أثر الحروب الصليبية في العالم العربي:
سكانيًّا - اجتماعيًّا - سياسيًّا
مقدمة:
يميل غالبية المؤرخين إلى تصوير الحروب الصليبية على أنها العامل الأساسي في التغيرات التي طرأت على أوربا والشرق منذ القرن الحادي عشر. وفي تصورنا أن الحرب الصليبية كانت تعبيرًا عن هذه التطورات والتغيرات التاريخية, أكثر من كونها سببًا في حدوثها, فالحروب الصليبية تطور هام في تاريخ العصور الوسطى حقًّا، بيد أنها كانت في أساسها تعبيرًا عن أنماط من التفكير والسلوك في كلٍّ من أوربا والشرق آنذاك, ولا يعني هذا أنه لم تكن لهذه الحروب الطويلة تأثيراتها الإيجابية على مجرى التطور الأوربي، أو إفرازاتها السلبية على العالم العربي، فإن مثل هذ القول يذهب بنا بعيدًا عن الصواب, ولكن هذه التأثيرات لم تكن من القوة بحيث تغير من اتجاه التطور في المجتمع، ونظم الحكم، والاقتصاد، والثقافة بشكل جذري.
ويمكن تفسير ذلك في ضوء الحقيقة القائلة بأن دور المجتمع الأوربي في هذه الحروب لم يتعد دور الظهير المساند للكيان الصليبي الذي نجحت الحملة الأولى في زرعه فوق الأرض العربية، ذلك أنه باستثناء التفاعلات الاجتماعية, والاقتصادية، والسياسية، والفكرية, التي أفرزت الحملة الصليبية الأولى، التي كانت بمثابة خروج ثانٍ كبير شاركت فيه أوربا، ظل دور المجتمع الأوربي محصورًا في نطاق مساندة ودعم الوجود الصليبي في شرق(1/119)
البحر المتوسط, دون أن يتفاعل تفاعلًا حقيقيًّا مع أحداث هذه الحروب الطويلة المضنية, التي كان الوطن العربي هدفها وميدانها.
فمنذ نجحت الحملة الأولى في استيطان بعض أجزاء العالم العربي، تَعَيَّنَ على المستوطنين الصليبيين أن يواجهوا حقائق الموقف الذي ألفوا أنفسهم في مواجهته، ولكنهم كانوا في حاجة دائمة إلى دعم ومساندة أوربا, وطالما كانت مصالح الكيان الصليبي منسجمة متوافقة مع مصالح الظهير الأوربي، استمرت أسباب الوجود والدعم مكفولةً بدرجة أو بأخرى للصليبيين. وهنا ينبغي أن نشير إلى أن حال التشرذم والتفكك والصراع الذي عانت منه المنطقة العربية قبل بداية هذه الحروب وأثناءها، قد ساعد على استمرار وجود الكيان الصليبي وصموده، وكلما كان الجسد الصليبي يتعرض لضربات المسلمين, كان رد الفعل الأوربي يجيء على شكل جيوش وهجرات جديدة تدعم الوجود اللاتيني تحت سماء الشرق, وحين بدأت التطورات التي تعرض لها المجتمع الأوربي طيلة القرنين الثاني عشر والثالث عشر، تبلور نفسها، اختلفت مصالح الظهير الأوربي عن مصالح الصليبيين، وفشلت البابوية في إثارة حماسة أوربا من جديد, وبدأت جرثومة الفناء تعمل عملها في الجسد الصليبي الذي احتواها منذ البداية، وانتهت المواجهة الطويلة المرهقة بانتصار العالم العربي الذي استنفد موارده، أو كاد، في الصراع ضد الوجود الصليبي.
وعلى الجانب الآخر كان العالم العربي هو مسرح هذه الظاهرة التاريخية على مدى ما يقرب من قرنين من الزمان, وبطبيعة الحال كان تأثير الحروب الصليبية على العالم العربي الإسلامي أكبر بكثير من تأثيرها على أوربا؛ إذ كانت المنطقة العربية هي هدف هذه الغزوة التي ارتدى رجالها مسوح الصليب، وعلى الأرض العربية في بلاد الشام وأعالي العراق قام الوجود الصليبي، كما تعرضت مناطق عربية أخرى في مصر وشمال أفريقيا والبحر(1/120)
الأحمر لهجمات الصليبيين, وطوال حوالي مائتي سنة خاض العرب والمسلمون صراعًا طويلًا للقضاء على الكيان الصليبي فوق الأرض العربية، ثم كان عليهم أن يخوضوا صراعًا آخر ضد بقايا الصليبيين في قبرص وردوس, وقد ترك هذ الصراع الطويل آثاره السلبية على شتَّى وجوه الحياة في العالم العربي؛ بحيث انتهت الحروب الصليبية وتجلت آثارها التي قادت العالم العربي في رحلته الطويلة صوب الأفول والغروب؛ لكي يسقط في براثن السيطرة العثمانية بعد قرنين من الزمان.
لقد كانت الحروب الصليبية حروبًا عسكرية, ومواجهة حضارية طويلة ومرهقة، كما أنها حدثت في وقت كانت فيه الحضارة العربية الإسلامية قد وصلت إلى أقصى مراحل تطورها, وبدأت قوتها الإبداعية تخبو وتخفت، كما كان العالم العربي الإسلامي يعاني من فوضى التشتت والنزاع التي أنشبت مخالبها في أطرافه -وهذا هو في تصورنا أهم أسباب انتصار الحملة الأولى, وبقاء الوجود الصليبي, وفي خِضَمِّ الصراع ضد الصليبيين تجلَّت عوامل الضعف الكامنة في العالم العربي, وإذا لم تكن الحروب الصليبية هي السبب في توقف الحضارة العربية الإسلامية وجمودها في العصور الوسطى، فإنها كانت من أهم عوامل استنزاف قوى الدفع الإبداعية في هذه الحضارة وتعطيلها؛ بحيث كانت إفرازاتها السلبية على شتَّى المستويات إيذانًا بمغيب شمس هذه الحضارة.
إن الحوادث والأفكار المعقدة المتشابكة التي أدت إلى ميلاد الحركة الصليبية كظاهرة تاريخية، وما طرحه المؤرخون من تفسيراتٍ لأسباب هذه الحروب ونتائجها، تضع أمام المهتمين بدراسة التاريخ مثالًا فذًّا عن مدى ما يمكن أن ينتج عن التغيرات الاجتماعية، والاقتصادية، والفكرية من استجابات, كما تدلنا على ما يمكن أن يحدثه الهجوم الخارجيّ على حضارةٍ فقدت قوتها الإبداعية من تأثيرات مدمرة.(1/121)
ففي أوربا كانت دعوة البابا أوربان الثاني Urban ll في كليرمون Clermont بجنوب فرنسا, في نوفمبر سنة 1095م، تطرح أمام المجتمع الأوربي الذي مزقته الانقسامات، وأضنته التفاعلات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية في مرحلة نموه الإقطاعي، هدفًا عامًّا أمكن لهذا المجتمع أن يعبر عن نفسه من خلاله. أما في الشرق العربي الإسلامي فكانت الاستجابة للتحدي الذي فرضه الهجوم الصليبي غريبة ومثيرة حقًّا؛ إذ تقلبت ما بين الشلل والركود والتشرذم في مواجهة الجيوش والمستوطنين الصليبيين، وعدم إدراك حقيقة هذا الغزو، إلى المقاومة، ثم الهجوم المضاد منذ "زنكي" حتى صلاح الدين, وبعدها فترة أخرى من الرجوع والتقهقر حتى تمكنت سلطنة المماليك في مصر والشام من القضاء على الوجود الصليبي في أخريات القرن الثالث عشر.
كان استجابة العالم العربي الإسلاميّ تعبيرًا عن واقع حاله, فالحضارات لا تسقط بسبب هجوم خارجي قط، ولا بد أن تكون الأحوال الداخلية منهارة بالقدر الذي يمكِّنُ العدو الخارجي من تحقيق هدفه, وهذه المقولة تنسحب أيضًا على العالم العربي عشية الحروب الصليبية؛ إذ أن بداية هذه الأحداث وقعت في السنوات الأخيرة من القرن الحادي عشر الميلادي، وهو القرن الذي شهد من عدم استقرار المنطقة العربية سياسيًّا واقتصاديًّا ما كان من أهم عوامل نجاح الصليبيين في حملتهم الأولى. لقد كانت المنطقة موزعة بين عدة قوى سياسية متنافسة متخاصمة، وكانت الحروب التي جرت في العقد السابق على الحملة الصليبية بين إمارات حلب وشيزر وحماة وحمص ودمشق, وغيرها من إمارات شمال الشام، تمثِّلُ ميراثًا هائلًا من الحقد والمرارة والشك فيما بينها, حالت دون اتحادها في عمل مشترك ضد الصليبيين، على الرغم من خضوعها جميعًا للخلافة العباسية في بغداد, فضلًا عن أن الهوة الفاصلة بين هذه الإمارات الشمالية المتحاربة، والجنوبية الإسلامية، كانت عميقة؛ بحيث أعاقت العمل المشترك ردحًا من الزمان.(1/122)
وكانت مصر، وهي القوة العظمى في العالم الإسلامي، خاضعة لحكم الخلافة الفاطمية الشيعية، كما كانت المنافس القوي لسوريا والعراق على المستوى الديني، والاقتصادي، والسياسي, وانبرت كلٌّ من الخلافة الفاطمية في مصر, والخلافة العباسية في بغداد, تتهم الأخرى باغتصاب السلطة والخروج على الدين.
وعلى الرغم من ذلك، فإن العالم العربي الإسلامي لم يكن قد دخل بعد في منحنى التدهور الحاد والعميق؛ إذ كان المستقبل لا يزال يخبئ له بعضًا من أعظم إنجازاته العسكرية والفكرية، وعلى الصعيد الاقتصادي كان التاجر المسلم ما يزال هو صاحب السيطرة في عالم البحر المتوسط, بيد أن عظم أيام العرب كانت وقد ولت، كما أن القوة الإبداعية في الحضارة العربية الإسلامية كانت بدأت تخبو, وكانت هذه النقائص التي شابت الحضارة الأوربية من التوغل في عالم البحر المتوسط آنذاك، كما كانت من أهم عوامل نجاح الحملة الصليبية الأولى التي لم يكن انتصارها تعبيرًا عن واقع الحال, وميزان القوى في تلك الفترة التاريخية.
هكذا، إذن، يتعين علينا أن نحاول رصد الإفرازات والآثار التي ترتبت على الغزو الصليبي, والمواجهة بين العرب والصليبيين، سواء على المستوى الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو السياسي، أو الثقافي, بيد أنه ينبغي علينا، بدايةً، أن نحاول فهم مجموعة العوامل والدوافع التي أدت إلى خروج الجماهير الأوربية في الحملات الصليبية، دون أن نخوض في تفاصيل هذه العوامل والدوافع. لقد أخذ الناس في أوربا شارة الصليب تدفعهم بذلك مجموعة متنوعة من الدوافع والأسباب، وإذا كانت المثالية والرغبة في الحصول على الأراضي، والبحث عن المجد الشخصي, هي التي حفَّزَت أبناء الطبقات العليا، فإن الظروف الاجتماعية القاهرة المحيطة, هي التي دفعت(1/123)
بالكثيرين من أبناء الطبقات الدنيا في أوربا إلى الهجرة صوب الشرق، بمباركة الكنيسة والبابوية، بحثًا عن تلك الأرض -التي تفيض باللبن والعسل؛ ولأن أحلام المقهورين في أوربا العصور الوسطى لم تكن تتحقق سوى في القليل النادر، فإنهم انطلقوا في هذا السبيل الوعر دون أن يعبأوا بمخاطر الطريق الطويل إلى الأرض المقدسة، أو بما ينتظرهم على ترابها من أهوال ومشاق. ذلك أن شيئًا لم يكن ينتظرهم في أوربا سوى الموت جوعًا وقهرًا تحت سيطرة أسيادهم الإقطاعيين المتحاربين على الدوام, أما في الأرض المقدسة، فيما وراء البحر، فهناك أملٌ كان يجذبهم إلى إمكان تحقيق ظروف معيشية أفضل، بغضِّ النظر عن الوعد الذي بذله البابا لهم بالخلاص في الحياة الأخرى, وجاءت الحملة الشعبية, أو حملة الفلاحين, خير برهان على هذا "عن الحملة الشعبية انظر:
gesta francorum et Aliorum Hierosolimitanorum, Editee et traduit apr louis berhier, paris pp. 7-9 pp. 11-15 alexiade, par anne co nene, texte etabli et traduit par bernard loib, 3 tons. les belles letters, parris 1967. pp. 208-209sq:
انظر الدراسات التي أجريت حول هذه الحملة في:
Ernle, bradford, the sword and the scimitethe saga of the crusaders london 1974, pp. 30-39 the bitish quarterly rebew, august 1853, "the crusades as described by the crusaders", pp.
وعن هذه الحملة في شعر الصليبي انظر:
"La Chanson d Antiovcge Ppp154-155.
لقد كانت دوافع الذين قبلوا المشاركة في هذه "الحرب المقدسة" مزيجًا غريبًا ومثيرًا من العوامل والأسباب والدوافع, كما كانت في الوقت نفسه، تعبيرًا عن حال أوربا عشية الحملة الصليبية، والواقع أننا لا يمكن أن ننكر وجود العامل الديني بشكل أو بآخر، بيد أن هذا العامل كان تعبيرًا عن تدين عاطفي تشوبه الخرافات والاعتقاد في المعجزات والخوارق، ويقوم على(1/124)
أساس من التعصب الجاهل, ذلك أن الجو الفكري الذي سرت فيه الدعوة إلى شن الحرب ضد المسلمين كان يضطرم بالدعاية المسعورة التي أذكت البابوية نيرانها ضد المسلمين، وطفق المبشرون الشعبيون والنساك والمتنبئون من أمثال "بطرس الناسك"، و"والتر المفلس" يوغرون صدور الجماهير ويزرعون في حناياها الرغبة في قتل أولئك المسلمين الذين شاعت عنهم القصص المرعبة التي اتهمتهم بتدمير الكنائس، وقتل المسيحيين، وتعذيبهم. ولا شك في أن البعض قد أخذوا شارة الصليب أملًا في خلاص أرواحهم, إلّا أن الفرسان الجوعى للأرض، وأبناء الأسر الإقطاعية الصغار الذين لم يكن من حقهم وراثة الإقطاعات, قد انضموا إلى الحملة الصليبية، يحدوهم الأمل في أن يحققوا لأنفسهم الأرض والمكانة التي عجزوا عن تحقيقها في بلادهم, وقد لعب البابا أوربان الثاني على أوتار هذا الأمل بشكل صريح في خطبته التي ألقاها في كليرمون بجنوب فرنسا سنة 1905 "انظر نص الخطبة كما أوردها المؤرخون الصليبيون المعاصرون في مجموعة الحروب الصليبية:
Cecueil des Historiens de Croisades Documents Occidenteaux فوشية دي شارتر "III, 727-728"، وروبير الراهب "lll 770" وبلدريك "lV 16". فقد أشار البابا إلى حالة الجوع إلى الأرض التي باتت فرنسا وأوربا الغربية تعاني منها عشية الحروب الصليبية".
والواقع أن غروب شمس القرن الحادي عشر الميلادي جاء متوافقًا مع تثبيت حدود الدوقيات والكونيات الإقطاعية في غرب أوربا عامة، وفي فرنسا على وجه الخصوص, وقد أدى ذلك إلى قيام نمط بدائي من التوازن السياسي في أوربا الأولى. "عن هذا الموضوع انظر نورمان ف. كانتور"، التاريخ البسيط، ترجمة الدكتور قاسم عبده قاسم، دار المعارف 1981، ص 347-355". وهو ما يعني بالضرورة أن فرصة الأمراء والفرسان(1/125)
الإقطاعيين للغزو داخل أرض بلادهم كانت ضئيلة بالفعل، ومن ثَمَّ كان اشتراكهم في الحرب المقدسة فرصة مناسبة لتحقيق طموحاتهم.
أما النورمان في جنوب إيطاليا, فقد تحركوا للمساهمة في الحملة الصليبية بدافع من كراهيتهم العميقة للدولة البيزنطية, ورغبتهم في انتزاع الممتلكات على حسابها؛ إذ كان النورمان يرون في هذه الحملة عملًا عسكريًّا موجهًا ضد البيزنطيين أكثر منها حربًا ضد المسلمين، وبيزا والبندقية، ولم يكن نابعًا من تقوى الإيطاليين أو رغبتهم في الخلاص. ذلك أن هذه المدن التجارية كانت تأمل في الحصول على موانئ على شرق البحر المتوسط لضرب السيطرة الإسلامية على التجارة في هذا البحر، وقد تمكن أبناء الجموريات الإيطالية من تحقيق مآربهم بعد نجاح الحملة الأولى, على نحو ما سنرى في حديثنا عن التأثير الاقتصادي للحروب الصليبية.
وعلى الصعيد الشعبي كان تأثير الدعوة إلى الحرب المقدسة مثيرًا بالفعل, وفي تصورنا أنه في مجتمع له ظروف الغرب الأوربي في القرن الحادي عشر الميلادي -حيث تسود مظاهر الجهل وتتفشى الأمية- كان لابد أن تكون الاستجابة لمثل هذه الدعوة قوية، بل وهستيرية، وهو ما حدث فعلًا. "عن أحوال أوربا قبيل الحروب الصليبية انظر:
Kenneth M Setton A hest of hest of the Crusades Vol l P XX LAMille "Euvees de Luetprand Reunies traduites et presentees par Ednond Pognon France 1947 Painter S A Hestory of the Middle Ages England 1953 pp 118-22
هكذا، إذن، لعبت الظروف الاجتماعية والاقتصادية دورها في الاستجابة السريعة المذهلة للدعوة التي وجهها البابا إلى الجماهير الأوربية, ومن ناحية، كانت هذه العوامل نفسها هي التي حكمت علاقات(1/126)
الكيان الصليبي بالعالم العربي، وبذلك حددت شكل التأثيرات التي تركها الصراع ضد الوجود الصليبي على العالم العربي الإسلامي.
لقد كان الاستعمار الاستيطاني هو أبرز أهداف الحروب الصليبية, وحين تحقق هذا الهدف فرضت آثاره السلبية نتائجها على العالم العربي الإسلامي؛ فعلى الصعيد الاجتماعي صحبت الحملة الصليبية الأولى عمليات تهجير وهجرة لعدد كبير من السكان، كما حدث تفريغ سكاني لبعض المناطق، وهرب سكان المنطاق التي تعرضت للعدوان إلى مناطق أخرى كانت أكثر أمنًا, وهو الأمر الذي أدى إلى تغيير نسبي في البناء الديموجرافي للمناطق الصليبية، كما ترك العدوان أثره على العلاقات بين المسلمين والمسيحيين عامة، وبعض طوائفهم خاصة، فضلًا عن تخلخل البناء الطبقي فيما يمكن أن نسميه بالحراك الاجتماعي الهابط لبعض الشرائح الاجتماعية، والحراك الاجتماعي الصاعد الآخر, ولنبدأ القصة من أولها.
كانت أول إمارة صليبية شادها الغرب فوق الأرض العربية هي إمارة "الرها" التي استولى عليها "بلدوين" ليقيم بذلك شعار بيت اللورين بين نهري دجلة والفرات, وكان على سكانها من المسيحيين الشرقيين، وغالبيتهم من الأرمن، أن يفسحوا مكانًا للمهاجرين اللاتين الذين انضموا إلى الخليط السكاني المكون من المسلمين والسوريان والنساطرة والأرمن، وتحول السكان الأصليون إلى مواطنين من الدرجة الثانية, وكان المسلمون أقليةً في هذه المدينة التي كان يحكمها أمير أرمني, يدين بالتبعية للدولة البيزنطية التي كانت قد انتزعتها من الحكم الإسلامي الذي استمر ثلاثة قرون، وهكذا، فإن السيادة البيزنطية التي استمرت طوال ما يقرب من مائة عام، كانت السبب(1/127)
الأساسي في بقاء قطاعات كبيرة من سكان هذه المنطقة على مسيحيتهم، وربما كانت سببًا في ارتداد بعض السكان عن الإسلام.
وفي سنة 1908 تمكَّن الصليبيون من الاستيلاء على أنطاكية بفضل خيانة الأرمن, وفي أنطاكية بدأ الإفلاس الأيديولوجي للحركة الصليبية يكشف عن نفسه في وضوح؛ فحين توقفت الحرب تجسد هذا الإفلاس في بؤرة شريرة من الدسائس والصراعات والمؤامرات التي امتدت خيوطها بين القادة الصليبيين، وفي خضم هذا الصراع تفرق الجيش الصليبي, وأخذ فرسانه وقادته يغيرون على المناطق الريفية المجاورة, بهدف انتزاع أملاك خاصة لكل منهم, وهرب الفلاحون من قراهم التي كانت هدفًا سهل المنال للصليبيين، ولما كانت المقاومة المحلية ضعيفة، خضعت القرى والقلاع المجاورة للصليبيين الذين استطابوا العيش في هذه المنطقة، ولكن ثورة الفقراء، الذين كانوا ما يزالون يحلمون بتحقيق طموحاتهم، أجبرت الجيوش الصليبيية على التقدم صوب بيت المقدس.
"انظر عن نشاط الصليبيين في المناطق المحيطة بأنطاكية: ابن العديم، زبدة الطلب في تاريخ حلب، تحقيق سامي الدهان دمشق 1951م، جـ2، ص123، ابن القلانسي، ذيل تاريخ دمشق، مطبعة الآباء اليسوعيين بيروت 1908م، ص134، ص135 انظر أيضًا Raymond d Aigles RHC Hist Occ lll 245 وكذلك سعيد عاشور، الحركة الصليبية، مكتبة الأنجلو المصرية ط. ثانية 1971م، جـ1، ص193-ص194".
وأعقبت سقوط بين المقدس في أيدي الصليبيين مذبحة فظيعة راح ضحيتها المدافعون عن المدنية فضلًا عن سكانها غير المحاربين من المسلمين واليهود, وفاض الدم في الشوارع، كما ظلت أكوام الجثث مصدر إزعاج في شوارع القدس فترة طويلة, وبعد المذبحة الرهيبة، توجه جودفري البويوني(1/128)
يتبعه الصليبيون في أعداد متزايدة، بعد أن رووا ظمأهم من دماء ضحاياهم من النساء والأطفال وغير المحاربين، إلى الضريح المقدس, وفي هذا الجو الموحش الذي يلفه الصمت الرهيب، وتغلفه الروائح الكريهة الصادرة عن المنازل المحترقة والأجساد العفنة، وبينما كانت دموع الفرح تسيل على وجه الصليبيين المرهقة، ترددت في أرجاء كنيسة القيامة عبارة أطلقها الصليبيون هي Te Deum laudamus، أي: نحمدك يا الله. وكانت هذه هي بداية الوجود الصليبي على الأرض العربية.
ومع بزوغ شمس اليوم الجديد بدأت المذابح مرة أخرى، واستمر الحال كذلك على مدى أسبوع كامل, وفي هذه الأثناء، تَمَّ إخلاء المدينة من جميع سكانها القدامى ووجدت المساكن الخالية لنفسها سكانًا جددًا، وفتحت الكنائس للعبادة, وهكذا صارت القدس مدينة لاتينية، تحكمها قوانين وظروف جديدة توافق سكانها الجدد القادمين من وراء البحار.
"عن استيلاء الصليبيين على بيت المقدس والمذبحة التي أعقبت ذلك انظر:
Gesta Francorum "The English translation Py Rosalind Hill Londin "1962" pp 90 93 Anne Connene Alexiade "Trad Francaise" pp 29-32.
انظر أيضًا في مجموعة مؤرخي الحروب الصليبية, ميخائيل السورياني RHC Doc Arm lll p 184 وكذلك متَّى الرهاوي Matthiu dEdesseRHC Doc Arm lll p 45sq انظر ابن الأثير، الكامل في التاريخ، جـ 10، حوادث سنة 492هـ، ابن القلانسي، ذيل تاريخ دمشق، ص136- ص137، ابن العبريّ، تاريخ مختصر الدول، ص197.
بعد سقوط بيت المقدس بأيام، اجتمع الصليبيون لمناقشة مشاكلهم، ولدفن الضحايا الذين كانت جثثهم مكدسة في طرقات المدينة، وتفوح منها رائحة مخيفة, بيد أن أهم ما كان يشغل بال القادة هي حاجاتهم إلى نوع من(1/129)
الحكومة المنظمة, ولا تمدنا المصادر التاريخية بما يشي بأن الصليبيين قد فكروا في مستقبل المناطق التي سيستولون عليها؛ إذ كان الغرب الأوربي معتادًا على التبدل الدائم والمستمر في الضياع الإقطاعية، دونما مساس بالنظام الزراعي الأساسي, ولم يكن الفرنج ليفهموا المشاكل الخاصة ببلاد الشام، كما أنه لم يكن بينهم من لديه الخبرة بالمستوطنات التي تضم عناصر جنسية ودينية مختلطة، باستثناء تنكرد Tancred النورماني, وكان الصليبيون يرغبون في اختيار حاكم علماني من بين زعمائهم الذين كانوا يمثلون مجموعة متضاربة المصالح، متفرقة الأهواء, وأخيرًا تَمَّ الاتفاق على اختيار جودفري البويوني بلقب "حامي الضريح المقدس".
وهكذا، فإنه نتيجة للنصر الذي أحرزته الحملة الأولى، قامت في الأرض المقدسة عاصمة مسيحية، كما قامت عدة مستوطنات فرنجية صغيرة في الرها وبلاد النهرين، وأنطاكية، وسوريا، فضلًا عن بعض مدن الشاطئ اللبناني. وكان من الضروري أن يتمَّ ربط هذه المراكز القليلة المتباعدة, حتى يمكن بناء دولة محكمة البنيان تتميز بوحدة أراضيها, وفي بطءٍ عنيد تحولت سيطرة الصليبيين على بعض المدن القليلة المتناثرة، إلى سيادة ثابتة على أقاليم متصلة, أخذت في التوسع دون أدنى مقاومة على مدى جيلين كاملين, ومن البديهي أن تأثير قيم هذه الكيانات الصليبية على الشكل الديموجرافي للمناطق التي شهدت الغزو كان عنيفًا؛ فقد آثر عدد كبير من الصليبيين أن يبقوا في الشرق حيث كان عليهم تحمل مهام الإمارة الاستعمارية الاستيطانية؛ ولأنهم كانوا أقل كثيرًا في عددهم من السكان الأصليين، فقد حاولوا قدر الطاقة، أن يشجعوا الهجرة من أوربا لتدعيم وجودهم, وكان الحجاج والتجار والمحاربون والمهاجرون يفدون من أوربا في موجات كبيرة أو صغيرة إلى الوطن الصليبي فيما وراء البحار Outremer، ولقد حاول بارونات وفرسان الصليبيين، في بداية الأمر، أن يحافظوا على ما نجحوا في الاستيلاء عليه دون الاستعانة بالغرب الأوربي، ولكن جسدًا(1/130)
غريبًا لا يمكن أن يعيش دون أن يجد لنفسه السند من الخارج, وهكذا كان على أوربا أن تقوم بدور الظهير الذي يرعى الكيان الصليبي ويحميه، باعتباره كيانًا أوربيًّا يحيا تحت سماء الشرق. وعلى مدى ما يقرب من قرنين، منذ سنة 1096م حتى سنة 1291م، توالت موجات من الأوربيين على حوض البحر المتوسط الشرقي بهدف الحفاظ على الأراضي التي استولوا عليها من المسلمين, وكانوا يجيئون بعشرات الألوف: حجَّاجًا، وجنودًا مسلحين، في مجموعات صغيرة يقودها أمراء إقطاعيون، أو على شكل جيوش ضخمة يتولى قيادتها أكبر حكام أوربا في ذلك الزمان, وهو ما يعني أن الحملات السبع الشهيرات لا تعبر عن واقع الحال؛ إذ كانت موجات المهاجرين تشبه موجات البحر العاتية أحيانًا، كما كانت أشبه بالتقاطر الهادئ المستمر أحيانًا أخرى. وفي طيات هذه وتلك، وفد الحجاج والمحاربون، والقراصنة وطريدو القانون، والتجار ورجال الدين، والنبلاء الجوعى للأرض، والحالمون والأفاقون، الذين اتخذوا جميعًا من الشرق العجيب هدفًا ومقصدًا, وكان لهذه الهجرات تأثيرها على البناء السكاني من حيث خلخلته، وتغيير ملامحه.
لقد ظهرت في إطار الوجود الأوربي على تراب الشرق العربي أربعة كيانات سياسية صليبية؛ إذ كانت إمارة الرها هي دولة الصليبيين في أقصى الشمال, في أعالي دجلة والفرات، تضم خليطًا من السكان المسلمين والمسيحيين الشرقيين، ولكن علاقات القوى الاجتماعية تغيرت فيها, نتيجة قدوم اللاتين لسكناها, ولكي يكونوا فيها الطبقة الحاكمة, بيد أن المعلومات المتاحة عن إمارة الرها الصليبية لا تماثل معلوماتنا عن الكيانات الصليبية الأخرى، وربما يكون السبب في ذلك راجعًا إلى حقيقة أنها كانت أول مدينة كبرى يستردها المسلمون في وقت مبكر.
وفي أنطاكية كان السكان خليطًا مماثلًا, بيد أن المصادر لا تدلنا على(1/131)
معرفةً ما إذا كان المسلمون أغلبية أم أقلية, وكانت إمارة أنطاكية منطقة جذب للنورمان في جنوب إيطاليا وصقلية، وللنورمان في فرنسا وانجلترا, ولكن ذلك لا يعني أن النورمان كانوا هم العنصر الوحيد من الأوربيين بين سكان أنطاكية، وإنما يعني أنهم كانوا يشكلون غالبية بين السكان الأوربيين.
وفي طرابلس، أصغر الكيانات السياسية الصليبية، كانت غالبية السكان من المسلمين، كما كان المسيحيون الشرقيون يمثلون قسمًا هامًّا من السكان, ومن بين هؤلاء بجميع طوائفهم، كان الموارنة هم الطائفة التي قربها الصليبيون؛ ولأن حاكم هذه الإمارة كان هو ريمون السانجيلي، كونت تولوز وماركيز البروفانس، فقد صارت هذه المنطقة ملاذًا لأولئك القادمين من جبال البرينيس, وحوض الرون الأدنى, وقطالونيا، ليستقروا تحت سماء الشرق العربي.
كانت مملكة بين المقدس اللاتينية هي الكيان السياسي الرابع تحت حكم آل بويون Bouilion الذين ينتمون إلى حوض الرون الأدنى. وكان لهذه المملكة زعامة الوجود الصليبي بأسره, كذلك كان سكان المملكة أكثر تنوعًا من سكان المناطق الصليبية في الشمال؛ فقد عاش بها المسلمون والمسيحيون، واليهود والسامرة, ولكن هذا الكلام لا ينسحب على مدينة القدس ذاتها. فحين امتلك الصليبيون المدينة المقدسة، كانت مدينة خاوية تقريبًا, وعلى أية حالٍ, فإنه لم يسمح للمسلمين أو اليهود بالعودة إلى المدينة, أما بالنسبة للمسيحيين، فقد صدر مرسوم يقضي لأي مسيحي أقام بمنزل عامًا ويومًا بأن يمتلك هذا المنزل, وسار بلدوين الأول خطوات أبعد في هذا السبيل خلال العام الأخير من حكمه؛ إذ يقول وليم الصوري: "إن الملك ... رأى أن عدد الناس في بلدنا قليل للغاية، وأنهم لا يكادون يملأون شارعًا واحدًا، فأقدم على إتاحة الفرصة لسكان القرى المسيحية المجاورة(1/132)
لكي يجيئوا للاستقرار في المدينة بشروط معقولة ... وجاء هؤلاء بزوجاتهم وأطفالهم زرافات ووحدانًا، وبكامل أمتعتهم ... " لقد كانت هذه هجرة أساسية، وكانت هي الأساس الذي قام عليه التركيب السكاني لمدينة القدس في ظل الحكم الصليبي:
"عن هذا الموضوع انظر:
"Willoam of Tyre "The ''Englesh Translation " xl 27 Prawer "The settle ment of the Latins in Jerusalem" in Speculum Vol XXVll pp 491 503" Bradford The Saga pp 88-89 Le Duc de Castries La Conquete de la Terre Sainte par Les VCroisees Paris 1973 pp 83 sq The Chroni- cles of the Ferst Crusade "ed Peters pp 7-9 T S R Boase Kingdons and Stronghodds of the crusaders London 1971 pp20-23- 41- 42>
كان ما حدث في المدينة المقدسة مثالًا لما حدث في غيرها من الأماكن التي استولى عليها الصليبيون، فبعد أن ظلَّت القدس خاضعة للسيادة الإسلامية طوال أربعة قرون، حلَّ الصليب محل الهلال، وتحولت المساجد إلى كنائس, وأزيل المحراب، وحُرِمَ المسلمون واليهود من سكنى المدينة, ولكن الصورة لم تكن صارخة بهذا الشكل خارج القدس, بيد أن جمهرة السكان المسيحيين في المدينة لم تبد من دلائل النمو والزيادة شيئًا، وإنما على العكس كانت الهجرة منها إلى مدن أخرى، أوحتى إلى أوربا، أمرًا واضحًا بسبب عدم كفاية مواردها الاقتصادية, وصعوبة الظروف المعيشية فيها. وبعد محاولة بلدوين الأول التي أشرنا إليها، أخذ رجال الدين المبادرة في نفس الاتجاه لتنمية الموارد البشرية للمدينة, وقد أصدر بلدوين الثاني في سنة 1120م، بناء على مسعاهم، قرارًا بإعفاء المواد الغذائية الواردة للمدينة من الضرائب التي كانت تدفع على مدخل القدس.
