من شبهاتهم فاجمعها، أو حصل لك مبلغ مادي أو لديك تاجر يفعل خيراً فقل له: تعال يا أخي، أتتبرع لـ منظمة اليونسيف؟! أتتبرع لنادٍ من النوادي؟! أتتبرع لبطولة القارات؟! وعندنا مشاريع إسلامية مهمة جداً وضرورية جداً لا بد منها؟ فتدل على الخير، والدال على الخير كفاعله.
على كل حال أرجو أن أكون قد وفيت بشيء مما أردته، والمشروع حقيقة لا مجاملة فيها هو منكم وإليكم ومن أفكاركم واقتراحاتكم جزاكم الله خيراً، وإن كان كثير منكم من خارج جدة، وخاصة من المنطقة الشرقية والرياض والقصيم، بل والله من أمريكا وصلت رسائل ومكالمات، كل واحد من المسلمين ممن لا نعرفه، يقول: أنا مستعد لأي عمل، ماذا تريدون أن أفعل، أنا مستعد ونحن نعلم أن الخير باقٍ في هذه الأمة إلى قيام الساعة, ونعلم أن الذي ينقص هذه الأمة هو من يفتح لها الطريق، من يريها كيف تعمل، وإلا فهي مستعدة لأن تجاهد، وتبذل كل شيء، لكن الذي ران على عقولها وقلوبها من الشهوات والشبهات والتخدير الإعلامي والتضليل الذي يمارس ضدها فكرياً من قبل أعدائها هو الذي جعلها كذلك، وإلا فالحمد لله ما من مسلم إلا ولديه من الغيرة على دينه بحيث لو استطاع أن يقدم روحه لقدمها، بشرط أن تنجلي عنه هذه الغشاوة، ويعلم أنه جندي من جنود الله عز وجل، وتابع من أتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وأن هؤلاء الوثنيين والمشركين والمجرمين الذين يسعون لإطفاء نور الله يريدون أن ينتزعوا إيمانه وعقيدته من قلبه وعقيدة أبنائه من بعده، وهذه هي التي نعلق عليها الأمل في إنجاح هذا المشروع, إن شاء الله تعالى.(14/45)
الأسئلة(14/46)
اقتراح تلخيص وترجمة كتاب الجواب الصحيح
السؤال
يقول: لو قمتم بتلخيص كتاب شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله ليتسنى لعامة المسلمين معرفة دين النصارى ومنهجهم والرد عليهم، وأظن أن هذا العمل من أحسن الطرق لمقاومة التنصير، وكذلك نقترح ترجمة هذا الكتاب إلى اللغات الأخرى.
الجواب
يضم إلى الاقتراحات الموجودة.(14/47)
دور المدرسين في فضح اليهود والنصارى للطلاب
السؤال
يقول: فضيلة الشيخ: أهمية ترسيخ عداوة اليهود والنصارى للمسلمين وعداوتهم لنا كما بينها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا في القرآن الكريم، هذه من الأهمية بمكان، وفي الآونة الأخيرة هناك محاولة لطمس مثل هذا في المناهج الدراسية، فما هو دور المدرسين لترسيخ ذلك لدى الناشئة؟
الجواب
أقول: أولاً: إن المنهج يجب أن يتضمن ذلك، فإن لم يتضمنه أو حذف منه، -كما بلغنا ورأينا- فالواجب أن يتدارك أولاً المنهج ليصحح ويعود، بل يضاف إليه الآن مثلما يضيفون من العداوات، فنضيف نحن زيادة تكافئ ذلك في المنهج.
وثانياً: يعوض ذلك ويكثف في المحاضرات والمواعظ والدروس العلمية وبكل وسيلة إعلامية ممكنة؛ فإن قضية الولاء والبراء من أعظم القضايا، وهي من أهم الأمور التي تعاني منها الأمة الآن، وتحتاج إلى معرفة عداوة هؤلاء -من أهل الكتاب- لنا.(14/48)
بعض الكتب الإسلامية المترجمة
السؤال
ما هي الكتب أو الكتيبات التي هي مكتوبة بغير اللغة العربية والتي تصلح لدعوة النصارى أو غير المسلمين عموماً؟
الجواب
هذه كثيرة والحمد لله، ويوجد بفضل الله تعالى الآن ترجمات طيبة وصحيحة المعتقد يترجمها أخوة فضلاء منهم الأخ أبو أمين بلال فلبس الموجود في الرياض، وأيضاً كتاب التوحيد ترجمه إسماعيل فاورقي رحمه الله، وبعض الكتب التي ترجمها بعض المسلمين في أمريكا، والحمد لله في الفترة الأخيرة أخذت تنحو المنحى السلفي الواضح والعقيدة المتميزة، ونحن إن شاء الله من جملة الأعمال التي نسعى إليها ضمن هذا المشروع الكبير ترجمة مثل هذه الكتب، أو تصحيح ما فيها من أخطاء وأيضاً إعادة طبعها، وعمل الدعاية اللازمة لها، وإيجاد مكاتب دعوة الجاليات وأمثالها.(14/49)
معنى التعميد عند النصارى
السؤال
يقول: فضيلة الشيخ نسمع كثيراً عن التعميد، ولكننا لا نعرف معناه، وإنما الذي نعرفه أنه من طقوس النصارى، أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب
التعميد عند النصارى هو: أن يُغمس المولود أو الداخل في دينهم في الماء إيذاناً بدخوله في هذا الدين، ويقولون: إن يوحنا الذي هو يحيى عليه السلام قد عَمَّد المسيح عليه السلام، وأصبح ذلك سُنَّة وعادة عندهم، وكلما احتاجوا إلى ذلك أو ولد لهم مولود حسب طقوسهم فإنهم يغمسونه، بأن يأتي القسيس ويغمس ذلك الرجل في الماء ويقرأ بعض الأوراد والأذكار المعينة عندهم، ويكون بذلك قد عُمّد، فأصبح هذا إيذاناً بدخوله في الدين، أو بالتزامه به بعد أن كان تاركاً لبعض شعائره.
وبهذه المناسبة أقول وهذا ما قرره شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في مواضع، وهو معلوم من الواقع: أن الكفار يختلفون في شرائعهم اختلافاً عظيماً جداً، تختلف طوائفهم في شرائعهم، مثلما ما تختلف في عقائدهم، ويقول ابن القيم رحمه الله: 'لو التقى عشرة من النصارى وسئلوا عن عقيدتهم، لافترقوا على أحد عشر قولاً' من كثرة خلافاتهم، أما في الشريعة فأيضاً الخلاف شديد وعظيم، والشرائع الثابتة في التوراة والأناجيل مغيرة ومنسوخة، ومبدلة، حتى القبلة، وحتى الصيام، وحتى كيفية الصلاة مغيرة ومنسوخة، بعمل بولس وأتباعه، وبالنسبة للماء فالظاهر أنه أي ماء؛ لكن قد يكون عندهم بعض المياه المفضلة.(14/50)
نصيحة لمن يريد حذف بعض المقررات الدراسية الهامة
السؤال
ما رأيكم في حذف موضوع الحروب الصليبية من منهج السنة الثانية المتوسط في مادة التاريخ، باعتبار حديثكم عن النصارى، ولذلك نريد توجيه كلمة وتبيين ذلك لمن يقوم في خدمة التعليم وفقكم الله؟
الجواب
حقيقة بلغني هذا واطلعت بنفسي على المناهج ورأيت ذلك وقلت أحد أمرين، إما أن يكون قد نُقِل إلى مرحلة أعلى، وهذا من باب حسن الظن، ونرجو أن يكون كذلك، أو يوجد من أهل الغيرة من يقول في وزارة المعارف: إن الحروب الصليبية هي خطيرة وعظيمة وإنها تحتاج إلى بسط وإلى إفاضة، فتوسع وتنقل إلى سنة أخرى، وإن كان هذا الاحتمال قد لا يرجح، لكن نرجو أن يكون موجوداً.
وأما الاحتمال الآخر فهو أن تكون حذفت لئلا تجرح مشاعر اليهود والنصارى، لأنه هذا ربما يؤثر فيهم أو يغضب بعضهم، كما منعت فتوى بعض العلماء، وقيل: إنها قد تجرح مشاعرهم!! فيكون هذا جزء من إبعاد هذه الأمة عن عقيدة الولاء والبراء، سواءٌ كان القائم بذلك يعلم أو لا يعلم، فالحاصل في النهاية أن هذه الأمة يرسم لها مخطط إجرامي خبيث، لكي تبعد عن عقيدة الولاء والبراء، فتوالي أعداء الله، وتعادي أولياء الله بأسماء خداعة كالسلام العالمي، والإنسانية، والمحبة لشعوب العالم، كما سمعناها منذ يومين في لقاء القارات أو دوري القارات وأمثالة، ويقولون: إن الأعداء هم الأصوليون والمتطرفون وإلى آخر العبارات، نرجو ألا يكون الأمر بالاحتمال الأخير؛ لكن على كلٍ فالأمر لا يخرج عن هذين الاحتمالين.(14/51)
أحوال الدعاة المرسلين إلى البوسنة والهرسك
السؤال
يقول: أرجو منك الكلام عن أخبار مشروعكم المتميز الذي قمتم فيه باختيار الدعاة وإرسالهم للبوسنة والهرسك لينشروا العقيدة ويفقهوا في الدين؟
الجواب
الحقيقة أنه ليس متميزاً، وإنما هو مشروع عادي أو فكرة عادية جداً، والإخوة يتطوعون بالذهاب وتحسب المدة لهم، وطبعاً ليسوا دعاة متفرغين كالمنصرين بالملايين أو بمئات الآلاف، ولا عندنا أيضاً من يتفرغ لمدة سنة براتبه؛ بل بعض الإخوة يقول: لا أستطيع أكثر من عشرة أيام، فتكفل بعض المحسنين أثابهم الله بالتذاكر والإخوة بالذهاب، وبعض الجمعيات هنالك: كجمعية الوقف، والمنتدى، ومؤسسة الحرمين، تكفلت بترتيب أمور الدعاة، فكان التعاون من أطراف عدة، وليس لنا فيه كبير فضل، ولكن فوائده عظيمة ولله الحمد والفضل والمنة، وأثمرت ثمرة كبيرة جداً رغم ضعف الجهود وقلتها، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يبارك فيها.
وقلت للإخوان الكرام الذين رجعوا: لو لم يكن إلا أنكم رأيتم ما رأيتم، وقد رأو المنصرين من أمريكا، وألمانيا، والسويد وغيرها يأتون لتنصير المسلمين ويأخذون أطفال المسلمين وهم ينظرون، وبعض الإخوة كتب كتابات مبكية، وبعضهم تأثر تأثراً بالغاً جداً حتى إن حياتهم قد تغيرت، لما رأوا ما آلمهم من الحرقة على هذا الدين، يقول أحدهم: أنا أتكلم مع المسلمين وأشرح لهم التوحيد أو الصلاة، ويأتي الراهب الأمريكي بموز وبحلوى، وإذا بهم يذهبون من الجوع -وخاصة الأطفال- إليه، ثم يحملهم في الحافلات إلى الكنيسة، وأنا واقف أتكلم! فكيف يكون شعور المسلم؟! وأحداث أخرى، يطول المقام لو ذكرناها.
فمما أفدناه فعلاً هو أن نعرف خطر هؤلاء الأعداء، وأنهم مهما أظهروا ومهما قالوا، فإن الأمر كما قال الله تبارك وتعالى في حقهم: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] يُرِيدُونَ أَنْ يطفئوا نُورَ اللَّه بأفواههم وبتنصيرهم كما ذكر الله تبارك وتعالى: {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ونرجوا أن يتحقق فيهم قول الله {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] ونرجوا أن يكون لهذا المشروع أثره الطيب، وأن يحتذى بمثله، وقد سبقنا في هذه المنطقة الطيبة إلى شيء من هذا وأكثر إن شاء الله.(14/52)
أقسام النصارى في القديم والحديث
السؤال
وهذا يقول: المعروف أن النصارى ثلاث فرق: الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت، فهل هذا التقسيم موجود في كتاب ابن تيمية أم حصل بعده؟
الجواب
هذا من الأسئلة المهمة جداً؛ لأن من أهم الأعمال التي نحن نريد الآن أن نحققها، أنك لا تجد هذا التقسيم، ومن قرأ إغاثة اللهفان، أو هداية الحيارى، فإنه لاحظ الأقسام الموجودة في القديم التي يقسمها علماؤنا وهم الملكية، والنسطورية، واليعقوبية.
فهذه الأسماء والمصطلحات تختلف عن الثلاث الفرق المعاصرة الآن، وربما تكون هذه الثلاثة من طائفة واحدة، وهي طائفة الأرثوذكس، وقد يكون بعضهم كاثوليك، وهذه من الأشياء التي نريد أن نحققها إن شاء الله.
أما البروتستانتية فهي لم تظهر إلا بعد شَيْخ الإِسْلامِ، فلم يكتب عنها، وهي أخطر أنواع التنصير، وهي التي تشكل ما يقارب ستين في المائة من نصارى الولايات المتحدة الأمريكية، ومعظم الأصوليين الإنجيليين هم من هذه الفئة الخبيثة الخطيرة، وهذا مما نريد أن نوضحه بإذن الله في تعليقنا على الكتاب.(14/53)
معاملة النصارى
السؤال
وهذا يقول: ما رأيكم فيمن يضايق النصارى في الطرقات، ويقول بأن ذلك من السنة؟
الجواب
لا شك أن الأصل في معاملتهم هو هذا، وأن يضطروا إلى أضيق الطريق، لكن نحن الآن ننظر من زاوية أخرى، لا أعني في هذه البلاد، فالأصل في هذه البلاد ألا يكون فيها نصارى مطلقاً؛ لكن كل ما يتعلق بالهجر أو الزجر لأهل الكتاب أو المبتدعة، فهو يندرج تحت القاعدة العامة والأصل العام في المصالح والمفاسد، فالشروط العمرية مثلاً التي تضمنها كتاب ابن القيم رحمه الله المشهور المعروف أحكام أهل الذمة، وشرحها فيه، هذه في حالة قوة المسلمين، كما كان في عهد عمر رضي الله عنه، والخلفاء من بعده، أما في حالة الضعف فتقتضي الحكمة نوعاً من التلطف بهم واللين معهم والترفق بهم، فهذا أيضاً وارد؛ فلا نقتصر على نوع واحد من المعاملة، وهذا قد يحصل في حق القسيس المعادي المخالف، ولكن ربما كان لدى البعض منهم، عملاً منفراً منا ومن ديننا، وهذا له تفصيل قد لا يتسع له المقام.(14/54)
فتح حساب للمشروع
السؤال
كيف يمكننا أن نوصل التبرعات إليكم، وهل لكم أن تدلونا على كيفية إيصال التبرعات لهذا المشروع، وهل بالإمكان فتح حساب؟
الجواب
فُتِحَ حساب للمشروع في فرع شركة الراجحي المطار برقم (5848) لأنه أقرب, ويمكن فتح آخر إن شاء الله، وحجم الكتاب أربعة أجزاء في مجلدين كبيرين، ومع الشرح والتعليق والإضافات والمقدمة، سيكون ستة مجلدات، هكذا المتوقع إن شاء الله.(14/55)
معنى اتحاد الناسوت واللاهوت
السؤال
كرر الشيخ رحمه الله قوله: اتحاد الناسوت واللاهوت، فماذا يقصد بذلك؟
الجواب
الناسوت واللاهوت عند النصارى جزء من عقيدتهم.
وسأوجز لكم عقيدة النصارى، فأقول: لا يجتمع النصارى مهما كثروا في العالم، وهم كما يقولون: إن أكثر الأديان هو دينهم من ناحية العدد، ولكن لا يجمعهم إلا شيء واحد، وهو أن المسيح هو رأسهم الذي ينتسبون إليه.
ثم بعد ذلك يختلفون في كل شيء: في العقيدة وفي الشريعة وفي الأحكام، إلا ما حرفه بولس من دينهم فإنهم أجمعوا عليه، وهو استحلال الخنزير وترك الطهارة وتعليق الصلبان, وكلها محرمة في دينهم وفي شريعتهم، فالصليبيون كلهم في العالم، الذي يجمعهم هو تعظيم المسيح نوعاً ما -وكل واحد له تعظيم، هذا يقول: إله، وهذا يقول: ابن إله- وأنه يرفع الصليب، وأنه يأكل الخنزير والميتة ولا يتطهر، أما ما عدا ذلك فالخلافات بينهم على أشد ما يمكن، حتى معنى اللاهوت ومعنى الناسوت.
فمعنى اللاهوت: هو الجزء الإلهي من طبيعة المسيح، والناسوت الجانب الإنساني، فمثلاً يقولون عندما خاطب المسيح البحر, وقال: اسكن، كان الجانب اللاهوتي هو الذي يعمل، عندما يقول للميت: قم، هذا الجانب اللاهوتي، لكن لما صلب بزعمهم: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] وقال: يا إلهي لماذا تركتني؟! كان يتكلم الجانب الناسوتي، وهذا من الخرافات، فهو مرة إله يأمر وينهى، ومرة يشكو إلى الإله أنه تركه! تعالى الله عما يشركون وعما يصفون!(14/56)
كتاب هداية الحيارى وفكرة ترجمته
السؤال
ما رأيكم أن يترجم كتاب ابن القيم (هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى)؟
الجواب
العمل إن شاء الله سيكون كبيراً جداً, ونحن سوف نترجم هذا الكتاب -إن شاء الله- وغيره، وأيضاً كتاب السموأل الذي كان نصرانياً ثم أسلم.
وكذلك بعض المخطوطات، التي حققت منها نحن نترجمها، والتي لم تحقق سوف نعمل على أن تحقق ثم تترجم ثم تطبع، ثم يستخرج من مجموعات هذه الكتب: دائرة معارف، ومن خلال المادة التي تبحث عنها تعرف كل شيء عن هذه الأديان والمذاهب والفرق، وبجميع اللغات نسأل الله أن ييسر ذلك.(14/57)
إنشاء هيئة مركزية لمحاربة التنصير
السؤال
يقول أحد الإخوة: لماذا لا تكون هناك هيئة خاصة لمحاربة التنصير، وتكون على شكل منظمة تهتم بأحوال المسلمين، وتعمل على تقليص جهود المنصرين، هذه الهيئة تكون لها قيادة مركزية، على غرار ما تفعله الكنيسة، التي تتخذ من الفاتيكان مقراً لها؟
الجواب
هذا الاقتراح عظيم, ونرجو من الأخ الكريم -ومنكم جميعاً- أن تتقدموا بمثل هذه الاقتراحات إلى سماحة الشيخ عبد العزيز أو إلى رابطة العالم الإسلامي مثلاً، لعله يوجد شيء من هذا، وتكون هذه الجهود الفردية نواة أو جزء من هذا العمل الكبير الذي تتمنونه جميعاً.(14/58)
أسباب تقاعس المسلمين عن الإنفاق والبذل
السؤال
ينفق النصارى الملايين في سبيل نشر عقيدتهم الباطلة، بينما يبخل العديد من المسلمين بدفع الأموال في سبيل نشر عقيدة التوحيد؛ ففي رأيكم ما هي أسباب ذلك؟
الجواب
كما أشرت السبب هو تخدير إعلامي، وتضليل فكري، وغفلة، وإلا لو أوقظت القلوب والمشاعر الإيمانية فلسوف ترى العجب العجاب، حتى ممن لا تظن أنه يدفع، وهذا شيء مجرب.(14/59)
تدريب شباب الصحوة للدعوة
السؤال
لماذا لا يكون هناك معاهد تدريبية لشباب الصحوة المتمكن من اللغة الانجليزية، للدعوة المضادة لمثل هؤلاء النصارى، والمناظرة معهم حتى يسلموا؟
الجواب
في الحقيقة الأخ الكريم أشار إلى جانب مهم نحن لا نستطيعه وهو الجانب التدريبي، أو التعليمي، والذي نستطيعه هو الجانب العلمي أن نقرأ ونشرح ونفسر ونترجم فقط، والجانب التدريبي مهم جداً، لكن المؤسسة الخيرية للدعوة، وهي من مهماتها ومن برامجها جانب التدريب، وهم إخوة نشطاء, ونسأل الله تعالى أن يوفقهم، ونحن وهم نتكامل في هذا الأمر، ولا بد أنكم تعرفونها ولا تخفى عليكم، هنا في جدة موجودة والحمد لله، ونرجو أن تقدم لها هذه الاقتراحات, ونحن مستعدون للمشاركة في محاضرات أو غيرها، أنا أو الإخوة العاملون معي، مستعدون أن نشارك الإخوة في المؤسسة، فكلنا هدفنا واحد، ومسعانا واحد، لكن هم لديهم جوانب تدريبية وتعليمية، أما نحن فهي جوانب علمية بحتة.(14/60)
دور المسلمين عامة في مجابهة التنصير
السؤال
ما دورنا نحن الذين لا نملك قوة الإنكار عليهم في المستشفيات وغيرها، ولا نملك اللغة الانجليزية؟
الجواب
يا أخي كل مسلم له دور, لو لم يكن من دورك إلا أن تكتب عنهم وماذا يفعلون، أن يروا منك أنك حريص وغيور على دينك، وأنهم لو فعلوا شيئا ضد دينك فإنك تغضب عليهم ولو بالعين، ولو ببعض العبارات، ويعرفون من وجهك -ولو لم تتكلم- أنك غيور على الإسلام، ثم في إمكانك شيء آخر وعظيم وهو الدعاء! ندعوا الله أن يخذلهم، وأن يدمرهم، وأن يجعل كيدهم في نحورهم، ويجعل تدبيرهم تدميرهم.
وفي الجانب الآخر ندعو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفق جهود المخلصين الذين يقاومونهم، وهذا الشيء يستطيعه: العجوز والشيخ الكبير، والمقعد، والمريض، والفقير، وكل واحد منا يستطيعه، وهو أمر عظيم، ونحن إنما ننصر ونرزق بضعفائنا، كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(14/61)
علاج مشكلة التنصير
السؤال
يقول الأخ: هل يمكن التزويد بأسماء الشركات وعدد العاملين فيها، من غير المسلمين؟
الجواب
نعم يمكن ذلك, وكل أخ يستطيع أن يعطينا فليتقدم وليتفضل -جزاه الله خيراً- ونحن نتعاون ومع الإخوان في مكتب الجاليات، ومع الإخوان في المؤسسات الخيرية، ومع مركز الدعوة، وكلنا جنود لهذا الدين، كلنا دعاة، من أجل أن نعرف حجم العمالة والدين الذي تدين به، وبالتالي نوجه لهم الدعاة، أو النشرات، بحسب اللغة، وبحسب الدين الذي يدينون به في هذه الشركات، ولاشك أن العلاج الأساس والأصلي، الذي لا نتجاوزه أبداً هو ما أمرنا به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب وغيرهم أولى منهم، فهذا هو الحل، وكل الحلول الأخرى جزئية وغير مكتملة؛ لأنها مخالفة، لأن بقاءهم في هذه البلاد المطهرة مخالف لما أمر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما قال: {أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب} فهذه بلاد التوحيد لا يجوز أن يدخلوها، ولم يدخلوها ولم يستوطنوها في تاريخهم كله، إلا في ظل هذه الطفرة المادية من البترول فصاعداً، وإلا قبل ذلك -كما أشرت- ما كانوا يحلمون أن يقيموا فيها أبداً إلا قناصل، بل حتى القناصل من شدة حرص المسلمين ومن خوف الكافرين كان القنصل الروسي مسلماً والقنصل البريطاني في بعض الأحيان مسلماً ولو بالاسم، لأنهم يعلمون أن هذه البلاد لا يمكن أن يكون فيها إلا المسلم، والله المستعان على هذه الأحوال الأخيرة.(14/62)
دعوة النصارى أفضل حل لمشكلة التنصير
السؤال
إن الهجوم أفضل أساليب الدفاع؛ فلماذا لا نأخذ بذلك؟
الجواب
وهذا لا شك فيه، وقد أهديت أحد النصارى في العام كتيب الدين الصحيح بالإنجليزية، وقد بدأ يسألني وأنا لا أعرف لغته ووعدته أن أنقله إلى مركز ثقافي أو مكتبة إسلامية، ولكني لا أعرف أين هذه المكتبات أو المراكز الثقافية، وقد جاءتني فكرة لماذا لا توجد باصات، تنقل هؤلاء إلى تلك المراكز لتعرفهم على الإسلام، ولو قلنا لهم رحلة ترفيهية، والتعرف على الإسلام، فكثير منهم مستعد، المهم أن الأخ يشير إلى جانب آخر, وهو جانب الهجوم، وفعلاً لماذا لا ندعوهم في بلادنا بحكم أننا غُلِبنا وقد أقاموا بيننا؟! ومن الوسائل التي ذكرها الأخ ما هو جدير بالاعتناء ففعلاً: لماذا لا نفكر في ذلك، وخاصة أنهم يعيشون في الغالب في مجمعات سكنية, كـ المدينة الصناعية.
