إني وأصحابي لبغزة إذ هجم علينا فسألنا: ممن أنتم؟ أخبرناه. فساقنا إليه جميعا. فلما انتهينا إليه -قال أبو سفيان: فوالله ما رأيت من رجل قط أزعم أنه كان أدهى من ذلك الأغلف -يعني هرقل- فلما انتهينا إليه قال: أيكم أمس به رحما؟ فقلت: أنا. قال: أدنوه. وساق الحديث، ولم يذكر فيه كتابًا وفيه كما ترى أشياء عجيبة ينفرد بها ابن إسحاق دون معمر وصالح.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني الزهري، قال: حدثني أسقف من النصارى قد أدرك ذلك الزمان، قال: لما قدم دحية بن خليفة على هرقل بالكتاب، وفيه:
"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من
"اتبع الهدى. أما بعد؛ فأسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن أبيت فإن إثم الأكارين عليك".
فلما قرأه وضعه بين فخذه، وخاصرته، ثم كتب إلى رجل من أهل رومية، كان يقرأ من العبرانية ما يقرأ، يخبره عما جاءه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب إليه أنه النبي الذي ينتظر لا شك فيه فاتبعه. فأمر بعظماء الروم فجمعوا له في دسكره ملكه، ثم أمر بها فأشرجت عليهم، واطلع عليهم من علية له، وهو منهم خائف فقال: يا معشر الروم إنه قد جاءني كتاب أحمد، وإنه والله للنبي الذي كنا ننتظر ونجد ذكره في كتابنا، نعرفه بعلاماته. فأسلموا واتبعوه تسلم لكم دنياكم وآخرتكم. فنخروا نخرة رجل واحد، وابتدروا أبواب الدسكرة، فوجدوها مغلقة دونهم. فخافهم، فقال: ردوهم علي. فكروهم عليه، فقال: إنما قلت(سيرة 2/141)
لكم هذه المقالة أغمزكم بها لأنظر كيف صلابتكم في دينكم، فقد رأيت منكم ما سرني. فوقعوا له سجدا، ثم فتحت لهم الأبواب فخرجوا.
وقال ابن لهيعة: حدثنا أبو الأسود، عن عروة، قال: خرج أبو سفيان تاجرا وبلغ هرقل شأن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فأدخل عليه أبو سفيان في ثلاثين رجلا، وهو في كنيسة إيلياء. فسألهم فقالوا: ساحر كذاب. فقال أخبروني بأعلمكم به وأقربكم منه. قالوا: هذا ابن عمه. وذكر شبيها بحديث الزهري.
وقال البخاري: حدثنا يحيى بن أبي بكير، قال: حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني عبيد الله، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين ليدفعه إلى كسرى. قال: فلما قرأه كسرى مزقه. فحسبت ابن المسيب قال: فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق.
وقال الذهلي محمد بن يحيى: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني عبد الرحمن بن عبد القاري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ذات يوم على المنبر خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه وتشهد، ثم قال: "أما بعد،
"فإني أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك الأعاجم، فلا تختلفوا علي كما اختلفت بنو إسرائيل على عيسى". فقال المهاجرون: والله لا نختلف عليك في شيء، فمرنا وابعثنا. فبعث شجاع بن وهب إلى كسرى، فخرج حتى قدم على كسرى، وهو بالمدائن، واستأذن عليه.
فأمر كسرى بإيوانه أن يزين، ثم أذن لعظماء فارس، ثم أذن لشجاع بن وهب، فلما دخل عليه أمر بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبض منه. قال شجاع: لا، حتى أدفعه أنا(سيرة 2/142)
كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال كسرى: ادنه، فدنا فناوله الكتاب ثم دعا كاتبا له من أهل الحيرة فقرأه، فإذا فيه: "من محمد عبد الله ورسوله إلى كسرى عظيم فارس".
فأغضبه حين بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وصاح غضب ومزق الكتاب قبل أن يعلم ما فيه، وأمر بشجاع فأخرج، فركب راحلته وذهب، فلما سكن غضب كسرى، طلب شجاعا فلم يجده. وأتى شجاع النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: "اللهم مزق ملكه".
وقال أبو عوانة، عن سماك، عن جابر بن سمرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتفتحن عصابة من المسلمين كنوز كسرى التي في القصر الأبيض".
أخرجه مسلم. رواه أسباط بن نصر، عن سماك، عن جابر فزاد، قال: فكنت أنا وأبي فيهم، فأصابنا من ذلك ألف درهم.
وقال أحمد بن الوليد الفحام: حدثنا أسود بن عامر، قال: أخبرنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، عن أبي بكرة، أن رجلا من أهل فارس أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن ربي قد قتل ربك، يعني كسري".
قال: وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه قد استخلف بنته، فقال: "لا يفلح قوم تملكهم امرأة".
ويروى أن كسرى كتب إلى باذام عامله باليمن يتوعده ويقول: ألا تكفيني رجلا خرج بأرضك يدعوني إلى دينه؟ لتكفنيه أو لأفعلن بك.(سيرة 2/143)
فبعث العامل إلى النبي صلى الله عليه وسلم رسلا وكتابا، فتركهم النبي صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة، ثم قال: "اذهبوا إلى صاحبكم فقولوا: إن ربي قد قتل ربك الليلة".
وروى أبو بكر بن عياش، عن داود بن أبي هند، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: أقبل سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلك -أو قال: قتل- كسرى. فقال: "لعن الله كسرى، أول الناس هلاكا فارس ثم العرب".
وقال محمد بن يحيى: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح، قال: قال: ابن شهاب. وقد رواه الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، كلاهما يقول عن أبي سلمة، واللفظ لصالح قال: بلغني أن كسرى بينما هو في دسكرة ملكه، بعث له -أو قيض له- عارض فعرض عليه الحق، فلم يفجأ كسرى إلا الرجل يمشي وفي يده عصا فقال: يا كسرى هل لك في الإسلام قبل أن أكسر هذه العصا؟ قال: كسرى: نعم؟ فلا تكسرها. فولى الرجل. فلما ذهب أرسل كسرى إلى حجابه فقال: من أذن لهذا؟ قالوا: ما دخل عليك أحد. قال: كذبتم. وغضب عليهم وعنفهم، ثم تركهم. فلما كان رأس الحول أتاه ذلك الرجل بالعصا فقال كمقالته. فدعا كسرى الحجاب وعنفهم. فلما كان الحول المستقبل، أتاه ومعه العصا فقال: هل لك يا كسرى في الإسلام قبل أن أكسر العصا؟ قال: لا تكسرها، فكسرها فأهلك الله كسرى عند ذلك.
وقال الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده. وإذا هلك قيصر فلا قيصر(سيرة 2/144)
بعده. والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله". أخرجه مسلم.
وروى يونس بن بكير، عن ابن عون، عن عمير بن إسحاق، قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر. فأما قيصر فوضعه، وأما كسرى فمزقه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أما هؤلاء فيمزقون، وأما هؤلاء فسيكون لهم بقية".
وقال الربيع: أخبرنا الشافعي، قال: حفظنا أن قيصر أكرم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، ووضعه في مسك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثبت ملكه".
قال الشافعي: وقطع الله الأكاسرة عن العراق وفارس، وقطع قيصر ومن قام بالأمر بعده
عن الشام. وقال في كسرى: "مزق ملكه"، فلم يبق للأكاسرة ملك، وقال في قيصر: "ثبت ملكه" فثبت له ملك بلاد الروم إلى اليوم.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثنا الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية، فمضى بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل الكتاب وأكرم حاطبا وأحسن نزله، وأهدى معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بغلة وكسوة وجاريتين؛ إحدهما أم إبراهيم، والأخرى وهبها النبي صلى الله عليه وسلم لجهم بن قيس العبدي، فهي أم زكريا بن جهم، خليفة عمرو بن العاص على مصر.
وقال أبو بشر الدولابي: حدثنا أبو الحارث أحمد بن سعيد الفهري، قال: حدثنا هارون بن يحيى الحاطبي، قال: حدثنا إبراهيم بن(سيرة 2/145)
عبد الرحمن، قال: حدثني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أبيه، عن جده حاطب بن أبي بلتعة، قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس ملك الإسكندرية، فجئته بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزلني في منزله، وأقمت عنده. ثم بعث إلي وقد جمع بطارقته فقال: إني سأكلمك بكلام وأحب أن تفهمه مني. قلت: نعم، هلم. قال: أخبرني عن صاحبك، أليس هو نبي؟ قلت: بلى، هو رسول الله. قال: فما له حيث كان هكذا لم يدع على قومه حيث أخرجوه. قلت: عيسى؛ أليس تشهد أنه رسول الله، فما له حديث أخذه قومه فأرادوا أن يصلبوه أن لا يكون دعا عليهم بأن يهلكم الله حتى رفعه الله إليه إلى السماء الدنيا. قال: أنت حكيم جاء من عند حكيم. هذه هدايا أبعث بها معك إليه. فأهدى ثلاث جوار، منهن أم إبراهيم، وواحدة وهبها رسول الله لأبي جهم بن حذيفة العدوي، وواحدة وهبها لحسان بن ثابت. وأرسل بطرف من طرفهم.
غزوة ذات السلاسل:
قيل: إنه ماء بأرض جذام.
قال ابن لهيعة: حدثنا أبو الأسود، عن عروة، ورواه موسى بن عقبة، واللفظ له، قالا: غزوة ذات السلاسل من مشارف الشام في بلى وسعد الله ومن يليهم من قضاعة.
وفي رواية عروة: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في بلي، وهو أخوال العاص بن وائل، وبعثه فيمن يليهم من قضاعة وأمره عليهم.
قال ابن عقبة: فخاف عمرو من جانبه الذي هو به، فبعث إلى(سيرة 2/146)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده. فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين، فانتدب فيهم أبو بكر وعمر وجماعة، أمر عليهم أبا عبيدة، فأمد بهم عمرًا، فلما قدموا عليه، قال: أنا أميركم، وأنا أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أستمده بكم. فقال المهاجرون: بل أنت أمير أصحابك، وأبو عبيدة أمير المهاجرين. قال: إنما أنتم مدد أمددته. فلما رأى أبو عبيدة، وكان رجلا حسن الخلق لين الشيمة، سعى لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده، قال: تعلم يا عمرو أن آخر ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا، وإنك عصيتني لأطيعنك. فسلم أبو عبيدة الإمارة لعمرو.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي، عن غزوة ذات السلاسل من أرض بلى وعذرة، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص لستنفر العرب إلى الإسلام. وذلك أن أم العاص بن وائل كانت من بلى، فبعثه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتألفهم بذلك. حتى إذا كان بأرض جذام، على ماء يقال له: السلاسل، خاف فبعث يستمد النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال علي بن عاصم: أخبرنا خالد الحذاء، عن أبي عثمان النهدي، قال: سمعت عمرو بن العاص يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش ذي السلاسل، وفي القوم أبو بكر وعمر.
فحدثت نفسي أنه لم يبعثني عليهما إلا لمنزلة لي عنده، فأتيته حتى قعدت بين يديه فقلت: يا رسول الله، من أحب الناس إليك؟ قال: "عائشة"، قلت: إني لم أسألك عن أهلك. قال: "فأبوها" قلت: ثم من؟ قال: "عمر". قلت: ثم من؟ حتى عد رهطا، قال: قلت في نفسى: لا أعود أسأل عن هذا.(سيرة 2/147)
رواه غيره عن خالد، وهو في الصحيحين مختصرا.
وكيع، وغيره: حدثنا موسى بن علي بن رباح، عن أبيه، سمع عمرو بن العاص: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عمرو اشدد عليك سلاحك وائتني". ففعلت، فجئته وهو يتوضأ، فصعد في البصر وصوبه وقال: "يا عمرو إني أريد أن أبعثك وجها فيسلمك الله ويغنمك، وأرغب لك رغبة من المال صالحة". قلت: إني لم أسلم رغبة في المال إنما أسلمت رغبة في الجهاد والكينونة معك. قال: "يا عمرو نعما بالمال الصالح للمرء الصالح".
ابن عون وغيره، عن محمد، استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرا على جيش ذات السلاسل وفيهم أبوبكر وعمر. رواه إبراهيم بن مهاجر، عن إبراهيم النخعى بنحوه.
وكيع، عن المنذر بن ثعلبة، عن ابن بريدة: قال أبو بكر: إنما ولاه النبي صلى الله عليه وسلم، يعني عمرا، علينا لعلمه بالحرب.
قلت: ولهذا استعمل أبو بكر عمرًا على غزو الشام.
وقال الواقدي: حدثني ربيعة بن عثمان، عن يزيد بن رومان، أن أبا عبيدة لما أتى عمرا صاروا خمس مائة، وسار الليل والنهار حتى وطئ بلاد بلي ودوخها، وكلما انتهى إلى موضع بلغه أنه كان بذلك الموضع جمع، فلما سمعوا به تفرقوا حتى انتهى إلى أقصى بلاد بلي وعذرة وبلقين، ولقي في آخر ذلك جمعا، فاقتتلوا ساعة وتراموا بالنبل.(سيرة 2/148)
ورمي يومئذ عامر بن ربيعة، فأصيب ذراعه. وحمل المسلمون عليهم فهربوا وأعجزوا هربا في البلاد. ودوخ عمرو ما هناك. وأقام أياما يغير أصحابه على المواشي.
وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل، فأصابهم برد فقال لهم عمرو: لا يوقدون أحد نارا. فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوه، فقال: يا نبي الله، كان في أصحابي قلة فخشيت أن يرى العدو قلتهم، ونهيتم أن يتبعوا العدو مخافة أن يكون لهم كمين. فاعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال جرير بن حازم: حدثنا يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عمرو بن العاص، قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب". فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئا.
وقال عمرو بن الحارث، وغيره، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص أن عمرا كان على سرية، فذكر نحوه. قال: فغسل مغابنه، وتوضأ وضوءه للصلاة ثم صلى بهم. لم يذكر التيمم. أخرجهما(سيرة 2/149)
أبو داود.
غزوة سيف البحر:
قال ابن عيينة، عن عمرو، عن جابر: بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاث مائة راكب، وأميرنا أبو عبيدة بن الجراح، نرصد عيرا لقريش، فأصابنا جوع شديد، حتى أكلنا الخبط فسمي جيش الخبط.
قال: ونحر رجل ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر. ثم إن أبا عبيدة نهاه. قال: فألقى لنا البحر دابة يقال لها: العنبر، فأكلنا منه نصف شهر وادهنا منه، حتى ثابت منه أجسامنا وصلحت، فأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعه، فنظر إلى أطول رجل في الجيش وأطول جمل فحمله عليه ومر تحته. متفق عليه.
زاد البخاري في حديث عمرو، عن جابر: قال جابر: وكان رجل في القوم نحر ثلاث جزائر، ثم ثلاثا، ثم ثلاثا، ثم إن أبا عبيدة نهاه. قال: وكان عمرو يقول: أخبرنا أبو صالح أن قيس بن سعد قال لأبيه: كنت في الجيش فجاعوا، قال أبوه: انحر. قال: نحرت، قال: ثم جاعوا. قال: انحر، قال: نحرت، ثم جاعوا. قال: انحر. قال: نهيت.(سيرة 2/150)
وقال مالك: عن وهب بن كيسان، عن جابر، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا قبل الساحل، وأمر عليهم أبا عبيدة وهم ثلاث مائة وأنا فيهم، حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش، فجمع ذلك كله، فكان مزودي تمر، فكان يقوتنا كل يوم قليلا قليلا، حتى فني. ولم يكن يصيبا إلا تمرة تمرة. قال: فقلت: وما تغني تمرة؟ قال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت. ثم انتهينا إلى البحر، فإذا حوت مثل الظرب وهو الجبل، فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة. ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا، ثم أمر براحلة فرحلت، ثم مر تحتهما فلم تصبهما. أخرجاه.
وقال زهير بن معاوية، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نتلقى عيرا لقريش، وزودنا جرابا من تمر. فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة. وكنا نضرب بعصينا الخبط ثم
نبله بالماء فنأكله. فانطلقنا على ساحل البحر، فرفع لنا كهيئة الكثيب فأتيناه فإذا دابة تدعى العنبر. فقال أبو عبيدة: ميتة، ثم قال: لا، بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا. فأقمنا عليها شهرا ونحن ثلاث مائة حتى سمعنا. ولقد كنا نغترف من وقب عينه بالقلال الدهن ونقتطع منه الفدر كالثور. ولقد أخذ أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في عينه، وأخذ ضلعا من أضلاعه فأقامها ثم رحل أعظم بعير منها فمر تحتها.
وتزودنا من لحمه وشائق، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال: "هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شيء تطعموننا"؟ قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكل. أخرجه مسلم.(سيرة 2/151)
قلت: زعم بعض الناس أن هذه السرية كانت في رجب سنة ثمان.
سرية أبي قتادة إلى خضرة:
قال الواقدي في مغازيه: قالوا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادة بن ربعي الأنصاري إلى غطفان في خمسة عشر رجلا، وأمره أن يشن عليهم الغارة. فسار وهجم على حاضر منهم عظيم فأحاط به، فصرخ رجل منهم: يا خضرة! وقاتل منهم رجال فقتلوا من أشرف لهم، وأستاقوا النعم، فكانت بعير وألفي شاة. وسبوا سبيا كثيرا. وغابوا خمس عشرة ليلة وذلك في شعبان من السنة.
ثم كانت سريته إلى إضم على إثر ذلك في رمضان.
وفاة زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم:
وكانت أكبر بناته. توفيت في هذه السنة وغسلتها أم عطية الأنصارية وغيرها. وأعطاهن النبي صلى الله عليه وسلم حقوه، فقال: "أشعرنها إياه".
وبنتها أمامة بنت أبي العاص، هى التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحملها في الصلاة(سيرة 2/152)
فتح مكة شرفها الله وعظمها:
قال البكائي، عن ابن إسحاق: ثم إن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عدت على خزاعة، وهم على ماء بأسفل مكة يقال له: الوتير. وكان الذي هاج ما بين بكر وخزاعة أن رجلًا من بني الحضرمي خرج تاجرًا، فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه وأخذوا ماله. فعدت بنو بكر على رجل من خزاعة فقتلوه، فعدت خزاعة قبيل الإسلام على سلمى وكلثوم وذؤيب بني الأسود بن رزن الديلي، وهو مفخر بني كنانة وأشرافهم، فقتلوهم بعرفة.
فبينا بنو بكر وخزاعة على ذلك حجز بينهم الإسلام، وتشاغل الناس به. فلما كان صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، كان فيما شرطوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشرط لهم أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله وعهده فليدخل معه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه. فدخلت بنو بكر في عقد قريش، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنها وكافرها.
فلما كانت الهدنة اغتنمها بنو الديل، أحد بني بكر من خزاعة، وأرادوا أن يصيبوا منهم ثارًا بأولئك الإخوة. فخرج نوفل بن معاوية الديلي في قومه حتى بيت خزاعة على الوتير فاقتتلوا. وردفت قريش(سيرة 2/153)
بني الدليل بالسلاح، وقوم من قريش أعانت خزاعة بأنفسهم، مستخفين بذلك، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم. فقال قوم نوفل له: اتق إلهك ولا تستحل الحرم. فقال: لا إله لي اليوم، والله يا بني كنانة إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تصيبون فيه ثأركم؟ فقتلوا رجلا من خزاعة. ولجأت خزاعة إلى دار بديل بن ورقاء الخزاعي، ودار رافع مولى خزاعة.
فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة، كان ذلك نقضا للهدنة التي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. وخرج عمرو بن سالم الخزاعي فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة مستغيثين به، فوقف عمرو عليه، وهو جالس في المسجد بين ظهري الناس، فقال:
يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتم ولدا وكنا والدا ... ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرا أعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مدا
فيهم رسول الله قد تجردا ... إن سيم خسفا وجهه تربدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا ... إن قريشا أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا ... وجعلوا لي في كداء رصدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا ... وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالوتير هجدا ... وقتلونا ركعا وسجدا
فانصر، هداك الله، نصرا أيدا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت يا عمرو بن سالم".
ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء، فقال: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب؛ يعني خزاعة. رواه أطول من هذا يونس بن(سيرة 2/154)
بكير، عن ابن إسحاق، عن الزهري سماعا، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم.
وقال ابن إسحاق: ثم قدم بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد ويزيد في المدة". ومضى بديل وأصحابه فلقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان، قد جاء ليشد العقد ويزيد في المدة، وقد رهبوا الذي صنعوا. فلما لقي بديل بن ورقاء، قال: من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سرت في خزاعة على الساحل. فقال: أوما جئت محمدا؟ قال: لا. فلما راح بديل إلى مكة قال: أبو سفيان: لئن كان جاء إلى المدينة لقد علف بها النوى. فأتى مبرك راحلته ففته فرأى فيه النوى، فقال: أحلف بالله لقد أتى محمدا.
ثم قدم أبو سفيان المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة أم المؤمنين. فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال: ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت رجل مشرك، نجس. قال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر.
ثم خرج حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه شيئا. فذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما أنا بفاعل. ثم أتى عمر فكلمه فقال: أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم! فوالله لو لم أجد إلا الذر لجالدتكم عليه. ثم خرج حتى أتى عليا -رضي الله عنه- وعنده فاطمة وابنها الحسن وهو غلام يدب، فقال: يا علي إنك أمس القوم بي رحما، وإني قد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائبا، فاشفع لي إلى رسول الله. فقال: ويحك يا أبا سفيان، لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على(سيرة 2/155)
أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة فقال: يا ابنة محمد، هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما بلغ بني ذلك، وما يجبر أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: يا أبا حسن، إني أري الأمور قد اشتدت على فانصحني. قال: والله ما أعلم شيئا يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك. قال: أوترى ذلك مغنيا عني شيئا؟ قال: لا والله ما أظنه، ولكن لا أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره وانطلق، فلما قدم على قريش قالوا: ما وراءك؟ فقص شأنه، وأنه جار بين الناس، قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا. قالوا: والله إن زاد الرجل على أن لعب بك.
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز، وأمر أهله أن يجهزوه. ثم أعلم الناس بأنه يريد مكة، وقال: "اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتهم في بلادهم".
فعن عروة وغيره، قالوا: لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش بذلك مع امرأة، فجعلته في رأسها ثم قتلت عليه قرونها ثم خرجت به. وأتى النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بفعله، فأرسل في طلبها عليا والزبير. وذكر الحديث.
أخبرنا محمد بن أبي الحرم القرشي، وجماعة، قالوا: حدثنا الحسن بن يحيى المخزومي قال: حدثنا عبد الله بن رفاعة، قال: أخبرنا علي بن الحسن الشافعي، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن عمر بن النحاس، قال: أخبرنا عثمان بن محمد السمرقندي، قال: حدثنا أحمد بن(سيرة 2/156)
شعبان، قال: حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن حسن بن محمد، قال: أخبرني عبيد الله بن أبي رافع -وهو كاتب علي- قال: سمعت عليا -رضي الله عنه- يقول: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد، قال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها.
فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة. قلنا: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب، قلنا: لتخرجن الكتاب أو لتقلعن الثياب. فأخرجته من عقاصها، فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا حاطب ما هذا"؟ قال: يا رسول الله لا تعجل، إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها، وكان من كان من المهاجرين معك لهم قرابات يحمون بها أهليهم بمكة، ولم يكن لي قرابة، فأحببت أن أتخذ فيهم يدا -إذ فاتني ذلك- يحمون بها قرابتي، وما فعلته كفرا ولا ارتدادا ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه قد صدقكم". فقال عمر -رضي الله عنه: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. قال:
"إنه شهد بدرا، وما يدريك لعل الله -تعالى- اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
أخرجه البخاري عن قتيبة، ومسلم عن ابن أبي شيبة، وأبو داود عن مسدد، كلهم عن سفيان.
أبو حذيفة النهدي: حدثنا عكرمة بن عمار، عن أبي زميل، عن ابن عباس، قال: قال عمر: كتب حاطب إلى المشركين بكتاب فجيء به إلى(سيرة 2/157)
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا حاطب ما دعاك إلى هذا"؟ قال: كان أهلي فيهم وخشيت أن يصرموا عليهم، فقلت: أكتب كتابا لا يضر الله ورسوله. فاخترطت السيف فقلت: يا رسول الله، أضرب عنقه فقد كفر. فقال: "وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". هذا حديث حسن.
وعن ابن إسحاق نحوه، وزاد: فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] .
وعن ابن إسحاق، قال: وعن ابن عباس، قال: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره، واستعمل على المدينة أبا رهم الغفاري. وخرج لعشر مضين من رمضان. فصام وصام الناس معه، حتى إذا كان بالكديد، بين عسفان وأمج أفطر.
اسم أبي رهم: كلثوم بن حصين.
وقال سعيد بن بشير، عن قتادة: أن خزاعة أسلمت في دراهم، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامها، وجعل إسلامها في دارها.
وقال سعيد بن عبد العزيز، وغيره: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخل في عهده يوم الحديبية خزاعة.
وقال الوليد بن مسلم: أخبرني من سمع عمرو بن دينار، عن ابن عمر، قال: كانت خزاعة حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونفاثة حلف أبي سفيان. فعدت نفاثة على خزاعة، فأمدتها قريش. فلم يغز رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا حتى بعث إليهم ضمرة، فخيرهم بين إحدى ثلاث: أن يدوا قتلى خزاعة، وبين أن يبرأ من حلف نفاثة، أو ينبذ إليهم على سواء. قالوا:(سيرة 2/158)
ننبذ على سواء. فلما سار ندمت قريش، وأرسلت أبا سفيان يسأل تجديد العهد.
وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: كانت بين نفاثة من بني الديل، وبين كعب، حرب. فأعانت قريش وبنو كنانة بني نفاثة على بني كعب. فنكثوا العهد إلا بنو مدلج، فإنهم وفوا بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلن. فذكر القصة، وشعر عمرو بن سالم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نصرت إن لم أنصر بني كعب مما أنصر منه نفسي". فأنشأت سحابة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذه السحابة تستهل بنصر بني كعب، أبصروا أبا سفيان فإنه قادم عليكم يلتمس تجديد العهد والزيادة في المدة".
فأقبل أبو سفيان، فقال: يا محمد جدد العهد وزدنا في المدة. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو لذلك قدمت؟ هل كان من حدث قبلكم"؟ قال: معاذ الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فنحن على عهدنا وصلحنا". ثم ذكر ذهابه إلى أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وأنه قال له: أنت أكبر قريش فأجر بينها. قال: صدفت إني كذلك فصاح: ألا إني قد أجرت بين الناس، وما أظن أن يرد جواري ولا يخفر بي، قال: أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة؟ ثم خرج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين أدبر: "اللهم سد على أبصارهم وأسماعهم فلا يروني إلا بغتة". فانطلق أبو سفيان حتى قدم مكة فحدث قومه، فقالوا: رضيت بالباطل وجئتنا بما لا يغني عنا شيئا، وإنما لعب بك علي.
وأغبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاز، مخفيا لذلك. فدخل أبو بكر على ابنته، فرأى شيئا من جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكر وقال: أين يريد(سيرة 2/159)
رسول الله؟ فقالت عائشة: تجهز، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم غاز قومك، قد غضب لبني كعب. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشفقت عائشة أن يسقط أبوها بما أخبرته قبل أن يذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشارت إلى أبيها بعينها، فسكت. فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة يتحدث مع أبي بكر، ثم قال: "تجهزت يا أبا بكر"؟ قال: لماذا يا رسول الله؟ قال: "لغزو قريش، فإنهم قد غدروا ونقضوا العهد، وإنا قوم غازون إن شاء الله".
وأذن في الناس بالغزو، فكتب حاطب إلى قريش فذكر حديثه، وقال: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفا من المهاجرين، والأنصار، وأسلم، وغفار، ومزينة، وجهينة،
وبني سليم، وقادوا الخيول حتى نزلوا بمر الظهران، ولم تعلم بهم قريش، قال: فبعثوا حكيم بن حزام وأبا سفيان وقالوا: خذوا لنا جوارا أو آذنونا بالحرب. فخرجا فلقيا بديل بن ورقاء فاستصحباه، فخرج معهما حتى إذا كانوا بالأراك بمكة، وذلك عشاء، رأوا الفساطيط والعسكر، وسمعوا صهيل الخيل ففزعوا: هؤلاء بنو كعب جاشت بهم الحرب. قال بديل: هؤلاء أكثر من بني كعب، ما بلغ تأليبها هذا.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث بين يديه خيلا لا يتركون أحدا يمضي. فلما دخل أبو سفيان وأصحابه عسكر المسلمين أخذتهم الخيل تحت الليل وأتوا بهم. فقام عمر إلى سفيان فوجأ عنقه، والتزمه القوم وخرجوا به ليدخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم به، فحبسه الحرس أن يخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاف القتل، وكان العباس بن عبد المطلب خالصة له في الجاهلية، فنادى بأعلى صوته: ألا تأمر بي إلى عباس؟ فأتاه عباس فدفع عنه، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبضه إليه.
فركب به تحت الليل، فسار به في عسكر القوم حتى أبصره أجمع. وكان عمر قال له حين وجأه: لا تدن من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تموت. فاستغاث بالعباس وقال: إني مقتول.(سيرة 2/160)
فمنعه من الناس. فلما رأى كثرة الجيش، قال: لم أر كالليلة جمعا لقوم. فخلصه عباس من أيديهم، وقال: إنك مقتول إن لم تسلم وتشهد أن محمدا رسول الله، فجعل يريد أن يقول الذي يأمره به عباس، ولا ينطلق به لسانه وبات معه.
وأما حكيم وبديل فدخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما. وجعل يستخبرهما عن أهل مكة.
فلما نودي بالفجر تحسس القوم، ففزع أبو سفيان وقال: يا عباس، ما يريدون؟ قال: سمعوا النداء بالصلاة فتيسروا لحضور النبي صلى الله عليه وسلم فلما أبصرهم أبو سفيان يمرون إلى الصلاة، وأبصرهم يركعون ويسجدون إذا سجد النبي صلى الله عليه وسلم، قال: يا عباس، ما يأمرهم بشيء إلا فعلوه؟! فقال: لو نهاهم عن الطعام والشراب لأطاعوه. فقال: يا عباس، فكلمه في قومك، هل عنده من عفو عنهم؟ فانطلق عباس بأبي سفيان حتى أدخله على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان، فقال أبو سفيان: يا محمد إني قد استنصرت بإلهي واستنصرت إلهك، فوالله ما لقيتك من مرة إلا ظهرت علي، فلو كان إلهي محقا وإلهك باطلا ظهرت عليك، فأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
وقال عباس: يا رسول الله إني أحب أن تأذن لي إلى قومك فأنذرهم ما نزل بهم، وأدعوهم إلى الله ورسوله. فأذن له. قال: كيف أقول لهم؟ قال: "من قال: لا إله إلا الله
"وحده لا شريك له، وشهد أن محمدا عبده ورسوله، وكف يده، فهو آمن، ومن جلس عند الكعبة ووضع سلاحه فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن". قال: يا رسول الله، أبو سفيان ابن عمنا، فأحب أن يرجع معي، فلو خصصته بمعروف. فقال: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن". فجعل أبو سفيان يستفهمه. ودار أبي سفيان بأعلى مكة. وقال: من دخل دارك يا حكيم فهو آمن. ودار حكيم(سيرة 2/161)
في أسفل مكة.
وحمل النبي صلى الله عليه وسلم العباس على بغلته البيضاء التى أهداها إليه دحية الكلبي، فانطلق العباس وأبو سفيان قد أردفه. ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم في إثره، فقال: "أدركوا العباس فردوه علي".
وحدثهم بالذي خاف عليه، فأدركه الرسول، فكره عباس الرجوع، وقال: أترهب يا رسول الله أن يرجع أبو سفيان راغبا في قلة الناس فيكفر بعد إسلامه؟ فقال: "احبسه" فحبسه. فقال أبو سفيان: غدرا يا بني هاشم؟ فقال عباس: إنا لسنا بغدر، ولكن لي إليك بعض الحاجة.
قال: وما هي، فأقضيها لك؟ قال: إنما نفاذها حين تقدم عليك خالد بن الوليد والزبير بن العوام. فوقف عباس بالمضيق دون الأراك، وقد وعى منه أبو سفيان حديثه.
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيل بعضها على إثر بعض، وقسم الخيل شطرين، فبعث الزبير في خيل عظيمة. فلما مروا بأبي سفيان قال للعباس: من هذا؟ قال: الزبير. وردفه خالد بن الوليد بالجيش من أسلم وغفار وقضاعة، فقال أبو سفيان: أهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عباس؟ قال: لا، ولكن هذا خالد بن الوليد. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة بين يديه في كتيبة الأنصار، فقال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة. ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة الإيمان من المهاجرين والأنصار.
فلما رأى أبو سفيان وجوها كثيرة لا يعرفها قال: يا رسول الله، اخترت هذه الوجوه على قومك؟ قال: "أنت فعلت ذلك وقومك. إن هؤلاء صدقوني إذ كذبتموني، ونصروني، إذ أخرجتموني"، ومع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ الأقرع بن حابس، وعباس بن مرداس، وعيينة بن بدر، فلما أبصرهم حول النبي صلى الله عليه وسلم قال: من هؤلاء يا عباس؟ قال: هذه كتيبة النبي صلى الله عليه وسلم، ومع هذه الموت الأحمر، هؤلاء المهاجرون والأنصار. قال:(سيرة 2/162)
امض يا عباس، فلما أر كاليوم جنود قط ولا جماعة، وسار الزبير بالناس حتى إذا وقف بالحجون، واندفع خالد حتى دخل من أسفل مكة. فلقيته بنو بكر فقاتلهم فهزمهم، وقتل منهم قريبا من عشرين، ومن هذيل ثلاثة أو أربعة، وهزموا وقتلوا بالحزورة، حتى دخلوا الدور، وارتفعت طائفة منهم على الجبل على الخندمة، واتبعهم المسلمون بالسيوف.
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخريات الناس، ونادى مناد: من أغلق عليه داره وكف يده فإنه آمن. وكان النبي صلى الله عليه وسلم نازلًا بذي طوى، فقال: "كيف قال حسان"؟ فقال رجل من أصحابه: قال:
عدمت بنيتي إن لم تروها ... تثير النقع من كنفي كداء
فأمرهم فأدخلوا الخيل من حيث قال حسان. فأدخلت من ذي طوى من أسفل مكة.
واستحر القتل ببني بكر. فأحل الله له مكة ساعة من نهار، وذلك قوله -تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1، 2] ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أحلت الحرمة لأحد قبلي ولا بعدي، ولا أحلت لي إلا ساعة من نهار".
ونادى أبو سفيان بمكة: أسلموا تسلموا فكفهم الله عن عباس.
فأقبلت هند فأخذت بلحية أبي سفيان، ثم نادت: يا آل غالب اقتلوا الشيخ الأحمق.
قال: أرسلي لحيتى، فأقسم لئن أنت لم تسلمى لتضربن عنقك ويلك جاءنا بالحق ادخلي بيتك واسكتي.
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف سبعا على راحلته.
وفر صفوان بن أمية عامدا للبحر، وفر عكرمة عامدا لليمن، وأقبل عمير بن وهب إلى رسل الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله آمن صفوان فقد هرب، وقد خشيت أن يهلك نفسه، فأرسلني إليه بأمان فإنك قد آمنت(سيرة 2/163)
الأحمر والأسود، فقال: "أدركه فهو آمن". فطلبه عمير فأدركه ودعاه فقال: قد آمنك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال صفوان: والله لا أوقن لك حتى أرى علامة بأماني أعرفها. فرجع فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم برد حبرة كان معتجرا به حين دخل مكة، فأقبل به عمير، فقال صفوان: يا رسول الله، أعطيتني ما يقول هذا من الأمان؟ قال: "نعم". قال: اجعل لي شهرا، قال: "لك شهران، لعل الله أن يهديك".
واستأذنت أم حكيم بنت الحارث بن هشام وهي يومئذ مسلمة، وهي تحت عكرمة بن أبي جهل، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب زوجها، فأذن لها وآمنه، فخرجت بعبد لها رومي فأرادها عن نفسها، فلم تزل تمنيه وتقرب له حتى قدمت على ناس من عك فاستعانتهم عليه فأوثقوه، فأدركت زوجها ببعض تهامة وقد ركب في السفينة، فلما جلس فيها نادى باللات والعزى. فقال أصحاب السفينة: لا يجوز ههنا من دعاء بشيء إلا الله وحده مخلصا، فقال عكرمة: والله لئن كان في البحر، إنه لفي البر وحده، أقسم بالله لأرجعن إلى محمد، فرجع عكرمة مع امرأته، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعه، وقبل منه.
ودخل رجل من هذيل على امرأته، فلامته وعيرته بالفرار، فقال:
وأنت لو رأيتنا بالخندمه ... إذ فر صفوان وفر عكرمه
قد لحقتهم بالسيوف المسلمه ... يقطعن كل ساعد وجمجمه
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
وكان دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة في رمضان، واستعار النبي صلى الله عليه وسلم من صفوان فأعطاه فيما زعموا مائة درع وأداتها، وكان أكثر شيء سلاحا.
وأقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بضع عشرة ليلة.(سيرة 2/164)
وقال ابن إسحاق: مضى النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل مر الظهران في عشرة آلاف، فسبعت سليم، وبعهضم يقول: ألفت، وألفت مزينة. ولم يتخلف أحد من المهاجرين والأنصار.
وقد كان العباس لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق. قال عبد الملك بن هشام: لقيه بالجحفة مهاجرًا بعياله.
قال ابن إسحاق: وقد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة؛ قد لقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنيق العقاب -فيما بين مكة والمدينة- فالتسما الدخول عليه، فكلمته أم سليم فيهما، فقالت: يا رسول الله ابن عمك وابن عمتك وصهرك. قال: "لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي فهو الذي قال لي بمكة ما قال".
فلما بلغهما قوله قال أبو سفيان: والله ليأذنن لي أو لآخذن بيد بني هذا ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشا وجوعا. فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لهما، وأذن لهما، فدخلا وأسلما، وقال أبو سفيان:
لعمرك إني يوم أحمل راية ... لتغلب خيل اللات خيل محمد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله ... فهذا أواني حين أهدى وأهتدي
هداني هاد غير نفسي ونالني ... مع الله من طردت كل مطرد
أصد وأنأى جاهدا عن محمد ... وأدعى وإن لم أنتسب من محمد
فذكروا أنه حين أنشد النبي صلى الله عليه وسلم هذه ضرب في صدره، وقال: "أنت طردتنى كل مطرد"!
وقال سعيد بن عبد العزيز، عن عطية بن قيس، عن أبي سعيد(سيرة 2/165)
الخدري، قال: خرجنا
لغزوة فتح مكة لليلتين خلتا من شهر رمضان صواما، فلما كنا بالكديد، أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفطر.
وقال الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام في مخرجه ذلك حتى بلغ الكديد فأفطر وأفطر الناس. أخرجه البخاري.
وقال الأوزاعي: حدثنا يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو سلمة، قال: دخل أبو بكر وعمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران، وهو يتغدى فقال: "الغداء" فقالا: إنا صائمان، فقال: "اعملوا لصاحبيكم، ارحلوا لصاحبيكم، كلا، كلا". مرسل. وقوله هذا مقدر بالقول يعني: يقال هذا لكونكما صائمين.
وقال معمر: سمعت الزهري يقول: أخبرني عبيد الله، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في رمضان من المدينة ومعه عشرة آلاف، وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة، فسار بمن معه من المسلمين إلى مكة، يصوم ويصومون، حتى بلغ الكديد؛ وهو بين عسفان وقديد؛ فأفطر، وأفطر الناس.
قال الزهري: وكان الفطر آخر الأمرين. وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الزهري: فصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة لثلاث عشرة ليلة خلت من(سيرة 2/166)
رمضان. أخرجه البخاري، ومسلم دون قول الزهري. وكذا ورخه يونس عن الزهري.
وقال عبد الله بن إدريس، عن ابن إسحاق، عن ابن شهاب، ومحمد بن علي بن الحسين، وعمرو بن شعيب، وعاصم بن عمر وغيرهم، قالوا: كان فتح مكة في عشر بقين من رمضان.
وقال الواقدي: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان بعد العصر، فما حل عقدة حتى انتهى إلى الصلصل. وخرج المسلمون وقادوا الخيل وامتطوا الإبل. وكانوا عشرة آلاف.
وذكر عروة وموسى بن عقبة أنه صلى الله عليه وسلم خرج في اثني عشر ألفا.
وقال ابن إدريس، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه العباس بأبي سفيان فأسلم بمر الظهران. فقال: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فلو جعلت له شيئا؟ قال: "نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن".
زاد فيه الثقة، عن ابن إسحاق قال: ناده، فقال أبو سفيان: وما تسع داري؟ قال: "من دخل الكعبة فهو آمن"، قال: وما تسع الكعبة؟ قال: "من دخل المسجد فهو آمن". قال: وما يسع المسجد؟ قال: "من أغلق بابه فهو آمن". فقال: هذه واسعة.
وقال حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، قال: فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران، قال العباس وقد خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من(سيرة 2/167)
المدينة: يا صباح قريش، والله لئن بغتها رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، وقال: أخرج إلى الأراك لعلي أرى حطابا أو صاحب لبن، أو داخلا يدخل مكة، فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتوه فيستأمنوه، فخرجت فوالله إني لأطوف بالأراك إذ سمعت صوت أبي سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء وقد خرجوا يتجسسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعت صوت أبي سفيان وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط نيرانا، فقال بديل: هذه نيران خزاعة حمشتها الحرب، فقال أبو سفيان: خزاعة ألأم من ذلك وأذل.
فعرفت صوته، فقلت: يا أبا حنظلة، فقال: أبو الفضل؟ قلت: نعم. فقال: لبيك، فداك أبي وأمي، ما وراءك؟ قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس قد دلف إليكم بما لا قبل لكم به في عشرة آلاف من المسلمين. قال: فكيف الحيلة، فداك أبي وأمي؟ فقلت: تركب في عجز هذه البغلة، فأستأمن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك. فردفني فخرجت أركض به نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلما مررت بنار من نيران المسلمين نظروا إلي وقالوا: عم رسول الله على بغلة رسول الله. حتى مررت بنار عمر فقال: أبو سفيان؟! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عهد ولا عقد. ثم اشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وركضت البغلة حتى اقتحمت باب القبة وسبقت عمر بما تسبق به الدابة البطيئة الرجل البطيء.
ودخل عمر، فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان عدو الله، قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد، فدعني أضرب عنقه. فقلت: يا رسول الله، إني قد آمنته. ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه وقلت: والله لا يناجيه الليلة أحد دوني. فلما أكثر فيه عمر، قلت: مهلا يا عمر،(سيرة 2/168)
فوالله ما تصنع هذا إلا؛ لأنه رجل من بني عبد مناف، ولو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا. مهلا يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما ذاك إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب به فقد آمناه، حتى تغدو به علي الغداة"، فرجع به العباس إلى منزله.
فلما أصبح غدا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ويحك يا أبا
"سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إلا الله"؟ فقال: بأبي وأمي ما أوصلك وأكرمك، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئا بعد. فقال: "ويحك أولم يأن لك أن تعلم أني رسول الله"؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أوصلك وأحلمك وأكرمك، أما هذه فإن في النفس منها شيئا. قال العباس: فقلت: ويلك تشهد شهادة الحق قبل، والله، أن تضرب عنقك. فتشهد.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تشهد: "انصرف به يا عباس فاحبسه عند حطم الجبل بمضيق الوادي، حتى تمر عليه جنود الله".
فقلت له: إن أبا سفيان يا رسول الله رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئا يكون له في قومك. فقال: " نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن". فخرجت به حتى حبسته عند حطم الجبل بمضيق الوادي، فمرت عليه القبائل، فيقول: من هؤلاء يا عباس؟ فأقول: سليم. فيقول: ما لي ولسليم. وتمر به القبيلة فيقول: من هذه؟ فأقول: أسلم. فيقول ما لي ولأسلم. وتمر جهينة. حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار، في الحديد، لا يرى منهم إلا الحدق. فقال يا أبا الفضل من هؤلاء؟ فقلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، فقال:(سيرة 2/169)
يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما. فقلت: ويحك، إنها النبوة. قال: فنعم إذن.
قلت: الحق الآن بقومك فحذرهم. فخرج سريعا حتى جاء مكة، فصرخ في المسجد: يا معشر قريش؛ هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به. فقالوا: فمه؟ قال: "من دخل داري فهو آمن". قالوا: وما دارك، وما تغني عنا؟ قال: "من دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق داره عليه فهو آمن".
هكذا رواه بهذا اللفظ ابن إسحاق، عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة، عن ابن عباس موصولا، وأما أيوب السختياني فأرسله. وقد رواه ابن إدريس، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس بمعناه.
وقال عروة: أخبرني نافع بن جبير بن مطعم، قال: سمعت العباس يقول للزبير: يا أبا عبد الله، ههنا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز الراية. قال: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل مكة من كداء. ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من كداء، فقتل من خيل خالد يومئذ رجلان: جيش بن الأشعر، وكرز بن جابر الفهري.
وقال الزهري، وغيره: أخفى الله مسير النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مكة، حتى نزل بمر الظهران.
وفي مغازيه موسى بن عقبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخالد بن الوليد: "لم قاتلت، وقد نهيتك
"عن القتال"؟ قال: هم بدؤونا بالقتال ووضعوا فينا السلاح وأشعرونا بالنبل، وقد كففت يدي ما استطعت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قضاء الله خير".(سيرة 2/170)
ويقال: قال أبو بكر يومئذ: يا رسول الله أراني في المنام وأراك دنونا من مكة، فخرجت إلينا كلبة تهر، فلما دنونا منه استلقت على ظهرها، فإذا هي تشخب لبنا. فقال: "ذهب كلبهم وأقبل درهم، وهم سائلوكم بأرحامكم وإنكم لاقون بعضهم، فإن لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه". فلقوا أبا سفيان وحكيما بمر.
وقال حسان:
عدمت بنيتي إن لم تروها ... تثير النقع موعدها كداء
ينازعن الأعنة مصحبات ... تلطمهن بالخمر النساء
فإن أعرضتم عنا اعتمرنا ... وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لجلاد يوم ... يعز الله فيه من يشاء
وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاء
هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء
لساني صارم لا عيب فيه ... وبحري ما تكدره الدلاء
فذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم إلى أبي بكر حين رأى النساء يلطمن الخيل بالخمر؛ أي: ينفضن الغبار عن الخيل.
وقال الليث: حدثني خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن عمارة بن غزية، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اهجوا قريشا فإنه أشد عليها من رشق النبل". وأرسل إلى ابن رواحة فقال: "اهجهم". فلما فهجاهم فلم يرض، فأرسل إلى كعب بن مالك، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت. فلما دخل قال: "(سيرة 2/171)
قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه". ثم أدلع لسانه فجعل يحركه، فقال: والذي بعثك بالحق لأفرينهم فري الأديم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعجل فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها وإن لي فيهم نسبا، حتى يخلق لك نسبي". فأتاه حسان ثم رجع فقال: يا رسول الله قد أخلص لي نسبك، فوالذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين.
قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول لحسان: "إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله". وقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هجاهم حسان فشفى وأشفى". وذكر الأبيات، وزاد فيها:
هجوت محمدا برا حنيفا ... رسول الله شيمته الوفاء
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
فإن أعرضتم عنا اعتمرنا ... وكان الفتح وانكشف الغطاء
وقال الله: قد أرسلت عبدا ... يقول الحق ليس به خفاء
وقال الله: قد سيرت جندا ... هم الأنصار عرضتها اللقاء
لنا في كل يوم من معد ... سباب أو قتال أو هجاء
أخرجه مسلم.
وقال سليمان بن المغيرة وغيره: حدثنا ثابت البناني، عن عبد الله بن رباح قال: وفدنا إلى معاوية ومعنا أبو هريرة، وكان بعضنا يصنع لبعض الطعام. وكان أبو هريرة ممن يصنع لنا فيكثر، فيدعو إلى رحله. قلت:(سيرة 2/172)
لو أمرت بطعام فصنع ودعوتهم إلى رحلي، ففلعت.
ولقيت أبا هريرة بالعشي فقلت: الدعوة عندي الليلة. فقال: سبقتني يا أخا الأنصار. قال: فإنهم لعندي إذ قال أبو هريرة: ألا أعلمكم بحديث من حديثكم يا معشر الأنصار؟ فذكر فتح مكة. وقال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد على إحدى المجنبتين، وبعث الزبير على المجنبة الأخرى، وبعث أبا عبيدة على الحسر؟ ثم رآني فقال: "يا أبا هريرة". قلت: لبيك وسعديك يا رسول الله. قال: "اهتف لي بالأنصار ولا تأتني إلا بأنصاري". قال: ففعلته. ثم قال: "انظروا قريشا وأوباشهم فاحصدوهم حصدا".
فانطلقنا فما أحد منهم يوجه إلينا شيئا، وما منا أحد يريد أحدا منهم إلا أخذه. وجاء أبو سفيان، فقال: يا رسول الله: أبيدت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن". فألقوا سلاحهم.
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدأ بالحجر فاستلمه، ثم طاف سبعا وصلى خلف المقام ركعتين.
ثم جاء ومعه القوس آخذ بسيتها، فجعل يطعن بها في عين صنم من أصنامهم، وهو يقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81] ، ثم انطلق حتى أتى الصفا، فعلا منه حتى يرى البيت، وجعل يحمد الله ويدعوه، والأنصار عنده يقولون: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته. وجاء الوحي، وكان الوحي، إذا جاء لم يخف علينا. فلما أن رفع الوحي،(سيرة 2/173)
قال: "يا معشر الأنصار قلتم كذا وكذا، فما اسمي إذا؟ كلا، إني عبد الله ورسوله. المحيا محياكم والممات مماتكم". فأقبلوا يبكون وقالوا: يا رسول الله ما قلت إلا الضن بالله وبرسوله. فقال: "إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم".
أخرجه مسلم، وعنده: "كلا إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم".
وفي الحديث دلالة على الإذن بالقتل قبل عقد الأمان.
وقال سلام بن مسكين: حدثني ثابت البناني، عن عبد الله بن بارح، عن أبي هريرة، قال: ما قتل يوم الفتح إلا أربعة. ثم دخل صناديد قريش الكعبة وهم يظنون أن السيف لا يرفع عنهم. ثم طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى ثم أتى الكعبة فأخذ بعضادتي الباب، فقال: "ما تقولون وما تظنون"؟ قالوا: نقول: ابن أخ وابن عم حليم رحيم". فقال: "أقول كما قال يوسف: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} [يوسف: 92] ". قال: فخرجوا كما نشروا من القبور، فدخلوا في الإسلام.
وقال عروة، عن عائشة: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح من كداء من أعلى مكة.
وقال عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح رأى النساء يلطمن وجوه الخيل بالخمر، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر، وقال: "كيف قال حسان"؟ فأنشده أبو بكر:
عدمت بنيتي إن لم تروها ... تثير النقع من كنفي كداء
ينازعن الأعنة مسرجات ... يلطمهن بالخمر النساء(سيرة 2/174)
فقال: "ادخلوا من حيث قال حسان".
وقال الزهري: عن أنس، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح مكة وعلى رأسه، المغفر، فلما وضعه جاء رجل فقال: هذا ابن خطل متعلق بأستار الكعبة. فقال: "اقتلوه". متفق عليه.
وكان صلى الله عليه وسلم قد أهدر دم ابن خطل وثلاثة غيره.
وقال منصور بن أبي مزاحم: حدثنا أبو معشر، عن يوسف بن يعقوب، عن السائب بن يزيد، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قتل عبد الله بن خطل يوم أخرجوه من تحت الأستار، فضرب عنقه بين زمزم والمقام، ثم قال: "لا يقتل قرشي بعدها صبرا".
وقال معاوية بن عمار الدهني، عن أبي الزبير، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء بغير إحرام، أخرجه مسلم.
وفي مسند الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح وعليه عمامة سوداء.
وقال مساور الوراق: سمعت جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه، قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وعليه عمامة سوداء حرقانية، قد أرخى طرفها بين كتفيه. أخرجه مسلم.
وقال ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، أن عائشة قالت: كان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أبيض، ورايته سوداء؛ قطعه مرط لي مرحل، وكانت الراية تسمى العقاب.(سيرة 2/175)
قال عبد الله بن أبي بكر، لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي طوى ورأى ما أكرمه الله به من الفتح جعل يتواضع لله حتى إنك لتقول: قد كاد عثنونه أن يصيب واسطة الرحل.
وقال ثابت، عن أنس: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وذقنه على رحله متخشعا.
حديث صحيح.
وقال شعبة، عن معاوية بن قرة، سمع عبد الله بن مغفل، قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح سورة الفتح وهوعلى بعير، فرجع فيها. ثم قرأ معاوية يحكي قراءة ابن مغفل عن
النبي صلى الله عليه وسلم فرجع وقال: لولا أن يجتمع الناس لرجعت كما رجع ابن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم متفق عليه، ولفظه للبخاري.
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله بن مسعود، قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، وحول الكعبة ثلاثة مائة وستون نصبا، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49] ، {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81] ، متفق عليه.
وقال ابن إسحاق: حدثنا عبد الله بن أبي بكر، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وعلى الكعبة ثلاث مائة صنم، فأخذ قضيبه فجعل يهوي به إلى صنم صنم، وهو يهوي حتى مر عليها كلها. حديث حسن.
وقال القاسم بن عبد الله العمري -وهو ضعيف- عن عبد الله دينار، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة وجد بها ثلاث مائة(سيرة 2/176)
وستين صنما. فأشار إلى كل صنم بعصا من غير أن يسمها، وقال: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81] ، فكان لا يشير إلى صنم إلا سقط.
وقال عبد الوارث، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة، أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت، فأخرج صورة إبراهيم وإسماعيل وفي أيديهما الأزلام، فقال: "قاتلهم الله، أما والله قد علموا أنهما لم يستقسما بها قط".
ودخل البيت وكبر في نواحيه. أخرجه البخاري.
وقال معمر، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصور في البيت لم يدخله حتى أمر بها فمحيت. ورأى إبراهيم وإسماعيل بأيديهما الأزلام، فقال: "قاتلهم الله، والله ما استقسما بها قط". صحيح.
وروى أبو الزبير، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدخل البيت حتى محيت الصور. صحيح.
وقال هوذة: حدثنا عوف الأعرابي، عن رجل، قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، شيبة بن عثمان فأعطاه المفتاح، وقال له: "دونك هذا، فأنت أمين الله على بيته".
قال الواقدي: هذا غلط، إنما أعطى المفتاح عثمان بن طلحة؛ ابن(سيرة 2/177)
عم شيبة؛ يوم الفتح، وشيبة يومئذ كافر. ولم يزل عثمان على البيت حتى مات ثم ولي شيبة.
قلت: قول الواقدي: لم يزل عثمان على البيت حتى مات، فيه نظر، فإن أراد لم يزل منفردا بالحجابة، فلا نسلم، وإن أراد مشاركا لشيبة، فقريب، فإن شيبة كان حاجبا في خلافة عمر. ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم ولى الحجابة لشيبة لم أسلم، وكان إسلامه عام الفتح، لا يوم الفتح.
وقال محمد بن حمران: حدثنا أبو بشر، عن مسافع بن شيبة، عن أبيه، قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة يصلي، فإذا فيها تصاوير، فقال: "يا شيبة، اكفني هذه". فاشتد ذلك عليه.
فقال له رجل: طينها ثم الطخها بزعفران. ففعل.
تفرد بن محمد، وهو مقارب الأمر.
وقال يونس، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفا أسامة، ومعه بلال وعثمان بن طلحة، من الحجبة، حتى أناخ في المسجد، فأمر عثمان أن يأتي بمفتاح البيت، ففتح ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أسامة وبلال وعثمان، فمكث فيها نهارا طويلا، ثم خرج فاستبق الناس، وكان عبد الله بن عمر أول من دخل، فوجد بلالا وراء الباب، فسأله: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأشار إلى المكان الذي صلى فيه.
قال ابن عمر: فنسيت أن أسأله: كم صلى من سجدة؟. صحيح. علقه البخاري محتجا به.
وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن صفية بنت شيبة، قالت: لما اطمأن رسول(سيرة 2/178)
الله صلى الله عليه وسلم بمكة، طاف على بعيره، يستلم "الحجر" بالمحجن. ثم دخل الكعبة فوجد حمامة عيدان فاكتسرها، ثم قال بها على باب الكعبة -وأنا أنظر- فرمى بها.
وذكر أسباط، عن السدي، عن مصعب بن سعد، عن أبيه، قال: لما كان يوم فتح مكة، آمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، إلا أربعة نفر وامرأتين، وقال: "اقتلوهم، وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح". فأما ابن خطل فأدرك وهو متعلق بالأستار، فاستبق إليه سعيد بن
حريث وعمار بن ياسر، فسبق سعيد عمارا، فقتله. وأما مقيس فقتلوه في السوق. وأما عكرمة فركب البحر، وذكر قصته، ثم أسلم، وأما ابن أبي سرح فاختبأ عند عثمان، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، جاء به عثمان حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، بايع عبد الله. فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث. ثم أقبل على أصحابه فقال: "أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا، حيث رآني كففت، فيقتله"؟. قالوا: ما يدرينا يا رسول الله، ما في نفسك، هلا أومأت إلينا بعينك؟ قال: "إنه لا ينبغي أن يكون لنبي خائنة الأعين".
وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، قال: قدم مقيس بن صبابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد أظهر الإسلام، يطلب بدم أخيه هشام، وكان قتله رجل من المسلمين يوم بني المصطلق ولا يحسبه(سيرة 2/179)
إلا مشركا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما قتل أخوك خطأ". وأمر له بديته، فأخذها، فمكث مع المسلمين شيئا، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ولحق بمكة كافرا.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم -عام الفتح- بقتله، فقتله رجل من قومه يقال له: نميلة بن عبد الله؛ بين الصفا والمروة.
وحدثني عبد الله بن أبي بكر، وأبو عبيدة بن محمد بن عمار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمر بقتل ابن أبي سرح؛ لأنه كان قد أسلم، وكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فرجع مشركا ولحق بمكة.
قال ابن إسحاق: وإنما أمر بقتل عبد الله بن خطل؛ أحد بني تميم بن غالب؛ لأنه كان مسلما، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا، وبعث معه رجلا من الأنصار، وكان معه مولى يخدمه وكان مسلمًا. فنزلا منزلا، فأمر المولى أن يذبح تيسا ويصنع له طعامًا، ونام فاستيقظ ولم يصنع له شيئا فقتله وارتد. وكان له قينة وصاحبتها تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بقتلهما معه، وكان ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال يعقوب القمي: حدثنا جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن أبزى، قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، جاءت عجوز حبشية شمطاء تخمش وجهها وتدعو بالويل. فقيل: يا رسول الله، رأينا كذا وكذا. فقال: "تلك نائلة أيست أن تعبد ببلدكم هذا أبدا". كأنه منقطع.
وقال يونس بن بكير، عن زكريا، عن الشعبي، عن الحارث بن ملك؛ هو ابن برصاء؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح يقول: "لا تغزى مكة بعد اليوم أبدا إلى يوم القيامة".(سيرة 2/180)
وقال محمد بن فضيل: حدثنا الوليد بن جميع، عن أبي الطفيل، قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، بعث خالد بن الوليد إلى نخلة، وكانت بها العزى، فأتاها خالد وكانت على ثلاث سمرات، فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: "ارجع، فإنك لم تصنع شيئا". فرجع خالد، فلما نظرت إليه السدنة؛ وهم حجابها؛ أمعنوا في الجبل وهم يقولون: يا عزى خبليه، يا عزى عوريه، وإلا فموتي برغم. فأتاها خالد، فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها، فعممها بالسيف حتى قتلها.
ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: "تلك العزى". أبو الطفيل له رؤية.
وقال ابن إسحاق: حدثني أبي، قال: حدثني بعض آل جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة، أمر بلالا فعلا على ظهر الكعبة، فأذن عليها، فقال بعض بني سعيد بن العاص: لقد أكرم الله سعيدا قبل أن يرى هذا الأسود على ظهر الكعبة.
وقال عروة: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا يوم الفتح فأذن على الكعبة.
وقال الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سعيد بن أبي هند: أن أبا مرة مولى عقيل حدثه، أن أم هانئ بنت أبي طالب حدثته؛ أنه لما كان عام الفتح فر إليها رجلان من بني مخزوم، فأجارتهما. قالت: فدخل علي علي، فقال: أقتلهما. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بأعلى مكة، فلما رآني رحب بي، فقال: "ما جاء بك يا أم هانئ"؟ قالت: يا نبي الله، كنت قد أمنت رجلين من أحمائي فأراد علي قلتهما. فقال: "قد أجرنا من أجرت". ثم قام إلى غسله، فسترت عليه فاطمة. ثم أخذ ثوبا(سيرة 2/181)
فالتحف به ثم صلى ثمان ركعات؛ سبحة الضحى.
أخرجه مسلم.
وقال الليث، عن المقبري، عن أبي شريح العدوي، أنه قال لعمرو بن سعيد، وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير، أحدث قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح؟ سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به؛ أنه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها، فقولوا له: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار. وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس. فليبلغ الشاهد الغائب". فقيل لأبي شريح: ماذا قال لك عمرو؟ قال: قال: أنا أعلم بذاك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة. متفق عليه.
وقال ابن عيينة، عن علي بن زيد، عمن حدثه عن ابن عمر، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة وهو على درجة الكعبة: "الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ألا إن قتيل العمد الخطأ بالسوط أو العصا فيه مائة من الإبل، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها. ألا إن كل مأثرة في الجاهلية ودم مال تحت قدمي هاتين إلا ما كان من سدانة البيت وسقاية الحاج، فقد أنضيتها لأهلها". ضعيف الإسناد.
وقال ابن إسحاق: حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده،(سيرة 2/182)
قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عام الفتح، ثم قال: "أيها الناس؛ ألا إنه لا حلف في الإسلام، وما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لا يزيده إلا شدة. والمؤمنون يد على من سواهم، يجير عليهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، ترد سراياهم على قعيدتهم. لا يقتل مؤمن بكافر. 8 دية الكافر نصف دية المسلم. لا جلب ولا جنب. ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم".
وقال أبوالزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "منزلنا، إن شاء الله إذا فتح الله، الخيف؛ حيث تقاسموا على الكفر". أخرجه البخاري.
وقال أبو الأزهر النيسابوري: حدثنا محمد بن شرحبيل الأبناوي، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرنا عبد الله بن عثمان، أن محمد بن الأسود بن خلف، أخبره أن أباه الأسود حضر النبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس يوم الفتح، وجلس عند قرن مستقلة، فجاءه الصغار والكبار والرجال والنساء فبايعوه على الإسلام والشهادة.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله، عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: لما كان عام الفتح ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا طوى، قال أبو قحافة لابنة له كانت من أصغر ولده: أي بنية: أشرفي بي على أبي قبيس، وقد كف بصره. فأشرفت به عليه. فقال: ماذا ترين؟ قالت: أرى سوادًا مجتمعا، وأرى رجلا يشتد بين ذلك السواد مقبلا ومدبرا. فقال: تلك الخيل يا بنية، وذلك الرجل(سيرة 2/183)
الوازع. ثم قال: ماذا ترين؟ قالت: أرى السواد انتشر. فقال: فقد والله إذن دفعت الخيل، فأسرعي بي إلى بيتي. فخرجت سريعا، حتى إذا هبطت به إلى الأبطح، لقيتها الخيل، وفي عنقها طول لها من روق، فاقتطعه إنسان من عنقها. فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، خرج أبو بكر حتى جاء بأبيه يقوده، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هلا تركت الشيخ في بيته حتى أجيئه"؟ فقال: يمشي هو إليك يا رسول الله أحق من أن تمشي إليه. فأجلسه بين يديه ثم مسح صدره وقال: "أسلم تسلم".
فأسلم. ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته فقال: أنشد بالله والإسلام طوق أختي. فوالله ما أجابه
أحد، ثم قال الثانية، فما أجابه أحد، فقال: يا أخيه، احتسبي طوقك، فوالله إن الأمانة اليوم في الناس لقليل.
وقال أبو الزبير، عن جابر: أن عمر أخذ بيد أبي قحافة فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "غيروا هذا الشيب ولا تقربوه سوادًا".
وقال زيد بن أسلم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هنأ أبا بكر بإسلام أبيه. مرسل.
وقال مالك: عن ابن شهاب: أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على عهده نساء يسلمن بأرضهن، منهن ابنة الوليد بن المغيرة، وكانت تحت صفوان بن أمية، فأسلمت يوم الفتح وهرب صفوان، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمه عمير بن وهب برداء رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانًا لصفوان، ودعاه إلى الإسلام، وأن يقدم عليه، فإن رضي أمرا قبله، وإلا سيره شهرين. فقدم فنادى على رؤوس الناس: يا محمد، هذا عمير بن وهب جاءني بردائك وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك، فإن رضيت أمرا قبلته،(سيرة 2/184)
وإلا سيرتني شهرين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انزل أبا وهب". فقال: لا والله، لا أنزل حتى تبين لي. فقال: لك تسيير أربعة أشهر. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هوازن، فأرسل إلى صفوان يستعيره أداة وسلاحا. فقال صفوان: أطوعا أو كرها؟ فقال: بل طوعا. فأعاره الأداة والسلاح. وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كافر، فشهد حنينا والطائف، وهو كافر وامرأته مسلمة، فلم يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما حتى أسلم، واستقرت عنده بذلك النكاح، وكان بين إسلامهما نحو من شهر.
وكانت أم حكيم بنت الحارث بن هشام تحت عكرمة بن أبي جهل، فأسلمت يوم الفتح، وهرب عكرمة حتى قدم اليمن، فارتحلت أم حكيم حتى قدمت عليه باليمن ودعته إلى الإسلام فأسلم. وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه وثب فرحا به، ورمى عليه رداءه حتى بايعه، فثبتا على نكاحهما ذلك.
وقال الواقدي: حدثني عبد الله بن يزيد الهذلي، عن أبي حصين الهذلي، قال: استقرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية خمسين ألف درهم، ومن عبد الله بن أبي ربيعة أربعين ألفا، ومن حويطب بن عبد العزى أربعين ألفا، فقسمها بين أصحابه من أهل الضعف. ومن ذلك المال بعث إلى جذيمة.
وقال يونس: عن ابن شهاب، حدثني عروة، قال: قالت عائشة: إن هند بنت عتبة بن ربيعة، قالت: يا رسول الله، ما كان مما على ظهر الأرض أخباء أو خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من أهل(سيرة 2/185)
خبائك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأيضا، والذي نفس محمد بيده". قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل ممسك -أبو قالت: مسيك- فهل على من خرج أن أطعم من الذي له؟ قال: "لا، إلا بالمعروف". أخرجه البخاري.
وأخرجاه، من حديث شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري. وعنده: فهل علي حرج أن أطعم من الذي له عيالنا. قال: "لا عليك أن تطعميهم بالمعروف".
وقال الفريابي: حدثنا يونس، عن ابن إسحاق، عن أبي السفر، عن ابن عباس، قال: رأى أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي والناس يطأون عقبه. فقال في نفسه: لو عاودت هذا الرجل القتال. فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ضرب في صدره، فقال: "إذا يخزيك الله". قال: أتوب إلى الله وأستغفر الله.
وروى نحوه، مرسلا، أبو إسحاق السبيعي، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم.
وقال موسى بن أعين، عن إسحاق بن راشد، عن الزهري، عن ابن المسيب، قال: لما كان ليلة دخل الناس مكة، لم يزالوا في تكبير وتهليل وطواف بالبيت حتى أصبحوا. فقال أبو سفيان لهند: أترى هذا من الله؟ ثم أصبح فغدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: "قلت لهند أترين هذا من الله، نعم هذا من الله". فقال: أشهد أنك عبد الله ورسوله، والذي يحلف به أبو سفيان، ما سمع قولي هذا أحد من الناس إلا الله وهند.(سيرة 2/186)
وقال ابن المبارك: أخبرنا عاصم الأحول، عن عكرمة، عن ابن عباس: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوما، يصلي ركعتين. أخرجه البخاري.
وقال حفص بن غياث، بن عاصم الأحول: سبعة عشر يوما. صحيح.
وقال ابن علية: أخبرنا علي بن زيد، عن أبي نضرة، عن عمران بن حصين: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين، يقول: يا أهل البلد صلوا أربعا، فإنا سفر. أخرجه أبو داود، علي ضعيف.
وقال ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة.
ثم روى ابن إسحاق، عن جماعة، مثل هذا.
قال البيهقي: الأصح رواية ابن المبارك التى اعتمدها البخاري.
وقال الواقدي: وفي رمضان بعثة خالد بن الوليد إلى العزى، فهدمها. وبعث عمرو بن العاص إلى سواع في رمضان، وهو صنم هذيل، فهدمه، وقال: قلت للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله.
قال: وفي رمضان بعث سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة، وكانت بالمشلل، للأوس والخزرج وغسان. فلما كان يوم الفتح بعث رسول الله(سيرة 2/187)
صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد الأشهلى في عشرين فارسا حتى انتهى إليها، وتخرج إلى سعد امرأة سوداء عريانة ثائرة الرأس تدعو بالوبل، فقال لها السادن: مناة، دونك بعض غضباتك. وسعد يضربها، فقتلها، وأقبل إلى الصنم، فهدموه لست بقين من رمضان.
وقال منصور، عن مجاهد، عن طاووس، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإن استنفرتم فانفروا". قاله يوم الفتح. متفق عليه.
وقال عمرو بن مرة: سمعت أبا البختري يحدث عن أبي سعيد الخدري، قال: لما نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] ، قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "إني وأصحابي حيز والناس حيز، لا هجرة بعد الفتح". فحدثت به مروان بن الحكم -وكان على المدينة- فقال: كذبت. وعنده زيد بن ثابت، ورافع بن خديج، وكانا معه على السرير. فقلت: إن هذين لو شاءا لحدثاك، ولكن هذا؛ يعني زيدا؛ يخاف أن تنزعه عن الصدقة، والآخر يخاف أن تنزعه عن عرافة فومه. قال: فشد عليه بالدرة، فلما رأيا ذلك قالا: صدق.
وقال حماد بن زيد، عن أيوب: حدثني أبو قلابة، عن عمرو بن سلمة، ثم قال: هو حي، ألا تلقاه فتسمع منه؟ فلقيت عمرا فحدثني بالحديث، قال: كنا بممر الناس، فتمر بنا الركبان فنسألهم: ما هذا الأمر؟ وما للناس؟ فيقولون: نبي يزعم أن الله قد أرسله، وأن الله أوحى إليه كذا وكذا. وكانت العرب تلوم بإسلامها الفتح، ويقولون:(سيرة 2/188)
أنظروه، فإن ظهر فهو نبي فصدقوه، فلما كان وقعة الفتح نادى كل قوم بإسلامهم، فانطلق أبي بإسلام حوائنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم فأقام عنده كذا وكذا. ثم جاء فتلقيناه، فقال: جئتكم من عند رسول الله حقا، وإنه يأمركم بكذا، وصلاة كذا وكذا، وإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثرك قرآنا. فنظروا في أهل حوائنا فلم يجدوا أكثر قرآنا مني فقدموني، وأنا ابن سبع سنين، أو ست سنين. فكنت أصلي بهم، فإذا سجدت تقلصت بردة علي. تقول امرأة من الحي: غطوا عنا است قارئكم هذا. قال: فكسيت معقدة من معقد البحرين بستة دراهم أو بسبعة، فما فرحت بشيء كفرحي بذلك.
أخرجه البخاري، عن سليمان بن حرب، عنه، والله أعلم.
غزوة بني جذيمة:
قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم السرايا فيما حول مكة يدعوم إلى الله -تعالى- ولم يأمرهم بقتال. فكان ممن بعث، خالد بن الوليد، وأمره أن يسير بأسفل تهامة داعيا، ولم يبعثه مقاتلا، فوطئ بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، فأصاب منهم.
وقال معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى -أحسبه قال: - بني جذيمة، فدعاهم إلى(سيرة 2/189)
الإسلام. فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا، صبأنا. وجعل خالد بهم قتلا وأسرا، ودفع إلى كل رجل منا أسيره. حتى إذا أصبح يوما أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره. فقال ابن عمر: فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره. قال: فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له صنيع خالد. فقال؛ ورفع يديه صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد". مرتين. أخرجه البخاري.
وقال ابن إسحاق: حدثني حكيم بن حكيم بن عباد، بن حنيف، عن أبي جعفر محمد بن علي، قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد، فخرج حتى نزل ببني جذيمة، وهم على مائهم، وكانوا قد أصابوا في الجاهلية عمه الفاكه بن المغيرة، ووالد عبد
الرحمن بن عوف؛ فذكر الحديث، وفيه: فأمر خالد برجال منهم فأسروا وضربت أعناقهم.
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما عمل خالد بن الوليد". ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فقال: "اخرج إلى هؤلاء القوم، فأد دماءهم وأموالهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك". فخرج علي، وقد أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مالا، فودى لهم دماءهم وأموالهم، حتى إنه ليعطيهم ثمن ميلغة الكلب، فبقي مع علي بقية من مال، فقال: أعطيكم هذا احتياطا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما لا يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيما لا تعلمون.
فأعطاهم إياه، ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر، فقال: "أحسنت وأصبت".(سيرة 2/190)
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة، عن الزهري، قال: حدثني ابن أبي حدرد، عن أبيه، قال: كنت في الخيل التي أصاب فيها خالد بني جذيمة، إذا فتى منهم مجموعة يده إلى عنقة برمة -يقول: بحبل- فقال: يا فتى، هل أنت آخذ بهذه الرمة فمقدمي إلى هذه النسوة، حتى أقضي إليهن حاجة، ثم تصنعون ما بدا لكم؟
فقلت: ليسير ما سألت. ثم أخذت برمته فقدمته إليهن، قال: أسلم حبيش، على نفاد العيش، ثم قال:
أرأيت إن طالبتكم فوجدتكم ... بحلية أو أدركتكم بالخوانق
ألم يك حقا أن ينول عاشق ... تكلف إدلاج السرى والودائق
فلا ذنب لي، قد قلت، إذ أهلنا معا ... أثيبي بود قبل إحدى الصفائق
أثيبي بود قبل أن تشحط النوى ... وينأى الأمير بالحبيب المفارق
فإني لا سر لدي أضعته ... ولا راق عيني بعد وجهك رائق
على أن ما ناب العشيرة شاغل ... عن اللهو إلا أن تكون بوائق
فقالت: وأنت حييت عشرا، وسبعا وترا، وثمانيا تترى. ثم قدمناه فضربنا عنقه.
قال ابن إسحاق: فحدثنا أبو فراس الأسلمي، عن أشياخ من قومه قد شهدوا هذا مع خالد؛ قالوا: فلما قتل قامت إليه، فما زالت ترشفه حتى ماتت عليه.(سيرة 2/191)
غزوة حنين:
قال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر، عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، عن أبيه، وحدثني عمرو بن شعيب، والزهري، وعبد الله بن أبي بكر، عن حديث حنين، حين سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وساروا إليه. فبعضهم يحدث بما لا يحدث به بعض، وقد اجتمع حديثهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من فتح مكة، جمع عوف بن مالك النصري بني نصر وبني جشم وبني سعد بن بكر، وأوزاعا من بني هلال؛ وهم قليل؛ وناسا من بني عمرو بن عامر، وعوف بن عامر، وأوعبت معه ثقيف الأحلاف، وبنو مالك.
ثم شار بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وساق معه الأموال والنساء والأبناء، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، فقال: "اذهب فادخل في القوم، حتى تعلم لنا من علمهم". فدخل فيهم، فمكث فيهم يومًا أو اثنين. ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب: "ألا تسمع ما يقول ابن أبي حدرد"؟ فقال عمر: كذب. فقال ابن أبي حدرد: والله لئن كذبتني يا عمر لربما كذبت بالحق.
فقال عمر: ألا تسمع يا رسول الله ما يقول ابن أبي حدرد؟ فقال: "قد كنت يا عمر ضالا فهداك الله".
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صفوان بن أمية؛ فسأله أدراعا عنده؛ مائة درع، وما يصلحها من عدتها. فقال: أغصبا يا محمد؟ قال: بل عارية مضمونة. ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرا.(سيرة 2/192)
قال ابن إسحاق: حدثنا الزهري، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين في ألفين من مكة، وعشرة آلاف كانوا معه، فسار بهم.
وقال ابن إسحاق: واستعمل على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية.
وبالإسناد الأول: أن عوف بن مالك أقبل فيمن معه ممن جمع من قبائل قيس وثقيف، ومعه دريد بن الصمة؛ شيخ كبير في شجار له يقاد به، حتى نزل الناس بأوطاس. فقال دريد حين نزلوها فسمع رغاء البعير ونهيق الحمير ويعار الشاء وبكاء الصغير: بأي واد أنتم؟ فقالوا: بأوطاس. فقال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس، ولا سهل دهس، ما لي أسمع رغاء البعير وبكاء الصغير ويعار الشاء؟ قالوا: ساق مالك مع الناس أموالهم وذراريهم. قال: فأين هو؟ فدعي، فقال: يا مالك، إنك أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، فما دعاك إلى أن تسوق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم؟ قال: أردت أن أجعل
خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم. فأنفض به دريد وقال: يا راعي ضأن والله؛ وهل يرد وجه المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لا ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك، فارفع الأموال والنساء والذراري إلى عليا قومهم وممتنع بلادهم.
ثم قال دريد: وما فعلت كعب وكلاب؟ فقالوا: لم يحضرها منهم أحد. فقال فعلها: غاب الحد والجد، لو كان يوم(سيرة 2/193)
علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب ولوددت لو فعلتم فعلها، فمن حضرها؟ قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر، فقال: ذانك الجذعان لا يضران ولا ينفعان. فكره مالك أن يكون لدريد فيها رأى، فقال: إنك قد كبرت وكبر علمك، والله لتطيعن يا معشر هوازن، أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري فقالوا: أطعناك.
ثم قال مالك للناس: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم، ثم شدوا شدة رجل واحد.
وقال الواقدي: سار رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة لست خلون من شوال، في اثني عشر ألفا، فقال أبو بكر: لا نغلب اليوم من قلة. فانتهوا إلى حنين، لعشر خلون من شوال، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتعبئة، ووضع الألوية والرايات في أهلها، وركب بغلته ولبس درعين والمغفر والبيضة. فاستقبلهم من هوازن شيء لم يروا مثله من السواد والكثرة، وذلك في غبش الصبح. وخرجت الكتائب من مضيق الوادي وشعبه، فحملوا حملة واحدة، فانكشفت خيل بني سليم مولية، وتبعهم أهل مكة، وتبعهم الناس. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا أنصار الله، وأنصار رسوله، أنا عبد الله ورسوله". وثبت معه يومئذ: عمه العباس وابنه الفضل، وعلي بن أبي طالب، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأخوه ربيعة، وأبو بكر، وعمر، وأسامة بن زيد، وجماعة.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني أمية بن عبد الله بن عمرو(سيرة 2/194)
بن عثمان، أنه حدث أن مالك بن عوف بعث عيونا، فأتوه وقد تقطعت أوصالهم، فقال: ويلكم، ما شأنكم؟ فقالوا: أتانا رجال بيض على خيل بلق، فوالله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى. فلما رده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد. منقطع.
وعن الربيع بن أنس، أن رجلا قال: لن نغلب من قلة. فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، ونزلت {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} الآية [التوبة: 25] .
وقال معاوية بن سلام، عن زيد بن سلام، سمع أبا سلام يقول: حدثني السلولي، أنه حدثه سهل الحنظلية، أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فأطنبوا السير حتى كان عشية، فحضرت صلاة الظهر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فارس، فقال: يا رسول الله إني
انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم، بظعنهم ونعمهم وشائهم، اجتمعوا إلى حنين. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله"، ثم قال: من يحرسنا الليلة؟ قال أنس بن أبي مرثد الغنوي: أنا يا رسول الله. قال: فاركب فرسا له، رجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه، ولا نغرن من قبلك الليلة".
فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاة فركع ركعتين، ثم قال: "هل أحسستم فارسكم"؟ قالوا: يا رسول الله، لا. فثوب بالصلاة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويلتفت إلى الشعب، حتى إذا قضى صلاته وسلم قال: "أبشروا، فقد جاء فارسكم". فجعلنا ننظر إلى خلال الشجر في الشعب، فإذا هو قد جاء، حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحت اطلعت الشعبين، فنظرت فلم أر أحدا. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل نزلت الليلة"؟ قال: لا، إلا مصليا أو قاضي حاجة. فقال له رسول الله(سيرة 2/195)
صلى الله عليه وسلم: "قد أوجبت، فلا عليك أن لا تعمل بعدها". أخرجه أبو داود.
قال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر، عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، عن أبيه، قال: خرج مالك بن عوف بمن معه إلى حنين، فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، فأعدوا وتهيأوا في مضايق الوادي وأحنائه، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فانحط بهم في الوادي في عماية الصبح. فلما انحط الناس ثارت في وجوههم الخيل فشدت عليهم، وانكفأ الناس منهزمين لا يقبل أحد على أحد، وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين يقول: "أيها الناس، هلموا، إني أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله". فلا ينثني أحد، وركبت الإبل بعضها بعضا. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس، ومعه رهط من أهل بيته ورهط من المهاجرين، والعباس آخذ بحكمة بغلته البيضاء، وثبت معه علي، وأبو سفيان، وربيعة؛ ابنا الحارث، والفضل بن عباس، وأيمن بن أم أيمن، وأسامة، ومن المهاجرين أبو بكر وعمر. قال: ورجل من هوازن على جمل له أحمر بيده راية سوداء أمام هوازن، إذا أدرك الناس طعن برمحه، وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه فيتبعوه. فلما انهزم من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جفاة أهل مكة، تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحور. وإن الأزلام لمعه في كنانته.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر، قال: سار أبو(سيرة 2/196)
سفيان إلى حنين، وإنه ليظهر الإسلام، وإن الأزلام التي يستقسم بها في كنانته.
قال شيبة بن عثمان العبدري: اليوم أدرك ثأري -وكان أبوه قتل يوم أحد- اليوم أقتل محمدًا. قال: فأدرت برسول الله لأقتله، فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي، فلم أطلق، فعرفت أنه ممنوع.
وحدثني عاصم، عن عبد الرحمن، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى من الناس ما رأى قال: "يا عباس، اصرخ: يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة". فأجابوا: لبيك لبيك. فجعل الرجل منهم يذهب ليعطف بعيره، فلا يقدر على ذلك، فيقذف درعه من عنقه، ويؤم الصوت، حتى اجتمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مائة. فاستعرضوا الناس، فاقتتلوا. وكانت الدعوة أول ما كانت للأنصار، ثم جعلت آخرا بالخزرج، وكانوا صبرا عند الحرب، وأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركائبه؛ فنظر إلى مجتلد القوم فقال: "الآن حمي الوطيس". قال: فوالله ما رجعت راجعة الناس إلا والأسارى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقتل الله من قتل منهم، وانهزم من انهزم منهم، وأفاء الله على رسوله أموالهم ونساءهم وأبناءهم.
وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، وقاله موسى بن عقبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى حنين، فخرج معه أهل مكة، لم يتغادر منهم أحد، ركبانا ومشاة؛ حتى خرج النساء مشاة؛ ينظرون ويرجون الغنائم، ولا يكرهون الصدمة برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وقال ابن عقبة: جعل أبو سفيان كلما سقط ترس أو سيف من الصحابة، نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطونيه أحمله، حتى أوقر جمله".(سيرة 2/197)
قالا: فلما أصبح القوم، اعتزل أبو سفيان، وابنه معاوية، وصفوان بن أمية، وحكيم بن حزام، وراء تل، ينظرون لمن تكون الدبرة. وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبل الصفوف؛ فأمرهم، وحضهم على القتال. فبينا هم على ذلك حمل المشركون عليهم حملة رجل واحد، فولوا مدبرين. فقال حارثة بن النعمان: لقد حزرت من بقي مع رسول الله حين أدبر الناس فقلت مائة رجل. ومر رجل من قريش على صفوان، فقال: أبشر بهزيمة محمد وأصحابه، فوالله لا يجتبرونها أبدا. فقال: أتبشرني بظهور الأعراب؟ فوالله لرب من قريش أحب إلي من رب الأعراب. ثم بعث غلاما له فقال: اسمع لمن الشعار؟ فجاءه الغلام فقال: سمعتهم يقولون: يا بني عبد الرحمن، يا بني عبد الله، يا بني عبيد الله. فقال: ظهر محمد.
وكان ذلك شعارهم في الحرب. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما غشيه القتال قام في الركابين، ويقولون رفع يديه إلى الله -تعالى- يدعوه يقول: "اللهم إني أنشدك ما وعدتني، اللهم لا ينبغي لهم أن يظهروا علينا". ونادى أصحابه: "يا أصحاب البيعة يوم الحديبية، الله الله،
الكرة على نبيكم". ويقال: قال: "يا أنصار الله وأنصار رسوله، يا بني الخزرج"، وأمر من يناديهم بذلك. وقبض قبضة من الحصباء فحصب بها وجوه المشركين، ونواحيهم كلها، وقال: "شاهت الوجوه". وأقبل إليه أصحابه سراعا، وهزم الله المشركين، وفر مالك بن عوف حتى دخل حصن الطائف في ناس من قومه.
وأسلم حينئذ ناس كثير من أهل مكة، حين رأوا نصر الله رسوله.
مختصر من حديث ابن عقبة. وليس عند عروة قيام النبي صلى الله عليه وسلم في الركابين، ولا قوله: $"يا أنصار الله".
وقال شعبة، عن أبي إسحاق، سمع البراء، وقال له رجل: يا أبا عمارة، أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال: لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم(سيرة 2/198)
لم يفر، إن هوازن كانوا رماة، فلما لقيناهم وحملنا عليهم انهزموا، فأقبل الناس على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام، فانهزم الناس فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجام بغلته، والنبي صلى الله عليه سلم يقول:
"أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" متفق عليه.
وأخرجه البخاري ومسلم، من حديث زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، وفيه: ولكن خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم حسرا ليس عليهم كبير سلاح، فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم سهم. وزاد فيه مسلم، من حديث زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق: "اللهم نزل نصرك". قال: وكنا إذا حمي البأس نتقي به صلى الله عليه وسلم.
وقال هشيم، عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن سعيد بن العاص، قال: أخبرني سيابة بن عاصم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: "أنا ابن العواتك".
وقال أبو عوانة، عن قتادة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في بعض مغازيه: "أنا ابن العواتك".
وقال يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني كثير بن العباس بن عبد المطلب، قال: قال العباس: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فلزمته أنا وأبو سفيان بن الحارث، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، فلما التقى المسلمون والكفار، ولى(سيرة 2/199)
المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار، وأنا آخذ بلجامها أكفها إرادة أن لا تسرع، وأبو سفيان آخذ بركابه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أي عباس، ناد أصحاب
السمرة. فقال عباس -وكان رجلا صيتا- فقلت بأعلى صوتى: أي أصحاب السمرة. قال: فوالله، لكأنما عطفتهم حين سمعوا صوتي، عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيكاه، يا لبيكاه. فاقتتلوا هم والكفار، والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار، يا معشر الأنصار. ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج، فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج، يا بني الحارث بن الخزرج. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته، كالمتطاول عليها إلى قتالهم، فقال: "هذا حين حمي الوطيس". ثم أخذ حصيات فرمى بهن في وجوه الكفار، ثم قال: "انهزموا ورب محمد". فذهبت أنظر، فإذا القتال على هيئته فيما أرى، فوالله ما هو إلا أن رماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصياته، فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا. أخرجه مسلم.
وروى معمر، عن الزهري، عن كثير، نحوه، لكن قال: فروة بن نعامة الجذامي، وقال: "انهزموا ورب الكعبة".
وقال عكرمة بن عمار: حدثني إياس بن سلمة، قال: حدثني أبي، قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا، فلما واجهنا العدو، تقدمت فأعلوا ثنية فأستقبل رجلا من العدو فأرميه بسهم، وتوارى عني، فما دريت ما صنع. ثم نظرت إلى القوم، فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى، فالتقوا هم والمسلمون فولى المسلمون، فأرجع منهزما، وعلي بردتان متزر بإحداهما، مرتد بالأخرى. ومررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزما وهو على بغلته الشهباء، فقال: لقد رأى ابن الأكوع فزعا. فلما غشوا رسول الله(سيرة 2/200)
صلى الله عليه وسلم نزل من البغلة، ثم قبض قبضة من تراب، ثم استقبل به وجوههم، فقال: "شاهت الوجوه". فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا من تلك القبضة فولوا مدبرين. وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين. أخرجه مسلم.
وقال أبو داود في مسنده: حدثنا حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن عبد الله بن يسار، عن أبي عبد الرحمن الفهري، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حنين، فذكر الحديث، وفيه: فحدثني من كان أقرب إليه مني أنه أخذ حفنة من تراب، فحثا بها في وجوه القوم، وقال: "شاهدت الوجوه". قال يعلى بن عطاء: فأخبرنا أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: ما بقي منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه من التراب، وسمعنا صلصلة من السماء كمر الحديد على الطست، فهزمهم الله.
وقال عبد الواحد بن زياد: حدثنا الحارث بن حصيرة، قال: حدثنا القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: قال ابن مسعود: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فولى عنه الناس، وبقيت معه في ثمانين رجلا من المهاجرين والأنصار، وهم الذين أنزل الله عليهم
السكينة. قال: ورسوله الله صلى الله عليه وسلم على بغلته يمضي قدما، فحادت بغلته، فمال عن السرج، فشد نحوه، فقلت: ارتفع، رفعك الله. قال: "ناولني كفا من تراب". فناولته، فضرب به وجوههم، فامتلأت أعينهم ترابا. قال: "أين المهاجرون والأنصار"؟ فقلت: هم ههنا قال: "اهتف بهم". فهتفت بهم، فجاؤوا وسيوفهم بأيمانهم كأنهم الشهب، وولى المشركون(سيرة 2/201)
أدبارهم.
وقال البخاري في تاريخه: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، قال: أخبرني عبد الله بن عياض بن الحارث، عن أبيه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى هوازن في اثني عشر ألفا، فقتل من أهل الطائف يوم حنين مثل من قتل يوم بدر، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفا من حصباء فرمى به وجوهنا، فانهزمنا.
وقال جعفر بن سليمان: حدثنا عوف، قال: حدثنا عبد الرحمن مولى أم برثن، عمر شهد حنينا كافرا، قال: لما التقينا والمسلمون لم يقوموا لنا حلب شاة، فجئنا نهش سيوفنا بين يدي رسول الله، حتى إذا غشيناه إذا بيننا وبينه رجال حسان الوجوه، فقالوا: شاهت الوجوه، فارجعوا. فهزمنا من ذلك الكلام. إسناده جيد.
وقال الوليد بن مسلم، وغيره: حدثني ابن المبارك، عن أبي بكر الهذلي، عن عكرمة، عن شيبة بن عثمان، قال: لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قد عري، ذكرت أبي وعمي وقتل علي وحمزة إياهما. فقلت: اليوم أدرك ثأري من محمد. فذهبت لأجيئه عن يمينه، فإذا أنا بالعباس قائم، عليه درع بيضاء كأنها فضة يكشف عنها العجاج، فقلت: عمه ولن يخذله. قال: ثم جئته عن يساره، فإذا أنا بأبي سفيان بن الحارث، فقلت: ابن عمه ولن يخذله. قال: ثم جئته من خلفه فلم يبق إلا أن أسوره سورة بالسيف، إذ رفع لي شواظ من نار بيني وبينه كأنه برق، فخفت يمحشني، فوضعت يدي على بصري ومشيت القهقرى. والتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "يا شيب يا شيب، ادن مني.(سيرة 2/202)
اللهم أذهب عنه الشيطان". فرفعت إليه بصري، فلهو أحب إلي من سمعي وبصري. وقال: "يا شيب، قاتل الكفار". غريب جدا.
وقال أيوب بن جابر، عن صدقة بن سعيد، عن مصعب بن شيبة، عن أبيه، قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما أخرجني إسلام، ولكن أنفت أن تظهر هوازن على قريش. فقلت وأنا واقف معه: يا رسول الله، إني أرى خيلا بلقا. قال: "يا شيبة، إنه لا يراها إلا كافر". فضرب يده على صدري، ثم قال: "اللهم اهد شيبة"؛ فعل ذلك ثلاثا، حتى ما كان أحد من خلق الله أحب إلي منه. وذكر الحديث.
وقال ابن إسحاق: وقال مالك بن عوف، يذكر مسيرهم بعد إسلامه:
اذكر مسيرهم للناس إذ جمعوا ... ومالك فوقه الرايات تختفق
ومالك مالك ما فوقه أحد ... يومي حنين عليه التاج يأتلق
حتى لقوا الناس خير الناس يقدمهم ... عليهم البيض والأبدان والدرق
فضاربوا الناس حتى لم يروا أحدا ... حول النبي وحتى جنه الغسق
حتى تنزل جبريل بنصرهم ... فالقوم منهزم منهم ومعتنق
منا ولو غير جبريل يقاتلنا ... لمنعتنا إذا أسيافنا الغلق
وقد وفى عمر الفاروق إذ هزموا ... بطعنة بل منها سرجه العلق
وقال مالك، في الموطأ، عن يحيى بن سعيد، عن عمر بن كثير بن أفلح، عن أبي محمد مولى أبي قتادة، عن أبي قتادة، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام حنين، فلما التقينا كان للمسلمين جولة. قال: فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين، فاستدرت له(سيرة 2/203)
فضربته بالسيف على حبل عاتقه، فأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني. فأدركت عمر فقلت: ما بال الناس؟ قال: أمر الله. ثم إن الناس رجعوا، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه". فقمت ثم قلت: من يشهد لي؟ ثم جلست. ثم قال: "من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه". فقمت ثم قلت: من يشهد لي. ثم الثالثة، فقمت، فقال: "ما لك يا أبا قتادة"؟ فاقتصصت عليه القصة. فقال رجل من القوم: صدق يا رسول الله، وسلب ذلك القتيل عندي، فأرضه منه.
فقال أبو بكر الصديق، لاها الله إذا، يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله، فيعطيك سلبه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق فأعطه إياه". فأعطانيه. فبعت الدرع، فابتعت به مخرفا في بني سلمة. فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام. أخرجه البخاري، وأبو داود عن القعنبي، ومسلم.
وقال حماد بن سلمة، عن إسحاق بن عبد الله، عن أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين: "من قتل قتيلا فله سلبه". فقتل يومئذ أبو طلحة عشرين رجلا وأخذ أسلابهم صحيح.
وبه، عن أنس، قال: لقي أبو طلحة أم سليم يوم حنين ومعها خنجر، فقال: يا أم سليم، ما هذا؟ قالت: أردت إن دنا مني بعضهم أن(سيرة 2/204)
أبعج به بطنه. فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه مسلم.
غزوة أوطاس:
وقال شيخنا الدمياطي في "السيرة" له: كان سيما الملائكة يوم حنين عمائم حمرا قد أرخوها بين أكتافهم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه". وأمر بطلب العدو، فانتهى بعضهم إلى الطائف، وبعضهم نحو نخلة، ووجه قوم منهم إلى أوطاس. فعقد النبي صلى الله عليه وسلم لأبي عامر الأشعري لواء ووجهه في طلبهم، وكان معه سلمة بن الأكوع، فانتهى إلى عسكرهم، فإذا هم ممتنعون، فقتل أبو عامر منهم تسعة مبارزة، ثم برز له العاشر معلما بعمامة صفراء فضرب أبا عامر فقتله. واستخلف أبو عامر أبا موسى الأشعري، فقاتلهم. حتى فتح الله عليه.
وقال أبو أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من حنين، بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس، فلقي دريد بن الصمة، فقتل دريد، وهزم الله أصحابه، ورمي أبو عامر في ركبته، رماه رجل من بني جشم، فأثبته في ركبته، فانتهيت إليه، فقلت: يا عم، من رماك؟ فأشار إلي أن ذاك قاتلي تراه. فقصدت له، فاعتمدته، فلحقته.
فلما رآني ولى عني ذاهبا، فاتبعته، وجعلت أقول له: ألا تستحي؟ ألست عربيا، ألا تثبت؟ فكف، فالتقينا، فاختلفنا ضربتين، أنا وهو، فقتلته. ثم رجعت إلى أبي عامر فقلت: قد قتل
الله(سيرة 2/205)
صاحبك. قال: فنتزع هذا السهم. فنزعته، فنزا منه الماء. فقال: يا ابن أخي، انطلق إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأقره مني السلام، ثم قل له: يستغفر لي. قال: واستخلفني أبو عامر على الناس، فمكث يسيرا ومات. وذكر الحديث. متفق عليه.
وقال ابن إسحاق: وقتل يوم حنين من ثقيف سبعون رجلا تحت رايتهم. وانهزم المشركون، فأتوا الطائف ومعهم مالك بن عوف، وعسكر بعضهم بأوطاس، وتوجه بعضهم نحو نخلة. وتبعت خيل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القوم، فأدرك ربيعة بن رفيع؛ ويقال له: ابن لدغة؛ دريد بن الصمة؛ فأخذ بخطام جمله، وهو يظن أنه امرأة، فإذا شيخ كبير ولم يعرفه الغلام.
فقال له دريد: ماذا تريد بي؟ قال: أقتلك. قال: ومن أنت؟ قال: ربيعة بن رفيع السلمي. ثم ضربه بسيفه فلم يغن شيئا. فقال: بئس ما سلحتك أمك، خذ سيفي هذا من مؤخر الرحل، ثم أضرب به، وارفع عن الطعام، واخفض عن الدماغ، فإني كذلك كنت أضرب الرجال، ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة، فرب يوم والله قد منعت فيه نساءك.
فقتله. فقيل: لما ضربه ووقع تكشف، فإذا عجانه وبطون فخذيه أبيض كالقرطاس من ركوب الخيل أعراء. فلما رجع إلى أمه أخبرها بقتله، فقالت: أما والله لقد أعتق أمهات لك.
وبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في آثار من توجه إلى أوطاس، أبا عامر الأشعري فرمي بسهم فقتل، فأخذ الراية أبو موسى فهزمهم. وزعموا أن سلمة بن دريد هو الذي رمى أبا عامر بسهم.(سيرة 2/206)
واستشهد يوم حنين: أيمن بن عبيد، ولد أم أيمن؛ مولى بني هاشم، ويزيد بن زمعة بن الأسود الأسدي القرشي، وسراقة بن حباب بن عدي العجلاني الأنصاري، وأبو عامر عبيد الأشعري.
ثم جمعت الغنائم، فكان عليها مسعود بن عمرو، وإنما تقسم بعد الطائف.
غزوة الطائف:
فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين يريد الطائف في شوال، وقدم خالد بن الوليد على مقدمته. وقد كانت ثقيف رموا حصنهم وأدخلوا فيه ما يكفيهم لسنة، فلما انهزموا من أوطاس دخلو الحصن وتهيأوا للقتال.
قال محمد بن شعيب، عن عثمان بن عطاء الخراساني، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الطائف فحاصرهم، ونادى مناديه: من خرج منهم من عبيدهم فهو حر. فاقتحم إليه من حصنهم نفر، منهم أبو بكرة بن مسروح أخو زياد من أبيه، فأعتقهم، ودفع كل رجل منهم إلى رجل من أصحابه ليحمله. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى على الجعرانة. فقال: "إني معتمر".
وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، وقال إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن عمه موسى، قالا: ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وترك السبي بالجعرانة، وملئت عرش مكة منهم. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأكمة عند حصن الطائف بضع عشرة ليلة، يقاتلهم، وثقيف ترمي بالنبل، وكثرت الجراح، وقطعوا طائفة من أعنابهم ليغيظوهم بها، فقالت ثقيف: لا تفسدوا الأموال فإنها لنا أو لكم. واستأذنه المسلمون(سيرة 2/207)
في مناهضة الحصن، فقال: ما أرى أن نفتحه، وما أذن لنا فيه.
وزاد عروة، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يقطع كل رجل من المسلمين خمس نخلات أو حبلات من كرومهم. فأتاه عمر فقال: يا رسول الله، إنها عفاء لم تؤكل ثمارها.
فأمرهم أن يقطعوا ما أكلت ثمرته، الأول فالأول. وبعث مناديا ينادي: من خرج إلينا فهو حر.
وقال ابن إسحاق: لم يشهد حنينا ولا حصار الطائف عروة بن مسعود ولا غيلان بن سلمة، كانا بجرش يتعلمان صنعة الدبابات والمجانيق.
ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم على نخلة إلى الطائف، وابتنى بها مسجدا وصلى فيه. وقتل ناس من أصحابه بالنبل، ولم يقدر المسلمون أن يدخلوا حائطهم، أغلقوه دونهم. وحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم بضعا وعشرين ليلة، ومعه امرأتان من نسائه؛ إحداهما أم سلمة بنت أبي أمية. فلما أسلمت ثقيف بنى علي مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو أمية بن عمرو بن وهب مسجدا. وكان في ذلك المسجد سارية لا تطلع عليها الشمس يوما من الدهر؛ فيما يذكرون، إلا سمع لها نقيض.
والنقيض: صوت المحامل.
وقال يونس بن بكير، عن هشام بن سنبر، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن أبي نجيح السلمي، قال: حاصرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر الطائف، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من بلغ بسهم فله درجة في الجنة". فبلغت يومئذ ستة عشر سهما. وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل(سيرة 2/208)
محرر".
وقال هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أم سلمة، عن أمها، قالت: كان عندي مخنث، فقال لأخي عبد الله: إن فتح الله عليكم الطائف غدا، فإني أدلك على ابنة غيلان،
فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان. فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله فقال: "لا يدخلن هذا عليكم".
متفق عليه بمعناه.
وقال الواقدى عن شيوخه، أن سلمان قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرى أن تنصب المنجنيق على حصنهم -يعني الطائف- فإنا كنا بأرض فارس ننصبه على الحصون، فإن لم يكن منجنيق طال الثواء. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمل منجنيقا بيده، فنصبه على حصن الطائف. ويقال: قدم بالمنجنيق يزيد بن زمعة، ودابتين. ويقال: الطفيل بن عمرو قدم بذلك. قال: فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار، فحرقت الدبابة. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعنابهم وتحريقها. فنادى سفيان بن عبد الله الثقفي: لم تقطع أموالنا؟ فإنما هي لنا أو لكم. فتركها.
وقال أبو الأسود، عن عروة، من طريق ابن لهيعة: أقبل عيينة بن بدر حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ائذن لي أن أكلمهم، لعل الله أن يديهم. فأذن له، فانطلق حتى دخل الحصن، فقال: بأبي أنتم، تمسكوا بمكانكم، والله لنحن أذل من العبيد، وأقسم بالله لئن حدث به حدث لتملكن العرب عزا ومنعة، فتمسكوا بحصنكم. ثم خرج فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ماذا قلت لهم"؟. قال: دعوتهم إلى الإسلام، وحذرتهم(سيرة 2/209)
النار وفعلت. فقال: $"كذبت، بل قلت: كذا وكذا". قال: صدقت يا رسول الله، أتوب إلى الله وإليك.
أخبرنا محمد بن عبد العزيز المقرئ سنة اثنين وتسعين وستة مائة، ومحمد بن أبي الحزم، وحسن بن علي، ومحمد بن أبي الفتح الشيباني، ومحمد بن أحمد العقيلي، ومحمد بن يوسف الذهبي، وآخرون، قالوا: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد السخاوي.
"ح" وأخبرنا عبد المعطي بن عبد الرحمن؛ بالإسكندرية، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن مكي.
"ح" وأخبرنا لؤلؤ المحسني؛ بمصر، وعلي بن أحمد، وعلي بن محمد الحنبليان، وآخرون، قالوا: أخبرنا أبو الحسن علي بن هبة الله الفقيه، قالوا: أخبرنا أبو طاهر أحمد بن محمد بن سلفة الحافظ، قال: أخبرنا أبو الحسن مكي بن منصور الكرجي.
وقرأت على سنقر القضائي بحلب: أخبرك عبد اللطيف بن يوسف. وسمعته سنة اثنتين وتسعين على عائشة بنت عيسى بن الموفق، قالت: أخبرنا جدي أبو محمد بن قدامة سنة أربع عشرة وست مائة حضورا، قالا: أخبرنا أبو زرعة طاهر بن محمد المقدسي، قال: أخبرنا محمد بن أحمد الساوي سنة سبع وثمانين وأربع مائة، قالا: أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن
القاضي، قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، قال: حدثنا زكريا بن يحيى المروزي ببغداد، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي العباس، عن عبد الله بن عمر، قال: حاصر النبي صلى الله عليه وسلم أهل الطائف، فلم ينل منهم شيئا. قال: إنا قافلون غدا إن شاء الله. فقال المسلمون: أترجع ولم نفتحه؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اغدوا على القتال غدا". فأصابهم جراح. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا(سيرة 2/210)
قافلون غدا إن شاء الله". فأعجبهم ذلك. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم.
أخرجه مسلم، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان هكذا. وعنده: عبد الله بن عمرو، في بعض النسخ بمسلم.
وأخرجه البخاري، عن ابن المديني، عن سفيان، فقال: عبد الله بن عمرو. قال البخاري: قال الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا عمرو، قال: سمعت أبا العباس الأعمى، يقول: عبد الله بن عمر بن الخطاب.
وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن عيينة، فذكره، وقال فيه: عبد الله بن عمرو.
ثم قال أبو بكر: وسمعت ابن عيينة يحدث به مرة أخرى، عن ابن عمر.
وقال المفضل بن غسان الغلابي، أظنه عن ابن معين. قال أبو العباس الشاعر، عن عبد الله بن عمرو، وابن عمر؛ في فتح الطائف: الصحيح ابن عمر.
قال: واسم أبي العباس: السائب بن فروخ مولى بني كنانة.
وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة: أن النبي صلى الله عليه وسلم ارتحل عن الطائف بأصحابه ودعا حين ركب قافلا: "اللهم اهدهم واكفنا مؤنتهم".
وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، وعبد الله بن المكدم، عمن أدركوا، قالوا: حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف ثلاثين ليلة أو قريبا من ذلك. ثم انصرف عنهم، فقدم المدينة، فجاءه وفدهم في(سيرة 2/211)
رمضان فأسلموا.
قال ابن إسحاق: واستشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطائف: سعيد بن سعيد بن العاص بن أمية، وعرفطة بن حباب، وعبد الله بن أبي بكر الصديق، رمي بسهم فمات بالمدينة في خلافة أبيه، وعبد الله بن أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي؛ أخو أم سلمة، وأمه عاتكة بنت عبد المطلب، وكان يقال لأبي أمية؛ واسمه حذيفة: زاد الراكب، وكان عبد الله شديدا على المسلمين، قيل: هو الذي قال: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} [الإسراء: 90] ، وما بعدها، ثم أسلم قبل فتح مكة بيسير، وحسن إسلامه، وهو الذي قال له هيت المخنث: يا عبد الله، إن فتح الله عليكم الطائف، فإني أدلك على ابنة غيلان ... الحديث -وعبد الله بن عامر بن ربيعة، والسائب بن الحارث، وأخوه: عبد الله، وجليحة بن عبد الله.
ومن الأنصار: ثابت بن الجذع، والحارث بن سهل بن أبي صعصعة، والمنذر بن عبد الله، ورقيم بن ثابت.
فذلك اثنا عشر رجلا، رضي الله عنهم.
ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار نوفل بن معاوية الديلي في أهل الطائف، فقال: ثعلب في جحر، إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك.(سيرة 2/212)
قسم غنائم حنين وغير ذلك:
قال ابن إسحاق: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، على رحيل، حتى نزل بالناس بالجعرانة، وكان معه من سبي هوازن ستة آلاف من الذرية، ومن الإبل والشاء ما لا يدرى عدته.
وقال معتمر بن سليمان، عن أبيه: حدثنا السميط، عن أنس، قال: افتتحنا مكة، ثم إنا غزونا حنينا، فجاء المشركون بأحسن صفوت رأيت. قال: فصف الخيل، ثم صفت المقاتلة، ثم صف النساء من وراء ذلك، ثم صف الغنم، ثم صف النعم. قال: ونحن بشر كثير قد بلغنا ستة آلاف؛ أظنه يريد الأنصار. قال: وعلي مجنبة خيلنا خالد بن الوليد، فجعلت خيلنا تلوذ خلف ظهورنا، فلم نلبث أن انكشفت خيلنا وفرت الأعراب، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا للمهاجرين يا للمهاجرين، يا للأنصار يا للأنصار". قال أنس: هذا حديث عمية. قلنا: لبيك، يا رسول الله. فتقدم، فايم الله ما أتيناهم حتى هزمهم الله. وقال: فقبضنا ذلك المال، ثم انطلقنا إلى الطائف. قال فحاصرناهم أربعين ليلة، ثم رجعنا إلى مكة ونزلنا. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الرجل المائة، ويعطي الرجل المائة. فتحدثت الأنصار بينهم: أما من قاتله فيعطيه، وأما من لم يقاتله فلا يعطيه. قال: ثم أمر بسراة المهاجرين والأنصار -لما بلغه الحديث- أن يدخلوا عليه. فدخلنا القبة حتى ملأناها. فقال: "يا معشر الأنصار؛ -ثلاث مرات، أو كما قال- ما حديث أتاني"؟ قالوا: ما أتاك يا رسول الله؟ قال: "أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وتذهبوا(سيرة 2/213)
برسول الله حتى تدخلوه بيوتكم"؟ قالوا: رضينا. فقال:
"لو أخذ الناس شعبا وأخذت الأنصار شعبا أخذت شعب الأنصار". قالوا: رضينا يا رسول الله. قال: "فارضوا". أخرجه مسلم.
وقال ابن عون، عن هشام بن زيد، عن أنس، قال: لما كان يوم حنين؛ فذكر القصة، إلى أن قال: وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ غنائم كثيرة، فقسم في المهاجرين والطلقاء، ولم يعط الأنصار شيئا. فقالت الأنصار: إذا كانت الشدة فنحن ندعى، ويعطى الغنيمة غيرنا. قال: فبلغه ذلك، فجمعهم في قبة وقال: "أما ترضون أن يذهب الناس بالدنيا، وتذهبوا برسول الله تحوزونه إلى بيوتكم"؟ قالوا: بلى، يا رسول الله، رضينا. فقال: "لو سلك الناس واديا، وسلكت الأنصار شعبا، لأخذت شعب الأنصار". متفق عليه.
وقال شعب، وغيره، عن الزهري: حدثني أنس، أن ناسا من الأنصار، قالوا: لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حين أفاء الله عليهم من أموال هوازن ما أفاءه، فطفق يعطي رجالا من قريش المائة من الإبل؛ فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطي قريشا ويدعنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فجمعهم في قبة من أدم، ولم يدع معهم أحدا غيرهم، فلما اجتمعوا، قال: ما حديث بلغني عنكم؟ فقال له فقهاؤهم: أما ذوو رأينا فلم يقولوا شيئا.
فقال: "فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم، أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وترجعون إلى رحالكم برسول الله؟ فوالله ما تنقلبون به خير ما ينقلبون به".
قالوا: قد رضينا. فقال: "إنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا(سيرة 2/214)
الله ورسوله على الحوض". قال أنس: فلم نصبر. متفق عليه.
وقال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن أبي سعيد، قال: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتألفين من قريش، وفي سائر العرب، ولم يكن في الأنصار منها قليل ولا كثير، وجدوا في أنفسهم. وذكر نحو حديث أنس.
وقال ابن عيينة، عن عمر بن سعيد بن مسروق، عن أبيه، عن عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج، عن جده؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم من سبي حنين، كل رجل منهم مائة من الإبل. فأعطى أبا سفيان بن حرب مائة، وأعطى صفوان بن أمية مائة، وأعطى عيينة بن حصن مائة، وأعطى الأقرع بن حابس مائة، وأعطى علقمة بن علاثة مائة، وأعطى مالك بن عوف النصري مائة، وأعطى العباس بن مرداس دون المائة.
فأنشأ العباس يقول:
أتجعل نهبي ونهب العبيـ ... ـد بين عيينة والأقرع
وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في المجمع
وقد كنت في الحرب ذا تدرأ ... فلم أعط شيئا ولم أمنع
وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تضع اليوم لا يرفع
فأتم له مائة. أخرجه مسلم، دون ذكر مالك بن عوف، وعلقمة، ودون البيت الثالث.(سيرة 2/215)
وقال عثمان بن عطاء الخراساني، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة قوبلهم: أبا سفيان، وحكيم بن حزام، والحارث بن هشام المخزومي، وصفوان بن أمية الجمحي، وحويطب بن عبد العزى العامري؛ أعطى كل واحد مائة ناقة.
وأعطى قيس بن عدي السهمي خمسين ناقة، وأعطى سعيد بن يربوع خمسين. فهؤلاء من أعطى من قريش. وأعطى العلاء بن جارية مائة ناقة، وأعطى مالك بن عوف مائة ناقة، ورد إليه أهله، وأعطى عيينة بن بدر الفزاري مائة ناقة، وأعطى عباس بن مرداس كسوة. فقال عبد الله بن أبي بن سلول للأنصار: قد كنت أخبركم أنكم ستلون حرها ويلي بردها غيركم. فتكلمت الأنصار، فقالوا: يا رسول الله، عم هذه الأثرة؟ فقال: "يا معشر الأنصار، ألم أجدكم مفترقين فجمعكم الله، وضلالا فهداكم الله، ومخذولين فنصركم الله". ثم قال: "والذي نفسي بيده، لو تشاؤون لقلتم ثم لصدقتم ولصدقتم: ألم نجدك مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، ومحتاجا فواسيناك". قالوا: لا نقول ذلك، إنما الفضل من الله ورسوله والنصر من الله ورسوله، ولكنا أحببنا أن نعلم فيم هذه الأثر؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوم حديثو عهد بعز وملك، فأصابتهم نكبة فضعضعتهم ولم يفقهوا
كيف الإيمان، فأتألفهم، حتى إذا علموا كيف الإيمان، وفقهوا فيه علمتهم كيف القسم وأين موضعه". وساق باقي الحديث.
وقال جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن أبي وائل، عبد الله، قال: لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا في القسمة،(سيرة 2/216)
فأعطى الأقرع مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى ناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ، فقال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها وما أريد بها وجه الله. فقلت: والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتيته فأخبرته، فتغير وجهه حتى صار كالصرف، وقال: "فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله"؟، ثم قال: "يرحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر". فقلت: لا جرم لا أرفع إليه بعد هذا حديثا. متفق عليه.
وقال الليث، عن يحيى بن سعيد، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: أتى رجل بالجعرانة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم غنائم منصرفه من حنين، وفي ثوب بلال فضة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها يعطي الناس. فقال: يا محمد، اعدل. فقال: "ويلك، ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل". فقال عمر: دعني أقتل هذا المنافق. قال: "معاذ الله، أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابى، إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية". أخرجه مسلم.
وقال شعيب، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدري، قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسما، إذ أتاه ذو الخويصرة التميمى فقال: يا رسول الله اعدل. فقال: "ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أعدل". فقال عمر: إيذن لي فيه يا رسول الله أضرب عنقه. قال: "دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية". وذكر(سيرة 2/217)
الحديث. أخرجه البخاري.
وقال عقيل، عن ابن شهاب، قال عروة: أخبرني مروان، والمسور بن مخرمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوا أن يرد إليهم أموالهم ونساءهم. فقال: "معي من ترون، وأحب الحديث إلي أصدقه. فاختاروا إما السبي، وإما المال، وقد كنت استأنيت بكم". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظرهم تسع عشرة ليلة حين قفل من الطائف. فلما تبين لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين، قالوا: إنا نختار سبينا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد، فإن إخوانكم هؤلاء قد جاؤونا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم. فمن أحب أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل". فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله لهم. فقال: "إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم". فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم. ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبروه الخبر بأنهم قد طيبوا وأذنوا. أخرجه البخاري.
وقال موسى بن عقبة: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف إلى الجعرانة؛ وبها السبي، وقدمت عليه وفود هوازن مسلمين، فيهم تسعة من أشرافهم فأسلموا وبايعوا، ثم كلموه فيمن أصيب، فقالوا: يا رسول الله. إن فيمن أصبتم الأمهات والأخوات والعمات والخالات، وهن مخازي الأقوام، ونرغب إلى الله وإليك. وكان صلى الله عليه وسلم رحيما جوادا كريما. فقال: سأطلب لكم ذلك.(سيرة 2/218)
قال في القصة: وقال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب، وعروة: أن سبي هوازن كانوا ستة آلاف.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين، فلما أصاب من هوازن ما أصاب من أموالهم وسباياهم، أدركه وفد هوازن بالجعرانة وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله، لنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا، من الله عليك. وقام خطيبهم زهير بن صرد، فقال: يا رسول الله: إنما في الحظائر من السبايا خالاتك وعماتك وحواضنك اللائي كن يكلفنك، فلو أنا ملحنا ابن أبي شمر، أو النعمان بن المنذر، ثم أصابنا منهما مثل الذي أصابنا منك، رجونا عائدتهما وعطفهما، وأنت خير المكفولين. ثم أنشده أبياتا قالها:
أمنن علينا رسول الله في كرم ... فإنك المرء نرجوه وندخر
أمنن على بيضة اعتاقها حزز ... ممزق شملها في دهرها غير
أبقت لها الحرب هتافا على حرن ... على قلوبهم الغماء والغمر
إن لم تداركهم نعماء تنشرها ... يا أرجح الناس حلما حين يختبر
امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك يملؤه من محضها درر
امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... وإذ يزينك ما تأتي وما تذر
لا تجعلنا كمن شالت نعامته ... واستبق منا، فإنا معشر زهر
إنا لنشكر آلاء وإن كفرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدخر
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نساؤكم أحب إليكم أم أموالكم"؟ فقالوا: خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا، أبناؤنا ونساؤنا أحب إلينا. فقال: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وإذا أنا صليت بالناس فقوموا وقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله، في أبنائنا ونسائنا، سأعينكم عند ذلك وأسأل لكم". فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر، قاموا فقاموا ما أمرهم به، فقال: "أما ما(سيرة 2/219)
كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم". فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله. وقالت الأنصار كذلك. فقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا. فقال العباس بن مرداس السلمي: أما أنا وبنو سليم فلا. فقالت بنو سليم: بل ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال عيينة بن بدر: أما أنا وبنو فزارة فلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ست فرائض من أول فيء نصيبه". فردوا إلى الناس نساءهم وأبناءهم.
ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعه الناس يقولون: يا رسول الله، اقسم علينا فيئنا، حتى اضطروه إلى شجرة فانتزعت منه رداءه، فقال: "ردوا علي ردائي، فوالذي نفسي بيده لو كان لي عدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم، ثم ما لقيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا". ثم قال إلى جنب بعير وأخذ من سنامه وبرة فجعلها بين إصبعيه، وقال: "أيها الناس، والله ما لي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم. فأدوا الخياط والمخيط، فإن الغلول عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة". فجاء رجل من الأنصار بكبة من خيوط شعر فقال: أخذت هذه لأخيط بها برذعة بعير لي دبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما حقي(سيرة 2/220)
منها فلك". فقال الرجل: أما إذ بلغ الأمر هذا فلا حاجة لي بها. فرمى بها.
وقال أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة، فقال: إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوما في المسجد الحرام. قال: "اذهب فاعتكف". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاه جارية من الخمس. فلما أن أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا الناس، قال عمر: يا عبد الله، اذهب إلى تلك الجارية فخل سبيلها. أخرجه مسلم.
وقال ابن إسحاق: حدثني أبو وجزة السعدي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى من سبي هوازن علي بن أبي طالب جارية، وأعطى عثمان وعمر، فوهبها عمر لابنه.
قال ابن إسحاق: فحدثني نافع، عن ابن عمر، قال: بعثت بجاريتي إلى أخوالي من بني جمح ليصلحوا لي منها حتى أطوف بالبيت ثم آتيهم. فخرجت من المسجد فإذا الناس يشتدون، فقلت: ما شأنكم؟ فقالوا: رد علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءنا. فقلت: دونكم صاحبتكم فهي في بني جمح، فانطلقوا فأخذوها.
قال ابن إسحاق: وحدثني أبو وجزة يزيد بن عبيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لوفد هوازن: "ما فعل مالك بن عوف". قالوا: هو بالطائف. فقال: "أخبروه إن أتاني مسلما رددت إليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل". فأتى مالك بذلك، فخرج إليه من الطائف.(سيرة 2/221)
وقد كان مالك خاف من ثقيف على نفسه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأمر براحلة فهيئت، وأمر بفرس له فأتى به، فخرج ليلا ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدركه بالجعرانة أو بمكة، فرد عليه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل، فقال:
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... في الناس كلهم بمثل محمد
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدي ... وإذا تشا يخبرك عما في غد
وإذا الكتيبة عردت أنيابها ... أم العدى فيها بكل مهند
فكأنه ليث لدى أشباله ... وسط المباءة خادر في مرصد
فاستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه، وتلك القبائل من ثمالة وسلمة وفهم، كان يقاتل بهم ثقيفا، لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه حتى يصيبه.
قال ابن عساكر: شهد مالك بن عوف فتح دمشق، وله بها دار.
وقال أبو عاصم: حدثنا جعفر بن يحيى بن ثوبان، قال: أخبرني عمي عمارة بن ثوبان، أن أبا الطفيل أخبره، قال: كنت غلامًا أحمل عضو البعير، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لحما بالجعرانة، فجاءته امرأة فبسط لها رداءه. فقلت: من هذه؟ قالوا: أمه التي أرضعته.
وروى الحكم بن عبد الملك، عن قتادة، قال: لما كان يوم فتح هوازن جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أنا أختك شيماء بنت الحارث. فقال: "إن تكوني صادقة فإن بك مني أثرًا لن يبلى". قال: فكشفت عن عضدها. ثم قالت: نعم يا رسول الله، حملتك وأنت صغير فعضضتنى هذه العضة. فبسط لها رداءه ثم قال: "سلي تعطي، واشفعي(سيرة 2/222)
تشفعي".
الحكم ضعفه ابن معين.
عمرة الجعرانة:
قال همام، عن قتادة، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي في حجته: عمرة زمن الحديبية -أو من الحديبية- في ذي القعدة، وعمرة؛ أظنه قال: العام المقبل، وعمرة من الجعرانة؛ حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته.
متفق عليه.
وقال موسى بن عقبة، وهو في "مغازي عروة": إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالعمرة من الجعرانة في ذي القعدة، فقدم مكة فقضى عمرته. وكان حين خرج إلى حنين استخلف معاذا على مكة وأمره أن يعلمهم القرآن ويفقههم في الدين. ثم صدر إلى المدينة وخلف معاذا على أهل مكة.
وقال ابن إسحاق: ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة معتمرا، وأمر ببقايا الفيء فحبس بمجنة، فلما فرغ من عمرته انصرف إلى المدينة واستخلف عتاب بن أسيد على مكة، وخلف معه معاذا يفقه الناس.
قلت: ولم يزل عتاب على مكة إلى أن مات بها يوم وفاة أبي بكر. وهو عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية الأموي. فبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا عتاب، تدري على من استعملتك استعملتك على أهل الله،(سيرة 2/223)
ولو أعلم لهم خيرا منك استعملته عليهم. وكان عمره إذ ذاك نيفا وعشرين سنة، وكان رجلا صالحا. روي عنه أنه قال: أصبت في عملي هذا بردين معقدين كسوتهما غلامي، فلا يقولن أحدكم أخذ مني عتاب كذا، فقد رزقني رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم درهمين، فلا أشبع الله بطنا لا يشبعه كل يوم درهمان.
وحج الناس تلك السنة على ما كانت العرب تحج عليه. والله أعلم.
قصة كعب بن زهير:
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من منصرفه، كتب بجير بن زهير؛ يعني إلى أخيه كعب بن زهير، يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه، وأن من بقي من شعراء قريش؛ ابن الزبعري، وهبيرة بن أبي وهب، قد ذهبوا في كل وجه، فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا، وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجائك من الأرض.
وكان كعب قد قال:
ألا أبلغا عني بجيرا رسالة ... فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا
فبين لنا إن كنت لست بفاعل ... على أي شيء غير ذلك دلكا
على خلق لم ألف يوما أبا له ... عليه وما تلفي عليه أخا لكا
فإن أنت لم تفعل فلست بآسف ... ولا قاتل إما عثرت: لعا لكا(سيرة 2/224)
سقاك بها المأمون كأسا روية ... فأنهلك المأمون منها وعلكا
فلما أتت بجيرا كره أن يكتمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشده إياها. فقال لما سمع "سقاك بها المأمون": "صدق وإنه لكذوب". ولما سمع: "على خلق لم تلف أما ولا أبا عليه". قال: "أجل لم يلف عليه أباه ولا أمه".
ثم قال بجير لكعب:
من مبلغ كعبا فهل لك في التي ... تلوم عليها باطلا وهي أحزم
إلى الله -لا العزى ولا اللات- وحده ... فتنجو إذا كان النجاء وتسلم
لدى يوم لا تنجو ولست بمفلت ... من الناس إلا طاهر القلب مسلم
فدين زهير وهو لا شيء دينه ... ودين أبي سلمى علي محرم
فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأشفق على نفسه، وأرجف به من كان في حاضره من عدوه، فقالوا: هو مقتول. فلما لم يجد من شيء بدا قال قصيدته، وقدم المدينة.
وقال إبراهيم بن ديزيل، وغيره: حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، قال: حدثنا الحجاج ابن ذي الرقيبة بن عبد الرحمن بن كعب بن زهير بن أبي سلمى المزني، عن أبيه، عن جده، قال: خرج كعب وبجير أخوه ابنا زهير حتى أتيا أبرق العزاف، فقال بجير لكعب: اثبت هنا حتى آتي هذا الرجل فأسمع ما يقول. قال: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليه الإسلام فأسلم، فبلغ ذلك كعبا، فقال:
ألا أبلغا عني بجيرا رسالة ... فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا
سقاك بها المأمون كاسا روية ... وأنهلك المأمور منها وعلكا
ويروى: سقاك أبو بكر بكأس روية.(سيرة 2/225)
ففارقت أسباب الهدى وتبعته ... على أي شيء ويب غيرك دلكا
على مذهب لم تلف أما ولا أبا ... عليه، ولم تعرف عليه أخا لكا
فاتصل الشعر بالنبي صلى الله عليه وسلم فأهدر دمه. فكتب بجير إليه بذلك، ويقول له: النجاء وما أراك تنفلت. ثم كتب إليه: اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأتيه أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا قبل ذلك منه، وأسقط ما كان قبل ذلك. فأسلم كعب، وقال قصيدته التي يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل حتى أناخ راحلته بباب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه مكان المائدة من القوم، والقوم متحلقون معه حلقة دون حلقة، يلتفت إلى هؤلاء مرة فيحدثهم، وإلى هؤلاء مرة فيحدثهم.
قال كعب: فأنخت راحلتي، ودخلت، فعرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفة، فتخطيت حتى
جلست إليه فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، الأمان يا رسول الله. قال: "ومن أنت"؟ قلت: أنا كعب بن زهير. قال: "الذي يقول": ثم التفت إلى أبي بكر، فقال: "كيف يا أبا بكر". فأنشده:
سقاك أبو بكر بكأس روية ... وأنهلك المأمور منها وعلكا
قلت: يا رسول الله، ما قلت هكذا. قال: "فكيف قلت"؟. قلت: إنما قلت:
وأنهلك المأمون منها وعلكا
فقال: "مأمون، والله".
قال: ثم أنشده:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يلف مكبول(سيرة 2/226)
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول
تجلوا عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت ... كأنه منهل بالراح معلول
شجت بذي شبم من ماء محنية ... صاف بأبطح أضحى وهو مشمول
تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه ... من صوب سارية بيض يعاليل
أكرم بها خلة لو أنها صدقت ... موعودها، أو لو أن النصح مقبول
لكنها خلة قد سيط من دمها ... فجع وولع وإخلاف وتبديل
فما تدوم على حال تكون بها ... كما تلون في أثوابها الغول
ولا تمسك بالعهد الذي زعمت ... إلا كما يمسك الماء الغرابيل
فلا يغرنك ما منت وما وعدت ... إن الأماني والأحلام تضليل
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلا الأباطيل
أرجو وآمل أن تدنو مودتها ... وما إخال لدينا منك تنويل
أمست سعاد بأرض لا يبلغها ... إلا العتاق النجيبات المراسيل
ولن يبلغها إلا عذافرة ... فيها على الأين إرقال وتبغيل
من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت ... عرضتها طامس الأعلام مجهول
ترمي الغيوب بعيني مفرد لهق ... إذا توقدت الحزان والميل(سيرة 2/227)
ضخم مقلدها، فعم مقيدها ... في خلقها عن بنات الفحل تفضيل
غلباء وجناء علكوم مذكرة ... في دفها سعة قدامها ميل
وجلدها من أطوم ما يؤيسه ... طلح بضاحية المتنين مهزول
حرف أبوها أخوها من مهجنة ... وعمها خالها قوداء شمليل
تسعى الوشاة بدفيها وقيلهم ... إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول
وقال كل صديق كنت آمله: ... لا ألهينك، إني عنك مشغول
خلوا طريق يديها لا أبا لكم ... فكل ما قدر الرحمن مفعول
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته ... يوما على آله حدباء محمول
أنبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول
مهلا رسول الله الذي أعطاك نافلة الـ ... ـقرآن، فيه مواعيظ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم ... أذنب، ولو كثرت عني الأقاويل
لقد أقوم مقاما لو يقوم به ... أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لظل يرعد إلا أن يكون له ... من الرسول بإذن الله تنويل
حتى وضعت يميني لا أنازعه ... في كف ذي نقمات قيله القيل
لذلك أخوف عندي إذ أكلمه ... وقيل: إنك منسوب ومسؤول
من ضيغم من ليوث الأسد مسكنه ... من بطن عثر غيل دونه غيل
إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول
في فتية من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا: زولوا(سيرة 2/228)
زالوا، فما زال أنكاس ولا كشف ... عند اللقاء، ولا خيل معازيل
شم العرانين أبطال لبوسهم ... من نسج داود في الهيجا سرابيل
يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم ... ضرب إذا عرد السود التنابيل
لا يفرحون إذا نالت سيوفهم ... قوما، وليسوا مجازيعًا إذا نيلوا
لا يقع الطعن إلا في نحورهم ... وما لهم عن حياض الموت تهليل
وفي سنة ثمان توفيت زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم وأكبر بناته، وهي التي غسلتها أم عطية الأنصارية، وأعطاها النبي صلى الله عليه وسلم حقوه، وقال: أشعرنها إياه. فجعلته شعارها تحت كفنها. وقد ولدت زينب من أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس أمامة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحملها في الصلاة.
وفيها: عمل منبر النبي صلى الله عليه وسلم، فخطب عليه، وحن إليه الجذع الذي كان يخطب عنده.
وفيها: ولد إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيها: وهبت سودة أم المؤمنين يومها لعائشة، رضي الله عنها.
وفيها: توفي مغفل بن عبد نهم بن عفيف المزني؛ والد عبد الله؛ وله صحبة.
وفيها: مات ملك العرب بالشام؛ الحارث بن أبي شمر الغساني،(سيرة 2/229)
كافرا. وولي بعده جبلة بن الأيهم.
فروى أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة، عن ابن عائذ، عن الواقدي، عن عمر بن عثمان الجحشي، عن أبيه، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب إلى الحارث بن أبي شمر وهو بالغوطة، فسار من المدينة في ذي الحجة سنة ست. قال: فأتيته فوجدته يهيئ الإنزال لقيصر، وهو جاء من حمص إلى إيلياء؛ إذ كشف الله عنه جنود فارس؛ تشكر الله.
فلما قرأ الكتاب رمي به؛ وقال: ومن ينزع مني ملكي؟ أنا سائر إليه بالناس. ثم عرض إلى الليل، وأمر بالخيل تنعل، وقال: أخبر صاحبك بما ترى. فصادف قيصر بإيلياء وعنده دحية الكلبي بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكتب قيصر إليه: أن لا يسير إليه، واله عنه، وواف إيلياه.
قال شجاع: فقدمت، وأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "باد ملكه". ويقال: حج بالناس عتاب بن أسيد أمير مكة. وقيل: حج الناس أوزاعا.
حكاهما الواقدي. والله أعلم.(سيرة 2/230)
السنة التاسعة:
قيل: وفي ربيع الأول بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا إلى القرطاء، عليهم الضحاك بن سفيان الكلابي، ومعه الأصيد بن سلمة بن قرط، فلقوهم بالزج، زج لاوة، فدعوهم إلى الإسلام، فأبوا، فقاتلوهم فهزموهم، فلحق الأصيد أباه سلمة، فدعاه إلى الإسلام وأعطاه الأمان، فسبه وسب دينه، فعرقب الأصيد عرقوبي فرسه. ثم جاء رجل من المسلمين فقتل سلمة، ولم يقتله ابنه.
وفي ربيع الآخر، قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن ناسا من الحبشة تراآهم أهل جدة.
فبعث النبي صلى الله عليه وسلم علقمة بن مجزز المدلجي في ثلاث مائة، فانتهى إلى جزيرة في البحر، فهربوا منه.
وفي ربيع الآخر سرية علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وأرضاه إلى الفلس؛ صنم طيئ، ليهدمه، في خمسين ومائة رجل من الأنصار، على مائة بعير وخمسين فرسًا، ومعه راية سوداء، ولواء أبيض. فشنوا الغارة على محلة آل حاتم مع الفجر، فهدموا الفلس وخربوه، وملأوا أيديهم من السبي والنعم والشاء، وفي السبي أخت عدي بن حاتم، وهرب عدي إلى الشام.
وفي هذه الأيام كانت سرية عكاشة بن محصن إلى أرض عذرة.
ذكر هذه السرايا شيخنا الدمياطي في "مختصر السيرة"، وأظنه أخذه(سيرة 2/231)
من كلام الواقدي.
وفي رجب: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل مسيره إلى تبوك على أصحمة النجاشي، صاحب الحبشة -رضي الله عنه- وأصحمة بالعربي: عطية. وكان قد آمن بالله ورسوله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد مات أخ لكم بالحبشة". فخرج بهم إلى المصلى، وصفهم، وصلى عليه.
قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان، عن عروة، عن عائشة، قالت: لم مات النجاشي كان يتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور.
"ويكتب هنا الخبر الذي في السيرة قبل إسلام عمر".
وفي رجب غزوة تبوك:
قال ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما كان يخرج في غزوة إلا أظهر أنه يريد غيرها، إلا غزوة تبوك فإنه قال: أيها الناس، إني أريد الروم. فأعلمهم. وذلك في شدة الحر وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار؛ والناس يحبون المقام في ثمارهم.
فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم في جهازه، إذ قال للجد بن قيس: "يا جد، هل لك في بنات بني الأصفر"؟. فقال: يا رسول الله، لقد علم قومي أنه ليس أحد أشد عجبا بالنساء مني، وإني أخاف إن رأيت نساء(سيرة 2/232)
بني الأصفر أن يفتنني، فائذن لي يا رسول الله. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "قد أذنت لك". فنزلت: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49] ، قال: وقال رجل من المنافقين: {لا تَنْفِرُوا فِي الْحَر} ، فنزلت {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} [التوبة: 81] .
ولم ينفق أحد أعظم من نفقة عثمان، وحمل على مائتي بعير.
قال عمرو بن مرزوق: حدثنا السكن بن أبي كريمة، عن الوليد بن أبي هشام، عن فرقد أبي طلحة، عن عبد الرحمن بن خباب، قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحث على جيش العسرة، قال: فقام عثمان -رضي الله عنه- فقال: يا رسول الله، علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. قال: ثم حث ثانية، فقام عثمان فقال: يا رسول الله، علي مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. ثم حض، أو قال: حث، الثالثة، فقام عثمان فقال: يا رسول الله، علي ثلاث مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. قال عبد الرحمن: أنا شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول على المنبر: "ما على عثمان ما عمل بعد اليوم". أو قال: "بعدها". رواه أبو داود الطيالسي وغيره، عن السكن بن المغيرة.
وقال ضمرة، عن ابن شوذب، عن عبد الله بن القاسم، عن كثير مولى عبد الرحمن بن سمرة، عن مولاه، قال: جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينارحين جهز جيش العسرة، ففرغها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يقلبها ويقول: "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم". قالها مرارا.
وقال بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله لهم الحملان، إذ هم معه في جيش العسرة؛(سيرة 2/233)
وهي غزوة تبوك. وذكر الحديث. متفق عليه.