أما في سائر أنحاء المملكة، فكانت العناصر الأوربية أكثر تنوعًا منها في الشمال، وذلك بسبب جاذبية الأماكن المقدسة، ومحاولات حكام المملكة المستمرة لجذب السكان المسيحيين, وفي القرن الثاني عشر كانت شوارع(1/133)
القدس تبدو عالمًا مصغر الأشكال والألوان لأوربا والشرق المسيحي آنذاك, وقد زار الرحالة اليهودي بنيامين التطيلي مدينة القدس قبل سقوطها في أيدي المسلمين بقيادة صلاح الدين، وذكر أنها تضم عناصر سكانية عديدة من اليعاقبة والأرمن، واليونان, والجورجيين، والفرنج, وغيرهم من شتَّى الأجناس "Benjamin pp68-70". وحين استعاد المسلمون القدس انتقلت هذه الصورة إلى عكّا خلال القرن الثالث عشر "يوشع براور، عالم الصليبيين ترجمة د. قاسم عبده قاسم، د. محمد خليفة حسن، دار المعارف 1981، ص118-ص123".
ولكن غالبية المستوطنين كانت من الفرنسيين، وهذا هو ما حدا مؤرخي المسلمين أن يطلقوا على الصليبيين جميعًا اسم الفرنج, بيد أن البعض يبالغ في قيمة الدور الفرنسي في الحروب الصليبية, ويذهب إلى أن الرب قد اختار مثل هذا الدور للفرنسيين في الحروب الصليبية؛ فقد كان الألمان في صراع ضد البابا حول مشكلة التقليد العلماني عشية الحروب الصليبية, وفي انجلترا كان موقف وليم الثاني مزعزعًا؛ لأن بلاده كانت منقسمة بفعل الخصومات المتزايدة في الداخل, أما النبلاء الإيطاليون فلم يكونوا قد وصلوا بعد إلى مرحلة النضج التي تكفل اشتراكهم في الحملة, وعبر جبال البرانس كان الأسبان المتورطون في حروبهم الاستردادية reconquista ضد مسلمي الأندلس، في وضع لا يسمح لهم بالمشاركة؛ إذ كانت هزيمتهم في معركة الزلاقة، ما تزال ماثلة أمامهم، كما أنهم كانوا يخشون أن يعاود المرابطون الهجوم عليهم, ولم تكن شعوب الشمال الأسكندنافية القليلة العدد لتمثل موردًا هامًّا من موارد القوة البشرية اللازمة لهذه الحملة", ومن ثَمَّ كان الفرنسيون يشكلون تسعين بالمائة تقريبًا من قوات الحملة الصليبية الأولى.
Lewis A M S umbergf La Chanson d Antionche etude hestorique et litter -(1/134)
ire paris a1968 pp. 144-145"
وقد انعكس هذا الموقف على نسبة الفرنسيين في عدد السكان في المستوطنات الصليبية حيث كانوا هم الغالبية.
ومن ناحية أخرى، كان لنجاح الحملة الصليبية الأولى أثره في تأجج الحماسة في صدور مسيحي أوربا؛ إذ كان الناس يستمعون في شغف إلى أحاديث المقاتلين العائدين، ولا بد أن أحاديثهم كانت تركز على حاجات المناطق المسيحية الجديدة، وعلى الفرص المتاحة هناك, ومن لمبارديا وفرنسا وغيرهما من مناطق أوربا، بدأت جماعات الصليبيين تشق طريقها صوب الشرق, وعلى الرغم من أن الأعداد غير مؤكدة، فإن المصادر التاريخية تكشف بوضوح عن أن أعداد النازحين من الغرب الأوربي عقب نجاح الحملة الأولى كانت مساوية تقريبًا لأعداد جيوش هذه الحملة، وتؤكد المصادر أن عددًا كبيرًا من هؤلاء النازحين كانوا من النساء والأطفال وغير المقاتلين، مما يجعل هذه الحركة هجرةً أكثر من كونها حملة عسكرية, وكان هذا بمثابة البداية لذلك الفيض الثابت من المهاجرين الذين كانوا هم المصدر الأساسي لقوة مملكة بيت المقدس اللاتينية والكيانات الصليبية الأخرى. ومن المؤكد أن هذه الهجرات كانت تدفع بالسكان الأصليين من العرب والمسلمين في المناطق الصليبية تجاه المناطق التي بقيت بأيدي المسلمين. وكان وصول كل فوج جديد من الصليبيين يحمل معه مزيدًا من المتاعب للسكان الأصليين، لا سيما الفلاحين في المناطق الريفية التي كانت مفتوحة على الدوام أمام أي عدوان، بعكس المدن والقلاع التي نعمت بالحصون والقلاع والأسوار القوية, ذلك أن الصليبيين الجدد كانوا يفدون من أوربا تدفعهم حمساتهم وتعصبهم الصليبي، وكان الفلاحون هم فريستهم السهلة المنال التي كانت تتلقى أولى الضربات من القادمين الجدد باستمرار, وكانت هذه الغارات المتكررة من أسباب تفريغ المناطق الريفية من سكانها الذين كانوا يهربون صوب بلاد أخرى، أو صوب الصحراء(1/135)
لتشكيل عصابات للنهب وقطع الطريق، أو نحو المدن حيث يجدون الخبز والأمان, وقد أدَّى هذا إلى انخفاض سكان بلاد الشام إبَّان القرن الحادي عشر بدرجة كبيرة.
"تمدنا المصادر اللاتينية والعربية على السواء بأمثلة لا حصر لها عن أفواج القادمين الجدد من أوربا, وعن هجومهم على السكان الأصليين: انظر على سبيل المثال: ابن العديم، زبدة الطلب، جـ2، ص173، ابن الأثير، الكامل جـ10، ص136، ص139، ص181، ص250، ص251، ابن القلانسي، ذيل تاريخ دمشق، الروضتين، ص51، ص52، ابن القلاسني، ذيل تاريخ دمشق، ص136، ص137، ص141، ص297، ص298، أبو شامة، الروضتين، ص51، ص52، ص80، ابن واصل، مفر الكروب، جـ1، ص140، المقريزي، السلوك، جـ1، ص754، ابن شداد، النوادر السلطانية، ص136، ص138، ص236، انظر أيضًا ما ذكره متَّى الرهاوي RHC Arm l 90 وميخائيل السورياني RHC Doc Arm l 327 -9, انظر أيضا Bradfoed the sage p 107 Boase Kingdoms pp 31-32 Le Duc de Cer rt La conquate p de Bathelem "Pelerins Champenoen en Palestine 1097 1249" Revue de l Orient Latin l pp 354-380"
هكذا إذن تمثلت النتيجة الأولى للوجود الصليبي والصراع ضده، في تغيُّر التركيب السكاني في كثير من مناطق المواجهة؛ ذلك أن المسلمين من غير المقاتلين قد هربوا أو طردوا أثناء حوادث الغزو, وقد هرب أبناء الطبقة المتوسطة والطبقة العليا من المدن التي سقطت في حوزة الصليبيين، وحين عادوا ليستقروا في هذه المدن، بعد أن هدأت الأحوال، لم يكن ذلك يعني عودة التركيب السكاني إلى ما كان عليه، فقد كان لا بد من توفير الأماكن للوافدين الجدد على حساب السكان الأصليين, وقد توالت الهجرات في أعداد كبرت أو صغرت حسب مقتضى الحال، ولكنها كانت دائمًا سببًا في(1/136)
اختلال البناء الديموجرافي. لقد تلقَّى العالم العربي الإسلامي ضربة مفاجئة أثارت الذعر والهلع في جنباته. وحين اكتشف المسلمون أن الصليبيين جاءوا إلى المنطقة العربية بقصد البقاء، كان على العالم العربي أن يغص بمرارة هذه الحقيقة، ولكن العجز التام, والشلل الذي حال دون تعبئة الموارد الاقتصادية والديموجرافية الهائلة للوطن العربي على مدى جيلين كاملين، شجَّع الصليبيين على المضيِّ قدمًا لتدعيم فتوحاتهم، ووصلوا بها إلى البحر غربًا والصحراء جنوبًا, فيما يمكن تسمتيه بالحدود الطبيعية, وهكذا شاد الغرب المسيحي مستوطناته على الأرض العربية لتعيش قرنين من الزمان في مواجهة القوى العربية الإسلامية.
لقد انقسمت منطقة حوض المتوسط الشرقي إلى أقاليم صليبية وأخرى إسلامية نتيجةً للوجود الصليبي، وكان الأثر المباشر لهذا على الصعيد الاجتماعي هو التغير الديموجرافي, واختلال علاقات القوى الاجتماعية على النحو الذي كشفت عنه الأمثلة السابقة, وبعبارة أخرى: كان للغزوة الصليبية، والمذابح التي واكبتها، أثرها المباشر على التركيب السكاني في المنطقة التي دارت على أرضها رحى المعارك الصليبية؛ فقد كان لاستيطان الفرنج -بمعنى جميع الشعوب الأوربية- تحت سماء الشرق، أثره المباشر والعنيف في تغيير البناء السكاني للمناطق التي خضعت لحكم الصليبيين وسيطرتهم, كما أن عمليات الهجرة والتهجير دفعت بجماهير السكان في المناطق التي تعرضت للعدوان، إلى مناطق أخرى آمنة، بحيث اهتز البناء السكاني في مناطق الهجرة بشكل عنيف.
ومن ناحية أخرى، كان للحروب الصليبية أثر ديموجرافي غير مباشر, إلى جانب هذا الأثر المباشر؛ إذ أن العالم العربي قد نهض لمقاومة العدان الصليبي، بعد أن استوعب الصدمة الأولى، وبدأت الجيوش تفد من جميع أنحاء العالم العربي، مصر وبلاد الشام والعراق، فضلًا عن الجنود(1/137)
والمتطوعين الوافدين من المناطق الإسلامية الأخرى، في محاولةٍ لطرد العدو الصليبي, والقضاء على الكيان الغريب الذي زرعته الحروب الصليبية على الأرض العربية. وطوال مائتي عام، خرجت جيوش كبيرة سواء بشكلٍ عامٍّ أو في معارك جزئية، وهدفها: محاربة الكيان الصليبي, ومما لا شك فيه أن هذه الجيوش الإسلامية كانت تضم عناصر عسكرية غير عربية، ولكن أفراد هذه الجيوش كانوا يشكلون جزءًا من البنية السكانية في الأقاليم التي خرجت منها, زد على ذلك أن الجيوش في العصور الوسطى، لم تكن تعرف سلاح الخدمات والإمدادات الذي يوجد في الجيوش الحديثة، ومن ثَمَّ فإن كثيرين من أصحاب الحرف والصناعات كانوا يصحبون الجيوش لتقديم الخدمات، وإقامة الأسواق للجنود، فضلًا عن أن المصادر تتحدث كثيرًا عن المتطوعين الذين كانوا يصحبون الجيوش النظامية، والذين كانت أعدادهم أحيانًا تفوق أعداد الجند النظاميين، كما أن المناطق التي جرت على أرضها المعارك ضد الصليبيين، سواء في مصر أو بلاد الشام أو أعالي العراق، قد تعرضت لتغيير سلبي في بنائها السكاني، بسبب ما يصحب الحروب عادةً من أعمال السلب والنهب واستباحة السكان، وهو الأمر الذي كان طبيعيًّا في تلك العصور.
وإذا ما حاولنا تتبع الخطوط العريضة لحركة المقاومة العربية الإسلامية ضد الوجود الصليبي، وحاولنا الاستعانة بأرقام الجيوش الإسلامية التي ذكرها المؤرخون، أدركنا مدى تأثير هذه الحروب الطويلة المرهقة على العالم العربي الإسلامي من حيث بنيانها السكاني، ومواردها البشرية.
فبعد الاستيلاء الصليبي على بيت المقدس، وصلت الجيوش المصرية بقيادة الأفضل سنة 492هـ، وحين تمت المواجهة؛ انهزم العسكر المصري إلى جهة عسقلان، ودخل الأفضل إليها, وتمكنت سيوف الإفرنج من(1/138)
المسلمين، فأتى القتل على الراجل والمطوعة وأهل البلد، وكانوا زهاء عشرة آلاف نفس "ابن القلانسي، ذيل تاريخ دمشق، ص137" وفي سنة 494هـ خرجت جيوش سقمان بن ارتق لمهاجمة الصليبيين في الرها وسروج، وجرت مذبحة راح ضحيتها عدد كبير من المسلمين. لقد قامت مصر بدور ضئيل في قتال الفرنج بعد أن اتضحت حقيقة مقاصدهم، ولكن التدهور الداخلي حال دون فعالية الدور المصري في المقاومة الإسلامية في الأدوار الأولى من الحروب الصليبية، بل إن الجيوش المصرية الكبيرة التي خرجت من مصر في أواخر عهد الدولة الفاطمية، كانت من أهم أسباب تدهور الموارد البشرية المصرية، مما أدّى إلى سقوط الخلافة الشيعية في القاهرة في نهاية الأمر.
ولا شكَّ في أن المسلمين لم يكونوا ليدعوا الصليبيين يهنأون بالمدينة التي كانت بمثابة درة التاج لدى أصحاب الديانات الثلاث، فالمصادر التاريخية تذكر أن الحرب لم تتوقف ضد الصليبيين منذ أن وطأت أقدامهم الأرض العربية في الشام والعراق. ففي السنوات الأولى جرت معارك ضخمة بين الأتراك السلاجقة والصليبيين, وكانت الجيوش الإسلامية تتألف من أعداد ضخمة من الفرسان والمشاة "ابن القلانسي، ذيل تاريخ دمشق، ص 137 Matt pp 132-133-137-139-143-145
وعندما وصلت المملكة الصليبية إلى أقصى اتساع لها، بدأ المسلمون يجابهون التحدي الصليبي, ولكن السنوات الخمسين التي أعقبت قيام المملكة اللاتينية في فلسطين، والتي شهدت حركة التوسع الصليبي في كل اتجاه، أثبتت أن الدول والإمارات الإسلامية كانت عاجزةً تمامًا عن التعاون في خلق جبهة موحدة، كما أثبتت هذه السنوات الخمسون أن مصر، بكل مواردها الاقتصادية وقوتها البشرية، لم تكن ندًّا للأوربيين؛ بسبب حال الضعف التي اعترت الدولة الفاطمية وهي تجتاز منحنى التدهور والاضمحلال الذي أودى بها في نهاية الأمر. وبين الحين والحين كانت(1/139)
الإمارات الإسلامية في بلاد الشام تعقد بعض الاتفاقيات مع بعضها البعض، أو مع مصر، بقصد العمل المشترك, بيد أن هذه التحالفات السريعة كانت لا تلبث أن تنفصم بالسرعة نفسها التي تمت بها.
وعلى الرغم من أن هذا الفشل السياسي في توحيد الجهود العربية الإسلامية إزاء الخطر الصليبي، كان يؤدي إلى مزيدٍ من الإخفاقات العسكرية، فإن ما يهمنا أن نشير إليه في هذا المقام، هو أن المعارك الكثيرة التي جرت إبَّان السنوات الخمسين التي أعقبت قيام مملكة الصليبيين، كانت تستنزف الموارد البشرية لبلاد الشام ومصر -فضلًا عن الموارد الاقتصادية, والجهد الثقافي, وهو ما نرجئ الحديث عنه إلى حين, وقد أدى هذا في نهاية المطاف إلى الفشل النهائي على محور دمشق القاهرة في المقاومة الإسلامية ضد الصليبيين "عن النضال ضد الصليبيين في هذه المرحلة, انظر ابن القلانسي، ذيل تاريخ دمشق، ص137-ص146، ابن الأثير, الكامل, جـ10, ابتداء من حوادث سنة 492هـ؛ عاشور, الحركة الصليبية، ص255، ص257، انظر أيضًا: Albert d Aix RHC occ lV pp 497 sq Matt pp132-145"
فلم يبدأ رد الفعل الإسلامي من مصر أو من بلاد الشام، وإنما من الموصل, وكان حكام الموصل يدينون بالولاء للسلطان السلجوفي في فارس، كما كانت لهم السيطرة على الإمارات الشامية والعراقية، بل وعلى الخليفة العباسي نفسه في بغداد, وقدحاولوا باسم الخليفة العباسي والسلطان السلجوفي، أن يحصلوا على تعاون الحكام المسلمين المحليين في بلاد الشام، وشنُّوا عدة هجمات ضد الصليبيين في الرها وأنطاكية، بيد أن نتائج هذه الجهود العسكرية لم تكن مرضية "ابن القلانسي، ذيل تاريخ دمشق، ص143، ص150، ص169، ص170" وفي سنة 1113 تمكَّن جيش الموصل بفضل تحالف عسكري كبير، من هزيمة الصليبيين قرب(1/140)
الجليل، وتمكَّن المسلمون من حصار القوة العسكرية الكاملة للمملكة الصليبية، ولكن عدم القدرة على الاحتفاظ بجيش كبير العدد، ينتمي أفراده إلى فئات وطوائف غير متجانسة، لفترة أطول من ذلك، حرم المسلمين من إحراز نصر ساحق "ابن القلانسي، ص178- ص181، ص184-ص185".
ومع ذلك فإن شيئًا ما قد بدأ يتغير داخل المعسكر الإسلامي، بفعل النتائج الديموجرافية للغزو الصليبي, وقد جاء هذا التغيير من بين جماهير المسلمين الذين أدركوا مدى فداحة الخطر الصليبي من ناحة, وفشل القيادات العربية الإسلامية من ناحية أخرى؛ فقد أثار تدفق اللاجئين إلى سائر مناطق العالم الإسلامي من فلسطين في أعقاب الغزو الصليبي، مشاعر الاستياء ضد القيادة الإسلامية. وفي البداية، علت أصوات الاستياء والدعوة إلى الجهاد على منابر المساجد في صلاة الجمعة، وسرعان ما حظيت الحركة بتأييد شعبي قوي، لتصبح الدعوة للجهاد ضد الكفار بمثابة صرخة التجمع للقوى العربية الإسلامية، وسُطِرَت الكتبُ, ودُبِجَت الرسائل عن فضل الجهاد والمجاهدين، وعن مكانة بيت المقدس وأهميتها. وفي ظل هذه الحركة تكوَّن رأي عام قوي وضاغط على القيادات السياسية في العالم العربي الإسلامي، وقدر لهذه الحركة أن توجه مجرى الأحداث على مدى ما يزيد على قرن ونصف من الزمان.
في ظل هذه البعث الأيديولوجي، ظهر عماد الدين زنكي ليقود حركة المقاومة الإسلامية على محور جديد هو محور الموصل-حلب، الذي حلّ محلَّ محور القاهرة-دمشق, الذي أثبت فشله بسبب الانهيار الداخلي للخلافة الفاطمية, والتشرذم والتفكك الذي عانت منه بلاد الشام آنذاك. وقد أخضع عماد الدين زنكي المنطقة ما بين الموصل وحلب لسلطانه، وسرعان ما أضحى أقوى حاكم إسلامي في زمانه؛ لأنه طوَّع قوته وسلطانه في خدمة(1/141)
المطلب الشعبي العام، أي: الجهاد ضد الفرنج؛ فقد قامت المدارس والعلماء والدوائر المتدينة بخلق مناخٍ للرأي العام، كان من المتعذر في ظله أن يتجنب الأمراء الشاميون المواجهة المباشرة للتحدي الذي فرضه الوجود الصليبي. وشيئًا فشيئًا نجح عماد الدين زنكي في التغلب على النعرات الانعزالية في كل من الشام والعراق. وفي سنة 1144م شنَّ زنكي هجومًا ناجحًا على الرها, واستولى على عاصمة أول إمارة صليبية قامت على تراب الشرق العربي الإسلامي "Michel pp 325 -344 Chabot pp170-172"
كان سقوط الرها نذير شؤم وصدمة نفسية مؤلمة للصليبيين؛ لأنه كان يعني أن أراضي إمارة أنطاكية، شمالي غرب الرها، ستكون هي الهدف التالي للمسلمين، وفي سنة 1146م جرت محاولة فاشلة من قِبَلِ الصليبيين لاستعادة الرها، ولكن نور الدين محمود خليفة زنكي ووريثه تمكَّن من استرجاعها, وبذلك انتهى الضغط الصليبي على مناطق أعالي الفرات, بيد أن نور الدين لم يكن قادرًا على شن هجوم حاسم ضد الصليبيين؛ لأن سيطرته على محور الموصل-حلب لم تكن قد رسخت بعد, كما أن حكام دمشق كانوا عقبة كؤودًا في سبيل جهوده لتوحيد الجبهة الإسلامية, فقد كانت دمشق قد توصَّلت إلى حال من التعايش السلمي مع الصليبيين، واستنجد حكامها مرات ومرات بالصليبيين في مواجهة قوات زنكي ونور الدين ومن بعده, ومن ناحية أخرى لم يكن بمقدور نور الدين أن يهاجم المملكة اللاتينية ومن وراء ظهره إمارة دمشق التي لا يثق بحكامها.
ومن الغريب أن الصليبيين هم الذين قاموا بتقويض هذا الترتيب الذي كان يناسبهم تمامًا؛ فقد جاءت الحملة الصليبية الثانية من أوربا سنة 1148م ردًّا على استيلاء المسلمين على الرها واستعادتها من أيدي الصليبيين. وبدلًا من أن يشن الفرسان القادمون من الغرب اللاتيني هجوهم لاستعادة أول إمارة صليبية في الشرق، إذا بهم يشنون هجمة(1/142)
خرقاء على دمشق, وانتهت هذه الحماقة بالفشل في دخول المدينة، وآتت ثمارها في مجموعة من التهم التي وجهها قادة الحملة الثانية إلى المستوطنين اللاتين بقبول الرشوة لإحباط الحصار حول دمشق, ولكن النتيجة الرئيسية لهذه الحملة كانت ارتماء دمشق في أيدي نور الدين المفتوحتين سنة 1145م.
هكذا تَمَّ توحيد جبهة الشمال، وتَمَّ حشد كافة الموارد البشرية والاقتصادية والثقافية لدعم تماسك هذه الجبهة وصلابتها, وبسبب صلابة وتماسك الجبهة العربية الإسلامية في الشمال اتجه اللاتين جنوبًا؛ حيث كان الوقت مناسبًا, والظروف مواتية لحركتهم؛ إذ كانت مصر آنذاك بمثابة الرجل المريض على ضفاف النيل، حيث كانت الدولة الفاطمية عاريةً إلَّا من بعض ظلال قوتها السابقة؛ فقد توالى تغير الوزراء الذين كانوا هم الحكام الفعليين في البلاد، في إيقاع عدد من الانقلابات والفتن والاغتيالات التي تضمن الوصول إلى الحكم. وفي سنة 1150 هاجم الصليبيون غزة في إشارةٍ واضحةٍ لاتجاهمهم إلى مصر، ثم سقطت عسقلان آخر المعاقل الفاطمية في فلسطين سنة 1153م, وكان من أهم نتائج الهجوم الصلببي على العريش سنة 1161م أن أخذت مصر تدفع إتاوةً سنويةً للصليبيين, وأخيرًا جاءت فرصة التدخل والوصول السلمي إلى القاهرة بسبب النزاع بين شاور وضرغام؛ فقد لجأ أحد الوزيرين المتصارعين إلى طلب مساعدة أمالريك Amalric" "عموري" ملك بيت المقدس، على حين لجأ الثاني إلى الاستنجاد بنور الدين, وخلال السنوات الست التالية غزا الصليبيون مصر خمس مرات, وكانت هذه فرصة طيبة بالنسبة للصليبيين الذين كانوا ينشدون وقف الخطر المصري, إما عن طريق ضمِّ مصر وعقد تحالف معها، أو عن طريق تحييد المصريين على أقل تقدير.
ومن ناحية أخرى كان البيزنطيون على استعدادٍ للتعاون مع الصليبيين ضد مصر، بيد أن الصليبيين كانوا يعتقدون أنهم قادرون على تحقيق النصر بمفردهم؛ بحيث يمكنهم أن ينفردوا بثماره
Matt. op, cit, pp. 118 FF.; Michel, op. cit, pp. 346, f, 359-362'(1/143)
انظر أيضًا محمد مصطفى زيادة، حملة لويس التاسع على مصر، "المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية 1961م"، ص12 وما بعدها، يوشع براور، عالم الصليبيين "ترجمة د. قاسم عبده قاسم, ود. محمد خليفة حسن، دار المعارف 1891" "ص72-ص73".
وقد أدَّى التدخل الصليبي لصالح أحد الوزيرين الفاطميين المتنافسين إلى أن أخذ الوزير الآخر في البحث عمن يحميه، فأرسل يطلب مساعدة نور الدين، كما أسلفنا القول. وجاءت القوات الإسلامية إلى مصر بقيادة أسد الدين شيركوه, ودار القتال على الأرض المصرية بين المسلمين والصليبيين, واضطر الصليبييون إلى الانسحاب في نهاية المطاف، وإن ظل الاستيلاء على مصر سرابًا يجذبهم نحوه بين الحين والحين.
ولم تؤد هذه الحملات الصليبية ضد مصر إلى تقلص الموارد العسكرية والبشرية للمملكة اللاتينية فحسب، وإنما أدى فشلها إلى تغيير خريطة المنطقة العربية، فقد صار أسد الدين شيركوه وزيرًا لمصر, وبعد موته سنة 1169 خلفه ابن أخيه صلاح الدين يوسف, ثم اختفت الخلافة الفاطمية من الوجود سنة 1171م, وعادت مصر أخرى تحت السيادة الاسمية للخلافة العباسية. بيد أن توحيد الجبهة العربية الإسلامية لم يتحقق سوى بعد خضوع سوريا والعراق للجيش المصري بقيادة صلاح الدين, وبعد أن استولى صلاح الدين على حلب سنة 1183, بدأ يدعم قوته استعدادًا للمواجهة الشاملة مع الصليبيين.
في تلك الأثناء قام الصليبييون بعدد من الغارات الجريئة عبر سيناء، ووصلوا حتى بحيرات منطقة السويس -البردويل حاليًا- كما شنوا غارات أخرى على تيماء في شمال شبه الجزيرة العربية, وحاول رينو شاتيون Re- moud de Chatillon أن يقتحم البحر الأحمر ويغزو مكة والمدينة لكي يتحكم في حركة التجارة الدولية عبر هذا البحر بين آسيا ومصر عن طريق باب(1/144)
المندب, وهاجم بعض الموانئ المصرية والحجازية قبل أن تتمكن سفن الأسطول المصري من مباغته والقضاء عليه "عن العمليات التي قام بها أمير الكرك في البحر الأحمر وهزيمته, انظر العماد الكاتب الأصفهاني، سنا البرق الشامي "تحقيق الدكتورة فتحية النبراوي، مكتبة الخانجي 1979, ص212-ص213".
كانت قمة انتصارات صلاح الدين وجيوشه في حطين "24 ربيع الآخر سنة 583هـ-4يوليو 1187م؛ حيث تبدد الجيش الصليبي بأسره. "عن هذه المعركة الحاسمة في تاريخ المواجهة ألفت بعض الكتب العربية في زمن صلاح الدين أشهرها: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، أو سيرة صلاح الدين, وهي من تأليف بهاء الدين بن شداد, الذي كان شاهد عيان بحكم كونه من أقرب معاوني صلاح الدين, وقد قام على نشرها وتحقيقها الدكتور جمال الدين الشيال، سنة 1964، وكذلك كتاب: الفتح القسيّ في الفتح القدسيّ للعماد الكاتب الأصفهاني الذي كان من المقربين إلى صلاح الدين وشهد معاركه بنفسه، وقد حققها ونشرها محمد محمود صبح 1965، وللمؤرخ نفسه كتاب: سنا البرق الشاميّ, الذي يعد من أهم مصادر تاريخ صلاح الدين وقد أشرنا إليه قبلًا". أما ما حدث بعد هزيمة الصليبيين في حطين فكان شيئًا أشبه باستعراض عسكري منه بحملات عسكرية، فقد أخذت المدن والقلاع والحصون تفتح أبوابها تباعًا أمام جيوش صلاح الدين, وفي أكتوبر سنة 1187م, أي: بعد ثمانية وثمانين عامًا من السيادة اللاتينية، عادت مدينة بيت المقدس مدينة إسلامية مرة أخرى, ولم يتبق بأيدي الصليبيين سوى صور، وأنطاكية، وطرابلس، وبعض القلاع المتناثرة.
وجاء رد الفعل الأوربي تجاه سقوط بيت المقدس وغيرها من المعاقل الصليبية متمثلًا في الحملة الصليبية الثالثة بقيادة ثلاثة ملوك أوربيين(1/145)
كبارهم: فردريك الأول بربروسا ملك ألمانيا, الذي قاد القوات الألمانية وهو في السبعين من عمره، وفيليب أوغسطس ملك فرنسا، أما ريتشارد ملك انجلترا، والذي كان قائدًا للجيوش الأنجلو-نورمانية والأكويتانية، فقد كان أبرز القادة الثلاثة، واشتهر باسم ريتشارد قلب الأسد، وعلى الرغم من هذا, فإن هذه الحملة لم تنجح سوى في استرداد عكا بعد معارك مضنية وعنيفة.
وعندها بدأ المعسكران الإسلامي والصليبي يحسان بوطأة النفقات الهائلة ماليًّا، والاستنزاف في الموارد البشرية. لقد كانت موارد صلح الدين الأيوبي المالية والبشرية آخذة في التدهور، كما أن المحاربين في جيوشه الهائلة بدأوا يعربون عن تململهم من طول فترة الحرب، ومن ثَمَّ عقد الطرفان هدنة في سنة 588هـ-1192م. بيد أن وفاة صلاح الدين الأيوبي سنة 1195م, أدت إلى تفسخ دولته بسرعة، فقد كان هذا الرجل هو الذي يحفظها من التفسخ، كما لم يكن ثمة مبدأ متوارث، أو تناسق داخلي يشد أطراف مملكته الشاسعة إلى بعضها البعض, وساد التوتر بين الورثة من أبناء البيت الأيوبي؛ بحيث تمتعت المملكة اللاتينية على أرض الشام بالسلام لفترة تقرب من عشر سنوات.
كان واضحًا أن قوات الصليبيين لم تكن ندًّا للمسلمين، ومن ثَمَّ انعقد أمل المملكة الصليبية على قدوم حملة كبرى جديدة تفتح لهم مجالًا للتوسع، وبعد عدة تقلبات جاءت الحملة الصليبية المعروفة بالخامسة، لكي تفتح فصلًا جديدًا في تاريخ الصليبيين؛ إذ كان الهدف الرئيسي لهذه الحملة هو مصر, فقد كانت هناك أسباب عديدة تحفز الصليبيين على الهبوط من دلتا النيل بدلًا من ضفاف نهر الأردن، وأهم هذه الأسباب، هو الرغبة الجامحة من جانب المدن التجارية الإيطالية -الممول الرئيسي للحملة- في السيطرة على السوق التجارية الرئيسية في حوض المتوسط وضرب المنافسة(1/146)
المصرية القوية، أما السبب الثاني فكان نابعًا من المذهب السياسي-العسكري الجديد للصليبيين، والذي كان يرى في القضاء على مصر، أو تحييدها على الأقل، ضمانًا للوجود الاستعماري الاستيطاني الصليبي. حقًّا لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يقصد الصليبيون فيها غزو مصر، أو ضمها للأملاك اللاتينية, ولكن بينما كان الهدف الرئيسي من حملات أمالريك "عموري" في القرن الثاني عشر, هو ضم مصر أو تحويلها إلى دولة تابعة لمملكة بيت المقدس، كان هدف الحملة الخامسة هو استرداد الشرف العسكري والهيبة اللذين فقدتهما المملكة اللاتينية فوق تراب حطين. وكان في ظن الصليبين أن تحقيق انتصار ضخم على مصر سوف يضمن خضوعها، ويجبرها على الدخول في معاهدة سلام تشترط عودة المملكة الصليبية إلى حدودها القديمة, وفي سنة 1219م استولت الحملة الخامسة على دمياط، ثم انتظر الغزاة عامًا كاملًا ليبدأوا الزحف صوب القاهرة, وحين فشلت المفاوضات فرضت الحرب نفسها، وقطع الجيش المصري، والتعزيزات التي تلقاها من الشام، الطريق بين الحبشي الصليبي ومؤخرته في دمياط, واضطر الصليبيون إلى التخلي عن أحلامهم في مصر ثمنًا لحريتهم, وهكذا فشلت الحملة الصليبية الخامسة.