فيمكن أن تهيأ لهم وسائل نقل لحضور محاضرة معينة، أو تهيأ لهم رحلة، أو أي عمل من شأنه أن يكون وسيلة لأن ننقل إليهم حقائق هذا الدين.(14/63)
مجادلة الكفار ومجالدتهم
السؤال
كيف يمكن التوفيق بين قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة:73] وبين قوله تعالى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]؟
الجواب
هذا الموضوع أحد الموضوعات التي أجاب عليها شَيْخ الإِسْلامِ في الكتاب، فلا تعارض بين المجادلة والمجالدة، لأن من جادلناه فأبى أن يقتنع، فالحل هو المجاهدة والمجالدة بالسيوف، فنحن نخاطب النصارى أفراداً ونخاطبهم أمماً، فالأمم تدعى إلى الإسلام أو الجزية أو القتال، أما الفرد فلا تقاتله، ولا يرغم، ولا يكره الواحد منهم على اعتناق ديننا، ولكن يرغم على دفع الجزية، أو يسلم طواعية واختياراً, فهو إما أن يرتبط بأحكام أهل الذمة، فيدفع الجزية، ويكون ضمن أهل الذمة المقيمين في بلاد الإسلام، أو يسلم طواعية، فإن كان حربياً فلا يعيش بيننا.(14/64)
استخدام القنوات في محاربة المنصرين
السؤال
هل بالإمكان استخدام القنوات الأخرى للرد على المنصرين مثل التلفاز والإذاعة الصحف؟
الجواب
نعم, بالإمكان أن نجعل من صحافتنا وإذاعتنا وتلفازنا ناطقاً بديننا، بدلاً من أن تَعرِضَ اللهو والعبث وما لا خير فيه، ولو كانت القناة الثانية مثلاً تعرض الإسلام وتهتم به بأساليب منوعة ومشوقة، لأسلم الكثير بإذن الله.(14/65)
كيفية المشاركة في مشروع ترجمة الكتاب
السؤال
يقول الأخ هل هناك تسجيل أسماء، وكيف يمكن أن أشارك بعملي في هذا المشروع؟
الجواب
المشروع بما أنه علمي فلا يحتاج إلى سواعد كثيرة، وإنما يحتاج كما أشرنا إلى جهود أخرى تخدم الجانب العلمي، فإذا كان الأخ يقصد بعمله أنه مثلاً يتبرع بشيء، لعله هذا في مراحل فيما بعد -إن شاء الله- فمثلاً إذا طبع الكتب، فبالإمكان أن توزع عن طريق الإخوة في الداخل وفي الخارج.
وبالمناسبة نشكر القائمين على بعض المشاريع: أحدها في الرياض قامت به الدار العالمية، والآخر في جدة، والثالث في الرياض جزاهم الله خيراً، وهم مجموعة من الإخوة الذين تحابوا في الله, وجمعتهم الغيرة على الدين, يوزعون الكتب في أنحاء العالم عن طريق المراسلة، والكتيبات في العقيدة بالعربية وبغيرها، وهذا مشروع ناجح وجيد ومفيد، وهو من الأمور التي يمكن أن يشارك فيها عدد كثير من الإخوة.
وعلى كل حال فإن المستعد وإن لم يجد إلا نفسه أو يده للعمل، يمكن أن نجد له -إن شاء الله- وسيلة يعمل بها لخدمة هذا الدين.
ونشكركم جميعاً، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بمنِّه وجوده وكرمه أن يوفقنا وإياكم للإخلاص في القول والعمل, وأن ينفعنا جميعاً بما نسمع وما نقول, إنه سميع مجيب, والحمد لله رب العالمين.(14/66)
الإيمان بالغيب
إن الإيمان بالغيب أصل من أصول الدين، وهو أول صفات المؤمنين كما ذكر ذلك القرآن الكريم، والناس قد يتفاوتون في الإيمان بالغيب، فالإيمان بالغيب لا يكفي فيه الإقرار الذهني فقط، بل يجب الإقرار والتسليم المطلق لله، وقد بين لنا القرآن بعض أحوال الأمم مع الإيمان بالغيب، كحال فرعون وقومه، وحال المشركين في الجاهلية، ثم بيَّن أسباب إنكار هذه الأمم للإيمان بالغيب كعدم الإحاطة بعلمه وعدم تأويله، مبيناً أحوال الإيمان بالغيب وكيفيته، ومتى يتحول إلى شهادة، ومتى تنقطع التوبة والإيمان بالغيب، ولقد بات إنكار الغيب من سمات العصر الحديث -وصار الإيمان بالماديات هو البديل- في نظر الحضارات الغربية والشرقية.
وعلى هذا فإن الإيمان بالغيب يعد فيصلاً بين البشر في حياتهم، فصار سعادةً للمؤمن بإيمانه به، وشقاءً للكافر بجحوده ونكرانه له.(15/1)
أهمية الإيمان بالغيب
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا -إنك أنت العليم الحكيم-.
أما بعد: أيها الإخوة الكرام: فكما تعلمون جميعاً أن الإيمان بالغيب هو الفارق بين الكافر والمؤمن؛ بل هو في الحقيقة الفارق بين الإنسان والحيوان؛ أو مَنْ هو أضل من الحيوان، فالإيمان بالغيب هو أكبر حقيقة يعيشها الإنسان، وأكبر مسألة من مسائل الاعتقاد، وأكبر قضية من قضايا العمل أيضاً، فـ أهل السنة والجماعة وهم أصحاب المنهج الثابت والمعروف الذي يؤمن بكل ما جاء عن الله، وعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ هم الذين يفهمونه الفهم السليم والصحيح.(15/2)
تفاوت الناس في الإيمان بالغيب
بقدر تفاوت الناس في الإيمان بالغيب يكون تفاوتهم في الإيمان عامة، وتكون منازلهم عند الله تبارك وتعالى، وتكون مراتبهم في الجنة، لأنه كما قلنا: الإيمان يقتضي ويتضمن القول والعمل وكذلك الاعتقاد والتطبيق والتنفيذ، وكل ذلك يدخل تحت مُسمى الإيمان بالغيب، والانحراف الذي وقع فيه الناس في هذه المسألة هو أكبر انحراف وأعظم ضلال؛ فكل من ضل في معرفة الله تبارك وتعالى، وكل من أشرك مع الله تبارك وتعالى غيره، وكل من أنكر الرسل وجحدهم وكذب ما جاءوا به؛ كل ذلك إنما هو لأنه لم يؤمن بالغيب؛ إذاً هذه هي القضية والحقيقة.
إن الناس يتفاوتون -كما قلنا- في الإيمان بالغيب، فهنالك أناس يؤمنون بالغيب إيماناً نظرياً عقلياً مجرداً، وهذا حال أكثر الناس من المسلمين، فهم يؤمنون بالغيب: أي يصدقون بأن هنالك رباً ورسولاً وملائكة ويوماً آخر، وإذا سألت أحدهم عن اليوم الآخر، عن الصراط، والميزان، والحساب، قال: نعم أُقر بذلك، وأؤمن به وأصدق به، لكن هل هذه هي حقيقة الإيمان بالغيب التي يريدها الله تبارك وتعالى والتي من أجلها أنزل الكتب، وأرسل الرسل؟ بل وهنالك أيضاً من ينكرون الإيمان بالغيب! وينكرون عالم الغيب؛ ولو دققنا ومحصنا لوجدنا -في الحقيقة- أنه لا يوجد عاقل على الإطلاق ينكر الغيب.(15/3)
الإيمان بالغيب أول صفات المؤمن
فالإيمان بالغيب عندهم يشمل القول والعمل، ويشمل إيمان القلب، وإيمان اللسان وإيمان الجوارح، ومن ثم كان الإيمان بالغيب هو الحقيقة العظمى التي جعلها الله تبارك وتعالى، فوصف بها عباده في أول سورة من القرآن الكريم بعد الفاتحة، قال تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:1 - 3].
فهذا أول وصف، وما بعد ذلك فهو تبع له؛ فإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والإيمان بالآخرة، والإيمان بكل ما أخبر الله تعالى به في كتابه، أو أخبر به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما لا يعلم إلا من طريق الوحي؛ كل ذلك إنما هو تفصيل لما أجمله في قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] فأول علامة من علامات المؤمنين، وأول صفة من صفاتهم: أنهم يؤمنون بالغيب، وهذا مفرق الطريق بينهم وبين الكافرين والملحدين والمنحرفين.(15/4)
حقيقة الإيمان بالغيب
إذاً: كيف يكون الحال؟ فالمؤمنون بالغيب منهم من لا يؤمن بالغيب على الحقيقة، والمنكرون للغيب كثيرٌ منهم لا ينكر الغيب على الحقيقة.
إذاً: القضية أن الإيمان بالغيب في عرف الشرع، وفي حقيقة دعوة الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- أن يسلم الإنسان بقلبه إلى الله تبارك وتعالى، وأن ينيب إليه؛ فكل ماجاء من عند الله تبارك وتعالى صدق به، وأقر وظهر أثر ذلك الإيمان على لسانه؛ فيؤمن لسانه وتؤمن أيضاً جوارحه، ولهذا يقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
نعم العلماء الذين يؤمنون بالغيب على حقيقته، ويعلمون ويعرفون ربهم، وصفاته على الحقيقة، هم أكثر الناس خشية، فكأنه لا يخشاه تعالى إلا هم؛ لأنهم عرفوه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(15/5)
حال الأمم مع الإيمان بالغيب
لذلك أنكر الجاهليون ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الوحي، فأنكروا الوحي، والوحي من الغيب؛ فقالوا: كيف يتنزل هذا القرآن على هذا الرجل؟ هذا لا يمكن أبداً! ولذلك قالوا له: إنما أنت مفتر، وقالوا عنه: ساحر، وقالوا عنه: كاهن، وقالوا عنه أيضاً: شاعر، وقالوا: إنما يعلمه بشر، وقالوا: أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً، فَلِمَ كُل هذا اللجاج وكل هذا العناد؟! كل ذلك حتى لا يؤمنوا بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اختص هذا النبي الأمي بهذه الرسالة؛ فأنزل وأرسل إليه الروح الأمين بهذا الوحي، وهل في ذلك ما يخالف الفطرة أو العقل السليم؟ كلا.
لا شيء من ذلك، ولكنه العناد والجحود، فقد جحدت الأمم وعاندت من قبل، كما فعل ذلك فرعون وقومه، ولهذا أخبر الله عنهم بقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14].
فطمأن الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فقال: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] أي لا تهتم بقولهم لك: إنك كاذب؛ فإنهم في حقيقة أنفسهم لا يعتقدون كذبك، بل يعلمون -في أنفسهم- أنك صادق؛ ولكنه الجحود.
فهل نفعهم هذا الإقرار القلبي المجرد؟! هل نفعتهم هذه المشاعر الذهنية العامة بأن هنالك عالماً آخر هو عالم الغيب بخلاف عالم الشهادة؟ لا.
لم ينفعهم ذلك أبداً.(15/6)
الإيمان بإقرار الذهن فقط
أما مجرد الإقرار الذهني فقط فقد كان موجوداً حتى عند العرب في الجاهلية، فكان العرب في الجاهلية يؤمنون بشيء من الغيب، فقد كانوا يؤمنون بوجود الله، ولم يكن ينكر ذلك أحد في العصر الجاهلي! بل ولا في سائر العصور، إلا عند طائفة شاذة مارقة مكابرة ومعاندة، وكان في العرب -أيضاً- من يؤمن بيوم الحساب مجرد إيمان، ورد ذلك في شعرهم كما قال زهير:
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ليوم الحساب أو يعجل فينقم
إذاً: كان لدى العرب شعور وإحساس بأن هنالك عالماً آخر، وأنه قد يكون هناك يوم آخر؛ ولكن ليست القضية في أنه هل يوجد أو لا يوجد يوم آخر؟ وإنما المسألة: أن يكون الإيمان بالغيب هو الإيمان الذي يريده الله تبارك وتعالى على الحقيقة، والذي من أجله بَعثَ الرسل، وأنزل الكتب، وهذا هو محل النزاع؛ لأنه يقتضي التسليم المطلق والمجرد لله تبارك وتعالى، والإنابة إليه بالقلب، والإخبات إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(15/7)
الكفر بالغيب وأسبابه
إن الله تبارك وتعالى قد بين الأسباب التي تجعل المعاندين والمنكرين ينكرون عالم الغيب، ولا يؤمنون به فقال الله تبارك وتعالى في ذلك: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس:39].
هذه الآية لو تدبرناها وعقلناها وفهمناها كما هو السائر في آيات القرآن الحكيم؛ لوجدناها وحدها كافية لبيان أسباب ضلال هؤلاء القوم: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس:39](15/8)
عدم الإحاطة بعلمه
من أسباب التكذيب وردِّ ما جاءت به الرسل من أمور الغيب: أنهم لم يحيطوا بعلمه، وكما قال تبارك وتعالى عنهم: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66] أي أن كثيراً من الناس عادةً يريدون أن يصدقوا -فقط- بما يمكن أن يعلموه، أو يستدلوا عليه، أو بما يمكن أن يصلوا إليه بفكرهم وعقولهم فالسبب الأول هو: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس:39].(15/9)
لا يعلمون تأويله
والسبب الآخر: {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس:39].
فإن الناس يصدقون بالمشاهد المحسوس، ويكذبون بالغيب المكتوم، والتأويل -كما تعلمون- له معان؛ ففي هذه الآية جاء بمعنى: الوقوع: أي: وقوع حقيقة الشيء المخبر عنه سابقاً، كما قال يوسف عليه السلام: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:100] أي هذه حقيقة الرؤيا التي قد وقعت، كانت رؤيا في عالم الغيب أخبر بها؛ فلما أن تحقق ذلك ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً، كان ذلك هو وقوع الرؤيا وهو تأويلها {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ} [يوسف:100]، فهؤلاء الجاحدون يريدون أن يروا الملائكة، وأن يروا الله، وأن يروا الجنة والنار؛ فإذا رأوا ذلك آمنوا؛ وهذا مما يطلبه الجاحدون والظالمون، ولكن! هل يلبى لهم ذلك؟ لا، فهم يريدون أن يؤمنوا بشيءٍ يمكن لعقولهم أن تصل إليه، وهذا هو الذي لايمكن؛ وهم يريدون أيضاً أن يؤمنوا بشيء يمكن لعقولهم أن تستدل عليه، وأن تعرفه؛ والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنما أرسل الرسل لعالم الغيب، وهو عالم لا يمكن أن تحيط العقول البشرية به علماً؛ وإنما غاية الأمر أن تستدل عليه وأن تؤمن به وتثبته في الجملة.
فكل إنسان في فطرته الإيمان باليوم الآخر، ولو أنه فكر لوجد أن الإيمان باليوم الآخر ضرورة عقلية لا بد منها، لكن هل يمكن أن يؤمن عن طريق العقل المجرد بالميزان، أو بالصراط، أو بالحوض، أو بدرجات أهل الجنة والنار أو بالصحف أو بأمثال ذلك مما لا يمكن أن يُعلم إلا عن طريق الوحي، وخبر السماء عن الله تبارك وتعالى؟ إن عالم الغيب الذي يريد الناس أن يحيطوا به علماً لا يمكن أن يكون بهذه المثابة؛ بل لا يمكن أن يكونوا مؤمنين أو عبيداً لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلا إذا آمنوا بما أمر به الله، وصدقوا بما أنزله الله تبارك وتعالى؛ وإن لم يكن مما تدركه عقولهم أو تحيط به.
فليس من حقك إذاً أيها الإنسان المخلوق الضعيف العاجز ألا تؤمن إلا بما أدركه علمك وأحاط به فكرك، إن هذا الكلام عندما نعرضه لنبين أسباب تكذيب الكفار؛ فإنما نبين هذه الحقيقة؛ لأن في المنتسبين إلى الإسلام من الفرق الضالة، وأصحاب الانحراف في القديم والحديث، من وقع في هذه القضية، وفي هذا الخلل أو الخطأ أو الشبهة ولو جزئياً.(15/10)
من مظاهر الإيمان بالغيب
وهنا قضية أخرى {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس:39] وهذه متعلقة بالذين يقولون: لا نؤمن إلا بما نشاهده، وبما نحس به، وبما نراه؛ فإذا وقع آمنوا، وليس الأمر كذلك؛ فإن فرعون آمن لما أدركه الغرق، وكذلك المحتضر حين تأتيه الملائكة لتقبض روحه يؤمن حينئذ، ولكن هل ينفعه إيمانه في تلك اللحظة بالذات؟ جزماً لا.(15/11)
متى تنقطع التوبة
فلا ينفع الإيمان حينئذٍ، ولا يقبل أن يأتي الإنسان فيقول: الآن أتوب، بعد طلوع الشمس من مغربها! ولا مجال للمعصية، فهذا يقال له: لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت، هذه حالة أو لم تكن كسبت في إيمانها خيراً وهذه هي الحالة الثانية.
إذاً يجب على الإنسان: أن يؤمن بعالم الغيب في عمره المحدود، وقبل تلك اللحظات، وكذلك يجب على الإنسانية جمعاء، أن يؤمنوا بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويؤمنوا بالغيب قبل أن تطلع الشمس من مغربها، وأن يتوبوا إلى الله تبارك وتعالى.
فالإيمان بالغيب شامل لكل ما جاء في الكتاب، وصح به الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالإيمان بالله، والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر، والإيمان بالجنة والنار، وتفصيل ذلك كله من الإيمان بالغيب، وأن قوله تعالى في الآية: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] فسرها الصحابة الكرام كـ ابن مسعود وابن عباس وفسرها أبو العالية وقتادة وغيرهم من السلف أنها تعني: كل أمور الإيمان وكل أمور الغيب.(15/12)
متى يتحول الغيب إلى شهادة
إن الله تبارك وتعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، وهذا من رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فما دام الإنسان في عالم الغيب -ولو كان على فراش الموت- فإن الله يقبل إيمانه، ويقبل توبته، وهذا من سعة رحمته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن سعة كرمه وجوده أنه يمهل الإنسان ليتوب إلى آخر تلك اللحظة؛ لكنه إذا عاين الحق وحضر الموت فقال: إني تبت الآن فليس لهذا الإنسان توبة أبداً.
إذ أنه الآن لم يعد مؤمناً بعالم الغيب، بل أصبح مؤمناً بعالم الشهادة؛ لأنه يرى الملائكة عياناً أمامه، إذاً: ما الفرق بينه وبين الكفار الذين طلبوا أن يروا ربهم، أو يروا الملائكة؟! فإذا لم يعد هناك إيمان بالغيب، فلا توبة حينئذ، وكذلك الجنس الإنساني، أو البشرية كلها أيضاً هذا هو حالها، وهذا هو شأنها قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام:158].
فالإنسان في مفرده إذا حضرته ملائكة العذاب لا ينفعه الإيمان، وكذلك العالم بأكمله إذا احتضر وإذا جاءت النهاية الحتمية لهذه الدنيا وما عليها، وأذن الله بانقضاء هذا العالم، وجاءت العلامات التي جعلها الله حداً فاصلاً بين هذه الدنيا وبين الدار الآخرة، وهي مقدمات يوم الفزع الأكبر؛ هنالك -أيضاً- لم يعد الأمر أمر إيمان بالغيب؛ بل أصبح إيمانٌ بالمحسوس.
وهذه الآية صح الحديث في تفسيرها، بأنه طلوع الشمس من مغربها أي: إذا طلعت الشمس من مغربها لم يعد ينفع نفساً إيمانها لم تؤمن من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، ولأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أخبر بذلك، والناس يعلمون أن هذا من أعجب مايرون، ومن أبعد ما يمكن أن يقع؛ فإذا وقع قال الناس: هذا ما أخبر به الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الآن نؤمن به! لكن بعد ماذا! بعد أن تطلع الشمس من المغرب تؤمنون به؟!!(15/13)
إنكار الغيب وعلاقته بالنهضة العلمية
إن إنكار الغيب ما اشتهر أمره، وظهر وأصبح ظاهرة عالمية إلا في العصر الحديث؛ وذلك نتيجة لأن العالم الإنساني أصبح الآن متقارباً ومتلاحماً، حتى أن أي فكرة في الشرق تصل إلى الغرب -أو العكس- في يوم واحد، أو في أسابيع، وإن أبرز سمة في هذا العالم الذي نعيش فيه اليوم هي: السمة المادية، فهو عالم لا يؤمن إلا بالمحسوس، ولا يؤمن إلا بالماديات، فينكر الغيب، ولا يؤمن إلا بما يدر عليه نفعاً في هذه الدار الفانية؛ ولهذا كان لا بد لنا أن نعرج على أسباب ضلال هؤلاء القوم، ثم نرى بعد ذلك أثر الإيمان بالغيب في حياة المؤمنين، وأثر فقدان الإيمان بالغيب عند الكافرين.
فلماذا كفرت أوروبا، وكفر مفكروها بالغيب؟ وهل هم في الحقيقة كافرون بالغيب؟ أم أنهم كافرون وجاحدون بالرسل وبما جاءت به الكتب؟ ولما قلنا أنه لا يكاد يوجد إنسان يؤمن على الحقيقة بالغيب، بل يؤمن بأنه لا شيء وراء هذا المحسوس، فكيف ذلك؟ وهل كل ما يؤمن به أكثر الماديين -غلواً وعتواً- هو كل ما يشاهدوه ويروه أو يلمسوه ويدركوه بعقولهم؟ الجواب على هذا السؤال ينقلنا إلى أن نعود إلى أسباب انتشار المادية لنعرف الجواب.(15/14)
بداية ظهور النظرية المادية وسببها
عندما كان الناس في القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر الميلادي، كان العالم الإسلامي -الذي ينبغي ويجب أن يكون هو قائد العالم -وكانت الأمة الإسلامية- التي كان يجب أن تقود العالم إلى الخير والفلاح؛ الأمة التي تؤمن بالغيب، ولديها الغيب الحقيقي- غارقة في الأوهام والخرافات، إلا ما رحم الله تبارك وتعالى؛ فكانت بعيدة التأثير على العالم الغربي.
وأما العالم الغربي، فكان -في تلك اللحظة- تفيض فيه، وتعج براكين وفيضانات، من التمرد على الدين الذي كانت عليه الكنيسة، دين البابا، ودين القسيسين الغربيين النصارى عموماً، مما جاء في الأناجيل، وفي رسائل الرسل وما سوى ذلك، فثار أولئك على هذا الدين؛ لأنه خرافة، ولأنهم وجدوا أنه لا يتفق مع العلم، ومع التجربة التي وصلوا إليها، وأخذ الناس يتحولون في كل يوم ويكتشفون -في هذا الكون- أمراً جديداً يثبت لهم أن ما كانت تعتقده هيئة رجال الدين (الكنسية) باطل وضلال، وأن ما وصل إليه الإنسان بالتجربة، وبالعقل وبالحس هو الصحيح؛ وكل يوم كان يزداد ذلك؛ فأصبحوا يبتعدون قليلاً قليلاً عن عالم الغيب، في نظرهم على الأقل، إذ ليس لديهم من الغيب إلا ذلك، فلم يعرفوا الإسلام ولم يبلغوه، وإنما وصلتهم صورة مشوهة عنه.