وقال: وروى عثمان بن عطاء الخراساني، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس، في غزوة تبوك، قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالصدقة والنفقة في سبيل الله، فأنفقوا احتسابا، وأنفق رجال غير محتسبين. وحمل رجال من فقراء المسلمين، وبقي أناس. وأفضل ما تصدق به يومئذ أحد عبد الرحمن بن عوف؛ تصدق بمائتي أوقية، وتصدق عمر بمائة أوقية، وتصدق عاصم الأنصاري بتسعين وسقا من تمر. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن: "هل تركت لأهلك شيئا"؟ قال: نعم، أكثر مما أنفقت وأطيب. قال: كم؟ ما وعد الله ورسوله من الرزق والخير، رضي الله عنه.
وقال ابن إسحاق: ثم إن رجالا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم البكاؤون، وهم سبعة منهم من الأنصار، سالم بن عمير، وعلبة بن زيد، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب، وعمرو بن الحمام بن الجموح، وعبد الله بن المغفل؛ وبعضهم يقول: عبد الله بن عمرو المزني؛ وهرم بن عبد الله، والعرباض بن سارية الفزاري. فاستحملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا أهل حاجة فقال: {لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] ، فبلغني أن يامين بن عمرو، لقي أبا ليلى وعبد الله بن مغفل وهما يبكيان، فقال: ما يبكيكما؟ فقالا: جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا، فلم نجد عنده ما يحملنا، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج، فأعطاهما ناضحا له فارتحلاه وزودهما شيئا من لبن.
وأما علبة بن زيد فخرج من الليل فصلى ما شاء الله، ثم بكى،(سيرة 2/234)
وقال: اللهم إنك قد أمرت بالجهاد ورغبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني بها في مال أو جسد أو عرض. ثم أصبح مع الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين المتصدق هذه الليلة"؟ فلم يقم أحد.
ثم قال: "أين المتصدق؟ فليقم". فقام إليه فأخبره. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبشر، فوالذي نفس محمد بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة". {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} [التوبة: 90] ، فاعتذروا فلم يعذرهم الله. فذكر أنهم نفر من بني غفار.
قال: وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تخلفوا عن غير شك ولا ارتياب، منهم كعب بن مالك أخو بني سلمة، ومرارة بن الربيع أحد بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية أخو بني واقف، وأبو خيثمة أخو بني سالم بن عوف. وكانوا رهط صدق.
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخميس، واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري. فلما خرج ضرب عسكره على ثنية الوداع، ومعه زيادة على ثلاثين ألفا من الناس. وضرب عبد الله بن أبي بن سلول عسكره على ذي حدة، عسكره أسفل منه، وما كان فيما يزعمون بأقل العسكرين. فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم، تخلف عنه ابن سلول فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب. وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب على أهله، وأمره بالإقامة فيهم، فأرجف به المنافقون وقالوا: ما خلفه إلا استثقالا له وتخففا منه. فلما قال ذلك المنافقون، أخذ علي سلاحه ثم خرج حتى
أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو نازل بالجرف، فقال: يا رسول الله، زعم المنافقون أنك إنما خلفتني تستثقلني وتخفف مني، قال: "كذبوا، ولكن خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي(سيرة 2/235)
وأهلك، ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي" فرجع إلى المدينة.
وأخرجا في الصحيحين من حديث الحكم بن عتيبة، عن مصعب بن سعد، عن أبيه، قال: خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا في غزوة تبوك، فقال: يا رسول الله، أتخلفني في النساء والصبيان؟ قال: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبي بعدي".
ورواه عامر، وإبراهيم، ابنا سعد بن أبي وقاص، عن أبيهما.
قال ابن إسحاق: حدثني بريدة بن سفيان، عن محمد بن كعب القرظي، عن عبد الله بن مسعود، قال: لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، جعل لا يزال يتخلف الرجل فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان. فيقول: "دعوه، إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه". حتى قيل: يا رسول الله، تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره. فقال: "دعوه، إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه"، فتلوم أبو ذر بعيره فلما أبطأ عليه أخذ متاعة فجعله على ظهره، ثم خرج يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض منازله، ونظر ناظر من المسلمين، فقال: يا رسول الله، إن هذا لرجل يمشي على الطريق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كن أبا ذر" فلما تأمله القوم قالوا: هو والله أبو ذر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده". فضرب الدهر من ضربه، وسير أبو ذر إلى الربذة، فلما حضره الموت أوصى امرأته وغلامه: إذا مت فاغسلاني وكفناني وضعاني على قارعة الطريق، فأول(سيرة 2/236)
ركب يمرون بكم فقولوا: هذا أبو ذر. فلما مات فعلوا به ذلك. فاطلع ركب، فما علموا به حتى كادت ركائبهم توطأ سريره، فإذا ابن مسعود في رهط من أهل الكوفة. فقال:
ما هذا؟ فقيل: جنازة أبي ذر. فاستهل ابن مسعود يبكي، فقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده" فنزل، فوليه بنفسه حتى أجنه.
وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، أن أبا خيثمة، أحد بني سالم، رجع -بعد مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما- إلى أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في حائط قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبردت له فيه ماء، وهيأت له فيه طعاما، فلما دخل قام على باب العريش، فقال: رسول الله في الضح والريح والحر، وأنا في ظل بارد وما بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء، في مالي مقيم؟ ما هذا بالنصف. ثم قال: لا، والله، لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهيئا لي زادا. ففعلتا. ثم قد ناضحه فارتحله. ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أدركه بتبوك حين نزلها. وقد كان أدركه عمير بن وهب في الطريق فترافقا، حتى إذا دنوا من تبوك، قال أبو خيثمة لعمير: إن لي ذنبا، تخلف عني حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففعل. فسار حتى دنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كن أبا خيثمة". فقالوا: هو والله أبو خيثمة، فأقبل وسلم، فقال له: "أولى لك أبا خيثمة". ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فقال له خيرًا.
وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة. وقاله موسى بن عقبة فذكرا نحوا من سياق ابن إسحاق.
وقال معمر، عبد الله بن محمد بن عقيل: في قوله -تعالى:(سيرة 2/237)
{اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَة} [التوبة: 117] قال: خرجوا في غزوة تبوك، الرجلان والثلاثة على بعير، وخرجوا في حر شديد، فأصابهم يوما عطش حتى جعلوا ينحرون إبلهم ليعصروا أكراشها ويشربوا ماءها.
وقال مالك بن مغول، عن طلحة بن مصرف، عن أبي صالح، عن أبي هريرة: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير، فنفدت أزواد القوم، حتى هم أحدهم بنحر بعض حمائلهم ...
الحديث. رواه مسلم.
وقال الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أو عن أبي سعيد؛ شك الأعمش؛ قال: لما كان يوم غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، فقالوا: يا رسول الله، لو أذنت لنا فننحر نواضحنا، فأكلنا وادهنا. فقال: "أفعل". فجاء عمر فقال: يا رسول الله، إن فعلت قل الظهر، ولكن ادع بفضل أزوادهم، وادع الله لهم فيها بالبركة. فقال: نعم. فدعا بنطع
فبسطه، ثم دعا بفضل أزوادهم. فجعل الرجل يأتي بكف ذرة، ويجيء الآخر بكف تمر، ويجيء الآخر بكسرة، حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة، ثم قال لهم: "خذوا في أوعيتكم". حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملأوه، وأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؛ لا يلقى الله بها عبد غير شاك فيحجب عن الجنة". أخرجه مسلم.
وقال عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن عتبة بن أبي عتبة، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس، أنه قيل لعمر -رضي الله عنه: حدثنا من شأن العسرة. فقال: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان(سيرة 2/238)
الرجل ليذهب يلتمس الرجل، فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن كان الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده. فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع الله لنا. قال: "أتحب ذلك"؟ قال: نعم. فرفع يديه، فلم يرجعهما حتى قالت السماء فأظلت ثم سكبت، فملأوا ما معهم. ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جازت العسكر. حديث حسن قوي.
وقال مالك، وغيره، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: "لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين، إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم مثل ما أصابهم"؛ يعني أصحاب الحجر.
وقال سليمان بن بلال: حدثنا عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر، أمرهم أن لا يشربوا من بئرها، ولا يسقوا منها. فقالوا: قد عجنا منها واستقينا. فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين ويريقوا ذلك الماء. أخرجهما البخاري, ولمسلم مثل الأول منهما.
وقال عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن عبد الله: أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر، فاستقوا من آبارها وعجنوا به. فأمرهم أن يهريقوا الماء، ويعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي(سيرة 2/239)
كانت الناقة ترده. أخرجه مسلم.
وقال مالك، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، أن معاذ بن جبل أخبره أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء. قال: فأخر الصلاة يوما، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا، ثم قال: "إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن
تأتوها حتى يضحي النهار، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي. قال: فجئناها وقد سبق إليها رجلان، والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء. فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل مسستما من مائها شيئا"؟ قالا: نعم. فسبهما، وقال لهما ما شاء الله أن يقول. ثم غرفوا من العين قليلا قليلا، حتى اجتمع في شيء ثم غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وجهه، ثم أعاده فيها. فجرت العين بماء كثير، فاستقى الناس. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك يا معاذ، إن طالت بك حياة، أن ترى ما ههنا قد ملئ جنانا". أخرجه مسلم.
وقال سليمان بن بلال، عن عمرو بن يحيى، عن عباس بن سهل، عن أبي حميد، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فأتينا وادي القرى، على حديقة لامرأة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخرصوها". فخرصناها وخرصها رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أوسق، وقال: "احصيها حتى نرجع إليك إن شاء الله". فانطلقنا حتى قدمنا تبوك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يقم فيها أحد منكم فمن كان له بعير فليشد عقاله". فهبت ريح شديدة، فقام رجل فحملته الريح حتى(سيرة 2/240)
ألقته بجبلي طيئ، وجاء ابن العلماء صاحب أيلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب، وأهدى له بغلة بيضاء، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهدى له بردا. ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة عن حديقتها كم بلغ ثمرها، فقالت: بلغ عشرة أوسق. فقال: "إني مسرع فمن شاء منكم فليسرع". فخرجنا حتى أشرفنا على المدينة. فقال: "هذه طابة، وهذا أحد، وهو جبل يحبنا ونحبه" أخرجه مسلم أطول منه؛ وللبخاري نحوه.
وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن عباس بن سهل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر استقوا من بئرها. فلما راحوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشربوا من مائها، ولا توضأوا منه، وما كان من عجين عجنتموه منه فاعلفوه الإبل، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له". ففعل الناس ما أمرهم، إلا رجلين من بني ساعدة؛ خرج أحدهما لحاجته والآخر لطلب بعير له. فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه، وأما الآخر فاحتملته الريح حتى طرحته بجبلي طيئ. فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألم أنهكم"؟ ثم دعا للذي أصيب على مذهبه فشفي. وأما الآخر فإنه وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم من تبوك. هذا مرسل منكر.
وقال ابن وهب: أخبرني معاوية، عن سعيد بن غزوان، عن أبيه: أنه نزل بتبوك وهو حاج، فإذا رجل مقعد، فسألته عن أمره، فقال: سأحدثك حديثا فلا تحدث به ما سمعت أني
حي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بتبوك إلى نخلة، فقال: "هذه قبلتنا". ثم صلى إليها. فأقبلت، وأنا(سيرة 2/241)
غلام، أسعى حتى مررت بينه وبينها، فقال: "قطع صلاتنا، قطع الله أثره". قال: فما قمت عليها إلى يومي هذا.
وقال سعيد بن عبد العزيز، عن مولى ليزيد بن نمران، عن يزيد بن نمران، قال: رأيت مقعدا بتبوك. فقال: مررت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا على حمار وهو يصلي. فقال: "اللهم اقطع أثره". فما مشيت عليهما بعد. أخرجهما أبو داود.
وقال يزيد بن هارون: أخبرنا العلاء أبو محمد الثقفي، قال: سمعت أنس بن مالك، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك، فطلعت الشمس، بضياء وشعاع ونور لم أرها طلعت فيما مضى، فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا جبريل، ما لي أرى الشمس اليوم طلعت بضياء ونور وشعاع لم أرها طلعت فيما مضى"؟ فقال: ذاك أن معاوية بن معاوية الليثي مات بالمدينة اليوم، فبعث الله إليه سبعين ألف ملك يصلون عليه. قال: "وفيم ذاك"؟ قال: كان يكثر قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} [الإخلاص: 1] ، بالليل والنهار، وفي ممشاه وقيامه وقعوده، فهل لك يا رسول الله أن أقبض لك الأرض فتصلي عليه؟ قال: "نعم"، قال: فصلى عليه، ثم رجع. العلاء منكر الحديث واه. ورواه الحسن الزعفراني، عن يزيد.
وقال يونس بن محمد: حدثنا صدقة بن أبي سهل، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، أن معاوية بن معاوية المزني توفي والنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فأتاه جبريل، فقال: هل لك في جنازة معاوية المزني؟ قال: "نعم". فقال: هكذا؛ ففرج له عن الجبال والآكام. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي ومعه جبريل في سبعين ألف ملك، فصلى عليه. فقال: "يا(سيرة 2/242)
جبريل، بم بلغ هذا؟ " قال: بكثرة قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} [الأخلاص: 1] ، كان يقرؤها قائما وقاعدا وراكبا وماشيا. مرسل.
وقال ابن جوصا، وعلي بن سعيد الرازي، وأبو الدحداح أحمد بن محمد -واللفظ له- قالوا: حدثنا نوح بن عمرو بن حوى السكسكي، قال: حدثنا بقية، قال: حدثنا محمد بن زياد الألهاني، نا أبي أمامة، قال: نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بتبوك، فقال: احضر جنازة معاوية بن معاوية المزني. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهبط جبريل في سبعين ألفا من الملائكة، فوضع جناحة على الجبال فتواضعت حتى نظروا إلى مكة والمدينة. فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل والملائكة. فلما قضى صلاته، قال: "يا جبريل، بم أدرك معاوية بن معاوية هذه المنزلة من الله؟ " قال: بقراءة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} قائما وقاعدا وراكبا وماشيا.
قلت: ما عملت في نوح جرحا، ولكن الحديث منكر جدا، ما أعلم أحدا تابعه عليه أصلا عن بقية. وقد أورد ابن حبان حديث العلاء، وقال: حديث منكر لا يتابع عليه. قال: ولا أحفظ في الصحابة من يقال له: معاوية بن معاوية. وقد سرق هذا الحديث شيخ من أهل الشام، ورواه عن بقية، عن محمد بن زياد، عن أبي أمامة الباهلي.
وقال عثمان بن الهيثم المؤذن: حدثنا محبوب بن هلال، عن عطاء بن أبي ميمونة، عن أنس، قال: جاء جبريل فقال: يا محمد، مات معاوية بن معاوية المزني، أفتحب أن تصلي عليه؟ قال: نعم. فضرب بجناحه فلم يبق من شجرة ولا أكمة إلا تضعضت له. فصلى عليه وخلفه صفان من الملائكة، في كل صف سبعون ألف ملك. قلت: "يا(سيرة 2/243)
جبريل، بم نال هذا؟ " قال: بحبه {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} يقرؤها قائما وقاعدا وذاهبا وجائيا، وعلى كل حال.
محبوب مجهول، لا يتابع على هذا.
وقال البكائي: قال ابن إسحاق: فلما أصبح الناس، يعني من يوم الحجر، ولا ماء معهم، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل الله سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس. فحدثني عاصم، قال: قلت لمحمود بن لبيد: هل كان الناس يعرفون النفاق فيهم؟ قال: نعم والله، لقد أخبرني رجال من قومي، عن رجل من المنافقين؛ لما كان من أمر الحجر ما كان؛ ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعا فأرسل الله السحابة، فأمطرت. قالوا: أقبلنا عليه نقول: ويحك، هل بعد هذا شيء؟ قال: سحابة سائرة.
قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضلت ناقته، فخرج أصحابه في طلبها، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه يقال له: عمارة بن حزم، وكان عقبيا بدريا، وكان في رحله زيد بن اللصيت القينقاعي كان منافقا، فقال زيد، وهو في رحل عمارة: أليس يزعم محمد أنه نبي، ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمارة عنده: "إن رجلا قال كذا وكذا. وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله. وقد دلني الله عليها، وهي في هذا الوادي في شعب كذا، وقد حبستها شجرة بزمامها". فذهبوا فجاؤوا بها. فذهب عمارة إلى رحلة، فقال: والله عجب من شيئ حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفا، من مقالة قائل أخبره الله عنه بكذا وكذا، فقال رجل ممن كان في رحل عمارة، ولم يحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم، زيد والله، قال هذه المقالة قبل(سيرة 2/244)
أن تأتي. فأقبل عمارة على زيد يجأ في عنقه، ويقول: أي عباد الله، إن في رحلي لداهية وما أشعر. اخرج أي عدو الله من رحلي. فزعم بعضهم أن زيدا تاب بعد ذلك.
قال ابن إسحاق: وقد كان رهط، منهم وديعة بن ثابت، ومخشن بن حمير؛ يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا؟ والله لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال؛ إرجافا وترهيبا للمؤمنين. فقال مخشن بن حمير: والله لوددت أني أقاضي على أن يضرب كل منا مائة جلدة، وأنا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما بلغني، لعمار بن ياسر: "أدرك القوم، فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى، قلتم كذا وكذا". فانطلق إليهم عمار، فقال ذلك لهم. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون. فقال وديعة بن ثابت: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب. فنزلت: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65] ، فقال مخشن بن حمير: يا رسول الله، قعد بي اسمي واسم أبي. فكان الذى عفي عنه في هذه الآية(سيرة 2/245)
مخشن؛ يعني {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} [التوبة: 66] ، فتسمى عبد الرحمن، فسأل الله أن يقتله شهيدا لا يعلم بمكانه. فقتل يوم اليمامة ولم يوجد له أثر.
ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، أتاه يحنة بن رؤبة صاحب أيلة، فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاه الجزية. وأتاه أهل جرباء وأذرح فأعطوه الجزية. وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا، فهو عندهم.
وقال موسى بن عقبة: قال ابن شهاب: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوته تلك تبوكا ولم يتجاوزها. وأقام بضع عشرة ليلة؛ يعني بتبوك.
وقال يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر، قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة. أخرجه أبو داود. وإسناده صحيح.
فائدة: قال ابن إسحاق: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل أيلة بردة مع كتابه، فاشتراها منهم أبو العباس عبد الله بن محمد -يعني السفاح- بثلاث مائة دينار.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، ويزيد بن رومان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك؛ رجل من كندة، وكان ملكا على دومة وكان نصرانيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد: "إنك ستجده يصيد البقر". فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه منظر العين في ليلة مقمرة صافية، وهو على سطح ومعه امرأته، فأتت البقر تحك بقرونها باب القصر. فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله. قالت:
فمن يترك مثل هذا؟ قال: لا أحد. فنزل فأمر بفرسه فأسرج، وركب معه نفر من أهل بيته، فيهم أخوه(سيرة 2/246)
حسان. فتلقتهم خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذته وقتلوا أخاه، وقدموا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحقن دمه وصالحه على الجزية، وأطلقه.
فائدة: قال عبيد الله بن إياد بن لقيط، عن أبيه، عن قيس بن النعمان السكوني، قال: خرجت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع بها أكيدر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: بلغنا أن خيلك انطلقت فخفت على أرضي، فاكتب لي كتابا فإني مقر بالذي علي. فكتب له. فأخرج قباء من ديباج مما كان كسرى يكسوهم، فقال: يا محمد اقبل عني هذا هدية. قال: "ارجع بقبائك فإنه ليس يلبس هذا أحد إلا حرمه في الآخرة". فشق عليه أن رده. قال: "فادفعه إلى عمر". فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أحدث في أمر؟ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى وضع يده، أو ثوبه، على فيه ثم قال: "ما بعثت به إليك لتلبسه، ولكن تبيعه وتستعين بثمنه".
وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: ولما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا إلى المدينة، بعث خالدا في أربع مائة وعشرين فارسا إلى أكيدر دومة الجندل، فلما عهد إليه عهده، قال خالد: يا رسول الله، كيف بدومة الجندل وفيها أكيدر، وإنما نأتيها في عصابة من المسلمين؟ فقال: "لعل الله يكفيكه". فسار خالد، حتى إذا دنا من دومة نزل في أدبارها.
فبينما هو وأصحابه في منزلهم ليلا، إذ أقبلت البقر حتى جعلت تحتك بباب الحصن، وأكيدر يشرب ويتغنى بين امرأتيه. فاطلعت إحداهما فرأت البقر، فقالت: لم أر كالليلة في اللحم.
فثار وركب فرسه، وركب غلمته وأهله، فطلبها. حتى مر بخالد وأصحابه فأخذوه ومن معه فأوثقوهم. ثم قال خالد لأكيدر: أرأيت إن أجرتك تفتح لي دومة؟ قال: نعم. فانطلق حتى دنا منها، فثار أهلها وأرادوا أن(سيرة 2/247)
يفتحوا له، فأبى عليهم أخوه. فلما رأى ذلك قال لخالد: أيها الرجل، حلني، فلك الله لأفتحنها لك، إن أخي لا يفتحها ما علم أني في وثاقك. فأطلقه خالد، فلما دخل أوثق أخاه وفتحها لخالد، ثم قال: اصنع ما شئت. فدخل خالد وأصحابه.
ثم قال: يا خالد، إن شئت حكمتك، وإن شئت حكمتني. فقال خالد: بل نقبل منك ما أعطيت. فأعطاهم ثمان مائة من السبي وألف بعير وأربع مائة درع وأربع مائة رمح.
وأقبل خالد بأكيدر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل معه يحنة بن رؤبة عظيم أيلة. فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشفق أن يبعث إليه كما بعث إلى أكيدر، فاجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاضاهما على قضيته؛ على دومة وعلى تبوك وعلى أيلة وعلى تيماء، وكتب لهم به كتابا، ورجع قافلا إلى المدينة.
ثم ذكر عروة قصة في شأن جماعة من المنافقين هموا بأذية رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلعه الله على كيدهم. وذكر بناء مسجد الضرار.
وذكر ابن إسحاق، عن ثقة من بني عمرو بن عوف: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل من تبوك حتى نزل بذي أوان؛ بينه وبين المدينة ساعة من نهار. وكان مسجد الضرار قد أتوه، وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة، وإنا نحب أن تأتي فتصلي لنا فيه. فقال: إني على جناح سفر، فلو رجعنا -إن شاء الله- أتيناكم. فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي أوان، أتاه خبر السماء، فدعا مالك بن الدخشم ومعن بن عدي، فقال: "انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وأحرقاه". فخرجنا سريعين حتى دخلاه وفيه أهله فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه. ونزل فيه من القرآن ما نزل.(سيرة 2/248)
وقال أبو الأصبغ عبد العزيز بن يحيى الحراني: حدثنا بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن حذيفة، قال: كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقود به، وعمار يسوقه؛ أو قال: عمار يقوده وأنا أسوقه؛ حتى إذا كنا بالعقبة، فإذا أنا باثني عشر راكبا قد اعترضوه فيها، فأنبهت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فصرخ بهم فولوا مدبرين. فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل عرفتم القوم"؟ قلنا: لا، قد كانوا ملثمين. قال: "هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة، أرادوا أن يزحموني في العقبة لأقع". قلنا: يا رسول الله، أولا تبعث عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم؟ قال: "لا، أكره أن يتحدث العرب أن محمدا قاتل بقوم حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم". ثم قال: "اللهم ارمهم بالدبيلة". قلنا: يا رسول الله، وما الدبيلة؟ قال: "شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك".
وقال قتادة، عن أبي نضرة، عن قيس بن عباد، في حديث ذكره عن عمار بن ياسر، أن حذيفة حدثه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في أصحابي اثنا عشر منافقا، منهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط". أخرجه مسلم.
وقال عبد الله بن صالح المصري: حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} [التوبة: 107] ، قال: أناس بنوا مسجدا فقال لهم أبو عامر: ابنوا مسجدكم واستمدوا ما استطعتم من قوة وسلاح، فإني ذاهب إلى قيصر فآتي بجند من الروم، فأخرج محمدا وأصحابه. فلما فرغوا من مسجدهم أموا النبي(سيرة 2/249)
صلى الله عليه وسلم، فقالوا: نحب أن تصلي فيه. فنزلت: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة] .
وقال ابن عيينة، عن الزهري، عن السائب بن يزيد، قال: أذكر أنا حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، خرجنا مع الصبيان نتلقاه إلى ثنية الوداع. أخرجه البخاري.
وقال غير واحد، عن حميد، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك ودنا من المدينة، قال: "إن بالمدينة لأقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد، إلا كانوا معكم فيه". قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: "نعم، حبسهم العذر". أخرجه البخاري.
أمر الذين خلفوا:
قال شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري: أخبرني سعيد بن المسيب، أن بني قريظة كانوا حلفاء لأبي لبابة، فاطلعوا إليه، وهو يدعوهم إلى حكم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا لبابة، أتأمرنا أن ننزل؟ فأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح. فأخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال له: لم تر عيني؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحسبت أن الله غفل عن يدك حين تشير إليهم بها إلى حلقك"؟ فلبث حينا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عاتب عليه.
ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوكا، فتخلف عنه أبو لبابة فيمن تخلف. فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه أبو لبابة يسلم عليه، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففزع أبو لبابة، فارتبط بسارية التوبة، التي عند باب أم سلمة،(سيرة 2/250)
سبعا بين يوم وليلة، في حر شديد، لا يأكل فيهن ولا يشرب قطرة. وقال: لا يزال هذا مكانى حتى أفارق الدنيا أو يتوب الله علي. فلم يزل كذلك حتى ما يسمع الصوت من الجهد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه بكرة وعشية. ثم تاب الله عليه فنودي: إن الله قد تاب عليك. فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليطلق عنه رباطه، فأبى أن يطلقه عند أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاءه فأطلق عنه بيده. فقال أبو لبابة حين أفاق: يا رسول الله، إني أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأنتقل إليك فأساكنك، وإني أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله. فقال: "يجزئ عنك الثلث". فهجر دار قومه وتصدق بثلث ماله، ثم تاب فلم ير منه بعد ذلك في الإسلام إلا خير، حتى فارق الدنيا. مرسل.
وقال ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوبة: 102] ، قال: هو أبو لبابة، إذ قال لقريظة ما قال، وأشار إلى حلقه بأن محمدا
يذبحكم إن نزلتم على حكمه. وزعم محمد بن إسحاق أن ارتباطه كان حينئذ. ولعله ارتبط مرتين.
وقال عبد الله بن صالح: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوبة: 102] ، قال: كانوا عشرة رهط تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، في غزوة تبوك. فلما حضر رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد، وكان ممر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم. فلما رآهم قال: "من هؤلاء"؟ قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول حتى تطلقهم وتعذرهم. قال: "وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم، حتى يكون الله هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين". فلما بلغهم ذلك قالوا: ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذي يطلقنا فأنزلت: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}(سيرة 2/251)
[التوبة: 102] ، و"عسى" من الله واجب.
فلما نزلت، أرسل إليهم فأطلقهم وعذرهم. ونزلت؛ إذ بذلوا أموالهم: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ، وروى نحوه عطية العوفي، عن ابن عباس.
وقال عقيل، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أن أباه، قال: سمعت كعبا يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.
قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط، إلا في غزوة تبوك، غير أني تخلفت عن غزوة بدر، ولم يعاتب الله أحدا تخلف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد. ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر، يعني أذكر في الناس منها.
وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة. والله ما اجتمعت عندي قبلها راحلتان حتى جمعتهما تلك الغزوة. ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها. حتى كانت تلك الغزوة غزاها في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا وعدوا كثيرا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم، وأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ؛ يريد الديوان. قال كعب: فمل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن سيخفي له
ما لم ينزل فيه وحي. وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، فأنا إليها أصعر. فتجهز والمسلمون معه.(سيرة 2/252)
وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم ولم أقض شيئا، وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردته. فلم يزل يتمادى بي حتى أستمر بالناس الجد. فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئا. فقلت: أتجهز بعده يوما أو يومين ثم ألحقهم. فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئا، ثم غدوت ثم رجعت ولم أقض شيئا. فلم يزل ذلك يتمادي بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم، وليتني فعلت، فلم يقدر لي ذلك. فكنت إذا خرجت في الناس أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا من النفاق؛ أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء. فلم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، قال وهو جالس في القوم: "ما فعل كعب"؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه براده ينظر في عطفه. فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا إلا خيرا.
فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك، حضرني همي فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدا؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي. فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني بالباطل، وعرفت أني لا أخرج منه أبدا بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه. وأصبح قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ثم جلس للناس. فلما فعل ذلك جاء المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا. فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله. فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال: تعال. فجئت أمشي حتى جلست بين يديه. فقال: " ما خلفك؟ ألم تكن ابتعت ظهرك" فقلت: بلى، يا رسول الله، إني والله لو جلست(سيرة 2/253)
عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا، ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثا كاذبا ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخط علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه، إني لأرجو عفو الله. لا، والله ما كان لي من عذر، ووالله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما هذا فقد صدق، قم حتى يقضي الله فيك". فقمت، وثار رجال من بني سلمة فقالوا: لا والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، أعجزت أن لا تكون
أعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أعتذر إليه المخلفون، قد كان كافيك لذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك. فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي. ثم قلت: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثل ما قلت. وقيل لهما مثل ما قيل لك. فقلت: من هما؟ فقالوا: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي. فذكروا رجلين صالحين قد شهدا بدرا، فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي.
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، واجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيتهما، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد. وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأسلم عليه فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، فإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال علي ذلك من جفوة المسلمين تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي؛ فسلمت عليه، فوالله ما رد. فقلت: يا أبا(سيرة 2/254)
قتادة، أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال: فسكت، فعدت له فسكت، فناشدته الثالثة، فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار.
قال: فبينا أنا أمشي بسوق المدينة، إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له إلي. حتى إذا جاءني دفع إلي كتابا من ملك غسان؛ وكنت كاتبا؛ فإذا فيه: أما بعد، فقد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. وهذا أيضا من البلاء، فتيممت به التنور فسجرته به، حتى إذا مضى لنا أربعون ليلة من الخميس إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تعتزل امرأتك. فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل بها؟ فقال: لا، بل اعتزلها فلا تقربنها. وأرسل إلي صاحبي بمثل ذلك. فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله هذا الأمر.
قال كعب: فجاءت امرأة هلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن هلالا شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ فقال: لا، ولكن لا يقربنك. قالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومي هذا. فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله في امرأتك؟ فقلت: لا والله، وما يدريني ما يقول لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إن استأذنته فيها، وأنا رجل شاب. فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة. فلما
أن صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التى ذكر الله منا؛ قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت؛ سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع: يا كعب بن مالك، أبشر. فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء الفرج.(سيرة 2/255)
وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا، حين صلى صلاة الفجر. فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون. وركض رجل إلي فرسا، وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع إلي من الفرس. فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، نزعت ثوبي فكسوتهما إياه ببشراه، ووالله ما أملك غيرهما يومئذ. واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة؛ يقولون: ليهنك توبة الله عليك. حتى دخلت المسجد، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه بالسرور: "أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك". قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: "لا، بل من عند الله".
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بشر ببشارة يبرق وجهه كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه. فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى الرسول. قال: "أمسك بعض مالك فهو خير لك". فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت: يا رسول الله، إن الله إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت. فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين ابتلاه الله -تعالى- في صدق الحديث أحسن مما ابتلاني، ما تعمدت مذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم كذبًا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي. وأنزل الله -تعالى- على رسوله: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} إلى قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين} [التوبة: 117- 119] ، فوالله ما أنعم الله علي من نعمة، بعد أن هداني للإسلام، أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، أن لا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوه، فإن الله -تعالى- قال للذين كذبوه، حين(سيرة 2/256)
نزل الوحي، شر ما قال لأحد قال: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 95، 96] .
قال كعب: وكنا خلفنا -أيها الثلاثة- عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له، وأرجأ أمرنا حتى قضى الله فيه. فبذلك قال -تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] ، وليس الذي ذكر الله تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن تخلف واعتذر، فقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم. متفق عليه.
موت عبد الله بن أبي:
قال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني الزهري، عن عروة، عن أسامة بن زيد، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي يعوده في مرضه الذي مات فيه، فلما عرف فيه الموت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والله إن كنت لأنهاك عن حب يهود". فقال: قد أبغضهم أسعد بن زرارة، فمه؟
وقال الواقدي: مرض عبد الله بن أبي بن سلول في أواخر شوال، ومات في ذي القعدة، وكان مرضه عشرين ليلة. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده فيها. فلما كان اليوم الذي مات فيه، دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه، فقال: "قد نهيتك عن حب يهود".
فقال: قد أبغضهم أسعد فما نفعه؟ ثم قال: يا رسول الله، ليس هذا بحين عتاب، هو(سيرة 2/257)
الموت، فإن مت فاحضر غسلي، وأعطني قميصك أكفن فيه، وصل علي واستغفر لي.
هذا حديث معضل واه، لو أسنده الواقدي لما نفع، فكيف وهو بلا إسناد؟
وقال ابن عيينة، عن ابن عمرو، عن جابر، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر عبد الله بن أبي بعدما أدخل حفرته فأمر به فأخرج، فوضع على ركبتيه، أو فخذيه، فنفث عليه من ريقه وألبسه قميصه. والله أعلم. متفق عليه.
وقال أبو أسامة، وغيره: حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لما توفي عبد الله بن أبي، أتى ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه، فأعطاه. ثم سأله أن يصلي عليه؛ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عليه، فقام عمر فأخذ ثوبه، فقال: يا رسول الله، أتصلي عليه وقد نهاك الله عنه؟ قال: إن ربي خيرني، فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] ، وسأزيد على السبعين. فقال: إنه منافق. قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 84] ، متفق عليه.
وفيها: قتل عروة بن مسعود الثقفي، وكان سيدا شريفا من عقلاء العرب ودهاتهم، دعا قومه إلى الإسلام فقتلوه. فيروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثله مثل صاحب ياسين، دعا قومه إلى الله فقتلوه".
وفيها: توفيت السيدة أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، زوجة عثمان،(سيرة 2/258)
رضي الله عنهما.
وفيها: توفي عبد الله ذو البجادين -رضي الله عنه- ودفن بتبوك، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأثنى عليه ونزل في حفرته، وأسنده في لحده. وقال: "اللهم إني أمسيت عنه راضيًا، فارض عنه".
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن إبراهيم التيمي، قال: كان عبد الله ذو البجادين من مزينة. وكان يتيما في حجر عمه، وكان يحسن إليه. فلما بلغه أنه قد أسلم، قال: لئن فعلت لأنزعن منك جميع ما أعطيتك. قال: فإني مسلم. فنزع كل شيء أعطاه، حتى جرده ثوبه، فأتى أمه، فقطعت بجادا لها باثنين، فاتزر نصفا وارتدى نصفا، ولزم باب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يرفع صوته بالقرآن والذكر. وتوفي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيها: قدم وفد ثقيف من الطائف، فأسلموا بعد تبوك، وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا.
وفيها بعد مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك، مات سهيل، أخو سهل بن بيضاء، وهي أمهما، وأسمها دعد بنت جحدم، وأما أبوه فوهب بن ربيعة الفهري. ولسهيل صحبة ورواية حديث، وهو حديث يحيى بن أيوب المصري، عن ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن سعيد بن الصلت، عن سهيل بن بيضاء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة". وليحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم، نحوه.
وأما الدراوردي، فقال: عن ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن سعيد بن الصلت، عن عبد الله بن أنيس. وهذا متصل عن سهيل، إذ سعيد بن الصلت تابعي كبير لا يمكنه أن يسمع من سهيل، ولو سمع منه(سيرة 2/259)
لسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكان صحابيا، لكن المرسل أشهر.
وكان سهيل بن بيضاء من السابقين الأولين، شهد بدرا وغيرها. وكذلك أخوه سهل، وقد توفي أيضا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال عبد الوهاب بن عطاء: أخبرنا حميد، عن أنس، قال: كان أبو عبيدة، وأبي بن كعب، وسهيل بن بيضاء، عند أبي طلحة، وأنا أسقيهم، حتى كاد الشراب أن يأخذ فيهم.
ثم ذكر تحريم الخمر بطوله.
وقال ابن أبي فديك، عن الضحاك بن عثمان، عن أبي النضر، عن أبي سلمة، عن عائشة، قالت لما توفي سعد: أدخلوه المسجد حتى أصلي عليه، فأنكر ذلك عليها، فقالت: والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد سهيل وسهل.
وقال فيه غير الضحاك: ما أسرع ما نسوا؛ لقد صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد.
وفيها: توفي زيد بن سعية؛ بالياء، وبالنون أشهر؛ وهو أحد الأحبار الذين أسلموا.
وكان كثير العلم والمال. وخبر إسلامه رواه الوليد بن مسلم، عن محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبيه، عن جده عبد الله، قال: لما أراد الله هدى زيد بن سعنة، قال: ما من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد حين نظرت إليه، إلا شيئين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله ولا يزيده شدة الجهل إلا حلما. وذكر الحديث بطوله. وهو في الطوالات للطبراني، وآخره: فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله. وآمن به وبايعه، وشهد معه مشاهد، وتوفي في غزوة(سيرة 2/260)
تبوك مقبلا غير مدبر.
والحديث غريب، من الأفراد.
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: وفيها قتلت فارس ملكهم شهرابرز بن شيرويه، وملكوا عليهم بوران بنت كسرى، وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة".
وفيها: توفي عبد الله بن سعد بن سفيان الأنصاري، من بني سالم بن عوف، كنيته أبو سعد. شهد أحدا والمشاهد. وتوفي منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك، فيقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كفنه في قميصه.
وفي هذه المدة: توفي زيد بن مهلهل بن زيد أبو مكنف الطائي، فارس طيئ. وهو أحد المؤلفة قلوبهم، أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم مائة من الإبل، وكتب له بإقطاع. وكان يدعى زيد الخيل.
فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير. ثم إنه رجع إلى قومه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن ينج زيد من حمى المدينة". فلما انتهى إلى نجد أصابته الحمى ومات.
وفيها: حج بالناس أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على الموسم في أواخر ذي القعدة ليقيم للمسلمين حجهم. فنزلت: {بَرَاءَة} [التوبة: 1] ، إثر خروجه.
وفي أولها نقض ما بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه.
قال ابن إسحاق: فخرج علي -رضي الله عنه- على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء، حتى أدرك أبا بكر -رضي الله عنه- بالطريق. فلما رآه أبو بكر، قال: أميرا أو مأمور؟ قال: لا، بل مأمور. ثم مضيا. فأقام أبو بكر للناس حجهم، حتى إذا كان يوم النحر، قام علي عند الجمرة فأذن في الناس بالذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أيها الناس، إنه لا يدخل(سيرة 2/261)
الجنة إلا نفس مسلمة، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو له إلى مدته. وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم من بلادهم، ثم لا عهد لمشرك".
وقال عقيل، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة، قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.
قال حميد بن عبد الرحمن: ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة. قال: فأذن معنا على في أهل منى يوم النحر ببراءة، أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. أخرجه البخاري. وأخرجاه من حديث يونس، عن الزهري.
وقال سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر وأتبعه عليا. فذكر الحديث. وفيه: فكان علي ينادي بها، فإذا بح قام أبو هريرة فنادى بها.
وقال أبو إسحاق السبيعي، عن زيد بن يثيع، قال: سألنا عليا -رضي الله عنه: بأي شيء بعثت في ذي الحجة؟ قال: بعثت بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع مؤمن وكافر في المسجد الحرام بعد عامه هذا، ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد، فعهده إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر. والله أعلم.(سيرة 2/262)
ذكر قدوم وفود العرب:
قال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، قال: فلما صدر أبو بكر وعلي -رضي الله عنهما- وأقاما للناس الحج، قدم عروة بن مسعود الثقفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما. وكذا قال موسى بن عقبة، وأما ابن إسحاق فذكر أن قدوم عروة بن مسعود كان في إثر رحيل النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الطائف وعن مكة، وأنه لقيه قبل أن يصل إلى المدينة فأسلم، وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنهم قاتلوك".
ثم بعد أشهر، قدم وفد ثقيف:
وقال حاتم بن إسماعيل، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن عبد الكريم، عن علقمة بن سفيان بن عبد الله الثقفي، عن أبيه، قال: كنا في الوفد الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فضرب لنا قبتين عند دار المغيرة بن شعبة. قال: وكان بلال يأتينا بفطرنا فنقول: أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: نعم، ما جئتكم حتى أفطر، فيضع يده فيأكل ونأكل.
وقال حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، عن عثمان بن أبي العاص الثقفي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلهم في قبة في المسجد، ليكون أرق لقلوبهم. واشترطوا عليه حين أسلموا أن لا يحشروا ولا يعشروا(سيرة 2/263)
ولا يجبوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا خير في دين ليس فيه ركوع، ولكن أن لا تحشروا ولا تعشروا".
وقال أبو داود في "السنن": حدثنا الحسن بن الصباح، وقال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني إبراهيم، عن أبيه، عن وهب، قال: سألت جابرًا عن شأن ثقيف إذ بايعت، قال: اشترطت على النبي صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد، وأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يقول: "سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا".
وقال موسى بن عقبة، عن عروة بمعناه، قال: فأسلم عروة بن مسعود، واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرجع إلى قومه. فقال: إني أخاف أن يقتلوك. قال: لو وجدوني نائما ما أيقظوني.
فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرجع إلى الطائف، وقدم الطائف عشيا فجاءته ثقيف فحيوه، ودعاهم إلى الإسلام ونصح لهم، فاتهموه وعصوه، وأسمعوه من الأذى ما لم يكن يخشاهم عليه. فخرجوا من عنده، حتى إذا أسحر وطلع الفجر، قام على غرفة له في داره فأذن بالصلاة وتشهد، فرماه رجل من ثقيف بسهم فقتله.
فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بلغه قتله: "مثل عروة مثل صاحب ياسين، دعا قومه إلى الله فقتلوه".
وأقبل -بعد قتله- من وفد ثقيف بضعة عشر رجلا هم أشراف ثقيف، فيهم كنانة بن عبد ياليل وهو رأسهم يومئذ، وفيه عثمان بن أبي العاص بن بشر، وهو أصغرهم. حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يريدون الصلح، حين رأوا أن قد فتحت مكة وأسلمت عامة العرب.(سيرة 2/264)
فقال المغيرة بن شعبة: يا رسول الله، أنزل علي قومي فأكرمهم، فإني حديث الجرم فيهم. فقال: لا أمنعك أن تكرم قومك، ولكن منزلهم حيث يسمعون القرآن. وكان جرم المغيرة في قومه أنه كان أجيرا لثقيف، وأنهم أقبلوا من مصر، حتى إذا كانوا ببصاق، عدا عليهم وهم نيام فقتلهم، ثم أقبل بأموالهم حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: يا رسول الله، خمس مالي هذا. فقال: "وما نبأه"؟ فأخبره، فقال: "إنا لسنا نغدر". وأبى أن يخمسه.
وأنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف في المسجد، وبنى لهم خياما لكي يسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب لم يذكر نفسه. فلما سمعه وفد ثقيف قالوا: يأمرنا أن نشهد أنه رسول الله، ولا يشهد به في خطبته. فلما بلغه ذلك قال: فإني أول من شهد أني رسول الله.
وكانوا يغدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم، ويخلفون عثمان بن أبي العاص على رحالهم. فكان عثمان، كلما رجعوا وقالوا بالهاجرة، عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن الدين واستقرأه القرآن، حتى فقه في الدين وعلم. وكان إذا وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم نائما عمد إلى أبي بكر. وكان يكتم ذلك من أصحابه. فأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعجب منه وأحبه.
فمكث الوفد يختلفون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعوهم إلى الإسلام، فأسلموا، فقال كنانة بن عبد ياليل: هل أنت مقاضينا حتى نرجع إلى قومنا؟ قال: "نعم، إن أنتم أقررتم بالإسلام قاضيتكم، وإلا فلا قضية ولا صلح بيني وبينكم". قالوا: أفرأيت الزنى، فإنا قوم نغترب لا بد لنا منه؟ قال: "هو عليكم حرام". قالوا: فالربا؟ قال: "لكم(سيرة 2/265)
رؤوس أموالكم".
قالوا: فالخمر؟ قال: "حرام". وتلا عليهم الآيات في تحريم هذه الأشياء. فارتفع القوم وخلا بعضهم ببعض، فقالوا: ويحكم، إنا نخاف -إن خالفناه- يوما كيوم مكة. انطلقوا نكاتبه على ما سألنا. فأتوه فقالوا: نعم، لك ما سألت. أرأيت الربة ماذا نصنع فيها؟ قال: "اهدموها". قالوا: هيهات، لو تعلم الربة ماذا تصنع فيها أو أنك تريد هدمها قتلت أهلها. فقال عمر: ويحك يا ابن عبد ياليل، ما أحمقك، إنما الربة حجر. قال: إنا لم نأتك يا ابن الخطاب.
وقالوا: يا رسول الله، تول أنت هدمها، فأما نحن فإنا لن نهدمها أبدا. قال: "فسأبعث إليكم من يهدمها". فكاتبوه وقالوا: يا رسول الله، أمر علينا رجلا يؤمنا. فأمر عليهم عثمان لما رأى من حرصه على الإسلام. وكان قد تعلم سورا من القرآن.
وقال ابن عبد ياليل: أنا أعلم الناس بثقيف، فاكتموهم الإسلام وخوفوهم الحرب، وأخبروا أن محمدا سألنا أمورا أبيناها.
قال: فخرجت ثقيف يتلقون الوفد. فلما رأوهم قد ساروا العنق، وقطروا الإبل، وتغشوا ثيابهم، كهيئة القوم قد حزنوا وكربوا ولم يرجعوا بخير. فلما رأت ثقيف ما في وجوههم، قالوا: ما وفدكم بخير ولا رجعوا به. فدخل الوفد فعمدوا اللات فنزلوا عندها. واللات بيت بين ظهري الطائف يستر ويهدى له الهدي، كما يهدى للكعبة.
فقال ناس من ثقيف حين نزل الوفد إليها: إنه لا عهد لهم برؤيتها. ثم رجع كل واحد إلى أهله، وجاء كل رجل منهم خاصته فسألوهم فقالوا: أتينا رجلا فظا غليظا يأخذ من أمره ما يشاء، قد ظهر بالسيف وأداخ العرب ودانت له الناس. فعرض علينا أمورا شدادا: هدم(سيرة 2/266)
اللات، وترك الأموال في الربا إلا في رؤوس أموالكم، وحرم الخمر والزنى، فقالت ثقيف: والله لا نقبل هذا أبدا. فقال الوفد: أصلحوا السلاح وتهيأوا للقتال ورموا حصنكم. فمكثت ثقيف بذلك يومين أو ثلاثة يريدون القتال. ثم ألقى الله في قلوبهم الرعب، فقالوا: والله ما لنا به طاقة، وقد أداخ العرب كلها، فارجعوا إليه فأعطوه ما سأل. فلما رأى ذلك الوفد أنهم قد رعبوا قالوا: فإنا قد قاضيناه وفعلنا ووجدناه أتقى الناس وأرحمهم وأصدقهم. قالوا: لم كتمتمونا وغممتمونا أشد الغم؟ قالوا: أردنا أن ينزع الله من قلوبكم نخوة الشيطان. فأسلموا مكانهم.
ثم قدم عليهم رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أمر عليهم خالد بن الوليد، وفيهم المغيرة. فلما قدموا عمدوا للات ليهدموها، واستكفت ثقيف كلها، حتى خرج العواتق، لا ترى عامة ثقيف أنها مهدومة. فقام المغيرة فأخذ الكرزين وقال لأصحابه: والله لأضحكنكم منهم.
فضرب بالكرزين، ثم سقط يركض. فارتج أهل الطائف بصيحة واحدة، وقالوا: أبعد الله المغيرة، قد قتلته الربة. وفرحوا، وقالوا: من شاء منكم فليقترب وليجتهد على هدمها، فوالله لا يستطاع أبدا. فوثب المغيرة بن شعبة فقال: قبحكم الله؛ إنما هي لكاع حجارة ومدر، فاقبلوا عافية الله واعبدوه. ثم ضرب الباب فكسره، ثم علا على سورها، وعلا الرجال معه، فهدموها. وجعل صاحب المفتح يقول: ليغضبن الأساس، فليخسفن بهم، فقال المغيرة لخالد: دعني أحفر أساسها. فحفره حتى أخرجوا ترابها، وانتزعوا حليتها، وأخذوا ثيابها.
فبهتت(سيرة 2/267)
ثقيف، فقالت عجوز منهم: أسلمها الرضاع وتركوا المصاع، وأقبل الوفد حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بحليتها وكسوتها، فقسمه.
وقال ابن إسحاق: أقامت ثقيف، بعد قتل عروة بن مسعود، أشهرا. ثم ذكر قدومهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وإسلامهم. وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة يهدمان الطاغية.
وقال سعيد بن السائب، عن محمد بن عبد الله بن عياض، عن عثمان بن أبي العاص؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم، أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طاغيتهم.
رواه أبو همام محمد بن محبب الدلال، عن سعيد، والله أعلم.
ولما فرغ ابن إسحاق من شأن ثقيف، ذكر بعد ذلك حجة أبي بكر الصديق بالناس.(سيرة 2/268)
السنة العاشرة:
ثم قال ابن إسحاق: ولما فتح الله على نبيه مكة، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه. وإنما كان العرب تربص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن قريشا كانوا إمام الناس.
قال: فقدم عطارد بن حاجب في وفد عظيم من بني تميم، منهم الأقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر، ومعهم عيينة بن حصن. فلما دخلوا المسجد، نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجرات: اخرج إلينا يا محمد. وآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من صياحهم فخرج إليهم فقالوا: يا محمد جئناك نفاخرك، فائذن لشاعرنا وخطيبنا. قال: "قد أذنت لخطيبكم، فليقم". فقام عطارد، فقال:
الحمد لله الذي له علينا الفضل والمن، وهو أهله، الذي جعلنا ملوكا، ووهب لنا أموالا عظاما نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق، وأكثره عددا، وأيسره عدة. فمن مثلنا في الناس؟ ألسنا برؤوس الناس وأولي فضلهم؟ فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددنا، وإن لو نشأ لأكثرنا الكلام، ولكن نستحيي من الإكثار. أقول هذا لأن تأتوا بمثل قولنا، وأمر أفضل من أمرنا.
ثم جلس: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن الشماس الخزرجي: "قم فأجبه". فقام، فقال:(سيرة 2/269)
الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه، ولم يكن شيء قط إلا من فضله. ثم كان من فضله أن جعلنا ملوكا، واصطفى من خير خلقه رسولا؛ أكرمه نسبا، وأصدقه حديثا، وأفضله حسبا، فأنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان فآمن به المهاجرون من قومه وذوي رحمه، أكرم الناس أحسابا، وأحسن الناس وجوها، وخير العالمين فعالا، ثم كان أول الخلق استجابة إذ دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن، فنحن الأنصار، أنصار الله ووزراء رسوله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله ورسوله. فمن آمن منع ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبدا، وكان قتله علينا يسيرا. أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم.
فقام الزبرقان بن بدر، فقال:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... منا الملوك وفينا تنصب البيع
وكم قسرنا من الأحياء كلهم ... عند النهاب، وفضل العز يتبع
ونحن نطعم عند القحط مطعمنا ... من الشواء إذا لم يؤنس القزع
بما ترى الناس تأتينا سراتهم ... من كل أرض هويا ثم نصطنع
في أبيات.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قم يا حسان، فأجبه". فقال حسان:
إن الذوائب من فهر وإخواتهم ... قد بينوا سنة للناس تتبع
يرضى بها كل من كانت سريرته ... تقوى الإله وكل الخير يصطنع
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا(سيرة 2/270)
سجية تلك منهم غير محدثة ... إن الخلائق فاعلم، شرها البدع
في أبيات.
فقال الأقرع بن حابس: وأبي، إن هذا الرجل لمؤتى له. إن خطيبه أفصح من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا.
قال: فلما فرغ القوم أسلموا، وأحسن النبي صلى الله عليه وسلم جوائزهم. وفيهم نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4] .
وقال سليمان بن حرب: حدثنا حماد بن زيد، عن محمد بن الزبير الحنظلي، قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، الزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، وعمر بن الأهتم. فقال لعمرو بن الأهتم: أخبرني عن هذا الزبرقان، فأما هذا فلست أسألك عنه. قال: وأراه قال قد عرف قيسا. فقال: مطاع في أدنيه، شديد العارضة، مانع لما وراء ظهره. فقال الزبرقان: قد قال ما قال وهو يعلم أني أفضل مما قال. فقال عمرو: ما علمتك إلا زمر المروءة، ضيق العطن، أحمق الأب، لئيم الخال. ثم قال: يا رسول الله، قد صدقت فيهما جميعا؛ أرضاني فقلت بأحسن ما أعلم، وأسخطني فقلت بأسوأ ما فيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان سحرا".
وقد روى نحوه علي بن حرب الطائي، عن أبي سعد الهيثم بن محفوظ، عن أبي المقوم الأنصاري يحيى بن يزيد، عن الحكم بن عتيبتة، عن مقسم، عن ابن عباس؛ متصلا.
وقال مسلم بن إبراهيم: حدثنا الأسود بن شيبان، قال: حدثنا أبو بكر بن ثمامة بن النعمان الراسبي، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير، قال:(سيرة 2/271)
وفد أبي في وفد بني عامر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أنت سيدنا وذو الطول علينا. فقال: "مه مه، قولوا بقولكم ولا يستجرئنكم الشيطان، السيد الله، السيد الله".
وقال الزبير بن بكار: حدثتني فاطمة بنت عبد العزيز بن مؤملة، عن أبيها، عن جدها مؤملة بن جميل، قال: أتى عامر بن الطفيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عامر، أسلم. قال: أسلم على أن الوبر لي ولك المدر. قال: يا عمر أسلم. فأعاد قوله. قال: لا. فولى وهو يقول: يا محمد، لأملأنها عليك خيلا جردا ورجالا مردًا، ولأربطن بكل نخلة فرسا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اكفني عامرا واهد قومه". فخرج حتى إذا كان بظهر المدينة صادف امرأة يقال لها: سلولية، فنزل عن فرسه ونام في بيتها، فأخذته غدة في حلقه، فوثب على فرسه، وأخذ رمحه، وجعل يجول، ويقول: غدة كغدة البكر، وموت في بيت سلولية. فلم تزل تلك حاله حتى سقط ميتا.
وقال ابن إسحاق: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني عامر، فيهم: عامر بن الطفيل، وأربد بن قيس، وخالد بن جعفر، وحيان بن أسلم، وكانوا رؤساء القوم وشياطينهم. فقدم عامر عدو الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد أن يغدر به. فقال له قومه: إن الناس قد أسلموا. فقال: قد كنت آليت أن لا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي، فأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش؟ ثم قال لأربد: إذا قدمنا عليه فإني شاغل عنك وجهه، فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف.
فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عامر: يا محمد، خلني.(سيرة 2/272)
فقال: "لا والله، حتى تؤمن بالله وحده"، فقال: "والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا". فلما ولى قال: "اللهم اكفني عامرا". ثم قال لأربد: أين ما أمرتك به؟ قال: لا أبا لك، والله ما هممت بالذي أمرتني به من مرة إلا دخلت بيني وبينه، أفأضربك بالسيف؟ فبعث الله ببعض الطريق على عامر الطاعون في عنقه، فقتله الله في بيت امرأة من سلول. وأما الآخر فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة أحرقتهما.
وقال همام، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة: حدثني أنس، قال: كان رئيس المشركين عامر بن الطفيل، وكان أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخيرك بين ثلاث خصال؛ يكون لك أهل السهل ويكون لي أهل المدر، أو أكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء.
قال: فطعن في بيت امرأة، فقال: غدوة كغدة البكر في بيت امرأة من بني فلان، ائتوني بفرسي, فركب فمات على ظهر فرسه. أخرجه البخاري.
وافد بني سعد:
قال ابن إسحاق، عن محمد بن الوليد، عن كريب، عن ابن عباس: بعثت بنو سعد بن بكر، ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان جلدا أشعر ذا غديرتين، فأقبل حتى وقف فقال: أيكن ابن عبد المطلب؟ فقال: أنا. فقال: أنت محمد؟ قال: "نعم". قال: إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة، فلا تجدن في نفسك. أنشدك الله إلهك وإله من قبلك وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده ولا نشرك به شيئا، وأن نخلع هذه الأنداد؟ قال: "اللهم نعم". قال: فأنشدك الله(سيرة 2/273)
إلهك وإله من قبلك وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن نصلي هذه الصلوات الخمس؟ قال: "نعم". ثم جعل يذكر فرائض الإسلام ينشده عنده كل فريضة. ثم قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وسأؤدي هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتني عنه، ثم لا أزيد ولا أنقص.
ثم انصرف إلى بعيره راجعا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة". فقدم على قومه فاجتمعوا إليه فكان أول ما تكلم به أن قال: باست اللات والعزى. قالوا: مه يا ضمام، اتق البرص، اتق الجنون. قال: ويلكم، إنهما والله لا يضران ولا ينفعان. إن الله قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به وما نهاكم عنه.
قال: فوالله ما أمسى ذلك اليوم وفي حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما.
قال: يقول ابن عباس: فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام.
وقال إسحاق بن أبي إسرائيل المروزي: حدثني حمزة بن الحارث بن عمير، قال: حدثنا أبي، عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد، عن أبي هريرة، قال: جاء رجل من أهل البادية إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنشدك برب من قبلك ورب من بعدك، آلله أرسلك؟ وذكر الحديث، وفيه:
فإني قد آمنت وصدقت، وأنا ضمام بن ثعلبة، فلما ولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(سيرة 2/274)
$"فقه الرجل". قال: فكان عمر يقول: ما رأيت أحدا أحسن مسألة ولا أوجز من ضمام بن ثعلبة. الحارث بن عمير ضعيف، وقصة ضمام في الصحيحين من حديث أنس.
قال ابن إسحاق: وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم الجارود بن عمرو أخو بني عبد القيس -قال عبد الملك بن هشام: وكان نصرانيا- فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام. فقال: يا محمد، تضمن لي ديني؟ قال: "نعم، قد هداك الله إلى ما هو خير منه". قال: فأسلم، وأسلم أصحابه.
قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني حنيفة، فيهم مسيلمة بن حبيب الكذاب، فكان منزلتهم في دار بنت الحارث الأنصارية. فحدثني بعض علمائنا أن بني حنيفة أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم تستره بالثياب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه معه عسيب نخل في رأسه خوصات. فلما كلم النبي صلى الله عليه وسلم وسأله قال: "لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه".
قال ابن إسحاق: وحدثني شيخ من أهل اليمامة أن حديثه كان على غير هذا؛ زعم أن وفد بني حنيفة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفوا مسيلمة في رحالهم، فلما أسلموا ذكروا له مكانه فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما أمر به لهم، وقال: "أما إنه ليس بأشركم مكانا"؛ يعني حفظه ضيعة أصحابه. ثم انصرفوا وجاؤوه بالذي أعطاه. فلما قدموا اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ، وقال: إني أشركت في الأمر مع محمد، ألم يقل لكم(سيرة 2/275)
حين ذكرتموني له أما إنه ليس بأشركم مكانا؟ وما ذاك إلا لما يعلم أني قد أشركت معه. ثم جعل يسجع السجعات فيقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى. ووضع عنهم الصلاة وأحل لهم الزنى والخمر، وهو مع ذلك يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نبي. فأصفقت معه بنو حنيفة على ذلك.
وقال شعيب بن أبي حمزة، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، قال: حدثنا نافع بن جبير، عن ابن عباس، قال: قدم مسيلمة الكذاب على عهد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده اتبعته. وقدمها في بشر كثير من قومه. فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه ثابت بن قيس بن شماس، وفي يد النبي صلى الله عليه وسلم قطعة جريد، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه، فقال: "إن سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر الله فيك،
ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإني أراك الذي أريت فيه ما رأيت، وهذا ثابت بن قيس يجيبك عني" ثم انصرف.
قال ابن عباس: فسألت عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك الذي أريت فيه ما رأيت"، فأخبرني أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب فأهمني شأنهما، فأوحي إلي في المنام أن أنفخهما، فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان من بعدي".
قال: فهذا أحدهما العنسي صاحب صنعاء، والآخر مسيلمة صاحب اليمامة. أخرجاه.(سيرة 2/276)
وقال معمر، عن همام، عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم إذ أتيت بخزائن الأرض، فوضع في يدي سواران من ذهب. فكبرا علي وأهماني، فأوحي إلي أن أنفخهما، فنفختهما، فذهبا، فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما؛ صاحب صنعاء وصاحب اليمامة". متفق عليه.
وقال البخاري: حدثنا الصلت بن محمد، قال: حدثنا مهدي بن ميمون، قال: سمع أبا رجاء؛ هو العطاردي؛ يقول: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم فسمعنا به، لحقنا بمسيلمة الكذاب؛ لحقنا بالنار؛ وكنا نعبد الحجر في الجاهلية، وإذا لم نجد حجرا جمعنا حثية من تراب ثم حلبنا عليها اللبن، ثم نطوف به.
وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: جاء رجل إلى ابن مسعود، فقال: إني مررت ببعض مساجد بني حنيفة وهم يقرأون قراءة ما أنزلها الله: الطاحنات طحنا، والعاجنات عجنا، والخابزات خيزا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما، فأرسل إليهم عبد الله فأتى بهم، وهم سبعون رجلا ورأسهم عبد الله بن النواحة. قال: فأمر به عبد الله فقتل. ثم قال: ما كنا بمحرزين الشيطان من هؤلاء، ولكنا نحدرهم إلى الشام لعل الله أن يكفيناهم.
وقال المسعودي، عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله، قال: جاء ابن النواحة وابن أثال رسولين لمسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: "تشهدان أني رسول الله"؟ فقالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله. فقال: "آمنت بالله ورسله، ولو كانت قاتلا رسولا لقتلتكما".(سيرة 2/277)
قال عبد الله: فمضت السنة بأن الرسل لا تقتل.
قال عبد الله: أما ابن أثال فقد كفانا الله، وأما ابن النواحة فلم يزل في نفسي حتى أمكن الله منه. رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده"، عن المسعودي. وله شاهد.
قال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني سعد بن طارق، عن سلمة بن نعيم، بن مسعود، عن أبيه، سمع النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه رسولا مسيلمة الكذاب بكتابه يقول لهما: "وأنتما تقولان بمثل ما يقول"؟ قالا: نعم. فقال: "أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما".
قال ابن إسحاق: وقد كان مسيلمة كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سنة عشر:
من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله. سلام عليك، أما بعد، فإني قد أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض، ولكن قريشا قوم يعتدون.
فكتب إليه: "من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب. سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين".
ثم قد وفد طيئ، على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم زيد الخيل سيدهم، فأسلموا، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير، وقطع له فيد وأرضين، وخرج راجعا إلى قومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ينج زيد من حمى المدينة". فإنه يقال قد سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم غير الحمى، فلم نثبته. فلما انتهى من بلد نجد إلى ماء من مياهه، يقال له: قردة، أصابته(سيرة 2/278)
الحمى فمات بها. قال: فعمدت امرأته إلى ما معه من كتب فحرقتها.
وقال شعبة: حدثنا سمك بن حرب، قال سمعت عباد بن حبيش، يحدث عن عدي بن حاتم، قال: جاءت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بعقرب، فأخذوا عمتي وناسا. فلما أتوا بهم رسول الله، قالت: يا رسول الله، غاب الوافد، وانقطع الولد، وأنا عجوز كبيرة، فمن علي من الله عليك. قال: "من وافدك"؟ قالت: عدي بن حاتم. قال: "الذي فر من الله ورسوله"؟ قالت: فمن علي، ورجل إلى جنبه تراه عليا، فقال: "سليه حملانا"، فأمر لها به.
قال: فأتتني، فقالت: لقد فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها. إيته راغبا أو راهبا، فقد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه.
قال عدي: فأتيته، فإذا عند امرأة وصبيان؛ أو صبي، فذكر قربهم من النبي صلى الله عليه وسلم قال:
فعرفت أنه ليس ملك كسرى ولا قيصر، فأسلمت. فرأيت وجهه قد استبشر، وقال: "إن المغضوب عليهم اليهود والضالين النصارى". وذكر باقي الحديث.
وقال حماد زيد، عن أيوب، عن محمد، قال: قال أبو عبيدة بن حذيفة، قال رجل:
كنت أسأل عن حديث عدي وهو إلى جنبي لا أسأله، فأتيته، فقال: بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فكرهته أشد ما كرهت شيئا قط. فخرجت حتى أقصى أرض العرب مما يلي الروم. ثم كرهت مكاني فقلت: لو أتيته وسمعت منه. فأتيت إلى المدينة، فاستشرفني الناس؛ وقالوا: جاء عدي بن حاتم، جاء عدي بن حاتم. فقال: "يا عدي بن حاتم، أسلم تسلم". فقلت: إني على دين: قال: "أنا أعلم بدينك منك، ألست ركوسيا"؟ قلت: بلى. قال: "ألست ترأس(سيرة 2/279)
قومك"؟ قلت: بلى. قال: "ألست تأخذ المرباع" قلت: بلى. قال: "فإن ذلك لا يحل في دينك". قال: فوجدت بها علي غضاضة. ثم قال: "إنه لعله أن يمنعك أن تسلم أن ترى بمن عندنا خصاصة، وترى الناس علينا إلبا واحدا. هل رأيت الحيرة"؟ قلت: لم أرها، وقد علمت مكانها. قال: "فإن الظعينة سترحل من الحيرة حتى تطوف بالبيت بغير جوار، ولتفتحن علينا كنوز كسرى بن هرمز". قلت: كنوز كسرى بن هرمز؟ قال: "نعم، وليفيضن المال حتى يهم الرجل من يقبل ماله منه صدقة". قال: فلقد رأيت الظعينة ترحل من الحيرة بغير جوار، وكنت في أول خيل أغارت على المدائن. ووالله لتكونن الثالثة، إنه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى نحوه هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي عبيدة.
وقال ابن إسحاق: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فروة بن مسيك المرادي، مفارقا لملوك كندة، فاستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على مراد وزبيد ومذحج كلها، وبعث معه على الصدقة خالد بن سعيد بن العاص، فكان معه حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد كندة، ثمانون راكبا فيهم الأشعث بن قيس. فلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألم تسلموا"؟ قالوا: بلى. قال: فما بال هذا الحرير في أعناقكم؟ قال: فشقوه وألقوه.
قال: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم صرد بن عبد الله الأزدي فأسلم،(سيرة 2/280)
في وفد من الأزد.
فأمره على من أسلم من قومه، ليجاهد من يليه.
إسلام ملوك اليمن:
قال: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب ملوك حمير؛ مقدمه من تبوك، ورسولهم إليه بإسلامهم: الحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، والنعمان قيل ذي رعين، ومعافر، وهمدان. وبعث إليه ذو يزن، مالك بن مرة الرهاوي بإسلامهم. فكتب إليهم النبي صلى الله عليه وسلم كتابا يذكر فيه فريضة الصدقة، وأرسل إليهم معاذ بن جبل في جماعة، وقال لهم: إني قد أرسلت إليكم من صالحي أهلي، وأولي دينهم وأولي علمهم، وآمركم بهم خيرا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وقال إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق السبيعي، عن أبيه، عن جده، عن البراء، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن، يدعوهم إلى الإسلام. قال البراء: فكنت فيمن خرج مع خالد، فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوه. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا -رضي الله عنه- فأمره أن يقفل خالدا، إلا رجل كان يمم مع خالد أحب أن يعقب مع علي فليعقب معه. فكنت فيمن عقب مع علي. فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا، فصلى بنا علي، ثم صفنا صفا واحدا، ثم تقدم بين أيدينا وقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلمت همدان جمعا. فكتب علي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قرأ الكتاب خر ساجدا ثم رفع رأسه فقال: "السلام على همدان، السلام على همدان". هذا حديث صحيح(سيرة 2/281)
أخرج البخاري بعضه بهذا الإسناد.
وقال الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن علي: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقلت: يا رسول الله، تبعثني وأنا شاب أقضي بينهم ولا علم لي بالقضاء؟ فضرب بيده في صدري، وقال: "اللهم اهد قلبه وثبت لسانه". فما شككت في قضاء بين اثنين أخرجه ابن ماجه.
وقال محمد بن علي، وعطاء، عن جابر، أن عليا قدم من اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع. متفق عليه. من حديث عطاء.
وقال شعبة، وغيره، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه ومعاذ بن جبل إلى اليمن، فقال: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا". متفق عليه، ومن أوجه أخر بأطول من هذا.
وفي "الصحيح" للبخاري، من حديث طارق بن شهاب، عن أبي موسى، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض قومي. قال: فجئته وهو منيخ بالأبطح. قال: فسلمت عليه.
فقال: "أحججت يا عبد الله بن قيس"؟ قلت: نعم. قال: "كيف قلت"، قال: قلت: لبيك إهلالا(سيرة 2/282)
كإهلالك. فقال: "أسقت هديا"؟ قلت: لم أسق هديا. قال: "فطف بالبيت واسع ثم حل". ففعلت. وذكر الحديث.
أما معاذ فالأشبه أنه لم يرجع من اليمن حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، قال: هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا، الذي كتبه لعمرو بن حزم، حين بعثه إلى اليمن يفقه أهلها ويعلمهم السنة ويأخذ صدقاتهم، فكتب له كتابا وعهدا وأمره فيه أمره: "بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من الله ورسوله. يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود. عهدا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن. أمره بتقوى الله في أمره كله. فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. وأمره أن يأخذ الحق كما أمره، وأن يبشر الناس بالخير، ويأمرهم به، ويعلم الناس القرآن، ويفقههم فيه، ولا يمس القرآن أحد، إلا وهو طاهر، ويخبر الناس بالذي لهم، والذي عليهم، ويلين في الحق، ويشتد عليهم في الظلم، فإن الله كره الظلم ونهى عنه، وقال: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِين} [هود: 18] ، ويبشر الناس بالجنة وبعملها، وينذر الناس من النار وعملها، ويستألف الناس حتى يفقهوا في الدين، ويعلم الناس معالم الحج وسننه وفرائضه وما أمر الله به، والحج الأكبر والحج الأصغر، فالحج الأصغر العمرة. وينهى الناس أن يصلي الرجل في ثوب واحد صغير، إلا أن يكون واسعا فيخالف بين طرفيه على عاتقيه، وينهى أن يحتبي الرجل في ثوب واحد ويفضي إلى السماء بفرجه. ولا يعقد شعر رأسه إذا عفي في قفاه. وينهى الناس إن كان بينهم هيج أن يدعوا إلى القبال والعشائر، وليكن دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له. فمن لم يدع إلى الله -عز وجل- ودعا إلى العشائر والقبائل فليعطفوا بالسيف حتى يكون دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له، ويأمر الناس(سيرة 2/283)
بإسباغ الوضوء؛ وجوهم وأيديهم إلى المرافق، وأرجلهم، إلى الكعبين، وأن يمسحوا رؤوسهم كما أمر الله، وأمروا بالصلاة لوقتها، وإتمام الركوع والخشوع، وأن يغلس بالصبح، ويهجر بالهاجرة حين تميل الشمس، وصلاة العصر والشمس في الأرض مدبرة، والمغرب حين يقبل الليل، لا تؤخر حتى تبدو النجوم في السماء، والعشاء أول الليل. وأمره بالسعي إلى الجمعة إذا نودي بها، والغسل عند الرواح إليها. وأمره أن يأخذ من المغانم خمس الله -عز وجل- وما كتب على المؤمنين في الصدقة من العقار فيما سقى الغيل وفيما سقت السماء العشر، وفيما سقت الغرب فنصف العشر. ثم ذكر زكاة الإبل والبقر"، مختصرا.
قال: وعلى كل حالم، ذكر أو أنثى، حر أو عبد، من اليهود والنصاري، دينار واف أو عرضه من الثياب. فمن أدى ذلك كان له ذمة الله ذمة رسوله، ومن منع ذلك فإنه عدو الله ورسوله والمؤمنين.
وقد روى سليمان بن داود، عن الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده، نحو هذا الحديث موصولا؛ بزيادات كثيرة في الزكاة، ونقص عما ذكرنا في السنن.
وقال أبو اليمان: حدثنا صفوان بن عمرو، عن راشد بن سعد، عن راشد بن حميد السكوني: أن معاذا لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم يوصيه، ومعاذ راكب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته، فلما فرغ قال: "يا معاذ، إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي وقبري". فبكى معاذ جشعا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "لا تبك يا معاذ، البكاء من الشيطان".(سيرة 2/284)
وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، قال: لما قدم وقد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخلوا عليه مسجده بعد العصر فحانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجده، فأراد الناس منعهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوهم". فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم.
وقال ابن إسحاق: حدثني بريدة بن سفيان، عن ابن البيلماني، عن كرز بن علقمة، قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران؛ ستون راكبا، منهم أربعة وعشرون من أشرافهم، منهم: العاقب أمير القوم وذو رأيهم، صاحب مشورتهم، والذين لا يصدرون إلا عن رأيه وأمره؛ واسمه عبد المسيح. والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم؛ واسمه الأيهم. وأبو حارثة بن علقمة، أحد بكر بن وائل؛ أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم.
وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم. وكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه ومولوه وبنوا له الكنائس. فلما توجهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نجران، جلس أبو حارثة على بغلة له موجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى جنبه أخ له، يقال له: كرز بن علقمة؛ يسايره، إذ عثرت بغلة أبي حارثة، فقال له كرز: تعس الأبعد؛ يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له أبو حارثة: بل أنت تعست. فقال له: لم يا أخي؟ فقال: والله إنه للنبي الذي كنا ننتظره. قال له كرز: فما يمنعك وأنت تعلم هذا؟ قال: ما صنع بنا هؤلاء
القوم؛ شرفونا ومولونا، وقد أبوا إلا خلافة، ولو فعلت نزعوا منا كل ما ترى. فأضمر عليها أخوه كرز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، وقال: حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا، فقالت(سيرة 2/285)
الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى: ما كان إلا نصرانيا. فأنزل الله فيهم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 65] .
فقال أبو رافع القرظي: أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم؟ فقال رجل من نجران يقال له الربيس: وذلك تريد يا محمد وإليه تدعو؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله أن آمر بعبادة غير الله". فنزلت: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ} [آل عمران: 79] ، إلى قوله: {مِنَ الشَّاهِدِين} [آل عمران: 81] .
وقال إسرائيل وغيره، عن أبي إسحاق، عن صلة، عن ابن مسعود؛ ورواه شعبة، وسفيان، عن أبي إسحاق فقالا حذيفة بدل ابن مسعود: إن السيد والعاقب أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يلاعنهما، فقال أحدهما لصاحبه: لا تلاعنه، فوالله لئن كان نبيا فلاعنته لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا. قالوا له: نعطيك ما سألت، فابعث معنا رجلا أمينا، ولا تبعث معنا إلا أمينا. فقال: "لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين". فاستشرف لها أصحابه: فقال: "قم يا أبا عبيدة بن الجراح". فلما قام قال: "هذا أمين هذه الأمة". أخرجه البخاري من حديث حذيفة.
وقال إدريس الأودي، عن سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل، عن المغيرة بن شعبة، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران، فقالوا فيما قالوا: أرأيت ما تقرأون {يَا أُخْتَ هَارُون} [مريم: 28] ، وقد كان بين عيسى وموسى ما قد علمتم؟ قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: "أفلا(سيرة 2/286)
أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم". أخرجه مسلم.
وقال ابن إسحاق: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في شهر ربيع الآخر، أو جمادى الأولى، سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام، قبل أن يقاتلهم، ثلاثا. فخرج خالد حتى قدم عليهم، فبعث الركبان يضربون في كل وجه ويدعون
إلى الإسلام، ويقولون: أيها الناس، أسلموا تسلموا. فأسلم الناس، فأقام خالد يعلمهم الإسلام، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. ثم قدم وفدهم مع خالد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أعيانهم: قيس بن الحصين ذو الغصة، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المحجل. قال: فأمر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم قيسا.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليهم، بعد أن ولى وفدهم، عمرو بن حزم ليفقههم ويعلمهم السنة، ويأخذ منهم صدقاتهم.
وفي عاشر ربيع الأول: توفي إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ابن سنة ونصف، وغسه الفضل بن العباس، ونزل قبره الفضل وأسامة بن زيد فيما قيل، وكان أبيض مسمنا، كثير الشبه بوالده صلى الله عليه وسلم.
وقال ثابت، عن أنس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولد لي الليلة غلام فسميته بأبي إبراهيم"، ففيه دليل على تسمية الولد ليلة مولده. ثم دفعه إلى أم سيف؛ يعني امرأة قين بالمدينة يقال له أبو سيف. قال أنس: فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنه وانطلقت معه، فدخل فدعا بالصبي فضمه إليه، وقال ما شاء الله أن يقول.
قال أنس: فلقد رأيت إبراهيم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكيد(سيرة 2/287)
بنفسه، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب. والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون". أخرجه مسلم والبخاري تعليقا مجزوما به.
وقال شعبة، عن عدي بن ثابت، عن البراء، قال: لما توفي إبراهيم ابن رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن له مرضعا تتم رضاعه في الجنة". أخرجه البخاري.
وقال جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على ابنه إبراهيم حين مات.
وفيها: مات أبو عامر الراهب، الذي كان عند هرقل عظيم الروم.
وفيها: ماتت بوران بنت كسرى ملكة الفرس، وملكوا بعدها أختها آزرمن. قاله أبو عبيدة.
وفي أواخر ذي القعدة: ولد محمد بن أبي بكر الصديق، ولدته أسماء بن عميس، بذي الحليفة، وهي مع النبي صلى الله عليه وسلم.
قال جابر بن عبد الله: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إليه: كيف أصنع؟ فقال: "اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي".
وفيها: ولد محمد بن عمرو بن حزم، بنجران، وأبوه بها.(سيرة 2/288)
حجة الوداع:
قال جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه، عن جابر، قال: أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بالحج، فاجتمع في المدينة بشر كثير. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس بقين من ذي القعدة، أو لأربع، فلما كان بذي الحليفة ولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر الصديق، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟ فقال: "اغتسلي واستثفري بثوب". وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، وركب القصواء حتى استوت به على البيداء، فنظرت إلى مد بصري، بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك. فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد، وأهل الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد عليهم شيئا منه. ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته. ولسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة، حتى أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى} [البقرة: 125] ، فجعل المقام بينه وبين البيت.
قال جعفر: فكان أبي يقول: -لا أعلمه ذكره إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم-: كان يقرأ في الركعتين {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} [الأخلاص] ، و: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون] ، ثم رجع إلى البيت فاستلم الركن، ثم خرج من الباب إلى الصفا، حتى إذا دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّه} [البقرة: 158] ، أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا فرقي عليه، حتى إذا رأى البيت فكبر وهلل وقال: لا إله إلا الله(سيرة 2/289)
وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ثم دعا بين ذلك، فقال مثل ذلك ثلاث مرات. ثم نزل إلى المروة، حتى إذا انصبت قدماه رمل في بطن الوادي، حتى إذا صعد مشى حتى أتى المروة، فعلا عليها وفعل كما فعل على الصفا. فلما كان آخر الطواف على المروة، قال: "إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة. فمن كان منكم ليس معه هدي فليحلل وليجعلها عمرة". فحل الناس كلهم وقصروا، إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه الهدي.
فقام سراقة بن مالك بن جعشم، فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد؟ قال: فشبك أصابعه وقال: "دخلت العمرة في الحج هكذا؛ مرتين، لا؛ بل لأبد الأبد".
وقدم علي، رضي الله عنه، من اليمن ببدن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد فاطمة ممن حل ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت، فأنكر عليها. فقالت: أبي أمرني بهذا. فكان علي يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشا بالذي صنعته، مستفتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "صدقت، صدقت. فماذا قلت حين فرضت الحج"؟ قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك. قال: "فإن معي الهدي فلا تحلل". قال: فكان الهدي الذي جاء معه، والهدي الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة مائة. ثم حل الناس وقصروا، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن معه هدي.
فلما كان يوم التروية وجهوا إلى منى، أهلوا بالحج، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح. ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر فضربت له(سيرة 2/290)
بنمرة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فركب حتى أتى بطن الوادي، فخطب الناس فقال: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا وإن كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي، ودماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أضعه من دمائنا دم ربيعة بن الحارث؛ كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل. وربا الجاهلية موضوع كله. فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم من تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به؛ كتاب الله تعالى، وأنتم مسؤولون عني، فما أنتم قائلون"؟ قالوا: نشهد أن قد بلغت وأديت ونصحت. فقال: بإصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس: "اللهم اشهد"؛ ثلاث مرات. ثم أذن بلال، ثم أقام، فصلى الظهر، ثم أقام، فصلى العصر، لم يصل بينهما شيئا. ثم ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلا حين غاب القرص، وأردف أسامة بن زيد خلفه فدفع وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن(سيرة 2/291)
رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده: "أيها الناس، السكينة السكينة"، كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد. حتى أتى المزدلفة، فصلى بها
المغرب والعشاء بأذان وإقامتين، ولم يصل بينهما شيئا. ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حتى تبين له الصبح وبأذان وإقامه. ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فرقي عليه فحمد الله وكبره وهلله. فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، ثم دفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس، وكان رجلا حسن الشعر وسيما. فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظعن يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل، فصرف الفضل وجهه من الشق الآخر، فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل، حتى إذا أتى محسرا حرك قليلا، ثم سلك الطريق الوسطى التى تخرجك على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند المسجد، فرمى بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي. ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بدنة، وأعطى عليا - رضي الله عنه- فنحر ما غبر وأشركه في هديه. ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر، وطبخت، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها.
ثم أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيت، فصلى بمكة الظهر، فأتى على بني عبد المطلب يسقون من بئر زمزم، فقال: "انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم". فناولوه دلوا فشرب منه. أخرجه مسلم، دون قوله: يحيي ويميت.
وقال شعبة، عن قتادة، عن أبي حسان الأعرج، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أتى ذا الحليفة أشعر بدنة من جانب سنامها الأيمن،(سيرة 2/292)
ثم سلت عنها الدم، وأهل بالحج. أخرجه مسلم.
وقال أيمن بن نابل: حدثني قدامة بن عبد الله، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة على ناقة حمراء؛ وفي رواية؛ صهباء؛ لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك. حديث حسن.
وقال ثور بن يزيد، عن راشد بن سعد، عن عبد الله بن لحي، عن عبد الله بن قرط، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر، يستقر فيه الناس، وهو الذي يلي يوم النحر". قدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنات، خمس أو ست، فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ، فلما وجبت جنوبها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة خفية لم أفهمها، فقلت للذي إلى جنبي: ما قال؟ قال: قال: "من شاء اقتطع". حديث حسن.
وقال هشام، عن ابن سيرين، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة، ثم رجع إلى المنزلة بمنى، فذبح، ثم دعا بالحلاق فأخذ بشق رأسه الأيمن، فحلقه، فجعل يقسمه الشعرة والشعرتين، ثم أخذ بشق رأسه الأيسر فحلقه، ثم قال: ههنا أبو طلحة؟ فدفعه إلى أبي طلحة. رواه مسلم.
وقال أبان العطار: حدثنا يحيى، قال: حدثني أبو سلمة، أن محمد بن عبد الله بن زيد حدثه، أن أباه شهد المنحر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسم(سيرة 2/293)
بين أصحابه ضحايا، فلم يصبه ولا رفيقه. قال: فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه في ثوبه فأعطاه، فقسم منه على رجال، وقلم أظفاره فأعطى صاحبه، فإنه لمخضوب عندنا بالحناء والكتم.
وقال علي بن الجعد: حدثنا الربيع بن صبيح، عن يزيد الرقاشي، عن أنس، قال: حج رسول الله صلى الله عليه وسلم على رحل رث وقطيفة تساوي، أو لا تساوي، أربعة دراهم، وقال: "اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة". يزيد ضعيف.
وقال أبو عميس، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر -رضي الله عنه- فقال: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها لوعلينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال: أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] ، فقال: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات في يوم جمعة. متفق عليه.
وقال حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، قال: كنت عند ابن عباس وعنده يهودي، فقرأ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم} الآية [المائدة: 3] ، فقال اليهودي: لو أنزلت علينا لاتخذنا يومها عيدا. فقال ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيد، يوم جمعة، يوم عرفة.
صحيح على شرط مسلم.
وقال ابن جريج، عن أبي الزبير، أخبره، أنه سمع جابرا، يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة على راحلته يوم النحر، ويقول: "خذوا(سيرة 2/294)
مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه". أخرجه مسلم.
وقال إسماعيل بن أبي أويس: حدثني أبي، عن ثور بن يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس في حجة الوداع، فقال: "إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم، ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحاقرون من أعمالكم، فاحذروه. أيها الناس: إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا أبدا؛ كتاب الله وسنه نبيه. إن كل مسلم أخو المسلم، المسلمون إخوة، ولا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس، ولا تظلموا، ولا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض".
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، قال: وكان ربيعة بن أمية بن خلف الجمحي هو الذي يصرخ يوم عرفة تحت لبة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال له: "اصرخ: أيها الناس" -وكان صيتا- "هل تدرون أي شهر هذا"؟ فصرخ، فقالوا: نعم، الشهر الحرام. قال: "فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا". وذكر الحديث.
وقال الزهري، من حديث الأوزاعي، عنه، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد أن ينفر من منى قال: "إنا نازلون غدا إن شاء بالمحصب بخيف بني
"كنانة، حيث تقاسموا على الكفر". وذلك أن قريشا تقاسموا على بني هاشم وعلى بني عبد المطلب أن لا يناكحوهم ولا يخالطوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. اتفقا(سيرة 2/295)
عليه.
وقال أفلح بن حميد، عن القاسم، عن عائشة، قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليالي الحج. قالت: فلما تفرقنا من منى نزلنا المحصب. وذكر الحديث. متفق عليه.
وقال أبو إسحاق السبيعي، عن زيد بن أرقم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوة، وحج بعد ما هاجر حجة الوداع، لم يحج بعدها.
قال أبو إسحاق من قبله: وواحدة بمكة. اتفقا عليه.
ويروى عن ابن عباس أنه كان يكره أن يقال: حجة الوداع، ويقول: حجة الإسلام.
وقال زيد بن الحباب: حدثنا سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم حج ثلاث حجج قبل أن يهاجر، وحجة بعدما هاجر معها عمرة، وساق ستا وثلاثين بدنة، وجاء علي بتمامها من اليمن، فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من فضة، فنحرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تفرد به زيد، وقيل: إنه أخطأ، وإنما يروى عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن مجاهد؛ مرسلا.
قال أبو بكر البيهقي: قوله: "وحجة معها عمرة" فإنما يقول ذلك أنس -رضي الله عنه- ومن ذهب من الصحابة إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن. فأما من ذهب إلى أنه أفرد، فإنه لا يكاد تصح عنده هذه اللفظة لما في إسناده من الاختلاف وغيره.(سيرة 2/296)
وقال وكيع: عن سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: حج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حجج؛ حجتين وهو بمكة قبل الهجرة، وحجة الوداع، والله أعلم.
وفي آخر السنة: كان ظهور الأسود العنسي، وسيأتي ذكره.(سيرة 2/297)
سنة إحدى عشرة:
سرية أسامة:
في يوم الاثنين لأربع بقين من صفر.
ذكر الواقدي أنهم قالوا: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لغزو الروم، ودعا أسامة بن زيد، فقال: سر إلى موضع مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش، فأغر صباحا على أهل أبنى، وأسرع السير، تسبق الأخبار. فإن ظفرت فأقلل اللبث فيهم، وقدم العيون والطلائع أمامك.
فلما كان يوم الأربعاء، بدئ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فحم وصدع. فلما أصبح يوم الخميس، عقد لأسامة لواء بيده، فخرج بلوائه معقودا؛ يعني أسامة. فدفعه إلى بريدة بن الحصيب الأسلمي، وعسكر بالجرف. فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين والأنصار إلا انتدب في تلك الغزوة؛ فيهم أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة.
فتكلم قوم، وقالوا: يستعمل هذا الغلام على هؤلاء؟ فقال ابن عيينة، وغيره، عن عبد الله بن دينار، سمع ابن عمر يقول: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة، فطعن الناس في إمارته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن يطعنوا في إمارته فقد طعنوا في إمارة أبيه، وايم الله إن كان لخليقا للإمارة، وإن(سيرة 2/299)
كان من أحب الناس إلي، وإن ابنه هذا لمن أحب الناس إلي بعده". متفق على صحته.
قال شيبان، عن قتادة: جميع غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه: ثلاث وأربعون.
ثم دخل شهر ربيع الأول، وبدخوله تكملت عشر سنين من التاريخ للهجرة النبوية.
والحمد لله وحده.(سيرة 2/300)
فصل في معجزاته صلى الله عليه وسلم:
سوى ما مضى في غضون المغازي:
قال حاتم بن إسماعيل، عن يعقوب بن مجاهد أبي حزرة، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار، قبل أن يهلكوا، فكان أول من لقينا أبو اليسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه غلام له. فذكر الحديث، ثم قال: حتى أتينا جابر بن عبد الله في مسجده فقال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا واديا أفيح، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته واتبعته بإداوة من ماء، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ير شيئا يستتر به، وإذا شجرتان بشاطئ الوادي، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إحداهما، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: "انقادي علي بإذن الله". فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائدة، حتى أتى الشجرة الأخرى، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: "انقادي علي بإذان الله". فانقادت معه كذلك، حتى إذا كان بالمنصف، فيما بينهما، لأم بينهما، فقال: "التئما علي بإذان الله". فالتأمتا، قال جابر: فخرجت أحضر مخافة أن يحس رسول الله صلى الله عليه وسلم بقربي -يعني فيتبعد- فجلست أحدث نفسي، فحانت مني لفتة، فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا، وإذا الشجرتان قد افترقتا، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف وقفة فقال برأسه هكذا، يمينا وشمالا، ثم أقبل، فلما انتهى إلي(سيرة 2/301)
قال: "يا جابر هل رأيت مقامي"؟ قلت: نعم يا رسول الله. قال: فانطلق إلى الشجرتين فاقطع من كل واحدة غصنا فأقبل بهما، حتى إذا قمت مقامي فأرسل غصنا عن يمينك وغصنا عن يسارك، قال: فقمت فأخذت حجرا فكسرته وجشرته، فانذلق لي، فأتيت الشجرتين فقطعت من كل واحدة منهما غصنا، ثم أقبلت أجرهما، حتى إذا قمت مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت غصنا عن يميني وغصنا عن يساري، ثم لحقت، فقلت: قد فعلت يا رسول الله فعم ذاك. قال: "إني مررت بقبرين يعذبان، فأحببت بشفاعتي أن يرفه عنهما ما دام الغصنان رطبين".
ثم ذكر حديثا طويلا، وفيه إعواز الناس الماء، وأنه أتاه بيسير ماء فوضع يده فيه في قصة، قال: فرأيت الماء يتفور من بين أصابعه، فاستقى منه الناس حتى رووا. أخرجه مسلم.
وقال الأعمش وغيره، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: بينما نحن في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ حضرت الصلاة، وليس معنا ماء إلا يسير، فدعا بماء، فصبه في صحفة، ووضع كفه فيه، فجعل الماء يتفجر من بين أصابعه، فأقبل الناس فتوضئوا وشربوا.
قال الأعمش: فحدثت به سالم بن أبي الجعد فقال: حدثنيه جابر، فقلت لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: خمس عشرة مائة. أخرجه البخاري.
وقال عمرو بن مرة، وحصين بن عبد الرحمن، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصابنا عطش، فجهشنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضع يده في تور من ماء، فجعل الماء(سيرة 2/302)
ينبع من بين أصابعه كأنه العيون، فقال: "خذوا باسم الله"، فشربنا فوسعنا وكفانا، ولو كنا مائة ألف لكفانا. قلت: كم كنتم؟ قال: ألفا وخمس مائة. صحيح.
وقال حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي رافع، عن عمر بن الخطاب، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على الحجون لما آذاه المشركون، فقال: "اللهم أرني اليوم آية لا أبالي من كذبني بعدها". قال: فأمر فنادى شجرة فأقبلت تخد الأرض، حتى انتهت إليه، ثم أمرها فرجعت.
وروى الأعمش نحوه، عن أبي سفيان، عن أنس.
وروى المبارك بن فضالة نحوا منه، عن الحسن مرسلا.
وقال عبد الله بن عمر بن أبان: حدثنا محمد بن فضيل، عن أبي حيان، عن عطاء، عن ابن عمر، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأقبل أعرابي، فلما دنا منه قال: "أين تريد"؟ قال الأعرابي: إلى أهلي. قال: "هل لك إلى خير"؟ قال: ما هو؟ قال: "تسلم". قال: هل من شاهد؟ قال: هذه الشجرة، فدعاها فأقبلت تخد الأرض خدا، فقامت بين يديه، فاستشهد ثلاثا، فشهدت له كما قال، ثم رجعت إلى منبتها، ورجع الأعرابي إلى قومه، فقال: إن يتبعوني آتك بهم، وإلا رجعت إليك فكنت معك. غريب جدا، وإسناده جيد. أخرجه الدارمي في "مسنده" عن محمد بن طريف، عن ابن فضيل.
وقال شريك، عن سماك، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بم أعرف أنك رسول الله؟ قال: "أرأيت لو دعوت هذا العذق من هذه النخلة، أتشهد أني رسول الله"؟ قال: نعم.(سيرة 2/303)
فدعاه، فجعل ينزل من النخلة حتى سقط في الأرض. فجعل ينقز، حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال له: "ارجع". فرجع حتى عاد إلى مكانه. فقال: أشهد أنك رسول الله، وآمن. رواه البخاري في "تاريخه" عن محمد بن سعيد ابن الأصبهاني عنه.
وقال يونس بن بكير، عن إسماعيل بن عبد الملك، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته، وتبعته بالإداوة، فإذا شجرتان بينهما أذرع فقال: "انطلق فقل لهذه الشجرة: الحقى بصاحبتك حتى أجلس خلفهما". ففعلت، فرجعت حتى لحقت بصاحبتها، فجلس خلفهما حتى قضى حاجته، ثم رجعتا.
وقال أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس، قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من بني عامر، فقال: إنى أطب الناس، فإن كان بك جنون داويتك. فقال: "أتحب أن أريك آية"؟ قال: نعم. قال: "فادع ذاك العذق". فدعاه، فجاءه ينقز على ذنبه، حتى قام بين يديه، ثم قال: "ارجع" فرجع، فقال: يا لعامر، ما رأيت رجلا أسحر من هذا.
أخبرنا عمر بن محمد وغيره، قالوا: أخبرنا عبد الله بن عمر، قال: أخبرنا عبد الأول بن عيسى، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن محمد الداودي، قال أخبرنا عبد الله بن حمويه، قال: أخبرنا عيسى بن عمر، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بسمرقند، قال: أخبرنا عبيد الله بن موسى، عن إسماعيل بن عبد الملك، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وكان لا يأتي البراز حتى يتغيب فلا يرى، فنزلنا بفلاة من الأرض ليس فيها شجر ولا علم، فقال: "يا جابر اجعل في إداوتك ماء ثم انطلق بنا". قال: فانطلقنا حتى لا
نرى، فإذا(سيرة 2/304)
هو بشجرتين بينهما أربعة أذرع، فقال: "انطلق إلى هذه الشجرة فقل: يقول لك: الحقي بصاحبتك حتى أجلس خلفكما". فرجعت إليها، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفهما، ثم رجعتا إلى مكانهما.
فركبنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بيننا كأنما علينا الطير تظلنا، فعرض له امرأة معها صبي، فقالت: يا رسول الله إن ابني هذا يأخذه الشيطان كل يوم ثلاث مرات. فتناوله فجعله بينه وبين مقدم الرحل ثم قال: "اخس عدو الله، أنا رسول الله، اخس عدو الله، أن رسول الله"، ثلاثا، ثم دفعه إليها. فلما قضينا سفرنا مررنا بذلك المكان، فعرضت لنا المرأة معها صبيها ومعها كبشان تسوقهما، فقالت: يا رسول الله اقبل مني هديتي، فوالذي بعثك بالحق ما عاد إليه بعد، فقال: "خدوا منها واحدا وردوا عليها الآخر". قال: ثم سرنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا كأنما علينا الطير تظلنا، فإذا جمل ناد حتى إذا كان بين السماطين خر ساجدا، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال على الناس: "من صاحب الجمل"؟ فإذا فتية من الأنصار قالوا: هو لنا يا رسول الله. قال: "فما شأنه"؟ قالوا: استنينا عليه منذ عشرين سنة، وكانت له شحيمة، فأردنا أن ننحره فنقسمه بين غلماننا فانفلت منا. قال: "بيعونيه". قالوا: هو لك يا رسول الله. قال: "أما لي فأحسنوا إليه حتى يأتيه أجله". فقال المسلمون عند ذلك: يا رسول الله نحن أحق بالسجود لك من البهائم، قال: "لا ينبغي لشيء أن يسجد لشيء، ولو كان ذلك كان النساء لأزواجهن".
رواه يونس بن بكير، عن إسماعيل، وعنده: "لا ينبغي لبشر أن يسجد لبشر" وهو أصح.
وقد رواه بمعناه يونس بن بكير، ووكيع، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن يعلى بن مرة، عن أبيه، قال: سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت منه أشياء: نزلنا منزلا فقال: "انطلق إلى هاتين(سيرة 2/305)
الأشاءتين فقل: إن رسول الله يقول لكما أن تجتمعا". وذكر الحديث.
مرة: هو ابن أبي مرة الثقفي. وقد رواه وكيع مرة، فقال فيه: عن يعلى بن مرة، قال: رأيت من النبي صلى الله عليه وسلم عجبا ... الحديث. قال البخاري: إنما هو عن يعلى نفسه.
قلت: ورواه البيهقي من وجهين، من حديث عطاء بن السائب، عن عبد الله بن حفص، ومن حديث عمر بن عبد الله بن يعلى، عن أبيه، كلاهما عن يعلى نفسه.
وقال مهدي بن ميمون: أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي، عن عبد الله بن جعفر، قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خلفه،
فأسر إلي حديثا لا أحدث به أحدا، وكان أحب ما استتر به لحاجته هدف أو حائش نخل، فدخل حائطا لرجل من الأنصار، فإذا فيه جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن إليه وذرفت عيناه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فسمح ذفريه فسكن، فقال: "ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكت الله إياها، فإنه شكا لي أنك تجيعه وتدئبه". أخرج مسلم منه إلى قوله: "حائش نخل".
وباقيه على شرط مسلم.(سيرة 2/306)
وقال إسماعيل بن جعفر: حدثنا عمرو بن أبي عمرو، عن رجل من بني سلمة -ثقة- عن جابر بن عبد الله أن ناضحا لبعض بني سلمة اغتلم، فصال عليهم وامتنع حتى عطشت نخله، فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاشتكى ذلك إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انطلق. وذهب النبي صلى الله عليه وسلم معه، فلما بلغ باب النخل قال: يا رسول الله لا تدخل. قال: "اخلوا لا بأس عليكم". فلما رآه الجمل أقبل يمشي واضعا رأسه حتى قام بين يديه، فسجد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ائتوا جملكم فاخطموه وارتحلوه"، ففعلوا، وقالوا: سجد لك يا رسول الله حين رآك، قال: "لا تقولوا ذلك لي، لا تقولوا ما لم أبلغ، فلعمري ما سجد لي ولكن الله سخره لي".
وقال عفان: حدثنا حماد بن سلمة، قال: سمعت شيخا من قيس يحدث عن أبيه قال: جاءنا النبي صلى الله عليه وسلم وعندنا بكرة صعبة لا نقدر عليها، فدنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح ضرعها فحفل فاحتلب وشرب.
وفي الباب حديث عبد الله بن أبي أوفى، تفرد بن فائد بو الورقاء، وهو ضعيف، وحديث لجابر آخر تفرد به الأجلح، عن الذيال بن حرملة عنه. أخرجه الدارمي وغيره.
وقال يونس بن أبي إسحاق، عن مجاهد، عن عائشة، قالت: كان لأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم وحش فإذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لعب وذهب وجاء. فإذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ربض فلم يترمرم، ما دام رسول الله في البيت. صحيح.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا المسعودي عن الحسن بن سعد، عن عبد الرحمن بن عبد
الله بن مسعود، عن أبيه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم(سيرة 2/307)
في سفر فدخل رجل غيضة فأخرج بيضة حمرة، فجاءت الحمرة ترفرف على رأس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال: "أيكم فجمع هذه".
فقال رجل: أنا أخذت بيضتها. فقال: "رده رده رحمة لها".
عبد الرحمن لم يسمع من أبيه.
وقال أحمد بن حازم بن أبي غرزة الغفاري: حدثنا علي بن قادم، قال: حدثنا أبو العلاء خالد بن طهمان، عن عطية، عن أبي سعيد، قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بظبية مربوطة إلى خباء، فقالت: يا رسول الله حلني حتى أذهب فأرضع خشفي، ثم أرجع، فتربطني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صيد قوم وربيطة قوم". قال: فأخذ عليها فحلفت له. فحلها، فما مكثت إلا قليلا حتى جاءت وقد نفضت ما في ضرعها، فربطها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استوهبها منهم، فوهبوها له، فحلها، ثم قال: "لو تعلم البهائم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سمينا أبدا".
علي، وأبو العلاء صدوقان، وعطية فيه ضعف. وقد روي نحوه عن زيد بن أرقم.
وقال القاسم بن الفضل الحداني، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: بينما راع يرعى بالحرة، إذا عرض ذئب لشاة، فحال الراعي بين الذئب والشاة، فأقعى الذئب على ذنبه، ثم قال للراعي: ألا تتقى الله تحول بيني وبين رزق ساقه الله إلي؟ فقال الراعي: العجب من ذئب مقع على ذنبه يتكلم بكلام الإنس! فقال الذئب: ألا أحدثك بأعجب مني: رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحرتين يحدث الناس بأنباء ما قد سبق. فساق الراعي شاءه حتى أتى المدينة فزواها زاوية، ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثه بحديث الذئب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فقال(سيرة 2/308)
الراعي: "قم فأخبرهم". قال: فأخبر الناس بما قال الذئب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق الراعي، ألا أنه من أشراط الساعة كلام السباع للإنس، والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، ويكلم الرجل شراك نعله وعذبة سوطه، ويخبره فخذه بما أحدث أهله بعده". أخرجه الترمذي، وقال: صحيح غريب.
وقال عبد الحميد بن بهرام، ومعقل بن عبيد الله، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة، أو عن أبي سعيد الخدري نحوه. وهو حديث حسن صحيح الإسناد.
وقال سفيان بن حمزة: حدثنا عبد الله بن عامر الأسلمي، عن ربيعة بن أوس، عن أنس
ابن عمرو، عن أهبان بن أوس، أنه كان في غنم له، فكلمه الذئب، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم.
قال البخاري: ليس إسناده بالقوي.
وقال يوسف بن عدي: حدثنا جعفر بن جسر، قال: أخبرني أبي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيب، قال: قال ابن عمر: كان راع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غنم له، إذ جاء الذئب فأخذ شاة، ووثب الراعي حتى انتزعها من فيه فقال له الذئب: أما تتقي الله أن تمنعني طعمة أطعمنيها الله تنزعها مني! وذكر الحديث.
وقال منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. البخاري.
وقال قريش بن أنس: حدثنا صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري،(سيرة 2/309)
عن رجل، قال: سمعت أبا ذر -رضي الله عنه- يقول: لا أذكر عثمان إلا بخير بعد شيء رأيته: كنت رجلا أتتبع خلوات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته وحده، فجلست، فجاء أبو بكر فسلم وجلس، ثم جاء عمر، ثم عثمان، وبين يدي النبي صلى الله عليه وسلم سبع حصيات، فأخذهن فوضعهن في كفه، فسبحن حتى سمعت لهن حنينا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم أخذهن فوضعهن في يد أبي بكر فسبحن، ثم وضعهن فخرسن، ثم وضعهن في يد عمر فخرسن، ثم وضعهن في يد عثمان فسبحن، ثم وضعهن فخرسن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذه خلافة النبوة".
صالح لم يكن حافظا، والمحفوظ رواية شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، قال: ذكر الوليد بن سويد أن رجلا من بني سليم كبير السن، كان ممن أدرك أبا ذر بالربذة ذكر له، فذكر هذا الحديث عن أبي ذر.
ويروى مثله عن جبير بن نفير، وعن عاصم بن حميد، عن أبي ذر. وجاء مثله عن أنس من وجهين منكرين.
وقال عبد الواحد بن أيمن: حدثني أبي، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو إلى نخلة، فقيل: ألا نجعل لك منبرا؟ قال: "إن شئتم". فجعلوا له منبرا، فلما كان يوم الجمعة ذهب إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، فنزل فضمها إليه. كانت تئن أنين الصبي الذي يسكت قال: "كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها". البخاري. ورواه جماعة عن جابر.
وقال أبو حفص بن العلاء المازني -واسمه عمر- عن نافع، عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب إلى جذع، فلما وضع له المنبر حن إليه حتى أتاه فمسحه، فسكن.
أخرجه البخاري عن ابن مثنى، عن(سيرة 2/310)
يحيى بن كثير، عنه، وهو من غرائب الصحيح.
وقال عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبيه، كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى إلى جذع ويخطب إليه، فصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فلما جاوز النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الجذع خار حتى تصدع وانشق، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع صوت الجذع، فمسحه بيده، ثم رجع إلى المنبر، فلما هدم المسجد أخذ ذلك الجذع أبي فكان عنده في بيته حتى بلي وأكلته الأرضة وعاد رفاتا. روى من وجهين عن ابن عقيل.
مالك بن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هل ترون قبلتي ههنا، فوالله ما يخفى علي ركوعكم ولا سجودكم، إني لأراكم وراء ظهري". متفق عليه.
قال الشافعي: هذه كرامة من الله أبانه بها من خلفه.
وقال المختار بن فلفل، عن أنس نحوه، وفيه: "فإني أراكم من أمامي ومن خلفي، وايم
الذي نفسي بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا". قالوا: يا رسول الله وما رأيت؟ قال: "رأيت الجنة والنار". أخرجه مسلم.
وقال بشر بن بكر: حدثنا الأوزاعي، عن ابن شهاب، قال: أخبرني القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا مستترة بقرام فيه صورة، فهتكه، ثم قال: "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة(سيرة 2/311)
الذين يشبهون بخلق الله".
قال الأوزاعي: قالت عائشة: أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ببرنس فيه تمثال عقاب، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده عليه فأذهبه الله -عز وجل- وهذه الزيادة منقطعة.
وقال عاصم، عن زر، عبد الله، قال: كنت غلاما يافعا في غنم لعقبة بن أبي معيط أرعاها، فأتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر، فقال: "يا غلام هل عندك لبن"؟ قلت: نعم ولكن مؤتمن. قال: "فائتني بشاة لم ينز عليها الفحل". فأتيته بعناق جذعة، فاعتقلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا ومسح ضرعها حتى أنزلت، فاحتلب في صحفة، وسقى أبا بكر، وشرب بعده، ثم قال للضرع: "اقلص"، فقلص فعاد كما كان، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: "علمني من هذا القول"، فمسح رأسي، وقال: "إنك غلام معلم"، فأخذت عنه سبعين سورة ما نازعنيها بشر. إسناده حسن قوي.
مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس، قال: قال أبو طلحة لأم سليم: لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفا، أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم. فأخرجت أقراصا من شعير، ثم أخذت خمارا لها فلفته فيه، ودسته تحت ثوبي، وأرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدته جالسا في المسجد ومعه الناس، فقمت عليهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسلك أبو طلحة"؟ قلت: نعم. فقال لمن معه: "قوموا". قال: فانطلق وانطلقت بين أيديهم، حتى جئت أبا طلحة فأخبرته، فقال: يا أم سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
وليس عندنا ما نطعمهم. فقالت: الله ورسوله أعلم. قال: فانطلق أبو طلحة حتى لقي(سيرة 2/312)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل معه حتى دخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلمي ما عندك يا أم سليم". فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففت، وعصرت عليه أم سليم عكة لها فأدمته، ثم قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقول، ثم قال: "ائذن لعشرة"، فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا، فأكل القوم وشبعوا، وهم سبعون أو ثمانون رجلا. متفق عليه. وقد مر مثل هذا في غزوة الخندق من حديث جابر.
وقال سليمان التيمي، عن أبي العلاء، عن سمرة بن جندب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بقصعة، فيها طعام، فتعاقبوها إلى الظهر منذ غدوه، يقوم قوم ويقعد آخرون، فقال رجل لسمرة: هل كانت تمد؟ قال: فمن أيش تعجب؟ ما كانت تمد إلا من ههنا، وأشار إلى السماء، وأشار يزيد بن هارون إلى السماء. هذا حديث صحيح.
وقال زيد بن الحباب، عن الحسين بن واقد: حدثني عبد الله بن بريدة، عن أبيه، أن سلمان أتى النبي صلى الله عليه وسلم بهدية، فقال: "لمن أنت"؟ قال لقوم. قال: "فاطلب إليهم أن يكاتبوك". قال: فكاتبوني على كذا وكذا نخلة أغرسها لهم، ويقوم عليها سلمان حتى تطعم، قال فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فغرس النخل كله، إلا نخلة واحدة غرسها عمر، فأطعم نخله من سنته إلا تلك النخلة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من غرسها"؟ قالوا: عمر، فغرسها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فحملت من عامها. رواته ثقات.
أخبرنا ابن أبي عمر، وابن أبي الخير كتابة، عن محمد بن أحمد وجماعة، أن فاطمة بنت عبد الله أخبرتهم، قالت: أخبرنا ابن ريذة،(سيرة 2/313)
قال: أخبرنا الطبراني، قال: حدثنا الوليد بن حماد الرملي، قال: حدثنا عبد الله بن الفضل، قال: حدثني أبي، عن أبيه عاصم بن عمر،
عن أبيه، عن جده قتادة بن النعمان، قال: أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوس، فدفعها إلي يوم أحد، فرميت بها بين يديه حتى اندقت عن سيتها، ولم أزل عن مقامي نصب وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألقي السهام بوجهي، كلما مال سهم منها إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ميلت رأسي لأقي وجهه، فكان آخر سهم ندرت منه حدقتي على خدي، وافترق الجمع، فأخذت حدقتي بكفي، فسعيت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآها في كفي دمعت عيناه فقال: "اللهم إن قتادة فدى وجه نبيك بوجهه، فاجعلها أحسن عينيه وأحدهما نظرًا" فكانت أحد عينيه نظرا. غريب وروي من وجه آخر ذكرناه.
وقال حماد بن زيد: حدثنا المهاجر مولى آل أبي بكرة، عن أبي العالية، عن أبي هريرة، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمرات، فقلت: ادع لي فيهن بالبركة. قال: فقبضهن ثم دعا فيهن بالبركة، ثم قال: "خذهن فاجعلهن في مزود، فإذا أردت أن تأخذ منهن، فأدخل يدك، فخذ ولا تنثرهن نثرا". قال: فحملت من ذلك التمر كذا وكذا وسقا في سبيل الله، وكنا نأكل ونطعم، وكان المزود معلقا بحقوي لا يفارق حقوي، فلما قتل عثمان انقطع، أخرجه الترمذي، وقال: حسن غريب.
وروي في "جزء الحفار" من حديث أبي هريرة، وفيه: فأخذت منه خمسين وسقا في سبيل الله، وكان معلقا خلف رحلي، فوقع في زمان عثمان فذهب. وله طريق أخرى غريبة.(سيرة 2/314)
وقال معقل بن عبيد الله، عن أبي الزبير، عن جابر، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستطعمه، فأطعمه شطر وسق شعير، فما زال الرجل يأكل منه وامرأته ومن ضيفاه حتى كاله، فأتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال له: "لو لم تكله لأكلتم منه وأقام لكم".
وكانت أم مالك تهدي للنبي صلى الله عليه وسلم في عكة لها سمنا، فيأتيها بنوها فيسألون الأدم، وليس عندهم شيء، فتعمد إلى الذي كانت تهدي فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتجد فيه سمنا، فما زال يقيم لها أدم بنيها حتى عصرته، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "أعصرتيها"؟ قالت: نعم، قال: "لو تركتيها مازال قائما". أخرجه مسلم.
وقال طلحة بن مصرف، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير. فنفدت أزواد القوم، حتى هم أحدهم بنحر بعض حمائلهم، فقال عمر: يا رسول الله لو جمعت ما بقي من الأزواد فدعوت الله عليها. ففعل، فجاء ذو البر ببره، وذو التمر بتمره، فدعا حتى إنهم ملأوا أزوادهم، فقال عند ذلك: "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة". أخرجه مسلم.
وروى نحوه وأطول منه المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري، عن أبيه -رضي الله عنه- وزاد: فما بقي في الجيش وعاء إلا ملؤوه وبقي مثله، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله(سيرة 2/315)
عبد مؤمن بها إلا حجب عن النار"، رواه الأوزاعي عنه.
وقال سلم بن زرير: سمعت أبا رجاء العطاردي يقول: حدثنا عمران بن حصين أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فأدلجوا ليلتهم، حتى إذا كان في وجه الصبح عرس رسول الله فغلبتهم أعينهم حتى ارتفعت الشمس، فكان أول من استيقظ أبو بكر، فاستيقظ عمر بعده، فقعد عند رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يكبر ويرفع صوته، حتى يستقيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استيقظ والشمس قد بزغت، قال: "ارتحلوا". فسار بنا حتى ابيضت الشمس، فنزل فصلى بنا واعتزل رجل فلم يصل، فلما انصرف قال: "يا فلان ما منعك أن تصلي معنا"؟ قال: يا رسول الله أصابتني جنابة. فأمره أن يتيمم بالصعيد، ثم صلى، وعجلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركوب بين يديه أطلب الماء، وكنا قد عطشنا عطشا شديدًا، فبينما نحن نسير إذا نحن بامرأة سادلة رجليها بين مزادتين، قلنا لها: أين الماء؟ قالت: أي هاة فقلنا: كم بين أهلك وبين الماء؟ قالت: يوم وليلة. فقلنا: انطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ما رسول الله؟ فلم نملكها من أمرها شيئا حتى استقبلنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثته أنها موتمة، فأمر بمزادتيها فمج في
العزلاوين العلياوين، فشربنا عطاشا أربعين رجلا حتى روينا وملأنا كل قربة معنا وكل إداوة. وغسلنا صاحبنا، وهي تكاد تضرج من الماء، ثم قال لنا: "هاتوا ما عندكم". فجمعنا لها من الكسر والتمر، حتى صر لها صرة فقال: "اذهبي فأطعمي عيالك، واعلمي أنا لم نرزأ من مائك شيئا". فلما أتت(سيرة 2/316)
أهلها قالت: لقد أتيت أسحر الناس، أو هو نبي كما زعموا، فهدى الله ذلك الصرم بتلك المرأة، فأسلمت وأسلموا. اتفقا عليه.
وقال حماد بن سلمة وغيره، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فقال: "إن لا تدركوا الماء تعطشوا". فانطلق سرعان الناس تريد الماء، ولزمت رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، فمالت به راحلته فنعس، فمال فدعمته فادعم ومال، فدعمته فادعم، ثم مال حتى كاد أن ينقلب، فدعمته فانتبه، فقال: "من الرجل"؟ قلت: أبو قتادة. فقال: "حفظك الله بما حفظت به رسول الله"، ثم قال: "لو عرسنا"، فمال إلى شجرة، فنزل فقال: "انظر هل ترى أحدا"؟. فقلت: هذا راكب، هذان راكبان، حتى بلغ سبعة. فقال: "احفظوا علينا صلاتنا"، قال: فنمنا فما أيقظنا إلا حر الشمس، فانتبهنا فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار وسرنا هنية، ثم نزلنا، فقال: "أمعكم ماء"؟ قلت: نعم ميضأة فيها شيء من ماء. قال: فأتني بها، فتوضئوا وبقي في الميضأة جرعة، فقال: "ازدهر بها يا أبا قتادة، فإنه سيكون لها شأن"، ثم أذن بلال فصلى الركعتين قبل الفجر، ثم صلى الفجر، ثم ركب وركبنا، فقال بعض لبعض: فرطنا في صلاتنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تقولون؟ إن كان أمر دنياكم فشأنكم، وإن كان أمر دينكم فإلي". قلنا: فرطنا في صلاتنا. قال: "لا تفريط في النوم إنما التفريط في اليقظة، فإذا كان ذلك فصلوها من الغد لوقتها". ثم قال: "ظنوا بالقوم". فقلنا: إنك قلت بالأمس: "إن لا تدركوا الماء غدا تعطشوا"، فأتى الناس الماء. فقال: "أصبح الناس وقد فقدوا نبيهم"، فقال بعض القوم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم(سيرة 2/317)
بالماء، وفي القوم أبو بكر وعمر، قالا: أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ليسبقكم إلى الماء ويخلفكم سقط، وإن يطع الناس أبا بكر وعمر يرشدوا قالها ثلاثا. فلما اشتدت الظهيرة رفع لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله هلكنا، عطشنا، انقطعت الأعناق. قال: "لا هلك عليكم"، ثم قال: "يا أبا قتادة ائتني بالميضأة". فأتيته بها فقال: "حل لي غمري" -يعني قدحه- فحللته، فجعل يصب فيه ويسقي
الناس، فقال: "أحسنوا الملء، فكلكم سيصدر عن ري". فشرب القوم حتى لم يبق غيري ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فصب لي فقال: "اشرب"، قلت: اشرب أنت يا رسول الله، قال: "إن ساقي القوم آخرهم شربا". فشربت ثم شرب بعدي، وبقي من الميضأة نحو مما كان فيها، وهو يومئذ ثلاثة مائة.
قال عبد الله: فسمعني عمران بن حصين وأنا أحدث هذا الحديث في المسجد، فقال: من الرجل؟ فقلت: أنا عبد الله بن رباح الأنصاري. فقال: القوم أعلم حديثهم، انظر كيف تحدث فإني أحد السبعة تلك الليلة، فلما فرغت قال: ما كنت أحب أحسب أن أحدا يحفظ هذا الحديث غيري. ورواه بكر بن عبد الله المزني أيضا عن عبد الله بن رباح. رواه مسلم.
وقال الأوزاعي: حدثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، قال: حدثني أنس، قال: أصابت الناس سنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يوم الجمعة يخطب الناس، فأتاه أعرابي، فقال: يا رسول الله هلك المال وجاع العيال، فادع الله لنا.
فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده ما وضعهما حتى ثارت سحابة أمثال الجبال، ثم ينزل عن المنبر حتى رأيت المطر يتحادر(سيرة 2/318)
على لحيته، فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد، ومن بعد الغد، حتى الجمعة الأخرى، فقام ذلك الأعرابي أو غيره، فقال: يا رسول الله تهدم البناء وجاع العيال فادع الله لنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وقال: "اللهم حوالينا ولا علينا". فما يشير بيديه إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت، حتى صارت المدينة مثل الجوبة، وسال الوادي، وادي قناة شهرا، ولم يجئ أحد من ناحية من النواحي إلا حدث بالجود. اتفقا عليه.
ورواه ثابت وعبد العزيز بن صهيب وغيرهما عن أنس.
وقال عثمان بن عمر: وروح بن عبادة: حدثنا شعبة، عن أبي جعفر الخطمي، سمع عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدث، عن عثمان بن حنيف، أن رجلا ضريرا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني. قال: "فإن شئت أخرت ذلك فهو خير لك، وإن شئت دعوت
الله". قال: فادعه. قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء، ويصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه، فتقضيها لي، اللهم شفعه في وشفعني في نفسي".
ففعل الرجل فبرأ.
قال البيهقي: وكذلك رواه حماد بن سلمة، عن أبي جعفر الخطمي.
وقال أحمد بن شبيب بن سعيد الحبطي: حدثني أبي، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر المديني الخطمي، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فقال: "ائت الميضأة فتوضأ، ثم(سيرة 2/319)
صل ركعتين ثم قل: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيجلي لي عن بصري، اللهم شفعه في وشفعني في نفسي". قال عثمان: فوالله ما تفرقنا ولا طال الحديث حتى دخل الرجل وكأنه لم يكن به ضرر قط. رواه يعقوب الفسوي وغيره، عن أحمد بن شبيب.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: حاب يهودي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم جمله"، قال: فاسود شعره حتى صار أشد سوادا من كذا وكذا.
ويروى نحوه عن ثمامة، عن أنس، وفيه: "فاسودت لحيته بعد ما كانت بيضاء".
وقال سعيد بن أبي مريم: أخبرنا محمد بن جعفر بن أبي كثير، قال: أخبرني سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن جدة قتادة بن النعمان، قال: كانت ليلة شديدة الظلمة والمطر فقلت: لو أني اغتنمت العتمة مع النبي صلى الله عليه وسلم ففعلت، فلما انصرف أبصرني ومعه عرجون يمشي عليه، فقال: "يا قتادة هذه الساعة"؟ قلت: اغتنمت شهود الصلاة معك. فأعطاني العرجون فقال: "إن الشيطان في خلفك في أهلك فاذهب بهذا العرجون فاستعن به حتى تأتي بيتك، فتجده في زاوية البيت فاضربه في أهلك بالعرجون".
فخرجت من المسجد فأضاء العرجون مثل الشمعة نورا، فاستضأت به فأتيت أهلي فوجدتهم رقودا، فنظرت في الزاوية فإذا فيها قنفذ، فلم أزل أضربه به، حتى خرج.
عاصم عن جده ليس بمتصل، لكنه قد روي من وجهين آخرين عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وحديث أبي سعيد حديث(سيرة 2/320)
قوي.
وقال حرمي بن عمارة: حدثنا عزرة بن ثابت، عن علباء بن أحمر، قال: حدثني أبو زيد الأنصاري، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادن مني". قال: فمسح بيده على رأسي ولحيتي، ثم قال: "اللهم جمله وأدم جماله". قال: فبلغ بضعا ومائة سنة وما في لحيته بياض إلا نبذ يسير، ولقد كان منبسط الوجه لم يتقبض وجهه حتى مات. قال البيهقي: هذا إسناد صحيح موصول، وأبوزيد هو عمرو بن أخطب.
وقال علي بن الحسن بن شقيق: حدثنا الحسين بن واقد، قال: حدثنا أبو نهيك الأزدي عن عمرو بن أخطب -وهو أبو زيد- قال: استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته بإناء فيه ماء، وفيه شعرة فرفعتها ثم ناولته، فقال: "اللهم جمله"، قال: فرأيته ابن ثلاث وتسعين سنة، وما في رأسه ولحيته طاقة بيضاء.
وقال معتمر بن سليمان: حدثنا أبي، عن أبي العلاء، قال: كنت عند قتادة بن ملحان في مرضه، فمر رجل في مؤخر الدار، قال: فرأيته في وجهه، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح وجهه، قال: وكنت قلما رأيته إلا رأيته كأن على وجهه الدهان رواه عارم، ويحيى بن معين، عن معتمر.
وقال عكرمة بن عمار: حدثنا إياس بن سلمة بن الأكوع، قال: حدثني أبي أن رجلا أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله فقال: "كل بيمينك". قال: لا أستطيع. قال: "لا استطعت، ما منعه إلا الكبر".(سيرة 2/321)
قال: فما رفعها إلى فيه بعد. أخرجه مسلم.
وقال حميد: عن أنس، قال: جاء عبد الله بن سلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة، فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام يأكله أهل الجنة، والولد ينزع إلى أبيه وينزع إلى أمه. قال: "أخبرني بهن جبريل آنفا" -قال عبد الله: ذاك عدو اليهود من الملائكة- "أما أول أشراط الساعة، فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت، وأما الولد، فإذا سبق ماء الرجل
نزعه إلى أبيه، وإذا سبق ماء المرأة نزعة إلى أمه". فأسلم ابن سلام. وذكر الحديث.
أخرجه البخاري.
وقال يونس بن بكير، عن أبي معشر المدني، عن المقبري مرسلا، فذكر نحوا منه، وفيه: "فأما الشبه فأي النطفتين سبقت إلى الرحم فالولد به أشبه".
وقال معاوية بن سلام، عن زيد بن سلام، عن أبي سلام: أخبرني أبو أسماء الرحبي أن ثوبان حدثه، قال: كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء حبر، فقال: السلام عليك يا محمد. فدفعته دفعة كاد يصرع منها، فقال: لم تدفعني؟ قلت: ألا تقول: يا رسول الله!
قال: إنما سميته باسمه الذي سماه به أهله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن اسمى الذي سماني به أهلى محمد". فقال اليهودي: أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؟ قال: "في الظلمة دون الجسر"، فمن أول الناس إجازة؟ قال: "فقراء المهاجرين". قال: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: "زيادة كبد نون". قال: فما غذاؤهم على أثره؟ قال: "ينحر لهم ثور(سيرة 2/322)
الجنة الذي كان يأكل من أطرافها". قال: فما شرابهم عليه؟ قال: "من عين فيها تسمى سلسبيلا"، قال: صدقت. قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان. قال: "ينفعك إن حدثتك"؟. قال: أسمع بأذني. فقال: "سل". قال: جئت اسألك عن الولد، قال: "ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله". فقال اليهودي: صدقت وإنك لنبي. ثم انصرف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه سألني هذا الذي سألني عنه، وما أعلم شيئا منه حتى أتاني الله به". رواه مسلم.
وقال عبد الحميد بن بهرام، عن شهر، قال: حدثني ابن عباس، قال: حضرت عصابة من اليهود يوما النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: حدثنا عن خلال نسألك عنها لا يعلمها إلا نبي. قال:
"سلوا عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب على بنيه، إن أنا حدثتكم بشيء تعرفونه لتبايعني على الإسلام" قالوا: لك ذلك، قال: "فسلوني عما شئتم". قالوا: أخبرنا عن أربع خلال نسألك: أخبرنا عن الطعام الذي حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، وأخبرنا عن ماء الرجل كيف يكون الذكر منه، حتى يكون ذكرا، وكيف تكون
الأنثى منه حتى تكون أنثى، ومن وليك من الملائكة، قال: "فعليكم عهد الله لئن أنا حدثتكم لتبايعني"، فأعطوه ما شاء الله من عهد وميثاق، قال: "أنشدكم بالله الذي أنزل التورة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضا شديدا طال سقمه منه، فنذر لله لئن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحب الشراب إليه: ألبان الإبل، وأحب الطعام إليه لحمانها"؟ قالوا: اللهم نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اشهد عليهم"، قال: "أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله، فإن علا ماء الرجل ماء المرأة كان ذكرا بإذن الله، وإن علا ماء المرأة ماء الرجل كانت أنثى بإذن ال له "؟ قالوا: اللهم نعم. قال: "اللهم اشهد"، قال: "أنشدكم بالله(سيرة 2/323)
الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن هذا النبي تنام عيناه ولا ينام قلبه"؟ قالوا: اللهم نعم. قال: "اللهم اشهد عليهم". قالوا: أنت الآن حدثنا من وليك من الملائكة، فعندها نجامعك أو نفارقك، قال: "وليي جبريل، ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه"، قالوا: فعندها نفارقك، لو كان وليك غيره من الملائكة لبايعناك وصدقناك، قال: "ولم"؟ قالوا: إنه عدونا من الملائكة. فأنزل الله -عز وجل: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} الآية [البقرة: 97] ، ونزلت: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة: 90] .
وقال يزيد بن هارون: أخبرنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن صفوان بن عسال، قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي فنسأله، فقال الآخر: لا تقل نبي، فإنه إن سمعك تقول: نبي كانت له أربعة أعين. فانطلقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسألاه عن قول تسع آيات بينات. قال: "لا تشركوا بالله شيئا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تسحروا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان فيقتله، ولا تأكلوا الربا، ولا تفروا من الزحف، ولا تقذفوا محصنة -شك شعبة- وعليكم خاصة معشر اليهود أن لا تعدوا في السبت". فقبلا يديه ورجليه، وقالا: نشهد أنك نبي قال: "فما يمنعكما أن تسلما"؟ قالا: إن داود سأل ربه أنه لا يزال في ذريته نبي، ونحن نخاف إن أسلمنا أن تقتلنا اليهود.(سيرة 2/324)
وقال عفان: أخبرنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبيدة بن عبد الله، عن أبيه، قال: إن الله ابتعث نبيه لإدخال الرجال الجنة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم كنيسة فإذا هو بيهود، وإذا يهودي يقرأ التوراة، فلما أتى على صفته أمسك، وفي ناحيتها رجل مريض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما لكم أمسكتم"؟ فقال المريض: إنهم أتوا على صفة نبي فأمسكوا. ثم جاء المريض يحبو حتى أخذ التوراة، وقال: ارفع يدك، فقرأ، حتى أتى على صفته، فقال: هذه صفتك وصفة أمتك، أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، ثم مات. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لوا أخاكم".
وقال يزيد بن هارون: أخبرنا حماد بن سلمة، عن الزبير أبي عبد السلام، عن أيوب بن عبد الله بن مكرز، عن وابصة -هو الأسدي- قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع
شيئا من البر والإثم إلا سألته عنه، فجعلت أتخطى الناس، فقالوا: إليك يا وابصة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: دعوني أدنو منه، فإنه من أحب الناس إلي أن أدنو منه. فقال: "ادن وابصة". فدنوت حتى مست ركبتي ركبته، فقال: "يا وابصة أخبرك بما جئت تسألني عنه، أو تسألني "؟ فقلت: أخبرني يا رسول الله. قال: "جئت تسأل عن البر والإثم"؟ قلت: نعم. قال: فجمع أصابعه فجعل ينكت بها في صدري ويقول: "يا وابصة استفت قلبلك، استفت نفسك، البر: ما اطمأن إليه القلب، وأطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك".
وقال ابن وهب: حدثني معاوية، عن أبي عبد الله محمد الأسدي، سمع وابصة الأسدي، قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله عن البر والإثم،(سيرة 2/325)
فقال من قبل أن أسأله: "جئت تسألني عن البر والإثم"؟ قلت: إي والذي بعثك بالحق، إنه للذي جئت أسألك عنه. فقال: "البر ما انشرح له صدرك، والإثم ما حاك في نفسك، وإن أفتاك عنه الناس".
وقال محمد بن إسحاق، وروح بن القاسم، عن إسماعيل بن أمية، عن بجير بن أبي بجير، سمع عبد الله بن عمرو أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجنا إلى الطائف، فمررنا بقبر، فقال: "هذا قبر أبي رغال، وهو أبو ثقيف، وكان من قوم ثمود، فلما أهلك الله قومه منعه مكانه من الحرم، فلما خرج منه أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان، فدفن فيه، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب، إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه".
قال: فابتدرناه فاستخرجنا الغصن.(سيرة 2/326)
باب من إخباره بالكوائن بعده فوقعت كما أخبر:
شعبة، عن عدي بن ثابت، عن عبد الله بن يزيد، عن حذيفة، قال: لقد حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يكون حتى تقوم الساعة، غير أني لم أسأله ما يخرج أهل المدينة منها، رواه مسلم.
وقال الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما ما ترك فيه شيئا إلى قيام الساعة إلا ذكره، علمه من علمه، وجهله من جهله -وفي لفظ: حفظه من حفظه -وإنه ليكون منه الشيء فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه رواه الشيخان بمعناه.
وقال عزرة بن ثابت: حدثنا علباء بن أحمر، قال: حدثنا أبو زيد، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى أظنه قال: حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد فخطبنا حتى غربت الشمس، قال: فأخبرنا بما كان وبما هو كائن، فأحفظنا أعلمنا رواه مسلم.
وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن خباب، قال: شكونا(سيرة 2/327)
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده في ظل الكعبة فقلنا: ألا تدعو الله لنا، ألا تستنصر الله لنا؟ فجلس محمارا وجهه، ثم قال: "والله إن من كان قبلكم ليؤخذ الرجل فتحفر له الحفرة، فيوضع المنشار على رأسه فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، أو يمشط بأمشاط الحديد ما بين عصبه ولحمه، ما يصرف عن دينه وليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب منكم من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله -عز وجل- أو الذئب على غنمه، ولكنكم تعجلون". متفق عليه.
وقال الثوري، عن ابن المندكر، عن جابر قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل لك من أنماط". قلت: يا رسول الله وأنى يكون لي أنماط؟ قال: أما إنها ستكون. قال: فأنا أقول اليوم لامرأتي: نحي عني أنماطك، فتقول: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها ستكون لكم أنماط بعدي، فأتركها. متفق عليه.
وقال هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، عن سفيان بن أبي زهير النميري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تفتح اليمن فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، ثم تفتح الشام، فيأتي قوم فيبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، ثم تفتح العراق، فيأتي قوم فيبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون".
أخرجاه.(سيرة 2/328)
وقال الوليد بن مسلم، عن عبد الله بن العلاء بن زبر: حدثنا بسر بن عبيد الله، أنه سمع أبا إدريس الخولاني يقول: سمعت عوف بن مالك الأشجعي يقول: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وهو في قبة من أدم، فقال لي: "يا عوف اعدد ستا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان، يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال فيكم، حتى يعطي الرجل مائة دينار فيظل ساخطا، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر، فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفا". أخرجه البخاري.
وقال ابن وهب: أخبرني حرملة بن عمران، عن عبد الرحمن بن شماسة، سمع أبا ذر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لهم ذمة ورحما" رواه مسلم.
قال الليث وغيره، عن ابن شهاب، عن ابن لكعب بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا فتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيرا، فإن لهم ذمة ورحما". مرسل مليح الإسناد.
وقد رواه موسى بن أعين، عن إسحاق بن راشد، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه متصلا.
قال ابن عيينة، من الناس من يقول: هاجر أم إسماعيل كانت قبطية، ومن الناس من يقول: مارية أم إبراهيم قبطية.
وقال معمر، عن همام، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(سيرة 2/329)
"يهلك كسرى، ثم لا يكون كسرى بعده، وقيصر ليهلكن، ثم لا يكون قيصر بعده، ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله". متفق عليه.
أما كسرى وقيصر الموجودان عند مقالته صلى الله عليه وسلم فإنهما هلكا، ولم يكن بعد كسرى كسرى آخر، ولا بعد قيصر بالشام قيصر آخر ونفقت كنوزهما في سبيل الله في إمرة عمر -رضي الله عنه- وبقي للقياصرة ملك بالروم وقسطنطينية، بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ثبت ملكه" حين أكرم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يقضي الله -تعالى- فتح القسطنطينية، ولم يبق للأكاسرة ملك لقوله -عليه السلام: "يمزق ملكه" حين مزق كتاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى حماد بن سلمة، عن يونس، عن الحسن، أن عمر -رضي الله عنه- أتى بفروة كسرى فوضعت بين يديه، وفي القوم سرافة بن مالك بن جعشم، قال: فألقى إليه سواري كسرى بن هرمز، فجعلهما في يديه فبلغا منكبيه، فلما رآهما عمر في يدي سراقة قال: الحمد لله سوارا كسرى في يد سراقة، أعرابي من بني مدلج.
وقال ابن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن عدي بن حاتم، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثلت لي الحيرة كأنياب الكلاب وإنكم ستفتحونها". فقام رجل فقال: يا رسول الله هب لي ابنة بقيلة، قال: "هي لك". فأعطوه إياها، فجاء أبوها فقال: أتبيعها؟ قال: نعم. قال: بكم؟ احكم ما شئت. قال: ألف درهم. قال: أخذتها، قالوا له: لو قلت: ثلاثين ألفا لأخذها. قال: وهل عدد أكثر من ألف.
وقال سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، ومكحول، عن أبي إدريس الخولاني، عن عبيد الله بن حوالة الأزدي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم ستجندون أجنادا، جندا بالشام، وجندا بالعراق، وجندا(سيرة 2/330)
باليمن". فقلت: يا رسول الله خر لي. قال: "عليك
بالشام، فمن أبى فليلحق بيمنه ويسق من غدره، فإن الله قد تكفل لي بالشام وأهله"، قال أبو إدريس: من تكفل الله به فلا ضيعة عليه. صحيح.
وقال معمر، عن همام، عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خوز وكرمان -قوما من الأعاجم- حمر الوجوه، فطس الأنوف، صغار الأعين، كأن وجوههم المجان المطرقة". وقال: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر". البخاري.
وقال هشيم، عن سيار أبي الحكم، عن جبر بن عبيدة، عن أبي هريرة، قال: وعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الهند، فإن أدركتها أنفق فيها مالي ونفسي، فإن استشهدت كنت من أفض الشهداء، وإن رجعت فأنا أبو هريرة المحرر. غريب.