وعلى الرغم من كل شيء تجمعت حملة صليبية جديدة بقيادة فردريك الثاني, الذي كان يحمل لقب ملك بيت المقدس بعد زواجه من إيزابيلَّا ابنة حنا برين, ولكن فردريك كان صقليًّا أولًا وأخيرًا, أي: أن الإسلام بالنسبة له لم يكن مجرد كتاب مغلق، فضلًا عن أن المسلمين في نظره لم يكونوا مجرد قوم من الكفار الذين يستحقون الفناء, وقد نجح فردريك بفضل المشاكل التي كان السلطان الكامل الأيوبي يواجهها في الشام ومصر، في عقد اتفاقية معه، كان أهم شروطها أن تعود القدس إلى الصليبيين. لقد كان من حسن طالع الصليبيين أن شهدت هذه الفترة تمزق الجبهة العربية الإسلامية من جديد.(1/147)
وفي الوقت نفسه كانت طبول الحرب التترية يتردد صداها في المنطقة، واقتربت قعقعة حوافر الخيول المغولية من المنطقة؛ حين تحالف الصليبييون والأيوبيون في دمشق ضد الأيوبيين في مصر, واستعان المصريون بالخوارزميين الذين كانوا قد تحولوا إلى مرتزقة يبيعون سيوفهم لخدمة حكام الشرق الإسلامي, بعد أن قضى المغول على دولتهم في المناطق القريبة من البحر الأسود. وفي المعركة التي دارت بالقرب من غزة لقي الصليبيون هزيمةً قاسيةً على أيدي المصريين والخوارزميين, وفي سنة 1244م استعاد الخوارزمية مدينة بيت المقدس لتظل مدينة عربية حتى العدوان الصهيوني عليها في العصر الحديث.
وكانت آخر حملة صليبية كبرى هي تلك التي قادها لويس التاسع ملك فرنسا ضد مصر سنة 1248م، وانتهت بكارثةٍ راح ضحيتها الجيش الصليبي كله، وأسر الملك لويس نفسه في دار ابن لقمان بالمنصورة, واضطر الصليبيون إلى الرحيل مقابل فدية كبيرة لملكهم وأسراهم الكثيرين, بلغت حوالي مليون قطعة ذهبية.
ومنذ ذلك الحين صمت أوربا آذانها أمام كل نداء جاءها من الصليبيين في الشرق طلبًا للمساعدة, وفي تلك الأثناء ولدت سلطنة المماليك في مصر والشام، والتي كانت الإفراز السياسي الكبير للحروب الصليبية، ويعتبر السلطان الظاهر بيبرس المؤسس الحقيقي لهذه الدولة، فبعد القضاء على الخطر المغولي في بلاد الشام، ومطاردته إلى العراق وفارس، أحاط المصريون ببقايا مملكة الصليبيين من كل اتجاه, ولم يعد بوسع أوربا أن تقدم شيئًا لمساعدة الصليبيين في الشرق، فقد كانت فكرة الحروب الصليبية قد انتهت في أوربا، ولم يكن الواقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي في أوربا آنذاك ليفرز أية حملات جديدة, وأخذ الوجود الصليبي يتلاشى رويدًا رويدًا، فتَمَّ الاستيلاء على أنطاكية سنة 1286م،(1/148)
وطرابلس 1289م، ثم سقطت عكا في مايو سنة 1291م, وكانت هذه هي النهاية، ففي أغسطس سنة 1291م, هجر الفرسان الداوية قلعة الحج التي كانت أعظم القلاع الصليبية. وكان هذا هو فصل الختام بالنسبة للعدوان الاستيطاني على الأرض العربية، وإن لم يكن نهاية لعدوان الصليبيين الذي استمر في العصور الوسطى المتأخرة انطلاقًا من قواعدهم في قبرص ورودس, حتى قضى سلاطين المماليك عليهم.
هذه هي الخطوط العريضة للمواجهة الطويلة المضنية ضد الوجود الصليبي، وعدوانه المستمر على الأرض العربية, وقد آثرنا عرضها على هذه الصورة لكي نوضح مدى تأثير هذه المعارك العديدة على الموارد البشرية للمنطقة التي دارت هذه المعارك على أرضها, ويضيق بنا المقام عن تتبع أعداد الجيوش الإسلامية طوال هذه المواجهة، ومن ثَمَّ فإننا نسترشد بجيوش صلاح الدين الأيوبي التي جمعها في معركة حطين، كمثالٍ على ما كانت المعارك ضد الصليبيين تستنزفه من الموارد البشرية للمنطقة العربية.
لقد بلغ عدد القوات النظامية الإسلامية التي اشتركت في معركة حطين تحت قيادة صلاح الدين اثني عشر ألف فارسٍ, موزعةً على النحو التالي: ألف فارس من الحرس السلطاني الخاص، وأربعة آلاف من العسكر المصري، وألف من عسكر دمشق، وألف أخرى من عسكر حلب وشمال الشام، فضلًا عن خمسة آلاف فارس من عسكر الجزيرة والموصل وديار بكر.
وإذا ما وضعنا في اعتبارنا أن ثمة قواتٍ أخرى تخلَّفت في المناطق التي وفدت منها هذه الجيوش لحماية القلاع والحصون والحدود، أدركنا مدى ضخامة الأداة العسكرية الإسلامية التي تَمَّ حشدها في مواجهة القوات الصليبية قبيل معركة حطين "عن هذا الموضوع انظر العماد الكاتب الأصفهاني، الفتح القسيّ في الفتح القدسيّ، ص76-ص80، سنا البرق الشامي، ص295-ص298، ابن شداد، سيرة صلاح الدين،(1/149)
ص75-ص79، أبو شامة، الروضتين، جـ2، ص76، ابن الأثير، الكامل في التاريخ، جـ11، ص350. وعن أعداد جيوش صلاح الدين بوجه عام, انظر هاملتون أ. ر. جب، صلاح الدين الأيوبي - دراسات في التاريخ الإسلامي "حررها يوسف إيبش" المؤسسة العربية للدراسات والنشر -بيروت 1973م، ص154- ص178".
كان هذا حجم قوات الفرسان النظامية فقط, بيد أننا إذا وضعنا في حسباتنا طريقة تكوين الجيوش الإسلامية وغيرها في ذلك الزمان، أمكننا أن نقترب أكثر من حقيقة حجم الجيوش التي استخدمها صلاح الدين في حطين, فمن المعلوم أن قوت الفرسان بتسليحها القوي كانت تمثل القوة الضاربة التي يمكنها حسم المعركة في ميدان القتال؛ إذ كان تأثير الفارس المدرع، آنذاك، أشبه بتأثير الدبابة في الحروب الحديثة, ومع هذا, فإن الفرسان والقوات النظامية لم تكن تمثل كل الجيش، وإنما وجدت إلى جانب هذه القوات النظامية قوات مساعدة من المرتزقة، والعربان، والقوات المحلية التي كانت تدعم الجيوش بالخيَّالة الخفيفة والمشاة, والقوات التي تشبه وحدات المهندسين في الجيوش الحديثة.
ففي جيوش صلاح الدين كان التركمان، ولا سيما من قبيلة الياروقي، يشكلون قسمًا كبيرًا من القوات المساعدة التي تتألف من المرتزقة, كما أن بعض الأكراد يساهمون في تشكيل هذه القوات المساعدة, إلى جانب بني جلدتهم العاملين في القوات النظامية. كذلك فإن أبناء القبائل العربية في بلاد الشام وفي بعض أقاليم مصر يشكلون جزءًا من القوات الإضافية التي كانت تنضم إلى الجيوش في حالة الحرب "انظر ما كتبه المقريزي عن أعداد الفرسان من عرب بني جذام, العاملين في خدمة جيش صلاح الدين في مصر، الخطط، جـ1، ص86" وتحدثنا مصادر تلك الفترة كثيرًا عن الأجناد الذين كانوا يشكلون القوات المحلية على ما نرجح، وكانت هذه القوات المحلية التي تشبه الحرس الوطني الحديث، تعتمد في قتالها على الرمح والسيف بشكل(1/150)
أساسي "المقريزي، السلوك لمعرفة دول الملوك: جـ1، ص69، أبو شامة، الروضتين في أخبار الدولتين، جـ1، ص258". وإلى جانب هؤلاء وأولئك, وجدت القوات الأخرى من المتطوعين أو "المطوعة" على حد تعبير مصادر تلك الفترة, وكثيرًا ما سجلت هذه المصادر التاريخية أن عدد أولئك المتطوعين كان يفوق أعداد الجيوش النظامية, ويغلب على الظن أن هؤلاء كانوا يندرجون ضمن قوات المشاة في الجيش, والواضح أن قوات المشاة كانت تلعب دورًا رئيسيًّا في حالات الحصار، هجومًا أو دفاعًا, وكانت تضم عددًا من أصحاب الحرف والصناع مثل: "الحجازين"، و"النقابين"، و"الخراسانية" و"الجاندرية" وغيرهم ممن تنوعت مهامهم أثناء الحصار "ذكر العماد الأصفهاني بعض هؤلاء في حديثه عن حصار حصن صهيون، الفتح القسي، ص241-ص243".
ولأن جيوش ذلك الزمان لم تعرف أسلحة الخدمات والتموين وما شاكلها من الجيوش الحديثة، فقد كانت الجيوش تخرج وفي ركابها التجار وأرباب الحرف والصناعات، فتقام الأسواق المؤقتة حيث يشتري الجنود لوازمهم، ويجدون من يقدم لهم الخدمات اليومية الأخرى.
هذه العناصر كلها كانت تشكل الجيوش التي تخرج للقتال, وبطبيعة الحال، كانت تمثل عبئًا كبيرًا على الموارد البشرية للبلاد التي خرجت منها. وإذا ما تأملنا أعداد الجيوش التي خرجت من المنطقة العربية طوال فترة الوجود الصليبي، أدركنا مدى الخلل الذي أصاب البناء السكاني في هذه المناطق, كما أن الحروب نفسها كانت تتسبب في هجرات داخلية أو خارجية، وإلى تفريغ مناطق معينة من سكانها, وتكدسهم في منطقة أخرى، كما أوضحنا من قبل. ونسوق مثالًا على هذا، ما حدث في مصر والشام عقب قيام دولة سلاطين المماليك؛ فقد دفعت الحروب الصليبية الكثيرة والمتعددة، وما نتج عنها من تخريب لاقتصاد بلاد الشام، بالكثيرين إلى(1/151)
الهجرة إلى مصر التي زاد سكانها زيادةً ملحوظة آنذاك. "انظر قاسم عبده قاسم، دراسات في تاريخ مصر الاجتماعي-عصر المماليك "دار المعارف 1981م"، ص33-ص35، انظر كذلك E Ashtor A social and economec hestory of the Near East in the Middle Ages London 1976" pp 286 291"
أما التأثير الاجتماعي للحروب الصليبية على المجتمع العربي، فقد بدا واضحًا بعد فترةٍ قليلةٍ من نجاح الحركة الاستيطانية الصليبية، ولم يلبث أن اتخذ شكله النهائي بعد انحسار موجة الغزو اللاتيني للأرض العربية, ولعل أبرز هذه المؤثرات هو إعادة صياغة العلاقات الاجتماعية على أساس إقطاعيٍّ بحت. ذلك أن نظام الجيش الإسلامي الباكر كان قائمًا على أساس إيديولوجي, يرتكز على الجهاد كفرض عينٍ على كل مسلم قادر عليه, ومن ثَمَّ كان الجيش الإسلامي في عهوده الأولى يتخذ من الجهاد فلسفة وعقيدة يتم على أساسها تعبئة كل القادرين للعمل في الجيش، أي: أن الجيش كان قائمًا على مبدأ الشعب تحن السلاح fold -in -arms على حد التعبير الحديث. بيد أن التطورات السياسية والاجتماعية والإدارية الناجمة عن توسع الدولة الإسلامية، واستيعابها لعناصر جديدة من الشعوب التي دخلت الإسلام، أدت إلى تطورات أخرى على الصعيد العسكري. ومنذ ذلك الحين بدأت العناصر الفارسية ثم التركية، تلعب دورًا هامًّا في الحياة العسكرية، كما بدأ النظام الإقطاعي فضفاضًا غير محدد الملامح والأبعاد, وبدأت التطورات تأخذ مجراها صوب تكريس النظام الإقطاعي كأساس لبناء الجيوش الإسلامية؛ فإذا ما جاءت الحروب الصليبية، وما تطلبته من تعبئة شاملة، أثبت النظام العسكري القديم فشله, وبدأ قادة حركة الجهاد الإسلامي على محور الموصل-حلب من الزنكيين، يعيدون تكوين قواتهم العسكرية النظامية على أساس إقطاعي خالص، بمعنى: تخصيص مساحة من الأرض الزراعية لأحد الأمراء، بحيث يقدم في مقابلها عددًا من الرجال, وكمية من العتاد, وفي عصر نور الدين محمود كانت هذه الإقطاعات وراثية، كما كانت(1/152)
هناك سجلات تبين عدد الرجال والعتاد الذين كان على كل أمير من الأمراء التابعين لنور الدين محمود أن يقدمهم. ويبدو أن صلاح الدين قد سار على نهج نور الدين، وأبقى الخاصية الوراثية للإقطاعات كما كانت زمن نور الدين, ومن الواضح أن الإقطاعات زمن صلاح الدين، لم تقتصر على الأرض الزراعية فحسب، وإنما كانت هناك هبات عينية, ورواتب نقدية دورية, عرفت باسم "الجامكية". ويبدو أن الجامكية في العصر الأيوبي، كانت وقفًا على من لا يملكون إقطاعًا. "انظر ابن الأثير، التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية، ص308، ابن مماتي، قوانين الدواوين "تحقيق عزيز سوريال عطية"، ص354-ص355، أبو شامة، الروضتين في أخبار الروضتين، جـ1، ص219، المقريزي، السلوك، جـ1، ص65، هاملتون جب، صلاح الدين، ص157-ص159".
وخلال العصر الأيوبي، الذي اتسم بكونه عصرًا عسكريَّ الطابع، جرت عدة تطورات على النظام الإقطاعي حتى اكتمل بشكله الذي عرفه عصر سلاطين المماليك؛ فقد قام الجيش المملوكي على أساس من العلاقات الإقطاعية المتدرج في سلم ثابت؛ إذ كان السلطان يمنح المملوك الذي يكتمل تدريبه, ويدخل في زمرة الفرسان, إقطاعًا من الأرض الزراعية, تتزايد مساحته بشكل طردي مع ترقي الأمير المملوكي من "أمير عشرة" إلى "أمير مائة"، ثم "أمير ألف" أو غيرها من الرتب العسكرية الكبيرة. وكان الأمراء الكبار يملكون جيوشًا صغيرة يعولونها من إقطاعاتهم, ومنذ عصر السلطان "الناصر محمد بن قلاون" -النصف الأول من القرن الرابع عشر- خضع النظام الإقطاعي المملوكي لتطورات جوهرية. والجدير بالذكر أن العلاقات الإقطاعية في بلاد الشام ومصرتحت حكم سلاطين المماليك، كانت تختلف تمام الاختلاف عن العلاقات الإقطاعية في الغرب الأوربي، عشية الحروب الصليبية، وأثناءها، وبعد نهايتها. ففي فرنسا، مثلًا، كان ثمة سلم إقطاعي من السيادة والتبعية الإقطاعية "Vassalage" يكون القن أدناه،(1/153)
ويكون الملك قمته. وبذلك نجد سادة إقطاعيين في هذا السلم يدينون في الوقت نفسه بالتبعية لسادة أعلى منهم، مما كان يخلق مشكلة ولاء الفصل الإقطاعي، وهل تكون لسيده الأعلى -قمة السلم الإقطاعي- أم تكون لسيده المباشر؟ أما في دولة سلاطين المماليك -التي كانت الإفراز السياسي للحروب الصليبية- فكانت تبعية الجميع للسلطان الذي كان بمثابة السيد الإقطاعي الأعلى والمباشر في الوقت نفسه. وفي هذا العصر فقد الاقطاع صفته الوراثية, وبينما تحول الإقطاع في أوربا إلى إقطاع وراثي، مما مكَّن لقيام أسرات إقطاعية قوية ناوأت الملكيات وسلبتها من حقوقها السياسية، وسلطاتها القضائية والمالية الشيء الكثير، فإن الإقطاع في عصر سلاطين المماليك، والذي بدأ وراثيًّا في أصله الأيوبي، ما لبث أن تحول إلى إقطاع شخصي بحت، وللسلطان وحده حق منحه أو انتزاعه، مما أدى إلى عدم قيام أسرات إقطاعية وراثية قوية على نحو ما حدث في الغرب الأوربي في العصور الوسطى. "انظر حول هذا الموضوع: العمري، التعريف بالمصطلح الشريف، ص146 وما بعدها، النويري، نهاية الأرب في فنون الأدب، جـ3، ص320، ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، جـ9 ص43، ابن الصيرفي، إنباء الهصر بأنباء العصرن, ص23-ص24، ابن إياس، بدائع الزهور في وقائع الدهور "تحقيق محمد مصطفى"، جـ3، ص20-ص22 ص23، ص37. عن الإقطاع في فرنسا العصور الوسطى, انظر Norman F Cantor the Medieval Historn "New York 1969" pp 203 -223 انظر عن الإقطاع المملوكي, سعيد عاشور، المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك، ص48-52، قاسم عبده قاسم، دراسات في تاريخ مصر الاجتماعي، ص19-ص23، Ashtor op cit pp 283 FF"
وكان من الطبيعي في ظل النظام الإقطاعي المملوكي أن يكون المجتمع الخاضع لحكم سلاطين المماليك مجتمعًا طبقيًّا في علاقاته واتجاهاته(1/154)
بشكل عام، وهو الأمر الذي انعكس بوضوح على كافة مظاهر الحياة المصرية والشامية آنذاك. بيد أننا يجب أن نضع في اعتبارنا حقيقتين هامتين، أولاهما: أن الخاصية المتميزة لكلٍّ من الحياة الشامية الاجتماعية، على الرغم من أن الاتجاه الاجتماعي العام في كل من البلدين كان طابعًا إقطاعيًّا. والحقيقة الثانية: أن سنة التطور التاريخي جعلت شكل الحياة الاجتماعية في بداية عصر الحروب الصليبية يختلف عنه بالضرورة في نهايتها، سواء في مصر أو في الشام, ويجدر بنا أن نشير إلى أن دراسة الحياة الاجتماعية في منطقة مثل بلاد الشام، بشكل نمطي، أمر غاية في الصعوبة، بل ويكاد يكون ضربًا من ضروب المحال, والسبب في ذلك هو ذلك التنوع المحير في عناصر السكان، سواء من ناحية العنصر، أو من ناحية الديانة أو المذهب، مما يخلق بدوره تنوعًا مماثلًا في الأنماط الاجتماعية وقيم وسلوكيات وأخلاقيات كل جماعة, فضلًا عن أن التنوع التضاريسي والمناخي لبلاد الشام، والأسس المختلفة لاقتصاديات المناطق الجبلية والسهلية والساحلية والصحراوية، ترك أثرًا لا يستهان به في شكل العلاقات الاجتماعية، على الرغم من أن الدولة المملوكية التي حكمت هذه المناطق، اعتمدت على النظام الإقطاعي كدعامة أساسية من دعامات الحكم.
وعلى الرغم من هذه المحاذير، فإننا نستطيع القول بأن البناء الطبقي في المجتمع العربي الإسلامي الذي خضع لحكم سلاطين المماليك، يندرج تحت وصف ابن خلدون بأنه: "سلطان ورعية". "المقدمة، ص183" ويعني هذا: أن المجتمع انقسم إلى طبقتين رئيستين: الحاكم، والرعية, أي: أن السلطان وجهازه الحاكم بجناحيه العسكري والمدني, كانوا يشكلون طبقة، على حين كان أبناء الرعبة بشتَّى طوائفهم، يشكلون طبقة أخرى أدنى, وبينما كان الطبقة المحكومة تكد وتكدح وتنتج، كانت الطبقة الحاكمة تستأثر بنتاج عمل المحكومين الذين لا يترك لهم سوى الفتات, ومع تسليمنا بوجود(1/155)
الفوارق التي تفصل بين الشرائح الاجتماعية داخل كلٍّ من هاتين الطبقتين، فإن واقع المجتمع في مصر والشام آنذاك يشي بأن كلًّا منهما عاشت حياتها بمعزل عن الآخرى, ولم تكن العلاقة بين السلطان والرعية قائمة على أساس من الحقوق والواجبات المتبادلة، فإن ذلك كان أبعد ما يكون عن مفاهيم أولئك الحكام الذين أفرزتهم ظروف العالم العربي الإسلامي في مواجهة الصليبيين, ثم مواجهة المغول الذين كان خطرهم أقل؛ لأنهم سرعان ما ذابوا في العالم العربي الإسلامي، كما أنهم لم يكونوا يشكلون تحديًّا حضاريًّا مثل التحدي الصليبي. وكان على الرعية أن تقدم ثمار عملها إلى الحاكم، على حين لم تكن حكومة المماليك تلتزم تجاه رعاياها بمسؤوليات عامة في مجالات الصحة والتعليم والتغذية ... وغيرها.
كان هذا هو تأثير الحروب الصليبية على البنية الطبقية للمجتمع العربي الإسلامي, وهو من الواضح أن هذا الجانب يرتبط بنتائج أخرى سياسية وعسكرية واقتصادية وثقافية أتت بها الحروب الصليبية, والواقع أن الأسباب والنتائج في الحروب الصليبية -كما هي في أية ظاهرة تاريخية أخرى- ترتبط ببعضها البعض وتتشابك بحيث يستحيل أن نعالجها بشكلٍ يفصل بين كل جانب والآخر. وعلى أية حال، فإن التأثيرات الاجتماعية للحروب الصليبية لم تتوقف عند حد إعادة صياغة علاقات القوى الاجتماعية صياغة إقطاعية، وإنما تعدت ذلك إلى المثل والقيم وأخلاقيات المجتمع من ناحية، والعلاقات بين الطوائف المختلفة داخل المجتمع من ناحية أخرى.
وفيما يتعلق بالتأثير الذي تركته الحروب الصليبية على مثل المجتمع العربي وأخلاقياته، فإنه ينبغي أن ننبه إلى أن هذه الحروب الطويلة المرهقة، كانت مثل أية حروب أخرى من حيث تأثيراتها السلبية على المجتمع الذي يخوض أبناؤه غمار هذه الحرب. والناظر في التراث الأدبي لتلك الفترة يسترعي نظره للوهلة الأولى بعض القيم والأخلاقيات والمثل الاجتماعية(1/156)
التي دارت حولها أشكال الإبداع الأدبي من ناحية، كما يسترعي انتباهه شيوع ألوان من الأدب لم تكن معروفة على نطاقٍ واسع قبل عصر الحروب الصليبية من ناحية أخرى. ومن المسلَّمِ به أن النتائج والآثار السلبية التي تنجم عن الحروب لا تظهر فجأة، كما أنها لا تختفي وتزول بانتهاء هذه الحروب، وإنما تتخذ لنفسها شكل تيار اجتماعي-أخلاقي, غير مباشر، ومستمر في الوقت نفسه, ويصدق هذا القول بدرجة كبيرة على المجتمع العربي-الإسلامي, أثناء الحروب الصليبية وبعدها.
لقد وقعت أحداث الحملة الصليبية الأولى في زمنٍ كان العالم العربي الإسلامي يعاني من شرور التمزق والتشرذم السياسي، بحيث فشل في تحدي الموجة الصليبية الأولى، على الرغم من موارده الهائلة بشريًّا واقتصاديًّا، ومرت حوالي خمسين سنة قبل أن يفيق المسلمون على حقيقة ما حدث, ويستوعبوا الضربة الأولى, ويعيدوا تنظيم أنفسهم لمواجهة طويلة معذبة, هذه الحقيقة كانت لها انعكاساتها على جماهير المسلمين، فقد شعروا بمدى عجز الحكام, وامتلأت نفوس الناس في كل مكان بمشاعر الغضب والإحباط والمرارة. وحين أدرك المسلمون أن الصليبيين قد جاءوا إلى المنطقة العربية ليستوطنوها، شاعت روح من التقوى السلبية والتدين الهروبي, الذي هو أقرب ما يكون إلى الرهبنة, وبدأت حركة التصوف في الانتشار كملاذٍ من شرور الدنيا التي باتت واضحة من خلال عجز حكام المسلمين وجيوشهم، وهاجر عدد كبير إلى مكة والمدينة قانعين بذلك عوضًا عن متاعب الجهاد, وقد اعتمد صلاح الدين الأيوبي على الصوفية في إذكاء حماسة المقاتلين, وفي محاربة التشيع حقًّا، ولكن الاتجاه العام للتيار الصوفي أخذ مظهرًا سلبيًّا لم يلبث أن تجلى بوضوح خلال عصر سلاطين المماليك، حين انقسم الصوفية إلى فرق عديدة، منهم بعض المجاذيب والدراويش الذين اشتهروا بأفعالهم الغريبة التي زعموا أنها من الدين "المقريزي، الخطط, جـ2، ص432-ص433، سعيد عاشور، المجتمع المصري،(1/157)
ص162-ص175" وفي تصورنا أن هذه الحركة كانت هي الإفراز السلبي للحركة الصليبية, وعلى الرغم من أن جذور التصوف كانت موجودةً في المجتمع العربي الإسلامي قبل ذلك، فإن اتساع نطاقها وانتشارها على هذا النحو، والتدهور الذي شابها، كان تعبيرًا عن مجتمع يعاني من ضغوط حياته اليومية, وعدم وجود ما يشده نحو المستقبل. لقد شاعت روح من التدين الجاهل في أوربا قبل الحروب الصليبية وأثناءها، بيد أن البابوية التي كانت نتاجًا لحركة الإصلاح الجريجورياني، نجحت في توجيه هذا التدين الذي انتشر بين العلمانيين صوب حركة عسكرية موجهة ضد المسلمين، وهو الأمر الذي كان من أهم أسباب نجاح الحركة الصليبية في أطوارها الأولى, وعلى الجانب الآخر كانت الحركة الهروبية التي اتخذت لنفسها رداء الدين ومسوح الصوفية في العالم الإسلامي، من أهم أسباب النجاح الصليبي في الاستقرار والتوسع خلال السنوات الخمسين الأولى.
ففي هذ العصر الذي شهد أول هزيمة كبرى للمسلمين، شاعت أنباء الرؤى والأحلام التي يرى النائم فيها النبي -عليه الصلاة والسلام، أو الخضر، أو أحد الأولياء الصالحين, وطفق المسلمون بتأثير ما أصابهم من خطوب الحروب الصليبية ومصائبها، يتكلمون عن القيامة وعلاماتها، كما أخذوا يتناقشون حول الجنة وما فيها من نعيم.
بيد أن الحقيقة التاريخية تقتضي منا القول بأن هذا التيار السلبي قد عارضه تيار إيجابي، كان هو البذرة التي نمت منها شجرة الجهاد, فقد شن عدد من الفقهاء هجومهم القاسي على الصوفية الذين أرادوا أن يصرفوا الناس عن واجب الجهاد ضد الصليبيين, فقد أدان الشيخ تقي الدين بن تيمية المسلمين بأنهم " ... قد وهنوا وفشلوا، وغفلوا وكسلوا، ولزموا الحيرة، وعدموا الغيرة ... ". ولم يكن ابن تيمية وحيدًا في هذا، فقد أثار تدفق اللاجئين إلى المقاطعات الإسلامية في أعقاب الغزو الصليبي، مشاعر(1/158)
الاستياء ضد القيادة الإسلامية. وفي البداية علت أصوات الاستياء على منابر المساجد في صلاة الجمعة، وسرعان ما لقيت الحركة تأييدًا شعبيًّا جارفًا جعل من الجهاد ضد الكفار صيحة التجمع للقوات الإسلامية. وحينذاك انقشع الغبار الذي تراكم عبر الأجيال على مفهوم الجهاد، ودبجت الرسائل عن قدسية بيت المقدس, وقامت المدارس والعلماء والفقهاء بخلق مناخ للرأي العام، فرض على الحكام أن يبدأوا الجهاد ضد الصليبيين. ومن هذا الجو برزت قيادة البيت الزنكي, ثم البيت الأيوبي, ثم سلاطين المماليك، الذين كانوا تجسيدًا للدولة العسكرية التي حلت محل الدولة الثيوقراطية، كنتاجٍ سياسيٍّ للحروب الصليبية.
ومن ناحية أخرى، كانت الحروب استنزافًا للموارد وجهود الحكام؛ بحيث صارت الموارد كلها موجهة لخدمة هذا الغرض، فلم يكن ثَمَّةَ اهتمام بالزراعة أو الصناعة، كما أن سلسلة المجاعات والأوبئة الناجمة عن قلة المحصولات الزراعية، في غالب الأحوال، أخلَّت بالبناء الاجتماعي، بحيث لحق كثيرون بالفقراء والمعدمين الذين فشلوا في ضمان قوت يومهم، على حين ازداد بعض فئات التجار وموظفي الحكومة ثراءً من جرَّاء تحكمهم في النظام المالي والضريبي، أو احتكارهم لبعض البضائع ولا سيما الغلال.
ونتيجة لهذا شاعت في المجتمع أخلاقيات الحزن والاستسلام، وانتشرت بينهم روح العجز والاعتقاد في الخرافات والمعجزات، وهو أمر تكشف عنه تلك الطائفة الكبيرة من أخبار المعجزات والخوارق التي تناولها مؤرخو العصر الأيوبي وعصر سلاطين المماليك باعتبارها حقائق تاريخية. ومن ناحيةٍ أخرى ظهرت أصداء حال الحزن والاستسلام في أنماط التأليف الأدبي لتلك العصور، ولا سيما الشعر الذي ظهرت فيه قصائد طويلة في غرض جديد هو الاستعانة بالله والرسول، والتوسل والتضرع برفع المعاناة.
كذلك انتشرت أمراض اجتماعية كثيرة في عصر الحروب الصليبية،(1/159)
وتجلت كظاهرة اجتماعية خطيرة في عصر سلاطين المماليك؛ فقد كانت الدعارة من أكثر المهن رواجًا وتنظيمًا، وكانت الدولة تتقاضى عن هذا النشاط ضرائب محددة في عصر سلاطين المماليك، فقد كانت هناك "ضامنة المغابن" التي تعتبر بمثابة نقيب مسئول عن نشاط المطربات والمقرئات وبنات الليل، وعليها أن تؤدي للدولة مبلغًا معينًا تتولى جبايته من الخاضعات لإشرافها, كذلك انتشر الشذوذ الجنسي في ذلك العصر بدرجة كبيرة وخطيرة, والشذوذ الجنسي من أخطر الأمراض الاجتماعية؛ لأنه إذا لم يكن من أسباب الانهيار الاجتماعي، فهو على الأقل من أهم مظاهر هذا الانهيار. ولعل مرجع تفشي هذا المرض الاجتماعي، هو أن القوات الرئيسية في الجيوش الإسلامية كانت تتألف من جيوش تغيب طويلًا في ميادين القتال، كما أنها كانت تشتبك في سلسلة متوالية من الحروب تحول بين أفرادها وبين الاستقرار واللازم لحياة الأسرة, كما أن جزءًا لا بأس به من الجيوش كان من المرتزقة الذين يبيعون سيوفهم للحكام، ويعيشون على المغامرة والحرب؛ بحيث لا يمكنهم الزواج والتآلف مع الحياة الأسرية, وكان صدى ذلك هو شيوع شعر الغزل بالمذكر في نتاج العصرين الأيوبي والمملوكي. وإذا كان هذا النوع من شعر الغزل قد عرف في مرحلة سابقة من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، فالواضح أنه في عصر الحروب الصليبية أمسى نمطًا شائعًا من أنماط التأليف الأدبي، على حين كان في الفترة السابقة وقفًا على بعض الشعراء الذين اشتهروا بالخلاعة والمجون مثل أبي نواس. "انظر عن هذا الموضوع: المقريزي، السلوك جـ2، ص661، ص662، الخطط، جـ2، 34، ص169، السخاوي، التبر المسبوك في ذيل السلوك، ص103-ص104، سعيد عاشور، المجتمع المصري، ص228-ص229، محمد سيد كيلاني، الحروب الصليبية وأثرها في الأدب العربي في مصر والشام، مكتبة مصر 1949، ص34- ص51".