فأخذوا ينقلون إيمان الناس من الإيمان بالغيب إلى الإيمان بالمحسوسات المجردة، وهذه هي النقطة التي نريد أن نصل إليها.
كان الرجل المادي يقف ليخطب أو يتكلم ويدعو الناس فيقول: آمنوا بالحقائق ولا تؤمنوا بالخرافات.
إذا سئل ما هي الحقائق، وما هي الخرافات؟ فيقول لهم: الحقائق هي هذه الأمور المشاهدة: أترون السماء، أترون الجبال، أترون الأرض أترون هذه الأشياء المادية؟ إنها حقيقة، فآمنوا بها وآمنوا بكل الماديات، وجربوا، واخترعوا، واكتسبوا، ويقول: أما الغيب فهو ما جاء عن الرب -والرب عندهم يسوع- وما جاء في الأناجيل عن اليوم الآخر، وما جاء فيها من معجزات، أخبار، كل ذلك لا تؤمنوا به ولا تصدقوه؛ لأن العقل والعلم ينفيه.
فكان الناس يحتارون، إما أن يصدقوا بالخرافات الموجودة -والتي يظنون أنها هي الدين- وإما أن يتبعوا هذا، وفي كل مرة تصدق ثلة منهم وتنحاز إلى المادية، وتترك ركب الإيمان -الذي هو إيمان خرافي محرف ومبدل- ومع الزمن أصبح الناس يظنون أنه لم يعد هناك من داعٍ إلى الإيمان بالغيب مطلقاً، وأنه على الإنسان أن يؤمن بهذه الماديات المحسوسة.(15/15)
فشل النظرية المادية واختلاف علمائها
لكن ما الذي جرى؟! يقول الله تبارك وتعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]، أخذوا هذه المادة (قطعة حديد) فآمنوا بها؟ لأن (الحديد) موجود ومحسوس، فآمنوا بالحديد، وصنعوا منه ما صنعوا، واخترعوا ما اخترعوا، وفعلوا ما فعلوا.
ثم بعد ذلك يأتي السؤال المحير الذي لا بد منه، ولا بد أن يطرأ على أذهان البشر، وهو: ما هو هذا الحديد؟ وعندما أرادوا معرفة حقائق الأشياء وكنهها، ووضعوا الحديد تحت المجاهر الكبيرة؛ لم يستطيعوا أن يؤمنوا بعد ذلك بشيء واحتاروا! فقيل لهم لماذا تحتارون؟ ألم تكونوا تقولون: نكفر بالغيب ونؤمن بالمادة المحسوسة والمشاهدة؟ قالوا: لا، ليست هذه هي القضية؛ إنه عندما اكتُشِفَتْ الذرة، واكتشفت المجاهر الكبيرة جداً؛ أصبحنا لا نرى حديدة، بل أصبحنا نرى فراغات هائلة تشبه الفراغات التي بين أفراد المجموعة الشمسية: الأرض، والكواكب الأخرى حول الشمس، هذه هي المادة وهذه هي الحديدة؛ فإذاً ما هي المادة؟ قالوا: لا نستطيع أن نقول لكم شيئاً.
فيقال لهم: كنتم تطالبوننا أن نكفر بالإنجيل، ونؤمن بالمادة فما هي المادة؟ قالوا: لا نستطيع معرفة ذلك.
فاختلفوا في ذلك إلى الآن، وكلما تقدموا في العلم فإنهم يجهلون ما هي المادة؟ ما هي حقيقتها؟! وعندما يقال لهم: أنتم إذاً تؤمنون بالغيب؟ يقولون: نحن لا نؤمن بالغيب كيف ذلك؟ لأن الغيب عندهم هو تلك الخرافات التي لا يريدون أن يؤمنوا بها، سواء عرفوا هذه الحديدة أم لم يعرفوها.
لكن هذا الغيب الجديد، وإن صح التعبير (الغيب العلمي) كما يسمونه أحياناً، فهم يؤمنون به ولم يروه، ويقولون لا نستطيع أن نراه، إنما هو أمر غيبي.
فالكهرباء -مثلاً- قالوا: إنها من عالم الغيب، فإذا قيل لهم: أنتم هل تؤمنون بالغيب؟ قالوا: لا نؤمن بالغيب، لكننا في الحقيقة لا ندري ما هي الكهرباء؟ إننا ندرك آثارها ونستخدمها في كل بيت وفي كل شأن تقريباً؛ لكننا لا ندري ما حقيقتها!! وقس على ذلك كثيراً من الأمور كالجاذبية، فما هي الجاذبية؟ لا يدرون! مع أنهم يعرفون قانون الجاذبية؛ ولكن ما هي الجاذبية على الحقيقة؟ يقولون: لا ندري.
إذاً: ماذا استفاد الإنسان!! فقد صعد إلى السماء فتاه في هذا الفضاء بين الأجرام، حتى إنه لم يعد يدري عن شيء، ودخل إلى أعماق الذرة الصغيرة فتاه في أعماقها، وقال: إن الفراغات التي توجد بين الهواء وبين ما يدور حولها تشبه الفراغات التي بين الكواكب.
إذاً فأين يعيش الإنسان؟ وكأن حصيلة هذا الجهد الإنساني، وحصيلة هذا العلم لاشيء! وهذه هي الحقيقة أيها الإخوة، فالإنسان بغير الإيمان بالله عز وجل وبغير الإيمان بالغيب صفرٌ فارغٌ لا حقيقة له، ولا يستطيع أن يؤمن بأي شيء، فلم يعد هناك في الغرب -بين العلماء الغربيين- اتفاق على شيء، إلا على شيء واحد، إن اتفقوا عليه وهو: أنه لا يصح لك أن تصدر أحكاماً مطلقة، سواء كنت عالم فيزياء أم كيمياء أم أحياء أم في علم الاجتماع أم في علم النفس، فلا تصدر أحكاماً مطلقة وتقول الحق كذا، إذاً فمعنى ذلك: أن الإنسان لم يعلم شيئاً أبداً، فجهد وتعلم، وإذا به يجد أنه لا يرى ذلك الذي تعلمه على الأرض.(15/16)
أثر الإيمان بالغيب على المؤمن والكافر
إن الإنسان لا يستفيد شيئاً، ولا يعلم شيئاً، ولا يرى الأشياء على حقيقتها، إلا إذا آمن بالله، وإذا آمن بالغيب.
وهذه الحقيقة -يا إخوة- ليست مجرد راحة للفكر والقلب، وأنه عندما يعتقد أو عندما يصدق، فإنه يتحرر من الشك، ويترك الحيرة التي يقع فيها العلماء عادة إذا لم يعرفوا الأجوبة على أسئلة معينة، لا؛ فالمسألة أكبر من ذلك جداً، فهي مسألة طمأنينة القلب، أو المعيشة الضنك، يقول الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124].(15/17)
اطمئنان المؤمن وسعادته
بالمقابل نجد أن أسعد جيل على وجه الأرض، وأكثره طمأنينة وراحة وأماناً في الحياة الدنيا هم جيل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
فالمؤمن مطمئن، فإن جاءه الخير فهو مطمئن، وإن جاءه الشر فهو مطمئن، ومهما وقع له فهو مطمئن، فإن ظلم فإيمانه بالله وباليوم الآخر يجعله يطمئن، ويصبر احتساباً، فهو يعلم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سوف ينتقم له ممن ظلمه، وليس بقدرته الذاتية، وإن منع حقاً له فهنالك أيضاً اليوم الآخر الذي توفى فيه كل نفس ما كسبت.
أيضاً فإن عالم الدنيا مهما كبر فإنه يصغر عند الإنسان، وذلك عندما يؤمن بعالم الغيب؛ فما قيمة الدنيا عند المؤمن الذي يؤمن بأن موضع سوط في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس! فلماذا نتصارع على هذه الدنيا؟ ولماذا نتتطاحن؟ ولماذا نتشاحن؟ ولماذا البغضاء؟ ولماذا الأحقاد؟ ولماذا العداوات؟ ولذلك فإن المؤمن يطمئن ويرتاح عندما يرى الكفار أو الفجار أو الظلمة قد أخذوا ما أخذوا؛ فبهذا يستقر؛ وإن أُعطي حمد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولم يشغله ذلك عن اليوم الآخر، وعلم أن هذا المتاع فان وزائل، وأنه إن تمتع بشيء منه فهو يتذكر متاع الآخرة؛ فيجتهد ويعمل لها، ويؤجر على هذا العمل؛ لأنه مشروع، ولأنه فعل المأمور فعف نفسه -بهذه الشهوة مثلاً- أو عف أهله إن كانت شهوة مال وما أشبه ذلك.
فيعيش الإنسان والمجتمع المسلم في طمأنينة كاملة، وما ذلك إلا نتيجة الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والإيمان بالغيب، وليس كما يرى بعض المسلمين الإيمان بالغيب في حين أنهم ينقضونه بتصرفات وأعمال عديدة.(15/18)
ضنك الكافر وشقاؤه
إن العالم الغربي يعيش -لعدم الإيمان بالغيب- في حالة الضنَك؛ وفي العيشة الضنك بل في الشدة يلهث ويجري، وتتقطع أوصال الفرد وأوصال المجتمع وهو يكدح في هذه الحياة، ولكن من غير هدف، ومن غير راحة، ومن غير اطمئنان على الإطلاق؛ فسبحان الله! هل يطمئنون وهم لا يؤمنون بالآخرة؟ وهل يمكن أن يطمئن قلب وهو لم يعرف الله عز وجل؟! هل يمكن أن يسعد إنسان وهو لا يؤمن بالله، ولا باليوم الآخر؟! كيف يكون ذلك؟ فبأي شيء يعيش، وهو لا يعلم شيئاً، ولا يجد إلا الصراع في الحياة كلها.
الحياة كلها شقاء، كُلها نكد، فدول كبرى تصارع دولاً كبرى أخرى، وشركات، تصارع شركات وأفراداً يصارعون أفراداً وينافسونهم، والأسرة تحطم الأسرة، والمرأة تتكتل ضد الرجل، والرجل يتكتل ويتعصب ضد المرأة، الطبقة الغنية تتكتل وتتحزب ضد الفقراء، وللفقراء أيضاً نقابات واتحادات تتكتل ضد الأغنياء، صراعات وانقسامات وفوضى رهيبة لا يستقر فيها الإنسان على الإطلاق، ولا يهدأ له بال أبداً، لماذا؟ إنه عدم الإيمان بالغيب.
فهم لا يؤمنون بالقدر، ولا يؤمنون بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد كتب كل شيء، وأنه لن يبلغ الإنسان إلا ما كتبه الله تبارك وتعالى له، فكل ذلك لا يؤمنون به؛ ولهذا نجد أنهم في الشقاء وفي الضنك.(15/19)
الأسئلة(15/20)
إسلام من لم يتلفظ بالشهادة
السؤال
ما حكم من أدى بعض الأعمال الإسلامية وهو لم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله بلسانه؟ وهل يعتبر مسلماً؟
الجواب
هذا الذي لم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله -بلسانه- لا يعد مسلماً بإجماع أهل السنة والجماعة والسلف الصالح؛ لا يكون مسلماً لا ظاهراً ولا باطناً؛ ولا يجرى عليه حكم من أحكام الإسلام إلا بإعلانها، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله} فما دامو لم يفعلوا ذلك أي: الشهادتين والصلاة والزكاة؛ فإنهم يقاتلون قتال ردة.(15/21)
القدر وتعدد الأسباب
السؤال
يقول الشاعر: (تعددت الأسباب والموت واحد) هذا شطر من بيت شعري فهل يكون سبباً من هذه الأسباب معارضاً للقدر، أم أنه موافق له؟ وهل هذا السبب مكتوب في اللوح المحفوظ؟
الجواب
نعم، فكل ما يقع إنما يكون وفقاً لما كتب الله تبارك وتعالى، فكل مصيبة كما يقول تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22].
فكل شيء قد كتبه الله علينا قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؛ ولا يقع إلا ما كتبه الله؛ فهو من القدر، ولا يكون مخالفاً للقدر.(15/22)
نزول عيسى وانقطاع التوبة
السؤال
نزول عيسى من العلامات الكبرى.
فهل لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، مع العلم أنه يكسر الصليب، ويضع الجزية، ويدعو إلى الإسلام هذا على ما بلغنا من علم؟
الجواب
نعم فما بلغك هو الصحيح، ولكن! أولاً: جاء في تفسير الآية (بأنها الشمس عندما تطلع من مغربها) {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:158].
أي إذا طلعت الشمس من مغربها، وقد جاء هذا نصاً في نص الحديث الصحيح.
الأمر الآخر: أن ذلك يكون بعد نزول عيسى، وبعد أن يؤمن به من يؤمن، ويكفر به من يكفر؛ ولهذا قال من قال من السلف: إن طلوع الشمس من مغربها: هي أول الآيات الكبرى (أي أول الآيات غير المألوفة) فنزول عيسى -عليه السلام- مألوف؛ وإنما يكون طلوع الشمس من مغربها بعد نزوله عليه السلام.(15/23)
الكتب التي تحدثت عن مسائل الغيب
السؤال
ما هي الكتب التي تتكلم عن الإيمان بالغيب، والبعث والنشور والصراط، وغيرها من أمور الغيب قديماً وحديثاً؟
الجواب
من هذه الكتب: كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أولاً، وكذلك فإن في صحيح البخاري، وصحيح مسلم أبواباً في الإيمان والتوحيد، وكذلك معارج القبول للشيخ: حافظ الحكمي رحمه الله فقد جمع في ذلك أحاديث، وأدلة عقلية ونقلية؛ فجزاه الله خيراً وأثابه، والمؤلفات في ذلك كثيرة.(15/24)
معرفة الطب لنوع الجنين
السؤال
يدعي الطب في الغرب معرفة الجنين في بطن أمه هل هذا صحيح؟
الجواب
الأمر الأول: أن الله تبارك وتعالى قال: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان:34] ولم يقل: يعلم الجنين ذكراً أو أنثى؛ فمعرفة كون الجنين ذكراً أو أنثى جزء من معرفة ما في الأرحام، وما في الأرحام شيء عجيب جداً! فإلى الآن حار العلماء فيه في الظلمات الثلاث، وفي عملية التحول من مرحلة إلى مرحلة، في أمور كثيرة ماتزال مدار الجدل والبحث في العالم الغربي، حول عالم الطب، إلى الآن، فالمسألة أعم من ذلك.
الأمر الثاني: كل ما في العالم من غير المدركات العقلية، وكل ما أدرك بالحس؛ فإنه لم يعد من عالم الغيب، فلو أن رجلاً قال: أنا أعلم ما في بطن هذه البقرة الحاملة، أو يقول: أنا ولي، وأنا تأتيني كرامات، فهذا كاهن عراف كاذب، من صدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد.
لكن لو أن طبيباً قال: أنا أعرف ذلك؛ لأني أعمل أشعة وأعرف ذلك، نقول: هذا ليس فيه شيء؛ لأنه لم يدعِ علم الغيب؛ وإنما استطلع شيئاً ما بشيء محسوس؛ فهذا خرج من عالم الغيب ولم يعد منه، وليس له وسيلة غيبية كما يدعي ذلك الآخر، وأيضاً لو أن إنساناً شق بطن هذه البقرة الحامل وأخرج ما في بطنها وعرف ما فيها، فهل نقول هذا عالم الغيب؟ لا؛ بل قد رآه، فليس المقصود بعلم الغيب كل ما غاب أو خفي عن الإنسان.
فإذاً: عرفوا أم لم يعرفوا فليس فيه تأثير أبداً لأن هذا من الخمس الأمور التي اختص الله تبارك وتعالى بعلمها.(15/25)
المدرسة العقلانية
السؤال
ما موقف العقلانين من الإيمان بالغيب؟ وكيف يُرد على من أنكر بعض المغيبات بحجة أن العقل ينكرها؟
الجواب
العقلانيون مدرسة -في الأصل- ظهرت بتأثير الفلسفة اليونانية، وقد تبناها المعتزلة، والخوارج، والرافضة وكل المتكلمين؛ ثم ظهرت بشكل حديث في فكر الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ومن تتلمذ عليهما؛ وماتزال إلى اليوم متمثله في المدرسة المسماة (المدرسة العصرية) أي التي تفسر الإسلام تفسيراً عصرياً يتناسب مع العلم ومع العصر الحديث بزعمهم.
وأما موقفهم من عالم الغيب فإنه متناقض، فكل واحد منهم يثبت مالا يثبته الآخر، أو ينفي ما لا ينفيه الآخر وهكذا؛ لأنهم لا يرجعون إلى معيار ثابت سديد، فحسب الإنسان أن يخرج عن الطريق المستقيم، وعن الجادة؛ لأنه بعد ذلك ستتشعب به الطرق، ويذهب كل مذهب، فهؤلاء -مثلاً- ينكرون بعض الأشياء بحجة أن العقل أو أن العلم ينكرها، ويكفي هؤلاء أن يعلموا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:45]، فالوحي من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولم يأت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء من عنده قط.
ولو أن العقول وحدها تكفي؛ فلماذا بعث الله تبارك وتعالى الرسل؟ ألم تكن فلسفة أرسطو وأفلاطون وسقراط وأمثالهم موجودة ومترجمة! فما الحال إذا لم يبعث الله تبارك وتعالى الرسل! وأصبح الناس يستغنون بهذه الفلسفات؟ فلسفات وثنية ضالة حائرة، ولذلك يأتي فيلسوف فيهدم ما قاله الأول، وكما قال أحد السلف الصالح: 'من جعل دينه عرضة للخصومات؛ أكثر التنقل' وقال الإمام مالك رحمه الله: 'لأن يبتلى العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله؛ خيرٌ من أن يبتلى بعلم الكلام' فهذه العلوم هي التي صرفت الناس عن الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والتسليم بخبره إلى القضايا العقلية والذهنية المجردة.
والحقيقة أن العقلانيين المعاصرين ما هم إلا امتداد للمذهب الذي ظهر في أوروبا وأشرنا إليه، فالشيخ محمد عبده -وهو رأس هذه المدرسة- يعتبر تلميذ الفلسفة الوضعية، الذي وضعها الفيلسوف الفرنسي المعروف أوجست كولد والذي يقرر فيها أن العالم الإنساني تطور إلى ثلاث مراحل: مرحلة السحر، ثم مرحلة الدين، ثم مرحلة العلم، فجاء الشيخ ليوفق بين هذا الكلام، وبين ما يعتقده من دينه.
فقال: إنه الآن وفي هذه المرحلة الجديدة يجب أن نحدث في الإسلام إصلاحاً، ونجرده من كل ما يتنافى مع هذه المرحلة ويقصد بها: مرحلة العلم، ومن هنا أنكر الطير الأبابيل، وأنكر الشياطين أو الجن وغيرها، وقد أفضى إلى ربه وقدم عليه.(15/26)
المحتضر من أهل عالم الشهادة
السؤال
قلت في حديثك أنه لا تقبل توبة المحتضر؛ لأنه أصبح في حياة الشهادة، فهل تتفضل بشرح هذه العبارة؟
الجواب
المحتضر: هو الذي رأى الملائكة، أو الذي عاينهم قال تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} [الفرقان:22]، فالإنسان إذا رأى الملائكة، لم يعد مؤمناً؛ لأن المؤمن هو الذي يؤمن بالغيب؛ فإذا رآه عياناً بالعين لم يعد مؤمناً به، فإذا انتقل من عالم الغيب إلى عالم الشهادة فهو مؤمن بشيء محسوس.
فمثل هذا كمثل الذين يقفون على النار أو يقفون بين يدي ربهم يوم القيامة فيقولون: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27] إذاً: ففي هذا الحال لا ينفع الرجوع، ولا ينفع التمني؛ لأنهم رأوا النار، ورأوا الجنة، ورأوا ما كان في عالم الغيب.(15/27)
ضعف اليقين من أسباب انحطاط المسلمين
السؤال
هل إيمان المسلمين بالغيب نظرياً وعدم تطبيقه عملياً يعتبر من أسباب تخلفهم وانحطاطهم عن خيريتهم التي ميزهم الله بها؟
الجواب
نعم، فما دام أن الإيمان بالغيب: هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر؛ فبلا شك أن ضعف إيمان المسلمين بذلك هو السبب الأساسي في الانحطاط، والتأخر الذي حصل للمسلمين، وكذلك هو سبب في ضعفهم وتسلط الأعداء عليهم، وتفرق كلمتهم، وهوان أمرهم على الناس، وحسبنا الله ونعم الوكيل.(15/28)
إنكار الغيب بين الوسوسة ورد الأحاديث
السؤال
الإنسان المسلم بطبيعته يؤمن بالغيب، ولكنه أحياناً يطرأ عليه إنكار باطني لبعض الغيب فما هو الحل؟
الجواب
إن كان المقصود بالسؤال هو الشك الذي يلقيه الشيطان أو الوسوسة، فلا تبالي بها يا أخي؛ لأن الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم وهم أكثر الناس إيماناً من هذه الأمة، قد شكوا ذلك إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: {يا رسول الله! إن أحدنا يجد في نفسه ما يتعاظم أن يتكلم به فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أو قد وجدتموه، قالوا نعم قال ذلك صريح الإيمان} وفي حديث آخر: {الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة} أي رد كيد الشيطان، فلم يجعلنا مشركين نشرك بالله ونكفر برسله؛ وإنما رد كيده للوسوسة، وتكون هذه الوسوسة عندما يغفل المؤمن عن ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فإذا غفل؛ ضعف الإيمان في القلب، فيجد الشيطان الفرصة، فيدخل ويلقي شيئاً من الوسوسة؛ فإذا أفاق المؤمن أفاق الإيمان، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201].
فإذا قال المؤمن: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، كيف جاءني الشيطان، وشككني في إيماني؟! تركه الشيطان وألقاه، فاستمر المؤمن في طاعة ربه وفي الإيمان به؛ وهذا من أنواع الجهاد، وهذا الإيمان يعطيه -بإذن الله- مناعة، فيأتيه الشيطان مرة ثانية وثالثة فلا يقدر عليه، وذلك مثل إنسان تطرده ثلاث مرات فإذا جاءك مرة رابعة تكون أقوى منه، وكذلك لو أنك غلبت إنساناً ثلاث مرات ثم أتاك مرة أخرى، فإنك لا تبالي به؛ لأنك قد غلبته عدة مرات، وهذا من فضل الله علينا.
فالإيمان يزيد وينقص، ونحن إذا جاهدنا الشيطان، ورددنا هذه الوسوسة بالإيمان الصادق؛ فإنها تصبح لا شيء، ولهذا اجتهد الشيطان في أن يرد الصحابة الكرام إلى الشرك فلم يستطع إلى ذلك سبيلاً؛ لما رسخ الإيمان في قلوبهم، وهذا ما يجب أن يكون عليه جميع المؤمنين، فإنما يحاول الشيطان الدخول في القلوب المؤمنة؛ ولهذا لما قيل لبعض السلف لماذا يوسوس المسلمون ولا يوسوس اليهود والنصارى في صلاتهم فقال: 'وما يفعل الشيطان في البيت الخرب' فاليهود والنصارى لا يوسوس الشيطان في صلاتهم سواء صلوا أم لم يصلوا لأنه لا صلاة لهم، ولا إيمان لهم، ولا عمل لهم، فماذا يعمل الشيطان بهم؟! ولذلك فإنه يدعهم.
وأما المسلم المؤمن فقد ترفعه هذه الصلاة درجات عالية عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد لا يكتب له منها إلا العشر، وقد لا يكتب له منها شيء.
إذاً: ها هنا الامتحان، وها هنا عمل الشيطان، فهو عند هذا الذي يرتقي به الإيمان إلى درجة عليا يوسوس له حتى يُضعف ذلك الإيمان، أو يذهبه.