وقال حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رأيت ذات ليلة كأنا في دار عقبة بن رافع، وأتينا برطب من رطب ابن طاب، فأولت الرفعة لنا في الدنيا والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب". رواه مسلم.
وقال شعبة، عن فرات القزاز، سمع أبا حازم، يقول: قاعدت أبا هريرة خمس سنين، فسمعته يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "كانت بنو(سيرة 2/331)
إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلف نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر". قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم". اتفقا عليه.
وقال جرير بن حازم، عن ليث، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي ثعلبة الخشني، عن أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله بدأ هذا الأمر نبوة ورحمة، وكائنا خلافة ورحمة، وكائنا ملكا عضوضا، وكائنا عتوة وجبرية وفسادا في الأمة، يستحلون الفروج والخمور والحرير وينصرون على ذلك، ويرزقون أبدا حتى يلقوا الله".
وقال عبد الوارث وغيره، عن سعيد بن جمهان، عن سفينة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء". قال لي سفينة: أمسك أبو بكر سنتين، وعمر عشرا، وعثمان اثنتي عشرة، وعلي ستا، قلت لسفينة: إن هؤلاء يزعمون أن عليا لم يكن خليفة؟ قال: كذبت أستاه بني الزرقاء، يعني بني مروان. كذا قال في على "ستا"، وإنما كانت خلافة علي خمس سنين إلا شهرين، وإنما تكمل الثلاثون سنة بعشرة أشهر زائدة عما ذكر لأبي بكر وعمر. أخرجه أبو داود.
وقال صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي بدئ فيه، فقلت: وارأساه. فقال: "وددت أن ذاك كان وأنا حي، فهيأتك ودفنتك". فقلت غيرى: كأني بك في ذلك اليوم عروسا ببعض نسائك.
فقال: "بل أنا وارأساه، ادع لي أباك وأخاك، حتى أكتب لأبي بكر كتابا، فإني(سيرة 2/332)
أخاف أن يقول قائل ويتمنى متمن: إنا، ولا، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر". رواه مسلم، وعنده: "فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: إنا، ولا".
وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم أحدا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فضربه النبي صلى الله عليه وسلم برجله، وقال: "اثبت عليك نبي وصديق وشهيدان". أخرجه البخاري.
وقال أبو حازم، عن سهل بن سعد نحوه، لكنه قال "حراء" بدل "أحد"، وإسناده صحيح.
وقال سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، فتحركت الصخرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق، أو شهيد". رواه مسلم.
أبو بكر صديق، والباقون قد استشهدوا.
وقال إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب: أخبرني إسماعيل بن محمد بن ثابت الأنصاري، عن أبيه، أن ثابت بن قيس، قال: يا رسول الله لقد خشيت أن أكون قد هلكت.
قال: "ولم؟ " قال: نهانا الله أن نحب أن نحمد بما لم نفعل، وأجدني أحب الحمد، ونهانا عن الخيلاء، وأجدني أحب الجمال، ونهانا أن نرفع أصواتنا فوق صوتك، وأنا جهير(سيرة 2/333)
الصوت.
فقال: "يا ثابت ألا ترضى أن تعيش حميدا، وتقتل شهيدا، وتدخل الجنة"؟ قال: بلى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فعاش حميدا، وقتل شهيدا يوم مسيلمة الكذاب. مرسل، وثبت أنه قتل يوم اليمامة.
وقال الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن التحريش". رواه مسلم.
وقال الشعبي، عن مسروق، عن عائشة: حدثني فاطمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر إلي أنك أول أهل بيتي لحوقا بي ونعم السلف أنا لك. متفق عليه.
وقال سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه كان في الأمم محدثون، فإن يكن في هذه الأمة فهو عمر بن الخطاب". رواه مسلم.
وقال شعبة بن عن قيس، عن طارق بن شهاب، قال: كنا نتحدث أن عمر ينطق على لسان ملك.
ومن وجوه، عن علي: ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر.
وقال يحيى بن أيوب المصري، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر بعث جيشا، وأمر عليهم رجلا يدعى سارية، فبينما عمر يخطب، فجعل يصيح: يا ساري الجبل، فقدم رسول من ذلك الجيش فقال: يا أمير المؤمنين لقينا عدونا فهزمونا، فإذا صائح يصيح: يا ساري الجبل، فأسندنا ظهورنا إلى الجبل فهزمهم الله، فقلنا لعمر: كنت تصيح(سيرة 2/334)
بذلك.
وقال ابن عجلان: وحدثنا إياس بن معاوية بذلك.
وقال الجريري، عن أبي نضرة، عن أسير بن جابر، فذكر حديث أويس القرني بطوله، وفيه: فوفد أهل الكوفة إلى عمر، وفيهم رجل يدعى أويسا فقال عمر: أما هنا من القرنيين أحد؟. قال: فدعي ذلك الرجل، فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن رجلًا من أهل اليمن يقدم عليكم، ولا يدع بها إلا أما له، قد كان به بياض فدعا الله أن يذهبه عنه، فأذهبه عنه إلا مثل موضع الدرهم، يقال له: أويس، فمن لقيه منكم فليأمره فليستغفر لكم.
أخرجه مسلم مختصرا عن رجاله عن الجريري، وأخرجه أيضا مختصرا من وجه آخر.
وقال حماد بن سلمة، عن الجريري، عن أبي نضرة، عن أسير، قال: لما أقبل أهل اليمن جعل عمر يستقرئ الرفاق، فيقول: هل فيكم أحد من قرن؟ حتى على قرن، قال: فوقع
زمام عمر أو زمام أويس، فناوله عمر، فعرفه بالنعت، فقال عمر: ما اسمك؟ قال: أويس.
قال: هل كانت لك والدة؟ قال: نعم. قال: هل كان بك من البياض شيء؟ قال: نعم، دعوت الله فأذهبه عني إلا موضع الدرهم من سرتي لأذكر به ربي. فقال له عمر: استغفر لي. قال: أنت أحق أن تستغفر لي، أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن خير التابعين رجل يقال له: أويس القرني، وله والدة، وكان به بياض". الحديث.(سيرة 2/335)
وقال هشام الدستوائي، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن أسير بن جابر، قال: كان عمر إذا أتت عليه أمداد اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى أويس، فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم. قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم. قال: كان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم. قال: ألك والدة؟ قا: نعم. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل". فاستغفر لي. فاستغفر له، ثم قال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة.
قال: ألا أكتب إلى عاملها فيستوصوا بك خيرا؟ فقال: لأن أكون في غبراء الناس أحب إلي.
فلما كان في العام المقبل حج رجل من أشرافهم، فسأله عمر عن أويس، كيف تركته؟ قال: رث البيت قليل المتاع، قال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يأتي عليكم أويس مع أمداد اليمن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل"، فلما قدم الرجل أتى أويسا فقال: استغفر لي.
قال: أنت أحدث عهدا بسفر صالح فاستغفر لي. وقال: لقيت عمر بن الخطاب؟ قال: نعم.
قال: فاستغفر له. قال: ففطن له الناس، فانطلق على وجهه. قال أسير بن جابر: فكسوته بردا، فكان إذا رآه إنسان، قال: من أين لأويس هذا. رواه مسلم بطوله.
وقال شريك، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: لما كان يوم صفين، نادى مناد من أصحاب معاوية أصحاب علي: "(سيرة 2/336)
أفيكم أويس القرني"؟ قالوا: نعم.
فضرب دابته حتى دخل معهم، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خير التابعين أويس القرني".
وقال الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة، قال: كنا جلوسا عند عمر -رضي الله عنه- فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قلت: أنا. قال: هات إنك لجريء.
فقلت: ذكر فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره، تكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال: ليس هذا أعني، إنما أعني التى تموج موج البحر. قلت: يا أمير المؤمنين ليس ينالك من تلك شيء، إن بينك وبينها بابا مغلقا. قال: أرأيت الباب يفتح أو يكسر؟ قال: لا، بل يكسر. قال: إذا لا يغلق أبدا. قلت: أجل. فقلنا لحذيفة: أكان عمر يعلم من الباب؟ قال: نعم، كما يعلم أن غدا دونه الليلة، وذلك أني حدثته حديثا ليس بالأغاليط. فسأله مسروق: من الباب؟ قال: عمر. أخرجاه.
وقال شريك بن أبي نمر، عن ابن المسيب، عن أبي موسى الأشعري في حديث القف: فجاء عثمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ائذن له وبشره بالجنة، على بلوى -أبو بلاء- يصيبه". متفق عليه.
وقال القطان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن أبي سهلة مولى عثمان، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ادعي لي -أو ليت عندي- رجلا من أصحابي". قالت: قلت: أبو بكر؟ قال: "لا"، قلت: عمر؟ قال: "لا"، قلت: ابن عمك علي؟ قال: "لا"، قلت فعثمان؟(سيرة 2/337)
قال: "نعم". قالت: فجاء عثمان، فقال: $"قومي". قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يسر إلى عثمان، ولون عثمان يتغير، فلما كان يوم الدار قلنا: ألا تقاتل؟ قال: لا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي أمرا، فأنا صابر نفسي عليه.
وقال إسرائيل وغيره، عن منصور، عن ربعي، عن البراء بن ناجية الكاهلي -فيه جهالة- عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تدور رحى الإسلام عند رأس خمس أو ست وثلاثين سنة، فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإلا تروخي عنهم سبعين سنة". فقال عمر: يا رسول الله من هذا أو من مستقبله؟ قال: "من مستقبله".
وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، قال: لما بلغت عائشة بعض ديار بني عامر، نبحث عليها كلاب الحوأب، فقالت: أي ماء هذا؟ قالوا: الحوأب. قالت: ما أظنني إلا
راجعة، سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول: "كيف بإحداكن إذا نبحتها كلاب الحوأب". فقال الزبير: تقدمي لعل الله أن يصلح بك بين الناس.
وقال أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تقتتل فائتان عظيمتان، تكون بينهما مقتلة عظيمة، دعواهما واحدة" رواه البخاري. وأخرجا من حديث همام، عن أبي هريرة نحوه.
وقال صفوان بن عمرو: كان أهل الشام ستين ألفا، فقتل منهم عشرون ألفا، وكان أهل العراق مائة ألف وعشرين ألفا، فقتل منهم(سيرة 2/338)
أربعون ألفا، وذلك يوم صفين.
وقال شعبة: حدثنا أبو مسلمة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، قال: حدثني من هو خير مني -يعني أبا قتادة- أن النبي صلى الله عليه قال لعمار: "تقتلك الفئة الباغية".
وقال الحسن، عن أمه، عن أم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. رواهما مسلم.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن عيينة، قال: أخبرني عمر بن دينار، عن ابن أبي مليكة، عن المسور بن مخرمة، قال: قال عمر لعبد الرحمن بن عوف: أما علمت أنا كنا نقرأ: جاهدوا في الله حق جهاده في آخر الزمان كما جاهدتم في أوله! قال: فقال عبد الرحمن: ومتى ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: إذا كانت بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء. رواه الرمادي عنه.
وقال أبو نضرة، عن أبي سعيد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق" رواه مسلم.
وقال سعيد بن مسروق، عن عبد الرحمن بن أبي نعم، عن أبي سعيد، أن عليا -رضي الله عنه- بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني وهو باليمن- بذهب في تربتها فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أربعة: بين عيينة بن بدر الفزاري، وعلقمة بن علاثة الكلابي، والأقرع بن حابس الحنظلي، وزيد الخيل الطائي، فغضبت قريش والأنصار، وقالوا: يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أعطيهم أتألفهم"، فقام رجل غائر العينين، محلوق الرأس، مشرف الوجنتين،(سيرة 2/339)
ناتئ الجبين، فقال: اتق الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن يطع الله إن عصيته أيأمنني أهل السماء ولا تأمنوني"؟ فاستأذنه رجل في قتله، فأبى ثم قال:
يخرج من ضئضئ هذا قوم يقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، والله لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد". رواه مسلم وللبخاري بمعناه.
الأوزاعي، عن الزهري: حدثني أبو سلمة، والضحاك، يعني المشرقي، عن أبي سعيد، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم ذات يوم قسما، فقال ذو الخويصرة من بني تميم: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم اعدل! فقال: "ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل" فقام عمر قال: يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه قال: "لا، إن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد في شيء ثم ينظر إلى رصافة فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء آيتهم رجل أدعج إحدى يديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر". قال أبو سعيد: أشهد لسمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أني كنت مع علي -رضي الله عنه- حين قتلهم فالتمس في القتلى وأتى به على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاري.(سيرة 2/340)
وقال أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: ذكر علي -رضي الله عنه- أهل النهروان فقال: فيهم رجل مودن اليد أو مثدون اليد أو مخدج اليد، لولا أن تبطروا لنبأتكم بما وعد الله الذين يقاتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم قلت: أنت سمعت هذا؟ قال: إي ورب الكعبة. رواه مسلم.
وقال حماد بن زيد، عن جميل بن مرة، عن أبي الوضي السحيمي قال: كنا مع علي بالنهروان، فقال لنا: التمسوا المخدج. فالتمسوه فلم يجدوه، فأتوه فقال: ارجعوا فالتمسوا المخدج، فوالله ما كذبت ولا كذبت، حتى قال ذلك مرارا. فرجعوا فقالوا: قد وجدناه تحت القتلى في الطين فكأني أنظر إليه حبشيا، له ثدي كثدي المرأة، عليه شعيرات كشعيرات التي على ذنب اليربوع، فسر بذلك علي. رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده".
وقال شريك، عن عثمان بن المغيرة، عن زيد بن وهب، قال: جاء رأس الخوارج إلى علي، فقال له: اتق الله فإنك ميت. فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ولكني مقتول من ضربة على هذه تخضب هذه -وأشار بيده إلى لحيته- عهد معهود وقضاء مقضي، وقد خاب من افترى.
وقال أبو النضر: حدثنا محمد بن راشد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن فضالة بن أبي فضالة الأنصاري -وكان أبوه بدريا- قال: خرجت مع أبي عائدا لعلي -رضي الله عنه- من مرض أصابه ثقل منه، فقال له أبي: ما يقيمك بمنزلك هذا، لو أصابك أجلك لم يلك إلا أعراب جهينة! حمل إلى المدينة، فإن أصابك أجلك وليك أصحابك وصلوا(سيرة 2/341)
عليك فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي أني لا أموت حتى أؤمر، ثم تخضب هذه من دم هذه -يعني لحيته من دم هامته فقتل، وقتل أبو فضالة مع علي يوم صفين.
وقال الحسن عن أبي بكرة: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، والحسن بن علي إلى جنبه، وهو يقول: "إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين" أخرجه البخاري دون "عظيمتين".
وقال ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن عمير بن الأسود، حدثه أنه أتى عبادة بن الصامت، وهو بساحل حمص، وهو في بناء له، ومعه امرأته أم حرام، قال: فحدثتنا أم حرام أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا" قالت أم حرام: يا رسول الله أنا فيهم؟ قال: "أنت فيهم" قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم" قالت أم حرام: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: "لا" أخرجه البخاري فيه إخباره -عليه السلام- أن أمته يغزون البحر، ويغزون مدينة
قيصر.
وقال شعبة عن سماك عن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بين يدي الساعة ثلاثين كذابا دجالا كلهم يزعم أنه نبي" رواه مسلم، واتفقا عليه من حديث أبي هريرة.
وقال الأسود بن شيبان، عن أبي نوفل بن أبي عقرب، عن أسماء بنت أبي بكر، أنها قالت للحجاج: أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن في(سيرة 2/342)
ثقيف كذابا ومبيرا، فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فلا إخالك إلا إياه. أخرجه مسلم تعني بالكذاب المختار بن أبي عبيد.
وقال الوليد بن مسلم، عن مروان بن سالم الجزري: حدثنا الأحوص بن حكيم، وعن خالد بن معدان، عن عبادة بن الصامت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون في أمتي رجل يقال له: وهب، يهب الله له الحكمة، ورجل يقال له: غيلان، هو أضر على أمتي من إبليس" مروان ضعيف.
وقال ابن جريج: أخبرنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهر يقول: "تسألون عن الساعة، إنما علمها عند اله فأقسم بالله، ما على ظهر الأرض من نفس منفوسة اليوم يأتي عليها مائة سنة". رواه مسلم.
وقال شعيب، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله، وأبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة،
أن ابن عمر، قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء ليلة في آخر حياته، فلما سلم قام فقال: "أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد". متفق عليه.
فقال الجريري: كنت أطوف مع أبي الطفيل، فقال: لم يبق أحد ممن لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري، قلت: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كان أبيض مليحا مقصدا. أخرجه مسلم.(سيرة 2/343)
وأصح الأقوال أن أبا الطفيل توفي سنة عشر ومائة.
وقال إبراهيم بن محمد بن زياد الألهاني، عن أبيه، عن عبد الله بن بسر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يعيش هذا الغلام قرنًا"، قال: فعاش مائة سنة.
وقال بشر بن بكر، والوليد بن مسلم: حدثنا الأوزاعي، قال: حدثني الزهري، قال: حدثني سعيد بن المسيب، قال: ولد لأخي أم سلمة غلام، فسموه الوليد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسمون بأسماء فراعنتكم، غيروا اسمه -فسموه عبد الله- فإنه سيكون في هذه الأمة رجل يقال له: الوليد، هو شر لأمتي من فرعون لقومه".
هذا ثابت عن ابن المسيب، ومراسيله حجة على الصحيح.
وقال سليمان بن بلال، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا بلغ بنو أبي العاص أربعين رجلا، اتخذوا دين الله دغلا، وعباد الله خولا، ومال الله دولا". غريب، ورواته ثقات.
وقد روى الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد مرفوعا مثله، لكنه قال: "ثلاثين رجلا".
وقال سليمان بن حيان الأحمر: حدثنا داود بن أبي هند، عن أبي حرب بن أبي الأسود الديلي، عن طلحة النصري قال: قدمت المدينة مهاجرا، وكان الرجل إذا قدم المدينة، فإن كان له عريف نزل عليه، وإن لم يكن له عريف نزل الصفة، فنزلت الصفة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرافق بين الرجلين، ويقسم بينهما مدا من تمر، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم(سيرة 2/344)
في صلاته، إذ ناداه رجل قال: يا رسول الله أحرق بطوننا التمر، وتخرقت عنا الخنف. قال: وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمد الله وأثنى عليه، وذكر ما لقي من قومه ثم قال: "لقد رأيتني وصاحبي، مكثنا بضع عشرة ليلة ما لنا طعام غير البرير -وهو ثمر الأراك- حتى أتينا إخواننا من الأنصار فآسونا من طعامهم، وكان جل طعامهم التمر، والذي لا إله إلا هو لو قدرت لكم على الخبز واللحم لأطعمتكموه، وسيأتي عليكم زمان أو من أدركه منكم، تلبسون أمثال أستار الكعبة، ويغدى ويراح عليكم بالجفان". قالوا: يا رسول الله أنحن يومئذ خير أم اليوم؟ قال: "بل أنتم اليوم خير، أنت اليوم إخوان، وأنتم يومئذ يضرب بعضكم رقاب بعض".
وقال محمد بن يوسف الفريابي: ذكر سيان عن يحيى بن سعيد، عن أبي موسى يحنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم، سلط بعضهم على ربعض". حديث مرسل.
وقال عثمان بن حكيم، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مررنا على مسجد بني معاوية، فدخل فصلى ركعتين، وصلينا معه، فناجى ربه طويلا، ثم قال: "سألت ربي ثلاثة: سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسم بينهم فمنعنيها".
رواه مسلم.(سيرة 2/345)
وقال أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال لي: يا محمد إني إذا قضيت قضاء لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يسبي بعضا وبعضهم يقتل بعضا". وقال: "إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين. وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين حتى يعبدوا الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وإني خاتم النبيين لا نبي بعدي. ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله عز وجل". رواه مسلم.
وقال يونس وغيره، عن الحسن، عن حطان بن عبد الله، عن أبي موسى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بين يدي الساعة الهرج". قيل: وما الهرج؟ قال: "القتل" قالوا: أكثر مما نقتل؟ قال: "إنه ليس بقتلكم المشركين، ولكن قتل بعضكم بعضا". قالوا: ومعنا يومئذ عقولنا؟ قال: "إنه تنزع عقول أكثر أهل ذلك الزمان، ويخلف لهم هباء من الناس، يحسب أكثرهم أنهم على شيء، وليسوا على شيء".(سيرة 2/346)
قال سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر، يضربون الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا". رواه مسلم.
وقال أبو عبد السلام، عن ثوبان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها". فقال قائل: من قلة نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن". فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت". أخرجه أبو داود من حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: حدثنا أبو عبد السلام.
وقال معمر، عن همام: حدثنا أبو هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، ليأتين على أحدكم يوم لأن يراني، ثم لأن يراني، أحب إليه من مثل أهله وماله معهم". رواه مسلم.
وللبخاري مثله من حديث أبي هريرة.
وقال صفوان بن عمرو: حدثني أزهر بن عبد الله الحرازي، عن أبي عامر الهوزني، عن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على
اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة(سيرة 2/347)
ستفترق على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة". أخرجه أبو داود.
وقال عبد الوارث، عن أبي التياح، عن أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويثبت الجهل، وتشرب الخمر، ويظهر الزنى". متفق عليه.
وقال هشام، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا". متفق عليه.
وقال كثير النواء، عن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون في أمتي قوم يسمون الرافضة هم براء من الإسلام". كثير ضعيف تفرد به.
وقال شعبة: أخبرني أبو جمرة، قال: أخبرنا زهدم أنه سمع عمران بن حصين قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون قوم بعدهم يخونون، ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن". رواه مسلم.
والأحاديث الصحيحة والضعيفة في إخباره بما يكون بعده كثيرة إلى(سيرة 2/348)
الغاية، اقتصرنا على هذا القدر منها، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور، نسأل الله -تعالى- أن يكتب الإيمان في قلوبنا، وأن يؤيدنا بروح منه.(سيرة 2/349)
باب جامع من دلائل النبوة:
قال سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس، قال: كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة، وآل عمران، كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق هاربا حتى لحق بأهل الكتاب، قال: فرفعوه، قالوا: هذا كان يكتب لمحمد فأعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم، فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فتركوه منبوذا. رواه مسلم.
وقال عبد الوارث، عن عبد العزيز، عن أنس، قال: كان رجل نصراني فأسلم، وقرأ البقرة وآل عمران، فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فعاد نصرانيا، وكان يقول: ما أرى يحسن محمد إلى ما كنت أكتب له، فأماته الله، فأقبروه، فأصبح وقد لفظته الأرض، قالوا: هذا عمل محمد وأصحابه. قال: فحفروا له فأعمقوا، فأصبح وقد لفظته الأرض. فقالوا: عمل محمد وأصحابه قال: فحفروا وأعمقوا ما استطاعوا، فأصبح وقد لفظته الأرض، فعلموا أنه من الله عز وجل أخرجه البخاري.
وقال الليث عن سعيد المقبري عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما(سيرة 2/350)
مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة". متفق عليه.
قلت: هذه هي المعجزة العظمى، وهي القرآن فإن النبي من الأنبياء -عليهم السلام- كان يأتي بالآية وتنقضي بموته، فقل لذلك من يتبعه، وكثر أتباع نبينا صلى الله عليه وسلم لكون معجزته الكبرى باقية بعده، فيؤمن بالله ورسوله كثير ممن يسمع القرآن على ممر الأزمان، ولهذا قال: فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة.
وقال زائدة، عن المختار بن فلفل، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما صدق نبي ما صدقت، إن من الأنبياء من لا يصدقه من أمته إلا الرجل الواحد". رواه مسلم.
وقال جرير، عن منصور، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله -عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] ، قال: أنزل القرآن في ليلة القدر جملة واحدة إلى سماء الدنيا، وكان بموقع النجوم فكان الله -عز وجل- ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعضه في إثر بعض. قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32] .(سيرة 2/351)
باب آخر سور نزلت:
قال أبو العميس، عن عبد المجيد بن سهيل، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قا: قال لي ابن عباس: تعلم آخر سورة من القرآن نزلت جميعا؟ قلت: نعم {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح} [النصر: 1] ، قال: صدقت. رواه مسلم.
وقال أبو بشر عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح} [النصر: 1] قال: أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه، إذا فتح الله عليك فذاك علامة أجلك. قال ذلك لعمر -رضي الله عنه- فقال: ما أعلم منها إلا مثل ما تعلم يا ابن عباس.
أخرجه البخاري بمعناه.
وقال شعبة، عن أبي إسحاق، سمع البراء يقول: آخر سورة نزلت "براءة" وآخر آية أنزلت "يستفتونك". متفق عليه.
وقال الثوري، عن عاصم الأحول، عن الشعبي عن ابن عباس، قال: آخر آية أنزلها الله آية الربا.
وقال الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة عن ابن(سيرة 2/352)
عباس قال: آخر شيء نزل من القرآن: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] .
وقال ابن أبي عروبة، عن قتادة عن سعيد بن المسيب، قال: قال عمر: آخر ما أنزل الله -عز وجل- آية الربا فدعوا الربا والريبة. صحيح.
وقال أبو جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي، قال: آخر آية أنزلت {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} [التوبة: 129] .
فحاصله أن كلا منهم أخبر بمقتضى ما عنده من العلم.
وقال الحسين بن واقد: حدثني يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن بن أبي الحسن، قالا: نزل من القرآن بالمدينة: ويل للمطففين، والبقرة، وآل عمران، والأنفال، والأحزاب، والمائدة، والممتحنة والنساء وإذا زلزلت والحديد، ومحمد، والرعد، والرحمن، وهل أتى، والطلاق، ولم يكن، والحشر، وإذا جاء نصر الله، والنور، والحج، والمنافقون، والمجادلة، والحجرات، والتحريم، والصف، والجمعة، والتغابن، والفتح، وبراءة. قالا: ونزل بمكة فذكرا ما بقي من سور القرآن.(سيرة 2/353)
باب في النسخ والمحو من الصدور:
وقال أبو حرب بن أبي الأسود، عن أبيه، عن أبي موسى، قال: كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة، فأنسيتها، غير أني حفظت منها: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها، غير أني حفظت منها: يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا ما لا تفعلون، فتكتب شهادة في أعناقكم، فتسألون عنها يوم القيامة. أخرجه مسلم.
وقال شعيب بن أبي حمزة وغيره، عن الزهري: أخبرني أبو أمامة بن سهل، أن رهطا من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه، أن رجلا قام في جوف الليل يريد أن يفتتح سورة كان قد وعاها، فلم يقدر منها على شيء إلا: بسم الله الرحمن الرحيم، فأتى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح ليسأله عن ذلك، ثم جاء آخر حتى اجتمعوا، فسأل بعضهم بعضا ما جمعهم؟ فأخبر بعضهم بعضا بشأن تلك السورة ثم أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه خبرهم، وسألوه عن السورة فسكت ساعة لا يرجع إليهم شيئا، ثم قال: "نسخت البارحة"، فنسخت من صدورهم، ومن كل شيء كانت فيه. رواه عقيل، عن ابن شهاب، قال فيه: وابن المسيب جالس لا ينكر ذلك.
نسخ هذه السورة ومحوها من صدورهم من براهين النبوة، والحديث صحيح.(سيرة 2/354)
ذكر صفة النبي صلى الله عليه وسلم:
قال إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن جده، سمع البراء يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها، وأحسنه خلقا، ليس بالطويل الذاهب، ولا بالقصير.
اتفقا عليه من حديث إبراهيم.
وقال البخاري: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زهير، عن أبي إسحاق، قال رجل للبراء: أكان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ قال: لا، مثل القمر.
وقال إسرائيل، عن سماك أنه سمع جابر بن سمرة قال له رجل: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه مثل السيف؟ قال: لا بل مثل الشمس والقمر مستديرا. رواه مسلم.
وقال المحاربي وغيره، عن أشعث، عن أبي إسحاق، عن جابر بن سمرة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة إضحيان، وعليه حلة حمراء، فجعلت أنظر إليه وإلى القمر، فلهو كان أحسن في عيني من القمر.
وقال عقيل، عن ابن شهاب: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه، عن جده، قال: لا أن سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يبرق وجهه، وكان إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر.(سيرة 2/355)
أخرجه البخاري.
وقال ابن جريج، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: دخل النبي صلى الله عليه وسلم يوما مسرورا وأسارير وجهه تبرق، وذكر الحديث. متفق عليه.
وقال يعقوب الفسوي: حدثا سعيد، قال: حدثنا يونس بن أبي يعفور العبدي، عن أبي إسحاق الهمداني، عن امرأة من همدان سماها قالت: حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فرأيته على بعير له يطوف بالكعبة، بيده محجن، فقلت لها: شبهيه. قالت: كالقمر ليلة البدر، لم أر قبله ولا بعده مثله.
وقال يعقوب بن محمد الزهري: حدثنا عبد الله بن موسى التيمي، قال: حدثنا أسامة بن زيد، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، قال: قلنا للربيع بنت معوذ: صفي لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: لو رأيته، لقلت: الشمس طالعة.
وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: سمعت أنسا وهو يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان ربعة من القوم، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير، أزهر اللون، ليس بأبيض أمهق، ولا آدم، ليس بجعد قطط، ولا بالسبط، بعث على رأس أربعين سنة، وتوفي وهو ابن ستين سنة، وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء. متفق عليه.(سيرة 2/356)
وقال خالد بن عبد الله، عن حميد، عن أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمر اللون.
وقال ثابت، عن أنس: كان أزهر اللون.
وقال علي بن عاصم: أخبرنا حميد، قال: سمعت أنسا يقول: كان صلى الله عليه وسلم أبيض، بياضه إلى السمرة.
وقال سعيد الجريري: كنت أنا وأبو الطفيل نطوف بالبيت، فقال: ما بقي أحد رأى
رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري. قلت: صفه لي. قال: كان أبيض مليحا مقصدا. أخرجه مسلم، ولفظه: كان أبيض مليح الوجه.
وقال ابن فضيل، عن إسماعيل، عن أبي جحيفة، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض قد شاب، وكان الحسن بن علي يشبهه. متفق عليه.
وقال عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن الحنفية، عن أبيه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أزهر اللون. رواه عنه حماد بن سلمة.
وقال المسعودي، عن عثمان بن عبد الله بن هرمز، عن نافع بن جبير، عن علي: كان صلى الله عليه وسلم مشربا وجهه حمرة. رواه شريك عن عبد الملك بن عمير، عن نافع مثله.
وقال عبد الله بن إدريس وغيره: حدثنا ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن مالك بن جعشم، عن أبيه، أن سراقة بن جعشم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما دنوت منه، وهو على ناقته، أنظر إلى ساقه كأنها جمارة.(سيرة 2/357)
وقال ابن عيينة: أخبرنا إسماعيل بن أمية، عن مزاحم بن أبي مزاحم، عن عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، عن محرش الكعبي، قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة ليلا، فنظرت إلى ظهره كأنه سبيكة فضة.
وقال يعقوب الفسوي: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء، قال: حدثني عمرو بن الحارث قال: حدثني عبد الله بن سالم، عن الزبيدي، قال: أخبرني محمد بن مسلم، عن سعيد بن المسيب، أنه سمع أبا هريرة يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كان شديد البياض.
وقال رشدين بن سعد، عن عمرو بن الحارث، عن أبي يونس مولى أبي هريرة، عن أبي
هريرة، قال: ما رأيت شيئا أحسن من النبي صلى الله عليه وسلم، كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحدا أسرع في مشيته منه صلى الله عليه وسلم، كأن الأرض تطوى له، إنا لنجتهد، وإنه غير مكترث.
رواه ابن لهيعة، عن أبي يونس.
وقال شعبة، عن سماك، عن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضليع الفم، أشكل العينين، منهوس الكعبين. أخرجه مسلم.
ورواه أبو داود، عن شعبة فقال: أشهل العينين، منهوس العقب.
وقال أبو عبيد: الشكلة: كهيئة الحمرة تكون في بياض العين، والشهلة: حمرة في سواد العين قلت: ومنهوس الكعب: قليل لحم(سيرة 2/358)
العقب. كذا فسره سماك بن حرب لشعبة.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عباد عن حجاج عن سماك عن جابر بن سمرة عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت إذا نظرت إليه قلت: أكحل العينين، وليس بأكحل، وكان في ساقيه حموشة، وكان لا يضحك إلا تبسما.
وقال عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن علي، عن أبيه -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيم العينين، أهدب الأشفار، مشرب العين بحمرة، كث اللحية.
وقد خالد بن عبد الله الطحان، عن عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده، قال: قيل لعلي -رضي الله عنه: انعت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: كان أبيض مشربا بياضه حمرة، وكان أسود الحدقة، أهدب الأشفار.
وقال عبد الله بن سالم، عن الزبيدي، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان مفاض الجبين، زهدب الأشفار، أسود اللحية، حسن الثغر، بعيد ما بين المنكبين، يطأ بقدميه جميعا، ليس له أخمص.
وقال عبد العزيز بن أبي ثابت الزهري: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن موسى بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلج الثنيتين، إذا تكلم رؤي كالنور بين ثناياه. عبد العزيز متروك.
وقال المسعودي، عن عثمان بن عبد الله بن هرمز، عن نافع بن(سيرة 2/359)
جبير، عن علي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضخم الرأس واللحية، شثن الكفين والقدمين، ضخم الكراديس، طويل المسربة.
روى مثله شريك، عن عبد الملك بن عمير، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن علي، ولفظه: كان ضخم الهامة، عظيم اللحية.
وقال سعيد بن منصور: حدثنا نوح بن قيس، قال: حدثنا خالد بن خالد التميمي، عن يوسف بن مازن الراسبي أن رجلا قال لعلي: انعت لنا النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان أبيض مشربا حمرة، ضخم الهامة، أغر أبلج أهدب الأشفار.
وقال جرير بن حازم: حدثنا قتادة، قال: سئل أنس عن شعره صلى الله عليه وسلم، فقال: كان لا سبط ولا جعد بين أذنيه وعاتقه. متفق عليه.
وقال همام، عن قتادة، عن أنس: كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب منكبيه. البخاري.
وقال حميد، عن أنس، كان إلى أنصاف أذنيه. مسلم.
قلت: والجمع بينهما ممكن.
وقال معمر، عن ثابت، عن أنس: كان إلى شحمة أذنيه. أبو داود في "السنن".
وقال شعبة: أخبرنا أبو إسحاق، قال: سمعت البراء يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مربوعًا، بعيد ما بين المنكبين، يبلغ شعره شحمة أذنيه،(سيرة 2/360)
عليه حلة حمراء، ما رأيت شيئا أحسن منه. متفق عليه.
وأخرجه البخاري من حديث إسرائيل، ولفظه: ما رأيت أحدا من خلق الله في حلة حمراء، أحسن منه، وإن جمته تضرب قريبا من منكبيه.
وأخرجه مسلم من حديث الثوري، ولفظه: له شعر يضرب منكبيه، وفيه: ليس بالطويل ولا بالقصير.
وقال شريك، عن عبد الملك بن عمير، عن نافع بن جبير، قال: وصف لنا علي -رضي الله عنه- النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان كثير شعر الرأس رجله. إسناده حسن.
وقال عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان شعر النبي صلى الله عليه وسلم فوق الوفرة، ودون الجمة. أخرجه أبو داود، وإسناده حسن.
وقال ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: قالت أم هانئ: قدم النبي صلى الله علبه السلام مكة قدمة، وله أربع غدائر، تعني ضفائر. لم يدرك مجاهد أم هانئ، وقيل: سمع منها، وذلك ممكن.
وقال إبراهيم بن سعد: حدثنا ابن شهاب، عن عبيد الله، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر يه. وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون(سيرة 2/361)
رؤوسهم، فسدل ناصيته ثم فرق بعد. البخاري ومسلم.
وقال ربيعة الرأي: رأيت شعرا من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو أحمر، فسألت، فقيل: من الطيب. أخرجه البخاري ومسلم.
وقال أيوب، عن ابن سيرين: سألت أنسا: أخضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لم ير من الشيب إلا قليلا. أخرجاه، وله طرق في الصحيح بمعناه عن أنس.
وقال المثنى بن سعيد، عن قتادة، عن أنسن أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يختضب، إنما كان شمط عند العنفقة يسيرا، وفي الصدغين يسيرا، وفي الرأس يسيرا. أخرجه مسلم.
وقال زهير بن معاوية وغيره، عن أبي إسحاق، عن أبي جحيفة: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم هذه
منه بيضاء، ووضع زهير بعض أصابعه على عنفقته. أخرجه مسلم. وأخرجه مسلم من حديث إسرائيل.
وقال البخاري: حدثنا عاصم بن خالد قال: حدثنا حريز بن عثمان، قلت: لعبد الله بن بسر: أكان النبي صلى الله عليه وسلم شيخا؟ قال: كان في عنفقته شعرات بيض.
وقال شعبة وغيره، عن سماك، عن جابر بن سمرة، وذكر شمط النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان إذا ادهن لم ير، وإذا لم يدهن تبين. أخرجه مسلم.(سيرة 2/362)
وقال إسرائيل، عن سماك، عن جابر بن سمرة، قال: كان قد شمط مقدم رأسه ولحيته، وإذا ادهن ومشطه لم يستبن. أخرجه مسلم.
وقال أبو حمزة السكري، عن عثمان بن عبد الله بن موهب القرشي، قال: دخلنا على أم سلمة، فأخرجت إلينا من شعر رسول اله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو أحمر مصبوغ بالحناء والكتم.
صحيح أخرجه البخاري، ولم يقل: "بالحناء والكتم"، من حديث سلام بن أبي مطيع، عن عثمان.
وقال إسرائيل، عن عثمان بن موهب قال: كان عند أم سلمة جلجل من فضة ضخم، فيه من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أصاب إنسانا الحمى، بعث إليها فخضخضته فيه، ثم ينضحه الرجل على وجهه، قال: بعثني أهلي إليها فأخرجته، فإذا هو هكذا -وأشار إسرائيل بثلاث أصابع- وكان فيه شعرات حمر. البخاري.
محمد بن أبان المستملي: حدثنا بشر بن السري، قال: حدثنا أبان العطار، عن يحيى بن
أبي كثير، عن أبي سلمة، أن محمد بن عبد الله بن زيد حدثه أن أباه شهد النبي صلى الله عليه وسلم في المنحر، هو ورجل من الأنصار، فقسم ضحايا بين أصحابه، فلم يصبه شيء هو وصاحبه، فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه في ثوبه، وأعطاه إياه، فقسم منه على رجال وقلم أظفاره، فأعطاه صاحبه قال: فإنه لمخضوب عندنا بالحناء والكتم، يعني: الشعر. هذا خبر مرسل.
وقال شريك، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان شيب رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوا من عشرين شعرة، رواه يحيى بن آدم،(سيرة 2/363)
عنه.
وقال جعفر بن برقان: حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل، قال: قدم أنس بن مالك المدينة، وعمر بن عبد العزيز وال عليها، فبعث إليه عمر، وقال للرسول: سله هل خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني قد رأيت شعرا من شعره قد لون؟ فقال أنس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد متع بالسواد، ولو عددت ما أقبل علي من شيبه في رأسه ولحيته، ما كنت أزيدهن على إحدى عشرة شيبة، وإنما هذا الذي لون من الطيب الذي كان يطيب به شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي غير لونه.
وقال أبو حمزة السكري، عن عبد الملك بن عمير، عن إياد بن لقيط، عن أبي رمثة، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه بردان أخضران، وله شعر قد علاه الشيب، وشيبه أحمر مخضوب بالحناء.
وقال أبو نعيم: حدثنا عبيد الله بن إياد بن لقيط، قال: حدثني أبي، عن أبي رمثة، قال: انطلقت مع أبي نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيته قال لي: هل تدري من هذا؟ قلت: لا.
قال: إن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقشعررت حين قال ذلك، كنت أظن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لا يشبه الناس، فإذا هو بشر ذو وفرة بها ردع من حناء، وعليه بردان أخضران.
وقال عمرو بن محمد العنقزي: أخبرنا ابن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس النعال السبتية، ويصفر لحيته بالورس والزعفران.
وقال النضر بن شميل: حدثنا صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري،(سيرة 2/364)
عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما صيغ من فضة، رجل الشعر، مفاض البطن، عظيم مشاش المنكبين، يطأ بقدميه جميعا، إذا أقبل أقبل جميعا، وإذا أدبر أدبر جميعا.
وقال جرير بن حازم، عن قتادة، عن أنس: كان صلى الله عليه وسلم ضخم اليدين، لم أر بعده مثله، وفي لفظ: كان ضخم الكفين والقدمين، سائل العرق. أخرج البخاري بعضه.
وقال معمر وغير، عن قتادة، عن أنس: كان صلى الله عليه وسلم شثن الكفين والقدمين.
وقال أبو هلال، عن قتادة، عن أنس -أو عن جابر بن عبد الله، شك موسى بن إسماعيل فيه- عن أبي هلال، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ضخم القدمين والكفين، لم أر بعده شبيها به صلى الله عليه وسلم. أخرجهما البخاري تعليقا، وهما صحيحان.
وقال شعبة، عن سماك عن جابر بن سمرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضليع الفم، أشكل العينين، منهوس العقبين. قلت لسماك: ما ضليع الفم؟ قال: عظيم الفم، قلت: ما أشكل العينين؟ قال: طويل شق العين قلت: ما منهوس العقب؟ قال: قليل لحم العقب.
أخرجه مسلم.
وقال يزيد بن هارون: حدثنا عبد الله بن يزيد بن مقسم بن ضبة، قال: حدثتني عمتي سارة، عن ميمونة بنت كردم، قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وهو على ناقة له، وأنا مع أبي، وبيد النبي صلى الله عليه وسلم درة كدرة الكباث، فدنا منه أبي، فأخذ بقدمه، فأقر له رسول الله صلى الله صلى عليه وسلم.
قالت: فما(سيرة 2/365)
نسيت طول إصبعه السبابة على سائر أصابعه.
وقال عثمان بن عمر بن فارس: حدثنا حرب بن سريج الخلقاني، قال: حدثني رجل من بلعدوية، قال: حدثني جدي، قال: انطلقت إلى المدينة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا رجل حسن الجسم، عظيم الجبهة، دقيق الأنف، دقيق الحاجبين، وإذا من لدن نحره إلى سرته كالخيط الممدود شعره، ورأيته بين طمرين فدنا مني فقال: "السلام عليك".
وقال المسعودي، عن عثمان بن عبد الله بن هرمز، وقاله شريك، عن عبد الملك بن عمير، كلاهما عن نافع بن جبير، واللفظ لشريك قال: وصف لنا علي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان لا قصير ولا طويل وكان يتكفأ في مشيته كأنما يشمي في صبب -ولفظ المسعودي: كأنما ينحط من صبب- لم أر قبله ولا بعده مثله. أخرجه النسائي.
عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: صلى الله عليه وسلم بالبطحاء، وقام الناس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بهما وجوههم، فأخذت يده فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب ريحا من المسك. أخرجه البخاري تعليقا.
وقال خالد بن عبد الله، عن عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده، قال: قيل لعلي: انعت لنا النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: كان لا قصير ولا طويل، وهو إلى الطول أقرب، وكان شثن الكف والقدم، في صدره مسربة، كأن عرقة لؤلؤ، إذا مشى تكفأ كأنما(سيرة 2/366)
يمشي في صعد ورؤي نحوه من وجه آخر عن علي.
وقال حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس، قال: ما مسست بيدي ديباجا ولا حريرا، ولا شيئا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت رائحة قط أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخرجه البخاري.
وأخرجه مسلم من وجه آخر عن ثابت.
وقال حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، فذكر مثله وزاد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهر اللون، كأن عرقه اللؤلؤ، إذ مشى تكفأ. أخرجه مسلم.
وقال شعبة، عن يعلى بن عطاء: سمعت جابر بن يزيد بن الأسود، عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمنى فقلت: ناولني يدك، فناولنيها، فإذا هي من الثلج وأطيب ريحا من المسك.
وقال سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس، قال: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عندنا، فعرق وجاءت أمي بقارورة، فجعلت تسلت العرق، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أم سليم ما هذا الذي تصنعين"؟ قالت: هذا عرق نجعله لطيبنا، وهو أطيب الطيب. أخرجه مسلم.
وقال وهيب: حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس فذكره، وفيه: وكان صلى الله عليه وسلم كثير العرق. رواه مسلم.(سيرة 2/367)
خاتم النبوة:
قال حاتم بن إسماعيل: حدثنا الجعيد بن عبد الرحمن، قال: سمعت السائب بن يزيد قال: ذهبت بي خالتي فقالت: يا رسول الله إن ابن أختي وجع، فمسح رأسي ودعا لي بالبركة، ثم توضأ فشربت من وضوئه، ثم قمت خلف ظهره، فنظرت إلى خاتمه بين كتفيه مثل زر الحجلة. أخرجاه، ووهم من قال: رز الحجلة، وهو بيضها.
وقال إسرائيل، عن سماك، سمع جابر بن سمرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه مستديرا مثل الشمس والقمر، ورأيت خاتم النبوة بين كتفيه مثل بيضة الحمامة، يشبه جسده. أخرجه مسلم.
وقال حماد بن زيد وغيره: حدثنا عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرجس قال: درت خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه عند نغض كتفه اليسرى، جمعا، عليه خيلان كأمثال الثآليل. أخرجه مسلم أطول من هذا.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا قرة بن خالد، قال: حدثنا معاوية بن قرة، عن أبيه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أرني(سيرة 2/368)
الخاتم: قال أدخل يدك، فأدخلت يدي في جربانة، فجعلت ألمس أنظر إلى الخاتم، فإذا هو على نغض كتفه مثل البيضة، فما منعه
ذاك أن جعل يدعو لي، وإن يدي لفي جربانه. رواه يحيى بن أبي طالب، عن أبي داود، لكن قال: "مثل السلعة".
قال عبيد الله بن إياد بن لقيط: حدثني أبي، عن أبي رمثة، قال: انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى مثل السلعة بين كتفيه، فقال: يا رسول الله إني كأطب الرجال، أفأعالجها لك؟ قال: "لا، طببها الذي خلقها" رواه الثوري، عن إياد بن لقيط، وقال: "مثل التفاحة". وإسناده صحيح.
وقال مسلم بن إبراهيم: حدثنا عبد الله بن ميسرة، قال: حدثنا عتاب، قال: سمعت أبا سعيد يقول: الخاتم الذي بين كتفي النفي صلى الله عليه وسلم لحمة نابتة.
وقال قيس بن حفص الدارمي: حدثنا مسلمة بن علقمة، قال: حدثنا داود بن أبي هند، عن سماك بن حرب، عن سلامة العجلي، عن سلمان الفارسي، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقى إلي رداءه، وقال: انظر إلى ما أمرت به. قال: فرأيت الخاتم بين كتفيه مثل بيضة الحمام. إسناده حسن.
وقال الحميدي: حدثنا يحيى بن سليم الطائفي عن ابن خثيم عن سعيد بن أبي راشد، قال: لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم(سيرة 2/369)
بحمص، وكان جارا لي شيخا كبيرا قد بلغ الفند أو قريبا، فقلت: ألا تخبرني؟ قال: بلى، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك، فانطلقت بكتاب هرقل، حتى جئت تبوك، فإذا هو جالس بين ظهري أصحابه محتب على الماء فقال: "يا أخا تنوخ"، فأقبلت أهوي حتى قمت بين يديه، فحل حبوته عن ظهره، ثم قال: "ههنا امض لما أمرت به" فجلت في ظهره، فإذا أنا بخاتم في موضع غضروف الكتف مثل المحجمة الضخمة.(سيرة 2/370)
باب جامع من صفاته صلى الله عليه وسلم:
قال عيسى بن يونس: حدثنا عمر بن عبد الله مولى غفرة، قال: حدثني إبراهيم بن محمد من ولد علي، قال: كان علي -رضي الله عنه- إذا نعت رسول صلى الله عليه وسلم قال: لم يكن بالطويل الممغط ولا القصير المتردد، كان ربعة من القوم، ولم يكن بالجعد القطط ولا بالسبط، كان جعدا رجلا، ولم يكن بالمطهم ولا المكلثم، وكان في وجهه تدوير، أبيض مشرب، أدعج العينين، أهدب الأشفار، جليل المشاش والكتف -أو قال الكتد- أجرد ذا مسربة، شثن الكفين والقدمين، إذا مشى تقلع كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت معا، بين كتفيه خاتم النبوة، أجود الناس كفا وأجرى الناس صدرا، وأصدقهم لهجة، وأوفاهم بذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو عبيد في "الغريب": حدثنيه أبو إسماعيل المؤدب، عن عمر مولى غفرة، عن إبراهيم بن محمد ابن الحنفية قال: كان علي إذا نعت، فذكره.
قوله: ليس بالطويل الممغط: يقول: ليس بالبائن الطول ولا القصير المتردد: يعني الذي تردد خلقه بعضه على بعض، فهو مجتمع ليس بسبط الخلق، يقول: ليس هو كذلك ولكنه ربعة.
والمطهم: قال الأصمعي: التام كل شيء منه على حدته، فهو بارع الجمال، وقال غيره، المكلثم: المدور الوجه، يقول: ليس هو كذلك ولكنه مسنون.(سيرة 2/371)
والدعج: شدة سواد العين.
والجليل: المشاش: العظيم رؤوس العظام مثل الركبتين والمرفقين والمنكبين.
والكتد: الكاهل وما يليه من الجسد.
وشثن الكفين: يعني أنها إلى الغلظ.
والصبب: الانحدار.
والقطط: مثل شعر الحبشة.
والأزهر: الذي يخالط بياضه شيء من الحمرة.
والأمهق: الشديد البياض.
وشبح الذراعين: يعني عبل الذراعين عريضهما.
والمسربة: الشعر المستدق ما بين اللبة إلى السرة.
وقال الأصمعي: التقلع: المشي بقوة.
وقال يعلى بن عبيد، عن مجمع بن يحيى الأنصاري، عن عبد الله بن عمران، عن رجل من الأنصار، أنه سأل عليا، عن نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان أبيض مشرب حمرة، أدعج، سبط الشعر، ذو وفرة، دقيق المسربة، كأن عنقه إبريق فضة، من لبته إلى سرته شعر، يجري كالقضيب، ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره، شثن الكف والقدم، إذا مشى كأنا ينحدر من صبب، وإذا مشى كأنما يتقلع من صخر، وإذا التفت التفت جميعا، كأن عرقه اللؤلؤ، ولريح عرقة أطيب من المسك، ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا العاجز ولا اللئيم، لم أر قبله ولا بعده مثله.(سيرة 2/372)
قال البيهقي: أخبرنا أبو علي الروذباري، قال: أخبرنا عبد الله بن عمر بن شوذب، قال: أخبرنا شعيب بن أيوب الصريفيني عنه. وقال حفص بن عبد الله النيسابوري: حدثني إبراهيم بن طهمان، عن حميد، عن أنس، قال: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بالآدم، ولا الأبيض الشديد البياض، فوق الربعة ودون الطويل، كان من أحسن من رأيت من خلق الله، وأطيبه ريحا وألينه كفا، كان يرسل شعره إلى أنصاف أذنيه، وكان يتوكأ إذا مشى.
وقال معمر، عن الزهري، قال: سئل أبو هريرة عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان أحسن الناس صفة وأجملها، كان ربعة إلى الطول ما هو، بعيد ما بين المنكبين، أسيل الخدين، شديد سواد الشعر، أكحل العينين، أهدب، إذا وطئ بقدمه وطئ لكلها، ليس أخمص، إذا وضع رداءه عن منكبه فكأنه سبيكة فضة، وإذا ضحك يتلألأ، لم أرق قبله ولا بعده مثله، رواه عبد الرزاق عنه.
وقال أبو هشام محمد بن سليمان بن الحكم بن أيوب بن سليمان الكعبي الخزاعي: حدثني عمي أيوب بن الحكم، عن حزام بن هشام، عن أبيه، عن جده حبيش بن خالد -رضي الله عنه- الذي قتل بالبطحاء يوم الفتح، وهو أخو عاتكة -أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من مكة هو وأبو بكر، ومولى لأبي بكر عامر بن فهيرة، ودليلهم عبد الله بن الأريقط الليثي، فمروا على خيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت برزة جلدة تحتبي بفناء القبة، ثم تسقي وتطعم، فسألوها تمرا ولحما يشترونه منها، فلم يصيبوا شيئا، وكان القوم مرملين مسنتين، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
شاة في كسر(سيرة 2/373)
الخيمة، فقال: "ما هذه الشاة يا أم معبد"؟ قالت: شاة خلفها الجد عن الغنم.
فقال: "هل بها من لبن"؟ قالت: هي أجهد من ذلك قال: "أتأذنين أن أحلبها"؟ قالت: نعم بأبي وأمي، إن رأيت بها حلبا فاحلبها. فدعا بها، فمسح بيده ضرعها، وسمى الله، ودعا لها في شاتها، فتفاجت عليه، ودرت واجترت، ودعا بإناء يربض الرهط، فحلب ثجا حتى علاه البهاء، ثم سقاها حتى رويت، ثم سقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب آخرهم. ثم حلب ثانيا بعد بدء، حتى ملأ الإناء، ثم غادر عندها وبايعها، وارتحلوا عنها.
فقل ما لبثت، حتى جاء زوجها أبو معبد، يسوق أعنزا عجافا تساوكن هزلا مخهن قليل. فلما رأي أبو معبد اللبن عجب، وقال: من أين لك هذا يا أم معبد؟ والشاء عازب حيال، ولا حلوب في البيت؟ قالت: لا والله، إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا، قال: صفيه لي، قالت: رجل ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل، وفي عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، أزج أقرن، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحسنه وأحلاه من قريب، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربعة لا يائس من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرًا، وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، إن قال(سيرة 2/374)
أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند.
قال أبو معبد: هذا والله صاح قريش، الذي ذكر لنا من أمه، ولقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا.
وأصبح صوت بمكة عال، يسمعون الصوت، ولا يدرون من صاحبه، وهو يقول:
جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين قالا خيتمي أم معبد
هما نزلاها بالهدى واهتدت به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فيال قصي ما زوى الله عنكم ... به من فعال لا تجاري وسؤدد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت ... عليه صريحا ضرة الشاة مزبد
فغادرها رهنا لديها لحالب ... يرددها في مصدر ثم مورد
فلما سمع بذلك حسان بن ثابت شبب يجاوب الهاتف، فقال:
لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم ... وقدس من يسري إليهم ويغتدي
ترحل عن قوم فضلت عقولهم ... وحل على قوم بنور مجدد
هداهم به بعد الضلالة ربهم ... وأرشدهم من يتبع الحق يرشد
وهل يستوي ضلال قوم تسفهوا ... عمايتهم هاد به كل مهتد
وقد نزلت منه على أهل يثرب ... ركاب هدى حلت عليهم بأسعد
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلوا كتاب الله في كل مسجد
وإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد
ليهن أبا بكر سعادة جده ... بصحبته من يسعد الله يسعد(سيرة 2/375)
قوله: إذا مشى تكفأ: يريد أنه يميد في مشيته، ويمشي في رفق غير مختال.
وقوله: فخما مفخما: قال أبو عبيد: الفخامة في الوجه نبله وامتلاؤه، مع الجمال والمهابة وقال ابن الأنباري: معناه أنه كان عظيما معظما في الصدور والعيونن ولم يكن خلقه في جسمه ضخما.
وأقنى العرنين: مرتفع الأنف قليلا مع تحدب، وهو قريب من الشمم.
والشنب: ماء ورقة في الثغر.
والفلج: تباعد ما بين الأسنان.
والدمية: الصورة المصورة.
وقد روى حديث أم معبد أبو بكر البيهقي فقال: أخبرنا أبو نصر بن قتادة، قال: أخبرنا أبو عمرو بن مطر، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن موسى بن عيسى الحلواني، قال: حدثنا مكرم بن محرز بن مهدي، قال: حدثنا أبي، عن حزام بن هشام. فذكر نحوه.
ورواه أبو زيد عبد الواحد بن يوسف بن أيوب بن الحكم الخزاعي بقديد، إملاء على أبي عمرو بن مطر، قال: حدثنا عمي سليمان بن الحكم.
وسمعه ابن مطر بقديد أيضا، من محمد بن محمد بن سليمان بن الحكم، عن أبيه.
ورواه عن مكرم بن محرز الخزاعي -وكنيته أبو القاسم- يعقوب بن سفيان الفسوي، مع تقدمه، ومحمد بن جرير الطبري، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وجماعة آخرهم القطيعي.(سيرة 2/376)
وقال الحاكم: سمعت الشيخ الصالح أبا بكر أحمد بن جعفر القطيعي يقول: حدثنا مكرم بن محرز عن آبائه، فذكر الحديث، فقلت له: سمعته من مكرم؟ قال: إي والله، حج بي أبي، وأنا ابن سبع سنين، فأدخلني على مكرم.
ورواه البيهقي أيضا في اجتياز النبي صلى الله عليه وسلم بخيمتي أم معبد، من حديث الحسن بن مكرم، وعبد الله بن محمد بن الحسن القيسي، قالا: حدثنا أبو أحمد بشر بن محمد المروزي السكري، قال: حدثنا عبد الملك بن وهب المذحجي، قال: حدثنا الحر بن الصياح، عن أبي معبد الخزاعي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج هو، وأبو بكر، وعامر بن فهيرة، ودليلهم عبد الله بن أريقط الليثي -كذا قال: الليثي، وهو الديلي- مروا بخيمتي أم معبد، فذكر الحديث بطوله.
وقولها ظاهر الوضاءة: أي ظاهر الجمال.
ومرملين: أي: قد نفد زادهم. ومسنتين: أي: داخلين في السنة والجدب.
وكسر الخيمة: جانبها.
وتفاجت: فتحت ما بين رجليها.
ويربض الرهط: يرويهم حتى يثقلوا فيربضوا، والرهط من الثلاثة إلى العشرة.
والثج: السيل.
والبهاء: وبيض رغوة اللبن، فشربوا حتى أرضوا، أي: رووا كذا جاء في بعض طرقه.
وتساوكن: تمايلن من الضعيف، ويروى: تشاركن، أي: عمهن الهزال.(سيرة 2/377)
والشاء عازب: بعيد في المرعى.
وأبلج الوجه: مشرق الوجه مضيئه.
والثجلة: عظم البطن مع استرخاء أسفله.
والصعلة: صغر الرأس، ويروى صقلة وهي الدقة والمضرة، والصقل: منقطع الأضلاع من الخاصرة.
والوسيم: المشهور بالحسن، كأنه صار الحسن له سمة.
والقسيم: الحسن قسمة الوجه.
والوطف: الطول.
والصحل: شبه البحة.
والسطع: طول العنق.
لا تقتحمه عين من قصر: أي: لا تزدريه لقصره فتجاوزه إلى غيره، بل تهابه وتقبله.
والمحفود: المخدوم.
والمحشود: الذي يجتمع الناس حوله.
والمفند: المنسوب إلى الجهل وقلة العقل.
والضرة: أصل الضرع.
ومزبد: خفض على المجاورة.(سيرة 2/378)
وقوله: فغادرها رهنا لديها لحالب: أي: خلف الشاة عندها مرتهنة بأن تدر.
قال سفيان بن وكيع بن الجراح: حدثنا جميع بن عمر العجلي إملاء، قال: حدثنا رجل من بني تميم -من ولد أبي هالة زوج خديجة، يكنى أبا عبد الله- عن ابن لأبي هالة، عن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- قال: سألت خالي هند بن أبي هالة -وكان وصافا- عن حلية النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئا أتعلق به، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخما مفخما، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر، أطول من المربوع وأقصر من المشذب، عظيم الهامة، رجل الشعر، إذا انفرقت عقيصته فرق، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره، أزهر اللون، واسع الجبين. أزج الحواجب: سوابغ في غير قرن، بينهما عرق يدره الغضب، أقنى العرنين، له نور يعلوه يحسبه من لم يتأمله أشم، كث اللحية، سهل الخدين، ضليع الفم، أشنب مفلج الأسنان، دقيق المسربة، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، معتدل الخلق، بادن، متماسك، سواء البطن والصدر، عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس، أنور المتجرد، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط، عاري الثديين والبطن، وما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، شثن الكفين والقدمين، سائل -أو سائر- الأطراف، خمصان الأخمصين، مسيح
القدمين، ينبو عنهما الماء، إذا زال زال قلعا، يخطو(سيرة 2/379)
تكفيا، ويمشي هونا، ذريع المشية، إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت جميعا، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يسوق أصحابه، ويبدر من لقبه بالسلام.
قال: قلت: صف لي منطقه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، طويل السكت، لا يتكلم في غير حاجة، يفتتح الكلام، بأشداقه، ويختمه بأشداقه، ويتكلم بجوامع الكلم، فصل لا فضول ولا تقصير، دمث ليس بالجافي ولا المهين، يعظم النعمة وإن دقت، لا يذم شيئا، غير أنه لم يكن يذم ذواقا ولا يمدحه، ولا تغضبه الدنيا وما كان لها، فإذا تعدي الحق، لم يعرفه أحد، ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، إذا أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها، يضرب براحته اليمنى باطن راحته اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام.
قال الحسن: فكتمتها الحسين زمانا، ثم حدثته فوجدته قد سبقني إليه، يعني إلى هند بن أبي هالة، فسأله عما سألته عنه، ووجدته قد سأل أباه عن مدخله ومخرجه وشكله، فلم يدع منه شيئا.
قال الحسين: فسألت أبي عن دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان دخوله لنفسه مأذونا له في ذلك، وكان إذا آوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزءا لله، وجزءا لأهله، وجزءا لنفسه، ثم جزء جزأه بينه وبين الناس، ورد ذلك بالخاصة على العامة، ولا يدخر عنهم شيئا، فكان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه، وقسمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما أصلحهم والأمة من مسألته(سيرة 2/380)
عنهم، وإخبارهم بالذي ينبغي لهم، يقول: ليبلغ الشاهد الغائب، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، فغنه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ثبت الله قدميه يوم القيامة، ولا يذكر عنده إلى ذلك ولا يقبل من أحد غيره، يدخلون روادا، ولا يفترقون إلا عن ذواق ويخرجون أدلة يعني على الخير.
فسألته عن مخرجه، كيف كان يصنع فيه؟ قال: كان يخزن لسانه إلا مما يعنيه، ويؤلفهم ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم، من غير أن يطوي عن أحد بشره ولا خلقه، ويتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويقويه، ويقبح القبيح ويوهيه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفلوا مخافة أن يغفلوا أو
يملوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق، ولا يجاوزه، الذين يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده أحسنهم مواساة.
فسألته عن مجلسه كيف كان يصنع فيه؟ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقوم ولا يجلس إلا على ذكر، ولا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك، يعطي كل جلسائه نصيبه، ولا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه.
من جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف. ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها، أو بميسور من القول قد وسع الناس منه بسطة وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق سواء. مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم، ولا تنثي فلتاته، متعادلين يتفاضلون فيه بالتقوى، متواضعين يوقرون فيه(سيرة 2/381)
الكبير، ويرحمون فيه الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب. أخرج الترمذي أكثره مقطعا في "كتاب الشمائل".
ورواه زكريا بن يحيى السجزي، وغيره، عن سفيان بن وكيع.
ورواه إسحاق بن راهوية، وعلي بن محمد بن أبي الخصيب، عن عمرو بن محمد العنقزي، قال: حدثنا جميع بن عمر العجلي، عن رجل يقال له: يزيد بن عمر التميمي -من ولد أبي هالة- عن أبيه، عن الحسن بن علي، وفيه زائد من هذا الوجه وهو: فسألته عن سيرته في جلسائه، فقال: كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب، ولا فحاش، ولا عياب، ولا مزاح، يتغافل عما لا يشتهيه، ولا يؤيس منه، ولا يحبب في، قد ترك نفسه من ثلاث: من المراء، والإكثار وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدا ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه. إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا، ولا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم أنصتوا له، وكان يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقة ومسألته، حتى إن كان أصحابه ليتسجلبونهم، ويقول: "إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فارفدوه"، ولا يقبل الثناء إلا عن مكافئ، ولا يقطع على أحد حديثه بنهي أو قيام.
فسألته: كيف كان سكوته؟ قال: على أربع: على الحلم، والحذر، والتدبر، والتفكر، فأما تدبره، ففي تسوية النظر والاستماع بين الناس، وأما تفكره ففيما يبقى ويفنى، وجمع له الحلم في الصبر، فكان لا(سيرة 2/382)
يغضبه شيء ولا يستفزه. وجمع له الحذر في أربع: أخذه بالخير
ليقتدى به، وتركه القبيح لينتهى عنه، واجتهاده الرأي فيما يصلح أمته والقيام بهم، والقيام فيما جمع لهم أمر الدنيا والآخرة صلى الله عليه وسلم.
ورواه بطوله كله يعقوب الفسوي: حدثنا أبو غسان النهدي، وسعيد بن حماد الأنصاري المصري، قالا: حدثنا جميع بن عمر، قال: حدثني رجل بمكة، عن ابن لأبي هالة، فذكره.
ورواه الطبراني، عن علي بن عبد العزيز، عن أبي غسان النهدي.
قرأت على أبي الهدى عيسى بن يحيى السبتي، أخبركم عبد الرحيم بن يوسف الدمشقي، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن أحمد الحافظ، قال: أخبرنا أبو سعد الحسين بن الحسين الفانيذي، وأبو مسلم عبد الرحمن بن عمر السمناني، وأبو سعد محمد بن عبد الملك الأسدي، قالوا: أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد بن إبراهيم التاجر، قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيد الله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب العلوي المعروف بابن أخي أبي طاهر، قال: حدثنا إسماعيل بن محمد بن إسحاق بن جعفر بن محمد بن علي، قال: حدثني علي بن جعفر بن محمد بن علي، عن أخيه موسى، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن الحسين، قال: قال الحسن بن علي -رضي الله عنهما: سألت خالي هند بن أبي هالة، عن حلية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان وصافا، وأنا أرجو أن يصف لي منه شيئا أتعلق به، فقال: كان فخما مفخما. فذكر مثل حديث جميع بن عمر بطوله، إلا في ألفاظ: قال في عريض الصدر: فسيح الصدر، وقال: رحب الجبهة بدل رحب الراحة، وقال: يبدأ بدل يبدر(سيرة 2/383)
من لقيه بالسلام، وقال: طويل السكوت بدل السكت، وقال: لم يكن ذواقا ولا مدحة بدل لا يذم ذواقا ولا يمدحه، وأشياء سوى هذا بالمعنى.
قوله متماسك: أي ممتلئ البدن غير مسترخ ولا رهل، والمتجرد: المتعري، واللبة: النحر، والسائر والسائل: هو الطويل السابغ، والأخمص: ما يلصق من القدم بالأرض، والممسوح: الأملس الذي ليس فيه شقوق، ولا وسخ، ولا تكسر، فالماء ينبو عنهما لذلك إذا أصابهما.
وقوله: زال قلعا، المعنى أنه كان يرفع رجليه من الأرض رفعا بقوة لا كمن يمشي اختيالا ويشحط مداسه دلكا بالأرض، ويروى: زال قلعا. ومعناه: التثبت، والذريع: السريع.
يسوق أصحابه: أي يقدمهم أمامه، والجافي: المتكبر، والمهين: الوضيع، والذوق: الطعام،
وأشاح: أي اجتنب ذاك وأعرض عنه. وحب الغمام: البرد، والشكل: النحو والمذهب، والعتاد: ما يعد للأمر مثل السلاح وغيره.
وقوله: لا تؤبن فيه الحرم: أي: لا تذكر بقبيح، ولا تنثى فلتاته: أي: لا تذاع، أي: لم يكن لمجلسه فلتات فتذاع، والنثا في الكلام: القبيح والحسن.
وقد مر في حديث الإسراء أنه قال: رأيت إبراهيم وهو قائم يصلي، فإذا أشبه الناس به صاحبكم، يعني نفسه صلى الله عليهما.
وقال إسرائيل عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن قريشا أتوا كاهنة فقالوا لها:
أخبرينا بأقربنا شبها بصاحب هذا المقام، قالت: إن جررتم كساء على هذه السهلة، ثم مشيتم عليها أنبأتكم ففعلوا، فأبصرت أثر قدم محمد صلى عليه وسلم قالت: هذا أقربكم شبها به، فمكثوا بعد(سيرة 2/384)
ذلك عشرين سنة أو نحوها، ثم بعث عليه السلام.
وقال أبو عاصم، عن عمرو بن سعيد بن أبي حسن، عن ابن أبي مليكة عن عقبة بن الحارث، قال: صلى بنا أبو بكر -رضي الله عنه- العصر، ثم خرج هو وعلي يمشيان، فرأى الحسن يلعب مع الغلماء، فأخذه فحمله على عاتقه ثم قال:
بأبي شبيه النبي ... ليس شبيها بعلي
وعلي يتبسم. أخرجه البخاري عن أبي عاصم.
وقال إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هانئ عن علي -رضي الله عنه- قال: الحسن أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الصدر إلى الرأس، والحسين أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان أسفل من ذلك.(سيرة 2/385)
باب قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم} :
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا".
وقال البخاري ومسلم: مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، قالت: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين، إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثما، فإذا كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك محارم الله، فينتقم لله بها.
وقال هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة، قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده شيئا قط، لا امرأة ولا خادما، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه شيء قط، فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله. رواه مسلم.
وقال أنس: خدمته صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فوالله ما قال لي: أف قط، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلت كذا، ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا؟.
وقال عبد الوارث، عن أبي التياح، عن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا. أخرجه مسلم.
وقال حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس: كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس،(سيرة 2/386)
وأجمل الناس، وأشجع الناس. متفق عليه.
وقال فليح، عن هلال بن علي، عن أنس: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبابا ولا فاحشا، ولا لعانا، كان يقول لأحدنا عند المعتبة: ما له ترب جبينه. أخرجه البخاري.
وقال الأعمش، عن شقيق، عن مسروق، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشا ولا متفحشا، وأنه كان يقول: خياركم أحسنكم أخلاقا. متفق عليه.
وقال أبو داود: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، سمع أبا عبد الله الجدلي يقول: سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لم يكن فاحشًا، ولا متفحشا، ولا سخابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح.
وقال شعبة، عن قتادة: سمعت عبد الله بن أبي عتبة، قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه. متفق عليه.
وقال ابن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحياء من الإيمان".
وقال مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد غليظ الحاشية، فأدركها أعرابي فجبذ بردائه جبذا شديدا، حتى نظرت إلى صفحة عاتقه قد أثرت بها حاشية(سيرة 2/387)
البرد، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فضحك، ثم أمر له بعطاء. متفق عليه.
وقال عبيد الله بن موسى، عن شيبان، عن الأعمش، عن ثمامة بن عقبة، عن زيد بن أرقم، قال: كان رجل من الأنصار يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم ويأمنه، وأنه عقد للنبي صلى الله عليه وسلم عقدا، فألقاه في بئر فصرع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه ملكان يعودانه، فأخبراه أن فلانا عقد له عقدا، وهي
في بئر فلان، ولقد اصفر الماء من شدة عقده، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم فاستخرج العقد، فوجد الماء قد اصفر، فحل العقد، ونام النبي صلى الله عليه وسلم فلقد رأيت الرجل بعد ذلك يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم، فما رأيته في وجه النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات.
وقال أبو نعيم: حدثنا عمران بن زيد أبو يحيى الملائي، قال: حدثني زيد العمى، عن أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صافحه الرجل لا ينزع يده من يده، حتى يكون الرجل ينزع، وإن استقبله بوجهه، لا يصرفه عنه، حتى يكون الرجل ينصرف، ولم ير مقدما ركبته بين يدي جليس له. أخرجهما الفسوي عنهما في تاريخه.
وقال مبارك بن فضالة، عن ثابت، عن أنس: ما رأيت رجلا التقم أذن النبي صلى الله عليه وسلم فينحي رأسه، حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه، وما رأيت رسول الله أخذ بيد رجل فترك يده، حتى يكون الرجل هو الذي يدع يده. أخرجه أبو داود.
وقال سليمان بن يسار، عن عائشة، قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم(سيرة 2/388)
مستجمعا ضاحكًا، حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم. متفق عليه.
وقال سماك بن حرب: قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم كثيرا، كان لا يقوم من مصلاه حتى تطلع الشمس، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية، فيضحكون ويتبسم. رواه مسلم.
وقال الليث بن سعد، عن الوليد بن أبي الوليد، أن سليمان بن خارجة أخبره، عن أبيه أن نفرا دخلوا على زيد بن ثابت أبيه، فقالوا: حدثنا عن بعض أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كنت جاره فكان إذا نزل الوحي بعث إلي فآتيه، فأكتب الوحي وكنا إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا.
وقال إسرائيل: عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي قال: لما كان يوم بدر، اتقينا المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أشد الناس بأسا، وما كان أحد أقرب إلى المشركين منه.
وقال الثوري، عن محمد بن المنكدر، قال: سمعت جابرا يقول: لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم شيئا قط فقال: لا. متفق عليه.
وقال يونس، عن الزهري، عن عبد الله عن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان. متفق عليه.
وقال حميد الطويل، عن موسى بن أنس، عن أبيه قال: أتى رجل(سيرة 2/389)
النبي صلى الله عليه وسلم فسأله، فأمر له بغنم بين جبلين، فأتى قومه فقال: أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخاف الفاقة. أخرجه مسلم.
وقال معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في بيته يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته.
وقال أبو صالح: حدثني معاوية بن صالح، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، قيل لعائشة: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في بيته؟ قالت: كان بشرا من البشر، يفلي ثوبه، ويحلب شاتهن ويخدم نفسه.
وقال شعبة: حدثني مسلم الأعور أبو عبد الله، سمع أنسا يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركب الحمار، ويلبس الصوف، ويجيب دعوة المملوك، ولقد رأيته يوم خيبر على حمار، خطامه من ليف.
وقال مروان بن محمد الطاطري: حدثنا ابن لهيعة، قال: حدثني عمار بن غزية، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفكه الناس مع صبي.
وفي "الصحيح" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أبا عمير ما فعل النغير"؟ .
وقال حماد بن سلمة: أخبرنا ثابت، عن أنس، أن امرأة كان في عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة، فقال: "يا أم فلان، انظري، أي طريق شئت قومي فيه، حتى أقوم معك"، فخلا معها يناجيها، حتى قضت حاجتها. أخرجه مسلم.(سيرة 2/390)
باب هيبته وجلاله وحبه وشجاعته وقوته وفصاحته:
قال جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي مسعود، قال: إني لأضرب غلاما لي، إذ سمعت صوتا من خلفي: "اعلم أبا مسعود"، قال: فجعلت لا ألتفت إليه من الغضب، حتى غشيني، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيته وقع السوط من يدي من هيبته، فقال لي: "والله، لله أقدر عليك منك من هذا"، فقلت: والله يا رسول الله لا أضرب غلاما لي أبدا. هذا حديث صحيح.
وقال شعبة، عن قتادة، عن انس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين". أخرجه مسلم.
وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات: 2] ، فقال أبو بكر وغيره: لا نكلمك يا رسول الله إلا كأخي السرار.
وقال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] .(سيرة 2/391)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] .
وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نصرت بالرعب، يسير بين يدي مسيرة شهر".
وقال زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي -رضي الله عنه- قال: كنا إذا احمر البأس، ولقي القوم القوم، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون منا أحد أقرب إلى القوم منه، وقد ثبت النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ويوم حنين، كما يأتي في غزواته.
قال زهير، عن أبي إسحاق، عن البراء، عن يوم حنين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقي على
بغلته البيضاء، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود بلجامها، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم واستنصر، ثم قال:
"أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب".
ثم تراجع الناس.
وسيأتي هذا مطولا.
وقال حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجمل الناس وجها، وأجودهم كفا، وأشجعهم قلبا، خرج وقد فزع أهل المدينة، فركب فرسا لأبي طلحة عربا، ثم رجع وهو يقول: "لن تراعوا، لن تراعوا". متفق عليه.
وقال حاتم بن الليث الجوهري: حدثنا حماد بن أبي حمزة السكري، قال: حدثنا علي بن الحسين بن واقد، قال: حدثنا أبي، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب، قال: يا رسول الله ما(سيرة 2/392)
لك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ قال: "كانت لغة إسماعيل قد درست، فجاء بها جبريل فحفظنيها". هذا من "جزء الغطريف".
وقال عباد بن العوام: حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبيه، قال رجل: يا رسول الله ما أفصحك، ما رأيت الذي هو أعرب منك. قال: "حق لي، وإنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين".
وقال هشيم، عن عبد الرحمن بن إسحاق القرشي، عن أبي بردة، عن أبي موسى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه". قلنا: علمنا مما علمك الله، فعلمنا التشهد في الصلاة.(سيرة 2/393)
باب زهده صلى الله عليه وسلم:
وبذلك يوزن الزهد وبه يحد:
قال الله تعالى: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] .
وقال بقية بن الوليد، عن الزبيدي، عن الزهري، عن محمد بن عبد الله بن عباس، قال: كان ابن عباس يحدث أن الله -تعالى- أرسل إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ملكا من الملائكة معه جبريل -عليه السلام- فقال الملك: إن الله يخيرك بين أن تكون عبدا نبيا، وبين أن تكون ملكا نبيا، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كالمستشير له، فأشار جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تواضع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل أكون عبدا نبيا". قال: فما أكل بعد تلك الكلمة طعاما متكئا حتى لقي ربه تعالى.
وقال عكرمة بن عمار، عن أبي زميل، قال: حدثني ابن عباس، أن عمر -رضي الله عنهم- قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في خزانته، فإذا هو مضطجع على حصير، فأدنى عليه إزاره وجلس، وإذا الحصير قد أثر بجنبه، فقلبت عيني في خزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا ليس فيها شيء من الدنيا غير قبضتين -أو قال قبضة- من شعير، وقبضة من قرظ، نحو الصاعين، وإذا أفيق معلق أو أفيقان، قال: فابتدرت عيناي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك يا ابن الخطاب"؟ قلت: يا رسول الله وما لي لا أبكي وأنت صفوة الله -عز وجل- ورسوله وخيرته، وهذه خزانتك! وكسرى وقيصر في الثمار والأنهار، وأنت هكذا. فقال:
"يا ابن(سيرة 2/394)
الخطاب أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا"؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: "فاحمد الله عز وجل". أخرجه مسلم.
وقال معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن ابن عباس، عن عمر في هذه القصة، قال: فما رأيت في البيت شيئا يرد البصر إلا أهب ثلاثة، فقلت: ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك، فقد وسع على فارس والروم، وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالسا وقال: "أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا". فقلت: أستغفر الله، وكان أقسم أن لا يدخل على نسائه شهرا من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله تعالى. اتفقا عليه من حديث الزهري.
قرأت على إسماعيل بن عبد الرحمن المعدل، سنة أربع وتسعين، أخبركم العلامة أبو محمد بن قدامة، أن شهدة بنت أبي نصر أخبرتهم، قالت: أخبرنا أبو غالب الباقلاني، قال: أخبرنا أبو علي بن شاذان، قال: أخبرنا أبو سهل بن زياد، قال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أنس قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على سرير مرمول بشريط، وتحت رأسه مرفقة حشوها ليف، فدخل عليه ناس من أصحابه فيهم عمر -رضي الله عنه- فاعوج النبي صلى الله عليه وسلم اعوجاجة، فرأيى عمر أثر الشريط في جنب النبي صلى الله عليه وسلم فبكى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك"؟ قال: كسرى وقيصر يعيثان فيما يعيثان فيه، وأنت على هذا السرير! فقال: "أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة"؟ قال: بلى،(سيرة 2/395)
فقال: "فهو والله كذلك". إسناده حسن.
وقال المسعودي، عن عمرو بن مرة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال:
اضطجع النبي صلى الله عليه وسلم على حصير، فأثر بجلده، فجعلت أمسحه عنه وأقول: بأبي وأمي ألا آذنتنا فنبسط لك؟ قال: "ما لي وللدنيا، إنما أنا والدنيا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها". هذا حديث حسن قريب من الصحة.
وقال يونس، عن الزهري، عن عبيد الله، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن لي مثل أحد ذهبا ما يسرني أن تأتي علي ثلاث ليال، وعندي منه شيء، إلا شيء أرصده لديني". أخرجه البخاري.
وقال الأعمش، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا". أخرجه مسلم والبخاري من وجه آخر.
وقال إبراهيم النخعي، عن الأسود، عن عائشة، قالت: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعا من خبز بر حتى توفي. أخرجه مسلم.
وقال الثوري: حدثنا عبد الرحمن بن عابس بن ربيعة، عن أبيه، أن عائشة قالت: كنا نخرج الكراع بعد خمس عشرة فنأكله، فقلت: ولم تفعلون؟ فضحكت وقالت: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز مأدوم حتى لحق بالله. أخرجه البخاري.
وقال هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: كنا يمر بنا الهلال(سيرة 2/396)
والهلال والهلال، ما نوقد
بنار لطعام، إلا أنه التمر والماء، إلا أن حولنا أهل دور من الأنصار، فيبعثون بغزيرة الشاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكان للنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك اللبن. متفق عليه.
وقال همام: حدثنا قتادة: كنا نأتي أنس بن مالك، وخبازه قائم، فقال: كلوا، فما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رغيفا مرققا، حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطا بعينه قط. أخرجه البخاري.
وقال هشام الدستوائي، عن يونس، عن قتادة، عن أنس قال: ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان ولا في سكرجة ولا خبز له مرقق فقلت لأنس: على ما كانوا يأكلون؟ قال: على السفر. أخرجه البخاري.
وقال شعبة عن أبي إسحاق: سمعت عبد الرحمن بن يزد يحدث، عن الأسود، عن عائشة قالت: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين، حتى قبض. أخرجه مسلم.
وقال هشام بن أبي عبد الله، عن قتادة، عن أنس أنه مشى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخبز شعير، وإهالة سنخة ولقد رهن درعه عند يهودي، فأخذ لأهله شعيرا، ولقد سمعته ذات يوم يقول: ما أمسى عند آل محمد صاع تمر ولا صاع حب، وإنهم يومئذ تسعة أبيات. أخرجه البخاري.
وقال هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم حشوه ليف. متفق عليه.(سيرة 2/397)
أخبرنا الخضر بن عبد الله بن عمر، وأحمد بن عبد السلام، وأحمد بن أبي الخير، كتابة أن عبد المنعم بن عبد الوهاب بن كليب أجاز لهم، قال: أخبرنا علي بن بنان، قال: أخبرنا محمد بن محمد، قال: أخبرنا أبو علي الصفار سنة تسع وثلاثين وثلاث مائة، قال: حدثنا الحسن بن عرفة، قال: حدثنا عباد بن عباد المهلبي، عن مجالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة، قالت: دخلت علي امرأة من الأنصار، فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم عباءة مثنية، فانطلقت فبعثت إلي بفراش حشوه الصوف فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما هذا يا عائشة"؟ قلت: فلانة رأت فراشك، فبعثت إلي بهذا. فقال: "رديه يا عائشة".
قالت: فلم أرده، وأعجبني أن يكون في بيتي، حتى قال ذلك ثلاث مرار، قال: فقال: "رديه فوالله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة".
أخرجه الإمام أحمد في "الزهد"، عن إسماعيل بن محمد، عن عباد بن عباد -وهو ثقة- عن مجالد، وليس بالقوي.
وأخرجه محمد بن سعد الكاتب، عن سعيد بن سليمان الواسطي، عن عباد بن عباد.
وقال زائدة: حدثنا عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن حراش، عن أم سلمة، قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ساهم الوجه، فحسبت ذلك من وجع، فقلت: يا رسول الله ما لي أراك ساهم الوجه؟ قال: من أجل الدنانير السبعة التي أتتنا أمس، وأمسينا ولم ننفقهن، فكن في خمل الفراش. هذا حديث صحيح الإسناد.(سيرة 2/398)
وقال بكر بن مضر، عن موسى بن جبير، عن أبي أمامة بن سهل، قال: دخلت علي عائشة أنا وعروة، فقالت: لو رأيتما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض له، وكانت عندي ستة دنانير زو سبعة، فأمرني أن أفرقها، فشغلني وجعه حتى عافاه الله، ثم سألني عنها، ثم دعا بها فوضعها في كفه فقال: "ما ظن نبي الله لو لقي الله وهذه عنده".
وقال جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدخر شيئا لغد.
وقال بكار بن محمد السيريني: حدثنا ابن عون، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على بلال، فوجد عنده صبرا من تمر، فقال: "ما هذا يا بلال"؟ قال:
تمرا أدخره. قال: "ويحك يا بلال، أو ما تخاف أن يكون لك بخار في النار، أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا". بكار ضعيف.
وقال معاوية بن سلام عن زيد، أنه سمع أبا سلام قال: حدثني عبد الله أبو عامر الهوزني، قال: لقيت بلالا مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلب، فقلت: حدثني كيف كانت نفقة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما كان له شيء من ذلك إلا أنا الذي كنت ألي ذلك منه، منذ بعثه الله إلى أن توفي، فكان إذا أتاه الإنسان المسلم، فرآه عاريا يأمرني فأنطلق فأستقرض فأشتري البردة والشيء فأكسوه وأطعمه، حتى اعترضني رجل من المشركين، فقال: يا بلال إن عندي سعة فلا تستقرض من أحد إلا مني، ففعلت، فلما كان ذات يوم، توضأت، ثم قمت لأوذن بالصلاة، فإذا المشرك في عصابة من التجار، فلما رآني قال: يا حبشي! قلت: يا لبيه، فتجهمني، وقال قولا غليظا، فقال: أتدري كم بينك وبين الشهر؟ قلت: قريب قال: إنما بينك وبينه أربع ليال، فآخذك بالذي لي عليك، فإني لم أعطك الذي أعطيتك من كرامتك، ولا من كرامة صاحبك، ولكن(سيرة 2/399)
أعطيتك لتجب لي عبدا، فأردك ترعى الغنم، كما كنت قبل ذلك. فأخذ في نفسي ما يأخذ في أنفس الناس، فانطلقت ثم أذنت بالصلاة، حتى إذا صليت العتمة رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهله، فاستأذنت عليه، فاذن لي، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي إن المشرك قال لي: كذا وكذا، وليس عندك ما تقضي عني، ولا عندي، وهو فاضحي، فأذن لي أن آتي بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا، حتى يرزق الله رسوله ما يقضي عني.
فخرجت، حتى أتيت منزلي، فجعلت سيفي وجرابي ورمحي ونعلي عند رأسي، واستقبلت بوجهي الأفق، فكلما نمت انتبهت، فإذا رأيت علي ليلا نمت، حتى انشق عمود الصبح الأول، فأردت أن أنطلق، فإذا إنسان يسعى، يدعو: يا بلال أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقت حتى أتيته، فغذا أربع ركائب عليهن أحمالهن، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذنت، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "أبشر، فقد جاءك الله بقضائك". فحمدت الله قال: "ألم تمر على الركائب المناخات الأربع "؟ قلت: بلى قال: "فإن لك رقابهن وما عليهن". فإذا عليهن كسوة وطعام أهداهن له عظيم فدك، فحططت عنهن، ثم عقلتهن، ثم عمدت إلى تأذين صلاة الصبح، حتى إذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجت إلى البقيع، فجعلت إصبعي في أذني، فناديت وقلت: من كان يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم دينا فليحضر، فما زلت أبيع وأقضي حتى لم يبق على رسول الله صلى الله عليه وسلم دين في الأرض، حتى فضل عندي أوقيتان، أو أوقية ونصف، ثم انطلقت إلى المسجد، وقد ذهب عامة النهار، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد وحده، فسلمت عليه فقال لي: "ما فعل ما قبلك"؟ قلت: قضى الله كل شيء كان على رسول
الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق شيء فقال: "فضل شيء"؟ قلت: نعم ديناران. قال: "انظر أن تريحني منهما فلست بداخل على أحد من أهلي حتى تريحني منهما". فلم يأتنا أحد، فبات(سيرة 2/400)
في المسجد حتى أصبح، وظل في المسجد اليوم الثاني، حتى كان في آخر النهار جاء راكبان، فانطلقت بهما، فكسوتهما وأطعمتهما، حتى إذا صلى العتمة دعاني فقال: "ما فعل الذي قبلك"؟ قلت: قد أراحك الله منه فكبر وحمد الله شفقا من أن يدركه الموت، وعنده ذلك، ثم اتبعته، حتى جاء أزواجه، فسلم على امرأة امرأة، حتى أتى مبيته. أخرجه أبو داود عن أبي توبة الحلبي، عن معاوية.
وقال أبو الوليد الطيالسي: حدثنا أبو هاشم الزعفراني، قال: حدثنا محمد بن عبد الله، أن أنس بن مالك حدثه أن فاطمة -رضي الله عنهما- جاءت بكسرة خبز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما هذه"؟ قالت: قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة، فقال: "أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام".
وقال أبو عاصم، عن زينب بنت أبي طليق، قالت: حدثني حبان بن جزء -أو بحر- عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشد صلبه بالحجر من الغرث.
وقال أبو غسان النهدي: حدثنا إسرائيل، عن مجالد، عن الشعبي، عن مسروق، قال: بينما عائشة ذات يوم إذ بكت، فقلت: ما يبكيك؟ قالت: ما ملأت بطني من طعام فشئت أن أبكي إلا بكيت أذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان فيه من الجهد.
وقال خالد بن خداش: حدثنا ابن وهب، قال: حدثني جرير بن حازم، عن يونس، عن الحسن، قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "والله ما أمسى في آل محمد صاع من طعام، وإنها لتسعة أبيات". والله ما قالها(سيرة 2/401)
استقلال لرزق الله، ولكن أراد أن تتأسى به أمته. روى الأربعة "ابن سعد" عن هؤلاء.
وقال أبان، عن قتادة، عن أنس، أن يهوديا دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى خبز شعير وإهالة سنخة فأجابه.
وقال أنس: أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم تمر، فرأيته يأكل منه مقعيا من الجوع.
وقالت أسماء بنت يزيد: توفي النبي صلى الله عليه وسلم، ودرعه مرهونة عند يهودي على شعير.(سيرة 2/402)
فصل من شمائله وأفعاله:
وكان النبي صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع".
وكان صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل واللحم، ولا سيما الذراع. وكان يأتي النساء، ويأكل اللحم، ويصوم، ويفطر، وينام، ويتطيب إذا أحرم وإذا حل، وإذا أتى الجمعة، وغير ذلك، ويقبل الهدية، ويثيب عليها ويأمر بها، ويجيب دعوة من دعاه، ويأكل ما وجد، ويلبس ما وجد من غير تكلف لقصد ذا ولا ذا، ويأكل القثاء بالرطب، والبطيخ بالرطب، وإذا ركب أردف بين يديه الصغير أو يردف وراءه عبده أو من اتفق، ويلبس الصوف ويلبس البرود الحبرة، وكانت أحب اللباس إليه، وهي برود يمنية فيها حمرة وبياض، ويتختم في يمينه بخاتم فضة نقشه "محمد رسول الله" وربما تختم في يساره.
وكان يواصل في صومه، ويبقى أياما لا يأكل، وينهى عن الوصال، ويقول: "إني لست مثلكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني".
وكان يعصب على بطنه الحجر من الجوع، وقد أتى بمفاتيح خزائن الأرض كلها، فأبى أن يقبلها، واختار الآخرة عليها، وكان كثير التبسم، يحب الروائح الطيبة وكان خلقه القرآن، يرضى لرضاه، ويغضب لغضبه.
وكان لا يكتب ولا يقرأ ولا معلم له من البشر، نشأ في بلاد جاهلية، وعبادة وثن، ليسوا بأصحاب علم ولا كتب، فآتاه الله من العلم(سيرة 2/403)
ما لم يؤت أحدا من العالمين، قال الله في حقه:
{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3، 4] .
وكل هذه الأطراف من الأحاديث فصحاح مشهورة.
وقال صلى الله عليه وسلم: "حبب إلي النساء والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة".
وقال أنس: طاف النبي صلى الله عليه وسلم على نسائه في ضحوة بغسل واحد.
وكان يحب من النساء عائشة -رضي الله عنها- ومن الرجال أباها أبا بكر -رضي الله عنه- وزيد بن حارثة، وابنه أسامة، ويقول: "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار".
ويحب الحسن والحسين سبطيه، ويقول: "هما ريحانتاي من الدنيا".
ويحب أن يليه المهاجرون والأنصار ليأخذوا عنه.
ويحب التيمن في ترجله وتنعله، وفي شأنه كله.
وكان يقول: "إني أخشاكم الله وأعلمكم بما اتقى".
وقال: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا".
وقال: "شيبتني هود وأخواتها".
وكل هذا في الصحاح.(سيرة 2/404)
باب من اجتهاده وعبادته صلى الله عليه وسلم:
قال ابن عيينة، عن زياد بن علاقة: عن المغيرة بن شعبة، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه، فقيل: يا رسول الله أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟، قال: "أفلا أكون عبدا شكورا". متفق عليه.
وقال منصور، عن إبراهيم، عن علقمة: سألت عائشة: كيف كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل كان يخص شيئا من الأيام؟ قالت: لا، كان عمله ديمة، وأيكم يستطيع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستطيع؟ متفق عليه.
وقال معمر، عن همام، حدثنا أبو هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والوصال". قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله، قال: "إني لست مثلكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فاكفلوا من العمل ما لكم به طاقة".
وفي الصحيح مثله من حديث ابن عمر، وعائشة، وأنس، بمعناه.
وقال محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأستغفر الله وأتوب إليه في كل يوم مائة مرة". هذا حديث حسن.(سيرة 2/405)
وقال حمّاد بن سلمة، عن ثابت، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن أبيه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء.
وقال أبو كريب: حدثنا معاوية بن هشام عن شيبان، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال أبو بكر: يا رسول الله أراك شبت قال: "شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت".
وأما تهجده، وتلاوته، وتسبيحه، وذكره وصومه، وحجه، وجهاده، وخوفه، وبكاؤه، وتواضعه، ورقته، ورحمته لليتيم والمسكين، وصلته للرحم، وتبليغه الرسالة، ونصحه الأمة، فمسطور في السنن على أبواب العلم.(سيرة 2/406)
باب في مزاحه ودماثة أخلاقه الزكية:
قال مبارك بن فضالة، عن بكر بن عبد الله المزني، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأمزح، ولا أقول إلا حقا". إسناده قريب من الحسن.
وقال أبو حفص بن شاهين: حدثنا عثمان بن جعفر الكوفي قال: حدثنا عبد الله بن الحسين، قال: حدثنا آدم بن أبي إياس، قال: حدثنا الليث، عن ابن عجلان، عن المقبري، عن أبي هريرة، قيل: يا رسول الله إنك تداعبنا قال: "إني لا أقول إلا حقا".
تابعه أبو معشر، عن المقبري، وهو صحيح.
وقال الزبير بن بكار: حدثني حمزة بن عتبة، عن نافع بن عمر، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة أنها مزحت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إنه بعض دعابات هذا الحي من بني كنانة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل بعض مزحنا هذا الحي من قريش". حمزة لا أعرفه، والمتن منكر.
وقال زيد بن أبي الزرقاء، عن ابن لهيعة، عن عمارة بن غزية، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم من أفكه الناس. تفرد به ابن لهيعة، وضعفه معروف.
وجاء من طريق ابن لهيعة: كان النبي صلى الله عليه وسلم من أفكه الناس مع صبي.
وقال أبو تميلة يحيى بن واضح، عن أبي طيبة عبد الله بن مسلم، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فثقل على(سيرة 2/407)
القوم بعض متاعهم، فجعلوا يطرحونه علي، فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "أنت زاملة".
وقال حشرج بن نباتة، عن سعيد بن جمهان: سمعت سفينة يقول: ثقل على القوم متاعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ابسط كساءك". فجعلوا فيه متاعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احمل فإنما أنت سفينة". قال: فلو حملت من يومئذ وقر بعير أو بعيرين أو ثلاثة، حتى بلغ سبعة ما ثقل علي. وهذا يدخل في معجزاته.
وقال علي بن عاصم، وخالد بن عبد الله: حدثنا حميد، عن أنس قال: استحمل أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنا أحملك على ولد الناقة". فقال: وما أصنع بولد ناقة يا رسول الله؟ فقال: "وهل تلد الإبل إلا النوق "؟. صحيح غريب.
وقال الأنصاري: حدثنا حميد، عن أنس قال: كان ابن لأم سليم، يقال له: أبو عمير، كان النبي صلى الله عليه وسلم يمازحه ... الحديث.
وقال شريك، عن عاصم، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا ذا الأذنين".
وقال محمد بن عمرو، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، أن عائشة قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بخزيرة طبختها، فقلت لسودة والنبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينها: كلي فأبت، فقلت: لتأكلي أو لألطخن وجهك فأبت، فوضعت يدي فيها فلطختها وطليت وجهها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فمر عمر فقال: يا عبد الله يا عبد الله، فظن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيدخل، فقال: "قوما فاغسلا وجوهكما". فما زلت أهاب عمر لهيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم منه.(سيرة 2/408)
وقال عبد الله بن إدريس، عن حسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسان بن ثابت، وقد رش فناء أطمه، ومعه أصحابه سماطين، وجارية يقال لها: سيرين، معها مزهرها تختلف بين السماطين تغنيهم، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم ولم ينههم، وهي تقول في غنائها:
هل على ويحكم ... إن لهوت من حرج
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "لا حرج إن شاء الله".
حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب هذا مدني، تركه ابن المديني وغيره.
وقال بكر بن مضر، عن ابن الهاد، عن محمد بن أبي سلمة، عن عائشة قالت: دخلت الحبشة المسجد يلعبون، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "أتحبين أن تنظري إليهم"؟ قلت: نعم فقالت: "تعالي"، فقام بالباب، وجئت فوضعت ذقني على عاتقه، وأسندت وجهي إلى خده، قالت: ومن قولهم يومئذ: "وأبو القاسم طيب"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حسبك". قلت: لا تعجل يا رسول الله، قالت: وما بي حب النظر إليهم، ولكن أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي ومكاني منه.
وفي بعض طرقه: فلا ينصرف حتى أكون أنا الذي أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، الحريصة على اللهو.
وفي رواية: والحبشة في المسجد يلعبون بحرابهم ويزفنون.
وقال زيد بن الحباب: أخبرني خارجة بن عبد الله قال: حدثنا يزيد بن رومان، عن عروة، عن عائشة قالت: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعنا لغطا وصوت الصبيان، فقام، فإذا حبشية ترقص والصبيان حولها فقال: "يا عائشة تعالي فانظري" فجئت فوضعت ذقني على منكبه صلى الله عليه وسلم،(سيرة 2/409)
فجعلت أنظر، فقال: "ما شبعت"؟ فجعلت أقول: لا لأنظر منزلتي عنده إذ طلع عمر -رضي الله عنه فارفض الناس عنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأنظر إلى شياطين الجن والإنس قد فرقوا من عمر".
خارجة بن عبد الله، قال ابن عدي: لا بأس به.
وقال النسائي: هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: سابقني النبي صلى الله عليه وسلم، فسبقته ما شاء الله، حتى إذا رهقني اللحم سابقني فسبقني، فقال: "هذه بتلك". صحيح. وأخرجه أبو داود من حديث عروة، عن أبي سلمة عنها وقيل في إسناده غير ذلك.
وقال خالد بن عبد الله الطحان، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة -وغير خالد يسقط منه أبا هريرة- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلع لسانه للحسين، فيرى الصبي حمرة لسانه فيهش إليه، فقال له عيينة بن بدر: ألا أراك تصنع هذا، فوالله إني ليكون لي الولد قد خرج وجهه ما قبلته قط. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من لا يرحم لا يرحم".
وقال جعفر بن عون، عن معاوية بن أبي مزرد، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد الحسن أو الحسين، وهو يقول: "ترق عين بقه". فيضع الغلام قدمه على قدم النبي يرفعه إلى صدره، ثم قبل فاه وقال: "اللهم إني أحبه فأحبه".
وقال خالد بن الحارث، عن أشعث، عن الحسن، عن أنس، قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مستلق، والحسن بن علي على ظهره.(سيرة 2/410)
وقال محمد بن عمران بن أبي ليلى: حدثني أبي، حدثني ابن أبي ليلى، عن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءه الحسن فأقبل يتمرغ عليه، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدم قميصه فقبل زبيبته.
وقال أبو أحمد الزبيري: حدثنا زمعة بن صالح عن الزهري، عن عبد الله بن وهب بن زمعة، عن أم سلمة، أن أبا بكر خرج تاجرا إلى بصرى قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بعام أو عامين، ومعه نعيمان وسويبط بن حرملة، وهما بدريان، وكان سويبط على زادهم، فجاء نعيمان فقال: أطعمني، فقال: لا، حتى يأتي أبو بكر وكان نعيمان مزاحا، فقال: لأبيعنك ثم قال لأناس: ابتاعوا مني غلاما، وهو رجل ذو لسان، ولعله يقول: أنا حر، فإن كنتم تاركيه إذا قال ذلك فدعوني ولاتفسدوا علي غلامي قالوا: لا بل نبتاعه فباعه بعشر قلائص، ثم جاءهم فقال: هو هذا فقال سويبط: هو كاذب، وأنا رجل حر. قالوا: قد أخبرنا بخبرك وطرحوا الحبل والعمامة في رقبته، وذهبوا به، فجاء أبو بكر فأخبروه، فذهب وأصحاب له فردوا القلائص، وأخذوه، فضحك منها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا. هذا حديث حسن.
وقال الأسود بن عامر: حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي جعفر الخطمي، أن رجلا كان يكنى أبا عمرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أم عمرة". فضرب الرجل بيده إلى مذاكيره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "مه". قال: والله ما ظننت إلا أني امرأة لما قلت لي: يا أم عمرة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر مثلكم أمازحكم". حديث مرسل.
وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر، عن ثابت، عن أنس، أن رجلا من أهل البادية كان اسمه زاهر، فكان يهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية من البادية، فيجهزه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: "إن زاهرا باديتنا، ونحن حاضرته".(سيرة 2/411)
وكان دميما فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يوما، وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره، فقال: أرسلني، من هذا؟ والتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من يشتري مني العبد". فقال: يا رسول الله، إذا والله تجدني كاسدا. فقال: "لكن أنت عند الله غال". صحيح غريب.
وقال خالد بن عبد الله الواسطي، عن حصين بن عبد الرحمن، عن ابن أبي ليلى، عن أسيد بن الحضير، قال: بينا رجل من الأنصار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث، وكان فيه مزاح يحدث القوم ويضحكون، فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في خاصرته، فقال: "اصبر لي". قال: "أصطبر". قال: لأن عليك قميص، ولم يكن علي قميص. فرفع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه.
فاحتضنه وجعل يقبل كشحه ويقول: إنما أردت هذا يا رسول الله. رواته ثقات.
وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن جرير، قال: ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم.(سيرة 2/412)
باب في ملابسه صلى الله عليه وسلم:
قال خالد بن يزيد: حدثنا عاصم بن سليمان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يلبس القلانس البيض، والمزرورات، وذوات الآذان. عاصم هذا بصري متهم بالكذب.
وعن جابر: كان للنبي صلى الله عليه وسلم عمامة سوداء يلبسها في العيدين ويرخيها خلفه. تفرد به حاتم بن إسماعيل، عن محمد بن عبيد الله العرزمي، عن أبي الزبير، عن جابر.
وقال وكيع، عن عبد الرحمن بن الغسيل، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس وعليه عصابة دسماء. حديث صحيح.
وعن ركانة أنه صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس". أخرجه أبو داود.
وعن عروة، عن عائشة: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم كمة بيضاء.
وعن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء. رواته ثقات.(سيرة 2/413)
قلت: كانت -لعل- تحت الخوذة، فإنه دخل يوم الفتح وعلى رأسه المغفر.
وعن بعضهم بإسناد واه: كانت له صلى الله عليه وسلم عمامة تسمى السحاب، يلبس تحتها القلانس اللاطئة، ويرتدي.
قال مساور الوراق، عن جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، وعليه، عمامة سوداء، قد أرخى طرفها بين كتفيه.
وعلى الحسن: كانت راية النبي صلى الله عليه وسلم سوداء، تسمى العقاب، وعمامته سوداء، وكان إذا اعتم يرخي عمامته بين كتفيه. مرسل.
وقال عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتم يرخي عمامته بين كتفيه. وكان ابن عمر يفعله. وقال عبيد الله بن عمر: رأيت القاسم وسالما يفعلان ذلك.
وقال عروة: أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عمامة معلمة، فقطع علمها ولبسها. مرسل.
وقال المغيرة: إن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح على ناصيته وعمامته، وقال: لبس جبة ضيقة الكمين.
ويروى عن أنس: كان قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم قطنا، قصير الطول قصير الكمين.
وعن بديل بن ميسرة عن شهر عن أسماء بنت يزيد قالت: كان كمه صلى الله عليه وسلم إلى الرسغ.(سيرة 2/414)
وعن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس قميصا قصير اليدين والطول.
وعن عرورة -وهو مرسل- قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان طول ردائه أربعة أذرع، وعرضه ذراعان وشبر.
وقال زكريا بن أبي زائدة، عن مصعب بن شيبة، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة، قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعله مرط من شعر أسود. أخرجه أبو داود.
وذكر الواقدي أن بردة النبي صلى الله عليه وسلم كانت طول ستة أذرع في ثلاثة وشبر، وإزاره من نسج عمان، طوله أربعة أذرع وشبر في ذراعين وشبر، كان يلبسهما يوم الجمعة والعيدين ثم يطويان. حديث معضل.
وقال عروة: إن ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يخرج فيه إلى الوفد رداء حضرمي طوله أربعة أذرع، وعرضه ذراعان وشبر، فهو عند الخلفاء قد خلق، فطروه بثوب، يلبسونه يوم الأضحى والفطر. رواه ابن المبارك، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة.
وقال معن بن عيسى: حدثنا محمد بن هلال، قال: رأيت على هشام بن عبد الملك برد النبي صلى الله عليه وسلم من حبرة له حاشيتان.
قلت: هذا البرد غير برد النبي صلى الله عليه وسلم الذي يتداوله الخلفاء من بني العباس، ذاك البرد اشتراه أبو العباس السفاح بثلاث مائة دينار من صاحب أيلة.
وذكر ابن إسحاق أنه برد كساه النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب أيلة. فالله أعلم.(سيرة 2/415)
وقال حميد الطويل: حدثنا بكر بن عبد الله المزني، عن حمزة بن المغيرة بن شعبة، عن أبيه، قال: تخلفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قضى حاجته أتيته بمطهرة، فغسل كفيه ووجهه، ثم ذهب يحسر عن ذراعيه فضاق كم الجبة، فأخرج يديه من تحتها، وألقى الجبة على منكبيه، فغسل ذراعيه ومسح ناصيته، وعلى العمامة، ثم ركب وركبنا، وفي لفظ: وعليه جبة شامية ضيقة الكمين، وفي لفظ: وعليه جبة من صوف.
وقال أيوب، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه إزار يتقعقع.
وعن عكرمة: رأيت ابن عباس إذا ائتزر أرخى مقدم إزاره حتى تقع حاشيتاه على ظهر قدميه، ويرفع الإزار مما وراءه، وقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأتزر هذه الإزرة.
وعن ابن عباس قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأتزر تحت سرته، وتبدو سرته، ورأيت عمر يأتزر فوق سرته، وقال صلى الله عليه وسلم: "إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقية".
وعن إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى حلة بسبع وعشرين أوقية.
وعن محمد بن سيرين أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى حلة بتسع وعشرين ناقة. وهذان ضعيفان لإرسالهما.
وقال أبو داود: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا عمارة بن زاذان، عن ثابت، عن
أنس، أن ملك ذي يزن أهدى إلى رسول الله(سيرة 2/416)
صلى الله عليه وسلم حلة أخذها بثلاثة وثلاثين بعيرا فقبلها.
وقال الحمادان، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن سمرة بن جندب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عليكم بالبياض من الثياب فليلبسها أحياؤكم، وكفنوا فيها موتاكم". زاد حماد بن زيد في حديثه: "فإنها من خير ثيابكم".
وروى مثله الثوري، والمسعودي، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ميمون بن أبي شبيب، عن سمرة بن جندب نحوه.
ورواه المسعودي مرة عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعد بن جبير، عن ابن عباس رفعه: "البسوا الثياب البيض، وكفنوا فيها موتاكم".
ورواه أبو بكر الهذلي، عن أبي قلابة، فأرسله.
وقال عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد: حدثنا ابن سالم، قال: حدثنا صفوان بن عمرو، عن شريح بن عبيد، عن أبي الدرداء، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن خير ما زرتم الله به في مصلاكم وقبوركم البياض". رواه ابن ماجه.
وقال أبو إسحاق السبيعي، عن البراء: ما رأيت أحدا أحسن في حلة حمراء من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ: لقد رأيت عليه حلة حمراء -فذكره.
عبد الله بن صالح: حدثنا الليث، قال: حدثني عبيد الله بن المغيرة، عن عراك بن مالك، أن حكيم بن حزام قال: كان محمد صلى الله عليه وسلم أحب رجل إلي، فلما نبئ وخرج إلى المدينة، شهد حكيم الموسم، فوجد حلة لذي يزن فاشتراها، ثم قدم بها ليهديها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا نقبل من المشركين شيئا، ولكن بالثمن". قال: فأعطيته إياها حين أبى الهدية،(سيرة 2/417)
فلبسها، فرأيتها عليه على المنبر، فلم أر شيئا أحسن منه يومئذ فيها، ثم أعطاها أسامة، فرآها حكيم على أسامة، فقال: يا أسامة أتلبس حلة ذي يزن؟ قال: نعم والله لأنا خير من ذي يزن، ولأبي خير من أبيه. فانطلقت إلى مكة فأعجبتهم بقول أسامة.
وقال عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالأبطح وهو في قبة له حمراء، فخرج وعليه حلة حمراء، فكأني أنظر إلى بريق ساقيه. صحيح الإسناد.
وقال حفص بن غياث، عن حجاج، عن أبي جعفر، عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة. رواه هشيم، عن حجاج، عن أبي جعفر محمد بن علي فأرسله.
وقال عبيد الله بن إياد، عن أبيه، عن أبي رمثة، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه بردان أخضران. إسناده صحيح.(سيرة 2/418)
باب منه:
وقال وكيع: حدثنا ابن أبي ليلى، عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، عن محمد بن عمرو بن شرحبيل، عن قيس بن سعد، قال: أتانا النبي صلى الله عليه وسلم، فوضعنا له غسلا فاغتسل، ثم أتيته بملحفة ورسية، فاشتمل بها، فكأني أنظر أثر الورس على عكنه.
وقال هشام بن سعد، عن يحيى بن عبد الله بن مالك، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ ثيابه بالزعفران: قميصه ورداءه وعمامته. مرسل.
وقال مصعب بن عبد الله بن مصعب الزبيري: سمعت أبي يخبر عن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر، عن أبيه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه رداء وعمامة مصبوغين بالعبير. قال مصعب: العبير عندنا: الزعفران. مصعب فيه لين.
وعن أم سلمة، قالت: ربما صبغ لرسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه ورداؤه بزعفران وورس.
أخرجه محمد بن سعد، عن ابن أبي فديك، عن زكريا بن إبراهيم، عن ركيح بن أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة، عن أبيه، عن أمه، عن أم سلمة. وهذا إسناد عجيب مدني.
وعن زيد بن أسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ ثيابه حتى العمامة بالزعفران.
وهذه المراسيل لا تقاوم ما في الصحيح من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن(سيرة 2/419)
التزعفر، وفي لفظ: "نهى أن يتزعفر الرجل" ولعل ذلك كان جائزا، ثم نهى عنه.
وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان -وهو ضعيف- عن أنس بن مالك، قال: أهدى ملك الروم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقة من سندس، فلبسها، فكأني أنظر إلى يديها تذبذبان من طولهما، فجعل القوم يقولون: يا رسول الله أنزلت عليك من السماء؟ فقال: "وما تعجبون منها، فوالذي نفسي بيده إن منديلا من مناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها". ثم بعث بها إلى جعفر بن أبي طالب فلبسها، فقال صلى الله عليه وسلم: "إني لم أعطكها لتلبسها".
قال: فما أصنع بها؟ قال: "ابعث بها إلى أخيك النجاشي".
وقال الليث بن سعد: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر أنه
أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فروج -يعني قباء حرير- فلبسه، ثم صلى فيه، ثم انصرف فنزعه نزعا شديدا كالكاره له، ثم قال: "لا ينبغي هذا للمتقين".
وقال مالك، عن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه، عن عائشة: أهدى أبو الجهم بن حذيفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم خميصة شامية لا علم، فشهد فيها الصلاة، فلما انصرف قال: "ردوا هذه الخميصة على أبي جهم، فإني نظرت إلى علمها في الصلاة فكاد يفتنني".
وقال هشام بن عروة، عن أبيه، عن عمر بن أبي سلمة: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في بيت أم سلمة مشتملا في ثوب واحد.
وصح مثله عن أنس رفعه.(سيرة 2/420)
وعن ابن عباس أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد يتقي بفضوله حر الأرض وبردها.
وقال جابر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في إزار واحد مؤتزرا به، ليس عليه غيره.
وقال يونس بن الحارث الثقفي، عن أبي عون محمد بن عبيد الله بن سعيد الثقفي، عن أبيه، عن المغيرة بن شعبة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير والفروة المدبوغة. أخرجه أبو داود.
وقال شعبة عن حبيب بن أبي ثابت، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلبس الصوف.
وقال حميد بن هلال، عن أبي بردة، قال: دخلت على عائشة، فأخرجت إلينا إزارا غليظا مما يصنع باليمن، وكساء من هذه الملبدة، فأقسمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض فيهما.
أخرجه مسلم.
وقال هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان ضجاع النبي صلى الله عليه وسلم من أدم محشوا ليفا.
وقد تقدم أحاديث في هذا المعنى في زهده عليه السلام.
وقال غير واحد، عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلي(سيرة 2/421)
أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء". أخرجه البخاري.
وعند مسلم "على عاتقيه".
وقال عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله مولى أسماء، عن أسماء بنت أبي بكر، أنها أخرجت جبة طيالسة كسروانية لها لبنة ديباج وفرجيها مكفوفين بالديباج، فقالت: هذه جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان صلى الله عليه وسلم يلبسها، فنحن نغسلها للمريض يستشفي بها. أخرجه مسلم.
ورواه أحمد في "مسنده" وفيه: جبة طيالسة عليها لبنة شبر من ديباج كسرواني.(سيرة 2/422)
باب خواتيم النبي صلى الله عليه وسلم:
قال عبيد الله وغيره، عن نافع، عن ابن عمر، قال: اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب، فكان يجعل فصه في بطن كفه إذا لبسه في يده اليمنى، فصنع الناس خواتيم من ذهب، فجلس على المنبر، ونزعه ورمى به وقال: "والله لا ألبسه أبدا". فنبذ الناس خواتيمهم.
وروي نحوه عن مجاهد، وعن محمد بن علي مرسلين. وكان هذا قبل تحريم الذهب.
وفي "الصحيح" أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن خاتم الذهب.
وصح عن أنس، قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر ولم يختمه، فقيل له: إن كتابك لا يقرأ إلا أن يكون مختوما. فاتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتما من فضة فنقشه "محمد رسول الله"، فكأني أنظر إلى بياضه في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من فضة، ونهى أن ينقش الناس على خواتيمهم نقشته، وقال: "كان من فضة، فصه منه".
وصح عنه، قال: اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ورق، فصه حبشي، ونقشه "محمد رسول الله".
وصح عن ابن عمر، قال: اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ورق، فكان في يده، ثم كان
في يد أبي بكر، ثم كان في يد عمر، ثم كان في يد عثمان، حتى وقع بئر أريس، نقشه "محمد رسول الله".
وفي رواية عن ابن عمر: فجعل فصه في بطن كفه.(سيرة 2/423)
وعن مكحول، وإبراهيم النخعي من وجهين عنهما أن خاتم النبي صلى الله عليه وسلم كان حديدا ملوي عليه فضة.
وروى مثله أبو نعيم، عن إسحاق، عن سعيد، عن خالد بن سعيد، ولم يدرك سعيد خالدا، وقال أحمد بن محمد الأزرقي: حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد القرشي، عن جده، قال: دخل عمرو بن سعيد بن العاص، حين قدم من الحبشة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما هذا الخاتم في يدك يا عمرو"؟ قال: هذه حلقة. قال: "فما نقشها"؟ قال: "محمد رسول الله" فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتختمه، فكان في يده حتى قبض، ثم في يد أبي بكر، ثم في يد عمر، ثم عثمان، فبينا هو يحفر بئرا لأهل المدينة، يقال له: بئر أريس، وهوجالس على شفتها، يأمر بحفرها، سقط الخاتم في البئر، وكان عثمان يخرج خاتمه من يده كثيرا، فالتمسوه فلم يقدروا عليه.
وقال أنس: كان نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أسطر: "محمد" سطر، و"رسول" سطر، و"الله" سطر.
وقال: فكان في يد عثمان ست سنين، فكنا معه على بئر أريس، وهو يحول الخاتم في يده، فوقع في البئر فطلبناه مع عثمان ثلاثة أيام، فلم نقدر عليه.
وعن عبد الله بن جعفر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه.
وعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس خاتمه في يساره. وعن ابن عمر مثله.
وصح أن ابن عمر كان يتختم في يساره.(سيرة 2/424)
باب نعل النبي صلى الله عليه وسلم وخفه:
قال همام، عن قتادة، عن أنس: كان لنعل النبي صلى الله عليه وسلم قبالان. صحيح.
وعن عبد الله بن الحارث، قال: كانت نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لها زمامان شراكهما مثني في العقد.
وقال هشام بن عروة: رأيت نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مخصرة معقبة ملسنة لها قبالان.
وقال أبو عوانة، عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد، سألت أنسا: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه؟ قال: نعم. وروى مثله من غير وجه.
وقال حماد بن سلمة، عن أبي نعامة السعدي، عن أبي نضرة، عن ابي سعيد الخدري، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إذ وضع نعله على يساره، فألقى الناس نعالهم، فلما قضى صلاته قال: "ما حملكم على إلقاء نعالكم"؟ قالوا: رأيناك ألقيت فألقينا. فقال: "إن جبريل أخبرني أن فيهما قذرا -أو أذى- فمن رأى ذلك فليمسحهما، ثم ليصل فيهما".
وعن عبيد بن جريج، قلت لابن عمر: أراك تستحب هذه النعال السبتية، قال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها ويتوضأ فيها.
السبت: بالكسر، جلود البقر المدبوغة بالقرظ.
وعن عبد الله بن بريدة أن النجاشي أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم خفين أسودين ساذجين، فلبسهما ومسح عليهما.(سيرة 2/425)
باب مشطه ومكحلته صلى الله عليه وسلم مرآته وقدحه وغير ذلك:
قال أبو نعيم: حدثنا مندل، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسافر بالمشط، والمرآة، والمدهن، والسواك، والكحل. مرسل.
وعن ابن عباس، قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مكحلة يكتحل بها عند النوم ثلاثا في كل عين.
وقال حبان بن علي، عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتحل بالإثمد وهو صائم. إسناده لين.
وقال الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، أن المقوقس أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قدح زجاج كان يشرب فيه.
وقال حميد: رأيت قدح النبي صلى الله عليه وسلم عند أنس، فيه فضه قد شده بها. حديث صحيح.
وقال عاصم الأحول: رأيت قدح النبي صلى الله عليه وسلم عند أنس، وكان قد انصدع فسلسله بفضة.
قال عاصم: وهو قدح جيد عريض من نضار، فقال أنس: قد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا القدح أكثر من كذا وكذا. قال: وقال ابن(سيرة 2/426)
سيرين: إنه كان فيه حلقة من حديد، فأراد أن يجعل مكانها أنس حلقة من فضة أو ذهب، فقال له أبو طلحة: لا تغيرن شيئا صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتركه. أخرجه البخاري.
يروى عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر تسريح لحيته. إسناده واه.(سيرة 2/427)
باب سلاح النبي صلى الله عليه وسلم ودوابه وعدته:
أخبرنا عمر بن عبد المنعم قراءة، عن أبي القاسم عبد الصمد بن محمد القاضي، عن أبي القاسم إسماعيل بن محمد الحافظ، قال: أخبرنا سليمان بن إبراهيم الحافظ، وعبد الله بن محمد النيلي، قالا: أخبرنا علي بن القاسم المقرئ، قال: أخبرنا أبو الحسين أحمد بن فارس اللغوي، قال: كان سلاح رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذا الفقار، وكان سيفا أصابه يوم بدر. وكان له سيف ورثه من أبيه، وأعطاه سعد بن عبادة سيفا يقال له: العضب وأصاب من سلاح بني قينقاع سيفا قلعيا، وفي رواية كان يقال له: البتار واللخيف، وكان له المخذم، والرسوب، وكانت ثمانية أسياف.
وقال شيخنا شرف الدين الدمياطي: أول سيف ملكه سيف يقال له: المأثور، وهو الذي يقال: إنه من عمل الجن، ورثه من أبيه، فقدم به في هجرته إلى المدينة وأرسل إليه سعد بن عبادة بسيف يدعى "القضب" حين سار إلى بدر وكان له ذو الفقار؛ لأنه كان في وسطه مثل فقرات الظهر، صار إليه يوم بدر، وكان للعاص بن منبه أخي نبيه(سيرة 2/428)
ابني الحجاج بن عامر السهمي -قتل العاص، وأبوه، وعمه كفارا يوم بدر- وكانت قبيعته، وقائمته وحلقته، وذؤابته، وبكراته، ونعله، من فضة والقائمة هي الخشبة التي يمسك بها، وهي القبضة.
وروى الترمذي من حديث هود بن عبد الله بن سعد بن مزيدة، عن جده مزيدة، قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وعلى سيفه ذهب وفضة.
وهو -بالكسر جمع فقرة، وبالفتح جمع فقارة- سمى بذلك لفقرات كانت فيه، وهي حفر كانت في متنه حسنة، ويقال: كان أصله من حديدة وجدت مدفونة عند الكعبة من دفن جرهم، فصنع منها ذو الفقار وصمصامة عمرو بن معدي كرب الزبيدي، التي وهبا لخالد بن سعيد بن العاص.
وأخذ من سلاح بني قينقاع ثلاثة أسياف: سيفا قلعيا، منسوب إلى مرج القلعة -بالفتح- موضع بالبادية، والبار، والحنف، وكان عنده بعد ذلك الرسوب -من رسب في الماء إذا
سفل -والمخذم وهو القاطع، أصابهما من الفلس: صنم كان لطيئ، وسيف يقال له القضيب، وهو فعيل بمعنى فاعل، والقضب: القطع.
وذكر الترمذي، عن ابن سيرين قال: صنعت سيفي على سيف سمرة، وزعم سمرة أنه صنعه على سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان حنفيا.
رواه عثمان بن سعد، عن ابن سيرين، وليس بالقوي، وهو الذي روى عن أنس أن قبيعة سيف النبي صلى الله عليه وسلم كانت من فضة.
والحنف: الاعوجاج.
قال شيخنا: وكانت له صلى الله عليه وسلم درع يقال لها: ذات الفضول، لطولها،(سيرة 2/429)
أرسل بها إليه سعد بن عبادة حين سار إلى بدر. وذات الوشاح وهي الموشحة، وذات الحواشي، ودرعان من بني قينقاع، وهما السغدية وفضة، وكانت السغدية درع عكير القينقاعي، وهي درع داود -عليه الصلاة والسلام- التي لبسها حين قتل جالوت.
ودرع يقال لها: البتراء، ودرع يقال لها: الخرنق، والخرنق ولد الأرنب. ولبس يوم أحد درعين ذرات الفضول وفضة. وكان عليه يوم خيبر: ذات الفضول والسغدية.
وقد توفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة بثلاثين صاعا من شعير، أخذها قوتا لأهله.
وقال عبيس بن مرحوم العطار: حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: كان في درع رسول الله صلى الله عليه وسلم حلقتان من فضة في موضع الصدر، وحلقتان من خلف ظهره، قال محمد بن علي: فلبستها فجعلت أخطها في الأرض.
قال شيخنا: وكان له خمسة أقواس: ثلاث من سلاح بني قينقاع، وقوس تدعى الزوراء، وقوس تدعى الكتوم، وكانت جعبته تدعى الكافور.
وكانت له منطقة من أديم مبشور، فيها ثلاث حلق من فضة، وترس يقال له: الزلوق،
يزلق عنه السلاح، وترس يقال له: العنق، وأهدى له ترس فيه تمثال عقاب أو كبش، فوضع يده عليه فأذهب الله ذلك التمثال.
وأصاب ثلاثة أرماح من سلاح بني قينقاع. وكان له رمح يقال له:(سيرة 2/430)
المثوى، وآخر يقال له: المتثنى، وحربة اسمها البيضاء، وأخرى صغيرة كالعكاز.
وكان له مغفر من سلاح بني قينقاع، وآخر يقال له: السبوغ.
وكانت له راية سوداء مربعة من نمرة مخملة، تدعى: العقاب.
وأخرج أبو داود، من حديث سماك بن حرب، عن رجل من قومه عن آخر قال: رأيت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم صفراء، وكانت ألويته بيضا. وربما جعل فيها الأسود، وربما كانت من خمر بعض أزواجه.
وكان فسطاطه يسمى الكن.
وكان له محجن قدر ذراع أو أكثر، يمشي ويركب به، ويعلقه بين يديه على بعيره.
وكانت له مخصرة تسمى: العرجون، وقيب يسمى: الممشوق.
واسم قدحه: الريان. وكان له قدح مضبب غير الريان، يقدر أكثر من نصف المد.
وقال ابن سيرين، عن أنس: إن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر، واتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة. أخرجه البخاري.
وكان له قدح من زجاج، وتور من حجارة، يتوضأ منه كثيرا، ومخضب من شبه.
وركوة تسمى: الصادرة، ومغسل من صفر، وربعة أهداها له المقوقس، يجعل فيها المرآة ومطا من عاج، والمكحلة، والمقص، والسواك.(سيرة 2/431)
وكانت له نعلان سبتيتان، وقصعة، وسرير، قطيفة. وكان يتبخر بالعود والكافور.
وقال ابن فارس بإسنادي الماضي إليه: يقال: ترك يوم توفي صلى الله عليه وسلم ثوبي حبرة، وإزارا عمانيا، وثوبين صحاريين، وقميصا صحاريا وقميصا سحوليا، وجبة يمنية، وخميصة، وكساء أبيض، وقلانس صغارا ثلاثا أو أربعا، وإزارا طوله خمسة أشبار، وملحفة يمنية مورسة.
وأكثر هذا الباب كما ترى بلا إسناد، نقله هكذا ابن فارس، وشيخنا الدمياطي، فالله أعلم هل هو صحيح أم لا؟
وأما دوابه فروى البخاري من حديث عباس بن سهل بن سعد، عن أبيه، كان للنبي صلى الله عليه وسلم في حائطنا فرس يقال له: اللحيف.
وروى عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد -وهو ضعيف- عن أبيه، عن جده قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أفراس يعلفهن عند أبي سعد بن سعد الساعدي، فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يسميهن: اللزاز، والظرب، واللحيف. رواه الواقدي عنه، وزاد في الحديث بالسند: فأما لزاز فأهداه له المقوقس، وأما اللحيف فأهداه له ربيعة بن أبي البراء، فأثابه عليه فرائض من نعم بني كلاب، وأما الظرب فأهداه له فروة بن عمرو الجذامي.
واللزاز من قولهم: لازرته أي: لاصقته، والملزز: المجتمع الخلق.(سيرة 2/432)
والظرب: واحد الظراب، وهي الروابي الصغار، سمي به لكبره وسمنه، وقيل: لقوته، وقاله الواقدي بطاء مهملة، وقال: سمي الطرب لتشوفه وحسن صهيله.
واللحيف: بمعنى لاحف، كأنه يلحف الأرض بذنبه لطوله، وقيل: اللحيف، مصغرا.
وأول فرس ملكه: السكب، وكان اسمه عند الأعرابي: الضرس، فاشتراه منه بعشر أواقي، أول ما غزا عليه أحدا، ليس مع المسلمين غيره، وفرس لأبي بردة بن نيار. وكان له فرس يدعى: المرتجز، سمي به لحسن صهيله، وكان أبيض. والفرس وإذا كان خفيف الجري فهو سكب وفيض كانسكاب الماء.
وأهدى له تميم الداري فرسا يدعى الورد، فأعطاه عمر.
والورد: بين الكميت والأشقر.
وكانت له فرس تدعى سبحة، من قولهم: طرف سابح، إذا كان حسن مد اليدين في الجري.
قال الدمياطي: فهذه سبعة أفراس متفق عليها، وذكر بعدها خمسة عشر فرسا مختلف فيها، وقال: قد شرحناها في "كتاب الخيل".
قال: وكان سرجه دفتاه من ليف.
وكانت له بغلة أهداها له المقوقس، شهباء يقال لها: دلدل، مع حمار يقال له: عفير، وبغلة يقال لها: فضة، أهداها له فروة الجذامى، مع حمار يقال له: يعفور، فوهب البغلة لأبي بكر، وبغلة أخرى.
قال أبو حميد الساعدي: غزونا تبوك، فجاء رسول ابن العلماء صاحب أيلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب، وأهدى له بغلة بيضاء، فكتب(سيرة 2/433)
إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهدى له بردة، وكتب له ببحرهم. والحديث في الصحاح.
وقال ابن سعد: وبعث صاحب دومة الجندل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببغلة وجبة سندس.
وفي إسناد عبد الله بن ميمون القداح، وهو ضعيف
ويقال: إن كسرى أهدى له بغلة، وهذا بعيد؛ لأنه -لعنه الله- مزق كتاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وكانت له الناقة التي هاجر عليها من مكة، تسمى القصواء، والعضباء، والجدعاء، وكانت شهباء.
وقال أيمن بن نابل، عن قدامة بن عبد الله، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على ناقة صهباء يرمي الجمرة، لا ضرب ولا طرد، ولا إليك إليك. حديث حسن.
الصهباء: الشقراء.
وكانت له صلى الله عليه وسلم لقاح أغارت عليها غطفان وفزارة، فاستنقذها سلمة ابن الأكوع وجاء بها يسوقها. أخرجه البخاري. وهو من الثلاثيات.
وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى يوم الحديبية جملا في أنفه برة من فضة، كان غنمه من أبي جهل يوم بدر، أهداه ليغيظ بذلك المشركين إذا رأوه، وكان مهريا يغزو عليه ويضرب في لقاحه.
وقيل: كان له صلى الله عليه وسلم عشرون لقحة بالغابة، يراح إليه منها كل ليلة بقربتين من لبن.
وكانت له خمس عشرة لقحة، يرعاها يسار مولاه الذي قتله(سيرة 2/434)
العرنيون واستاقوا اللقاح، فجيء بهم فسملهم.
وكان له من الغنم مائة شاة، لا يريد أن تزيد، كلما ولد الراعي بهمة ذبح مكانها شاة.(سيرة 2/435)
وقد سحر النبي صلى الله عليه وسلم وسم في شواء:
قال وهيب، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر، حتى كان يخيل إليه أنه يصنع الشيء ولم يصنعه، حتى إذا كان ذات يوم رأيته يدعو، فقال: "أشعرت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته: أتاني رجلان، فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما: ما وجع الرجل؟ قال الآخر: مطبوب، قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: فبم؟ قال: في مشط ومشاطة وجف طلعه ذكر، قال: فأين هو؟ قال: في ذي أروان". فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رجع أخبر عائشة، فقال: كأن نخلها رؤوس الشياطين، وكأن ماءوها نقاعة الحناء فقلت: يا رسول الله أخرجه للناس. قال: أما أنا فقد شفاني الله، وخشيت أن أثور على الناس منه شرا. في لفظ: في بئر ذي أروان.
روى عمر مولى غفرة -وهو تابعي- أن لبيد بن أعصم سحر النبي صلى الله عليه وسلم حتى التبس بصره وعاده أصحابه، ثم إن جبريل وميكائيل أخبراه، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف، فاستخرج السحر من الجب، ثم نزعه فحله، فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعفا عنه.
وروى يونس، عن الزهري قال في ساحر أهل العهد: لا يقتل، قد سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي، فلم يقتله.(سيرة 2/436)
وعن عكرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عفا عنه.
قال الواقدي: هذا أثبت عندنا ممن روى أنه قتله.
وقال أبو معاوية: حدثنا الأعمش، عن إبراهيم قال: كانوا يقولون: إن اليهود سمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمت أبا بكر. وفي الصحيح عن ابن عباس أن امرأة من يهود خيبر أهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة.
وعن جابر، وأبي هريرة، وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما افتتح خيبر واطمأن جعلت
زينب بنت الحارث -وهي بنت أخي مرحب وامرأة سلام بن مشكم- سما قاتلا في عنز لها ذبحتها وصلتها، وأكثرت السم في الذراعين والكتف، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم المغرب انصرف وهي جالسة عند رحلة، فقالت: يا أبا القاسم هدية أهديتها لك. فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فأخذت منها، ثم وضعت بين يديه وأصحابه حضور، منهم بشر بن البراء بن معرور، وتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهش من الذراع، وتناول بشر عظما آخر، فانتهش منه، وأكل القوم منها فلما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم لقمة قال: "ارفعوا أيديكم فإن هذه الذراع تخبرني أنها مسمومة".
فقال بشر: والذي أكرمك، لقد وجدت ذلك من أكلتي، فما منعني أن ألفظها إلا أني كرهت أن أبغض إليك طعامك، فلما أكلت ما في فيك لم أرغب بنفسي عن نفسك، ورجوت أن لا تكون ادردتها وفيها بغي فلم يقم بشر حتى تغير لونه، وما طله وجعه سنة ومات.
وقال بعضهم: لم يرم بشر من مكانه حتى توفي، فدعاها فقال: ما حملك؟ قالت: نلت من قومي، وقتلت أبي وعمي وزوجي، فقلت: ان(سيرة 2/437)
كان نبيا فستخبره الذراع، وإن كان ملكا استرحنا منه، فدفعها إلى أولياء بشر يقتلونها. وهو الثبت.
وقال أبو هريرة: لم يعرض لها واحتجم النبي صلى الله عليه وسلم على كاهله. حجمه أبو هند بقرن وشفرة، وأمر أصحابه فاحتجموا أوساط رؤوسهم، وعاش بعد ذلك ثلاث سنين.
وكان في مرض موته يقول: "ما زلت أجد من الأكلة التي أكلتها بخيبر، وهذا أوان انقطاع أبهري"، وفي لفظ: "ما زالت أكلة خيبر يعاودني ألم سمها" -والأبهري عرق في الظهر- وهذا سياق غريب. وأصل الحديث في "الصحيح".
وروى أبو الأحوص، عن أبي مسعود، قال: لأن أحلف بالله تسعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل قتلا أحب إلي من أن أحلف واحدة، يعني أنه مات موتا، وذلك بأن الله اتخذه نبيا وجعله شهيدا.(سيرة 2/438)
باب ما وجد من صورة نبينا:
وصور الأنبياء عند أهل الكتاب بالشام:
قال عبد الله بن شبيب الربعي وهو ضعيف بمرة: حدثنا محمد بن عمر بن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم، قال: حدثتني أم عثمان عمتي، عن أبيها سعيد، عن أبيه، أنه سمع أباه جبير بن مطعم يقول: لما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم، وظهر أمره بمكة، خرجت إلى الشام، فلما كنت ببصرى أتتني جماعة من النصارى فقالوا لي: أمن الحرم أنت؟ قلت: نعم قالوا: فتعرف هذا الذي تنبأ فيكم؟ قلت: نعم. فأدخلوني ديرا لهم فيه صور فقالوا: انظر هل ترى صورته؟ فنظرت فلم أر صورته، قلت: لا أرى صورته، فأدخلوني ديرا أكبر من ذاك فنظرت، وإذا بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصورته وبصفة أبي بكر وصورته، وهو آخذ بعقب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا لي: هل ترى صفته؟ قلت: نعم قالوا: أهو هذا؟ قلت: اللهم نعم، أشهد أنه هو. قالوا: أتعرف هذا الذي أخذ بعقبه؟ قلت: نعم قالوا: نشهد أن هذا صاحبكم وأن هذا الخليفة من بعده.
رواه البخاري في "تاريخه" عن محمد، غير منسوب عن محمد بن عمر بن سعيد، أخصر من هذا.