ومن أهم نتائج الحروب الصليبية على الصعيد الاجتماعي، أنها(1/160)
زرعت بذور الشك والمرارة في نفوس المسلمين تجاه المسيحيين الذين عاشوا دهرًا طويلًا في كنف المجتمع العربي الإسلامي، وساهموا في بناء الحضارة العربية الإسلامية, وكانت بعض طوائف المسيحيين في بلاد الشام عونًا للصليبيين على المسلمين، ولكن ذلك جعل الحكام والناس ينظرون إلى كافة الطوائف المسيحية نظرة ملؤها الشك والريبة في جميع أرجاء العالم الإسلامي؛ ففي مصر لم يكن من المتوقع، حين بدأت الحروب الصليبية، أن يمد الأقباط يد المساعدة للغزاة اللاتين بسبب الخلافات المذهبية التي أوجدت تراثًا ضخمًا من العداء بين الطرفين, كما أن الأقباط لم يكونوا رجال حرب حتى يمكنهم أن يقدموا مساعدة ذات بال للصليبيين. كذلك عانى الأقباط من احتلال الصليبيين لبيت المقدس حين منعوهم من الحج باعتبارهم هراطقة، وتحولت الكنائس القبطية إلى كنائس لاتينية في المرات التي احتل فيها الصليبيون دمياط، كما أنهم خربوا الكنائس القبطية في هجماتهم المتكررة على مصر, وعلى الرغم من هذا، فإن حقيقةً أن البعض تعاون مع الصليبيين, أو تعاطف معهم, كما تشير بعض المصادر في حديثها عن حملة لويس التاسع على مصر، وحقيقة تخوف السلطات الحاكمة من اتصال المسيحيين المحليين بالصليبيين على نحو ما حدث في بلاد الشام، ثم الأهوال التي ارتكبها الصليبيون الذين حاربوا باسم المسيحية, كل هذا أوجد في العالم الإسلامي كله مشاعر تفيض بالمرارة ضد المسيحيين، تولدت عنها في بعض الأحيان ردود فعل عنيفة, والحق أن الحروب الصليبية لم تفعل شيئًا للمسيحيين المصريين سوى استنفار مشاعر الكراهية ضدهم, وزرع بذور عدم الثقة المتبادلة بين المسلمين والمسيحيين. "قاسم عبده قاسم، أهل الذمة، ص90-ص94، عاشور، الحركة الصليبية، جـ2، ص1224-ص1225، المقريزي، السلوك، جـ3، ص106-ص107، وما بعدها؛
Atiya A S The Crusades in the Lat ter Middle Ages " London 1938" pp 359-369".(1/161)
أما في بلاد الشام، فإنه من بين الطوائف المسيحية الكثيرة التي وجدت في هذه البلاد. لم تكن هناك طائفة إلى الصليبيين من الطائفة المارونية, لقد كانت هذه الطائفة أشبه بقطعة من التاريخ ترسبت في وديان لبنان وجباله؛ إذ كان أفرادها يعتنقون إحدى العقائد الكثيرة التي مزقت الكنيسة المسيحية في القرن السابع, وفي سنة 1184 تقبل المارونيون الخضوع لسيادة روما، ومن خلال عصر الحروب الصليبية كانت هذه الطائفة مصدر خطر كبير على المسلمين والعرب طوال عصر الحروب الصيبية، فقد كان بوسعهم تجنيد أربعين ألف مقاتل لمساعدة الصليبيين, والحقيقة أن فترة الحروب الصليبية كانت هي العصر الذهبي للموارنة؛ فقد ازدادت أعداد كنائسهم وأديرتهم، ونعموا بحماية الصليبيين لهم. "أحمد رمضان، المجتمع الإسلامي في بلاد الشام في عصر الحروب الصليبية، "القاهرة 1977م"، ص62-ص64"، محمود الحويري، الأوضاع الحضارية في بلاد الشام في القرنين الثاني والثالث عشر من الميلاد "دار المعارف 1979م"، ص88-ص92، علي السيد علي، المجتمع المسيحي في بلاد الشام في عصر الحروب الصليبية "رسالة ماجستير غير منشورة-جامعة القاهرة 1979م"، ص33-ص35، انظر أيضًا William of Tyre "English translation "ll pp 459 F Cahen Cla Syrie du Nord a L ipau que des Croisades "Pares 1940" pp 192-193
وعلى الرغم من أن غالبية المسيحيين الشرقيين في بلاد الشام، قد عانوا من الاحتلال الصليبي، شأنهم في ذلك شأن المسلمين، فإن العلاقات الاجتماعية بين المسلمين والمسيحيين قد تأثرت بالوجود الصليبي بشكل مباشر. حقيقةً أن بعض المسيحيين الشرقيين قد حاربوا الصليبيين، كما أن الفرنج اللاتين قد استولوا على كثير من الكنائس الشرقية وحولوها إلى كنائس كاثوليكية، ولكن تبقى الحقيقة القائلة بأن العلاقات بين العناصر المسلمة والمسيحية في مجتمع بلاد الشام لم تعد إلى سابق عهدها، حيث كان(1/162)
المسيحيون قبل عصر الحروب الصليبية ينعمون بالتسامح كأهل ذمة في رحاب المجتمع الإسلامي. وربما كان للحماسة الدينية التي تأججت في صدور المسلمين، بفعل الدعوة للجهاد، أثرها في المضايقات التي تعرض لها مسيحيو الشام في فترة الحروب الصليبية, وفي عصر سلاطين المماليك زاد معدل الاضطهاد ضد المسيحيين وغيرهم بسبب طبيعة الحكم المملوكي، وحرص السلاطين على اتخاذ صورة المدافعين عن الإسلام من ناحية، وبسبب المعارك الضارية التي خاضها السلاطين ضد الصليبيين حتى قضوا عليهم في بلاد الشام، ثم في قبرص ورودس من ناحية أخرى.
ومن ناحية أخرى، أدت الحروب الصليبية إلى اختلال علاقات القوى الاجتماعية في بعض المناطق؛ إذ تحوَّل المسلمون إلى أقليات في بعض المناطق نتيجةً للهجرات الضخمة التي نتجت عن المذابح والأهوال التي أعقبت الغزو الصليبي، كما أن بعض المسلمين قد آثروا الارتداد عن دينهم واعتناق المسيحية خوفًا على حياتهم، مثلما حدث في جزاعة التي أعلن قاضيها اعتناقه للمسيحية, وتبعه في ذلك أربعمائة من المسلمين عقب استيلاء الصليبيين على المدينة. وعلى الرغم من هجرة كثيرين من المسلمين من المناطق التي استولى عليها الصليبيون، فليس هناك شك في أن الأرستقراطية المسلمة والمثقفين المسلمين كانوا غالبية المهاجرين، حيث بقي الفلاحون والمهنيون والتجار. وبعد أن انحسرت موجة المذابح الأولى عاد الكثيرون إلى مواطنهم, بيد أن هذه الجماعات الإسلامية كانت عبارة عن أقليات في وسط مسيحي قوامه المسيحيون المحليون والصليبيون, ولا شك في أن المسلمين وجدوا أنفسهم في موقفٍ حرجٍ كأقلية محتقرة وغير موثوق بها بالنسبة للفرنج، ولكنهم ظلوا مع ذلك يعملون في المزارع والصناعات والمتاجر داخل المناطق الصليبية.
لقد كان الريف كله مسلمًا؛ إذ استمرت المجتمعات القروية(1/163)
الإسلامية كما هي تحت الحكم الصليبي، كما بقيت الخلايا الاجتماعية الأساسية كما هي، على الرغم من أن الدولة الإسلامية كانت قد فقدت سيادتها وسطوتها, وتركزت الحياة في القرى حول المساجد الصغيرة، واستمر القضاة والفقهاء يباشرون خدماتهم الدينية وغير الدينية؛ لأنه لم يكن ممكنًا الاستغناء عنهم في شئون الميراث والزواج، أما علاقة أهل الريف المسلمين بالصليبيين فكانت علاقة المستغل بالمستغل.
ويرجع السبب في ذلك إلى طبيعة الكيان الصليبي الذي يضم أقلية من المستوطنين وسط محيط بشري معاد. كانت موارد الصليبيين البشرية ضئيلة للغاية، وكانت تلك هي مشكلتهم الكبرى, وفي الوقت نفسه، تعَيَّنَ عليهم أن يعيشوا في حال مواجهة وترقب وحذر دائمة، مما فرض عليهم توظيف كل القادرين على القتال في خدمة الغرض العسكري, ومن ثَمَّ ظلت الأقليات الإسلامية في المناطق الصليبية تقوم بعمليات الإنتاج الزراعية والصناعية، فضلًا عن دورهم الهام في المبادلات التجارية, بل إن الصليبيين استعانوا ببعض المسلمين للعمل كقوات مساعدة في جيوشهم، وهو أمر يتمشى مع التقاليد العسكرية التي كانت تسمح باستخدام المرتزقة في جيوش ذلك الزمان.
ومن المهم أن نشير أن هذه الأقليات الإسلامية كانت تكِنُّ مشاعر العداء والكراهية للصليبيين، وكان المسلمون في المناطق الصليبية يقومون بما يمكن أن نضعه في عداد أعمال المقاومة، على حد تعبيرنا المعاصر، فقد ذكر أسامة بن منقذ "الاعتبار، ص82" أن المسلمين من سكان ريف عكا، كانوا يخفون الأسرى المسلمين, ويعملون على وصولهم إلى المناطق الإسلامية سرًّا, وتحفل مصادر عصر الحروب الصليبية بكثير من الأمثلة التي تؤكد ما ذهبنا إليه, ومن الطبيعي أن يتمسك أبناء الأقليات الإسلامية في الأقاليم الخاضعة للصليبيين بهويتهم الحضارية, وشخصيتهم الاجتماعية في مواجهة الكثرة الصليبية-المسيحية "يوشع براور، عالم الصليبيين، ص98-ص100، علي السيد، المجتمع المسيحي،(1/164)
ص47-ص50، عليّة الجنزوري، إمارة الرها الصليبية, القاهرة 1976م، ص341، ابن جبير، ص276-ص279، ص291.
وإذا كنا قد أشرنا إلى التأثيرات السكانية والاجتماعية للحروب الصليبية، فإننا ينبغي أن نتناول التأثيرات السياسية لهذه الحروب، مع تسليمنا بأن التأثيرات الناجمة عن الحروب الصليبية تتداخل مع بعضها البعض في علاقة سببية متشابكة، بدرجةٍ يصعب معها فصل الأسباب عن النتائج، وبحيث يصعب تحديد أيها أسبق في الوجود، وأيها كان سببًا في حدوث الآخر أو نتيجة له, ولكن هذا لا يمنع من أن يكون العامل الأساسي بارزًا في أحد مستويات المعالجة؛ بحيث يكون محور البحث الأساسي, على حين يكون العامل الاقتصادي هو المحور الرئيسي في مستوى آخر، ويكون العامل الاجتماعي محورًا رئيسيًّا في مستوى ثالث ... وهكذا.
على أية حال، فإن التأثيرات السياسية تبرز واضحة جليّة في اختفاء الخلافة الفاطمية من الوجود، كنتيجة مباشرة للصراع الإسلامي-الصليبي، على الرغم من تسليمنا بأن عوامل التدهور والاضمحلال كانت تنخر في كيان هذه الخلافة قبل الحروب الصليبية. كما تتجلى هذه التأثيرات السياسية في تدهور الخلافة العباسية؛ بحيث اختفى أيّ دورٍ فعَّالٍ لها في المواجهة الصليبية، على حين ذابت قوى السلاجقة، حماة الخلافة، في الموجات الصليبية الأولى, وفي تصورنا أن الحروب الصليبية قد أنهت وجود الدولة الثيوقراطية التي يقودها خليفة ذو سلطة روحية -كما كان حال العباسية المتاخرة والخلافة الفاطمية، على الرغم من النشاط العسكري لكل من الخلافتين- لتحل محلها الدولة العسكرية الطابع, التي يقودها قائد عسكري محارب من طراز صلاح الدين الأيوبي أو الظاهر بيبرس وأمثالهما من سلاطين الأيوبيين والمماليك. لقد كانت الدولة الأيوبية ذات الطابع العسكري البحت، والدولة المملوكية التي جاءت استمرارًا لها، هي النتاج(1/165)
السياسي الرئيسي للحروب الصليبية ... ورب قائل بأن الدولة العربية الإسلامية منذ بدايتها، كانت دولة ذات نشاط عسكري واسع، وأن الخلفاء الأمويين كانوا غالبًا قادةً عسكريين، كما أن الدولة الأيوبية والدولة المملوكية لم تخل من الجانب الروحي، وهذا أمر حقيقي, ولكن النظرة الفاحصة تكشف عن أن الدولة العربية الإسلامية الباكرة كانت في حال صعودها تشيد الحضارة العربية الإسلامية، وكان النشاط العسكري جانبًا هامًّا من جوانب هذه النشاط، بيد أنه لم يكن هو الأساس الذي قامت عليه مؤسسات الدولة وعلاقات الحاكم بالمحكوم، وإنما قامت هذه المؤسسات والعلاقات على أساس أن الخليفة هو الإمام الأكبر الذي يخلف الرسول -عليه الصلاة والسلام- في حفظ الدين وتنظيم علاقات الأمة, ولكن العدوان الصليبي -إلى جانب كثير من عوامل الإنهاك الداخلي الأخرى- أثبت أن هذه القيادة السياسية الروحية لا تكفي لحماية العالم العربي الإسلامي، ومن ثَمَّ برزت الدولة العسكرية التي يقودها محارب قوي يستند إلى واجهة من التأييد الشرعي من الخلافة, وفي هذه الدولة تَمَّت صياغة العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية على أساس توجيهها صوب العمل العسكري دفاعًا عن دار الإسلام.
حقيقةً أن الخلافة العباسية لم تسقط بنفس السرعة التي سقطت بها الخلافة الفاطمية, وظلت موجودة حتى قضى عليها الهجوم المغولي سنة 658هـ، ولكنها كانت قد فقدت أيّ وجود حقيقي فعَّال لوجودها، كما أن السلاجقة الذين كانوا يمثلون القوة الضاربة لهذه الخلافة، قد ذابوا في خِضَمِّ الصراع ضد الموجات الصليبية الأولى، بحيث لم يبق لهذه الخلافة سوى ظلٍّ باهت من مجد غابر وسيادة ماضية، فإذا ما طرقتها جيوش المغول سقطت في سرعة تتفق وحقيقة خوائها الداخلي.
لقد بدأت الخلافة العباسية منحنى تدهورها منذ فترة طويلة, وبدا(1/166)
ضعف الخلافة واضحًا من خلال تلك الكثرة من الحركات الثورية الداخلية التي أنهكت موارد الدولة مثل حركة "بابك الخرمي" وثورة الزنج، وثورة القرامطة التي هزت أركان الخلافة طوال القرن التاسع الميلادي. وفي القرن العاشر صار الخلفاء العباسيون ألعوبة في أيدي الأمراء الأتراك، بل إن كبيرهم الذي اتخذ لقب "أمير الأمراء" بات هو صاحب السلطة الفعلية في الدولة, وفي غضون القرنين العاشر والحادي عشر برزت النتائج السياسية لضعف الدولة العباسية من خلال الحركات الانفصالية، وقيام الأسرات الحاكمة المستقلة في الشرق والغرب.
ومن ناحية أخرى، نجح الفاطميون في سنة 969م في الاستيلاء على مصر، وبذلك صارت هناك خلافة شيعية منافسة, عاصمتها القاهرة، ونفوذها يمتد على مساحة كبيرة من الأرض العربية في الشرق, وعلى مدى قرنين من الزمان "969-1171م", ظل العالم الإسلامي نهبًا للنزاع بين القاهرة الشيعية وبغداد السنية, وفي النصف الثاني من القرن الحادي عشر بلغ الصراع بين الخلافتين ذروته؛ إذ حاول كلٌّ من الخلافتين القضاء على الخلافة الأخرى, وحين أيد الفاطميون جهمد "البساسيري" الذي أعلن خضوع بغداد للخليفة الفاطمي في القاهرة، استنجد الخليفة القائم بأمر الله العباسي بطغرك بك زعيم السلاجقة, الذي دخل بغداد في سنة 1055م، حيث استقبل استقبال الفاتحين, وقضى على حركة البساسيري وقتله، وبذلك حلَّ السلاجقة السنيون محل البويهيين الشيعة في الوصاية على الخلافة العباسية, وهكذا صار الخليفة العباسي مجرد حاكم روحي ورمز ديني، على حين صار السلطان السلجوقي هو الحاكم العلماني الفعلي للدولة العباسية "انظر: ابن ميسر، أخبار مصر, نشره هنري ماسيه, القاهرة 1919، جـ2، ص8، ابن العديم، زبدة الطلب من تاريخ حلب, تحقيق سامي الدهان, دمشق 1954، جـ1، ص275، المقريزي، الخطط، جـ1، ص5، ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، جـ5، ص11-ص12،(1/167)
ابن القلانسي، ذيل تاريخ دمشق، ص87، جمال الدين سرور، النفوذ الفاطمي في بلاد الشام والعراق، ص98-ص100، عاشور، الحركة الصليبية، جـ1، ص78-ص81.
وقد استطاع أولئك السلاجقة أن يستولوا على كثير من الأملاك البيزنطية، ثم توّجُوا انتصاراتهم بتدمير الجيش البيزنطي, وأسر الأمبراطور رومانوس الرابع الذي كان يقود الجيش بنفسه في معركة مانزكرت "ملازكر" سنة 1071م. ومنذ ذلك الحين كان السلاجقة هم القوة الإسلامية النشطة التي استطاعت أن تستولي على معظم أملاك بيزنطة, ولكن وفاة السلطان السلجوقي مكلشاه جاءت إيذانًا بتفكك الإمبراطورية الشاسعة الأرجاء التي بناها السلاجقة، وإذا ما حلت سنة 1096م كانت إمبراطورية السلاجقة قد انقسمت إلى خمس ممالك سلجوقية متنافسة، ثم ما لبث التنافس أن أدى إلى تدهور نفوذ السلاجقة وسلطانهم.
وعند قدوم الحملة الصليبية الأولى كانت إمبراطورية سلاجقة فارس قد دخلت في سلسلة طويلة من النزاع والحروب الأهلية، وقد ساعد هذا الموقف على نجاح هذه الحملة بسبب الموقف السلبي الذي اتخذه السلطان برقياروق تجاه الغزو الصليبي, وقد ذاب السلاجقة في أحداث الفترة الصليبية الباكرة, تاركين الخلافة العباسية تمضي في طريقها المحتوم "انظر حول هذا الموضوع: ابن العديم، زبدة الطلب، جـ2، ص176، ابن الأثير، الكامل، جـ10، ص496-ص510، ابن القلانسي، ذيل الأثير، الكامل، جـ10، ص496-ص510، ابن القلانسي، ذيل تاريخ دمشق، ص185-ص187، عاشور، الحركة الصليبية، جـ1، ص113-ص120، عبد الغني محمود عبد العاطي، السياسة الشرقية للإمبراطورية البيزنطية في عهد الإمبراطور أليكسيوس كومنين "رسالة دكتوراه لم تنشر، جامعة المنصورة 1981م"، ص168-ص176.
"Fadil S M the decline of the Saljuki empere Calcutta 1938 p 104(1/168)
أما الخلافة الفاطمية فيتمثل فشل قادتها الأكبر تجاه الصليبيين في أنهم لم يفهموا حقيقة الغزو الصليبي، ولم يروا فيه سوى أداة تمكنهم من سحق السلاجقة الذين كانوا الأداة العسكرية للخلافة العباسية, وفي رأي بعض الباحثين أن الأمبراطور أليكسيوس كومنين نصح قادة الجيوش الصليبية، حين التقوا به في القسطنطينية، أن يتحالفوا مع الفاطميين ليكونوا عونًا لهم ضد السلاجقة, ويبدو أن الصليبيين قد أخذوا بنصيحة الإمبراطور البيزنطي؛ فأرسلوا سفارة إلى القاهرة أثناء حصارهم لنيقية. ومن ناحية أخرى كان الوزير آنذاك يعتقد أن الجيوش الصليبية إنما جاءت إلى الشرق لمساعدة الإمبراطور البيزنطي, وفكر من ناحيته في إقامة نوع من التحالف مع قادة هذه الجيوش لتقسيم بلاد الشام بين الفاطميين والصليبيين؛ بحيث تكون أنطاكية هي خطي التقسيم بلاد الشام بين الفاطميين والصليبيين, وفي أثناء حصار أنطاكية في بداية سنة 1098م، استقبل الصليبون سفارة فاطمية تعرض عليهم مشروع التقسيم باسم الخلافة الفاطمية, ولكن هذا المشروع الذي كان يناقض الأهداف الصليبية، والذي كان يكشف في الوقت نفسه عن قصور الوعي السياسي لدى الفاطميين, لم يؤد سوى إلى إدراك الصليبيين لمدى التمزق السياسي والمذهبي الذي يعاني منه العالم الإسلامي. وقد عبر ابن الأثير عن وجهة نظر فريق من المسلمين جعلهم التصرف الفاطمي يعتقدون أن الفاطميين هم الذين استدعوا الفرنج لكي يقيموا في بلاد الشام دولة حاجزة بين الفاطميين والسلاجقة المدافعين عن الخلافة العباسية.
وبعد أن تمكَّن الصليبيون من الاستيلاء على أنطاكية، بدأت حقيقة نواياهم تتكشف أمام الخلافة الفاطمية، فقد طردوا السفارة الفاطمية من أنطاكية، وأعلنوا أنهم في الطريق إلى بيت المقدس, بل إن فكرة غزو مصر وإخضاعها للسيادة الصليبية روادت أحلام قادة الحملة الأولى، فعقدوا مجلسًا حربيًّا في الرملة, طرحوا فيه مشروع غزو مصر، ولكن ضآلة الجيش(1/169)
الصليبي حالت دونهم, والقيام بهذه المجازفة "انظر:
Anonymos Deeds of the Franks and other pelgrims to Jerusalems "ed R Hill London 1962" pp 37-38 Archeve de l Orient Latin Tom l pp 162 163 Robert the Monk Hestoria Hierosolimitana RHC Hist Occ lll Paris 1866 pp 791 792 Runciman A hist of the Crusade New York "1964" vol l pp 229-230 p 267 p 279
ابن الأثير، الكامل في التاريخ، جـ10، ص273-283، ابن ميسر، أخبار مصر، جـ2، ص38، ابن القلانسي، ذيل تاريخ دمشق، ص135.
وفي 7 يونيو سنة 1099م بدأ الحصار الصليبي لمدينة بيت المقدس، وفي منتصف يوليو من السنة نفسها تمكنت القوات الصليبية من اقتحام المدينة, وسالت دماء المدافعين عن المدينة وسكانها في المذبحة الرهيبة التي ارتكبتها السيوف الصليبية، ومع الدماء التي أريقت، أريقت الأوهام الفاطمية عن التحالف مع الفرنج ضد السلاجقة. وعلى الرغم من أن الفاطميين جرَّدوا جيوشًا كبيرةً وأساطيل قوية في حملات متتالية بفضل موارد مصر الكبيرة، فإن الفشل كان دائمًا من نصيب الجهود الفاطمية؛ بسبب التفسخ والانهيار الداخلي في مصر آنذاك.
لقد كانت الخلافة الفاطمية آنذاك أشبه بالرجل المريض القابع على ضفاف النيل؛ إذ أضاع الوزراء الفاطميون هيبة الخلافة الفاطمية على تراب الشام إبَّان معاركهم الفاشلة ضد الصليبيين، كما بددوا كل ما تبقى لهذه الخلافة التعسة من ظلال قوتها الغاربة في منافساتهم ومؤامراتهم التي جرت في إيقاعٍ سريعٍ من الانقلابات والفتن المسلحة, والاغتيالات التي كان هدفها كرسي الوزارة؛ حيث يجلس الحاكم الفعلي لدولة الخلافة. واستثمر الصليبيون متاعب الخلافة فاتجهوا بأطماعهم جنوبًا صوب مصر, بعد أن أقنعتهم جبهة الموصل- حلب, بعدم جدوى محاولة التقدم شمالًا, وكان تقدم(1/170)
الجيوش الصليبية إلى غزة الواقعة على مشارف الصحراء إشارة إلى الاتجاه الصليبي نحو مصر, ثم حدث أيضًا الهجوم على العريش سنة 1161م، مما اضطر مصر إلى التعهد بدفع إتاوة سنوية للصليبيين, ومات بلدوين الثالث في العام التالي، وتولى حكم مملكة بيت المقدس بعده أخوه أموري الأول Amabric l، دون أن تقوم القاهرة بدفع شيء من الأموال التي تعهدت بها.
وعلى الجانب الآخر, كانت أحوال الخلافة الفاطمية قد ازدادت سوءًا بمقتل الوزير ابن رزيك هو وابنه, وصار شاور حاكم الصعيد وزيرًا، ولكن حاجبه ضرغام لم يلبث أن عزله من الوزراة, ثم استنجد شاور بنور الدين الذي أرسل معه جيشًا بقيادة أسد الدين شيركوه بعد فترة من التردد، بعث حملة صليبية لهذا الغرض وجهتها القاهرة، وهكذا عمد كل من المتنافسين على الوزارة إلى اللعب بالنار التي التهمت كلًّا منهم في نهاية الأمر، كما كانت هذه النار نفسها التي أضاءت سبيل بروز صلاح الدين لقيادة الدولة ذات الطابع العسكري, التي تولت مهمة التصدي للعدوان الصليبي والقضاء عليه.
ومن الأمور المثيرة للسخرية أن شاور حين استعاد مركزه بمقتل ضرغام استنجد بالصليبيين ضد قوات أسد الدين شيركوه, ولكن الأمر انتهى بمقتل شاور، وتولى شيركوه الوزارة في مصر.
ولكن القصة التي دارت فصولها فوق الأرض المصرية بين القوات الصليبية والقوات الإسلامية النورية، انتهت بفشل ذريع للصليبيين, لقد فكروا في ضم مصر إلى أملاكهم، وهو أمر لم تكن الجماهير المصرية لتقبله، فانتهى الوجود الصليبي في مصر، ولقي أسد الدين شيركوه تأييدًا شعبيًّا متزايدًا, ثم اضطر الصليبيون إلى الانسحاب، وإن ظل حكم مصر سرابًا يجذبهم بين آونة وأخرى, هذه الأحداث أدت إلى نتيجتين هامتين تمامًا: أولاهما: تقليص الموارد العسكرية والمالية للملكة اللاتينية، وثانيتهما: تغيير(1/171)
خريطة المنطقة؛ إذ أنه بوفاة شيركوه سنة 1169م، خلفه ابن أخيه صلاح الدين يوسف الأيوبي في الوزارة، وبعد عامين توفي الخليفة العاضد، واختفت الخلافة الفاطمية من مسرح الصراع ضد الوجود الصليبي.
هكذا كانت نهاية الخلافة الفاطمية نتيجة مباشرة للعدوان الصليبي الذي استنفذ مواردها العسكرية والمالية، بعد أن كشف عن مدى فشلها السياسي، ثم جاءت المعارك في قلب الخلافة الفاطمية لتزيد من تدهورها وتقضي عليه. حقيقة أن الخلافة الفاطمية كانت قد دخلت مرحلة التدهور قبل قدوم الصليبيين، لأسباب أخرى عديدة، ولكن العدوان الصليبي، وموجبات الصراع ضده، كان هو السبب الرئيسي في نهاية الخلافة الفاطمية. وجاءت هذه النهاية لتفسح المجال لقيام دولة عسكرية الطابع والأهداف والمقاصد، تتخذ من أرض مصر والشام مرتكزًا لها، وتتخذ من هدف القضاء على الوجود الصليبي محورًا لفلسفتها وإيديولوجيتها. والمتأمل في تاريخ المنطقة في هذه الحقبة الزمنية التي تمتد منذ ظهور صلاح الدين الأيوبي حتى نهاية دولة سلاطين المماليك سنة 1517م، يشعر أن الدولة العسكرية الطابع التي قادها الأيوبيون ثم المماليك، كان إفرازًا سياسيًّا للحروب الصليبية, بمعنى: أن مهمتها التاريخية الرئيسية كانت هي القضاء على الصليبيين في بلاد الشام، ثم القضاء على فلولهم في جزر البحر المتوسط في أخريات العصور الوسطى.
أما الخلافة العباسية، فقد أنهكت الحروب الصليبية موارد آخر المدافعين عنها، وذابوا في خضم الصراع ضد الموجات الصليبية الأولى, وإذا كانت الخلافة العباسية قد ظلت قائمة حتى النصف الثاني من القرن الثالث عشر حين أسقطها المغول، فإن وجودها كان وجودًا رمزيًّا للغاية، كما أن بعدها الجغرافي عن مسرح الصراع، وعدم خطرها على التوازن القوي في المنطقة، لم يعرضها لمثل ما تعرضت له الخلافة الفاطمية التي كانت داخلة في(1/172)
لب الصراع. بيد أن بقاء الخلافة العباسية لم يكن يعني صلاحية دولة الخلافة لقيادة الجهود الإسلامية في التصدي لعدوان مسيحيّ الغرب, وإنما كان الشكل الأمثل للدولة التي تقود هذه الجهود هو شكل الدولة العسكرية، والتي يقودها ملك محارب من نمط صلاح الدين الأيوبي. حقيقة أن الأيوبيين حرصوا على تأكيد ولائهم للخلافة العباسية، كما أن المماليك أعادوا إحياء هذه الخلافة في القاهرة، ولكن ذلك كان بهدف سياسيّ, هو إضفاء الشرعية على حكمهم في نظر المعاصرين، وليس بوازع من اعتقادهم بأن الخلافة العباسية تمثل قوةً هامةً يمكنها حسم الصراع لصالحهم.
لقد كان صلاح الدين الأيوبي، بطل التاريخ الإسلامي، زعيمًا وقائدًا عسكريًّا، كما كان رجل دولة موهوبًا. وكان يجسد الأخلاق الإسلامية في عيون المسلمين، ومن ثَمَّ كان هو الزعيم المثالي للحرب المقدسة ضد الكفار. وحاول الصليبون، بالتنسيق مع قوى المعارضة في مصر، أن يحيكوا خيوط مؤامرة تطيح بصلاح الدين، ولكنهم باءوا بفشل ذريع, كما أنهم قاموا بعدد من الغارات الجريئة عبر سيناء, ووصلوا إلى بحيرات منطقة السويس, وقام رينو دي شاتيلون "أرناط" Renaud de Chatillon، حاكم الكرك في شرق الأردن، بمحاولة لاقتحام البحر الأحمر وغزو مكة والمدينة بهدف التحكم في حركة المرور الدولية بين مصر وآسيا عن طريق باب المندب, وفي سنة 1182م بنى أسطولًا في قلعة الكرك الصحراوية، ونقله مفككًا على ظهور الجمال مسافة تقرب من خمسة وعشرين ميلًا إلى خليج العقبة، حيث تَمَّ تركيبه، وإنزاله إلى مياه البحر الأحمر, وقام هذا الأسطول بنهب عدد من الموانئ المصرية والحجازية قبل أن يفاجئه الأسطول المصري ويقضي عليه.
ولم يبدأ صلاح الدين هجومه الكبير على المملكة اللاتينية في فلسطين، قبل توحيد الجبهة الإسلامية, وعندما استولى على حلب سنة(1/173)
1183م, بدأ استعداداته للمواجهة الشاملة مع الصليبيين, ومن المهم أن نلاحظ هنا أن قوات صلاح الدين الأيوبي كانت تختلف عن قوات سلفه نور الدين محمود اختلافًا بينًا؛ من حيث نوعية المقاتلين، وطريقة إعالة الجيوش؛ فقد كانت نسبة الأكراد في جيوش صلاح الدين نسبة كبيرة، على حين قلت نسبة المماليك, فقد كانت قوات نور الدين وسائر الحكام الزنكيين قائمةً على ركيزة من المماليك الأتراك الذين احترفوا الجندية, ومنحوا ولاءهم الشخصي لقائدهم المباشرن دون مراعاة للمصالح العامة للدولة التي يخدمون في جيشها؛ ولأن هذه الجيوش كانت من المرتزقة محترفي القتال, الذين انتزعوا من مواطنهم للدفاع عن أماكن أخرى بعيدة، فقد لزم أن ينعموا بحياة رغيدة أثناء فترات السلم, وتجهيز راقٍ أثناء الحرب، مما جعل نفقات تجهيز مثل هذه الجيوش باهظة, بالقدر الذي استوجب أن تكون أعدادها قليلة. أما صلاح الدين فقد شعر نتيجة للظروف التاريخية التي أحاطت بصعود نجمه السياسي، أن مسؤوليته الأولى هي تعزيز القوات المحلية في مصر لحمايتها من الخطر الخارجي, ولدرء الفتن الداخلية, وحين توفي نور الدين، تصرف صلاح الدين باعتباره وريثه، واستولى على أملاكه في الشام والجزيرة, وتركزت جهوده في إنشاء سلطة عسكرية مركزية في هذه البلاد. وقد لعبت شخصية صلاح الدين دورًا حاسمًا في كسب ولاء جميع الفرق العسكرية ذات الأصول العرقية المختلفة, مما كبت المنازعات والمنافسات المعتادة بينها. ومن ناحية ثانية, قامت دولة صلاح الدين الأيوبي في أساسها، على أساس حربي، ووزعت مهام مستويات الحكم المختلفة على أساس من الالتزامات العسكرية، فقد تولى أفراد عائلته حكومات الأقاليم, بشرط المساهمة في نفقات الجهاد والحرب، والإبقاء على جيوشهم في حال استعداد دائم للنزول إلى ميدان القتال، إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
وفي يوم ملتهب من أيام الصيف، 4 يوليو سنة 1187م، دارت معركة حطين؛ حيث وقع الصليبيون في كمين في سهل مغلق في قرون(1/174)
حطين, وتبدد الجيش الصليبي عن بكرة أبيه بين قتيل وأسير, وكان هذا الجيش يمثل كل القوة العسكرية المتاحة للمملكة اللاتينية، مما أدى إلى أن تكون الأعمال العسكرية التي أعقبت حطين، أشبه ما تكون باستعراض عسكري منها بحملة قتال؛ إذ فتحت المدن الصليبية أبوابها الواحدة تلو الأخرى أمام صلاح الدين وجيوشه. وفي الثاني من أكتوبر من السنة نفسها، أي: بعد ثمانية وثمانين عامًا من السيادة المسيحية، استسلمت مدينة بيت المقدس للمسلمين, وبعدها بشهور قليلة تقلصت المساحة الصليبية وبعض القلاع المتناثرة، وبدا واضحًا أن الساعة الأخيرة في عمر المملكة الصليبية قد حانت.