وأما إذا كان المقصود من السؤال: أن هناك من ينكر بعض أمور الغيب، فنعم.
وهذا موجود، فمن الناس من ينكر السحر، أو ينكر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالذات قد سحر، فيقول: أنا لا أصدق، وعقلي لا يحتمل أن الإنسان يقدر على السحر، أو عقلي لا يصدق أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد سحر، وهذا كما يقوله الإباضية من الخوارج، وكما يقوله المعتزلة، يقولون: العقل لا يصدق أن للميزان كفتان توزن فيهما الأعمال، فهذا لا يمكن، كذلك الصراط قالوا عنه العقل لا يصدق أن الصراط أدق من الشعر وأحد من السيف.
سبحان الله! لو أن الله تعالى وكل الأمر إلى مثل هذه العقول، فجئت أنا وقلت: عقلي لا يقول بهذا، وجاء الآخر وقال: عقلي لا يقول بهذا، وكل واحد يرد ما يشاء؛ فإنه سيضيع الشرع، ألا ترون لماذا يتجادل الناس ويختصمون؟! فسبب ذلك هو تفاوت العقول، فمثلاً: أنا آتي بقضية فأقول: هذا ليس معقولاً أبداً؛ فيأتي أحدهم فيقول: بل هذا هو المعقول تماماً، اختلفنا هذا الاختلاف، فمن الذي يحكم في الموضوع؟ وكذلك لو أن الله تعالى وكل الإيمان بالغيب إلى العقول ما آمن أحد منَّا بشيء، أو آمن بعضنا بشيءٍ ولم يؤمن البعض الآخر به تماماً، فكيف يحاسبنا الله عز وجل؟ من المتقون منا إذاً، ومن الفجار؟! ولو أننا سلمنا لهولاء الناس أن إنساناً يقول: عذاب القبر لا أستطيع أن أصدقه، وآخر يقول: أنا لا أصدق السحر، وآخر يقول: أنا أنكر الصراط، وآخر: أنا أنكر الميزان، فما الذي يبقى بعد ذلك في ديننا؟! ما هو شان المؤمنين مع ربهم ومع رسولهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ كيف أخبر الله عز وجل عنهم؟ قال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
فلا بد أن المسلم يسلم بكل ما يحكم به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبكل ما يحكم به الله، الحكم القدري، والحكم الشرعي، الأخبار والأوامر والنواهي كلها؛ فيجب أن نؤمن بأحكام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التي أنزلها في كتابه، أو ما جاء عن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلا: فلا إيمان إذاً.
فكثير من الناس يثيرون بين الحين والحين قضايا من هذا الشأن، وعلى سبيل المثال البسيط: القضية التي تتردد هذه الأيام، وهي ليست بذات الأهمية لكن التنبيه عليها ضروري، فمثلاً: من الناس من ينكر أن الجني يتلبس في الإنسي، ويدخل فيه، وقد كتب في ذلك سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله ونفعنا بعلمه، وأتى بالأدلة والبراهين من ظواهر الآيات، ومن السنة، ومن فعل السلف، ومن الواقع المشاهد -أيضاً- ومع ذلك يقول البعض: إن عقلي لايصدق وأنا لا أتصور ذلك، فسبحان الله! إذاً: أنت بهذا الكلام تفتح المجال لكل من يدعي العقل، وإلا فلا عقل لمن خالف الحق وخالف الوحي، فكل من لديه مسكة من عقل، أو يدعي أنه عاقل -ينكر مايشاء وكما يشاء- يقول: أنت تنكر السحر، إذاً: إذا كُنْتُ أنا أنكر الشيطان بالكلية، أو أنت تنكر دخول الجني بالإنسي، وآخر أنكر الوسوسة والشيطان بالكلية، فإن هذا الإنسان قد يقع في حيرة؛ فإن قال لك أحدهم: يجب عليك أن تؤمن بهذا؛ لأن الله أخبر به في القرآن، ولأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر به في الأحاديث، فقل له: وأنت -أيها الآخر- لماذا ترد ما جاء في القرآن وماجاء في الحديث؟ قد يقول لك: لا، فالعقل يدل على وجود الشيطان.
فإن مثل هذا إن لم يغلبه الملحد؛ فإنه سيحيره.
ولهذا قال شَيْخ الإِسْلامِ عن أهل الكلام: 'لا للفلاسفة كسروا، ولا للإسلام نصروا' فلم ينفعوا لا هنا ولا هناك؛ لأنهم استسلموا للمقدمات العقلية التي يحتج بها أولئك الملاحدة، وبدءوا يصدقونهم فضاعوا.
ولكن عندما يكون المعيار هو النص، فنقول له: لماذا تنكر الشيطان وقد جاء ذكره في القرآن؟ فإنه يسكت إن كان مؤمناً، وإما إن كان كافراً فهذا فيه كلام آخر، إذاً: فكل ما جاء به الخبر، أو صح به الحديث؛ فإننا نؤمن به، وإن قل وإن دق، لا نرده؛ لأن رد الأمر الواحد ينبني عليه رد الشيء كله.
أضرب لكم -أيضاً- مثلاً آخر: هناك من ينكر حديث الذباب، فيقولون: كيف نصدق بأن الذباب إذا وقع في الشراب، فإننا نغمسه، ثم نلقي به، ثم نشربه، هذا لا يمكن، فيقال لهم: إن الحديث في صحيح البخاري.
يقولون: وإن صح فإننا ننكره، فسبحان الله!! وكذلك إذا جاءت أحاديث في عذاب القبر، قالوا: نحن ننكرها ونردها وإن صحت، كيف تلزمهم بالإيمان بعذاب القبر؟ وكيف تلزمهم بالإيمان بالحوض وغيره من الأدلة، وكذلك أيضاً، إذا نحن رددنا حديثاً، أو إذا أنكرنا الغيب في قضية واحدة فقط؛ فمعنى ذلك أننا فتحنا الباب لإنكار الغيب كله، وهذا هو سر عظم المسألة ومكمن الخطورة فيها.(15/29)
الإيمان بلاعمل يدل على ضعف الإيمان بالغيب
السؤال
بعض الناس يترك الأعمال من أوامر ونواهٍ، ويقول: أنا مؤمن، ولو كان مؤمناً لاستعد لذلك اليوم العصيب، فهل هذا بتكذيبه العملي يعتبر مكذباً بالغيب؟
الجواب
هذا في الحقيقة لا نسميه مكذباً بالغيب، ولكننا نقول: إنه ليس مؤمناً بالغيب إيماناً حقيقياً، أو إيماناً كاملاً؛ لأن المؤمن بالغيب يظهر أثر ذلك على جوارحه، وعلى أعماله، فالإيمان عند أهل السنة والجماعة: ظاهر وباطن، قول وعمل، ولا ينفصل أحدهما عن الآخر؛ وحسبنا في ذلك أن نعلم كيف آمن الصحابة الكرام بكل ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الجنة أو النار، فظهر أثر ذلك -كما تعلمون- في حياتهم رضوان الله تعالى عليهم كاليقين، فإنها أثر من آثار الإيمان كما قال علي رضي الله تعالى عنه: [[رأيت الجنة والنار قيل: كيف؟ قال: رأيتهما بعيني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي قال الله تبارك وتعالى عنه: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]]] فرؤية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للجنة والنار التي كانت ليلة الإسراء، والتي كانت في مرات أخرى، حتى لما مثلت له الجنة والنار في الحائط وقال: {ما رأيت مثل اليوم في الخير والشر} وأخبرهم بما رأى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومرات كثيرة يرى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً من ذلك أو يمثله الله له في اليقظة، والناس لا يرون؛ فيخبر أصحابه بذلك، فينتقل هذا الإيمان مباشرة في قلوب الصحابة الكرام إلى خوف من الله وخشيته، وإلى تقوى وجهاد وإيثار للآخرة، ورغبة فيها، وعزوف عن الدنيا وشهواتها، وعن مطامعها المحرمة، إلى الاستقامة على دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا الذي يقتضيه الإيمان الحقيقي للغيب.(15/30)
حكمة الوجود
من أهم الأسئلة التي ترد على الفطرة البشرية في القديم والحديث السؤال عن الحكمة من وجود الإنسان على هذه البسيطة، ومثل هذه الأسئلة لا يوجد لها جواب شافٍ إلا في شريعة الإسلام الخالدة.
وما انتكس الغرب، وما زاغت الحضارة الحديثة إلا حين فشلت في الإجابة على مثل هذا السؤال، فنتج عن ذلك تنكّر أمم الغرب والشرق لدينها بحجة أنه يمنعها من اللحاق بركب الحضارة، فصارت تلك الأمم تعيش حياة أقرب إلى البهيمة، رغم ما تتشدق به من تمدن.(16/1)
الحكمة من الوجود
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن موضوع حكمة الوجود مما لا يخفى على كل مسلم، ولولا أن الله تبارك وتعالى أمرنا بالتذكير، وبيَّن لنا ما في التذكير والذكرى من الخير والفائدة، لما تُحدث عن مثل هذا الموضوع، ولكن الإنسان قد يتعمق في العلم، ويتعمق في العمل -أياً كان العمل- وينسى الهدف والأساس والمنطلق لذلك العلم والعمل.
ومن هنا يحتاج المرء دائماً إلى التذكير، وهذه الأمور بديهية لا تحتاج إلى تذكير، لكن هذا الأمر البدهي لو فكر فيه الإنسان وتأمل؛ لوجد أنه يغير حياته كلها بناءً على تفكير جديد في ذلك الأمر البدهي المعهود.(16/2)
نظرة الجاهلية الأولىللوجود
والجاهلية الأولى التي بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها -نعني بها جاهلية قريش والعرب- ماذا كانت نظرتهم للوجود؟ لقد كانوا يقولون: ما هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر.
وقال قائلهم:
أموتٌ ثم بعثٌ ثم حشرٌ حديث خرافة يا أم عمرو
فكانوا لا يتصورون أن لهذا الوجود حكمة ولا غاية؛ إنما هي أرحام تدفع، أي: "تنتج المواليد"، ثم أرض تبلع في النهاية؛ ولذلك قالوا: {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} [النازعات:11 - 12] أي كيف -بعد أن نكون عظاماً نخرة- نعود إلى حياة جديدة؟! فالوجود عندهم ينتهي بهذه الحياة الدنيا فقط، والدهر -أي: مرور الأيام والليالي- هو الذي يهلك والذي يفني، ولا شيء وراء ذلك.
فهكذا كانت غفلتهم، والعمى الذي ضربه الله تعالى على قلوبهم.
ومع ذلك فالفطرة تلح عليهم إلحاحاً شديداً، وقد كان منهم الشعراء وهم أكثر إرهافاً وإحساساً؛ فالشعراء كانوا يتخيلون أنه لا يمكن أن يكون وراء هذا العالم إلا شيء آخر، وكذلك الخطباء وأمثالهم من أصحاب الإرهاف في الحس، يقولون: لا بد أن وراء هذا العالم عالماً آخر، ولا بد أن لهذا الوجود حكمة وغاية أكثر من مجرد أنها أرحام تدفع، وأرض تبلع، وهذا موجود في أشعارهم.
ولما أرسل الله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا الدين العظيم؛ جاءت الهداية الكبرى من عند الله تبارك وتعالى، وقضت على ما شاء الله تعالى أن تقضي عليه من الضلال والحيرة والاضطراب الذي كان يسود الأرض أو معظمها من أجل: لماذا جئنا؟ ولماذا خلقنا؟ لقد كان الناس إما أن يتدينوا على باطل، كحال اليهود والنصارى وأتباعهم، أو يتيهون ويحارون ولا يدرون بمَ يتدينون، وقصة سلمان الفارسي رضي الله عنه معروفة، فقد رفض النار التي كان يعبدها أبوه، ثم هاجر إلى العراق، فوجد راهباً هنالك وتعلم الدين عنده، وتعبد بدينه؛ ثم سلمه الراهب عند الموت إلى راهب آخر؛ ثم ذهب إلى الآخر؛ ثم إلى آخر؛ ثم بيع رقيقاً.
ثم أتى إلى المدينة -كل ذلك وهو يبحث عن الحق- فكان يشعر أن لله ديناً، وأن هذا الدين حق، وهو غير ما يتدين به، وغير ما يسمع، وغير ما عند اليهود والنصارى والمجوس، حتى عرف الحق ووفقه الله تبارك وتعالى له، وأمثال سلمان رضي الله تعالى عنه قليل؛ فأكثر الناس يأكل ويشرب وينام ولا يفكر على الإطلاق، ولا يبالي بهذا السؤال وبالإجابة عليه.
لقد كانت ظاهرة البحث عن الدين الحق ومعرفة سر الوجود؛ مقتصرة على أفراد قلائل؛ لأن الناس كانوا يعيشون -إلى حد ما- في طمأنينة بما يدينون به من معتقدات، وهذه نقطة مهمة في التاريخ؛ فاليهود والنصارى، والمجوس، والبراهمة، وكل الأديان التي كان يعتنقها الناس كان لديهم اطمئنان إلى أنها هي الدين الصحيح؛ ولهذا لا يبحثون عن الحكمة من الوجود خارج هذا الدين.(16/3)
أسئلة تراود الإنسان عن هذا الوجود
ماذا وراء هذا الوجود؟ ولماذا خلقنا؟ ومن أين جئنا؟ وإلى أين نذهب؟ كل هذه أسئلة تراود كل إنسان من حيث هو إنسان لا من حيث كونه متحضراً، أو متعلماً أو مؤمناً أو كافراً، فلا علاقة لهذه الصفات كلها، فكل إنسان بما أنه إنسان؛ فإنه تراوده هذه الأسئلة دائماً في أي زمن عاش فيه، سواء في الأزمان السحيقة الغابرة، أم في هذا القرن، أم في قرون قادمة، أم في أي بيئة أو زمان؛ فلا بد من أن يلح هذا السؤال على الإنسان، من أين جئت؟ وما هدفي في هذه الحياة؟ وإلى أين أذهب؟ وهذه فطرة أودعها الله تبارك وتعالى في قلوب جميع العباد.
إلا الحيوان؛ فهو المخلوق الذي لا يفكر إلا في اللحظة التي هو فيها، مهما كان ذكياً فهو يفكر في اللحظة التي هو فيها فقط، كيف يأكل العشب في هذه اللحظة، ولذلك ليس للحيوان تأريخ، لا في الحيوان كفرد، ولا في القطيع كنوع؛ لأنه لا يفكر في تأريخه، ولا يفكر في ماضيه، وأيضاً لا يفكر في مستقبله وإلى أين سيذهب؟ وما هي نهايته؟ وما هي نهاية هذا الجنس أو هذا النوع؟ فهو لا يفكر في شيءٍ من ذلك؛ وإنما يفكر في اللحظة التي هو فيها -إن سمينا عمله تفكيراً- وينتهي الأمر عند هذه الحدود.
ولكن الإنسان ميزه الله تبارك وتعالى عن الحيوان بميزات عظيمة جداً، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] وقال أيضاً: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] أي تكريم عظيم بخصائص عضوية خلقية وتكوينية، وخصائص عقلية روحية، وكل أنواع الخصائص التي ميز الله تبارك وتعالى بها الإنسان.
فمن ذلك أنه يفكر هذا التفكير، ويسأل نفسه هذا السؤال؛ ولكن الاهتداء إلى الجواب الصحيح ليس من شأن كل إنسان، إنما هو فضل من الله تبارك وتعالى يؤتيه من يشاء.(16/4)
حكمة الوجود مركوزة في الفطرة
أما القضية ذاتها فإنها مركوزة في الفطر، يقول الله تبارك وتعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:1 - 3] ويقول على لسان نبيه موسى عليه السلام لما قال له الطاغية فرعون: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:49 - 50].
فالله تبارك وتعالى أعطى كل شيءٍ خلقه ثم هدى -خلق فسوى وقدر فهدى- فأصل الهداية قد تكفل الله تبارك وتعالى بها، وهذه نعمة كبرى وفضل من الله تبارك وتعالى؛ فلم يكلنا إلى أنفسنا، بل تكفل لنا بهذا الشيء العظيم الذي بدونه لا تكون الحياة حياةً إنسانيةً أصلاً.
وهل معنى هذه الهداية أن كل إنسان يعرف الجواب الصحيح؟ لا.
لكن معناها أن كل إنسان ميسر له أن يعرف الجواب الصحيح؛ فقد فطر الله تبارك وتعالى العباد جميعاً على الإيمان به وعلى معرفته، وعلى التوحيد كما قال جل شأنه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30].
فلا يمكن بأية حال من الأحوال أن يولد إنسان إلا وهو على هذه الفطرة، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما من مولود إلا وهو يولد على الفطرة -وفي رواية: على الملة - فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه} وكل الروايات تدل على أن كل مولود يولد على الإسلام وعلى التوحيد؛ تحقيقاً للعهد الذي أخذه الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172].
فكل إنسان ميسر له أن يهتدي إلى الجواب؛ وهو أن يعرف أن الله خلقه لعبادته، وأن معرفة الله هي أعز ما يسعى إليه كل مخلوق، وهي الغاية التي ليس بعدها غاية أبداً، لكن الذي حدث هو الابتلاء من الله تبارك وتعالى وهذا ما دل عليه القرآن كما قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3].
فهو تبارك وتعالى مع بيانه لحكمة الوجود، ومع أنه فطر الناس على الهداية والاهتداء إليه؛ لكنه جعل مكان الابتلاء ومحل الابتلاء {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] وهكذا يمكن أن يكون الإنسان: {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3].(16/5)
التحول من كفر الخرافة والجهل إلى كفر الطبيعة والعلم
ثم تحولت القضية، وأصبحت ظاهرة عامة، وبدأ ذلك في أوروبا خاصة؛ لأن أوروبا تعرضت لما لم يتعرض له غيرها من الأمم، فقد تعرضت أوروبا لتأثير الحضارة الإسلامية وتأثير الإسلام عامة، وهذا التعرض جعلها تكتشف أن ما هي عليه من الحياة؛ إنما هي حياة لا إنسانية؛ بل همجية ووحشية؛ فأخذوا بما يسمى (النهضة الأوروبية)، فشرعوا في النهضة.
إلا أن العداء للإسلام منعهم من أن يعتنقوا الإسلام فينعموا بعدالة الإسلام وهدايته وطمأنينته؛ واستفادوا من المسلمين في (سلوك المنهج التجريدي العلمي) واستفادوا من المسلمين في (النظر والبحث العقلي) في حين كانت الهيئة الدينية المسماة بالكنيسة تفرض عليهم كل شيء فرضاً وقسراً وقهراً وإن لم يقبله العقل؛ وهل يقبل العقل شيئاً من خرافات النصارى؟! لا يقبلها.
ولكن العقل الأوروبي أُرغم على أن يقبلها؛ فلما استفاد من الحضارة الإسلامية بصيصاً من الحق والنور؛ رفض حضارته ودينه -وإن كان لم يدخل في دين المسلمين- فتزعزعت ثقة الإنسان الأوروبي فيما كانت الكنيسة تمليه عليه من حكمة الوجود وسبب الوجود، فقد كان الأوروبي يؤمن بأن الغاية من الوجود هو التكفير عن الخطيئة.
وذلك أن الله تعالى خلق آدم، فأكل من الشجرة، ووقع في الخطيئة؛ فرأى أن يفتدي العالم، فأرسل ابنه الوحيد -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- ثم صُلِبَ؛ ليكفر عن الخطيئة، ومن أراد طريق الخلاص من هذه الحياة الدنيا والنجاة فيها، فعليه أن يقتفي نهج المسيح، ويؤمن بأنه هو المخلِّص والمنقذ، فهذا ملخص ما كانت النصرانية تقوله وإلى الآن يدينون به، وكانوا يعتقدون أن الإنسان هو سيد المخلوقات، وهذا يعطي القناعة والرضا بالوجود مع عدم السؤال عن حكمة هذا الوجود.
فالذي حصل في أوروبا أن الناس فقدوا الثقة في هذا كلِه، قليلاً قليلاً، فكان أول ما تزحزحت في أذهانهم حكمة الوجود وغايته.(16/6)
اكتشاف النظريات قديماً
لما كتشف أحدهم -هو كوبرنيك - موعة الشمسية تدور حول الشمس، وأن مركز المجموعة هو الشمس وليس الأرض.
كانت هذه القضية خطيرة جداً عند الغربيين؛ لأنهم من خلالها فكروا وقالوا: إذاً ما دامت الأرض ليست هي مركز الكون، فيمكن أن يكون الإنسان ليس هو سيد المخلوقات ولا سيد الكون؛ لأن الأرض تابع، والإنسان يسكنها فهو تابع، وقد يكون هناك مركز آخر ومخلوقات أخرى.
ولكن رجال الكنيسة حاربوا هذه النظرية حرباً شديدة، على أساس أن المسيح ما نزل وصلب إلا على هذه الأرض؛ فالأرض هي مركز الكون، وكل الكائنات تدور حول الأرض، أو هي مركزها الأساس؛ فلما تبين لهم أن ما تقوله الكنيسة باطل، وأن الأرض هي التي تدور حول الشمس؛ فلم يعد للأرض وللإنسان تلك القيمة.
إذاً: لماذا جاء الإنسان؟ فلا خطيئة ولا شيء، وبدءوا يفكرون، هل هذه الخطيئة حق أو باطل؟! وهل المسيح حقاً هو ابن الله؟ فدءوا يفكرون ويفقدون ثقتهم في هذا الوجود.
ثم بعد ذلك جاءت نظرية الجاذبية لمكتشفها نيوتن فقالوا: إن هذه النظرية فسرت الوجود تفسيراً آلياً -والتفسير المكنيكي كما يسمونه- فالوجود يتحرك مع بعضه البعض ويتفاعل بطريقة آلية حسب قوانين الجاذبية، وهي قوانين رياضية لا تخطئ، فازدادوا بُعداً عما كانت تقوله الكنيسة ورجال الدين والأناجيل، وأخذوا يتعلقون بهذه النظريات العلمية الجديدة.(16/7)
اكتشاف النظريات الجديدة
بعد ذلك ظهرت في القرن التاسع عشر، نظريات أكثر زادت البُعد والشقة بين ما كان يؤمن به الإنسان من نظرته إلى هذا الوجود، وبين ما جاءت به هذه النظريات.
ومن جملة هذه النظريات نظرية التطور العضوي -نظرية دارون - فقالوا: إن الأحياء كلها تتسلسل، تبدأ من الكائن ذو الخلية الواحدة إلى أن تصل في النهاية إلى الإنسان، تسلسلاً تدريجياً طبيعيا.
أي: أنه وجد هكذا بدون إرادة وراءه ولا هدف أو غاية، فأصبح كل ما تقوله الكنيسة ورجال الدين لا قيمة له إزاء هذه النظرية العلمية كما يزعمون! إذاً لم يعد في حس الإنسان الأوروبي شيءٌ اسمه خطيئة أو صلب أو مسيح؛ إلا وهو من جملة الخرافات -وبالأخص عند المثقفين- إذاً فالإنسان تطور -كما يزعمون- وهذه هي النظرية الصحيحة.
وما دام أن الأمر كذلك فليس هناك آدم ولا خطيئة، ولا يحتاج الأمر إلى تكفير أو أي شيء.
فتغيرت نظرة الإنسان الأوروبي إلى الوجود تغيراً كلياً، فكفر بكل الأديان.
والمصيبة أن الإنسان الأوروبي الذي آمن بهذه النظرية وأمثالها؛ هو الإنسان الذي يقود العالم في تلك الفترة، فقد كان الإنسان الأوروبي من الإنجليز والفرنسيين والألمان وغيرهم يستعمرون معظم الدنيا؛ فكأن هذا هو خلاصة رأي البشرية والإنسانية.