وقال إبراهيم بن الهيثم البلدي: حدثنا عبد العزيز بن مسلم بن إدريس، قال: حدثنا عبد الله بن إدريس، عن شرحبيل بن مسلم، عن(سيرة 2/439)
أبي أمامة الباهلي، عن هشام بن العاص الأموي، قال: بعثت أنا ورجل من قريش إلى هرقل ندعوه إلى الإسلام، فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني، فدخلنا عليه، وإذا هو على سرير له، فأرسل إلينا برسول نكلمه، فقلنا: والله لا نكلم رسولا، إنما بعثنا إلى الملك، فأذن لنا وقال: تكلموا فكلمته ودعوته إلى الإسلام وإذا عليه ثياب سواد قلنا: ما هذه؟ قال: لبستها وحلفت أن لا أنزعها حتى أخرجكم من الشام قلنا: ومجلسك هذا، فوالله لنأخذنه منك، ولنأخذن ملك الملك الأعظم إن شاء الله، أخبرنا بذلك نبينا قال: لستم بهم، بل هم قوم يصومون بالنهار فكيف صومكم؟ فأخبرناه، فملأ وجهه سوادا وقال: قوموا، وبعث معنا رسولا إلى الملك، فخرجنا حتى إذا كنا قريبا من المدينة، قال الذي معنا: إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك، فإن شئتم
حلمناكم على براذين وبغال؟ قلنا: والله لا ندخل إلا عليها، فأرسلوا إلى الملك أنهم يأبون، فدخلنا على رواحلنا متقلدين سيوفنا، حتى انتهينا إلى غرفة له، فأنخنا في أصلها، وهو ينظر إلينا، فقلنا: لا إله إلا الله والله أكبر، والله يعلم لقد تنقضت الغرفة حتى صارت كأنها عذق تصفقه الرياح، فأرسل إلينا: ليس لكم أن تجهروا علينا بدينكم، وأرسل إلينا أن أدخلوا، فدخلنا عليه، وهو على فراش له، عنده بطارقته من الروم، وكل شيء في مجلسه أحمد، وما حوله حمرة، وعليه ثياب من الحمرة، فدنوا منه، فضحك وقال: ما كان عليكم لو حييتموني بتحيتكم. فإذا عنده رجل فصيح بالعربية، كثير الكلام، فقلنا: إن تحيتنا فيما بيننا لا تحل لك، وتحيتك التي تحيا بها لا يحل لنا أن نحييك بها قال: كيف تحيتكم فيما بينكم؟ قلنا: السلام عليكم قال: فبم تحيون ملككم؟ قلنا: بها قال: وكيف يرد عليكم؟ قلنا: بها قال: فما أعظم كلامكم؟ قلنا: لا إله إلا الله والله(سيرة 2/440)
أكبر. فلما تكلمنا با قال: والله يعلم لقد تنقضت الغرفة، حتى رفع رأسه إلينا فقال: هذه الكلمة التي قلتموها حيث تنقضت الغرفة كلما قلتموها في بيوتكم تنقض بيوتكم عليكم؟ قلنا: لا، ما رأيناها فعلت هذه قط إلا عندك قال: لوددت أنكم كلما قلتم تنقض كل شيء عليكم، وأني خرجت من نصف ملكي قلنا: لم؟ قال: لأنه كان أيسر لشأنها، وأجدر ألا يكون من أمر النبوة، وأن يكون من حيل الناس ثم سألنا عما أراد، فأخبرناه، ثم قال: كيف صلاتكم وصومكم؟ فأخبرناه، فقال: قوموا، فقما، فأمر لنا بمنزل حسن ونزل كثير، فأقمنا ثلاثا، فأرسل إلينا ليلا فدخلنا عليه، فاستعاد قولنا، ثم دعا بشيء كهيئة الربعة العظيمة، مذهبة فيها بيوت صغار، عليها أبواب، ففتح بيتا وقفلا، واستخرج حريرة سوداء فنشرها فإذا فيها صورة حمراء، وإذا فيها رجل ضخم العينين عظيم الأليتين، لم أر مثل طول عنقه، وإذا ليست له لحية، وإذا ضفيرتان أحسن ما خلق الله، قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا قال هذا آدم عليه السلام ثم فتح لنا بابا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها صورة بيضاء، وإذا له شعر كشعر القطط، أحمر العينين ضخم الهامة حسن اللحية، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا قال: هذا نوح عليه السلام ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها رجل شديد البياض حسن العينين صلت الجبين طويل الخد أبيض اللحية كأنه يتبسم، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا قال: هذا إبراهيم عليه السلام، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء، فإذا فيها صورة بيضاء وإذا والله رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: نعم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبكينا قال: والله يعلم أنه قام قائما ثم جلس وقال: والله إنه لهو؟ قلنا: نعم إنه لهو، كأنما تنظر إليه، فأمسك ساعة ينظر إليها، ثم قال: أما إنه كان آخر البيوت، ولكني(سيرة 2/441)
عجلته لكم لأنظر ما عندكم، ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء، فإذا فيها صورة أدماء سحماء وإذا رجل جعد قطط، غائر العينين، حديد النظر، عابس، متراكب الأسنان، مقلص الشفة، كأنه غضبان، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا قال: هذا موسى عليه السلام وإلى جنبه صورة تشبهه إلا أنه مدهان الرأس، عريض الجبين، في عينه قبل، فقال: هل عرفون هذا؟ قلنا: لا قال: هذا هارون بن عمران، ثم فتح بابا آخر، فاستخرج حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل آدم سبط ربعة كأنه غضبان، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا قال: هذا لوط عليه السلام ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل أبيض مشرب حمرة، أقنى، خفيف العارضين، حسن الوجه، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا قال هذا إسحاق عليه السلام، ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة تشبه إسحاق إلا أنه على شفته السفلى خال، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا قال: هذا يعقوب عليه السلام، ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فيها صورة رجل أبيض حسن الوجه أقنى الأنف حسن القامة يعلو وجهه نور يعرف في وجه الخشوع يضرب إلى الحمرة فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا قال: هذا إسماعيل جد نبيكم، ثم فتح بابا آخر، فاستخرج حريرة بيضاء فيها صورة كأنها صورة آدم، كأنه وجهه الشمس، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا قال: هذا يوسف عليه السلام، ثم فتح بابا آخر، فاستخرج حريرة بيضاء، فيها صورة رجل أحمر، حمش الساقين، أخفش العينين، ضخم البطن، ربعة متقلد سيفا، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا قال: هذا داود عليه السلام ثم فتح بابا آخر فاستخرج حريرة بيضاء، فيها صورة رجل ضخم الأليتين، طويل الرجلين، راكب فرس، فقال:(سيرة 2/442)
هذا سليمان عليه السلام، ثم فتح بابا آخر، فاستخرج صورة، وإذا شاب أبيض، شديد سواد اللحية، كثير الشعر، حسن العينين، حسن الوجه فقال: هذا عيسى عليه السلام فقلنا: من أين لك هذه الصور؟ لأنا نعلم أنها على ما صورت؛ لأنا رأينا نبينا صلى الله عليه وسلم وصورته مثله، فقال: إن آدم سأل ربه تعالى أن يريه الأنبياء من ولده، فأنزل عليه صورهم وكانت في خزانة آدم عند مغرب الشمس فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمسن فدفعها إلى دانيال عليه السلام، يعني فصورها دانيال في خرق من حرير، فهذه بأعيانها التي صورها دانيال، ثم قال: أما والله لوددت أن نفسي طابت بالخروج من ملكي، وأني كنت عبدا لشركم ملكة حتى أموت، ثم أجازنا بأحسن جائزة وسرحنا.
فلما قدمنا على أبي بكر رضي الله عنه، حدثناه بما رأيناه، وما قال لنا، فبكى أبو بكر
وقال: مسكين، لو أراد الله بن خيرا لفعل، ثم قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم واليهود يجدون نعت محمد صلى الله عليه وسلم عندهم.
روى هذه القصة أبو عبد الله بن مندة، عن إسماعيل بن يعقوب. ورواها أبو عبد الله الحاكم، عن عبد الله بن إسحاق الخراساني، كلاهما عن البلدي، عن عبد العزيز، ففي رواية الحاكم كما ذكرت من السند وعند ابن مندة، قال: حدثنا عبيد الله عن شرحبيل، وهو سند غريب.
وهذه القصة قد رواها الزبير بن بكار، عن عمه مصعب بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، عن أبيه مصعب، عن عبادة بن الصامت: بعثني أبو بكر الصديق في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ملك الروم لندعوه إلى الإسلام، فخرجنا نسير على رواحلنا حتى قدمنا دمشق، فذكره بمعناه.(سيرة 2/443)
وقد رواه بطوله: علي بن حرب الطائي فقال: حدثنا دلهم بن يزيد، قال: حدثنا القاسم ان سويد، قال: حدثنا محمد بن أبي بكر الأنصاري، عن أيوب بن موسى قال: كان عبادة بن الصامت يحدث، فذكر نحوه.
أنبأنا الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر وجماعة، عن عبد الوهاب بن علي الصوفي، قال: أخبرتنا فاطمة بنت أبي حكيم الخبري، قال: أخبرنا علي بن الحسن بن الفضل الكاتب، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن خالد الكاتب من لفظه سنة ثلاث عشرة وأربع مائة، قال: أخبرنا علي بن عبد الله بن العباس بن المغيرة الجوهري، قال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن سعيد الدمشقي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني عمي مصعب بن عبد الله، عن جدي عبد الله بن مصعب، عن أبيه، عن جده، عن عبادة بن الصامت قال: بعثني أبو بكر في نفر من الصحابة إلى ملك الروم لأدعوه إلى الإسلام، فخرجنا نسير على رواحلنا حتى قدمنا دمشق، فإذا على الشام لهرقل جبلة، فاستأذنا عليه، فأذن لنا، فلما نظر إلينا كره مكاننا وأمر بنا فأجلسنا ناحية، وإذا هو جالس على فرش له مع السقف، وأرسل إلينا رسولا يكلمنا ويبلغه عنها، فقلنا: والله لا نكلمه برسول أبدا. فانطلق الرسول فأعلمه ذلك، فنزل عن تلك الفرش إلى فرش دونها، فأذن لنا فدنونا منه، فدعوناه إلى الله وإلى الإسلام، فلم يجب إلى خير، وإذا عليه ثياب سود، فقلنا: ما هذه المسوح؟ قال: لبستها نذرا لا أنزعها حتى أخرجكم من بلادي. قال: قلنا له: تيدك لا تعجل، أتمنع منا مجلسك هذا! فوالله لنأخذنه وملك الملك الأعظم، خبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم قال: أنتم إذا السمراء(سيرة 2/444)
قلنا: وما السمراء؟ قال: لستم بهم.
قلنا: ومن هم؟ قال: قوم يقومون الليل ويصومون النهار. قلنا: فنحن والله نصوم النهار ونقوم الليل، قال: فكيف صلاتكم؟ فوصفناها له، قال: فكيف صومكم؟ فأخبرناه به.
وسألنا عن أشياء فأخبرناه، فيعلم الله لعلا وجهه سواد حتى كأنه مسح أسود، فانتهرنا وقال لنا: قوموا فخرجنا وبعث معنا أدلاء إلى ملك الروم، فسرنا فلما دنونا من القسطنطينية قالت الرسل الذين معنا: إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك، فأقيموا حتى نأتيكم ببغال وبراذين. قلنا: والله لا ندخل إلا على دوابنا، فأرسلوا إليه يعلمونه، فأرسل: أن خلوا عنهم فتقلدنا سيوفنا وركبنا رواحلنا، فاستشرف أهل القسطنطينية لنا، وتعجبوا، فلما دنونا إذا الملك في غرفة له، ومعه بطارقة الروم، فلما انتهينا إلى أصل الغرفة أنخنا ونزلنا وقلنا: "لا إله إلا الله" فيعلم الله لنقضت الغرفة حتى كأنها عذق نخلة تصفقها الرياح، فإذا رسول يسعى إلينا يقول: ليس لكم أن تجهروا بدينكم على بابي. فصعدنا فإذا رجل شاب قد وخطه الشيب، وإذا هو فصيح بالعربية، وعليه ثياب حمر، وكل شيء في البيت أحمر، فدخلنا ولم نسلم، فتبسم وقال: ما منعكم أن تحيوني بتحيتكم؟ قلنا: إنها لا تحل لكم قال: فكيف هي؟ قلنا: السلام عليكم، قال: فما تحيون به ملككم؟ قلنا: بها.
قال: فما كنتم تحيون به نبيكم؟ قلنا: با قال: فماذا كان يحييكم به؟ قلنا: كذالك قال: فهل كان نبيكم يرث منكم شيئا؟ قلنا: لا، يموت الرجل فيدع وارثا أو قريبا فيرثه القريب، وأما نبينا فلم يكن يرث منها شيئا قال: فكذلك ملككم؟ قلنا: نعم قال: فما أعظم كلامكم عندكم؟ قلنا: لا إله إلا الله فانتفض وفتح عينيه، فنظر إلينا وقال: هذه الكلمة التي قلتموها فنقضت لها الغرفة؟ قلنا: نعم قال:(سيرة 2/445)
وكذلك إذا قلتموها في بلادكم نقضت لها سقوفكم؟ قلنا: لا وما رأيناها صنعت هذا قط، وما هو إلا شيء وعظت به. قال: فالتفت إلى جلسائه فقال: ما أحسن الصدق، ثم أقبل علينا فقال: والله لوددت أني خرجت من نصف ملكي وأنكم لا تقولونها على شيء إلا نقض لها قلنا: ولم ذاك؟ قال: ذلك أيسر لشأنها وأحرى أن لا تكون من النبوة، وأن تكون من حيلة الناس ثم قال لنا: فما كلامكم الذي تقولونه حين تفتتحون المدائن؟ قلنا: "لا إله إلا الله والله أكبر". قال: تقولون: "لا إله إلا الله" ليس معه شريك؟ قلنا: نعم قال: وتقولون: "الله أكبر" أي: ليس شيء أعظم منه ليس في العرض والطول؟ قلنا: نعم وسألنا عن أشياء فأخبرناه، فأمر لنا بنزل كثير ومنزل، فقمنا، ثم أرسل إلينا بعد ثلاث في جوف الليل فأتيناه، وهو جالس وحده ليس معه أحد، فأمرنا فجلسنا، فاستعادنا كلامنا، فأعدناه عليه، فدعا بشيء كهيئة الربعة العظيمة مذهبة، ففتحها فإذا فيها بيوت مقفلة، ففتح بيتا منها، ثم استخرج خرقة حرير سوداء.
فذكر الحديث نحو ما تقدم وفيه: فاستخرج صورة بيضاء، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما ننظر إليه حيا، فقال: أتدرون من هذا؟ قلنا: هذه صوة نبينا عليه السلام فقال: آلله بدينكم إنه لهو هو؟ قلنا: نعم، آلله بديننا إنه لهو هو، فوثب قائما، فلبث مليا قائما، ثم جلس مطرقا طويلا، ثم أقبل علينا فقال: أما إنه في آخر البيوت، ولكني عجلته لأخبركم وأنظر ما عندكم، ثم فتح بيتا، فاستخرج خرقة من حرير سوداء فنشرها، فإذا فيها صورة سوداء شديدة السواد، وإذا رجل جعد قطط، كث اللحية، غائر العينين، مقلص الشفتين، مختلف الأسنان، حديد النظر كالغضبان، فقال: أتدرون من هذا؟ قلنا: لا. قال: هذه صورة موسى عليه السلام.(سيرة 2/446)
وذكر الصور إلى أن قال: قلنا: أخبرنا عن هذه الصور، قال: إن آدم سأل ربه أن يريه أنبياء ولده، فأنزل الله صورهم، فاستخرجها ذو القرنين من خزانة آدم من مغرب الشمس، فصورها دانيال في خرق الحرير، فلم يزل يتوارثها ملك بعد ملك، حتى وصلت إلي، فهذه هي بعينها. فدعوناه إلى الإسلام فقال: أما والله لوددت أن نفسي سخنت بالخروج من ملكي واتباعكم، وأني مملوك لأسوإ رجل منكم خلقا وأشده ملكة، ولكن نفسي لا تسخو بذلك.
فوصلنا وأجازنا، وانصرفنا.(سيرة 2/447)
باب: في خصائصه صلى الله عليه وسلم وتحديثه أمته بها امتثالا لأمر الله تعالى، بقوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث}
قرأت على أبي الحسن علي بن أحمد الهاشمي بالإسكندرية، أخبركم محمد بن أحمد بن عمر ببغداد، قال: أخبرنا أحمد بن محمد الهاشمي سنة إحدى وخمسين وخمس مائة، قال: أخبرنا الحسن بن عبد الرحمن الشافعي، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم العبقسي، قال: حدثنا محمد بن إبراهيم الديبلي سنة إحدى وعشرين وثلاث مائة، قال: حدثنا محمد بن أبي الأزهر قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر، قال: أخبرنا عبد الله بن دينار، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثلي ومثل الأنبياء قبلي، كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل من مر من الناس ينظرون إليه ويتعجبون منه ويقولون: هلا وضع هذه اللبنة؟ قال: أنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين". صلى الله عليه وسلم.
البخاري البخاري عن قتيبة، عن إسماعيل.
قال الزهري، عن ابن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالرعب وأعطيت جوامع الكلم، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض، فوضعت بين يدي". أخرجه مسلم والبخاري.(سيرة 2/448)
وقال العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضلت على الأنبياء بستك أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون". أخرجه مسلم.
وقال مالك بن مغول، عن الزبير بن عدي، عن مرة الهمداني، عن عبد الله قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى أعطي ثلاثا: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن كان من أمته لا يشرك بالله المقحمات. تقحم: أي: تلقى في النار. والحديث صحيح.
وقال أبو عوانة: حدثنا أبو مالك، عن ربعي، عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضلت على الناس بثلاث: جعلت الأرض كلها لنا مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا، وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وأوتيت هؤلاء الآيات، من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش". صحيح.
وقال بشر بن بكر، عن الأوزاعي: قال: حدثني أبوعمار، عن عبد الله بن فروخ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد بني آدم يوم القيامة، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع".
اسم أبي عمار: شداد. أخرجه مسلم.
وقال أبو حيان التيمي، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم، فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه، فنهس منها،(سيرة 2/449)
فقال: "أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون بم ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداني وينفذهم البصر". -فذكر حديث الشفاعة بطوله. متفق عليه.
وقال ليث بن سعد، عن ابن الهاد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن أنس: سمعت
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، ولا فخر، وأعطيت لواء الحمد، ولا فخر، وأنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر". -وساق الحديث بطوله في الشفاعة.
وفي الباب حديث ابن عباس.
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وفي القرآن آيات متعددة في شرف المصطفى عليه السلام.
وعن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، قال: ما خلق الله خلقا أحب إليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد إلا بحياته فقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] .
وفي "الصحيح" من حديث قتادة، عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم أريت أني أسير في الجنة، فإذا أنا بنهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك الله، قال: فضرب الملك بيده فإذا طينه مسك أذفر".
وقال الزهري، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حوضي كما بين صنعاء وأيلة، وفيه من الأباريق عدد نجوم السماء".
وقال يزيد بن أبي حبيب: حدثنا أبو الخير، أنه سمع عقبة بن(سيرة 2/450)
عامر، يقول: آخر ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى على شهداء أحد، ثم رقي المنبر وقال: "إني لكم فرط وأنا شهيد عليكم، وأنا أنظر إلى حوضي الآن، وأنا في مقامي هذا، وإني والله ما أخاف أن تشركوا
بعدي، ولكني أريت أني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، فأخاف عليكم أن تنافسوا فيها".
وروى "مسلم" من حديث جابر بن سمرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني فرطكم على الحوض، وإن بعد ما بين طرفيه كما بين صنعاء وأيلة، كأن الأباريق فيه النجوم".
وقال معاوية بن صالح، عن سليم بن عامر، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يدخل من أمتي يوم القيامة سبعين ألفا بغير حساب". فقال رجل: يا رسول الله فما سعة حوضك؟ قال: ما بين عدن وعمان وأوسع، وفيه مثعبان من ذهب وفضة، شرابه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب ريحا من المسك، من شرب منه لا يظمأ بعدها أبدا، ولن يسود وجهه أبدا". هذا حديث حسن.
وروى ابن ماجه من حديث عطية -وهو ضعيف- عن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لي حوض طوله ما بين الكعبة إلى بيت المقدس أشد بياضا من اللبن، آنيته عدد النجوم، وإني أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة".
وقال عطاء بن السائب عن محارب بن دثار، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكوثر نهر في الجنة حافتاه الذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك وأشد بياضا من الثلج".(سيرة 2/451)
وثبت أن ابن عباس قال: الكوثر: الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه رواه سعيد بن جبير، وقال: النهر: الذي في الجنة من الخير الكثير.
وصح من حديث عائشة قالت: الكوثر نهر في الجنة أعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، شاطئه در مجوف.
وروي عن عائشة قالت: من أحب أن يسمع خرير الكوثر فليضع إصبعيه في أذنيه.
وصح عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة، وأول من يشفع".
وصح عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وكان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة".
وقال سليمان التيمي، عن سيار، عن أبي أمامة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله فضلني على الأنبياء، أو قال: أمتي على الأمم -بأربع: أرسلني إلى الناس كافة، وجعل الأرض كلها لي لأمتي مسجدا وطهورا فأينما أدرك الرجل من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره، ونصرت بالرعب، يسير بين يدي مسيرة شهر يقذف في قلوب أعدائي، وأحلت لنا الغنائم". إسناده حسن، وسيار صدوق. أخرجه أحمد في "مسنده".
وقال سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضلت على الناس بأربع: بالشجاعة، والسماحة، وكثرة الجماع، وشدة البطش".(سيرة 2/452)
باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم
قال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن عمر بن ربيعة، عن عبيد مولى الحكم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن أبي مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنبهني رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فقال: "يا أبا مويهبة إني قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع".
فخرجت معه حتى أتينا البقيع، فرفع يديه فاستغفر لهم طويلا ثم قال: "ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولا، للآخرة شر من الأولى، يا أبا مويهبة إني قد أعطيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة". فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، فقال: "والله يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربي والجنة". ثم انصرف، فلا أصبح ابتدئ بوجعه الذي قبضه الله فيه".
رواه إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق، وعبيد بن جبير مولى الحكم بن أبي العاص.
وقال معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خيرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتي وبين التعجيل، فاخترت التعجيل".(سيرة 2/453)
وقال الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: اجتمع نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم تغادر منهن امرأة، فجاءت فاطمة تمشي ما تخطئ مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "مرحبا بابنتي"، فأجلسها عن يمينه أو شماله، فسارها بشيء، فبكت، ثم سارها فضحكت، فقلت لها: خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسرار وتبكين! فلما أن قام قلت لها: أخبريني بما سارك؟ قالت: ما كنت لأفشي سره. فلما توفي قلت لها: أسألك بما لي عليك من الحق لما أخبرتيني قالت: أما الآن فنعم، سارني فقال: "إن جبريل -عليه السلام- كان يعارضني بالقرآن في كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أرى ذلك إلا لاقتراب أجلي، فاتقي الله واصبري فنعم السلف أنا لك". فبكيت، ثم سارني فقال: "أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين -أو سيدة نساء هذه الأمة- ". يعني فضحكت. متفق عليه.
وروى نحو عروة، عن عائشة، وفيه أنها ضحكت؛ لأنه أخبرها أنها أول أهله يتبعه. رواه مسلم.
وقال عباد بن العوام، عن هلال بن خباب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما نزلت
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح} [النصر: 1] ، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فقال: "إنه قد نعيت إلي نفسي". فبكت ثم ضحكت، قالت: "أخبرني أنه نعي إليه نفسه فبكيت"، فقال لي: "اصبري فإنك أول أهلي لاحقا بي"، فضحكت.
وقال سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، قال: قالت عائشة: وارأساه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك". فقالت: واثكلاه والله إني لأظنك تحب(سيرة 2/454)
موتي، ولو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك. فقال: "بل أنا وارأساه لقد هممت -أو أردت- أن أرسل إلى أبي بكر وابنه فأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون". رواه البخاري هكذا.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة، عن الزهري، عن عبيد الله، عن عائشة، قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصدع وأنا أشتكي رأسي، فقلت: وارأساه. فقال: "بل أنا والله وارأساه، وما عليك لو مت قبلي فوليت أمرك وصليت عليك وواريتك". فقلت: والله إني لأحسب أن لو كان ذلك، لقد خلوت ببعض نسائك في بيتي في آخر النهار فأعرست بها، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تمادى به وجعه، فاستعز برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدور على نسائه في بيت ميمونة، فاجتمع إليه أهله، فقال العباس: إنا لنرى برسول الله صلى الله عليه وسلم ذات الجنب فهلموا فلنلده، قلدوه، وأفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من فعل هذا"؟ قالوا: عمك العباس، تخوف أن يكون بك ذات الجنب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها من الشيطان، وما كان الله تعالى ليسلطه علي، لا يبقى في البيت أحد إلا لددتموه إلا عمي العباس"، فلد أهل البيت كلهم، حتى ميمونة، وإنها لصائمة يومئذ، وذلك بعين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استأذن نساءه أن يمرض في بيتي، فخرج صلى الله عليه وسلم إلى بيتي، وهو بين العباس وبين رجل آخر، تخط قدماه الأرض إلى بيت عائشة، قال عبيد الله: فحدثت بهذا الحديث ابن عباس فقال: تدري من الرجل الآخر الذي لم تسمه عائشة؟ قلت: لا قال: هو علي رضي الله عنه.(سيرة 2/455)
وقال البخاري: قال يونس، عن ابن شهاب، قال عروة: كانت عائشة تقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي توفي فيه: "يا عائشة لم أزل أجد ألم الأكلة التي أكلت بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم".
وقال الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب: أخبرني عبيد الله بن عبد الله، أن عائشة
قالت: لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم واشتد به الوجع استأذن أزواجه أن يمرض في بيت عائشة، فأذن له، فخرج بين رجلين تخط رجلاه في الأرض، قالت: لما أدخل بيتي اشتد وجعه فقال: "أهرقن علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس". فأجلسناه في مخضب لحفصة زوج النبي صلى الله عليه وسم، ثم طفقنا نصب عليه، حتى طفق يشير إلينا أن قد فعلتن، فخرج إلى الناس فصلى بهم ثم خطبهم. متفق عليه.
وقال سالم أبو النضر، عن بسر بن سعيد وعبيد بن حنين، عن أبي سعيد قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال: "إن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين ما عند الله، فاختار ما عند الله". فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه، فكان المخير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر أعلمنا به، فقال: "لا تبك يا أبا بكر، إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذته خليلا، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقى في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر". متفق عليه.
وقال أبو عوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن ابن أبي المعلى، عن أبيه أحد الأنصار، فذكر قريبا من حديث أبي سعيد الذي قبله.(سيرة 2/456)
وقال جرير بن حازم: سمعت يعلى بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بخرقة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إنه ليس من الناس أحد أمن علي بنفسه وماله من أبي بكر، ولو كنت متخذا من الناس خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلة الإسلام أفضل، سدوا عني كل خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر". أخرجه البخاري.
وقال زيد بن أبي أنيسة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن الحارث: حدثني جندب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتوفى بخمس يقول: "قد كان لي منكم إخوة وأصدقاء وإني أبرأ إلي كل خليل من خلته، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، وإن ربي اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، وإن قوما ممن كانوا قبلكم يتخذون قبور أنبيائهم وصلحائهم مساجد، فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك". رواه مسلم.
مؤمل بن إسماعيل، عن نافع بن عمر، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، قالت: لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الذي قبض فيه أغمي عليه، فلما أفاق قال: "ادعي لي أبا بكر فلأكتب له لا يطمع طامع في أمر أبي بكر ولا يتمنى متمن"، ثم قال: "يأبى الله ذلك والمؤمنون" -ثلاثا- قالت: فأبى الله إلا أن يكون أبي.
قال أبو حاتم الرازي: حدثناه يسرة بن صفوان، عن نافع، عن ابن أبي مليكة مرسلا، وهو أشبه.
وقال عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بعصابة دسماء ملتحفا بملحفة على منكبيه،(سيرة 2/457)
فجلس على المنبر وأوصى بالأنصار، فكان آخر مجلس جلسه. رواه البخاري. ودسماء: سوداء.
وقال ابن عيينة: سمعت سليمان يذكر عن سعيد بن جبير، قال: قال ابن عباس: يوم الخميس، وما يوم الخميس، ثم بكى حتى بل دمعه الحصى قلت: يا أبا عباس: وما يوم الخميس؟ قال: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال: "ائتوني أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا". قال: فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا: ما شأنه، أهجر؟! استفهموه، قال: فذهبوا يعيدون عليه، قال: "دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه" قال: وأوصاهم عند موته بثلاث فقال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، قال: وسكت عن الثالثة، أو قالها فنسيتها. متفق عليه.
وقال الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي البيت رجال فيهم عمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا". فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله.
فاختلف أهل البيت فاختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قوموا". فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم. متفق عليه.
وإنما أراد عمر -رضي الله عنه- التخفيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين رآه(سيرة 2/458)
شديد الوجع، لعلمه أن الله قد أكمل ديننا، ولو كان ذلك الكتاب واجبا لكتبه النبي صلى الله عليه وسلم لهم، ولما أخل به.
وقال يونس، عن الزهري، عن حمزة بن عبد الله، عن أبيه، قال: لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس". فقالت له عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء. فقال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس". فعاودته مثل مقالتها فقال: "أنتن صواحبات يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس". أخرجه البخاري.
وقال محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن
أمه أم الفضل قالت: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب رأسه في مرضه، فصلى بنا المغرب، فقرأ بالمرسلات، فما صلى بعدها حتى لقي الله، يعني فما صلى بعدها بالناس. وإسناده حسن.
ورواه عقيل، عن الزهري، ولفظه أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالمرسلات، ما صلى لنا بعدها. البخاري.
وقال موسى بن أبي عائشة عن عبيد الله بن عبد الله، حدثتني عائشة قالت: ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أصلي الناس"؟ فقلنا: لا، هم ينتظرونك. قال: "ضعوا لي ماء في المخضب". ففعلنا، فاغتسل، ثم ذهب لينوء، فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: "أصلى الناس"؟ فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله فقال: "ضعوا لي ماء في المخضب". قالت: ففعلنا، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: "أصلى الناس"؟ فقلنا: لا، وهم ينتظرونك، والناس عكوف في المجسد(سيرة 2/459)
ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء. قالت: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر يصلي بالناس، فأتاه الرسول بذلك، فقال أبو بكر وكان رجلا رقيقا: يا عمر صل بالناس فقال له عمر: أنت أحق بذلك مني قالت: فصلى بهم أبو بكر تلك الأيام، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة، فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، قالت: فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتأخر، وقال لهما: أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى جنب أبي بكر، فجعل أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يصلون بصلاة أبي بكر، والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد.
قال عبيد الله: فعرضته على ابن عباس ما أنكر منه حرفا. متفق عليه.
وكذلك رواه الأسود بن يزيد، وعروة، أن أبا بكر علق صلاته بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك روى الأرقم بن شرحبيل، عن ابن عباس. وكذلك روى غيرهم.
وأما صلاته خلف أبي بكر فقال شعبة، عن نعيم بن أبي هند، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة، قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه خلف أبي بكر قاعدا.
وروى شعبة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر.
وروى هشيم، ومحمد بن جعفر بن أبي كثر، واللفظ لهشيم، عن حميد، عن أنس، أن
النبي صلى الله عليه وسلم خرج وأبو بكر يصلي بالناس، فجلس إلى جنبه وهو في بردة قد خالف بين طرفيها، فصلى بصلاته.(سيرة 2/460)
وروى سعيد بن أبي مريم، عن يحيى بن أيوب، قال: حدثني حميد الطويلن عن ثابت، حدثه عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر في ثوب واحد برد، مخالفا بين طرفيه، فلما أراد أن يقوم قال: "ادعوا لي أسامة بن زيد"، فجاء فأسند ظهره إلى نحره، فكانت آخر صلاة صلاها. وكذلك رواه سليمان بن بلال بزيادة ثابت البناني فيه.
وفي هذا دلالة على أن هذه الصلاة كانت الصبح، فإنها آخر صلاة صلاها، وهي التي دعا أسامة عند فراغه منها، فأوصاه في مسيره بما ذكر أهل المغازي. وهذه الصلاة غير تلك الصلاة التي ائتم فيها أبو بكر به، وتلك كانت صلاة الظهر من يوم السبت أو يوم الأحد.
وعلى هذا يجمع بين الأحاديث، وقد استوفاها الحافظ الإمام الحبر أبو بكر البيهقي. رحمه الله.
وقال موسى بن عقبة: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم في صفر، فوعك أشد الوعك؛ واجتمع إليه نساؤه يمرضنه أياما، وهو في ذلك ينحاز إلى الصلوات حتى غلب، فجاءه المؤذن فآذنه بالصلاة، فنهض فلم يستطع من الضعف فقال للمؤذن: "اذهب إلى أبي بكر فمره فليصل". فقالت عائشة: إن أبا بكر رجل رقيق، وإنه إن قام مقامك بكى، فأمر عمر فليصل بالناس فقال: "مروا أبا بكر"، فأعادت عليه، فقال: "إنكن صواحب يوسف". فلم يزل أبو بكر يصلي بالناس حتى كان ليلة الاثنين من ربيع الأول، فأقلع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
الوعك وأصبح مفيقا، فغدا إلى صلاة الصبح يتوكأ على الفضل وغلام له يدعى نوبا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقد سجد الناس مع أبي بكر من صلاة الصبح، وهو قائم في الأخرى، فتخلص رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف يفرجون له، حتى قام إلى جنب أبي بكر فاستأخر أبو بكر، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبه فقدمه في(سيرة 2/461)
مصلاه فصفا جميعا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، وأبو بكر قائم يقرأ، فلما قضى قراءته قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فركع معه الركعة الآخرة، ثم جلس أبو بكر يتشهد والناس معه، فلما سلم أتم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الآخرة، ثم انصرف إلى جذع من جذوع المسجد، والمسجد يومئذ سقفه من جريد وخوص، ليس على السقف كبير طين، إذا كان المطر امتلأ المسجد طينا، إنما هو كهيئة العريش، وكان أسامة قد تجهز للغزو.(سيرة 2/462)
باب: حال النبي صلى الله عليه وسلم لما احتضر
قال الزهري: أخبرني عبيد الله بن عبد الله، أن عائشة، وابن عباس قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". يحذر ما صنعوا. متفق عليه.
حدثنا أحمد بن إسحاق بمصر قال: أخبرنا عمر بن كرم ببغداد، قال: أخبرنا عبد الأول بن عيسى، قال: أخبرنا عبد الوهاب بن أحمد الثقفي من لفظه سنة سبعين وأربع مائة، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن محمد بن حسين السلمي إملاء، قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، قال: حدثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاث يقول: "أحسنوا الظن بالله عز وجل". هذا حديث صحيح من العوالي.
وقال سليمان التيمي، عن قتادة، عن أنس، قال: كانت عامة وصية النبي صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت: "الصلاة وما ملكت أيمانكم"، حتى جعل يغرغر بها في صدره، وما يفيض بها لسانه. كذا قال سليمان.
وقال همام: حدثنا قتادة، عن أبي الخليل، عن سفينة، عن أم(سيرة 2/463)
سلمة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه: "الله الله، الصلاة وما ملكت أيمانكم". قالت: فجعل يتكلم به وما يكاد يفيض. وهذا أصح.
وقال الليث، عن يزيد بن الهاد، عن موسى بن سرجس، عن القاسم، عن عائشة، قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت وعنده قدح فيه ماء، يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء، ثم يقول: "اللهم أعني على سكرة الموت".
وقال سعد بن إبراهيم، عن عروة، عن عائشة، قالت: كنا نتحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يخير بين الدنيا والآخرة، فلما مرض عرضت له بحة، فسمعته يقول: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] ، فظننا أنه كان يخير. متفق عليه.
وقال نحوه الزهري، عن ابن المسيب وغيره، عن عائشة. وفيه زيادة: قالت عائشة: كانت تلك الكلمة آخر كلمة تكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم: "الرفيق الأعلى". البخاري.
وقال مبارك بن فضالة، عن ثابت، عن أنس قال: لما قالت فاطمة عليهما السلام: "واكرباه" قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه قد حضر من أبيك ما ليس بتارك منه أحدا الموافاة يوم القيامة". وبعضهم يقول: مبارك، عن الحسن، ويرسله.
وقال حماد بن زيد بن ثابت، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ثقل جعل يتغشاه -يعني الكرب- فقالت فاطمة: "واكرب أبتاه". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا كرب على أبيك بعد اليوم". أخرجه البخاري.(سيرة 2/464)
باب: وفاته صلى الله عليه وسلم
قال أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي ويومي وبين سحري ونحري، وكان جبريل يعوذه بدعاء إذا مرض، فذهبت أدعو به، فرفع بصره إلى السماء وقال: "في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى". ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده جريدة رطبة، فنظر إليها، فظننت أن له بها حاجة، فأخذتها فنفضتها ودفعتها إليه، فاستن بها أحسن ما كان مستنا، ثم ذهب يناولنيها، فسقطت من يده، فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا. رواه البخاري هكذا. لم يسمعه ابن أبي مليكة، من عائشة؛ لأن عيسى بن يونس قال: عن عمر بن سعيد بن أبي حسين، قال: أخبرني ابن أبي مليكة، أن ذكوان مولى عائشة أخبره، أن عائشة كانت تقول: إن من نعمة الله علي أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي، وفي يومي وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند الموت، دخل علي أخي بسواك وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدري، فرأيته ينظر إليه، وقد عرفت أنه يحب السواك ويألفه، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فلينته له، فأمره على فيه، وبين يديه ركوة -أو علبة- فيها ماء، فجعل يدخل يده في الماء فيمسح وجهه، ثم يقول: "لا إله إلا الله، إن للموت سكرات"، ثم نصب إصبعه اليسرى فجعل يقول: "في الرفيق الأعلى، في الرفيق(سيرة 2/465)
الأعلى". حتى قبض، ومالت يده. رواه البخاري.
وقال حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس قال: قالت فاطمة: لما مات النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي: يا أبتاه من ربه ما أدناه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه، يا أباه أجاب ربا دعاه. قال: وقالت: يا أنس، كيف طابت أنفسكم أن تحسوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟ البخاري.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد، عن أبيه، عن عائشة، قالت: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين سحري ونحري، في بيتي وفي يومي، لم أظلم فيه أحدا، فمن سفاهة رأيي وحداثة سني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات في حجري، فأخذت وسادة فوسدتها رأسه ووضعته من حجري، ثم قمت مع النساء أبكي وألتدم. الالتدام: اللطم.
وقال مرحوم بن عبد العزيز العطار: حدثنا أبو عمران الجوني، عن يزيد بن بابنوس أنه أتى عائشة، فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بحجرتي ألقى إلي الكلمة تقر بها عيني، فمر ولم يتكلم، فعصبت رأسي ونمت على فراشي، فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما لك"؟ قلت: رأسي فقال: "بل أنا وارأساه، أنا الذي أشتكي رأسي". وذلك حين أخبره جبريل أنه مقبوض، فلبثت أياما، ثم جيء به يحمل في كساء بين أربعة، فأدخل علي، فقال: يا عائشة أرسلي إلى النسوة، فلما جئن قال: "إني لا أستطيع أن أختلف بينكن، فأذن لي فأكون في بيت عائشة". قلن: نعم، فرأيته يحمر وجهه يعرق، ولم أكن رأيت ميتا قط، فقال: "أقعديني"، فأسندته إلي، ووضعت يدي عليه، فقلب رأسه فرفعت(سيرة 2/466)
يدي وظننت أنه يريد أن يصيب من رأسي، فوقعت من فيه نقطة باردة على ترقوتي أو صدري، ثم مال فسقط على الفراش، فسجيته بثوب، ولم أكن رأيت ميتا قط، فأعرف الموت بغيره، فجاء عمر يستأذن ومعه المغيرة بن شعبة، فأذنت لهما، ومددت الحجاب، فقال عمر: يا عائشة ما لنبي الله؟ قلت: غشي عليه منذ ساعة، فكشف عن وجهه فقال: واغماه، إن هذا لهو الغم، ثم غطاه، ولم يتكلم المغيرة، فلما بلغ عتبة الباب، قال المغيرة: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عمر، فقال: كذبت، ما مات رسول الله، ولا يموت حتى يأمر بقتال المنافقين، بل أنت تحوسك فتنة.
فجاء أبو بكر فقال: ما لرسول الله؟ قلت: غشي عليه، فكشف عن وجهه، فوضع فمه بين عينيه، ووضع يديه على صدغيه ثم قال: وانبياه واصفياه واخليلاه، صدق الله ورسوله {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُون} [الزمر: 30] ، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34] ، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت} [آل عمران: 185] ، ثم غطاه وخرج إلى الناس فقال: أيها الناس، هل مع أحد منكم عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: لا.
قال: من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ومن كان يعبد محمد فإن محمدا قد مات، وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُون} والآيات.
فقال عمر: أفي كتاب الله هذا يا أبا بكر؟ قال: نعم قال عمر: هذا أبو بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، وثاني اثنين فبايعوه، فحينئذ بايعوه.
رواه محمد بن أبي بكر المقدمي عنه. ورواه أحمد في "مسنده"(سيرة 2/467)
بطوله عن بهز بن أسد، عن حماد بن سلمة، قال: أخبرنا أبو عمران الجوني، فذكره بمعناه.
وقال عقيل، عن الزهري، عن أبي سلمة قال: أخبرتني عائشة أن أبا بكر أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل، فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل علي، فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مغشي ببرد حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه يقبله، ثم بكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، والله لا يجمع الله عليك موتتين أبدا، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها.
وحدثني أبو سلمة عن ابن عباس، أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس فقال: اجلس يا عمر، فأبى، فقال: اجلس فأبى فتشهد أبو بكر، فأقبل الناس إليه، وتركوا عمر فقال أبو بكر: أما بعد، فمن كان منكم يعبد محمدا فإنه قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144] ، فكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها.
وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها ففرقت، أو قال: فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض، وعرفت حين تلاها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات. أخرجه البخاري.
وقال يزيد بن الهاد: أخبرني عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن(سيرة 2/468)
عائشة قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حاقنتي وذاقنتي، فلا أكره شدة الموت لأحد أبدا، بعد ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. حديث صحيح.
وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود عن عروة قال: كان أسامة بن زيد قد تجهز للغزو وخرج ثقلة إلى الجرف فأقام تلك الأيام لوجع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد أمره على جيش عامتهم المهاجرون، وفيهم عمر، وأمره أن يغير على أهل مؤتة، وعلى جانب فلسطين، حيث أصيب
أبوه زيد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جذع في المسجد، يعني صبيحة الاثنين، واجتمع المسلمون يسلمون عليه ويدعون له بالعافية، فدعا أسامة فقال: "اغد على بركة الله والنصر والعافية". قال: بأبي أنت يا رسول الله، قد أصبحت مفيقا، وأرجو أن يكون الله قد شفاك، فأذن لي أن أمكث حتى يشفيك الله، فإن أنا خرجت على هذا الحال خرجت في قلبي قرحة من شأنك، وأكره أن أسأل عنك الناس، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يراجعه، وقام فدخل بيت عائشة، وهو يومها، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة، فقال: قد أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم مفيقا، وأرجو أن يكون الله قد شفاه، ثم ركب أبو بكر فلحق بأهله بالسنح، هنالك امرأته حبيبة بنت خارجة بن زيد الأنصاري، وانقلبت كل امرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيتها، وذلك يوم الاثنين.
ولما استقر صلى الله عليه وسلم ببيت عائشة وعك أشد الوعك، واجتمع إليه نساؤه، واشتد وجعه، فلم يزل بذلك حتى زاغت الشمس، وزعموا أنه كان يغشى عليه، ثم شخص بصره إلى السماء فيقول: "نعم في الرفيق الأعلى"، وذكر الحديث إلى أن قال: فأرسلت عائشة إلى أبي بكر، وأرسلت حفصة إلى عمر، وارسلت فاطمة إلى علي، فلم يجتمعوا حتى(سيرة 2/469)
توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدر عائشة، وفي يومها يوم الاثنين، وجزع الناس، وظن عامتهم أنه غير ميت، منهم من يقول: كيف يكون شهيدا علينا ونحن شهداء على الناس، فيموت، ولم يظهر على الناس، ولكنه رفع كما فعل بعيسى بن مريم، فأوعدوا من سمعوا يقول: إنه قد مات، ونادوا على الباب "لا تدفنوه فإنه حي". وقام عمر يخطب الناس ويوعد بالقتل والقطع ويقول: إنه لم يمت وتواعد المنافقين والناس قد ملأوا المسجد يبكون ويموجون، حتى أقبل أبو بكر من السنح.
وقال يونس بن بكير، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، عن أم سلمة قالت: وضعت يدي على صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات، فمر بي جمع آكل وأتوضأ، ما يذهب ريح المسك من يدي.
وقال ابن عون، عن إبراهيم بن يزيد -هو التيمي- عن الأسود، قال: قيل لعائشة: إنهم يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى إلى علي وقد رأيته دعا بطست ليبول فيها، وأنا مسندته إلى صدري، فانحنث فمات، ولم أشعر فيم يقول هؤلاء: إنه أوصى إلى علي. متفق عليه.(سيرة 2/470)
تاريخ وفاته صلى الله عليه وسلم:
قال الثوري، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال لي أبو بكر: أي يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: يوم الاثنين، قال: إني أرجو أن أموت فيه، فمات فيه.
وقال ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش، عن ابن عباس، قال: ولد نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، ونبئ يوم الاثنين، وخرج من مكة يوم الاثنين، وفتح مكة يوم الاثنين، ونزلت سورة المائدة يوم الاثنين {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم} [المائدة: 3] ، وتوفي يوم الاثنين.
قد خولف في بعضه، فإن عمر -رضي الله عنه- قال: نزلت {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم} يوم عرفة يوم جمعة.
وكذلك قال عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس.
وقال موسى بن عقبة: توفي يوم الاثنين حين زاغت الشمس لهلال شهر ربيع الأول.
وقال سليمان التيمي: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم العاشر من مرضه، وذلك يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول. رواه معتمر، عن أبيه.
وقال الواقدي: حدثنا أبو معشر، عن محمد بن قيس قال: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر يوما وتوفي يوم الاثنين لليلتين خلا من ربيع الأول سنة إحدى عشرة.
وذكر الطبري، عن ابن الكلبي، وأبي مخنف وفاته في ثاني ربيع(سيرة 2/471)
الأول.
وقال محمد بن إسحاق: توفي لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، في اليوم الذي قدم المدينة مهاجرا، فاستكمل في هجرته عشر سنين كوامل.
وقال الواقدي، عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، عن أبيه، عن جده قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء لليلة بقيت من صفر، وتوفي يوم الاثنين لاثنتي عشرة مضت من ربيع الأول.
ويروى نحو هذا في وفاته، عن عائشة، وابن عباس إن صح، وعليه اعتمد سعيد بن عفير، ومحمد بن سعد الكاتب، وغيرهما.
أخبرنا الخضر بن عبد الرحمن الأزدي، قال: أخبرنا أبو محمد بن البن، قال: أخبرنا جدي، قال: أخبرنا علي بن محمد الفقيه، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي نصر، قال: أخبرنا علي بن أبي العقب قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم، قال: حدثنا محمد بن عائذ، قال: حدثنا الهيثم بن حميد، قال: أخبرني النعمان، عن مكحول، قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، وأوحى إليه يوم الاثنين، وهاجر يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين لاثنتين وستين سنة وأشهر، وكان له قبل أن يوحى إليه اثنتان وأربعون سنة، واستخفى عشر سنين وهو يوحى إليه، ثم هاجر إلى المدينة، فمكث يقاتل عشر سنين ونصفا، وكان الوحي إليه عشرين سنة ونصفا، وتوفي، فمكث ثلاثة أيام لا يدفن، يدخل الناس عليه رسلا رسلا يصلون عليه، والنساء مثل ذلك.
وطهره الفضل بن العباس، وعلي بن أبي طالب، وكان يناولهم(سيرة 2/472)
العباس الماء، وكفن في ثلاثة رياط بيض يمانية، فلما طهر وكفن دخل عليه الناس في تلك الأيام الثلاثة يصلون عليه عصبا عصبا، تدخل العصبة فتصلي عليه ويسلمون، ولا يصفون ولا يصلي بين أيديهم مصل، حتى فرغ من يريد ذلك، ثم دفن، فأنزله في القبر العباس وعلي والفضل، وقال عند ذلك رجل من الأنصار: أشركونا في موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قد أشركنا في حياته، فنزل عهم في القبر وولى ذلك معهم.
ورواه محمد بن شعيب بن شابور، عن النعمان.
وعن عثمان بن محمد الأخنسي قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين حين زاغت الشمس، ودفن يوم الأربعاء.
وعن عروة أنه توفي يوم الاثنين، ودفن من آخر ليلة الأربعاء.
وعن الحسن قال: كان موته في شهر أيلول.
قلت: إذا تقرر أن كل دور في ثلاث وثلاثين سنة كان في ست مائة وستين عاما عشرون دورا، فإلى سنة ثلاث وسبع مائة من وقت موته أحد وعشرون دورا في ربيع الأول منها كان
وقوع تشرين الأول وبعض أيلول في صفر، وكان آب في المحرم، وكان أكثر تموز في ذي الحجة فحجة الوداع كانت في تموز.
قال أبو اليمن ابن عساكر وغيره: لا يمكن أن يكون موته يوم الاثنين من ربيع الأول إلا يوم ثاني الشهر أو نحو ذلك، فلا يتهيأ أن يكون ثاني عشر الشهر للإجماع أن عرفة في حجة الوداع كان يوم الجمعة، فالمحرم بيقين أوله الجمعة أو السبت، وصفر أوله على هذا السبت أو الأحد أو الاثنين، فدخل ربع الأول الأحد، وهو بعيد، إذ يندر وقوع ثلاثة أشهر نواقص، فترجح أن يكون أوله الاثنين، وجاز أن(سيرة 2/473)
يكون الثلاثاء، فإن كان استهل الاثنين فهو ما قال موسى بن عقبة من وفاته يوم الاثنين لهلال ربيع الأول، فعلى هذا يكون الاثنين الثاني منه ثامنه، وإن جوزنا أن أوله الثلاثاء فيوم الاثنين سابعه أو رابع عشره، ولكن بقي بحث آخر:
كان يوم عرفة الجمعة بمكة، فيحتمل أن يكون كان يوم عرفة بالمدينة يوم الخميس مثلا أو يوم السبت، فيبنى على حساب ذلك.
وعن مالك: قال بلغني أنه توفي يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء.(سيرة 2/474)
باب: عمر النبي صلى الله عليه وسلم والخلف فيه
قال ربيعة، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه الله على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشرا وبالمدينة عشرا، وتوفي على رأس ستين سنة. البخاري ومسلم.
وقال عثمان بن زائدة، عن الزبير بن عدي، عن أنس قال: قبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة، وقبض أبو بكر وهو ابن ثلاث وستين، وقبض عمر وهو ابن ثلاث وستين. رواه مسلم.
قوله في الأول على رأس ستين سنة، على سبيل حذف الكسور القليلة، لا على سبيل التحرير، ومثل ذلك موجود في كثير من كلام العرب.
وقال عقيل، عن ابن شهاب عن عروة، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن ثلاث وستين سنة. قال ابن شهاب: وأخبرني ابن المسيب بذلك. متفق عليه.
وقال زكريا بن إسحاق: عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، قال: توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة. متفق عليه. ولمسلم مثله من حديث أبي جمرة عن ابن عباس.(سيرة 2/475)
وللبخاري مثله من حديث عكرمة، عن ابن عباس.
وأما ما رواه هشيم، قال: حدثنا علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: قبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس وستين سنة فعلي ضعيف الحديث ولا سيما وقد خالفه غيره.
وقد قال شبابة، حدثنا شعبة، عن يونس بن عبيد، عن عمار مولى بن هاشم، سمع ابن عباس يقول: توفي وهو ابن خمس وستين.
وهذا حديث غريب لكن تقويه رواية هشام، عن قتادة، عن الحسن، عن دغفل بن حنظلة أن النبي صلى الله عليه وسلم قبض وهو ابن خمس وستين.
وهو غسناد صحيح مع أن الحسن لم يعتمد على ما روى عن دغفل بل قال: توفي وهو ابن ثلاث وستين. قاله أشعث عنه.
وقال هشام بن حسان عنه: توفي وهو ابن ستين سنة.
وقال شعبة، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، عن جرير بن عبد الله، عن معاوية، قال: قبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين، وكذلك أبو بكر وعمر. أخرجه مسلم.
وكذلك قال سعيد بن المسيب، والشعبي، وأبو جعفر الباقر، وغيرهم. وهو الصحيح الذي قطع به المحققون، وقال قتادة: توفي وهو ابن اثنتين وستين سنة.(سيرة 2/476)
باب: غسله وكفنه ودفنه صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله، عن أبيه، سمع عائشة تقول: لما أرادوا غسل النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم نغسله وعليه ثيابه، فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صده، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو: أن اغسلوا النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه، فقاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلوه وعليه قميص، يصبون الماء فوق القميص ويدلكونه بالقميص دون أيديهم، فكانت عائشة تقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه. صحيح أخرجه أبو داود.
وقال أبو معاوية: حدثنا بريد بن عبد الله أبو بردة، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: لما أخذوا في غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناداهم مناد من الداخل: "لا تخرجوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه".
وقال ابن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، قال: غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي، وعليه قميصه وعلى يد علي -رضي الله عنه- خرقة يغسله بها، فأدخل يده تحت القميص وغسله والقميص عليه فيه ضعف.
وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم غسله علي،(سيرة 2/477)
وأسامة، والفضل بن العباس، وأدخلوه قبره، وكان علي يقول وهو يغسله: بأبي وأمي، طبت حيا وميتا.
مرسل جيد.
وقال عبد الواحد بن زياد: حدثنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: قال: قال علي: غسلت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبت أنظر ما يكون من الميت فلم أر شيئا، وكان طيبا حيا وميتا.
وولى دفنه وإجنانه دون الناس أربعة: علي، والعباس، والفضل، وصالح مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحدا، ونصب عليه اللبن نصبا.
وقال عبد الصمد بن النعمان: حدثنا أبو عمر كيسان، عن مولاه يزيد بن بلال قال:
سمعت عليا -رضي الله عنه- يقول: أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يغسله أحد غيري، فإنه "لا يرى أحد عورتي إلا طمست عيناه". قال علي: فكان العباس، وأسامة، يناولاني الماء، وراء الستر، وما تناولت عضوا إلا كأنما يقلبه معي ثلاثون رجلا، حتى فرغت من غسله.
كيسان القصار يروى عنه أيضا القاسم بن مالك، وأسباط، ومولاه كأنه مجهول، وهو ضعيف.
وقال أبو معشر: عن محمد بن قيس، قال: كان الذي غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي، والفضل بن عباس يصب عليه، قال: فما كنا نريد أن نرفع منه عضوا لنغسله إلا رفع لنا، حتى انتهينا إلى عورته فسمعنا من جانب البيت صوت: "لا تكشفوا عن عورة نبيكم". مرسل ضعيف.
وقال ابن جريج: سمعت أبا جعفر محمد بن علي يقول: غسل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا بالسدر، وغسل من بئر بقباء كان يشرب منها.
وقال هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في(سيرة 2/478)
ثلاثة أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة. متفق عليه.
ولمسلم فيه زيادة وهي: سحولية من كرسف.
فأما الحلة فإنما شبه على الناس فيها أنها اشتريت له حلة ليكفن فيها، فتركت الحلة، فأخذها عبد الله بن أبي بكر فقال: لأحبسنها لنفسي حتى أكفن فيها، ثم قال: لو رضيها الله لنبيه لكفنه فيها، فباعها وتصدق بثمنها. رواه مسلم.
وروى علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: أدرج النبي صلى الله عليه وسلم في حلة يمانية، ثم نزعت عنه، وكفن في ثلاثة أثواب.
وروى نحوه القاسم عن عائشة.
واما ما روى شعيب، عن الزهري، عن علي بن الحسين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب أحدها برد حبرة، وروى نحو ذا عن مقسم، عن ابن عباس، فلعله قد اشتبه على من قال ذلك، بكونه صلى الله عليه وسلم أدرج في حلة يمانية، ثم نزعت عنه.
وقال زكريا عن الشعبي، قال: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب سحولية برود يمنية غلاظ: إزار ورداء ولفافة.
وقال الحسن بن صالح بن حي، عن هارون بن سعد، عن أبي وائل قال: كان عند علي -رضي الله عنه- مسك فأوصى أن يحنط به. وقال علي: هو فضل حنوط رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن إسحاق: حدثني الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس،(سيرة 2/479)
عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخل الرجال فصلوا عليه بغير إمام أرسالا حتى فرغوا، ثم أدخل النساء فصلين عليه، ثم أدخل الصبيان فصلوا عليه ثم أدخل العبيد، لم يؤمهم أحد.
وقال الواقدي: حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، قال: وجدت بخط أبي، قال: لما كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع على سريره، دخل أبو بكر، وعمر، ونفر من المهاجرين والأنصار فقالا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وسلم المهاجرون والأنصار كذلك، ثم صفوا صفوفا لا يؤمهم أحد، فقال أبو بكر وعمر وهما في الصف الأول: اللهم إنا نشهد أن قد بلغ ما أنزل إليه، ونصح لأمته، وجاهد في سبيل الله، حتى أعز الله دينه، وتمت كلمته وأومن به وحده لا شريك له، فاجعلنا إلهنا ممن يتبع القول الذي أنزل معه، واجمع بيننا وبينه حتى تعرفه بنا وتعرفنا به، فإنه كان بالمؤمنين رؤوفا رحيما، لا نبغي بالإيمان بدلا، ولا نشتري به ثمنا أبدا، فيقول الناس: آمين آمين، فيخرجون ويدخل آخرون، حتى صلى عليه الرجال، ثم النساء، ثم الصبيان. مرسل ضعيف لكنه حسن المتن.
وقال سلمة بن نبيط بن شريط، عن أبيه، عن سالم بن عبيد -وكان من أصحاب الصفة- قال: قالوا: هل ندفن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأين يدفن؟ فقال أبو بكر: حيث قبضه الله، فإنه لم يقبض روح إلا في مكان طيب، فعلموا أنه كما قال.
زاد بعضهم بعد سلمة "نعيم بن أبي هند".
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني حسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما أرادوا أن يحفروا لرسول(سيرة 2/480)
الله صلى الله عليه وسلم كان أبوعبيدة بن الجراح يضرح لأهل مكة، وكان أبو طلحة يلحد لأهل المدينة، فأرسل العباس خلفهما رجلين، وقال: اللهم خر لرسولك، أيهما جاء حفر له، فجاء أبو طالحة فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الواقدي: حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن عثمان بن محمد الأخنسي، عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع، قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم اختلفوا في موضع قبره، فقال قائل: في البقيع، فقد كان يكثر الاستغفار لهم. وقال قائل: عند منبره، وقال قائل: في مصلاه، فجاء أبو بكر فقال: إن عندي من هذا خبرا وعلما، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما قبض نبي إلا دفن حيث توفي".
وقال ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، قال: عرضت عائشة على أبيها رؤيا -وكان من أعبر الناس- قالت: رأيت ثلاثة أقمار وقعن في حجرتي، فقال: إن صدقت رؤياك دفن في بيتك من خير أهل الأرض ثلاثة، فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا عائشة هذا خير أقمارك.
وقال الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة، عن عباس بن عبد الله بن معبد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم موضوعًا على سريره من حين زاغت الشمس يوم الثلاثاء يصلون الناس عليه، وسريره على شفير قبره، فلما أرادوا أن يقبروه، نحوا السرير قبل رجليه، فأدخل من هناك، ونزل حفرته العباس وعلي، وقثم بن العباس، والفضل بن العباس، وشقران.
وقال ابن إسحاق: حدثني الحسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن(سيرة 2/481)
ابن عباس، قال: كان الذين نزلوا القبر، فذكرهم سوى العباس، وقد كان شقران حين وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته أخذ قطيفة حمراء قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها ويفترشها، فدفنها معه في القبر، وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك، فدفنت معه.
وقال أبو جمرة، عن ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي ألقى في قبره قطيفة حمراء.
أخرجه مسلم.
وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي: حدثني أبو مرحب قال: كأني أنظر إليهم في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أحدهم عبد الرحمن بن عوف.
وقال سليمان التيمي: لما فرغوا من غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكفينه، صلى الناس عليه يوم الاثنين والثلاثاء، ودفن يوم الأربعاء.
وقال أبو جعفر محمد بن علي: لبث يوم الاثنين ويوم الثلاثاء إلى آخر النهار.
وقال ابن جريج: مات في الضحى يوم الاثنين. ودفن من الغد في الضحى. هذا قول شاذ، وإسناده صحيح.
وقال ابن إسحاق: حدثتني فاطمة بنت محمد، عن عمرة، عن عائشة أنها قالت: ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي في جوف ليلة الأربعاء.
قال ابن إسحاق: وكان المغيرة بن شعبة يدعى قال: أخذت خاتمي فألقيته في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلت حين خرج القوم: إن خاتمي قد سقط في القبر، وإنما طرحته عمدا لأمس رسول الله، فأكون آخر الناس عهدا به. هذا حديث منقطع.(سيرة 2/482)
وقال الشافعي في "مسنده": أخبرنا القاسم بن عبد الله بن عمر بن حفص، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن الحسين، قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت التعزية، وسمعوا قائلا يقول: "إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت، فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب".
وأخرج الحاكم في "مستدركه" لأبي ضمرة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم عزتهم الملائكة يسمعون الحس، ولا يرون الشخص، فذكر نحوه.
وقد تقدم صلاتهم عليه من غير أن يؤمهم أحد، فالله أعلم.(سيرة 2/483)
صفة قبره صلى الله عليه وسلم:
قال عمرو بن عثمان بن هانئ، عن القاسم، قال: قلت لعائشة: اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فكشفت لي عن ثلاثة قبور، لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء. أخرجه أبو داود هكذا.
وقال أبو بكر بن عياش، عن سفيان التمار أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنما. أخرجه البخاري.
وقال الواقدي: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: جعل قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسطوحا. هذا ضعيف.
وقال عروة عن عائشة قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
قالت: ولال ذلك لأبرز قبره، غير أنه خاف أو خيف أن يتخذ مسجدا. أخرجه البخاري.(سيرة 2/484)
باب: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف ولم يوص إلى أحد بعينه بل نبه على الخلافة بأمر الصلاة
قال هشام بن عروة، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: حضرت أبي حين أصيب فأثنوا عليه، وقالوا: جزاك الله خيرا، فقال: راغب، راهب. قالوا: استخلف. فقال: أتحمل أمركم حيا وميتا؟ لوددت أن حظي منكم الكفاف لا علي ولا لي، إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني -يعني أبا بكر- وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله: فعرفت أنه غير مستخلف حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم. متفق عليه. واتفقا عليه من حديث سالم بن عبد الله، عن أبيه.
وقال الثوري، عن الأسود بن قيس، عن عمرو بن سفيان، قال: لما ظهر علي يوم الجمل قال: أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئا حتى رأينا من الرأي أن تستخلف أبا بكر، فأقام واستقام حتى مضى لسبيله، ثم إن أبا بكر رأى من الرأي أن يستخلف عمر، فأقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه، ثم إن أقواما طلبوا الدنيا فكانت أمور يقضي الله فيها. إسناده حسن.
وقال أحمد في "مسنده": حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن أبي بكر: ائتني بكتف(سيرة 2/485)
أو لوح حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه. فلما ذه عبد الرحمن ليقوم قال: أبي الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر.
ويروى عن أنس نحوه.
وقال شعيب بن ميمون، عن حصين بن عبد الرحمن عن الشعبي، عن أبي وائل، قال: قيل لعلي: ألا تستخلف علينا؟ قال: ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستخلف. تفرد به شعيب، وله مناكير.
وقال شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك، أن ابن عباس أخبره، أن عليا خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفى فيه، فقال الناس: يا أبا
حسن كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أصبح بحمد الله بارئا. فأخذ بيده العباس فقال: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا، وإني والله لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يتوفاه الله من وجعه هذا، إني أعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت، فاذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلنسأله فيمن هذا الأمر، فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا كلمناه فاوصى بنا، قال علي: إنا والله لئن سألناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده أبدا، وإني والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري ورواه معمر وغيره.
وقال أبو حمزة السكري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، قال: قال العباس لعلي -رضي الله عنهما-: إني أكاد أعرف في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الموت، فانطلق بنا نسأله، فإن يستخلف منا فذاك، وإلا أوصى بنا فقال علي للعباس كلمة فيها جفاء، فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم قال العباس لعلي: ابسط يدك فلنبايعك قال: فقبض يده قال الشعبي: لو أن عليا أطاع العباس -في أحد الرأيين- كان خيرا من حمر النعم. وقال: لو أن(سيرة 2/486)
العباس شهد بدرا ما فضله أحد من الناس رأيا ولا عقلا.
وقال أبو إسحاق عن أرقم بن شرحبيل: سمعت ابن عباس يقول: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوص.
وقال طلحة بن مصرف: سألت عبد الله بن أبي أوفى: هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: لا. قلت: فلم أمر بالوصية؟ قال: أوصى بكتاب الله. قال طلحة: قال هزيل بن شرحبيل: أبو بكر يتأمر على وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ود أبو بكر أنه وجد عهدا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فخزم أنفه بخزام. متفق عليه.
وقال همام عن قتادة عن أبي حسان أن عليا قال: ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا خاصة دون الناس إلا ما في هذه الصحيفة ... الحديث.
وأما الحديث الذي فيه وصية النبي صلى الله عليه وسلم: "يا علي إن للمؤمن ثلاث علامات: الصلاة، والصيام، والزكاة"، فذكر حديثا طويلا موضوعا، تفرد به حماد بن عمرو -وكان يكذب- عن السري بن خالد عن جعفر الصادق عن آبائه. وعند الرافضة أباطيل في أن عليا عهد إليه.
وقال ابن إسحاق: حدثني صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله قال: لم يوص رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته إلا بثلاث: أوصى للرهاويين بجاد مائة وسق، وللداريين بجاد مائة وسق، وللشنيين بجاد مائة وسق، للأشعريين بجاد مائة وسق من خيبر، وأوصى بتنفيذ بعث أسامة، وأوصى أن لا يترك بجزيرة العرب دينان. مرسل.(سيرة 2/487)
وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن جرير بن عبد الله قال: كنت باليمن فلقيت رجلين من أهل اليمن ذا كلاع وذا عمرو، فجعلت أحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا لي: إن كان ما تقول حقا مضى صاحبك على أجله منذ ثلاث. قال: فأقبلت وأقبلا معي، حتى إذا كنا في بعض الطريق رفع لنا ركب من قبل المدينة، فسألناهم فقالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر والناس صالحون، فقالا لي: أخبر صاحبك أنا قد جئنا ولعلنا إن شاء الله سنعود، ورجعا إلى اليمن، وذكر الحديث. أخرجه البخاري.(سيرة 2/488)
باب: تركة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال أبو إسحاق، عن عمرو بن الحارث الخزاعي أخي جويرية، قال: والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا أمة، ولا شيئا إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضا تركها صدقة. أخرجه البخاري.
وقال الأعمش، عن أبي وائل عن مسروق عن عائشة قالت: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا ولا أوصى بشيء. مسلم.
وقال مسعر، عن عاصم، عن زر، قالت عائشة: تسألوني عن ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا وليدة.
وقال عروة عن عائشة قالت: لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي إلا شطر شعير، فأكلت منه حتى ضجرت، فكلته ففني، وليتني لم أكله. متفق عليه.
وقال الأسود، عن عائشة: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة بثلاثين صاعًا من شعير. أخرجه البخاري.
وأما البرد الذي عند الخلفاء آل العباس، فقد قال يونس بن بكير،(سيرة 2/489)
عن ابن إسحاق في قصة غزوة تبوك أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أهل أيلة برده مع كتابه الذي كتب لهم أمانا لهم، فاشتراه أبو العباس عبد الله بن محمد -يعني السفاح- بثلاث مائة دينار.
وقال ابن عيينة، عن الوليد بن كثير، عن حسن بن حسين عن فاطمة بنت الحسين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قبض وله بردان في الحف يعملان. هذا مرسل، والحف هي الخشبة التي يلف عليها الحائك وتسمى المطواة.
وقال زمعة بن صالح، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وله جبة صوف في الحياكة. إسناده صالح.
وقال الزهري: حدثني عروة، أن عائشة أخبرته أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله على رسوله، وفاطمة حينئذ تطلب صدقة النبي صلى الله عليه وسلم التي بالمدينة وفدك، وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال -يعني مال الله- ليس لهم أن يزيدوا على المأكل"، وإني والله لا أغير صدقات النبي صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولأعملن فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا، فوجدت فاطمة على أبي بكر من ذلك، وذكر الحديث. رواه البخاري.
وقال أبو بردة: دخلت على عائشة فأخرجت إلينا إزارا غليظا مما يصنع باليمن، وكساء من هذه التي تدعونها الملبدة، فأقسمت بالله لقد(سيرة 2/490)
قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين الثوبين.
متفق عليه.
وقال الزهري: حدثني علي بن الحسين أنهم حين قدموا المدينة مقتل الحسين لقيه المسور بن مخرمة، فقال له: هل لك إلي من حاجة تأمرني بها؟ قلت: لا. قال: هل أنت معطي سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أخاف أن يغلبك القوم عليه، وأيم الله لئن أعطيتنيه لا يخلص إليه أحد حتى يبلغ نفسي. اتفقا عليه.
وقال عيسى بن طهمان: أخرج إلينا أنس نعلين جرداوين لهما قبالان، فحدثني ثابت بعد عن أنس أنهما نعلا النبي صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري.
وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج خمس عشرة امرأة، ودخل بثلاث عشرة، واجتمع عنده منهن إحدى عشرة، وقبض عن تسع.
فأما اللتان لم يدخل بهن فأفسدهما النساء فطلقهما، وذلك أن النساء قلن لإحداهما: إذا دنا منك فتمنعي، فتمنعت، فطلقها، وأما الأخرى فلما مات ابنه إبراهيم قالت: لو كان نبيا ما مات ابنه، فطلقها.
وخمس منهن من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وأم سلمة، وسودة بنت زمعة.
وميمونة بنت الحارث الهلالية، وجويرية بنت الحارث الخزاعية، وزينب بنت جحش الأسدية، وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية.
قبض صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء رضي الله عنهن.(سيرة 2/491)
روى داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج قتيلة أخت الأشعث بن قيس، فمات قبل أن يخبرها فبرأها الله منه.
وقال إبراهيم بن الفضل: حدثنا حماد بن سلمة عن داود بن أبي هند، عن الشعبي أن عكرمة بن أبي جهل تزوج قتيلة بنت قيس، فأراد أبو بكر أن يضرب عنقه، فقال له عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعرض لها ولم يدخل بها، وارتدت مع أخيها فبرئت من الله ورسوله، فلم يزل به حتى كف عنه.
وأما الواقدي فروى عن ابن أبي الزناد، عن هشام، عن أبيه، أن الوليد بن عبد الملك كتب إليه يسأله: هل تزوج النبي قتيلة أخت الأشعث؟ فقال: ما تزوجها قط، ولا تزوج كندية إلا أخت بني الجون، فلما أتي بها وقدمت المدينة نظر إليها فطلقها ولم يبن بها.
ويقال: إنها فاطمة بنت الضحاك: فحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري قال: هي
فاطمة بنت الضحاك، استعاذت منه فطلقها، فكانت تلقط البعر وتقول: أنا الشقية. تزوجها في سنة ثمان وتوفيت سنة ستين.
وقال ابن إسحاق: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء بنت كعب الجونية، فلم يدخل بها حتى طلقها.
وتزوج عمرة بنت يزيد، وكانت قبله عند الفضل بن العباس بن عبد المطلب.
كذا قال، وهذا شيء منكر. فإن الفضل يصغر عن ذلك.(سيرة 2/492)
وعن قتادة قال: تزوج
رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن أسماء بنت النعمان الجونية، فلما دخل بها دعاها، فقالت: تعال أنت، فطلقها.
وقال الواقدي: حدثني عبد الله بن جعفر، عن عمرو بن صالح، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، قال: استعاذت الجونية منه، وقيل لها: "هو أحظى لك عنده"، وإنما خدعت لما روي من جمالها وهيئتها، ولقد ذكر له من حملها على ما قالت له، فقال: "إنهن صواحب يوسف". وذلك سنة تسع.
وقال هشام بن الكلبي، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: لما استعاذت أسماء بنت النعمان من النبي صلى الله عليه وسلم خرج مغضبا، فقال له الأشعث بن قيس: لا يسوؤك الله يا رسول الله، ألا أزوجك من ليس دونها في الجمال والحسب؟ فقال: "من"؟ قال: أختي قتيلة قال: "قد تزوجتها" فانصرف الأشعث إلى حضرموت ثم حملها، فبلغه وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فردها وارتدت معه.
ويروى عن قتادة وغيره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج سناء بنت الصلت السلمية، فماتت قبل أن يصل إليها.
وعن ابن عمر من وجه لا يصح قال: كان في نساء النبي صلى الله عليه وسلم سناء بنت سفيان الكلابية، وبعث أبا أسيد الساعدي يخطب عليه امرأة من بني عامر، يقال لها: عمرة بنت يزيد، فتزوجها، ثم بلغه أن بها بياضا فطلقها.
قال الواقدي: وحدثني أبو معشر أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج مليكة بنت(سيرة 2/493)
كعب، وكانت تذكر بجمال بارع، فدخلت عليها عائشة فقالت: أما تستحين أن تنكحي قاتل أبيك؟ فاستعاذت
منه، فطلقها فجاء قومها فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها صغيرة، ولا رأى لها، وإنها خدعت فارتجعها. فأبى عليهم، فاستأذنوه أن يزوجوها، فأذن لهم. وأبوها قتله خالد يوم الفتح.
وهذا حديث ساقط كالذي قبله.
وأوهى منهما ما روى الواقدي، عن عبد العزيز الجندعي، عن أبيه، عن عطاء الجندعي، قال: تزوج رسول اله صلى الله عليه وسلم مليكة بنت كعب الليثي في رمضان سنة ثمان، ودخل بها، فماتت عنده. قال الواقدي: وأصحابنا ينكرون ذلك.
وقال عقيل، عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني كلاب، ثم فارقها. قال أحمد ابن أبي خيثمة: هي العالية بنت ظبيان فيما بلغني.
وقال هشام بن الكلبي: تزوج بالعالية بنت ظبيان، فمكثت عنده دهرا، ثم طلقها، حدثني ذلك رجل من بني كلاب.
وروى المفضل الغلابي، عن علي بن صالح، عن علي بن مجاهد، قال: نكح رسول الله صلى الله عليه وسلم خولة بنت هذيل الثعلبية، فحملت إليه من الشام، فماتت في الطريق، فنكح خالتها شراف بنت فضالة، فماتت في الطريق أيضا.
ويروى عن سهل بن زيد الأنصاري قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من بني غفار، فدخل بها، فرأى بها بياضا من برص، فقال: الحقي بأهلك، وأكمل لها صداقها.(سيرة 2/494)
هذا ونحوه إنما أوردته للتعجب لا للتقرير.
ومن سراريه: مارية أم إبراهيم.
وقال الواقدي: حدثني ابن أبي ذئب، عن الزهرين قال: كانت ريحانة أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقها وتزوجها، فكانت تحتجب في أهلها، وتقول: لا يراني أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الواقدي: وهذا أثبت عندنا، وكان زوج ريحانة قبل النبي صلى الله عليه وسلم الحكم، وهي من بني النضير، فحدثنا عاصم بن عبد الله بن الحكم، عن عمر بن الحكم قال: أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم
ريحانة بنت زيد بن عمرو بن خنافة، وكانت ذات جمال، قالت: فتزوجني وأصدقني اثنتي عشرة أوقية ونشا وأعرس بي وقسم لي. وكان معجبا بها، توفيت مرجعه من حجة الوداع، وكان تزويجه بها في المحرم سنة ست.
وأخبرني عبد الله بن جعفر، عن ابن الهاد، عن ثعلبة بن أبي مالك، قال: كانت ريحانة من بني النضير، فسباها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعتقها وتزوجها وماتت عنده.
وقال ابن وهب: أخبرنا يونس، عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسر ريحانة، ثم أعتقها فلحقت بأهلها قلت: هذا أشبه وأصح.
قال أبو عبيدة: كان للنبي صلى الله عليه وسلم أربع ولائد: مارية، وريحانة من بني قريظة، وجميلة فكادها نساؤه، وكانت له جارية نفيسة وهبتها له زينب بنت جحش.
وقال زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ(سيرة 2/495)
مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 51] ، قال: كان نساء وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم، فدخل ببعضهن وأرجى بعضهن، فلم يُنْكَحْنَ بعده، منهن أم شريك، يعني الدوسية.
وقال هشام بن عروة عن أبيه قال: كنا نتحدث أن أمر شريك كانت وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، وكانت امرأة صالحة.
وقال هشام بن الكلبي، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس: أقبلت ليلى بنت الخطيم إلى النبي صلى الله عليه وسلم تعرض نفسها عليه، قال: قد فعلت فرجعت إلى قومها، فقالت: قد تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: أنت امرأة غيري تغارين من نسائه فيدعو عليك. فرجعت، فقالت: أقلني. قال: "قد أقلتك".
وقد خطب صلى الله عليه وسلم أم هانئ بنت أبي طالب، وضباعة بنت عامر، وصفية بنت بشامة ولم يقض له أن يتزوج بهن.
آخر الترجمة النبوية.(سيرة 2/496)
[سير الخلفاء الراشدين]
- أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اسمه عبد الله -ويقال: عتيق- بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي التيمي رضي الله عنه.
روى عنه خلق من الصحابة وقدماء التابعين، من آخرهم: أنس بن مالك، وطارق بن شهاب، وقيس بن أبي حازم، ومرة الطيب.
قال ابن أبي مليكة وغيره: إنما كان عتيق لقبا له.
وعن عائشة، قالت: اسمه الذي سماه أهله به "عبد الله" ولكن غلب عليه "عتيق".
وقال ابن معين: لقبه عتيق لأن وجهه كان جميلا، وكذا قال الليث بن سعد.
وقال غيره: كان أعلم قريش بأنسابها.
وقيل: كان أبيض نحيفا خفيف العارضين، معروق الوجه، غائر العينين، ناتئ الجبهة، يخضب شيبه بالحناء والكتم.
وكان أول من آمن من الرجال.
وقال ابن الأعرابي: العرب تقول للشيء قد بلغ النهاية في الجودة: عتيق.(راشدون/7)
وعن عائشة، قالت: ما أسلم أبو أحد من المهاجرين إلا أبو بكر.
وعن الزهري، قال: كان أبو بكر أبيض أصفر لطيفا جعدا مسترق الوركين، لا يثبت إزاره على وركيه.
وجاء أنه اتجر إلى بصرى غير مرة، وأنه أنفق أمواله على النبي صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر".
وقال عروة بن الزبير: أسلم أبو بكر يوم أسلم وله أربعون ألف دينار.
وقال عمرو بن العاص: يا رسول الله أي الرجال أحب إليك؟ قال: "أبو بكر".
وقال أبو سفيان، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبغض أبا بكر وعمر مؤمن ولا يحبهما منافق".
وقال الشعبي، عن الحارث، عن علي، أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى أبي(راشدون/8)
بكر وعمر، فقال:
"هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين، لا تخبرهما يا علي". وروى نحوه من وجوه مقاربة عن زر بن حبيش، وعن عاصم بن ضمرة، وهرم، عن علي وقال طلحة بن عمرو عن عطاء، عن ابن عباس مثله.
وقال محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن قتادة، عن أنس مثله. أخرجه الترمذي، قال: حديث حسن غريب. ثم رواه من حديث الموقري، عن الزهري، ولم يصح.
قال ابن مسعود: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا".
روى مثله ابن عباس، فزاد: "ولكن أخي وصاحبي في الله، سدوا كل خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر".
هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة، عن عمر أنه قال: أبو بكر سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. صححه الترمذي.(راشدون/9)
وصحح من حديث الجريري، عن عبد الله بن شقيق، قال: قلت لعائشة: أي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قالت: عمر، قلت: ثم من؟ قالت: أبو عبيدة، قلت: ثم من؟ فسكتت.
مالك في "الموطأ عن أبي النضر، عن عبيد بن حنين، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر، فقال: "عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده"، فقال أبو بكر: فديناك يا رسول الله بآبائنا وأمهاتنا، قال: فعجبنا فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام، لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر". متفق على صحته.
وقال أبو عوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن ابن أبي المعلى، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه، والأول أصح.(راشدون/10)
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدا يكافئه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن صاحبكم خليل الله". قال الترمذي: حديث حسن غريب.
وكذا قال في حديث كثير النواء، عن جميع بن عمير، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: "أنت صاحبي على الحوض وصاحبي في الغار".
وروي عن القاسم، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره". تفرد به عيسى بن ميمون، عن القاسم، وهو متروك الحديث.
وقال محمد بن جبير بن مطعم: أخبرني أبي أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته في شيء، فأمرها بأمر فقالت: أرأيت يا رسول الله إن لم أجدك؟ قال: "إن لم تجديني فأتى أبا بكر". متفق على صحته.
وقال أبو بكر الهذلي، عن الحسن، عن علي، قال: لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا
بكر أن يصلي بالناس، وإني لشاهد وما بي مرض، فرضينا(راشدون/11)
لدنيانا من رضي به النبي صلى الله عليه وسلم لديننا.
وقال صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: "ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل، ويأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر". هذا حديث صحيح.
وقال نافع بن عمر: حدثنا ابن أبي مليكة، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: "ادعوا لي أبا بكر وابنه فليكتب لكيلا يطمع في أمر أبي بكر طامع ولا يتمنى متمن"، ثم قال: "يأبى الله ذلك والمسلمون". تابعه غير واحد، منهم عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة، ولفظه: "معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر".
وقال زائدة، عن عاصم عن زر، عن عبد الله قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، فأتاهم عمر فقال: ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أبا بكر فأم الناس، فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ فقالوا: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر رضي الله عنه.
وأخرج البخاري من حديث أبي إدريس الخولاني، قال: سمعت أبا الدرداء يقول: كان بين أبي بكر وعمر محاورة، فأغضب أبو بكر عمر، فانصرف عنه عمر مغضبا فاتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له، فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه، فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو الدرداء: ونحن عنده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما صاحبكم هذا(راشدون/12)
فقد غامر". قال: وندم عمر على ما كان منه، فأقبل حتى سلم وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقص على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، قال أبو الدرداء: وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل أبو بكر يقول: والله يا رسول الله لأنا
كنت أظلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل أنتم تاركو لي صاحبي؟ إني قلت: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا، فقلتم: كذبت وقال أبو بكر: صدقت".
وأخرج أبو داود من حديث عبد السلام بن حرب، عن أبي خالد الدالاني قال: حدثني أبو خالد مولى جعدة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه سلم: "أتاني جبريل فأخذ بيدي فأراني الباب الذي تدخل منه أمتي الجنة"، فقال أبو بكر: وددت أني كنت معك حتى أنظر إليه قال: "أما إنك أول من يدخل الجنة من أمتي". أبو خالد مولى جعدة لا يعرف إلا بهذا الحديث.
وقال إسماعيل بن سميع، عن مسلم البطين، عن أبي البختري، قال: قال عمر لأبي عبيدة: ابسط يدك حتى أبايعك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أنت أمين هذه الأمة"، فقال: ما كنت لأتقدم بين يدي رجل أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤمنا، فأمنا حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو بكر بن عياش: أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن؛ لأن في القرآن في المهاجرين: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون} [الحجرات: 15] ، فمن سماه الله صادقا لم يكذب، هم سموه وقالوا: يا خليفة رسول الله.
وقال إبراهيم بن طهمان، عن خالد الحذاء، عن حميد بن هلال،(راشدون/13)
قال: لما بويع أبو بكر أصبح وعلى ساعده أبراد، فقال عمر: ما هذا؟ قال: يعني لي عيال، فقال: انطلق يفرض لك أبو عبيدة. فانطلقنا إلى أبي عبيدة، فقال: أفرض لك قوت رجل من المهاجرين وكسوته، ولك ظهرك إلى البيت.
وقالت عائشة: لما استخلف أبو بكر ألقى كل دينار ودرهم عنده في بيت المال، وقال: قد كنت أتجر فيه وألتمس به، فلما وليتهم شغلوني.
وقال عطاء بن السائب: لما استخلف أبو بكر أصبح وعلى رقبته أثواب يتجر فيها، فلقيه
عمر وأبو عبيدة فكلماه فقال: فمن أين أطعم عيالي؟ قالا: انطلق حتى نفرض لك. قال: ففرضوا له كل يوم شطر شاة، وماكسوه في الرأس والبطن، وقال عمر: إلي القضاء، وقال أبو عبيدة: إلي الفيء. فقال عمر: لقد كان يأتي علي الشهر ما يختصم إلي فيه اثنان.
وعن ميمون بن مهران، قال: جعلوا له ألفين وخمس مائة.
وقال محمد بن سيرين: كان أبو بكر أعبر هذه الأمة لرؤيا بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الزبير بن بكار، عن بعض أشياخه، قال: خطباء الصحابة: أبو بكر، وعلي.
وقال عنبسة بن عبد الواحد: حدثني يونس، عن ابن شهاب، عن(راشدون/14)
عروة، عن عائشة أنها كانت تدعو على من زعم أن أبا بكر قال هذه الأبيات، وقالت: والله ما قال أبو بكر شعرا في جاهلية ولا في إسلام، ولقد ترك هو وعثمان شرب الخمر في الجاهلية.
وقال كثير النواء: عن أبي جعفر الباقر: إن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر وعلي: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} [الحجر: 47] .
وقال حصين، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عمر صعد المنبر، ثم قال: ألا إن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، فمن قال غير ذلك بعد مقامي هذا فهو مفتر، عليه ما على المفتري.
وقال أبو معاوية وجماعة: حدثنا سهيل بن أبي صالح، عن أبيه عن ابن عمر قال: كنا نقول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا ذهب أبو بكر وعمر، وعثمان استوى الناس، فيبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينكره.
وقال علي -رضي الله عنه: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، وعمر. هذا والله العظيم قاله علي وهو متواتر عنه؛ لأنه قاله على منبر الكوفة فلعن الله الرافضة ما أجهلهم؟
وقال السدي، عن عبد خير، عن علي، قال: أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر، كان أول من جمع القرآن بين اللوحين. إسناده حسن.
وقال عقيل: عن الزهري أن أبا بكر والحارث بن كلدة كانا يأكلان خزيرة أهديت
لأبي بكر، فقال الحارث: ارفع يدك يا خليفة رسول الله، والله إن فيها لسم سنة، وأنا وأنت نموت في يوم واحد، قال: فلم(راشدون/15)
يزالا عليلين حتى ماتا في يوم واحد عند انقضاء السنة.
وعن عائشة قالت: أول ما بدئ مرض أبي بكر أنه اغتسل، وكان يوما باردًا فحم خمسة عشر يوما لا يخرج إلى صلاة، وكان يأمر عمر بالصلاة، وكانوا يعودونه، وكان عثمان ألزمهم له في مرضه. وتوفي مساء ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة، وكانت خلافته سنتين ومائة يوم.
وقال أبو معشر: سنتين وأربعة أشهر إلا أربع ليال، عن ثلاث وستين سنة.
وقال الواقدي: أخبرني ابن أبي سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل، عن أبي سلمة. قال: وأخبرنا بردان بن أبي النضر عن محمد بن إبراهيم التيمي. وأخبرنا عمرو بن عبد الله، عن أبي النضر، عن عبد الله النخعي، دخل حديث بعضهم في بعض: أن أبا بكر لما ثقل دعا عبد الرحمن بن عوف، فقال: أخبرني عن عمر، فقال: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني، قال: وإن، فقال: هو والله أفضل من رأيك فيه. ثم دعا عثمان فسأله عن عمر، فقال: علمي فيه أن سريرته خير من علانيته وأنه ليس فينا مثله فقال: يرحمك الله، والله لو تركته ما عدوتك، وشاور معهما سعيد بن زيد، وأسيد بن الحضير وغيرهما، فقال قائل: ما تقول لربك إذا سألك عن استخلافك عمر وقد ترى غلظته؟ فقال: أجلسوني، أبالله تخوفوني! أقول: استخلفت عليهم خير أهلك.
ثم دعا عثمان، فقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وعند أول(راشدون/16)
عهده بالآخرة داخلا فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيرا، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت ولا أعلم الغيب {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون} [الشعراء: 227] .
وقال بعضهم في الحديث: لما أن كتب عثمان الكتاب أغمي على أبي بكر، فكتب عثمان من عنده اسم عمر، فلما أفاق أبو بكر قال: اقرأ ما كتبت، فقرأ، فلما ذكر "عمر" كبر أبو بكر وقال: أراك خفت إن افتلتت نفسي الاختلاف، فجزاك الله عن الإسلام خيرا، والله إن كنت لها أهلا.
وقال علوان بن داود البجلي، عن حميد بن عبد الرحمن، عن صالح بن كيسان، عن
حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه. وقد رواه الليث بن سعد، عن علوان، عن صالح نفسه، قال: دخلت على أبي بكر أعوده في مرضه فسلمت عليه وسألته: كيف أصبحت؟ فقال: بحمد الله بارئا، أما إني على ما ترى وجع، وجعلتم لي شغلا مع وجعي؛ جعلت لكم عهدا بعدي، واخترت لكم خيركم في نفسي فكلكم ورم لذلك أنفه رجاء أن يكون الأمر له.
ثم قال: أما إني لا آسى على شيء إلا على ثلاث فعلتهن، وثلاث لم أفعلهن، وثلاث وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن: وددت أني لم أكن كشفت بيت فاطمة وتركته وإن أغلق على الخرب، وددت(راشدون/17)
أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق عمر أو أبي عبيدة، ووددت أني كنت وجهت خالد بن الوليد إلى أهل الردة، وأقمت بذي القصة، فإن ظفر المسلمون وإلا كنت لهم مددا وردءا، وودت أني يوم أتيت بالأشعث أسيرا ضربت عنقه، فإنه يخيل إلي أنه لا يكون شر إلا طار إليه، ووددت أني يوم أتيت بالفجاءة السلمي لم أكن حرقته وقتلته أو أطلقته، ووددت أني حيث وجهت خالد بن الوليد إلى الشام وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق، فأكون قد بسطت يميني وشمالي في سبيل الله، وودت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم في من هذا الأمر ولا ينازعه أهله، وأني سألته هل للأنصار في هذا الأمر شيء؟ وأني كنت سألته عن العمة وبنت الأخ، فإن في نفسي منها حاجة. رواه هكذا وأطول من هذا ابن وهب، عن الليث بن سعد، عن صالح بن كيسان، أخرجه كذلك ابن عائذ.
وقال محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص، عن أبيه، عن جده، أن عائشة قالت: حضرت أبي وهو يموت فأخذته غشية فتمثلت:
من لا يزال دمعه مقنعا ... فإنه لا بد مرة مدفوق
فرفع راسه وقال: يا بنية ليس كذاك، ولكن كما قال الله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19] .
وقال موسى الجهني، عن أبي بكر بن حفص بن عمر أن عائشة تمثلت لا احتضر أبو بكر:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فقال: ليس كذاك ولكن: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} ، إني قد(راشدون/18)
نحلك حائطا، وإن في نفسي منه شيئا فرديه على الميراث، قالت: نعم، قال: أما إنا منذ ولينا أمر المسلمين لم
أنأكل لهم دينارا ولا درهما ولكنا أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فيء المسلمين شيء إلا هذا العبد الحبشي وهذا البعير الناضح وجرد هذه القطيفة، فإذا مت فابعثي بهن إلى عمر، ففعلت.
وقال القاسم عن عائشة، أن أبا بكر حين حضره الموت قال: إني لا أعلم عند آل أبي بكر غير هذه اللقحة وغير هذا الغلام الصيقل، كان يعمل سيوف المسلمين ويخدمنا، فإذا مت فادفعيه إل عمر، فلما دفعته إلى عمر قال: رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده.
وقال الزهري: أوصى أبو بكر أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس، فإن لم تستطع استعانت بابنه عبد الرحمن.
وقال عبد الواحد بن أيمن وغيرهم، عن أبي جعفر الباقر، قال: دخل علي على أبي بكر بعد ما سجي، فقال: ما أحد ألقى الله بصحيفته أحب إلي من هذا المسجي.
وعن القاسم، قال: أوصى أبو بكر أن يدفن إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحفر له، وجعل رأسه عند كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: رأس أبي بكر عند كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأس عمر عند حقوي أبي بكر.
وقالت عائشة: مات ليلة الثلاثاء، ودفن قبل أن يصبح.
وعن مجاهد قال: كلم أبو قحافة في ميراثه من ابنه، فقال: قد رددت ذلك على ولده، ثم لم يعش بعده إلا ستة أشهر وأياما.
وجاء أنه ورثه أبوه وزوجاه أسماء بنت عميس، وحبيبة بنت(راشدون/19)
خارجة والدة أم كلثوم، وعبد الرحمن، ومحمد، وعائشة، وأسماء، وأم كلثوم.
ويقال: إن اليهود سمته في أرزة فمات بعد سنة، وله ثلاث وستون سنة رضي الله عنه وأرضاه.
ذكر عمال أبي بكر:
قال موسى بن أنس بن مالك: إن أبا بكر استعمل أباه أنسا على البحرين.
وقال خليفة: وجه أبو بكر زياد بن لبيد على اليمن أو المهاجر بن أبي أمية، واستعمل الآخر على كدام، وأقر على الطائف عثمان بن أبي العاص. ولما حج استخلف على المدينة
قتادة بن النعمان. وكان كاتبه عثمان بن عفان، وحاج به سديد مولاه. ويقال: كتب له زيد بن ثابت، وكان وزيره عمر بن الخطاب، وكان أيضا على قضائه، وكان مؤذنه سعد القرظ مولى عمار بن ياسر.
خلافة الصديق -رضي الله عنه- وأرضاه:
قال هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وأبو بكر بالسنح، فقال عمر: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عمر:(راشدون/20)
والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك، وليبعثنه الله فيقطع أيدي رجال وأرجلهم. فجاء أبو بكر الصديق فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله، وقال: بأبي أنت وأمي، طبت حيا وميتا، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله موتتين أبدا. ثم خرج فقال: أيها الحالف على رسلك. فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُون} [الزمر: 30] ، وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] ، فنشج الناس يبكون، واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا: منا أمير ومنكم أمير. فذهب إليهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، فذهب عمر يتكلم فسكته أبو بكر، فكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني قد هيأت كلاما قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر، فتكلم فأبلغ، فقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء. فقال الحباب بن المنذر: لا والله لا نفعل أبدا، منا أمير ومنكم أمير. فقال أبو بكر: لا، ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء، قريش أوسط العرب دارا وأعزهم أحسابا، فبايعوا عمر بن الخطاب أو أبا عبيدة. فقال عمر: بل نبايعك، أنت خيرنا وسيدنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخذ عمر بيده فبايعه، وبايعه الناس فقال قائل: قتلتم سعد بن عبادة فقال عمر: قتله الله. رواه سليمان بن بلال عنه، وهو صحيح السند.
وقال مالك، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، أن عمر خطب الناس فقال في خطبته: وقد بلغني أن قائلا يقول: "لو مات عمر بايعت فلانا". فلا يغترن امرؤ أن يقول: كانت
بيعة أبي بكر فلته، وليس(راشدون/21)
منكم من تقطع العناق إليه مثل أبي بكر، وإنه كان خيرنا، حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع المهاجرون، وتخلف علي والزبير في بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتخلفت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، فقلت: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار. فانطلقنا نؤمهم، فلقينا رجلان صالحان من الأنصار. فقالا: لا عليكم أن لا تأتوهم وأبرموا أمركم. فقلت: والله لنأتينهم، فأتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا هم مجتمعون على رجل مزمل بالثياب، فقلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة مريض فجلسنا، وقام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فنحن الأنصار وكتيبة الإيمان، وأنتم معشر المهاجرين رهط منا، وقد دفت إليكم دافة يريدون أن يختزلونا من أصلنا ويحضنونا من الأمر.
قال عمر: فلما سكت أردت أن أتكلم بمقالة قد كانت أعجبتني بين يدي أبي بكر، فقال أبو بكر: على رسلك. وكنت أعرف منه الحد، فكرهت أن أغضبه وهو كان خيرا مني وأوفق وأوقر، ثم تكلم فوالله ما ترك كلمة أعجبتني إلا قد قالها وأفضل منها حتى سكت، ثم قال: أما بعد: ما ذكرتم من خير فهو فيكم معشر الأنصار، وأنتم أهله وأفضل منه، ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارًا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم، وأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح قال: فما كرهت شيئا مما قال غيرها، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم(راشدون/22)
أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر إلا أن تتغير نفسي عند الموت. فقال رجل من الأنصار: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير معشر المهاجرين قال: وكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى خشيت الاختلاف، فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر. فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون وبايعته الأنصار، ونزوا على سعد بن عبادة، فقال قائل: قتلتم
سعدا. فقلت: قتل الله سعدا قال عمر: فوالله ما وجدنا فيما حضرنا أمرا أوفق من مبايعة أبي بكر، خشينا إن نحن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما بايعناهم على ما لا نرضى، وإما خالفناهم فيكون فساد.
رواه يونس بن يزيد، عن الزهري بطوله، فزاد فيه: قال عمر: "فلا يغترن امرؤ أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت، فإنها قد كانت كذلك إلا أن الله وقى شرها، فمن بايع رجلا عن غير مشورة، فإنه لا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا". متفق على صحته.
وقال عاصم بن بهدلة، عن زر، عن عبد الله قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير فأتاهم عمر، فقال: يا معشر الأنصار ألستم تعلمون أن أبا بكرقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤم الناس؟ قالوا: بلى، قال: فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ -يعني في(راشدون/23)
الصلاة- فقال الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر. رواه الناس، عن زائدة عنه.
وقال يزيد بن هارون: أخبرنا العوام بن حوشب، عن إبراهيم التيمي، قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى عمر أبا عبيدة، فقال: ابسط يدك لأبايعك، فإنك أمين هذه الأمة على
لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال أبو عبيدة لعمر: ما رأيت لك فهة قبلها منذ أسلمت، أتبايعني وفيكم الصديق وثاني اثنين؟
وروى نحوه عن مسلم البطين، عن أبي البختري.
وقال ابن عون، عن ابن سيرين، قال أبو بكر لعمر: ابسط يدك نبايع لك. فقال عمر: أنت أفضل مني فقال أبو بكر: أنت أقوى مني. قال: إن قوتي لك مع فضلك.
وقال يحيى بن سعيد الأنصاري، عن القاسم، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي اجتمعت الأنصار إلى سعد، فأتاهم أبو بكر وجماعة، فقام الحباب بن المنذر، وكان بدريا، فقال: منا أمير ومنكم أمير.
وقال وهيب: حدثنا داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطباء الأنصار، فجعل منهم من يقول: يا معشر المهاجرين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استعمل رجلا منكم قرن معه رجلا منا، فنرى أن يلي هذا الأمر رجلان منا ومنكم. قال: وتتابعت خطباء الأنصار على ذلك، فقام زيد بن ثابت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين، وإنما يكون الإمام من المهاجرين، ونحن أنصاره، كما كنا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقام أبو بكر، فقال:(راشدون/24)
جزاكم الله خيرا من حي يا معشر الأنصار وثبت قائلكم، أم والله لو فعلتم غير ذلك لما صالحناكم. ثم أخذ زيد بيد أبي بكر فقال: هذا صاحبكم فبايعوه. قال: فلما قعد أبو بكر على المنبر نظر في وجوه القوم فلم ير عليا، فسأل عنه، فقام ناس من الأنصار فأتوا به، فقال أبو بكر: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه أردت أن تشق عصا المسلمين! فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله، فبايعه، ثم لم ير الزبير، فسأل عنه حتى جاؤوا به، فقال: ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه أردت أن تشق عصا المسلمين! فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله، فبايعاه.
روى منه أحمد في "مسنده" إلى قوله: "لما صالحناكم" عن عفان، عن وهيب. ورواه بتمامه ثقة، عن عفان.
وقال الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس: قال عمر في خطبته: وإن عليا والزبير
ومن معهما تخلفوا عنا، وتخلفت الأنصار عنا بأسرها، فاجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فبينا نحن في منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجل ينادي من وراء الجدار: اخرج يا ابن الخطاب، فخرجت، فقال: إن الأنصار قد اجتمعوا فأدركوهم قبل أن يحدثوا أمرا يكون بيننا وبينهم فيه حرب، وقال في الحديث: وتابعه المهاجرون والأنصار فنزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل: قتلتم سعدا. قال عمر: فقلت وأنا مغضب: قتل الله سعدا فإنه صاحب فتنة شر.
وهذا من حديث جويرية بن أسماء، عن مالك. وروى مثله الزبير(راشدون/25)
بن بكار، عن ابن عيينة، عن الزهري.
وقال أبو بكر الهذلي، عن الحسن، عن قيس بن عباد، وابن الكواء، أن عليا -رضي الله عنه- ذكر مسيره وبيعة المهاجرين أبا بكر، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت فجاءة، مرض ليالي، يأتيه بلال فيؤذيه بالصلاة فيقول: "مروا أبا بكر بالصلاة"، فأرادت امرأة من نسائه أن تصرفه إلى غيره فغضب، وقال: "إنكن صواحب يوسف"، فملا قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اخترنا واختار المهاجرون والمسلمون لدنياهم من اختاره رسول الله لدينهم، وكانت الصلاة عظم الأمر وقوام الدين.
وقال الوليد بن مسلم: فحدثني محمد بن حرب، قال: حدثنا الزبيدي، قال: حدثني الزهري، عن أنس أنه سمع خطبة عمر الآخرة، قال: حين جلس أبو بكر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم غدا من متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتشهد عمر، ثم قال: أما بعد، فإني قلت لكم أمس مقالة، وإنها لم تكن كما قلت، وما وجدت في المقالة التي قلت لكم في كتاب الله ولا في عهد عهده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن رجوت أنه يعيش حتى يدبرنا -يقول حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم آخرنا -فاختار الله لرسوله ما عنده على الذي عندكم، فإن يكن رسول الله قد مات، فإن الله قد جعل بين أظهركم كتابه الذي هدى به محمدا، فاعتصموا به تهتدوا بما هدى به محمدا صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر أبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني اثنين وأنه أحق الناس بأمرهم، فقوموا فبايعوه، وكان طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة، وكانت البيعة على المنبر بيعة العامة. صحيح غريب.
وقال موسى بن عقبة، عن سعد بن إبراهيم: حدثني أبي أن أباه عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر، وأن محمد بن مسلمة كسر سيف الزبير، ثم خطب أبو بكر واعتذر إلى الناس، وقال: والله ما كنت(راشدون/26)
حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة ولا سألتها الله في سر ولا علانية.
فقبل المهاجرون مقالته. وقال علي والزبير: ما غضبنا إلا؛ لأنا أخرنا عن المشاورة، وإنا نرى أبا
بكر أحق الناس بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف شرفه وخيره، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس وهو حي.
وقد قيل: إن عليا -رضي الله عنه- تمادى عن المبايعة مدة، فقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني صالح بن كيسان، عن عروة، عن عائشة قالت: لما توفيت فاطمة بعد وفاة أبيها بستة أشهر اجتمع إلى علي أهل بيته، فبعثوا إلى أبي بكر: ائتنا. فقال عمر: لا والله لا تأتهم فقال أبو بكر: والله لآتينهم وما تخاف علي منهم! فجاءهم حتى دخل عليهم فحمد الله، ثم قال: إني قد عرفت رأيكم، قد وجدتم علي في أنفسكم من هذه الصدقات التي وليت عليكم، والله ما صنعت ذاك إلا أني لم أكن أريد أن أكل شيئا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت أرى أثره فيه وعمله إلى غيري حتى أسلك به سبيله وأنفذه فيما جعله الله، ووالله؛ لأن أصلكم أحب إلي من أن أصل أهل قرابتي لقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعظيم حقه. ثم تشهد علي، وقال: يا أبا بكر والله ما نفسنا عليك خيرًا جعله الله لك أن لا تكون أهلا لما أسند إليك، ولكنا كنا من الأمر حيث قد علمت فتفوت به علينا، فوجدنا في أنفسنا، وقد رايت أن أبايع وأدخل فيمادخل فيه الناس، وإذا كانت العشية فصل بالناس الظهر، واجلس على المنبر حتى آتيك فأبايعك. فلما صلى أبو بكر الظهر ركب المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر الذي كان من أمر علي، وما دخل(راشدون/27)
فيه من أمر الجماعة والبيعة، وها هو ذا فاسمعوا منه، فقام علي فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذك أبا بكر وفضله وسنه، وأنه أهل لما ساق الله إليه من الخير، ثم قام إلى أبي بكر فبايعه.
أخرجه البخاري من حديث عقيل عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، وفيه: وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة فلا توفيت استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته.
قصة الأسود العنسي:
قال سيف بن عمر التميمي: حدثنا المستنير بن يزيد النخعي، عن عروة بن غزية، عن الضحاك بن فيروز الديلمي، عن أبيه قال: أول ردة كانت في الإسلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على يد عبهلة بن كعب، وهو الأسود، في عامة مذحج: خرج بعد حجة الوداع،
وكان شعباذا يريهم الأعاجيب، ويسبي قلوب من يسمع منطقه، فوثب هو ومذحج بنجران إلى أن سار إلى صنعاء فأخذها، ولحق بفروة من تم على إسلامه، ولم يكاتب الأسود رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن معه أحد يشاغبه، وصفا له ملك اليمن.
فروى سيف، عن سهل بن يوسف، عن أبيه، عن عبيد بن صخر، قال: بينما نحن بالجند قد أقمناهم على ما ينبغي، وكتبنا(راشدون/28)
بيننا وبينهم الكتب، إذا جاءنا كتاب من الأسود أن أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، ووفروا ما جمعتم فنحن أولى به، وأنتم على ما أنتم عليه، فبينا نحن ننظر في أمرنا إذ قيل: هذا الأسود بشعوب، وقد خرج إليه شهر بن باذام، ثم أتانا الخبر أنه قتل شهرا وهزم الأبناء، وغلب على صنعاء بعد نيف وعشرين ليلة، وخرج معاذ هاربا حتى مر بأبي موسى الأشعري بمأرب، فاقتحما حضرموت.
وغلب الأسود على ما بين أعمال الطائف إلى البحرين وغير ذلك، وجعل يستطير استطارة الحريق، وكان معه سبع مائة فارس يوم لقي شهرا، وكان قواده: قيس بن عبد يغوث، ويزيد بن مخزوم، وفلان، وفلان واستغلظ أمره وغلب على أكثر اليمن، وارتد معه خلق، وعامله المسلمون بالتقية. وكان خليفته في مذحج عمرو بن معد يكرب، وأسند أمر جنده إلى قيس بن عبد يغوث، وأمر الأبناء إلى فيروز الديلمي، وذادويه. فلما أثخن في الأرض استخف بهؤلاء، وتزوج امرأة شهر، وهي بنت عم فيروز، قال: فبينا نحن كذلك بحضرموت ولا نأمن أن يسير إلينا الأسود، وقد تزوج معاذ في السكون، إذ جاءتنا كتب النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا فيها أن نبعث الرجال لمجاولته ومصاولته، فقام معاذ في ذلك، فعرفنا القوة ووثقنا بالنصر.
وقال سيف: حدثنا المستنير، عن عروة، عن الضحاك بن فيروز، عن جشنس بن الديلمي، قال: قدم علينا وبر بن يحنس(راشدون/29)
بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرنا فيه بالنهوض في أمر الأسود فرأينا أمر كثيفا، ورأينا الأسود قد تغير لقيس بن عبد يغوث، فأخبرنا قيسا وأبلغناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنا وقعنا عليه، فأجابنا، وجاء وبر وكاتبنا الناس ودعوناهم، فأخبر الأسود شيطانه فأرسل إلى قيس، فقال: ما يقول الملك؟ قال: يقول: عمدت إلى قيس فأكرمته، حتى إذا دخل منك كل مدخل مال ميل عدوك. فحلف له وتنصل، فقال: أتكذب الملك؟ قد صدق وعرفت أنك تائب. قال: فأتانا قيس وأخبرنا فقلنا: كن على حذر، وأرسل إلينا الأسود: ألم أشرفكم على قومكم، ألم يبلغني عنكم؟ فقلنا: أقلنا مرتنا هذه، فقال: فلا يبلغني عنكم فاقتلكم. فنجونا ولم نكد، وهو في ارتياب من أمرنا. قال: فكاتبنا عامر بن شهر، وذو الكلاع، وذو ظليم، فأمرناهم أن لا يتحركوا بشيء، قال: فدخلت على امرأته آزا
فقلت: يا ابنة عم قد عرفت بلاء هذا الرجل، وقتل زوجك وقومك وفضح النساء، فهل من ممالأة عليه؟ قالت: ما خلق الله أبغض إلي منه، ما يقوم لله على حق ولا ينتهي عن حرمة.
فخرجت فإذا فيروز وزادويه ينتظراني، وجاء قيس ونحن نريد أن نناهضه، فقال له رجل قبل أن يجلس: الملك يدعوك. فدخل في عشرة فلم يقدر على قتله معهم، وقال: أنا عبهلة أمني تتحصن بالرجال؟ ألم أخبرك الحق وتخبرني الكذب، تريد قتلي! فقال: كيف وأنت رسول الله فمرني بما أحببت، فأما الخوف والفزع فأنا فيهما فاقتلني وأرحني فرق له وأخرجه، فخرج علينا، وقال: اعملوا عملكم، وخرج علينا الأسود في جمع، فقمنا له، وبالباب مائة بقرة وبعير فنحرها، ثم قال: أحق ما(راشدون/30)
بلغني عنك يا فيروز؟ لقد هممت بقتلك فقال: اخترتنا لصهرك وفضلتنا على الأبناء، وقد جمع لنا أمر آخرة ودنيا، فلا تقبلن علينا أمثال ما يبلغك.
فقال: اقسم هذه، فجعلت آمر للرهط بالجزور ولأهل البيت بالبقرة. ثم اجتمع بالمرأة، فقالت: هو متحرز، والحرس محيطون بالقصر سوى هذا الباب فانقلبوا عليه، وهيأت لنا سراجا. وخرجت فتلقاني الأسود خارجا من القصر، فقال: ما أدخلك؟ ووجأ رأسي فسقطت، فصاحت المرأة وقالت: ابن عمي زارني. فقال: اسكتي لا أبا لك قد وهبته لك.
فأتيت أصحابي وقلت: النجاء، وأخبرتهم الخبر، فأنا على ذلك إذ جاءني رسولها: لا تدعن ما فارقتك عليه، فقلنا لفيروز: ائتها وأتقن أمرنا، وجئنا بالليل دخلنا، فإذا سراج تحت جفنة، فاتقينا بفيروز، وكان أنجدنا، فلما دنا من البيت سمع غطيطا شديدا، وإذا المرأة جالسة. فلما قام فيروز على الباب أجلس الأسود شيطانه وكلمه فقال: وأيضا فما لي ولك يا فيروز! فخشي إن رجع أن يهلك هو والمرأة، فعاجله وخالطه وهو مثل الجمل، فأخذ برأسه فدق عنقه وقتله، ثم قام ليخرج فأخذت المرأة بثوبه تناشده، فقال: أخبر أصحابي بقتله. فأتانا فقمنا معه، فأردنا حز رأسه فحركه الشيطان واضطرب، فلم نضبطه، فقال: اجلسوا على صدره.
فجلس اثنان وأخذت المرأة بشعره، وسمعنا بربرة فألجمته بملاءة. وأمر الشفرة على حلقه، فخار كأشد خوار ثور، فابتدر الحرس الباب: ما هذا؟ ما هذا؟ قالت: النبي يوحى إليه قال: وسمرنا ليلتنا كيف نخبر أشياعنا، فأجمعنا على النداء بشعارنا ثم بالأذان، فلما طلع الفجر نادى داذويه(راشدون/31)
بالشعار، ففزع المسلمون والكافرون، واجتمع الحرس فأحاطوا بنا، ثم ناديت بالأذان، وتوافت خيولهم إلى الحرس، فنادينهم: أشهد أن محمدا رسول الله، وأن عبهلة كذاب، وألقينا إليهم الرأس، وأقام وبر الصلاة، وشنها القوم غارة، ونادينا: يا أهل صنعاء من دخل عليه داخل فتعلقوا به، فكثر النهب والسبي، وخلصت صنعاء والجند، وأعز
الله الإسلام، وتنافسنا الإمارة، وتراجع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاصطلحنا على معاذ بن جبل، فكان يصلي بنا، وكتبنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الخير فقدمت رسلنا، وقد قبض النبي صلى الله عليه وسلم صبيحتئذ فأجابنا أبو بكر رضي الله عنه.
وروى الواقدي عن رجاله، قال: بعث أبو بكر قيس بن مكشوح إلى اليمن، فقتل الأسود العنسي، هو وفيروز الديلمي ولقيس هذا أخبار، وقد ارتد، ثم أسره المسلمون فعفا عنه أبو بكر، وقتل مع علي بصفين.
جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما:
قال هشام بن عروة، عن أبيه، قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه: "أنفذوا جيش أسامة"، فسار حتى بلغ الجرف، فأرسلت إليه امرأته فاطمة بنت قيس تقول: لا تعجل فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقيل، فلم يبرح حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قبض رجع إلى أبي بكر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني وأنا على غير حالكم هذه، وأنا أتخوف أن تكفر العرب، وإن كفرت كانوا أول من نقاتل، وإن لم تكفر مضيت، فإن معي سروات الناس وخيارهم، قال: فخطب أبو بكر الناس، ثم قال: والله لأن تخطفني الطير أحب إلي من أن أبدأ بشيء قبل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فبعثه أبو بكر، واستأذن لعمر أن يتركه عنده، وأمر أن يجزر في القوم، أن يقطع الأيدي، والأرجل والأوساط في القتال، قال:(راشدون/32)
فمضى حتى أغار، ثم رجعوا وقد غنموا وسلموا.
فكان عمر يقول: ما كنت لأحيي أحدا بالإمارة غير أسامة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وهو أمير، قال: فسار فلما دنوا من الشام أصابتهم ضبابة شديدة فسترتهم، حتى أغاروا وأصابوا حاجتهم، قال: فقدم بنعي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هرقل وإغارة أسامة في ناحية أرضه خبرا واحدا، فقالت الروم: ما بال هؤلاء يموت صاحبهم وأغاروا على أرضنا؟
وعن الزهري، قال: سار أسامة في ربيع الأول حتى بلغ أرض الشام وانصرف، فكان مسيره ذاهبا وقافلا أربعين يوما.
وقيل: كان ابن عشرين سنة.
وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: فلما فرغوا من البيعة، واطمأن الناس قال أبو بكر لأسامة بن زيد: امض لوجهك. فكلمه رجال من المهاجرين والأنصار وقالوا: أمسك أسامة وبعثه فإنا نخشى أن تميل علينا العرب إذا سمعوا بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: أنا أحبس جيشا بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم! لقد اجترأت على أمر عظيم، والذي نفسي بيده لأن تميل علي العرب أحب إلي من أن أحبس جيشا بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، امض يا أسامة في جيشك للوجه الذي أمرت به، ثم اغز حيث أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم من ناحية فلسطين، وعلى أهل مؤتة، فإن الله سيكفي ما تركت، ولكن إن رأيت أن تاذن لعمر فأستشيره وأستعين به فافعل، ففعل أسامة ورجع عامة العرب عن دينهم وعامة أهل المشرق وغطفان، وأسد عامة أشجع، وتمسكت طيئ بالإسلام.(راشدون/33)
شأن أبي بكر وفاطمة رضي الله عنهما:
قال الزهري عن عروة، عن عائشة أن فاطمة سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه، فقال لها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا صدقة". فغضبت وهجرت أبا بكر حتى توفيت.
وأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن مما أفاء الله على رسوله، حتى كنت أنا رددتهن فقلت لهن: ألا تتقين الله؟ ألم تسمعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا نورث، ما تركنا صدقة إنما يأكل آل محمد في هذا المال".
وقال أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقتسم ورثتي دينارًا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي فهو صدقة".(راشدون/34)
وقال محمد بن السائب -وهو متروك- عن أبي صالح مولى أم هانئ، أن فاطمة دخلت على أبي بكر، فقالت: يا أبا بكر أرأيت لو مت اليوم من كان يرثك؟ قال: أهلي وولدي.
فقالت: مالك ترث رسول الله صلى الله عليه وسلم من دون أهله وولده! فقال: ما فعلت يا ابنة رسول الله.
قالتك بلى قد عمدت إلى فدك وكانت صافية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذتها، وعمدت إلى ما أنزل الله من المساء فرفعته منا، فقال: لم أفعل، حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يطعم النبي الطعمة
ما كان حيا فإذا قبضه رفعها. قالت: أنت ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم، ما أنا بسائلتك بعد مجلسي هذا.
ابن فضيل، عن الوليد بن جميع، عن أبي الطفيل، قال: لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت فاطمة إلى أبي بكر: أنت وريث رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أهله؟ فقال: لا بل أهله. قالت: فأين سهمه؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله إذا أطعم نبيا طعمة ثم قبضه جعلها للذي يقوم من بعده"، فرأيت أن أرده على المسلمين. قالت: أنت وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم.
رواه أحمد في "مسنده"، وهو منكر، وأنكر ما فيه قوله: "لا، بل أهله".
وقال الوليد بن مسلم، وعمر بن عبد الواحد: حدثنا صدقة أبو معاوية، عن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، عن يزيد الرقاشي، عن أنس أن فاطمة أتت أبا بكر فقالت: قد علمت الذي خلفنا عنه من الصدقات أهل البيت. ثم قرأت عليه {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] ، إلى آخر(راشدون/35)
الآية، فقال لها: بأبي وأمي أنت ووالدك وولدك، وعلي السمع والصبر، كتاب الله وحق رسول وحق قرابته، أنا أقرأ من كتاب الله مثل الذي تقرئين، ولا يبلغ علمي فيه أن أرى لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا السهم كله من الخمس يجري بجماعته عليهم. قالت: أفلك هو ولقرابتك؟ قال: لا، وأنت عندي أمينة مصدقة، فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليك في ذلك عهدا، ووعدك موعدا أوجبه لك حقا صدقتك وسلمته إليك. قالت: لا، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه في ذلك قال: أبشروا آل محمد فقد جاءكم الغنى. فقال أبو بكر: صدقت فلك الغنى، ولم يبلغ علمي فيه ولا بهذه الآية أن يسلم هذا السهم كله كاملا، ولكن لكم الغنى الذي يغنيكم، ويفضل عنكم، فانظري هل يوافقك على ذلك أحد منهم، فانصرفت إلى عمر فذكرت له كما ذكرت لأبي بكر، فقال لها مثل الذي راجعها به أبو بكر، فعجبت وظنت أنهما قد تذاكر ذلك واجتمعا عليه.
وبالإسناد إلى محمد بن عبد الله -من دون ذكر الوليد بن مسلم- قال: حدثني الزهري، قال: حدثني من سمع ابن عباس يقول: كان عمر عرض علينا أن يعطينا من الفيء بحق ما يرى أنه لنا من الحق، فرغبنا عن ذلك وقلنا: لنا ما سمى الله من حق ذي القربى، وهو خمس
الخمس، فقال عمر: ليس لكم ما تدعون لكم حق، إنما جعل الله الخمس لأصناف سماهم، فأسعدهم فيه حظا أشدهم فاقة وأكثرهم عيالًا. قال: فكان عمر يعطي من قبل منا من الخمس والفيء نحو ما يرى أنه لنا، فأخذ ذلك منا ناس وتركه ناس.(راشدون/36)
وذكر الزهري أن مالك بن أوس بن الحدثان النصري قال: كنت عند عمر -رضي الله عنه- فقال لي: يا مالك إنه قدم علينا من قومك أهل أبيات وقد أمرت فيهم برضخ فاقسمه بينهم، قلت: لو أمرت به غيري، قال: اقبضه أيها المرء، قال: وأتاه حاجبه يرفأ فقال: هل لك في عثمان، والزبير، وعبد الرحمن وسعد يستأذنون؟ قال: نعم، فدخلوا وسلموا وجلسوا، ثم لبث يرفأ قليلا، ثم قال لعمر: هل لك في علي والعباس؟ قال: نعم فلما دخلا سلما فجلسا، فقال عباس: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا الظالم الفاجر الغادر الخائن، فاستبا، فقال عثمان وغيره: يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر. فقال: أنشدكما بالله هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا صدقة"؟ قالا: قد قال ذلك قال: فإني أحدثكم عن هذا الأمر: إن الله كان قد خص رسوله في هذا الفيء بشيء لم يعطه غيره، فقال تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر: 6] ، فكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم والله ما احتازها دونكم ولا استأثر بها عليكم، لقد أعطاكموها وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال، ثم يجعل ما بقي مجعل مال الله. أنشدكم بالله هل تعلمون ذلك؟ قالوا: نعم توفى الله نبيه، فقال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم، فقبضها وعمل فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وأنتما تزعمان أن أبا بكر فيها كاذب فاجر غادر، والله يعلم أنه فيها لصادق بار راشد، ثم توفاه الله فقلت: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي أبي بكر، فقبضتها سنتين من إمارتي، أعمل(راشدون/37)
فيها بعمله، وأنتم حينئذ، وأقبل علي علي، وعباس يزعمون أني فيها كاذب فاجر غادر، والله يعلم أني فيها لصادق بار راشد تابع للحق، ثم جئتماني وكلمتكما واحدة وأمركما جميع، فجئتني تسألني عن نصيبك من ابن أخيك، وجاءني هذا يسألني عن نصيب امرأته من أبيها فقلت: لكما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا صدقة" فلما بدا لي أن أدفعها إليكما قلت: إن شئتما دفعتها إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه فتعملان فيها بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما عمل فيها أبو بكر وإلا فلا تكلماني فقلتما: ادفعها إلينا بذلك، فدفعتها إليكما؛
أنشدكم بالله هل دفعتها إليهما بذلك؟ قال الرهط: نعم، فأقبل على علي وعباس فقال: أنشدكما بالله هل دفعتها إليكما بذلك؟ قالا: نعم قال: أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك!
فوالذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها غير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما عنها فادفعاها إلي أكفيكماها.
قال الزهري: وحدثني الأعرج أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "والذي نفسي بيده لا يقتسم ورثتني شيئا مما تركت، ما تركنا صدقة". فكانت هذه الصدقة بيد علي غلب عليها العباس، وكانت فيها خصومتهما، فأبى عمر أن يقسمها بينهما حتى أعرض عنها عباس غلبه عليها علي، ثم كانت على يدي الحسن، ثم كانت بيد الحسين، ثم بيد علي بن الحسين والحسن بن الحسن، كلاهما يتداولانها، ثم بيد زيد، وهي صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا.(راشدون/38)
خبر الردة:
لما اشتهرت وفة النبي صلى الله عليه وسلم بالنواحي، ارتد طوائف كثيرة من العرب عن الإسلام ومنعوا الزكاة، فنهض أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- لقتالهم، فأشار عليه عمر وغيره أن يفتر عن قتالهم. فقال: والله لو منعوني عقالا أو عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها فقال عمر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله فمن قالها عصم مني ماله ودمه إلا بحقها وحسابه على الله"؟ فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال وقد قال: "إلا بحقها" قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق.
فعن عروة وغيره قال: فخرج أبو بكر في المهاجرين والأنصار حتى بلغ نقعا حذاء
نجد، وهربت الأعراب بذراريهم، فكلم الناس أبا بكر، وقالوا: ارجع إلى المدينة وإلى الذرية والنساء وأمر رجلا على الجيش، ولم يزالوا به حتى رجع وأمر خالد بن الوليد، وقال له: إذا أسلموا وأعطوا الصدقة فمن شاء منكم فليرجع، ورجع أبو بكر إلى المدينة.(راشدون/39)
وقال غيره: كان مسيره في جمادى الآخر فبلغ ذا القصة، وهي على بريدين وأميال من ناحية طريق العراق، واستخلف عن المدينة سنانا الضمري، وعلى حفظ أنقاب المدينة عبد الله بن مسعود.
وقال ابن لهيعة: أخبرنا أسامة بن زيد، عن الزهري، عن حنظلة بن علي الليثي، أن أبا بكر بعث خالدا، وأمره أن يقاتل الناس على خمس، من ترك واحدة منهن قاتله كما يقاتل من ترك الخمس جميعا: على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان.
وقال عروة، عن عائشة: لو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهاضمها، اشرأب النفاق بالمدينة وارتدت العرب، فوالله ما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بحظها من الإسلام.
وعن يزيد بن رومان أن الناس قالوا له: إنك لا تصنع بالمسير بنفسك شيئا، ولا تدري لمن تقصد، فأمر من تثق به وارجع إلى المدينة، فإنك تركت بها النفاق يغلي، فعقد لخالد على الناس، وأمر على الأنصار خاصة ثابت بن قيس بن شماس، وأمر خالدا أن يصمد لطليحة الأسدي.
وعن الزهري، قال: سار خالد بن الوليد من ذي القصة في ألفين وسبع مائة إلى ثلاثة آلاف، يريد طليحة، ووجه عكاشة بن محصن الأسدي حليف بني عبد شمس، وثابت بن أقرم الأنصاري -رضي الله(راشدون/40)
عنهما- فانتهوا إلى قطن فصادفوا فيها حبالا متوجها إلى طليحة بثقله، فقتلوه وأخذوا ما معه، فساق وراءهم طليحة وأخوه سلمة فقتلا عكاشة وثابتا.
وقال الوليد الموقري، عن الزهري، قال: فسار خالد فقاتل طليحة الكذاب فهزمه الله، وكان قد بايع عيينة بن حصن، فلما رأى طليحة كثرة انهزام أصحابه قال: ما يهزمكم؟ فقال
رجل: أنا أحدثك، ليس منا رجل إلا وهو يحب أن يموت صاحبه قبله، وإنا نلقى قوما كلهم يحب أن يموت قبل صاحبه، وكان طليحة رجلا شديد البأس في القتال، فقتل طليحة يومئذ عكاشة بن محن وثابت بن أقرم، وقال طليحة:
عشية غادرت ابن أقرم ثاويا ... وعكاشة الغنمي تحت مجالي
أقمت لهم صدر الحمالة إنها ... معاودة قتل الكماة نزالي
فيوما تراها في الجلال مصونة ... ويوما تراها في ظلال عوال
فما ظنكم بالقوم إذ تقتلونهم ... أليسوا وإن لم يسلموا برجال
فإن يك ذا ود أصبن ونسوة ... فلم ترهبوا فرغا بقتل حبال
فلما غلب الحق طليحة ترجل. ثم أسلم وأهل بعمرة، فركب يسير في الناس آمنا، حتى مر بأبي بكر بالمدينة، ثم سار إلى مكة فقضى عمرته، ثم حسن إسلام.
وفي غير هذه الرواية أن خالدا لقي طليحة ببزاخة، ومع طليحة عيينة بن حصن، وقرة بن هبيرة القشيري، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم رب طليحة وأسر عيينة وقرة، وبعث بهما إلى أبي بكر فحقن دماءهما.(راشدون/41)
وذكر أن قيس بن مكشوح أحد من قتل الأسود العنسي ارتد، وتابعه جماعة من أصحاب الأسود، وخافه أهل صنعاء، وأتى قيس إلى فيروز الديلمي وذادويه يستشيرهما في شأن أصحاب الأسود خديعة منه، فاطمأنا إليه، وصنع لهما من الغد طعاما، فأتاه ذادويه فقتله. ثم أتاه فيروز ففطن بالأمر فهرب، ولقيه جشيش بن شهر ومضى معه إلى جبال خولان، وملك قيس صنعاء، فكتب فيروز إلى أبي بكر يستمده. فأمده، فلقوا قيسا فهزمواه ثم أسروه وحملوه إلى أبي بكر -رضي الله عنه- فوبخه، فأنكر الردة فعفا عنه أبو بكر.
وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: فسار خالد -وكان سيفا من سيوف الله- فأسرع السير حتى نزل ببزاخة، وبعثت إليه طيء إن شئت أن تقدم علينا فإنا سامعون مطيعون، وإن شئت نسير إليك؟ قال خالد: بل أنا ظاعن إليكم إن شاء الله، فلم يزل ببزاخة، وجمع له هناك العدو بنو أسد وغطفان فاقتتلوا، حتى قتل من العدو خلق وأسر منهم أسارى، فأمر خالد بالحظر أن تبنى، ثم أوقد فيها النيران وألقى الأسارى فيها، ثم ظعن يريد طيئا، فأقبلت بنو عامر وغطفان والناس مسلمين مقرين بأداء الحق، فقبل منهم خالد.
وقتل في ذلك الوجه مالك بن نويرة التميمي في رجال معه من تميم، فقالت الأنصار: نحن راجعون، قد أقرت العرب بالذي كان عليها، فقال خالد ومن معه من المهاجرين: قد لعمري آذن لكم وقد أجمع أميركم بالمسير إلى مسيلمة بن ثمامة الكذاب، ولا نرى أن تفرقوا على هذه الحال، فإن ذلك غير حسن، وإنه لا حجة لأحد منكم فارق(راشدون/42)
أميره وهو أشد ما كان إليه حاجة، فأبت الأنصار إلا الرجوع، وعزم خالد ومن معه، وتخلفت الأنصار يوما أو يومين ينظرون في أمرهم، وندموا وقالوا: ما لكم والله عذر عند الله، ولا عند أبي بكر إن أصيب هذا الطرف وقد خذلناهم، فأسرعوا نحو خالد ولحقوا بهن فسار إلى اليمامة، وكان مجاعة بن مرارة سيد بني حنيفة خرج في ثلاثة وعشرين فارسا يطلب دما في بني عامر، فأحاط بهم المسلمون، فقتل أصحاب مجاعة وأوثقه.
وقال العطاف بن خالد: حدثني أخي عبد الله عن بعض آل عدي، عن وحشي، قال: خرجنا حتى أتينا طليحة فهزمهم الله، فقال خالد: لا أرجع حتى آتي مسيلمة حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فقال له ثابت بن قيس: إنما بعثنا إلى هؤلاء وقد كفى اللهم مؤونتهم، فلم يقبل منه، وسار، ثم تبعه ثابت بعد يوم في الأنصار.
مقتل مالك بن نويرة التميمي الحنظلي اليربوعي:
قال ابن إسحاق: أتى خالد بن الوليد بمالك بن نويرة في رهط من قومه بني حنظلة، فضرب أعناقهم، وسار في أرض تميم، فلما غشوا قوما منهم أخذوا السلاح، وقالوا: نحن مسلمون، فقيل لهم: ضعوا السلاح فوضعوه، ثم صلى المسلمون وصلوا.
فروى سالم بن عبد الله، عن أبيه، قال: قدم أبو قتادة الأنصاري على أبي بكر فأخبره بقتل مالك بن نويرة وأصحابه، فجزع لذلك، ثم(راشدون/43)
ودى مالك ورد السبي والمال.
وروي أن مالكا كان فارسا شجاعا مطاعا في قومه وفيه خيلاء، كان يقال له: الجفول. قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم فولاه صدقة قومه، ثم ارتد، فلما نازله خالد قال: أنا آتي بالصلاة دون الزكاة. فقال: أما علمت أن الصلاة والزكاة معا؟ لا تقبل واحدة دون الأخرى! فقال: قد كان صاحبك يقول ذلك. قال خالد: وما تراه لك صاحبا! والله لقد هممت أن أضرب عنقك، ثم تحاورا طويلا فصمم على قتله: فكلمه أبو قتادة الأنصاري وابن عمر، فكره كلامهما، وقال لضرار بن الأزور: اضرب عنقه، فالتفت مالك إلى زوجته وقال: هذه التي قتلتني، وكانت في غاية الجمال، قال خالد: بل الله قتلك برجوعك عن الإسلام فقال: أنا على الإسلام.
فقال: اضرب عنقه، فضرب عنقه، وجعل رأسه أحد أثافي قدر طبخ فيها طعام، ثم تزوج خالد بالمرأة، فقال أبو زهير السعدي من أبيات:
قضى خالد بغيا عليه لعرسه ... وكان له فيها هوى قبل ذلكا(راشدون/44)
وذكر ابن الأثير في "كامله" وفي "معرفة الصحابة"، قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب، وظهرت سجاح وادعت النبوة صالحها مالك، ولم تظهر منه ردة، وأقام بالبطاح، فلما فرغ خالد من أسد وغطفان سار إلى مالك وبث سرايا، فأتى بمالك. فذكر الحديث وفيه: فلما قدم خالد قال عمر: يا عدو الله قتلت امرأ مسلما ثم نزوت على امرأته، لأرجمنك وفيه أن أبا قتادة شهد أنهم أذنوا وصلوا.
وقال الموقري، عن الزهري قال: وبعث خالد إلى مالك بن نويرة سرية فيهم أبو قتادة، فساروا يومهم سراعا حتى انتهوا إلى محلة الحي، فخرج مالك في رهطة فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن المسلمون، فزعم أبو قتادة أنه قال: وأنا عبد الله المسلم، قال: فضع السلاح، فوضعه في اثني عشر رجلا، فلما وضعوا السلاح ربطهم أمير تلك السرية وانطلق بهم أسارى، وسار معهم السبي حتى أتوا بهم خالدا، حدث أبو قتادة خالدًا أن لهم أمانا وأنهم قد ادعوا إسلاما، وخالف أبا قتادة جماعة السرية، فأخبروا خالدا أنه لم يكن لهم أمان،
وإنما أسروا قسرا، فأمر بهم خالد فقتلوا وقبض سبيهم، فركب أبو قتادة فرسه وسار قبل أبي بكر فلما قدم عليه قال: تعلم أنه كان لمالك بن نويرة عهد وأنه ادعى إسلاما، وإني نهيت خالدا فترك قولي، وأخذ بشهادات الأعراب الذين يريدون الغنائم فقام عمر فقال: يا أبا بكر إن في سيف خالد رهقًا، وإن هذا لم يكن حقا فإن حقا عليك أن تقيده، فسكت(راشدون/45)
أبو بكر.
ومضى خالد قبل اليمامة، وقدم متمم بن نويرة فأنشد أبا بكر مندبة ندب بها أخاه، وناشده في دم أخيه وفي سبيهم، فرد إليه أبو بكر السبي، وقال لعمر وهو يناشد في القود: ليس على خالد ما تقول، هبه تأول فأخطأ.
قلت: ومن المندبة:
وكنا كندماني جديمة حقبة ... من الدهر حتى قيل: لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
وقال الثوري، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، قال: لما قدم وفد بزاخة أسد وغطفان على أبي بكر يسألونه الصلح خيرهم أبو بكر بين حرب مجلية أو خطة مخزية، فقالوا: يا خليفة رسول الله أما الحرب فقد عرفناها، فما الخطة المخزية؟ قال: يؤخذ منكم الحلقة والكراع، وتتركون أقواما تتبعون أذناب الإبل حتى يري الله خليفة نبيه والمؤمنين أمرا يعذرونكم به، وتؤدون ما أصبتم منا ولا نؤدي ما أصبنا منكم، وتشهدون أن قتلانا في الجنة وأن قتلاكم في النار، وتدون قتلانا ولا ندي قتلاكم. فقال عمر: أما قولك: "تدون قتلانا" فإن قتلانا قتلوا على أمر الله لا ديات لهم. فاتبع عمر، وقال عمر في الباقي: نعم ما رأيت.(راشدون/46)
قتال مسيلمة الكذاب:
ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: سار خالد إلى اليمامة إلى مسيلمة، وخرج مسيلمة بجموعه فنزلوا بعفرا فحل بها خالد عليهم، وهي طرف اليمامة، وجعلوا الأموال خلفها كلها وريف اليمامة وراء ظهورهم، وقال شرحبيل بن سلمة: يا بني حنيفة اليوم يوم الغيرة، اليوم إن هزمتم ستردف النساء سبيات وينكحن غير حظيات، فقاتلوا عن أحسابكم.
فاقتتلوا بعفرا قتالا شديدا، فجال المسلمون جولة، ودخل ناس من بني حنيفة فسطاط خالد،
وفيه مجاعة أسير وأم تميم امرأة خالد، فأرادوا أن يقتلوها فقال مجاعة: أنا لها جار، ودفع عنها، وقال ثابت بن قيس حين رأى المسلمين مدبرين: أف لكم ولما تعملون، وكر المسلمون فهزم الله العدو، ودخل نفر من المسلمين فسطاط خالد فأرادوا قتل مجاعة، فقالت أم تميم: والله لا يقتل، وأجارته. وانهزم أعداء الله حتى إذا كانا عند حديقة الموت اقتتلوا عندها، أشد القتال وقال محكم بن الطفيل: يا بني حنيفة ادخلوا الحديقة فإني سأمنع أدباركم، فقاتل دونهم ساعة وقتل، وقال مسيلمة: يا قوم قاتلوا عن أحسابكم، فاقتتلوا قتالا شديدا، وقتل مسيلمة وحشي مولى بني نوفل.