لقد قامت شهرة صلاح الدين الأيوبي على إنجازاته العسكرية التي تجسدت في معركة حطين، وفي استرداد مدينة بيت المقدس, وبفضل إنجازاته العسكرية ضد الوجود الصليبي اكتسب صلاح الدين صفته الثانية كمؤسس لأسرة حاكمة، فقد كانت هذه الإنجازات العسكرية هي الأساس الذي قامت عليه الدولة الأيوبية العسكرية الطابع والهدف والتنظيم، وخير دليل على ذلك ما أورده أبو شامة "الروضتين، جـ2، ص177" على لسان صلاح الدين بقلم القاضي الفاضل " ... فقد انفق المولى "صلاح الدين" مال مصر في فتح الشام، وأنفق مال الشام في فتح الجزيرة، وأنفق مال الجميع في فتح الساحل ... ". هذه العبارة البسيطة تجسد الحقيقة القائلة: بأن الدولة التي خرجت من طيات الصراع الذي قاده صلاح الدين ضد الصليبيين، كانت دولة ذات طابع حربي صرف، بحيث تكرس كل مواردها لخدمة الهدف العسكري, وهو التصدي للعدوان الصليبي.
وفي أثناء حياته، كان صلاح الدين قد وزع الولايات التي ضمها إلى إمبراطوريته على أفراد أسرته الذين منحهم سلطات السيادة الفعلية, ولكن(1/175)
الأساس الذي كان يربط هذه الولايات جميعًا بالسلطة المركزية، هو الأساس العسكري الذي يعني: أن يقوم كل منهم بتقديم العون العسكري ضد الفرنج, وحين توفي صلاح الدين الأيوبي سنة 1193م, استقلت كل إمارة من إمارات البيت الأيوبي بنفسها، وانغمست هذه الإمارات في صراعات سطحيةٍ أبرزت نوعًا من الفرقة الظاهرية بين أبناء البيت الأيوبي, بيد أن الكيان الأيوبي من خلال الحقيقة القائلة بأن الكيان الذي أوجده صلاح الدين، بقي مستمرًا في مؤسسات دولة سلاطين المماليك بعد زوال الحكم الأيوبي, ويتجلى استقرار الحكم الأيوبي كذلك من خلال الازدهار المادي في مصر والشام، بفضل السياسة المستنيرة التي انتهجها الأيوبيون؛ لتشجيع الزراعة والتجارة وسائر وجوه النشاط الاقتصادي، ومن خلال فترات السلم التي سادت العلاقة بين الأيوبيين والصليبيين. كذلك كان يظهر في كل جيل من الأيوبيين، شخص يتمتع بصفات الزعامة التي تجعله الشخصية الرئيسية بين الأيوبيين، ليفرض سلطانه الأدبي على الجميع, الذين كانوا يتأزرون في مواجهة الخطر الصليبي أو غيره من الأخطار.
وكما كان ظهور دولة الأيوبيين نتاجًا للإنجاز العسكري لمؤسس دولتهم في الصراع ضد الفرنج الصليبيين، كانت نهاية دولتهم مقترنة بحملة صليبية أخرى، كانت مصر مسرحها هذه المرة, ومن خلال الصراع ضد الحملة الصليبية السابعة على مصر بقيادة لويس التاسع، برز المماليك باعتبارهم القوة الوحيدة القادرة على الدفاع عن العالم الإسلامي، وقامت دولتهم العسكرية امتدادًا لدولة بني أيوب العسكرية في مؤسساتها وبنيانها الإقطاعي العسكري، ونظمها الإدارية والمالية.
ويعد السلطان الصالح نجم الدين أيوب "637-647هـ, 1240-1249م"المسئول عن ازدياد نفوذ المماليك على(1/176)
النحو الذي أدى إلى استيلائهم على الحكم عقب وفاته، ذلك أن تجاربه مع الجنود المرتزقة من الخوارزمية والأكراد، علَّمته أن الاعتماد عليهم أمر غير مأمون العاقبة، ولهذا اشترى عددًا كبيرًا من هؤلاء المماليك الذين درَّبهم ليكونوا غالبية جيشه, وكان هؤلاء المماليك من عناصر مختلفة؛ من الأتراك والمغول والصقالبة والأسبان والألمان والجراكسة ... وغيرهم؛ إلّا أن غالبيتهم في عصر دولة سلاطين المماليك الأولى -البحرية- كانوا من بلاد القنجاق والقوقاز، على حين كانت غالبيتهم في الدولة الثانية من الجراكسة.
وجاء العدوان الصليبي على مصر بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا سنة 647هـ-1249م, فرصة لإبراز أهمية فرسان المماليك في الدفاع عن العالم الإسلامي؛ فقد كانت الخطة التي وضعها بيبرس البندقداري ونفذها فرسان المماليك في شوارع المنصورة، أثرها الفعال في هزيمة جيش الصليبين، وأسر لويس التاسع نفسه, وفي خضم الصراع ضد الصليبيين توفي السلطان الصالح, وقامت زوجته وأمته السابقة شجرة الدر بإدارة شئون الحكم والحرب, بمساعدة كبار أمراء المماليك, وحين تولى توران شاه العرش، اصطدم بطموح شجرة الدر من ناحية، وبقوة المماليك من ناحية أخرى, وانتهى الصدام بمصرعه على نحو مأسوي مروّع، ثم تولت العرش شجر الدر، أول سلاطين المماليك.
هكذا، إذن, كانت الدولة المملوكية استجابةً لظروف العالم الإسلامي في القرن السابع الهجري -الثالث عشر الميلادي، حين كان المسلمون يتعرضون للهجوم من الغرب اللاتيني, والشرق المغولي في آنٍ واحد, وفي الوقت الذي كانت قوات لويس التاسع تخوض مياه المتوسط قبالة دمياط، كانت جحافل التتار بقيادة هولاكو تطوي بلدان الشرق الإسلامي، وهي تقترب من عاصمة الخلافة العباسية بغداد.(1/177)
لقد كان انتصار المصريين على الصليبيين بين المنصورة وفارسكور بمثابة صرخة الميلاد لدولة سلاطين المماليك، وإذا كان بعض المؤرخين يرى أن الدولة الوليدة مرت بفترة تجربة استمرت عشرة سنوات، فيما بين معركة المنصورة 647هـ-1250م, ومعركة عين جالوت سنة 658هـ-1260م، فإننا نرى أن معركة عين جالوت بنتائجها الحاسمة كانت تأكيدًا للدور الذي اضطلعت به دولة سلاطين المماليك منذ مولدها، وهو دور القوة الضاربة المدافعة عن العالم الإسلامي. "عن قيام دولة سلاطين المماليك, انظر: قاسم عبده قاسم، دراسات في تاريخ مصر الاجتماعي، ص9-ص31، جمال الدين الشيال، تاريخ مصر الإسلامية, دار المعارف 1967، جـ2، ص171-ص201، محمد مصطفى زيادة، حملة لويس التاسع، ص145-ص201، سعيد عاشور، الأيوبيون والمماليك في مصر والشام، ص198-ص221.
وكان لا بدَّ لنظام الحكم في هذه الدولة أن يعتمد على نظام الإقطاع العسكري الذي كان امتدادًا لما كان سائدًا في العصر الأيوبي، فقد كان لكلٍّ من السلطان والأمراء جيش من المماليك, الذي يعتمد عليه في تدعيم سلطته، أو في الصراع ضد الآخرين, وفي حالة الحرب الخارجية يتم تجميع هذه الجيوش مع القوات المساعدة والمتطوعين, ولما كانت الإقطاعات هي الوسيلة الوحيدة لإعالة هذه الجيوش الصغيرة، فقد قسمت الأرض الزراعية بين أمراء المماليك وسلطانهم.
وفي سنة 1260 كان السلطان الظاهر بيبرس هو الرجل الحاكم في مصر، وهو قائد ممتاز, ورجل دولة هائل المقدرة، ويعتبر من أعظم حكام العالم الإسلامي آنذاك؛ إذ استطاع أن يغير مصير المنطقة في أكثر من اتجاه. فمن خلال مطاردة الفلول المغولية أصبح بيبرس سيد بلاد الشام, وأحاط بمملكة الصليبيين من كل اتجاه, وكان من السهل عليه آنذاك أن يدمرها،(1/178)
ولكن مهام أخرى كانت تشغله عن ذلك مؤقتًا, فعلى الرغم من انتصاراته، كان المغول ما يزالون يشكلون خطرًا حقيقيًّا, ومرةً أخرى أطلق المسلمون شعار الجهاد ضد المغول، كما حاول بيبرس تكوين حلف إسلامي يضم مغول القرن الذهبي على شواطئ البحر المتوسط. ومن المهم أن نشير إلى أن المغول، على الرغم من الضجة التي أحدثوها في التاريخ، لم يكونوا خطرًا حقيقيًّا على العالم الإسلامي، نظرًا لانحطاط مستواهم الحضاري بالنسبة للعالم الإسلامي، فضلًا عن ديانتهم الوثنية التي تجعل منهم أرضًا جاهزة لانتشار الإسلام. ومصداق ذلك أنهم ما لبثوا بعد جيل أو جيلين أن اعتنقوا الإسلام وذابوا في رحاب الحضارة العربية الإسلامية, ولكن الأمر كان يختلف بالنسبة للصليبيين الذين كانوا يشكلون تحديًا حضاريًّا يهدد الوجود الإسلامي ذاته.
على أية حال، فإن بيبرس لم يلبث أن هاجم الممتلكات الصليبية، ونجحت ثلاث حملات قصيرة فيما بين سنة 1263-1266م, في حرمان الصليبيين من صفد, ومن قلاع أخرى في الجليل, كما استولى على قيصرية وأبرسوف؛ ليحدد مساحة الشريط الضيق الذي قامت عليه مملكة بيت المقدس، وتَمَّ عزل مدن الساحل الصليبية عن بعضها البعض حين استولى المسلمون على المناطق الواقعة فيما بينها, وبدا في الأفق أن ثمة حراب جديدة صليبية سوف تدور رحاها، وتستخدم رءوس الجسور الصليبية لكي تشن حربًا استردادية ضد المسلمين. وبالفعل بدأ لويس التاسع في تجهيز حملة كبيرة، ولكنها اتجهت إلى تونس, ويقال: إن الملك لويس كان يردد كلمة "القدس" بصوت خفيض وهو على فراش الموت, بيد أن فكرة الحروب الصليبية كانت قد انتهت, أما محاولات جيمس ملك أرغونة، الذي وصل إلى منتصف الطريق إلى القدس، فكانت مجرد جزء من قانون الفروسية أكثر من كونها محاولات لشن حرب صليبية قادرة على تغيير الموقف, وينسحب هذا الكلام أيضًا على محاولات إدوارد الأول ملك إنجلترا.(1/179)
وانتقل تاج مملكة بيت المقدس لآل لوزينان في قبرص، ولكن جهودهم المخلصة لم تغير شيئًا من الموقف, وأخذ الوجود الصليبي يتلاشى شيئًا فشيئًا، فتَمَّ الاستيلاء على أنطاكية سنة 1286م، ثم طرابلس سنة 1289م، وأخيرًا سقطت عكا آخر الحصون الصليبية الكبيرة في 18 مايو 1291, على يد قوات المماليك بقيادة السلطان الأشرف خليل بن قلاون, وكانت تلك هي النهاية؛ ففي أغسطس من العام نفسه هجر الداوية قلعة الحج، أكبر القلاع الصليبية، وكان ذلك هو فصل الختام في قصة الوجود الصليبي على أرض الشرق.(1/180)
بعض مظاهر الحياة اليومية
في عصر سلاطين المماليك
مقدمة:
يتميز عصر سلاطين المماليك بأنه عصر ذو سمات حضارية معينة تميزه عن سائر العصور التاريخية التي مرت بها مصر عبر تاريخها الطويل، سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي أو الثقافي, ويمكننا القول بأن هذا العصر يمثل ظاهرة حضارية واحدة متسقة, تمتد بداية تكوينها وتشكيلها إلى العصر الأيوبي، وتتمثل نهايتها في خط التدهور الذي بدأ في زمن المماليك الجراكسة، ثم زاد معدل منحناه حتى سطقت الدولة المملوكية تحت سنابك الخيول العثمانية.
فمن الناحية السياسية: كانت هذه الدولة التي جاءت استجابة لظروف العالم الإسلامي في منتصف القرن السابع الهجري -الثالث عشر الميلادي، تقوم على أساس نمط فريد من النظريات السياسية، ومن الناحية الاقتصادية: كانت العلاقات الإقطاعية -رغم الدور الكبير الذي لعبته مصر في ذلك الحين في التجارة العالمية- ركيزة نظام الحكم العسكري، ومن الناحية الاجتماعية: كان الحياة اليومية في المجمتع انعكاسًا لطبيعة النظام الإقطاعي وعلاقته الطبقية الصارخة، ومن الناحية الثقافية: اهتم قادة الفكر بالحفاظ على الشكل دون المحتوى، فجاءت كتاباتهم بشكلها المزخرف تشي بالتدهور المطرد في الحياة الثقافية.
وقد كانت النظرية السياسية التي قام عليها حكم سلاطين المماليك(1/183)
استجابة لظروف قيام دولتهم من جهة، ونتيجة لوضعيتهم القانونية "كمماليك" من جهة ثانية؛ ذلك أن العالم المسلم في القرن السابع الهجري -13م- كان عرضة لأمواج الجزر في كافة أنحائه، وكان عليه أن يلتزم موقف الدفاع تجاه الضربات التي أخذ يتلقاها من كل جانب، فقد استطاعت حركة الاسترداد الإسبانية Reconquista أن تستولي على مساحات كبيرة من الأندلس الإسلامية، في الوقت الذي كان فيه الغرب الأوربي يحشد قواه استعدادًا للهجوم على مصر في محاولة لاستعادة المجد الصليبي الذي ضاع على تراب فلسطين وفي مياه ساحل الشام، وجاءت حملة لويس التاسع على مصر عبيرًا عن استمرار العدوانية الصليبية على العالم الإسلامي، على حين كانت طبول الحرب التترية يتردد صداها منبئة عن اقتراب جحافل المغول من مواطنهم في جنوب شرق آسيا، مكتسحةً كل ما في طريقها, حين تطيح بالخلافة العباسية بعد سنوات قليلة من قيام دولة المماليك في مصر والشام, وهكذا كان انتصار المماليك على قوات لويس التاسع والحملة الصليبية السابعة، بمثابة صرخة الميلاد للدولة الجديدة، وجاء انتصارهم على المغول في عين جالوت بعد ذلك، ليؤكد وضع هذه الدولة الجديدة في دور القوة الضاربة المدافعة عن العالم الإسلامي.
ولكن بطولات فرسان المماليك في المنصورة وعين جالوت لم تغير من نظرة معاصريهم إليهم باعتبارهم "عبيدًا" لا يحق لهم الحكم، وواجهتهم منذ البداية متاعب عدم الاعتراف بشرعية حكمهم, كما أن أمراء المماليك أنفسهم، من ناحية أخرى، لم يحترموا ما يدعيه أحدهم من أحقية في عرش البلاد، وتجسدت هذه الحقيقة منذ البدايات الأولى لحكمهم بمصرع قطز على يد بيبرس الذي خلقه في الحكم, وهكذا تعين على السلاطين أن يبحثوا لحكمهم عن دعامة يستند إليها, وتكسبهم الشرعية التي كانوا يفتقرون إليها في نظر المعاصرين, وفي نظر أنفسهم. وكان إحياء السلطان الظاهر بيبرس للخلافة العباسية في القاهرة سنة 659هـ -1261م, بمثابة الحل السعيد لهذه(1/184)
المشكلة؛ إذ أن الخليفة العباسي الجديد فوَّض بيبرس في حكم البلاد الإسلامية, وحصل السلطان على لقب "قسيم أمير المؤمنين" أي: شريكه في الحكم "السيوطي: حسن المحاضرة، جـ2، ص87" وتأكيدًا لهذه الصفة سارع بيبرس إلى بسط حمايته على بلاد الحجاز؛ حيث يوجد الحرمان الشريفان.
وهكذا قامت النظرية السياسية لدولة المماليك على أساس أن جميع أمراء المماليك متساوون في أحقيتهم بعرش البلاد, الذي سيكون من نصيب أقوى الأمراء وأقدرهم على الإيقاع بالآخرين من ناحية، وعلى أساس الحرص على الواجهة الدينية المتمثلة في الحصول على تفويض الحكم من الخليفة، الذي لم يكن له من الخلافة سوى اسمها، وتقريب "أهل العمامة" من القضاة والفقهاء الذين انحصرت مهمتهم، في الغالب، في تبرير تصرفات السلطان الحاكم, في فتاوى كانت تشمل كافة شئون الحياة المصرية, ومن ثَمَّ كان السلاطين يعتمدون على قوة ذات جناحين، أحدهما: قوة السلطان العسكرية التي يكونها مماليكه الذين اشتراهم ودربهم, وحملوا اسمه؛ ليكونوا بمثابة حرسه الخاص، ويتمثل الجناح الثاني في الواجهة الدينية التي حرص السلاطين على التخفي وراءها.
ونتيجة لهذا -وربما يكون من أسبابه أيضًا- اعتمد الحكم على نظام الإقطاع العسكري, الذي نشأ وتطور في العصر الأيوبي, فبينما كان للسلطان مماليكه الخاصة، كان لكل أمير من الأمراء مماليكه أيضًا, وكان النظام الإقطاعي هو أنسب الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية لدولة سلاطين المماليك، فإن الإقطاعات كانت هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تعول هذه الجيوش الصغيرة, وقد قُسِّمَت الأراضي الزراعية في مصر إلى أربعة وعشرين قيراطًا، اختص السلطان منها بأربعة قراريط، وخصص للأجناد عشرة قراريط، بينما وزعت القراريط العشرة الباقية على الأمراء "المقريزي:(1/185)
الخطط، طبعة بولاق، جـ1، ص87". وعلى الرغم من أن الإقطاعات قد أعيد توزيعها أكثر من مرة فيما يعرف باسم "الروك" -وهي فك وتعديل زمام البلاد من الأراضي الزراعية، فإن هذه الأراضي ظلَّت وقفًا على السلطان وأمراء المماليك وأجنادهم, وكان على الفلاحين أن يرتبطوا بالأرض التي يزرعونها، وسمي الفلاح الذي يقيم بالبلد "فلاحًا قرارًا"، فيصير قنا لمن أقطع تلك الناحية، وليس له أن يأمل في أن يباع أو يعتق، بل إن أبناءه كانوا يرثون القنية من بعده "الخطط، جـ1، ص84-ص85".
وكان من الطبيعي في ظل هذا النظام الإقطاعي أن يكون المجتمع المصري مجتمعًا طبقيًّا في علاقاته واتجاهاته، ومن الضروري أن ينعكس ذلك بوضوح على الحياة اليومية في الشارع المصري آنذاك, بيد أننا يجب أن نضع في اعتبارنا أن ملامح الحياة اليومية في مصر في ذلك العصر، لم تكن على حالٍ من الثبات والجمود طوال ذلك العصر؛ فالواقع أن الصورة في أوائل ذلك العصر قد اختلفت عنها في الشطر الأخير منه, ذلك أن الصورة الزاهية الزاخرة بالحركة والنشاط التي عرفتها الحياة المصرية في بداية ذلك العصر, كانت تعبر عن مجتمع إقطاعي في دور صعوده، فقد كان البناء متينًا محكمًا, وعلى قمة البناء الإقطاعي تربع السلاطين الأقوياء القادرون، من أمثال: بيبرس، والمنصور قلاون، والناصر محمد بن قلاون، الذين استطاعوا أن يحكموا قبضتهم على الأمراء ومماليكهم، وأن يرسوا دعائم الأمن والاستقرار، فكانت الدولة قادرة في الداخل، مهابة في الخارج, وساعدهم على ذلك ثروة كبيرة من التجارة، ونشاط زراعي مزدهر، ونظام صارم لتربية المماليك. وقد أدَّى ذلك إلى خلق نوع من الاستقرار النسبي, انعكس بدوره على صورة الحياة اليومية في شوارع المدن وأزقَّتِها، ودروب الريف والقرى, ولكن التدهور الذي ألَمَّ بالبلاد منذ بداية القرن التاسع الهجري -15م- وتبدت مظاهره في شتَّى نواحي الحياة المصرية، جعل الألوان الزاهية في صورة الحياة اليومية المصرية تتراجع أمام الظلال(1/186)
والألوان القاتمة الحزينة التي جاءت إيذانًا بمغيب دولة وسقوط حضارة، عاشت مصر والعالم الإسلامي في ظلها سنوات طوالًا, وتجلَّت مظاهر التدهور واضحة في الأسواق والحمامات والجوامع والشوارع والحارات، وانعكست على عادات الناس وتقاليدهم, وما اعتادوا عليه من احتفالات وأعياد، كما تأثرت بها طراز الملابس ونوع قماشها.
هذا المجتمع الطبقي انقسم في حقيقته إلى طبقتين رئيسيتين؛ الحكام والرعية، أي: السلطان وكبار الأمراء من "أرباب السيوف" الذي يتولون المناصب الإدارية الكبرى، ومماليكهم، ومن يلوذ بهم من المتعمميين الذين قاموا بدور الواجهة الدينية للحكم، وكانت فتاويهم تصدر بسخاء طوال ذلك العصر؛ لتبرير ومساندة تصرفات الطبقة الحاكمة "المقريزي، السلوك لمعرفة دول الملوك، جـ4، ص1189، ص1190، ابن تغري بردي, النجم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، جـ15، ص338". وقد عاش المماليك كطبقة عسكرية حاكمة لها حق التمتع بكل الامتيازات والمكاسب بعيدًا عن جموع المصريين الذين كانوا عليهم أن يعملوا في شتَّى نواحي النشاط الاقتصادي دون أن يشاركوا في الحكم.
وقد قسَّم ابن خلدون البلاد إلى "سلطان ورعية "المقدمة، ص183" وهو ما يكشف عن إدراك الحقيقة الواقع الطبقي في مصر آنذاك, وفي تصورنا أنه يقصد بالسلطان: الجهاز الحاكم, والفئات التي تعيش على هامشه من المصريين، أما الرعية: فهي الشعب المصري بجميع طوائفه وفئاته, ولم تكن العلاقة بين السلطان والرعية قائمة على أساس من الحقوق والواجبات المتبادلة، وإنما كان على الرعية أن تقدم ثمار إنتاجها للحاكم الذي رأى في المصريين مصدرًا للضرائب التي أخذت تتزايد باطراد طوال ذلك العصر, وقد عرفت الضرائب باسم "المظالم" و"المغارم" مما يعكس رأي الناس فيها, ولم تكن الحكومة تقوم بمسؤولياتها العامة تجاه الرعية في مجالات التعليم أو الصحة أو غيرهما.(1/187)
وإذا كان المؤرخ تقي الدين المقريزي "ت. 845هـ" قد ذكر أن المصريين في عصره سبع فئات، فالواقع أن تقسيمه "إغاثة الأمة بكشف الغمة، ص72-ص73" لم يكن تقسيمًا طبقيًّا -وفي ظننا أنه لم يكن يريد أن يضع تقسيمًا طبقيًّا -بل إنه اقترب من التقسيم الذي وضعه أستاذه عبد الرحمن بن خلدون إلى حدٍّ بعيد، فقد جعل "أهل الدولة" قمة التقسيم الفئوي الذي وضعه, ثم بين تفاوت المستوى الاقتصادي لكل فئة حسب نشاطها في المجتمع, والواضح أيضًا، أن المقريزي لم يرتب هذه الفئات أو الأقسام حسب مستواها الاقتصادي؛ فقد جعل أهل اليسار من التجار وأولي النعمة من ذوي الرفاهية على قمة الرعية، يليهم متوسطو الحال من التجار وأرباب الأسواق, إلّا أنه يضع الفلاحين وسكان القرى والريف، مع ما هو معلوم عن تدهور أحوالهم، قبل الفقهاء وطلاب العلم وأجناد الحلقة الذين يجعلهم في القسم الخامس، وقبل أصحاب الحرف والصنائع الذين يضعهم في القسم السادس, كما أنه من ناحية أخرى، يجعل الشحاذين والمتسولين -الذين يتكففون الناس ويعيشون منهم، قسمًا سابعًا.
هكذا، إذن، كان بناء المجتمع المصري طبقيًّا في أساسه بشكل حادٍّ: طبقة من الحكام العسكريين لهم كل الامتيازات والحقوق، ويملكون الأراضي الزراعية كلها، في مقابل الرعية التي اقتصر دورها على الإنتاج ودفع الضرائب، ولم يكن من حق أفرادها أن يشاركوا في مسؤوليات الحكم والإدارة, وقد انعكس ذلك، بطبيعة الحال، على شكل النشاط اليومي في الحياة المصرية في ذلك الوقت.
وكانت الطبقة الحاكمة تقوي نفسها على الدوام بما يجلب إلى مصر من المماليك، فيشتري السلطان بعضهم، ويشتري الأمراء بعضهم الآخر, وكان السلاطين يولون عناية كبيرة لتربية مماليكهم الذين كانوا -بعد إتمام تعليمهم وتدريبهم، وانتقالهم إلى الخدمة برتبها المختلفة- يشكلون الحرس السلطاني الخاص, وفي البداية يقرر السلطان لكلٍّ من مماليكه راتبًا شهريًّا(1/188)
نقديًّا, إلى جانب الراتب العينيّ من اللحوم والخبز والعلف وغيرها, وبعد ذلك يدخل الفارس المملوكي في زمرة الأمراء من أصحاب الإقطاعات، فيأخذ إقطاعًا من الأرض الزراعية، وتتزايد مساحة الإقطاع تزايدًا طرديًّا مع ارتقاء الأمير؛ من أمير عشرة إلى أمير مائة أو أمير مئتين أو أمير ألف, ويمنح السلطان الإقطاع للفارس في احتفالٍ كبير يبدأ بموكب سلطاني يطوف شوارع القاهرة؛ حيث يتجمع الناس على جانبي الطريق لمشاهدة الموكب، وحين يصل الموكب إلى قبة المنصور قلاون، يقوم الفارس المملوكي بأداء اليمين الإقطاعي لسيده "العمري: التعريف بالمصطلح الشريف، ص146 وما بعدها" وفي زمن المماليك الجراكسة اختفى هذا الموكب من شوارع القاهرة ضمن مظاهر التدهور الأخرى.
وكان الإقطاع يتراوح ما بين نصف قرية لجندي الحلقة، وعشر قرى للأمير "سعيد عاشور: المجتمع المصري، ص19" وكان ربع الإقطاع يتراوح مابين ثلاثين ألف درهم وعشرة آلاف درهم للجندي، سوى الضيافة التي كانت عبئًا إجباريًّا على الفلاحين في الإقطاع، وقدَّرَهَا المقريزي بحوالي خمسة آلاف درهم في "الإقطاع الثقيل" "الخطط، جـ1، ص84-ص87".
والجدير بالذكر أن العلاقات الإقطاعية في مصر في عصر سلاطين المماليك، كانت تختلف تمام الاختلاف عن العلاقات الإقطاعية في غرب أوروبا في العصور الوسطى؛ فقد كان هناك عدد من السادة الإقطاعيين الذين هم في الوقت نفسه أفصال لسادة إقطاعيين أعلى منهم في السلم الإقطاعي، كما أن تحول الإقطاع إلى ملكية وراثية في فرنسا وغرب أوروبا، ترك أثرًا على الحياة الاجتماعية حين تكونت الأسرات الإقطاعية القوية التي ناوأت الملكية وسلبتها كثيرًا من حقوقها وسلطاتها الساسية والقضائية على الناس في أوربا الغربية، "Noraan F Cantor The Medieval History New York 1969 pp 203-23" أما في مصر فكان السلطان هو السيد(1/189)
الإقطاعي الوحيد, والجميع أفصال له، وله وحده حق منح الإقطاع أو انتزاعه، مما أدى إلى عدم قيام بيوت إقطاعية وراثية كما حدث في الغرب الأوربي.
وإلى جانب الإقطاعات الزراعية, كان بعض الأمراء يأخذون إقطاعات نقدية -هي الأموال المتحصلة من ضريبة معينة- وقد حاول السلطان الناصر محمد بن قلاون إلغاء هذه الإقطاعات النقدية, وقصر الإقطاعات على الأراضي الزراعية, لكن نظام الإقطاعات النقدية لم يلبث أن فرض نفسه مرةً أخرى على النظام الاقتصادي, إلّا أن التدهور العام الذي شهدته البلاد في عصر الجراكسة، انعكس على النظام الإقطاعي، فصار الأجناد والأمراء يقايضون الإقطاعات، ويتنازلون عنها من الباطن؛ لأن إهمال مرافق الري وتدهور الزراعة، جعل ريع هذه الإقطاعات غير كافٍ لحياة البذخ التي عاشها المماليك.
وطبيعيٌّ أن تحتل طبقة المماليك المرتبة العليا في المجتمع المصري في ذلك الحين؛ فقد كان على أفرادها عبء الدفاع عن البلاد ضد الأخطار الخارجية من جهة، وحماية عرش السلطان في الداخل من جهة ثانية, ومن ثَمَّ كان السلاطين يهتمون بمماليكهم اهتمامًا بالغًا, ويخضعونهم لنظام صارم من التربية والتدريب، ويحرص السلاطين على مجالسة مماليكهم والأكل معهم دون أبنائهم؛ فقد كان أولئك المماليك هم ركيزة الحكم لكل سلطان، كما كانت قوة الأمير تتحدد بعدد مماليكه وقدرتهم على القتال, ولهذا كان السلاطين يوصون أبناءهم بالحرص على المماليك باعتبارهم قوتهم وعدتهم. "القلقشندي: صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، جـ10، ص166-ص173". ولم يكن أمراء المماليك يأكلون إلّا ومعهم جميع أجنادهم، وكان الأمير يغضب ممن لا يأكل عنده "الخطط، جـ1، ص87".
ومن ناحية أخرى، أحسَّ المماليك بأنهم أغراب عن البلاد، ولم(1/190)
يستطيعوا الاندماج في الحياة المصرية، فظلوا بمعزل عن المصريين وعن المشاركة الحقيقية في حياتهم اليومية. وعلى الرغم من أنهم يسكنون القاهرة, ويتزوجون من المصريات منذ عصر السلطان الظاهر برقوق -أوائل القرن الخامش عشر، فإن تركز وظائف الإدارة العليا في الحكومة والجيش بأيديهم، وكونهم أصحاب السلطة السياسية والقوة العسكرية, جعلتهم كطبقة عسكرية حاكمة تنأى عن المشاركة في الحياة المصرية إلا من خلال المواكب والأعياد والاحتفالات الدينية, كما أن المصريين من جهة أخرى لم يروا في المماليك سوى طائفة من الغرباء الذين يتولون حكمهم بتفويض من الخليفة العباسي, ويغلب على الظن أن مشاعر المصريين تجاه أولئك الغرباء المجلوبين عبيدًا في طفولتهم، كان مزيجًا من الكراهية السياسية والعداء الاجتماعي، والولاء الديني بفعل الواجهة التي جعلت منهم حكامًا شرعيين مفوضين من الخليفة, الذي كان دوره -في الغالب- قاصرًا على إضفاء الصفة الشرعية على من يعتلي عرش البلاد من أولئك المماليك.
وظلت جموع المماليك التي كان تجار الرقيق يجلبونها باستمرار، تغذي هذه المشاعر الانعزالية في نفوس المماليك, بيد أن تطورًا حدث في نظام تربية المماليك، حين بدأ السلاطين والأمراء يشترون الشباب اليافع بدلًا من الأطفال الصغار الذين كانوا يخضعون لنظام صارم من التربية التدريب, وعرف هؤلاء المماليك الكبار باسم: "الجلبان" أو "الأجلاب" "سعيد عاشور: المجتمع المصري، ص25-27" وأدى هذا إلى انعدام روح الولاء والترابط بينهم من جهة, وإشاعة حالة من الاقتتال المستمر الذي كانت شوارع القاهرة وحاراتها ودوربها مسرحًا له من ناحية أخرى, وساهم ذلك في مزيد من تدهور النظام الإقطاعي.
أما أبناء المماليك الذين ولدوا في مصر ولم يمسهم الرق، فقد عرفوا في مصطلح ذلك العصر باسم: "أولاد الناس", وغالبًا ما كان "أولاد الناس" هؤلاء ينصرفون عن الحياة السياسية والعسكرية التي كان آباؤهم يحيون في(1/191)
ظلها، ويختارون لأنفسهم حياة السلم والدعة, وقد يهتم بعضهم بالمشاركة في النشاط الثقافي في عصره ويساهم فيه, وقد برزت من بين "أولاد الناس" طائفة كبيرة من المؤرخين اللامعين في تاريخ التدوين التاريخي عند المسلمين, منهم: "ابن أيبك الدوادار"، و"خليل بن شاهين الظاهري"، و"ابن دقماق"، و"ابن تغري بردي"، و"ابن إياس" وغيرهم. "قاسم عبده قاسم وأحمد الهواري: الرواية التاريخية في الأدب العربي الحديث، القاهرة 1977، ص89 وما بعدها". ويمكن تفسير ذلك في ضوء الحقيقة القائلة: بأن المماليك لم تكن لديهم حياة أسرية بالمعنى المألوف، ذلك أن وجودهم في الحياة المصرية لم يقم على أساس الأسرة كخلية أولية في البناء الاجتماعي؛ فلأنهم كانوا غرباء على المجتمع المصري، فقد ارتكز وجودهم على أساس ما يملكه كل أمير من المماليك الذين كانوا الدعامة الأساسية في قوتهم العسكرية ونفوذهم السياسي, ومن ثَمَّ كان الأمراء يولون مماليكهم عنايتهم ورعايتهم الكاملة، بحيث لا يبقى لديهم الوقت الكافي لرعاية أبنائهم, وينشأ هؤلاء الأولاد بعيدًا عن الجو المملوكي العسكري، أو في جحور النساء, على حد تعبير ذلك العصر.