ومن ثم نقلوه إلى معظم الدول التي احتلوها ومنها العالم الإسلامي، وأصبحوا ينادون في كل مكان بأن الإنسان ليس له غاية، وليس لوجوده حكمة، كما يقول زعيم الإلحاد في هذا العصر وهو ألدوس هكسلي صاحب النظرية الداروينية الجديدة، يقول: إن هذا التطور هو الذي جعل الإنسان سيد المخلوقات، فجاء الأمر صدفة واعتباطاً، ولو أنه حل محل الإنسان الضفدع أو الفأر، لأمكن أن يكون هو سيد المخلوقات؛ فالأمر عندهم سواء، فأفقدوا الوجود كل حكمة وكل معنى.(16/8)
الغربيون بين التنكر لدين الفطرة والاعتراف به
وهذا الكلام على مستوى النظريات، فما هو أثره على مستوى الحياة الفردية في الإنسان؟ لقد ترك الناس الكنائس والمواعظ، وتركوا قراءة الأناجيل، وقالوا: كل هذا خرافة، إذاً فكيف يعيشون؟ فلا يمكن للإنسان أن يعيش من دون هدف؛ فكانت فرحة الانبهار بالعلم، وما حقق من منجزات تغشى الأعين قليلاً قليلاً؛ إلا أنه وجِد شعراء وأدباء، ووجِد أناس يفكرون؛ لأن هذا سؤال فطري في كل نفس.
فقالوا: هل من المعقول أن يكون الإنسان قد وجد هكذا وليس له هدف ولا غاية؟ فكانت الحيرة الكبرى التي وقع فيها الإنسان الغربي عامة -الأوروبي منهم والأمريكي- هي أننا ليس لوجودنا معنى.
إذاً: فما هو الحل؟ تعددت الإجابات.(16/9)
الانتحار نتيجة الضلال عن حكمة الوجود
ومن الظواهر العجيبة التي أثارت اهتمام العلماء من هذا النوع؛ ظاهرة انتحار الحيتان، وقد تتعجبون لماذا تنتحر! فهي في أعماق المحيط فتخرج جماعات ضخمة من أعماق المحيط فتنتحر على الشواطئ، وترمي نفسها حتى تموت، ومعلوم أن أحرص شيءٍ عند الحيوانات المائية؛ أن تعيش في الماء، فإذا أخرجتها من الماء حاولت أن تتدحرج حتى ترجع إلى الماء؛ فكيف يقذف الحوت نفسه عامداً متعمداً على الشاطئ ليموت؟ فأخذوا يفكرون! وكان مما قيل: إن الحيتان بدأت تشعر أن وجودها لا معنى له، ولا حكمة من وجودها، ولذلك رمت نفسها، لتموت.
وكذلك فقد وجد آلاف من البشر ينتحرون، فلماذا ينتحرون؟! ففي السويد وبعض دول اسكندنافيا -وهي أكثر الدول رقياً وتقدماً كما يقولون- وضعوا مستشفيات خاصة للانتحار؛ فالذي يريد أن ينتحر عليه أن يسجل اسمه ويذكر أسباب الانتحار.
فقد يكون السبب أن العشيقة طردته، أو لأنه لم يرق في العمل -أو أي سبب كان- فيكتب هذه المعلومات، ويدخلونه في غرفة خاصة، ويقتلونه بطريقة معينة.
ويقولون: هذا القتل أفضل من أن يذهب إلى الشواطئ، فيعكر الصفو على المصطادين والسواح، أو أن ينتحر من مبنىً شاهق فيعكر على النزلاء.
وهكذا فالآلاف من البشر الأوروبيين -عموماً- يشعرون بأن حياتهم ليس لها معنى، وأن وجودهم لا حكمة من ورائه، وأنهم حيارى ضائعون لا يدرون لماذا جاءوا وإلى أين يذهبون؟ كما عبر الشاعر النصراني، شاعر المهجر إيليا أبو ماضي:
جئت لا أعرف من أين ولكني أتيت ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت كيف جئت؟! كيف أبصرت طريقي؟! لست أدري ولماذا لست أدري لست أدري!
فهو لا يدري ولا يدري لماذا لا يدري؟ فهو يعبر عن الحياة التي عاشها بنو دينه النصارى، والتي يعيشونها إلى اليوم في أكثر أنحاء العالم؛ فلم يجدوا حكمة لهذا الوجود، فماذا كانت النتيجة؟ إن الانتحار هو ما اختاره كثير منهم! فقد كونوا جماعات كبيرة، منها الجماعة التي انتحرت قبل عشر سنوات بشكل جماعي -وكان عددهم أكثر من ثمانمائة شخص- في الأمازون، وهم من أمريكا ولما وقعت هذه الحادثة أوصى الكونجرس بدراسة هذه الظاهرة في الولايات المتحدة.
فكانت نتيجة الدراسة: أنه يوجد في الولايات المتحدة الأمريكية (ألفان وخمسمائة نحلة ودين وجماعة) من هذا الشكل ممن يبلغ أتباعها المليون أو أقل من ذلك، وكلهم بهذا الشكل لا يدرون لماذا جاءوا؟ وإلى أين يذهبون؟ ولا يعرفون قيمة ولا طعم الحياة.
وقد تكونت من هذه الجماعات عصابات تذهب إلى البلاد التي تشعر بالطمأنينة في نظرهم، ويسألون عن أي البلاد أكثر انحطاطاً وتأخراً في الحياة لماذا؟ لأنهم تصوروا أن التكنولوجيا والتقدم (الطائرات، والصواريخ، والرفاهية) هي السبب في ضياعهم، أي أن الحضارة هي السبب، فقالوا: نبحث عن أحط بقاع العالم في الحضارة ثم نعيش فيها.
ولذلك يذهبون إلى نيبال -وهي دولة داخلية في شمال الهند تعيش حياة شبه بدائية- فالأمريكان في نيبال كثيرون وشبه عراة، لكنهم يقولون: المهم أننا فارقنا نيويورك وشيكاغو، فارقنا تلك المجتمعات المتحضرة حضارة متعقدة لكي نعيش في جو الطمأنينة، وفي جو إنساني حتى نموت.
فهم لا يبحثون عن شيء إلا راحةً قليلةً قبل أن يأتيهم الموت، ويحقنون أنفسهم بالمخدرات! إنها حيرة متناهية! فهم لا يدرون لماذا جاءوا؟ ولماذا خلقوا؟ وإلى أين يذهبون؟ فلا يدرون ولا يخطر على بالهم أن في إمكانهم أن يعرفوا ذلك أو يعلموه؛ لأن المجتمعات التي لفظتهم هي مجتمعات التقدم والعلم والتكنولوجيا، فما قيمة هذا العلم وهذه الحضارة المادية بغير إيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟! لم يجدوا لذلك أي قيمة، وهذا الداء قد وصل إلى بلاد المسلمين، ولو تحدثنا عنه في بلاد الغرب لطال الحديث جداً، فأنتم تقرءون في المجلات الغربية عن عدد المنتحرين، بسبب الحياة العابثة التي يعيشها الغرب.(16/10)
أولاً: التنكر
فمنهم من قال: العلم لا دخل له في الفلسفة؛ فنحن في المعمل نبحث عن وجود الأشياء والظواهر العلمية، وكذلك علماء الاجتماع يبحثون عن الظواهر الاجتماعية، ولكن لا شأن للعلم بالفلسفة؛ فنحن لا نبحث لماذا جاء الكون؟ فهذا لا يهمنا.
فهذا سؤال فلسفي وهم يعاندون الفطرة؛ لأنه كلما بحثوا في شيء من الكون؛ يأتيهم
السؤال
لماذا جاء هذا؟ فيعاندون ويقاومون الفطرة بهذا الحل، وهو أنهم يجعلون هذا من مسئولية غيرهم، فالباحث في الأحياء أو الفلك أو الطبيعة؛ لا دخل له بغيره، وغيره هو الذي يجيب على هذا السؤال، أما هو فيجيب فقط عن خواص المادة، وكيف تتركب، وكيف تتكون، وهذا يكون في حدود علمه.
فأصبح الإنسان يجد عالماً فيزيائياً، أو فلكياً -كبيراً- يتكلم عن دقة الكون وعن عجائب النبات، وعن عجائب خلق الله عز وجل؛ فإذا سألته وماذا وراء هذا؟ وكيف نشأ هذا؟ يقول: لا تحول الموضوع إلى فلسفة؛ فنحن نتكلم كلاماً علمياً فقط، وكأن العلم عدو للبحث عن الحقائق الأساسية.
فحالهم هو كما قال بعض العلماء: كمثل الإنسان الذي كان في فناء بيت من البيوت، وهو يرى البيت من بعيد، يعجب به! ويقول: هذا البيت لا بد أن له صاحباً عمله وبناه وهندسه وصرَّفه ودبره، فلما أن دخل هذا البيت كلما فتح باباً قال: الآن أيقنت أن هذا البيت ليس لأحد، ولم يبنه أحد ولا هندسه أحد، فكيف وهو في الخارج يؤمن بأن هذا البيت لا بد أن له مهندساً وأن له مالكاً وله موجداً، ولما دخل ورأى النقوش والزخارف، والتخطيط العجيب الدقيق أنكر؟! فكلما ازداد في معرفة دقة البيت ونظامه وهندسته، يقول: الآن ازددت قناعة أنه ليس لهذا البيت مالك ولا مهندس؟! فهذا هو حالهم! فالإنسان عندما كان أُمياً ساذجاً لا يعرف من هذا الكون إلا المظاهر، يرى السحاب ويظن أنه ملتصق بالسماء، ويرى النجوم ويظن أنها عبارة عن لمبات صغيرة في الكون؛ كان يعتقد أن لهذا الكون إله، ولما تعمق في الكون ورأى المجرات والآفاق البعيدة قال: الآن أيقنت أنه ليس لهذا الكون إله كيف يكون هذا والفطرة والعقل الصحيح عكس ذلك؟! فالعقل الصحيح يقول: كلما تشاهد الدقة تزداد يقيناً بأن الذي صنع هذا أعظم مما كنت تتخيل بكثير جداً، وهكذا نسي أولئك هذا الشيء.(16/11)
ثانياً: الاعتراف
النوع الآخر: اتجهوا إلى أن هذا الكون له حكمة، والوجود له غاية؛ لكنهم لما كانوا لا يؤمنون بالله الإيمان الصحيح، ولا يؤمنون بالإسلام الذي يملك الإجابة الصحيحة على كل شيء؛ أخذوا يتخبطون أو يأتون بإجابات مجملة، ومن ذلك: أن كثيراً من العلماء الذين أقروا على الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، على أساس أن لهذا الكون إله، ولكن ماذا يعمل الإنسان؟ لم يجدوا الجواب، فأخذوا يقولون: عليه أن يحقق السلام، وعليه أن يبحث عن الطمأنينة، وعليه أن يفعل كذا.
فهم لا يجدون الإجابات؛ لأنهم لا يملكون ذلك؛ فتركوها وأعرضوا عنها.
ومن هؤلاء العلماء الذين أدهشتهم دقة الكون وعجائب الكون أحد العلماء الأمريكيين الكبار، صاحب الكتاب الذي ترجم باسم: العلم يدعو إلى الإيمان وهو كريس مرسون، فهذا الرجل رد على هكسلي زعيم الإلحاد، فقد كتب هكسلي كتاباً اسمه: الإنسان يقوم وحده؛ فرد عليه هذا بكتاب الإنسان لا يقوم وحده، وترجم باسم العلم يدعو إلى الإيمان.
فذكر فيه أموراً عديدة، وتفصيلات دقيقة لحكمة الأحياء؛ لكنه لم يذكر فيه شيئاً عن حكمة وجود الإنسان؛ لأن هذا لا يملكه الإنسان الغربي، وقد تكلم عن الهداية فيقول -مثلاً-: إن الطيور التي تعشعش في بيوتنا، في فصل ما من الفصول، تهاجر وتقطع آلاف الأميال فوق البحار في فصول أخرى، ثم تعود إلى نفس العش، هذا شيء يثير الانتباه '.
ومنها أن الثعابين المائية -على نوعين: ثعبان الماء الأوروبي، وثعبان الماء الأمريكي- التي تهاجر من المحيط الأطلسي -إذا تجمد- إلى اتجاه المناطق الاستوائية الدافئة إلى مثلث برمودا، تهاجر وتموت هنالك؛ ولكنها تبيض في المناطق الاستوائية؛ والذي يحصل أن الثعابين الصغيرة المولودة -بعد أن تكبر- تعود وتهاجر إلى المناطق التي كان فيها آباؤها في أوروبا أو في أمريكا؛ بحيث أنه إذا ذهب الثلج وجاء الفصل المعتدل؛ نجد أن كل بحيرة فيها الثعابين المائية.
إذاً هناك نوع من الهداية، لأن الثعبان يعود إلى المكان الذي كان فيه أبوه، ولا يذهب إلى بحيرة أخرى.
وأكثر من ذلك! المسافة التي يقطعها الثعبان الأوروبي فهي -بطبيعة الحال- من شواطئ غرب أوروبا إلى برمودا، أكبر وأطول من أمريكا؛ ووجدوا -أيضاً- أن عمر الثعبان الأوروبي أطول بأشهر من الثعبان الأمريكي؛ وكأن هذا حساب للمسافة الزمنية، فكل شيء له حسابه ونظامه الذي يختص به دون غيره.
ثم نظر إلى النمل وقال: إنه وجد أن هذا النمل أنواع، فهناك نوع من النمل يطحن الطعام، أي: أن النمل يجمع الطعام فيأتي النمل الطحان فيطحن الطعام؛ فيطحن الحب ويجمعه، وإذا انتهى الطحن، وجاء موسم الأكل من المخزون؛ يقوم النمل الآخر فيقتل النمل الطحان، لأنه لو بقي لأكل مما طحن فلا حكمة من وجوده.
إذاً: يموت، وغيرها من الأشياء العجيبة!! وذكر -أيضاً- نوعاً من العناكب التي تعيش في الماء، فهذه العناكب تغوص وتبني عشها في أي شيءٍ ثابتٍ في قعر البحر، ثم تصعد إلى سطح الماء؛ لتحتفظ بفقاعة من الهواء، ثم تعود فتضعها في العش، وهكذا.
حتى تأتي بفقاعات ينتفخ بها العش من الهواء، ويكون فيه البيض والمواليد التي تضعها هذه العنكبوت في جو في قاع البحر بعيدٍ عن العواصف وبعيد عن الأخطار؛ وفي نفس الوقت الأكسجين موجود؛ لأن العنكبوت قد أخذت الأكسجين من الهواء الطلق، وهذا الأكسجين يكفي لأن تعيش العناكب حتى تكتمل، فإذا اكتملت تخرج وتصبح مثل الأم؛ تسبح في الماء وتبدأ تصنع أعشاشاً جديدة.
إذاً فكل شيءٍ له حكمة وكل مخلوق له نظام، كما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] وكل شيء له نظام يمشي عليه.
أما إذا انتهت الغاية من وجود هذا الشيء؛ فإنه ينتهي وجوده تلقائياً، وكأنه لا مبرر لبقائه.(16/12)
من وسائل نقل أمراض الغرب إلينا
كيف وصلت هذه العدوى إلى البلاد التي أُرسل إليها محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وإلى أمةٍ تتلوا القرآن وتقرأ السنة؟ ثم لا تدري لماذا جاءت، وإلى أين تذهب.(16/13)
مشاهدات واضحة
إن الدراسات التي يقوم بها العلماء الأوروبيون عن أي دين من الأديان كثيرة: فهم يذهبون إلى علماء الهند -علماء البرهمية - يزورونهم ويجالسونهم ويسألونهم عن الدين، وكيف ينظرون إلى الأمور؛ فيكتبون عنهم المصادر الموثقة، ويكتبون عن بوذا وغيره بأنهم رجال مصلحون عظماء فقد فعلوا وفعلوا.
لكن إذا أرادوا أن يكتبوا عن دين الإسلام: هل رأيتم مستشرقاً جاء إلى علماء المسلمين وأخذ يسألهم عن الإسلام؟ وهل يأخذ الحق من مصادره الصحيحة؟ وهل يستدل بتفسيرٍ صحيحٍ للقرآن ويستشهد به؟ لا.
بل تجده يخبط خبطاً عجيباً جداً ويفتري أشياء لا وجود لها في القرآن، أو في السنة، أو حتى عند المسلمين.
فمثلاً أصحاب دائرة المعارف الإسلامية، وهؤلاء هم أرقى طبقة من المستشرقين؛ فالغربُ كله يقدرهم ويجل أعمالهم العلمية، ولكن مع ذلك فلهم افتراءات عجيبة، وسأضرب أمثلة بسيطة جداً على ذلك: فمثلاً يقولون في قصة إبليس: في القرآن أن إبليس يبيض ثلاث بيضات، ومن كل بيضة يطلع نوع من أنواع الشياطين.
ففي أي سورة وفي أي آية نجد هذا؟! ومع ذلك فهم علميون محترمون لا يتكلمون إلا من منطلق العلم والبحث العلمي -كما يزعمون- فلماذا إذا تكلموا عن الإسلام فإنهم يختلقون ما شاءوا من الأكاذيب، وإذا تكلموا عن غيره فبالاتزان والهدوء والمراجعة؟ لماذا لا يذكرون صحيح البخاري ولا يستشهدون به؟ وإنما يستشهدون بكتب ككتاب الأغاني، وألف ليلة وليلة أو بالكتب السخيفة التافهة التي لا قيمة لها علمياً؟! إنما ذلك لأن الحقد في قلوبهم.
فهذا من الناحية العلمية.
ومن الناحية الواقعية؛ فإنه إذا حدث حدثٌ في الهند أو الصين أو في أي بلد من بلدان العالم فإننا نلاحظ كيف تتعامل معه النفسية الغربية؟! إنهم ينظرون إليه نظرة مجردة، فيأخذون الأخبار من مصادرها، ويجرون المقابلات مع زعماء الطوائف الانفصالية أو الثوار أو غير ذلك، حتى لا يقولون عنهم إلا القول الذي أخذوه عنهم، أو يقولون: تنسب الحكومة إليهم كذا، حتى لا يكونوا مفترين.
فإذا كان الأمر في بلاد المسلمين لفقوا التهم كما يشاءون عن المسلمين، ولا يسألون أبداً، ولا يستفسرون مِن صاحب الشأن من المسلمين: ما رأيك في كذا؟ ولماذا قلت كذا؟ ولهذا فإن كثيراً من القضايا الإسلامية لا نعرف حقيقتها إلا إذا جاءت مجلة أو صحيفة إسلامية، وقد تكون متأخرة جداً، فتعرف أن حقيقة الموضوع كذا وكذا؛ بينما سمعنا في الإذاعات والصحف الغربية أن الأمر يختلف تماماً! والأمثلة في هذا كثيرة.
المهم أن هؤلاء الذين لا يدرون لماذا جاءوا؟ ولماذا خلقوا؟ ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر؛ لا يمكن أن يريدوا لنا الخير؛ وبذلك لا يمكن أن يعيشوا في أنفسهم عيشة إنسانية.
وكما قلنا: إن الحيوان هو الذي يعيش عمره لحظة بلحظة، ولا يفكر فيما مضى ولا فيما هو آتٍ، وإن أكثر هؤلاء الناس لو سألناهم؛ لوجدنا أنهم يعيشون كالحيوان، يفكر في ذلك اليوم وكيف يسهر، وكيف يلعب، وكيف يترفه (في حدود ذلك اليوم) ولا يدري لماذا أتى؟ وإلى أين أذهب؟ فيجب أن نعلم أنها تربية عامة وليست تربية غربية.
ولذلك فإن البيان الشيوعي الذي قامت عليه الشيوعية والعالم الشرقي ينص على أن مطالب الإنسان الرئيسية هي الغذاء والمسكن والجنس -أي: المطالب الحيوانية فقط- وكذلك العالم الغربي، ففي أي مجال ننظر وندرس سواء كان ذلك في مجال العلاقات العامة، أو مجال الدراسات الاجتماعية، أو مجال البحوث الاقتصادية، فإننا نراهم يقولون: الغاية التي تسعى إليها المجتمعات والدول والأفراد هي الرفاهية الاقتصادية، والسعي إلى تحقيق أكبر ربح مادي وأكبر نسبة من التنمية ومن التقدم والاقتصاد، فهذه غاية الشرق والغرب، إنها مطالبٌ حيوانية، ونظرة حيوانيةوليس للإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها أي أثر.(16/14)
سبب انتقال هذه الأمراض
كثيرٌ من الشباب وصل به الأمر إلى هذا الحال؛ بل إنهم يتابعون ويلهثون وراء أولئك الضائعين الذين لا يدرون لماذا جاءوا وإلى أين يذهبون، وأكثر من ذلك أنهم ربما يعظمونهم ويجلونهم ويقدرونهم ويقتدون بهم في مناهج الحياة.
فهؤلاء الصم البكم الذين لا يعقلون، والذين لا يسأل الواحد منهم نفسه لماذا جئت إلى هذه الحياة، وإلى أين نذهب بعد الموت هؤلاء يتبعهم بعض شباب المسلمين ويقولون لهم: تعالوا نظموا لنا حياتنا! ونريد أن تكون حياتنا العلمية والاجتماعية، بل كل أمورنا على ما تسيرون عليه وهل يمكن للحيران الأعمى أو التائه الضائع الذي لا يجد حلاً لنفسه أن يعطي لغيره الحل؟! وسبب هذه المصيبة أن الإنسان الغربي لما نظر وتصور أن دينه هو أفضل الأديان، وأنه قد ترك دينه فقال: إذاً أنا فعلاً لديَّ هداية؛ وأصحاب الأديان الأخرى التي هي أقل من ديني يجب أن يأخذوا مني؛ لأن عندي تجربة إنسانية في بعض مناحي الحياة، وديني قد تركته؛ فمن الطبيعي أن أصحاب الديانات الأخرى يتبعوني ويأخذون ما عندي؛ لأنهم يتصورون أنه إذا كانت النصرانية ملأى بالخرافات؛ ففي الإسلام أضعاف أضعاف ذلك من الخرافات عياذاً بالله تعالى.
فهكذا هي نظرتهم، ونحن نصدق نظرتهم حين نتبعهم، ونقتفي آثارهم، ثم نسير عليها ونكِّيف أنفسنا وفقها، هذا هو الواقع شئنا أم أبينا؛ كأننا الآن نقول للعالم الغربي: لم نتخذك قدوة إلا لأنك تملك من الحق ما لا نملك، ولأنك تركت خرافات النصرانية ونحن -أيضاً- نترك خرافات الإسلام عياذاً بالله.
فهذا واقع الحال، وإن كان بعض المقلدين لهم يقولون: لا.
نحن لا نأخذ منهم الدين! إذاً فما الذي تأخذ منهم؟ ألست تأخذ منهم منهج حياتك كلها؟! وهذا هو الدين وهم لا يملكون غير ذلك، أما دينهم فقد تركوه؛ إلا ما بقي من تعصب له ضد الإسلام.
فإذا قورن دينهم بالإسلام، فكلهم يتعصبون لدينهم ويقولون: ديننا صحيح والإسلام باطل، وأما إذا قلت لهم: ما رأي العلم في دينكم؟ قالوا: ديننا باطل، من الجهة العلمية والعقلية؛ لكن من جهة مقارنته بالإسلام؛ فهو الحق وهو الصحيح؛ لأنه لا يُجوِّز تعدد الزوجات، ولأنه لا يحرم المرأة من الفواحش وغير ذلك؛ ويقولون: إن الإسلام هو الذي يقف حجر عثرة أمام الحضارة والرقي وأمام التقدم.
ومن هنا نعلم لماذا حذَّرنا الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- من انتهاج طريق الذين كفروا، ومن اتخاذهم أولياء عندما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1].
فحذرنا الله من هؤلاء، ولو أنهم أرادوا أن يعطونا الهداية والحق؛ فإنهم لا يملكونه، كيف وهم يحملون علينا الحقد ولا يريدون إلا الكيد والمكر وسوء العاقبة، ولا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة؟! فلو أقسموا الأيمان المغلظة على أنهم يريدون مصلحة الأمة الإسلامية؛ لكانوا كاذبين، ولو فرض أن بعضهم أراد الخير؛ فإنه لا يملكه، فهو مثل إنسان جاهل زعم أنه طبيب، ولو أخلص وأراد أن يعالج أحداً لقتله؛ لا لأنه يريد أن يقتله؛ لكن لأنه ليس بطبيب.