وقال الموقري، عن الزهري: قاتل خالد مسيلمة ومن معه من بني حنيفة، وهم يومئذ أكثر العرب عددا وأشده شوكة، فاستشهد خلق كثير، وهزم الله بني حنيفة، وقتل مسيلمة، قتله وحشي بحربة.
وكان يقال: قتل وحشي خير أهل الأرض بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وشر أهل الأرض.(راشدون/47)
وعن وحشي، قال: لم أر قط أصبر على الموت من أصحاب مسيلمة، ثم ذكر أنه شارك في قتل مسيلمة.
وقال ابن عون عن موسى بن أنس، عن أبيه، قال: لما كان يوم اليمامة دخل ثابت بن قيس فتحنط، ثم قام فأتى الصف والناس منهزمون، فقال هكذا عن وجوهنا، فضارب القوم ثم قال: بئسما عودتم أقرانكم، ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشهد رضي الله عنه.
وقال الموقري، عن الزهري، قال: ثم تحصن من بني حنيفة من أهل اليمامة ستة آلا مقاتل في حصنهم، فنزلوا على حكم خالد فاستحياهم.
وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة قال: وعمدت بنو حنيفة حين انهزموا إلى الحصون فدخلوها، فأراد خالد أن ينهد إليهم الكتائب، فلم يزل مجاعة حتى صالحه على الصفراء والبيضاء والحلقة والكراع، وعلى نصف الرقيق، وعلى حائط من كل قرية، فتقاضوا على ذلك.
وقال سلامة بن عمير الحنفي: يا بني حنيفة قاتلوا ولا تقاضوا خالدا على شيء، فإن الحصن حصين، والطعام كثير، وقد حضر الشتاء فقال مجاعة: لا تطيعوه فإنه مشؤوم.
فأطاعوا مجاعة، وقاضاهم، ثم إن خالدا دعاهم إلى الإسلام والبراءة مما كانوا عليه، فأسلم سائرهم.
وقال ابن إسحاق: إن خالدا قال: يا بني حنيفة ما تقولون؟ قالوا:(راشدون/48)
منا نبي ومنكم نبي، فعرضهم على السيف، يعني العشرين الذي كانوا مع مجاعة بن مرارة، وأوثقه هو في الحديد، ثم التقى الجمعان فقال زيد بن الخطاب حين كشف الناس: لا نجوت بعد الرحال، ثم قاتل حتى قتل.
وقال ابن سيرين: كانوا يرون أن أبا مريم الحنفي قتل زيدا.
وقال ابن إسحاق: رمي عبد الرحمن بن أبي بكر محكم اليمامة بن طفيل بسهم فقتله.
قلت: واختلفوا في وقعة اليمامة متى كانت: فقال خليفة بن خياطن ومحمد بن جرير الطبري: كانت في سنة إحدى عشرة.
قال عبد الباقي بن قانع: كانت في آخر سنة إحدى عشرة.
وقال أبو معشر: كانت اليمامة في ربيع الأول سنة اثنتي عشرة. فجميع من قتل يومئذ أربع مائة وخمسون رجلا.
وقال الواقدي: كانت سنة اثنتي عشرة، وكذلك قال أبو نعيم، ومعن بن عيسى، ومحمد بن سعد، كاتب الواقدي وغيرهم.
قلت: ولعل مبدأ وقعة اليمامة كان في آخر سنة إحدى عشرة كما قال ابن قانع، ومنتهاها في أوائل سنة اثنتي عشرة، فإنها بقيت أياما لمكان الحصار، وسأعيد ذكرها والشهداء بها في أول سنة اثنتي عشرة.(راشدون/49)
وفاة فاطمة رضي الله عنهما:
وهي سيدة نساء هذه الأمة كنيتها فيما بلغنا أم أبيها دخل بها علي -رضي الله عنه- بعد وقعة بدر، وقد استكملت خمس عشرة سنة أو أكثر.
روى عنها: ابنها الحسين، وعائشة، وأم سلمة، وأنس، وغيرهم.
وقد ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أسر إليها في مرضه وقالت لأنس: كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ولها مناقب مشهورة، وقد جمعها أبو عبد الله الحاكم.
وكانت أصغر من زينب، ورقية، وانقطع نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا منها؛ لأن أمامة بنت بنته زينب تزوجت بعلي، ثم بعده المغيرة بن نوفل، وجاءها منهما أولاد قال الزبير بن بكار: انقرض عقب زينب.
وصح عن المسور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها".
وفي فاطمة وزوجها وبنيها نزلت: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ(راشدون/50)
عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] ، فجللهم رسول الله بكساء، وقال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي". وأخرج الترمذي، من حديث عائشة أنها قيل لها: أي الناس كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: فاطمة من قبل النساء، ومن الرجال زوجها، وإن كان ما علمت صواما قواما.
وفي الترمذي، عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي وفاطمة وابنيهما: "أنا حرب لمن حاربتم سلم لمن سالمتم".
وقد أخبرها أنها سيدة نساء الأمة في مرضه كما تقدم.
وخلفت من الأولاد: الحسن، والحسين، وزينب، وأم كلثوم. فأما زينب فتزوجها عبد الله بن جعفر، فتوفيت عنده وولدت له عونا وعليا. وأما أم كلثوم فتزوجها عمر، فولدت له زيدًا، ثم تزوجها بعد قتل عمر عون بن جعفر فمات، ثم تزوجها أخوه محمد بن جعفر، فولدت له بنته، ثم تزوج بها أخوهما عبد الله بن جعفر، فماتت عنده. قاله الزهري.
وقال الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، قال: قال(راشدون/51)
علي لأمه: اكفي فاطمة الخدمة خارجا، وتكفيك العمل في البيت والعجن والخبز والطحن.
أبو العباس السراج، قال: حدثنا محمد بن الصباح، قال: حدثنا علي بن هاشم، عن كثير النواء، عن عمران بن حصين، أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد فاطمة وهي مريضة فقال لها: "كيف تجدينك"؟ قالتك إني وجعة وإنه ليزيدني أني ما لي طعام آكله، قال: "يا بنية أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين". قالت: فأين مريم؟ قال: "تلك سيدة نساء عالمها، وأنت سيدة نساء عالمك، أما والله لقد زوجتك سيدا في الدنيا والآخرة". هذا حديث ضعيف، وأيضا فقد سقط بين كثير وعمران رجل.
وقال علباء بن أحمر، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم، وآسية". رواه أبو داود.
وقال أبو جعفر الرازي عن ثابت، عن أنس مثله مرفوعا ولفظه: "خير نساء العالمين أربع".
وقال معمر، عن قتادة، عن أنس، يرفعه: حسبك من نساء العالمين أربع، فذكرهن.
ويروى نحوه من حديث أبي هريرة، وغيره.(راشدون/52)
وقال ميسرة بن حبيب، عن المنهال بن عمرو، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة،
قالت: ما رأيت أحدا كان أشبه كلاما وحديثا برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة، وكانت إذا دخلت عليه قام إليها فقبلها ورحب بها كما كانت هي تصنع به، وقد شبهت عائشة مشيتها بمشية النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد كانت وجدت على أبي بكر حين طلبت سهمها من فدك، فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما تركنا صدقة".
وقال أبو حمزة السكري، عن ابن أبي خالد، عن الشعبي، قال: لما مرضت فاطمة -رضي الله عنها- أتاها أبو بكر فاستأذن، فقال علي: يا فاطمة هذا أبو بكر يستأذن عليك، فقالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له، فدخل عليها يترضاها وقال: والله ما تركت الدار والمال والأهل والعشير إلا ابتغاء مرضاة الله ورسوله ومرضاتكم أهل البيت، ثم ترضاها حتى رضيت.
وقال الزهري، عن عروة، عن عائشة، أن فاطمة عاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، ودفنت ليلا.
وقال الواقدي: هذا أثبت الأقاويل عندنا. قال: وصلى عليها العباس، ونزل في حفرتها هو وعلي، والفضل بن العباس.
وقال سعيد بن عفير: ماتت ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من رمضان،(راشدون/53)
وهي بنت سبع وعشرين أو نحوها، ودفنت ليلا.
وقال يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث قال: مكثت فاطمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر وهي تذوب.
وقال أبو جعفر الباقر: ماتت بعد أبيها بثلاثة أشهر.
وروى عن الزهري أنه توفيت بعده بثلاثة أشهر.
وروي عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، قالت: كان بينها وبين أبيها شهران. وهذا غريب.
قلت: والصحيح أن عمرها أربع وعشرون سنة رضي الله عنها وأرضاها.
وقد روي عن أبي جعفر محمد بن علي أنها توفيت بنت ثمان وعرين سنة، كان مولدها وقريش تبني الكعبة، وغسلها علي.
قال قتيبة: حدثنا محمد بن موسى، عن عون بن محمد بن علي بن أبي طالب، عن أمه أم جعفر، وعن عمارة بن مهاجر، عن أم جعفر، أن فاطمة قالت لأسماء بنت عميس: إني أستقبح ما يصنع بالنساء: يطرح على المرأة الثوب فيصفها فقالت: يا ابنة رسول الله ألا أريك شيئا رأيته بالحبشة؟ فدعت بجرائد رطبة فحنتها ثم طرحت عليها ثوبا، فقالت فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله، إذا أنا مت فغسليني أنت وعلي، ولا يدخل أحد علي. فلما توفيت جاءت عائشة تدخل، فقالت أسماء: لا تدخلي، فشكت إلى أبي بكر، فجاء فوقف على الباب فكلم أسماء، فقالت: هي أمرتني، قال: فاصنعي ما أمرتك، ثم انصرف قال ابن عبد البر: فهي أول من غطي نعشها في الإسلام على تلك(راشدون/54)
الصفة.
وفاة عبد الله بن أبي بكر الصديق:
قيل: إنه أسلم قديما، لكن لم يسمع له بمشهد، جرح يوم الطائف، رماه يومئذ بسهم أبو محجن الثقفي، فلم يزل يتألم منه، ثم اندمل الجرح، ثم إنه انتقض عليه، وتوفي في شوال سنة إحدى عشرة، ونزل في حفرته عمر، وطلحة، وعبد الرحمن بن أبي بكر أخوه. ذكره محمد بن جرير وغيره.
وقيل: هو الذي كان يأتي بالطعام وبأخبار قريش إلى الغار تلك الليالي الثلاث.
سنة اثنتي عشرة: وقعة اليمامة:
في أوائلها -على الأشهر- وقعة اليمامة، وأمير المسلمين خالد بن الوليد، ورأس الكفر مسيلمة الكذابن فقتله الله. واستشهد خلق من الصحابة.(راشدون/55)
أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، قيل: اسمه مهشم.
سالم مولى أبي حذيفة بن عتبة، قال الواقدي بإسناده، عن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس، قال: لما انكشف المسلمون يوم اليمامة قال سالم مولى أبي حذيفة: ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحفر لنفسه حفرة، فقام فيها ومعه راية المهاجرين يومئذ، ثم قاتل حتى قتل شهيدا سنة اثنتي عشرة رضي الله عنه.
شجاع بن وهب بن ربيعة الأسدي، أبو وهب، مهاجري بدري، استشهد عن بضع وأربعين سنة.
زبد بن الخطاب بن نفيل العدوي القرشي، أبو عبد الرحمن، وكان أسن من عمر، وأسلم قبله. وجاء أن راية المسلمين يوم اليمامة كانت مع زيد، فلم يزل يتقدم بها في نحر
العدو، ثم قاتل حتى قتل، فأخذها سالم مولى أبي حذيفة. وكان زيد يقول ويصيح: اللهم إني أعتذر إليك من فرار أصحابي وأبرأ إليك مما جاء به مسيلمة ومحكم بن الطفيل.
حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم المخزومي، جد سعيد بن المسيب، قتل يوم اليمامة، وقيل: يوم بزاخة.
عبد الله بن سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود القرشي العامري، أبو سهيل.
استشهد يومئذ وله ثمان وثلاثون سنة.(راشدون/56)
مالك بن عمرو، حليف بني غنم، مهاجري بدري، استشهد يومئذ رضي الله عنه.
الطفيل بن عمرو الدوسي الأزدي، كان يسمى ذا الطفيتين.
يزيد بن رقيش بن رئاب الأسدي، شهد بدرا، وقتل يوم اليمامة.
وممن استشهد يومئذ:
الحكم بن سعيد بن العاص بن أمية الأموي.
والسائب بن عثمان بن مظعون -وهو شاب- أصابه سهم.
ويزيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد الأنصاري، أخو زيد بن ثابت.
ومخرمة بن شريح الحضرمي، حليف بني عبد شمس.
وجبير بن مالك، وأمه بحينة، وهو أخو عبد الله بن مالك من الأزد، وهم حلفاء بني المطلب بن عبد مناف.
والسائب بن العوام بن خويلد الأسدي، أخو الزبير.
ووهب بن حزن بن أبي وهب المخزومي عم سعيد بن المسيب، وأخوه حكيم، وأخوهما عبد الرحمن بن حزن، وأبوهم وقد ذكر.
وعامر بن البكير الليثي حليف بني عدي، وهو أحد من شهد بدرا.
ومالك بن ربيعة، حليف بني عبد شمس.
وأبو أمية صفوان بن أمية بن عمرو، وأخوه مالك المتقدم.
ويزيد بن أوس، حليف بني عبد الدار.(راشدون/57)
وحيي -وقيل: معلى- بن جارية الثقفي.
وحبيب بن أسيد بن جارية الثقفي.
والوليد بن عبد شمس بن المغيرة المخزومي.
وعبد الله بن عمرو بن بجرة العدوي.
وأبو قيس بن الحارث بن قيس السهمي، وعبد الله بن الحارث بن قيس السهمي أخوه، وهما من مهاجرة الحبشة.
وعبد الله بن مخرمة بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر العامري. من المهاجرين الأولين، شهد بدرا والمشاهد، كنيته أبو محمد، وعاش إحدى وأربعين سنة، ومن ذريته نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة.
وعمرو بن أويس بن سعد بن أبي سرح العامري، وسليط بن سليط بن عمرو العامري، وربيعة بن أبي خرشة العامري، وعبد الله بن الحارث بن رحضة؛ من بني عامر.
والسائب بن عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، وأمه خولة بنت حكيم السلمية بنت ضعيفة بنت العاص بن أمية بن عبد شمس، أصابه يوم اليمامة سهم فمات منه.
واستشهد من الأنصار:
عباد بن بشر بن وقش بن زغبة بن زعوراء بن عبد الأشهل الأوسي البدري، أبو الربيع، من فضلاء الصحابة، عاش خمسا وأربعين سنة فلما أسلم سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله.
معن بن عدي بن الجد بن العجلان الأنصاري، أحد حلفاء بني(راشدون/58)
مالك بن عوف.
عبد الله بن عبد الله بن أبي بن مالك بن الحارث بن عبيد بن مالك بن سالم- الذي يقال له: الحبلى لعظم بطنه- بن غنم بن عوف بن الخزرج الأنصاري المعروف بابن سلول، وهي أم أبي بن مالك وكانت خزاعية، وأبوه المنافق المشهور. كان عبد الله من فضلاء الصحابة، وكان اسمه الحباب، وبه كان يكنى أبوه، فلما أسلم سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله.
ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري، من بني الحارث بن الخزرج. لم يشهد بدرا وكان أمير الأنصار في قتال أهل الردة كما ذكرنا، قال ابن إسحاق: قال ثابت بن قيس: بئسما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين، ثم قاتل حتى قتل، وزحف المسلمون حتى ألجؤوهم إلى الحديقة وفيها مسيلمة عدو الله، فقال البراء بن مالك: يا معشر المسلمين ألقوني عليهم، فاحتمل حتى إذا أشرف على الجدار اقتحم إليهم فقاتلهم حتى فتح الحديقة للمسلمين.
أبو دجانة سماك بن خرشة بن لوذان بن عبد ود بن زيد الساعدي، وهو ممن شرك في قتل مسيلمة، وقال ثابت عن أنس، أن أبا دجانة رمى بنفسه إلى داخل الحديقة فانكسرت رجله، فقاتل وهو مكسور الرجل حتى قتل.
عمارة بن حزم بن زيد بن لوذان، من بني مالك بن النجار، وهو أخو عمرو بن حزم.
شهد عمارة العقبة وبدرا، وكانت معه راية بني مالك بن النجار يوم الفتح ولم يعقب.
عقبة بن عامر بن نابئ بن زيد بن حرام السلمي شهد العقبة(راشدون/59)
الأولى، ويجعل في الستة النفر الذ أسلموا بمكة أول الأنصار، وشهد بدرا والمشاهد، وليس له عقب.
ثابت بن هزال من بني سالم بن عوف شهد بدرا في قول جماعة، وقتل يومئذ.
أبو عقيل بن عبد الله بن ثعلبة، من بني جحجبا، اسمه: عبد الرحمن. شهد بدرًا والمشاهد كلها، وكان من سادة الأنصار، أصابه سهم يوم اليمامة فنزعه، وتحزم وأخذ السيف وقاتل حتى قتل، فوجد به جراحات كثيرة.
وممن استشهد يومئذ من الأنصار:
عبد الله بن عتيك، ورافع بن سهل، وحاجب بن يزيد الأشهلي، وسهل بن عدي، ومالك بن أو بن عتيك، وعمير بن أوس أخوه، وطلحة بن عتبة من بني جحجبا، ورباح مولى الحارث، ومعبد بن عدي العجلاني بخلف، وجرو بن مالك بن عامر الأنصاري من بني جحجبا -وقيل: جزء بالزاي- وودقة بن إياس بن عمرو الخزرجي الأنصاري أحد من شهد بدرا، وجرول بن العباس، وعامر بن ثابت، وبشر بن عبد الله الخزرجين وكليب بن تميم، وعبد الله بن عتبان، وإياس بن وديعة، وأسيد بن يربوع، وسعد بن حارثة، وسهل بن حمان، ومخاشن من حمير، وسلمة بن مسعود -وقيل: مسعود بن سنان-(راشدون/60)
وضمرة بن عياض، وعبد الله بن أنيس، وأبو حبة بن غزية المازني، وحبيب بن زيد، وحبيب بن عمرو بن محصن، وثابت بن خالد، وفروة بن النعمان، وعائذ بن ماعص.
قال خليفة: فجميع من استشهد من المهاجرين والأنصار ثمانية وخمسون رجلًا، يعني يوم اليمامة.
وقيل: إن مسيلمة -لعنه الله- قتل عن مائة وخمسين سنة، وكان قد ادعى النبوة، وتسمى برحمان اليمامة فيما قيل: قبل أن يولد عبد الله أبو النبي صلى الله عليه وسلم، وقرآن مسيلمة ضحكة للسامعين.
وقعة جواثا:
بعث الصديق -رضي الله عنه- العلاء بن الحضرمي إلى البحرين، وكانوا قد ارتدوا -إلا نفرا ثبتوا مع الجارود- فالتقوا بجواثا فهزمهم الله.
قال ابن إسحاق: حاصرهم العلاء بجواثا حتى كاد المسلمون يهلكون من الجهد، ثم إنهم سكروا ليلة في حصنهم، فبيتهم العلاء، فقيل: إن عبد الله بن عبد الله بن أبي استشهد يوم جاثا لا يوم اليمامة، شهد بدرا.
وفيها بعث الصديق عكرمة بن أبي جهل إلى عمان وكانوا ارتدوا. وبعث المهاجر بن أبي أمية المخزومي إلى أهل النجير، وكانوا(راشدون/61)
ارتدوا، وبعث زياد بن لبيد الأنصاري إلى طائفة من المرتدة، فقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر أن زيادا بيتهم فقتل ملوكا أربعة: جمدا، ومخوصا ومشرحا، وأبضعة.
وفيها أقام الحج أبو بكر للناس.
وفيها: بعد فراغ قتال أهل الردة بعث أبو بكر الصديق خالد بن الوليد إلى أرض البصرة، وكانت تسمى أرض الهند، فسار خالد بمن معه من اليمامة إلى أرض البصرة، فغزا الأبلة فافتتحها، ودخل ميسان فغنم وسبى من القرى، ثم سار نحو السواد، فأخذ على أرض كسكر وزندورد بعد أن استخلف على البصرة قطبة بن قتادة السدوسي، وصالح خالد أهل أليس على ألف دينار في شهر رجب من السنة، ثم افتتح نهر الملك، وصالحه ابن بقيلة صاحب الحيرة على تسعين ألفا، ثم سار نحو أهل الأنبار فصالحوه.
ثم حاصر عين التمر ونزلوا على حكمه، فقتل وسبى. وقتل من المسلمين بعين التمر:
بشير بن سعد بن ثعلبة أبو النعمان الأنصاري الخزرجي، وكان من كبار الأنصار، شهد بدرا والعقبة. وقيل: إنه أول(راشدون/62)
من أسلم من الأنصار رضي الله عنه.
وفيها لما استحر القتل بقراء القرآن يوم اليمامة أمر أبو بكر بكتابة القرآن زيد بن ثابت، فأخذ يتتبعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، حتى جمعه زيد في صحف.
قال محمد بن جرير الطبري: ولما فرغ خالد من فتوح مدائن كسرى التي بالعراق صلحا، وحربا خرج لخمس بقين من ذي القعدة مكتتما بحجته، ومعه جماعة يعتسف البلاد حتى أتى مكة، فتأتي له من ذلك ما لم يتأت لدليل، فسار طريقا من طرق الحيرة لم ير قط أعجب منه ولا أصعب، فكانت غيبته عن الجند يسيرة، فلم يعلم بحجه أحد إلا من أفضى إليه بذلك.
فلما علم أبو بكر بحجة عتبة وعنفه وعاقبه بأن صرفه إلى الشام، فلما وافاه كتاب أبي بكر عند منصرفه من حجه بالحيرة يأمره بانصرافه إلى الشام حتى يأتي من بها من جموع المسلمين باليرموك، ويقول له: إياك أن تعود لمثلها.
قلت: وإنما جاء الكتاب بأن يسير إلى الشام في أوائل سنة ثلاث عشرة.
قلت: سار خالد بجيشه من العراق إلى الشام في البرية، وكادوا يهلكون عطشا.
قال الواقدي: حدثنا موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبيه، قال: أشار عمر بن الخطاب على أبي بكر أن اكتب إلى خالد بن الوليد يسير بمن معه إلى عمرو بن العاص مددا له، فلما أتى كتاب أبي بكر(راشدون/63)
خالدا، قال: هذا عمل عمر حسدني على فتح العراق وأن يكون على يدي، فأحب أن يجعلني مددا لعمرو، فإن كان فتح كان ذكره له دوني.
سنة ثلاث عشرة:
قال ابن إسحاق: لا قفل أبو بكر -رضي الله عنه- عن الحج بعث عمرو بن العاص قبل فلسطين، ويزيد بن أبي سفيان وأبا عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة، وأمرهم أن يسلكوا على البلقاء.
وروى ابن جرير، قال: قالوا: لما وجه أبو بكر الجنود إلى الشام أول سنة ثلاث عشرة، فأول لواء عقده لواء خالد بن سعيد بن العاص، ثم عزله قبل أن يسير خالد، وقيل: بل عزله بعد أشهر من مسيره، وكتب إلى خالد فسار إلى الشام، فأغار على غسان بمرج راهط، ثم سار فنزل على قناة بصرى، وقدم أبو عبيدة وصاحباه فصالحوا أهل بصرى، فكانت أول ما فتح من مدائن الشام، وصالح خالد في وجه ذلك أهل تدمر.
قال ابن إسحاق: ثم ساروا جميعا قبل فلسطين، فالتقوا بأجنادين بين الرملة، وبيت جبرين، والأمراء كل على جنده، وقيل: إن عمرا كان عليهم جميعا، وعلى الروم القيقلان فقتل، وانهزم المشركون يوم السبت لثلاث من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة. فاستشهد نعيم بن عبد الله بن النحام، وهشام بن العاص، والفضل بن(راشدون/64)
العباس، وأبان بن سعيد.
وقال الواقدي: الثبت عندنا أن أجنادين كانت في جمادى الأولى، وبشر بها أبو بكر وهو بآخر رمق.
وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة قال: قتل من المسلمين يوم أجنادين عمرو، وأبان، وخالد: بنو سعيد بن العاص بن أمية، والطفيل بن عمرو، وعبد الله بن عمرو
الدوسيان، وضرار بن الأزور، وعكرمة بن أبي جهل بن هشام، وسلمة بن هشام بن المغيرة عم عكرمة، وهبار بن سفيان المخزومي، ونعيم بن النحام، وصخر بن نصر العدويان، وهشام بن العاص السهمي، وتميم وسعيد ابنا الحارث بن قيس.
وقال محمد بن سعد: قتل يومئذ طليب بن عمير، وأمه أروى هي عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن أبي الحويرث، قال: برز يوم أجنادين بطريق، فبرز إليه عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب بن هاشم -رضي الله عنه، فقتله عبد الله، ثم برز بطريق آخر فقتله عبد الله بعد محاربة طويلة، فعزم عليه عمرو بن العاص أن لا يبارز، فقال: والله ما أجدني أصبر، فلما اختلطت السيوف وجد مقتولا.
قال الواقدي: عاش ثلاثين سنة، ولا نعلمه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: إنه كان ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين.
قال ابن جرير: قتل يوم أجنادين: الحارث بن أوس بن عتيك، وعثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري. كذا قال ابن جرير.(راشدون/65)
وقعة مرج الصفر:
قال خليفة: كانت لاثنتي عشرة بقيت من جماى الأولى، والأمير خالد بن الوليد قال ابن إسحاق: وعلى المشري يومئذ قلقط، وقتلمن المشركين مقتلة عظيمة وانهزموا.
وروى خليفة عن الوليد بن هشام عن أبيه قال: استشهد يوم مرج الصفر خالد بن سعيد بن العاص، ويقال: أخوه عمرو قتل أيضا، والفضل بن العباس، وعكرمة بن أبي جهل، وأبان بن سعيد يومئذ بخلف.
وقال غيره: قتل يومئذ نميلة بن عثمان الليثي، وسعد بن سلامة الأشهلي، وسلم بن أسلم الأشهلي.
وقيل: إن وقعة مرج الصفر كانت في أول سنة أربع عشرة، والأول أصح.
وقال سعيد بن عبد العزيز: التقوا على النهر عند الطاحونة، فقتلت الروم يومئذ حتى جرى النهر وطحنت طاحونتها بدمائهم فأنزل النصر. وقتلت يومئذ أم حكيم سبعة من الروم بعمود فسطاطها، وكانت تحت عكرمة بن أبي جهل، ثم تزوجها خالد بن سعيد بن العاص.
قال محمد بن شعيب: فلم يقم معها إلا سبعة أيام عند قنطرة أم حكيم بالصفر،(راشدون/66)
وهي بنت الحارث بن هشام المخزومي، ثم تزوجها فيما قيل عمر.
وقعة فحل:
قال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: كانت وقعة فحل في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة.
وعن عبد الله بن عمرو، قال: شهدنا أجنادين ونحن يومئذ عشرون ألفا، وعلينا عمرو بن العاص، فهزمهم الله، ففاءت فئة إلى فحل في خلافة عمر، سار إليهم عمرو في الجيش فنفاهم عن فحل.
وفيها توفي خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق لثمان بقين من جمادى الآخرة، وعهد بالأمر بعده إلى عمر، وكتب له بذلك كتابا.
فأول ما فعل عمر عزل خالد بن الوليد عن إمرة أمراء الشام، وأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، وكتب إليه بعهده، ثم بعث جيشا من المدينة إلى العراق أمر عليهم أبا عبيد بن مسعود الثقفي والد المختار الكذاب، وكان أبو عبيد من فضلاء الصحابة، فالتقى مع أهل العراق كما سيأتي.(راشدون/67)
- سيرة عمر الفاروق رضي الله عنه:
عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي، أمير المؤمنين، أبو حفص القرشي العدوي، الفاروق رضي الله عنه.
استشهد في أواخر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين. وأمه حنتمة بنت هشام المخزومية أخت أبي جهل. أسلم في السنة السادسة من النبوة وله سبع وعشرون سنة.
روى عنه: علي، وابن مسعود، وابن عباس وأبو هريرة، وعدة من الصحابة، وعلقمة بن وقاص، وقيس بن أبي حازم، وطارق بن شهاب، ومولاه أسلم، وزر بن حبيش، وخلق سواهم.
وعن عبد الله بن عمر، قال: كان أبي أبيض تعلوه حمرة، طوالا، أصلع، أشيب.
وقال غيره: كان أمهق طوالا، أصلع آدم، أعسر يسر.
وقال أبو رجاء العطاردي: كان طويلا جسيما، شديد الصلع، شديد الحمرة، وفي عارضيه خفة وسبلته كبيرة وفي أطرافها(راشدون/71)
صهبة، إذا حزبه أمر فتلها.
وقال سماك بن حرب: كان عمر أروح كأنه راكب والناس يمشون، كأنه من رجال بني سدوس. والأروح: الذي يتدانى قدماه إذا مشى.
وقال أنس: كان يخضب بالحناء.
وقال سماك: كان عمر يسرع في مشيته.
ويروى عن عبد الله بن كعب بن مالك، قال: كان عمر يأخذ بيده اليمني أذنه اليسرى، ويثب على فرسه فكأنما خلق على ظهره.
وعن ابن عمر وغيره -من وجوه جيدة- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب". وقد ذكرنا إسلامه في "الترجمة النبوية".
وقال عكرمة: لم يزل الإسلام في اختفاء حتى أسلم عمر.
وقال سعيد بن جبير: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِين} [التحريم: 4] ، نزلت في عمر خاصة.
وقال ابن مسعود: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر.
وقال شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أبو بكر وعمر: إن الناس يزيدهم حرصا على الإسلام أن يروا عليك زيا حسنا من الدنيا فقال: "أفعل، وايم الله لو أنكما تتفقان لي على أمر واحد ما عصيتكما في مشورة أبدا".
وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال(راشدون/72)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لي وزيرين من أهل السماء ووزيرين من أهل الأرض، فوزيراي من أهل السماء جبريل وميكائيل، ووزيراي من أهل الأرض أبو بكر وعمر". وروى نحوه من وجهين عن أبي سعيد الخدري.
قال الترمذي في حديث أبي سعيد: حديث حسن.
قلت: وكذلك حديث ان عباس حسن.
وعن محمد بن ثابت البناني، عن أبيه، عن أنس نحوه.
وفي "مسند أبي يعلى" من حديث أبي ذر يرفعه: "إن لكل نبي وزيرين، ووزيراي أبو بكر وعمر".
وعن أبي سلمة، عن أبي أروى الدوسي، قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلع أبو بكر وعمر، فقال: "الحمد لله الذي أيدني بكما". تفرد به عاصم بن عمر، وهو ضعيف.
وقد مر في ترجمة الصديق أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى أبي بكر وعمر مقبلين، فقال: "هذان سيدا كهول أهل الجنة" ... الحديث.
وروى الترمذي من حديث ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم فدخل المسجد، وأبو بكر وعمر معه وهو آخذ بأيديهما فقال: "هكذا نبعث يوم القيامة". إسناده ضعيف.(راشدون/73)
وقال زائدة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي، عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر".
ورواه سالم أبو العلاء -وهو ضعيف- عن عمرو بن هرم، عن ربعي. وحديث زائدة حسن. وروى عبد العزيز بن المطلب بن حنطب، عن أبيه، عن جده، قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ طلع أبو بكر وعمر، فقال: "هذان السمع والبصر". ويروى نحوه من حديث ابن عمر وغيره.
وقال يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أقرئ عمر السلام وأخبره أن غضبه عز ورضاه حكم". المرسل أصح، وبعضهم يصله عن ابن عباس.
وقال محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إيها يا ابن الخطاب فوالذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك".
وعن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان يفرق من عمر". رواه مبارك بن فضالة، عن عبيد الله بن عمر، عن القاسم، عن عائشة.
وعنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في زفن الحبشة لما أتى عمر: "إن لأنظر إلى شياطين الجن والإنس قد فروا من عمر". صححه الترمذي.(راشدون/74)
وقال حسين بن واقد: حدثني عبد الله بن بريدة، عن أبيه أن أمه سوداء أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رجع من غزاة، فقالت: إني نذرت إن ردك الله صالحًا أن أضرب عندك بالدف، قال: "إن كنت نذرت فافعلي". فضربت، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل عمر فجعلت دفها خلفها وهي مقعية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان ليفرق منك يا عمر".
وقال يحيى بن يمان، عن الثوري، عن عمر بن محمد، عن سالم بن عبد الله، قال: أبطأ خبر عمر على أبي موسى الأشعري، فأتى امرأة في بطنها شيطان فسألها عنه، فقالت: حتى يجيء شيطاني، فجاء فسألته عنه، فقال: تركته مؤتزرًا وذاك رجل لا يراه شيطان إلا خر لمنخريه، الملك بين عينيه وروح القدس ينطق بلسانه.
وقال زر: كان ابن مسعود يخطب ويقول: إني لأحسب الشيطان يفرق من عمر أن يحدث حدثا فيرده، وإني لأحسب عمر بين عينيه ملك يسدده ويقومه.
وقال عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد كان في الأمم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر بن الخطاب". رواه مسلم".
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع الحق على لسان عمر وقلبه".
رواه جماعة عن نافع عنه. وروى نحوه عن(راشدون/75)
جماعة من الصحابة.
وقال الشعبي: قال علي -رضي الله عنه: ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر.
وقال أنس: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي قوله: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُن} [التحريم: 5] .
وقال حيوة بن شريح، عن بكر بن عمرو، عن مشرح، عن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كان بعدي نبي لكان عمر".
وجاء من وجهين مختلفين عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله باهى بأهل عرفة عامة وباهى بعمر خاصة".
ويروى مثله عن ابن عمر، وعقبة بن عامر.
وقال معن القزاز: حدثنا الحارث بن عبد الملك الليثي، عن القاسم بن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبيه، عن عطاء، عن ابن عباسن عن أخيه الفضل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحق بعدي مع عمر حيث كان".
وقال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بينا أنا نائم أتيت(راشدون/76)
بقدح من لبن فشربت منه حتى إني لأرى الري يجري في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر". قالوا: فما أولت ذلك؟ قال: "العلم".
وقال أبو سعيد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك، ومر علي عمر عليه قميص يجره".
قالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: "الدين".
وقال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرحم أمتي أبو بكر، وأشدها في دين الله عمر".
وقال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنة فرأيت قصرا من ذهب فقلت: لمن هذا؟ فقيل: لشاب من قريش فظننت أني أنا هو، فقيل: لعمر بن الخطاب".
وفي الصحيح أيضًا من حديث جابر مثله.
وقال أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة توضأ إلى
"جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر، فذكرت غيرة عمر، فوليت مدبرا".
قال: فبكى عمر، وقال: بأبي أنت يا رسول الله أعليك أغار؟ .(راشدون/77)
وقا الشعبي وغيره: قال علي -رضي الله عنه-: بينما أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع أبو بكر وعمر، فقال: "هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين لا تخبرهما يا علي".
هذا الحديث سمعه الشعبي من الحارث الأعور، وله طرق حسنة عن علي، منها: عاصم، عن زر، وأبو إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، قال الحافظ ابن عساكر: والحديث محفوظ عن علي رضي الله عنه.
قلت: وروى نحوه من حديث أبي هريرة، وابن عمر، وأنس، وجابر.
وقال مجالد عن أبي الوداك، وقاله جماعة عن عطية، كلاهما عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أهل الدرجات العلا ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما".
وعن إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وعن يمينه أبو
بكر وعن يساره عمر، فقال: "هكذا نبعث يوم القيامة". تفرد به سعيد بن مسلمة الأموي وهو ضعيف عن إسماعيل.
وقال علي -رضي الله عنه- بالكوفة على منبرها في ملأ من الناس أيام خلافته: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، وخيرها بعد ابي بكر عمر، ولو شئت أن أسمي الثالث لسميته.
وهذا متواتر عن علي -(راشدون/78)
رضي الله عنه، فقبح الله الرافضة.
وقال الثوري، عن أبي هاشم القاسم بن كثير، عن قيس الخارفي، قال: سمعت عليا يقول: سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى أبو بكر، وثلث عمر، ثم خبطتنا فتنة فكان ما شاء الله.
ورواه شريك، عن الأسود بن قيس، عن عمرو بن سفيان، عن علي مثله.
وقال ابن عيينة، عن زائدة، عن عبد الملك بن عميرة، عن ربعي، عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر".
وكذا رواه سفيان بن حسين الواسطي عن عبد الملك. وكان سفيان ربما دلسه وأسقط منه زائدة. ورواه سفيان الثوري، عن عبد الملك، عن هلال مولى ربعي، عن ربعي.
وقالت عائشة: قال أبو بكر: ما على ظهر الأرض رجل أحب إلي من عمر.
وقالت عائشة: دخل ناس على أبي بكر في مرضه، فقالوا: يسعك أن تولي علينا عمر وأنت ذاهب إلى ربك فماذا تقول له؟ قال: أقول: وليت عليهم خيرهم.
وقال الزهري: أول من حيا عمر بأمير المؤمنين المغيرة بن شعبة.
وقال القاسم بن محمد: قال عمر: ليعلم من ولي هذا الأمر من بعدي أن سيريده عنه القريب والبعيد، أني لأقاتل الناس عن نفسي قتالا،(راشدون/79)
ولو علمت أن أحدا أقوى عليه مني لكنت أن أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أليه.
وعن ابن عباس، قال: لما ولي عمر قيل له: لقد كاد بعض الناس أن يحيد هذا الأمر عنك. قال: وما ذاك؟ قال: يزعمون أنك فظ غليظ. قال: الحمد لله الذي ملأ قلبي لهم رحما وملأ قلوبهم لي رعبا.
وقال الأحنف بن قيس: سمعت عمر يقول: لا يحل لعمر من مال الله إلا حلتين: حلة للشتاء وحلة للصيف، وما حج به واعتمر، وقوت أهلي كرجل من قريش ليس بأغناهم، ثم أنا رجل من المسلمين.
وقال عروة: حج عمر بالناس إمارته كلها.
وقال ابن عمر: ما رأيت أحدا قط بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من حين قبض أجد ولا أجود من عمر.
وقال الزهري: فتح الله الشام كله على عمر، والجزيرة ومصر والعراق كله، ودون الدواوين قبل أن يموت بعام، وقسم على الناس فيئهم.
وقال عاصم بن أبي النجود، عن رجل من الأنصار، عن خزيمة بن ثابت: أن عمر كان إذا استعمل عاملا كتب له، واشترط عليه أن لا يركب برذونا، ولا يأكل نقيا، ولا يلبس رقيقا، ولا يغلق بابه دون ذوي الحاجات، فإن فعل فقد حلت عليه العقوبة.
وقال طارق بن شهاب: إن كان الرجل ليحدث عمر بالحديث فيكذبه الكذبة فيقول: احبس هذه، ثم يحدثه بالحديث فيقول: احبس(راشدون/80)
هذه، فيقول له: كل ما حدثتك حق إلا ما أمرتني أن أحبسه.
وقال ابن مسعود: إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر؛ إن عمر كان أعلمنا بكتاب الله وأفقهنا في دين الله.
وقال ابن مسعودك لو أن علم عمر وضع في كفة ميزان ووضع علم أحياء الأرض في كفة لرجح علم عمر بعلمهم.
وقال شمر، عن حذيفة، قال: كأن علم الناس كان مدسوسا في جحر مع عمر.
وقال ابن عمر: تعلم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة، فلما تعلمها نحر جزورًا.
وقال العوام بن حوشب: قال معاوية: أما أبو بكر فلم يرد الدنيا ولم ترده، وأما عمر فأرادته الدنيا ولم يردها، وأما نحن فتمرغنا فيها ظهرا لبطن.
وقال عكرمة بن خالد، وغيره: إن حفصة وعبد الله وغيرهما كلموا عمر، فقالوا: لو أكلت طعاما طيبا كان أقوى لك على الحق. قال: أكلكم على هذا الرأي؟ قالوا: نعم قال: قد علمت نصحكم ولكني تركت صاحبي على جادة، فإن تركت جادتهما لم أدركهما في المنزل.
قال: وأصاب الناس سنة فما أكل عامئذ سمنا ولا سمينا.
وقال ابن أبي مليكة: كلم عتبة بن فرقد عمر في طعامه، فقال: ويحك آكل طيباتي في حياتي الدنيا وأستمتع بها؟!
وقال مبارك، عن الحسن: دخل عمر على ابنه عاصم وهو يأكل(راشدون/81)
لحما فقال: ما هذا؟ قال: قرمنا إليه. قال: أوكلما قرمت إلى شيء أكلته! كفى بالمرء سرفا أن يأكل كل ما اشتهى.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، قال عمر: لقد خطر على قلبي شهوة السمك الطري، قال: ورحل يرفأ راحلته وسار أربعا مقبلا ومدبرا، واشترى مكتلا فجاء به، وعمد إلى راحلته فغسلها فأتى عمر فقال: انطلق حتى أنظر إلى الراحلة، فنظر وقال: نسيت أن تغسل هذا العرق الذي تحت أذنها، عذبت بهيمة في شهوة عمر، لا والله لا يذوق عمر مكتلك.
وقال قتادة: كان عمر يلبس، وهو خليفة، جبة من صوف مرقوعة بعضها بأدم، ويطوف في الأسواق على عاتقه الدرة يؤدب الناس بها، ويمر بالنكث والنوى فيلقطه في منازل الناس لينتفعوا به.
قال أنس: رأيت بين كتفي عمر أربع رقاع في قميصه.
وقال أبو عثمان النهدي: رأيت على عمر إزارًا مرقوعا بأدم.
وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة: حججت مع عمر، فما ضرب فسطاطا ولا خباء، كان يلقي الكساء والنطع على الشجرة ويستظل تحته.
وقال عبد الله بن مسلم بن هرمز، عن أبي الغادية الشامي، قال: قدم عمر الجابية على جمل أورق تلوح صلعته بالشمس، ليس عليه قلنسوة ولا عمامة، قد طبق رجليه بين شعبتي الرحل بلا ركاب، ووطاؤه كساء أنبجاني من صوف، وهو فراشه إذا نزل، وحقيبته محشوة
ليفا، وهي إذا نزل وساده، وعليه قميص من كرابيس قد دسم وتخرق جيبه، فقال:(راشدون/82)
ادعوا لي رأس القرية، فدعوه له فقال: اغسلوا قميصي وخيطوه وأعيروني قميصا، فأتى بقميص كتان، فقال: ما هذا؟ قيل: كتان قال: وما الكتان؟ فأخبروه فنزع قميصه فغسلوه ورقعوه ولبسه، فقال له رأس القرية: أنت ملك العرب وهذ بلاد لا تصلح فيها الإبل. فأتى ببرذون فطرح عليه قطيفة بلا سرج ولا رحل، فلما سار هنيهة قال: احبسوا، ما كانت أظن الناس يركبون الشيطان، هاتوا جملي.
وقال المطلب بن زياد، عن عبد الله بن عيسى: كان في وجه عمر بن الخطاب خطان أسودان من البكاء.
وعن الحسن، قال: كان عمر يمر بالآية من ورده فيسقط حتى يعاد منها أياما.
وقال أنس: خرجت مع عمر فدخل حائطا فسمعته يقول وبيني وبينه جدار: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخ، والله لتتقين الله بني الخطاب أو ليعذبنك.
وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة: رأيت عمر أخذ تبنة من الأرض، فقال: يا ليتني هذه التبنة، ليتني لم أك شيئا، ليت أمي لم تلدني.
وقال عبيد الله بن عمر بن حفص: إن عمر بن الخطاب حمل قربة على عنقه، فقيل له في ذلك فقال: إن نفسي أعجبتني فأردت أن أذلها.
وقال الصلت بن بهرام، عن جميع بن عمير التيمي، عن ابن عمر، قال: شهدت جلولاء فابتعت من المغنم بأربعين ألفا، فلما قدمت على عمر، قال: أرأيت لو عرضت على النار فقيل لك: افتده، أكنت مفتدي به؟ قلت: والله ما من شيء يؤذيك إلا كنت مفتديك منه، قال: كأني شاهد الناس حين تبايعوا فقالوا: عبد الله بن عمر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم(راشدون/83)
وابن أمير المؤمنين وأحب الناس إليه، وأنت كذلك فكان أن يرخصوا عليك أحب إليهم من أن يغلوا عليك، وإني قاسم مسئول وأنا معطيك أكثر ما ربح تاجر من قريش، لك ربح الدرهم درهم. قال: ثم دعا التجار فابتاعوه منه بأربع مائة ألف درهم، فدفع إلى ثمانين ألفا وبعث بالباقي إلى سعد بن أبي وقاص ليقسمه.
وقال الحسن: رأى عمر جارية تطيش هزالا، فقال: من هذه؟ فقال عبد الله: هذه إحدى بناتك قال: وأي بناتي هذه؟ قال: بنتي قال: ما بلغ بها ما أرى؟ قال: عملك! لا تنفق عليها قال: إني والله ما أعول ولدك فاسع علهم أيها الرجل.
وقال محمد بن سيرين: قدم صهر لعمر عليه، فطلب أن يعطيه عمر من بيت المال فانتهره عمر، وقال: أردت أن ألقى الله ملكا خائنا!؟ فلما كان بعد ذلك أعطاه من صلب ماله عشرة آلاف درهم.
قال حذيفة: والله ما أعرف رجلا لا تأخذه في الله لومة لائم إلا عمر.
وقال حذيفة: كنا جلوسا عند عمر فقال: أيكم يحفظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟
قلت: أنا قال: إنك لجريء، قلت: فتنة الرجل في أهله وماله وولده تكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال: ليس عنها أسألك، ولكن الفتنة التي تموج موج البحر. قلت: ليس عليك منها بأس، إن بينك وبينها بابا مغلقا قال: أيكسر أم يفتح؟ قلت: بل يكسر قال: إذا لا يغلق أبدا قلنا لحذيفة: أكان عمر يعلم من الباب؟
قال: نعم، كما يعلم أن دون غد(راشدون/84)
الليلة، إني حدثته حديثا ليس بالأغاليط فسأله مسروق: من الباب؟ قال: الباب عمر. أخرجه البخاري.
وقال إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: أتى عمر بكنوز كسرى، فقال عبد الله بن الأرقم: أتجعلها في بيت المال حتى تقسمها؟ فقال عمر: لا والله لا آويها إلى سقف حتى أمضيها، فوضعها في وسط المسجد وباتوا يحرسونها، فلما أصبح كشف عنها فرأى من الحمراء والبيضاء ما يكاد يتلألأ، فبكى فقال له أبي: ما يبكيك يا أمير المؤمنين فوالله إن هذا ليوم شكر ويوم سرور! فقال: ويحك إن هذا لم يعطه قوم إلا ألقيت بينهم العداوة والبغضاء.
وقال أسلم مولى عمر: استعمل عمر مولى له على الحمى، فقال: يا هني اضمم جناحك عن المسلمين واتق دعوة المظلوم فإنها مستجابة، وأدخل رب الصريمة والغنيمة، وإياي ونعم ابن عوف ونعم ابن عفان فإنهما إن تهلك ما شيتهما يرجعان إلى زرع ونخل، وإن رب الصريمة والغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتيني ببنيه فيقول: يا أمير المؤمنين! أفتاركهم أنا لا أبا لك! فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والفضة، وايم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتهم، إنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا. أخرجه البخاري.(راشدون/85)
وقال أبو هريرة: دون عمر الديوان، وفرض للمهاجرين الأولين خمسة آلاف خمسة آلاف، وللأنصار أربعة آلاف أربعة آلاف، وأمهات المؤمنين اثني عشر ألفا اثني عشر ألفا.
وقال إبراهيم النخعي: كان عمر يتجر وهو خليفة.
وقال الأعمش، عن أبي صالح، عن مالك الدار، قال: أصاب الناس قحط في زمان عمر فجاء رجل إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسق الله لأمتك، فإنهم قد هلكوا. فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وقال: ائت عمر فأقرئه مني السلام وأخبره أنهم مسقون وقل له: عليك الكيس الكيس، فأتى الرجل فأخبر عمر فبكى، وقال: يا رب ما آلو ما عجزت عنه.
وقال أنس: تقرقر بطن عمر من أكل الزيت عام الرمادة؛ كان قد حرم نفسه السمن، قال: فنقر بطنه بإصبعه، وقال: إنه ليس عندنا غيره حتى يحيا الناس.
وقال الواقدي: حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: لما كان عام الرمادة جاءت العرب من كل ناحية فقدموا المدينة، فكان عمر قد أمر رجالا يقومون بمصالحهم، فسمعته يقول ليلة: "احصوا من يتعشى عندنا". فأحصوهم من القابلة فوجدوهم سبعة آلاف رجل، وأحصوا الرجال المرضى والعيالات فكانوا أربعين ألفا، ثم بعد أيام بلغ الرجال والعيال ستين ألفا، فما برحوا حتى أرسل الله السماء، فلما مطرت رأيت عمر قد وكل بهم يخرجونهم إلى البادية ويعطونهم قوتا وحملانا إلى باديتهم، وكان قد وقع فيهم الموت فأراه(راشدون/86)
مات ثلثاهم، وكانت قدور عمر يقوم إليها المال من السحر يعملون الكركور ويعملون العصائد.
وعن أسلم، قال: كنا نقول: لو لم يرفع الله المحل عام الرمادة لظننا أن عمر يموت.
وقال سفيان الثوري: من زعم أن عليا كان أحق بالولاية من أبي بكر وعمر فقد خطأ أبا بكر وعمر والمهاجرين والأنصار.
وقال شريك: ليس يقدم عليا على أبي بكر وعمر أحد فيه خير.
وقال أبو أسامة: تدرون من أبو بكر وعمر؟ هما أبوا الإسلام وأمه.
وقال الحسن بن صالح بن حيي: سمعت جعفر بن محمد الصادق يقول: أنا بريء ممن ذكر أبا بكر وعمر إلا بخير.
ذكر نسائه وأولاده:
تزوج زينب بنت مظعون، فولدت له عبد الله وحفصة، وعبد الرحمن.
وتزوج مليكة الخزاعية، فولدت له عبيد الله، وقيل: أمه وأم زيد الأصغر أم كلثوم بنت جرول.
وتزوج أم حكيم بنت الحارث بن هشام المخزومية، فولدت له فاطمة.
وتزوج جميلة بنت عاصم بن ثابت فولدت له عاصما.
وتزوج أم كلثوم بنت فاطمة الزهراء وأصدقها أربعين ألفا، فولدت له زيدا ورقية.(راشدون/87)
وتزوج لهية امرأة من المن فولدت له عبد الرحمن الأصغر.
وتزوج عاتكة بنت زيد بن عمر بن نفيل التي تزوجها بعد موته الزبير.
الفتوح في عهده:
وقال الليث بن سعد: استخلف عمر فكان فتح دمشق، ثم كان اليرموك سنة خمس عشرة، ثم كانت الجابية سنة ست عشرة، ثم كانت إيلياء وسرغ لسنة سبع عشرة، ثم كانت الرمادة وطاعون عمواس سنة ثماني عشرة، ثم كانت جلولاء سنة تسع عشرة، ثم كان فتح باب ليون وقيسارية بالشام، وموت هرقل سنة عشرين؛ وفيها فتحت مصر، وسنة إحدى وعشرين فتحت نهاوند، وفتحت الإسكندرية سنة اثنتين وعشرين؛ وفيها فتحت إصطخر وهمذان؛ ثم غزا عمرو بن العاص أطرابلس المغرب؛ وغزوة عمورية، وأمير مصر وهب بن عمير الجمحي، وأمير أهل الشام أبو الأعور سنة ثلاث وعشرين. ثم قتل عمر مصدر الحاج في آخر السنة.
قال خليفة: وقعة جلولاء سنة سبع عشرة.
استشهاده:
وقال سعيد بن المسيب: إن عمر لما نفر من منى أناخ بالأبطح، ثم كوم كومة من بطحاء واستلقى ورفع يديه إلى السماء، ثم قال: "(راشدون/88)
اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط". فما انسلخ ذو الحجة حتى طعن فمات.
وقال أبو صالح السمان: قال كعب لعمر: أجدك في التوراة تقتل شهيدا، قال: وأنى لي بالشهادة وأنا بجزيرة العرب؟.
وقال أسلم، عن عمر أنه قال: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك. أخرجه البخاري.
وقال معدان بن أبي طلحة اليعمري: خطب عمر يوم جمعة وذكر نبي الله وأبا بكر، ثم قال: رأيت كأن ديكا نقرني نقرة أو نقرتين، وإني لا أراه إلا لحضور أجلي، وإن قوما يأمروني أن أستخلف وإن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته، فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض.
وقال الزهري: كان عمر لا يأذن لسبي قد احتلم في دخول المدينة حتى كتب المغيرة بن شعبة، وهو على الكوفة يذكر له غلاما عنده صنعا ويستأذنه أن يدخل المدينة ويقول: إن عنده أعمالا كثيرا فيها منافع للناس: إنه حداد نقاش نجار، فأذن له أن يرسل به، وضرب عليه المغيرة مائة درهم في الشهر، فجاء إلى عمر يشتكي شدة الخراج، قال: ما خراجك بكثير، فانصرف ساخطا يتذمر، فلبث عمر ليالي، ثم دعاه فقال: ألم أخبر أنك تقول: لو أشاء لصنعت رحى تطحن بالريح؟ فالتفت إلى عمر عابسا، وقال: لأصنعن لك رحى يتحدث الناس بها. فلما ولى قال عمر لأصحابه: أوعدني العبد آنفا. ثم اشتمل أبو لؤلؤة(راشدون/89)
على خنجر ذي رأسين نصابه في وسطه، فكمن في زاوية من زوايا المسجد في الغلس.
وقال عمرو بن ميمون الأودي: إن أبا لؤلؤ عبد المغيرة طعن عمر بخنجر له رأسان طعن معه اثنا عشر رجلا، مات منهم ستة، فألقى عليه رجل من أهل العراق ثوبا، فلما اغتم فيه قتل نفسه.
وقال عامر بن عبد الله بن الزبير، قال: جئت من السوق وعمر يتوكأ علي، فمر بنا أبو لؤلؤة، فنظر إلى عمر نظرة ظننت أنه لولا مكاني بطش به، فجئت بعد ذلك إلى المسجد الفجر فإني لبين النائم واليقظان، إذ سمعت عمر يقول: قتلني الكلب، فماج الناس ساعة، ثم إذا قراءة عبد الرحمن بن عوف.
وقال ثابت البناني، عن أبي رافع: كان أبو لؤلؤة عبدا للمغيرة يصنع الأرحاء، وكان المغيرة يستغله كل يوم أربعة دراهم، فلقي عمر، فقال: يا أمير المؤمنين إن المغيرة قد أثقل علي فكلمه، فقال: أحسن إلى مولاك، ومن نية عمر أن يكلم المغيرة فيه، فغضب وقال: يسع الناس كلهم عدله غيري، وأضمر قتله واتخذ خنجرا وشحذه وسمه، وكان عمر يقول:
"أقيموا صفوفكم" قبل أن يكبر، فجاء فقام حذاءه في الصف وضربه في كتفه وفي خاصرته، فسقط عمر، وطعن ثلاث عشر رجلا معه، فمات منهم ستة، وحمل عمر إلى أهله، وكادت الشمس أن تطلع، فصلى ابن عوف بالناس بأقصر سورتين، وأتى عمر بنبيذ فشربه فخرج من جرحه فلم يتبين، فسقوه لبنا فخرج من جرحه، فقالوا: لا بأس عليك، فقال: إن يكن بالقتل بأس فقد قتلت. فجعل الناس يثنون عليه ويقولون: كنت وكنت، فقال: أما والله وددت أني خرجت منها كفافا لا علي ولا لي وأن صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت لي.(راشدون/90)
وأثنى عليه ابن عباس، فقال: لو أن لي طلاع الأرض ذهبا لافتديت به من هول المطلع، وقد جعلتها شورى في عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد. وأمر صهيبا أن يصلي بالناس، وأجل الستة ثلاثا.
وعن عمرو بن ميمون أن عمر قال: "الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام". ثم قال لابن عباس: كنت أنت وأبوك تحبان أن يكثر العلوج بالمدينة. وكان العباس أكثرهم رقيقا.
ثم قال: يا عبد الله! انظر ما علي من الدين، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفا أو نحوها، فقال: إن وفى مال آل عمر فأده من أموالهم وإلا فاسأل في بني عدي، فإن لم تف أموالهم فسل في قريش؛ اذهب إلى أم المؤمنين عائشة فقل: يستأذن عمر أن يدفن مع صاحبيه. فذهب إليها فقالت: كنت أريده -تعني المكان- لنفسي ولأؤثرنه اليوم على نفسي.
قال: فأتى عبد الله، فقال: قد أذنت لك، فحمد الله.
ثم جاءت أم المؤمنين حفصة والنساء يسترنها، فلما رأيناها قمنا، فمكثت عنده ساعة، ثم استأذن الرجال فولجت داخلا ثم سمعنا بكاءها. وقيل له: أوص يا أمير المؤمنين واستخلف.
قال: ما أرى أحدا أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فسمى الستة، وقال: يشهد عبد الله بن عمر معهم وليس لهم من الأمر شيء -كهيئة التعزية له- فإن أصابت الإمرة سعدا فهو ذاك وإلا فليستعن به أيكم ما أمر، فإني لم أعزله من عجز ولا خيانة، ثم قال: أوصي الخليفة من بعدي بتقوى الله، وأوصيه بالمهاجرين والأنصار، وأوصيه بأهل(راشدون/91)
الأمصار خيرًا، في مثل ذلك من الوصية.
فلما توفي خرجنا به نمشي، فسلم عبد الله بن عمر، وقال: عمر يستأذن، فقالت عائشة: أدخلوه فأدخل فوضع هناك مع صاحبيه.
فلما فرغ من دفنه ورجعوا اجتمع هؤلاء الرهط، فقال عبد الرحمن بن عوف: اجعلوا أمركم إلا ثلاثة منكم. فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي، وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن وقال طلحة: قد أمري إلى عثمان. قال: فخلا هؤلاء الثلاثة فقال عبد الرحمن: أنا لا أريدها فأيكما يبرأ من هذا الأمر ونجعله إليه، والله عليه والإسلام، لينظرن أفضلهم في نفسه وليحرصن على صلاح الأمة. قال: فسكت الشيخان علي وعثمان، فقال عبد الرحمن: اجعلوه إلي والله علي لا آلو عن أفضلكم. قالا: نعم، فخلا بعلي وقال: لك من القدم في الإسلام والقرابة ما قد علمت، الله عليك لئن أمرتك لتعدلن ولئن أمرت عليك لتسمعن ولتطيعن، قال: ثم خلا بالآخر فقال له كذلك، فلما أخذ ميثاقهما بايع عثمان وبايعه علي.
وقال المسور بن مخرمة: لما أصبح عمر بالصلاة من الغد، وهو مطعون، فزعوه فقالوا: الصلاة ففزع وقال: نعم ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة. فصلى وجرحه يثعب دما.
وقال النضر بن شميل: حدثنا أبو عامر الخزاز، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، قال: لما طعن عمر جاء كعب فقال: والله لئن دعا أمير المؤمنين ليبعثنه الله وليرفعنه لهذه الأمة حتى يفعل كذا وكذا. حتى ذكر المنافقين فيمن ذكر، قال: قلت: أبلغه ما تقول؟ قال: ما قلت إلا وأنا(راشدون/92)
أريد أن تبلغه، فقمت وتخطيت الناس حتى جلست عند رأسه فقلت: يا أمير المؤمنين، فرفع رأسه فقلت: إن كعبا يحلف بالله لئن دعا أمير المؤمنين ليبقينه الله وليرفعنه لهذه الأمة.
قال: ادعوا كعبا فدعوه، فقال: ما تقول؟ قال: أقول كذا وكذا، فقال: لا والله لا أدعو الله ولكن شقي عمر إن لم يغفر الله له. قال: وجاء صهيب، فقال: وا صفياه وا خليلاه وا عمراه.
فقال: مهلا يا صهيب أو ما بلغك أن المعول عليه يعذب ببعض بكاء أهله عليه.
وعن ابن عباس قال: كان أبو لؤلؤة مجوسيا.
وعن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: قال ابن عمر: يا أمير المؤمنين ما عليك لو أجهدت نفسك ثم أمرت عليهم رجلا؟ فقال عم: أقعدوني. قال عبد الله: فتمنيت أن بيني وبينه عرض المدينة فرقا منه حين قال: أقعدوني، ثم قال: من أمرتم بأفواهكم؟ قلت: فلانا قال: إن تؤمروه فإنه ذو شيبتكم، ثم أقبل على عبد الله، فقال: ثكلتك أمك أرأيت الوليد ينشأ مع الوليد وليدا وينشأ معه كهلا، أتراه يعرف من خلقه؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين قال: فما أنا قائل لله إذا سألني عمن أمرت عليهم فقلت: فلانا، وأنا أعلم منه ما أعلم! فلا والذي نفسي
بيده لأرددنها إلى الذي دفعها إلي أول مرة، ولوددت أن عليها من هو خير مني لا ينقضي ذلك مما أعطاني الله شيئا.(راشدون/93)
وقال سالم بن عبد الله، عن أبيه قال: دخل على عمر عثمان، وعلى والزبير وابن عوف، وسعد -وكان طلحة غائبا- فنظر إليهم ثم قال: إني قد نظرت لكم في أمر الناس فلم أجد عند الناس شقاقا إلا أن يكون فيكم، ثم قال: إن قومكم إنما يؤمرون أحدكم أيها الثلاثة، فإن كنت على شيء من أمر الناس يا عبد الرحمن فلا تحملن بني أبي معيط على رقاب الناس، وإن كنت على شيء من أمر الناس يا عثمان فلا تحملن أقاربك على رقاب الناس، وإن كنت على شيء من أمر الناس يا علي فلا تحملن بني هاشم على رقاب الناس، قوموا فتشاوروا وأمروا أحدكم، فقاموا يتشاورون.
قال ابن عمر: فدعاني عثمان مرة أو مرتين ليدخلني في الأمر ولم يسمني عمر، ولا والله ما أحب أني كنت معهم علما منه بأنه سيكون من أمرهم ما قال أبي، والله لقل ما سمعته حول شفتيه بشيء قط إلا كان حقا، فلما أكثر عثمان دعائي قلت: ألا تعقلون! تؤمرون وأمير المؤمنين حي! فوالله لكأنما أيقظتهم فقال عمر: أمهلوا فإن حدث بي حدث فليصل للناس صهيب ثلاثا ثم أجمعوا في اليوم الثالث أشراف الناس، وأمراء الأجناد فأمروا أحدكم، فمن تأمر عن غير مشورة فاضربوا عنقه.
وقال ابن عمر: كان رأس عمر في حجري، فقال: ضع خدي على الأرض، فوضعته، فقال: ويل لي وويل أمي إن لم يرحمني ربي.
وعن أبي الحويرث، قال: لما مات عمر ووضع ليصلى عليه أقبل علي وعثمان أيهما يصلي عليه، فقال عبد الرحمن: إن هذا لهو(راشدون/94)
الحرص على الإمارة، لقد علمتما ما هذا إليكما ولقد أمر به غيركما، تقدم يا صهيب فصل عليه. فصلى عليه.
وقال أبو معشر، عن نافع عن ابن عمر قال: وضع عمر بين القبر والمنبر، فجاء علي حتى قام بين الصفوف، فقال: رحمة الله عليك ما من خلق أحب إلي من أن ألقى الله بصحيفته بعد صحيفة النبي صلى الله عليه وسلم من هذا المسجى عليه ثوبه. وقد روي نحوه من عدة وجوه عن علي.
وقال معدان بن أبي طلحة: أصيب عمر يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة. وكذا قال زيد بن أسلم وغير واحد.
وقال إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص: إنه دفن يوم الأحد مستهل المحرم.
وقال سعيد بن المسيب: توفي عمر وهو ابن أربع أو خمس وخمسين سنة، كذا رواه الزهري عنه.
وقال أيوب، وعبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: مات عمر وهو ابن خمس وخمسين سنة. وكذا قال سالم بن عبد الله، وأبو الأسود يتيم عروة، وابن شهاب.
وروى أبو عاصم، عن حنظلة، عن سالم، عن أبيه: سمعت عمر قبل أن يموت بعامين أو نحوهما يقول: أنا ابن سبع أو ثمان وخمسين. تفرد به أبو عاصم.
وقال الواقدي: أخبرنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه: توفي عمر وله ستون سنة. قال الواقدي: هذا أثبت الأقاويل، وكذا(راشدون/95)
قال مالك.
وقال قتادة: قتل عمر وهو ابن إحدى وستين سنة.
وقال عامر بن سعد البجلي، عن جرير بن عبد الله أنه سمع معاوية يخطب ويقول: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين، وأبو بكر وعمر وهما ابنا ثلاث وستين.
وقال يحى بن سعيد: سمعت سعيد بن المسيب، قال: قبض عمر وقد استكمل ثلاثا وستين. قد تقدم لابن المسيب قول آخر.
وقال الشعبي مثل قول معاوية.
وأكثر ما قيل قول ابن جريج، عن أبي الحويرث، عن ابن عباس: قبض عمر وهو ابن ست وستين سنة، والله أعلم.(راشدون/96)
الحوادث في خلافة عمر الفاروق:
سنة أربع عشرة:
فيها فتحت دمشق، وحمص، وبعلبك، والبصرة، والأبلة، ووقعة جسر أبي عبيد بأرض نجران، ووقعة فحل بالشام، في قول ابن الكلبي.
فأما دمشق فقال الوليد بن هشام، عن أبيه، عن جده، قال: كان خالد على الناس فصالح أهل دمشق، فلم يفرغ من الصلح حتى عزل وولي أبو عبيدة، فأمضى صلح خالد ولم يغير الكتاب.
وهذا غلظ؛ لأن عمر عزل خالدا حين ولي. قاله خليفة بن خياط، وقال: حدثني عبد الله بن المغيرة، عن أبيه، قال: صالحهم أبو عبيدة على أنصاف كنائسهم ومنازلهم وعلى رؤوسهم، وأن لا يمنعوا من أعيادهم.
وقال ابن الكلبي: كان الصلح يوم الأحد للنصف من رجب سنة أربع عشرة، صالحهم أبو عبيدة.
وقال ابن إسحاق: صالحهم أبو عبيدة في رجب.
وقال ابن جرير: سار أبو عبيدة إلى دمشق، وخالد على مقدمة الناس، وقد اجتمعت الروم على رجل يقال له: باهان بدمشق، وكان عمر عزل خالدا واستعمل أبا عبيدة على الجميع، والتقى المسلمون والروم(راشدون/97)
فيما حول دمشق، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم هزم الله الروم، ودخلوا دمشق وغلقوا أبوابها، ونازلها المسلمون حتى فتحت، وأعطوا الجزية. وكان قدم الكتاب على أبي عبيدة بإمارته وعزل خالد، فاستحيا أبو عبيدة أن يقرئ خالدا الكتاب حتى فتحت دمشق وجرى الصلح على يدي خالد، وكتب الكتاب باسمه فلما صالحت دمشق لحق باهان بصاحب الروم هرقل. وقيل: كان حصار دمشق أربعة أشهر.
وقال محمد بن إسحاق: إن عمر كان واجدا على خالد بن الوليد لقتله ابن نويرة، فكتب إلى أبي عبيدة أن انزع عمامته وقاسمه ماله، فلما أخبره، قال: ما أنا بالذي أعصي أمير المؤمنين، فاصنع ما بدا لك، فقاسمه حتى أخذ نعله الواحدة.
وقال ابن جرير: كان أول محصور بالشام أهل فحل ثم أهل دمشق، وبعث أبو عبيدة ذا الكلاع حتى كان بين دمشق وحمص ردءًا، وحصروا دمشق، فكان أبو عبيدة على ناحية، ويزيد بن أبي سفيان على ناحية، وعمرو بن العاص على ناحية، وهرقل يومئذ على حمص،
فحاصروا أهل دمشق نحوا من سبعين ليلة حصارا شديدا بالمجانيق، وجاءت جنود هرقل نجدة لدمشق، فشغلتها الجنود التي مع ذي الكلاع، فلما أيقن أهل دمشق أن الأمداد لا تصل إليهم فشلوا ووهنوا.
وكان صاحب دمشق قد جاءه مولود فصنع طعاما واشتغل يومئذ، وخالد بن الوليد لا ينام ولا ينيم قد هيأ حبالا كهيئة السلالم، فلما أمسى هيأ أصحابه، وتقدم هو والقعقاع بن عمرو، ومذعور بن عدي وأمثالهم وقالوا: إذا سمعتم تكبيرنا على السور فارقوا إلينا وانهدوا الباب قال:(راشدون/98)
فلما انتهى خالد ورفقاؤه إلى الخندق رموا بالحبال إلى الشرف، وعلى ظهورهم القرب التي سبحوا بها في الخندق، وتسلق القعقاع ومذعور فلم يدعا أحبولة إلا أثبتاها في الشرف، وكان ذلك المكان أحصن مكان بدمشق فاستوى على السور خلق من أصحابه ثم كبروا وانحدر خالد إلى الباب فقتل البوابين، وثار أهل البلد إلى مواقفهم لا يدرون ما الشأن فتشاغل أهل كل جهة بما يليهم، وفتح خالد الباب ودخل أصحابه عنوة، وقد كان المسلمون دعوهم إلى الصلح والمشاطرة فأبوا، فلما رأوا البلاء بذلوا الصلح، فأجابهم من يليهم، وقبلوا فقالوا: ادخلوا وامنعونا من أهل ذاك الباب، فدخل أهل كل باب بصلح ما يليهم، فالتقى خالد والأمراء في وسط البلد، هذا استعراضا ونهبا، وهؤلاء صلحا، فأجروا ناحية خالد على الصلح بالمقاسمة. وكتب إلى عمر بالفتح.
وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن يجهز جيشا إلى العراق نجدة لسعد بن أبي وقاص، فجهز له عشرة آلاف عليهم هاشم بن عتبة، وبقي بدمشق يزيد بن أبي سفيان في طائفة من أمداد اليمن، فبعث يزيد دحية بن خليفة الكلبي في خيل إلى تدمر، وأبا الأزهر إلى البثنية وحوران.
فصالحهم، وسار طائفة إلى بيسان فصالحوا.
وفيها كان سعد بن أبي قاص فيما ورد إلينا على صدقات هوازن، فكتب إليه عمر بانتخاب ذي الرأي والنجدة ممن له سلاح أو فرس، فجاءه كتاب سعد: إني قد انتخبت لك ألف فارس، ثم قدم عليه فأمره على حرب العراق، وجهزه في أربعة آلاف مقاتل، فأبى عليه بعضهم إلا المسير إلى الشام، فجهزهم عمر إلى الشام.(راشدون/99)
ثم إن عمر أمد سعدا بعد مسيره بألف نجدي وألفي يماني، فشتا سعد بزرود، وكان المثنى بن حارثة على المسلمين بما فتح الله من العراق، فمات من جراحته التي جرحها يوم جسر أبي عبيدة، فاستخلف المثنى على الناس بشير بن الخصاصية، وسعد يومئذ بزرود، ومع بشير وفود أهل العراق، ثم سار سعد إلى العراق، وقدم عليه الأشعث بن قيس في ألف وسبع مائة من اليمانيين.
وقعة الجسر:
كان عمر قد بعث في سنة ثلاث عشرة جيشًا، عليهم أبو عبيد الثقفي -رضي الله عنه- فلقي جابان في سنة ثلاث عشرة وقيل: في أول سنة أربع عشرة بين الحيرة والقادسية.
فهزم الله المجوس، وأسر جابان، وقتل مردانشاه، ثم إن جابان فدى نفسه بغلامين وهو لا يعرف أنه المقدم، ثم سار أبو عبيد إلى كسكر فالتقى هو ونرسى فهزمه، ثم لقي جالينوس فهزمه.
ثم إن كسرى بعث ذا الحاجب، وعقد له على اثني عشر ألفا، ودفع إليه سلاحا عظيما، والفيل الأبيض، فبلغ أبا عبيد مسيرهم، فعبر الفرات إليهم وقطع الجسر، فنزل ذو الحاجب قس الناطف، وبينه وبين أبي عبيد الفرات، فأرسل إلى أبي عبيد: إما أن تعبر إلينا وإما أن نعبر إليك. فقال أبو عبيد: نعبر إليكم، فعقد له ابن صلوبا الجسر، وعبر فالتقوا في مضيق في شوال. وقدم ذو الحاجب جالينوس معه الفيل فاقتتلوا أشد قتال، وضرب أبو عبيد مشفر الفيل، وضرب أبو محجن عرقوبه.(راشدون/100)
ويقال: إن أبا عبيد لما رأى الفيل قال:
يا لك من ذي أربع ما أكبرك ... لأضربن بالحسام مشفرك
وقال: إن قتلت فعليكم ابني جبر، فإن قتل فعليكم حبيب بن ربيعة أخو أبي محجن، فإن قتل فعليكم أخي عبد الله، فقتل جميع الأمراء، واستحر القتل في المسلمين فطلبوا الجسر، وأخذ الراية المثنى بن حارثة فحماهم في جماعة ثبتوا معه. وسبقهم إلى الجسر عبد الله بن يزيد فقطعه، وقال: قاتلوا عن دينكم، فاقتحم الناس الفرات، فغرق ناس كثير، ثم عقد المثنى الجسر وعبره الناس.
واستشهد يومئذ فيما قال خليفة: ألف وثمان مائة، وقال سيف: أربعة آلاف ما بين قتيل وغريق.
وعن الشعبي، قال: قتل أبو عبيد في ثمان مائة من المسلمين.
وقال غيره: بقي المثنى بن حارثة الشيباني على الناس وهو جريح إلى أن توفي، واستخلف على الناس ابن الخصاصية كما ذكرنا.
حمص:
وقال أبو مسهر: حدثني عبد الله بن سالم، قال: سار أبو عبيدة إلى حمص في اثني عشر ألفا، منهم من السكون ستة آلاف فافتتحها.
وعن أبي عثمان الصنعاني، قال: لما فتحنا دمشق خرجنا مع أبي الدرداء في مسلحة برزة، ثم تقدمنا مع أبي عبيدة ففتح الله بنا حمص.
وورد أن حمص وبعلبك فتحتا صلحا في أواخر سنة أربع عشرة،(راشدون/101)
وهرب هرقل عظيم الروم من أنطاكية إلى قسطنطينية.
وقيل: إن حمص فتحت سنة خمس عشرة.
البصرة:
وقال علي المدائني عن أشياخه: بعث عمر في سنة أربع عشرة شريح بن عامر أحد بني سعد بن بكر إلى البصرة، وكان ردءا للمسلمين، فسار إلى الأهواز فقتل بدارس، فبعث عمر عتبة بن غزوان المازني في السنة، فمكث أشهرا لا يغزو.
وقال خالد بن عمير العدوي: غزونا مع عتبة الأبلة فافتتحناها ثم عبرنا إلى الفرات، ثم مر عتبة بموضع المربد، فوجد الكذان الغليظ، فقال: هذه البصرة انزلوها باسم الله.
وقال الحسن: افتتح عتبة الأبلة فقتل من المسلمين سبعون رجلا في موضع مسجد الأبلة، ثم عبر إلى الفرات فأخذها عنوة.
وقال شعبة عن عقيل بن طلحة، عن قبيصة، قال: كنا مع عتبة بالخريبة.
وفيها: أمر عتبة بن غزوان محجن بن الأدرع فخط مسجد البصرة الأعظم وبناه بالقصب، ثم خرج عتبة حاجا وخلف مجاشع بن مسعود وأمره بالغزو، وأمر المغيرة بن شعبة أن يصلي بالناس حتى يقدم مجاشع، فمات عتبة في طريق.(راشدون/102)
وأمر عمر المغيرة على البصرة، وبعث جرير بن عبد الله على السواد، فلقي جرير مهران، فقتل مهران، ثم بعث عمر سعدا فأمر جريرا أن يطيعه.
وفيها: ولد عبد الرحمن بن أبي بكر، وهو أول من ولد بالبصرة.
وفيها استشهد جماعة عظيمة، ومات طائفة "منهم":
أوس بن أوس بن عتيك، استشهد يوم جسر أبي عبيد، على يومين من الكوفة بينها وبين نجران.
بشير بن عنبس بن يزد الظفري، شهد أحدا وهو ابن عم قتادة بن النعمان، وكان يعرف بفارس الحواء وهم اسم فرسه، قتل يومئذ.
ثابت بن عتيك من بني عمرو بن مبذول، أنصاري له صحبة، قتل يومئذ.
ثعلبة بن عمرو بن محصن، قتل يوم الجسر، وهو أحد بني مالك بن النجار، وكان بدريا رضي الله عنه.
الحارث بن عتيك بن النعمان، أبو أخزم، قتل يومئذ، وهو من بني النجار، شهدا أحدا، وهو أخو سهل الذي شهد بدرا.
الحارث بن مسعود بن عبدة، له صحبة، وقتل يومئذ.
الحارث بن عدي بن مالك، قتل يومئذ، وقد شهد أحدا، وكلاهما من الأنصار.
خالد بن سعيد بن العاص الأموي، قيل: استشهد يوم مرج الصفر، وأن يوم مرج الصفر كان في المحرم سنة أربع عشرة، وقد ذكر.
خزيمة بن أوس بن خزيمة الأشهلي، يوم الجسر.(راشدون/103)
ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، ورخه ابن قانع.
زيد بن سراقة، يوم الجسر.
سعد بن سلامة بن وقش الأشهلي.
سعد بن عبادة الأنصاري، يقال: مات فيها.
سلمة بن أسلم بن حريش، يوم الجسر.
سلمة بن هشام، يوم مرج الصفر، وقد تقدم.
سليط بن قيس بن عمرو الأنصاري، يوم الجسر.
ضمرة بن غزية، يوم الجسر.
عبد الله، وعبد الرحمن، وعباد، بنو مربع بن قيظي بن عمرو، قتلوا يومئذ.
عقبة، وعبد الله، ابنا قيظي بن قيس. حضرا مع أبيهما يوم جسر أبي عبيد، وقتلا يومئذ.
عمر بن أبي اليسر، يوم الحسر.
قيس بن السكن بن قيس بن زعوراء بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، أبو زيد الأنصاري النجاري، مشهور بكنيته. شهد بدرا، واستشهد يوم جسر أبي عبيد فيما ذكر موسى بن عقبة.
قال الواقدي وابن الكلبي: هو أحد من جع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودليله قول أنس؛ لأنه قال: أحد عمومتي، وكلاهما يجتمعان في حرام. وكذا ساق الكلبي نسب أبي زيد، لكنه جعل عوض زعوراء زيدا، ولا عبرة بقول من قال: إن الذي جمع القرآن أبو زيد(راشدون/104)
سعد بن عبيد الأوسي، فإن قول أنس بن مالك: أحد عمومتي، ينفي قول من قال: هو سعد بن عبيد، لكونه أوسيا. ويؤيده أيضا ما روى قتادة عن أنس، قال: افتخر الحيان الأوس والخزرج، فقالت الأوس: منا غسيل الملائكة حنظلة بن أبي عامر، ومنا الذي حمته الدبر: عاصم بن ثابت، ومنا الذي اهتز لموته العرش سعد بن معاذ، ومنا من أجيزت شهادته بشهادة رجلين خزيمة بن ثابت، فقالت الخزرج: منا أربعة جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبي، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد.
المثنى بن حارثة الشيباني، الذي أخذ الراية وتحيز بالمسلمين يوم الجسر.
نافع بن غيلان، يومئذ.
نوفل بن الحارث يقال: توفي فيها، وكان أسن من عمه العباس.
واقد بن عبد الله، يوم.
هند بنت عتبة بنت ربيعة بن عبد شمس، أم معاوية بن أبي سفيان، توفيت في أول العام.
يزيد بن قيس بن الخطيم -بفتح الخاء المعجمة- الأنصاري الظفري. صحابي شهدا أحدا والمشاهد وجرح يوم أحد عدة جراحات، وأبوه من الشعراء الكبار، قتل يزيد يوم الجسر.
أبو عبيد بن مسعود بن عمرو الثقفي، والد المختار وصفية زوجة ابن عمر.
أسلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستعمله عمر وسيره على جيش(راشدون/105)
كثيف إلى العراق،
وإليه ينسب جسر أبي عبيد، وكانت الواقعة عند هذا الجسر كما ذكرنا، وقتل يومئذ أبو عبيد -رحمه الله، والجسر بين القادسية والحيرة، ولم يذكره أحد في الصحابة إلا ابن عبد البر، ولا يبعد أن يكون له رؤية وإسلام.
أبو قحافة عثمان بن عامر التيمي، في المحرم عن بضع وتسعين سنة، وقد أسلم يوم الفتح فأتى به ابنه أبو بكر الصديق يقوده لكبره وضرره ورأسه كالثغامة فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هلا تركت الشيخ حتى نأتيه"، إكراما لأبي بكر، وقال: "غيروا هذا الشيب وجنبوه السواد".
عبد الله بن صعصعة بن وهب الأنصاري، أحد بني عدي بن النجار، شهد أحدًا وما بعدها، وقتل يوم جسر أبي عبيد، قاله ابن الأثير.
سنة خمس عشرة:
في أولها افتتح شرحبيل بن حسنة الأردن كلها عنوة إلا طبرية فإنهم صالحوه، وذلك بأمر أبي عبيدة.(راشدون/106)
يوم اليرموك:
كانت وقعة مشهودة، نزلت الروم اليرموك في رجب سنة خمس عشرة، وقيل: سنة ثلاث عشرة وأراه وهما، فكانوا في أكثر من مائة ألف، وكان المسلمون ثلاثين ألفا، وأمراء الإسلام أبو عبيدة، ومعه أمراء الأجناد، وكانت الروم قد سلسلوا أنفسهم الخمسة والستة في السلسلة لئلا يفروا، فلما هزمهم الله جعل الواحد يقع في وادي اليرموك، فيجذب من معه في السلسلة حتى ردموا الوادي، واستووا فيما قيل بحافتيه، فداستهم الخيل، وهلك خلق لا يحصون. واستشد يومئذ جماعة من أمراء المسلمين.
وقال محمد بن إسحاق: نزلت الروم اليرموك وهم مائة ألف، عليهم السقلاب، خصي لهرقل.
وقال ابن الكلبي: كانت الروم ثلاث مائة ألف، عليهم ماهان، رجل من أبناء فراس تنصر ولحق بالروم، قال: وضم أبو عبيدة إليه أطرافه، وأمده عمر بسعيد بن عامر بن حذيم، فهزم الله المشركين بعد قتال شديد في خامس رجب سنة خمس عشرة.
وقال سعيد بن عبد العزيز: إن المسلمين -يعني يوم اليرموك- كانوا أربعة وعشرين ألفا، وعليهم أبو عبيدة، والروم عشرون ومائة ألف، عليهم باهان وسقلاب.(راشدون/107)
إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن المسيب، عن أبيه، قال: خمدت الأصوات يوم اليرموك، والمسلمون يقاتلون الروم إلا صوت رجل يقول: "يا نصر الله اقترب، يا نصر الله اقترب"، فرفعت رأسي فإذا هو أبو سفيان بن حرب تحت راية ابنه يزيد بن أبي سفيان.
الواقدي: حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه عن ابن المسيب عن جبير بن الحويرث، قال: حضرت اليرموك فلا أسمع إلا نقف الحديد إلا أني سمعت صائحًا يقول: يا معشر المسلمين يوم من أيام الله أبلوا الله فيه بلاء حسنا، فإذا هو أبو سفيان تحت راية ابنه.
قال سويد بن عبد العزيز، عن حصين، عن الشعبي، عن سويد بن غفلة، قال: لما هزمنا العدو يوم اليرموك أصبنا يلامق ديباج فلبسناها فقدمنا على عمر ونحن نرى أنه يعجبه ذلك، فاستقبلناه وسلمنا عليه، فشتمنا ورجمنا بالحجارة حتى سبقناه نعدو، فقال بعضنا: لقد بلغه عنكم شر، وقال بعض القوم: لعله في زيكم هذا، فضعوه، فوضعنا تلك الثياب وسلمنا عليه، فرحب وساءلنا وقال: إنكم جئتم في زي أهل الكفر، وإنكم الآن في زي أهل الإيمان وإنه لا يصلح من الديباج والحرير إلا هكذا، وأشار بأربع أصابعه.
وعن مالك بن عبد الله، قال: ما رأيت أشرف من رجل رأيته يوم اليرموك إنه خرج إليه علج فقتله، ثم آخر فقتله، ثم آخر فقتله، ثم انهزموا وتبعهم وتبعته، ثم انصرف إلى خباء عظيم له فنزل، فدعا بالجفان ودعا من حوله، قلت: من هذا؟ قالوا: عمرو بن معدي كرب.
وعن عروة: قتل يومئذ النضر بن الحارث بن علقمة العبدري، وعبد الله بن سفيان بن عبد الأسد المخزومي.(راشدون/108)
وقال ابن سعد: قتل يومئذ نعيم بن عبد الله النحام العدوي قلت: وقد ذكر.
وقيل: كان على مجنبة أبي عبيدة يومئذ قباث بن أشيم الكناني الليثي.
ويقال: قتل يومئذ عكرمة بن أبي جهل، وعبد الرحمن بن العوام، وعياش بن أبي ربيعة، وعامر بن أبي وقاص الزهري.
وقعة القادسية:
كانت وقعة القادسية بالعراق في آخر السنة فيما بلغنا، وكان على الناس سعد بن أبي وقاص، وعلى المشركين رستم ومعه الجالينوي، وذو الحاجب.
قال أبو وائل: كان المسلمون ما بين السبعة إلى الثمانية آلاف. ورستم في ستين ألفا، وقيل: كانوا أربعين ألفا، وكان معهم سبعون فيلا.
وذكر المدائني أنهم اقتتلوا قتالا شديدا ثلاثة أيام في آخر شوال، وقيل: في رمضان، فقتل رستم وانهزموا، وقيل: إن رستم مات عطشا، وتبعهم المسلمون فقتل جالينوس وذو الحاجب، وقتلوهم ما بين الخرار إلى(راشدون/109)
السيلحين إلى النجف، حتى ألجؤوهم إلى المدائن، فحصروهم بها حتى أكلو الكلاب، ثم خرجوا على حامية بعيال فساروا حتى نزلوا جلولاء.
قال أبو وائل: اتبعناهم إلى الفرات فهزمهم الله، واتبعناهم إلى الصراة فهزمهم الله، فألجأناهم إلى المدائن.
وعن أبي وائل قال: رأيتني أعبر الخندق مشيا على الرجال، قتل بعضهم بعضا.
وعن حبيب بن صهبان، قال: أصبنا يومئذ من آنية الذهب حتى جعل الرجل يقول: صفراء ببيضاء، يعني ذهبا بفضة.
وقال المدائني: ثم سار سعد من القادسية يتبعهم. فأتاه أهل الحيرة فقالوا: نحن على عهدنا. وأتاه بسطام فصالحه. وقطع سعد الفرات، فلقي جمعا عليهم بصبهرا؛ فقتله زهرة بن حوية، ثم لقوا جمعا بكوثا عليهم الفيرزان فهزموهم، ثم لقوا جمعا كثيرا بدير كعب عليهم الفرخان فهزموهم، ثم سار سعد بالناس حتى نزل المدائن فافتتحها.
وأما محمد بن جرير فإنه ذكر القادسية في سنة أربع عشرة، وذكر أن في سنة خمس عشرة مصر سعد الكوفة؛ وأن فيها فرض عمر الفروض ودون الدواوين، وأعطى العطاء على السابقة.(راشدون/110)
قال: ولما فتح الله على المسلمين غنائم رستم، وقدمت على عمر الفتوح من الشام والعراق جمع المسلمين، فقال: ما يحل للوالي من هذا المال؟ قالوا: أما لخاصته ففوته وقوت عياله لا وكس ولا شطط، وكسوته وكسوتهم، ودابتان لجهاده وحوائجه، وحمالته إلى حجة وعمرته، والقسم بالسوية أن يعطي أهل البلاء على قدر بلائهم، ويرم أمور المسلمين ويتعاهدهم. وفي القوم علي -رضي الله عنه- ساكت، فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: ما أصلحك وأصلح عيالك بالمعروف.
وقيل: إن عمر قعد على رزق أبي بكر حتى اشتدت حاجته، فأرادوا أن يزيدوه فأبى عليهم.
وكان عماله في هذه السنة: عتاب بن أسيد، كذا قال ابن جرير، وقد قدمنا موت عتاب،
قال: وعلى الطائف يعلى بن منية، وعلى الكوفة سعد، وعلى قضائها أبو قرة، وعلى البصرة المغيرة بن شعبة، وعلى اليمامة والبحرين عثمان بن أبي العاص، وعلى عمان حذيفة بن محصن، وعلى ثغور الشام أبو عبيدة بن الجراح.
المتوفون فيها:
سعد بن عبيد بن النعمان، أبو زيد الأنصاري الأوسي.
أحد القراء الذين حفظوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، استشهد(راشدون/111)
بوقعة القادسية، وقيل: إنه ولد عمير بن سعد الزاهد أمير حمص لعمر. شهد سعد بدرا وغيرها، وكان يقال له: سعد القارئ.
وذكر محمد بن سعد أن القادسية سنة ست عشرة، وأنه قتل بها وله أربع وستون سنة.
وقال قيس بن مسلم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن سعد بن عبيد أنه خطبهم، فقال: إنا لاقو العدو غدا وإنا مستشهدون غدا، فلا تغسلوا عنا دما ولا نكفن إلا في ثوب كان علينا.
سعيد بن الحارث بن قيس بن عدي القرشي السهمي، هو وإخوته: الحجاج، ومعبد، وتميم، وأبو قيس، وعبد الله، والسائب، كلهم من مهاجرة الحبشة، ذكرهم ابن سعد.
استشهد أكثرهم يوم اليرموك، ويوم أجنادين رضي الله عنه.
عبد الله بن سفيان.
هذا ابن أخي أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي. له صحبة وهجرة إلى الحبشة ورواية، روى عنه: عمرو بن دينار منقطعا، واستشهد باليرموك.
عمرو بن أم مكتوم الضرير.
كان مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخلفه على المدينة في غير غزوة، قيل: كان اللواء معه يوم القادسية، واستشهد يومئذ.
وقال ابن سعد: رجع إلى المدينة بعد القادسية، ولم نسمع له بذكر بعد عمر.(راشدون/112)
قلت: روى عنه عبد الرحمن بن أبي ليلى، وأبو رزين الأسدي، وله ترجمة طويلة في كتاب ابن سعد.
عمرو بن الطفيل بن عمرو بن طريف، قتل باليرموك.
عياش بن أبي ربيعة عمرو بن المغيرة بن عياش المخزومي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سماه في القنوت ودعا له بالنجاة.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعنه ابنه عبد الله وغيره. وهو أخو أبي جهل لأمه، كنيته: أبو عبد الله. استشهد يوم اليرموك.
فراس بن النضر بن الحارث، يقال: استشهد باليرموك.
قيس بن عدي بن سعد بن سهم، من مهاجرة الحبشة، قتل باليرموك.
قيس بن أبي صعصعة عمرو بن زيد بن عوف الأنصاري المازني.
شهد العقبة وبدرا، وورد له حديث من طريق ابن لهيعة عن حبان بن واسع بن حبان، عن أبيه، عنه، قلت: في كم أقرأ القرآن يا رسول الله؟ قال: "في خمس عشرة"، قلت: أجدني أقوى من ذلك. وفيه دليل على أنه جمع القرآن. وكان أحد أمراء الكراديس يوم اليرموك.
نضير بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي العبدري القرشي.
من مسلمة الفتح ومن حلماء قريش، وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه مائة من الإبل من غنائم حنين، تألفه بذلك. فتوقف في أخذها وقال: لا أرتشي على الإسلام ثم قال: والله ما طلبتها ولا سألتها وهي عطية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذها، وحسن إسلامه، واستشهد يوم اليرموك، وأخوه النضر قتل كافرا في نوبة بدر.(راشدون/113)
سنة ست عشرة:
قيل: كانت وقعة القادسية في أولها، واستشهد يومئذ مائتان، وقيل: عشرون ومائة رجل.
قال خليفة: فيها فتحت الأهواز ثم كفروا، فحدثني الوليد بن هشام، عن أبيه، عن جده، قال: سار المغيرة بن شعبة إلى الأهواز فصالحه البيروان على الفي ألف درهم وثماني مائة ألف درهم، ثم غزاهم الأشعري بعده.
وقال الطبري: فيها دخل المسلمون مدينة بهرشير وافتتحوا المدائن، فهرب منها يزدجرد ابن شهريار.
فلما نزل سعد بن أبي وقاص بهرشير- وهي المدينة التي فيها نزل كسرى- طلب السفن
ليعبر بالناس إلى المدينة القصوى، فلم يقدر على شيء منها، وجدهم قد ضموا السفن، فبقي أياما حتى أتاه أعلاج فدلوه على مخاضة، فأبى، ثم إنه عزم له أن يقتحم دجلة، فاقتحمها المسلمون وهي زائدة ترمي بالزبد، ففجئ أهل فارس أمر لم يكن لهم في حساب، فقاتلوا ساعة ثم انهزموا وتركوا جمهور أموالهم، واستولى(راشدون/114)
المسلمون على ذلك كله، ثم أتوا إلى القصر الأبيض، وبه قوم قد تحصنوا ثم صالحوا.
وقيل: إن الفرس لما رأوا اقتحام المسلمين الماء تحيروا، وقالوا: والله ما نقاتل الإنس ولا نقاتل إلا الجن، فانهزموا.
ونزل سعد القصر الأبيض، واتخذ الإيوان مصلى، وإن فيه لتماثيل جص فما حركها.
ولما انتهى إلى مكان كسرى أخذ يقرأ: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ} [الدخان: 25، 26] .
قالوا: وأتم سعد الصلاة يوم دخلها، وذلك أنه أراد المقام بها، وكانت أول جمعة جمعت بالعراق، وذلك في صفر سنة ست عشرة.
قال الطبري: قسم سعد الفيء بعدما خمسه، فأصاب الفارس اثنا عشر ألفا، وكل الجيش كانوا فرسانا.
وقسم سعد دور المدائن بين الناس وأوطنوها، وجمع سعد الخمس وأدخل فيه كل شيء من ثياب كسرى وحليه وسيفه، وقال للمسلمين: هل لكم أن تطيب أنفسكم عن أربعة أخماس هذا القطف فنبعث به إلى عمر، فيضعه حيث يرى ويقع من أهل المدينة موقعا؟ قالوا: نعم، فبعثه على هيئته. وكان ستين ذراعا في ستين ذراعا بساطا واحدا مقدار جريب، فيه طرق كالصور، وفصوص كالنهار، وخلال ذلك كالدر، في حافاته كالأرض المزروعة، والأرض كالمبقلة بالنبات في الربيع من الحرير على قصبات الذهب. ونواره بالذهب والفضة ونحوه. فقطعه عمر وقسمه بين الناس، فأصاب عليا قطعة منه فباعها بعشرين ألفا.
واستولى المسلمون في ثلاثة أعوام علي كرسي مملكة كسرى،(راشدون/115)
وعلى كرسي مملكة قيصر، وعلى أمي بلادهما. وغنم المسلمون غنائم لم يسمع بمثلها قط من الذهب والجوهر والحرير والرقيق والمدائن، والقصور. فسبحان الله العظيم الفتاح.
وكان لكسرى وقيصر ومن قبلهما من الملوك في دولتهم دهر طويل؛ فأما الأكاسرة والفرس وهم المجوس فملكوا العراق والعجم نحوا من خمس مائة سنة، فأول ملوكهم دارا، وطال عمره فيقال: إنه بقي في الملك مائتي سنة، وعدة ملوكهم خمسة وعشرون نفسا، منهم
امرأتان، وكان آخر القوم يزدجر الذي هلك في زم عثمان، وممن ملك منهم ذو الأكتاف سابور، عقد له بالأمر وهو في بطن أمه؛ لأن أباه مات وهذا حمل، فقال الكهان: هذا يملك الأرض، فوضع التاج على بطن الأم، وكتب منه إلى الآفاق وهو بعد جنين، وهذا شيء لم يسمع بمثله قط، وإنما لقب بذي الأكتاف؛ لأنه كان ينتزع أكتاف من غضب عليه، وهو الذي بنى الإيوان الأعظم، وبنى نيسابور وبنى سجستان.
ومن متأخري ملوكهم أنوشروان، كان حازما عاقلا، كان له اثنتا عشرة ألف امرأة وسرية، وخمسون ألف دابة، وألف فيل إلا واحدا، وولد نبينا صلى الله عليه وسلم في زمان، ثم مات أنوشروان وقت موت عبد المطلب، ولما استولى الصحابة على الإيوان أحرقوا ستره، فطلع منه ألف ألف مثقال ذهبا.
وقعة جلولاء:
في هذه السنة قال ابن جرير الطبري: فقتل الله من الفرس مائة(راشدون/116)
ألف، جللت القتلى المجال وما بين يديه وما خلفه، فسميت جلولاء. وقال غيره: كانت في سنة سبع عشرة. وعن أبي وائل قال: سميت جلولاء لما تجللها من الشر قال سيف: كانت سنة سبع عشرة.
وقال خليفة بن خياط: هرب يزدجرد بن كسرى من المدائن إلى حلوان، فكتب إلى الجبال، وجمع العساكر ووجههم إلى جلولاء، فاجتمع له جمع عظيم، عليهم خرزاد بن جرمهر، فكتب سعد إلى عمر يخبره، فكتب إليه: أقم مكانك ووجه إليهم جيشا، فإن الله ناصرك ومتمم وعده، فعقد لابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص فالتقوا، فجال المسلمون جولة، ثم هزم الله المشركين، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وحوى المسلمون عسكرهم وأصابوا أموالا عظيمة وسبايا، فبلغت الغنائم ثمانية عشر ألف ألف. وجاء عن الشعبي أن فيء جلولاء قسم على ثلاثين ألف ألف. وقال أبو وائل: سميت جلولاء "فتح الفتوح".
وقال ابن جرير: أقام هاشم بن عتبة بجلولاء، وخرج القعقاع بن عمرو في آثار القوم إلى خانقين، فقتل من أدرك منهم، وقتل مهران، وأفلت الفيرزان، فلما بلغ ذلك يزدجرد تقهقر إلى الري.
وفيها: جهز سعد جندا فاتتحوا تكريت واقتسموها، وخمسوا الغنائم، فأصاب الفارس منها ثلاثة آلاف درهم.
وفيها: سار عمر -رضي الله عنهم- إلى الشام وافتتح البيت المقدس،(راشدون/117)
وقدم إلى الجابية -
وهي قصبة حوران- فخطب بهاخطبة مشهورة متواترة عنه. قال زهير بن محمد المروزي: حدثني عبد الله بن مسلم بن هرمز أنه سمع أبا الغادية المزني، قال: قدم علينا عمر الجابية، وهو على جمل أورق، تلوح صلعته للشمس، ليس عليه عمامة ولا قلنسوة، بين عودين، وطاؤه فرو كبش نجدي، وهو فراشه إذا نزل، وحقيبته شملة أو نمرة محشوة ليفا وهي وسادته، عليه قميص قد انخرق بعضه ودسم جيبه. رواه إسماعيل المؤدب. عن ابن هرمز، فقال: عن أبي العالية الشامي.
قنسرين:
وفيها: بعث أبو عبيدة عمرو بن العاص -بعد فراغه من اليرموك- إلى قنسرين، فصالح أهل حلب ومنبج وأنطاكية على الجزية، وفتح سائر بلاد قنسرين عنوة.
وفيها: افتتحت سروج والرها على يدي عياض بن غنم.
وفيا قاله ابن الكلبي: سار أبو عبيدة وعلى مقدمته خالد بن الوليد، فحاصر أهل إيلياء فسألوه الصلح على أن يكون عمر هو الذي يعطيهم ذلك ويكتب لهم أمانا، فكتب أبو عبيدة إلى عمر، فقدم عمر إلى الأرض المقدسة فصالحهم وأقام أياما ثم شخص إلى المدينة.
وفيها: كانت وقعة قرقيسياء، وحاصرها الحارث بن يزيد العامري، وفتحت صلحا.
وفيها: كتب التاريخ في شهر ربيع الأول، فعن ابن المسيب، قال:(راشدون/118)
أول من كتب التاريخ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لسنتين ونصف من خلافته، فكتب لست عشرة من الهجرة بمشورة علي رضي الله عنه.
وفيها ندب لحرب أهل الموصل ربعي بن الأفكل.
سنة سبع عشرة:
يقال: كانت فيها وقعة جلولاء المذكورة.
وفيا: خرج عمر -رضي الله عنه- إلى سرغ، واستخلف على المدينة زيد بن ثابت، فوجد الطاعون بالشام، فرجع لما حدثه عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الطاعون.
وفيها: زاد عمر في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وعمله كما كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيها: كان القحط بالحجاز، وسمي عام المرادة، واستسقى عمر للناس بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيها: كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري بإمرة البصرة، وبأن يسير إلى كور الأهواز، فسار واستخلف على البصرة عمران بن حصين، فافتتح أبو موسى الأهواز صلحا وعنوة، فوظف عمر عليها عشرة آلاف ألف درهم وأربع مائة وجهد زياد في إمرته أن يخلص العنوة من الصلح فما قدر.
قال خليفة: وفيها شهد أبو بكرة، ونافع ابنا الحارث، وشبل بن(راشدون/119)
معبد، وزياد على المغيرة بالزنى ثم نكل بعضهم، فعزله عمر عن البصرة وولاها أبا موسى.
وقال خليفة: حدثنا ريحان بن عصمة، قال: حدثنا عمر بن مرزوق، عن أبي فرقد، قال: كنا مع أبي موسى الأشعري بالأهواز، وعلى خيله تجافيف الديباج.
وفيها: تزوج عمر بأم كلثوم بنت فاطمة الزهراء، وأصدقها أربعين ألف درهم فيما قيل.
سنة ثماني عشرة:
فيها قال ابن إسحاق: استسقى عمر للناس وخرج ومعه العباس، فقال: "اللهم إنا نستسقيك بعم نبيك".
وفيها: افتتح أبو موسى جنديسابور والسوس صلحا، ثم رجع إلى الأهواز.
وفيا: وجه سعد بن أبي وقاص جرير بن عبد الله البجلي إلى حلوان بعد جلولاء، فافتتحها عنوة. ويقال: بل وجه هاشم بن عتبة، ثم انتقضوا حتى ساروا إلى نهاوند، ثم سار هاشم إلى ماه فأجلاهم إلى أذربيجان، ثم صالحوا.
ويقال: فيها افتتح أبو موسى رامهرمز، ثم سار إلى تستر فنازلها.(راشدون/120)
وقال أبو عبيدة بن المثنى: فيها حاصر هرم بن حيان أهل دست هر، فرأى ملكهم امرأة تأكل ولدها من الجوع، فقال: الآن أصالح العرب، فصالح هرما على أن خلى لهم المدينة.
وفيها: نزل الناس الكوفة، وبناها سعد باللبن، وكانوا بنوها بالقصب فوقع بها حريق هائل.
وفيها: كان طاعون عمواس بناحية الأردن، فاستشهد فيه خلق من المسلمين. ويقال: إنه لم يقع بمكة ولا بالمدينة طاعون.
وفيها: افتتح أبو موسى الأشعري الرها وسميساط عنوة.
وفي أوئلها: وجه أبو عبيدة بن الجراح عياض بن غنم الفهري إلى الجزيرة، فوافق أبا
موسى قد قدم من البصرة، فمضيا فافتتحا حران ونصيبين وطائفة من الجزيرة عنوة، وقيل: صلحا.
وفيها: سار عياض بن غنم إلى الموصل فافتتحها ونواحيها عنوة.
وفيها: بني سعد جامع الكوفة.
سنة تسع عشرة:
قال خليفة: فيها فتحت قيسارية، وأمير العسكر معاوية بن أبي سفيان وسعد بن عامر بن حذيم، كل أمير على جنده، فهزم الله المشركين، وقتل منهم مقتلة عظيمة، ورخها ابن الكلبي.
وأما ابن(راشدون/121)
إسحاق فقال: سنة عشرين.
وفيها: كانت وقعة صهاب -بأرض فارس- في ذي الحجة، وعلى المسلمين الحكم بن أبي العاص، فقتل سهرك مقدم المشركين.
قال خليفة: وفيها أسرت الروم عبد الله بن حذافة السهمي.
وقيل: فيها فتحت تكريت.
ويقال: فيها كانت جلولاء، وهي وقعة أخرى كانت بالعجم أو بفارس.
وفيها: وجه عمر عثمان بن أبي العاص إلى أرمينية الرابعة، فكان عندها شيء من قتال، أصيب فيه: صفوان بن المعطل بن رحضة السلمي الذكواني.
وفيها: توفي يزيد بن أبي سفيان في قول، وقد تقدم.
سنة عشرين: فتح مصر:
فيها: فتحت مصر.
روى خليفة -عن غير واحد- وغيره أن فيها كتب عمر إلى(راشدون/122)
عمرو بن العاص أن يسير إلى مصر، فسار وبعث عمر الزبير بن العوام مددا له، ومعه بسر بن أرطأة، وعمير بن وهب الجمحي، وخارجة بن حذافة العدوي، حتى أتى باب أليون فتحصنوا، فافتتحها عنوة وصالحه أهل الحصن، وكان الزبير أول من ارتقى سور المدينة ثم تبعه الناس، فكلم الزبير عمرا أن يقسمها بين من افتتحها، فكتب عمرو إلى عمر، فكتب عمر: أكلة، وأكلات خير من أكلة، أقروها.
وعن عمرو بن العاص أنه قال على المنبر: لقد قعدت مقعدي هذا وما لأحد من قبط مصر علي عهد ولا عقد، إن شئت قتلت، وإن شئت بعت، وإن شئت خمست إلا أهل أنطابلس، فإن لهم عهدا نفي به.
وعن علي بن رباح، قال: المغرب كله عنوة.
وعن ابن عمر قال: افتتحت مصر بغير عهد وكذا قال جماعة.
وقال يزيد بن أبي حبيب: مصر كلها صلح إلا الإسكندرية.
غزوة تستر:
قال الوليد بن هشام القحذمي، عن أبيه وعمه أن أبا موسى لما فرغ من الأهواز، ونهر تيرى، وجنديسابور، ورامهرمز، توجه إلى تستر، فنزل باب الشرقي، وكتب يستمد عمر، فكتب إلى عمار بن ياسر أن أمده، فكتب إلى جرير وهو بحلوان أن سر إلى أبي موسى، فسار في ألف فأقاموا شهرا، ثم كتب أبو موسى إلى عمر: إنهم لم يغنوا(راشدون/123)
شيئا فكتب عمر إلى عمار أن سر بنفسك، وأمده عمر من المدينة.
وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة، قال: أقاموا سنة أو نحوها، فجاء رجل من تستر فقال لأبي موسى: أسألك أن تحقن دمي وأهل بيتي ومالي، على أن أدلك على المدخل، فأعطاه، قال: فابغني إنسانا سابحا ذا عقل يأتيك بأمر بين، فأرسل معه مجزأة بن ثور السدوسي، فأدخل من مدخل الماء ينبطح على بطنه أحيانا ويحبو حتى دخل المدينة وعرف طرقها، وأراه العلج الهرمزان صاحبها، فهم بقتله ثم ذكر قول أبي موسى: "لا تسبقني بأمر". ورجع إلى أبي موسى، ثم إنه دخل بخمسة وثلاثين رجلا كأنهم البط يسبحون، وطلعوا إلى السور وكبروا، واقتتلوا هم ومن عندهم على السور، فقتل مجزأة وفتح أولئك البلد، فتحصن الهرمزان في برج.
وقال قتادة، عن أنس: لم نصل يومئذ الغداة حتى انتصف النهار فما يسرني بتلك الصلاة الدنيا كلها.
وقال ابن سيرين: قتل يومئذ البراء بن مالك.
وقيل: أول من دخل تستر عبد الله بن مغفل المزني.
وعن الحسن، قال: حوصرت تستر سنتين.
وعن الشعبي قال: حاصرهم أبو موسى ثمانية عشر شهرا، ثم نزل الهرمزان على حكم عمر.
فقال حميد، عن أنس: نزل الهرمزان على حكم عمر. فلما انتهينا إليه -يعني إلى عمر- بالهرمزان قال: تكلم قال: كلام حي أو كلام(راشدون/124)
ميت؟ قال: تكلم فلا بأس، قال: إنا وإياكم معشر العرب ما خلى الله بيننا وبينكم، كنا نغصبكم ونقتلكم ونفعل، فلما كان الله معم لم تكن لنا بكم يدان. قال: يا أنس ما تقول؟ قلت: يا أمير المؤمنين تركت بعدي عددا كثيرا وشوكة شديدة، فإن تقتله ييأس القوم من الحياة ويكون أشد لشوكتهم، قال: فأنا أستحيي قاتل البراء ومجزأة بن ثور!؟ فلما أحسست بقتله قلت: ليس إلى قتله سبيل، قد قلت له: تكلم فلا بأس، قال: لتأتيني بمن يشهد به غيرك، فلقيت الزبير فشهد معي، فأمسك عنه عمر، وأسلم الهرمزان، وفرض له عمر، وأقام بالمدينة.
وفيها هلك هرقل عظيم الروم، وهو الذي كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام، وقام بعده ابنه قسطنطين.
وفيها قسم عمر خيبر وأجلى عنها اليهود، وقسم وادي القرى، وأجلى يهود نجران إلى الكوفة. قاله محمد بن جرير الطبري.
سنة إحدى وعشرين:
قيل: فيها فتح عمرو بن العاص الإسكندرية. وقد مرت.
وفيها شكا أهل الكوفة سعد بن أبي وقاص وتعنتوه، فصرفه عمر وولى عمار بن ياسر على الصلاة، وابن مسعود على بيت المال، وعثمان بن حنيف على مساحة أرض السواد.
وفيها: سار عثمان بن أبي العاص فنزل توج ومصرها.(راشدون/125)
وبعث سوار بن المثنى العبدي إلى سابور، فاستشهد، فأغار عثمان بن أبي العاص على سيف البحر والسواحل، وبعث الجارود بن المعلى فقتل الجارود أيضًا.
عن المفضل بن فضالة، عن عياش بن عباس القتباني، وعن غير واحد أن عمرا سار من فلسطين بالجيش من غير أمر عمر إلى مصر فافتتحها، فعتب عمر عليه إذ لم يعلمه، فكتب يستأذن عمر بمناهضة أهل الإسكندرية، فسار عمرو في سنة إحدى وعشرين، وخلف على الفسطاط خارجة بن حذافة العدوي، فالتقى القبط فهزمهم بعد قتال شديد، ثم التقاهم عند الكريون فقاتلوا قتالا شديدا، ثم انتهى إلى الإسكندرية، فأرسل إليه المقوقس يطلب الصلح
والهدنة منه، فأبى عليه، ثم جد في القتال حتى دخلها بالسيف، وغنم ما فيها من الروم، وجعل فيها عسكرا عليهم عبد الله بن حذافة السهمي، وبعث إلى عمر بالفتح، وبلغ الخبر قسنطين بن هرقل فبعث خصيا له يقال له: منويل في ثلاث مائة مركب حتى دخلوا الإسكندرية، فقتلوا بها المسلمين ونجا من هرب، ونقض أهلها، فزحف إليها عمرو في خمسة عشر ألفا، ونصب عليها المجانيق، وجد في القتال حتى فتحها عنوة، وخرب جدرها. رؤي عمرو يخرب بيده. رواه حماد بن سلمة عن أبي عمران، عن علقمة.
نهاوند:
وقال النهاس بن قهم، عن القاسم بن عوف الشيباني، عن السائب بن الأقرع، قال: زحف للمسلمين زحف لم ير مثله قط، زحف لهم(راشدون/126)
أهل ماه وأهل أصبهان وأهل همذان والري وقومس ونهاوند وأذربيجان، قال: فبلغ ذلك عمر -رضي الله عنه- فشاور المسلمين، فقال علي -رضي الله عنه-: أنت أفضلنا رأيا وأعلمنا بأهلك. فقال: لأستعملن على الناس رجلا يكون لأول أسنة يلقاها، يا سائب اذهب بكتابي هذا إلى النعمان بن مقرن، فليسر بثلثي أهل الكوفة، وليبعث إلى أهل البصرة، وأنت على ما أصابوا من غنيمة، فإن قتل النعمان فحذيفة الأمير، فإن قتل حذيفة فجرير بن عبد الله، إن قتل ذلك الجيش فلا أراك.
وروى علقمة بن عبد الله المزني، عن معقل بن يسار أن عمر شاور الهرمزان في أصبهان، وفارس وأذربيجان فأيتهن يبدأ، فقال: يا أمير المؤمنين أصبهان الرأس، وفارس وأذربيجان الجناحان، إن قطعت أحد الجناحين مال الرأس بالجناح الآخر، وإن قطعت الرأس وقع الجناحان، فدخل عمر المسجد فوجد النعمان بن مقرن يصلي فسرحه وسرح مع الزبير بن العوام، وحذيفة بن اليمان، والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن معد يكرب، والأشعث بن قيس، وعبد الله بن عمر، فسار حتى أتى نهاوند، فذكر الحديث إلى أن قال النعمان لما التقى الجمعان: إن قتلت فلا يلوي علي أحد، وإني داعي الله بدعوة فأمنوا ثم دعا: اللهم ارزقني الشهادة بنصر المسلمين والفتح عليهم، فأمن القوم وحملوا فكان النعمان أول صريع.
وروى خليفة بإسناد، قال: التقوا بنهاوند يوم الأربعاء فانكشفت مجنبة المسلمين اليمنى شيئا، ثم التقوا يوم الخميس فثبتت الميمنة وانكشف أهل الميسرة، ثم التقوا يوم الجمعة فأقبل النعمان يخطبهم ويحضهم على الحملة، ففتح الله عليهم.(راشدون/127)
وقال زياد الأعجم: قدم علينا أبو موسى بكتاب عمر إلى عثمان بن أبي العاص: أما
بعد، فإني قد أمددتك بأبي موسى، وأنت الأمير فتطاوعا والسلام، فلما طال حصار إصطخر بعث عثمان بن أبي العاص عدة أمراء فأغاروا على الرساتيق.
وقال ابن جرير في وقعة نهاوند: لما انتهى النعمان إلى نهاوند في جيشه طرحوا له حسك الحديد، فبعث عيونا فساروا لا يعلمون، فزجر بعضهم فرسه وقد دخل في حافره حسكة، فلم يبرح فنزل فإذا الحسك فأقبل بها، وأخبر النعمان فقال النعمان: ما ترون؟ فقالوا: تقهقر حتى يروا أنك هارب فيخرجوا في طلبك فتأخ النعمان وكنست الأعاجم الحسك، وخرجوا فعطف عليهم النعمان وعبأ كتائبه وخطب الناس، وقال: إن أصبت فعليكم حذيفة، فإن أصيب فعليكم جرير البجلي، وإن أصيب فعليكم قيس بن مكشوح، فوجد المغيرة في نفسه إذ لم يستخلفه، قال: وخرجت الأعاجم وقد شدوا أنفسهم في السلاسل لئلا يفروا، وحمل عليهم المسلمون، فرمي النعمان بسهم فقتل، ولفه أخوه سويد بن مقرن ف ثوبه وكتم قتله حتى فتح الله عليهم، ودفع الراية إلى حذيفة.
وقتل الله ذا الحاجب، يعني مقدمهم، وافتتحت نهاوند، ولم يكن للأعاجم بعد ذلك جماعة.
وبعث عمر السائب بن الأقرع مولى ثقيف -وكان كاتبا حاسبا- فقال: إن فتح الله على الناس فاقسم عليهم فيئهم واعزل الخمس. قال السائب: فإني لأقسم بين الناس إذ جاءني أعجمي، فقال: أتؤمنني على(راشدون/128)
نفسي وأهلي على أن أدلك على كنز يكون لك ولصاحبك؟
قلت: نعم، وبعثت معه رجلا، فأتى بسفطين عظيمين ليس فيهما إلا الدر والزبرجد واليواقيت، قال: فاحتملتهما معي، وقدمت على عمر بهما فقال: أدخلهما بيت المال، ففعلت ورجعت إلى الكوفة سريعا، فما أدركني رسول عمر إلا بالكوفة، أناخ بعيره على عرقوب بعيري، فقال: الحق بأمير المؤمنين، فرجعت حتى أتيته، فقال: ما لي ولابن أم السائب، وما لابن أم السائب ولي، قلت: وما ذاك؟ قال: والله ما هو إلا أن نمت، فباتت ملائكة تسحبني إلى ذينك السفطين يشتعلان نارا يقول: "لنكوينك بهما"، فأقول: "إني سأقسمهما بين المسلمين"، فخذهم عني لا أبا لك فالحق بهما فبعهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم، قال: فخرجت بهما حتى وضعتهما في مسجد الكوفة، وغشيني التجار، فابتاعهما مني عمرو بن حريث بألف ألف درهم، ثم خرج بهما إلى أرض العجم فباعهما بأربعة آلاف ألف، فما زال أكثر أهل الكوفة مالا.
وفيها: سار عمرو بن العاص إلى برقة فافتتحها، وصالحهم على ثلاث عشر ألف دينار.
وفيها صالح أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس على أنطاكية وملقية، وغير ذلك.
وأبو هاشم من مسلمة الفتح، حسن إسلامه، وله حديث في سنن النسائي وغيرها. روى عنه: أبو هريرة، وسمرة بن سهم وهو خال معاوية. شهد فتوح الشام.(راشدون/129)
سنة اثنتين وعشرين:
فيها: فتحت أذربيجان على يد المغيرة بن شعبة، قاله ابن إسحاق فيقال: إنه صالحهم على ثمان مائة ألف درهم.
وقال أبو عبيدة: افتتحها حبيب بن مسلمة الفهري بأهل الشام عنوة ومعه أهل الكوفة، وفيهم حذيفة فافتتحها بعد قتال شديد. فالله أعلم.
وفيها: غزا حذيفة مدينة الدينور فافتتحها عنوة، وقد كانت فتحت لسعد ثم انتقضت.
ثم غزا حذيفة ماه سندان فافتتحها عنوة، على خلف في ماه وقيل: افتتحها سعد، فانتقضوا.
وقال طارق بن شهاب: غزا أهل البصرة ماه فأمدهم أهل الكوفة، عليهم عمار بن ياسر، فأرادوا أن يشركوا في الغنائم، فأبى أهل البصرة، ثم كتب إليهم عمر: الغنيمة لمن شهد الوقعة.
وقال أبو عبيدة: ثم غزا حذيفة همذان، فافتتحها عنوة ولم تكن فتحت. وإليها انتهى فتوح حذيفة. وكل هذا في سنة اثنتين.
قال: ويقال: همذان افتتحها المغيرة بن شعبة سنة أربع وعشرين، ويقال: افتتحها جرير بن عبد الله بأمر المغيرة.
وقال خليفة بن خياط: فيها افتتح عمرو بن العاص أطرابلس(راشدون/130)
المغرب ويقال: في السنة التي بعدها.
وفيها: عزل عمار عن الكوفة.
وفيها: افتتحت جرجان.
وفيها: فتح سويد بن مقرن الري، ثم عسكر وسار إلى قومس فافتتحها.
وولد فيها يزيد بن معاوية.
وقال محمد بن جرير: إن عمر أقر على فرج الباب عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي وأمره
بغزو الترك، فسار بالناس حتى قطع الباب، فقال له شهريران: ما تريد أن تصنع؟ قال: أناجزهم في ديارهم، وبالله إن معي لأقواما لو يأذن لنا أميرنا في الإمعان لبلغت بهم السد.
ولما دخل عبد الرحمن على الترك حال الله بينهم وبين الخروج عليه، وقالوا: ما اجترأ على هذا الأمر إلا ومعهم الملائكة تمنعهم من الموت، ثم هربوا وتحصنوا، فرجع بالظفر والغنيمة. ثم إنه غزاهم مرتين في خلافة عثمان فيسلم ويغنم، ثم قاتلهم فاستشهد -أعني عبد الرحمن بن ربيعة -رحمه الله تعالى- فأخذ أخوه سلمان بن ربيعة الراية، وتحيز بالناس، قال: فهم -يعني الترك- يستسقون بجسد عبد الرحمن حتى الآن.
خبر السد:
الوليد: حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة قال: أخبرني رجلان، عن أبي بكرة الثقفي، أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني قد رأيت(راشدون/131)
السد، قال: كيف رأيته؟ قال: رأيته كالبرد المحبر. رواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة مرسلا، وزاد: طريقة سوداء وطريقة حمراء، قال: قد رأيته، قلت: يريد حمرة النحاس وسواد الحديد.
سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، يروى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن يأجوج ومأجوج يحفرونه كل يوم، حتى إذا كادوا أن يروا شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفروه غدا، فيعيده الله كأشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم حفروا، حتى إذا كادوا أن يروا الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه إن شاء الله غدا، فيعودن إليه كهيئته حين تركوه فيحفرونه، فيخرجون على الناس، ويتحصن الناس منهم في حصونهم، فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع فيها كهيئة الدماء، فيقولون: قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء، فيبعث الله نغفا فيقتلهم بها".
ذكر ابن جرير في "تاريخه" من حديث عمرو بن معد يكرب عن مطر بن بلج التميمي، قال: دخلت على عبد الرحمن بن ربيعة بالباب وشهريران عنده، فأقبل رجل عليه شحوبة حتى دخل على عبد الرحمن فجلس إلى شهريران، وكان على مطر قباء برد يمنى أرضه حمراء ووشيه أسود. فتساءلا، ثم إن شهريران، قال: أيها الأمير أتدري من أين جاء هذا الرجل؟ هذا رجل بعثته نحو السد منذ سنتين ينظر ما حاله ومن(راشدون/132)
دونه، وزودته مالا عظيما، وكتبت له إلى من يليني وأهديت له، وسألته أن يكتب له إلى من وراء، وزودته لكل ملك هدية، ففعل ذلك بكل ملك بينه وبينه، حتى انتهى إلى ذلك السد في ظهره، فكتب له إلى عامله على ذلك البلد فأتاه، فبعث معه بأزياره ومعه عقابه وأعطاه حريرة، فلما انتهينا إذا
جبلان، بينهما سد مسدود حتى ارتفع على الجبلين، وإن دون السد خندقا أشد سوادا من الليل لبعده، فنظرت إلى ذلك كله وتفرست فيه، ثم ذهبت لأنصرف، فقال لي البازيار: على رسلك أكافك؛ لأنه لا يلي ملك بعد ملك إلا تقرب إلى الله بأفضل ما عنده من الدنيا فيرمي به هذا اللهب، قال: فشرح بضعة لحم معه وألقاها في ذلك الهواء، وانقضت عليها العقاب، وقال: إن أدركتها قبل أن تقع فلا شيء، فخرج عليه العقاب باللحم في مخاليبه، فإذا قد لصق فيه ياقوتة فأعطانيا وها هي ذه، فتناولها شهريران فرآها حمراء، فتناولها عبد الرحمن ثم ردها، فقال شهريران: إن هذا لخير من هذا -يعني الباب- وأيم الله لأنتم أحب إلي ملكة من آل كسرى، ولو كنت في سلطانهم ثم بلغهم خبرها لانتزعوها مني، وأيم الله لا يقوم لكم شيء ما وفيتم أو وفى ملككم الأكبر.
فأقبل عبد الرحمن على الرسول وقال: ما حال السد وما شبهه؟ فقال: مثل هذا الثوب الذي على مطر، فقال مطر: صدق والله الرجل لقد بعد ورأى ووصف صفة الحديد والصفر.
فقال عبد الرحمن لشهريران: كم كانت قيمة هاتيك؟ قال: مائة ألف في بلادي هذه، وثلاثة آلا ألف في تلك البلدان.
وحدث سلام الترجمان قال: لما رأى الواثق بالله كأن السد الذي(راشدون/133)
بناه ذو القرنين قد فتح وجهني وقال لي: عاينه وجئني بخبره، وضم إلي خمسين رجلان، وزودنا، وأعطانا مائتي بغل تحمل الزاد، فشخصنا من سامراء بكتابه إلى إسحاق وهو بتفليس، فكتب لا إسحاق إلى صاحب السرير، وكتب لنا صاحب السرير إلى ملك اللان، وكتب لنا ملك اللان إلى فيلانشاه، وكتب لنا إلى ملك الخزر، فوجه معنا خمسة أدلاء، فسرنا من عنده ستة وعشرين يوما، ثم صرنا إلى أرض سوداء منتنة، فكنا نشتم الخل، فسرنا فيها عشرة أيام، ثم صرنا إلى مدائن خراب ليس فيها أحد، فسرنا فيها سبعة وعشرين يوما فسألنا الأدلاء عن تلك المدن، فقالوا: هي التي كان يأجوج ومأجوج يطرقونها فأخربوها. ثم صرنا إلى حصون عند السد بها قوم يتكلمون بالعربية والفارسية، مسلمون يقرؤون القرآن، لهم مساجد وكتاتيب فسألونا، فقلنا: نحن رسل أمير المؤمنين، فأقبلوا يتعجبون ويقولون: أمير المؤمنين! فنقول: نعم، فقالوا: أشيخ هو أم شاب؟ قلنا: شاب، قالوا: أين يكون؟ فقلنا: بالعراق بمدينة يقال لها سر من رأى، فقالوا: ما سمعنا بهذا قط.
ثم صرنا إلى جبل أملس ليس عليه خضراء، وإذا جبل مقطوع بواد عرضه مائة ذراع، فرأينا عضادتين مبنيتين مما يلي الجبل من جنبتي الوادي عرض كل عضادة خمسة وعشرون ذراعا، الظاهر من تحتها عشرة أذرع خارج الباب، وكله بناء بلبن من حديد مغيب في نحاس،
في سمك خمسين ذراعا، قد ركب على العضادتين على كل واحد بمقدار عشرة أذرع في عرض خمسة، وفوق الدروند بناء بذلك اللبن الحديد إلى رأس الجبل، وارتفاعه مدى البصر، وفوق ذلك شرف حديد لها قرنان يلج كل واحد منهما إلى صاحبه، وإذا باب حديد له مصراعان مغلقان عرضهما مائة ذراع في طول مائة ضراع في ثخانة خمسة أذرع وعليه قفل طول سبعة أذرع في غلظ باع، وفوقه بنحو قامتين غلق طوله(راشدون/134)
أكثر من طول القفل، وقفيزاه كل واحد منهما ذراعان، وعلى الغلق مفتاح معلق طوله ذراع ونصف، في سلسلة طولها ثمانية أذرع، وهي في حلقة كحلقة المنجنيق.
ورئيس تلك الحصون يركب في كل جمعة في عشرة فوارس، مع كل فارس مرزبة من حديد فيضربون القفل بتلك المرازب ثلاث ضربات، يسمع من وراء الباب الضرب فيعلمون أن هناك حفظة، ويعلم هؤلاء أن أولئك لم يحدثوا في الباب حدثا، وإذا ضربوا القفل وضعوا آذانهم يتسمعون، فيسمعون دويا كالرعد.
وبالقرب من هذا الموضع حصن كبير، ومع الباب حصنان يكون مقدار كل واحد منهما مائتا ذراع، في مائتي ذراع، وعلى باب كل حصن شجرة، وبين الحصنين عين عذبة، وفي أحد الحصنين آلة بناء السد من قدور ومغارف وفضلة اللبن قد التصق بعضه ببعض من الصدإ، وطول اللبنة ذراع ونصف في مثله في سمك شبر. فسألنا أهل الموضع هل رأوا أحدا من يأجوج ومأجوج، فذكروا أنهم رأوا مرة أعدادا منهم فوق الشرف، فهبت ريح سوداء فألقتهم إلى جانبهم، وكان مقدار الرجل منهم شبرا ونصفا، فلما انصرفنا أخذ بنا الأدلاء، إلى ناحية خراسان، فسرنا إليها حتى خرجنا خلف سمرقند بتسعة فراسخ، وكان أصحاب الحصون زودونا ما كفانا.
ثم صرنا إلى عبد الله بن طاهر، قال سلام الترجمان: فأخبرته خبرنا، فوصلني بمائة ألف درهم، ووصل كل رجل معي بخمس مائة درهم، ووصلنا إلى سر من رأى بعد خروجنا منها بثمانية وعشرين شهرا. قال مصنف كتاب "المسالك والممالك": هكذا أملى علي سلام الترجمان.(راشدون/135)
سنة ثلاث وعشرين:
فيها: بينما عمر -رضي الله عنه- يخطب إذ قال: "يا سارية الجبل"، وكان عمر قد بعث سارية بن زنيم الدئلي إلى فسا ودارابجرد فحاصرهم، ثم إنهم تداعوا وجاؤوه من كل ناحية والتقوا بمكان، وكان إلى جهة المسلمين جبل لو استندوا إليه لم يؤتوا إلا من وجه واحد،
فلجؤوا إلى الجبل، ثم قاتلوهم فهزموهم. وأصاب سارية الغنائم فكان منها سفط جوهر، فبعث به إلى عمر فرده وأمره أن يقسمه بين المسلمين، وسأل النجاب أهل المدنة عن الفتح وهل سمعوا شيئا، فقال: نعم "يا سارية الجبل الجبل" وقد كدنا نهلك، فلجأنا إلى الجبل، فكان النصر. ويروى أن عمر -رضي الله عنه- سئل فيما بعد عن كلامه "يا سارية الجبل" فلم يذكره.
وفيها: كان فتح كرمان، وكان أميرها سهيل بن عدي.
وفيها: فتحت سجستان، وأميرها عاصم بن عمرو.
وفيا: فتحت مكران، وأميرها الحكم بن عثمان، وهي من بلاد الجبل.
وفيها: رجع أبو موسى الأشعري من أصبهان، وقد افتتح بلادها.
وفيها: غزا معاوية الصائفة حتى بلغ عمورية.(راشدون/136)
ذكر من توفي في خلافة عمر -رضي الله عنه- مجملا:
الأقرع بن حابس التميمي المجاشعي.
أحد المؤلفة قلوبهم وأحد الأشراف أقطعه أبو بكر، له ولعيينة بن بدر، فعطل عليهما عمر ومحا الكتاب الذي كتب لهما أبو بكر، وكانا من كبار قومهما، وشهد الأقرع مع خالد حرب أهل العراق وكان على المقدمة.
وقيل: إن عبد الله بن عامر استعمله على جيش سيره إلى خراسان فأصيب هو والجيش بالجوزجان وذلك في خلافة عثمان.
وقال ابن دريد: اسمه فراس بن حابس بن عقال، ولقب الأقرع لقرع برأسه.
الحباب بن المنذر بن الجموح، أبو عمرو الأنصاري، أحد بني سلمة بن سعد، وقيل: كنيته أبو عمر، وكان يقال له: ذو الرأي.
أشار يوم بدر على النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل على آخر ماء ببدر ليبقى المشركون على غير ماء، وهو الذي قال يوم سقيفة بني ساعدة: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب منا أمير ومنكم أمير. والجذل: هو عود ينصب للإبل الجربى لتحتك به. والعذق: النخلة، والمرجب: أن تدعم النخلة الكريمة ببناء من حجارة أو خشب إذا خيف عليها لكثرة حملها أن تقع، يقال: رجبتها فهي مرجبة. روى عنه: أبو الطفيل،(راشدون/137)
وتوفي بالمدينة في خلافة عمر.
علقمة بن علاثة بن عوف العامري، الكلابي، من المؤلفة قلوبهم.
أسلم على يد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من أشراف قومه، وكان يكون بتهامة، وقد قدم دمشق قبل فتحها في طلب ميراث له، ووفد على عمر في خلافته. روى عنه: أنس.
علقمة بن مجزز بن الأعور المدلجي.
استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على بعض جيوشه، وولاه الصديق حرب فلسطين، وحضر الجابية مع عمر، ثم سيره عمر في جيش إلى الحبشة في ثلاثة مائة، فغرقوا كلهم، وقيل: كان ذلك في أيام عثمان بن عفان. وأبوه مجزز هو المعروف بالقيافة.
عمرو بن عوف، حليف بني عامر من لؤي من مولدي مكة، سماه ابن إسحاق عمرا، وسماه موسى بن عقبة عميرا. شهد بدرا وأحدا. وروى عنه المسور بن مخرمة حديث قدوم أبي عبيدة بمال من البحرين. أخرجه البخاري، وصلى عليه عمر رضي الله عنه.
عمارة بن الوليد، أخو خالد بن الوليد، المخزومي.
قال الوقادي: حدثني عبد الله بن جعفر، عن ابن أبي عون، قال: لما كان من أمر عمرو بن العاص ما كان بالحبشة، وصنع النجاشي، بعمارة بن الوليد ما صنع، وأمر السواحر فنفخن في إحليله، فهام مع الوحش، فخرج إليه في خلافة عمر عبد الله بن أبي ربيعة ابن عمه فرصده على ماء بأرض الحبشة كان يرده فأقبل في حمر الوحش، فلما وجد ريح(راشدون/138)
الإنس هرب حتى إذا جهده العطش ورد فشرب، قال عبد الله: فالتزمته فجعل يقول: يا بحير أرسلني إني أموت إن أمسكوني. وكان عبد الله يسمى بحيرا، قال: فضبطته فمات في يدي مكانه، فواريته ثم انصرفت، وكان شعره قد غطى كل شيء منه.
غيلان بن سلمة الثقفي: له صحبة ورواية، وهو الذي أسلم وتحته عشر نسوة، وكان شاعرا محسنا وفد قبل الإسلام على كسرى فسأله أن يبني له حصنا في الطائف. أسلم زمن الفتح. روى عنه: ابنه عروة، وبشر بن عاصم.
معمر بن الحارث بن معمر بن حبيب بن وهب الجمحي، أخو حاطب وخطاب، وأمهم قيلة أخت عثمان بن مظعون.
أسلم معمر قبل دخول دار الأرقم، وهاجر، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين معاذ بن عفراء وشهد بدرا.
ميسرة بن مسروق العنسي: شيخ صالح يقال: له صحبة شهد اليرموك، وروى عن أبي عبيدة. وعنه أسلم مولى عمر، ودخل الروم أميرا على ستة آلاف، فوغل فيها وقتل وسبى وغنم فجمعت له الروم، وذلك في سنة عشرين، فواقعهم ونصره الله عليهم، وكانت وقعة عظيمة.
الهرمزان صاحب تستر: قد مر من شأنه في سنة عشرين، وهو من جملة الملوك الذين تحت يد يزدجرد.(راشدون/139)
قال ابن سعد: بعثه أبو موسى الأشعري إلى عمر ومعه اثنا عشر نفسا من العجم، عليهم ثياب الديباج، ومناطق الذه وأساورة الذهب، فقدموا بهم المدينة، فعجب الناس من هيئتهم، فدخلوا فوجدو عمر في المسجد نائما متوسدا رداءه، فقال الهرمزان: هذا ملككم؟
قالوا: نعم قال: أما له حاجب ولا حارس؟ قالوا: الله حارسه حتى يأتيه أجله، قال: هذا الملك الهني.
فقال عمر: الحمد لله الذي أذل هذا وشيعته بالإسلام، ثم قال للوفد: تكلموا. فقال أنس بن مالك: الحمد لله الذي أنجز وعده وأعز دينه وخذل من حاده، وأورثنا أرضهم وديارهم، وأفاء علينا أبناءهم وأموالهم. فبكى عمر ثم قال للهرمزان: كيف رأيت صنيع الله بكم؟ فلم يجبه، قال: مالك لا تتكلم؟ قال: أكلام حي أم كلام ميت؟ قال: أولست حيا! فاستسقى الهرمزان، فقال عمر: لا يجمع عليك القتل والعطش، فأتوه بماء فأمسكه، فقال عمر: اشرب لا بأس عليك، فرمى بالإناء وقال: يا معشر العرب كنتم وأنتم على غير دين نتعبدكم ونقتلكم وكنتم أسوأ الأمم عندنا حالا، فلما كان الله معكم لم يكن لأحد بالله طاقة.
فأمر عمر بقتله، فقال: أولم تؤمني! قال: كيف؟ قال: قلت لي: تكلم لا بأس عليك، وقلت: اشرب لا أقتلك حتى تشربه، فقال الزبير وأنس: صدق قال عمر: قاتله الله أخذ أمانا وأنا لا أشعر، فنزع ما كان عليه، فقال عمر لسراقة بن مالك بن جعشم وكان أسود نحيفا: ألبس سواري الهرمزان، فلبسهما ولبس كسوته.
فقال عمر: الحمد لله الذي سلب كسرى وقومه حليهم وكسوتهم وألبسها سراقة، ثم دعا الهرمزان إلى الإسلام فأبى، فقال علي بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين فرق بين هؤلاء. فحمل عمر الهرمزان وجفينة وغيرهما في البحر، وقال: اللهم اكسر بهم، وأراد أن يسير بهم إلى(راشدون/140)
الشام فكسر بهم ولم يغرقوا فرجعوا فأسلموا، وفرض لهم عمر في ألفين ألفين، وسمى الهرمزان عرفطة.
قال المسور بن مخرمة: رأيت الهرمزان بالروحاء مهلا بالحج مع عمر.
وروى إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن جده، قال: رأيت الهرمزان مهلا بالحج مع عمر، وعليه حلة حبرة.