وكان "أولاد الناس" يمضون وقت فراغهم في ممارسة بعض الألعاب والرياضة؛ مثل: الفروسية ولعب الكرة ورمي الرمح والنشاب ... وما إلى ذلك, كما كانت الثروات التي يرثونها عن آبائهم, أو الإقطاعات التي يمنحها لهم السلاطين، تكفل لهم العيش في ظل الرفاهية؛ بحيث لا يمكن أن تفصلهم عن الطبقة العسكرية الحاكمة.
وفي فلك هذه الطبقة العسكرية الحاكمة، كان يدور بعض المصريين من الفئات التي كانت ترتبط بالمماليك بحكم دورها في الحياة المصرية آنذاك, وهم: "أرباب القلم" الذين تولوا الوظائف الإدارية والدينية في الدولة. ولما كانت العلوم الدينية هي أساس التعليم في ذلك العصر، فقد كان أولئك النفر من المصريين من فئة الفقهاء والعلماء على نحو خاصٍّ؛ وهو(1/192)
ما جعل بعض مصادر تلك الفترة تطلق عليهم مصطلح: "أهل العمامة" أو "المعممون" "ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة، جـ7، ص205" والواقع أن المعممين لعبوا دورًا رئيسيًّا في مساندة السلطة السياسية في ذلك العصر, وكانوا يتمتعون بحياة رغيدة هانئة, ويقتنون الثروات الطائلة التي كان مصدرها تلك الطائفة الكبيرة من الأوقاف التي كان لهم الإشراف عليها, وتشهد تلك الطائفة الكبيرة من الفتاوى التي تضمنتها الوثائق المختلفة عن ذلك العصر، أن السلاطين اعتمدوا كثيرًا على هذه الفتاوى في كافة تصرفاتهم السياسية والاقتصادية والمالية والإدارية "وثائق دير سانت كاترين، أرقام 225، 226، 228، 229، 230". وإذا كان هناك بعض المواقف التي عارض فيها أحد المتعميين تصرفات السلاطين، فالواضح من المصادر التاريخية أن مثل هذه التصرفات كانت أمثلة فردية تمثل شذوذًا على الموقف العام.
وكان الفقهاء يتميزون بملابس خاصة، ولا يقعد الواحد منهم في الدرس إلّا بها، مما آثار استياء بعض المعاصرين الذين رأوا في التمسك بالمظهر آفة من آفات المجتمع المصري "ابن الحاج: المدخل، جـ1، ص136". وكان أهل العمامة يأخذون مرتبات عينية, إلى جانب المرتبات النقدية التي كان السلاطين يصرفونها لهم, وكانوا يغالون في إظهار مظاهر الترف والنعيم؛ فيركبون الخيول المسومة، ويرتدون الثياب الغالية، ويغشون المجالس السلطانية ومجالس الأمراء "ابن حجر: إنباء الغمر بأنباء العمر، جـ2، ص259".
إلّا أن انهيار الأمن في عصر الجراكسة، وتحلل الدولة، انعكس على موقف المماليك من أهل العمامة، فكانوا يتعرضون، من آنٍ لآخر، لمظاهر الامتهان، ويمنعون من ركوب الخيل التي كان ركوبها امتيازًا للعسكرية الحاكمة فقط "ابن تغري بردي: حوادث الدهور، جـ1، ص78" كما تعرضت مرتباتهم للقطع والمنع لعجز السلاطين عن الوفاء بمتطلبات الحكم،(1/193)
والعجز الفادح المتزايد في ميزانية الدولة في أواخر عمرها "ابن إياس، بدائع الزهور، جـ2، ص102-103".
وعلى الرغم من أن الاقتصاد الإقطاعي لمصر في عصر المماليك، كان يقوم أساسًا على الأرض الزراعية وما تنتجه من غلات، فإن دولة سلاطين المماليك جنت أرباحًا طائلةً نتيجةً لمشاركتها في التجارة العالمية التي اتخذت من الأراضي المصرية معبرًا لها، منذ تحولت طرق التجارة العالمية إلى البحر الأحمر في القرن الثالث عشر, بسبب الظروف السياسية العالمية, ومن الطبيعي أن تكون للتجار الكبار مكانتهم الهامة لدى السلاطين، مما جعل كبار التجار -مثل كبار المتعميين والفقهاء- يرتبطون بالطبقة الحاكمة ويدورون في فلكها, وكان السلاطين يعتمدون على التجار في اقتراض ما يحتاجونه من أموال، وقد لعبت "التجار الكارمية" دورًا هامًّا في الحياة المصرية، كما كانت المدن المصرية حافلة بالمنشآت التجارية؛ مثل: القياسر والخانات والوكالات؛ لنزول التجار الأوربيين والمسلمين, ونتيجةً للنشاط التجاري المزدهر، عاش التجار في بحبوحة من العيش، وكانوا يبنون الدور الفخمة, ويشيد بعضهم المدارس, ويوقف عليها الأوقاف الكبيرة، كما كانوا يتفننون في التأنق في ملابسهم، ونتيجةً لما اشتهروا به من الثراء الفاحش, وضعهم المؤرخ تقي الدين المقريزي، في تقسيمه للشعب المصري، على قمة الرعية بعد "أهل الدولة".
إلا أن احتكار سلاطين المماليك للتجارة الشرقية منذ عهد الأشرف برسباي من جهة، ثم نجاح البرتغاليين في الوصول إلى مياه المحيط الهندي سنة 1489 بمساعدة الملاح المسلم "ابن ماجد" من جهة أخرى، أدى إلى تدهور النشاط التجاري في مصر "ابن تغري بردي: النجوم، جـ15، ص338، ابن إياس، بدائع الزهور، جـ4، ص359، جـ5، ص90". وكان لا بد أن يتأثر التجار بهذا التدهور؛ فاختفت تجار الكارمية وظهرت فئة تعرف باسم "تجار السلطان"، كما زادت حالات مصادرة(1/194)
السلاطين لثروات التجار, وتدهورت التجارة الداخلية أيضًا بشكل مطَّردٍ, وأقفرت أسواق كثيرة "قاسم عبده قاسم، أسواق مصر في عصر سلاطين المماليك، القاهرة 1978م، ص33 وما بعدها" وفقد التجار مكانتهم ونفوذهم في المجتمع الذي كان يعاني من كافة مظاهر الانهيار.
هذه هي الطبقة الحاكمة، والفئات التي كانت تعيش في جوارها, وتدور في فلكها من كبار المعممين وكبار التجار، أما الرعية: فكانت تشمل صغار التجار والفقهاء وأصحاب الحرف والصنائع والفلاحين, وإذا كان ثَمََّةَ تدرج في المستوى الاقتصادي بين الفئات وبعضها، فإن الجميع كانوا رعايا من وجهة نظر طبقية أفرزها المجتمع الإقطاعي, وحدد لكل فئة مكانتها الاجتماعية بما يرتبط بها من ملابس أو ممارسات اجتماعية, وقد عاش أبناء الشعب المصري بكل فئاته حياتهم اليومية بمعزل عن الطبقة الحاكمة، ولم يكن يربطهم شيء بها سوى الضرائب التي يفرضها عليهم الحاكمون، أو أحداث العنف التي تشهدها عيونهم، وقد يروحون ضحيتها، من آنٍ لآخر.
ويمكن أن تتابع حياة المصريين اليومية، وأن نتعرف على عاداتهم وتقاليديهم من خلال المؤسسات ذات الوظيفة الاجتماعية في الشارع المصري؛ مثل: الأسواق، والحمامات، والأسبلة, والمساجد, والزوايا, والمشاهد المقدسة, والمقابر، ومن خلال ملابس المصريين، وأعيادهم واحتفالاتهم. كما يمكن أن نتعرف على أوضاع الأقليات الدينية وعلاقاتها بالمجتمع ومدى ارتباطها به, فضلًا عن أن متابعة الحياة اليومية في ظل الاضطراب السياسي، وكوارث المجاعات والأوبئة، يمكن أن تستكمل جوانب الصورة، على الرغم من ألوانها القاتمة.
وقد كانت المدن المصرية في عصر سلاطين المماليك مدنًا كبيرةً واسعةً، بها الأسواق والمساجد والأسبلة والأضرحة.. وقد استرعت هذه(1/195)
المدن انتباه الرحالة المسلمين القادمين من أنحاء العالم الإسلامي "ابن بطوطة: تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، طبعة باريس، عبد اللطيف البغدادي: الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر، العبدري: الرحلة المغربية، الرباط 1968". كما أثارت دهشة وإعجاب الرحالة القادمين من الغرب الأوربي "رحلة طافور في عالم القرن الخامس عشر، ترجمة د. حسن حبشي، القاهرة 1968" ولا غرو فقد كانت المدن الأوربية حتى ذلك الحين مدنًا نامية صغيرة المساحة قليلة السكان.
وقد أحصت لنا المصادر التاريخية المعاصرة في القاهرة والفسطاط ما يزيد على سبعين سوقًا وسويقة "ابن دقماق" الانتصار، جـ4، ص32-ص34، المقريزي: الخطط، جـ2، ص25، ص34، ص93-ص106". ومن البديهي أن هذه الإحصائية ليست دقيقة بالقدر الذي يمكننا من الاعتماد عليها، بيد أننا ينبغي أن نأخذ في اعتبارنا أن الأسواق قد تعرضت لتغيرات نوعية ومكانية بحكم الظروف السياسية والاقتصادية، مما يؤدي إلى اندثار بعض الأسواق القديمة وظهور أسواق جديدة.
وقد انتشرت هذه الأسواق في المدن المصرية كلها، ويبدو أن نظامها كان متشابهًا، غير أن بعض الأسواق التي وجدت بالقاهرة، لم يكن لها نظائر بالأقاليم مثل: "سوق السلاح" و"سوق المهامزيين". وكانت الأسواق تقوم غالبًا، على أساس التخصص في نوعٍ معين من البضائع, مثل: أسواق المواد الغذائية، وأسواق الملابس، وأسواق تجهيزات السفر وغيرها, ويقصد الناس هذه الأسواق للحصول على ما يلزمهم, وقد انتشرت هذه الأسواق بجوار التجمعات السكانية في المدن المصرية جميعها, وكان يراعى أن يقام السوق في مكان متعدد المنافذ؛ بحيث يسهل الدخول إليه والخروج منه، وفي داخل السوق تقام الدكاكين في مساحات صغيرة وأمام كل منها مصطبة(1/196)
يجلس عليها البائع؛ لمساومة المشترين أو للحديث مع زواره, وكانت هذه الحوانيت تلعب دورًا هامًّا في الحياة الاجتماعية, فقد كان الجالسون يتبادلون المعلومات والأخبار، وإذا كان هناك أمر هام يشغل أفراد الناس، فإنه يكون مجالًا للحديث في الأسواق, مما يخلق جوًّا من تبادل الآراء يمكن أن نسميه بالرأي العام الذي يوجه الأحداث, وقد تكرر في أواخر عصر المماليك الأمر بعدم الكلام في الأسواق في شئون الدولة.
وفي بداية عصر سلاطين المماليك كانت الأسواق تموج بالحركة، وتمتلئ حوانيتها بالبضائع, ويزدحم السوق بالمشترين؛ فقد كان سوق حارة برجوان، مثلًا، يحفل بعدد كبير من باعة اللحوم بأصنافها المختلفة, إلى جانب الزياتين, والجبانين, والخبازين, واللبانين, والشوايين, والخضريين, والفاكهيين, والعطارين, ولم تكن الحركة تنطقع ليلًا أو نهارًا عن بعض الأسواق المقامة في الأماكن الكثيفة السكان "الخطط، جـ2، ص93-ص106".
وقد عرفت أسواق تلك العصور نظام الصيارفة، الذين كانت مهمتهم استبدال العملات المتعددة التي كان الناس يتعاملون بها في ذلك الحين, وإلى جانب الحوانيت المقامة في الأسواق، كان الباعة الجائلون يفترشون الأرض ببضائعهم من المأكولات والمشروبات، حتى الخواتم والأساور وزينة النساء، ويبدو أن المنافسة كانت تشتد بين أصحاب الحوانيت والباعة الجائلين، الذين عرفوا في مصطلح ذلك العصر باسم: "أرباب المقاعد"، بدرجة تجعل ممثلي الحكومة يتدخلون بين الحين والآخر لمنع أرباب المقاعد من الجلوس في الأسواق " ... لما يحصل منهم من تضييق الشوارع, وقلة بيع الحوانيت ... ". وكان أولئك يشعلون المشاعل في الليل مما يغري الناس بالتنزه في السوق الذي أضفت عليه المشاعل جوًّا بديعًا.
وكان أهل المناطق الريفية المجاورة للمدن يفدون إلى أسواقها بدوابهم(1/197)
وعليها منتجات الريف لبيعها والعودة إلى قراهم، إلّا أن تدهور الأمن في الشطر الأخير من ذلك العصر، جعل أهل القرى المجاورة للقاهرة بالذات, يمتنعون عن الحضور إليها بمنتجات حقولهم خوفًا من أن يستولي عليها فرسان المماليك، أو قطَّاع الطريق أو الأعراب "ابن إياس: بدائع الزهور، جـ3، ص126، جـ5، ص67، قاسم عبده قاسم: النيل والمجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك، دار المعارف 1978، ص61-ص63".
وقامت في المدن المصرية أسواقها الخاصة بها، ويذكر ابن بطوطة "الرحلة، ص66-ص67" أن المسافر على صفحة النيل لم يكن يحتاج إلى التزود بالمؤن؛ لأن المدن المصرية من الإسكندرية حتى أسوان لها أسواقها الغاصَّة بالبضائع التي يحتاجها المسافرون وغيرهم.
وعلى نحو ما يحدث الآن في الريف المصري، وفي ضواحي بعض مدن الأقاليم، كانت الأسواق الدورية تقام في يومٍ معينٍ من كل أسبوع بالقرب من مراكز التجمعات السكانية، ويفد الناس إليها من شتَّى المناطق المجاورة للبيع والشراء وتبادل البضائع, والملاحظ أن هذه الأسواق الدورية كانت أسواقًا شاملةً لا تعرف التخصص الذي تميزت به غالبية أسواق المدن "الخطط، جـ1، ص162". كذلك كانت هناك بعض الأسواق المؤقتة التي تقام في أماكن التجمعات؛ حيث يجري العمل لحفر قناة على النيل أو بناء جسر أو مسجد أو مدرسة، كما كان الباعة يفدون إلى الموالد بمختلف صنوف البضائع فيما يشبه السوق المؤقتة.
وكانت الأسواق ونشاطاتها تخضع لرقابة الدولة ممثلة في المحتسب الذي له حق الإشراف على الأسواق والباعة فيها, وكان مسئولًا عن الأسعار والنواحي الصحية, ومن ثَمَّ يطوف أعوانه على الأسواق في حملات تفتيشية لمراقبة الأسعار والموازين والمكاييل، والكشف عن نظافة القدور التي(1/198)
تباع فيها الأغذية، ويصادرون البضائع الفاسدة ويعدمونها, ثم يوقعون على التاجر العقوبة المناسبة "المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك، جـ2، ص613، السخاوي: التبر المسبوك، ص261.
وقد تَعَيَّنَ على أصحاب الحوانيت في الأسواق كنس الطرقات ورشها، وتعليق القناديل في الليل, وحين يحين وقت الصلاة يفرشون البسط والحصر ويؤدون الصلاة أمام حوانيتهم.
وإذا كان المحتسب حازمًا، فإنه يلقى رضاء الناس عنه، وترحيبهم به, بحكم نجاحه في السيطرة على الأسواق والتحكم في الأسعار، وقد يحمله العامة في شوارع المدينة وهو راكب بغلته, ويصبون عليه ماء الورد، ويشعلون له الشموع والقناديل على طول الطريق، كما تقف له الفرق الموسيقية والمطربون الشعبيون يزفونه حين يمر بهم. "المقريزي: السلوك، جـ3، ص239 وما بعدها".
أما إذا كان المحتسب دون مستوى المسئولية؛ فإنه يتعرض لكافة صنوف المهانة, وكثيرًا ما كان المحتسب يلزم بيته خوفًا من غضب الناس الذين ينسبون إليه سوء الحال وغلاء الأسعار "ابن الفرات: تاريخ الدول والملوك، جـ9، ص435، العيني: عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان، مخطوط، جـ25، ورقة 4130414" وقد تأثَّرت الحسبة كوظيفةٍ بكافة مظاهر التدهور التي تبدت واضحة في الشطر الثاني من ذلك العصر؛ فقد صارت ولاية الحسبة تتم بالرشوة التي يستخلصها المحتسب من الناس قسرًا, وكانت النتيجة لتدهور وظيفة الحسبة أن خفت قبضة الدولة على الأسواق، وتلاعب الباعة بالأسعار, وأدَّى ذلك بالتالي إلى زيادة عزل وتعيين المحتسبين في عصر الجراكسة "ابن إياس: بدائع الزهور، جـ3 ص165، ص233، جـ5، ص27".
والواقع أننا يمكن أن نتابع كثيرًا من ملامح حياة المصريين اليومية من خلال السوق؛ ففي بداية عصر سلاطين المماليك كانت الدولة في مرحلة(1/199)
القوة والازدهار، وانعكس ذلك على الأسواق التي كان عددها كبيرًا من ناحية، وتموج بالحركة والنشاط وتزدحم بأصناف البضائع من ناحية أخرى, ومع بداية التدهور الاقتصادي والتفكك السياسي في عصر الجراكسة، واستمراره حتى سقوط دولتهم، بدت مظاهر الاضمحلال واضحة في الأسواق الداخلية في البلاد، فقل عددها، ونقصت كمية البضائع المطروحة بها، كما ارتفعت أثمانها.
ومن ناحية أخرى, ارتبطت الأسواق بالكثير من العادات الاجتماعية للمصريين في ذلك الحين، كما كانت تعبيرًا عن جوانب هامة من حياتهم؛ فقد كان من عادة النساء أن يخرجن إلى الأسواق لشراء ما يلزمهن من حاجيات، وربما يمازحن الباعة أثناء المساومة على الأسعار, وغالبًا ما كانت النساء تشترين لأزواجهن ما يحتاجون إليه من ملابس "ابن الحاج: المدخل، جـ1، ص245، جـ2، ص25"، كذلك كانت النساء تمثل غالبية رواد الأسواق في بعض المواسم؛ مثل: خميس العهد -الذي اشتهر في ذلك العصر باسم: خميس العدس، فعلى الرغم من أنه عيد مسيحي، فإن المصريين كانوا يحتفلون جميعًا به، وكانت النساء تخرج إلى الأسواق التي تزدحم بهن، في هذا اليوم لشراء البخور والخواتم, والجدير بالذكر أن المعاصرين كانوا يرون في خروج النساء إلى الأسواق أمرًا غير مستحب، وكثرًا ما ثارت المناقشات في الدوائر الحاكمة لمنع النساء من المشي في الأسواق, لا سيما في أوقات الأزمات الاقتصادية والطواعين، وهو ما يعبر عن المفاهيم الأخلاقية التي كانوا يفسرون بها أسباب الكوارث والأزمات. "ابن تغري بردي: النجوم، جـ6، طبعة كاليفورنيا، ص76".
ومن مظاهر ارتباط الأسواق بعادات المصريين الاجتماعية، أن الناس كانوا يتوجهون صباح كل جمعة إلى ومن مظاهر ارتباط الأسواق بعادات المصريين الاجتماعية, أن الناس كانوا يتوجهون صباح كل جمعة إلى سوق الدجاجين بالقاهرة، والذي كانت تباع فيه كميات ضخمة من الدجاج والأوز، كما كانت تباع طيور الزينة, وهناك يشتري الناس لأطفالهم العصافير التي كانت أقفاصها في هذا السوق(1/200)
تعد بالآلاف, وكان الأطفال يطلقون هذه العصافير حبًّا في عمل الخير؛ لأن الناس آنذاك كانوا يعتقدون أن العصافير تسبح بحمد الله "المقريزي: الخطط، جـ2، ص93-ص106".
كذلك ارتبط "سوق الحلاويين" بعادات المصريين وتقاليدهم، ويبدو من اسم هذا السوق أنه كان مخصصًا لبيع الحلوى المصنوعة من السكر, وكانت لهذا السوق مواسم يزدهر فيها, مثل: موسم شهر رجب، وموسم نصف شعبان، وعيد الفطر, الذي كان الاستعداد له يبدأ من منتصف شهر رمضان, وكانت الحلوى التي تباع في حوانيت السوق تصنع من السكر على هيئة تماثيل الحيوانات, وعرفت باسم: "العلاليق" "مفردها علاقة" لأنها كانت تعلق بخيوط على أبواب الحوانيت، ويتراوح وزن كل منها بين ربع رطل وعشرة أرطال. وكانت أسواق القاهرة والأقاليم تمتلئ بهذه التماثيل التي كان الناس يشترونها لأطفالهم على نحو ما يحدث الآن في المولد النبوي.
وكان "سوق الشماعين"، الذي تخصصت حوانيته في بيع الشموع بأنواعها المختلفة من الشموع الموكبية والطوافات والفوانيس، يزدهر في شهر رمضان, وفي غطاس النصارى, وكانت الشموع الموقدة على أبواب الحوانيت على جانبي السوق تضفي عليه جوًّا من البهجة " ... فتصير رؤيته من أنزه الأشياء ... " وكانت الشموع الموكبية ضخمة؛ بحيث تصل في وزنها إلى أكثر من قنطار، ويشتريها الناس أو يؤجرونها, وتجر على عجل في موكبٍ يحيط به الصبيان إلى المسجد لصلاة التراويح, ومن ناحية أخرى كانت سوق الشماعين موئلًا للبغايا اللاتي كن يجلسن بحوانيت السوق التي تظل مفتوحة حتى منتصف الليل, وكن يعرفن باسم "زعيرات الشماعين" ولهن ملابس مميزة هي الملاءات الطرح، والسراويل الحمراء في أرجلهن "الخطط، جـ2، ص94 وما بعدها".
إلّا أن هذه الصورة الزاهية للأسواق اختفت في أواخر عصر المماليك(1/201)
بفعل عوامل التدهور العامة من الانهيار الاقتصادي، المتمثل في هبوط الإنتاج الزراعي إلى أحط مستوياته، وتدهور النظام النقدي؛ بحيث صار النحاس هو القاعدة السعرية بدلًا من الذهب، والمجاعات والأوبئة المتتالية التي نزلت بالبلاد إلى دركٍ مخيف من التدهور وقلة عدد السكان, كما انعدم الأمن, وكثرت اعتداءات المماليك على الأسواق, وخطف البضائع منها "قاسم عبده قاسم: أسواق مصر، ص33 وما بعدها".
وإلى جانب الأسواق كان الباعة الجائلون يطوفون بشوارع المدن ينادون على بضائعهم كما هو حال اليوم, ويطوفون الشوارع والأزقَّة البعيدة عن السوق، فتخرج إليهم النسوة من بيوتهن للشراء، كما كان بائعو الأقمشة والدلالات يدخلون البيوت لعرض بضائعهم على ربات هذه البيوت "ابن الحاج: المدخل، ص102-ص103".
ولم يكن من عادة عامة المصريين أن يأكلوا في بيوتهم، ولذا فإن حوانيت الطباخين كانت هي المكان الذي يشتري منه المصريون ما يلزمهم من الطعام, وقد قدر أحد الرحالة الأوربيين الذين زاروا مصر في ذلك العصر، عدد المطاعم والمطابخ بما يزيد عن اثني عشر ألف مطعم في القاهرة "سعيد عاشور: المجتمع المصري، ص87" وإلى جانب هذه المطاعم كان هناك عدد من الباعة الجائلين, يطوفون بشوارع المدينة ومعهم الطعام المطهيّ وتحته المواقد مشتعلة حتى يظل ساخنًا، وكان البعض الآخر من باعة الطعام يفترشون الأرض في الأسواق والطرقات وبجوار الجوامع، وأمامهم طبليات يبيعون عليها الطعام للمارة "المقريزي: الخطط، جـ2، ص93-ص106"، وإلى جانب الطباخين الذين كانوا يطهون الطعام ويبيعونه لحسابهم، وجدت طائفة من الطهاة يرسل إليهم الناس ما يريدون طهوه من الطعام, فيطهونه ويخلطونه بالتوابل والأفاويه, ثم يرسلونه في القدور المغطاة إلى البيوت، وقد عرفت تلك الفئة من الطهاة باسم: "الشرايحية"،(1/202)
وكانت حوانيتهم تنتشر في أسواق البلاد "ابن الحاج: المدخل، جـ3، ص186-ص189".
أما المياه فكانت تجلب من نهر النيل, ويحملها السقاؤون على ظهور الجمال، ويمرون بها على البيوت لتفريغها في الأزيار وغيرها من الأواني، وكان الماء يباع بالقربة، إلى المنازل, أو يحضرونه بأنفسهم, وتسير جمال السقائين في شوارع المدينة وقد تدلت قرب المياه من جانبيها، وينادون عليها بالصلاة على النبي حتى يفسح الناس لهم الطريق.
وقد عرف الشارع المصري في عصر سلاطين المماليك، إلى جانب الأسواق، عددًا من المنشآت ذات الوظيفة الاجتماعية، منها الحمامات التي انتشرت في شتَّى أنحاء القاهرة والأقاليم, فلم يكن من عادة المصريين أن يبنوا المنازل المجهزة بالحمامات, وباستثناء أبناء الطبقة الحاكمة ومن يلوذ بهم من كبار المعممين والتجار، كانت جموع المصريين تستعيض بالحمامات العامة عن حمامات المنازل, وكانت هذه الحمامات، التي لا يزال بعضها موجودًا بمصر حتى اليوم، تعتبر نوعًا من المرافق العامة, بيد أن الدولة لم تكن تبنيها على نفقتها، وإنما كان الأفراد من الأثرياء يبنونها بقصد استثماري، ويتوارثونها، وتخصص إيراداتها أحيانًا كوقف للإنفاق على مدرسة أو سبيل وغير ذلك, وكان الناس يستخدمون هذه الحمامات لقاء أجر معين يدفع لصاحب الحمام أو المسئول عن إدارته.
وأحصى ابن عبد الظاهر بالقاهرة وحدها حوالي ثمانين حمامًا حتى سنة 685 هجرية، على حين ذكر المقريزي "ت845" حوالي أربعة وأربعين حمامًا, كان معظمها قد تخرب في عصره "الخطط، جـ2 ص79-ص84" وهو ما يكشف عن أن هذه المرافق قد نالت نصيبها من التدهور العام في عصر دولة الجراكسة.(1/203)
وكانت بعض الحمامات خاصة بالرجال، والبعض الآخر خاصة بالنساء، على حين كان هناك من الحمامات ما يخصص فترة للنساء وأخرى للرجال، وقد بنى السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي حمامًا للصوفية, ظلَّ وقفًا عليهم "الخطط جـ2، ص84".
وارتبطت الحمامات بالحياة اليومية والعادات الاجتماعية من عدة نواحٍ، فقد كانت الحمامات مثل الأسواق من مراكز تبادل الأخبار والآراء؛ حيث يكون الرجال -أو النساء- مضطرين إلى قطع الوقت بالثرثرة داخل الحمامات، كما كان دخول المريض إلى الحمام بمثابة إعلان بشفائه, وكان لا بد للعريس والعروس من التوجه إلى الحمام قبل الزفاف في موكب يصحب كلًّا منهما بالموسيقى والأغاني حتى الحمام، ثم يعود كل منهما بموكب مماثل بعد الاستحمام, وفي الحمامات كانت النساء يجتمعن بأفخر ملابسهن؛ حيث يتباهين ويتبارين في إظهار الأناقة "الخطط، جـ2، ص173، ابن تغري بردي: حوادث الدهور، جـ2، ص266-ص227، سعيد عاشور: المجتمع المصري، ص95". وكانت هذه الحمامات مجهزة بالمياه الساخنة التي لم يكن من الميسور توفيرها بالمنازل.
وقد ارتبط بالحمامات بعض المعتقدات التي شاعت في أوساط المصريين آنذاك، فقد ذكر ابن الحاج "المدخل، جـ2، ص282" أن الناس كانوا يعتقدون أن من يدخل الحمام أربعين أربعاء متوالية يفتح الله عليه في الدنيا.
وشهد ذلك العصر كثيرًا من المساجد والجوامع التي بناها السلاطين والأمراء وغيرهم، ولم يقتصر دور المساجد في ذلك الزمان على كونها أماكن للعبادة، وإنما كانت تقوم مقام الجامعات والمعاهد والمدارس في عصرنا الحديث, كذلك كانت المساجد والجوامع مراكز للحياة اليومية ونشاط المصريين الاجتماعي، فكثيرًا ما كانت تستخدم كأماكن انتظار للسيدات(1/204)
أثناء المحاكمات التي تكون إحدى السيدات طرفًا فيها, كما كان الرجال، في غير أوقات الصلاة، يجتمعون داخل المساجد في حلقات, ويتناولون بالحديث مختلف الشئون الحياتية, كما كان البعض ينامون في المساجد أو يخيطون بها قلاع المراكب, والغريب أن الناس في عصر سلاطين المماليك كانوا يتخذون من المساجد طريقًا لهم " ... وقلَّ أن تجد جامعًا إلّا وقد اتخذوه طريقًا ... "
"المدخل، جـ1، ص282".
بل إن الباعة كانوا يروّجون بضاعاتهم داخل المساجد بين المصلين، وكانت النسوة اللاتي يتاجرن في الغزل يعطينه للمنادي وينتظرن في المسجد، وربما يكون معهن أطفالهن، ويتردد المنادي عليهن للمساومة على أسعار غزلهن من حين لآخر, كذلك كان القضاة يعقدون الأنكحة في المساجد, وحين يتم عقد القرآن يخرج أهل العروسين في موكب بهيج من الجامع.
ومن ناحية أخرى، لعبت المساجد دورًا هامًّا في الصراع السياسي الذي كان ينشب بين آونة وأخرى بين أمراء المماليك المتنازعين على دست السلطنة، فقد كان مسجد السلطان الناصر حسن، المواجهة للقلعة، يستخدم كثيرًا كموقع عسكري لضرب القلعة.
وإلى جانب المساجد, حرص أمراء المماليك وسلاطينهم، على تشييد عدد من المنشآت ذات الوظيفة الاجتماعية؛ مثل: الأسبلة والخوانق، وذلك في إطار حرصهم على الواجهة الدينية لأنفسهم, وكانت هذه المنشآت الدينية تؤدي وظيفة اجتماعية هامة، كما كانت تمثل أحد الملامح الهامة في مصر آنذاك؛ فقد انتشرت في أنحاء مصر الزوايا التي تنسب إلى أصحاب الصلاح والتقوى, وكان الناس يتبركون بالشيوخ المدفونين في هذه الزوايا "الخطط، جـ2، ص429-ص 435". وفي تقديرنا: أن ابتعاد الناس عن الفهم الحقيقي لدينهم في تلك العصور من ناحية، ورغبتهم في الفرار من واقعهم المليء بعوامل القهر والإحباط من ناحية أخرى، هو الذي جعل الناس، لا(1/205)
سيما من العامة، يبحثون عن الشفعاء والوسطاء من الشيوخ الذين اعتقدوا في كراماتهم.
ومن مظاهر الرغبة في التبرك, والاعتقاد في كرامات الصالحين، أنه كانت هناك عدة مشاهد أو قبور مشهورة يزورها المصريون، ومنها مشهد "زين العابدين" الواقع بين الفسطاط وجامع أحمد بن طولون، وكان الناس يقصدونه للزيارة والتبرك, خصوصًا في موسم عاشوراء، ومشهد السيدة نفيسة، ومشهد السيدة كلثوم، ومشهد ثناء وسنا "الخطط، جـ1 ص435-440" وكانت النساء بصفة خاصة, يخرجن إلى هذه المشاهد لزيارتها والتبرك بها، بل إن العادة جرت على أن يخصص يوم معين في الأسبوع لزيارة كل منها، فكان يوم السبت مخصصًا لزيارة مقام السيدة نفيسة, هو ويوم الثلاثاء, على حين كان يوم الاثنين من كل أسبوع هو يوم زيارة مشهد الحسين, أما الخميس والجمعة فكانا لزيارة الشافعي وغيره من الأولياء والصالحين المدفونين بالقرافة "المدخل، جـ1، ص260- ص270".