فهؤلاء الغربيون ليسوا بأطباء؛ بل هم قتلة متعمدون لهذا الدين، فلا يريدون أن تعود هذه الأمة إلى مجدها لحظة واحدة، وأنا أضع أسباباً حتى يُعلمَ أن الحائر الضائع الذي لا يدري لماذا جاء وإلى أين يذهب لا يمكن أن يهدي أحداً غيره.(16/15)
الأسئلة(16/16)
تربية الأبناء على العبادة الصحيحة
السؤال
كيف نربي أبناءنا على فهم العبادة بمفهومها الصحيح؟
الجواب
من المهم في التربية أن نربي أنفسنا وأبناءنا على العبادة بمفهومها الصحيح، فبعض الناس لا يفهم من الإسلام إلا بأنه عدو للدنيا يحارب الرفاهية والمال والزوجة، يُحارب كذا وكذا إلخ.
وهذه ليست العبادة الصحيحة، ومن هذا الباب يأتي الإنسان الضال فيقول: الأفضل أن أعيش متنعماً ومترفهاً، وأجمع المال وأعمل وأعمل إلخ.
فلا نكون مثل هذا الإنسان.
وبعض الناس لا يفهم أيضاً من الدين إلا أن الدين يسر، وكلما كلمته في شيء، قال لك: الدين يسر.
وإذا سألته: ما حكم هذا الشيء؟ يقول: ليس فيه شيء، فالدين يسر.
الاختلاط؟ الدين يسر.
الربا؟ الدين يسر.
أكل مال اليتيم؟ الدين يسر لا تتشدد ولا تفعل إلخ.
فهذا يبيح كل شيء، وهذا يحرم ما أحل الله، فتكون حيرة المجتمع وحيرة الناس من هذا ومن ذاك، وهذا يرد على هذا، فهذا يقول له: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاش عيشة الزهد والتقشف والتواضع وكذا وكذا وذاك يرد عليه إن الله تعالى يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] وأنه ما يشادّ الدين أحد إلا غلبه فهذا عنده أدلة وهذا عنده أدلة، فهذا أخذ بجزء من الحق وهذا أخذ بجزء من الحق وأما العبادة الصحيحة لله عز وجل، والتربية الصحيحة فهي أننا نأخذ الحق كله، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] أي: ادخلوا في الإسلام كله، فهو يضمن لك الحياة الصحيحة في الدنيا، ويحثك على العمل، وينهاك عن الاغترار بالدنيا، فيبيح لك الطيبات؛ لكنه ينهاك عن الانغماس فيها ونسيان الآخرة، فهو توازن في جميع الأمور.
فالعبودية لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تكون: بأن تكون كل أمورنا في الحياة على وفق الإسلام؛ فلا يغلو طرف على الطرف الآخر؛ وبذلك تكون حياتنا صحيحة، وعبادتنا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صحيحة، وجميع حياتنا عبادة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ حتى اللقمة يرفعها الرجل إلى فيِّ امرأته له فيها أجر، حتى وهو يأتي أهله ففي بضع أحدكم صدقة، حتى وهو يفكر ويعمل في أمور تنفع المسلمين ولمصلحتهم فله في ذلك أجر وهكذا.
فلا نحارب الدنيا لمجرد أنها دنيا، ولا نحارب أيضاً التزهد والترفع عن متاع الدنيا وزخارفها؛ لمجرد أن ديننا دين يسر وأنه يحل الطيبات ويحرم المحرمات.
والحمد لله رب العالمين.(16/17)
الرد على نظرية دارون
السؤال
كيف يمكن الرد على نظرية دارون؟
الجواب
الرد على هذه النظرية وعلى غيرها له جانبان: الجانب الأول: نحن المسلمين إيماناً منا بديننا وبصحة ما نحن عليه من الكتاب والسنة -والحمد لله- الأصل أننا لا نتأثر بها على الإطلاق؛ لأنها لا تجد في بلاد المسلمين موضع قدم، ولأننا نعلم جميعاً أن الله تبارك وتعالى خلق آدم عليه السلام، ومن ثم تناسلت السلالة الإنسانية أو الجنس البشري من ذرية آدم وحواء -وهذا لا شك فيه عند أي مسلم عالم أو جاهل- أما ما يتعلق بالأحياء الأخرى، فهذا لا يهمنا كثيراً.
فإذا أثبتوا أن الله تعالى هو الذي خلقها لكنه جعل بعضها ينتج من بعض، فلا مانع.
وأما إذا قالوا: هذه نتجت من ذاتها عن طريق التولد الذاتي أو عن طريق الخرافات التي يقولونها؛ فهنا نرد عليهم.
فالجانب الأول هو الرد الديني بالكتاب والسنة، وهذا معروف لدى كل مسلم، ومن شك في ذلك فهو كافر؛ لأنه يكذب صريح القرآن.
الجانب الثاني: وأما من الناحية العلمية المجردة فقد رد عليها كبار علماء الغرب، ومن الردود العلمية عليها: أن نظرية التطور تقوم أساساً على أن الأنواع تتطور عضوياً بحيث تنتج أنواعاً جديدة، وكل نوع ينتج نوعاً آخر فعن طريق الوراثة المتسلسلة المتتابعة تنتج أنواعاً جديدة، وهذا ملخص النظرية الذي يرد بها العلماء المعاصرون على هذه النظرية.
يقولون: إن دارون لما كتب هذه النظرية؛ لم يكن يعلم هو ولا علماء عصره شيئاً عن ناقلات الوراثة -الجينات- فهذه لم تكتشف إلا بعد دارون بزمان، وهذه الخلايا كل خلية تحمل كل خصائص الجنس، أي: أن الخلية الإنسانية كأنها مصغر للإنسان ككل، ولهذا يقولون -مثلاً-: التوائم تتشابه لأنها لخليتين حيتين متقاربتين انتجت التوائم، لكن لا يوجد شخصان متشابهان في كل شيء أبداً، فلا بد من فروق عضوية.
فناقلات الوراثة هي علم جديد اكتشف، وفيه من العجائب ما يبهر الألباب.
ولم يكن دارون ومن معه يعرفون هذا العلم؛ وإنما نظروا نظرة ظاهرية فقط، وهي أن هناك تشابه بين بعض الحيوانات وبين بعض.
فقالوا: يمكن أن هذا أصله من هذا، فحكموا من الشكل الخارجي فقط، ولكننا عندما ننظر إلى الحقائق الدقيقة العلمية، والخلايا وما يتعلق بها، فإننا نجد الفروق المختلفة المتباينة جداً، بحيث لا يمكن ولا يصح بأي حال من الأحوال أن يقال إن هذا الجنس هو أصل لذلك الجنس أبداً.
وهذا رد من ردود كثيرة جداً يقولها علماء الأحياء الكفرة الغربيون على نظرية دارون.(16/18)
التمسك بالدين سلاح المواجهة في وجه الأعداء
السؤال
كيف يمكن مواجهة الإعلام الغربي وحملاته على الإسلام هنا وفي بلاد الغرب؟
الجواب
هذا السؤال يجرنا إلى قضية كبيرة جداً أكبر من هذا السؤال وأكبر من هذا الموضوع، وهي: أننا دائماً نسأل كيف نقاوم الشيوعية، ونقاوم الإلحاد، وكيف نقاوم النظريات الوافدة، ونقاوم التشويه الذي يقوم به الإعلام الغربي، كيف وكيف وكيف إلخ.
وأنا أقول: إنه لا يمكن أبداً أن نقطع ألسنة الناس عنا أبداً، ولا يمكن أبداً أن نصل إلى مرحلة نأمن فيها من شر الشرق أو الغرب أبداً، فقد قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] وقال أيضاً: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] فلا يمكن ذلك.
ونحن اليوم -كما يقول بعض العلماء- ندفع ضريبة الانتماء للإسلام، كيف؟! ليس فينا من الإسلام إلا -ما يعلمه الله- شيءٌ قليل جداً، لكن الغرب ينظر إلينا على أننا مسلمون.
فبعض المسلمين صاروا شيوعيين ماركسيين تماماً؛ لكن الشيوعي الروسي يعاملهم على أنهم ذيل؛ فالشيوعي الأوروبي درجة أولى، والشيوعي الأسيوي أو الأفريقي درجة ثانية، أما الشيوعي الذي هو من بلد مسلم فهو آخر الشيوعيين وأحطهم.
وكذلك في الغرب، فإذا وجد إنسان وقد صار أمريكياً تماماً في فكره وحياته وكل شيء؛ فإنه لا يعتبر أمريكياً ولا ينظرون إليه على أنه مثل الأمريكي الآخر؛ وإنما هو من درجة بعيدة؛ بل إن أحط درجة من درجات الحياة الأمريكية هي التي يعيشها هذا الإنسان.
ولذلك نقول: كيف نقاوم: الإعلام والزنا والنوادي الإباحية والاختلاط، وهل هذا ممنوع في أمريكا؟ لا.
هل سمعتم أن أمريكياً يُعيَّر أنه عضو في نادٍ مختلط مثلاً؟ لكن لماذا إذا ذهب مسلم إلى هذه الدعارات شوهتموه؟ نقول: الحمد لله! هذه نعمة! لأن هذا المسلم يحمل ضريبة الانتماء للإسلام، فضريبة ذلك أن تنسب إليه جميع التهم، وإن كانت في نظرهم ليست بعيب ولاتهمه أو عار، فنحن ندفع هذه الضريبة.
ولا يمكن -أبداً- أن يسكت عنا الأعداء؛ لا بالإعلام أو بغير الإعلام، ولا يجوز لنا أن نلوم أعداءنا، وكما قال تعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165].
فنحن مسئولون أمام الله وأمام أنفسنا عن كل هذه الأمور؛ فيجب أن نؤمن بالله وأن نتمسك بديننا، وهذا هو الذي يدفع عنا كل شر، ومع ذلك سيشهرون ويتكلمون، لكن لا نبالي بهم، المهم أنه لا طريق لنا إلا أن نعود إلى ديننا، ولو استأجرنا مئات الإذاعات في أوروبا ومئات الصحف في أمريكا لتثني علينا، لما تغيرت صورتنا عندهم أبداًَ! ولو أنفقنا لهم ملايين الدنيا ليسكتوا عنا لسكتوا إلى حين أو إلى مصلحة ثم شهروا بنا من باب آخر.
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما خلق الناس جعل منهم مؤمنين وكافرين، وجعل هذا عدواً لذاك، فنحن نخطئ خطأً كبيراً جداً إذا ظننا أننا نستطيع أن نسترضي الكافر أو نستعطفه أو نسترحمه بأي شكل من الأشكال؛ والصحيح أننا نطبق فيه حكم الله وشرع الله ونعامله كما أمر الله تعالى، فهذا الذي يقينا شره كما قال سبحانه: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] أي: بالصبر والتقوى، وأما بوسائل الإعلام أو أشياء أخرى؛ فهذه لا يمكن أن تكفهم عنا أبداً.(16/19)
الهندوسية والبوذية وغيرها ديانات باطلة
السؤال
هناك عدة ديانات مثل: الهندوسية والبوذية، يقال: إن هذه الديانات كان أصلها ديانات سماوية ولكنها حرفت وبادت، مع العلم أنها تتفق مع ديننا في الإيمان بعالم الأرواح، فنرجو منكم التوضيح.
الجواب
يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24] فلا يوجد أمة من الأمم إلا وقد بعث الله تبارك وتعالى إليها: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165].
ولكن بعض هذه الأمم حرفت وغيرت وبدلت والموجود الآن من الأديان في الأرض لا ندري هل هو تحريف لذلك الدين، الذي هو التوحيد والشرائع التي أنزلها الله تبارك وتعالى أم أنها تحريفات متوالية، أي أن القرون توالت والتحريف موجود لكن هناك تحريفات توالت، وهناك بدع أحدثت، وأديان أحدثها البشر ونسبوها إلى الأديان الأولى التي حرفت.
فتراكمت الانحرافات والضلالات حتى وصلت إلى الحالة التي هي موجودة عليها اليوم؛ فلذلك لا ندري! هل بوذا نفسه كان نبياً، ونسب إليه هذا، أم أنه كان من أتباع بعض الأنبياء، وكان محرفاً للدين وابتدع البوذية؟ فهذا الله تعالى أعلم به، وهذا تاريخ سحيق ولا نملك فيه إلا أن نقول: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134] وأن نعتقد أن الدين الحق عند الله هو الإسلام، وما عداه فهي أديان باطلة لا يقبلها الله تبارك وتعالى ولا يدخل من دان بها الجنة أبداً، بل هم من أصحاب النار.(16/20)
الإقرار النظري بحكمة الوجود لا يكفي
السؤال
الإنسان مخلوق للعبادة، وهي عبادة الخالق عز وجل، ما حكم من يقر بهذا الأمر ويفعل خلافه؟
الجواب
إذا كان كل مسلم لو سألته لماذا خلقت؟ وما الحكمة من وجودك؟ يقول: خلقت لعبادة الله، لكن هل يكفي هذا؟! وانظر إلى واقع كثير من المسلمين.
فإذا كان هذا نظرياً فهو يعيش حياة الذين لا يؤمنون؛ ولذلك لا يكفي الإقرار النظري، وإنما يجب أن يتحول إيماننا بهذا الإقرار إلى عقيدة صادقة، تغير حياتنا وتحرك أعمالنا، وفق ما أمر الله تبارك وتعالى به من الإيمان الصحيح، والالتزام بدين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما شرع.
هذا هو الإيمان الصحيح، وهذا الذي تحتاجه الأمة الإسلامية اليوم؛ أما مجرد الإقرار أن للوجود حكمة، ولي حكمة وهي العبادة، دون أي عمل؛ فإن هذا يحول الإيمان إلى مسألة ذهنية فلسفية، يمكن حتى للإنسان الأوروبي أن يؤمن بها، ولكن لا أثر لها في حياته.(16/21)
الدين والحضارة
السؤال
كيف نرد على من يقول: إن الدين عقبة في التقدم الحضاري والتكنولوجي بالذات، لأن هذا هو الذي نراه من كثير من المسلمين قديماً وحديثاً؟
الجواب
هذا السؤال الإجابة عليه تحتاج إلى أن نستفصل ما هو الدين؟ فإذا قال الإنسان الأوروبي: الدين عقبة في سبيل الحضارة، وإذا قال كذلك الإنسان الهندي: الدين عقبة في سبيل الحضارة، وإذا قال الإنسان البوذي في الصين أو غيره: الدين عقبة في سبيل الحضارة؛ فنقول: نعم.
دينكم عقبة؛ لأنه دين أنتم وضعتموه، قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] وليس هو الدين الذي أنزله الله تبارك وتعالى.
أما الإسلام فلماذا أنزله الله؟ قال سبحانه: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:1 - 2] أي ما أُنزل هذا الدين ليشقى أبداً، بل: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123].
إذاً: هذا الدين أنزله الله تبارك وتعالى لسعادتنا، فإذا كان من سعادتنا أننا نتقدم بالتكنولوجيا، فبدلاً من أن نركب الجمال؛ نركب الطائرات فهل يُحرِّم الدين ذلك؟ إن دين الله تعالى الغني غنىً مطلق عنا، الكريم كرماً لا حدود له على الإطلاق، الذي خلق لنا ما في الأرض وأمرنا أن نمشي في مناكبها كما قال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15] وأحل لنا الطيبات جميعاً، وأمرنا بالتفكر في الكون، وأمرنا أن نتخذ كل وسيلة فيها خيرٌ لنا كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {احرص على ما ينفعك} وندعو ربنا تبارك وتعالى كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أكثر ما يدعو ربه يقول: اللهم آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
فالدين يحثنا على العمل الدنيوي، وعلى حسنة الدنيا وخير الدنيا؛ ويريدنا أن نكون قادة للعالم نتحكم فيه بالحق والعدل والهدى الرباني؛ فكيف يكون عقبة في طريق الحضارة والتقدم؟ هذا إذا كانت حضارة حقيقية.
وأما إن كانت الحضارة شيئاً آخر أو كانت حضارة التعري؛ فالإسلام عقبة كبرى في سبيل التعري، وإن كانت الحضارة إدمان المخدرات والتكبر على عباد الله بهذه القوة التكنولوجية؛ فالإسلام يقف ضدها؛ لأنها تؤدي إلى شقاء الإنسان ولا تؤدي إلى سعادته.
أما الله تبارك وتعالى الغني الحميد، فإنه قد شرع لنا ما هو خير لنا في دنيانا وأخرانا، وهو أكرم وأجل وأفضل من أن يشرع لنا ما يضرنا وما يضيق به علينا، وليس للمسلم فقط؛ بل وللكفار الذين يرضون بالطاعة، ويدخلون في طاعة المسلمين، ويدفعون الجزية، يمتعهم الإسلام المتاع الحسن ويقبل منهم الجزية، ويعيشون مطمئنين، ويتعبدون كما يريدون.
فإذا كان ديننا يحقق الحياة الكريمة، لمن لا يؤمن به؛ لأنه خضع ظاهراً للدين؛ فكيف بالمسلم الذي يطبق هذا الدين؟ فهذا يجب أن يكون قائداً للإنسانية، ويجب أن يكون موجهاً للأمم جميعاً، وهذا لا يكون إلا بالتمسك بهدى الله وشرعه.(16/22)
الحضارة التي تسعد الإنسان
السؤال
لقد اهتممت بموضوع الحضارة وأثرها في المجتمع، فهل سوف ترجع الدنيا كما كانت؟ وما هي الحضارة التي تسعد الإنسان وترقى به إلى كمال الإنسانية؟
الجواب
قوله: هل سترجع الدنيا كما كانت، بمعنى أن الإنسان سوف يفقد الحضارة الموجودة اليوم.
أقول: إن الحياة الإنسانية مد وجزر؛ حتى إن بعض الباحثين من الأوروبيين يرون أنه لا يستبعد أن تكون قد وجدت حضارات من قبلنا أرقى منا مادياً ثم تدمرت لأي سبب من الأسباب، إما انفجارات نووية أو غيرها.
وأما الجانب الشكلي من الحياة: -جانب الرقي المادي التكنولوجي أو عدمه- فإنه يرتفع وينخفض على مستوى الإنسانية جميعاً، وعلى مستوى الشعوب أيضاً، فيمكن أن يكون شعب من الشعوب هو قائد العالم في الحضارة المادية، وقد يسلم القيادة إلى شعب آخر وهكذا.
ولهذا فـ الولايات المتحدة -مثلاً- كانت تخشى من اليابان؛ والآن اليابان وأمريكا تخشيان من كوريا وهذه لا علاقة لها بالدين ولا بالهداية، فمن الممكن لأي شعب أن يُمكَّن له مادياً ولكن هل يدوم؟ إن هذا لا يدوم.
إلا إذا كان على الإيمان والتقوى.
فإذا كانت الحضارات التي تقوم على الإيمان والتقوى واتباع أمر الله تسقط إذا انحرفت وارتكبت المعاصي والترف والفجور؛ فما بالك بالحضارات التي قامت من أصلها على المادية والإلحاد، فإنها تذهب وتعود إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.
وقد تقوم الساعة والناس في قمة من الحضارة المادية، وقد تقوم وهم دون ذلك بكثير، وقد تقوم وهم أنواع أو أخلاط، وإن كانت الأحاديث الصحيحة الواردة -مثلاً- في قتال المسلمين للروم في آخر الزمان حين يقرب خروج الدجال، ومن ثم انتهاء هذا العالم، يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إني لأعرف أسماء خيولهم -لأنهم سوف يقاتلون على الخيول- ويربطون خيولهم على الزيتون} وهذا يدل على أن وسائل القتال سوف تكون بالوسائل المادية المعروفة سابقاً، وليست الوسائل الحديثة، والله تعالى أعلم، فهذا من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله.
فالمهم هو أن الحضارة التي تُسعد الإنسان وترقى به إلى كمال الإنسانية، هي الحضارة التي تقوم على الإسلام، قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] وأما على أي دين آخر فلا يمكن أن توجد أبداً؛ لكنها تقوم على الإسلام، على كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى عقيدة أهل السنة والجماعة وليس أي إسلام، بل على الاعتقاد الصحيح.
فهذه هي التي يسعد الإنسان فيها في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً * وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:122 - 124] فالإسلام هو سبب النجاح والسعادة في الدنيا والآخرة، والإعراض عنه سبب الهلاك في الدنيا والآخرة أيضاً.(16/23)
أسباب النصر
تحدث الشيخ حفظه الله تعالى في درسه هذا عن الأسباب الحقيقية للنصر، مبيناً ضرورة رجوع المسلمين إلى دينهم الذي يعد السبب الرئيسي لتنزّل النصر على الأمة، ثم ذكر بعض الوسائل المعينة على النصر، مبيناً ضرورة العمل على تحقيقها في واقع الأمة، وبذل قصارى الجهد في ذلك، ومن ثم انتظار نصر الله الذي لا يخلف وعده، وذكر الوسائل المُعينة على النصر، وأخذ يوضحها بإسهاب، ثم ضمنها بشعر حول الأوضاع الراهنة من تأليفه.(17/1)
المستقبل لهذا الدين
الحمد لله الذي كتب العز والنصر والتوفيق لمن أطاعه واتقاه، وكتب الذل والخزي والعار على من خالف أمره وعصاه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد القائل: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وكتب الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم} وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: إن الأحداث التي تعيشها الأمة الإسلامية هي ملء السمع والبصر، وإنها لأحداث ينطبق عليها قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث الصحيح حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها لما ذكرت أنه قام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فزعاً محمر الوجه من نومه ذات يوم وهو يقول: {لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعيه السبابة والوسطى}.
إنها لفتنة عظيمة، وسوف نبين -إن شاء الله- من خلال هذا الموضوع ما يجب على هذه الأمة حيال أسباب النصر المستنبطة من كتاب ربنا ومن سنة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي ما من خير إلا وقد دلنا عليه، وما من شر إلا وقد حذرنا منه إلى قيام الساعة، فصلى الله وسلم وبارك عليه، فهو نبي الرحمة ونبي الملحمة، جاء بهذه وهذه، ودلنا على الخير كله، ونهانا عن الشر كله، وما أصابنا من خير فمن الله وباتباع سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما أصابنا من شر فمن أنفسنا وبمخالفتنا لأمره وسنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إن النصر للإسلام، وإن المستقبل لهذا الدين بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإن الله قد وعد عباده المؤمنين بالنصر، كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52] وقال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] وقال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41].
فالنصر -بإذن الله- والمستقبل للإسلام، وما هذه المحنة إلا حلقة من محن كثيرة ومصائب كبيرة يحفل بها تأريخنا الإسلامي، فأي صفحة من تأريخنا ليس فيها وقائع ومعارك وأعداء يتكالبون؟! أي صفحة من تأريخنا ليس فيها دماء وفتن ومصائب؟! وهذا هو قدر هذه الأمة، وهذا هو ما أراده الله تبارك وتعالى لها، وهذه سنة الله عز وجل فيها، فيبلوها ويبتلي بها.
فهذه هي إرادة الله في الدنيا كلها قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} [الحج:40](17/2)
العاقبة للمتقين
إن من سنن الله في الحياة أنها كفاح، وصراع، ومعركة دائمة، ولكن العاقبة للمتقين، والعاقبة للتقوى، وقد أخبر الصادق المصدوق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في أحاديث كثيرة بأن العاقبة -فعلاً- لهذا الدين، كما في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله تبارك وتعالى بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله الإسلام، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر} فلن يبقى بيت -ولا سيما في هذه الجزيرة وما حولها- إلا ويدخل الله تبارك وتعالى فيه هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى على هذا الدين، وسوف يبلغ ما بلغ الليل والنهار.