وقال علي بن زيد بن جدعان عن أنس قال: ما رأيت رجلا أخمص بطنا ولا أبعد ما بين المنكبين من الهرمزان.
عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري: أخبرني سعيد بن المسيب أن عبد الرحمن بن أبي بكر -ولم تجرب عليه كذبة قط- قال: انتهيت إلى الهرمزان وجفينة وأبي لؤلؤة وهم نجى فتبعتهم، وسقط من بينهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه، فقال عبد الرحمن: فانظروا بما قتل عمر، فنظروا بما قتل عمر، فنظروا فوجدوه خنجرا على تلك الصفة، فخرج عبيد الله بن عمر بن الخطاب مشتملا على السيف حتى أتى الهرمزان، فقال: اصحبني ننظر فرسًا لي -وكان بصيرا بالخيل- فخرج يمشي بين يديه فعلاه عبيد الله بالسيف، فلما وجد حد السيف قال: لا إله إلا الله فقتله. ثم أتى جفينة وكان نصرانيا، فلما أشرف له علاه بالسيف فصلب بين عينيه. ثم أتى بنت أبي لؤلؤة جارية صغيرة تدعي الإسلام فقتلها، وأظلمت الأرض يومئذ على أهلها، ثم أقبل بالسيف صلتا في يده وهو يقول: والله لا أترك المدينة سبيا إلا قتلته وغيرهم، كأنه يعرض بناس من المهاجرين، فجعلوا يقولون له: ألق السيف فأبى ويهابونه أن يقربوا منه حتى أتاه عمرو بن العاص فقال: أعطني السيف يا ابن أخي. فأعطاه إياه، ثم ثار إليه عثمان فأخذ(راشدون/141)
برأسه فتناصيا حتى حجز الناس بينهما، فملا ولي عثمان، قال: أشيروا علي في هذا الذي فتق في الإسلام ما فتق، فأشار المهاجرون بقتله، وقال جماعة الناس: قتل عمر بالأمس ويتبعونه ابنه اليوم! أبعد الله الهرمزان وجفينة، فقال عمرو: إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الأمر في ولايتك فاصفح عنه، فتفرق الناس على قولم عمرو، وودى عثمان الرجلين والجارية.
رواه ابن سعد عن الواقدي عن معمر، وزاد فيه: كان جفينة من نصارى الحيرة وكان ظئرا لسعد بن أبي وقاص يعلم الناس الخط بالمدينة، وقال فيه: وما أحسب عمرا كان يومئذ بالمدينة بل بمصر إلا أن يكون قد حج، قال: وأظلمت الأرض فعظم ذلك في النفوس وأشفقوا أن تكون عقوبة.
وعن أبي وجزة، عن أبيه قال: رأيت عبيد الله يومئذ وإنه ليناصي عثمان، وعثمان يقول له: قاتلك الله قتلت رجلا يصلي وصبية صغيرة وآخر له ذمة، ما في الحق تركك. وبقى عبيد الله بن عمر وقتل يوم صفين مع معاوية.
معمر، عن الزهري: أخبرني حمزة بن عبد الله بن عمر أن أباه قال: يرحم الله حفصة إن كانت لمن شيع عبيد الله على قتل الهرمزان وجفينة.
قال معمر: بلغنا أن عثمان قال: أنا ولي الهرمزان وجفينة والجارية، وإني قد جعلتها دية.
وذكر محمد بن جرير الطبري بإسناد له أن عثمان أقاد ولد(راشدون/142)
الهرمزان من عبيد الله، فعفا ولد الهرمزان عنه.
هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس العبشمية، أم معاوية بن أبي سفيان.
أسلمت زمن الفتح وشهدت اليرموك، وهي القائلة للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطي ما يكفيني وولدي، قال: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف".
وكان زوجها قبل أبي سفيان حفص بن المغيرة عم خالد بن الوليد، وكان من الجاهلية.
وكانت هند من أحسن نساء قريش وأعقلهن، ثم إن أبا سفيان طلقا في آخر الأمر، فاستقرضت من عمر من بيت المال أربعة آلاف درهم، فخرجت إلى بلاد كلب فاشترت وباعت. وأتت ابنها معاوية وهو أمير على الشام لعمر، فقالت: أي بني إنه عمر وإنما يعمل لله ولها شعر جيد.
واقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عزيز الحنظلي اليربوعي، حليف بني عدي.
من السابقين الأولين، أسلم قبل دار الأرقم، وشهد بدرا والمشاهد كلها، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين بشر بن البراء بن معرور، وكان واقد في سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة، فقتل واقد عمرو بن الحضرمي، فكانا أول قاتل ومقتول في الإسلام. وتوفي واقد في خلافة عمر.
أبو خراش الهذلي الشاعر، اسمه خويلد بن مرة، من بني قرد بن عمرو الهذلي.
وكان أبو خراش ممن يعدو على قدميه فيسبق الخيل، وكان في الجاهلية من فتاك العرب ثم أسلم.(راشدون/143)
قال ابن عبد البر: لم يبق عربي بعد حنين والطائف إلا أسلم، فمنهم من قدم ومنهم من لم يقدم، وأسلم أبو خراش وحسن إسلامه. وتوفي زمن عمر، أتاه حجاج فمشى إلى الماء ليملأ لهم فنهشته حية، أقبل مسرعا فأعطاهم الماء وشاة وقدرا ولم يعلمهم بما تم له، ثم أصبح وهو في الموت، فلم يبرحوا حتى دفنوه.
أبو ليلى المازني، واسمه عبد الرحمن بن كعب بن عمرو.
شهد أحدا وما بعدها، وكان أحد البكائين الذين نزل فيهم: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] .
أبو محجن الثقفي: في اسمه أقوال قدم مع وفد ثقيف فأسلم، ولا رواية له، وكان فارس ثقيف في زمانه إلا أنه كان يدمن الخمر زمان وكان أبو بكر -رضي الله عنه- يستعين به وقد جلد مرارا، وحتى إن عمر نفاه إلى جزيرة، فهرب ولحق بسعد بن أبي وقاص بالقادسية، فكتب عمر إلى سعد فحبسه. فلما كان يوم قس الناطف، والتحم القتال سأل أبو محجن من امرأة سعد أن تحل قيده وتعطيه فرسا لسعد، وعاهدها إن سلم أن يعود إلى القيد، فحلته وأعطته فرسا فقاتل وأبلى بلاء جميلا ثم عاد إلى قيده.
قال ابن جرير: بلغني أنه حد في الخمر سبع مرات.
وقال أيوب، عن ابن سيرين، قال: كان أبو محجن لا يزال يجلد في الخمر، فلما أكثر سجنوه، فلماكان يوم القادسية رآهم فكلم أم ولد سعد فأطلقته وأعطته فرسا وسلاحا، فجعل لا يزال يحمل على رجل(راشدون/144)
فيقتله ويدق صلبه، فنظر إليه سعد فبقي يتعجب ويقول: من الفارس؟ فلم يلبثوا أن هزمهم ورجع أبو محجن وتقيد، فجاء سعد وجعل يخبر المرأة ويقول: لقينا ولقينا، حتى بعث الله رجلا على فرس أبلق لولا أني تركت أبا محجن في القيود لظننت أنها بعض شمائله قالت: والله إنه لأبو محجن، وحكت له، فدعا به وحل قيوده، وقال: لا نجلدك على خمر أبدا فقال: وأنا والله لا أشربها أبدا، كنت آنف أن أدعها لجلدكم، فلم يشربها بعد.
روى نحوه أبو معاوية الضرير، عن عمرو بن مهاجر، عن إبراهيم بن محمد بن سعد، عن أبيه قال: لما كان يوم القادسية أتى بأبي محجن سكران فقيده سعد، وذكر الحديث.
ونقل أهل الأخبار أن أبا محجن هو القائل:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
فزعم الهيثم بن عدي أنه أخبره من رأى قبر أبي محجن بأذربيجان -أو قال: في نواحي جرجان- وقد نبتت عليه كرمة وظللت وأثمرت، فعجب الرجل وتذكر شعره.(راشدون/145)
- سيرة ذي النورين عثمان رضي الله عنه:
عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، أمير المؤمنين، أبو عمرو، وأبو عبد الله، القرشي الأموي.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الشيخين.
قال الداني: عرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم. وعرض عليه أبو عبد الرحمن السلمي، والمغيرة بن أبي شهاب، وأبو الأسود، وزر بن جيش.
روى عنه بنوه: أبان وسعيد وعمرو، ومولاه حمران، وأنس، وأبو أمامة بن سهل، والأحنف بن قيسن وسعيد بن المسيب، وأبو وائل، وطارق بن شهاب، وعلقمة، وأبو عبد الرحمن السلمي، ومالك بن أوس بن الحدثان، وخلق سواهم.
أحد السابقين الأولين، وذو النورين، وصاحب الهجرتين، وزوج الابنتين. قدم الجابية مع عمر. وتزوج رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل المبعث، فولدت له عبد الله، وبه كان يكنى، وبابنه عمرو.
وأمه أروى بنت كريز بن حبيب بن عبد شمس، وأمها البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم فهاجر برقية إلى الحبشة، وخلفه النبي صلى الله عليها(راشدون/149)
في غزوة بدر ليداويها في مرضها، فتوفيت بعد بدر بليال، وضرب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهمه من بدر وأجره، ثم زوجه بالبنت الأخرى أم كلثوم.
ومات ابنه عبد الله، وله ست سنين، سنة أربع من الهجرة.
وكان عثمان فيما بلغنا لا بالطويل، ولا بالقصير، حسن الوجه كبير اللحية أسمر اللون عظيم الكراديس بعيد ما بين المنكبين يخضب بالصفرة، وكان قد شد أسنانه بالذهب.
وعن أبي عبد الله مولى شداد، قال: رأيت عثمان يخطب، وعليه إزار غليظ ثمنه أربعة دراهم، وريطة كوفية ممشقة، ضرب اللحم -أي خفيفه- طويل اللحية، حسن الوجه.
وعن عبد الله بن حزم، قال: رأيت عثمان فما رأيت ذكرا ولا أنثى أحسن وجها منه.
عن الحسن قال: رأيته وبوجهه نكتات جدرى، وإذا شعره قد كسا ذراعيه.
وعن السائب، قال: رأيته يصفر لحيته، فما رأيت شيخا أجمل منه.
وعن أبي ثور الفهمي قال: قدمت على عثمان فقال: لقد(راشدون/150)
اختبأت عند ربي عشرا:
إني لرابع أربعة في الإسلام، وما تعتيت ولا تمنيت، ولا وضعت يميني على فرجي منذ بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مرتب بي جمعة منذ أسلمت إلا وأنا أعتق فيها رقبة، إلا أن لا يكون عندي فأعتقها بعد ذلك، ولا زنيت في جاهلية ولا إسلام قط.
وعن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنا نشبه عثمان بأبينا إبراهيم صلى الله عليه وسلم".
وعن عائشة نحوه إن صحا.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى عثمان عند باب المسجد، فقال: "يا عثمان هذا جبريل يخبرني أن الله زوجك أم كلثوم بمثل صداق رقية، وعلى مثل صحبتها". أخرجه ابن ماجه.
ويروى عن أنس أو غيره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أبو أيم، ألا أخو أيم يزوج
عثمان، فإني قد زوجته ابنتين، ولو كان عندي ثالثة لزوجته وما زوجته إلا بوحي من السماء".
وعن الحسن قال: إنما سمي عثمان "ذا النورين"؛ لأنا لا نعلم أحدا أغلق بابه على ابنتي نبي غيره.(راشدون/151)
وروى عطية، عن أبي سعيد، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعا يديه يدعو لعثمان.
وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه، حين جهز جيش العسرة، فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يقلبها بيده ويقول: "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم". رواه أحمد في "مسنده" وغيره.
وفي "مسند أبي يعلى"، من حديث عبد الرحمن بن عوف أنه جهز جيش العسرة بسبع مائة أوقية من ذهب.
وقال خليد، عن الحسن قال: جهز عثمان بسبع مائة وخمسين ناقة، وخمسين فرسا، يعني في غزوة تبوك.
وعن حبة العرني، عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله عثمان تستحييه الملائكة".
وقال المحاربي، عن أبي مسعود، عن بشر بن بشير الأسلمي، عن أبيه، قال: لما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء، وكانت لرجل من بني غفار عين يقال لها: رومة، وكان يبيع منها القرية بمد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تبيعها بعين في الجنة"؟ فقال: ليس لي يا رسول الله عين غيرها، لا أستطيع ذلك. فبلغ ذلك عثمان فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتجعل لي مثل الذي جعلت(راشدون/152)
له عينا في الجنة إن اشتريتها؟ قال: "نعم".
قال: قد اشتريتها وجعلتها للمسلمين.
وعن أبي هريرة قال: اشترى عثمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة مرتين: يوم رومة، ويوم جيش العسرة.
وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعا في بيته كاشفا عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر، ثم عمر، وهو على تلك الحال فتحدثا، ثم استأذن عثمان، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوى ثيابه، فدخل فتحدث، فلما خرج قلت: يا سول الله دخل أبو بكر، فلم تجلس له، ثم دخل عمر، فلم تهش له، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك، قال: "ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة"؟. رواه مسلم.
وروي نحوه من حديث علي وأبي هريرة وابن عباس.
وقال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر وأصدقهم حياء عثمان".
وعن طلحة بن عبيد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي رفيق، ورفيقي عثمان". أخرجه الترمذي.(راشدون/153)
وفي حديث القف: ثم جاء عثمان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه".
وقال شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، قال: قال الوليد بن سويد: إن رجلا من بني سليم، قال: كنت في مجلس فيه أبو ذر، وأنا أظن في نفسي أن في نفس أبي ذر على عثمان معتبة لإنزاله إياه بالربذة، فلا ذكر له عثمان عرض له بعض أهل المجلس بذلكن فقال أبو ذر: لا تقل في عثمان إلا خيرا، فإني أشهد لقد رأيت منظرا، وشهدت مشهدا لا أنساه، كنت التمست خلوات النبي صلى الله عليه وسلم لأسمع منه، فجاء أبو بكر، ثم(راشدون/154)
عمر، ثم عثمان، قال: فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصيات، فسبحن في يده حتى سمع لهن حنين كحنين النحل، ثم ناولهن أبا بكر، فسبحن في كفه، ثم وضعهن في الأرض فخرسن، ثم ناولهن عمر، فسبحن في كفه، ثم أخذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعن في الأرض فخرسن، ثم ناولهن عثمان فسبحن في كفه ثم أخذهن منه، فوضعهن فخرسن.
وقال سليمان بن يسار: أخذ جهجاه الغفاري عصا عثمان التي كان يتخصر بها، فكسرها على ركبته، فوقعت في ركبته الأكلة.
وقال ابن عمر: كنا نقول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر ثم عمر، ثم عثمان. رواه جماعة عن ابن عمر.
وقال الشعبي: لم يجمع القرآن أحد من الخلفاء من الصحابة غير عثمان، ولقد فارق علي الدنيا وما جمعه.
وقال ابن سيرين: كان أعلمهم بالمناسك عثمان، وبعده ابن عمر.
وقال ربعي عن حذيفة: قال لي عمر بمنى: من ترى الناس يولون بعدي؟ قلت: قد نظروا إلى عثمان.
وقال أبو إسحاق، عن حارثة بن مضرب، قال: حججت مع عمر، فكان الحادي يحدو:
إن الأمير بعده ابن عفان
وحججت مع عثمان فكان الحادي يحدو:
إن الأمير بعده علي
وقال الجريري، عن عبد الله بن شقيق، عن الأقرع مؤذن عمر، أن عمر دعا الأسقف فقال: هل تجدونا في كتبكم؟ قال: نجد صفتكم وأعمالكم، ولا نجد أسماءكم. قال: كيف تجدني؟ قال: قرن من حديد، قال: ما قرن من حديد؟ قال: أمير شديد قال عمر: الله أكبر، قال: فالذي بعدي؟ قال: رجل صالح يؤثر أقرباءه. قال عمر: يرحم الله(راشدون/155)
ابن عفان. قال: فالذي من بعده؟ قال: صدع -وكان حماد بن سلمة يقول: صدأ- من حديد فقال عمر: وادفراه وادفراه. قال: مهلًا يا أمير المؤمنين، إنه رجل صالح، ولكن تكون خلافته في هراقة من الدماء.
وقال حماد بن زيد: لئن قلت: إن عليا أفضل من عثمان لقد قلت إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خانوا.
وقال ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عمرو بن عثمان، قال: كان نقش خاتم عثمان "آمنت بالذي خلق فسوى".
وقال ابن مسعود حين استخلف عثمان: أمرنا خير من بقى ولم نأل.
وقال مبارك بن فضالة، عن الحسن، قال: رأيت عثمان نائما في المجد ورداؤه تحت
رأسه، فيجيء الرجل فيجلس إليه، ويجيء الرجل فيجلس إليه، كأنه أحدهم، وشهدته يأمر في خطبته بقتل الكلاب، وذبح الحمام.(راشدون/156)
وعن حكيم بن عباد قال: أول منكر ظهر بالمدينة طيران الحمام، والرمي -يعني بالبندق- فأمر عثمان رجلا فقصها وكسر الجلاهقات.
وصح من وجوه، أن عثمان قرأ القرآن كله في ركعة.
وقال عبد الله بن المبارك، عن الزبير بن عبد الله، عن جدته، أن عثمان كان يصوم الدهر.
وقال أنس: إن حذيفة قدم على عثمان، وكان يغزو مع أهل العراق قبل أرمينية، فاجتمع في ذلك الغزو أهل الشام وأهل العراق، فتنازعوا في القرآن حتى سمع حذيفة من اختلافهم ما يكره، فركب حتى أتى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في القرآن اختلاف اليهود والنصارى في الكتب. ففزع لذلك عثمان فأرسل إلى حفصة أم المؤمنين: أن أرسلي بالصحف التي جمع فيها القرآن، فأرسلت إليه بها فأمر زيد بن ثابت، وسعيد بن العاص وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن ينسخوها في المصاحف وقال: إذا اختلفتم أنتم وزيد في عربية فاكتبوها بلسان قريش، فإن القرآن إنما نزل بلسانهم. ففعلوا حتى كتبت المصاحف، ثم رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل جند من أجناد المسلمين بمصحف، وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف المصحف الذي أرسل إليهم به، فذلك زمان حرقت فيه المصاحف بالنار.(راشدون/157)
وقال مصعب بن سعد بن أبي وقاص: خطب عثمان الناس، فقال: أيها الناس، عهدكم بنبيكم بضع عشرة، وأنتم تمترون في القرآن، وتقولون: قراءة أبي، وقراءة عبد الله، يقول الرجل: والله ما تقيم قراءتك، فأعزم على كل رجل منكم كان معه من كتاب الله شيء لما جاء به. فكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن، حتى جمع من ذلك كثيرا ثم دخل عثمان، فدعاهم رجلا رجلا، فناشدهم: أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أمله عليك؟ فيقول: نعم، فلما فرغ من ذلك قال: من أكتب الناس؟ قالوا: كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت، قال: فأي الناس أعرب؟ قالوا: سعيد بن العاص، قال عثمان: فليمل سعيد وليكتب زيد، فكتب مصاحف ففرقها في الناس.
وروى رجل، عن سويد بن غفلة، قال: قال علي في المصاحف: لو لم يصنعه عثمان لصنعته.
وقال أبو هلال: سمعت الحسن يقول: عمل عثمان اثنتي عشرة سنة، ما ينكرون من إمارته شيئا.
وقال سعيد بن جمهان، عن سفينة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم يكون ملكا".(راشدون/158)
وقال قتادة، عن عبد الله بن شقيق، عن مرة البهزي، قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "تهيج فتنة كالصياصي، فهذا ومن معه على الحق". قال: فذهبت وأخذت بمجامع ثوبه فإذا هو عثمان.
ورواه الأشعث الصنعاني، عن مرة. ورواه محمد بن سيرين، عن كعب بن عجرة.
وروى نحو عن ابن عمر.
وقال قيس بن أبي حازم، عن أبي سهلة مولى عثمان، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يسار عثمان، ولون عثمان يتغير، فلما كان يوم الدار وحصر فيها، قلنا: يا أمير المؤمنين ألا تقاتل؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهدا، وإني صابر نفسي عليه.
أبو سهلة وثقه أحمد العجلي.
وقال الجريري: حدثني أبو بكر العدوي، قال: سألت عائشة: هل عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد من أصحابه عند موته؟ قالت: معاذ الله إلا أنه سار عثمان، أخبره أنه مقتول، وأمره أن يكف يده.
وقال شعبة: أخبرني أبو حمزة: سمعت أبي يقول: سمعت عليا يقول: الله قتل عثمان وأنا معه، قال أبو حمزة: فذكرته لابن عباس، فقال: صدق يقول: الله قتل عثمان ويقتلني معه.(راشدون/159)
قلت: قد كان علي يقول: عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم: "لتخضبن هذه من هذه".
وقد روى شعبة، عن حبيب بن الزبير، عن عبد الرحمن بن الشرود، أن عليا قال: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] .
ورواه عبد الله بن الحارث عن علي.
وقال مطرف بن الشخير: لقيت عليا، فقال: يا أبا عبد الله ما بطأ بك، أحب عثمان؟ ثم قال: لئن قلت ذاك، لقد كان أوصلنا للرحم وأتقانا للرب.
وقال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: لو انقض أحد لما صنعتم بابن عفان لكان حقيقا.
وقال هشام: حدثنا محمد بن سيرين، عن عقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرو، قال: يكون على هذه الأمة اثنا عشر خليفة، منهم أبو بكر الصديق، أصبتم اسمه، وعمر الفاروق قرن من حديد، أصبتم اسمه، وعثمان ذو النورين، أوتي كفلين من الرحمة، قتل مظلوما،(راشدون/160)
أصبتم اسمه. رواه غير واحد عن محمد.
وقال عبد الله بن شوذب: حدثني زهدم الجرمي، قال: كنت في سمر عند ابن عباس، فقال: لأحدثنكم حديثا: إنه لما كان من أمر هذا الرجل -يعني عثمان- ما كان قلت لعلي: اعتزل هذا الأمر، فوالله لو كنت في حجر لأتاك الناس حتى يبايعوك، فعصاني، وايم الله ليتأمرن عليه معاوية، ذلك بأن الله يقول: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33] .
وقال أبو قلابة الجرمي: لما بلغ ثمامة بن عدي قتل عثمان -وكان أميرا على صنعاء- بكى فأطال البكاء، ثم قال: هذا حين انتزعت خلافة النبوة من أمة محمد، فصار ملكا وجبرية، من غلب على شيء أكله.
وقال يحيى بن سعيد الأنصاري: قال أبو حميد الساعدي -وكان بدريا- لما قتل عثمان: اللهم إن لك علي أن لا أضحك حتى ألقاك.
قال قتادة: ولي عثمان اثنتي عشرة سنة، غير اثني عشر يوما وكذا قال خليفة بن خياط، وغيره.(راشدون/161)
وقال أبو معشر السندي: قتل لثماني عشرة خلت من ذي الحجة، يوم الجمعة. زاد غيره فقال: بعد العصر، ودفن بالبقيع بين العشاءين، وهو ابن اثنتين وثمانين سنة وهو الصحيح.
وقيل: عاش ستا وثمانين سنة.
وعن عبد الله بن فروخ، قال: شهدته ودفن في ثيابه بدمائه، ولم يغسل. رواه عبد الله بن أحمد في "زيادات المسند". وقيل: صلى عليه مروان، ولم يغسل.
وجاء من رواية الواقدي: أن نائلة خرجت وقد شقت جيبها وهي تصرخ، ومعها سراج، فقال جبير بن مطعم: اطفئي السراج لا يفطن بنا، فقد رأيت الغوغاء. ثم انتهوا إلى البقيع، فصلى عليه جبير بن مطعم، وخلفه أبو جهم بن حذيفة، ونيار بن مكرم، وزوجتا عثمان نائلة، وأم البنين، وهما دلتاه في حفرته على الرجال الذين نزلوا في قبره ولحدوا له وغيبوا قبره وتفرقوا.
ويروى أن جبير بن مطعم صلى عليه في ستة عشرة رجلا والأول أثبت.
وروي أن نائلة بنت الفرافصة كانت مليحة الثغر، فكسرت ثناياها بحجر، وقالت: والله لا يجتليكن أحد بعد عثمان، فلما قدمت على معاوية الشام، خطبها فأبت.(راشدون/162)
وقال فيها حسان بن ثابت:
قتلتم ولي الله في جوف داره ... وجئتم بأمر جائز غير مهتدي
فلا ظفرت ايمان قوم تعاونوا ... على قتل عثمان الرشيد المسدد
وقال كعب بن مالك:
يا للرجال لأمر هاج لي حزنا ... لقد عجبت لمن يبكي على الدمن
إني رأيت قتيل الدار مضطهدا ... عثمان يهدى إلى الأجداث في كفن
وقال بعضهم:
لعمر أبيك فلا تكذبن ... لقد ذهب الخير إلا قليلا
لقد سفه الناس في دينهم ... وخلى ابن عفان شرا طويلا(راشدون/163)
الحوادث في خلافة ذي النورين عثمان:
سنة أربع وعشرين: بيعة عثمان:
دفن عمر -رضي الله عنه- في أول المحرم، ثم جلسوا للشورى، فروي عن عبد الله بن أبي ربيعة أن رجلا قال قبل الشورى: إن بايعتم لعثمان أطعنا، وإن بايعتم لعلي سمعنا وعصينا.
وقال المسور بن مخرمة: جاءني عبد الرحمن بن عوف بعد هجع من الليل فقال: ما ذاقت عيناي كثير نوم منذ ثلاث ليال فادع لي عثمان وعليا والزبير وسعدا، فدعوتهم، فجعل يخلو بهم واحدا واحدا يأخذ عليه، فلما أصبح صلى صهيب بالناس، ثم جلس عبد الرحمن فحمد الله وأثنى عليه، وقال في كلامه، إني رأيت الناس يأبون إلا عثمان.
وقال حميد بن عبد الرحمن بن عوف: أخبرني المسور أن النفر الذين ولاهم عمر اجتمعوا فتشاوروا فقال عبد الرحمن: لست بالذي أنافسكم هذا الأمر ولكن إن شئتم اخترت لكم منكم، فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن، قال: فوالله ما رأيت رجلا بذ قوما أشد ما بذهم حين ولوه أمرهم، حتى ما من رجل من الناس يبتغي عند أحد من أولئك الرهط رأيا ولا يطؤون عقبه، ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه ويناجونه تلك الليالي، لا يخلو به رجل ذو رأي فيعدل بعثمان أحدا، وذكر الحديث إلى أن قال: فتشهد وقال: أما بعد يا على فإني قد نظرت في الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان فلا تجعلن على نفسك سبيلا، ثم أخذ بيد عثمان(راشدون/164)
فقال: نبايعك على سنة رسوله وسنة الخليفتين بعده. فبايعه عبد الرحمن بن عوف وبايعه المهاجرون والأنصار.
وعن أنس قال: أرسل عمر إلى أبي طلحة الأنصاري، فقال: كن في خمسين من الأنصار مع هؤلاء النفر أصحاب الشورى، فإنهم فيما أحسب سيجتمعون في بيت، فقم على ذلك الباب بأصحابك فلا تترك أحدا يدخل عليهم ولا تتركهم يمضي اليوم الثالث حتى يؤمروا أحدهم، اللهم أنت خليفتي عليهم.
وفي زيادات "مسند أحمد" من حديث أبي وائل، قال: قلت لعبد الرحمن بن عوف: كيف بايعتم عثمان وتركتم عليا! قال: ما ذنبي قد بدأت بعلي فقلت: أبايعك على كتاب الله
وسنة رسوله وسيرة أبي بكر وعمر، فقال: فيما استطعت. ثم عرضت ذلك على عثمان، فقال: نعم.
وقال الواقدي: اجتمعوا على عثمان لليلة بقيت من ذي الحجة.
ويروى أن عبد الرحمن قال لعثمان خلوة: إن لم أبايعك فمن تشير علي؟ فقال: علي، وقال لعلي خلوة: إن لم أبايعك فمن تشير علي؟ قال: عثمان، ثم دعا الزبير، فقال: إن لم أبايعك فمن تشير علي؟ قال: علي أو عثمان، ثم دعا سعدا، فقال: من تشير علي؟ فأما أنا وأنت فلا نريدها. فقال: عثمان، ثم استشار عبد الرحمن الأعيان فرأى هوى أكثرهم في عثمان، ثم نودي "الصلاة جامعة" وخرج عبد الرحمن عليه عمامته التي عممه(راشدون/165)
بها رسول الله صلى الله عليه وسلم متقلدا سيفه، فصعد المنبر ووقف طويلا يدعو سرا، ثم تكلم فقال: أيها الناس إني قد سأتلكم سرا وجهرا على أمانتكم فلم أجدكم تعدلون عن أحد هذين الرجلين: إما علي وإما عثمان، قم إلي يا علي، فقام فوقف بجنب المنبر فأخذ بيده، وقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم لا. ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي. فقال: قم يا عثمان فأخذ بيده في موقف علي، فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم نعم قال: فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يده، ثم قال: اللهم اشهد، اللهم إني قد جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان.
فازدحم الناس يبايعون عثمان حتى غشوه عند المنبر وأقعدوه على الدرجة الثانية، وقعد عبد الرحمن مقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر، قال: وتلكأ علي، فقال عبد الرحمن: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح] .
فرجع علي يشق الناس حتى بايع عثمان وهو يقول: خدعة وأيما خدعة.
ثم جلس عثمان في جانب المسجد ودعا بعبيد الله بن عمر بن الخطاب، وكان محبوسًا في دار سعد، وسعد الذي نزع السيف من يد عبيد الله بعد أن قتل جفينة والهرمزان وبنت أبي لؤلؤة، وجعل عبيد الله يقول: والله لأقتلن رجالا ممن شرك في دم أبي، يعرض بالمهاجرين والأنصار، فقام إليه سعد فنزع السيف من يده وجبذه بشعره حتى أضجعه وحبسه، فقال
عثمان لجماعة من المهاجرين: أشيروا علي في هذا الذي فتق في الإسلام ما فتق، فقال علي: أرى أن تقتله، فقال بعضهم: قتل أبوه بالأمس ويقتل هو اليوم؟! فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الحدث ولك على(راشدون/166)
المسلمين سلطان، إنما تم هذا ولا سلطان لك، قال عثمان: أنا وليهم وقد جعلتها دية واحتملتها من مالي.
قلت: والهرمزان هو ملك تستر، وقد تقدم إسلامه، قتله عبيد الله بن عمر لما أصيب عمر، فجاء عمار بن ياسر فدخل على عمر، فقال: حدث اليوم حدث في الإسلامن قال: وما ذاك؟ قال: قتل عبيد الله الهرمزان، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون علي به، وسجنه.
قال سعيد بن المسيب: اجتمع أبو لؤلؤة وجفينة، رجل من الحيرة، والهرمزان، معهم خنجر له طرفان مملكة في وسطه، فجلسوا مجلسا فأثارهم دابة فوقع الخنجر، فأبصرهم عبد الرحمن بن أبي بكر، فلما طعن عمر حكى عبد الرحمن شأن الخنجر واجتماعهم وكيفية الخنجر، فنظروا فوجدوا الأمر كذلك، فوثب عبيد الله فقتل الهرمزان، وجفينة، ولؤلؤة بنت أبي لؤلؤة، فلما استخلف عثمان قال له علي: أقد عبيد الله من الهرمزان، فقال عثمان: ما له ولي غيري، وإني قد عفوت ولكن أديه.
ويروى أن الهرمزان لما عضه السيف قال: لا إله إلا الله. وأما جفينة فكان نصرانيا، وكان ظئرا لسعد بن أبي وقاص أقدمه إلى المدينة للصلح الذي بينه وبينهم، وليعلم الناس الكتابة.
وفيها: افتتح أبو موسى الأشعري الري، وكانت قد فتحت على يد حذيفة، وسويد بن مقرن، فانتقضوا.
وفيها: أصاب الناس رعاف كثير، فقيل لها: سنة الرعاف، وأصاب(راشدون/167)
عثمان رعاف حتى تخلف عن الحج وأوصى. وحج بالناس عبد الرحمن بن عوف.
وفيها: عزل عثمان عن الكوفة المغيرة بن شعبة وولاها سعد بن أبي وقاص.
وفيها: غزا الوليد بن عقبة أذربيجان وأرمينية لمنع أهلها ما كانوا صالحوا عليه، فسبى وغنم ورجع.
وفيها: جاشت الروم حتى استمدت أمراء الشام من عثمان مددا فأمدهم بثمانية آلاف من العراق، فمضوا حتى دخلوا إلى ارض الروم مع أهل الشام. وعلى أهل العراق سلمان بن ربيعة الباهلي، وعلى أهل الشام حبيب بن مسلمة الفهري، فشنوا الغارات وسبوا وافتتحوا حصونا كثيرة.
وفيها: ولد عبد الملك بن مروان الخليفة.
سنة خمس وعشرين:
فيها: عزل عثمان سعدا عن الكوفة واستعمل عليها الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية الأموي، أخو عثمان لأمه، كنيته أبو وهب، وله صحبة ورواية. روى عنه: أبو موسى الهمداني، والشعبي.
قال طارق بن شهاب: لما قدم الوليد أميرا أتاه سعد، فقال: أكست(راشدون/168)
بعدي أو استحمقت بعدك؟ قال: ما كسنا ولا حمقت ولكن القوم استأثروا عليك بسلطانهم. وهذا مما نقموا على عثمان كونه عزل سعدا وولى الوليد بن عقبة، فذكر حضين بن المنذر أن الوليد صلى بهم الفجر أربعا وهو سكران، ثم التفت وقال: أزيدكم!
ويقال: فيها سار الجيش من الكوفة عليهم سلمان بن ربيعة إلى بردغة، فقتل وسبى.
وفيها: انتقص أهل الإسكندرية، فغزاهم عمرو بن العاص أمير مصر وسباهم، فرد عثمان السبي إلى ذمتهم، وكان ملك الروم بعث إليها منويل الخصي في مراكب فانتقض أهلها -غير المقوقس- فغزاهم عمرو في ربيع الأول، فافتتحها عنوة غير المدينة، فإنها صلح.
وفيها: عزل عثمان عمرا عن مصر، واستعمل عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
والصحيح أن ذلك في سنة سبع وعشرين، واستأذن ابن أبي سرح عثمان في غزو إفريقية فأذن له.
ويقال: فيها ولد يزيد بن معاوية.
وحج بالناس عثمان رضي الله عنه.
سنة ست وعشرين:
فيها: زاد عثمان في المسجد الحرام ووسعه، واشترى الزيادة من قوم، وأبى آخرون، فهدم عليهم ووضع الأثمان في بيت المال، فصاحوا بعثمان فأمر بهم إلى الحبس، وقال: ما جرأكم علي إلا حلمي، وقد فعل هذا بكم عمر فلم تصيحوا عليه، ثم كلموه فيهم فأطلقهم.(راشدون/169)
وفيها: فتحت سابور، أميرها عثمان بن أبي العاص الثقفي، فصالحهم على ثلاثة آلاف ألف وثلاث مائة ألف.
وقيل: عزل عثمان سعدا عن الكوفة؛ لأنه كان تحت دين لابن مسعود فتقاضاه واختصما، فغضب عثمان من سعد وعزله، وقد كان الوليد عاملا لعمر على بعض الجزيرة، وكان فيه رفق برعيته.
سنة سبع وعشرين:
فيها: غزا معاوية قبرس فركب البحر بالجيوش، وكان معه عبادة بن الصامت، وزوجة عبادة أم حرام "سوى ت" بنت ملحان الأنصارية خالة أنس، فصرعت عن بغلتها فماتت شهيدة -رحمها الله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يغشاها ويقيل عندها، وبشرها بالشهادة، فقبرها بقبرس يقولون: هذا قبر المرأة الصالحة.
روت عن النبي صلى الله عليه وسلم روى عنها: أنس بن مالك وعمير بن الأسود العنسي، ويعلى بن شداد بن أوس وغيرهم.
وقال داود بن أبي هند: صالح عثمان بن أبي العاص وأبو موسى سنة سبع وعشرين أهل أرجان على ألفي ألف ومائتي ألف، وصالح أهل دارابجرد على ألف ألف وثمانين ألفا.
وقال خليفة: فيها عزل عثمان عن مصر عمرا وولى عليها عبد الله(راشدون/170)
بن سعد، فغزا إفريقية ومعه عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير، فالتقى هو وجرجير بسبيلطة على يومين من القيروان، وكان جرجير في مائتي ألف مقاتل، وقيل: في مائة وعشرين ألفا، وكان المسلمون في عشرين ألفا.
قال مصعب بن عبد الله: حدثنا أبي والزبير بن خبيب، قالا: قال ابن الزبير: هجم علينا جرجير في معسكرنا في عشرين ومائة ألفن فأحاطوا بنا ونحن في عشرين ألفا. واختلفت الناس على عبد الله بن أبي سرح، فدخل فسطاطا له فخلا فيه، ورأيت أنا غرة من جرجير بصرت به خلف عساكره على برذون أشهب معه جاريتان تظللان عليه بريش الطواويس، وبينه وبين جنده أرض بيضاء ليس بها أحد، فخرجت إلى ابن أبي سرح فندب لي الناس، فاخترت منهم ثلاثين فارسا وقلت لسائرهم: البثوا على مصافكم، وحملت في الوجه الذي رأيت فيه جرجير وقلت لأصحابي: احموا لي ظهري، فوالله ما نشبت أن خرقت الصف إليه فخرجت صامدا له، وما يحسب هو ولا أصحابه إلا أني رسول إليه، حتى دنوت منه فعرف الشر، فوثب على برذونه وولى مبادرا، فأدركته ثم طعنته، فسقط، ثم دففت عليه بالسيف، ونصبت رأسه على رمح وكبرت وحمل المسلمون، فارفض أصحابه من كل وجه، وركبنا أكتافهم.
وقال خليفة: حدثنا من سمع ابن لهيعة يقول: حدثنا أبو الأسود، قثال: حدثني أبو إدريس أنه غزا مع عبد الله بن سعد إفريقية فافتتحها، فأصاب كل إنسان ألف دينار.
وقال غيره: سبوا وغنموا، فبلغ سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار،(راشدون/171)
وفتح الله إفريقية سهلها وجبلها، ثم اجتمعوا على الإسلام حسنت طاعتهم.
وقسم ابن أبي سرح ما أفاء الله علهم وأخذ خمس الخمس بأمر عثمان، وبعث إليه بأربعة أخماسه، وضر فسطاطا في موضع القيروان ووفدوا وفدا، فشكوا عبد الله فيما أخذ فقال: أنا نفلته، وذلك إليكم الآن، فإن رضيتم فقد جاز، وإن سخطتم فهو رد، قالوا: إنا نسخطه قال: فهو رد وكتب إلى عبد الله برد ذلك واستصلاحهم. قالوا: فاعزله عنا.
فكتب إليه أن استخلف على إفريقية رجلا ترضاه واقسم ما نفلتك فإنهم قد سخطوا. فرجع عبد الله بن أبي سرح إلى مصر، وقد فتح الله إفريقية، فما زال أهلها اسمع الناس وأطوعهم إلى زمان هشام بن عبد الملك.
وروى سيف بن عمر، عن أشياخه، أن عثمان أرسل عبد الله بن نافع بن الحصين، وعبد الله بن نافع الفهري من فورهما ذلك إلى الأندلس، فأتياها من قبل البحر، وكتب عثمان إلى من انتدب إلى الأندلس: أما بعد فإن القسطنطينية إنما تفتح من قبل الأندلس، وإنكم إن افتتحتموها كنتم شركاء في فتحها في الأجر، وسلام فعن كعب، قال: يعبر البحر إلى الأندلس أقوام يفتحونها يعرفون بنورهم يوم القيامة قال: فخرجوا إليها فأتوها من برها وبحرها، ففتحها الله على المسلمين، وزاد في سلطان المسلمين مثل إفريقية. ولم يزل أمر الأندلس كأمر إفريقية، حتى أمر هشام فمنع البربر أرضهم.
ولما نزع عثمان عمرا عن مصر غضب وحقد على عثمان، فوجه عبد الله بن سعد فأمره أن يمضي إلى إفريقية، وندب عثمان الناس معه(راشدون/172)
إلى إفريقية، فخرج إليها في عشرة آلاف، وصالح ابن سعد أهل إفريقية على ألفي ألف دينار وخمس مائة ألف دينار وبعث ملك الروم من قسطنطينية أن يؤخذ من أهل إفريقية ثلاث مائة قنطار ذهبا، كما أخذ منهم عبد الله بن سعد فقالوا: ما عندنا مال نعطيه، وما كان بأيدينا فقد افتدينا به، فأما الملك فإنه سيدنا فليأخذ ما كان له عندنا من جائزة كما كنا نعطيه كل عام، فلما رأى ذلك منهم الرسول أمر بحبسهم، فبعثوا إلى قوم من أصحابهم فقدموا عليهم فكسروا السجن وخرجوا.
وعن يزيد بن أبي حبيب، قال: كتب عبد الله بن سعد إلى عثمان يقولك إن عمرو بن العاص كسر الخراج، وكتب عمرو: إن عبد الله بن سعد أفسد علي مكيدة الحرب فكتب عثمان إلى عمرو: انصرف وولي عبد الله الخراج والجند، فقدم عمرو مغضبا، فدخل على عثمان وعليه جبة له يمانية محشوة قطنا، فقال له عثمان: ما حشو جبتك؟ قال: عمرو قال: قد علمت أن حشوها عمرو، ولم أرد هذا، إنما سألتك أقطن هو أم غيره؟
وبعث عبد الله بن سعد إلى عثمان مالا من مصر وحشد فيه فدخل عمرو، فقال عثمان: هل تعلم أن تلك اللقاح درت بعدك؟ قال عمرو: إن فصالها هلكت.
وفيها: حج عثمان بالناس.(راشدون/173)
سنة ثمان وعشرين:
قيل: في أولها غزوة قبرس، وقد مرت فروى سيف، عن رجاله، قالوا: ألح معاوية في إمارة عمر عليه في غزو البحر وقرب الروم من حمص، فقال عمر: إن قرية من قرى حمص يسمع أهلها نباح كلابهم وصياح ديوكهم أحب إلي من كل ما في البحر، فلم يزل بعمر حتى كاد أن يأخذ بقلبه، فكتب عمر إلى عمرو بن العاص أن صف لي البحر وراكبه، فكتب إليه: إني رأيت خلقا كبيرا يركبه خلق صغير، إن ركد حرق القلوب، وإن تحرك أراع العقول، يزداد فيه اليقين قلة، والشك كثرة، وهم فيه كدود على عود، إن مال غرق، وإن نجا برق.
فلما قرأ عمر الكتاب كتب إلى معاوية: والله لا أحمل فيه مسلما أبدًا.
وقال أبو جعفر الطبري: غزا معاوية قبرس فصالح أهلها على الجزية.
وقال الواقدي: في هذه السنة غزا حبيب بن مسلمة سورية من أرض الروم.
وفيها: تزوج عثمان نائلة بنت الفرافصة فأسلمت قبل أن يدخل بها.
وفيها: غزا الوليد بن عقبة أذربيجان فصالحهم مثل صلح حذيفة.
وقل من مات وضبط موته في هذه السنوات كما ترى.(راشدون/174)
سنة تسع وعشرين:
فيها: عزل عثمان أبا موسى عن البصرة بعبد الله بن عامر بن كريز، وأضاف إليه فارس.
وفيها: افتتح عبد الله بن عامر إصطخر عنوة فقتل وسبى، وكان على مقدمته عبيد الله بن معمر بن عثمان التيمي أحد الأجواد؛ وكل منهما رأى النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان على إصطخر قتال عظيم قتل فيه عبيد الله بن معمر، وكان من كبار الأمراء، افتتح سابور عنوة وقلعة شيراز، وقتل وهو شاب، فأقسم ابن عامر لئن ظفر بالبلد ليقتلن حتى يسيل الدم من باب المدينة، وكان بها يزدجرد بن شهريار بن كسرى فخرج منها في مائة ألف وسار فنزل مرو، وخلف على إصطخر أميرا من أمرائه في جيش يحفظونها. فتقب المسلمون المدينة فما دروا إلا والمسلمون معهم في المدينة، فأسرف ابن عامر في قتلهم، وجعل الدم لا يجري من
الباب، فقيل له: أفنيت الخلق، فأمر بالماء فصب على الدم حتى خرج الدم من الباب، ورجع إلى حلوان فافتتحها ثانيا فأكثر فيهم القتل لكونهم نقضوا الصلح.
وفيها: انتقضت أذربيجان فغزاهم سعيد بن العاص فافتتحها.
وفيها: غزا ابن عامر وعلى مقدمته عبد الله بن بديل الخزاعي فأتى أصبهان، ويقال: افتتح أصبهان سارية بن زنيم عنوة وصلحا.(راشدون/175)
وقال أبو عبيدة: لما قدم ابن عامر البصرة قدم عبيد الله بن معمر إلى فارس، فأتى أرجان فأغلقوا في وجهه، وكان عن يمين البلد وشماله الجبال والأسياف وكانت الجبال لا تسلكها الخيل ولا تحمل الأسياف -يعني السواحل- الجيش، فصالحهم أن يفتحوا له باب المدينة، فيمر فيها مارا ففعلوا، ومضى حتى انتهى إلى النوبندجان فافتتحها، ثم نقضوا الصلح، ثم سار فافتتح قلعة شيراز، ثم سار إلى جور فصالحهم وخلف فيهم رجلا من تميم، ثم انصرف إلى إصطخر فحاصرها مدة، فبينما هم في الحصار إذ قتل أهل جور عاملهم، فساق ابن عامر إلى جور فناهضهم فافتتحها عنوة فقتل منها أربعين ألفا يعدون بالقصب، ثم خلف عليهم مروان بن الحكم أو غيره، ورد إلى إصطخر وقد قتلوا عبيد الله بن معمر فافتتحها عنوة ثم مضى إلى فسا فافتتحها. وافتتح رساتيق من كرمان. ثم إنه توجه نحو خراسان على المفازة فأصابهم الرمق فأهلك خلقا.
وقال ابن جرير: كتب ابن عامر إلى عثمان بفتح فارس، فكتب عثمان يأمره أن يولي هرم بن حيان اليشكري، وهرم بن حيان العبدي، والخريت بن راشد على كور فارس، وفرق خراسان بين ستة نفر: الأحنف بن قيس على المروين، وحبيب بن قرة اليربوعي على بلخ، وخالد بن زهير على هراة، وأمير بن أحمد اليشكري على طوس، وقيس بن هبيرة السلمي على نيسابور.
وفيهاك زاد عثمان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوسعه وبناه بالحجارة(راشدون/176)
المنقوشة وجعل عده من حجارة وسقفه بالساج، وجعل طوله ستين ومائة ذراع، وعرضه خمسين ومائة ذراع، وجعل أبوابه كما كانت زمن عمر ستة أبواب.
وحج عثمان بالناس وضرب له بمنى فسطاط، وأتم الصلاة بها وبعرفة، فعابوا عليه ذلك فجاءه علي، فقال: والله ما حدث أمر ولا قدم عهد، ولقد عهدت نبيك صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين، ثم أبا بكر، ثم عمر، ثم أنت صدرا من ولايتك فقال: رأي رأيته.
وكلمه عبد الرحمن بن عوف، فقال: إني أخبرت عن جفاة الناس قد قالوا: إن الصلاة للمقيم ركعتان وقالوا: هذا عثمان يصلي ركعتين فصليت أربعا لهذا، وإني قد اتخذت بمكة زوجة. فقال عبد الرحمن: ليس هذا بعذر. قال: هذا رأي رأيته.
سنة ثلاثين:
فيها: عزل الوليد بن عقبة عن الكوفة بسعيد بن العاص، فغزا سعيد طبرستان، فحاصرهم فسألوه الأمان، على ألا يقتل منهم رجلا واحدا، فقتلهم كلهم إلا رجلا واحدا، يفتي نفسه بذلك.
وفيها: فتحت جور من أرض فارس على يد ابن عامر فغنم شيئا كثيرا، وافتتح ابن عامر في هذا القرب بلادا كثيرة من أرض خراسان.
قال داود بن أبي هند: لما افتتح ابن عامر أرض فارس سنة ثلاثين، هرب يزدجرد بن كسرى فأتبعه ابن عامر، مجاشع بن مسعود السلمي،(راشدون/177)
ووجه ابن عامر، فيا ذكر خليفة، زياد بن الربيع الحارثي إلى سجستان فافتتح زالق وناشروذ، ثم صالح أهل مدينة زرنج على ألف وصيف مع كل وصيف جام من ذهب، ثم توجه ابن عامر إلى خراسان وعلى مقدمته الأحنف بن قيس، فلقي أهل هراة فهزمهم.
ثم افتتح ابن عامر أبرشهر -وهي نيسابور- صلحا، ويقال: عنوة. وكان بها فيما ذكر غير خليفة ابنتا كسرى بن هرمز. وبعث جيشا فتحوا طوس وأعمالها صلحا. ثم صالح من جاءه من أهل سرخس على مائة خمسين ألفا وبعث الأسود بن كلثوم العدوي إلى بيهق.
وبعث أهل مرو يطلبون الصلح، فصالحهم ابن عامر على ألفي ألف ومائتي ألف.
وسار الأحنف بن قيس في أربعة آلاف، فجمع له أهل طخارستان وأهل الجوزجان والفارياب، وعليهم طوقانشاه، فاقتتلوا قتالا شديدًا، ثم هزم الله المشركين، وكان النصر.
ثم سار الأحنف على بلخ، فصالحوه على أربع مائة ألف ثم أتى خوارزم فلم يطقها ورجع. وفتحت هراة ثم نكثوا.
وقال ابن إسحاق: بعث ابن عامر جيشا إلى مرو فصالحوا وفتحت صلحا.
ثم خرج ابن عامر من نيسابور معتمرا وقد أحرم منها، وساتخلف على خراسان الأحنف بن قيسن فلما قضى عمرته أتى عثمان -رضي الله عنه- واجتمع به، ثم إن أهل خراسان نقضوا وجمعوا جمعا كثيرا(راشدون/178)
وعسكروا بمرو، فنهض لقتالهم الأحنف وقاتلهم فهزمهم، وكانت وقعة مشهورة.
ثم قدم ابن عامر من المدينة إلى البصرة، فلم يزل عليها إلى أن قتل عثمان، وكذا معاوية على الشام.
ولما فتح ابن عامر هذه البلاد الواسعة كثر الخراج على عثمان وأتاه المال من كل وجه حتى اتخذ له الخزائن وأدر الأرزاق، وكان يأمر للرجل بمائة ألف بدرة في كل بدرة أربعة آلاف وافية.
وقال أبو يوسف القاضي: أخرجوا من خزائن كسرى مائتي ألف بدرة في كل بدرة أربعة آلاف.
ذكر من توفي في سنة ثلاثين:
جبار بن صخر بن أمية بن خنساء، أبو عبد الرحمن الأنصار السلمي.
شهد بدرا والعقبة، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم خارصا إلى خيبر، توفي بالمدينة وله ستون سنة.
الطفيل بن الحارث بن المطلب المطلبي -فيما قاله سعيد بن عفير- وهو أخو عبيدة بن الحارث والحصين بن الحارث. كان من السابقين الأولين. شهد بدرا.(راشدون/179)
عبد الله بن كعب بن عمرو المازني الأنصاري البدري.
كان على الخمس يوم بدر، يكنى أبا الحارث، وقيل: أبا يحيى، وصلى عليه عثمان، وهو أخو أبي ليلى المازني.
معمر بن أبي سرح بن ربيعة بن هلال القرشي، أبو سعد الفهري، وقيل: اسمه عمرو، كذا سماه ابن إسحاق وغيره، وهو بدري قدم الصحبة.
مسعود بن ربيعة، وقيل: ابن الربيع أبو عمير القاري، والقرارة حلفاء بني زهرة. شهد بدرا وغيرها، وعاش نيفا وستين سنة تقدم.
سنة إحدى وثلاثين:
قال أبو عبد الله الحاكم: أجمع مشايخنا على أن نيسابور فتحت صلحا، وكان فتحها في سنة إحدى وثلاثين. ثم روى بإسناده إلى مصعب بن أبي الزهراء أن كنار صاحب نيسابور كتب إلى سعيد بن العاص والي الكوفة، وإلى عبد الله بن عامر والي البصرة يدعوهما إلى خراسان، ويخبرهما أن مرو قد قتل أهلها يزدجرد. فندب سعيد بن العاص الحسن بن علي
وعبد الله بن الزبير لها، فأتى ابن عامر دهقان، فقال: ما تجعل لي إن سبقت بك؟ قال: لك خراجك وخراج أهل بيتك إلى يوم القيامة. فأخذ به على قومس، واسرع إلى أن نزل على نيسابور،(راشدون/180)
فقاتل أهلها سبعة أشهر ثم فتحها، فاستعمله عثمان عليها أيضا، وكان ابن خالة عثمان. ويقال: تفل النبي صلى الله عليه وسلم في فيه وهو صغير.
وفيا قال خليفة: أحرم عبد الله بن عامر من نيسابور، واستخلف قيس بن الهيثم وغيره على خراسان، وقيل: إن ذلك كان في السنة الماضية.
وفيها: غزوة الأساود، فغزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح من مصر في البحر، وسار فيه إلى ناحية مصيصة.
سنة اثنتين وثلاثين:
فيها: كانت وقعة المضيق بالقرب من قسطنطينية، وأميرها معاوية.
وتوفي فيها: سنان بن أبي سنان بن محصن الأسدي، حليف بني عبد شمس.
وكان أسن من عمه عكاشة، هاجر هو وأبوه وشهدا بدرا، توفي أبوه والنبي صلى الله عليه وسلم يحاصر بني قريظة، وكان سنان من سادة الصحابة، قال الواقدي: هو أول من بايع تحت الشجرة.
الطفيل بن الحارث بن المطلب، فيها في قول، وقد ذكر.(راشدون/181)
وأخوه الحصين توفي بعده بأربعة أشهر، وقد شهدا بدرا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام".
سنة ثلاث وثلاثين:
وفيها: كانت غزوة قبرس -قاله ابن إسحاق وغيره- وغزوة إفريقية، وأمير الناس عبد الله بن سعد بن أبي سرح. قاله الليث.
وفيها قال خليفة: جمع قارن جمعا عظيما بباذغيس وهراة، وأقبل في أربعين ألفا فترك قيس بن الهيثم البلاد وهرب، فقام بأمر المسلمين عبد الله بن خازم السلمي، وجمع أربعة آلاف مقاتل، والتقى هو وقارن، ونصره الله وقتل وسبى، وكتب إلى ابن عامر بالفتح، فاستعمله ابن عامر على خراسان. ثم وجه ابن عامر عبد الرحمن بن سمرة على سجستان، فصالحه صاحب زرنج وبقي بها حتى حوصر عثمان.
قال خليفة: وفيها غزا معاوية ملطية وحصن المرأة من أرض الروم.
قال: وفيها غزا عبد الله بن أبي سرح الحبشة، فأصيبت فيها عين معاوية بن حديج.(راشدون/182)
سنة أربع وثلاثين:
فيها: وثب أهل الكوفة على أميرهم سعيد بن العاص فأخرجوه، ورضوا بأبي موسى الأشعري، وكتبوا فيه إلى عثمان فولاه عليهم، ثم إنه بعد قليل رد إليهم على الإمرة سعيد بن العاص فخرجوا ومنعوه.
وفيها: كانت غزوة ذات الصواري في البحر من ناحية الإسكندرية، وأميرها ابن أبي سرح.
سنة خمس وثلاثين:
فيها: غزوة ذي خشب، وأمير المسلمين عليها معاوية.
وفيها: حج بالناس وأقام الموسم عبد الله بن عباس.
مقتل عثمان:
وفيها: مقتل عثمان -رضي الله عنه: خرج المصريون وغيرهم على(راشدون/183)
عثمان وصاروا إليه ليخلعوه من الخلافة.
قال إسماعيل بن أبي خالد: لما نزل أهل مصر الجحفة، وأتوا يعاتبون عثمان صعد عثمان المنبر فقال: جزاكم الله يا أصحاب محمد عني شرا: أذعتم السيئة وكتمتم الحسنة، وأغريتم بي سفهاء الناس، أيكم يذهب غلى هؤلاء القوم فيسألهم ما نقموا وما يريدون؟ قال ذلك ثلاثا ولا يجيبه أحد. فقام علي فقال: أنا. فقال عثمان: أنت أقربهم رحما فأتاهم فرحبوا به، فقال: ما الذي نقمتم عليه؟ قالوا: نقمنا أنه محا كتاب الله -يعني كونه جمع الأمة على مصحف- وحمى الحمى، واستعمل أقرباءه، وأعطى مروان مائة الفن وتناول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فرد عليهم عثمان: أما القرآن فمن عند الله، إنما نهيتكم عن الاختلاف فاقرؤوا على أي حرف شئتم، وأما الحمى فوالله ما حميته لإبلي ولا لغنمي، وإنما حميته لإبل الصدقة. وأما قولكم: إني أعطيت مروان مائة ألف، فهذا بيت مالهم فليستعملوا عليه من أحبوا وأما قولكم: تناول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإنما أنا بشر أغضب وأرضى، فمن ادعى قبلي حقا أو مظلمة فها أنا ذا، فإن شاء قودا وإن شاء عفوا. فرضي الناس واصطلحوا ودخلوا المدينة.
وقال محمد بن سعد: قالوا: رحل من الكوفة إلى المدينة: الأشتر النخعي -واسمه مالك بن الحارث- ويزيد بن مكنف، وثابت بن قيسن وكميل بن زياد، وزيد، وصعصعة ابنا صوحان، والحارث الأعور، وجندب بن زهير، وأصفر بن قيس، يسألون عثمان عزل سعيد بن العاص عنهم فرحل سعيد أيضا إلى عثمان فوافقهم(راشدون/184)
عنده، فأبى عثمان أن يعزله. فخرج الأشتر من ليلته في نفرن فسرى عشرا إلى الكوفة واستولى عليها وصعد المنبر فقال: هذا سعيد بن العاص قد أتاكم يزعم أن السواد بستان الأغيلمة من قريش، والسواد مساقط رؤوسكم ومراكز رماحكم، فمن كان يرى لله عليه حقا فلينهض إلى الجرعة. فخرج الناس فعسكروا بالجرعة، فأقبل سعيد حتى نزل العذيب، فجهز الأشتر غليه ألف فارس مع يزيد بن قيس الأرحبي، وعبد الله بن كنانة العبدي، فقال: سيروا وأزعجاه وألحقاه بصاحبه، فإن أبى فاضربا عنقه. فأتياه، فلما رأى منهما الجد رجع. وصعد الأشتر منبر الكوفة، وقال: يا أهل الكوفة ما غضبت إلا لله ولكم، وقد وليت أبا موسى الأشعري صلاتكم، وحذيفة بن اليمان فيئكم، ثم نزل وقال: يا أبا موسى اصعد. فقال: ما كنت لأفعل، ولكن هلموا فبايعوا لأمير المؤمنين وجددوا البيعة في رقابكم فأجابه الناس وكتب إلى عثمان بما صنع، فأعجب عثمان، فقال عتبة بن الوعل شاعر أهل الكوفة:
تصدق علينا يا ابن عفان واحتسب ... وأمر علينا الأشعري لياليا
فقال عثمان: نعم وشهورا وسنين إن عشت، وكان الذي صنع أهل الكوفة بسعيد أول وهن دخل على عثمان حين اجترئ عليه.
وعن الزهري قال: ولي عثمان، فعمل ست سنين لا ينقم عليه الناس شيئا، وإنه لأحب إليهم من عمر؛ لأن عمر كان شديدا عليهم، فلما وليهم عثمان لان لهم ووصلهم، ثم إنه توانى في أمرهم، واستعمل(راشدون/185)
أقرباءه وأهل بيته في الست الأواخر، وكتب لمروان بخمس مصر أو بخمس إفريقية، وآثر أقرباءه بالمال، وتأول في ذلك الصلة التي أمر الله بها، واتخذ الأموال، واستسلف من بيت المال، وقال: إن أبا بكر وعمر تركا من ذلك ما هو لهما، وإني أخذته فقسمته في أقربائي، فأنكر الناس عليه ذلك.
قلت: ومما نقموا عليه أنه عزل عمير بن سعد عن حمص، وكان صالحا زاهدا، وجمع الشام لمعاوية، ونزع عمرو بن العاص عن مصر، وأمر ابن أبي سرح عليها، ونزع أبا موسى الأشعري عن البصرة، وأمر عليها عبد الله بن عامر، نزع المغيرة بن شعبة عن الكوفة وأمر عليها سعيد بن العاص.
وقال القاسم بن الفضل: حدثنا عمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد، قال: دعا عثمان ناسا من الصحابة فيهم عمار فقال: إني سائلكم وأحب أن تصدقوني: نشدتكم الله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤثر قريشا على سائر الناس، ويؤثر بني هاشم على سائر قريش؟
فسكتوا، فقال: "لو أن بيدي مفاتيح الجنة لأعطيتا بني أمية حتى يدخلوها".
وعن أبي وائل أن عبد الرحمن بن عوف كان بينه وبين عثمان كلام، فأرسل إليه: لم فررت يوم أحد وتخلفت عن بدر وخالفت سنة عمر؟ فأرسل إليه: تخلفت عن بدر؛ لأن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شغلتني بمرضها، وأما يوم أحد فقد عفا الله عني، وأما سنة عمر فوالله ما استطعتها أنا ولا أنت.
وقد كان بين علي وعثمان شيء فمشى بينهما العباس، فقال علي: والله لو أمرني أن أخرج من داري لفعلت، فأما أداهن أن لا يقام بكتاب(راشدون/186)
الله فلم أكن لأفعل.
وقال سيف بن عمر، عن عطية، عن يزيد الفقعسي، قال: لما خرج ابن السوداء إلى مصر نزل على كنانة بن بشر مرة، وعلى سودان بن حمران مرة، وانقطع إلى الغافقي فشجعه الغافقي فتكلم، وأطاف به خالد بن ملجم، وعبد الله بن رزين، وأشباه لهم، فصرف لهم القول، فلم يجدهم يجيبون إلى شيء ما يجيبون إلى الوصية، فقال: عليكم بناب العرب وحجرهم، ولسنا من رجاله، فأروه أنكم تزرعون، ولا تزرعوا العام شيئا حتى تنكسر مصر، فتشكوه إلى عثمان فيعزله عنكم، ونسأل من هو أضعف منه ونخلوا بما نريد، ونظر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكان أسرعهم إلى ذلك محمد بن أبي حذيفة، وهو ابن خال معاوية، وكان يتيما في حجر عثمان، فكبر، وسأل عثمان الهجرة إلى بعض الأمصار، فخرج إلى مصر، وكان الذي دعاه إلى ذلك أنه سأل عثمان العمل، فقال: لست هناك.
قال: ففعلوا ما أمرهم به ابن السوداء، ثم إنهم خرجوا ومن شاء الله مهم، وشكوا عمرا واستعفوا منه، وكلما نهنه عثمان عن عمرو قوما وسكتهم انبعث آخرون بشيء آخر، وكلهم يطلب عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فقال لهم عثمان: أما عمرو فسننزعه عنكم ونقره على الحرب ثم ولى ابن أبي سرح خراجهم، وترك عمرا على الصلاة. فمشى في ذلك سودان، وكنانة بن بشر، وخارجة، فيما بين عبد الله بن سعد، وعمرو بن العاص، وأغروا بينهما حتى تكاتبا على قدر ما أبلغوا كل(راشدون/187)
واحد، وكتبا إلى عثمان، فكتب ابن أبي سرح: إن خراجي لا يستقيم ما دام عمرو على الصلاة. وخرجوا فصدقوه واستعفوا من عمرو، وسألوا ابن أبي
سرح، فكتب عثمان إلى عمرو: إنه لا خير لك في صحبة من يكرهك فأقبل. ثم جمع مصر لابن أبي سرح.
وقد روي أنه كان بين عمار بن ياسر، وبين عباس بن عتبة بن أبي لهب كلام، فضربهما عثمان.
وقال سيف، عن مبشر، وسهل بن يوسف، عن محمد بن سعد بن أبي وقاص، قال: قدم عمار بن ياسر من مصر وأبي شاك، فبلغه، فبعثني إليه أدعوه، فقام معي وعليه عمامة وسخة وجبة فراء. فلما دخل على سعد قال له: ويحك يا أبا اليقظان إن كنت فينا لمن أهل الخير، فما الذي بلغني عنك من سعيك في فساد بين المسلمين، والتاليب على أمير المؤمنين، أمعك عقلك أم لا؟! فأهوى عمار إلى عمامته وغضب فنزعها، وقال: خلعت عثمان كما خلعت عمامتي هذه. فقال سعد: "إنا لله وإنا إليه راجعون" ويحك حين كثرت شيبتك ورق عظمك ونفد عمرك خلعت ربقة الإسلام من عنقك وخرجت من الدين عريانا. فقام عمار مغضبا موليا وهو يقول: أعوذ بربي من فتنة سعد. فقال سعد: ألا في الفتنة سقطوا، اللهم زد عثمان بعفوه وحلمه عندك درجات. حتى خرج عمار من الباب، فأقبل علي سعد يبكي حتى أخضل لحيته وقال: من يأمن الفتنة يا بني لا يخرجن منك ما سمعت منه، فإنه من الأمانة، وإني أكره أن يتعلق به الناس عليه يتناولونه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحق مع عمار ما لم تغلب عليه دلهة الكبر". فقد دله وخرف.
وممن قام على عثمان محمد بن أبي بكر الصديق، فسئل سالم بن(راشدون/188)
عبد الله فيما قيل عن سبب خروج محمد قال: الغضب والطمع، وكان من الإسلام بمكان، وغره أقوام فطمع، وكانت له دالة، ولزمه حق، فأخذه عثمان من ظهره.
وحج معاوية، فقيل: إنه لما رأى لين عثمان واضطراب أمره، قال: انطلق معي إلى الشام قبل أن يهجم عليك من لا قبل لك به، فأهل الشام على الطاعة فقال: أنا لا أبيع جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء وإن كان فيه قطع خيط عنقي. قال: فأبعث إليك جندا. قال: أنا أقتر على جيران رسول الله الأرزاق بجند تساكنهم! قال: يا أمير المؤمنين والله لتغتالن ولتغزين قال: حسبي الله ونعم الوكيل.
وقد كان أهل مصر بايعوا أشياعهم من أهل الكوفة والبصرة وجميع من أجابهم، واتعدوا يوما حيث شخص أمراؤهم، فلم يستقم لهم ذلك، لكن أهل الكوفة ثار فيهم يزيد بن قيس الأرحبي واجتمع عليه ناس، وعلى الحرب يومئذ القعاع بن عمرو، فأتاه وأحاط الناس بهم
فناشدوهم، وقال يزيد للقعقاع: ما سبيلك علي وعلى هؤلاء، فوالله إني لسامع مطيع، وإني لازم لجماعتي إلا أني أستعفي من إمارة سعيد. ولم يظهروا سوى ذلك، واستقبلوا سعيدا فردوه من الجرعة، واجتمع الناس على أبي موسى، فأقره عثمان.
ولما رجع الأمراء لم يكن للسبئية سبيل إلى الخروج من الأمصار، فكاتبوا أشياعهم أن يتوافوا بالمدينة لينظروا فيما يريدون، وأظهروا أنهم يأمرون بالمعروف، وأنهم يسألون عثمان عن أشياء لتطير في الناس ولتحقق عليه. فتوفوا بالمدينة، فأرسل عثمان رجلين من بني(راشدون/189)
مخزوم ومن بني زهرة، فقال: انظرا ما يريدون، وكانا ممن ناله من عثمان أدب، فاصطبرا للحق ولم يضطغنا، فلما رأوهما باثوهما وأخبروهما، فقالا: من معكم على هذا من أهل المدينة؟ قالوا: ثلاثة قالا: فكيف تصنعون؟ قالوا: نريد أن نذكر له أشياء قد زرعناها في قلوب الناس، ثم نرجع إليهم ونزعم لهم أنا قد قررناه بها، فلم يخرج منها ولم يتب، ثم نخرج كأننا حجاج حتى نقدم فنحيط به فنخلعه، فإن أبى قتلناه.
فرجعا إلى عثمان بالخبر، فضحك، وقال: اللهم سلم هؤلاء فإنك إن لم تسلمهم شقوا، فأما عمار فحمل علي ذنب ابن أبي لهب وعركة بي، وأما محمد بن أبي بكر فإنه أعجب حتى رأى أن الحقوق لا تلزمه، وأما ابن سارة فغنه يتعرض للبلاء.
وأرسل إلى المصريين والكوفيين ونادى: الصلاة جامعة -وهم عنده في أصل المنبر- فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه، وأخبرهم بالأمر، وقام الرجلان، فقال الناس: اقتل هؤلاء فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من دعا إلى نفسه أو إلى أحد، وعلى الناس إمام فعليه لعنة الله، فاقتلوه".
وقال عثمان: بل نعفو ونقبل، ونبصرهم بجهدنا، إن هؤلاء قالوا: أتم الصلاة في السفر، وكانت لا تتم، ألا وإني قدمت بلدا فيه أهلي فأتممت لهذا.
قالوا: وحميت الحمى، وإني والله ما حميت إلا ما حمي قبلي، وإني قد وليت وإني لأكثر العرب بعيرا وشاء، فمالي اليوم غير بعيرين لحجتي، أكذاك؟ قالوا: نعم.(راشدون/190)
قال: وقالوا: كان القرآن كتبا فتركتها إلا واحدا ألا وإن القرآن واحد جاء من عند واحد، وإنما أنا في ذلك تابع هؤلاء، أفكذاك؟ قالوا: نعم.
وقالا: إني رددت الحكم وقد سيره رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ثم رده، فرسول الله صلى الله عليه وسلم سيره وهو رده، أفكذاك؟ قالوا: نعم
وقالوا: استعملت لأحداث. ولم استعمل إلا مجتمعا مرضيا، وهؤلاء أهل عملي فسلوهم، وقد ولي من قبلي أحدث منه، وقيل في ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أشد مما قيل لي في استعماله أسامة، أكذاك؟ قالوا: نعم.
وقالوا: إني أعطيت ابن أبي سرح ما أفاء الله عليه. وإني إنما نفلته خمس الخمس، فكان مائة ألف، وقد نفل مثل ذلك أبو بكر وعمر، وزعم الجند أنهم يكرهون ذلك فرددته عليهم، وليس ذلك لهم، أكذاك؟ قالوا: نعم.
وقالوا: إني أحب أهل بيتي وأعطيهم. فأما حبهم فلم يوجب جورا، وأما إعطاؤهم، فإنما أعطيهم من مالي، ولا استحل أموال المسلمين لنفسي ولا لأحد. وكان قد قسم ماله وأرضه في بني أمية، وجعل ولده كبعض من يعطى.
قال: ورجع أولئك إلى بلادهم وعفا عنهم قال: فتكاتبوا وتواعدوا إلى شوال، فلما كان شوال خرجوا كالحجاج حتى نزلوا بقرب المدينة، فخرج أهل مصر في أربع مائة، وأمراؤهم عبد الرحمن بن عديس البلوي، وكنانة بن بشر الليثي، وسودان بن حمران السكوني، وقتيرة السكوني، ومقدمهم الغافقي بن حرب العكي، ومعهم ابن السوداء.(راشدون/191)
وخرج أهل الكوفة في نحو عدد أهل مصر، فيهم زيد بن صوحان العبدي، والأشتر النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن الأصم، ومقدمهم عمرو بن الأصم.
وخرج أهل البصرة وفيهم حكيم بن جبلة، وذريح بن عباد العبديان، وبشر بن شريح القيسي، وابن محرش الحنفي، وعليهم حرقوص بن زهير السعدي.
فأما أهل مصر فكانوا يشتهون عليا، وأما أهل البصرة فكانوا يشتهون طلحة، وأما أهل الكوفة فكانوا يشتهون الزبير، وخرجوا ولا تشك كل فرقة أن أمرها سيتم دون الأخرى، حتى كانوا من المدينة على ثلاث، فتقدم ناس من أهل البصرة فنزلوا ذا خشب. وتقدم ناس من أهل الكوفة فنزلوا الأعوص، وجاءهم ناس من أهل مصر، ونزل عمتهم بذي المروة، ومشى فيما بين أهل البصرة وأهل مصر زياد بن النضر، وعبد الله بن الأصم ليكشفوا خبر المدينة، فدخلا فلقيا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وطلحة، والزبير، وعليا، فقالا: إنما نؤم هذا البيت، ونستعفي من بعض عمالنا، واستأذنوهم للناس بالدخول، فكلهم أبى ونهى، فرجعا. فاجتمع من أهل مصر نفر فأتوا عليا، ومن أهل البصرة نفر فأتوا طلحة، ومن أهل الكوفة نفر فأتوا الزبير، وقال كل فريق منهم: إن بايعنا صاحبنا وإلا كدناهم وفرقنا جماعتهم، ثم كررنا حتى نبغتهم.
فأتى المصريون عليا وهو عسكر عند أحجار الزيت، وقد سرح(راشدون/192)
ابنه الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع إليه، فسلم على علي المصريون، وعرضوا له، فصاح بهم وطردهم، وقال: لقد علم الصالحون أنكم ملعونون، فارجعوا لا صحبكم الله، فانصرفوا، وفعل طلحة والزبير نحو ذلك.
فذه القوم وأظهروا أنهم راجعون إلى بلادهم، فذهب أهل المدينة إلى منازلهم، فلما ذهب القوم إلى عساكرهم كروا بم، وبغتوا أهل المدينة ودخلوها، وضجوا بالتكبير، ونزلوا في مواضع عساكرهم، وأحاطوا، بعثمان وقالوا: من كف يده فهو آمن.
ولزم الناس بيوتهم، فأتى علي -رضي الله عنه- فقال: ما ردكم بعد ذهابكم؟ قالوا: وجدنا مع بريد كتابا بقتلنا. وقال الكوفيون والبصريون: نحن نمنع إخواننا وننصرهم فعلم الناس أن ذلك مكر منهم.
وكتب عثمان إلى أهل الأمصار يستمدهم، فساروا إليه على الصعب والذلول، وبعث معاوية إليه حبيب بن مسلمة، وبعث ابن أبي سرح معاوية بن حديج، وسار إليه من الكوفة القعقاع بن عمرو.
فلما كان يوم الجمعة صلى عثمان بالناس وخطب قال: يا هؤلاء الغزاء الله الله، فوالله إن أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فامحوا الخطأ بالصواب، فإن الله لا يمحو السيئ إلا بالحسن. فقام محمد بن مسلمة، فقال: أنا أشهد بذلك، فاقعده حكيم بن جبلة فقام زيد بن ثابت فقال: ابغني الكتاب. فثار إليه من ناحية أخرى محمد بن أبي قتيرة فأقعده وتكلم فأفظع، وثار القوم بأجمعهم، فحصبوا الناس حتى أخرجوهم، وحصبوا عثمان حتى صرع عن المنبر مغشيا عليه، فاحتمل وأدخل الدار.
وكان المصريون لا يطمعون في أحد من أهل المدينة أن ينصرهم(راشدون/193)
إلا ثلاثة، فإنهم كانوا يراسلونهم، وهم: محمد بن أبي بكر الصديق ومحمد بن جعفر، وعمار بن ياسر.
قال: واستقتل أناس: منهم زيد بن ثابت، وأبو هريرة، وسعد بن مالك، والحسن بن علي، ونهضوا لنصرة عثمان، فبعث إليهم يعزم عليهم لما انصرفوا، فانصرفوا وأقبل علي حتى دخل على عثمان هو وطلحة والزبير يعودونه من صرعته، ثم رجعوا إلى منازلهم.
وقال عمرو بن دينار عن جابر قال: بعثنا عثمان خمسين راكبا، وعلنيا محمد بن مسلمة حتى أتينا ذا خشب، فإذا رجل معلق المصحف في عنقه، وعيناه تذرفان، والسيف بيده وهو يقول: ألا إن هذا -يعني المصحف- يأمرنا أن نضرب بهذا، يعني السيف، على ما في
هذا، يعني المصحف، فقال: محمد بن مسلمة: اجلس فقد ضربنا بهذا على ما في هذا قبلك، فجلس فلم يزل يكلمهم حتى رجعوا.
وقال الواقدي: حدثني ابن جريج، وغيره عن عمرو عن جابر أن المصريين لما أقبلوا يريدون عثمان دعا عثمان محمد بن مسلمة فقال: اخرج إليهم فارددهم وأعطهم الرضا، وكان رؤساؤهم أربعة: عبد الرحمن بن عديس، وسودان بن حمران، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وابن البياع، فأتاهم ابن مسلمة، فلم يزل بهم حتى رجعوا، فلما كانوا بالبويب رأوا جملا عليه ميسم الصدقة، فأخذوه، فإذا غلام لعثمان، ففتشوا متاعه، فوجدوا قصبة من رصاص، فيها كتاب في جوف الإداوة في الماء. إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح أن أفعل بفلان كذا وبفلان كذا من القوم الذين شرعوا في قتل عثمان، فرجع القوم(راشدون/194)
ثانية، ونازلوا عثمان وحصروه.
قال الواقدي: فحدثني عبد الله بن الحارث، عن أبيه قال: أنكر عثمان أن يكون كتب ذلك الكتاب وقال: فعل ذلك بلا أمري.
وقال أبو نضرة، عن أبي سعيد مولى أبي أسيد فذكر طرفا من الحديث، إلى أن قال: ثم رجعوا راضين، فبينما هم بالطريق ظفروا برسول إلى عامل مصر أن يصلبهم ويفعل ويفعل، فردوا إلى المدينة، فأتوا عليا فقالوا: ألم تر إلى عدو الله، فقم معنا قال: والله لا أقوم معكم قالوا: فلم كتبت إلينا؟ قال: والله ما كتبت إليكم. فنظر بعضهم إلى بعض، وخرج علي من المدينة، فانطلقوا إلى عثمان، فقالوا: أكتبت فينا بكذا؟ فقال: إنما هما اثنان، تقيمون رجلين من المسلمين -يعني شاهدين- أو يميني بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبت ولا علمت، وقد يكتب الكتاب على لسان الرجل وينقش الخاتم على الخاتم. فقالوا: قد أحل الله دمك، ونقض العهد والميثاق. وحصروه في القصر.
وقال ابن سيرين: إن عثمان بعث إليهم عليا فقال: تعطون كتاب الله وتعتبون من كل ما سخطتم. فأقبل معه ناس من وجوههم، فاصطلحوا على خمس: على أن المنفي يقلب، والمحروم يعطى، ويوفر الفيء، ويعدل في القسم، ويستعمل ذو الأمانة والقوة، كتبوا ذلك في كتاب، وأن يردوا ابن عامر إلى البصرة وأبا موسى إلى الكوفة.(راشدون/195)
وقال أبو الأشهب، عن الحسن قال: لقد رأيتهم تحاصبوا في المسجد حتى ما أبصر السماء، وإن رجلا رفع مصحفا من حجرات النبي صلى الله عليه وسلم ثم نادى: ألم تعلموا أن محمدا قد برئ ممن فرقوا دينهم وكانوا شيعا.
وقال سلام: سمعت الحسن، قال: خرج عثمان يوم الجمعة، فقام إليه رجل، فقال: أسألك كتاب الله. فقال: ويحك أليس معك كتاب الله! قام: ثم جاء رجل آخر فنهاه، وقام آخر، وآخر، حتى كثروا، ثم تحاصبوا حتى لم أر أديم السماء.
وروى بشر بن شغاف، عن عبد الله بن سلام، قال: بينما عثمان يخطب، فقام رجل فنال نه، فوذأته فاتذأ، فقال رجل: لا يمنعك مكان ابن سلام أن تسب نعثلا، فإنه من شيعته، فقلت له: لقد قلت القول العظيم في الخليفة من بعد نوح.
وذأته: زجرته وقمعته. وقالوا لعثمان "نعثلا" تشبيها له برجل مصري اسمه نعثل كان طويل اللحية، والنعثل: الذكر من الضباع، وكان عمر يشبه بنوح في الشدة.
وقال ابن عمر: بينما عثمان يخطب إذ قام إليه جهجاه الغفاري، فأخذ من يده العصا فكسرها على ركبته، فدخلت منها شظية في ركبته، فوقعت فيها الأكلة.
وقال غيره: ثم إنهم أحاطوا بالدار وحصروه، فقال سعد بن إبراهيم، عن أبيه: سمعت عثمان يقول: إن وجدتم في الحق أن تضعوا رجلي في القيود فضعوهما.(راشدون/196)
وقال ثمامة بن حزن القشيري: شهدت الدار وأشرف عليهم عثمان، فقال: ائتوني بصاحبيكم اللذين ألباكم. فدعيا له، كأنهما جملان أو حماران، فقال: أنشدكما الله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس يها ماء عذب غير بئر رومة، قال: "من يشتريها فيكون دلوه كدلاء المسلمين، وله في الجنة خير منها". فاشتريتها، وأنتم اليوم تمنعوني أن أشرب منها حتى أشرب من الماء المالح؟ قالا: اللهم نعم قال: أنشدكم الله والإسلام، هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يشتري بقعة بخير له منها في الجنة"، فاشتريتها وزدتها في المسجد، وأنت تمنعوني اليوم أن أصلي فيها؟ قالا: اللهم نعم قال: أنشدكما الله هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على ثبير مكة، فتحرك وعليه أبو بكر وعم وأنا فقال: "اسكن فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان". قالا: اللهم نعم فقال: الله أكبر شهدا ورب الكعبة أني شهيد.
ورواه أبو سلمة بن عبد الرحمن بنحوه، وزاد فيه أنه جهز جيش العسرة. ثم قال: ولكن طال عليكم أمري فاستعجلتم، وأردتم خلع سربال سربلنيه الله، وإني لا أخلعه حتى أموت أو أقتل.
وعن ابن عمر، قال: فأشرف عليهم وقال: علام تقتلونني؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إسلام، أو رجل زنى بعد إحصان، أو رجل قتل نفسا". فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا قتلت رجلا ولا كفرت.
قال أبو أمامة بن سهل بن حنيف: إني لمع عثمان وهو محصور، فكنا ندخل إليه مدخلا -إذا دخل إليه الرجل- سمع كلام من على البلاط، فدخل يوما فيه وخرج إلينا وهو متغير اللون فقال: إنهم يتوعدوني بالقتل، فقلنا: يكفيكهم الله.
وقال سهل السراج، عن الحسن قال عثمان: لئن قتلوني لا يقاتلون عدوا جميعا أبدا، ولا يقتسمون فيئا جميعا أبدا، ولا يصلون جميعا أبدا.
وقال مثله عبد الملك بن أبي سليمان، عن أبي ليلى الكندي، وزاد فيه: ثم أرسل إلى عبد الله بن سلام فقال: ما ترى؟ فقال: الكف الكف، فإنه أبلغ لك في الحجة. فدخلوا عليه فقتلوه وهو صائم رضي الله عنه وأرضاه.
وقال الحسن: حدثني وثاب، قال: بعثني عثمان، فدعوت له الأشتر، فقال: ما يريد الناس؟ قالك إحدى ثلاث: يخيرونك بين الخلع، وبين أن تقتص من نفسك، فإن أبيت فإنهم قاتلوك. فقال: ما كت لخلع سربالا سربلنيه الله، وبدني ما يقوم لقصاص.
وقال حميد بن هلال: حدثنا عبد الله بن مغفل، قال: كان عبد الله بن سلام يجيء من أرض له على حمار يوم الجمعة، فلما هاجوا بعثمان قال: يا أيها الناس لا تقتلوا عثمان، واستعتبوه، فوالذي نفسي بيده ما قتلت أمة نبيها فصلح ذات بينهم حتى يهريقوا دم سبعين ألفا، وما قتلت أمة خليفتها فيصلح الله بينهم حتى يهريقوا دم أربعين ألفًان وما هلكت أمة حتى يرفعوا القرآن على السلطان: قال: فلم ينظرو فيما قال، وقتلوه، فجلس على طريق علي بن أبي طالب، فقال له: لا تأت العراق(راشدون/197)
والزم منبر رسول الله، فوالذي نفسي بيده لئن تركته لا تراه أبدًا. فقال من حول علي: دعنا نقتله. قال: دعوا عبد الله بن سلام، فإنه رجل صالح.
قال عبد الله بن مغفل: كنت استأمرت عبد الله بن سلام في أرض أشتريها، فقال بعد ذلك: هذه رأس أربعين سنة، وسيكون بعدها صلح فاشترها. قيل لحميد بن هلال: كيف ترفعون القرآن على السلطان؟ قال: ألم تر إلى الخوراج كيف يتأولون القرآن على السلطان؟
ودخل ابن عمر على عثمان وهو(راشدون/198)
محصور، فقال: ما ترى؟ قال: أرى أن تعطيهم ما سألوك من وراء عتبة بابك غير أن لا تخلع نفسك. فقال: دونك عطاءك -وكان واجدًا عليه- فقال: ليس هذا يوم ذاك. ثم خرج ابن عمر إليهم فقال: إياكم وقتل هذا الشيخ، والله لئن
قتلتموه لم تحجوا البيت جميعا أبدا، ولم تجاهدوا عدوكم جميعا أبدا، ولم تقتسموا فيئكم جميعا أبدا إلا أن تجتمع الأجساد والأهواء مختلفة، ولقد رأيتنا وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون نقول: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان. رواه عاصم بن محمد العمري، عن أبيه، عن ابن عمر.
وعن أبي جعفر القارئ، قال: كان المصريون الذين حصروا عثمان ستة مائة: رأسهم كنانة بن بشر، وابن عديس البلوي، وعمرو بن الحمق، والذين قدموا من الكوفة مائتين، رأسهم الأشتر النخعي، والذين قدموا من البصرة مائة، رأسهم حكيم بن جبلة، وكانوا يدا واحدة في الشر، وكانت حثالة من الناس قد ضووا إليهم، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين خذلوه كرهوا الفتنة وظنوا أن الأمر لا يبلغ قتله، فلا قتل ندموا على ما ضيعوا في أمره، ولعمري لو قاموا أو قام بعضهم فحثا في(راشدون/199)
وجوه أولئك التراب لانصرفوا خاسئين.
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الحسن، قال: لما كثر الطعن على عثمان تنحى علي إلى ماله بينبع، فكتب إليه عثمان: أما بعد فقد بلغ الحزام الطبيين، وخلف السيل الزبى، وبلغ الأمر فوق قدره، وطمع في الأمر من لا يدفع عن نفسه:
فإن كنت مأكولا فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولما أمزق
والبيت لشاعر من عبد القيس.
الطبي: موضع الثدي من الخيل.
وقال محمد بن جبير بن مطعم: لما حصر عثمان أرسل إلى علي: إن ابن عمك مقتول، وإنك مسلوب.
وعن أبان بن عثمان قال: لما ألحوا على عثمان بالرمي، خرجت حتى أتيت عليا فقلت: يا عم أهلكتنا الحجارة فقام معي، فلم يزل يرمى حتى فتر منكبه، ثم قال: يا ابن أخي، اجمع حشمك، ثم يكون هذا شأنك.
وقال حبيب بن أبي ثابت، عن أبي جعفر محمد بن علي: إن عثان بعث إلى علي يدعوه وهو محصور، فأراد أن يأتيه، فتعلقوا به ومنعوه، فحسر عمامة سوداء عن رأسه وقال: اللهم لا أرضى قتله ولا آمر به.
وعن أبي إدريس الخولاني، قال: أرسل عثمان إلى سعد، فأتاه، فكلمه فقال له سعد:
أرسل إلى علي، فإن أتاك ورضى صلح الأمر قال: فأنت رسولي إليه فأتاه فقام معه
علي، فمر بمالك الأشتر، فقال الأشترلأصحابه: أين يريد هذا؟ قالوا: يريد عثمان، فقال: والله لئن(راشدون/200)
دخل عليه لتقتلن عن آخركم، فقام إليه في أصحابه حتى اختلجه عن سعد وأجلسه في أصحابه، وأرسل إلى أهل مصر: إن كنتم تريدون قتله فأسرعوا. فدخلوا عليه فقتلوه.
وعن أبي حبيبة قال: لما اشتد الأمر قالوا لعثمان -يعني الذين عنده في الدار- ائذن لنا في القتال، فقال: أعزم على من كانت لي عليه طاعة أن لا يقاتل.
أبو حبيبة هو مولى الزبير، روى عنه موسى بن عقبة.
وقال محمد بن سعد: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثني شرحبيل بن أبي عون، عن أبيه. وحدثني عبد الحميد بن عمران، عن أبي، عن مسور بن مخرمة "ح" وحدثني موسى بن يعقوب، عن عمه، عن ابن الزبير. "ح" وحدثنا ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قالوا: بعث عثمان المسور بن مخرمة إلى معاوية يعلمه أنه محصور، ويأمره أن يجهز إليه جيشا سريعا. فلما قدم على معاوية ركب معاوية لوقته هو ومسلم بن عقبة، ومعاوية بن حديج، فساروا من دمشق إلى عثمان عشرا. فدخل معاوية نصف الليل، وقبل رأس عثمان، فقال: أين الجيش؟ قال: ما جئت إلا في ثلاثة رهط فقال: عثمان: لا وصل الله رحمك، ولا أعز نصرك، ولا جزاك خيرا، فوالله لا أقتل إلا فيك، ولا ينقم علي إلا من أجلك. فقال: بأبي أنت وأمي، لو بعثت إليك جيشا فسمعوا به عاجلوك فقتلوك، ولكن معي نجائب، فاخرج معي، فما شعر بي أحد، فوالله ما هي إلا ثلاث حتى نرى معالم الشام. فقال: بئس ما أشرت به، وأبى أن يجيبه.(راشدون/201)
فأسرع معاوية راجعا. ورد المسور يريد المدينة فلقي معاوية بذي المروة راجعا، وقدم على عثمان وهو ذام لمعاوية غير عاذر له.
فلما كان في حصره الآخر، بعث المسور ثانيا إلى معاوية لينجده، فقال: إن عثمان أحسن فأحسن الله به، ثم غير فغير الله به، فشددت عليه، فقال: تركتم عثمان حتى إذا كانت نفسه في حنجرته قلتم: اذهب فادفع عنه الموت، وليس ذلك بيدي، ثم أنزلني في مشربة على رأسه، فما دخل علي داخل حتى قتل عثمان.
وأما سيف بن عمر، فروى عن أبي حارثة وأبي عثمان، قالا: لما أتى معاوية الخبر أرسل إلى حبيب بن مسلمة الفهري فقال: أشر علي برجل منفذ لأمري، ولا يقصر، قال: ما أعرف لذاك غيري قال: أنت لها وجعل على مقدمته يزيد بن شجعة الحميري في ألف وقال: إن قدمت يا حبيب وقد قتل، فلا تدعن أحدا أشار إليه ولا أعان عليه إلا قتلته، وإن أتاك الخبر قبل أن تصل، فأقم حتى أنظر. وبعث يزيد بن شجعة في ألف على البغال، يقودون
الخيل، معهم الإبل عليها الروايا فأغذ السير، فأتاه قتله بقرب خيبر. ثم أتاه النعمان بن بشير، معه القميص الذي قتلوه فيه، فيه الدماء وأصابع امرأته نائلة، قد قطعوها بضربة سيف، فرجعوا، فنصب معاوية القميص على منبر دمشق، والأصابع معلقة فيه، وآلى رجال من أهل الشام لا يأتون النساء ولا يمسون الغسل إلا من حلم، ولا ينامون على فراش حتى يقتلوا قتلة عثمان، أو تفنى أرواحهم، وبكوه سنة.
وقال الأوزاعي: حدثني محمد بن عبد الملك بن مروان، أن المغيرة بن شعبة، دخل على عثمان وهو محصور، فقال: إنك إمام العامة،(راشدون/202)
وقد نزل بك ما ترى، وإني أعرض عليك خصالا: إما أن تخرج فتقاتلهم، فإن معك عددا وقوة، وإما أن تخرق لك بابا سوى الباب الذي هم عليه، فتقعد على رواحلك فتلحق بمكة، فإنهم لن يستحلوك وأنت بها، وإما أن تلحق بالشام، فإنهم أهل الشام، وفيهم معاوية فقال: إني لن أفارق دار هجرتي، ولن أكون أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بسفك الدماء.
وقال نافع عن ابن عمر: أصبح عثمان حدث الناس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة في المنام، فقال: "أفطر عندنا غدًا"، فأصبح صائما، وقتل من يومه.
وقال محمد بن سيرين: ما أعلم أحدا يتهم عليا في قتل عثمان، وقتل وإن الدار غاصة، فيهم ابن عمر، والحسن بن علي، ولكن عثمان عزم عليهم أن لا يقاتلوا.
ومن وجه آخر، عن ابن سيرين قال: انطلق الحسن والحسين وابن عمر، ومروان، وابن الزبير، كلهم شاك السلاح، حتى دخلوا على عثمان، فقال: أعزم عليكم لما رجعتم فوضعتم أسلحتكم ولزمتم بيوتكم، فقال ابن الزبير ومروان: نحن نعزم على أنفسنا أن لا نبرح.
وخرج الآخرون.
وقال ابن سيرين: كان مع عثمان يومئذ في الدار سبع مائة، لو يدعهم لضربوهم حتى يخرجوهم من أقطارها.
وروي أن الحسن بن علي ما راح حتى جرح.
وقال عبد الله بن الزبير: قلت لعثمان: قاتلهم، فوالله لقد أحل الله(راشدون/203)
لك قتالهم، فقال: لا أقاتلهم أبدا، فدخلوا عليه وهو صائم وقد كان عثمان أمر ابن الزبير على الدار، وقال: أطيعوا عبد الله بن الزبير.
وقال ابن سيرين: جاء زيد بن ثابت في ثلاث مائة من الأنصار، فدخل على عثمان، فقال: هذه الأنصار بالباب. فقال: أما القتال فلا.
وقال أبو صالح، عن أبي هريرة، قال: دخلت على عثمان يوم الدار فقلت: طاب الضرب. فقال: أيسرك أن يقتل الناس جميعا وأنا معهم؟ قلت: لا، قال: فإنك إن قتلت رجلا واحدا، فكأنما قتلت الناس جميعا. فانصرفت ولم أقاتل.
وعن أبي عون مولى المسور قال: ما زال المصريون كافين عن القتال، حتى قدمت أمداد العراق من عند ابن عامر، وأمداد ابن أبي سرح من مصر، فقالاك نعالجه قبل أن تقدم الأمداد.
وعن مسلم أبي سعيد قال: أعتق عثمان عشرين مملكا ثم دعا بسراويل، فشدها عليه ولم يلبسها في جاهلية ولا إسلام، وقال: إني رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم البارحة، وأبا بكر، وعمر، فقال: "اصبر فإنك تفطر عندنا القابلة". ثم نشر المصحف بين يديه، فقتل وهو بين يديه.
وقال ابن عون، عن الحسن: أنبأني وثاب مولى عثمان قال: جاء رويحل كأنه ذئب، فاطلع من باب، ثم رجع، فجاء محمد بن أبي بكر في ثلاثة عشر رجلا، فدخل حتى انتهى إلى عثمان، فأخذ بلحيته، فقال بها حتى سمعت وقع أضراسه، فقال: ما أغنى عنك معاوية، ما أغنى عنك ابن عامر، ما أغنت عنك كتبك. فقال: أرسل لحيتي يا ابن أخي. قال: فأا رأيته استعدى رجلا من القوم عليه يعينه، فقام إلى عثمان بمشقص، حتى وجأ به في رأسه ثم تعاوروا عليه حتى قتلوه.(راشدون/204)
وعن ريطة مولاة أسامة قالت: كنت في الدار، إذ دخلوا، فجاء محمد فأخذ بلحية عثمان فهزها، فقال: يا ابن أخي دع لحيتي فإنك لتجذب ما يعز على أبيك أن تؤذيها. فرأيته كأنه استحيى، فقام، فجعل بطرف ثوبه هكذا: ألا ارجعوا ألا ارجعوا. قالت: وجاء رجل من خلف عثمان بسعفة رطبة، فضرب بها جبهته فرأيت الدم يسيل، وهو يمسحه ويقول: "اللهم لا يطلب بدمي غيرك"، وجاء آخر فضربه بالسيف على صدره فأقعصه، وتعاوروه بأسيافهم، فرأيتهم ينتهبون بيته.
وقال مجالد، عن الشعبي قال: جاء رجل من تجيب من المصريين، والناس حول عثمان، فاستل سيفه، ثم قال: أفرجوا، ففرجوا له، فوضع ذباب سيفه في بطن عثمان، فأمسكت نائلة بنت الفرافصة زوجة عثمان السيف لتمنع عنه، فحز السيف أصابعها.
وقيل: الذي قتله رجل يقال له: حمار.
وقال الواقدي: حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد، أن محمد بن أبي بكر تسور من دار عمرو بن حزم على عثمان، ومعه كنانة بن بشر، وسودان، وعمرو بن الحمق، فوجدوه عند نائلة يقرأ في المصحف، فتقدمهم محمد، فأخذ بلحيته، وقال: يا نعثل قد أخزاك الله فقال: لست بنعثل ولكنني عبد الله، وأمير المؤمنين. فقال محمد: ما أغنى عنك معاوية وفلان وفلان قال: يا ابن أخي دع لحيتي، فما كان أبوك ليقبض على ما قبضت. فقال: ما يراد بك أشد من قبضتي، وطعن جنبه بمشقص، ورفع كنانة مشاقص فوجأ بها في أذن عثمان، فمضت حتى دخلت في حلقه، ثم علاه(راشدون/205)
بالسيف قال عبد الرحمن بن عبد العزيز: فسمعت ابن أبي عون يقول: ضرب كنانة بن بشر جبينه بعمود حديد، وضربه سودان المرادي فقتله، ووثب عليه عمرو بن الحمق، وبه رمق، وطعنه تسع طعنات، وقال: ثلاث لله، وست لما في نفسي عليه.
وعن المغيرة قال: حروه اثنين وعشرين يوما، ثم أحرقوا الباب، فخرج من في الدار.
وقال سليمان التيمي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد مولى أبي أسيد، قال: فتح عثمان الباب ووضع المصحف بين يديه، فدخل عليه رجل، فقال: بيني وبينك كتاب الله، فخرج وتركه ثم دخل عليه آخر، فقال: بيني وبينك كتاب الله، فأهوى إليه بالسيف، فاتقاه بيده فقطعها، فقال: أما والله إنها لأول كف خطت المفصل ودخل عليه رجل يقال له: الموت الأسود، فخنقه قبل أن يضرب بالسيف، قال: فوالله ما رأيت شيئا ألين من حلقه، لقد خنقته حتى رأيت نفسه مثل الجان تردد في جسده.
وعن الزهري قال: قتل عند صلاة العصر، وشد عبد لعثمان على كنانة بن بشر فقتله، وشد سودان على العبد فقتله.
وقال أبو نضرة، عن أبي سعيد، قال: ضربوه فجرى الدم على المصحف على: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [البقرة: 137] .
وقال عمران بن حدير، إلا يكن عبد الله بن شقيق حدثني: أن أول(راشدون/206)
قطرة قطرت من دمه على: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} فإن أبا حريث ذكر أنه ذهب وهو وسهيل المرى، فأخرجوا إليه المصحف، فإذا قطرة الدم على {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} قال: فإنها في المصحف ما حكت.
وقال محمد بن عيسى بن سميع، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري: قلت لسعيد بن المسيب: هل أنت مخبري كيف كان قتل عثمان؟ قال: قتل مظلوما، ومن خذله كان معذورا، ومن قتله كان ظالما، وإنه لما استخلف كره ذلك نفر من الصحابة؛ لأنه كان يحب قومه ويوليهم، فكان يكون منهم ما تنكره الصحابة فيستعتب فيهم، فلا يعزلهم، فلما كان في الست الحجيج الأواخر استأثر ببني عمه فولاهم وما أشرك معهم، فولى عبد الله بن أبي سرح مصر، فمكث عليها، فجاء أهل مصر يشكونه ويتظلمون منه. وقد كان قبل ذلك من عثمان هنات إلى ابن مسعود وأبي ذر وعمار فحنق عليه قومهم، وجاء المصريون يشكون ابن أبي سرح، فكتب إليه يتهدده فأبى أن يقبل، وضرب بعض من أتاه ممن شكاه فقتله.
فخرج من أهل مصر سبع مائة رجل، فنزلوا المسجد، وشكوا إلى الصحابة ما صنع ابن أبي سرح بهم، فقام طلحة فكلم عثمان بكلام شديد، وأرسلت إليه عائشة تقول له: أنصفهم من عاملك، ودخل عليه علي، وكان متكلم القوم، فقال: إنما يسألونك رجلا مكان رجل، وقد ادعوا قبله دما، فاعزله، واقض بينهم فقال: اختاروا رجلا أوله فأشاروا عليه بمحمد بن أبي بكر، فكتب عهده، وخرج معهم عدد من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بين أهل مصر وابن أبي سرح. فلما كان محمد على مسيرة ثلاث من المدينة، إذا هم بغلام أسود على بعير مسرعا فسألوه فقال: وجهني أمير المؤمنين إلى عامل مصر، فقالوا له: هذا عامل أهل مصر، وجاؤوا به إلى محمد، وفتشوه فوجدوا إداوته(راشدون/207)
تتقلقل، فشقوها، فإذا فيها كتاب من عثمان إلى ابن أبي سرح، فجمع محمد من عنده من الصحابة، ثم فك الكتاب، فإذا فيه: إذا أتاك محمد، وفلان، وفلان فاستحل قتلهم، وأبطل كتابه، واثبت على عملك. فلما قرأوا الكتاب رجعوا إلى المدينة، وجمعوا طلحة، وعليا، والزبير، وسعدا، وفضوا الكتاب، فلم يبق أحد إلا حنق على عثمان، وزاد ذلك غضبا وحنقا أعوان أبي ذر، وابن مسعود، وعمار.
وحاصر أولئك عثمان وأجلب عليه محمد بن أبي بكر ببني تيم، فلما رأى ذلك علي بعث إلى طلحة، والزبير، وعمار، ثم دخل على عثمان، ومعه الكتاب والغلام والبعير فقال: هذا الغلام والبعير لك؟ قال: نعم، قال: فهذا كتابك؟ فحلف أنه ما كتبه ولا أمر به، قال: فالخاتم خاتمك؟ قال: نعم فقال: كيف يخرج غلامك ببعيرك بكتاب عليه خاتمك ولا تعلم به! وعرفوا أنه خط مروان وسألوه أن يدفع إليهم مروان، فأبى وكان عنده في الدار، فخرجوا من عنده غضابا، وشكوا في أمره، وعلموا أنه لا يحلف بباطل ولزموا بيوتهم.
وحاصره أولئك حتى منعوه الماء، فأشرف يوما، فقال: أفيكم علي؟ قالوا: لا قال: أفيكم سعد؟ قالوا: لا فسكت، ثم قال: ألا أحد يسقينا ماء. فبلغ ذلك عليا، فبعث إليه بثلاث قرب فجرح في سببها جماعة حتى وصلت إليه، وبلغ عليا أن عثمان يراد قتله فقال: إنما أردنا منه مروان، فأما عثمان، فلا ندع أحدا يصل إليه.
وبعث إليه الزبير ابنه، وبعث طلحة ابنه، وبعث عدة من الصحابة أبناءهم، يمنعون الناس منه، ويسألونه إخراج مروان، فلما راى ذلك محمد بن أبي بكر، ورمى الناس عثمان بالسهام، حتى خضب الحسن بالدماء على بابه، وأصاب مروان سهم، وخضب محمد بن طلحة، وشج قنبر مولى علي، فخشي محمد أن يغضب بنو هاشم لحال(راشدون/208)
الحسن، فاتفق هو وصاحباه، وتسوروا من دار، حتى دخلوا عليه، ولا يعلم أحد من أحل الدار؛ لأنهم كانوا فوق البيوت، ولم يكن مع عثمان إلا امرأته. فدخل محمد فأخذ بلحيته، قال: والله لو رآك أبوك لساءه مكانك مني فتراخت يده، ووثب الرجلان عليه فقتلاه، وهربوا من حيث دخلوا، ثم صرخت المرأة، فلم يسمع صراخها لما في الدار من الجلبة، فصعدت إلى الناس وأخبرتهم، فدخل الحسن والحسين وغيرهما فوجوده مذبوحا.
وبلغ عليا وطلحة والزبير الخبر، فخرجوا -وقد ذهبت عقولهم- ودخلوا فرأوه مذبوحا، وقال علي: كيف قتل وأنتم على الباب؟ ولطم الحسن وضرب صدر الحسين، وشتم ابن الزبير، وابن طلحة، وخرج غضبان إلى منزله. فجاء الناس يهرعون إليه ليبايعوه، قال: ليس ذاك إليكم، إنما ذاك إلى أهل بدر، فمن رضوه فهو خليفة. فلم يبق أحد من البدريين إلا أتى عليا، فكان أول من بايعه طلحة بلسانه، وسعد بيده، ثم خرج إلى المسجد فصعد المنبر، فكان أول من صعد إليه طلحة، فبايعه بيده، ثم بايعه الزبير وسعد والصحابة جميعا، ثم نزل فدعا الناس، وطلب مروان، فهرب منه هو وأقاربه.
وخرجت عائشة اكية تقول: قتل عثمان، وجاء علي إلى امرأة عثمان، فقال: من قتله؟ قالت: لا أدري، وأخبرته بما صنع محمد بن أبي بكر فسأله علي، فقال: تكذب، قد والله دخلت عليه، وأنا أريد قتله، فذكر لي أبي، فقمت وأنا تائب إلى الله والله ما قتلته ولا أمسكته، فقالت: صدق، ولكنه أدخل اللذين قتلاه.
وقال محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص، عن أبيه، عن جده،(راشدون/209)
قال: اجتمعنا في دار مخرمة للبيعة بعد قتل عثمان، فقال أبو جهم بن حذيفة: أما من بايعنا منكم فلا يحول بيننا
وبين قصاص. فقال عمار: أما دم عثمان فلا فقال: يا ابن سمية، أتقتص من جلدات جلدتهن، ولا تقتص من دم عثمان! فتفرقوا يومئذ عن غير بيعة.
وروى عمر بن علي بن الحسين، عن أبيه قال: قال مروان: ما كان في القوم أدفع عن صاحبنا من صاحبكم -يعني عليا عن عثمان- قال: فقلت: ما بالكم تسبونه على المنابر! قال: لا يستقيم الأمر إلا بذلك. رواه ابن أبي خيثمة. بإسناد قوي، عن عمر.
وقال الواقدي، عن ابن أبي سبرة، عن سعيد بن أبي زيد، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، قال: كان لعثمان عند خازنه يوم قتل ثلاثون ألف ألف درهم، وخمسون ومائة ألف دينار، فانتهيت وذهبت، وترك ألف بعير بالربذة، وترك صدقات بقيمة مائتي ألف دينار.
وقال ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، قال: بلغني أن الركب الذين ساروا إلى عثمان عامتهم جنوا.
وقال ليث بن أبي سليم، عن طاووس، عن ابن عباس سمع عليا يقول: والله ما قتلت -يعني عثمان- ولا أمرت، ولكن غلبت، يقول ذلك ثلاثا. وجاء نحوه عن علي من طرق، وجاء عنه أنه لعن قتلة عثمان.
وعن الشعبي قال: ما سمعت من مراثي عثمان أحسن من قول كعب بن مالك:
فكف يديه ثم أغلق بابه ... وايقن أن الله ليس بغافل(راشدون/210)
وقال لأهل الدار: لا تقتلوهم ... عفا الله عن كل امرئ لم يقاتل
فكيف رأيت الله صب عليهم الـ ... ـعداوة والبغضاء بعد التواصل
وكيف رأيت الخير أدبر بعده ... عن الناس إدبار النعام الجوافل
ورثاه حسان بن ثابت بقوله:
من سره الموت صرفا لا مزاج له ... فليأت مأدبة في دار عثمانا
ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
صبرا فدى لكم أمي وما ولدت ... قد ينفع الصبر في المكروه أحيانا
ليسمعن وشيكا في دياهم: ... الله أكبر يا ثارات عثمانا
فصل: فيه ذكر من توفي في خلافة عثمان تقريبا
أوس بن الصامت بن قيس بن أصرم الأنصاري، أخو عبادة، وكلاهما قد شهد بدرًا.
وأوس هو زوج المجادلة في زوجها خولة -ويقال لها: خويلة- بنت ثعلبة، وقد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين مرثد بن أبي مرثد الغنوي.
أنس بن معاذ بن أنس بن قيس الأنصاري النجاري، ويقال: اسمه أنيس، فربما صغر.
شهد بدرًا والمشاهد. توفي في خلافة عثمان(راشدون/211)
أوس بن خولى من بني الحبلى.
أنصاري شهد بدرا. وهو الذي حضر غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل في قبره. توفي قبل مقتل عثمان.
الجد بن قيس. يقال: إنه تاب من النفاق وحسن أمره.
الحطيئة الشاعر، أبو مليكة العبسي، قيل: اسمه جرول.
عاش دهرًا في الجاهلية وصدرًا في الإسلام، ودخل على عمر وأنشده:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
وكان جوالا في الآفاق يمتدح الكبار ويستجديهم، وكان سؤولا بخيلا، ركب مرة ليفد على الملوك، فقال لأهله:
عدي السنين إذا خرجت لغيبة ... ودعي الشهور فإنهم قصار
زيد بن خارجة بن زيد بن أبي زهير الأنصاري الخزرجي المتكلم بعد الموت. له صحبة ورواية، قتل أبوه يوم أحد.
قال سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أن زيد بن خارجة توفي زمن عثمان، فسجي بثوب ثم إنهم سمعوا جلجلة في صدره، ثم تكلم، فقال: أحمد أحمد في الكتاب الأول، صدق صدق أبو بكر الضعيف في نفسه القوي في أمر الله في الكتاب الأول صدق صدق عمر القوي الأمين في الكتاب الأول، صدق صدق عثمان على منهاجهم، مضت أربع سنين وبقيت سنتان، أتت الفتن وأكل الشديد الضعيف، وقامت الساعة وسيأتيكم خبر بئر أريس وما بئر(راشدون/212)
أريس.
قال ابن المسيب: ثم هلك رجل من بني خطمة، فسجى بثوب فسمعوا جلجلة في صدره، ثم تكلم، فقال: إن أخا بني الحارث بن الخزرج صدق صدق.
قال ابن عبد البر: هذا هو الذي تكلم بعد الموت لا يختلفون في ذلك، وذلك أنه غشي عليه وأسري بروحه، ثم راجعته نفسه فتكلم بكلام في أبي بكر، وعمر، وعثمان، ثم مات لوقته. رواه ثقات الشاميين عن النعمان بن بشير.
سلمان بن ربيعة الباهلي، يقال: له صحبة.
وقد سمع من عمر، روى عنه: أبو وائل، والصبي بن معبد، وعمرو بن ميمون. وكان بطلا شجاعا فاضلا عابدا، ولاه عمر قضاء الكوفة، ثم ولي زمن عثمان غزو أرمينية فقتل ببلنجر، وقيل: بل الذي قتل بها أخوه عبد الرحمن، وقيل: إن الترك إذا قحطوا يستسقون بقبر سلمان، وهو مدفون عندهم، وقد جعلوا عظامه في تابوت. روى له مسلم.
عبد الله بن سراقة بن المعتمر العدويّ.
له صحبة ورواية. شهد أحدا وغيرها وقال الزهري: إنه شهد بدرا. روى عنه عبد الله بن شقيق وعقبة بن وساج وغيرهما. وروى أيضا عن أبي عبيدة، وهو أخو عمرو.
وقيل: إن الذي روى عن أبي عبيدة وروى عنه عبد الله بن شقيق في الدجال أزدي شريف من أهل دمشق. قاله الغلابي وغيره.(راشدون/213)
عبد الله بن قيس بن خالد الأنصاري النجاري المالكي، شهد بدرا.
قال الواقدي: لم يبق له عقب، وتوفي في زمن عثمان.
عبد الرحمن بن سهل بن زيد الأنصاري الحارثي.
قال ابن عبد البر: شهد بدرًا.
وقال أبو نعيم: شهد أحدا، والخندق، وهو الذي نهش فرقاه عمارة بن حزم. استعمله عمر على البصرة بعد موت عتبة بن غزوان.
وعن القاسم بن محمد قال: جاءت جدتان إلى أبي بكر فأعطى السدس أم الأم دون أم الأب، فقال له عبد الرحمن بن سهل رجل من بني حارثة قد شهد بدرا: أعطيت التي لو ماتت لم يرثها، وتركت التي لو ماتت لورثها، فجعله أبو بكر بينهما.
وقد ورد أن هذا غزا في خلافة عثمان.
عمرو بن سراقة بن المعتمر بن أنس القرشي العدوي، بدري كبير، وهو أخو عبد الله.
روى عامر بن ربيعة قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية ومعنا عمرو بن سراقة -وكان
لطيف البطن طويلا -فجاع، فانثنى صلبه، أخذنا صفيحة من حجارة فربطناها على بطنه، فمشى يوما، فجئنا قوما فضيفونا، فقال عمرو: كنت أحسب الرجلين تحمل البطن فإذا البطن يحمل الرجلين!
عروة بن حزام، أبو سعيد.
شاب عذري قتله الغرام، وهو الذي كان يشبب بابنة عمه عفراء بنت(راشدون/214)
مهاصر. خرج أهلها من الحجاز إلى الشام فتبعهم عروة وامتنع عمه من تزويجه بها لفقرة، وزوجها بابن عم آخر غني فهلك في محبتها عروة.
ومن قوله فيها:
وما هو إلا أن أراها فجاءة ... فأبهت حتى ما أكاد أجيب
وأصرف عن رأي الذي كنت أرتئي ... وأنسى الذي أعددت حين تغيب
عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر بن عمرو بن جوية بن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة الفزاري، من قيس غيلان، واسم عيينة حذيفة، فأصابته لقوة فجحظت عيناه فسمي عيينة.
ويكنى أبا مالك، وهو سيد بني فزارة وفارسهم.
قال الواقدي: حدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه قال: أجدبت بلاد آل بدر، فسارعيينة في نحو مائة بيت من آله حتى أشرف على بطن نخل فهاب النبي صلى الله عليه وسلم، فورد المدينة ولم يسلم ولم يبعد، وقال: أريد أدنو من جوارك فوادعني فوادعه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشهر، فلما فرغت انصرف عيينة إلى بلادهم فأغار على لقاح النبي صلى الله عليه وسلم بالغابة، قال له الحارث بن عوف: ما جزيت محمدًا سمنت في بلاده ثم غزوته!؟
وقال الواقدي: حدثني عبد العزيز بن عقبة بن سلمة، عن عمه إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: أغار عيينة في أربعين رجلا على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت عشرين لقحة فساقها وقتل ابنا لأبي ذر كان فيها، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم إلى ذي قرد فاستنقذ عشر لقاح وأفلت القوم بالباقي، وقتلوا حبيب بن عيينة، وابن عمه مسعدة، وجماعة.(راشدون/215)
الواقدي عن محمد بن عبد الله عن الزهري، عن ابن المسيب قال: كان عيينة بن حصن أحد رؤوس الأحزاب فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليه وإلى الحارث بن عوف: أرأيتما إن جعلت لكم ثلث تمر المدينة، أترجعان بمن معكما؟ فرضيا بذلك، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يكتب لهم الصلح جاء أسيد بن حضير، وعيينة ماد رجليه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا
عين الهجرس اقبض رجليك، والله لولا رسول الله صلى الله عليه وسلم خضبتك بالرمح، ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إن كان أمر من السماء فامض له، وإن كان غير ذلك فوالله لا نعطيهم إلا السيف، متى طعمتم هذا منا وقال السعدان كذلك.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "شق الكتاب". فشقه فقال عيينة: أما والله للتي تركتم خير لكم من الخطة التي أخذتم، وما لكم بالقوم طاقة، فقال عاد بن بشر: يا عيينة، أبالسيف تخوفنا! ستعلم أينا أجزع، والله لولا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وصلتم إلى قومكم. فرجعا وهما يقولان: والله ما نرى أنا ندرك منهم شيئا.
قال الواقدي: فلما انكشف الأحزاب رد عيينة إلى بلاده، ثم أسلم قبل الفتح بيسير.
ابن سعد: أخبرنا علي بن محمد، عن علي بن سليم، عن الزبير بن خبيب، قال: أقبل عيينة بن حصن، فتلقاه ركب خارجين من المدينة، فسألهم فقالوا: الناس ثلاثة: رجل أسلم فهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل العرب، ورجل لم يسلم فهو يقاتله، ورجل يظهر الإسلام ويظهر(راشدون/216)
لقريش أنه معهم، قال: ما يسمي هؤلاء؟ قال: يسمون المنافقين. قال: ما في من وصفتم أحزى من هؤلاء، اشهدوا أنني منهم.
ثم ساق ابن سعد قصة طويلة بلا إسناد في نافق عيينة يوم الطائف، وفي أسره عجوزا يوم هوازن يلتمس بها الفداء، فجاء ابنها فبذل فيها مائة من الإبل، فتقاعد عيينة، ثم غاب عنه، ونزله إلى خمسين، فامتنع ثم لم يزل به إلى أن بذل فيها عشرة من الإبل، فغضب وامتنع، ثم جاءه فقال: يا عم أطلقها وأشكرك، قال: لا حاجة لي بمدحك، ثم قال: ما رأيت كاليوم أمرا أنكد، وأقبل يلوم نفسه فقال الفتى: أنت صنعت هذا: عمدت إلى عجوز والله ما ثديها بناهد ولا بطنها بوالد، ولا فوها ببارد، ولا صاحبها بواجد، فأخذتها من بين من ترى، فقال: خذها لا بارك الله لك فيها. قال الفتى: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كسا السبي فأخطأها من بينهم الكسوة، فهلا كسوتها؟ قال: لا والله. فما فارقه حتى أخذ منه سمل ثوب، ثم ولى الفتى وهو يقول: إنك لغير بصير بالفرص.
وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم عيينة من الغنائم مائة من الإبل.
الواقدي: حدثنا موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي سلمة، عن عائشة -رضي الله عنها، قالت: دخل عيينة بن حصن على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا عنده، فقال: من هذه الحميراء؟ قال: "هذه عائشة بنت أبي بكر". فقال: ألا أنزل لك عن أحسن الناس: ابنة جمرة؟ قال: "لا"، فلما خرج قلت: يا رسول الله من هذا؟ قال: "هذا الحمق المطاع".
قال ابن سعد: قالوا: وارتد عيينة حين ارتدت العرب، ولحق بطليحة الأسدي حين تنبأ فآمن به، فلما هزم طليحة أخذ خالد بن الوليد عيينة فأوثقه وبعث به إلى الصديق قال ابن عباس: فنظرت إليه(راشدون/217)
والغلمان ينخسونه بالجريد ويضربونه ويقولون: أي عدو الله كفرت بعد إيمانك! فيقول: والله ما كنت آمنت، فلما كلمه أبو بكر رجع إلى الإسلام فأمنه.
المدائني عن عامر بن أبي محمد قال: قال عيينة لعمر: احترس أو أخرج العجم من المدينة، فإني لا آمن أن يطعنك رجل منهم.
المدائني عن عبد الله بن فائد، قال: كانت أم البنين بنت عيينة عند عثمان فدخل عيينة على عثمان بلا إذن، فعتبه عثمان فقال: ما كنت أرى أنني أحجب عن رجل من مضر، فقال عثمان: ادن فأصب من العشاء قال: إني صائم، قال: تصوم الليل! قال: إني وجدت صوم الليل أيسر علي!
قال المدائني: ثم عمي عيينة في إمرة عثمان.
أبو الأشهب، عن الحسن قال: عاتب عثمان عيينة، فقال: ألم أفعل ألم أفعل وكنت تأتي عمر ولا تأتينا؟! فقال: كان عمر خيرا لنا منك، أعطانا فأغنانا، وأخشانا فأتقانا.
قطبة بن عامر، أبو زيد الأنصاري السلمي، شهد بدرا والعقبتين.
قيس بن قهد بن قيس بن ثعلبة الأنصاري، أحد بني مالك بن النجار.
قال مصعب الزبيري: هو جد يحيى بن سعيد الأنصاري، وخالفه الأكثر وقيل: هو جد أبي مريم عبد الغفار بن القاسم الكوفي.
وقال ابن ماكولا: إنه شهد بدرا، روى عنه ابنه سليم، وقيس بن(راشدون/218)
أبي حازم.
وله حديث في الركعتين بعد الفجر.
لبيد بن ربيعة العامري، الشاعر المشهور الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "أصدق كلمة قالتها العرب كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل".
قال مالك: بلغني أن لبيدا عمر مائة وأربعين سنة، ويكنى أبا عقيل.
قال ابن أبي حاتم: بعث الوليد بن عقبة إلى منزل لبيد عشرين جزورا فنحرت.
وقيل: إنه توفي سنة إحدى وأربعين.
المسيب بن حزن بن أبي وهب المخزومي، ممن بايع تحت الشجرة. روى عنه: ابنه سعيد بن المسيب.
محمد بن جعفر بن أبي طالب، أبو القاسم الهاشمي.
ولدته أسماء بنت عميس بالحبشة في أيام هجرة أبويه إليها وتوفي شابا.
قال أبو أحمد الحاكم: إنه تزوج بأم كلثوم بنت علي بعد عمر بن الخطاب.
وقال ابن عبد البر: إنه استشهد بتستر، فالله أعلم.
قال جرير بن حازم: حدثنا محمد بن أبي يعقوب، عن الحسن بن(راشدون/219)
سعد، عن عبد الله بن جعفر، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نعى أباه جعفرا أمهل ثلاثا لا يأتيهم، ثم أتاهم فقال: "لا تبكوا على أخي بعد اليوم". ثم قال: "ادعوا لي بني أخي"، فجيء بنا كأننا أفرح فأمر بحلاق فحلق رؤوسنا، ثم قال: "أما محمد فيشبه عمنا أبا طالب، وأما عبد الله فيشبه خلقي وخلقي"، ثم أخذ بيدي فأشالها، وقال: "اللهم اخلف جعفرا في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه". ثلاثا، ثم جاءت أمنا أسماء، فذكرت يتمنا، فقال: "العيلة تخافين عليهم، وأنا وليهم في الدنيا والآخرة"!
منقذ بن عمرو الأنصاري، أحد بني مازن بن النجار.
كان قد أصابته آمة في رأسه فكسرت لسانه ونازعت عقله. وهو الذي كان يغبن في البيوع فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا بعت فقل: لا خلابة".
نعيم بن مسعود، أبو سلمة الغطفاني الأشجعي.
أسلم زمن الخندق، وهو الذي خذل بين الأحزاب، وكان يسكن المدينة. وله عقب روى عنه ابنه سلمة.
أبو خزيمة بن أوس بن زيد، أحد بني النجار.
شهد بدرا والمشاهد، وهو الذي وجد زيد بن ثابت معه الآيتين من آخر سورة براءة. توفي زمن عثمان.
أبو ذؤيب الهذلي، خويلد بن خالد، الشاعر المشهور.
أدرك الجاهلية وأسلم في خلافة الصديق، وكان أشعر هذيل،(راشدون/220)
وكانت هذيل أشعر العرب. ومن شعره:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
وتجلدي للشامتين أريهم ... أنى لريب الدهر لا أتضعضع
توفي غازيا بإفريقية في خلافة عثمان، وقد شهد سقيفة بني ساعدة وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم.
أبو زبيد الطائي الشاعر، اسمه حرملة بن المنذر النصراني.
أنشد عثمان قصيدة في الأسد بديعة فقال له: تفتأ تذكر الأسد ما حييت إني لأحسبك جبانا، وكان أبو زبيد يجالس الوليد بن عقبة.
أبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ود القرشي العامري.
قديم الإسلام يقال: إنه هاجر إلى الحبشة وقد شهد بدرا والمشاهد بعدها. وهو أخو أبي سلمة بن عبد الأسد، وأمهما برة بنت عبدا لمطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي سبرة، وبين سلمة بن سلامة بن وقش.
قال الزبير بن بكار: لا نعلم أحدا من أهل بدر رجع إلى مكة فنزلها، غير أبي سبرة فإنه سكنها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وولده ينكرون ذلك. وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنه.
أبو لبابة بن عبد المنذر بن زنبر بن زيد بن أمية الأنصاري، اسمه بشير، وقيل: رفاعة.
رده النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر من الروحاء، فاستعمله على المدينة(راشدون/221)
وضرب له بسهمه وأجره وكان من سادة الصحابة. توفي في خلافة عثمان وقيل: في خلافة علي، وقيل: في خلافة معاوية، هو أحد النقباء ليلة العقبة.
روى عنه: ابناه السائب، وعبد الرحمن، وعبد الله بن عمر، وسالم بن عبد الله، ونافع مولى ابن عمر، وعبيد الله بن أبي يزيد، وعبد الله بن كعب بن مالك، وسلمان الأغر، ورواية بعض هؤلاء عنه مرسلة لعدم إدراكهم إياه.
أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة، تقدم في سنة إحدى وعشرين، وتوفي في خلافة عثمان.
اسمه خالد، وقيل: شيبة وقيل: هشيم، وقيل: مهشم وهو أخو أبي حذيفة.
كان صالحا زاهدا، وهو أخو مصعب بن عمير لأمه أسلم يوم الفتح، وذهبت عينه يوم اليرموك.(راشدون/222)
- سيرة أبي الحسنين علي رضي الله عنه:
علي بن أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، أمير المؤمنين، أبو الحسن القرشي الهاشمي.
وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف الهاشمية، وهي بنت عم أبي طالب. كانت من المهاجرات، توفيت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة.
قال عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن علي: قلت لأمي اكفي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سقاية الماء والذهاب في الحاجة، وتكفيك هي الطحن والعجن. وهذا يدل على أنها توفيت بالمدينة.
روى الكثير عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعرض عليه القرآن وأقرأه.
عرض عليه أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو الأسود الدؤلي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى.
وروى عن علي: أبو بكر، وعمر، وبنوه: الحسن، والحسين، ومحمد، وعمر، وابن عمه ابن عباس، وابن الزبير، وطائفة من الصحابة، وقيس بن أبي حازم، وعلقمة بن قيس، وعبيدة السلماني، ومسروق، وأبو رجاء العطاردي، وخلق كثير.(راشدون/225)
وكان من السابقين الأولين، شهد بدرا وما بعدها، وكان يكنى أبا تراب أيضا.
قال عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل، أن رجلا من آل مروان استعمل على المدينة، فدعاني وأمرني أن أشتم عليا فأبيت، فقال: أما إذا أبيت فالعن أبا تراب، فقال سهل: ما كان لعلي اسم أحب إليه منه، إن كان ليفرح إذا دعي به، فقال له: أخبرنا عن قصته لم سمي أبا تراب؟ فقال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة، فلم يجد عليا في البيت، فقال: "أين ابن عمك"؟ قالت: قد كان بيني وبينه شيء فغاظني، فخرج ولم يقل عندي، فقال لإنسان: "اذهب انظر أين هو". فجاء فقال: يا رسول الله هو راقد في المسجد، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه، فأصابه تراب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عنه التراب ويقول: "قم أبا تراب قم أبا تراب". أخرجه مسلم.
قال أبو رجاء العطاردي: رأيت عليا شيخا أصلع كثير الشعر، كأنما اجتاب إهاب شاة، ربعة عظيم البطن، عظيم اللحية.
وقال سوادة بن حنظلة: رأيت عليا أصفر اللحية.
وعن محمد ابن الحنفية، قال: اختضب علي بالحناء مرة ثم(راشدون/226)
تركه.
وعن الشعبي قال: رأيت عليا ورأسه ولحيته بيضاء، كأنهما قطن.
وقال الشعبي: رأيت عليا أبيض اللحية، ما رأيت أعظم لحية منه، وفي رأسه زغيبات.
وقال أبو إسحاق: رأيته يخطب، وعليه إزار ورداء، أنزع، ضخم البطن، أبيض الرأس واللحية.
وعن أبي جعفر الباقر قال: كان علي آدم شديد الأدمة ثقيل العينين، عظيمهما، وهو إلى القصر أقرب.
قال عروة: أسلم علي وهو ابن ثمان.
وقال الحسن بن زيد بن الحسن: أسلم وهو ابن تسع.
وقال المغيرة: أسلم وله أربع عشرة سنة رواه جرير عنه.
وثبت عن ابن عباس، قال: أول من أسلم علي.
وعن محمد القرظي، قال: أول من أسلم خديجة، وأول رجلين أسلما أبو بكر وعلي، وإن أبا بكر أول من أظهر الإسلام، وكان علي يكتم الإسلام فرقا من أبيه، حتى لقيه أبو طالب، فقال: أسلمت؟ قال:(راشدون/227)
نعم، قال: وازر ابن عمك وانصره وأسلم علي قبل أبي بكر.
وقال قتادة: إن عليا كان صاحب لواء رسول الله صلى الله يوم بدر، وفي كل مشهد.
وقال أبو هريرة وغيره: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين الراية رجلا يحب
الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، ويفتح الله على يديه". قال عمر: فما أحببت الإمارة قبل يومئذ قال: فدعا عليا فدفعها إليه، وذكر الحديث، كما تقدم في غزوة خيبر بطرقه.
وقال محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن المنهال، عن عبد الله بن أبي ليلى، قال: كان أبي يسمر مع علي، وكان علي يلبس ثياب الصيف في الشتاء، وثياب الشتاء في الصيف، فقلت لأبي: لو سألته فسأله فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلي وأنا أرمد العين يوم خيبر، فقلت: يا رسول الله إني أرمد، فتفل في عيني، وقال: "اللهم أذهب عنه الحر والبرد". فما وجدت حرا ولا بردا منذ يومئذ.
وقال جرير، عن مغيرة عن أم موسى: سمعت عليا يقول: ما(راشدون/228)
رمدت ولا صدعت منذ مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهي وتفل في عيني.
وقال المطلب بن زياد، عن ليث، عن أبي جعفر، عن جابر بن عبد الله، أن عليا حمل
الباب على ظهره يوم خيبر، حتى صعد المسلمون عليه ففتحوها يعني خيبر، وأنهم جروه بعد ذلك، فلم يحمله أربعون رجلا. تفرد به إسماعيل ابن بنت السدي، عن المطلب.
وقال ابن إسحاق في "المغازي": حدثني عبد الله بن الحسن، عن بعض أهله، عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: خرجنا مع علي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم برايته، فلما دنا من الحصن، خرج إليه أهله، فقاتلهم، فضربه رجل من اليهود فطرح ترسه من يده، فتناول علي بابا عند الحصن، فتترس به عن نفسه، فلم يزل في يده، وهو يقاتل، حتى فتح الله علينا، ثم ألقاه، فلقد رأيتنا ثمانية نفر، نجهد أن نقلب ذلك الباب، فما استطعنا أن نقلبه.
وقال غندر: حدثنا عوف، عن ميمون أبي عبد الله، عن البراء، وزيد بن أرقم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "انت مني كهارون من موسى غير أنك لست بنبي".
ميمون صدوق.
وقال بكير بن مسمار، عن عامر بن سعد عن أبيه قال: أمر معاوية سعدا فقال: ما يمنعك أن تسب أبا تراب؟ قال: أما ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه؛ لأن تكون لي واحدا منهن أحب إلي من حمر النعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وخلف عليا في بعض مغازيه، فقال: يا رسول الله أتخلفني مع النساء والصبيان!؟ قال: "أما(راشدون/229)
ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي". أخرجه الترمذي وقال: صحيح غريب.
وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم خيبر: لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فدفعها إليه ففتح الله عليه.
ولما نزلت هذه الآية: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُم} [آل عمران: 61] ، دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفاطمة، وحسنا وحسينا، فقال: "اللهم هؤلاء أهلي". بكير احتج به مسلم.
وقال إبراهيم بن المنذر الحزامي: حدثنا إبراهيم بن مهاجر بن مسمار، عن أبيه، عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: أما والله أشهد لقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي يوم غدير خم، وأخذ بضبعيه: "أيها الناس من مولاكم"؟ قالوا: الله ورسوله. قال: "من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه" ... الحديث إبراهيم هذا قال النسائي: ضعيف.
ويروى عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابنته فاطمة: "قد زوجتك أعظمهم حلما، وأقدمهم سلما وأكثرهم علما". وروى نحوه جابر الجعفي -وهو متروك- عن ابن بريدة عن أبيه.
وقال الأجلح الكندي، عن عبد الله بن بريدة عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا بريدة لا تقعن في علي فإنه مني وأنا منه، وهو وليكم(راشدون/230)
بعدي".
وقال الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كنت وليه فعلي وليه".
وقال غندر: حدثنا شعبة عن ميمون أبي عبد الله، عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كنت مولاه فعلي مولاه". هذا حديث صحيح.
وقال أبو الجواب: حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن البراء، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مجنبتين على إحداهما علي، وعلى الآخرة خالد بن الوليد، وقال: "إذا كان قتال فعلي على الناس". فافتتح علي حصنا، فأخذ جارية لنفسه، فكتب خالد في ذلك، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب، قال: "ما تقول في رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله"؟.
قلت: أعوذ بالله من غضب الله.
أبو الجواب ثقة، أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن.
قرأت على أبي المعالي أحمد بن إسحاق: أخبركم الفتح بن عبد الله بن محمد.
"ح" وأخبرنا يحيى بن أبي منصور، وجماعة إجازة، قالوا: أخبرنا أبو الفتوح محمد بن علي بن الجلاجلي؛ قالا: أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن الحسين الحاسب، قال: أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن(راشدون/231)
النقور، قال: حدثنا عيسى بن علي بن الجراح إملاء سنة تسع وثمانين وثلاث مائة، قال: حدثنا أبوالقاسم عبد الله بن محمد، قال: حدثنا سويد بن سعيد، قال: حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن حبشي بن جنادة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "علي مني وأنا من علي، لا يؤدي عني إلا أنا أو هو". رواه ابن ماجه عن سويد ورواه الترمذي، عن إسماعيل بن موسى عن شريك وقال: صحيح غريب.
ورواه يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن جده، أخرجه النسائي في الخصائص.
وقال جعفر بن سليمان الضبعي: حدثنا يزيد الرشك، عن مطرف بن عبد الله، عن عمران بن حصين، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، واستعمل عليهم عليا، وكان المسلمون إذ قدموا من سفر أو غزو أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتو رحالهم، فأخبروه بمسيرهم، فأصاب علي جارية، فتعاقد أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لنخبرنه، قال: فقدمت السرية فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بمسيرهم، فقام إليه أحد الأربعة، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أصاب علي جارية، فأعرض عنه، ثم قام الثاني، فقال: صنع كذا وكذا، فأعرض عنه، ثم الثالث كذلك، ثم الرابع، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم مغضبا، فقال: "ما تريدون من علي، علي مني وأنامنه، هو ولي كل مؤمن بعدي". أخرجه أحمد في "المسند"(راشدون/232)
والترمذي وحسنه والنسائي.
وقالت زينب بنت كعب بن عجرة، عن أبي سعيد قال: اشتكى الناس عليا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيبا فقال: "لا تشكوا عليا فوالله إنه لأخشن في ذات الله -أو في
سبيل الله". رواه سعد بن إسحاق، وابن عمه سليمان بن محمد بنا كعب، عن عمتهما.
ويروى عن عمرو بن شاس الأسلمي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من آذى عليا فقد آذاني".
وقال فطر بن خليفة، عن أبي الطفيل قال: جمع علي -رضي الله عنه- الناس في الرحبة، ثم قال لهم: أنشد الله كل امرئ سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم ما سمع لما قام. فقام ناس كثير فشهدوا حين أخذه بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال للناس: "أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم"؟ قالوا: نعم يا رسول الله قال: "من كنت مولاه فهذا مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه"، ثم قال لي زيد بن أرقم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك له.
قال شعبة، عن سلمة بن كهيل، قال: سمعت أبا الطفيل يحدث عن أبي سريحة -أو زيد بن أرقم، شك شعبة- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كنت مولاه فعلي مولاه". حسنه الترمذي، ولم يصححه؛ لأن شعبة رواه(راشدون/233)
عن ميمون أبي عبد الله، عن زيد بن أرقم نحوه، والظاهر أنه عند شعبة من طريقين، والأول رواه بندار، عن غندر، عنه.
وقال كامل أبو العلاء، عن حبيب بن أبي ثابت، عن يحيى بن جعدة، عن زيد بن أرقم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي يوم غدير خم: "من كنت مولاه فعلي مولاه".
وروى نحوه يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أنه سمع عليا ينشد الناس في الرحبة. وروى نحوه عبد الله بن أحمد في مسند أبيه، من حديث سماك بن عبيد، عن ابن أبي ليلى. وله طرق أخرى ساقها الحافظ ابن عساكر في ترجمة علي يصدق بعضها بعضا.
وقال حماد بن سلمة، عن علي بن زيد وأبي هارون، عن عدي بن ثابت، عن البراء، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فلما أتينا على غدير خم كسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين، ونودي في الناس: "الصلاة جامعة"، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فأخذ بيده، وأقامه عن يمينه، فقال: "ألست أولى بكل مؤمن من نفسه"؟. قالوا: بلى فقال: "فإن هذا
مولى من أنا مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه". فلقيه عمر بن الخطاب، فقال: هنيئا لك يا علي، أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة.
ورواه عبد الرزاق، عن معمر، عن علي بن زيد.