وقد جرت العادة بين المصريين في ذلك الزمان، على زيارة القبور في أيام الجمع وفي المواسم والأعياد, ويذكر أحد المعاصرين أنه كان من عادة الناس أن يبنوا الدور في المقابر؛ حيث يقيمون بها فترةً قد تطول إلى شهرين أو ثلاثة " ... بقدر عزة البيت لديهم ... "، وهناك يحيون حياتهم العادية، فيوقدون الشموع والأحطاب لطهو طعامهم، وهناك يقوم الوعاظ على المنابر والكراسي يعظون الناس، بينما يتجمع الرجال والنساء حول الرواة في الليالي المقمرة لسماع مآثر السالفين، كما يقوم القراء بقراءة القرآن الكريم, ويبدو أن قراء ذلك الزمان كانوا يقرأون القرآن بالترجيع والزيادة والنقصان، ورفع الأصوات الخارجة عن حد السمت والوقار والتخطيط والمد ... على ترتيب هنوك الغناء"، على ما يقول ابن الحاج "المدخل، جـ1، ص268".(1/206)
بيد أن القرافة كانت من الأماكن ذات الوظيفة الاجتماعية التي تظهر فيها عادات المصريين وروحهم، حتى وصفها المقريزي بأنها: "معظم مجتمعات أهل مصر وأشهر منتزهاتهم"، وكانت النساء تتوجه إلى زيارة المقابر على الحمير، التي كانت وسيلة المواصلات الرئيسية في ذلك العصر، وقد حرص على زينتهن الكاملة مع الخواتم والأساور الذهبية، فضلًا عن الخضاب في أياديهن, وفي القرافة يختلط الرجال بالنساء ويقضون يومهم في الضحك واللهو والغناء, وكثيرًا ما كان السلاطين يصدرون الأوامر بمنع النساء من الخروج لزيارة المقابر، ولكن أوامرهم، ما تلبث أن تنسى "سعيد عاشور: المجتمع المصري، ص111".
وكان عامة الرجال يخرجون مع نسائهم إلى القرافة، تجنبًا للمتاعب التي قد تثيرها الزوجة إذا رفض زوجها ذلك, أما أصحاب المناصب أو المكانة الاجتماعية، فكانوا يرسلون مع زوجاتهم حبيبًا أو عبدًا أو عجوزًا ... وكان بعض هؤلاء يخرج مع زوجته، ولكنه يمشي بعيدًا عنها "ابن الحاج: المدخل، جـ1، ص270".
كذلك كانت صفحة نهر النيل من الأماكن التي يخرج إليها المصريون للنزهة والترويح عن النفس, وكانت القوارب تمر على مياه النهر وبها المغنون والمغنيات ... "فإحداهن تضرب بالطار وأخرى بالشبابة، ومعهن من يصوت بالمزمار مع رفع أصواتهن بالغناء...." ويتفرج عليهم سكان البيوت المطلة على النيل, كما كانت جزائر نهر النيل محطًّا لتجمعات أفراد المصريين ولهوهم وطربهم, وكثيرًا ما نقرأ في المصادر التاريخية المعاصرة أن بعض السلاطين أصدر أمره بمنع الناس من ركوب النيل, بسبب مظاهر الفساد والانحلال التي كانت تبدو واضحة في مثل هذه الأحوال "المقريزي: الخطط، جـ2، ص142، السيوطي: حسن المحاضرة، جـ2، ص306".(1/207)
وقد ارتبطت بنهر النيل بعض الأعياد التي كانت مناسبات اجتماعية هامة بالنسبة للمصريين على اختلاف طوائفهم, مثل: "عيد كسر الخليج" أو "عيد وفاء النيل"؛ فقد كان وفاء النهر، أي بلوغ مياهه الحد أو المنسوب الكافي لري الأراضي الزراعية، مناسبة سعيدة يترقبها المصريون جميعًا، كما يحسب الحكام حسابها؛ ففي شهر بؤونة من شهور القبط يقاس ما بقي من ماء النيل ليكون أساسًا تحسب عليه الزيادة في موسم الفيضان، ويبدأ النداء على الزيادة، أي: إعلانها على الناس منذ اليوم التالي "القلقشندي: صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، جـ3، ص 292- ص294، الخطط، جـ1، ص58" وفي صباح كل يوم تخرج مجموعة من الفرسان يرفعون الأعلام فوق أكتافهم ويتجهون إلى المقياس لمعرفة مقدار زيادة مياه النيل، ثم يسيرون خلال طرقات القاهرة يصيحون "أن النهر زاد كذا, وقد عرف هؤلاء الناس الذين كانوا يقومون بدور مشابه لدور وسائل الإعلام في عصرنا الحاضر باسم: "مناديو البحر", وكانت مهمتهم نقل أخبار النهر اليومية إلى الناس "ابن إياس: بدائع الزهور، ج5، ص56، Dopp L Egypte au Commencement du quanzieme siecle.
وحين يبلغ النهر حد الوفاء يبدأ احتفال ضخم فيما يمكن أن نسميه مهرجانًا قوميًّا؛ ففي ليلة الوفاء يوقد الناس القناديل والشموع, حتى يتحول ليل القاهرة إلى نهار من كثرة الأضواء, ويحضر أحد كبار رجال الدولة "الاستادار" ومعه الخلع التي توزع في هذه المناسبة, وفي دار المقياس ببيت القراءة يتناوبون قراءة القرآن الكريم طوال الليل، كما يهزج المطربون بأغانيهم طوال تلك الليلة في دار المقياس.
وفي اليوم التالي ينزل السلطان، أو من ينوب عنه، من القلعة في موكب كبير تزينه الأعلام، والصناجق, وغيرها من الزينات، وتدق أمامه الطبول، وتتألق في مقدمته الألعاب النارية, حتى يصل إلى دار المقياس وحوله جموع المصريين في زحام شديد, وهناك يمد سماط حافل بأنواع الطعام(1/208)
والفاكهة والحلوى، وبعد أن يأكل السلطان يباح للحاضرين جميعًا من عامة الناس أن يتخاطفوا الطعام والفاكهة والحلوى, ثم يعطي السلطان إناء به بعض الزعفران المذاب في الماء إلى الموظف المسئول عن المقياس فيلقي بنفسه وهو بكامل ملابسه ومعه الإناء في فسقية المقياس, ويعطر عمود المقياس بالزعفران, وتفرق الخلع على من "لهم عادة بذلك", ثم يبدأ موكب بحري حو ل مركب السلطان المعروفة "بالذهبية"، وحولها مراكب الأمراء المزينة بجميع أنواع الزينات, وقد اختفت صفحة النهر تحت عشرات المراكب والقوارب التي تحمل المتفرجين, ويسير الموكب البحري الكبير حتى يدخل إلى فم الخليج, حتى موقع السد الترابي, حين يكون نائب السلطنة، أو حاجب الحجاب, ومعه بعض كبار رجال الدولة فوق جسم السد، ثم ينزل السلطان من "الذهبية" ويمتطي ظهر جواده حتى السد الترابي، وهناك يمسك بمعولٍ من الذهب الخالص ويضرب ثلاث ضربات، ثم يركب عائدًا إلى القلعة, وفي هذه الأثناء ينهال عدد كبير من العمال بفؤوسهم على السد حتى يجري الماء إلى الخليج "القلقشندي، صبح الأعشى، جـ4، ص47-ص48، ابن شاهين الظاهري: زبدة كشف الممالك، ص87، السيوطي: حسن المحاضرة، جـ2، ص307".والجدير بالذكر أن السلاطين لم يكونوا يحرصون دائمًا على الاشتراك في هذا الاحتفال.
كما أن الفتن والاضرابات السياسية، التي كثرت في أواخر العصر المملوكي كانت تسلب هذا الاحتفال بهجته ورونقه, بل إن الاحتفال لم يكن يقام أحيانًا بسبب حروب الشوارع بين طوائف المماليك, وفي بعض الأحيان كان السلطان يتمنع عن الاشتراك في هذه المناسبة خوفًا على حياته, وعلى الرغم من أن الاحتفال بوفاء النيل كان يتم بالنهار، فإن الاضطراب السياسي في سنة 904هجرية, جعل السلطان محمد بن قايتباي ينزل لفتح السد ليلًا، وأصبح الناس ليجدوا الماء في الخلجان والبرك -وقد ضيَّعَ على الناس فرحتهم بيوم الوفاء- "النويري: نهاية الأرب، جـ1، ص264،(1/209)
ابن إياس: بدائع الزهور، جـ2، ص317، ص345، ص374".
ولم يكن عيد وفاء النيل, واحتفال كسر الخليج, هو المظهر الاجتماعي الوحيد المرتبط بالنهر العظيم، فقد ارتبط "عيد الشهيد" و"عيد النيروز" أيضًا به, وكان عيد الشهيد من أعياد الأقباط، ويقام سنويًّا في شهر بشنس القبطي, ويرجع الاحتفال به إلى اعتقاد الأقباط أن نهر النيل لا يمكن أن يزيد ويبلغ حد الوفاء إلّا إذا غسل به إصبع أحد القديسين, الذي كانت جثته محفوظة في تابوت بكنيسة في شبرا, ويتوافد الأقباط من شتَّى أنحاء مصر، كما يخرج المسلمون من سكان القاهرة والفسطاط للمشاركة في الاحتفال الكبير, وهناك تختفي الأرض، على الساحل وفي الجزر، تحت أعداد هائلة من الخيام, ويجتمع الفرسان بخيولهم الراقصة على إيقاعات الطبول وأنغام الزمور, ويفد إلى هذا الاحتفال الشعبي كل أرباب الغناء واللهو من جميع أنحاء البلاد, وتروج بضاعة البغايا, ويجد طلاب المتعة في هذا العيد ما يريدون, ويستمر الاحتفال يومين وثلاث ليالٍ في بعض الأحيان, وتصحبه كل مظاهر الفوضى والانحلال، وترتكب المعاصي علنًا، وتثور الفتن وأحداث الشغب، كما تقع حوادث القتل, وقد منع الاحتفال بهذا العيد لفترة ستة وثلاثين عامًا، ثم أعيد الأحتفال به لسبب غريب, هو أن السلطان الناصر محمد بن قلاون أراد أن يصرف اثنين من أمرائه عن الخروج للصيد " ... لشدة غرامه بهما وتهتكه في محبتهما..", ولكن الاحتفال بهذا العيد أبطل نهائيًّا بعد سبع عشرة سنة، وهدمت الكنيسة وأحرق التابوت "المقريزي: الخطط، جـ1، ص68، السلوك، جـ1، ص941، ابن تغري بردي: النجوم، جـ8، ص202، السيوطي: حسن المحاضرة، جـ2 ص269".
وفي أول شهر توت, كان الاحتفال بيوم النيروز، وهو عيدٌ موروث عن قدماء المصريين، تكريمًا للنهر لبلوغه حدِّ الوفاء، وفي هذا اليوم تعطَّل أسواق(1/210)
القاهرة، ويأخذ هذا العيد طابعًا قوميًّا، فقد كانت المدارس تغلق أيضًا في هذا اليوم "ابن الحاج: المدخل، جـ2، ص 49-ص50".
ومن مظاهر الاحتفال بهذا اليوم ما كان يحدث في بعض شوارع القاهرة؛ إذ كان بعض العوام يطوفون القاهرة في موكب صاخب حول شخص يركب حمارًا، وقد دهن وجهه بالدقيق أو بالجير، ويضع لحية مستعارة, ويرتدي ثوبًا أحمر أو أصفر، وعلى رأسه طرطور طويل, وحوله الجريد الأخضر وشماريخ البلح, وقد أمسك بيده دفترًا, ويطوف ذلك الموكب الغريب في شوارع المدينة وأزقتها, ويطرق أبواب البيوت، ويدخل الأسواق ويمرُّ على الدكاكين؛ لتحصيل النقود من الناس على شكل الإتاوات, ومن يمتنع عن إعطائهم يتعرض لكلامهم الفاحش, ويصبون عليه الماء, أما من يغلق بابه في وجه هؤلاء، فكان يتعرض لما هو أكثر من ذلك. كذلك كان العامة يقفون في الطرقات يتراجمون بالبيض, ويتضاربون بأنطاع الجلود، ويتراشون بالمياه, فلا يستطيع أحد أن يخرج من بيته, كما كان الأعيان يفعلون الشيء نفسه في منازلهم وبساتينهم, ويبدو أن ذلك اليوم قد اعتبر آنذاك بمثابة راحةٍِ أو عطلة يتحرر الناس فيها من قيود حياتهم, بما في ذلك سطوة القانون، فلم يكن الوالي يحكم لأحد ممن ناله الأذى من جراء الجرائم التي كانت تقع يوم النيروز "ابن الحاج: المدخل، جـ2 ص49- ص53، ابن إياس: نزهة الأمم في الغرائب والحكم، ص223-ص227".
وفي عصر المماليك الجراكسة تواضعت مظاهر الاحتفال بهذا العيد إلى حدٍّ كبير، بسبب ما توالى على البلاد من أزمات اقتصادية, منذ منتصف القرن الثاني الهجري -14م, وقد ارتبطت بعيد النيروز عادات غذائية معينة حتى صارت من لوازم ذلك اليوم، وربما ثارت المشاكل في البيوت بين الأزواج بسببها, ومن هذه الأطعمة الزلابية والهريسة, والفواكه؛ مثل: البطيخ والخوخ والبلح, وكان الناس يتهادون بهذه الأطعمة في ذلك اليوم. وكان(1/211)
بعض الناس يأتي بصانع الحلوى ليبيت عنده, ويجهز هذه الحلوى قبل الصباح "ابن الحاج: المدخل، جـ2، ص49.
ولم تكن هذه هي كل مظاهر ارتباط نهر النيل بالحياة المصرية بطبيعة الحال, ذلك أن النيل كان -ولا يزال- قوام الحياة المصرية بشتَّى وجوهها, وكانت أعمال ضبط النهر من جسور وخلجان وترع، تؤثر على شكل الحياة اليومية في عصر سلاطين المماليك، فكثيرًا ما كان يتقرر بناء جسر على النيل, أو شق خليج وقناة، وعندها يتقرر على أفرد الرعية أن يدفعوا تكالف المشروع، ومايختلسه رجال الحكومة لأنفسهم, وتفرض "المغارم" -وهي نوع من الضرائب الطارئة, التي كانت تفرض على الناس في ذلك العصر بين الحين والآخر- على الحوانيت والدور والبساتين وحجارة الطواحين وصهاريج الماء بالترب والمدارس, وكان من يفرض عليه درهمان يضطر إلى دفع عشرة دراهم؛ لأنه كان يدفع ما عليه عدة مرات, ثم يدفع بعد ذلك للشهود "المقريزي: السلوك جـ2، ص761-ص766، العيني: عقد الجمان، مخطوط، حوادث سنة 749 هجرية".
أما العمال والفعلة الذين كانت تقع على عاتقهم مهمة إنجاز هذه المشروعات، فغالبًا ما كانوا يجمعون قصرًا من القرى والشوارع والأسواق؛ لتسخيرهم في هذه الأعمال, وكانوا عرضةً لكل ضروب الظلم والامتهان, وما إلى ذلك من أشكال التسخير والإجاعة والإرهاق, وفي بعض الأحيان كان جنود الحكومة يأخوذن الناس من الجوامع وقت السحر، ويأخوذنهم إلى موقع العمل مقيدين بالحبال، كما كانوا يهاجمون رواد الأسواق ويربطونهم بالحبال, ثم يسوقنهم إلى مكان العمل "قاسم عبده قاسم: النيل والمجتمع المصري، ص34-ص37" وكان عمال السخرة هؤلاء يعملون لقاء قوتهم اليوميّ, وفي بعض الأحيان, كان العاملون في هذه المشروعات يتقاضون أجرًا, وهكذا تقلبت أحوال العمال والفعلة في هذه المشروعات آنذاك, بين تسخيرهم مقابل قوتهم اليوميّ، أو الأجر الذي قد يكون نصفه عينيًّا في(1/212)
بعض الأحيان, ونصفه الآخر نقديًّا, بل إن بعض المشروعات كان يعمل بها من العمال المأجورين عدد إلى جانب عمال السخرة، وربماكان العمال الفنيون, أو أصحاب المهارات؛ مثل: البنائين أو النجارين, هم الذين يتلقون أجرًا عن أعمالهم، على حين يسخر الفعلة في أعمال الحفر وحمل التراب والردم, وغير ذلك من الأعمال البدنية الشاقة.
وفي مواقع العمل, كانت الحركة الدائبة ترسم صورة مهرجان شامل، فيفد الباعة بما يحملون من مأكولات ساخنة، ومشروبات لكي يبيعوها، وربما تحضر فرق الموسيقى الشعبية والمطربون, لا سيما إذا كان العمل يتم تحت إشراف أحد السلاطين, وعندها تجتمع جماهير الرجال والنساء للفرجة "ابن عبد الظاهر: تشريف الأيام والعصور بسيرة الملك المنصور، ص24-ص26".
إلا أن الاهتمام بصيانة مرافق الريّ في أواخر ذلك العصر قَلَّ تمامًا، وكثرت حوادث انقطاع الجسور وتهدم القناطر وجفاف الأرض الزراعية، وهو ما يمكن تفسيره في ضوء حالة الاضطراب والفوضى التي سادت أوجه الحياة المصرية جميعًا في الدور الأخير من ذلك العصر.
وقد ارتبطت بالشارع المصري في عصر المماليك أيضًا، تلك الاحتفالات الدينية لكلٍّ من المسلمين والمسيحيين واليهود, والجدير بالذكر أن هذه الأعياد الدينية التي احتفل بها المصريون من ناحية، كما أنها تعكس مدى حالة الرخاء الذي نعموا به في بداية ذلك العصر، ثم تدهور الأحوال في أواخره من ناحية أخرى.
ففي أول شهر المحرم من كل سنة، كان المصريون يحتلفون بعيد رأس السنة الهجرية، ويبدو أن الاحتفال بهذه المناسبة كان يتقصر على تبادل التهاني وتوزيع العطايا على الفقراء, ومن العادات التي ارتبطت بهذه المناسبة(1/213)
أن النساء كن يشترين اللبن حتى تكون السنة بيضاء لا شر فيها، على ما كان شائعًا، "المدخل، جـ1، ص277-ص278". وفي عاشر محرم يحتفل المصريون بيوم عاشوراء, وقد جرت عادتهم على ذبح الدجاج وطبخ حبوب القمح، التي ما يزال المصريون يصنعونها حتى اليوم باسم عاشور، ويتهادون بها, كذلك جرت العادة في يوم عاشوراء على أن يتبخر الناس بالبخور الذي يخزنونه لهذه المناسبة طوال السنة؛ إذ كانوا يعتقدون أن السجين إذا بُخِّرَ بهذا البخور خرج من سجنه، وأن هذا البخور يبرئ من العين والحسد, وفي هذا اليوم تكثر زيارة مشهد زين العابدين، كما يخصص مسجد عمرو بن العاص بالفسطاط للنساء، فيمكثن به طوال اليوم, ويتمسحن فيه المصاحف وبالمنبر وبالجدران, وتحت اللوح الأخضر" "المقريزي: الخطط، جـ1، ص435، ابن الحاج: المدخل، جـ1، ص290".
أما ليلة أول شهر رجب، فكانت من مواسم المصريين الهامة, فكان الاحتفال به يعم جميع طوائف المصريين على اختلاف أحوالهم الاقتصادية، فيشترون لأطفالهم التماثيل السكرية المصنوعة على هيئة الحيوانات؛ مثل: الخيول والقطط والسباع, وتمتلئ أسواق القاهرة والفسطاط والأرياف بهذه التماثيل المصنوعة من الحلوى, وكان لا بد من إهداء هذه الحلوى إلى أقارب الزوجة لا سيما إذا كانت المصاهرة حديثة, أو إذا لم يكن الرجل قد دخل بامرأته, وفي المساء يجتمع الرجال والنساء حول المنشدين والقراء للاحتفال بهذه المناسبة, وفي ليلة المعراج يجتمع الناس في المسجد الأعظم؛ رجالًا ونساءً، ويزيدون وقود القناديل، ويفرشون البسط والسجادات داخل المسجد, وعليها الكيزان والأباريق بالمشروبات، ويستمعون إلى مشاهير قراء عصرهم, وهم يرتِّلون آيات القرآن الكريم, كذلك كانت ليلة نصف شعبان من مناسبات شراء الحلوى للأطفال، وفيها كانت تسطع المساجد بالأضواء, ويتحول ليل المدينة إلى نهار؛ لأن الناس كانوا يربطون الحبال بالشرفات(1/214)
والأعمدة, ويعلقون بها عددًا كبيرًا من القناديل المضاءة, وتمتلئ المساجد بالرجال والنساء والأطفال احتفالًا بالمناسبة.
أما المولد النبوي, فقد كان الاحتفال به يتخذ شكلًا من الفخامة والعظمة, يتناسب مع ما عرف عن ذلك العصر -في بدايته- من مظاهر الرفاهية والثراء التي استأثرت بها الطبقة الحاكمة, فقد كان سلاطين المماليك يشاركون عامة الناس الاحتفال بهذه المناسبة, وكان الاحتفال يبدأ من مطلع شهر ربيع الأول حتى الليلة الكبيرة في ثاني عشرة, ومنذ عهد السلطان قايتباي, جرت عادة السلاطين على أن يقيموا خيمة كبيرة عجيبة الأوصاف, هي "خيمة المولد"، وعند أبوابها حوض جلدي قد مُلِئَ بعصير الليمون، وقد وقفت طائفة من صغار الخدم يناولون الناس أكواب العصير, وكان الاحتفال يبدأ ظهرًا ويستمر حتى ساعة متأخرة، ويأخذ المقرئون في تلاوة القرآن، ويتلوهم الوعاظ, ويأخذ كل منهم نصيبه من النقود والملابس من السلطان وأمرائه. وبعد صلاة المغرب تحط أسمطة الحلوى على اختلاف ألوانها, فيتخطفها الفقهاء, ويعقب ذلك المنشدون بأهازيجهم في مدح الرسول -عليه الصلاة والسلام- حتى ثلث الليل "سعيد عاشور: المجتمع المصري، ص177-ص180".
هذا هو الاحتفال الرسمي، ولكن الناس كانوا يحتفلون بالمولد النبوي على طريقتهم، فكان من الشائع أن يقيم الناس حفلاتهم بهذه المناسبة في بيوتهم, ويبدأ الاحتفال بالقرآن الكريم الذي يتلوه مشاهير القراء المعروفين بالتطريب وحسن الصوت, ثم يعقب ذلك الإنشاد بمصاحبة الآلات الموسيقية, ويعقب ذلك حلقات الذكر، -فيقوم الواحد منهم يرقص ويعيط وينادي ويبكي ويتباكى ويتخشع، وربما مزق ثيابه وعبث بلحيته- على حين تطل النساء من أسطح البيوت المجاورة على الاحتفال المقام أمام المنزل, وفي داخل البيوت تقام حفلات نسائية للذكر بهذه المناسبة، ثم تلتف السيدات حول إحدى محترفات الوعظ لسماع حديثها الديني, على أن بعض الناس(1/215)
كان يتحرج من أن يكون احتفاله بالمولد النبوي بالغناء، فيحضر قرَّاء القرآن، ويقيم حلقات الذكر, ومن الطريف أن بعض الناس كانوا يحتفلون بالمولد النبوي لاسترداد النقوط والهدايا التي كان قد أهداها للآخرين في المواسم والأفراح "ابن الحاج: المدخل، جـ2، ص2 ص25".
واتخذ موسم الحج مظهرًا اجتماعيًّا جعل منه مناسبة اجتماعية هامة في حياة المصري آنذاك؛ فقد كان الاستعداد للحج أمرًا يهتم به الجميع, سواءً كانوا على كرسي الحكم، أم كانوا من عامة الناس, وفي هذا الموسم كانت تسري الحركة والنشاط في أوصال المجتمع المصري، فتزدهر الأسواق المخصصة لبيع لوازم الحجاج، ويستعد أهل الدولة والمماليك للسفر في ركب الحجاج، على حين ينتظر العامة ذلك الاحتفال بشوق وشغف.
وكانت الكسوة الشريفة توضع على جمل مزين يطوف القاهرة والفسطاط, فيما اصطلح على تسميته آنذاك "بدوران المحمل", وكان السلطان الظاهر بيبرس هو أول من أدار المحمل بمصر سنة 657 هجرية-1259م". "المقريزي: الذهب المسبوك بذكر من حج من الخلفاء والملوك، ص11، السيوطي: حسن المحاضرة، جـ2، ص87". والجدير بالذكر أن سلاطين المماليك كانوا يولون كسوة الكعبة اهتمامًا بالغًا، وكان هناك موظف خاص للإشراف على تجهيزها, هو: "ناظر الكسوة", الذي كان ينفق على إعدادها من الأوقاف المخصصة لهذا الغرض, أما كسوة الحجرة النبوية فلم تكن تجهز سنويًّا مثل كسوة الكعبة، وإنما كانت تجدد كلما بليت، كل حوالي سبع سنوات, وكانت تصنع من الحرير المرقوم بالحرير الأبيض, وكان من الممكن أن يقوم بإعدادها أحد كبار الأمراء، أو إحدى أميرات البيت الحاكم "القلقشندي: صبح الأعشى، جـ4، ص30، ص857، ص389، المقريزي: السلوك، جـ3، ص497، ص725-ص726، الذهب(1/216)
المسبوك، ص43، السيوطي: حسن المحاضرة، جـ2، ص88، السخاوي: التبر المسبوك، ص201".
ومن ناحية أخرى, كان المصريون على اختلاف مشاربهم، يحرصون على المشاركة في احتفال دوران المحمل الذي كان يدور مرتين سنويًّا في شوارع القاهرة والفسطاط: المرة الأولى في شهر رجب، والثانية في شهر شوال, وفي رجب يُنَادَى بدوران المحمل ثلاثة أيام, ثم يدور في اليوم الرابع, وفي أثناء الأيام الثلاثة يقوم الناس بالاستعداد ليوم الدوران، ويقوم أصحاب الحوانيت التي سيمر بها المحمل بتزيين حوانيتهم, وهناك يبيت النسوة والرجال والأطفال حتى يتمكنوا من مشاهدة موكب المحمل في صباح اليوم التالي, وتكون الحوانيت قد تجهزت بالحرير وألوان الزينة, وقد جرت العادة على أن يكون دوران المحمل في يوم الاثنين أو الخميس من الأسبوع, وعلى طول الطريق تحتشد جموع الناس لمشاهدة موكب المحمل, وهو يشق طريقه من باب النصر، وقد سار جمل المحمل يتهادى وعليه أثواب الحرير الملون، وفوقه المحمل قد غُطِّيَ بالأقمشة الحريرية, تعلوه قبة فضية, وأمام هذا الموكب تركض كوكبة من فرسان المماليك الرماحة -أي المتسلحين بالرماح- بملابس الميدان الزاهية، على حين تخطف معداتهم وأسلحتهم أبصار المتفرجين ببريقها, وتعلو صيحات الإعجاب من جماهير العامة المحتشدين على جانبي طريق الموكب, وهم يرون المماليك الرماحة يستعرضون مهاراتهم في فن القتال بالرماح، وبينهم مجموعة من صغار المماليك يؤدون بعض الألعاب البهلوانية بالرماح, وهم وقوف على ظهور خيولهم, وتختلط أصوات الجماهير الصاخبة بدقات الطبول وأصوات الكوسات النحاسية, ويمضي الموكب الصاخب إلى ميدان الرماحة تحت القلعة؛ حيث يطل عليه السلطان، تشتد جلبة الاحتفال والاستعراض, ثم تتجه الجموع إلى الفسطاط؛ حيث يخترق الموكب شوارع المدينة الرئيسية, ثم يعود ثانية إلى ميدان الرميلة تحت القلعة, وفي شهر شوال يتكرر هذا الموكب(1/217)
الصاخب, ولكن الموكب لا يخرج إلى الفسطاط, بل يخرج إلى الريدانية مباشرةً في طريقه إلى بلاد الحجاز "القلقشنيد: صبح الأعشى، جـ4، ص57-ص 58، ابن ظهيرة: الفضائل الباهرة في محاسن مصر والقاهرة، ص199-ص200، ابن الحاج: المدخل، جـ1، ص272، ص275".
وعلى الرغم من مظاهر التدهور التي لحقت بشتَّى نواحي الحياة المصرية في عصر الجراكسة، فإن احتفال دوران المحمل ظلَّ يلقى اهتمام المصريين جميعًا حتى السنوات الأخيرة من هذا العصر, إلّا أن مظاهر هذا الاحتفال كانت تتأثر بطبيعة الحال، بالظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تتعرض لها البلاد, وقلَّ الاهتمام بأمر المحمل، ولم يعد المسئولون يلتزمون بمواعيده التقليدية, كما كانت الأوبئة والمجاعات التي تحصد بمنجلها الفتاك أعدادًا كبيرة من سكان البلاد -ومن بينهم المماليك- تؤثر على شكل الاحتفال, فيقل عدد الرماحة, كما يقل إقبال الناس على مشاهدة الاحتفال بسبب حزنهم على موتاهم, ومن ناحية أخرى، انعكست حالة التدهور الأمني على احتفال دوران المحمل؛ فقد ابتكر المماليك بدعة هي "عفاريت المحمل" الذين كانوا مجموعة من أراذل المماليك يركبون خيولهم، وقد غيروا من هيئتهم بشكل مزعج، ويطرقون أبواب الناس ويجبون منهم الأموال قسرًا، كما كانوا يعترضون سبيل الناس في الأسواق والطرقات, وينزلون بهم شتَّى صنوف المهانة, ويبدو أنهم أثاروا الرعب والهلع في نفوس الناس بدرجةٍ جعلت كل من يقابلهم يسارع إلى الاختباء خوفًا من أذاهم، ولما ضج الناس بالشكوى, وطالبوا بإلغاء هذا الاحتفال, أمر السلطان بإبطال عفاريت المحمل سنة 862هـ, ولكن المماليك كثيرًا ما كانوا ينتهزون فرصة ازدحام الناس في الاحتفال فيخطفون النساء والأطفال وينهبون الأمتعة، ويثيرون الرعب والفوضى "المقريزي: السلوك، جـ4، ص1006، ابن تغري بردي: النجوم، جـ14، ص345، جـ16،(1/218)
ص123، ابن إياس: بدائع الزهور، جـ4، ص342، ص480".
أما العيدان، أي: عيد الفطر وعيد الأضحى، فقد كان الاحتفال بهما يتم في البيوت وفي الشوارع في آنٍ واحد, ويبدأ الاستعداد لموسم عيد الفطر مع بداية شهر رمضان؛ فتزدهر أسواق القاهرة والأقاليم، وتمتلئ بأنواع الحلوى والتماثيل السكرية, وأصناف الحبوب التي جرت العادة على أكلها في هذا الموسم, وتتلألأ الشوارع ومآذن المساجد بالقناديل التي تظل مضاءة طوال الليل، على حين يجوب الأطفال بفوانيسهم المضاءة دروب البلد وأزقته, ويخرجون في موكبٍ جميل إلى صلاة التراويح، وهم يهزجون بالأغاني حول الشموع الضخمة التي يجرونها على عجلات, ويطوف المسحراتي بطبلته مرددًا الأغنيات الدينية على البيوت، أو يدق على أبواب البيوت وينادي على أصحابها، على حين يشهر الأتقياء منهم في الاستماع إلى القرآن الكريم والأذكار, ومع طلوع النهار يؤدون صلاة العيد، ثم تتبادل البيوت التهنئة بالعيد, وأطباق الكعك التي يتم تجهيزها خلال الأيام الأخيرة من شهر رمضان, ويبدو أن البعض كان يفضل شراء الكعك جاهزًا؛ إذ أن ابن الحاج يعيب على معاصريه أنهم يشترون الكعك الذي يصنعه اليهود بمناسبة عبد الفطر, وتكون الوجبة الأولى لغالبية الناس بعد الصيام من السمك المملح المشقوق, ويشتري الناس التماثيل السكرية لأطفالهم, ولكي يهدوها إلى أصهارهم بهذه المناسبة "المقريزي: الخطط، جـ2، ص98- ص99، ابن الحاج: المدخل، جـ1، ص287-ص290، سعيد عاشور: المجتمع المصري، ص184-ص186".
وفي يوم العيد يخرج الناس لزيارة المقابر، ويجتمعون في القرافة حيث يلهون ويمرحون، ويتوجه بعض الناس إلى النيل والبرك والمتنزهات العامة، فيؤجرون القوارب, ويتنزهون على صفحة المياه وهم يغنون ويطربون ومعهم نساؤهم وأطفالهم.(1/219)
وفي عيد الأضحى، كان البعض يجهزون الأضاحي منذ ليلة العيد، على حين اعتاد البعض ألّا يذبحوا الضحية، على الرغم من قدرتهم، ويشترون اللحم الذي يطبخون منه عدة أصناف من الطعام، وجرت العادة على أن يهدي الناس إلى جيرانهم أطباق اللحم, وكان بعض الناس يسهرون ليلة العيد بطولها في تجهيز ثيابهم الجديدة. وفي الصباح وبعد الصلاة يخرج الناس أيضًا لزيارة القبور, وكانت النساء يتزين ويتجملن بغاية الزينة، وتسير بهن الدواب وهن يغنين وينقرن على الدفوف "ابن الحاج: المدخل، جـ1، ص283-ص290".
أما أعياد اليهود والمسيحيين: فكان الاحتفال ببعضها قاصرًا على أبناء الطائفة وحدهم، وشاركهم المسلمون في الاحتفال ببعضها؛ ففي عيد الزيتونة -الذي يحتفل به المسيحيون في ذكرى دخول المسيح -عليه السلام- القدس, ثم دخول الهيكل والناس بين يديه يسبحون وهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر- كان الناس عمومًا يخرجون للنزهة، وكان المسيحيون يخرجون من الكنائس وهم يحملون سعف النخيل, ويذهبون إلى الأماكن الخلوية والمتنزهات، خصوصًا ضاحية المطرية القريبة من القاهرة؛ حيث بئر البلسم التي يعتقد المسيحيون أن مريم العذراء غسلت فيه ثياب المسيح. وفي عيد الميلاد كان النصارى يوقدون المشاعل والمصابيح في الكنائس. ويقول المقريزي "الخطط، جـ1، ص363-ص265": إنه شاهد احتفالات عيد الميلاد بالقاهرة ومصر, وكان موسمًا جليلًا, وفيه كانت الشموع المزينة المصبوغة بالألوان الرائعة تباع في الأسواق والحوانيت ويشتريها المصريون؛ مسلمون ومسيحيون، وقد عرفت هذه الشموع التي بالغ الصناع في تزيينها باسم: "الفوانيس".