إن هذا العالم الجديد -كما يسمونه- الأمريكتين وما جاورهما، واستراليا - لم يكتشف إلا قريباً، ولم يكن الصحابة والتابعون ومن بعدهم يعلمون عنها شيئاً، وسوف يبلغها هذا الدين بإذن الله، وسوف يدخلها ويحكمها شرع الله -بإذن الله-؛ لأن هذا ما وعد به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(17/3)
فتح القسطنطينية
وقد أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الآخر من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما لما سئل عبد الله بن عمرو أي المدينتين تفتح أولاً مدينة هرقل يعني القسطنطينية أو روميه فقام عبد الله بن عمرو ليؤكد للسائل وللحاضرين ما قال، وأتى بصندوق له فيه حلق وفتحه وأخرج منه كتاباً وقرأه، فإذا فيه: {بينما نحن جلوس عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ سئل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي المدينتين تفتح أولاً؟ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مدينة هرقل تفتح أولاً} أي: القسطنطينية، وإلى الآن لم تفتح المدينة الأخرى، وهي مدينة رومية -أي روما عاصمة إيطاليا ومقر الفاتيكان - وسوف تفتح وتدخلها جيوش الإيمان، وترفع فيها راية لا إله إلا الله محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(17/4)
الفتوحات التي بشر بها النبي صلى الله عليه وسلم
ورد في صحيح مسلم من حديث جابر بن سمرة، ونافع بن عتبة رضي الله عنهما في آخره يقول جابر رضي الله عنه: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله عز وجل، ثم تغزون فارس فيفتحها الله عز وجل، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله} فقال نافع: يا جابر أرى أن الدجال لا يخرج إلا بعد فتح الروم.
فالدجال لا يخرج إلا بعد فتح الروم، وهذه الجملة تصدقها أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما، من أن المسلمين يفتحون القسطنطينية وهي عاصمة الروم في القديم، وهي أكبر مدينة في الامبراطورية الرومية الشرقية كما كانت تسمى.
وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم: {أن المسلمين يفتحونها -ولعله في إحدى المرات- بالتكبير، فيأتون إلى المدينة نصفها في البر ونصفها في البحر، فيقولون: لا إله إلا الله، فيسقط النصف الأول الذي في البحر، ثم يقولون: لا إله إلا الله، فيسقط النصف الآخر الذي في البر}.
وهناك أحاديث كثيرة تدل على أن هذه الأمة منصورة وغالبة، ومظفرة، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سوف يفتح لها الأرض، وأنه مهما اعتراها من خلل، ومهما دخلها من عوج، ومهما كان فيها من دخن، فإن العاقبة للطائفة المؤمنة المنصورة، وهذه الطائفة موجودة فيها، وستظل ظاهرة وغالبة على الحق، حتى يُظهِر الله عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان حكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويضع الجزية، ويقتل الخنزير، وتترك القلائص -وهي الإبل الثمينة- لأن الناس ينصرفون عن الدنيا إلى الجهاد، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ويدعو إلى المال -أي عيسى عليه السلام- حتى لا يجد من يأخذه} وفي هذه الأثناء تكون الطائفة المؤمنة والعصبة المنصورة، في بلاد الشام.
فيأتي عيسى عليه السلام إليها، فيقدِّمه الإمام فيأبى إلا أن يصلي وراءه، وفي ذلك يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وإمامكم منكم تكرمةً من الله تعالى لهذه الأمة} فيصلي عيسى عليه السلام، خلف إمام من هذه الأمة ومع هذه العصبة المؤمنة، ويصبح عليه السلام -وهو من أولي العزم من الرسل، وهو الذي تعبده النصارى وتشرك به من دون الله عز وجل- معدوداً ضمن الطائفة المنصورة التي هي من هذه الأمة تكرمةً من الله تعالى لهذه الأمة، لأنه يحكم بشريعتها، ويكون كواحد منها، ويصلي خلف إمامها.
فالأحاديث كثيرة، والعبر كثيرة، فما من زحف ابتلى الله تبارك وتعالى به هذه الأمة إلا وَرُدَّ على أعقابه خاسراً حسيراً مقهوراً بإذن الله عز وجل.(17/5)
وما النصر إلا من عند الله
أما القضية الأخرى فهي أن النصر من عند الله، وهذا -أيضاً- صريح كلام الله وما دلت عليه سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال الله تبارك وتعالى لعبده وصفيه وخليله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:125] وقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186] وقال في موضع آخر: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ} [آل عمران:120].
سبحان الله! عندما يقترن الصبر والتقوى في مواجهة الأعداء نغلبهم -بإذن الله تبارك وتعالى- كما قال عز وجل: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:125 - 126] وقال تعالى في آية الأنفال: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10] إذاً فالنصر من عند الله، مهما تكالب الأعداء، ومهما كانوا أقوى عدداً أو عدة، فالنصر من عند الله عز وجل يهبه لمن يشاء، وما يهبه إلا لعباده المؤمنين إذا اتقوا وآمنوا وصبروا وتحقق فيهم ما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالله سبحانه هو الحافظ والناصر.
ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، وإذا اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك} فالعدة والعدد إنما هي وسائل قد أمر الله تبارك وتعالى بها فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60].
وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ألا إن القوة الرمي} والرمي يشمل أي نوع، وما يزال الرمي -إلى اليوم- هو الحاسم في المعارك، ولكن كل هذه العدة والعدد لا تعني أن النصر من عند البشر مهما كان هؤلاء البشر؛ بل هو من عند الله سبحانه، فهو ينصر من يشاء ويؤيد من يشاء.
وقد ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الآيات السابقة أنه أيد المؤمنين بالملائكة، ومن نظر إلى الجيش الذي فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤيد بالملائكة، وهم جند الله الذي لا يقهر ولا يغلب، ومع ذلك لم يسمح المؤمنون لأنفسهم وهم يقرءون هذه الآيات أن يعتقدوا أن النصر من عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو أن النصر من عند ملائكة الله؛ لأن الله لا يرضى بذلك.(17/6)
تفرد الله تعالى بالتأييد بالنصر
نصت الآيات السابقة على أن النصر من عند الله وحده، وليس من عند رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أكرم الخلق عليه، ولا من عند ملائكته، وهم الذين يدبر الله بهم هذا الوجود، كما قال تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً} [الصافات:1 - 2] وقال: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} [المرسلات:1] وقال: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} [النازعات:5] وقال: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} [الذاريات:1] كل هذه الصفات ذكرت الملائكة التي يدبر الله تعالى بهم ملكه وأمره، وهم كما قال الله -تبارك وتعالى- فيهم: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، فهؤلاء هم العباد المكرمون الذين يشفعون عند الله -تبارك وتعالى- لقيمتهم ولمنزلتهم يشفعون، ولكن ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، ومع ذلك لا يرضى الله -تبارك وتعالى- أن ينسب النصر إليهم، وإنما النصر من عند الله تبارك وتعالى، فيريد الله عز وجل أن يعلمنا أن النصر من عنده وحده، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، فهو إن شاء أرسل ملائكة وإن شاء أرسل ما شاء، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور} فالريح دمر الله تبارك وتعالى بها أعتى أمة ظهرت على هذه الدنيا -عاد إرم ذات العماد- والتي لم يخلق مثلها في البلاد، أهلكهم الله تبارك وتعالى بالريح، ولو جاءهم عدو محسوس يرونه لربما صارعوه وغالبوه، ولكن الريح لا يستطيعون أن يقاوموها أبداً، فأتت عليهم، فدمرت كل شيء بأمر ربها، فأصبحوا كما قال تعالى: {لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] وأصبحوا كما ذكر الله تبارك وتعالى {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر:20].
وكذلك نصر الله تبارك وتعالى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على جيش الأحزاب الذي أحاط بـ المدينة النبوية إحاطة السوار بالمعصم، وسلط على هذا الجيش ريح الصبا، فهذا من جند الله تبارك وتعالى.
ومن جنود الله تبارك وتعالى الماء، وقد أغرق به قوم نوح الأمة العظيمة الأولى، أول أمة خالفت أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكذبت أول رسل الله فعذبها الله تبارك وتعالى بالماء والطوفان، وأغرقهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به، فأمر السماء أن تأتيهم بالمطر، قال تعالى: {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:12].
وقد حدثنا بعض إخواننا الثقات، الذين كانوا مع المجاهدين في أفغانستان ببعض العجائب، أذكر منها ما يتعلق بالغاز السام الذي خفنا من ذكره، قبل أن نراه ولن نراه إن شاء الله قالوا: والله لقد رأيناه ولقد ألقي علينا، وكنا نتضرع ونلجأ إلى الله تبارك وتعالى.
قال أحدهم: والله إنه انعقد مثل الغمامة فوق رءوسنا، وجاءت الريح وأخذته وألقته على رءوس الكفار، والحمد لله رب العالمين.
ويقول الآخر: أصابنا دوار شديد وتعب شديد، وكنا نظن أننا سنموت، فتضرعنا إلى الله تبارك وتعالى، فأذهب عنا ما بنا بعد يوم أو يومين، وعدنا كما كنا، وقد ظنوا أنه لم يبق منا بشر.
فهذه هي أعتى وأقوى دولة في العالم بعد أمريكا، ومع ذلك لم تقف قوتها أمام الريح التي يسوقها الله تبارك وتعالى، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] فالنصر -إذاً- من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا ما يجب أن نربي عليه الأمة، فإذا علمناها أن المستقبل لها وأن العاقبة لها، وأن النصر لها، فلتلجأ ولتتضرع إليه، ولتدعوه، ولتطلب منه نصرها، فإننا نكون قد جعلناها في المسار الصحيح.(17/7)
كيف نحيي الدين في أنفسنا
القضية الثالثة التي أحب أن أتطرق لها، هي: كيف يأخذ المسلمون بأسباب النصر؟ وكيف يرجعون إلى دينهم؟ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر، واشتغلتم بالزرع أو بالضيعة، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه أو لا يضعه حتى ترجعوا إلى دينكم}.
إذاً: فلا بد أن نفكر كيف نرجع إلى ديننا، وكيف نأخذ بالأسباب التي ننتصر بها على أعدائنا، ومن هذه الأسباب:(17/8)
الضراعة إلى الله تبارك وتعالى
قال تعالى في قصة قوم يونس: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا} [يونس:98] فهم آمنوا فكشف الله تبارك وتعالى عنهم العذاب، عندما خرجوا وتضرعوا إلى الله، بأطفالهم ونسائهم ومواشيهم أيضاً، فتضرعوا إلى الله تعالى، كما ذكر المفسرون من السلف أربعين ليلة، بعد أن واعدهم يونس عليه السلام عذاب الله، وذهب مغاضباً وقال لهم: سيأتيكم العذاب بعد ثلاث، فعلموا أنه نبي، وأن النبي لا يكذب؛ فتضرعوا إلى الله، فكشف عنهم العذاب، ومتعهم إلى حين.
فالضراعة سبب عظيم لا يجوز أن نغفله ولا أن ننساه، ولنعلم أن الضراعة ليست هي مجرد الدعاء، وليس التضرع -فقط- أن ندعو الله تبارك وتعالى، ولكن الدعاء هو أول ما يدخل في مسمى وفي مدلول التضرع.(17/9)
التوبة من الذنوب
يجب علينا أن نتوب إلى الله تبارك وتعالى من كل ذنب، وأن نعد العدة لدفع أسباب هذا البلاء، فإن كان عدواً فلنعد العدة لجهاده، وإن كان -أيضاً- جدباً أو قحطاً فلنزرع الأرض، ونعد العدة لها، ونأخذ بالأسباب وهكذا، فالمقصود أن التضرع ليس هو مجرد الدعاء، وإنما هو المدخل للتوبة والإنابة والاستغفار، وما ذكرناه من مراجعة النفس ومحاسبتها، وكل بحسبه وكل في موقعه.(17/10)
تحكيم شرع الله
يجب على الحكام والأمراء أن يراجعوا أنفسهم، ويحكموا الناس بشرع الله ليذهب الله تسلط الأعداء علينا كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث: {وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله إلا سلط الله عليهم عدواً يأخذ بعض ما في أيديهم}.
إذا فالقضاة، والأمراء، والمدراء، والرؤساء، وكل من ولاه الله تبارك وتعالى أمراً يجب عليه أن يتقي الله فيه، وأن يكون كما أمر الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [النحل:90] وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58]، فلنراجع أنفسنا، ولنتلاف كل تقصير فينا.(17/11)
تذكر واجب العلماء
العلماء واجبهم عظيم، وهم -كما نص السلف الصالح - من أولي الأمر، الذين أوجب الله تبارك وتعالى طاعتهم، قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ} [النساء:59] وقد ذكر شَيْخ الإِسْلامِ أنهم الأمراء والعلماء، فالعلماء هم -أيضاً- ولاة على الأمة في أمر عظيم.
لأنهم الحارس والرقيب؛ ولأنهم الأمين والمؤتمن على كل ما يتعلق بالأمة.
إن لدى الدول الجاهلية والوضعية برلمانات ومجالس شيوخ ومجالس نواب؛ من أجل هذه الرقابة، إضافة إلى السلطة الشوروية أو التشريعية أو الرقابية إلى غير ذلك، كما يسمونه في القوانين الوضعية.
أما أمة الإيمان والإسلام والتوحيد، فعندها العلماء، الذين أمرهم الله تبارك وتعالى، فقال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187]، وإن كان بعض العوام أو بعض الناس من المقصرين، لا يريد بيان ذنوبه وعيوبه.
التي يجب عليه أن يتركها، ولكن يجب على العلماء أن يبينوا الحق كما ذكر الله تبارك وتعالى فقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] فواجب العلماء أن يقودوا الأمة -أيضاً- في أي موقف، وأعظم المواقف هي مواقف الجهاد، فقد كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقود المعارك بنفسه وهو نبي الله ورسوله وأكرم الخلق على الله، وكان صحابته من بعده كذلك.
ومن المعلوم أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أقسم أنه لولا أهل الأعذار لما تخلف عن سرية تخرج في سبيل الله قط، وكذلك أبو بكر وعمر لم يمنعهما من الخروج؛ إلا أن يكونوا فئة للمسلمين يتحيز إليها كل جيش يجابه من هنالك، وليمددوا المؤمنين، وقد أراد عمر -رضي الله عنه-، أن يخرج لقتال فارس، فقيل له: يا أمير المؤمنين! ابعث إليهم وابق هنا، فإن أصيبوا فأنت فئة لهم، ولكن إن أصبت ذهب الإسلام فكان رضي الله عنهم هذا شأنهم.
كذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية شارك بنفسه في بيان ضلال التتار وكفرهم وخروجهم عن الشريعة، وشارك بنفسه في المعركة، فواجب العلماء عظيم، والحمد لله الذي منَّ علينا في هذه البلاد الطيبة الطاهرة بهؤلاء العلماء الذين هم على منهج السلف الصالح -ولله الحمد- دعوة، وعملاً، وعقيدة، وعلماً، وجهاداً، فهذا من فضل الله تبارك وتعالى علينا.
ولكن بقي واجبنا نحن طلبة العلم، ونحن عامة المسلمين، وهو أن نشد من أزرهم وأن يكون المسلمون جميعاً يداً واحدة وقيادة واحدة، وهدفاً واحداً وغاية واحدة، فلا مجال لمن يندس، ولا مجال للدخيل، ولا مجال لمن يبث الفرقة فيما بيننا، فالهدف للجميع واحد، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} فالغاية هي هذه، والوسيلة واحدة وإن تنوعت وسائطها، فلنكن في الجهاد في سبيل الله ومقاومة أعداء الله صفاً واحداً، كأننا بنيان مرصوص، كما أمر الله تبارك وتعالى.(17/12)
وحدة الصف
إنَّ الصف يجب أن يكون واحداً، فيما نسميه نحن اليوم "الجبهة الداخلية"، وتعتبر ضرورتها أكيدة، فوحدة الجبهة الداخلية واجتماعها، وإقناعها بحقيقة المعركة وتصوير الأمر لها على حقيقته؛ لتقف صفاً واحداً متراصاً خلف العلماء، وخلف القيادة المؤمنة، فهذه -أيضاً- ضرورة لا بد منها.
ومن هنا كان الواجب علينا أن نُبصِّر المسلمين جميعاً -خاصتهم وعامتهم- بما فيهم من خلل وخطأ وتقصير، فعندما يتهافت العامة على الطعام والشراب في وقت كان الواجب عليهم فيه أن يفكروا في حمل السلاح والجهاد في سبيل الله ودفع المعتدين المجرمين، فهذا دليل على نقص وخلل عندهم، والواجب علينا -نحن طلاب العلم والدعاة- أن نصلحه، لأن فينا الخطيب أو الداعية أو المدرس أو الواعظ أو الإمام.
لا بد أن نقوم بواجبنا -نحن- في تماسك هذه الجبهة، من أجل ألا يكون فيها من يعذبنا الله -تبارك وتعالى- أو يُسَلِّطْ علينا بسببه، حتى لو كان الجيش يقوده رسول، كما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكما كان موسى، حيث وجد الغلول في الجيش: وهو الأخذ من الغنيمة، وهذا مما يسبب ويجلب الهزيمة، وكذلك إذا وجدت الخيانة والزنا أو الفساد، فإنه يسلط علينا الأعداء نسأل الله العفو والعافية.
وقد ذكر المفسرون في قصة موسى أمراً عظيماً، وهو أن الذنوب يجب أن يتطهر الجيش والناس منها، فالذين يسمون الجبهة الداخلية لابد أن يتطهر كل فرد منهم من هذه المعاصي ومن أدران الذنوب، ويجعل ولاءه خالصاً لله عز وجل، وهدفه إعلاء كلمة الله تبارك وتعالى، ويكون الجميع قيادة وعلماء ودعاة وجيشاً وعامة يداً واحدةً -كما أمر الله تبارك وتعالى- على كل كافر وفاجر وظالم ومعتد.
فإذا أخذنا بهذه الأسباب، وأحكمنا -فعلاً- هذه الجبهة الداخلية، وجمعناها على الحق، وجعلناها يداً واحدة، وتمسكنا جميعاً بكتاب الله تبارك وتعالى واعتصمنا بحبله، فسوف نجد أننا في موقف لا يستطيع أي معتد أو مجرم أو غاصب أن يمني نفسه بهذه البلاد؛ بل بأية بقعة من بقاع العالم الإسلامي؛ لأنه يعلم أن للحمى حرّاساً أشداء.(17/13)
جهاد الطلب
إن واجبنا كما أمر الله تبارك وتعالى ليس فقط جهاد الدفع، بل هو جهاد الطلب، وهو أن يطارد الكفار والمرتدون والمجرمون ويغزون في عقر دارهم؛ لينضموا تحت راية لا إله إلا الله وتحت كلمة الحق، حتى تكون كلمة الله هي العليا، وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فإذا لم نحرك مشاعر الأمة، ونستحثها بهذه الغاية العظيمة فإننا سنظل مقصرين في هذا الجانب.
إن الأمم الكفرية أو المرتدة، أو الضالة خلقت لمتاع الدنيا، فتتنافس في الدنيا، وتجد أن اقتصادها في زينتها وفي زخارفها، أما أمة الإسلام فغرضها وعملها الأساس هو الجهاد، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وجعل رزقي تحت ظل رمحي} فهذه الأمة يبني أعداؤها ويشيدون ويجمعون ويتحضرون كما يشاءون، ثم يجعلهم الله تبارك وتعالى غنيمة للمسلمين، فمثلاً: الحضارة الرومانية ظلت ألف سنة أو أكثر وهي تبنى فجعلها الله غنيمة للمسلمين، وكذلك الحضارة الفارسية ظلت أكثر من ذلك، فجعلها الله تبارك وتعالى غنيمة للمسلمين.
وكذلك جيش فارس، فقد كانت الرتب العسكرية ليست كحال الناس اليوم، يصنعونها من المعادن؛ إنما كانت الرتب العسكرية في جيشهم من اللؤلؤ، وبقدر ثمن اللؤلؤة التي يضعها القائد على التاج -على رأسه- تكون رتبته، فالقادة الكبار مثل ماهان ورستم وجابان، كان ثمن لؤلؤة كل واحد منهم مائة ألف دينار، وثمن لؤلؤة من يليهم عشرة آلاف دينار، فكانت رتبهم بهذا الترف والبطر، ولما جاءهم أمر الله تبارك وتعالى، وجاء جيش التوحيد، أخذوا بتيجانهم وعروشهم.
وكانوا كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل} ثم فتحت كنوز كسرى وقيصر وأنفقت على جهاد الصين وجهاد بلاد ما وراء النهر، حتى إن موسكو -التي هي عاصمة روسيا اليوم- ظلت قروناً تدفع الجزية للمسلمين، وهذا من فضل الله -تبارك وتعالى-.
وكذلك الروم بنوا في مصر وفلسطين وبلاد الشام الطرق الرومانية الشهيرة، وبنوا المدن والمآثر الرومانية المعروفة في التاريخ مثل مدينة دمشق، وغيرها من المدن العظيمة، فعندما جاء جيش الإيمان والتوحيد ملكوها والحمد لله وملكوا مزارعها، وضربوا عليهم فيها ما أمر الله تبارك وتعالى به من الجزية، أو من الخراج، بحسب الأحكام الشرعية المعروفة، وكانوا لقمة سائغة لهذه الأمة والحمد لله، فبنوا وشادوا وأعدوا، فجعلهم الله تبارك وتعالىغنيمة للمسلمين وأورثهم أرضهم وديارهم.
لقد خرجوا من هذه الجزيرة ومن هذه الصحراء التي جعلها الله في كل العصور -ولله الحمد- حصناً منيعاً ترتد عليه رماح المعتدين على أعقابهم خاسرين، خرجوا منها حفاة عراة، وإذا بهم يستوطنون الأندلس، وأواسط آسيا، وشمال الهند التي يقال فيها جنة الدنيا لما فيها من الجمال.
فكل ما في هذه الدنيا من خير ونعمة أوتوه -ولله الحمد- بالتقوى وبالإيمان، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، فهذا وعد من الله لعباده الصالحين أنه سوف يورثهم الأرض في هذه الدنيا والله على كل شيء قدير.
المخاطب -طبعاً- في هذه الأبيات تعرفونه جميعاً أو سوف تعرفونه كما تحدثنا:
طلعة المجد في رباك تجول وسنا الحق في ذراك يصول
في مدار الأفلاك تعرج والشرق والغرب تهافت وأفول
الرسالات من ربوعك قامت ولخير الهداة أنت الرسول
عجز الشعر عن ثنائك والدهر إذ الشعر فيك شأن يطول
هذه المعجزات أتعبت العدُ وعاد التأريخ وهو ذهول
فاسأل الدردنيل واسأل بواتيه وروما فما تراها تقول
تلك أطلالهم تماثيل شؤم شاحبات فما تعد الطلول
كل عرش في قبضتيك أسير كل كنز إلى يديك يئول
فاهطلي أيها السحابة هنداً أو على الصين ليس منك غلول
سيفك الحق في الوهاد صريخ ليس في معمع القتال نكول
كلما در شارق يتهادى طلب العتب منك مجد أثيل
كلما خر كوكب يتهاوى بين جفنيك حلم عز طويل
أنت فوق الورى ورأس الذرى وأنت الإصرار والمستحيل
تعبد الله وحده وتعالى أذن الحق فاخرسي يا طبول
قل لمن أرجفوا مماتك زوراً أو ما يعتري الجواد الذهول
أو ما تخفق الشواهب للأرض وإن كان في السماء تجول
لا تلمني في ساعة الفر إلا إن تراخى من بعد كر يهول
فاعصفي يا رياح بالدرب هولاً أو تأني فعزمتي لا تزول
يرعب الراجمات مقلاع طفلي وشراعي يهابه الأسطول
عز للسيف نبوة في جهاد سنة للكماة هذا الرسول
أنت أنشودة الحياة وملحمة الدهر فماذا عليك إن لم يقولوا
أنت إن قمت غير عابئ شيء فالطواغيت كلهن هزيل
وإذا الحق سل منك حساماً فالشعارات كلهن قتيل
أنجبتك البطحاء وهي ولود وغدتك الشام وهي بتول
كلهم سوف يغلبون جميعاً كلهم عن حماك سوف يزول
رب فوج يقود للروع فوجاً وخيول تجرهن خيول
موكبٍ ترهب المنايا سراه رابط الجأش للدماء نهول
هذه الصافنات أورين قدحاً فالنواصي شهيدة والذيول
وأدتها رمالنا البيد وأمست نعوشهن التلول
كلما أظلمت من الرهج البيد أضاء السماء سيف صقيل
وطئت بالسنابك الصم أحلام هولاكو وأودى الصليب والمستطيل
أنت أوثقت من جبابرة الكفر قروماً فكلهن ذليل
ما عتاب الكريم إن عثر الجد زماناً ولم يجد من يقيل
إن تكن غضبة فصفح جميل أو تكن محنة فصبر جميل
والحمد لله رب العالمين.(17/14)
الأسئلة(17/15)
تارك الصلاة
السؤال
ذكرت أنه يجب على الجبهة الداخلية تصحيح النية، فكيف يكون ذلك، وأنا أعرف أناساً لا يعرفون الصلاة البتة, وعندهم من الذنوب والمعاصي ما عندهم، نسأل الله عز وجل للمسلمين الاستقامة على دينه؟
الجواب
جزاك الله خيراً، إن تارك الصلاة قد أخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه من غير المسلمين، فليس بمسلم ولا حظ له في الإسلام، وإذا وجد في الأمة تارك صلاة فهذا مما يوهن قوتها، ويضعف تمسكها، ويغري بها ويطمع فيها عدوها.
إن تماسك الجبهة الداخلية يجب أن يكون بالكف والإقلاع عن كل الذنوب؛ بل بالصبر والمصابرة والمرابطة على جميع الطاعات والواجبات، فالذين يشتغلون بالغيبة والنميمة والنفاق والحسد في مجالس المسلمين عليهم أن يتوبوا، والذين يفرقون بين المرء وزوجه عليهم أن يتوبوا، والذين يقطعون الأرحام عليهم أن يتوبوا ويستغفروا الله تبارك وتعالى، والذين يأكلون الربا عليهم أن يتقوا الله وأن يكفوا عن محاربته، حتى ينصرنا على من نحارب من أعدائه.
والذين يفتحون دور اللهو والفساد، وما يسمونه الكوافير، وأماكن التجميل، ومشاغل الخياطة المختلطة، وكل اسم من هذه الأسماء التي تتعرى فيها المرأة المسلمة وتخلع ثيابها في غير بيت زوجها، معرضة نفسها لوعيد الله -تبارك وتعالى- وقد يراها الأجنبي أو تكلمه أو تختلط به، فكل هؤلاء القوم عليهم أن يتقوا الله وليعلموا أننا في معركة لا مجال فيها لهذا اللهو العابث، وكذلك المعلمون والمدرسون الذين كانوا يضيعون الوقت على الطلاب إما فيما لا ينفع أو في العبث فعليهم أن يتقوا الله تبارك وتعالى.
ولتكن دروسنا جميعاً في التربية على الجهاد والفضيلة والخلق القويم، ولنراجع مناهج تعليمنا -أيضاً- لتكون جميعاً كذلك، ولنراجع وسائل إعلامنا المسموع منها والمقروء والمرئي لتكون جميعاً في موضع يستحق أن تكون جزءاً من هذه الجبهة التي يجب أن تتماسك بحيث تتطهر من كل ما حرم الله تبارك وتعالى، ويكون المعيار والضابط لما يعرض أو يذاع أو يقرأ هو شرع الله تبارك وتعالى، وهناك أشياء كثيرة جداً، ولكن كلٌ منا حسيب نفسه، يعرضها ويحاسبها ويزنها قبل أن توزن.
فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزن، وتهيؤوا للعرض الأكبر على الله تبارك وتعالى، فهناك تبلو كل نفس ما أسلفت.(17/16)
القتال من أجل الوطن
السؤال
هل هناك فرق بين القتال من أجل الوطن والقتال في سبيل الله -تبارك وتعالى- نرجو التوضيح؟
الجواب
لما سئل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الرجل يقاتل حمية، ويقاتل عصبية، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} فهذا هدفنا وهذه غايتنا وهذا طلبنا ولا سيما في جهاد الطلب، وأما في جهاد الدفع، فلا شك أن من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، فالواجب -إذاً- على الإنسان أن يجعل هدفه وغايته وهمه من الجهاد هو إعلاء كلمة الله تبارك وتعالى، ولتكون كلمة الله تبارك وتعالى هي العليا، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193].
أما إذا اعتدي عليه ودافع عن نفسه فمات أو قتل فهو شهيد كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنه دفع الصائل أو دفع المعتدي، فهو نوع من أنواع الجهاد، وهو -أيضاً- إذا صلحت النية يعتبر في سبيل الله تبارك وتعالى، ويدخل ضمن ما قاله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(17/17)
الطائفة المنصورة
السؤال
عرف فرقة الطائفة المنصورة، هل هي في بلد معين، أو جماعة معينة، أم من جميع بلاد المسلمين وكيف تجتمع إن كانت من بلاد متفرقة؟
الجواب
الطائفة المنصورة عرفها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في حديث الافتراق، وهو حديث متواتر لكثرة طرقه، ويشد بعضها بعضاً، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة} فلما سئل عنها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قال في رواية-: {الجماعة} وقال في رواية: {من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي} فهذه علامتها.
وأيضاً جاء في وصفها في نفس الأحاديث الصحيحة التي أخبر فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوجودها كما في حديث جابر بن سمرة ومعاوية وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم، في نفس الأحاديث قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يقاتلون على أمر الله}، وقال: {قائمين على أمر الله}، إذاً فحقيقتها أنها على ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي قائمة ومستقيمة ومتمسكة بهذا المنهج.
أما من هم؟ فقد قال الإمام أحمد: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم -أي: من كان متمسكاً بالسنة، عندما تفرقت الأمة إلى خوارج وروافض ومعتزلة وباطنية وبقي أهل السنة أو أهل الأثر أو أهل الحديث الذين هم أهل السنة والجماعة، ولا يقصد بذلك مجرد من يشتغل بعلم الحديث؛ بل من يتبع منهج الحديث؛ لأن القرآن كلٌّ يدعيه ولكن الحديث يميز بين أهل السنة وبين أهل البدعة وأهل الفرق الضالة الأخرى.
إذاً هذه هي صفتهم، أما مكانهم فليس لهم مكان معين، ولكن كما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله أن الأحاديث تدل على أنه في آخر الزمان يكون اجتماعهم في الشام، وقد ورد في الحديث الصحيح: {إن الإيمان ليأرز إلى المدينة أو ما بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها} أي: كما تعود الحية إلى جحرها، فهذه إشارة في أن هذه البلاد المقدسة المدينة ومكة أو ما بين المدينتين سوف تكون مأوى الإيمان -بإذن الله- إلى قيام الساعة.
ولكن الشام موطن المعارك ولا انفصال بين الأمرين؛ لأن الأمة واحدة، والبلد واحد، وهذه الدويلات عارضة، فالأصل أن المسلمين جبهة وأمة واحدة، فـ الشام هو موضع الملاحم، وأما مأوى الإيمان وبقاؤه ومجمعه، فإنه يكون في هذه البلاد -بإذن الله- ويكون -أيضاً- في وسط الجزيرة في مساكن بني تميم الذين أخبر عنهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح فقال: {هم أشد أمتي على الدجال}.
فإذا ضممنا الأحاديث بعضها إلى بعض، نجد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر أن الساعة تقوم والروم أكثر الناس، وكون الملاحم مع الروم، وخروج الدجال بعد الملاحم، فتكون الأمة أحوج ما تكون إلى أن تقاتلهم، وتكون المعركة في بلاد الشام -في الأعماق أو دابق، وكذلك يكون اليهود هنالك ويقاتلهم المسلمون.
إذاً: فالجبهة الداخلية القوية والفئة التي تنحاز إليها الجيوش ستكون -إن شاء الله تبارك وتعالى- بين المدينتين.(17/18)
نصيحة للمقصر في جنب الله
السؤال
ذكرتم -حفظكم الله وأثابكم- أنه يجب النصح للناس، ولا سيما في هذه الأوقات، فهل على المقصر في جنب الله أن يقوم بالنصح والإرشاد؟
الجواب
هذا السؤال وجيه، فكثير من الإخوة يقول: أنا مقصر، فهل أنصح غيري، ونقول: إن هناك حديثاً وإن كان في سنده ضعف، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {مروا بالمعروف وإن لم تفعلوه، وانهوا عن المنكر وإن فعلتموه} ولكن الظاهر أنه لا يصح مرفوعاً عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن يصح من حيث المعنى ومن حيث عمل الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، وقد يصح أنه من كلام أبي هريرة رضي الله عنه، بمعنى أن شعب الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، فإذا لم يأمر الإنسان بالمعروف ولم ينه عن المنكر إلا إذا استكمل شعب الإيمان جميعاً، فربما انقطعت هذه الشعيرة، ولم يوجد من يقوم بها.
ولا ينبغي للعبد المؤمن أن يجمع بين ذنبين، بين تقصيره في طاعة الله من جهة، وبين ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جهة أخرى، فإذا وجد في الإنسان تقصير في بعض الطاعات وفي بعض الجوانب، فيجب عليه أن ينصح الناس، وأن يرشدهم وأن يذكرهم ليرجعوا إلى الله -تبارك وتعالى- ومع ذلك يخوف نفسه كما قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:44].
ويتذكر حديث الرجل الذي يجر أقتابه وقصبه في النار -نسأل الله العفو والعافية- والناس ينظرون إليه يقولون له: مالك! ألم تكن تأمرنا! ألم تكن تنهانا! قال: بلى، ولكن كنت أمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه -نسأل الله العفو والعافية! فهو في حال دعوته للناس، يعظ نفسه أيضاً، والإنسان يستحي من الله تبارك وتعالى أن يعظ الناس بخير ولا يفعله، أو ينهاهم عن شر ويأتيه، وهذه من نعم الله تبارك وتعالى على الدعاة.
ولهذا كان الدعاة إلى الله تبارك وتعالى من أكثر الناس اهتماماً بهذا الأمر؛ لأنهم يأمرون وينهون، فأنفسهم تلومهم ولا تلوم غيرهم؛ لأنهم يقولون: كيف تقولون ما لا تفعلون؟! وتأمرون وتخالفون الناس إلى ما تنهونهم عنه؟! فمن هنا كان من واجبنا الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كان فينا ما فينا من تقصير مع السعي الحثيث إلى استكماله إن شاء الله تبارك وتعالى، وهو المعين.(17/19)
حكم القنوت في جميع الصلوات
السؤال
ما حكم القنوت في جميع الصلوات بسبب المحن؟
الجواب
القنوت مشروع في النوازل، وقد قنت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أحياء من العرب والقبائل التي كانت قد عصت الله تبارك وتعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآذت المسلمين، وفي هذه الأيام نرى القنوت مستمراً، والحمد لله، قد كنت صليت مع سماحة الوالد الشيخ ابن باز فصلى بنا الإمام صلاة المغرب وقنت، وقنتنا خلفه، فالقنوت مشروع، لكن إذا كان في كل الصلوات، فأنا أخشى أن يدخل السأم على العامة، فعلينا بالتضرع إلى الله، فهو من أرجى ما يكون، فكل منا يتضرع إلى الله تبارك وتعالى في السر والخفاء وفي أوقات الإجابة.
وكذلك يشرع القنوت ولكن ربما كان التضرع أرجى، لأن الإنسان يكون صادقاً ومخلصاً أكثر، ويكون في حالة القرب من الله تبارك وتعالى والضراعة إليه، وهو إن أطال في تضرعه ودعائه فهو وحده لا يمل منه أحد ولا يسأم منه أحد، وهذه قضيتنا، فحق لنا والله أن تكون أيدينا مرفوعة وعيوننا باكية في كل لحظة وفي كل حين حتى يدفع الله -تبارك وتعالى- عنا هذا البلاء، وجدير بنا أن نكون كذلك دائماً وفي كل وقت.
وجدير بنا أن نذكر إخواننا المسلمين في كل مجلس وما أكثر اللغط، وما أكثر اللهو في المجالس، فيجب علينا أن نذكرهم بالدعاء وبالاستغفار، لأنه من لزم الاستغفار جعل الله تبارك وتعالى له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً.
فالأمة -الآن- تعاني من هذا الضيق ومن هذه الأزمات، فلنستغفر الله ولنتب إلى الله تبارك وتعالى كما أمر، وإذا استقمنا على أمر الله يكون الخير كما ذكر الله بقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96] وكما قال الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة:66].
لكن في الجانب الآخر، إذا تركنا الضراعة، والإنابة والاستغفار، فيكون حالنا -عياذاً بالله- كما ضرب الله تبارك وتعالى مثلاً: {قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].(17/20)
أحداث الجزائر
إن أعداء الأمة الإسلامية يدأبون باستمرار في تعزيز قضايا الاختلاف والفرقة في الأمة الإسلامية، لتشتيت شملها، والسيطرة على ثرواتها، وأوضح دليل على ذلك ما تعيشه البلدان العربية والإسلامية من الفرقة والاختلاف، وفي هذه المادة يتحدث الشيخ عن إحدى هذه البلدان ألا وهي بلاد الجزائر، فيتحدث عن ملابسات الوضع والاختلاف القائم بين الجبهة الإسلامية وجبهة التحرير، مبيناً أسبابه وحقيقته، وموقف الغرب وإعلامه إزاء هذه القضية، مختتماً كلامه بما ينبغي أن يكون عليه موقف المسلم من هذا الصراع، داعياً خلال ذلك إلى العمل على ترسيخ مفهوم الأخوة الإسلامية.(18/1)
فتوى ابن عثيمين في تتبع الصحف والرد على أخطائها
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، هناك بعض الأسئلة، حبذا لو نبدأ -كالعادة- بما له علاقة بالموضوع، وإن كانت بعضها مفيدة جداً، لكن لعلنا نرد عليها إن شاء الله.
نبدأ بهذه الفائدة القيمة، وهي عبارة عن فتوى في هذه الورقة تقول: 'بسم الله الرحمن الرحيم.
المكرم فضيلة شيخنا محمد بن صالح العثيمين حفظه الله تعالى، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإننا نود أن نعرف رأي فضيلتكم فيما يقوم به بعض الإخوة من طلاب العلم، من تتبع المجلات والصحف الداخلية والخارجية، بغرض جمع المواد المخالفة للإسلام، ومن ثم الرد عليها، وتحذير الناس منها، وهل هذا من جهاد المنافقين الذي أمر الله به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أفتونا مأجورين؟ " فكان الجواب بخط فضيلة الشيخ أثابه الله، وبارك في حياته ونفعنا بعلمه فقال: "بسم الله الرحمن الرحيم وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
رأيي أن هذا لا بأس به، نظراً لما يكثر في بعض الصحف والمجلات من المسائل التي تحتاج إلى التنبيه عليها، ولكن أرى أن يُتصل أولاً بالكاتب، وينبه على ما حصل منه من أخطاء، ويوعظ ويطلب منه أن يكتب تصحيح ما أخطأ فيه في نفس المكان الذي كتبه فيه، لأن ذلك أنفع له، وأجدى للقارئين، وأقطع للجدال بالباطل.
فإن حصل ذلك منه فهو المطلوب، وإلا فليُكتب الرد عليه في نفس الصحيفة، أو المجلة التي كتب فيها ذلك الخطأ".
وهذا قد ينطبق -غالباً- على المجلات الداخلية أو الصحافة الداخلية فقط، وأما الخارجية فلا يهمها أنك كتبت، ولا يهمها أن ترجع عما كتبت من الباطل غالباً.
وأما غير الإسلامية -من الصحف والمجلات- في الخارج أو الداخل فإن لها وضعاً آخر، فقد يكون ذلك من باب الخطأ، لكن المقصود هو كل ما فيها من الخبث والفجور، بل وأحياناً الكفر والإلحاد.
ويقول الشيخ أيضاً: "ثم إن هاهنا أمر أُحب أن أنبه عليه، وهو أن يكون الرد لقصد الإصلاح لا الانتقام" وهذا تنبيه حسن أثابه الله، فهو ينبه إلى أن يكون رداً يقصد به الإصلاح، فلعل الله أن يصلح ذلك الكاتب، أو الجريدة أو المجلة، وأن الرادَّ على ذلك لا يريد إلا الحق، لا الانتقام الذي قد تغلب عليه العاطفة أحياناً، فالشيخ -أثابه الله- يعرف العواطف، وكيف تتغلب، فتعصف ببعض الشباب، قال: ' فإنه إذا كان القصد في ذلك الإصلاح كانت صياغة الرد هادئةً مقبولة ' أي: مع أنها خيرٌ عند الله فإنه أيضاً يؤثر في صياغة الرد، ويكون هادئاً مقبولاً.
ثم قال: 'وأما قول السائل: هل هذا من جهاد المنافقين؟ فلا ريب أن بيان الحق وإظهاره، وإبطال الباطل وبيانه؛ من الجهاد بالعلم، ولا يخفى أن الله تعالى جعل طلب العلم قسيماً للخروج في جهاد السلاح، حيث قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]، أسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعاً من دعاة الحق وأنصاره، وأن يهب لنا رحمةً منه إنه هو الوهاب، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم '.
كتبه/ محمد الصالح العثيمين في 26/ 6/1411هـ، وتحته التوقيع، أثابه الله وجزاه خيراً.(18/2)
الجمع بين الخوف والرجاء
السؤال
كيف نجمع بين الخوف والرجاء والرغبة والرهبة؟
الجواب
هذا له علاقة بما قاله الإمام ابن القيم: 'الرهبة: هي إمعان في الهرب من المرهوب، وضدها الرغبة'، إذاً فكيف نجمع بين اللفظتين في قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك إلخ} فنجمع بين الرغبة والرهبة، بأن نقول: إن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يُرهَب عذابه، ويُرهَب جانبه من جهة أنه {شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة:196] وأنه {عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران:4] ويُرغَب فيما عنده -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- من جهة أنه ودود، وكريم، وغفور، ورحيم، فكل هذه من أسمائه وصفاته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فتجتمع الرهبة والرغبة معاً، وليس فيها شيء يناقض بعضه.(18/3)
الكلام على أحوال المسلمين في الجزائر
السؤال
ما حقيقة الوضع في الجزائر في ظل الأحداث التي تعصف بها عصفاً؟
الجواب
إنه لما كثرت الطلبات، والتساؤلات سواء بالرسائل أو الأسئلة المباشرة، وذلك من قبل الكثيرين المهتمين بأحوال الأمة، مضمونها كلها حول الجزائر، وما حدث فيها، ولعلنا نعطي كل هؤلاء موجزاً عن ذلك، وعما نراه في ذلك.(18/4)
قضية الجزائر قضية إسلامية
إن مما أمرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به من بيان الحق في هذا الأمر ما يلي: أولاً: أن نقول للناس جميعاً: إن الله -تبارك وتعالى- أمرنا بالعدل، ففي كل جمعة -تقريباً- نسمع الخطيب وهو يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90] فنحن مطالبون بالعدل في كل الأحوال، قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152]، وقال تعالى أيضاً: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:7 - 9].
ثانياً: إن الله تبارك وتعالى أمرنا بمحبة إخواننا المؤمنين، والتآزر معهم، والتعاطف معهم في قضاياهم، فقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} فهذا أصلٌ عظيم، وأدلته كثيرة، لا تخفى عليكم.
ومن منطلق ما أمر الله تعالى به من العدل، ومن موالاة المؤمنين، ومحبتهم، والاهتمام بأمورهم، نقول: إن ما حدث ويحدث إلى الآن في الجزائر هو مصيبة، ونازلة، وفاجعةٌ عظيمة حلت بالإسلام والمسلمين، وليست بأشخاص معينين، ولا بجبهة معينة، ولا بحزب مقصود لذاته أبداً لماذا؟(18/5)
بين الجبهة الإسلامية وجبهة التحرير
لأننا من مقتضى العدل يجب أن نقول: إننا لا نعرف الكثير عن هذه الجبهة الإسلامية، أما بالنسبة لقائديها الشيخ عباس مدني وعلي بلحاج فلم نعرفهما، ولم نقابلهما، ولم نرهما، أقول هذا عن نفسي؛ وبما أنه ليس لنا علاقة شخصية مجردة بهما، ولكن من منطلق ما أمرنا الله تعالى به من العدل: أمامي رجلان، مدعيان، وهما جبهتان في الحقيقة الجبهة الإسلامية وجبهة التحرير الحاكمة، فهما المدعيان، وأنا بمنزلة القاضي المأمور بالعدل، وكلٌ منا كذلك، كما يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية -رحمه الله-: 'القاضي أعم من أن يكون الذي في المحكمة، فكل من قضى بين اثنين فهو قاضٍ'.
وعليه: فأمامنا الآن قضية، مطلوب منا أن نحكم فيها، وأمامنا خصمان متنازعان.(18/6)
حجج الجبهة الإسلامية
أحدهما: وهو الجبهة الإسلامية ونحن لا نعرفه، يقول: أنا أريد الإسلام، وأريد كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنا عندي (80%) من الشعب، كلهم يريدون الإسلام، فهذا برنامجي، وهذا تطبيقي، وقد طلبت من الناس أن يطالبوا ببقاء نظام الانتخاب كما هو، إلا أن الحكومة عدلته، وغيرته، لتفوز وحدها، ولذلك طلبنا منها أن يظل القانون كما هو؛ ولندخل جميعاً في الانتخابات.
فإن فزنا؛ حكمنا البلاد بكتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن فازوا قلنا: إنا لله وإنا إليه راجعون، ويكون الشعب قد اختار الاشتراكية علينا.
ثم قال عن خصمه: هذا خصمي جبهة التحرير، وهو حزب اشتراكي علماني تابع لفرنسا والغرب، فقادته وزعماؤه فرضوا الاشتراكية على البلاد، واستوردوها من موسكو، وهؤلاء هم الذين نحوا كتاب الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عن الحكم، فلم يقيموا حداً واحداً من حدود الله، منذ أن استقلت الجزائر إلى اليوم، بل إنهم يبنون دور السينما، ويشجعون الغناء والفساد والفجور، ويبيعون الخمر إلى الغرب، وكذلك لم يهتموا بالأمر بالمعروف، ولا بالنهي عن المنكر، كما قال الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41] فهذه حجتي، وهذه دعوتي.(18/7)
حجج جبهة التحرير
قالت جبهة التحرير: نحن نُدعَى الحزب الحاكم، فنحن حزبٌ اشتراكي نؤمن بـ الاشتراكية، ونحن حزبٌ علماني -وهذا في الدستور لا يخفونه أبداً-.
قالوا: ونحن عندما حكمنا البلاد حكمناها بـ الاشتراكية، لأنها أفضل المذاهب الموجودة، وحكمناها بـ الديمقراطية، لأنها خير ما تحكم به الشعوب، وسمينا البلد: جمهورية الجزائر الديمقراطية، لأننا نؤمن بـ الديمقراطية، ونعتقد بـ الديمقراطية، ونحن أخذنا الحكم عن طريق الأسلوب الديمقراطي، وهؤلاء أصوليون ومتطرفون، يريدون الوصول إلى السلطة، ويريدون إفساد البلاد، ويريدون تحقيق مطامعهم الشخصية، وهذه الكثرة من الشعب التي معهم مغرر بها، ومخدوعة بهم، فقد خدعوها بهذه الشعارات التي يرفعونها، وأما نحن فقد فرضنا القانون والدستور، واعتقلناهم واضطهدناهم وسجناهم، لنقر الدستور، ونقر القانون، لتستمر الديمقراطية، وليستمر القانون.(18/8)