وفي "خميس العهد" -الذي عرفه أهل ذلك الزمان باسم خميس العدس- كان المسيحيون يطبخون العدس المصفى, والسمك, والبيض الملون، وكان هذا العيد من الاحتفالات الكبيرة(1/220)
التي يشارك فيها المسلمون "ابن الحاج: المدخل، جـ2، ص56، ص58".
أما "سبت النور": فكان المصريون كلهم يحتفلون به أيضًا، وفي أمسية هذا العيد يجمع المسيحيون أوراق شجر الريحان وغيره, ويبيتونه في إناءٍ به ماء, ثم يغتسلون به في اليوم التالي؛ لأن هذا في ظنهم يقيهم شر المرض والكسل والعين والسحر وما إلى ذلك, كما جرت عادة المصريين على أن يتكحَّلُوا في هذا اليوم بالكحل الأسود, اعتقادًا منهم أنه يزيد من قوة الإبصار, كما شاع الاعتقاد بأن شرب الدواء في هذا اليوم أكثر فائدة منه في أي يوم آخر, وكان الذين يعانون من مرضٍ جلديٍّ يذهبون إلى شاطئ النهر خارج القاهرة؛ حيث تتعرى النسوة والرجال تمامًا, ويدهن الجميع أجسادهم بالكبريت, ويعروضنها للشمس معظم ساعات النهار، وعند الغروب يستحم الجميع في مياه النيل "ابن الحاج: المدخل، جـ2، ص57".
أما أعياد اليهود في ذلك العصر, فقد اختلفت طريقة الاحتفال بها عند كلٍّ من طوائف اليهود الثلاث آنذاك، وهي طوائف: الربانين، والقرائين، والسامرة "قاسم عبده قاسم: أهل الذمة في مصر العصور الوسطى، دار المعارف 1977، ص109 ومابعدها". وأغلب الظن أن الاحتفال بهذه الأعياد اليهودية كان يتم داخل معابدهم، وفي إطار الجماعة نفسها، وهو ما يبدو متسقًا مع عادة اليهود في حياة العزلة عن المجتمع الذي يعيشون فيه.
والجدير بالذكر أن أهل الذمة المصريين، يهودًا ونصارى، قد عاشوا كجزءٍ يرتبط ارتباطًا عضويًّا بالكل المصري, وقد شهد الشارع المصري في عصر سلاطين المماليك مظاهر هذا الارتباط التي اختلفت عند المسيحيين عنها عند اليهود؛ ففي بعض المناسبات ذات الطابع السياسي, كان أهل الذمة المصريون يشاركون المصريين المسلمين التعبير عن رأيهم في تلك الأحداث.(1/221)
وسواء كان خروج اليهود والنصارى للمشاركة في الأحداث السياسية راجعًا إلى مبادراتٍ ذاتيةٍ نابعة منهم, أو كان تلبيةً لأوامر الوالي أو المحتسب, بخروجهم بالشموع, وبكبتهم المقدسة لاستقبال أحد السلاطين -على نحو ما يحدث الآن في تنظيم المظاهرات السياسية لإظهار التأييد للحاكم الذي قد يكون مستبدًّا- فإن أهل الذمة كانوا يشاركون المصريين المسلمين هذا الموقف.
وأغلب الظن أن الأقباط قد انفردوا بالمشاركة في النشاط الزراعي، إلى جانب عملهم في الإدارة، كما أنهم عملوا بالتجارة والصناعات الصغيرة, وبعض المهن الأخرى, ويبدو أن اليهود كانوا يعملون في مختلف الأعمال والمهن, ولا سيما النشاط المصرفي والأعمال المالية, وعلى أية حال، فالواضح أن اليهود قد عملوا في كل الحرف والصناعات المعروفة في ذلك العصر تقريبًا.
ومن ناحية أخرى، فإن المصادر المتوافرة لدينا, تشير إلى أن أهل الذمة قد مارسوا حرياتهم الاجتماعية داخل إطار الحياة العامة للمجتمع المصري ككل, وكل هذه الحريات كانت تخضع من آنٍ لآخر لبعض القيود التي كان السلاطين يفرضونها على اليهود والنصارى لأسباب اقتصادية في أكثر الأحوال "قاسم عبده قاسم: أهل الذمة، ص63-ص102" إلّا أن هذا لم يمنع أهل الذمة، يهودًا ومسيحيين، من أداء دورهم في المجتمع, والمشاركة الإيجابية في الحياة العامة, يتأثرون بأحداثها ومجريات الأمور بها، ويؤثرون فيها بقدر ما تسمح ظروف تعدادهم ووضعيتهم الاجتماعية.
على أن الشارع المصري في عصر السلاطين، شهد أحداثًا دامية وحزينة كثيرة في ذلك العصر، وفي الطور الأخير منه على نحوٍ خاصٍّ؛ فقد تضافرت الكوارث الطبيعية؛ مثل: الأوبئة والطواعين, مع المماليك العابثين, واللصوص والعربان المشاغبين, في طحن عامة الشعب المصري في تلك(1/222)
الفترة؛ فقد عاشت في مصر آنذاك طائفة كبيرة من العامة الذين لا يكادون يحصلون قوتهم اليوميّ، أو يجدون ما يستر أجسادهم, فضلًا عن جماهير الفلاحين الذين كانت حياتهم في عصر سلاطين المماليك تجسيدًا لمأساة الإنسان, حين تتضافر عليه كوارث الطبيعة وظلم الحكام. والجدير بالذكر أن الحياة بالنسبة للعامة في أواخر عصر المماليك، صارت حياةً مستحيلةً وكريهةً بسبب عوامل الإحباط المتكررة في ذلك العصر.
والواقع أن عامة المصريين لم يفيدوا كثيرًا من الدور الذي لعبته بلادهم في التجارة العالمية في عصر سلاطين المماليك، فقد ارتبطت حياتهم، إلى حدٍّ كبيرٍ، بالأرض الزراعية وما تغله من نتاج, ومن المعلوم أن الزراعة في مصر كانت، ولا تزال، تعتمد عل مياه نهر النيل, وحين كان ماء النهر يقل عن الحدِّ اللازم للزراعة، كان الناس يقلقون, وتنتابهم المخاوف من حدوث المجاعة, نتيجةً لعدم زراعة محاصيل جديدة، ومن ثَمَّ يسارع أصحاب القدرة إلى تخزين ما لديهم من الغلال ضمانًا لقوتهم وقوت عيالهم أثناء الأزمة المتوقعة، كما يسارع التجار وأمراء المماليك -الذين كانوا يستولون على معظم نتاج الأرض- إلى تخزين غلالهم طمعًا في الحصول على أرباح أكثر عن طريق رفع الأسعار, ونتيجةً لهذا, يشتد الإقبال على شراء الغلال، على حين يقل المطروح من البضائع في الأسواق, ويشتد التزاحم على الأفران، وحوانيت بيع الغلال, ويتبع ذلك بالضرورة تصعيد خطير في الأسعار، ويظهر إلى الوجود ما نعرفه اليوم باسم: "السوق السوداء" على حَدِّ تعبيرنا المعاصر. وتمتد حمَّى الأسعار إلى كل " ... ما يباع ويشترى؛ من مأكول ومشروب وملبوس ... " ويؤدي ذلك بدوره إلى ارتفاع العمال أو "أرباب المهن والصنائع" على حد تعبير مؤرخي ذلك العصر, وكان هبوط مياه النيل وتعطل الزراعة كارثة عامة تقضّ مضاجع الناس؛ فتضطرب أحوالهم, ويعظم خوفهم, ويشتد بكاؤهم ونحيبهم في الأسواق "المقريزي: إغاثة الأمة، بكشف الغمة، ص41-ص43".(1/223)
وبطبيعة الحال كان عدد الفقراء يتزايد في أعقاب مثل هذه المجاعات؛ إذ يضطر الناس لبيع ما يملكون لشراء ما يقتاتون به طوال فترة الأزمة، ومن ثَمَّ يدخلون في عداد المعدمين, بينما تزدحم العاصمة بالوافدين من القرى طلبًا للطعام الذي كان السلطان والأمراء يقومون بتوزيعه أحيانًا في القاهرة خلال هذه الأزمات, وتموت أعداد كبيرة من الناس جوعًا في أثناء تلك المجاعات. وقد عاصر بيلوتي الكريتي الذي زار مصر في مطلع القرن الخامس عشر إحدى هذه المجاعات، وقد مات فيها، حسب روايته، عدد لا يحصى؛ لأنهم لم يجدوا ما يأكلونه Dopp LE gypte au Commence ment du quanzieme siecle p 20"
وتبدو مظاهر الاضطراب جليّة واضحة خلال هذه المجاعات؛ إذ يقل الخبز في الأسواق, ثم يختفي نهائيًّا, ثم يصل الأمر بالناس إلى أكل القطط والكلاب والحمير والبغال، بل إن ابن إياس يذكر أنه في خلال إحدى المجاعات، وصل ثمن الكلب السمين خمسة دراهم, والقط ثلاثة دراهم. كما يذكر مؤرخ آخر هو ابن أيبك الدوادار أنه شاهد بنفسه، أثناء إحدى المجاعات مجموعة من الناس قد حولهم الجوع إلى مخلوقات "شبه الوحوش الضارية" يتصارعون على المتبات التي يرميها القادرون على أكوام القمامة, بل إن بعض المصادر التاريخية تذكر أن الناس كانوا يأكلون الأطفال "ابن أيبك: كنز الدرر، وجامع الغرر، مخطوط، جـ8، ورقة 383، المقريزي: السلوك، جـ1، ص814، النويري: نهاية الأرب، مخطوط، جـ29، ورقة 82".
وفي كثير من الأحيان تكون المجاعة سببًا في انتشار الأوبئة, وربما تأتي نتيجة لها، وقد تواكب كل منهما الأخرى؛ فحين تشتد وطأة المجاعة يلقى الألوف من عامة المصريين حتفهم جوعًا، وتنتشر في كل مكان جثثهم, لتنشر الوباء الذي يقضي على الكثيرين، وتمتلئ الحقول والطرقات ومجاري المياه بعشرات المئات من الجثث التي تنهشها الكلاب التي كانت تُقْتَل بدورها(1/224)
ليكي يأكلها الأحياء من الناس, ولا يجد الموتى من يدفنهم، على الرغم من انقطاع عدد كبير من الناس لتغسيل الموتى ودفنهم, ويتزايد عدد الموتى, ويضطر الناس إلى حمل من يستطيعون حمله إلى السلالم وألواح الخشب والأبواب وغيرها، لكي يدفنوهم جملةً في حفرةٍ واحدة. ويقول ابن تغري بردي: إنه في أثناء الوباء الرهيب الذي اجتاح مصر لعامين متتاليين في سنة 749هـ-1348م, كان الموت يطالع الناس في كل الطرقات " ... فلا تجد بيتًا إلّا وفيه صيحة, ولا تمر بشارع إلّا وفيه عدة أموات ... " "النجوم، جـ10، ص205-ص209".
وينبغي أن نشير إلى أن سلسلة الطواعين والأوبئة والمجاعات التي ألَمَّت بمصر في ذلك الزمان, كانت كثيرة ومتتالية, وزاد معدلها منذ القرن التاسع الهجري-الرابع عشر الميلادي. بل إن بعض هذه المجاعات كانت تستمر مدة طويلة, تنهش البلاد بمخالبها. وقد عاصر المؤرخ تقي الدين المقريزي إحدى هذه المجاعات، وهي المجاعة التي عانت منها البلاد بصورة منقطعة, ما بين عامي 797، 808هـ, 1393-1405م, وقد هاله ما شاهده أثناء تلك المجاعة، ولمس بنفسه أسبابها الحقيقية، وأدرك حقيقة هامة مؤداها أنه إذا تأخر فيضان النيل بمصر " ... يمتد الغلاء سنين ... " ذلك أن الناس تضطر إلى أكل المخزون من الغلال القديمة، والتي تستخدم بعضها في زراعة المحاصيل الجديدة في حالة وفاء النيل، ويأتي عام آخر ليجد أن التقاوي قد استهلكت، فترتفع أسعار كل شيء، وبالتالي ترتفع أجور العمال وأرباب المهن والصنائع, ثم يتزايد معدل التدهور, ويبدأ صرعى الجوع يتساقطون في الطرقات والحقول، وتنخفض أعداد السكان بشكل رهيب "المقريزي: إغاثة الأمة، ص41-ص43". وقد أحصينا ما يزيد على ثلاث وستين مجاعة في عصر سلاطين المماليك, مما يؤكد ملامح الصورة القاتمة لحياة جماهير المصريين في ذلك العصر الملئ بمظاهر الفخامة والثراء, التي استأثرت بها طبقة الحكام من المماليك وحواشيهم "قاسم عبده قاسم:(1/225)
النيل والمجتمع المصري، ص53-ص77".
والواقع أن الناس لم يكونوا يملكون إزاء هذه الكوارث الطبيعية سوى أن يستسلموا انتظارًا لارتفاع الأزمة عنهم تلقائيًّا, ولم تكن الإجراءات الوقائية التي يعرفها العصر الحديث، كالعزل والحجر الصحي وإغلاق المناطق الموبوءة، معروفة في ذلك العصر, فلا غرو إن كانت أساليب الحكام لمعالجة الأمور، تتفق وروح ذلك العصر, بما فيها من قدرية وارتجالية, وهي أساليب لم تكن تختلف كثيرًا عن أساليب حكام أوربا في العصور الوسطى أثناء الأزمات المشاهبة, وفي غالب الأحوال, كان الناس يفسرون هذه المحن في ضوء الأفكار الغيبية والمفاهيم الأخلاقية البحتة؛ فيرجعون أسبابها إلى غضب الله من فساد الأخلاق, وانتشار مظاهر الفجور وسيادة الظلم, ويلجأ الناس إلى الدين يعتصمون بردائه، ويكثر تعبدهم وتواجدهم بالمساجد, وتقوم الحملات برئاسة الوالي أو المحتسب لمهاجمة أوكار الفساد وأماكن النزهة ومستودعات الخمور ومخازن الحشيش, وبمجرد أن تنقضي الأزمة تعود الأمور إلى سيرتها الأولى. ومن ناحيةٍ أخرى، قد يقوم السلطان والأمراء بتوزيع الطعام والصدقات على الجياع حتى تنقضي الأزمة، ولا يكون ذلك عن التزام من الدولة بتوفير الرعاية للناس، فإن ذلك كان أبعد ما يكون عن مفاهيم الحكم آنذاك، وإنما هي وسيلة للتقرب إلى الله, والظهور بمظهر التقوى الذي يحرص المماليك عليه.
وحين كانت ميا الفيضان تقصر على حدِّ الوفاء، كان المحتسب وأعوانه يخرجون بأمر من السلطان، وينادون بأن السلطان قد قرر إقامة صلاة الاستسقاء, ويحددون موعدها ومكانها، وقد يدعون الناس إلى الصيام تقربًا إلى الله, حتى يأذن بزيادة النيل, ويخرج الناس في مواكب حاشدة, والأمراء, والفقهاء, ومشايخ الصوفية، ويشترك اليهود والنصارى في هذه المواكب بكتبهم المقدسة، وربما خرج السلطان بنفسه في هذه المواكب ...(1/226)
وفي الصحراء بجوار القاهرة، تبدأ صلاة الاستسقاء, وترتفع الأصوات بالدعاء والاستغاثة والتضرع، ويستمر هذا المشهد المؤثر عدة ساعات بين الضجيج والكباء, وفي بعض الأحيان, كان السلطان يشترك في الصلاة وهو يرتدي ملابس بسيطة خالية من الزخارف الذهبية والفضية التي تميز ثيباهم في العادة, وربما يخرج الناس إلى صلاة الاستسقاء عدة مرات أملًا في زيادة مياه الفيضان "المقريزي: السلوك، جـ3، ص218-ص219، ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة، طبعة كاليفورنيا، جـ6، ص206-ص208، ص394-ص395". ولم يكن الناس يخرجون دائمًا إلى الصحراء لصلاة الاستسقاء، بل إنهم كثيرًا ما كانوا يجتمعون بجامع عمرو بن العاص, أو الجامع الأزهر, أو غيرهما من المساجد الكبيرة, يتوسلون إلى الله ويبتهلون, ويستمرون في قراءة القرآن وتلاوة الأدعية، وقد يستمر ذلك لعدة أيام, أملًا في أن يرفع الله الغمة عنهم.
وكان طبيعيًّا في ضوء المفاهيم الغيبية التي كانت تحكم ذلك العصر، أن تنتشر إشاعات عن رؤى وأحلام تنسب أسباب هذه الكوارث والأزمات إلى ما يقع من الفساد والظلم, مما يجعل بعض السلاطين يتظاهر بالعدل؛ فيعلن عن إلغاء الكثير من الضرائب، أو "المغارم والمظالم والكلف" على حد تعبير ذلك العصر، خوفًا من شَرِّ الوباء المنتشر، وما أن يرتفع الوباء, ويقل الخوف منه, حتى تعود الضرائب الفادحة لتفرض على الناس -كما كانت وزيادة، "ابن أياس: بدائع الزهور، جـ4، ص77، ص193-ص194".
وغالبًا ما كان سلاطين المماليك وأمراؤهم, والأعيان, والأثرياء, يهربون إذا حلَّ الوباء إلى مناطق غير موبوءة مثل: سرياقوس التي كانت المهرب المفضل للسلاطين في أغلب الأحيان، كما كان الأعيان من القضاة والتجار والمتعممين يرسلون أولادهم إلى أماكن خارج العاصمة, حين تنزل بالبلاد كارثة من هذا النوع..(1/227)
وهكذا كان العامَّةُ، وهو السواد الأعظم من جمهرة المصريين في ذلك العصر، هم الغذاء السهل لهذه الكوارث؛ إذ يقتلهم الجوع فيتساقطون في الطرقات، وحين تجيف الطرق من جثثهم, تنتشر الأمراض الوبائية لتشمل الكل؛ فيهرب من يستطيع الهرب من الحكام, ومن يلوذ بهم، وينشب الوباء مخالبه فيمن بقي من الناس "ابن أيبك: كتر الدرر، جـ8، ص383، المقريزي: السلوك، جـ2، ص770، العيني: عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان، مخطوط، جـ24، ص118، ابن تغري بردي: النجوم، جـ10، ص24، ابن إياس: بدائع الزهور، جـ4، ص296-ص299".
ومن الطبيعي أن يكون لهذه المجاعات والأوبئة أثرها في أخلاقيات الناس وفي تصرفاتهم اليومية، فقد كانت الأزمة تؤدي بموارد الكثيرين، وينكشف حال كثير من الناس, كما تشح النفوس بسبب قلة المواد الغذائية، فيمنع كبار الأمراء من يدخل عليهم من الأعيان، عند مد أسمطتهم، أي: في مواعيد الطعام، على حين يتصارع عامة الناس في سبيل الحصول على القوت؛ فيتزاحمون على الأفران وحوانيت الخبز والدقيق، ويقتتلون لكي يحصلوا على شيء منه، وتتوقف مظاهر حياتهم اليومية، وتتعطل الأسواق, ويتوجه بعض النساء إلى الأفران من منتصف الليل، على حين يتوجه البعض الآخر إلى ساحل بولاق, في محاولة للحصول على بعض القمح " ... فمنهم من يجد بعض شيء, ومنهم من يرجع خايبًا". وفي أثناء التزاحم على الأفران, ينهب الناس ما يجدونه من الخبز، مما كان يضطر المحتسب أو الوالي لتعيين الحراسات على أبواب الأفران وحوانيت بيع الخبز، ويقف الحراس بعصيهم الغليظة لدفع الناس عن الحوانيت خوفًا من النهب, بل إن الناس كانوا يخطفون العجين الذي يعد في البيوت ليخبز في الأفران، ولهذا كان العجين يرسل إلى الفرن في حراسة عدد من الأفراد المسلحين بالعصي؛ لحمايته من النهابة. أما المراكب التي ترد من الوجه(1/228)
القبلي بالغلال، فكانت تربط بالمرسى بعيدًا عن الشاطئ خوفًا من النهب, ويتوجه من يريد الشراء في القوارب الصغيرة إلى مركب الغلال. "المقريزي: السلوك، جـ1، ص728، إغاثة الأمة، ص33-ص35، العيني: عقد الجمان، جـ25، ورقة 414".
وكان بعض التجار يلجأون إلى أساليب الغش أثناء هذه الأزمات؛ فيخلطون الدقيق بغيره من المواد, كما كان البعض الآخر يبيعون لحم الميتات والكلاب للناس, ومن الطبيعي أن يلجأ التجار إلى استغلال ظروف الأزمة أو المجاعة فيرفعون الأسعار, وتزداد أرباحهم زيادة فاحشة. ومن ناحيةٍ أخرى، كانت أجور أصحاب المهن ترتفع تبعًا لارتفاع الأسعار, كذلك كانت أرباح العطارين والأطباء تتعاظم أثناء المجاعات والأوبئة نظرًا لاشتداد طلب الناس على الأدوية والعطارين.
ونتيجة لارتفاع الأسعار, وانعدام الأقوات في أثناء الغلاء أو المجاعة، تتوالى بالتداعي حوادث أخرى تزيد الطين بلة؛ إذ ينعدم علف الحيوان بسبب ارتفاع الأسعار، ومن ثَمَّ تنفق الماشية والأبقار وحيوانات الزراعة. ولما كانت هذه الحيوانات هي القوة المحركة المعوَّل عليها في ذلك العصر لأعمال الري والزراعة، فإن موتها كان يزيد من حدة الأزمة وتصاعدها, وبالتالي تدخل البلاد في دائرة مفرغة قد تمتد سنين، يعاني المصريون أثناءها ويلات المجاعة والوباء "المقريزي: إغاثة الأمة، ص36، تاريخ ابن الفرات، جـ9، ص434-ص435، ابن تغري بردي: النجوم، جـ7، ص182، طبعة كاليفورنيا".
وكان الناس ينشغلون أثناء هذه الأزمات عن سائر اهتماماتهم الحياتية, ولا يستطيعون مزاولة أعمالهم اليومية، ففي كثير من الأحيان لم تكن الأرض تجد من يزرعها، ولم تكن المحصولات تجد من يضمها لكثرة الضحايا بين الفلاحين, بل إنه في أثناء الوباء الذي ألَمَّ بالبلاد في منتصف القرن الرابع(1/229)
عشر -وهو وباء شمل الكرة الأرضية بأسرها, وعرفه المسلمون باسم "الوباء الكبير", وعرفه الغرب باسم "الموت الأسود Black Death- ركدت الحياة تمامًا؛ فخلت الوكالات والفنادق من نزلائها من تجار الشرق والغرب, ولم يجد القضاة أو الولاة ما يفعلونه لانصراف الناس عن القضايا المعتادة, وزهد الناس في أموالهم وبذلوها للفقراء, وقد قضى هذا الوباء الرهيب على حوالي ثلثي جمهرة السكان في مصر آنذاك، وأقفرت المدن, وخلت القاهرة من الناس تقريبًا، وهرب السلطان ومن استطاع اللحاق به إلى سرياقوس. وانخفضت الأسعار بدرجة كبيرة لعدم وجود من يشتري, بل إن كتب العلم رخصت لدرجة أنه كان ينادى عليها بالأحمال.
والواقع أن أهم نتائج مثل هذه الأوبئة يتمثل في اختلال البناء الاجتماعي الطبقي, الذي تميزت به مصر في عصر سلاطين المماليك؛ فقد كان العامة يستولون على إقطاعات أجناد الحلقة عقب الوباء "ابن تغري بردي: النجوم، جـ10، ص205-ص209". وكان انهيار النظام الإقطاعي واحدًا من ملامح التدهور العديدة التي كانت بمثابة أجراس الجنازة لدولة سلاطين المماليك, التي حكمت البلاد ما يزيد على قرنين ونصف من الزمان, بيد أن انهيار النظام الإقطاعي، والذي تبدت مظاهره واضحة في كثير من الأحداث، لم يكن هو المؤشر الوحيد الدال على قرب نهاية الدولة ومغيب شمسها، فقد انهار الأمن في الداخل نتيجة لحروب الشوارع التي كانت تنشب بين أمراء المماليك بسبب التنافقس على عرش البلاد، أو لغير ذلك من الأسباب. كما أدى ذلك بدوره إلى تناقص هيبة الدولة وسطوتها، فكثرت إغارات البدو على الريف والمدن، كما كثرت حوادث السطو والحريق. ومن ناحية أخرى, انهار النظام النقدي للدولة؛ ليزيد من تدهور الحال.
ففي عصر الجراكسة بالذات، بات واضحًا أن السلطان ليس سوى كبير الأمراء، وهو ما كان يؤدي، بين الحين والحين، إلى اندلاع القتال بين(1/230)
السلطان القائم على العرش، وأحد الأمراء الطامعين في هذا العرش. وقد يندلع القتال لغير ذلك من الأسباب، وسرعان ما تدور في شوارع القاهرة وطرقاتها معارك عنيفة، ربما تمتد أحداثها عدة أيام، وتضطرب أثناءها الأحوال، وتموج البلاد بالفوضى والفزع، وسرعان ما تخلو الطرقات من روادها، وتقفر الأسواق من الباعة والمشترين؛ لتكون ميدانًا لقتال فرسان المماليك ومعاركهم الدموية.
ومع انهيار نظام تربية المماليك، والاستعاضة عن ذلك بالمماليك الأجلاب -أي الذين كانوا يجلبون كبارًا- انهارات رابطة الولاء التي كانت تربط المماليك بأستاذهم -سيدهم. فضلًا عن أن النظام الصارم الذي كان يمنع نزول المماليك وسكناهم بالقاهرة, لم يعد متبعًا منذ عصر السلطان الظاهر برقوق, الذي سمح لهم بالنزول من طباق القلعة وسكنى القاهرة. وفي عصر المماليك الجراكسة تكررت حواث الشغب, وحوادث نهب الأسواق, وخطف البضائع التي كان المماليك الأجلاب يرتكبونها، حتى أمست تلك الحوادث بمثابة النغمة السائدة في حياة المصريين آنذاك, وكانت النتيجة الطبيعية لمثل تلك الحوادث، دائمًا، أن يسرع الفزع في النفوس, وتضطرب البلاد وسكانها بالفوضى والخوف, وتتحول الحياة في الشارع المصري إلى حال من الترقب الدائم, وتوقع الشر والسوء باستمرار.
وعلى الرغم من أن الأوامر كانت تصدر باستمرار بعدم تعرض المماليك الاجلاب للناس والباعة والتجار، فإنه يبدو أن تدهور سلطة الدولة جعل مثل تلك الأوامر " ... كضرب رباب أو كطن ذباب ... " على حد تعبير المؤرخ أبي المحاسن يوسف بن تغري بردي "النجوم، جـ16، ص98". وبمرور الأيام تزايد عبث الأجلاب أو الجلبان بأحوال الأمن، كما استمروا في نهب أموال الناس, مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وكساد الأسواق الداخلية, وهو ما يشير إلى مدى النتائج الضارة, والآثار السلبية, لتدهور سلطة الدولة في الداخل. وأصبح من المعتاد في الشارع المصري(1/231)
آنذاك منظر كوكبة من الفرسان المماليك, وهم يقتحمون أحد الأسواق أو الشوارع, يخطفون البضائع من الأسواق, ويخطفون عمائم الرجال، وربما يخطفون امرأة أو صبيًّا. "ابن إياس, بدائع الزهور، جـ3، ص335-ص338" ومما يؤكد حالة الذعر الدائم التي سببها المماليك الجلبان في الشارع المصري, في أواخر عصر المماليك، أنه حدث أن خرج جهاز إحدى العرائس في زفة على رءوس الحمالية وظهور البغال، كما كانت عادة المصريين آنذاك، وتصادف أن مرّ أحد فرسان المماليك بجوار هذا الموكب, وسقطت آنية نحاسية أحدثت صوتًا جفل منه الفرس فركض مسرعًا، وهنا حدث أمر غريب " ... فلم تشك العامة في أن المماليك نزلوا إلى نهب حوانيت القاهرة، فأغلقت الأسواق في الحال ... " "أبو المحاسن: النجوم، جـ16، ص96-ص97".
ووصل فساد المماليك الأجلاب إلى ذروته في السنوات الأخيرة من حكم السلطان قانصوه الغوري، ويبدو أن سطوتهم بلغت حدًّا لا يمكن مقاومته؛ إذ نودي في القاهرة سنة 921 هجرية-1516م, ألّا يتعرض لهم أحد وإلّا قطعت يده, ويعلق ابن إياس على ذلك بقوله: " ... وكانت هذه المناداة من أكبر أسباب الفساد في حق الناس، وصارت المماليك بعد ذلك يدخلون إلى الأسواق ويخطفون القماش، ولا يقدر أحد يمنعهم من ذلك ... " "بدائع الزهور، جـ5، ص465".
وقد تمثل انهيار النظام الإقطاعي الذي قامت دولة المماليك على أساسه في فشلها بمد السيطرة على كافة شئون البلاد، فإلى جانب التدهور الأمني بسبب حوادث المماليك, انتشرت القرصنة التي أعاقت حركة الملاحة فوق مياه نهر النيل، وكثر فساد العربان, وانتشرت عصابات اللصوص وقطاع الطرق في شتّى أنحاء البلاد. فأخذ العربان يهاجمون القرى والمدن في وضح النهار, كما بات من المعتاد أن تتعرض الأسواق والحوانيت للسرقة على أيدي(1/232)
عصابات كبيرة العدد, تتألف من المشاة والفرسان, وقد صارت أنباء الحوادث التي كانت هذه العصابات ترتكبها، مادةً ثابتةً في حولية المؤرخ ابن إياس, في السنوات الأخيرة من عصر سلاطين المماليك. ولم تكن تلك العصابات تجد من يتعقبها أو يعترض نشاطها "ابن إياس: بدائع الزهور، جـ3، ص434، جـ4، ص20، ص259-ص260".
وأخيرًا، فإن الصورة العامة للحياة اليومية لجموع المصريين في ذلك العصر، قد ازداد اللون القاتم الحزين فيها انتشارًا مع التدهور المطَّرد لأوضاع دولة سلاطين المماليك، سواء على المستوى السياسي، أو المستوى الاقتصادي، أو العسكري، أو الثقافي، وسواءً بدا هذا التدهور واضحًا في علاقاتها بالقوى العالمية المعاصرة, أو ظهر في سطوتها ونفوذها في الداخل.
والحقيقة أننا لا نستطيع أن نحصر العوامل التي أدت إلى سقوط هذه الدولة في إطار واحد بعينه، سياسيًّا كان أم اقتصاديًّا، عسكريًّا ام اجتماعيًَّا, بيد أننا نستيطع أن نقرر أن صورة الشارع المصري, والحياة اليومية لعامة المصريين, كانت تشي بمظاهر هذا الانحلال والذبول المتزايد. ولعل كلمات المؤرخ تقي الدين المقريزي "السلوك، جـ2، ص678" تجسد الصورة خير تجسيد، كما تشير إلى أسباب السقوط؛ إذ يقول: " ... دخلت سنة 828هـ وأسواق القاهرة ودمشق في كساد، وظلم ولاة الأمر من الكشاف والولاة فاش، ونواب القضاء قد شنعت مقالة العامة فيهم من تهافتهم، وأرض مصر أكثرها بغير زراعة لقصور النيل في أوانه, وقلة العناية بعمل الجسور, فإن كشافها إنما دأبهم إذا خرجوا لعملها أن يجمعوا مال النواحي لأنفسهم وأعوانهم, والطرقات بمصر والشام مخوفة من كثرة عبث العربان والعشير. والناس على اختلاف طبقاتهم قد غلب عليهم الفقر, واستولى عليهم الشح والطمع، فلا تكاد تجد إلّا شاكيًا مهتمًّا لدنياه، وأصبح الدين غريبًا لا ناصر له ... ".(1/233)
وعلى الرغم من أن كلمات تقي الدين المقريزي تتحدث عن الأحوال قبل حوالي قرن كامل من سقوط دولة سلاطين المماليك، فإن أسباب السقوط، التي ذكرها، كانت تعمل في كيان الدولة منذ ذلك الحين؛ فيتزايد معدل التدهور والاضمحلال، حتى إذا ما طرقتها جحافل العثمانيين في مرج دابق والريدانية، لم تجد مشقة في إسقاط الثمرة التي كانت قد نضجت بالفعل, فلم يكن بمقدور العثمانيين، مهما كانت قوتهم، أن يسقطوا دولة سلاطين المماليك، التي ظلّت قائمةً على مدى أكثر من قرنين ونصف من الزمان، لو لم تكن هذه الدولة قد سقطت من الداخل قبل مصرع طومانباي، آخر المماليك، على باب زويلة من أبواب القاهرة، وعلى مرأى ومسمع من جماهير المصريين الذين كان لهم أن يستعدوا للدخول في مرحلة جديدة من مراحل تاريخهم الطويل.(1/234)