وقال عبيد الله بن موسى، وغيره، عن عيسى بن عمر القارئ عن(راشدون/234)
السدي قال: حدثنا أنس بن مالك قال: أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيار، فقسمها، وترك طيرا فقال: "اللهم ائتني بأحب خلقك إليك"، فجاء علي، وذكر حديث الطير. وله طرق كثيرة عن أنس
متكلم فيها، وبعضها على شرط السنن، من أجودها حديث قطن بن نسير شيخ مسلم، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، قال: حدثنا عبد الله بن المثنى، عن عبد الله بن أنس بن مالك، عن أنس، قال: أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حجل مشوي، فقال: "اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي". وذكر الحديث.
وقال جعفر الأحمر، عن عبد الله بن عطاء، عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: كان أحب النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة، ومن الرجال علي، أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب.
وقال أبو إسحاق السبيعي، عن أبي عبد الله الجدلي، قال: دخلت على أم سلمة، فقالت لي: أيسب فيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم! قلت: معاذ الله قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سب عليا فقد سبني". رواه أحمد في "مسنده".
وقال الأعمش، عن عدي بن ثابت، عن زر، عن علي، قال: إنه(راشدون/235)
لعهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه: "لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق". أخرجه مسلم، والترمذي وصححه.
وقال أبو صالح السمان، وغيره، عن أبي سعيد، قال: إن كنا لنعرف المنافقين ببغضهم عليا.
وقال أبو الزبير، عن جابر، قال: ما كنا نعرف منافقي هذه الأمة إلا ببغضهم عليا.
قال المختار بن نافع -أحد الضعفاء-: حدثنا أبو حيان التيمي، عن أبيه، عن علي، قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "رحم الله أبا بكر، زوجني ابنته، وحملني إلى دار الهجرة، وأعتق بلالا. رحم الله عمر، يقول الحق، وإن كان مرا، تركه الحق وماله من صديق. رحم الله عثمان تستحييه الملائكة، رحم الله عليا اللهم أدر الحق معه حيث دار". أخرجه الترمذي، وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقال الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن الحارث، عن علي، قال: يهلك في رجلان، مبغض مفتر، ومحب مطر.
وقال يحيى الحماني: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن عائشة، قالت: كنت قاعدة مع النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل علي فقال:(راشدون/236)
"يا عائشة هذا سيد العرب". قلت: يا رسول الله، ألست سيد العرب؟ قال: "أنا سيد ولد آدم، وهذا سيد العرب". وروي من وجهين مثله عن عائشة. وهو غريب.
وقال أبو الجحاف، عن جميع بن عمير التيمي، قال: دخلت مع عمتي على عائشة، فسئلت: أي الناس كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: فاطمة، فقيل: من الرجال، فقالت: زوجها، وإن كان ما علمت صواما قواما. أخرجه الترمذي، وقال: حسن غريب.
قلت: جميع كذبه غير واحد.
وقال عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نخيل
امرأة من الأنصار، فقال: "يطلع عليكم رجل من أهل الجنة". فطلع أبو بكر، فبشرناه، ثم قال: "يطلع عليكم رجل من أهل الجنة". فطلع عمر فبشرناه، ثم قال: "يطلع عليكم رجل من أهل الجنة"، وجعل ينظر من النخل ويقول: "اللهم إن شئت جعلته عليا". فطلع علي رضي الله عنه. حديث حسن.
وعن سعيد بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اثبت حراء فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد"، وعليه أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي. وذكر بقية العشرة.
وقال محمد بن كعب القرظي: قال علي: لقد رأيتني مع رسول الله(راشدون/237)
صلى الله عليه وسلم، وإني لأربط الحجر على بطني من الجوع، وإن صدقة مالي لتبلغ اليوم أربعين ألفا رواه شريك، عن عاصم بن كليب، عنه. أخرجه أحمد في "مسنده".
وعن الشعبي: قال: قال علي: ما كان لنا إلا إهاب كبش ننام على ناحية، وتعجن فاطمة على ناحية. يعني: ننام على وجه، وتعجن على وجه.
وقال عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن علي، قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وأنا حديث السن، ليس لي علم بالقضاء، فضرب صدري، وقال: "اذهب فإن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك". قال: فما شككت في قضاء بين اثنين بعد.
وقال الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبي، قال: خطبنا علي، فقال: من زعم أن عندنا شيئا نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة، وفيها أسنان الإبل وشيء من الجراحات، فقد كذب.
وعن سليمان الأحمسي، عن أبيه، قال: قال علي: والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيما نزلت وأين نزلت، وعلى من نزلت، وإن ربي وهب لي قلبا عقولا، ولسانا ناطقا.
وقال محمد بن سيرين: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبطأ علي عن بيعة(راشدون/238)
أبي بكر، فلقيه أبو بكر، فقال: أكهت إمارتي؟! فقال: لا، ولكن آليت لا أرتدي بردائي إلا إلى الصلاة، حتى أجمع القرآن، فزعموا أنه كتبه على تنزيله. قال محمد: لو أصبت ذلك الكتاب كان فيه العلم.
وقال سعيد بن المسيب: لم يكن أحد من الصحابة يقول: "سلوني" إلا علي.
وقال ابن عباس: قال عمر: علي أقضانا، وأبى أقرؤنا.
وقال ابن مسعود: كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي.
وقال ابن المسيب، عن عمر، قال: أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن.
وقال ابن عباس: إذا حدثنا ثقة بفتيا عن علي لم نتجاوزها.
وقال سفيان، عن كليب، عن جسرة، قالت: ذكر عند عائشة صوم عاشوراء، فقالت: من يأمركم بصومه؟ قالوا: علي قالت: أما إنه أعلم من بقي بالسنة.
وقال مسروق: انتهى علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر، وعلي، وعبد الله.
وقال محمد بن منصور الطوسي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما ورد لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضائل ما ورد لعلي رضي الله عنه.(راشدون/239)
وقال أبو إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: شهدت عمر يوم طعن، فذكر قصة الشورى، فلما خرجوا من عنده قال عمر: إن يولوها الأجيلح يسلك بهم الطريق المستقيم.
فقال له ابنه عبد الله: فما يمنعك؟! -يعني أن توليه- قال: أكره أن أتحملها حيا وميتا.
وقال سفيان الثوري، عن الأسود بن قيس، عن سعيد بن عمرو، قال: خطبنا علي فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا في الإمارة شيئا، ولكن رأي رأيناه، فاستخلف أبو بكر، فقام واستقام، ثم استخلف عمر، فقام واستقام، ثم ضرب الدين بجرانه، وإن أقواما طلبوا الدنيا، فمن شاء الله أن يعذب منهم عذب، ومن شاء أن يرحم رحم.
وقال علي بن زيد بن جدعان، عن الحسن، عن قيس بن عباد، قال: سمعت عليا يقول: والله ما عهد إلي رسول الله عهدا إلا شيئا عهده إلى الناس، ولكن الناس وقعوا في عثمان فقتلوه، فكان غيري فيه أسوأ حالا وفعلا مني، ثم إني رأيت أني أحقهم بهذا الأمر، فوثبت عليه، فالله أعلم أصبنا أم أخطأنا.
قرأ على أبي الفهم بن أحمد السلمي: أخبركم أبو محمد عبد الله بن أحمد الفقيه سنة سبع عشرة وست مائة، قال: أخبرنا أبو الفتح محمد بن عبد الباقي، قال: أخبرنا مالك بن أحمد سنة أربع وثمانين وأربع مائة، قال: حدثنا علي بن محمد بن عبد الله المعدل إملاء سنة ست وأربع مائة، قال: حدثنا أبو علي أحمد بن الفضل بن خزيمة، قال: حدثنا(راشدون/240)
عبد الله بن روح قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، عن الحسن، قال: لما قدم علي رضي الله عنه- البصرة قام إليه ابن الكواء، وقيس بن عباد، فقالا له: ألا تخبرنا عن مسيرك هذا الذي سرت فيه، تتولى على الأمة، تضرب بعضهم ببعض، أعهد من رسول الله عهده إليك، فحدثنا فأنت الموثوق المأمون على ما سمعت. فقال: أما أن يكون عندي عهد من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فلا، والله إن كنت أول من صدق به، فلا أكون أول من كذب عليه، ولو كان عندي من النبي صلى الله عليه وسلم عهد في ذلك، ما تركت أخا بني تيم بن مرة، وعمر بن الخطاب يقومان على منبره، ولقاتلتهما بيدي، ولو لم أجد إلا بردي هذا. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتل قتلا، ولم يمت فجاءة، مكث في مرضه أياما وليالي، يأتيه المؤذن فيؤذنه بالصلاة، فيأمر أبا بكر فيصلي بالناس، هو يرى مكاني، ثم يأتيه المؤذن فيؤذنه بالصلاة، فيأمر أبا بكر فيصلي بالناس، وهو يرى مكاني، ولقد أرادت امرأة من نسائه أن تصرفه عن أبي بكر فأبى وغضب، وقال: "أنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر يصلي بالناس".
فلما قبض الله نبيه، نظرنا في أمورنا، فاخترنا لدنيانا من رضيه نبي الله لديننا، وكانت الصلاة أصل الإسلام، وهي عظم الأمر، قوام الدين. فبايعنا أبا بكر، وكان لذلك أهلا، لم يختلف عليه منا اثنان، ولم يشهد بعضنا على بعض، ولم نقطع منه البراءة، فأديت إلى أبي بكر حقه، وعرفت له طاعته، وغزوت معه في جنوده، وكنت آخذ إذا أعطاني، وأغزوا إذا
أغزاني، وأضرب بين يديه بسوطي، فلما قبض، ولاها عمر، فأخذ بسنة صاحبه، وما يعرف من أمره، فبايعنا عمر، ولم(راشدون/241)
يختلف عليه منا اثنان، ولم يشهد بعضنا على بعض، ولم نقطع منه البراءة. فأديت إلى عمر حقه، وعرفت طاعته، وغزوت معه في جيوشه، وكنت آخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأضرب بين يديه الحدود بسوطي.
فلا قبض تذكرت في نفسي قرابتي وسابقتي وسالفتي وفضلي، وأنا أظن أن لا يعدل بي، ولكن خشي أن لا يعمل الخليفة بعده ذنبا إلا لحقه في قبره، فأخرج منها نفسه وولده، ولو كانت محاباة منه لآثر بها ولده فبرئ منها إلى رهط من قريش ستة، أنا أحدهم.
فلما اجتمع الرهط تذكرت في نفسي قرابتي وسابقتي وفضلي، وأنا أظن أن لا يعدلوا بي، فأخذ عبد الرحمن مواثيقنا على أن نسمع ونطيع لمن ولاه الله أمرنا، ثم أخذ بيد ابن عفان فضرب بيده على يده، فنظرت في أمري، فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي، وإذا ميثاقي قد أخذ لغيري، فبايعنا عثمان فأديت له حقه، وعرفت له طاعته، وغزوت معه في جيوشه، وكنت آخذ إذا أعطاني، وأغزاني، وأضرب بين يديه الحدود بسوطي.
فلما أصيب نظرت في أمري، فإذا الخليفتان اللذان أخذاها بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما بالصلاة قد مضيا، وهذا الذي قد أخذ له الميثاق، قد أصيب، فبايعني أهل الحرمين، وأهل هذين المصرين.
روى إسحاق بن راهويه نحوه، عن عبده سليمان، قال: حدثنا أبو العلاء سالم المرادي، سمعت الحسن، روى نحوه وزاد في(راشدون/242)
آخره: فوثب فيها من ليس مثلي، ولا قرابته كقرابتي، ولا علمه كعلمي، ولا سابقته كسابقتي، وكنت أحق بها منه.
قالا: فأخبرنا عن قتالك هذين الرجلين -يعنيان: طلحة والزبير- قال: بايعاني بالمدينة، وخلعاني بالبصرة، ولو أن رجلا ممن بايع أبا بكر وعمر خلعه لقاتلناه.
وروى نحوه الجريري، عن أبي نضرة.
وقال أبو عتاب الدلال: حدثنا مختار بن نافع التيمي، قال: حدثنا أبو حيان التيمي، عن أبيه عن علي -رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله أبا بكر، زوجني
ابنته، وحملني إلى دار الهجرة، وأعتق بلالا. رحم الله عمر، يقول الحق، وإن كان مرا، تركه الحق وماله من صديق. رحم الله عثمان تستحييه الملائكة. رحم الله عليا، اللهم أدر الحق معه حيث دار".
وقال إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، عن أبي سعيد، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن، كما قاتلت على تنزيله". فقال أبو بكر: أنا هو؟ قال: "لا". قال عمر: أنا هو؟ قال: "لا، ولكنه خاصف النعل"، وكان أعطى عليا نعله يخصفها.
قلت: فقاتل الخوارج الذين أولوا القرآن برأيهم وجهلهم.
وقال خارجة بن مصعب، عن سلام بن أبي القاسم، عن عثمان بن(راشدون/243)
أبي عثمان، قال: جاء أناس إلى علي، فقالوا: أنت هو، قال: من أنا! قالوا: أنت هو، قال: ويلكم من أنا؟ قالوا: أنت ربنا، قال: ارجعوا فأبوا، فضرب أعناقهم، ثم خد لهم في الأرض، ثم قال: يا قنبر ائتني بحزم الحطب، فحرقهم بالنار، وقال:
لما رأيت الأمر أمرا منكرا ... أوقدت ناري ودعوت قنبرا
وقال أبو حيان التيمي: حدثني مجمع، أن عليا -رضي الله عنه- كان يكنس بيت المال ثم يصلي فيه، رجاء أن يشهد له أنه لم يحبس فيه المال عن المسلمين.
وقال أبو عمرو بن العلاء، عن أبيه، قال: خطب علي -رضي الله عنه- فقال: أيها الناس، والله الذي لا إله إلا هو، ما رزأت من مالكم قليلا ولا كثيرا، إلا هذه القارورة، وأخرج قارورة فيها طيب، ثم قال: أهداها إلي دهقان.
وقال ابن لهيعة: حدثنا عبد الله بن هبيرة، عن عبد الله بن زرير الغافقي، قال: دخلت على علي يوم الأضحى فقرب إلينا خزيرة، فقلت: لو قربت إلينا من هذا الوز، فإن الله قد أكثر الخير قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل للخيفة من مال الله إلا قصعتان، قصعة يأكلها هو وأهله، وقصعة يضعها بين يدي الناس".
وقال سفيان الثوري: إذا جاءك عن علي شيء فخذ به، ما بنى لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة، ولقد كان يجاء بجيوبه في جراب.(راشدون/244)
وقال عباد بن العوام، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، قال: دخلت على علي بالخورنق، وعليه سمل قطيفة، فقلت: يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال نصيبا، وأنت تفعل هذا بنفسك! فقال: إني والله ما أرزؤكم شيئا، وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من بيتي.
وعن علي أنه اشترى قميصا بأربعة دراهم فلبسه، وقطع ما فضل عن أصابعه من الكم.
عن جرموز، قال: رأيت عليا وهو يخرج من القصر، وعليه إزار إلى نصف الساق، ورداء مشمر، ومعه درة له يمشي بها في الأسواق، وأمرهم بتقوى الله وحسن البيع، ويقول: أوفوا الكيل والميزان، ولا تنفخوا اللحم.
وقال الحسن بن صالح بن حي: تذاكروا الزهاد عند عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فقال: أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب.
وعن رجل أنه رأى عليا قد ركب حمارا ودلى جليه إلى موضع واحد، ثم قال: أنا الذي أهنت الدنيا.
وقال هشيم، عن إسماعيل بن سالم، عن عمار الحضرمي، عن أبي عمر زاذان، أن رجلا حدث عليا بحديث، فقال: ما أراك إلا قد كذبتني. قال: لم أفعل. قال: إن كنت كذبت أدعو عليك. قال: ادع. فدعا، فما برح حتى عمي.
وقال عطاء بن السائب، عن أبي البختري، عن علي، قال: وأبردها(راشدون/245)
على الكبد إذا سئلت عما لا أعلم أن أقول: الله أعلم.
وقال خيثمة بن عبد الرحمن: قال علي: من أراد أن ينصف الناس من نفسه فليحب لهم ما يحب لنفسه.
وقال عمرو بن مرة، عن أبي البختري، قال: جاء رجل إلى علي فأثنى عليه، وكان قد بلغه عنه أمر، فقال: إني لست كما تقول، وأنا فوق ما في نفسك.
وقال محمد بن بشر الأسدي -وهو صدوق-: حدثنا موسى بن مطير -وهو واه- عن
أبيه، عن صعصعة بن صوحان، قال: لا ضرب علي أتيناه، فقلنا: استخلف، قال: إن يرد الله بكم خيرًا استعمل عليكم خيركم، كما أراد بنا خيرا واستعمل علينا أبا بكر.
وروى الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن أبي وائل، قال: قيل لعلي: ألا توصي؟ قال: ما أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوصي، ولكن إن يرد الله بالناس خيرًا سيجمعهم على خيرهم، كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم.
وروي بإسناد آخر، عن الشعبي، عن أبي وائل.
وروى عبد الملك بن سلع الهمداني، عن عبد خير، عن علي، قال: استخلف أبو بكر، فعمل بعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته ... الحديث.
وقال الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن عبد الله بن سبع، سمع عليا يقول: لتخضبن هذه من هذه، فما ينتظرني إلا شقي. قالوا: يا أمير المؤمنين، فأخبرنا عنه لنبيرن عترته، قال: أنشدكم بالله أن يقتل غير قاتلي. قالوا: فاستخلف علينا قال: لا، ولكني أترككم إلى ما(راشدون/246)
ترككم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: فما تقول لربك إذا أتيته؟ قال: أقول: اللهم تركتني فيهم ما بدا لك، ثم قبضتني إليك، وأنت فيهم، إن شئت أصلحتهم، وإن شئت أفسدتهم.
وقال الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ثعلبة بن يزيد الحماني، قال: سمعت عليا يقول: أشهد أنه كان يسر إلي النبي صلى الله عليه وسلم: "لتخضبن هذه من هذه -يعني لحيته من رأسه- فما يحبس أشقاها".
وقال شريك، عن عثمان بن أبي زرعة، عن زيد بن وهب، قال: قدم على علي قوم من البصرة من الخوارج، فقال منهم الجعد بن بعجة: اتق الله يا علي فإنك ميت، فقال علي: بل مقتول؛ ضربة على هذه تخضب هذه، عهد معهود وقضاء مقضي، وقد خاب من افترى.
قال: وعاتبه في لباسه، فقال: ما لكم ولباسي، هو أبعد من الكثير، وأجدر أن يقتدى بي المسلم.
وقال فطر، عن أبي الطفيل؛ أن عليا -رضي الله عنه- تمثل:
اشدد حيازيمك للموت ... فإن الموت لاقيكا
ولا تجزع من القتل ... إذا حل بواديكا
وقال ابن عيينة، عن عبد الملك بن أعين، عن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي، عن أبيه، عن علي، قال: أتاني عبد الله بن سلام، وقد وضعت قدمي في الغرز، فقال لي، لا تقدم العراق فإني أخشى أن يصيبك بها ذباب السيف. قلت: وايم الله لقد أخبرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو الأسود: فما رأيت كاليوم قط محاربا يخبر بذا عن(راشدون/247)
نفسه.
قال ابن عيينة: كان عبد الملك رافضيًّا.
وقال يونس بن بكير: حدثني علي بن أبي فاطمة قال: حدثني الأصبغ الحنظلي، قال: لما كانت الليلة التي أصيب فيها علي -رضي الله عنه- أتاه ابن النباح حين طلع الفجر، يؤذنه بالصلاة، فقام يشمي، فلما بلغ الباب الصغير، شد عليه عبد الرحمن بن ملجم، فضربه، فخرجت أم كلثوم فجعلت تقول: ما لي ولصلاة الصبح، قتل زوجي عمر صلاة الغداة، وقتل أبي صلاة الغداة.
وقال أبو جناب الكلبي: حدثني أبو عون الثقفي، عن ليلة قتل علي، قال: قال الحسن بن علي: خرجت البارحة أمير المؤمنين يصلي، فقال لي: يا بني إني بت البارحة أوقظ أهلي؛ لأنها ليلة الجمعة صبيحة بدر، لسبع عشرة من رمضان، فملكتني عيناي، فسنح لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، ماذا لقيت من أمتك من الأود واللدد؟ ! فقال: "ادع عليهم". فقلت: اللهم أبدلني بهم من هو خير منهم، وأبدلهم بي من هو شر مني. فجاء ابن النباح فآذنه بالصلاة، فخرج، وخرجت خلفه، فاعتوره رجلان: أما أحدها فوقعت ضربته في السدة، وأما الآخر فأثبتها في رأسه.
وقال جعفر بن محمد، عن أبيه، أن عليا -رضي الله عنه- كان يخرج إلى الصلاة، وفي يده درة يوقظ الناس بها، فضربه ابن ملجم، فقال علي: أطعموه واسقوه فإن عشت فأنا ولي دمي.(راشدون/248)
رواه غيره، وزاد: فإن بقيت قتلت أو عفوت، وإن مت فاقتلوه قتلتي، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين.
وقال محمد بن سعد: لقي ابن ملجم شبيب بن بجرة الأشجعي، فأعلمه بما عزم عليه من قتل علي، فوافقه، قال: وجلسا مقابل السدة التي يخرج منها علي. قال الحسن: وأتيته سحرا فجلست إليه، فقال: إني ملكتني عيناي وأنا جالس، فسنح لي النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر المنام المذكور قال: وخرج وأنا خلفه، وابن النباح بن يديه، فلما خرج من الباب نادى: أيها الناس
الصلاة الصلاة، وكذلك كان يصنع في كل يوم، ومعه درته يوقظ الناس، فاعترضه الرجلان، فضربه ابن ملجم على دماغه، وأما سيف شبيب فوقع في الطاق، وسمع الناس عليا يقول: لا يفوتنكم الرجل. فشد الناس عليهما من كل ناحية، فهرب شبيب، وأخذ عبد الرحمن، وكان سم سيفه.
ومكث علي يوم الجمعة والسبت، وتوفي ليلة الأحد، لإحدى عشرة ليلة بقيت من رمضان. فلما دفن أحضروا ابن ملجم، فاجتمع الناس، وجاؤوا بالنفط والبواري، فقال محمد ابن الحنفية والحسين وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب: دعونا نشتف منه، فقطع عبد الله يديه ورجليه، فلم يجزع ولم يتكلم، فكحل عينيه، فلم يجزع، وجعل يقول: إنك لتكحل عيني عمك، وجعل يقرأ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق} [العلق: 1] ، حتى ختمها، وإن عينيه لتسيلان، ثم أمر به فعولج عن لسانه ليقطع، فجزع، فقيل له في ذلك.
فقال: ما ذاك بجزع، ولكني أكره أن أبقى في الدنيا فواقا لا أذكر الله، فقطعوا لسانه، ثم أحرقوه في قوصرة. وكان أسمر، حسن الوجه، أفلج، شعره مع شحمة(راشدون/249)
أذنيه، وفي جبهته أثر السجود.
ويروى أن عليا -رضي الله عنه- أمرهم أن يحرقوه بعد القتل.
وقال جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: صلى الحسن على علي، ودفن بالكوفة، عند قصر الإمارة، وعمي قبره.
وعن أبي بكر بن عياش، قال: عموه لئلا تنبشه الخوارج.
وقال شريك، وغيره: نقله الحسن بن علي إلى المدينة.
وذكر المبرد، عن محمد بن حبيب، قال: أول من حول من قبر إلى قبر علي.
وقال صالح بن أحد النحوي: حدثنا صالح بن شعيب، عن الحسن بن شعيب الفروي، أن عليا -رضي الله عنه- صير في صندوق، وكثروا عليه الكافور، وحمل على بعير، يريدون به المدينة، فلما كان ببلاد طيئ، أضلوا البعير ليلا، فأخذته طيئ وهم يظنون أن في الصندوق مالا، فلما رأوه خافوا أن يطلبوا، فدفنوه ونحروا البعير فأكلوه.
وقال مطين: لو علمت الرافضة قبر من هذا الذي يزار بظاهر الكوفة لرجمته، هذا قبر المغيرة بن شعبة.
قال أبو جعفر الباقر: قتل علي -رضي الله عنه- هو ابن ثمان(راشدون/250)
وخمسين.
وعنه رواية أخرى أنه عاش ثلاثا وستين سنة، وكذا روي عن ابن الحنفية، وقاله أبو إسحاق السبيعي، وأبو بكر بن عياش، وينصر ذلك ما رواه ابن جريج، عن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، أنه أخبره أن عليا توفي لثلاث أو أربع وستين سنة.
وعن جعفر الصادق، عن أبيه، قال: كان لعلي سبع عشرة سرية.
وقال أبو إسحاق السبيعي، عن هبيرة بن يريم، قال: خطبنا الحسن بن علي، فقال: لقد فارقكم بالأمس رجل ما سبقه إلا الأولون بعلم، ولا يدركه الآخرون، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيه الراية، فلا ينصرف حتى يفتح له، ما ترك بيضاء ولا صفراء، إلا سبع مائة درهم فضلت من عطائه، كان أرصدها، لا خادم لأهله.
وقال أبو إسحاق، عن عمرو الأصم، قال: قلت للحسن بن علي: إن الشيعة يزعمون أن عليا مبعوث قبل يوم القيامة. فقال: كذبوا والله ما هؤلاء بشيعة، لو علمنا أنه مبعوث ما زوجنا نساءه، ولا قسمنا ميراثه. ورواه شريك عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، بدل عمرو.
ولو استوعبنا أخبار أمير المؤمنين -رضي الله عنه- لطال الكتاب.(راشدون/251)
الحوادث في خلافة علي رضي الله عنه:
سنة ست وثلاثين وقعة الجمل:
لما قتل عثمان صبرا، سقط في أيدي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبايعوا عليا، ثم إن طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وأم المؤمنين عائشة، ومن تبعهم رأوا أنهم لا يخلصهم مما وقعوا فيه من توانيهم في نصرة عثمان، إلا أن يقوموا في الطلب بدمه، والأخذ بثأره من قتلته، فساروا من المدينة بغير مشورة من أمير المؤمنين علي، وطلبوا البصرة.
قال خليفة: قدم طلحة، والزبر، وعائشة البصرة، وبها عثمان بن حنيف الأنصاري واليا لعلي، فخاف وخرج عنها. ثم سار علي من المدينة، بعد أن استعمل عليها سهل بن حنيف أخا عثمان، وبعث ابنه الحسن، وعمار بن ياسر إلى الكوفة بين يديه يستنفران الناس، ثم إنه وصل إلى البصرة.
وكان قد خرج منها قبل قدومه إليها حكيم بن جبلة العبدي في سبع مائة، وهو أحد الرؤوس الذن خرجوا على عثمان كما سلف، فالتقى هو وجيش طلحة والزبير، فقتل الله حكيما في طائفة من قومه، وقتل مقدم جيش الآخرين أيضا مجاشع بن مسعود السلمي.(راشدون/252)
ثم اصطلحت الفئتان، وكفوا عن القتال، على أن يكون لعثمان بن حنيف دار الإمارة والصلاة، وأن ينزل طلحة والزبير حيث شاءا من البصرة، حتى يقدم علي رضي الله عنه.
وقال عمار لأهل الكوفة: أما والله إني لأعمل أنها -يعني عائشة- زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها لينظر أتتبعونه أو إياها.
قال سعد بن إبراهيم الزهري: حدثني رجل من أسلم، قال: كنا مع علي أربعة آلاف من أهل المدينة.
وقال سعيد بن جبير: كان مع علي يوم وقعة الجمل ثمان مائة من الأنصار، وأربع مائة ممن شهد بيعة الرضوان. رواه جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد.
وقال المطلب بن زياد، عن السدي: شهد مع علي يوم الجمل مائة وثلاثون بدرا وسبع مائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقتل بينهما ثلاثون ألفا، لم تكن مقتلة أعظم منها.
وكان الشعبي يبالغ ويقول: لم يشهدها إلى علي، وعمار، وطلحة، والزبير من الصحابة.
وقال سلمة بن كهيل: فخرج من الكوفة ستة آلاف، فقدموا على علي بذي قار، فسار في نحو عشرة آلاف، حتى أتى البصرة.
وقال أبو عبيدة: كان على خيل علي يوم الجمل عمار، وعلى(راشدون/253)
الرجالة محمد بن أبي بكر الصديق، وعلى الميمنة علباء بن الهيثم السدوسي، ويقال: عبد الله بن جعفر، ويقال: الحسن بن علي، وعلى الميسرة الحسين بن علي، وعلى المقدمة عبد الله بن عباس، ودفع اللواء إلى ابنه محمد ابن الحنفية. وكان لواء طلحة والزبير مع عبد الله بن حكيم بن حزام، وعلى الخيل طلحة، وعلى الرجالة عبد الله بن الزبير، وعلى الميمنة عبد الله بن عامر بن كريز، وعلى الميسرة مروان بن الحكم. وكانت الوقعة يوم الجمعة، خارج البصرة، عند قصر عبيد الله بن زياد.
قال الليث بن سعد، وغيره: كانت وقعة الجمل في جمادى الأولى.
وقال أبو اليقظان: خرج يومئذ كعب بن سور الأزدي في عنقه المصحف، ومعه ترس، فأخذ بخطام جمل عائشة، فجاءه سهم غرب فقتله.
قال محمد بن سعد: وكان كعب قد طين عليه بيتا، وجعل فيه كوة يتناول منها طعامه وشرابه اعتزالا للفتنة، فقيل لعائشة: إن خرج معك لم يتخلف من الأزد أحد، فركبت إليه فنادته وكلمته فلم يجبها، فقالت: ألست أمك؟ ولي عليك حق، فكلمها، فقالت: إنما أريد أن اصلح بين الناس، ذلك حين خرج ونشر المصحف، ومشى بين الصفين يدعوهم إلى ما فيه، فجاءه سهم فقتله.
وقال حصين بن عبد الرحمن: قام كعب بن سور فنشر مصحفا بين الفريقين، ونشدهم الله والإسلام في دمائهم فما زال حتى قتل.(راشدون/254)
وقال غيره: اصطف الفريقان، وليس لطلحة ولا لعلي رأسي الفريقين قصد في القتال، بل ليتكلموا في اجتماع الكلمة، فترامى أوباش الطائفتين بالنبل، وشبت نار الحرب، وثارت النفوس، وبقي طلحة يقول: "أيها الناس أنصتوا"، والفتنة تغلي، فقال: أف فراش النار، وذئاب طمع، وقال: اللهم خذ لعثمان مني اليوم حتى ترضى، إنا داهنا في أمر عثمان، كنا أمس يدا على من سوانا، وأصبحنا اليوم جبلين من حديد، يزحف أحدنا إلى صاحبه، ولكنه كان مني في أمر عثمان ما لا أرى كفارته، إلا بسفك دمي، وبطلب دمه.
فروى قتادة، عن الجارود بن أبي سبرة الهذلي، قال: نظر مروان بن الحكم إلى طلحة يوم الجمل، فقال: لا أطلب ثأري بعد اليوم، فرمى طلحة بسهم فقتله.
وقال قيس بن أبي حازم: رأيت مروان بن الحكم حين رمى طلحة يومئذ بسهم، فوقع في ركبته، فما زال يسح حتى مات. وفي بعض طرقه: رماه بسهم، وقال: هذا ممن أعان على عثمان.
وعن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمه، أن مروان رمى طلحة، والتفت إلى أبان بن عثمان وقال: قد كفيناك بعض قتلة أبيك.
وروى زيد بن أبي أنيسة، عن رجل، أن عليا قال: بشروا قاتل طلحة بالنار.(راشدون/255)
وعن عكرمة، عن ابن عباس، قال: خرجنا مع علي إلى الجمل في ست مائة رجل، فسلكنا على طريق الربذة، فقام إليه ابنه الحسن، فبكى بين يديه وقال: ائذ لي فأتكلم، فقال: تكلم، ودع عنك أن تحن حنين الجارية قال: لقد كنت أشرت عليك بالمقام، وأنا أشيره عليك الآن، إن للعرب جولة، ولو قد رجعت إليها غوازب أحلامها، لضربوا إليك آباط الإبل، حتى يستخرجوك، ولو كنت في مثل جحر الضب. فقال علي: أتراني لا أبا لك كنت منتظر كما ينتظر الضبع اللدم. وروى نحوه من وجهين آخرين.
روح بن عبادة، قال: حدثنا أبو نعامة العدوي، قال: حدثنا حميد بن هلال، عن حجيز بن الربيع أن عمران بن حصين أرسله إلى بني عدي أن ائتهم، فأتاه فقال: يقرأ عليكم السلام، ويقول: إني لكم ناصح، ويحلف بالله لأن يكون بعدا مجدعا يرعى في رأس جبل حتى يموت أحب إليه من أن يرمى في واحد من الفريقين بسهم، فأمسكوا فداكم أبي وأمي.
فقالوا: دعنا منك، فإنا والله لا ندع ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فغزوا يوم الجمل، فقتل خلق حول عائشة يومئذ سبعون كلهم قد جمعوا القرآن، ومن لم يجمع القرآن أكثر.
روى الواقدي عن رجاله، قال: كان يعلى بن منية التميمي حليف بني نوفل بن عبد مناف عاملا لعثمان على الجند، فوافى الموسم عام قتل عثمان.
وعن ابن أبي مليكة، قال: جاء يعلى بن أمية إلى عائشة وهي في الحج، فقال: قد قتل خليفتك الذي كنت تحرضين عليه. قالت: برئت إلى الله من قاتله.(راشدون/256)
وعن الواقدي، عن الوليد بن عبد الله، قال: قال يعلى بن أمية: أيها الناس، من خرج يطلب بدم عثمان فعلي جهازه.
وعن علي بن أبي سارة، قال: قدم يعلى بأربع مائة ألف فأنفقها في جهازهم إلى البصرة.
وعن غيره، قال: حمل يعلى بن أمية عائشة على جملة عسكر، وقال: هذه عشرة آلاف دينار من غر مالي أقوي بها من طلب بدم عثمان. فبلغ عليا، فقال: من أين له؟ سرق اليمن ثم جاء! والله لئن قدرت عليه لآخذن ما أقر به.
وعن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عم له، قال: لما كان يوم الجمل نادى علي في الناس: لا ترموا أحدا بسهم، وكلموا القوم، فإن هذا مقام من فلح فيه، فلح يوم القيامة، قال: فتوافينا حتى أتانا حر الحديد، ثم إن القوم نادوا بأجعهم: "يا لثارات عثمان"، قال: وابن الحنفية أمامنا رتوة معه اللواء، فمد علي يديه، وقال: اللهم أكب قتلة عثمان على وجوههم. ثم إن الزبير قال لأساورة معه: ارموهم ولا تبلغوا، وكأنه إنما أراد أن ينشب القتال. فلما نظر أصحابنا إلى النشاب لم ينتظروا أن يقع إلى الأرض، وحملوا عليهم فهزمهم الله. ورمى مروان طلحة بسهم فشك ساقه بجنب فرسه.
وعن أبي جرو المازني، قال: شهدت عليا والزبير حين تواقفا، فقال له علي: يا زبير أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنك تقاتلني وأنت ظالم لي"؟ قال: نعم ولم أذك إلا في موقفي هذا، ثم انصرف.
وقال الحسن البصري، عن قيس بن عباد قال: قال علي يوم(راشدون/257)
الجمل: يا حسن، ليت أباك مات منذ عشرين سنة. فقال له: يا أبت قد كنت أنهاك عن هذا. قال: يا بني لم أر أن الأمر يبلغ هذا.
وقال ابن سعد: إن محمد بن طلحة تقدم فأخذ بخطام الجمل، فحمل عليه رجل، فقال محمد: أذكركم "حم" فطعنه فقتله، ثم قال في محمد:
وأشعت قوام بآيات ربه ... قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
هتكت له بالرمح جيب قميصه ... فخر صريعا لليدين وللفم
يذكرني "حم" والرمح شاجر ... فهلا تلا "حم" قبل التقدم
على غير شيء غير أن ليس تابعا ... عليا ومن لا يتبع الحق يندم
فسار علي ليلته في القتلى، معه النيران، فمر بمحمد بن طلحة قتيلا، فقال: يا حسن، محمد السجاد ورب الكعبة، ثم قال: أبوه صرعه هذا المصرع، ولولا بره بأبيه ما خرج. فقال الحسن: ما كان أغناك عن هذا! فقال: ما لي وما لك يا حسن.
وقال شريك، عن الأسود بن قيس: حدثني من رأى الزبير يوم الجمل، وناداه علي: يا أبا عبد الله، فأقبل حتى التقت أعناق دوابهما، فقال: أنشدك بالله، أتذكر يوم كنت أناجيك، فأتانا الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: "تناجيه فوالله ليقاتلنك وهو لك ظالم". قال: فلم يعد أن سمع الحديث، فضرب وجه دابته وانصرف.
وقال هلال بن خباب، فيما رواه عنه أبو شهاب الحناط، وغيره، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال يوم الجمل للزبير: يا ابن صفية،(راشدون/258)
هذه عائشة تملك طلحة، فأنت على ماذا تقاتل قريبك عليًّا؟ فرجع الزبير، فلقيه ابن جرموز فقتله.
وقال يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: انصرف الزبير يوم الجمل عن علي، وهم في المصاف، فقال له ابنه عبد الله: جبنًا جبنًا، فقال: قد علم الناس أني لست بجبان، ولكن ذكرني علي شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحلفت أن لا أقاتله، ثم قال:
ترك الأمور التي أخشى عواقبها ... في الله أحسن في الدنيا وفي الدين
وكيع، عن عصام بن قدامة -وهو ثقة- عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيتكن صاحبة الجمل الأدبب، يقتل حواليها قتلى كثيرون، وتنجوا بعد ما كادت".
وقيل: إن أول قتيل كان يومئذ مسلم الجهني، أمره علي فحمل مصحفا، فطاف به على القوم يدعوهم إلى كتاب الله، فقتل. وقطعت يومئذ سبعون يدا من بني ضبة بالسيوف، صار كلما أخذ رجل بخطام الجمل الذي لعائشة، قطعت يده، فيقوم آخر مكانه ويرتجز، إلى أن صرخ صارخ اعقروا الجمل، فعقره رجل مختلف في اسمه، وبقي الجمل والهودج الذي عليه، كأنه قنفذ من النبل، وكان الهودج ملبسا بالدروع، وداخله أم المؤمنين، وهي تشجع الذين حول الجمل، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
ثم إنها -رضي الله عنها- ندمت، وندم علي -رضي الله عنه- لأجل ما وقع.(راشدون/259)
سنة سبع وثلاثين وقعة صفين:
قال محمد بن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، قال: لما قتل عثمان -رضي الله عنه، كتبت نائلة زوجته إلى الشام إلى معاوية كتابا تصف فيه كيف دخل على عثمان -رضي الله عنه- وقتل، وبعثت إليه بقميصه بالدماء، فقرأ معاوية الكتاب على أهل الشام، وطيف بالقميص في أجناد الشام، وحرضهم على الطلب بدمه، فبايعوا معاوية على الطلب بدمه.
ولما بويع علي بالخلافة قال له ابنه الحسن وابن عباس: اكتب إلى معاوية فأقره على الشام، وأطمعه فإنه سيطمع ويكفيك نفسه وناحيته، فإذا بايع لك الناس أقررته أو عزلته، قال: فإنه لا يرضى حتى أعطيه عهد الله تعالى وميثاقه أن لا أعزله قالا: لا تعطه ذلك وبلغ ذلك معاوية. فقال: والله لا ألي له شيئا ولا أبايعه، وأظهر بالشام أن الزبير بن العوام قادم عليهم، وأنه مبايع له، فلما بلغه أمر الجمل أمسك، فلما بلغه قتل الزبير ترحم عليه، وقال: لو قدم علينا لبايعناه وكان أهلا.
فلما انصرف علي من البصرة، أرسل جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية، فكلم معاوية، وعظم أمر علي ومبايعته واجتماع الناس عليه، فأبى أن يبايعه، وجرى بينه وبين جرير كلام كثير، فانصرف جرير إلى علي فأخبره، فأجمع على المسير إلى الشام، وبعث معاوية أبا مسلم الخولاني إلى علي بأشياء يطلبها منه، منها أن يدفع إليه قتلة عثمان، فأبى علي، وجرت بينهما رسائل.(راشدون/260)
ثم سار كل منهما يريد الآخر، فالتقوا بصفين لسبع بقين من المحرم، وشبت الحرب بينهم في أول صفر، فاقتتلوا أياما.
فحدثني ابن أبي سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: استعملني عثمان على الحج، فأقمت للناس الحج، ثم قدمت وقد قتل وبويع لعلي، فقال: سر إلى الشام فقد وليتكها. قلت: ما هذا برأي، معاوية ابن عم عثمان وعامله على الشام، ولست آمن أن يضرب عنقي بعثمان، وأدنى ما هو صانع أن يحبسني. قال علي: ولم؟ قلت: لقرابتي منك، وأن كل من حمل عليك حمل علي، ولكن اكتب إلى معاوية فمنه وعده. فأبى علي وقال: لا والله لا كان هذا أبدا.
روى أبو عبيد القاسم بن سلام، عمن حدثه، عن أبي سنان العجلي، قال: قال ابن
عباس لعلي: ابعثني إلى معاوية، فوالله لأفتلن له حبلا لا ينقطع وسطه، قال: لست من مكرك ومكره في شيء، ولا أعطيه إلا السيف، حتى يغلب الحق الباطل، فقال ابن عباس: أو غير هذا؟ قال: كيف؟ قال: لأنه يطاع ولا يعصى، وأنت عن قليل تعصى ولا تطاع. قال: فلما جعل أهل العراق يختلفون على علي -رضي الله عنه- قال: لله در ابن عباس، إنه لينظر إلى الغيب من ستر رقيق.
وقال مجالد، عن الشعبي، قال: لما قتل عثمان، أرسلت أم حبيبة بنت أبي سفيان إلى أهل عثمان: أرسلوا إلي بثياب عثمان التي قتل فيها، فبعثوا إليها بقميصه مضرجا بالدم، وخصلة الشعر التي نتفت من لحيته، ثم دعت النعمان بن بشير، فبعثته إلى معاوية، فمضى بذلك وبكتابها، فصعد معاوية المنبر، وجمع الناس، ونشر القميص عليهم، وذكر ما صنع بعثمان، ودعا إلى الطلب بدمه. فقام أهل الشام فقالوا: هو ابن عمك وأنت وليه، ونحن الطالبون معك بدمه، وبايعوا له.(راشدون/261)
وقال يونس، عن الزهري قال: لما بلغ معاوية قتل طلحة والزبير، وظهور علي، دعا أهل الشام للقتال معه على الشورى والطلب بدم عثمان، فبايعوه على ذلك أميرا غير خليفة.
وذكر يحيى الجعفي في "كتاب صفين" بإسناد أن معاوية قال لجرير بن عبد الله: اكتب إلى علي أن يجعل لي الشام، وأنا أبايع له، قال: وبعث الوليد بن عقبة إليه يقول:
معاوي إن الشام شامك فاعتصم ... بشامك لا تدخل عليك الأفاعيا
وحام عليها بالقنابل والقنا ... ولا تك مخشوش الذراعين وانيا
فإن عليا ناظر ما تجيبه ... فأهد له حربا تشيب النواصيا
وحدثني يعلى بن عبيد، قال: حدثنا أبي، قال: قال أبو مسلم الخولاني وجماعة لمعاوية: أنت تنازع عليا! أم أنت مثله؟ فقال: لا والله إني لأعلم أن عليا أفضل مني وأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما، وأنا ابن عمه، وإنما أطلب بدمه، فأتوا عليا فقولوا له، فليدفع إلي قتلة عثمان وأسلم له. فأتوا عليا فكلموه بذلك، فلم يدفعهم إليه.
وحدثني خلاد بن يزيد الجعفي قال: حدثنا عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، عن الشعبي -أو أبي جعفر الباقر شك خلاد- قال: لما(راشدون/262)
ظهر أمر معاوية دعا علي -رضي الله عنه- رجلا، أمره أن يسير إلى دمشق، فيعقل راحلته على باب المسجد، ويدخل بهيئة السفر، ففعل الرجل، وكان قد وصاه بما يقول، فسألوه: من أين جئت؟ قال: من العراق، قالوا: ما
وراءك؟ قال: تركت عليا قد حشد إليكم، ونهد في أهل العراق. فبلغ معاوية، فأرسل أبا الأعور السلمي يحقق أمره، فأتاه فسأله، فأخبره بالأمر الذي شاع، فنودي: الصلاة جامعة.
وامتلأ الناس في المسجد، فصعد معاوية المنبر وتشهد، ثم قال: إن عليا قد نهد إليكم في أهل العراق، فما الرأي؟ فضرب الناس بأذقانهم على صدورهم، ولم يرفع إليه أحد طرفه، فقام ذو الكلاع الحميري، فقال: عليك الرأي وعلينا أم فعال -يعني الفعال- فنزل معاوية ونودي في الناس: اخرجوا إلى معسكركم، ومن تخلف بعد ثلاث أحل بنفسه. فخرج رسول علي حتى وافاه، فأخبره بذلك، فأمر علي فنودي: الصلاة جامعة. فاجتمع الناس، وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن رسولي الذي أرسلته إلى الشام قد قدم علي، وأخبرني أن معاوية قد نهد إليكم في أهل الشام، فما الرأي؟ قال: فأضب أهل المسجد يقولون: يا أمير المؤمنين الرأي كذا، الرأي كذا، فلم يفهم علي كلامهم من كثرة من تكلم، وكثر اللغط، فنزل وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب بها ابن أكالة الأكباد، يعني معاوية.
وقال الأعمش: حدثني من رأى عليا يوم صفين يصفق بيديه، ويعض عليها، ويقول: واعجبًا! أعصى ويطاع معاوية.(راشدون/263)
وقال الواقدي: اقتتلوا أياما حتى قتل خلق وضجروا، فرفع أهل الشام المصاحف، وقالوا: ندعوكم إلى كتاب الله والحكم بما فيه. وكان ذلك مكيدة من عمرو بن العاص، يعني لما رأى ظهور جيش علي، فاصطلحوا كما يأتي.
وقال الزهري: اقتتلوا قتالا لم تقتتل هذه الأمة مثله قط، وغلب أهل العراق على قتلى أهل حمص، وغلب أهل الشام على قتلى أهل العالية، وكان على ميمنة علي الأشعث بن قيس الكندي، وعلى الميسرة عبد الله بن عباس، وعلى الرجالة عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، فقتل يومئذ. ومن أمراء علي يومئذ: الأحنف بن قيس التميمي، وعمار بن ياسر العنسي، وسليمان بن صرد الخزاعي، وعدي بن حاتم الطائي، والأشتر النخعي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وشبث بن ربعي الرياحي، وسعيد بن قيس الهمداني، وكان رئيس همدان المهاجر بن خالد بن الوليد المخزومي، وقيس بن مكشوح المرادي، وخزيمة بن ثابت الأنصاري، وغيرهم.
وكان علي في خمسين ألفا، وقيل: في تسعين ألفا، وقيل: كانوا مائة ألف.
وكان معاوية في سبعين ألفا، وكان لواؤه مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي، وعلى ميمنته عمرو بن العاص، وقيل: ابنه عبد الله بن عمرو، وعلى الميسرة حبيب بن مسلمة
الفهري، وعلى الخيل عبيد الله بن عمر بن الخطاب، ومن أمرائه يومئذ: أبو الأعور السلمي، وزفر بن الحارث، وذو الكلاع الحميري، ومسلمة بن مخلد، وبسر بن أرطأة العامري، وحابس بن سعد الطائي، ويزيد بن هبيرة السكوي،(راشدون/264)
وغيرهم.
قال عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة قال: رأيت عمار بن ياسر بصفين، ورأى راية معاوية، فقال: إن هذه راية قاتلتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع مرات ثم قاتل حتى قتل.
وقال غيره: برز الأشعث بن قيس في ألفين، فبرز لهم أبو الأعور في خمسة آلاف، فاقتتلوا: ثم غلب الأشعث على الماء وأزالهم عنه.
ثم التقوا يوم الأربعاء سابع صفر، ثم يوم الخميس والجمعة وليلة السبت، ثم رفع أهل الشام لما رأوا الكسرة المصاحف بإشارة عمرو، ودعوا إلى الصلح والتحكيم، فأجاب علي إلى تحكيم الحكمين، فاختلف عليه حينئذ جيشه وقالت طائفة، لا حكم إلا لله. وخرجوا عليه فهم "الخوارج".
وقال ثوير بن أبي فاختة، عن أبيه، قال: قتل مع علي بصفين خمسة وعشرون بدريا.
ثوير متروك.
قال الشعبي: كان عبد الله بن بديل يوم صفين عليه درعان ومعه سيفان، فكان يضرب أهل الشام ويقول:
لم يبق إلا الصبر والتوكل ... ثم التمشي في الرعيل الأول
مشي الجمال في حياض المنهل ... والله يقضي ما يشا ويفعل
فلم يزل يضرب بسيفه حتى انتهى إلى معاوية فأزاله عن موقفه، وأقبل أصحاب معاوية يرمونه بالحجارة حتى أثخنوه وقتل، فأقبل إليه معاوية، وألقى عبد الله بن عامر عليه عمامته غطاه بها وترحم عليه،(راشدون/265)
فقال معاوية لعبد الله: قد وهبناه لك، هذا كبش القوم ورب الكعبة، اللهم أظفر بالأشتر والأشعث، والله ما مثل هذا إلا كما قال الشاعر:
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت يوما به الحرب شمرا
كليث هزبر كان يحمي ذماره ... رمته المنايا قصدها فتقصرا
ثم قال: لو قدرت نساء خزاعة أن تقاتلني فضلا عن رجالها لفعلت.
وفي "الطبقات" لابن سعد، من حديث عمرو بن شراحيل، عن حنش بن عبد الله
الصنعاني، عن عبد الله بن زرير الغافقي، قال: لقد رأيتنا يوم صفين، فاقتتلنا نحن وأهل الشام، حتى ظننت أنه لا يبقى أحد، فأسمع صائحا يصيح: معشر الناس، الله الله في النساء والولدان، من للروم ومن للترك، الله الله، والتقينا، فأسمع حركة من خلفي، فإذا علي يعدو بالراية حتى أقامها، ولحقه ابنه محمد ابن الحنفية، فسمعته يقول: يا بني الزم رايتك، فإني متقدم في القوم، فأنظر إليه يضرب بالسيف حتى يفرج له، ثم يرجع فيهم.
وقال خليفة: شهد مع علي من البدريين: عمار بن ياسر، وسهل بن حنيف، وخوات بن جبير، وأبو سعد الساعدي، وأبو اليسر، ورفاعة بن رافع الأنصاري، وأبو أيوب الأنصاري بخلف فيه. قال: وشهد معه من الصحابة ممن لم يشهد بدرا، خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وقيس بن سعد بن عبادة، وأبو قتادة، وسهل بن سعد(راشدون/266)
الساعدي، وقرظة بن كعب، وجابر بن عبد الله، وابن عباس، والحسن، والحسين، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وأبو مسعود عقبة بن عمرو، وأبو عياش الزرقي، وعدي بن حاتم، والأشعث بن قيس، وسليمان بن صرد، وجندب بن عبد الله، وجارية بن قدامة السعدي.
وعن ابن سيرين، قال: قتل يوم صفين سبعون ألفا يعدون بالقصب.
وقال خليفة وغيره: افترقوا عن ستين ألف قتيل، وقيل: عن سبعين ألفا، منهم خمسة وأربعون ألفا من أهل الشام.
وقال عبد السلام بن حرب، عن يزيد بن عبد الرحمن، عن جعفر -أظنه ابن أبي المغيرة- عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، قال: شهدنا مع علي ثمان مائة ممن بايع بيعة الرضوان، قتل منهم ثلاثة وستون رجلا، منهم عمار.
وقال أبو عبيدة وغيره: كانت راية علي مع هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وكان على الخيل عمار بن ياسر.
وقال غيره: حيل بين علي وبين الفرات؛ لأن معاوية سبق إلى الماء، فأزالهم الأشعث عن الماء.
قلت: ثم افترقوا وتواعدوا ليوم الحكمين.
وقتل مع علي: خزيمة بن ثابت، وعمار بن ياسر، وهاشم بن عتبة، وعبد الله بن بديل، وعبد الله بن كعب المرادي، وعبد الرحمن بن كلدة الجمحي، وقيس بن مكشوح المرادي، وأبي بن قيس النخعي أخو(راشدون/267)
علقمة، وسعد بن الحارث بن الصمة الأنصاري، وجندب بن زهير الغامدي، وأبو ليلى الأنصاري.
وقتل مع معاوية: ذو الكلاع، وحوشب ذو ظليم، وحابس بن سعد الطائي قاضي حمص، وعمرو بن الحضرمي، وعبيد الله بن عمر بن الخطاب العدوي، وعروة بن داود، وكريب بن الصباح الحميري أحد الأبطال، قتل يومئذ جماعة، ثم بارزه علي فقتله.
قال نصر بن مزاحم الكوفي الرافضي: حدثنا عمر بن سعد، عن الحارث بن حصيرة، أن ولد ذي الكلاع أرسل إلى الأشعث بن قيس يقول: إن ذا الكلاع قد أصيب، وهو في الميسرة، أفتأذن لنا في دفنه؟ فقال: الأشعث لرسوله أقرئه السلام، وقل إني أخاف أن يتهمني أمير المؤمنين، فاطلبوا ذلك إلى سعيد بن قيس الهمداني فإنه في الميمنة، فذهب إلى معاوية فأخبره، فقال: ما عسيت أن أصنع، وقد كانوا منعوا أهل الشام أن يدخلوا عسكر علي، خافوا أن يفسدوا أهل العسكر، فقال معاوية لأصحابه: لأنا أشد فرحا بقتل ذي الكلاع مني بفتح مصر لو افتتحتها؛ لأن ذا الكلاع كان يعرض لمعاوية في أشياء كان يأمر بها، فخرج ابن ذي الكلاع إلى سعيد بن قيس، فاستأذنه في أبيه فأذن له، فحملوه على بغل وقد انتفخ.
وشهد صفين مع معاوية من الصحابة: عمرو بن العاص السهمي، وابنه عبد الله، وفضالة بن عبيد الأنصاري، ومسلمة بن مخلد، والنعمان بن بشير، ومعاوية بن حديج الكندي، وأبو غادية الجهني قاتل عمار، وحبيب بن مسلمة الفهري، وأبو الأعور السلمي، وبسر بن أرطأة العامري.(راشدون/268)
تحكيم الحكمين:
عن عكرمة قال: حكم معاوية عمرو بن العاص، فقال الأحنف بن قيس لعلي: حكم أنت ابن عباس، فإنه رجل مجرب. قال: أفعل. فأبت اليمانية، وقالوا: لا، حتى يكون منا رجل. فجاء ابن عباس إلى علي لما رآه قد هم أن يحكم أبا موسى الأشعري، فقال له: علام تحكم أبا موسى، فوالله لقد عرفت رأيه فينا، فوالله ما نصرنا، وهو يرجو ما نحن فيه، فتدخله الآن في معاقد أمرنا، مع أنه ليس بصاحب ذاك، فإذ أبيت أن تجعلني مع عمرو، فاجعل الأحنف بن قيس، فإنه مجرب من العرب، وهو، قرن لعمرو. فقال علي: أفعل. فأبت اليمانية أيضًا. فلما غُلِبَ جعل أبا موسى، فسمعت ابن عباس يقول: قلت لعلي يوم الحكمين: لا تحكم أبا موسى، فإن معه رجلا حذرًا مرسًا قارحًا، فلزني إلى جنبه، فإنه لا يحل عقدة إلا عقدتها ولا يعقد عقدة إلا حللتها. قال: يا ابن عباس ما أصنع؟ إنما أوتي من أصحابي، قد ضعفت نيتهم وكلوا في الحرب، هذا الاشعث بن قيس يقول: لا يكون فيها مضريان أبدًا حتى يكون أحدهما يمانٍ، قال: فعذرته وعرفت أنه مضطهد، وأن أصحابه لا نية لهم.
وقال أبو صالح السمان: قال علي لأبي موسى: احكم ولو على حز عنقي.(راشدون/269)
وقال غيره: حكم معاوية عمرا، وحكم علي أبا موسى، على أن من ولياه الخلافة فهو الخليفة، ومن اتفقا على خلعه خلع. وتواعدا أن يأتيا في رمضان، وأن يأتي مع كل واحد جمع من وجوه العرب. فلما كان الموعد سار هذا من الشام، وسار هذا من العراق، إلى أن التقى الطائفتان بدومة الجندل، وهي طرف الشام من جهة زاوية الجنوب والشرق.
فعن عمر بن الحكم، قال: قال ابن عباس لأبي موسى الأشعري: احذر عمرا، فإنما يريد أن يقدمك ويقول: أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسن مني فتكلم حتى أتكلم، وإنما يريد أن يقدمك في الكلام لتخلع عليا. قال: فاجتمعا على إمرة، فأدار عمرو أبا موسى، وذكر له معاوية فأبى، وقال أبو موسى: بل عبد الله بن عمر، فقال عمرو: أخبرني عن رأيك؟ فقال أبو موسى: أرى أن نخلع هذين الرجلين، ونجعل هذا الأمر شورى بين المسلمين، فيختاروا لأنفسهم من أحبوا قال عمرو: الرأي ما رأيت.
قال: فأقبلا على الناس وهم مجتمعون بدومة الجندل، فقال عمرو: يا أبا موسى أعلمهم أن رأينا قد اجتمع، فقال: نعم، إن رأينا قد اجتمع على أمر نرجو أن يصلح الله به أمر الأمة.
فقال عمرو: صدق وبر، ونعم الناظر للإسلام وأهله، فتكلم يا أبا موسى. فأتاه ابن عباس، فخلا به، فقال: أنت في خدعة، ألم أقل لك لا تبدأه وتعقبه، فإني أخشى أن يكون أعطاك أمرا خاليا، ثم ينزع عنه على ملأ من الناس، فقال: لا تخش ذلك فقد اجتمعنا واصطلحنا.
ثم قام أبو موسى فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، قد نظرنا في هذا الأمر وأمر هذه الأمة، فلم نر شيئا هو أصلح لأمرها ولا ألم لشعثها من أن لا نثير أمرها ولا بعضه، حتى يكون ذلك عن رضا(راشدون/270)
منها وتشاور، وقد اجتمعت أنا وصاحبي على أمر واحد: على خلع علي ومعاوية، وتستقيل الأمة هذا الأمر فيكون شورى بينهم يولون من أحبوا، وإني قد خلعت عليا ومعاوية، فولوا أمركم من رأيتم. ثم تأخر.
وأقبل عمرو فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن هذا قد قال ما سمعتم، وخلع صاحبه، وإني خلعت صاحبه وأثبت صاحبي معاوية، فإنه ولي عثمان، والطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه، فقال سعد بن أبي وقاص: ويحك يا أبا موسى ما أضعفك عن عمرو ومكايده، قال: ما أصنع به، جامعني على أمر، ثم نزع عنه. فقال ابن عباس: لا ذنب لك، الذنب للذي قدمك، فقال: رحمك الله غدر بي، فما أصنع؟ وقال أبو موسى: يا عمرو إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث. أو تتركه يلهث. فقال عمرو: إنما مثلك كمثل الحمار يحمل
أسفارا. فقال ابن عمر: إلى ما صير أمر هذه الأمة! إلى رجل لا يبالي ما صنع، وآخر ضعيف.
قال المسعودي في "المروج": كان لقاء الحكمين بدومة الجندل في رمضان، سنة ثمان وثلاثين، فقال عمرو لأبي موسى: تكلم. فقال: بل تكلم أنت فقال: ما كنت لأفعل، ولك حقوق كلها واجبة. فحمد الله أبو موسى وأثنى عليه، ثم قال: هلم يا عمرو إلى أمر يجمع الله به الأمة، ودعا عمرو بصحيفة، وقال للكاتب: اكتب وهو غلام لعمرو، وقال: إن للكلام أولا وآخرًا، ومتى تنازعنا الكلام لم نبلغ آخره حتى ينسى أوله، فاكتب ما نقول.
قال: لا تكتب شيئا يأمرك به أحدنا حتى تستأمر الآخر، فإذا أمرك فاكتب، فكتب: هذا ما تقاضي عليه فلان(راشدون/271)
وفلان. إلى أن قال عمرو: وإن عثمان كان مؤمنا، فقال أبو موسى: ليس لهذا قعدنا. قال عمرو: لا بد أن يكون مؤمنا أو كافرا. قال: بل كان مؤمنا. قال: فمر أن يكتب، فكتب. قال عمرو: ظالما قتل أو مظلومًا؟ قال أبو موسى: بل قتل مظلومًا. قال عمرو: أفليس قد جعل الله لوليه سلطانا يطلب بدمه؟ قال أبو موسى: نعم قال عمرو: فعلى قاتله القتل، قال: بلى قال: أفليس لمعاوية أن يطلب بدمه حتى يعجز؟ قال: بلى قال عمرو: فإنا نقيم البينة على أن عليا قتله.
قال أبو موسى: إنما اجتمعنا لله، فهلم إلى ما يصلح الله به أمر الأمة. قال: وما هو؟ قال: قد علمت أن أهل العراق لا يحبون معاوية أبدًا، وأهل الشام لا يحبون عليا أبدا، فهلم نخلعهما معا، ونستخلف ابن عمر -وكان ابن عمر على بنت أبي موسى- قال عمرو: أيفعل ذلك عبد الله؟ قال: نعم إذا حمله الناس على ذلك. فصوبه عمرو، وقال: فهل لك في سعد؟ وعدد له جماعة، وأبو موسى يأبى إلا ابن عمر، ثم قال: قم حتى نخلع صاحبينا جميعا، واذكر اسم من تستخلف، فقام أبو موسى وخطب وقال: إنا نظرنا في أمرنا، فرأينا أقرب ما نحقن به الدماء، ونلم به الشعث خلعنا معاوية وعليًّا، فقد خلعتهما كما خلعت عمامتي هذه، واستخلفنا رجلا قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وله سابقة: عبد الله بن عمر، فأطراه ورغب الناس فيه.
ثم قام عمرو فقال: أيها الناس، إن أبا موسى قد خلع عليا، وهو أعلم، وقد خلعته معه، وأثبت معاوية علي وعليكم، وإن أبا موسى كتب في هذه الصحيفة أن عثمان قتل مظلوما، وأن لوليه أن يطلب بدمه، فقام أبو موسى، فقال: كذب عمرو، ولم نستخلف معاوية، ولكنا خلعنا معاوية وعليا معا.
قال المسعودي: ووجدت في رواية أنهما اتفقا وخلعا عليا(راشدون/272)
ومعاوية، وجعلا الأمر شورى، فقام عمرو بعده، فوافقه على خلع علي، وعلى إثبات معاوية، فقال له: لا وفقك الله، غدرت وقنع شريح بن هانئ الهمداني عمرا بالسوط. وانخذل أبو موسى، فلحق بمكة، ولم يعد إلى الكوفة، وحلف لا ينظر في وجه علي ما بقي. ولحق سعد بن أبي وقاص وابن عمر ببيت المقدس فأحرما، وانصرف عمرو، فلم يأت معاوية، فأتاه وهيأ طعاما كثيرا، وجرى بينهما كلام كثير، وطلب الأطعمة، فأكل عبيد عمرو، ثم قاموا ليأكل عبيد معاوية، وأمر من أغلق الباب وقت أكل عبيده، فقال عمرو: فعلتها؟ قال: إي والله بايع وإلا قتلتك.
قال: فمصر، قال: هي لك ما عشت.
وقال الواقدي: رفع أهل الشام المصاحف وقالوا: ندعوكم إلى كتاب الله والحكم بما فيه فاصطلحوا، وكتبوا بينهما كتابا على أن يوافوا رأس الحول أذرح ويحكموا حكمين، ففعلوا ذلك فلم يقع اتفاق، ورجع علي بالاختلاف والدغل من أصحابه، فخرج منهم الخوارج، وأنكروا تحكيمه، وقالوا: لا حكم إلا لله، ورجع معاوية بالألفة واجتماع الكلمة عليه. ثم بايع أهل الشام معاوية بالخلافة في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين. كذا قال.
وقال خليفة وغيره: إنهم بايعوه في ذي القعدة سنة سبع وثلاثين، وهو أشبه؛ لأن ذلك كان إثر رجوع عمرو بن العاص من التحكيم.
وقال محمد بن الضحاك الحزامي، عن أبيه، قال: قام علي على منبر الكوفة، فقال، حين اختلف الحكمان: لقد كنت نهيتكم عن هذه(راشدون/273)
الحكومة فعصيتموني. فقام إليه شاب آدم، فقال: إنك والله ما نهيتنا ولكن أمرتا ودمرتنا، فلما كان منها ما تكره برأت نفسك ونحلتنا ذنبك. فقال علي: ما أنت وهذا الكلام قبحك الله، والله لقد كانت الجماعة فكنت فيها خاملًا، فلما ظهرت الفتنة نجمت فيها نجوم الماغرة. ثم قال: لله منزل نزله سعد بن مالك وعبد الله بن عمر، والله لئن كان ذنبا إنه لصغير مغفور، وإن كان حسنا إنه لعظيم مشكور.
قلت: ما أحسنها لولا أنها منقطعة السند.
وقال الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: دخلت على حفصة، فقلت: قد كان بين الناس ما ترين، ولم يجعل لي من الأمر شيء. قالت: فالحق بهم، فإنهم ينتظرونك، وإني أخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة، فذهب.
فلما تفرق الحكمان خطب معاوية، فقال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع إلي قرنه فلنحن أحق بهذا الأمر منه ومن أبيه -يعرض بابن عمر- قال ابن عمر: فحللت
حبوتي وهممت أن أقول: أحق به من قاتلك وأباك على الإسلام. فخشيت أن أقول كلمة تفرق الجمع وتسفك الدم، فذكرت ما أعد الله في الجنان.
قال جرير بن حازم، عن يعلى، عن نافع، قال: قال أبو موسى: لا أرى لها غير ابن عمر، فقال عمرو لابن عمر: أما تريد أن نبايعك؟ فهل لك أن تعطى مالا عظيما على أن تدع هذا الأمر لمن هو أحرص عليه منك. فغضب ابن عمر وقام. رواه معمر. عن الزهري.
وفيها أخرج علي سهل بن حنيف على أهل فارس، فمانعوه، فوجه علي زيادا، فصالحوه وأدوا الخراج.(راشدون/274)
وفيها قال أبو عبيدة: خرج أهل حروراء في عشرين ألفا، عليهم شبث بن ربعي، فكلمهم علي فحاجهم، فرجعوا.
وقال سليمان التيمي، عن أنس، قال: قال شبث بن ربعي: أنا أول من حرر الحرورية، فقال رجل: ما في هذا ما تمتدح به.
وعن مغيرة قال: أول من حكم ابن الكواء، وشبث.
قلت: معنى قوله: "حكم" هذه كلمة قد صارت سمة للخوارج، يقال: "حكم" إذا خرج وقال: لا حكم إلا الله.
وتوفي فيها:
جهجاه بن قيس -وقيل بن سعيد- الغفاري، مدني، له صحبة شهد بيعة الرضوان، وكان في غزوة المريسع أجيرا لعمر، ووقع بينه وبين سنان الجهني، فنادى: يا للمهاجرين: ونادى سنا: يا للأنصار.
وعن عطاء بن يسار، عن جهجاه أنه هو الذي شرب حلاب سبع شياه قبل أن يسلم، فلما أسلم لم يتم حلاب شاة.
وقال ابن عبد البر: هو الذي تناول العصا من يد عثمان -رضي الله عنه- وهو يخطب، فكسرها على ركبته، فوقعت فيها الآكلة، وكانت عصا رسول الله صلى الله عليه وسلم. توفي بعد عثمان بسنة.
حابس بن سعد الطائي: ولي قضاء حمص زمن عمر، وكان أبو بكر قد وجهه إلى الشام،(راشدون/275)
وكان من العباد. روى عنه: جبير بن نفير. قتل يوم صفين مع معاوية.
ذو الكلاع الحميري، اسمه السميفع، ويقال: سميفع بن ناكور. وقيل: اسمه أيفح، كنيته أبو شرحبيل.
أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: له صحبة، فروى ابن لهيعة، عن كعب بن علقمة، عن حسان بن كليب، سمع ذا الكلاع، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اتركوا الترك ما تركوكم".
كان ذو الكلاع سيد قومه، شهد يوم اليرموك، وفتح دمشق، وكان على ميمنة معاوية يوم صفين. روى عن: عمر، وغير واحد روى عنه: أبو أزهر بن سعيد، وزامل بن عمرو، وأبو نوح الحميري.
والدليل على أنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم ما روى إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن جرير، قال: كنت باليمن، فلقيت رجلين من أهل اليمن: ذا الكلاع، وذا عمرو، فجعلت أحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبلا معي، حتى إذا كنا في بعض الطريق، رفع لنا ركب من قبل المدينة، فسألناهم، فقالوا: قبض النبي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر. الحديث رواه مسلم.
وروى علوان بن داود، عن رجل، قال: بعثني أهلي بهدية إلى ذي الكلاع، فلبثت على بابه حولا لا أصل إليه، ثم إنه أشرف من القصر، فلم يبق حوله أحد إلا سجد له، فأمر بهديتي فقبلت، ثم رأيته بعد في الإسلام، وقد اشترى لحما بدرهم فسمطه على فرسه.
وروى أن ذا الكلاع لما قدم مكة كان يتلثم خشية أن يفتتن أحد(راشدون/276)
بحسنه. وكان عظيم الخطر عند معاوية، وربما كان يعارض معاوية، فيطيعه معاوية.
عبد الله بن بديل بن ورقاء بن عبد العزى الخزاعي، كنيته أبو عمرو.
روى البخاري في "تاريخه" أنه ممن دخل على عثمان، فطعن عثمان في ودجه، وعلا التنوخي عثمان بالسيف.
أسلم مع أبيه قبل الفتح، وشهد الفتح وما بعدها، وكان شريفا وجليلا. قتل هو وأخوه عبد الرحمن يوم صفين مع علي، وكان على الرجالة.
قال الشعبي: كان على عبد الله يومئذ درعان وسيفان، فأقبل يضرب أهل الشام حتى انتهى إلى معاوية، فتكاثروا عليه فقتلوه، فلما رآه معاوية صريعا قال: والله لو استطاعت نساء خزاعة لقاتلتنا فضلا عن رجالها.
عبد الله بن كعب المرادي، من كبار عسكر علي. قتل يوم صفين، ويقال: إن له صحبة.
عبيد الله ابن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب القرشي العدوي المدني.
ولد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع أباه، وعثمان، وأرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم. كنيته أبو عيسى، غزا في أيام أبيه. وأمه أم كلثوم الخزاعية.(راشدون/277)
وعن أسلم، أن عمر ضرب ابنه عبيد الله بالدرة، وقال: أتكتني بأبي عيسى، أو كان لعيسى أب!
وقد ذكرنا أن عبيد الله لما قتل عمر أخذ سيفه وشد على الهرمزان فقتله، وقتل جفينة، ولؤلؤة بنت أبي لؤلؤة، فلما بويع عثمان هم بقتله، ثم عفا عنه. وكان قد أشار علي على عثمان بقتله، فلما بويع ذهب عبيد الله هاربا منه إلى الشام. وكان مقدم جيش معاوية يوم صفين، فقتل يومئذ. ويقال: قتله عمار بن ياسر، وقيل: رجل من همدان، ورثاه بعضهم بقصيدة مليحة.
أبو فضالة الأنصاري، بدري، قتل مع علي يوم صفين انفرد بهذا القول محمد بن راشد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، وليسا بحجة.
أبو عمرة الأنصاري، بشير بن عمرو بن محصن الخزرجي النجاري، وقيل اسم أبي عمرة: بشير، وقيل: ثعلبة، وقيل: عمرو.
بدري كبير، له رواية في النسائي، روى عنه: ابنه عبد الرحمن بن أبي عمرة، ومحمد ابن الحنفية، وقتل يوم صفين مع علي، قاله ابن سعد.
سنة ثمان وثلاثين:
فيها: وجه معاوية من الشام عبد الله بن الحضرمي في جيش إلى البصرة ليأخذها، وبها زياد بن أبيه من جهة علي، فنزل ابن الحضرمي في بني تميم، وتحول زياد إلى الأزد، فنزل على صبرة بن شيمان(راشدون/278)
الحداني، وكتب إلى علي فوجه علي أعين بن ضبيعة المجاشعي، فقتل أعين غيلة على فراشه. فندب علي جارية بن قدامة السعدي، فحاصر ابن الحضرمي في الدار التي هو فيها، ثم حرق عليه.
أمر الخوارج:
وفي شعبان: ثارت الخوارج وخرجوا على علي رضي الله عنه، وأنكروا عليه كونه حكم الحكمين، وقالوا: حكمت في دين الله الرجال، والله يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّه} [الأنعام: 57] ، وكفروه، واحتجوا بقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] ، فناظرهم، ثم أرسل إليهم عبد الله بن عباس، فبين لهم فساد شبههم، وفسر لهم، واحتج بقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُم} [المائدة: 95] ، وبقوله: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] ، فرجع إلى الصواب منهم خلق، وسار الآخرون، فلقوا عبد الله بن خباب بن الأرت، ومعه امرأته، فقالوا: من أنت؟ فانتسب لهم، فسألوه عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، فأثنى عليهم كلهم، فذبحوه وقتلوا امرأته، وكانت حبلى، فبقروا بطنها، وكان من سادات أبناء الصحابة.
وفيها: سارت الخوارج لحرب علي، فكانت بينهم "وقعة النهروان"، وكان على الخوارج عبد الله بن وهب السبئي، فهزمهم علي وقتل أكثرهم، وقتل ابن وهب. وقتل من أصحاب علي اثنا عشر رجلا.
وقيل في تسميتهم "الحرورية"؛ لأنهم خرجوا على علي من الكوفة، وعسكروا بقرية قريب من الكوفة يقال لها: "حروراء"، واستحل علي قتلهم لما فعلوا بابن خباب وزوجته.
وكانت الوقعة في شعبان سنة(راشدون/279)
ثمان، وقيل: في صفر.
قال عكرمة بن عمار: حدثني أبو زميل أن ابن عباس قال: لما اجتمعت الخوارج في دارها، وهم ستة آلاف أو نحوها، قلت لعلي: يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة لعلي ألقى هؤلاء، فإني أخافهم عليك، قال: كلا. قال: فلبس ابن عباس حلتين من أحسن الحلل، وكان جهيرا جميلا، قال: فأتيت القوم، فلما رأوني، قالوا: مرحبا بابن عباس وما هذه الحلة؟ قلت: وما تنكرون من ذلك؟ لقد رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حلة من أحسن الحلل، قال: ثم تلوت عليهم: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] .
قالوا: فما جاء بك؟ قلت: جئتكم من عند أمير المؤمنين، ومن عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أرى فيكم أحدا منهم، ولأبلغنكم ما قالوا، ولأبلغنهم ما تقولون، فما تنقمون من ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره؟ فأقبل بعضهم على بعض، فقالوا: لا تكلموه فإن الله يقول: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُون} [الزخرف: 58] ، وقال بعضهم: ما يمنعنا من كلامه،
ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدعونا إلى كتاب الله. قال: فقالوا: ننقم عليه ثلاث خلال: إحداهن أنه حكم الرجال في دين الله، وما للرجال ولحكم الله، والثانية: أنه قاتل فلم يسب ولم يغنم، فإن كان قد حل قتالهم فقد حل سبيهم، وإلا فلا، والثالثة: محا نفسه من "أمير المؤمنين"، فإن لم يكن أمير المؤمنين، فهو أمير المشركين. قلت: هل غير هذا؟ قالوا: حسبنا هذا.
قلت: أرأيتم إن خرجت لكم من كتاب الله وسنة رسوله أراجعون أنتم؟ قالوا: وما يمنعنا، قلت: أما قولكم أما قولكم إنه حكم الرجال في أمر الله، فإني سمعت الله تعالى يقول في كتابه: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُم} [المائدة: 95] ، وذلك في ثمن صيد أرنب أو نحوه قيمته ربع درهم فوض الله(راشدون/280)
الحكم فيه إلى الرجال، ولو شاء أن يحكم لحكم، وقال: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ} [النساء: 35] ، أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.
قلت: وأما قولكم: قاتل فلم يسب، فغنه قاتل أمكم؛ لأن الله يقول: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُم} [الأحزاب: 6] ، فإن زعمتم أنها ليست بأمكم فقد كفرتم، وإن زعمتم أنها أمكم فما حل سباؤها، فأنتم بين ضلالتين، أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.
قلت: وأما قولكم: إنه محا اسمه من أمير المؤمنين، فإني أنبئكم عن ذلك: أما تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية جرى الكتاب بينه وبين سهيل بن عمرو، فقال: "يا علي اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الل هـ -صلى الله عليه وسلم "، فقالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال: "اللهم إنك تعلم أني رسولك"، ثم أخذ الصحيفة فمحاها بيده، ثم قال: "يا علي اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله"، فوالله ما أخرجه ذلك من النبوة، أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.
قال: فرجع ثلثهم، وانصرف ثلثهم، وقتل سائرهم على ضلالة.
قال عوف: حدثنا أبو نضرة، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تفترق أمتي فرقتين، تمرق بينهما مارقة تقتلهم أولى الطائفتين بالحق". وكذا رواه قتادة، وسليمان التيمي، عن أبي نضرة.
وقال ابن وهب: أخبرنا عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، عن بسر بن سعيد، عن عبيد الله بن أبي رافع، أن الحرورية لما خرجت(راشدون/281)
على علي، قالوا: لا حكم إلا لله، فقال علي: كلمة حق أريد بها باطل، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ناسا إني لأعرف صفتهم في هؤلاء الذين يقولون الحق بألسنتهم لا يجوز هذا منهم -وأشار إلى حلقه- من أبغ خلق الله إليه، منهم أسود إحدى يديه طبي شاة أو حلمة ثدي، فلما قاتلهم علي، قال: انظروا فلم يجدوا شيئا، قال: ارجعوا، فوالله ما كذبت ولا كذبت، ثم وجدوه في خربة، فأتوا به حتى وضعوه بين يديه. قال عبيد الله: وأنا حاضر ذلك من أمرهم وقول علي فيهم.
وقال يحيى بن سليم، عن ابن خثيم، عن عبيد الله بن عياض، أن عبد الله بن شداد بن الهاد دخل على عائشة ونحن عندها ليالي قتل علي، فقالت: حدثني عن هؤلاء الذين قاتلهم علي، قال: إن عليا لما كاتب معاوية وحكم الحكمين خرج عليه ثمانية آلاف من قراء الناس -يعني عبادهم- فنزلوا بأرض حروراء من جانب الكوفة، وقالوا: انسلخت من قميص ألبسك الله وحكمت في دين الله الرجال، ولا حكم إلا لله. فلما بلغ عليا ما عتبوا عليه، جمع أهل القرآن، ثم دعا بالمصحف إماما عظيما، فوضع بين يديه، فطفق يحركه بيده ويقول: أيها المصحف حدث الناس. فناداه الناس ما تسأل؟ إنما هو مداد وورق، ونحن نتكلم با روينا منه، فماذا تريد؟ فقال: أصحابكم الذين خرجوا، بيني وبينهم كتاب الله تعالى، يقول في كتابه: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] ، فأمة محمد أعظم حقا وحرمة من رجل وامرأة، وذكر الحديث شبه ما تقدم، قال: فرجع منهم أربعة آلاف، فيهم ابن الكواء، ومضى الآخرون. قالت عائشة: فلم قتلهم؟ قال قطعوا السبيل، واستحلوا أهل الذمة، وسفكوا الدم.(راشدون/282)
سنة تسع وثلاثين:
فيها: كانت وقعة الخوارج بحروراء بالنخيلة، قاتلهم علي -رضي الله عنه- فكسرهم، وقتل رؤوسهم، وسجد شكرا لله تعالى لما أتى بالمخدج إليه مقتولا. وكان رؤوس الخوارج زيد بن حصن الطائي، وشريح بن أوفى العبسي، وكانا على المجنبتين، وكان رأسهم عبد الله بن وهب السبئي، وكان على رجالتهم حرقوص بن زهير.
وفيها: بعث معاوية يزيد بن شجرة الرهاوي ليقيم الحج، فنازعه قثم بن العباس ومانعه،
وكان من جهة علي، فتوسط بينهما أبو سعيد الخدري وغيره، فاصطلحا، على أن يقيم الموسم شيبة بن عثمان العبدري حاجب الكعبة.
وقيل: توفي فيها أم المؤمنين ميمونة، وحسان بن ثابت الأنصاري، وسيأتيان.
وكان علي قد تجهز يريد معاوية، فرد من عانات، واشتغل بحرب الخوارج الحرورية، وهم العباد والقراء من أصحاب علي الذين مرقوا من الإسلام، وأوقعهم الغلو في الدين إلى تكفير العصاة بالذنوب، وإلى قتل النساء والرجال، إلا من اعترف لهم بالكفر وجدد إسلامه.
ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الموالي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، سمع محمد ابن الحنفية يقول: كان أبي يريد الشام، فجعل يعقد لواءه، ثم يحلف لا يحله حتى(راشدون/283)
يسير فيأبى عليه الناس، وينتشر عليه رأيهم، ويجبنون فيحله ويكفر عن يمينه، فعل ذلك أربع مرات، وكنت أرى حالهم فأرى ما لا يسرني، فكلمت المسور بن مخرمة يومئذ، وقلت: ألا تكلمه أين يسير بقوم لا والله ما أرى عندهم طائلا. قال: يا أبا القاسم يسير لأمر قد حم، قد كلمته فرأيته يأبى إلا المسير. قال ابن الحنفية: فلما رأى منهم ما رأى، قال: اللهم إني قد مللتهم وملوني، وأبغضتهم وأبغضوني، فأبدلني بهم خيرا منهم، وأبدلهم بي شرا مني.
سنة أربعين:
فيهاك بعث معاوية إلى اليمن بسر بن أبي أرطاة القرشي العامري في جنود، فتنحى عنها عامل علي عبيد الله بن عباس، وبلغ عليا فجهز إلى اليمن جارية بن قدامة السعدي فوثب بسر على ولدي عبيد الله بن عباس صبيين، فذبحهما بالسكين وهرب، ثم رجع عبيد الله على اليمن.
قال ابن سعد: قالوا: انتدب ثلاثة من الخوارج، وهم: عبد الرحمن بن ملجم المرادي، والبرك بن عبد الله التميمي، وعمرو بن بكير التميمي، فاجتمعوا بمكة، فتعاهدوا وتعاقدوا ليقتلن هؤلاء الثلاثة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، ويريحوا العباد منهم فقال ابن ملجم: أنا لعلي، وقال البرك: أنا لكم لمعاوية، وقال الآخر: أنا أكفيكم عمرا. فتواثقوا أن لا ينكصوا، واتعدوا بينهم أن يقع ذلك ليلة سبع عشرة من رمضان، ثم توجه كل رجل منهم إلى بلد بها صاحبه، فقدم ابن ملجم الكوفة،
فاجتمع(راشدون/284)
بأصحابه من الخوارج، فأسر إليهم، وكان يزورهم ويزورونه. فرأى قطام بنت شجنة من بني تيم الرباب، وكان علي قتل أباها وأخاها يوم النهروان، فأعجبته، فقالت: لا أتزوجك حتى تعطيني ثلاثة آلاف درهم، وتقتل عليا، فقال: لك ذلك. ولقي شبيب بن بجرة الأشجعي، فأعلمه ودعاه إلى أن يكون معه، فأجابه.
وبقي ابن ملجم في الليلة التي عزم فيها على قتل علي يناجي الأشعث بن قيس في مسجده حتى كاد يطلع الفجر، فقال له الأشعث: فضحك الصبح، فقام هو وشبيب، فأخذوا أسيافهما، ثم جاءا حتى جلسا مقابل السدة التي يخرج منها علي، فذكر مقتل علي رضي الله عنه، فلما قتل أخذوا عبد الرحمن بن ملجم، وعذبوه وقتلوه.
وقال حجاج بن أبي منيع: حدثنا جدي، عن الزهري، عن أنس قال: تعاهد ثلاثة من أهل العراق على قتل معاوية، وعمرو بن العاص، وحبيب بن مسلمة، وأقبلوا بعد ما بويع معاوية.
من توفي فيها: الحارث بن خزمة بن عدي، أبو بشير الأنصاري الأشهلي.
شهد بدرا والمشاهد كلها، وهو من حلفاء بني عبد الأشهل. توفي بالمدينة سنة أربعين وله سبع وستون سنة. وخزمة: بفتحتين، قيده ابن ماكولا.(راشدون/285)
خارجة بن حذافة بن غانم.
قال ابن ماكولا: له صحبة، وشهد فتح مصر، وكان أمير ربع المدد الذين أمد بهم عمر بن الخطاب عمرو بن العاص، وكان على شرطة مصر في خلافة عمر، وفي خلافة معاوية، قتله عمرو بن بكير الخارجي بمصر، وهو يعتقد أنه عمر بن العاص.
روى عنه عبد الله بن أبي مرة حديثا.
شرحبيل بن السمط بن الأسود الكندي، أبو يزيد، ويقال: أبو السمط.
له صحبة ورواية. وروى أيضا عن عمر، وسلمان الفارسي. وعنه: جبير بن نفير، وكثير بن مرة، وجماعة.
قال البخاري: كان على حمص، وهو الذي افتتحها وكان فارسا بطلا شجاعا، قيل: إنه شهد القادسية. وكان قد غلب الأشعث بن قيس على شرف كندة، واستقدمه معاوية قبل صفين يستشيره.
وقد قال الشعبي: إن عمر استعمل شرحبيل بن السمط على المدائن، واستعمل أباه بالشام، فكتب إلى عمر: إنك تأمر أن لا يفرق بين السبايا وأولادهن، فإنك قد فرقت بيني وبين ابني، قال: فألحقه بابنه.
قال يزيد بن عبد ربه الحمصي: توفي شرحبيل سنة أربعين.(راشدون/286)
عبد الرحمن بن ملجم المرادي، قاتل علي رضي الله عنه.
خارجي مفتر، ذكره ابن يونس في "تاريخ مصر" فقال: شهد فتح مصر، واختط بها مع الأشراف، وكان ممن قرأ القرآن، والفقه، وهوأحد بني تدول وكان فارسهم بمصر. قرأ القرآن على معاذ بن جبل، وكان من العباد، ويقال: هو الذي أرسل صبيغا التميمي إلى عمر، فسأله عما سأله من مستعجم القرآن.
وقيل: إن عمر كتب إلى عمرو بن العاص: أن قرب دار عبد الرحمن بن ملجم من المسجد ليعلم الناس القرآن والفقه، فوسع له مكان داره، وكانت إلى جانب دار عبد الرحمن بن عديس البلوي، يعني أحد من أعان على قتل عثمان. ثم كان ابن ملجم من شيعة علي بالكوفة سار إليه إلى الكوفة، وشهد معه صفين.
قلت: ثم أدركه الكتاب، وفعل ما فعل، وهو عند الخوارج من أفضل الأمة، وكذلك تعظمه النصيرية.
قال الفقيه أبو محمد بن حزم: يقولون: إن ابن ملجم أفضل أهل الأرض، خلص روح اللاهوت من ظلمة الجسد وكدره.
فاعجبوا يا مسلمون لهذا الجنون.
وفي ابن ملجم يقول عمران بن حطان الخارجي.
يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حينا فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا
وابن ملجم عند الروافض أشقى الخلق في الآخرة. وهو عندنا أهل السنة ممن نرجو له النار، ونجوز أن الله يتجاوز عنه، لا كما يقول(راشدون/287)
الخوارج والروافض فيه، وحكمه حكم قاتل عثمان، وقاتل الزبير، وقاتل طلحة، وقاتل سعيد بن جبير، وقاتل عمار، وقاتل خارجة، وقاتل الحسين، فكل هؤلاء نبرأ منهم ونبغضهم في الله، ونكل أمورهم إلى الله عز وجل.
المتوفون في خلافة علي تحديدا وتقريبا على الحروف:
رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان، أبو معاذ الأنصاري الزرقي، أخو مالك وخلاد.
شهد بدرا هو وأخوه خلاد، وكان أبوه من نقباء الأنصار، له أحاديث. روى عنه ابناه: عبيد ومعاذ، وابن أخيه يحيى بن خلاد، وغيرهم. وله عقب كثير بالمدينة، وبغداد.
توفي في حدود سنة أربعين.
وقال ابن سعد: توفي في أول خلافة معاوية.
صفوان بن عسال المرادي: غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة غزوة، وله أحاديث. روى عنه: زر بن حبيش، وعبد الله بن مسلمة المرادي، وأبو الغريف عبيد الله بن خليفة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن. وسكن الكوفة.
قرظة بن كعب الأنصاري الخزرجي:(راشدون/288)
أحد فقهاء الصحابة، وهو أحد العشرة الذين وجههم عمر إلى الكوفة ليعلموا الناس، ثم شهد فتح الري زمن عمر، وولاه علي على الكوفة، ثم سار إلى الجمل مع علي، ثم شهد صفين.
توفي بالكوفة، وصلى عليه علي على الصحيح، وهو أول من نيح عليه بالكوفة، وقيل: توفي بعد علي.
القعقاع بن عمرو التميمي: قيل: إنه شهد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وله أثر عظيم في قتال الفرس في القادسية وغيرها، وكان أحد الأبطال المذكورين، يقال: إن أبا بكر قال: صوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل. وشهد الجمل مع علي وكان الرسول في الصلح يومئذ بين الفريقين، وسكن الكوفة.
سحيم عبد بني الحسحاس: شاعر مفلق، بديع القول، لا صحبة له.
روى معمر، عن سعيد بن عبد الرحمن، عن السائب، قال: قيل لعمر -رضي الله عنه: هذا عبد بني الحسحاس يقول الشعر، دعاه فقال: كيف قلت؟ فقال:
ودع سليمى إن تجهزت غاديا ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
قال: حسبك، صدقت صدقت. هذا حديث صحيح.
وهذه قصيدة طنانة يقول بها:
جنونا بها فيما اعتلقنا علاقة ... علاقة حب ما استسر وباديا(راشدون/289)
ليالي تصطاد الرجال بفاحم ... تراه أثيثا ناعم النبت عافيا
وجيد كجيد الريم ليس بعاطل ... من الدر والياقوت أصبح حاليا
كأن الثريا علقت فوق نحرها ... وجمر غضى هبت له الريح زاكيا
إذا اندفعت في ريطة وخميصة ... وألقت بأعلى الرأس سبا يمانيا
تريك غداة البين كفا ومعصما ... ووجها كدينار الأعزة صافيا
فلو كنت وردا لونه لعشقتني ... ولكن ربي شانني بسواديا
أتكتم حييتم على الناي تكتما ... تحية من أمسى بحبك مغرما
وماشية مشي القطاة اتبعتها ... من السر تخشى أهلها أن تكلما
فقالت له: يا ويح غيرك إنني ... سمعت كلاما بينهم يقطر الدما
وله من قصيدة:
وإن لا تلاقي الموت في اليوم فاعلمن ... بأنك رهن أن تلاقيه غدا
رأيت المنايا لم يدعن محمدا ... ولا أحدا إلا له الموت أرصدا
وقيل: إن سحيما لما أكثر التشبيب بنساء الحي عزموا على قتله، فبكت امرأة كان يرمى بها فقال:
أمن سمية دمع العين مذروف ... لو أن ذا منك قبل اليوم معروف
المال مالكم والعبد عبدكم ... فهل عذابك عني اليوم مصروف
كأنها يوم صدت ما تكلمنا ... ظبي بعسفان ساجي الطرف مطروف
ثم قتل عفا الله عنه.(راشدون/290)
الْجُزْءُ الْأَوَّلُ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ، وَبِهِ نَسْتَعِيْنُ
1 - أَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ عَامِرُ بنُ عَبْدِ اللهِ * (م، ق) .
ابْنِ الجَرَّاحِ بنِ هِلاَلِ بنِ أُهَيْبِ بنِ ضَبَّةَ بنِ الحَارِثِ بنِ فِهْرِ بنِ مَالِكِ بنِ النَّضْرِ بنِ كِنَانَةَ بنِ خُزَيْمَةَ بنِ مُدْرِكَةَ بنِ إِلْيَاسَ بنِ مُضَرَ بنِ نِزَارِ بنِ مَعَدِّ بنِ عَدْنَانَ القُرَشِيُّ، الفِهْرِيُّ، المَكِّيُّ.
أَحَدُ السَّابِقِيْنَ الأَوَّلِيْنَ، وَمَنْ عَزَمَ الصِّدِّيْقُ عَلَى تَوْلِيَتِهِ الخِلاَفَةَ، وَأَشَارَ بِهِ يَوْمَ
__________
(*) مسند أحمد: 1 / 195 - 196، الزهد لابن حنبل: 184، طبقات ابن سعد: 3 / 1 / 297 - 304، نسب قريش: 445، طبقات خليفة: 27، 300، تاريخ خليفة: 138، التاريخ الكبير: 6 / 444 - 445، التاريخ الصغير: 1 / 48، المعارف: 247 - 248، تاريخ الطبري 3 / 202، الجرح والتعديل: 6 / 325، مشاهير علماء الأمصار: ت 13، البدء والتاريخ: 5 / 87، معجم الطبراني: 1 / 117 - 120، المستدرك للحاكم: 3 / 262 - 268، حلية الأولياء: 1 / 100 - 102، الاستيعاب: 5 / 293 - 297، تاريخ ابن عساكر: 7 / 157، صفوة الصفوة: 1 / 142، جامع الأصول: 9 / 5 - 18، أسد الغابة: 3 / 128 - 130، الكامل في التاريخ: 2 / 332 325، تهذيب الأسماء واللغات: 2 / 259، الرياض النضرة: 2 / 307، تهذيب الكمال: 645، دول الإسلام 1 / 15، تاريخ الإسلام: 2 / 23، العبر: 1 / 15، 24، العقد الثمين: 5 / 84، تهذيب التهذيب: 5 / 73، الإصابة: 5 / 285 - 289، تاريخ الخميس: 2 / 244، كنز العمال 13 / 214 - 219، شذرات الذهب: 1 / 29، تهذيب تاريخ دمشق: 7 / 160 - 168، أشهر مشاهير الإسلام: 504.(1/5)
السَّقِيْفَةِ؛ لِكَمَالِ أَهْلِيَّتِهِ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ (1) .
يَجْتَمِعُ فِي النَّسَبِ هُوَ وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي فِهْرٍ.
شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالجَنَّةِ، وَسَمَّاهُ: أَمِيْنَ الأُمَّةِ، وَمَنَاقِبُهُ شَهِيْرَةٌ جَمَّةٌ.
رَوَى أَحَادِيْثَ مَعْدُوْدَةً (2) ، وَغَزَا غَزَوَاتٍ مَشْهُوْدَةً.
حَدَّثَ عَنْهُ: العِرْبَاضُ بنُ سَارِيَةَ، وَجَابِرُ بنُ عَبْدِ اللهِ، وَأَبُو أُمَامَةَ البَاهِلِيُّ، وَسَمُرَةُ بنُ جُنْدَبٍ، وَأَسْلَمُ مَوْلَى عُمَرَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ غَنْمٍ، وَآخَرُوْنَ.
لَهُ فِي (صَحِيْحِ مُسْلِمٍ) حَدِيْثٌ وَاحِدٌ، وَلَهُ فِي (جَامِعِ أَبِي عِيْسَى) حَدِيْثٌ، وَفِي (مُسْنَدِ بَقِيٍّ) لَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ حَدِيْثاً.
الرِّوَايَةُ عَنْهُ:
أَخْبَرَنَا أَبُو المَعَالِي مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ السَّلاَمِ التَّمِيْمِيُّ، قِرَاءةً عَلَيْهِ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَتِسْعِيْنَ وَسِتِّ مَائَةٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو رَوْحٍ عَبْدُ المُعِزِّ بنُ مُحَمَّدٍ البَزَّازُ، أَنْبَأَنَا تَمِيْمُ بنُ أَبِي سَعِيْدٍ أَبُو القَاسِمِ المَعَرِّيُّ، فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِيْنَ وَخَمْسِ مَائَةٍ بِهَرَاةَ، أَنْبَأَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَمْرٍو بنُ حَمْدَانَ، أَخْبَرَنَا أَبُو يَعْلَى أَحْمَدُ بنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ مُعَاوِيَةَ القُرَشِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ خَالِدٍ الحَذَّاءِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ شَقِيْقٍ، عَنْ (3) عَبْدِ اللهِ بنِ سُرَاقَةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بنِ الجَرَّاحِ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَقُوْلُ: (إِنَّهُ لَمْ
__________
(1) انظر خبر السقيفة في الطبري 3 / 252، والكامل في التاريخ 2 / 325 - 332.
(2) أحاديثه في مسند أحمد 1 / 195 - 196، وعددها اثنا عشر حديثا.
(3) عبارة " عبد الله بن شقيق عن " سقطت من مطبوع دار المعارف.(1/6)
يَكُنْ نَبِيٌّ بَعْدَ نُوْحٍ إِلاَّ وَقَدْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ الدَّجَّالَ، وَإِنِّي أُنْذِرُكُمُوْهُ) .
فَوَصَفَهُ لَنَا رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ: (لَعَلَّهُ سَيُدْرِكُهُ بَعْضُ مَنْ رَآنِي، أَوْ سَمِعَ كَلاَمِي) .
قَالُوْا: يَا رَسُوْلَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْكَ وَسَلَّمَ! كَيْفَ قُلُوْبُنَا يَوْمَئِذٍ؟ أَمِثْلُهَا اليَوْمَ؟
قَالَ: (أَوْ خَيْرٌ (1)) .
أَخْرَجَهُ: التِّرْمِذِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ الجُمَحِيِّ، فَوَافَقْنَاهُ بِعُلُوٍّ.
وَقَالَ: وَفِي البَابِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ بُسْرٍ، وَغَيْرِهِ.
وَهَذَا حَدِيْثٌ حَسَنٌ غَرِيْبٌ مِنْ حَدِيْثِ أَبِي عُبَيْدَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ فِي (الطَّبَقَاتِ) : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ، حَدَّثَنِي ثَوْرُ بنُ يَزِيْدَ، عَنْ خَالِدِ بنِ مَعْدَانَ، عَنْ مَالِكِ بنِ يَخَامِرَ:
أَنَّهُ وَصَفَ أَبَا عُبَيْدَةَ، فَقَالَ: كَانَ رَجُلاً نَحِيْفاً، مَعْرُوْقَ الوَجْهِ، خَفِيْفَ اللِّحْيَةِ، طُوَالاً، أَحْنَى (2) ، أَثْرَمَ (3) الثَّنِيَّتَيْنِ (4) .
وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ صَالِحٍ، عَنْ يَزِيْدَ بنِ رُوْمَانَ، قَالَ: انْطَلَقَ ابْنُ مَظْعُوْنٍ، وَعُبَيْدَةُ بنُ الحَارِثِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ
__________
(1) أخرجه أحمد 1 / 195 مختصرا، وأبو داود (4756) في السنة: باب في الدجال، والترمذي (2235) في الفتن: باب ما جاء في الدجال.
ورجاله ثقات، إلا أن عبد الله بن سراقة لم يسمع من أبي عبيدة.
وقال أبو عيسى: وفي الباب عن عبد الله بن بسر، وعبد الله بن الحارث بن جزء، وعبد الله بن مغفل، وأبي هريرة، وهذا حديث حسن غريب من حديث أبي عبيدة بن الجراح لا نعرفه إلا من حديث خالد الحذاء.
وقال البخاري: عبد الله بن سراقة لم يسمع من أبي عبيدة بن الجراح.
(2) الرجل الأحنى: فيه انعطاف الكاهل نحو الصدر مع انحناء من الكبر وغيرها محقق المطبوع إلى " أجنأ " نقلا عن ابن سعد، وقال: الكلمتان بمعنى.
(3) الأثرم: مكسور الأسنان.
(4) الخبر في " الطبقات " 3 / 1 / 303، والحاكم 3 / 264.(1/7)
بنُ عَبْدِ الأَسَدِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ حَتَّى أَتَوْا رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الإِسْلاَمَ، وَأَنْبَأَهُمْ بِشَرَائِعِهِ، فَأَسْلَمُوا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ دُخُوْلِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَارَ الأَرْقَمِ.
وَقَدْ شَهِدَ أَبُو عُبَيْدَةَ بَدْراً، فَقَتَلَ يَوْمَئِذٍ أَبَاهُ، وَأَبْلَى يَوْمَ أُحُدٍ بَلاَءً حَسَناً، وَنَزَعَ يَوْمَئِذٍ الحَلْقَتَيْنِ اللَّتَيْنِ دَخَلَتَا مِنَ المِغْفَرِ فِي وَجْنَةِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ ضَرْبَةٍ أَصَابَتْهُ، فَانْقَلَعَتْ ثَنِيَّتَاهُ، فَحَسُنَ ثَغْرُهُ بِذَهَابِهِمَا، حَتَّى قِيْلَ: مَا رُئِيَ هَتْمٌ قَطُّ أَحْسَنُ مِنْ هَتْمِ أَبِي عُبَيْدَةَ (1) .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيْقُ وَقْتَ وَفَاةِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِسَقِيْفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ:
قَدْ رَضِيْتُ لَكُم أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ: عُمَرَ، وَأَبَا عُبَيْدَةَ.
قَالَ الزُّبَيْرُ بنُ بَكَّارٍ: قَدِ انْقَرَضَ نَسْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَوَلَدُ إِخْوَتِهِ جَمِيْعاً، وَكَانَ مِمَّنْ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الحَبَشَةِ.
قَالَهُ: ابْنُ إِسْحَاقَ، وَالوَاقِدِيُّ (2) .
قُلْتُ: إِنْ كَانَ هَاجَرَ إِلَيْهَا، فَإِنَّهُ لَمْ يُطِلْ بِهَا (3) اللَّبْثَ.
وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْدُوْداً فِيْمَنْ جَمَعَ القُرْآنَ العَظِيْمَ.
قَالَ مُوْسَى بنُ عُقْبَةَ فِي (مَغَازِيْهِ) : غَزْوَةُ عَمْرِو بنِ العَاصِ هِيَ غَزْوَةُ ذَاتِ السَّلاَسِلِ (4) ، مِنْ مَشَارِفِ الشَّامِ، فَخَافَ عَمْرٌو مِنْ جَانِبِهِ ذَلِكَ، فَاسْتَمَدَّ رَسُوْلَ
__________
(1) انظر " الطبقات " 3 / 1 / 298، و" الاستيعاب " 5 / 292، و" المستدرك " للحاكم 3 / 266، و" الإصابة " 5 / 285، و" ابن هشام " 1 / 252، وانظر " سيرة ابن كثير " 3 / 58 - 59.
والهتم: كسر في الثنايا من أصولها.
(2) انظر ابن هشام 1 / 329، و" الطبقات " لا بن سعد 3 / 1 / 298، والحاكم 3 / 266.
(3) سقطت من مطبوع دار المعارف.
(4) خبر هذه الغزوة عند ابن هشام 2 / 623، والطبري 3 / 21 - 32، و" الكامل " في التاريخ 2 / 232، وفي " الإصابة " 5 / 286.(1/8)
اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَانْتَدَبَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي سَرَاةٍ مِنَ المُهَاجِرِيْنَ، فَأَمَّرَ نَبِيُّ اللهِ عَلَيْهِم أَبَا عُبَيْدَةَ.
فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى عَمْرِو بنِ العَاصِ، قَالَ: أَنَا أَمِيْرُكُم.
فَقَالَ المُهَاجِرُوْنَ: بَلْ أَنْتَ أَمِيْرُ أَصْحَابِكَ، وَأَمِيْرُنَا أَبُو عُبَيْدَةَ.
فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّمَا أَنْتُم مَدَدٌ أُمْدِدْتُ بِكُم.
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ، وَكَانَ رَجُلاً حَسَنَ الخُلُقِ، لَيِّنَ الشِّيْمَةِ، مُتَّبِعاً لأَمْرِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَهْدِهِ، فَسَلَّمَ الإِمَارَةَ لِعَمْرٍو.
وَثَبَتَ مِنْ وُجُوْهٍ عَنْ أَنَسٍ:
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِيْناً، وَأَمِيْنُ هَذِهِ الأُمَّةِ: أَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ (1)) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ مُحَمَّدٍ الفَقِيْهُ، وَغَيْرُهُ إِجَازَةً، قَالُوا:
أَخْبَرَنَا حَنْبَلُ بنُ عَبْدِ اللهِ، أَنْبَأَنَا هِبَةُ اللهِ بنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيٍّ بنُ المُذْهِبِ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ القَطِيْعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو المُغِيْرَةِ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، عَنْ شُرَيْحِ بنِ عُبَيْدٍ، وَرَاشِدِ بنِ سَعْدٍ، وَغَيْرِهِمَا، قَالُوا:
لَمَّا بَلَغَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ سَرْغَ (2) ، حُدِّثَ أَنَّ بِالشَّامِ وَبَاءً شَدِيْداً، فَقَالَ: إِنْ أَدْرَكَنِي
__________
(1) أخرجه أحمد 3 / 133، 189، 245، 281، والبخاري (3744) في فضائل القرآن، و (4382) في المغازي، و (7255) في أخبار الآحاد، ومسلم (2419) في الفضائل، والحاكم 3 / 267 وصححه، ووافقه الذهبي، وابن سعد 3 / 1 / 299، وابن عبد البر في " الاستيعاب " 5 / 293 والحافظ في " الإصابة " 5 / 285، كلهم من طريق: خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس ... وأخرجه أحمد 3 / 146، 175، 184، 212، 286 من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس ... وأخرجه الترمذي (3759) في المناقب، وابن ماجه (135) في المقدمة من طريق: أبي إسحاق، عن صلة بن زفر، عن حذيفة.
وأخرجه ابن ماجه (136) في المقدمة عن ابن عمر، وفي الباب عن أبي بكر، وابن مسعود، وخالد بن الوليد، وعائشة،.
وانظر " حلية الأولياء " 1 / 101 وما بعدها.
(2) سرغ: بالغين المعجمة - والعين المهملة لغة فيه: وهو أول الحجاز وآخر الشام بين المغيثة وتبوك.
وقال مالك بن أنس: هي قرية بوادي تبوك.
وهناك لقي عمر بن الخطاب من أخبره بطاعون عمواس.
وانظر " معجم البلدان " 3 / 211.(1/9)
أَجَلِي، وَأَبُو عُبَيْدَةَ حَيٌّ، اسْتَخْلَفْتُهُ، فَإِنْ سَأَلَنِي اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: لِمَ اسْتَخْلَفْتَهُ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ؟
قُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُوْلُ: (إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِيْناً، وَأَمِيْنُ هَذِهِ الأُمَّةِ: أَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ) .
قَالَ: فَأَنْكَرَ القَوْمُ ذَلِكَ، وَقَالُوا: مَا بَالُ عَلْيَاءِ قُرَيْشٍ؟
يَعْنُوْنَ: بَنِي فِهْرٍ.
ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ أَدْرَكَنِي أَجَلِي، وَقَدْ تُوُفِّيَ أَبُو عُبَيْدَةَ، أَسْتَخْلِفْ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ، فَإِنْ سَأَلَنِي رَبِّي قُلْتُ:
إِنِّي سَمِعْتُ نَبِيَّكَ يَقُوْلُ: (إِنَّهُ يُحْشَرُ يَوْمَ القِيَامَةِ بَيْنَ يَدَي العُلَمَاءِ بِرَتْوَةٍ (1)) .
وَرَوَى: حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنِ الجُرَيْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ شَقِيْقٍ، عَنْ عَمْرِو بنِ العَاصِ، قَالَ:
قِيْلَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ! أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ: (عَائِشَةُ) .
قِيْلَ: مِنَ الرِّجَالِ؟
قَالَ: (أَبُو بَكْرٍ) .
قِيْلَ: ثُمَّ مَنْ؟
قَالَ: (ثُمَّ أَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ) .
كَذَا يَرْوِيْهِ حَمَّادٌ.
وَخَالَفَهُ جَمَاعَةٌ، فَرَوَوْهُ عَنِ الجُرَيْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ:
سَأَلْتُ عَائِشَةَ: أَيُّ أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ أَحَبَّ إِلَيْهِ؟
قَالَتْ: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ أَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ (2) .
__________
(1) أخرجه أحمد 1 / 18، وفيه " نبذة " بدل " رتوة "، ورجاله ثقات إلا أن شريح بن عبيد، وراشد ابن سعد، لم يدركا عمر.
وأخرجه ابن سعد 3 / 1 / 300، والحاكم 3 / 268 بنحوه مختصرا من طريق: كثير بن هشام، عن جعفر بن برقان، عن ثابت بن حجاج، قال: قال عمر بن الخطاب: لو أدركت أبا عبيدة بن الجراح لاستخلفته وما شاورت، فإن سئلت عنه قلت: استخلفت أمين الله وأمين رسوله.
والرتوة: بفتح الراء، وسكون التاء، وفتح الواو، رمية سهم، وقيل: مد البصر.
(2) أخرجه الترمذي (3657) في المناقب، وابن ماجه (102) في المقدمة: باب فضل عمر. ورجاله ثقات.
وأخرجه الحاكم 3 / 73، وأبو يعلي الموصلي في مسنده، كما في " الإصابة " 5 / 287، من طريق: كهمس، عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة ... وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
وأخرجه البخاري (3662) في فضائل الصحابة: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذا خليلا، و (4358) في المغازي: باب غزوة ذات السلاسل، من حديث عمرو بن العاص، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، بعثه على جيش ذات السلاسل، قال: فأتيته، فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة.
قلت: من الرجال؟ قال: أبوها.
قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر بن الخطاب، فعد رجالا.(1/10)
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيْلُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ المُعَدَّلُ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ الفَقِيْهُ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ البَاقِي، أَنْبَأَنَا أَبُو الفَضْلِ بنُ خَيْرُوْنَ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ غَالِبٍ، بِقِرَاءتِهِ (1) عَلَى أَبِي العَبَّاسِ بنِ حَمْدَانَ، حَدَّثَكُم مُحَمَّدُ بنُ أَيُّوْبَ، أَنْبَأَنَا أَبُو الوَلِيْدِ، أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، سَمِعْتُ صِلَةَ بنَ زُفَرَ (2) ، عَنْ حُذَيْفَةَ:
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (إِنِّي أَبْعَثُ إِلَيْكُم رَجُلاً أَمِيْناً) .
فَاسْتَشْرَفَ لَهَا أَصْحَابُ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بنَ الجَرَّاحِ (3) .
اتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنْ حَدِيْثِ شُعْبَةَ.
وَاتَّفَقَا مِنْ حَدِيْثِ خَالِدٍ الحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَنَسٍ:
أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِيْنٌ، وَأَمِيْنُ هَذِهِ الأُمَّةِ: أَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ (4)) .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ المُعَلِّمُ، أَنْبَأَنَا أَبُو القَاسِمِ بنُ رَوَاحَةَ، أَنْبَأَنَا أَبُو طَاهِرٍ الحَافِظُ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بنُ عَلِيٍّ الصُّوْفِيُّ، وَأَبُو غَالِبٍ البَاقِلاَنِيُّ، وَجَمَاعَةٌ، قَالُوا:
أَنْبَأَنَا أَبُو القَاسِمِ بنُ بِشْرَانَ، أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الفَاكِهِيُّ بِمَكَّةَ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى بنُ أَبِي مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ بنُ عِيْسَى الوَاسِطِيُّ، أَنْبَأَنَا يَحْيَى بنُ أَبِي زَكَرِيَّا، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ عُثْمَانَ بنِ خُثَيْمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كُنْتُ
__________
(1) في الأصل " قراءته ".
(2) في الأصل " رقة " وهو خطأ.
(3) أخرجه الطيالسي 2 / 159، وأحمد 5 / 398، 400 والبخاري (3745) في فضائل الصحابة: باب مناقب أبي عبيدة بن الجراح، و (4380) في المغازي: باب قصة أهل نجران و (4381) فيها و (7254) في الآحاد: باب ما جاء في إجازة خبر الواحد، ومسلم (2420) في الفضائل: باب فضل أبي عبيدة، والترمذي (3759) في المناقب، وابن ماجه (135) في المقدمة.
(4) تقدم تخريجه في الصفحة رقم (9) التعليق رقم (1) .(1/11)
فِي الجَيْشِ الَّذِيْنَ مَعَ خَالِدٍ، الَّذِيْنَ أَمَدَّ بِهِم أَبَا عُبَيْدَةَ وَهُوَ مُحَاصِرٌ دِمَشْقَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَيْهِم قَالَ لِخَالِدٍ: تَقَدَّمْ، فَصَلِّ، فَأَنْتَ أَحَقُّ بِالإِمَامَةِ؛ لأَنَّكَ جِئْتَ تَمُدُّنِي.
فَقَالَ خَالِدٌ: مَا كُنْتُ لأَتَقَدَّمَ رَجُلاً سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُوْلُ: (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِيْنٌ، وَأَمِيْنُ هَذِهِ الأُمَّةِ: أَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ (1)) .
أَبُو بَكْرٍ بنُ أَبِي شَيْبَةَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحِيْمِ بنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ زَكَرِيَّا بنِ (2) أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ صِلَةَ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ:
أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُسْقُفَا نَجْرَانَ: العَاقِبُ وَالسَّيِّدُ، فَقَالاَ: ابْعَثْ مَعَنَا أَمِيْناً حَقَّ أَمِيْنٍ.
فَقَالَ: (لأَبْعَثَنَّ مَعَكُم رَجُلاً أَمِيْناً حَقَّ أَمِيْنٍ) .
فَاسْتَشْرَفَ لَهَا النَّاسُ، فَقَالَ: (قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ) .
فَأَرْسَلَهُ مَعَهُم.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا وَكِيْعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، نَحْوَهُ (3) .
التَّرْقُفِيُّ (4) فِي (جُزْئِهِ) : حَدَّثَنَا أَبُو المُغِيْرَةِ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو حِسْبَةَ (5) مُسْلِمُ بنُ أَكْيَسَ مَوْلَى ابْنِ كُرَيْزٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: ذَكَرَ لِي مَنْ
__________
(1) إسناده ضعيف لضعف يحيي بن أبي زكريا، وأخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه 7 / 281
من طريق، سعيد بن سليمان، عن أبي أسامة، عن عمر بن حمزة، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر.
و14 / 165 من طريق شعبة، عن أيوب وخالد، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة، والبخاري في " التاريخ الصغير " 1 / 40 من طريق: مقدم بن محمد، عن القاسم بن يحيى، عن ابن خثيم ... به (2) في الأصل " عن " وهو تحريف.
(3) تقدم تخريجه في هذه الصفحة تعليق رقم (1) ورجاله ثقات.
(4) الترقفي: نسبة إلى ترقف من أعمال واسط.
واسمه عباس بن عبد الله الترقفي.
وثقه السراج والدارقطني.
وذكره ابن حبان في الثقات.
وهو من رجال التهذيب.
(5) حسبة: بالحاء المكسورة، والباء المفتوحة وقد تصحفت في المطبوع إلى " حسنه ".
وهو مسلم بن أكيس مولى عبد الله بن عامر بن كريز القرشي مترجم في الجرح والتعديل 8 / 180، والميزان للذهبي 4 / 101.(1/12)
دَخَلَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ يَبْكِي، فَقَالَ: مَا يُبْكِيْكَ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ؟
قَالَ: يُبْكِيْنِي أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَكَرَ يَوْماً مَا يَفْتَحُ اللهُ عَلَى المُسْلِمِيْنَ، حَتَّى ذَكَرَ الشَّامَ، فَقَالَ: (إِنْ نَسَأَ اللهُ فِي أَجَلِكَ، فَحَسْبُكَ مِنَ الخَدَمِ ثَلاَثَةٌ: خَادِمٌ يَخْدُمُكَ، وَخَادِمٌ يُسَافِرُ مَعَكَ، وَخَادِمٌ يَخْدمُ أَهْلَكَ، وَحَسْبُكَ مِنَ الدَّوَابِّ ثَلاَثَةٌ: دَابَّةٌ لِرَحْلِكَ، وَدَابَّةٌ لِثِقَلِكَ، وَدَابَّةٌ لِغُلاَمِكَ) .
ثُمَّ هَا أَنَا ذَا أَنْظُرُ إِلَى بَيْتِي قَدِ امْتَلأَ رَقِيْقاً، وَإِلَى مَرْبَطِي قَدِ امْتَلأَ خَيْلاً، فَكَيْفَ أَلْقَى رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَهَا؟ وَقَدْ أَوْصَانَا: (إِنَّ أَحَبَّكُم إِلَيَّ، وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي، مَنْ لَقِيَنِي عَلَى مِثْلِ الحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكُمْ عَلَيْهَا (1)) .
حَدِيْثٌ غَرِيْبٌ.
رَوَاهُ أَيْضاً: أَحْمَدُ فِي (مُسْنَدِهِ) ، عَنْ أَبِي المُغِيْرَةِ.
وَكِيْعُ بنُ الجَرَّاحِ: مُبَارَكُ بنُ فَضَالَةَ، عَنِ الحَسَنِ:
قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ لَوْ شِئْتُ لأَخَذْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ خُلُقِهِ، إِلاَّ أَبَا عُبَيْدَةَ) .
هَذَا مُرْسَلٌ (2) .
وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَوْصُوْفاً بِحُسْنِ الخُلُقِ، وَبِالحِلْمِ الزَائِدِ، وَالتَّوَاضُعِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ
__________
(1) إسناده ضعيف لجهالة أبي حسبة، كما أن روايته عن أبي عبيدة مرسلة.
والزيادة بين الحاصرتين ليست في الأصل، وإنما استدركت من المسند، وقد أخرجه أحمد 1 / 195 - 196، وذكره الهيثمي في " المجمع " 10 / 253 وقال: رواه أحمد وفيه راو لم يسم.
وبقية رجاله ثقات.
وقد تحرفت في " المجمع " أبو حسبة إلى " أبي حسنة " كما تحرفت في " تعجيل المنفعة " إلى " أبي حبيبة ".
وهو في تاريخ ابن عساكر 1 / 307 - 308.
(2) أخرجه الحاكم 3 / 266 وقال: مرسل غريب، ورواته ثقات.
وهو في " الاستيعاب " 2 / 293، وقال ابن عبد البر: هو من مراسيل الحسن.
وفي " الإصابة " 5 / 288 من طريق أخرى.
وقال الحافظ: مرسل، ورجاله ثقات.
وانظر تاريخ الفسوي 1 / 448.(1/13)
أَبِي نَجِيْحٍ: قَالَ عُمَرُ لِجُلَسَائِهِ: تَمَنُّوْا.
فَتَمَنَّوْا، فَقَالَ عُمَرُ: لَكِنِّي أَتَمَنَّى بَيْتاً مُمْتَلِئاً رِجَالاً مِثْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ بنِ الجَرَّاحِ (1) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: قَالَ ابْنُ (2) عُلَيَّةَ، عَنْ يُوْنُسَ، عَنِ الحَسَنِ:
قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَا مِنْ أَصْحَابِي أَحَدٌ إِلاَّ لَوْ شِئْتُ أَخَذْتُ عَليْهِ، إِلاَّ أَبَا عُبَيْدَةَ (3)) .
وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ:
قَالَ ابْنُ مَسْعُوْدٍ: أَخِلاَّئِي مِنْ أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَلاَثَةٌ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ (4) .
خَالَفَهُ غَيْرُهُ، فَفِي (الجَعْدِيَاتِ) : أَنْبَأَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي
__________
(1) رجاله ثقات، لكن فيه انقطاع بين ابن أبي نجيح وعمر.
والخبر في " الطبقات " 3 / 1 / 300
وأخرجه الحاكم 3 / 262 وفيه زيادة: " فقالوا له: ما آلوت الإسلام خيرا.
قال: ذلك أردت "، وفي " الحلية " 1 / 102.
وأخرجه البخاري مطولا في " تاريخه الصغير " 1 / 54 من طريق عبد الله بن يزيد المقري، عن حيوة، عن أبي صخر، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب، قال لأصحابه: تمنوا.
فقال أحدهم: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت دراهم فأنفقها في سبيل الله.
فقال: تمنوا، فقال آخر: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت ذهبا فأنفقه في سبيل الله.
قال: تمنوا.
قال آخر: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت جوهرا أو نحوه، فأنفقه في سبيل الله.
فقال عمر: تمنوا.
فقالوا: ما تمنينا بعد هذا.
قال عمر: لكني أتمنى أن يكون ملء هذا البيت رجالا مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، فأستعملهم في طاعة الله.
قال: ثم بعث بمال إلى حذيفة، قال: انظر ما يصنع، قال: فلما أتاه قسمه.
ثم بعث بمال إلى معاذ بن جبل فقسمه، ثم بعث بمال.
يعنى إلى أبي عبيدة - قال: انظر ما يصنع.
فقال عمر: قد قلت لكم.
أو كما قال.
ورجاله ثقات.
غير أبي صخر، وهو حميد بن زياد الخراط فإنه مقبول الحديث حيث يتابع.
(2) سقطت من الأصل واستدركت من " الاستيعاب " 5 / 293.
(3) هو مرسل.
وانظر التعليق المتقدم برقم (2) في الصفحة (13) .
(4) فيه انقطاع: أبو عبيدة لم يسمع من أبيه.(1/14)
الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ ... ، فَذَكَرَهُ (1) .
قَالَ خَلِيْفَةُ بنُ خَيَّاطٍ: وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَلَّى أَبَا عُبَيْدَةَ بَيْتَ المَالِ (2) .
قُلْتُ: يَعْنِي: أَمْوَالَ المُسْلِمِيْنَ، فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ عُمِلَ بَيْتُ مَالٍ، فَأَوَّلُ مِنِ اتَّخَذَهُ عُمَرُ.
قَالَ خَلِيْفَةُ: ثُمَّ وَجَّهَهُ أَبُو بَكْرٍ إِلَى الشَّامِ سَنَةَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ أَمِيْراً، وَفِيْهَا استُخْلِفَ عُمَرُ، فَعَزَلَ خَالِدَ بنَ الوَلِيْدِ، وَوَلَّى أَبَا عُبَيْدَةَ (3) .
قَالَ القَاسِمُ بنُ يَزِيْدَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ زِيَادِ بنِ فَيَّاضٍ، عَنْ تَمِيْمِ بنِ سَلَمَةَ:
أَنَّ عُمَرَ لَقِي أَبَا عُبَيْدَةَ، فَصَافَحَهُ، وَقَبَّلَ يَدَهُ، وَتَنَحَّيَا يَبْكِيَانِ (4) .
وَقَالَ ابْنُ المُبَارَكِ فِي (الجِهَادِ) لَهُ: عَنْ هِشَامِ بنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ:
بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ حُصِرَ بِالشَّامِ، وَنَالَ مِنْهُ العَدُوُّ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ مَا نَزَلَ بِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ شِدَّةٌ، إِلاَّ جَعَلَ اللهُ بَعْدَهَا فَرَجاً، وَإِنَّهُ لاَ يَغْلِبُ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} ، الآيَةَ [آلُ عِمْرَانَ: 200] .
قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ:
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللهَ يَقُوْلُ: {أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} ، إِلَى قَوْلِهِ: {مَتَاعُ الغُرُوْرِ} [الحَدِيْدُ: 20] .
قَالَ: فَخَرَجَ عُمَرُ
__________
(1) أخرجه الحاكم 3 / 262 من طريق: سفيان، عن أبي إسحاق عن عبيدة، قال: كان ...
(2) الخبر في " تاريخ خليفة " ص 123.
(3) هذا ليس نص خليفة.
وإنما نقله الذهبي بالمعنى.
وانظر " تاريخ خليفة " ص: 119.
(4) رجاله ثقات لكنه منقطع، وفي المطبوع زيادة كلمة " أبو " بين " قال " و" القاسم " وهو خطأ.(1/15)
بِكِتَابِهِ، فَقَرَأَهُ عَلَى المِنْبَرِ، فَقَالَ:
يَا أَهْلَ المَدِيْنَةِ! إِنَّمَا يُعَرِّضُ بِكُم أَبُو عُبَيْدَةَ أَوْ بِي، ارْغَبُوا فِي الجِهَادِ (1) .
ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ: عَنْ هِشَامِ بنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ:
بَلَغَنِي أَنَّ مُعَاذاً سَمِعَ رَجُلاً يَقُوْلُ: لَوْ كَانَ خَالدُ بنُ الوَلِيْدِ، مَا كَانَ بِالنَّاسِ دَوْكٍ (2) .
وَذَلِكَ فِي حَصْرِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَقَالَ مُعَاذٌ: فَإِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ تَضْطَرُّ المُعْجِزَةُ لاَ أَبَا لَكَ! وَاللهِ إِنَّهُ لَخَيْرُ مَنْ بَقِيَ عَلَى الأَرْضِ.
رَوَاهُ: البُخَارِيُّ فِي (تَارِيْخِهِ) ، وَابْنُ سَعْدٍ (3) .
وَفِي (الزُّهْدِ) لابْنِ المُبَارَكِ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ:
قَدِمَ عُمَرُ الشَّامَ، فَتَلَقَّاهُ الأُمَرَاءُ وَالعُظَمَاءُ.
فَقَالَ: أَيْنَ أَخِي أَبُو عُبَيْدَةَ؟
قَالُوا: يَأْتِيْكَ الآنَ.
قَالَ: فَجَاءَ عَلَى نَاقَةٍ مَخْطُوْمَةٍ بِحَبْلٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: انْصَرِفُوا عَنَّا.
فَسَارَ مَعَهُ حَتَّى أَتَى مَنْزِلَهُ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرَ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ سَيْفَهُ وَتُرْسَهُ وَرَحْلَهُ.
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَوِ اتَّخَذْتَ مَتَاعاً، أَوْ قَالَ: شَيْئاً.
فَقَالَ: يَا
__________
(1) إسناده قوي، ورجاله ثقات.
(2) الدوك: الاختلاط.
يقال: وقع الناس في دوكة أو دوكة، أي: وقعوا في اختلاط من أمرهم وخصومة وشر.
وفي الأصل الذي اعتمدناه " دركون " ولا معنى لها في كتب اللغة، ورواية البخاري في " التاريخ الصغير " 1 / 58 " ما كان الناس يدركون " ويغلب على الظن أن الصواب " يدوكون " يقال: بات الناس يدوكون إذا باتوا في اختلاط ودوران.
وتداوك القوم: إذا تضايقوا في حرب أو شر.
وفي ابن سعد 3 / 1 / 301 " ما كان بالبأس ذوكون " وهو تحريف.
ومع ذلك فقد أثبته محقق المطبوع متجاوزا الأصل.
وأما رواية ابن عساكر 1 / 307 فهي " ما كان بالناس ذوكون " وغالب الظن أن ذلك تحريف أيضا.
والله اعلم.
(3) البخاري في " التاريخ الصغير " 1 / 58، وابن سعد 3 / 1 / 301.(1/16)
أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ! إِنَّ هَذَا سَيُبَلِّغُنَا المَقِيْلَ (1) .
ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ:
أَنَّ عُمَرَ حِيْنَ قَدِمَ الشَّامَ، قَالَ لأَبِي عُبَيْدَةَ: اذْهَبْ بِنَا إِلَى مَنْزِلِكَ.
قَالَ: وَمَا تَصْنَعُ عِنْدِي؟ مَا تُرِيْدُ إِلاَّ أَنْ تُعَصِّرَ عَيْنَيْكَ عَلَيَّ.
قَالَ: فَدَخَلَ، فَلَمْ يَرَ شَيْئاً، قَالَ: أَيْنَ مَتَاعُكَ؟ لاَ أَرَى إِلاَّ لِبْداً وَصَحْفَةً (2) وَشَنّاً، وَأَنْتَ أَمِيْرٌ، أَعِنْدَكَ طَعَامٌ؟
فَقَامَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى جَوْنَةٍ، فَأَخَذَ مِنْهَا كُسَيْرَاتٍ، فَبَكَى عُمَرُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: قَدْ قُلْتُ لَكَ: إِنَّكَ سَتَعْصِرُ عَيْنَيْكَ عَلَيَّ يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، يَكْفِيْكَ مَا يُبَلِّغُكَ المَقِيْل.
قَالَ عُمَرُ: غَيَّرَتْنَا الدُّنْيَا كُلَّنَا، غَيْرَكَ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ (3) .
أَخْرَجَهُ: أَبُو دَاوُدَ فِي (سُنَنِهِ) ، مِنْ طَرِيْقِ ابْنِ الأَعْرَابِيِّ.
وَهَذَا -وَاللهِ- هُوَ الزُّهْدُ الخَالِصُ، لاَ زُهْدُ مَنْ كَانَ فَقِيْراً مُعْدِماً.
مَعْنُ بنُ عِيْسَى: عَنْ مَالِكٍ:
أَنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بِأَرْبَعَةِ آلاَفٍ، أَوْ بِأَرْبَعِ مَائَةِ دِيْنَارٍ، وَقَالَ لِلرَّسُوْلِ: انْظُرْ مَا يَصْنَعُ بِهَا.
قَالَ: فَقَسَّمَهَا أَبُو عُبَيْدَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى مُعَاذٍ بِمِثْلِهَا.
قَالَ: فَقَسَّمَهَا، إِلاَّ شَيْئاً قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ نَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا أَخْبَرَ الرَّسُوْلُ عُمَرَ، قَالَ: الحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الإِسْلاَمِ مَنْ يَصْنَعُ
__________
(1) رجاله ثقات، لكنه منقطع.
وأخرجه عبد الرزاق (20628) .
وأبو نعيم في " الحلية " 1 / 101 - 102.
وهو في " الإصابة " 5 / 288، وفي " الزهد " لأحمد بن حنبل ص: 184: باب أخبار أبي عبيدة بن الجراح.
(2) تحرفت في المطبوع إلى " صفحة ".
(3) إسناده ضعيف لضعف عبد الله بن عمر، وهو عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر ابن الخطاب: أبو عبد الرحمن العمري المدني.
قال الحافظ في " التقريب ": ضعيف عابد.
ورواية السنن من طريق ابن الأعرابي غير موجودة لدينا حتى نحيل إليها.(1/17)
هَذَا (1) .
الفَسَوِيُّ (2) : حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، عَنْ جَرِيْرِ بنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي الحَسَنِ عِمْرَانَ بنِ نِمْرَانَ:
أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ كَانَ يَسِيْرُ فِي العَسْكَرِ، فَيَقُوْلُ: أَلاَ رُبَّ مُبَيِّضٍ لِثِيَابِهِ، مُدَنِّسٍ لِدِيْنِهِ! أَلاَ رُبَّ مُكْرِمٍ لِنَفْسِهِ وَهُوَ لَهَا مُهِيْنٌ! بَادِرُوا السَّيِّئَاتِ القَدِيْمَاتِ بِالحَسَنَاتِ الحَدِيْثَاتِ (3) .
وَقَالَ ثَابِتٌ البُنَانِيُّ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنِّي امْرُؤٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَمَا مِنْكُم مِنْ أَحْمَرَ وَلاَ أَسْوَدَ يَفْضُلُنِي بِتَقْوَى، إِلاَّ وَدِدْتُ أَنِّي فِي مِسْلاَخِهِ (4) .
مَعْمَرٌ: عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ:
وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ كَبْشاً، فَيَذْبَحُنِي أَهْلِي، فَيَأْكُلُوْنَ لَحْمِي، ويَحْسُوْنَ مَرَقِي (5) .
وَقَالَ عِمْرَانُ بنُ حُصَيْنٍ: وَدِدْتُ أَنِّي رَمَادٌ تَسْفِيْنِي الرِّيْحُ (6) .
شُعْبَةُ: عَنْ قَيْسِ بنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقٍ:
أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ فِي الطَّاعُوْنِ: إِنَّهُ قَدْ عَرَضَتْ لِي حَاجَةٌ، وَلاَ غِنَى بِي عَنْكَ فِيْهَا، فَعَجِّلْ إِلَيَّ.
فَلَمَّا قَرَأَ الكِتَابَ، قَالَ: عَرَفْتُ حَاجَةَ أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ، إِنَّهُ يُرِيْدُ أَنْ يَسْتَبْقِيَ مَنْ لَيْسَ بِبَاقٍ.
فَكَتَبَ: إِنِّي قَدْ عَرَفْتُ حَاجَتَكَ، فَحَلِّلْنِي مِنْ عَزِيْمَتك، فَإِنِّي فِي جُنْدٍ
__________
(1) ابن سعد 3 / 1 / 301 (2) تصحفت في المطبوع إلى " النسوي ".
(3) انظر الفسوي 2 / 427 - 428 في " المعرفة والتاريخ "، و" الحلية " 1 / 102 و" الإصابة " 5 / 288 وقال الحافظ: سنده مرسل.
(4) ابن سعد 3 / 1 / 300، و" الحلية " 1 / 101 و" الإصابة " 5 / 288 - 289 وفيها " سلامة " بدل " مسلاخه " وهو تحريف.
(5) و (6) " طبقات ابن سعد " 3 / 1 / 300.(1/18)
مِنْ أَجْنَادِ المُسْلِمِيْنَ، لاَ أَرْغَبُ بِنَفْسِي عَنْهُم.
فَلَمَّا قَرَأَ عُمَرُ الكِتَابَ، بَكَى، فَقِيْلَ لَهُ: مَاتَ أَبُو عُبَيْدَةَ؟
قَالَ: لاَ، وَكَأَنْ قَدْ (1) .
قَالَ: فَتُوُفِّيَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَانْكَشَفَ الطَّاعُوْنُ.
قَالَ أَبُو المُوَجِّهِ مُحَمَّدُ بنُ عَمْرٍو المَرْوَزِيُّ: زَعَمُوا أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ كَانَ فِي سِتَّةٍ وَثَلاَثِيْنَ أَلْفاً مِنَ الجُنْدِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُم إِلاَّ سِتَّةُ آلاَفِ رَجُلٍ.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ السَّلاَمِ، عَنْ أَبِي رَوْحٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو سَعْدٍ، أَنْبَأَنَا ابْنُ (2) حَمْدَانَ، أَنْبَأَنَا أَبُو يَعْلَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ أَسْمَاءَ، حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بنُ مَيْمُوْنٍ، حَدَّثَنَا وَاصِلٌ مَوْلَى أَبِي (3) عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ (4) أَبِي سَيْفٍ المَخْزُوْمِيِّ، عَنِ الوَلِيْدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ -شَامِيٌّ، فَقِيْهٌ- عَنْ عِيَاضِ بنِ غُطَيْفٍ، قَالَ:
دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بنِ الجَرَّاحِ فِي مَرَضِهِ، وَامْرَأَتُهُ تُحَيْفَةُ جَالِسَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَهُوَ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى الجِدَارِ، فَقُلْتُ: كَيْفَ بَاتَ أَبُو عُبَيْدَةَ؟
قَالَتْ: بَاتَ بِأَجْرٍ.
فَقَالَ: إِنِّي -وَاللهِ- مَا بِتُّ بِأَجْرٍ!
فَكَأَنَّ القَوْمَ سَاءهُمْ، فَقَالَ: أَلاَ تَسْأَلُوْنِي عَمَّا قُلْتُ؟
قَالُوا: إِنَّا لَمْ يُعْجِبْنَا مَا قُلْتَ، فَكَيْفَ نَسْأَلُكَ؟
قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُوْلُ: (مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فَاضِلَةً فِي سَبِيْلِ اللهِ، فَبِسَبْعِ مَائَةٍ، وَمَنْ أَنْفَقَ عَلَى عِيَالِهِ، أَوْ عَادَ مَرِيْضاً، أَوْ مَاز أَذَىً، فَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَالصَّوْمُ
__________
(1) وأخرجه الحاكم 3 / 263 من طريق.
الحميدي، عن سفيان، عن أيوب بن عائذ الطائي، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، بأطول مما هنا.
وقال: رواته كلهم ثقات، وهو عجيب بمرة.
وقال الذهبي في " المختصر ": هو على شرط البخاري ومسلم.
(2) سقطت من المطبوع.
(3) تحرفت في المطبوع إلى " ابن ".
(4) سقطت من الأصل، ولم يفطن لها محقق المطبوع وهو بشار بن أبي سيف كما سيأتي قريبا.(1/19)
جُنَّةٌ مَا لَمْ يَخْرِقْهَا (1) ، وَمَنِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِبَلاَءٍ فِي جَسَدِهِ، فَهُوَ لَهُ حِطَّةٌ (2)) .
أَنْبَأَنَا جَمَاعَةٌ، قَالُوا:
أَنْبَأَنَا ابْنُ طَبَرْزَدَ، أَنْبَأَنَا ابْنُ الحُصَيْنِ، أَنْبَأَنَا ابْنُ غَيْلاَنَ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَبَانٍ الوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنِي جَرِيْرُ بنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنِي بَشَّارُ بنُ أَبِي سَيْفٍ، حَدَّثَنِي الوَلِيْدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عِيَاضِ بنِ غُطَيْفٍ، قَالَ:
مَرِضَ أَبُو عُبَيْدَةَ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ نَعُوْدُهُ، فَقَالَ:
سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُوْلُ: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ مَا لَمْ يَخْرِقْهَا (3)) .
وَقَدِ اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَبَا عُبَيْدَةَ غَيْرَ مَرَّةٍ، مِنْهَا المَرَّةُ الَّتِي جَاعَ فِيْهَا عَسْكَرُهُ، وَكَانُوا ثَلاَثَ مَائَةٍ، فَأَلْقَى لَهُمُ البَحْرُ الحُوْتَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: العَنْبَرُ.
فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: ميتَةٌ.
ثُمَّ قَالَ: لاَ، نَحْنُ رُسُلُ رَسُوْلِ اللهِ، وَفِي سَبِيْلِ اللهِ، فَكُلُوا ... ، وَذَكَرَ الحَدِيْثَ.
وَهُوَ فِي (الصَّحِيْحَيْنِ) (4) .
__________
(1) في الأصل: ما لم يجرحها وما أثبتناه من " المسند " و" المستدرك " و" المجمع ".
(2) بشار بن أبي سيف لم يوثقه غير ابن حبان.
وباقي رجاله ثقات.
وأخرجه أحمد 1 / 195 من طريق بشار بن أبي سيف عن عياض بن غطيف وقد سقط من الإسناد فيه " الوليد بن عبد الرحمن " راويه عن عياض.
ورواه أحمد مرة أخرى 1 / 196 على الصواب.
وأخرجه الحاكم 3 / 265 من طريق: بشار بن أبي سيف، عن الوليد بن عبد الرحمن، عن عياض بن غطيف به.
وسكت عنه هو والذهبي.
وأورده الهيثمي في " المجمع " 2 / 300 وقال: رواه أحمد، وأبو يعلى والبزار وفيه " بشار " (وقد تحرف فيه إلى " يسار ") بن أبي سيف، ولم أر من وثقه ولا جرحه، وبقية رجاله ثقات.
(3) أخرجه أحمد 1 / 196 من طريق: جرير، عن بشار بن أبي سيف، عن الوليد، عن عياض ابن غطيف به.
وانظر ما قبله.
(4) أخرجه مالك، في " الموطأ: في صفة النبي صلى الله عليه وسلم: باب جامع ما جاء في الطعام والشراب برقم (24) ، وأحمد 3 / 303، 306، 311، والبخاري (2483) في الشركة: باب الشركة في الطعام والنهد والعروض، بلفظ " بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعثا قبل الساحل، فأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، وهم ثلاث مئة وأنا فيهم.
فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد.
فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش، فجمع ذلك كله، فكان مزودي تمر، فكان يقوتنا كل يوم قليلا قليلا حتى فني، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة، فقلنا: وما يغني تمرة؟ فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت.
قال: ثم =(1/20)
وَلَمَّا تَفَرَّغَ الصِّدِّيْقُ مِنْ حَرْبِ أَهْل الرِّدَّةِ، وَحَرْبِ مُسَيْلِمَةَ الكَذَّابِ، جَهَّزَ أُمَرَاءَ (1) الأَجْنَادِ لِفَتْحِ الشَّامِ.
فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ، وَيَزِيْدَ بنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَعَمْرَو بنَ العَاصِ، وَشُرَحْبِيْلَ بنَ حَسَنَةَ، فَتَمَّتْ وَقْعَةُ أَجْنَادِيْنَ (2) بِقُرْبِ الرَّمْلَةِ، وَنَصَرَ اللهُ المُؤْمِنِيْنَ، فَجَاءتِ البُشْرَى، وَالصِّدِّيْقُ فِي مَرَضِ المَوْتِ، ثُمَّ كَانَتْ وَقْعَةُ فِحْلٍ (3) ، وَوَقْعَةُ مَرْجِ الصُفَّرِ (4) ، وَكَانَ قَدْ سَيَّرَ أَبُو بَكْرٍ خَالِداً لِغَزْوِ العِرَاقِ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِ لِيُنْجِدَ مَنْ بِالشَّامِ.
فَقَطَعَ المَفَاوِزَ عَلَى بَرِّيَّةِ السَّمَاوَةِ، فَأَمَّرُهُ الصِّدِّيْقُ عَلَى الأُمَرَاءِ كُلِّهِم، وَحَاصَرُوا دِمَشْقَ، وَتُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ.
فَبَادَرَ عُمَرُ بِعَزْلِ خَالِدٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الكُلِّ أَبَا عُبَيْدَةَ، فَجَاءهُ التَّقْلِيْدُ، فَكَتَمَهُ مُدَّةً، وَكُلُّ هَذَا مِنْ دِيْنِهِ وِلِيْنِهِ وَحِلْمِهِ، فَكَانَ فَتْحُ دِمَشْقَ (5) عَلَى يَدِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَظْهَرَ التَّقْلِيْدَ، لِيَعْقِدَ
__________
= انتهينا إلى البحر، فإذا حوت مثل الظرب، فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا، ثم أمر براحلة فرحلت ثم مرت تحتهما فلم تصبهما " وأخرجه البخاري (2983) في الجهاد: باب حمل الزاد على الرقاب مختصرا.
و (4360) و (4361) و (4362) في المغازي: باب غزوة سيف البحر.
وفي الأخيرة تسمية الحوت بالعنبر و (5493) و (5494) في الذبائح والصيد.
ومسلم (1935) في الصيد: باب، إباحة ميتات البحر.
والترمذي (2477) في القيامة: باب ما لاقاه صلى الله عليه وسلم في أول أمره، والنسائي 7 / 207 - 209 في الصيد: باب ميتة البحر، وابن ماجه (4159) في الزهد: باب معيشة أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم.
وانظر ابن هشام 2 / 632 - 633.
(1) تحرفت في المطبوع إلى " أمر "
(2) انظر الطبري 7 / 417 - 419، و" الكامل " في التاريخ 2 / 498 - 500، و" تاريخ دمشق " لابن عساكر 1 / 478.
(3) انظر الطبري 3 / 433 - 443، و" الكامل " في التاريخ 2 / 429 وابن عساكر 1 / 478، وفحل: بكسر الفاء وسكون الحاء، وانظر معجم البلدان.
(4) انظر الطبري 3 / 391 - 410، و" الكامل " في التاريخ 2 / 427، وابن عساكر 1 / 478.
ومرج الصفر: مرج جنوبي دمشق بين الكسوة وغباغب.
(5) انظر الطبري الجزء 3 / " فتح دمشق "، " الكامل " في التاريخ 2 / 477 وابن عساكر 1 / 493.(1/21)
الصُّلْحَ لِلرُّوْمِ، فَفَتَحُوا لَهُ بَابَ الجَابِيَةِ صُلْحاً، وَإِذَا بِخَالِدٍ قَدِ افْتَتَحَ البَلَدَ عَنْوَةً مِنَ البَابِ الشَّرْقِيِّ، فَأَمْضَى لَهُم أَبُو عُبَيْدَةَ الصُّلْحَ.
فَعَنِ المُغِيْرَةِ: أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ صَالَحَهُم عَلَى أَنْصَافِ كَنَائِسِهِم وَمَنَازِلَهِم، ثُمَّ كَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ رَأْسَ الإِسْلاَمِ يَوْمَ وَقْعَةِ اليَرْمُوْكِ؛ الَّتِي اسْتَأْصَلَ اللهُ فِيْهَا جُيُوْشَ الرُّوْمِ، وَقُتِلَ مِنْهُم خَلْقٌ عَظِيْمٌ.
رَوَى ابْنُ المُبَارَكِ فِي (الزُّهْدِ) لَهُ، قَالَ:
أَنْبَأَنَا عَبْدُ الحَمِيْدِ بنُ بَهْرَامَ، عَنْ شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ، قَالَ:
حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ غَنْمٍ، عَنْ حَدِيْثِ الحَارِثِ بنِ عُمَيْرَةَ، قَالَ:
أَخَذَ بِيَدِي مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ، فَسَأَلَهُ: كَيْفَ هُوَ! وَقَدْ طُعِنَّا؟
فَأَرَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ طَعْنَةً خَرَجَتْ فِي كَفِّهِ، فَتَكَاثَرَ شَأْنُهَا فِي نَفْسِ الحَارِثِ، وَفَرَقَ مِنْهَا حِيْنَ رَآهَا، فَأَقْسَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِاللهِ: مَا يُحِبُّ أَنَّ لَهُ مَكَانَهَا حُمْرَ النَّعَمِ (1) .
وَعَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ: أَنَّ وَجَعَ عَمَوَاسَ كَانَ مُعَافَىً مِنْهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَأَهْلُهُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ نَصِيْبَكَ فِي آلِ أَبِي عُبَيْدَةَ!
قَالَ: فَخَرَجْتُ بِأَبِي عُبَيْدَةَ، فِي خَنْصَرِهِ بَثْرَةٌ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، فَقِيْلَ لَهُ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِشَيْءٍ.
فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ يُبَارِكَ اللهُ فِيْهَا، فَإِنَّهُ إِذَا بَارَكَ فِي القَلِيْلِ، كَانَ كَثِيْراً (2) .
الوَلِيْدُ بنُ مُسْلِمٍ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ بنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ صَالِحِ بنِ أَبِي المُخَارِقِ، قَالَ:
انْطَلَقَ أَبُو عُبَيْدَةَ مِنَ الجَابِيَةِ إِلَى بَيْتَ المَقْدِسِ لِلصَّلاَةِ،
__________
(1) وأخرجه الطبراني في الكبير برقم (364) ، والحاكم 3 / 263 ورجاله ثقات، سوى شهر فإنه مختلف فيه.
وانظر الصفحة (458) .
(2) سنده منقطع.(1/22)
فَاسْتَخْلَفَ عَلَى النَّاسِ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ (1) .
قَالَ الوَلِيْدُ: فَحَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ عُرْوَةَ بنَ رُوَيْمٍ، قَالَ:
فَأَدْرَكَهُ أَجَلُهُ بِفِحْلٍ، فَتُوُفِّيَ بِهَا بِقُرْبِ بَيْسَانَ (2) .
طَاعُوْنُ عَمَوَاسَ: مَنْسُوْبٌ إِلَى قَرْيَةِ عَمَوَاسَ، وَهِيَ بَيْنَ الرَّمْلَةِ وَبَيْنَ بَيْتِ المَقْدِسِ.
وَأَمَّا الأَصْمَعِيُّ، فَقَالَ (3) : هُوَ مِنْ قَوْلِهِم زَمَنَ الطَّاعُوْنِ: عَمَّ، وَآسَى.
قَالَ أَبُو حَفْصٍ الفَلاَّسُ: تُوُفِّيَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي سَنَةِ ثَمَانِ عَشْرَةَ، وَلَهُ ثَمَانٌ وَخَمْسُوْنَ سَنَةً، وَكَانَ يَخْضِبُ بِالحِنَّاءِ وَالكَتَمِ (4) ، وَكَانَ لَهُ عَقِيْصَتَانِ.
وَقَالَ كَذَلِكَ فِي وَفَاتِهِ جَمَاعَةٌ.
وَانْفَرَدَ ابْنُ عَائِذٍ، عَنْ أَبِي مُسْهِرٍ، أَنَّهُ قَرَأَ فِي كِتَابِ يَزِيْدَ بنِ عُبَيْدَةَ: أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ تُوُفِّيَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ.
2 - طَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللهِ بنِ عُثْمَانَ بنِ عَمْرٍو التَّيْمِيُّ * (ع)
ابْنِ كَعْبِ بنِ سَعْدِ بنِ تَيْمِ بنِ مُرَّةَ بنِ كَعْبِ بنِ لُؤَيِّ بنِ غَالِبِ بنِ فِهْرِ بنِ مَالِكِ بنِ النَّضْرِ بنِ كِنَانَةَ القُرَشِيُّ، التَّيْمِيُّ، المَكِّيُّ، أَبُو مُحَمَّدٍ.
__________
(1) و (2) هما في " الإصابة " 5 / 289.
(3) في الأصل: " الاصغر " وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه، ولم يفطن له محقق المطبوع وانظر " معجم ما استعجم " ص: 971.
(4) الكتم: نبت فيه حمرة يخلط بالوسمة، ويختضب به للسواد.
(*) مسند أحمد: 1 / 160 - 164، الزهد لأحمد بن حنبل: 145، ابن هشام: 2 / 80، طبقات ابن سعد: 3 / 1 / 152 - 161، طبقات خليفة: 18، 189، تاريخ خليفة: 181، المحبر: 355، التاريخ الصغير: 1 / 75، المعارف: 228 - 234، ذيل المذيل: 11، الجرح والتعديل: 4 / 471، مشاهير علماء الأمصار: ت: 8، البدء والتاريخ: 5 / 82، المعجم الكبير للطبراني: 1 / 68 - 77، =(1/23)
أَحَدُ العَشَرَةِ المَشْهُوْدِ لَهُم بِالجَنَّةِ، لَهُ عِدَّةُ أَحَادِيْثَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وَلَهُ فِي (مُسْنَدِ بَقِيِّ بنِ مَخْلَدٍ) بِالمُكَرَّرِ: ثَمَانِيَةٌ وَثَلاَثُوْنَ حَدِيْثاً.
لَهُ حَدِيْثَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَانْفَرَدَ لَهُ البُخَارِيُّ بِحَدِيْثَيْنِ، وَمُسْلِمٌ بِثَلاَثَةِ أَحَادِيْثَ (1) .
حَدَّثَ عَنْهُ: بَنُوْهُ؛ يَحْيَى، وَمُوْسَى، وَعِيْسَى، وَالسَّائِبُ بنُ يَزِيْدَ، وَمَالِكُ بنُ أَوْسِ بنِ الحَدَثَانِ، وَأَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ، وَقَيْسُ بنُ أَبِي حَازِمٍ، وَمَالِكُ بنُ أَبِي عَامِرٍ الأَصْبَحِيُّ، وَالأَحْنَفُ بنُ قَيْسٍ التَّمِيْمِيُّ، وَأَبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَآخَرُوْنَ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ بنُ مَنْدَةَ: كَانَ رَجُلاً آَدَمَ، كَثِيْرَ الشَّعْرِ، لَيْسَ بِالجَعْدِ القَطَطِ، وَلاَ بِالسَّبْطِ، حَسَنَ الوَجْهِ، إِذَا مَشَى أَسْرَعَ، وَلاَ يُغَيِّرُ شَعْرَهُ (2) .
وَقَالَ إِبْرَاهِيْمُ بنُ المُنْذِرِ الحِزَامِيُّ: عَنْ عَبْدِ العَزِيْزِ بنِ عِمْرَانَ، حَدَّثَنِي
__________
= مستدرك الحاكم: 3 / 368 - 374، حلية الأولياء: 1 / 87، الاستيعاب: 5 / 235 - 249، الجمع بين رجال الصحيحين: 230، تاريخ ابن عساكر: 8 / 270، صفوة الصفوة: 1 / 130، جامع الأصول: 9 / 3 - 5، أسد الغابة: 3 / 85 - 89، اللباب: 2 / 88، تهذيب الأسماء واللغات: 1 / 251، الرياض النضرة: 2 / 249، تهذيب الكمال: 628، دول الإسلام: 1 / 30 - 31، تاريخ الإسلام: 2 / 163، العبر: 1 / 37، مجمع الزوائد: 9 / 147 - 150، العقد الثمين: 5 / 68 - 69، طبقات القراء: 1 / 342، تهذيب التهذيب: 5 / 20، الإصابة: 5 / 232 - 235، خلاصة تذهيب الكمال: 180، كنز العمال: 13 / 198 - 204، شذرات الذهب: 1 / 42 - 43، تهذيب تاريخ ابن عساكر: 7 / 74 - 90، رغبة الآمل: 3 / 16.
(1) ستأتي خلال الترجمة.
(2) هو في " الطبقات لابن سعد 3 / 1 / 156، وعند الطبراني في " الكبير " (191) .(1/24)
إِسْحَاقُ بنُ يَحْيَى، حَدَّثَنِي مُوْسَى بنُ طَلْحَةَ، قَالَ:
كَانَ أَبِي أَبْيَضَ يَضْربُ إِلَى الحُمْرَةِ، مَرْبُوْعاً، إِلَى القِصَرِ هُوَ أَقْرَبُ، رَحْبَ الصَّدْرِ، بَعِيْدَ مَا بَيْنَ المَنْكِبَيْنِ، ضَخْمَ القَدَمَيْنِ، إِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ جَمِيْعاً (1) .
قُلْتُ: كَانَ مِمَّنْ سَبَقَ إِلَى الإِسْلاَمِ (2) ، وَأُوْذِيَ فِي اللهِ، ثُمَّ هَاجَرَ، فَاتَّفَقَ أَنَّهُ غَابَ عَنْ وَقْعَة بَدْرٍ فِي تِجَارَةٍ لَهُ بِالشَّامِ (3) ، وَتَأَلَّمَ لِغَيْبَتِهِ، فَضَرَبَ لَهُ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِسَهْمِهِ، وَأَجره (4) .
قَالَ أَبُو القَاسِمِ بنُ عَسَاكِرَ الحَافِظُ فِي تَرْجَمَتِهِ: كَانَ مَعَ عُمَرَ لَمَّا قَدِمَ الجَابِيَةَ، وَجَعَلَهُ عَلَى المُهَاجِرِيْنَ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَتْ يَدُهُ شَلاَّءَ مِمَّا وَقَى بِهَا رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ أُحُدٍ.
الصَّلْتُ بنُ دِيْنَارٍ: عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ:
قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ
__________
(1) أخرجه الحاكم 3 / 370، والطبراني (191) ، وهو في " الإصابة " 5 / 232.
(2) انظر " تاريخ الطبري " 2 / 317.
(3) قال ابن سعد في " الطبقات " 3 / 1 / 154: لما تحين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصول عير قريش من الشام، بعث طلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، قبل خروجه من المدينة بعشر ليال، يتحسسان خبر العير، فخرجا حتى بلغا الحوراء.
فلم يزالا مقيمين هناك حتى مرت بهما العير، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، الخبر، قبل رجوع طلحة وسعيد إليه ... " والمؤلف سيذكر ذلك ص 136 فانظره وانظر الطبري 2 / 478، و" الاستيعاب " 5 / 237، وابن هشام 1 / 683، و" المستدرك " للحاكم 3 / 369.
(4) أخرجه الحاكم في " المستدرك " 3 / 368، والطبراني في " الكبير " (189) من طريق، ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، قال: طلحة بن عبيد الله بن عثمان، بن عمرو، بن كعب، بن سعد، بن تيم، بن مرة، كان بالشام فقدم، وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في سهمه فضرب له سهمه.
قال: وأجري يا رسول الله؟ قال: وأجرك.
وهو على إرساله ضعيف لضعف ابن لهيعة.
وأخرجه الحاكم أيضا من طريق موسى بن عقبة، عن ابن شهاب الزهري ... وانظر ما سبقه.(1/25)
أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَهِيْدٍ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْهِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى طَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِ اللهِ (1)) .
أَخْبَرَنِيْهُ الأَبَرْقُوْهِيُّ، أَنْبَأَنَا ابْنُ أَبِي الجُوْدِ، أَنْبَأَنَا ابْنُ الطلاَبَةِ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ العَزِيْزِ الأَنْمَاطِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو طَاهِرٍ المُخَلِّصُ، حَدَّثَنَا البَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بنُ رُشَيْدٍ (2) ، حَدَّثَنَا مَكِّيٌّ، حَدَّثَنَا الصَّلْتُ.
وَفِي (جَامِعِ أَبِي عِيْسَى) بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ:
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ: (أَوجب طَلْحَةُ (3)) .
قَالَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ: عَنْ قَيْسٍ، قَالَ:
رَأَيْتُ يَدَ طَلْحَةَ الَّتِي وَقَى بِهَا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ أُحُدٍ شَلاَّءَ.
أَخْرَجَهُ: البُخَارِيُّ (4) .
__________
(1) إسناده ضعيف جدا لان الصلت بن دينار متروك كما في " التقريب " وهو في " مسند الطيالسي " (1793) .
وأخرجه ابن ماجه (125) من طريق: وكيع، عن الصلت بن دينار، عن أبي نضرة، عن جابر ... وأخرجه الترمذي (3740) من طريق: صالح بن موسى الطلحي، عن الصلت بن دينار، عن أبي نضرة، عن جابر.
وصالح بن موسى متروك كالصلت.
وأخرجه الترمذي (3742) ، وأبو يعلى في " مسنده " ورقة 45 / 1، والضياء المقدسي في " المختارة 1 / 278 من طريق طلحة بن يحيى، عن موسى وعيسى ابني طلحة عن أبيهما طلحة: أن أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قالوا لاعرابي جاهل: سله عمن قضى نحبه من هو؟ وكانوا لا يجترئون على مسألته، يوقرونه ويهابونه.
فسأل الاعرابي، فأعرض عنه ثم سأله، فأعرض عنه.
ثم إني طلعت من باب المسجد، وعلي ثياب خضر، فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أين السائل عمن قضى نحبه؟ قال: أنا يا رسول الله، قال: هذا ممن قضى نحبه " وحسنه الترمذي.
وهو كما قال.
وله شاهد مرسل عند ابن سعد 3 / 1 / 156.
(2) في الأصل: رشد وهو خطأ.
(3) أخرجه الترمذي (3739) في المناقب: باب مناقب طلحة و (1692) في الجهاد، وأحمد 1 / 165، وابن سعد 3 / 1 / 155 والحاكم 3 / 374 وصححه ووافقه الذهبي. وسنده حسن.
وهو في " الإصابة " 5 / 233 و" الاستيعاب " 5 / 238، و" تاريخ الطبري " 2 / 522، وانظر " الكامل " في التاريخ لابن الأثير 2 / 158.
(4) أخرجه البخاري (3724) في فضائل الصحابة و (4063) في المغازي، باب: غزوة أحد.
وأحمد 1 / 161، وابن ماجه (128) في المقدمة، والطبراني في " الكبير " (192) ، وابن سعد 3 / 1 / 155، وهو في " الاستيعاب " 5 / 238.(1/26)
وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيْثِ يَحْيَى بنِ أَيُّوْبَ وَآخَرَ، عَنْ عمَارَةَ بن غَزِيَّةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ:
لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، وَوَلَّى النَّاسُ، كَانَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي نَاحِيَةٍ، فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً، مِنْهُم طَلْحَةُ، فَأَدْرَكَهُمُ المُشْرِكُوْنَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ لِلْقَوْمِ؟) .
قَالَ طَلْحَةُ: أَنَا.
قَالَ: (كَمَا أَنْتَ) .
فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا.
قَالَ: (أَنْتَ) .
فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ الْتَفَتَ، فَإِذَا (1) المُشْرِكُوْنَ.
فَقَالَ: (مَنْ لَهُمْ؟) .
قَالَ طَلْحَةُ: أَنَا.
قَالَ: (كَمَا أَنْتَ) .
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا.
قَالَ: (أَنْتَ) .
فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى بَقِيَ مَعَ نَبِيِّ اللهِ طَلْحَةُ.
فَقَالَ: (مَنْ لِلْقَوْمِ؟) .
قَالَ طَلْحَةُ: أَنَا.
فَقَاتَلَ طَلْحَةُ قِتَالَ الأَحَد عَشَر، حَتَّى قُطِعَتْ أَصَابِعُهُ.
فَقَالَ: حَسِّ.
فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَوْ قُلْتَ: بِاسْمِ اللهِ، لَرَفَعَتْكَ المَلاَئِكَةُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُوْنَ) .
ثُمَّ رَدَّ اللهُ المُشْرِكِيْنَ (2) .
رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ.
أَخْبَرَنَا أَبُو المَعَالِي بنُ أَبِي عَصْرُوْن الشَّافِعِيُّ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ المُعِزِّ بنُ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِهِ، أَنْبَأَنَا تَمِيْمُ بنُ أَبِي سَعِيْدٍ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ (3) بنُ عَلِيٍّ التَّمِيْمِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَبِي بَكْرٍ المُقَدَّمِيُّ، وَعَبْدُ الأَعْلَى، قَالَ:
حَدَّثَنَا المُعْتَمِرُ، سَمِعتُ أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ،
__________
(1) ما بين الحاصرتين من النسائي، وفي المطبوع " ثم آذى المشركون ".
(2) أخرجه النسائي 6 / 29 - 30 في الجهاد: باب ما يقول من يطعنه العدو. ورجاله ثقات.
إلا أن أبا الزبير مدلس وقد عنعن.
وأخرج الحاكم معناه في " المستدرك " 3 / 369 في خبر مطول من طريق آخر، والبيهقي في " شعب الايمان "، وانظر " سيرة ابن كثير " 3 / 51 والخبر عند ابن سعد 3 / 1 / 154، وفي " الإصابة " 5 / 234.
(3) تحرف في المطبوع إلى " محمد ".(1/27)
قَالَ: لَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي تِلْكَ الأَيَّامِ الَّتِي كَانَ يُقَاتِلُ بِهَا رَسُوْلُ اللهِ غَيْرُ طَلْحَةَ وَسَعْدٍ عَنْ حَدِيْثِهِمَا (1) .
أَخْرَجَهُ: الشَّيْخَانِ عَنِ المُقَدَّمِيِّ.
وَبِهِ إِلَى التَّمِيْمِيِّ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، عَنْ طَلْحَةَ بنِ يَحْيَى، عَنْ مُوْسَى وَعِيْسَى ابْنَيْ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيْهِمَا:
أَنَّ أَصْحَابَ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالُوا لأَعْرَابِيٍّ جَاءَ يَسْأَلُهُ عَمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ: مَنْ هُوَ؟
وَكَانُوا لاَ يَجْتَرِؤُوْنَ عَلَى مَسْأَلَتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُوَقِّرُوْنَهُ، وَيَهَابُوْنَهُ.
فَسَأَلَهُ الأَعْرَابِيُّ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ إِنِّي اطَّلَعْتُ مِنْ بَابِ المَسْجِدِ -وَعَلَيَّ ثِيَابٌ خُضْرٌ-.
فَلَمَّا رَآنِي رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (أَيْنَ السَّائِلُ عَمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ؟) .
قَالَ الأَعْرَابِيُّ: أَنَا.
قَالَ: (هَذَا مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ (2)) .
وَأَخْرَجَهُ: الطَّيَالِسِيُّ فِي (مُسْنَدِهِ) مِنْ حَدِيْثِ مُعَاوِيَةَ.
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُوْلُ: (طَلْحَةُ مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ) (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري (3723) في الفضائل، و (4060) و (4061) في المغازي، باب: غزوة أحد.
ومسلم (2414) في الفضائل.
وقوله " عن حديثهما " يريد أنهما حدثان.
وانظر " سيرة ابن كثير " 3 / 52.
(2) أخرجه الترمذي (3742) في المناقب وقال: حسن غريب.
والطبراني في " الكبير " (217) ، وابن سعد 3 / 1 / 156 وسنده حسن، وانظر الصفحة 26 التعليق (1) .
(3) الحديث لم يروه الطيالسي في " مسنده " من حديث معاوية كما قال " المصنف " وإنما هو عنده من حديث جابر 2 / 146.
وأخرجه من حديث معاوية، الترمذي (3740) في المناقب، وابن ماجه (126) و (127) في المقدمة، وسنده ضعيف لضعف إسحاق بن يحيى بن طلحة التيمي.(1/28)
وَفِي (صَحِيْحِ مُسْلِمٍ) مِنْ حَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ:
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ عَلَى حِرَاءَ هُوَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، فَتَحَرَّكَتِ الصَّخْرَةُ.
فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ: (اهْدَأْ! فَمَا عَلَيْكَ إِلاَّ نَبِيٌّ، أَوْ صِدِّيْقٌ، أَوْ شَهِيْدٌ) (1) .
سُوَيْدُ بنُ سَعِيْدٍ: حَدَّثَنَا صَالِحُ بنُ مُوْسَى، عَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ:
قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ، قَدْ قَضَى نَحْبَهُ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى طَلْحَةَ (2)) .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيْدٍ الأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ نَضْرُ بنُ مَنْصُوْرٍ، حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بنُ عَلْقَمَةَ اليَشْكُرِيُّ، سَمِعْتُ عَلِيّاً يَوْمَ الجَمَلِ يَقُوْلُ:
سَمِعْتُ مِنْ فِيِّ (3) رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُوْلُ: (طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ جَارَايَ فِي الجَنَّةِ (4)) .
وَهَكَذَا رَوَاهُ: ابْنُ زَيْدَانَ البَجَلِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ الجَارُوْدِيُّ، عَنِ الأَشَجِّ.
وَشَذَّ أَبُو يَعْلَى المَوْصِلِيُّ، فَقَالَ: عَنْ نَضْرٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عُقْبَةَ.
__________
(1) أخرجه مسلم (2417) في الفضائل، والترمذي (3698) في المناقب: باب مناقب عثمان.
(2) إسناده ضعيف لعضف صالح بن موسى.
قال ابن معين: ليس بشيء ولا يكتب حديثه.
وقال البخاري: منكر الحديث.
وضعفه النسائي، وأبو حاتم والجوزجاني، وابن عدي، وابن حبان، وقال النسائي في رواية: متروك.
وأخرجه ابن سعد 3 / 1 / 155.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 9 / 148 ونسبه إلى أبي يعلى، وإلى الطبراني في الأوسط، وقال: وفيه صالح بن موسى وهو متروك.
وهو في " المطالب العالية " (4014) ونسبه الحافظ إلى أبي يعلى.
(3) سقطت لفظة " في " من المطبوع.
(4) إسناده ضعيف لضعف أبي عبد الرحمن نضر بن منصور، وشيخه عقبة بن علقمة.
وأخرجه الترمذي (3741) في المناقب، باب: مناقب طلحة، وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
والحاكم 3 / 364 وصححه، وتعقبه الذهبي بقوله: لا.
وهو في " أسد الغابة " 3 / 87 وقد تصحف اسم النضر في الموضعين في المطبوع إلى " نصر ".(1/29)
دُحَيْمٌ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ طَلْحَةَ، عَنْ مُوْسَى بنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ سَلَمَةَ بنِ الأَكْوَعِ، قَالَ:
ابْتَاعَ طَلْحَةُ بِئْراً بِنَاحِيَةِ الجَبَلِ، وَنَحَرَ جزُوْراً، فَأَطْعَمَ النَّاسَ، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَنْتَ طَلْحَةُ الفَيَّاضُ (1)) .
سُلَيْمَانُ بنُ أَيُّوْبَ بنِ عِيْسَى بنِ مُوْسَى بنِ طَلْحَةَ: حَدَّثَنِي أَبِي (2) ، عَنْ جَدِّي، عَنْ مُوْسَى بنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ:
لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ سَمَّاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: طَلْحَةَ الخَيْرَ، وَفِي غَزْوَةِ ذِي العَشِيْرَةِ (3) : طَلْحَةَ الفَيَّاضَ، وَيَوْمَ خَيْبَرَ: طَلْحَةَ الجُوْدَ (4) .
إِسْنَادُهُ لَيِّنٌ.
قَالَ مُجَالِدٌ: عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ قَبِيْصَةَ بنِ جَابِرٍ، قَالَ:
صَحِبْتُ طَلْحَةَ، فَمَا رَأَيْتُ أَعْطَى لِجَزِيْلِ مَالٍ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ مِنْهُ (5) .
أَبُو إِسْمَاعِيْلَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بنُ أَيُّوْبَ بنِ سُلَيْمَانَ بنِ عِيْسَى بنِ مُوْسَى، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ مُوْسَى، عَنْ أَبِيْهِ:
أَنَّهُ أَتَاهُ مَالٌ مِنْ
__________
(1) إسناده ضعيف لضعف موسى بن محمد.
وقد ذكره الهيثمي في " المجمع " 9 / 148 وقال: رواه الطبراني وفيه موسى بن محمد بن إبراهيم وهو مجمع على ضعفه.
وهو في " الاستيعاب " 5 / 235، وفي الإصابة " 5 / 232 (2) " حدثني أبي " سقطت من المطبوع.
(3) في الأصل: غزوة العسرة وهو خطأ، وقد تحرفت في المطبوع إلى " العمرة " وما أثبتناه من الطبراني، وقد قال بعد رواية الحديث: بالسين والشين جميعا، فبالسين من العسرة، وبالشين موضع.
وقد غزا النبي، صلى الله عليه وسلم ذا العشيرة، وهي من ناحية ينبع، بين مكة والمدينة.
(4) أخرجه الطبراني في " الكبير " (197) و (218) ، والحاكم 3 / 374، وذكره الهيثمي في المجمع 9 / 147 ونسبه إلى الطبراني وقال: وفيه من لم أعرفهم.
وسليمان بن أيوب الطلحي وثق وضعف.
وعند الحاكم والطبراني " ويوم حنين " بدل " ويوم خيبر ".
(5) أخرجه ابن سعد 3 / 1 / 157، والطبراني في " الكبير " (194) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1 / 88.
وهو في " الإصابة " 5 / 235.(1/30)
حَضْرَمَوْتَ سَبْعُ مَائَةِ أَلْفٍ، فَبَاتَ لَيْلَتَهُ يَتَمَلْمَلُ.
فَقَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ: مَا لَكَ؟
قَالَ: تَفَكَّرْتُ مُنْذُ اللَّيْلَةِ، فَقُلْتُ: مَا ظَنُّ رَجُلٍ بِرَبِّهِ يَبِيْتُ وَهَذَا المَالُ فِي بَيْتِهِ؟
قَالَتْ: فَأَيْنَ أَنْتَ عَنْ بَعْضِ أَخِلاَّئِكَ؟ فَإِذَا أَصْبَحْتَ، فَادْعُ بِجِفَانٍ وَقِصَاعٍ، فَقَسِّمْهُ.
فَقَالَ لَهَا: رَحِمَكِ اللهُ، إِنَّكِ مُوَفَّقَةٌ بِنْتُ مُوَفَّقٍ، وَهِيَ أُمُّ كُلْثُوْم بِنْتُ الصِّدِّيْقِ.
فَلَمَّا أَصْبَحَ، دَعَا بِجِفَانٍ، فَقَسَّمَهَا بَيْنَ المُهَاجِرِيْنَ وَالأَنْصَارِ، فَبَعَثَ إِلَى عَلِيٍّ مِنْهَا بِجَفْنَةٍ.
فَقَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ: أَبَا مُحَمَّدٍ! أَمَا كَانَ لَنَا فِي هَذَا المَالِ مِنْ نَصِيْبٍ؟
قَالَ: فَأَيْنَ كُنْتِ مُنْذُ اليَوْم؟ فَشَأْنُكِ بِمَا بَقِيَ.
قَالَتْ: فَكَانَتْ صُرَّةً فِيْهَا نَحْوُ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
أَخْبَرَنَا المُسَلَّمُ بنُ عَلاَّنَ، وَجَمَاعَةٌ كِتَابَةً، قَالُوا:
أَنْبَأَنَا عُمَرُ بنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا هِبَةُ اللهِ بنُ الحُصَيْنِ، أَنْبَأَنَا ابْنُ غَيْلاَنَ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيْمُ الحَرْبِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ يَعْلَى، حَدَّثَنَا الحَسَنُ بنُ دِيْنَارٍ، عَنْ عَلِيِّ بنِ زَيْدٍ، قَالَ:
جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى طَلْحَةَ يَسْأَلُهُ، فَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِرَحِمٍ.
فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ لَرَحِمٌ مَا سَأَلَنِي بِهَا أَحَدٌ قَبْلَكَ، إِنَّ لِي أَرْضاً قَدْ أَعْطَانِي بِهَا عُثْمَانُ ثَلاَثَ مَائَةِ أَلْفٍ، فَاقْبَضْهَا، وَإِنْ شِئْتَ بِعْتُهَا مِنْ عُثْمَانَ، وَدَفَعْتُ إِلَيْكَ الثَّمَنَ.
فَقَالَ: الثَّمَن.
فَأَعْطَاهُ.
الكُدَيْمِيُّ (1) : حَدَّثَنَا الأَصْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ عِمْرَانَ قَاضِي المَدِيْنَةِ:
أَنَّ طَلْحَةَ فَدَى عَشْرَةً مِنْ أُسَارَى بَدْرٍ بِمَالِهِ، وَسُئِلَ مَرَّةً بِرَحِمٍ، فَقَالَ:
قَدْ بِعْتُ لِي حَائِطاً بِسَبْعِ مَائَةِ أَلْفٍ، وَأَنَا فِيْهِ بِالخِيَارِ، فَإِنْ شِئْتَ خُذْهُ، وَإِنْ شِئْتَ ثَمَنَهُ.
إِسْنَادُهُ مُنْقَطِعٌ، مَعَ ضَعْفِ الكُدَيْمِيِّ.
__________
(1) الكديمي: هو محمد بن يونس بن موسى الكديمي البصري، أحد المتروكين مترجم في " الميزان " 4 / 74، وقد تحرف في المطبوع إلى " الكريمي " بالراء.(1/31)
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: أَنْبَأَنَا سَعِيْدُ بنُ مَنْصُوْرٍ، حَدَّثَنَا صَالِحُ بنُ مُوْسَى، عَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَائِشَةَ، وَأُمِّ إِسْحَاقَ بِنْتَيْ طَلْحَةَ، قَالَتَا:
جُرِحَ أَبُوْنَا يَوْمَ أُحُدٍ أَرْبَعاً وَعِشْرِيْنَ جِرَاحَةً، وَقَعَ مِنْهَا فِي رَأْسِهِ شَجَّةٌ مُرَبَّعَةٌ، وَقُطِعَ نِسَاهُ -يَعْنِي العِرْقَ- وَشُلَّتْ أُصْبُعُهُ، وَكَانَ سَائِرُ الجِرَاحِ فِي جَسَدِهِ، وَغَلَبَهُ الغَشْيُ، وَرَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَكْسُوْرَة رَبَاعِيَتُهُ، مَشْجُوْجٌ فِي وَجْهِهِ، قَدْ عَلاَهُ الغَشْيُ، وَطَلْحَةُ مُحْتَمِلُهُ يَرْجعُ بِهِ القَهْقَرَى، كُلَّمَا أَدْرَكَهُ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِيْنَ، قَاتَلَ دُوْنَهُ، حَتَّى أَسْنَدَهُ إِلَى الشِّعْبِ (1) .
ابْنُ عُيَيْنَةَ: عَنْ طَلْحَةَ بنِ يَحْيَى، حَدَّثَتْنِي جَدَّتِي سُعْدَى بِنْتُ عَوْفٍ المُرِّيَّةُ، قَالَتْ:
دَخَلْتُ عَلَى طَلْحَةَ يَوْماً وَهُوَ خَاثِرٌ (2) .
فَقُلْتُ: مَا لَكَ، لَعَلَّ رَابَكَ مِنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ؟
قَالَ: لاَ وَاللهِ، وَنِعْمَ حَلِيْلَةُ المُسْلِمِ أَنْتِ، وَلَكِنْ مَالٌ عِنْدِي قَدْ غَمَّنِي.
فَقُلْتُ: مَا يَغُمُّكَ؟ عَلَيْكَ بِقَوْمِكَ.
قَالَ: يَا غُلاَمُ! ادْعُ لِي قَوْمِي، فَقَسَّمَهُ فِيْهِم.
فَسَأَلْتُ الخَازِنَ: كَمْ أَعْطَى؟
قَالَ: أَرْبَعَ مَائَةِ أَلْفٍ (3) .
هِشَامٌ، وَعَوْفٌ: عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ:
أَنَّ طَلْحَةَ بنَ عُبَيْدِ اللهِ بَاعَ أَرْضاً لَهُ بِسَبْعِ مَائَةِ أَلْفٍ، فَبَاتَ أَرِقاً مِنْ مَخَافَةِ ذَلِكَ المَالِ حَتَّى أَصْبَحَ، فَفَرَّقَهُ.
مُحَمَّدُ بنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا مُوْسَى بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِبْرَاهِيْمَ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ:
كَانَ طَلْحَةُ يُغِلُّ بِالعِرَاقِ أَرْبَعَ مَائَةِ أَلْفٍ، وَيُغِلُّ بِالسَّرَاةِ (4)
__________
(1) هو في " الطبقات " 3 / 1 / 155.
(2) يقال: هو خاثر النفس: أي: ثقيلها، غير نشيط.
(3) أخرجه الفسوي مطولا في " المعرفة والتاريخ " 1 / 458، والطبراني في " الكبير " (195) وأبو نعيم في " الحلية " 1 / 88، وهو عند ابن سعد 3 / 1 / 157.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 9 / 148 وقال: رواه الطبراني، ورجاله ثقات.
(4) يقال: سراة الطريق: متنه ومعظمه.
وقال الاصمعي: الطود: جبل مشرف على عرفة ينقاد =(1/32)
عَشْرَةُ آلاَفِ دِيْنَارٍ، أَوْ أَقَلَّ، أَوْ أَكْثَر، وَبِالأَعْرَاضِ (1) لَهُ غلاَّتٍ، وَكَانَ لاَ يَدَعُ أَحَداً مِنْ بَنِي تَيْمِ عَائِلاً إِلاَّ كَفَاهُ، وَقَضَى دَيْنَهُ، وَلَقَدْ كَانَ يُرْسِلُ إِلَى عَائِشَةَ إِذَا جَاءتْ غَلَّتُهُ كُلَّ سَنَةٍ بِعَشْرَةِ آلاَفٍ، وَلَقَدْ قَضَى عَنْ فُلاَن (2) التَّيْمِيِّ ثَلاَثِيْنَ أَلْفاً (3) .
قَالَ الزُّبَيْرُ بنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ طَلْحَةَ بنَ عُبَيْدِ اللهِ قَضَى عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ مَعْمَرٍ، وَعَبْدِ اللهِ بنِ عَامِرِ بنِ كُرَيْزٍ ثَمَانِيْنَ أَلْفَ دِرْهَمٍ.
قَالَ الحُمَيْدِيُّ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بنُ دِيْنَارٍ، أَخْبَرَنِي مَوْلَى لِطَلْحَةَ، قَالَ:
كَانَتْ غَلَّةُ طَلْحَةَ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ وَافٍ (4) .
قَالَ الوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بنُ يَحْيَى، عَنْ مُوْسَى بنِ طَلْحَةَ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ سَأَلَهُ: كَمْ تَرَكَ أَبُو مُحَمَّدٍ مِنَ العَينِ؟
قَالَ: تَرَكَ أَلْفَي أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَمَائَتَي أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَمِنَ الذَّهَبِ مَائَتَي أَلْفِ دِيْنَارٍ.
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: عَاشَ حَمِيْداً، سَخِيّاً،
__________
= إلى صنعاء يقال له: السراة: وإنما سمي بذلك لعلوه.
وقال قوم: الحجاز هو وجبال تحجز بين تهامة ونجد يقال لاعلاها السراة.
وقال الحازمي: السراة: الجبال والارض الحاجزة بين تهامة واليمن ولها سعة.
انظر " معجم البلدان " 3 / 204.
(1) أعراض المدينة: قراها التي في أوديتها.
وقال شمر: أعراض المدينة بطون سوادها حيث الزروع والنخل.
وقال غيره: كل واد فيه شجر فهو عرض بكسر أوله وسكون ثانيه، وآخره ضاد معجمة.
انظر " معجم البلدان " 4 / 102.
(2) عند ابن سعد " صبيحة التيمي ".
(3) أخرجه ابن سعد 3 / 1 / 157 - 158، ومحمد بن عمر هو الواقدي متروك.
(4) أخرجه ابن سعد 3 / 1 / 158، وأخرجه الطبراني في " الكبير " (196) وأبو نعيم في " الحلية " 1 / 88 مرسلا عن عمرو بن دينار.
وقد ذكره الهيثمي في " المجمع " 9 / 148 وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات إلا أنه مرسل.
والوافي: درهم وأربعة دوانق.(1/33)
شَرِيْفاً، وَقُتِلَ فَقِيْداً (1) ، رَحِمَهُ اللهُ (2) .
وَأَنْشَدَ الرِّيَاشِيُّ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ:
أَيَا سَائِلِي عَنْ خِيَار العِبَادِ ... صَادَفْتَ ذَا العِلْمِ وَالخِبْرَه
خِيَارُ العِبَادِ جَمِيْعاً قُرَيْشٌ ... وَخَيْرُ قُرَيْشٍ ذَوُو الهِجْرَه
وخَيْرُ ذَوِي الهِجْرَةِ السَّابِقُونَ ... ثَمَانِيَةٌ وَحْدَهُمْ نَصَرَه
عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ ثُمَّ الزُّبَيْرُ ... وَطَلْحَةُ وَاثنَانِ مِنْ زُهْرَهْ
وبَرَّانِ قَدْ جَاوَرَا أَحْمَداً ... وَجَاوَرَ قَبْرُهُهَمَا قَبْرَه
فَمَنْ كَانَ بَعْدَهُمْ فَاخِراً ... فَلاَ يَذكُرَنْ بَعْدَهُمْ فَخْرَه
يَحْيَى بنُ مَعِيْنٍ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بنُ يُوْسُفَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مُصْعَبٍ، أَخْبَرَنِي مُوْسَى بنُ عُقْبَةَ: سَمِعْتُ عَلْقَمَةَ بنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ، قَالَ:
لَمَّا خَرَجَ طَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَعَائِشَةُ لِلطَّلَبِ بِدَمِ عُثْمَانَ، عَرَّجُوا عَنْ مُنْصَرَفِهِمْ بِذَاتِ عِرْقٍ، فَاسْتَصْغَرُوا عُرْوَةَ بنَ الزُّبَيْرِ، وَأَبَا بَكْرٍ بنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَرَدُّوْهُمَا.
قَالَ: وَرَأَيْتُ طَلْحَةَ، وَأَحَبُّ المجَالِسِ إِلَيْهِ أَخْلاَهَا، وَهُوَ ضَارِبٌ بِلِحْيَتِهِ عَلَى زَوْرِهِ، فَقُلْتُ:
يَا أَبَا مُحَمَّدٍ! إِنِّي أَرَاكَ وَأَحَبُّ المجَالِسِ إِلَيْكَ أَخْلاَهَا، إِنْ كُنْتَ تَكْرَهُ هَذَا الأَمْرَ فَدَعْهُ.
فَقَالَ: يَا عَلْقَمَةَ! لاَ تَلُمْنِي، كُنَّا أَمْسِ يَداً وَاحِدَةً عَلَى مَنْ سِوَانَا، فَأَصْبَحْنَا اليَوْمَ جَبَلَيْنِ مِنْ حَدِيْدٍ، يَزْحَفُ أَحَدُنَا إِلَى صَاحِبِهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مِنِّي شَيْءٌ فِي أَمْرِ عُثْمَانَ مِمَّا لاَ أَرَى كَفَّارَتَهُ إِلاَّ سَفْكَ دَمِي، وَطَلَبَ دَمِهِ (3) .
__________
(1) كذا الأصل، فقيدا، وهو الصواب لكن محقق المطبوع حذفها، وأثبت " فقيرا " مع أن في الخبر نفسه ما يدل على أنه كان من الاغنياء جدا
(2) أخرجه ابن سعد مطولا 3 / 1 / 158 والواقدي متروك.
(3) أخرجه الحاكم 3 / 372، وفيه " في طلب دمه " بدل " وطلب دمه " وسكت الحاكم عنه.
ولكن الذهبي قال في مختصره: سنده جيد. وهو كما قال.
فإن عبد الله بن مصعب ترجمة بن أبي حاتم وقال: هو بابة عبد الرحمن بن أبي الزناد.
وباقي رجاله ثقات.
وقوله: " عرجوا عن منصرفهم، في " المستدرك ": " عرضوا من معهم ".(1/34)
قُلْتُ: الَّذِي كَانَ مِنْهُ فِي حَقِّ عُثْمَانَ تَمَغْفُلٌ وَتَأْليبٌ، فَعَلَهُ بِاجْتِهَادٍ، ثُمَّ تَغَيَّرَ عِنْدَمَا شَاهَدَ مَصْرَعَ عُثْمَانَ، فَنَدِمَ عَلَى تَرْكِ نُصْرَتِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وَكَانَ طَلْحَةُ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَ عَلِيّاً، أَرْهَقَهُ قَتَلَةُ عُثْمَانَ، وَأَحْضَرُوهُ حَتَّى بَايَعَ.
قَالَ البُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُوْسَى بنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ فِي حَدِيْثِ عَمْرِو بنِ جَاوَانَ، قَالَ:
التَقَى القَوْمُ يَوْمَ الجَمَلِ، فَقَامَ كَعْبُ بنُ سُورٍ مَعَهُ المُصْحَفُ، فَنَشَرَهُ بَيْنَ الفَرِيْقَيْنِ، وَنَاشَدَهُمُ اللهَ وَالإِسْلاَمَ فِي دِمَائِهِمْ، فَمَا زَالَ حَتَّى قُتِلَ.
وَكَانَ طَلْحَةُ مِنْ أَوَّلِ قَتِيْلٍ (1) .
وَذَهَبَ الزُّبَيْرُ لِيَلْحَقَ بِبَنِيْهِ، فَقُتِلَ (2) .
يَحْيَى القَطَّانُ: عَنْ عَوْفٍ، حَدَّثَنِي أَبُو رَجَاءَ، قَالَ:
رَأَيْتُ طَلْحَةَ عَلَى دَابَّتِهِ، وَهُوَ يَقُوْلُ: أَيُّهَا النَّاسُ أَنْصِتُوا، فَجَعَلُوا يَرْكَبُوْنَهُ وَلاَ يُنْصِتُونَ.
فَقَالَ: أُفٍّ! فَرَاشُ النَّارِ، وَذُبابُ طَمَعٍ (3) .
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ إِسْمَاعِيْلَ بنَ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ حَكِيْمِ بنِ جَابِرٍ قَالَ:
قَالَ طَلْحَةُ: إِنَّا دَاهَنَّا فِي أَمْرِ عُثْمَانَ، فَلاَ نَجِدُ اليَوْمَ أَمْثَلَ مِنْ أَنْ نَبْذُلَ دِمَاءنَا فِيْهِ، اللَّهُمَّ خُذْ لِعُثْمَانَ مِنِّي اليَوْمَ حَتَّى تَرْضَى (4) .
وَكِيْعٌ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيْلُ بنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ، قَالَ:
رَأَيْتُ مَرْوَانَ بنَ الحَكَمِ حِيْنَ رَمَى طَلْحَةَ يَوْمَئِذٍ بِسَهْمٍ، فَوَقَعَ فِي رُكْبَتِهِ، فَمَا زَالَ يَنْسَحُّ حَتَّى
__________
(1) كذا الأصل " من أول قتيل " وهو مستقيم، وهو كذلك في " التاريخ الصغير " وزيد في المطبوع لفظة " من " ولم ترد في الأصل، وغيرت لفظة " قتيل " إلى " قتل ".
(2) أورده البخاري في " التاريخ الصغير " 1 / 75 وفيه موسى بن أعين، وعمرو بن جاوان لم يوثقه غير ابن حبان.
(3) رجاله ثقات.
وقد تحرفت في المطوع " ذباب إلى " ذئاب ".
(4) أورده ابن سعد في " الطبقات " 3 / 1 / 158.
وفي سنده جهالة الواسطة بين ابن سعد، وإسماعيل بن أبي خالد.(1/35)
مَاتَ (1) .
رَوَاهُ: جَمَاعَةٌ عَنْهُ، وَلَفْظُ عَبْدِ الحَمِيْدِ بنِ صَالِحٍ عَنْهُ: هَذَا أَعَانَ عَلَى عُثْمَانَ، وَلاَ أَطْلُبُ بِثَأْرِي بَعْدَ اليَوْمِ (2) .
قُلْتُ: قَاتِلُ طَلْحَةَ فِي الوِزْرِ، بِمَنْزِلَةِ قَاتِلِ عَلِيٍّ.
قَالَ خَلِيْفَةُ بنُ خَيَّاطٍ: حَدَّثَنَا مَنْ سَمِعَ جُوَيْرِيَةَ بنَ أَسْمَاءَ، عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيْدٍ، عَنْ عَمِّهِ: أَنَّ مَرْوَانَ رَمَى طَلْحَةَ بِسَهْمٍ، فَقَتَلَهُ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَبَانَ، فَقَالَ:
قَدْ كَفَيْنَاكَ بَعْضَ قَتَلَةِ أَبِيْكَ (3) .
هُشَيمٌ: عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ:
رَأَى عَلِيٌّ طَلْحَةَ فِي وَادٍ مُلْقَى، فَنَزَلَ، فَمَسَحَ التُّرَابَ عَنْ وَجْهِهِ، وَقَالَ: عَزِيْزٌ عَلَيَّ أَبَا مُحَمَّدٍ بِأَنْ أَرَاكَ مُجَدَّلاً فِي الأَوْدِيَةِ تَحْتَ نُجُومِ السَّمَاءِ، إِلَى اللهِ أَشْكُو عُجَرِي وَبُجَرِي.
قَالَ الأَصْمَعِيُّ: مَعْنَاهُ: سَرَائِرِي وَأَحْزَانِي الَّتِي تَمُوجُ فِي جَوْفِي.
عَبْدُ اللهِ بنُ إِدْرِيْسَ: عَنْ لَيْثٍ، عَنْ طَلْحَةَ بنِ مُصَرِّفٍ:
أَنَّ عَلِيّاً انْتَهَى إِلَى طَلْحَةَ وَقَدْ مَاتَ، فَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ، وَأَجْلَسَهُ، وَمَسَحَ الغُبَارَ عَنْ وَجْهِهِ وَلِحْيَتِهِ،
__________
(1) إسناده صحيح.
أخرجه ابن سعد 3 / 1 / 159 مطولا، والحاكم 3 / 370.
والطبراني في " الكبير " برقم (201) وذكره الهيثمي في " المجمع " 9 / 150 وقال: ورجاله رجال الصحيح وفيه عندهما " يسيح " بدل " ينسح "، وأورده الحافظ في " الإصابة " 5 / 235 وقال: سنده صحيح.
(2) أخرجه خليفة بن خياط في تاريخه ص: 181 من طريق: معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن الجارود، عن أبي سيرة، قال: نظر مروان بن الحكم إلى طلحة بن عبيد الله يوم الجمل، فقال: لا أطلب بثأري بعد اليوم، فرماه بسهم فقتله " وإسناده صحيح كما قال الحافظ في " الإصابة " 5 / 235.
ووقعة الجمل كانت سنة (36) بالبصرة، والخبر في " الاستيعاب " 5 / 243.
(3) أخرجه خليفة بن خياط ص: 181، والحاكم 3 / 371 من طريق: الحسين بن يحيى المروزي، عن غالب بن حليس الكلبي أبي الهيثم، عن جويرية بن أسماء، عن يحيى بن سعيد، حدثنا عمي ... وانظر " لاستيعاب " 5 / 244.(1/36)
وَهُوَ يَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: لَيْتَنِي مُتُّ قَبْلَ هَذَا اليَوْمِ بِعِشْرِيْنَ سَنَةٍ (1) .
مُرْسَلٌ.
وَرَوَى: زَيْدُ بنُ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ مِنَ الأَنْصَارِ، عَنْ أَبِيْهِ: أَنَّ عَلِيّاً قَالَ: بَشِّرُوا قَاتِلَ طَلْحَةَ بِالنَّارِ.
أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي عَصْرُوْنَ، عَنْ أَبِي رَوْحٍ، أَنْبَأَنَا تَمِيْمٌ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ، أَنْبَأَنَا ابْنُ حَمْدَانَ، أَنْبَأَنَا أَبُو يَعْلَى، حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا الخَضِرُ بنُ مُحَمَّدٍ الحرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ إِبْرَاهِيْمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ مَالِكِ بنِ أَبِي عَامِرٍ قَالَ:
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى طَلْحَةَ، فَقَالَ:
أَرَأَيْتُكَ هَذَا اليَمَانِيَّ، هُوَ (2) أَعْلَمُ بِحَدِيْثِ رَسُوْلِ اللهِ مِنْكُم -يَعْنِي: أَبَا هُرَيْرَةَ- نَسْمَعُ مِنْهُ أَشْيَاءَ لاَ نَسْمَعُهَا مِنْكُم؟
قَالَ: أَمَّا أَنْ قَدْ سَمِعَ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا لَمْ نَسْمَعْ فَلاَ أَشُكُّ، وَسَأُخْبِرُكَ: إِنَّا كُنَّا أَهْلَ بُيُوْتٍ، وَكُنَّا إِنَّمَا نَأْتِي رَسُوْلَ اللهِ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً، وَكَانَ مِسْكِيْناً لاَ مَالَ لَهُ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى بَابِ رَسُوْلِ اللهِ، فَلاَ أَشُكُّ أَنَّهُ قَدْ سَمِعَ مَا لَمْ نَسْمَعْ، وَهَلْ تَجِدُ أَحَداً فِيْهِ خَيْرٌ يَقُوْلُ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا لَمْ يَقُلْ (3) ؟
وَرَوَى مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ يَقُوْلُ لِطَلْحَةَ: مَا لِي
__________
(1) هو على إرساله ضعيف لضعف ليث، ومع ذلك فقد حسن الهيثمي إسناده في " المجمع " 9 / 150.
وهو في " المستدرك " 3 / 372، والطبراني (202) .
وأخرجه الطبراني (203) عن قيس بن عبادة قال: سمعت عليا، رضي الله عنه، يوم الجمل يقول لابنه الحسن: يا حسن! وددت أني كنت مت مذ عشرين سنة. ورجاله ثقات.
وقال الهيثمي في " المجمع " 9 / 150: وإسناده جيد.
(2) سقطت من المطبوع.
(3) رجاله ثقات، وأخرجه الترمذي (3837) من طريق: ابن إسحاق، به ... وحسنه هو والحافظ في " الفتح ".
وأخرجه ابن كثير في " البداية " 8 / 109 من طريق: علي بن المديني، عن وهب بن جرير، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق ... وسيأتي الخبر في ترجمة " أبي هريرة " في المجلد الثاني ص: 436.(1/37)
أَرَاكَ شَعِثْتَ وَاغْبرَرْتَ مُذْ تُوُفِّيَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ لَعَلَّهُ أَنَّ مَا بِكَ إِمَارَةُ ابْنِ عَمِّكَ -يَعْنِي: أَبَا بَكْرٍ-.
قَالَ: مَعَاذَ اللهِ، إِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: (إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لاَ يَقُوْلُهَا رَجُلٌ يَحْضُرُهُ المَوْتُ إِلاَّ وَجَدَ رُوْحَهُ لَهَا رَوحاً حِيْنَ تَخْرُجُ مِنْ جَسَدِهِ، وَكَانَتْ لَهُ نُوْراً يَوْمَ القِيَامَةِ) .
فَلَمْ أَسَأَلْ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْهَا، وَلَمْ يُخْبِرْنِي بِهَا، فَذَاكَ الَّذِي دَخَلَنِي.
قَالَ عُمَرُ: فَأَنَا أَعْلَمُهَا.
قَالَ: فَلِلَّهِ الحَمْدُ، فَمَا هِيَ؟
قَالَ: الكَلِمَةُ الَّتِي قَالَهَا لِعَمِّهِ.
قَالَ: صَدَقْتَ (1) .
أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَغَيْرُهُ: حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ الأَشْجَعِيُّ، عَنْ أَبِي حَبِيْبَةَ (2) مَوْلَىً لِطَلْحَةَ، قَالَ:
دَخَلْتُ عَلَى عَلِيٍّ مَعَ عِمْرَان بنِ طَلْحَةَ بَعْدَ وَقْعَةِ الجَمَلِ، فَرَحَّبَ بِهِ وَأَدْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ:
إِنِّي لأَرْجُوَ أَنْ يَجْعَلَنِي اللهُ
__________
(1) مجالد فيه ضعف.
لكن الحديث صحيح.
فقد أخرجه ابن حبان رقم (2) من طريق: مسعر، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن يحيى بن طلحة، عن أمه سعدى المرية قالت: مر عمر بن الخطاب بطلحة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مكتئب، فقال: أساءتك إمرة ابن عمك؟ قال: لا.
ولكني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: " إني لاعلم كلمة لا يقولها عبد عند موته إلا كانت له نورا لصحيفته، وإن جسده وروحه ليجدان لها روحا عند الموت " فقبض ولم أسأله.
فقال: " ما أعلمها إلا الكملة التي أراد عليها عمه.
ولو علم أن شيئا أنجى له منها لامره به ". ورجاله ثقات.
وأخرجه أحمد 1 / 161 من طريق أسباط، عن مطرف، عن عامر، عن يحيى بن طلحة، عن أبيه طلحة قال: رأى عمر طلحة بن عبيد الله ثقيلا فقال: مالك يا أبا فلان، لعلك ساءتك إمرة ابن عمك يا أبا فلان؟ قال: لا.
إلا أني سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديثا ما منعني أن أسأله عنه إلا القدرة عليه حتى مات.
سمعته يقول: " إني لاعلم كلمة لا يقولها عبد عند موته إلا أشرق لها لونه، ونفس الله عنه كربته " قال: فقال عمر رضي الله عنه: إني لاعلم ما هي. قال: وما هي؟ قال: تعلم كلمة
أعظم من كلمة أمر بها عمه عند الموت؟ لا إله إلا الله.
قال طلحة: صدقت هي والله هي وإسناده صحيح.
وصححه الحاكم 1 / 350 - 351 وواقعه الذهبي.
(2) تصحفت في المطبوع إلى " حبيشة ".(1/38)
وَأَبَاكَ (1) مِمَّنْ قَالَ فِيْهِمْ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُوْرِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِيْنَ} [الْحجر: 15] .
فَقَالَ رَجُلاَنِ جَالِسَانِ، أَحَدُهُمَا الحَارِثُ الأَعْوَرُ: اللهُ أَعْدَلُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقْبَلَهُمْ (2) وَيَكُونُوا إِخْوَاناً فِي الجَنَّةِ.
قَالَ: قُوْمَا أَبْعَدَ أَرْضٍ وَأَسْحَقَهَا، فَمَنْ هُوَ إِذَا لَمْ (3) أَكُنْ أَنَا وَطَلْحَةَ! يَا ابْنَ أَخِي: إِذَا كَانَتْ لَكَ حَاجَةً، فَائْتِنَا (4) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:
قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَقَدْ رَأَيْتَنِي يَوْمَ أُحُدٍ وَمَا قُرْبِي أَحَدٌ غَيْرَ جِبْرِيْلَ عَنْ يَمِيْنِي، وَطَلْحَةَ عَنْ يَسَارِي (5)) .
فَقِيْلَ فِي ذَلِكَ:
وَطَلْحَةُ يَوْمَ الشِّعْبِ آسَى مُحَمَّداً ... لَدَى سَاعَةٍ ضَاقَتْ عَلَيْهِ وَسُدَّتِ
وَقَاهُ بِكَفَّيْهِ الرِّمَاحَ فَقُطِّعَتْ ... أَصَابِعُهُ تَحْتَ الرِّمَاحِ فَشُلَّتِ
وَكَانَ إِمَامَ النَّاسِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ ... أَقَرَّ رَحَا الإِسْلاَمِ حَتَّى اسْتَقَرَّتِ
وَعَنْ طَلْحَةَ قَالَ: عُقِرْتُ يَوْمَ أُحُدٍ فِي جَمِيْعِ جَسَدِي، حَتَّى فِي ذَكَرِي.
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ (6) : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ، حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بنُ يَحْيَى، عَنْ جَدَّتِهِ سُعْدَى بِنْتِ عَوْفٍ، قَالَتْ: قُتِلَ طَلْحَةُ وَفِي يَدِ خَازِنِهِ أَلْفُ أَلْفِ دِرْهَمٍ (7) ، وَمَائَتَا
__________
(1) تحرفت في المطبوع إلى " وإياك ".
(2) في الطبري، و" طبقات ابن سعد " تقتلهم بالامس وتكونون إخوانا ".
(3) تحرفت عند محقق المطبوع إلى " فمن هو إذا إن أكن أنا وطلحة ".
(4) أخرجه ابن سعد 3 / 1 / 160، والطبري في " تفسيره " 14 / 36 وانظر " تفسير ابن كثير " 4 / 164.
(5) سيأتي الحديث في الصفحة (244) تعليق رقم (3) وهو ضعيف جدا وانظر الابيات في " كنز العمال " 13 / 203.
(6) في " الطبقات " 3 / 1 / 158.
(7) الذي في الطبقات " ألفا ألف درهم ".(1/39)
أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقُوِّمَتْ أُصُوْلُهُ وَعَقَارُهُ ثَلاَثِيْنَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ (1) .
أَعْجَبُ مَا مَرَّ بِي قَوْلُ ابْنِ الجَوْزِيِّ فِي كَلاَمٍ لَهُ عَلَى حَدِيْثٍ قَالَ: وَقَدْ خَلَّفَ طَلْحَةُ ثَلاَثَ مَائَةِ حِمْلٍ مِنَ الذَّهَبِ.
وَرَوَى: سَعِيْدُ بنُ عَامِرٍ الضُّبَعِيُّ، عَنِ المُثَنَّى بنِ سَعِيْدٍ قَالَ:
أَتَى رَجُلٌ عَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ فَقَالَ: رَأَيْت طَلْحَةَ فِي المَنَامِ، فَقَالَ:
قُلْ لِعَائِشَةَ تُحَوِّلَنِي مِنْ هَذَا المَكَانِ، فَإِنَّ النَّزَّ قَدْ آذَانِي.
فَرَكِبَتْ فِي حَشَمِهَا، فَضَرَبُوا عَلَيْهِ بِنَاءً وَاسْتَثَارُوْهُ.
قَالَ: فَلَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُ إِلاَّ شُعَيْرَاتٌ فِي إِحْدَى شِقَّيْ لِحْيَتِهِ -أَوْ قَالَ: رَأْسِهِ- وَكَانَ بَيْنَهُمَا بِضْعٌ وَثَلاَثُوْنَ سَنَة.
وحكَى المَسْعُوْدِيُّ: أَنَّ عَائِشَةَ بِنْتَهُ هِيَ الَّتِي رَأَتِ المَنَامَ.
وَكَانَ قَتْلُهُ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلاَثِيْنَ، فِي جُمَادَى الآخِرَةِ.
وَقِيْلَ: فِي رَجَبٍ، وَهُوَ ابْنُ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةٍ، أَوْ نَحْوِهَا، وَقَبْرُهُ بِظَاهِرِ البَصْرَةِ (2) .
قَالَ يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ، وَخَلِيْفَةُ بنُ خَيَّاطٍ، وَأَبُو نَصْرٍ الكَلاَبَاذِيُّ: إِنَّ الَّذِي قَتَلَ طَلْحَةَ مَرْوَانُ بنُ الحَكَمِ.
وَلِطَلْحَةَ أَوْلاَدٌ نُجَبَاءُ، أَفْضَلُهُمْ: مُحَمَّدٌ السَّجَّادُ.
كَانَ شَابّاً، خَيِّراً، عَابِداً، قَانِتاً لِلِّهِ.
وُلِدَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُتِلَ يَوْمَ الجَمَلِ أَيْضاً، فَحَزِنَ عَلَيْهِ عَلِيٌّ وَقَالَ: صَرَعَهُ بِرُّهُ بِأَبِيْهِ.
__________
(1) سقط من المطبوع لفظ " ألف " الثانية.
(2) روى الطبراني في " الكبير " (199) أن طلحة قتل وسنه أربع وستون ودفن بالبصرة في ناحية ثقيف.
ولكن في سنده الواقدي، وهو متروك وانظر " المجمع " 9 / 120.(1/40)
3 - الزُّبَيْرُ بنُ العَوَّامِ بنِ خُوَيْلِدِ بنِ أَسَدِ بنِ عَبْدِ العُزَّى * (ع)
ابْنِ قُصَيِّ بنِ كِلاَبِ بنِ مُرَّةَ بنِ كَعْبِ بنِ لُؤَيِّ بنِ غَالِبٍ.
حَوَارِيُّ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَابْنُ عَمَّتِهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَأَحَدُ العَشرَةِ المَشْهُوْدِ لَهُم بِالجَنَّةِ، وَأَحَدُ (1) السِّتَّةِ أَهْلِ الشُّوْرَى، وَأَوَّلُ مَنْ سَلَّ سَيْفَهُ فِي سَبِيْلِ اللهِ، أَبُو عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَسْلَمَ وَهُوَ حَدَثٌ، لَهُ سِتَّ (2) عَشْرَةَ سَنَةً.
وَرَوَى: اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ:
أَسْلَمَ الزُّبَيْرُ ابْنُ ثَمَانِ سِنِيْنَ، وَنَفَحَتْ نَفْحَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ أُخِذَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، فَخَرَجَ الزُّبَيْرُ وَهُوَ غُلاَمٌ ابْنُ اثْنَتَي عَشْرَةَ سَنَةً بِيَدِهِ السَّيْفُ، فَمَنْ رَآهُ عَجِبَ، وَقَالَ:
__________
(*) مسند أحمد: 1 / 164 - 167، الزهد لأحمد: 144، طبقات ابن سعد: 3 / 1 / 70 - 80، نسب قريش: 20، 22، 103، 106، طبقات خليفة: 13، 189، 291، تاريخ خليفة: 68، التاريخ الكبير: 3 / 409، التاريخ الصغير: 1 / 75، المعارف: 219 - 227، ذيل المذيل: 11، الجرح والتعديل: 3 / 578، مشاهير علماء الأمصار: ت: 9، معجم الطبراني الكبير: 1 / 77 - 86، مستدرك الحاكم: 3 / 359 - 368، حلية الأولياء: 1 / 89، الاستيعاب: 4 / 308 - 320، الجمع بين رجال الصحيحين: 150، صفوة الصفوة: 1 / 132، جامع الأصول: 9 / 5 - 10، ابن عساكر: 6 / 172 / 1، أسد الغابة: 2 / 249 - 252، تهذيب الأسماء واللغات: 1 / 194 - 196، الرياض النضرة: 262، تهذيب الكمال: 429، دول الإسلام، 1 / 30 العبر: 1 / 37، مجمع الزوائد: 9 / 150 - 153، العقد الثمين: 4 / 429، تهذيب التهذيب، 3 / 318، الإصابة: 5 / 7 - 9، خلاصة تذهيب الكمال: 121، تاريخ الخميس: 1 / 172، كنز العمال: 13 / 204 - 212، شذرات الذهب: 1 / 42 - 44، خزانة الأدب للبغدادي: 2 / 468 و4 / 350، تهذيب تاريخ ابن عساكر: 5 / 358 - 371، تاريخ الإسلام 2 / 153 - 158.
(1) تحرفت في المطبوع إلى " أهل ".
(2) في الأصل " ستة ".(1/41)
الغُلاَمُ مَعَهُ السَّيْفُ، حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: (مَا لَكَ يَا زُبَيْرُ؟) .
فَأَخْبَرَهُ، وَقَالَ: أَتَيْتُ أَضْرِبُ بِسَيْفِي مَنْ أَخَذَكَ (1) .
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الزُّبَيْرَ كَانَ رَجُلاً طَوِيْلاً (2) ، إِذَا رَكِبَ خَطَّتْ رِجْلاهُ الأَرْضَ، وَكَانَ خَفِيْفَ اللِّحْيَةِ وَالعَارِضَيْنِ.
رَوَى أَحَادِيْثَ يَسِيْرَةً.
حَدَّثَ عَنْهُ بَنُوْهُ: عَبْدُ اللهِ، وَمُصْعَبٌ، وَعُرْوَةُ، وَجَعْفَرٌ، وَمَالِكُ بنُ أَوْسِ بنِ الحَدَثَانِ، وَالأَحْنَفُ بنُ قَيْسٍ، وَعَبْدُ اللهِ بنُ عَامِرِ بنِ كُرَيْزٍ، وَمُسْلِمُ بنُ جُنْدَبٍ، وَأَبُو حَكِيْمٍ مَوْلاَهُ، وَآخَرُوْنَ.
اتَّفَقَا لَهُ عَلَى حَدِيْثَيْنِ، وَانْفَرَدَ لَهُ البُخَارِيُّ بِأَرْبَعَةِ أَحَادِيْثَ، وَمُسْلِمٌ بِحَدِيْثٍ (3) .
أَخْبَرَنَا المُسْلِمُ بنُ مُحَمَّدٍ، وَجَمَاعَةٌ إِذْناً، قَالُوا:
أَنْبَأَنَا حَنْبَلٌ، أَنْبَأَنَا ابْنُ الحُصَيْنِ، حَدَّثَنَا ابْنُ المُذْهِبِ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ القَطِيْعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي (ح) .
وَأَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ السَّلاَمِ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ المُعِزِّ بنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا تَمِيْمٌ، أَنْبَأَنَا أَبُو سَعْدٍ الطَّبِيْبُ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَمْرٍو الحِيْرِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو
__________
(1) هو في " المستدرك " 3 / 360 - 361 من طريق: ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة.
وأخرجه أبو نعيم في " الحلية " 1 / 89 من طريق: الامام أحمد، عن حماد بن أسامة، عن هشام بن
عروة بن أبيه عروة ... ورجاله ثقات.
وانظر " الاستيعاب " 3 / 311 و" أسد الغابة " 2 / 250، و" الإصابة " 4 / 8.
(2) أخرجه ابن سعد 3 / 1 / 75، والطبراني في " الكبير " برقم (223) و (224) ، والحاكم 3 / 360 وانظر " مجمع الزوائد " 9 / 150 و" الإصابة " 4 / 7 وانظر الخلاف في بعض الألفاظ.
(3) سترد هذه الأحاديث خلال الترجمة، ونخرجها في مواضعها.(1/42)
يَعْلَى، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، قَالاَ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ جَامِعِ بنِ شَدَّادٍ، عَنْ عَامِرٍ، وَلفْظُ أَبِي يَعْلَى: سَمِعْتُ عَامِرَ بنَ عَبْدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ: قُلْتُ لأَبِي: مَا لَكَ لاَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا يُحَدِّثُ عَنْهُ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ؟
قَالَ: مَا فَارَقْتُهُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً:
سَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: (مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ (1)) ، لَمْ يَقُلْ أَبُو يَعْلَى مُتَعَمِّداً.
__________
(1) إسناده صحيح.
وأخرجه أحمد 1 / 167 عن عبد الرحمن بن مهدي و1 / 165 عن محمد بن جعفر، كلاهما عن شعبة.
وأخرجه ابن ماجه (36) في المقدمة، من طريق محمد بن جعفر، عن شعبة، به ... ، وأخرجه أبو داود (3651) في العلم: باب التشديد في الكذب على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من طريق بيان بن بشر، عن وبرة بن عبد الرحمن، عن عامر بن عبد الله به ... وأخرجه البخاري 1 / 178 من طريق أبي الوليد الطيالسي، عن شعبة، به..ولم نجده في المطبوع من سنن النسائي، ولعله في " الكبرى ".
فقد نسبه المنذري في " مختصر أبي داود " له أيضا.
والحديث متواتر.
فقد أخرجه البخاري (1291) في الجنائز، ومسلم برقم (4) في المقدمة: باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المغيرة.
وأخرجه البخاري (3461) في الأنبياء، والترمذي (2671) في العلم، وأحمد 2 / 271، 202،
214، عن عبد الله بن عمر.
وأخرجه البخاري (6197) في الأدب، ومسلم (3) في المقدمة، وابن ماجه (34) في المقدمة، وأحمد 2 / 410، 413، 469، 519، عن أبي هريرة.
وأخرجه الترمذي (2661) في العلم، وابن ماجه (30) في المقدمة، عن عبد الله بن مسعود.
وأخرجه مسلم (2) في المقدمة، وابن ماجه (32) في المقدمة، والدارمي 1 / 76، وأحمد 3 / 98، 113، 116، 166، 176، 203، 209، 223، 278، 280، عن أنس بن مالك.
وأخرجه مسلم (3004) في الزهد، وابن ماجه (37) في المقدمة وأحمد 3 / 36، 44، 46، 56 عن أبي سعيد الخدري.
وأخرجه ابن ماجه (33) في المقدمة، والدارمي 1 / 76، وأحمد 3 / 303 عن جابر.
وأخرجه ابن ماجه (35) في المقدمة، والحاكم 1 / 112 عن أبي قتادة.
وأخرجه ابن ماجه (31) في المقدمة، عن علي.
وأخرجه الدارمي 1 / 76 عن ابن عباس.
وأخرجه أحمد 3 / 422 عن قيس ابن سعد بن عبادة و4 / 47 عن سلمة بن الاكوع، و4 / 156، 202 عن عقبة بن عامر.
و4 / 367 عن زيد بن أرقم، و4 / 294 عن خالد بن عرفطة، و4 / 412، عن رجل من الصحابة.(1/43)
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيْدٍ سُنْقُرُ بنُ عَبْدِ اللهِ الحَلَبِيُّ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّطِيْفِ بنُ يُوْسُفَ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الحَقِّ اليُوْسُفِيُّ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بنُ أَحْمَدَ المُقْرِئُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ البَاقِي بنُ قَانِعٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ عَلِيِّ بنِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيْدِ (ح) .
وَحَدَّثَنَا بِشْرٌ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بنُ حَكَّامٍ، قَالاَ:
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ جَامِعِ بنِ شَدَّادٍ، عَنْ عَامِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ:
قُلْتُ لأَبِي: مَا لَكَ لاَ تُحَدِّثُ، عَنْ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا يُحَدِّثُ ابْنُ مَسْعُوْدٍ؟
قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: (مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَليَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) .
رَوَاهُ: خَالِدُ بنُ عَبْدِ اللهِ الطَّحَّانُ، عَنْ بَيَانِ بنِ بِشْرٍ (1) ، عَنْ وَبَرَةَ، عَنْ عَامِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ نَحْوَهُ.
أَخْرَجَ طَرِيْقَ شُعْبَةَ: البُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائَيُّ، وَالقَزْوِيْنِيُّ.
قَالَ إِسْحَاقُ بنُ يَحْيَى: عَنْ مُوْسَى بنِ طَلْحَةَ، قَالَ:
كَانَ عَلِيٌّ، وَالزُّبَيْرُ، وَطَلْحَةُ، وَسَعْدٌ، عِذَارَ عَامٍ وَاحِدٍ، يَعْنِي: وُلِدُوا فِي سَنَةٍ.
وَقَالَ المَدَائِنِيُّ: كَانَ طَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَعَلِيٌّ، أَتْرَاباً.
وَقَالَ يَتِيْمُ (2) عُرْوَةَ: هَاجَرَ الزُّبَيْرُ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةٍ، وَكَانَ عَمُّهُ يُعَلِّقُهُ، وَيُدَخِّنُ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَقُوْلُ: لاَ أَرْجِعُ إِلَى الكُفْرِ أَبَداً (3) .
__________
(1) تحرف في المطبوع إلى " يسار بن بشار ".
(2) سقطت من المطبوع وكنيته: أبو الأسود واسمه: محمد بن عبد الرحمن النوفلي المدني.
ولقب " يتيم عروة " لان أباه كان أوصى إليه.
(3) هو في " الحلية " 1 / 89، وعند الطبراني في " الكبير " (239) ، وذكره الهيثمي في " المجمع " 9 / 151، وقال: ورجاله ثقات إلا أنه مرسل. وأخرجه الحاكم 3 / 360.(1/44)
قَالَ عُرْوَةُ: جَاءَ الزُّبَيْرُ بِسَيْفِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَا لَكَ؟) .
قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّكَ أُخِذْتَ.
قَالَ: (فَكُنْتَ صَانعاً مَاذَا؟) .
قَالَ: كُنْتُ أَضْرِبُ بِهِ مَنْ أَخَذَكَ، فَدَعَا لَهُ وَلِسَيْفِهِ (1) .
وَرَوَى: هِشَامٌ، عَنْ أَبِيْهِ عُرْوَةَ: أَنَّ الزُّبَيْرَ كَانَ طَوِيْلاً تَخُطُّ رِجْلاَهُ الأَرْضَ إِذَا رَكِبَ الدَّابَّةَ، أَشْعَرَ.
وَكَانَتْ أُمُّهُ صَفِيَّةُ تَضْرِبُهُ ضَرْباً شَدِيْداً، وَهُوَ يَتِيْمٌ.
فَقِيْلَ لَهَا: قَتَلْتِهِ، أَهْلَكْتِهِ.
قَالَتْ:
إِنَّمَا أَضْرِبُهُ لِكَي يَدِبّ ... وَيَجُرَّ الجَيْشَ ذَا الجَلَبْ (2)
قَالَ: وَكَسَرَ يَدَ غُلاَمٍ ذَاتَ يَوْمٍ، فَجِيْءَ بِالغُلاَمِ إِلَى صَفِيَّةَ، فَقِيْلَ لَهَا ذَلِكَ.
فَقَالَتْ:
كَيْفَ وَجَدْتَ وَبْرَا ... أَأَقِطاً أَمْ تَمْرَا
أَمْ مُشْمَعِلاَّ صَقْرَا (3)
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَسْلَمَ - عَلَى مَا بَلَغَنِي - عَلَى يَدِ أَبِي بَكْرٍ: الزُّبَيْرُ، وَعُثْمَانُ، وَطَلْحَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَسَعْدٌ.
وَعَنْ عُمَرَ بنِ مُصْعَبِ بنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: قَاتَلَ الزُّبَيْرُ مَعَ نَبِيِّ اللهِ وَلَهُ سَبْعَ
__________
(1) سبق تخريجه ص (42) التعليق رقم (1) .
(2) الرجز في " الإصابة "، وابن سعد مختلف عما هو هنا في بعض ألفاظه فرواية البيت الثاني في " الإصابة " 4 / 7 - 8 " ويهزم الجيش ويأتي بالسلب " والذي هنا هو في " الطبقات " لابن سعد 3 / 1 / 71.
(3) رواية ابن سعد، و" الإصابة " هي " زبرا " بالزاي، وليست بالواو كما هي هنا، ومثلهما رواية اللسان.
والاقط: بفتح الهمزة وكسر القاف، وقد تسكن: قال الازهري: ما يتخذ من اللبن المخيض يطبخ ثم يترك حتى يمصل.
والمشمعل: السريع، يكون في الناس والابل.
وقد أقحمت في الأصل لفظة " حسبته " بين أأقطا، وبين " أم ".(1/45)
عَشْرَةَ.
أَسَدُ بنُ مُوْسَى: حَدَّثَنَا جَامِعٌ أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيْلَ بنَ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ البَهِيِّ (1) قَالَ:
كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَارِسَانِ: الزُّبَيْرُ عَلَى فَرَسٍ، عَلَى المَيْمَنَةِ، وَالمِقْدَادُ بنُ الأَسْوَدِ عَلَى فَرَسٍ، عَلَى المَيْسَرَةِ (2) .
وَقَالَ هِشَامُ بنُ عُرْوَةَ: عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ:
كَانَتْ عَلَى الزُّبَيْرِ يَوْمَ بَدْرٍ عمَامَةٌ صَفْرَاءُ، فَنَزَلَ جِبْرِيْلُ عَلَى سِيْمَاءِ الزُّبَيْرِ (3) .
الزُّبَيْرُ بنُ بَكَّارٍ: عَنْ عُقْبَةَ بنِ مُكْرَمٍ، حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بنُ سَلاَمٍ، عَنْ سَعْدِ بنِ طَرِيْفٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ البَاقِرِ قَالَ:
كَانَتْ عَلَى الزُّبَيْرِ يَوْمَ بَدْرٍ عمَامَةٌ صَفْرَاءُ، فَنَزَلَتِ المَلاَئِكَةُ كَذَلِكَ (4) .
__________
(1) لم تتبين لمحقق المطبوع قراءتها، وقال في الهامش " لعلها الميمي " والبهي هذا هو عبد الله ابن يسار مولى مصعب بن الزبير، تابعي.
انظر " نزهة الالباب في معرفة الألقاب "، الورقة (7) ، و" تهذيب التهذيب "، كلاهما لابن حجر.
(2) أخرجه الطبراني (231) ، وذكره الهيثمي في " المجمع " 9 / 83 ونسبه إلى الطبراني، وقال: هو مرسل.
(3) أخرجه الطبراني (230) ، وذكره الهيثمي في " المجمع " 6 / 84 ونسبه إلى الطبراني، وقال: هو مرسل صحيح الإسناد.
(4) سعد بن طريف متروك كما في " التقريب "، وأخرجه ابن سعد 3 / 1 / 72 من طريق: محمد بن عمر، عن موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، عن الزبير ... ومن طريق: وكيع، عن هشام بن عروة، عن رجل من ولد الزبير - وقال مرة: عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، ومرة ثانية: عن حمزة بن عبد الله قال: كان على الزبير ... ، ومن طريق: عمرو بن عاصم الكلابي، عن همام، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: كانت على الزبير ... ، وأخرجه الطبراني (230) من طريق: حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن عروة.
وقال الهيثمي في " المجمع " 6 / 84: وهو مرسل صحيح الإسناد.
وأخرجه الحاكم 3 / 361 من طريق أبي إسحاق الفزاري، عن هشام بن عروة، عن عباد بن عبد الله بن الزبير.(1/46)
وَفِيْهِ يَقُوْلُ عَامِرُ بنُ صَالِحٍ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ:
جَدِّي ابْنُ عَمَّةِ أَحْمَدٍ وَوَزِيْرُهُ ... عِنْدَ البَلاَءِ وَفَارِسُ الشَّقْرَاءِ
وَغَدَاةَ بَدْرٍ كَانَ أَوَّلَ فَارِسٍ ... شَهِدَ الوَغَى فِي اللاَّمَةِ الصَّفْرَاءِ
نَزَلَتْ بِسِيْمَاهُ المَلاَئِكُ نُصْرَةً ... بِالحَوْضِ يَوْمَ تَأَلُّبِ الأَعْدَاءِ
وَهُوَ مِمَّنْ هَاجَرَ إِلَى الحَبَشَةِ، فِيْمَا نَقَلَهُ مُوْسَى بنُ عُقْبَةَ، وَابْنُ إِسْحَاقَ (1) ، وَلَمْ يُطَوِّلِ الإِقَامَةَ بِهَا.
أَبُو مُعَاوِيَةَ: عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا ابْنَ أُخْتِي (2) ! كَانَ أَبُوَاكَ -يَعْنِي: الزُّبَيْرَ، وَأَبَا بَكْرٍ - مِن: {الَّذِيْنَ اسْتَجَابُوا لِلِّهِ وَالرَّسُوْلِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ} [آلُ عِمْرَانَ: 172] .
لَمَّا انْصَرَفَ المُشْرِكُوْنَ مِنْ أُحُدٍ، وَأَصَابَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابَهُ مَا أَصَابَهُمْ، خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا، فَقَالَ: (مَنْ يُنْتَدَبُ لِهَؤُلاَءِ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّ بِنَا قُوَّةً؟) .
فَانْتُدِبَ أَبُو بَكْرٍ وَالزُّبَيْرُ فِي سَبْعِيْنَ، فَخَرَجُوا فِي آثَارِ المُشْرِكِيْنَ، فَسَمِعُوا بِهِم، فَانْصَرَفُوا.
قَالَ تَعَالَى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوْءٌ} [آلُ عِمْرَانَ: 174] لَمْ يَلْقَوا عَدُوّاً (3) .
وَقَالَ البُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ: جَابِرٌ:
قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الخَنْدَقِ: (مَنْ يَأْتِيْنَا بِخَبَرِ بَنِي قُرَيْظَةَ؟) .
فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، فَذَهَبَ عَلَى فَرَسٍ، فَجَاءَ بِخَبَرِهِمْ. ثُمَّ
__________
(1) انظر " سيرة ابن هشام " 1 / 322.
(2) تحرفت في المطبوع إلى " أخي ".
(3) أخرجه البخاري (4077) في المغازي: باب الذين استجابوا لله والرسول، والواحدي ص: (96) كلاهما من طريق أبي معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة ... إلى قوله: سبعين.
وأخرج الجزء الأول منه، مسلم (2418) في الفضائل: باب من فضائل طلحة والزبير، وابن ماجه (124) في المقدمة، وابن سعد 3 / 1 / 73، والحميدي (263) ، والحاكم 3 / 363.(1/47)
قَالَ الثَّانِيَةَ.
فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، فَذَهَبَ.
ثُمَّ الثَّالِثَةَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ، وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ (1)) .
رَوَاهُ: جَمَاعَةٌ عَنِ ابْنِ المُنْكَدِرِ عَنْهُ.
وَرَوَى: جَمَاعَةٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ:
قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيّاً، وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ) (2) .
أَبُو مُعَاوِيَةَ: عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنِ ابْنِ المُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ:
قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (الزُّبَيْرُ ابْنُ عَمَّتِي، وَحَوَارِيَّ مِنْ أُمَّتِي (3)) .
يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ: عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنِ الزُّبَيْرِ قَالَ:
أَخَذَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدِي، فَقَالَ: (لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ، وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ، وَابْنُ عَمَّتِي (4)) .
وَبِإِسْنَادِي فِي (المُسْنَدِ) إِلَى أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا
__________
(1) أخرجه أحمد 3 / 307، 314، 338، 365، والبخاري (3719) في فضائل الصحابة: باب مناقب الزبير، ومسلم (2415) في الفضائل: باب فضائل طلحة والزبير، والترمذي (3745) في المناقب: باب مناقب الزبير، وابن ماجه (122) في المقدمة: باب فضائل الزبير، والطبراني في " الكبير " (227) ، وهو في " الطبقات " لابن سعد 3 / 1 / 74 وأخرجه الحميدي (1231) .
والحواري: خالصة الإنسان وصفيه المختص به كأنه أخلص ونقي من كل عيب.
وتحوير الثياب: تبييضها وغسلها.
ومنه سمي أصحاب عيسى: حواريين، لانهم كانوا قصارين يبيضون الثياب: وقيل: الحواري: الناصر، فلما انضم هؤلاء إلى عيسى وتابعوه ونصروه سمعوا حواريين.
(2) إسناده صحيح، وأخرجه أحمد 4 / 4، وذكره الهيثمي في " المجمع " ونسبه إلى أحمد، والطبراني.
وقال: إسناد أحمد المتصل رجاله رجال الصحيح.
وقد ذكر السند في المطبوع على الصواب، فقال: " عن ابن الزبير " لكنه في جدول الخطأ والصواب أشار على القارئ أن يقرأ: " عن الزبير " بحذف " ابن "، فأخطأ، لان الحديث من مسند عبد الله بن الزبير، لا من مسند أبيه الزبير.
(3) إسناده صحيح، وأخرجه أحمد 3 / 314.
(4) أخرجه ابن سعد 3 / 1 / 73، وصححه الحاكم 3 / 362 ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.(1/48)
زَائِدَةُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، قَالَ:
اسْتَأْذَنَ ابْنُ جُرْمُوْزٍ عَلَى عَلِيٍّ وَأَنَا عِنْدَهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ:
بَشَّرْ قَاتِلَ ابْنَ صَفِيَّةَ بِالنَّارِ، سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُوْلُ: (لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ، وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ (1)) .
تَابَعَهُ شَيْبَانُ، وَحَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ.
وَرَوَى: جَرِيْرٌ الضَّبِّيُّ، عَنْ مُغِيْرَةَ، عَنْ أُمِّ مُوْسَى قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ قَاتِلُ الزُّبَيْرِ، فَذَكَرَهُ.
وَرَوَى: يَزِيْدُ بنُ أَبِي حَبِيْبٍ، عَنْ مَرْثَدٍ اليَزَنِيِّ:
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (وَحَوَارِيَّ مِنَ الرَّجَالِ: الزُّبَيْرُ، وَمِنَ النِّسَاءِ: عَائِشَةُ (2)) .
ابْنُ أَبِي عَرُوْبَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلاً يَقُوْلُ: يَا ابْنَ حَوَارِيِّ رَسُوْلِ اللهِ!
فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنْ كُنْتَ مِنْ آلِ الزُّبَيْرِ، وَإِلاَّ فَلاَ (3) .
رَوَاهُ: ثِقَتَانِ عَنْهُ، وَالحَوَارِيُّ: النَّاصِرُ.
وَقَالَ مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ: الحَوَارِيُّ: الخَالِصُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
وَقَالَ الكَلْبِيُّ: الحَوَارِيُّ: الخَلِيْلُ.
__________
(1) إسناده حسن، وأخرجه أحمد 1 / 89، 102، 103، والطبراني (243) مطولا.
وأخرجه الترمذي (3745) في المناقب، والطبراني (228) كلاهما مختصرا بدون المقدمة، وهو عند ابن سعد 3 / 1 / 73 مطولا أيضا، وصححه الحاكم 3 / 367، ووافقه الذهبي.
(2) ذكره صاحب الكنز برقم (33291) مرسلا ونسبه إلى الزبير بن بكار، وابن عساكر.
وقال الحافظ في " الفتح " 7 / 80: ورجاله موثوقون، ولكنه مرسل.
(3) رجاله ثقات.
وأخرجه ابن سعد 3 / 1 / 74، والطبراني (225) ، وذكره الهيثمي في " المجمع " 9 / 151، ونسبه إلى البزار، وقال: ورجاله ثقات.
وهو في " المطالب العالية " (4011) ، ونسبه إلى أحمد بن منيع، وانظر " الاستيعاب " 3 / 312، و" الإصابة " 4 / 8.(1/49)
هِشَامُ بنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ (1) ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ:
جَمَعَ لِي رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَبَوَيْهِ (2) .
أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي عَصْرُوْنَ، أَنْبَأَنَا أَبُو رَوْحٍ، أَنْبَأَنَا تَمِيْمٌ (3) المُقْرِئُ، أَنْبَأَنَا أَبُو سَعْدٍ الأَدِيْبُ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَمْرٍو الحِيْرِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو يَعْلَى المَوْصِلِيُّ، حَدَّثَنَا حَوْثَرَةُ بنُ أَشْرَسَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ: أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ لَهُ: يَا أَبَةِ! قَدْ رَأَيْتُكَ تَحْمِلُ عَلَى فَرَسِكَ الأَشْقَرِ يَوْمَ الخَنْدَقِ.
قَالَ: يَا بُنَيَّ! رَأَيْتَنِي؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَإِنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَئِذٍ لَيَجْمَعُ لأَبِيْكَ أَبَوَيْهِ، يَقُوْلُ: (ارْمِ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي (4)) .
أَحْمَدُ فِي (مُسْنَدِهِ) : حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ:
لَمَّا كَانَ يَوْمُ الخَنْدَقِ كُنْتُ أَنَا وَعُمَرُ بنُ أَبِي سَلَمَةَ فِي الأُطُمِ الَّذِي فِيْهِ نِسَاءُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُطُمِ حَسَّان، فَكَانَ عُمَرُ يَرْفَعُنِي وَأَرْفَعُهُ، فَإِذَا رَفَعَنِي عَرَفْتُ أَبِي حِيْنَ يَمُرُّ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَيُقَاتِلُهُمْ (5) .
__________
(1) ابن الزبير هو عبد الله كما جاء مصرحا به في رواية أحمد، وابن ماجه، والراوي عنه هنا أخوه عروة، وعبد الله روى عنه أبيه الزبير.
وقد التبس امره في المطبوع، فأشار على القارئ في جدول الخطأ والصواب أن يحذف " عن ابن الزبير ".
(2) أخرجه أحمد 1 / 164، وابن ماجه (123) في المقدمة: باب فضل الزبير، وهو في " الاستيعاب " 3 / 314، وفي " الإصابة " 4 / 8.
(3) سقطت من المطبوع.
(4) رجاله ثقات، وانظر تخريج الحديث الذي يليه.
(5) إسناده صحيح، وهو في " المسند " 1 / 164، وتمامه: " وكان يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، فقال: من يأتي بني قريظة فيقاتلهم؟ فقلت له حين رجع: يا أبت: تالله إن كنت لاعرفك حين تمر ذاهبا إلى بني قريظة، فقال: يا بني! أما والله إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجمع لي أبويه جميعا يفديني بهما، يقول: فداك أبي وأمي.
وأخرجه أحمد 1 / 166، والبخاري (3720) في فضائل الصحابة: باب مناقب الزبير بمعناه. =(1/50)
الرِّيَاشِيُّ: حَدَّثَنَا الأَصْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ:
ضَرَبَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الخَنْدَقِ عُثْمَانَ بنَ عَبْدِ اللهِ بنِ المُغِيْرَةِ بِالسَّيْفِ عَلَى مِغْفَرِهِ، فَقَطَعَهُ إِلَى القَرَبُوسِ (1) .
فَقَالُوا: مَا أَجْوَدَ سَيْفَكَ!
فَغَضِبَ الزُّبَيْرُ، يُرِيْدُ أَنَّ العَمَلَ لِيَدِهِ لاَ لِلسَّيْفِ.
أَبُو خَيْثَمَةَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ المَدِيْنِيُّ حَدَّثَتْنِي أُمُّ عُرْوَةَ بِنْتُ جَعْفَرٍ، عَنْ أُخْتِهَا عَائِشَةَ، عَنْ أَبِيْهَا، عَنْ جَدِّهَا الزُّبَيْرِ: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْطَاهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ لِوَاءِ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ، فَدَخَلَ الزُّبَيْرُ مَكَّةَ بِلِوَاءَيْنِ (2) .
وَعَنْ أَسمَاءَ قَالَتْ: عِنْدِي لِلزُّبَيْرِ سَاعِدَانِ مِنْ دِيْبَاجٍ، كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ، فَقَاتَلَ فِيْهِمَا.
رَوَاهُ: أَحْمَدُ فِي (مُسْنَدِهِ (3)) مِنْ طَرِيْقِ ابْنِ لَهِيْعَةَ.
__________
= وفيه: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من يأتي بني قريظة فيأتيني بخبرهم؟ فانطلقت.
فلما رجعت جمع لي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبويه فقال: فداك أبي وأمي ".
وأخرجه مسلم (2416) في فضائل الصحابة: باب فضائل طلحة والزبير.
والاطم: الحصن.
جمعه آطام.
مثل عنق وأعناق.
(1) القربوس: مقدم السرج ومؤخره.
(2) إسناده ضعيف جدا.
محمد بن الحسن المديني هو ابن زبالة المخزومي قال أبو داود: كذاب.
وقال يحيى: ليس بثقة.
وقال النسائي، والاسدي: متروك.
وقال أبو حاتم: واهي الحديث.
وقال الدارقطني وغيره: منكر الحديث.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 6 / 169، وابن حجر في " المطالب العالية " برقم (4357) ونسباه لأبي يعلى.
وأعلاه بمحمد بن الحسن بن زبالة.
(3) 6 / 352 من طريق: معمر، عن عبد الله بن المبارك، عن ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد
المصري، عن عبد الله بن كيسان مولى أسماء عن أسماء، وهذا سند صحيح.
لان الراوي عن ابن لهيعة، وهو أحد العبادلة الذين رووا عنه قبل احتراق كتبه.
وهم: عبد الله بن المبارك وعبد الله بن يزيد المقرئ.(1/51)
عَلِيُّ بنُ حَرْبٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ:
أَعْطَى رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الزُّبَيْرَ يَلْمَقَ حَرِيْرٍ مَحْشُوٍّ (1) بِالقَزِّ، يُقَاتِلُ فِيْهِ (2) .
وَرَوَى: يَحْيَى بنُ يَحْيَى الغَسَّانِيُّ، عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ:
قَالَ الزُّبَيْرُ: مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ غَزْوَةٍ غَزَاهَا المُسْلِمُوْنَ، إِلاَّ أَنْ أُقْبِلَ، فَأَلْقَى نَاساً يَعْقِبُوْنَ.
وَعَنِ الثَّوْرِيِّ قَالَ: هَؤُلاَءِ الثَّلاَثَةُ نَجْدَةُ الصَّحَابَةِ: حَمْزَةُ، وَعَلِيٌّ، وَالزُّبَيْرُ.
حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ: عَنْ عَلِيِّ بنِ زَيْدٍ، أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى الزُّبَيْرَ وَفِي صَدْرِهِ أَمْثَالُ العُيُوْنِ مِنَ الطَّعْنِ وَالرَّمْي.
مَعْمَرٌ: عَنْ هِشَامٍ، عَنْ (3) عُرْوَةَ قَالَ: كَانَ فِي الزُّبَيْرِ ثَلاَثُ ضَرَبَاتٍ بِالسَّيْفِ: إِحْدَاهُنَّ فِي عَاتِقِهِ، إِنْ كُنْتُ لأُدْخِلُ أَصَابِعِي فِيْهَا، ضُرِب ثِنْتَيْنِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَوَاحِدَةً يَوْمَ اليَرْمُوْكِ.
قَالَ عُرْوَةُ: قَالَ عَبْدُ المَلِكِ بنُ مَرْوَانَ حِيْنَ قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: يَا عُرْوَةَ! هَلْ تَعْرِفُ سَيْفَ الزُّبَيْرِ؟
قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: فَمَا فِيْهِ؟
قُلْتُ: فَلَّةٌ فَلَّهَا يَوْمَ بَدْرٍ، فَاسْتَلَّهُ فَرَآهَا فِيْهِ، فَقَالَ:
__________
(1) كذا الأصل.
ويمكن تخريجه على المجاورة كما في قولهم: هذا جحر ضب خرب.
وفي " كنز العمال " (36629: محشوا.
وهو الوجه.
(2) ذكره صاحب الكنز (36629) .
واليلمق: قال الجواليقي: هو القباء، وأصله بالفارسية: يلمه.
وفي اللسان: القباء المحشو.
(3) تحرفت في المطبوع لفظة " عن " إلى " ابن " وأشار المحقق إلى الأصل في هامش مطبوعه.(1/52)
بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الكَتَائِبِ (1)
ثُمَّ أَغْمَدَهُ وَرَدَّهُ عَلَيَّ، فَأَقَمْنَاهُ بَيْنَنَا بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ، فَأَخَذَهُ بَعْضُنَا، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ أَخَذْتُهُ (2) .
يَحْيَى بنُ سَعِيْدٍ الأَنْصَارِيُّ: عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ عَلَى حِرَاءٍ فَتَحَرَّكَ.
فَقَالَ: اسْكُنْ حِرَاءُ! فَمَا عَلَيْكَ إِلاَّ نَبِيٌّ، أَوْ صِدِّيْقٌ، أَوْ شَهِيْدٌ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ (3) .
الحَدِيْثُ رَوَاهُ: مُعَاوِيَةُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعاً، وَذَكَرَ مِنْهُم عَلِيّاً.
وَقَدْ مَرَّ فِي تَرَاجِمِ الرَّاشِدِيْنَ (4) أَنَّ العَشَرَةَ فِي الجَنَّةِ، وَمَرَّ فِي تَرْجَمَةِ طَلْحَةَ:
__________
(1) عجز بيت صدره " ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم " وهو للنابغة من بائيته المشهورة التي مطلعها:
كليني لهم يا أميمة ناصب * وليل أقاسيه بطئ الكواكب
(2) أخرجه البخاري (3973) في المغازي: باب قتل أبي جهل.
و (3721) في فضائل الصحابة: باب مناقب الزبير، و (3975) في المغازي: باب قتل أبي جهل.
(3) أخرجه مسلم (2417) في فضائل الصحابة: باب فضائل طلحة والزبير، من طريق سليمان ابن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة ... وفيه " علي، وسعد بن أبي وقاص ".
وأخرجه مسلم، والترمذي (3697) من طريق قتيبة بن سعيد، عن عبد العزيز بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة.
(4) انظر " تاريخ الإسلام " 1 / 153 وما بعدها فإن الأصل الذي طبعنا عنه الكتاب يبدأ بالمجلد الثالث.
وهو أول نسخة تؤخذ عن نسخة المصنف.
وقد جاء في لوحة العنوان على الجانب الأيسر ما نصه: في المجلد الأول والثاني سير النبي، صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الأربعة، تكتب من تاريخ الإسلام، وقد تأكد لنا أنها بخط الذهبي نفسه رحمه الله تعالى ووافقنا على ذلك غير واحد من المحققين.
لذلك ينبغي أن يؤخذ ما في تاريخ الإسلام من سيرة النبي، صلى الله عليه وسلم، وسيرة خلفائه الأربعة ويضم إلى كتابنا هذا، فإنه متمم له.
وهو الذي سنفعله إن شاء الله.(1/53)
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ جَارَايَ فِي الجَنَّةِ (1)) .
أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ: عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بنِ مَيْمُوْنَ قَالَ:
قَالَ عُمَرُ: إِنَّهُمْ يَقُوْلُوْنَ: اسْتَخْلِفْ عَلَيْنَا، فَإِنْ حَدَثَ بِي حَدَثٌ فَالأَمْرُ فِي هَؤُلاَءِ السِّتَّةِ الَّذِيْنَ فَارَقَهُمْ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، ثُمَّ سَمَّاهُمْ.
أَحْمَدُ فِي (مُسْنَدِهِ) : حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بنُ عَدِيٍّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ مَرْوَانَ -وَلاَ إِخَالُهُ مُتَّهَماً عَلَيْنَا- قَالَ:
أَصَابَ عُثْمَانَ رُعَافٌ سَنَةَ الرُّعَافِ، حَتَّى تَخَلَّفَ عَنِ الحَجِّ، وَأَوْصَى، فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: اسْتَخْلِفْ.
قَالَ: وَقَالُوْهُ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: مَنْ هُوَ؟ فَسَكَتَ.
قَالَ: ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ آخَرَ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَرَدَّ عَلَيْهِ نَحْوَ ذَلِكَ.
قَالَ: فَقَالَ عُثْمَانُ: قَالُوا: الزُّبَيْرَ؟
قَالُوا: نَعْم.
قَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنْ كَانَ لأَخْيَرَهُمْ (2) مَا عَلِمْتُ، وَأَحَبَّهُم إِلَى رَسُوْلِ اللهِ (3) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
رَوَاهُ: أَبُو مَرْوَانَ الغَسَّانِيُّ (4) ، عَنْ هِشَامٍ نَحْوَهُ.
وَقَالَ هِشَامٌ: عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ عُمَرُ:
لَوْ عَهِدْتَ أَوْ تَرَكْتَ تَرِكَةً كَانَ أَحَبُّهُمْ إِليَّ
__________
(1) تقدم تخريجه في الصفحة (29) التعليق رقم (4) .
(2) تحرفت في المطبوع إلى " أحدهم ".
(3) إسناده صحيح.
وأخرجه أحمد 1 / 64، والبخاري (3717) في الفضائل: باب مناقب الزبير.
(4) هو يحيى بن أبي زكريا الغساني الواسطي.
ضعفه أبو داود.
وقال ابن معين: لا أعرف حاله.
وقال أبو حاتم: ليس بالمشهور.
وبالغ ابن حيان فقال: لا تجوز الرواية عنه.
أخرج له البخاري حديثا واحدا في الهداية متابعة.(1/54)
الزُّبَيْرُ، إِنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّيْنِ (1) .
ابْنُ عُيَيْنَةَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ:
أَوْصَى إِلَى الزُّبَيْرِ سَبْعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُم: عُثْمَانُ، وَابْنُ مَسْعُوْدٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى الوَرَثَةِ مِنْ مَالِهِ، وَيَحْفَظُ أَمْوَالَهُمْ.
ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بنُ الحَارِثِ، حَدَّثَنِي هِشَامُ بنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ: أَنَّ الزُّبَيْرَ خَرَجَ غَازِياً نَحْوَ مِصْرَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَمِيْرُ مِصْرَ: إِنَّ الأَرْضَ قَدْ وَقَعَ بِهَا الطَّاعُوْنُ، فَلاَ تَدْخُلْهَا.
فَقَالَ: إِنَّمَا خَرَجْتُ لِلطَّعْنِ وَالطَّاعُوْنِ، فَدَخَلَهَا فَلَقِيَ طَعْنَةً فِي جَبْهَتِهِ، فَأَفْرَقَ (2) .
عَوْفٌ: عَنْ أَبِي رَجَاء العُطَارِدِيُّ، قَالَ: شَهِدْتُ الزُّبَيْرَ يَوْماً وَأتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ:
مَا شَأْنُكُمْ أَصْحَابَ رَسُوْلِ اللهِ، أَرَاكُمْ أَخَفَّ النَّاسِ صَلاَةً؟
قَالَ: نُبَادِرُ الوَسْوَاسَ (3) .
الأَوْزَاعِيُّ: حَدَّثَنِي نُهَيْكُ بنُ مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا مُغِيْثُ بنُ سُمَيٍّ قَالَ: كَانَ
__________
(1) أخرجه الطبراني في " الكبير " برقم (232) وفي سنده: عبد الله بن محمد بن يحيى بن الزبير المدني.
قال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات.
وقال أبو حاتم الرازي: متروك الحديث.
(2) أفرق: برأ.
وفي الحديث " عدوا من أفرق من الحي " أي من برأ من الطاعون.
(3) ومن هذا الباب ما أخرجه أحمد 4 / 321 من طريق ابن عجلان، عن سعيد المقبري، عن عمر بن الحكم، عن عبد الله بن غنمة، قال: رأيت عمار بن ياسر دخل المسجد فصلى فأخف الصلاة.
قال: فلما خرج قمت إليه فقلت: يا أبا اليقظان! لقد خففت.
قال: فهل رأيتني انتقصت من حدودها شيئا؟ قلت: لا.
قال: فإني بادرت بها سهوة الشيطان.
سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: إن العبد ليصلي الصلاة ما يكتب له منها إلا عشرها، تسعها، ثمنها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها.
وأخرجه أبو داود (796) في الصلاة: باب ما جاء في نقصان الصلاة، دون ذكر السبب. وسنده حسن.(1/55)
لِلزُّبَيْرِ بنِ العَوَّام أَلفُ مَمْلُوْكٍ يُؤَدُّوْنَ إِلَيْهِ الخَرَاجَ، فَلاَ يُدْخِلُ بَيْتَهُ مِنْ خَرَاجِهِمْ شَيْئاً.
رَوَاهُ: سَعِيْدُ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ نَحْوَهُ، وَزَادَ:
بَلْ يَتَصَدَّقُ بِهَا كُلِّهَا.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي أَبُو غَزِيَّةَ مُحَمَّدُ بنُ مُوْسَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ مُصْعَبٍ، عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ المُنْذِرِ، عَنْ جَدَّتِهَا أَسمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ:
مَرَّ الزُّبَيْرُ بِمَجْلِسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحَسَّانُ يُنْشِدُهُمْ مِنْ شِعْرِهِ، وَهُمْ غَيْرُ نِشَاطٍ لِمَا يَسْمَعُوْنَ مِنْهُ، فَجَلَسَ مَعَهُمُ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ قَالَ:
مَالِي أَرَاكُمْ غَيْرَ أَذِنِيْنَ لِمَا تَسْمَعُوْنَ مِنْ شِعْرِ ابْنِ الفُرَيْعَةِ، فَلَقَدْ كَانَ يعرضُ بِهِ رَسُوْل اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيُحْسِنُ اسْتمَاعَهُ، وَيُجْزَلُ عَلَيْهِ ثَوَابَهُ، وَلاَ يَشْتَغِلُ عَنْهُ.
فَقَالَ حَسَّانُ يَمْدَحُ الزُّبَيْرَ:
أَقَامَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ وَهَدْيِهِ ... حَوَارِيُّهُ وَالقَوْلُ بِالفِعْلِ يُعْدَلُ
أَقَامَ عَلَى مِنْهَاجِهِ وَطَرِيْقِهِ ... يُوَالِي وَلِيَّ الحَقِّ وَالحَقُّ أَعْدَلُ
هُوَ الفَارِسُ المَشْهُوْرُ وَالبَطَلُ الَّذِي ... يَصُوْلُ إِذَا مَا كَانَ يَوْمٌ مُحَجَّلُ
إِذَا كَشَفَتْ عَنْ سَاقِهَا الحَرْبُ حَشَّهَا ... بِأَبْيَضَ سَبَّاقٍ إِلَى المَوْتِ يُرْقِلُ (1)
وَإِنَّ امْرَءاً كَانَتْ صَفِيَّةُ أُمَّهُ ... وَمِنْ أَسَدٍ فِي بَيْتِهَا لَمُؤَثَّلُ (2)
لَهُ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ قُرْبَى قَرِيْبَةٌ ... وَمِنْ نُصْرَةِ الإِسْلاَمِ مَجْدٌ مُؤَثَّلُ
فَكَمْ كُرْبَةٍ ذَبَّ الزُّبَيْرُ بِسَيْفِهِ ... عَنِ المُصْطَفَى وَاللهُ يُعْطِي فَيُجْزِلُ
__________
(1) يقال: أرقل القوم إلى الحرب إرقالا: أسرعوا، والارقال: ضرب من الخبب: وهي سرعة سير الابل.
(2) في الديوان، وعند الحاكم " لمرفل " والمرفل: هو العظيم المبجل.(1/56)
ثَنَاؤُكَ خَيْرٌ مِنْ فَعَالِ مُعَاشِرٍ ... وَفِعْلُكَ يَا ابْنَ الهَاشِمِيَّةِ أَفْضَلُ (1)
قَالَ جُوَيْرِيَةُ بنُ أَسْمَاءَ: بَاعَ الزُّبَيْرُ دَاراً لَهُ بِسِتِّ مَائَةِ أَلفٍ، فَقِيْلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ! غُبِنْتَ.
قَالَ: كَلاَّ، هِيَ فِي سَبِيْلِ اللهِ.
اللَّيْثُ: عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ: أَنَّ الزُّبَيْرَ لَمَّا قُتِلَ عُمَرُ، مَحَا نَفْسَهُ مِنَ الدِّيْوَانِ، وَأَنَّ ابْنَهُ عَبْدَ اللهِ لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ، مَحَا نَفْسَهُ مِنَ الدِّيْوَانِ (2) .
أَحْمَدُ فِي (المُسْنَدِ) : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيْدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا شَدَّادُ بنُ سَعِيْدٍ، حَدَّثَنَا غَيْلاَنُ بنُ جَرِيْرٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ: مَا جَاءَ بِكُمْ، ضَيَّعْتُمُ الخَلِيْفَةَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ جِئْتُمْ تَطْلُبُوْنَ بِدَمِهِ؟
قَالَ: إِنَّا قَرَأْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيْبَنَّ الَّذِيْنَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأَنْفَال: 25] لَمْ نَكُنْ نَحْسِبُ أَنَّا أَهْلُهَا حَتَّى وَقَعَتْ مِنَّا حَيْثُ وَقَعَتْ (3) .
مُبَارَكُ بنُ فَضَالَةَ: عَنِ الحَسَنِ: أَنَّ رَجُلاً أَتَى الزُّبَيْرَ وَهُوَ بِالبَصْرَةِ، فَقَالَ: أَلاَ أَقْتُلُ عَلِيّاً؟
قَالَ: كَيْفَ تَقْتُلُهُ وَمَعَهُ الجُنُوْدُ؟
قَالَ: ألحق بِهِ، فَأَكُونُ مَعَكَ، ثُمَّ أَفْتِكُ بِهِ.
قَالَ: إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (الإِيْمَانُ قَيَّدَ الفَتْكَ، لاَ يَفْتِكُ
__________
(1) أخرجه الحاكم 3 / 362 - 363، وهو في " الاستيعاب " 3 / 315، و" أسد الغابة " 3 / 251،
وفي " الحلية " 1 / 90 وقد ذكره الهيثمي في " المجمع " 8 / 125 ونسبه إلى الطبراني، وقال: وفيه عبد الله بن مصعب، وهو ضعيف.
والابيات في " ديوان حسان ": 199 - 200 طبعة دار صادر البيروتية.
(2) أخرجه الطبراني في " الكبير " برقم (240) ، وهو في " الطبقات " لابن سعد 3 / 1 / 75.
(3) سنده حسن، وأخرجه أحمد 1 / 165 وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 3 / 177 ونسبه إلى أحمد، والبزار، وابن المنذر، وابن مردويه، وابن عساكر.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 7 / 27 وقال: رواه أحمد بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح.(1/57)
مُؤْمِنٌ (1)) .
هَذَا فِي (المُسْنَدِ) ، وَفِي (الجَعْدِيَّاتِ) .
الدُّوْلاَبِيُّ فِي (الذُّرِّيَّةِ الطَّاهِرَةِ) : حَدَّثَنَا الدَّقِيْقِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيْدُ، سَمِعْتُ شَرِيْكاً، عَنِ الأَسْوَدِ بنِ قَيْسٍ، حَدَّثَنِي مَنْ رَأَى الزُّبَيْرَ يَقْتَفِي آثَارَ الخَيْلِ قَعْصاً بِالرُّمْحِ، فَنَادَاهُ عَلِيٌّ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ!
فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ حَتَّى الْتَفَّتْ أَعْنَاقُ دَوَابِّهِمَا، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللهِ، أَتَذْكُرُ يَوْمَ كُنْتُ أُنَاجِيْكَ، فَأَتَانَا رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: (تُنَاجِيْهِ! فَوَاللهِ لَيُقَاتِلَنَّكَ وَهُوَ لَكَ ظَالِمٌ) .
قَالَ: فَلَمْ يَعْدُ أَنْ سَمِعَ الحَدِيْثَ، فَضَرَبَ وَجْهَ دَابَّتِهِ وَذَهَبَ (2) .
قَالَ أَبُو شِهَابٍ الحَنَّاطُ وَغَيْرُهُ: عَنْ هِلاَلِ بنِ خَبَّابٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِلزُّبَيْرِ يَوْمَ الجَمَلِ: يَا ابْنَ صَفِيَّةَ! هَذِهِ عَائِشَةُ تُمَلِّكُ المُلْكَ
__________
(1) رجاله ثقات، وهو في " المسند " 1 / 166 و167، وفي " المصنف " لعبد الرزاق (9676) .
وله شاهد من حديث أبي هريرة عند أبي داود (2769) في الجهاد: باب في العدو يؤتى على غرة، من طريق محمد بن حزابة، عن إسحاق بن منصور، عن أسباط الهمداني، عن السدي، عن أبيه، عن أبي هريرة.
وأسباط كثير الخطأ، ووالد السدي مجهول.
وله شاهد آخر من حديث معاوية عن أحمد 4 / 92 وفي سنده علي بن زيد وهو ضعيف.
لكن
حديثه حسن بالشواهد، وباقي رجاله ثقات، فالحديث صحيح.
قال المنذري: الفتك أن يأتي الرجل الرجل وهو غار غافل فيشد عليه فيقتله.
وقوله: " الايمان قيد الفتك " أي أن الايمان يمنع القتل، كما يمنع القيد عن التصرف، فكأنه جعل الفتك مقيدا.
ومنه في صفة الفرس: قيد الاوابد، يريد أنه يلحقها بسرعة، فكأنها مقيدة به لا تعدوه.
(2) الرجل الذي أخبر بالقصة مجهول.
والدقيقي: هو محمد بن عبد الملك بن مروان الواسطي أبو جعفر صدوق.
ويزيد هو ابن هارون، وشريك هو ابن عبد الله القاضي، كثير الخطأ.
وأخرجه الحاكم 3 / 366 من طريق أبي حرب بن أبي الأسود الديلي قال: شهدت الزبير خرج يريد عليا.
فقال له علي: أنشدك الله، هل سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: تقاتله وأنت له ظالم؟ فقال: لم أذكر، ثم مضى الزبير منصرفا.
وصححه الحاكم ووافقه الذهبي كذا قالا.
مع أن في سنده عبد الله بن محمد بن عبد الملك الرقاشي وقد قال فيه أبو حاتم: في حديثه نظر، ونقل ابن عدي عن البخاري أنه قال: فيه نظر.
وشيخه فيه: عبد الملك بن مسلم لين الحديث.
وانظر " المطالب العالية " (4468) و (4469) و (4470) و (4476) .(1/58)
طَلْحَةَ، فَأَنْتَ عَلاَمَ تُقَاتِلُ قَرِيْبَكَ عَلِيّاً؟
زَادَ فِيْهِ غَيْرُ أَبِي شِهَابٍ: فَرَجَعَ الزُّبَيْرُ، فَلَقِيَهُ ابْنُ جُرْمُوْزٍ، فَقَتَلَهُ (1) .
قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ أَبِي فَرْوَةَ، أَخِي إِسْحَاقَ قَالَ:
قَالَ عَلِيٌّ: حَارَبَنِي خَمْسَةٌ: أَطْوَعُ النَّاسِ فِي النَّاسِ: عَائِشَةُ، وَأَشْجَعُ النَّاسِ: الزُّبَيْرُ، وَأَمْكَرُ النَّاسِ: طَلْحَةُ، لَمْ يُدْرِكْهُ مَكْرٌ قَطُّ، وَأَعْطَى النَّاسِ: يَعْلَى بنُ مُنْيَةَ (2) ، وَأَعَبَدُ النَّاسِ: مُحَمَّدُ بنُ طَلْحَةَ، كَانَ مَحْمُوداً حَتَّى اسْتَزَلَّهُ أَبُوْهُ، وَكَانَ يَعْلَى يُعطِي الرَّجُلَ الوَاحِدَ ثَلاَثِيْنَ دِيْنَاراً وَالسِّلاَحَ وَالفَرَسَ عَلَى أَنْ يُحَارِبَنِي (3) .
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ المَلِكِ الرَّقَاشِيُّ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي جَرْوٍ المَازِنِيِّ قَالَ: شَهِدْتُ عَلِيّاً وَالزُّبَيْرَ حِيْنَ تَوَاقَفَا، فَقَالَ عَلِيٌّ:
يَا زُبَيْرُ! أَنْشُدُكَ اللهَ، أَسَمِعْتَ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُوْلُ: (إِنَّكَ تُقَاتِلُنِي وَأَنْتَ لِي ظَالِمٌ) .
قَالَ: نَعَمْ، وَلَمْ أَذْكُرْهُ إِلاَّ فِي مَوْقِفِي هَذَا، ثُمَّ انْصَرَفَ (4) .
__________
(1) رجاله ثقات، وأخرجه ابن سعد 3 / 1 / 77 بنحوه، وقال الحافظ في " الإصابة " 4 / 9: وسنده صحيح.
(2) بضم الميم.
وسكون النون، بعدها ياء مفتوحة، وهي أمه.
وهو يعلى بن أمية بن أبي عبيدة ابن همام التيمي، حليف قريش.
صحابي مشهور.
مات سنة بضع وأربعين.
وأخرج حديثه الجماعة.
(3) خبر لا يصح.
ابن أبي فروة أخو إسحاق لا يعرف، ويخشى أن تكون لفظة " أخي " مقحمة في النص، وإسحاق يروي عنه الليث، وهو متروك، متفق على ضعفه.
(4) عبد الله، وجده ضعيفان.
وذكره الحافظ في " المطالب العالية " (4476) ونسبه إلى أبي يعلى.(1/59)
رَوَاهُ: أَبُو يَعْلَى فِي (مُسْنَدِهِ) ، وَقَدْ رَوَى نَحْوَهُ مِنْ وُجُوْهٍ سُقْنَا كَثِيْراً مِنْهَا فِي كِتَاب (فَتْحِ المَطَالِبِ (1)) .
قَالَ يَزِيْدُ بنُ أَبِي زِيَادٍ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَبِي لَيْلَى
قَالَ: انْصَرَفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الجَمَلِ عَنْ عَلِيٍّ، فَلَقِيَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ، فَقَالَ: جُبْناً جُبْناً!
قَالَ: قَدْ عَلِمَ النَّاسُ أَنِّي لَسْتُ بِجَبَانٍ، وَلَكِنْ ذَكَّرَنِي عَلِيٌّ شَيْئاً سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَحَلَفْتُ أَنْ لاَ أُقَاتِلَهُ، ثُمَّ قَالَ:
تَرْكُ الأُمُوْرِ الَّتِي أَخْشَى عَوَاقِبَهَا ... فِي اللهِ أَحْسَنُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الدِّيْنِ (2)
وَقِيْلَ: إِنَّهُ أَنْشَدَ:
وَلَقَدْ عَلِمْتُ لَوِ انَّ عِلْمِيَ نَافِعِي ... أَنَّ الحَيَاةَ مِنَ المَمَاتِ قَرِيْبُ
فَلَمْ يَنْشَبْ أَنْ قَتَلَهُ ابْنُ جُرْمُوْزٍ.
وَرَوَى: حُصَيْنُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرِو بنِ جَاوَانَ
قَالَ: قُتِلَ طَلْحَةُ وَانْهَزَمُوا، فَأَتَى الزُّبَيْرُ سَفَوَانَ، فَلَقِيَهُ النَّعِرُ المُجَاشِعِيُّ، فَقَالَ:
يَا حَوَارِيَّ رَسُوْلِ اللهِ! أَيْنَ تَذْهَبُ؟ تَعَالَ فَأَنْتَ فِي ذِمَّتِي، فَسَارَ مَعَهُ.
وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى الأَحْنَفِ، فَقَالَ: إِنَّ الزُّبَيْرَ بِسَفَوَانَ، فَمَا تَأْمُرُ إِنْ كَانَ جَاءَ، فَحَمَلَ بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ، حَتَّى إِذَا ضَرَبَ بَعْضُهُمْ حَوَاجِبَ بَعْضٍ بِالسَّيْفِ، أَرَادَ أَنْ يَلْحَقَ بِبَنِيْهِ؟ قَالَ: فَسَمِعَهَا
__________
(1) ذكر المؤلف رحمه الله هذا الكتاب في " تذكرة الحفاظ " 1 / 10 فقال: ومناقب هذا الامام جمة، أفردتها في مجلدة وسميته " بفتح المطالب في مناقب علي بن أبي طالب ".
وذكره الصفدي في " الوافي " 2 / 164 وقال: قرأته عليه من أوله إلى آخره.
وذكره ابن شاكر في " عيون التواريخ " الورقة 86.
(2) أخرجه أبو نعيم في " الحلية " 1 / 91 من طريقه، عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى.(1/60)
عُمَيْرُ بنُ جُرْمُوْزٍ، وفَضَالَةُ بنُ حَابِسٍ، وَرَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: نُفَيْعٌ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى لَقَوْهُ مُقْبِلاً مَعَ النَّعِرِ (1) وَهُمْ فِي طَلَبِهِ، فَأَتَاهُ عُمَيْرٌ مِنْ خَلْفِهِ، وَطَعَنَهُ طَعْنَةً ضَعِيْفَةً، فَحَمَلَ عَلَيْهِ الزُّبَيْرُ، فَلَمَّا اسْتَلْحَمَهُ وَظَنَّ أَنَّهُ قَاتِلُهُ، قَالَ:
يَا فَضَالَةُ! يَا نُفَيْعُ!
قَالَ: فَحَمَلُوا عَلَى الزُّبَيْرِ حَتَّى قَتَلُوْهُ (2) .
عُبَيْدُ اللهِ بنُ مُوْسَى: حَدَّثَنَا فُضَيلُ (3) بنُ مَرْزُوْقٍ، حَدَّثَنِي شقِيْقُ (4) بنُ عُقْبَةَ، عَنْ قُرَّةَ بنِ الحَارِثِ، عَنْ جونِ بنِ قتَادَةَ، قَالَ:
كُنْتُ مَعَ الزُّبَيْرِ يَوْمَ الجَمَلِ، وَكَانُوا يُسَلِّمُوْنَ عَلَيْهِ بِالإِمْرَةِ، إِلَى أَنْ قَالَ:
فَطَعَنَهُ ابْنُ جُرْمُوْزٍ ثَانِياً، فَأَثْبَتَهُ، فَوَقَعَ، وَدُفِنَ بِوَادِي السِّبَاعِ، وَجَلَسَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَبْكِي عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ (5) .
قُرَّةُ بنُ حَبِيْبٍ: حَدَّثَنَا الفَضْلُ بنُ أَبِي الحَكَمِ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، قَالَ:
جِيْءَ بِرَأَسِ الزُّبَيْرِ إِلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ عَلِيٌّ:
تَبَوَّأْ يَا أَعْرَابِيُّ مَقْعَدَكَ مِنَ النَّارِ، حَدَّثَنِي رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ قَاتِلَ الزُّبَيْرِ فِي النَّارِ (6) .
__________
(1) تحرفت في المطبوع إلى " النهر ".
(2) أخرجه الفسوي في " المعرفة والتاريخ " 3 / 311 - 312، وذكره الحافظ في " المطالب العالية " (4466) .
وانظر الطبري 4 / 498 - 499.
(3) تحرفت في المطبوع إلى " فضل ".
(4) هو شقيق بن عقبة الضبي، مترجم في " التهذيب " وفروعه، وهو من رجال مسلم، وقد تحرف في " طبقات ابن سعد " وفي المطبوع إلى " سفيان ".
(5) رجاله ثقات.
وهو في " الطبقات " 3 / 111
(6) الفضل بن أبي الحكم روى عنه غير واحد.
وقال أبو حاتم: شيخ بصري.
وذكره ابن حبان في الثقات.
وباقي رجال الإسناد ثقات.
وانظر " البداية " لابن كثير 7 / 250.
وروى الطيالسي 2 / 145 وابن سعد 3 / 1 / 73 كلاهما: عن عاصم، عن زر قال: استأذن قاتل الزبير على علي.
قال علي: والله ليدخلن قاتل ابن صفية النار.
إني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: " إن لكل نبي حواريا وحواري الزبير " وسنده حسن.
وصححه الحاكم 3 / 367 ووافقه الذهبي.(1/61)
شُعْبَةُ: عَنْ مَنْصُوْرِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يَقُوْلُ:
أَدْرَكْتُ خَمْسَ مَائَةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ، يَقُوْلُوْنَ:
عَلِيٌّ، وَعُثْمَانُ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ فِي الجَنَّةِ.
قُلْتُ: لأَنَّهُم مِنَ العَشْرَةِ المَشْهُوْدِ لَهُم بِالجَنَّةِ، وَمِنَ البَدْرِيِّيْنَ، وَمِنْ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، وَمِنَ السَّابِقِيْنَ الأَوَّلِيْنَ الَّذِيْنَ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ رَضِيَ عَنْهُم وَرَضُوْا عَنْهُ، وَلأَنَّ الأَرْبَعَةَ قُتِلُوا وَرُزِقُوا الشَّهَادَةَ، فَنَحْنُ مُحِبُّوْنَ لَهُم، بَاغِضُوْنَ لِلأَرْبَعَةِ الَّذِيْنَ قَتَلُوا الأَرْبَعَةَ.
أَبُو أُسَامَةَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ:
لَقِيْتُ يَوْمَ بَدْرٍ عُبَيْدَةَ بنَ سَعِيْدِ بنِ العَاصِ وَهُوَ مُدَجَّجٌ لاَ يُرَى إِلاَّ عَيْنَاهُ، وَكَانَ يُكْنَى أَبَا ذَاتِ الكَرِشِ، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ بِالعَنَزَةِ (1) ، فَطَعَنْتُهُ فِي عَيْنِهِ، فَمَاتَ.
فَأُخْبِرْتُ أَنَّ الزُّبَيْرَ قَالَ: لَقَدْ وَضَعْتُ رِجْلِي عَلَيْهِ، ثُمَّ تَمَطَّيْتُ، فَكَانَ الجهدَ أَنْ نَزَعْتُهَا -يَعْنِي: الحَرْبَةَ- فَلَقَدِ انْثَنَى طَرَفُهَا.
قَالَ عُرْوَةُ: فَسَأَلَهُ إِيَّاهَا رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، فَلَمَّا قُبِضَ، أَخَذَهَا، ثُمَّ طَلَبَهَا أَبُو بَكْرٍ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، فَلَمَّا قُبِضَ أَبُو بَكْرٍ، سَألَهَا عُمَرُ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، فَلَمَّا قُبضَ عُمَرُ، أَخَذَهَا، ثُمَّ طَلَبَهَا عُثْمَانُ مِنْهُ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، فَلَمَّا قُبِضَ (2) وَقَعَتْ عِنْدَ آلِ عَلِيٍّ، فَطَلَبَهَا عَبْدُ اللهِ بنُ الزُّبَيْرِ، فَكَانَتْ عِنْدَهُ حَتَّى قُتِلَ (3) .
غَرِيْبٌ، تَفَرَّدَ بِهِ: البُخَارِيُّ.
ابْنُ المُبَارَكِ: أَنْبَأَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيْهِ:
أَنَّ أَصْحَابَ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
__________
(1) سقطت من المطبوع لفظة " عنزة ".
(2) في البخاري " فلما قتل عثمان ".
(3) أخرجه البخاري (3998) في المغازي: باب (12) والزيادات منه.(1/62)
قَالُوا لِلزُّبَيْرِ: أَلاَ تَشُدُّ فَنَشُدُّ مَعَكَ؟
قَالَ: إِنِّي إِنْ شَدَدْتُ كَذَّبْتُم.
فَقَالُوا: لاَ نَفْعَلُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِم حَتَّى شَقَّ صُفُوْفَهُم، فَجَاوَزَهُمْ وَمَا مَعَهُ أَحَدٌ، ثُمَّ رَجَعَ مُقْبِلاً، فَأَخَذُوا بِلِجَامِهِ، فَضَرَبُوْهُ ضَرْبَتَيْنِ: ضَرْبَةً عَلَى عَاتِقِهِ، بَيْنَهُمَا ضَرْبَةٌ ضُرِبَهَا يَوْم بَدْرٍ.
قَالَ عُرْوَةُ: فَكُنْتُ أُدْخِلُ أَصَابِعِي فِي تِلْكَ الضَّرَبَاتِ أَلْعَبُ وَأَنَا صَغِيْرٌ.
قَالَ: وَكَانَ مَعَهُ عَبْدُ اللهِ بنُ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِيْنَ، فَحَمَلَهُ عَلَى فَرَسٍ، وَوَكَّلَ بِهِ رَجُلاً (1) .
قُلْتُ: هَذِهِ الوَقْعَةُ هِيَ يَوْمُ اليَمَامَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ، فَإِنَّ عَبْدَ اللهِ كَانَ إِذْ ذَاكَ ابْنَ عَشْرِ سِنِيْنَ.
أَبُو بَكْرِ بنِ عَيَّاشٍ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، عَنِ الحَسَنِ قَالَ:
لَمَّا ظَفرَ عَلِيٌّ بِالجَمَلِ، دَخَلَ الدَّارَ، وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَقَالَ عَلِيّ:
إِنِّي لأَعْلَمُ قَائِدَ فِتْنَةٍ دَخَلَ الجَنَّةَ، وَأَتْبَاعُهُ إِلَى النَّارِ.
فَقَالَ الأَحْنَفُ: مَنْ هُوَ؟
قَالَ: الزُّبَيْرُ.
فِي إِسْنَادِهِ إِرْسَالٌ، وَفِي لَفْظِهِ نَكَارَةٌ، فَمَعَاذَ الله أَنْ نَشْهَدَ عَلَى أَتْبَاعِ الزُّبَيْرِ، أَوْ جُنْدِ مُعَاوِيَةَ، أَوْ عَلِيٍّ، بِأَنَّهُمْ فِي النَّارِ، بَلْ نُفَوِّضُ أَمْرَهُمْ إِلَى اللهِ، وَنَسْتَغْفِرُ لَهُمْ، بَلَى: الخَوَارِجُ كِلاَبُ النَّارِ، وَشَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيْمِ السَّمَاءِ، لأَنَّهُمْ مَرَقُوا مِنَ الإِسْلاَمِ، ثُمَّ لاَ نَدْرِيْ مَصِيْرَهُمْ إِلَى مَاذَا، وَلاَ نَحْكُمُ عَلَيْهِم بِخُلُوْدِ النَّارِ، بَلْ نَقِفُ.
وَلِبَعْضِهِم:
إِنَّ الرَّزِيَّةَ مَنْ تَضَمَّنَ قَبْرُهُ ... وَادِي السِّبَاعِ لِكُلِّ جَنْبٍ مَصْرَعُ
__________
(1) أخرجه البخاري (3975) في المغازي: باب قتل أبي جهل.(1/63)
لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ ... سُوْرُ المَدِيْنَةِ وَالجِبَالُ الخُشَّعُ (1)
قَالَ البُخَارِيُّ، وَغَيْرُهُ: قُتِلَ فِي رَجَبٍ، سَنَةَ سِتٍّ وَثَلاَثِيْنَ.
وَادِي السِّبَاعِ: عَلَى سَبْعَةِ فَرَاسِخَ مِنَ البَصْرَةِ.
قَالَ الوَاقِدِيُّ، وَابْنُ نُمَيْرٍ: قُتِلَ وَلَهُ أَرْبَعٌ وَسِتُّوْنَ سَنَةً.
وَقَالَ غَيْرُهُمَا: قِيْلَ: وَلَهُ بِضْعٌ وَخَمْسُوْنَ سَنَةً، وَهُوَ أَشْبَهُ.
قَالَ القَحْذَمِيُّ: كَانَتْ تَحْتَهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، وَعَاتِكَةُ أُخْتُ سَعِيْدِ بنِ زَيْدٍ، وَأُمُّ خَالِدٍ بِنْتُ خَالِدِ بنِ سَعِيْدٍ، وَأُمُّ مُصْعَبٍ الكَلْبِيَّةُ.
قَالَ ابْنُ المَدِيْنِيِّ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ يَقُوْلُ: جَاءَ ابْنُ جُرْمُوْزَ إِلَى مُصْعَبِ بنِ الزُّبَيْرِ -يَعْنِي: لَمَّا وَلِيَ إِمْرَةَ العِرَاقِ لأَخِيْهِ الخَلِيْفَةِ عَبْدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ- فَقَالَ: أَقِدْنِي بِالزُّبَيْرِ.
فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ يُشَاوِرُ ابْنَ الزُّبَيْرِ.
فَجَاءهُ الخَبَرُ: أَنَا أَقْتُلُ ابْنَ جُرْمُوْزٍ بِالزُّبَيْرِ؟ وَلاَ بِشِسْعِ نَعْلِهِ.
قُلْتُ: أَكَلَ المُعَثَّرُ يَدَيْهِ نَدَماً عَلَى قَتْلِهِ، وَاسْتَغْفَرَ لاَ كَقَاتِلِ طَلْحَةَ، وَقَاتِلِ عُثْمَانَ، وَقَاتِلِ عَلِيٍّ.
الزُّبَيْرُ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بنُ صَالِحٍ، عَنْ عَامِرِ بنِ صَالِحٍ، عَنْ مُسَالِمِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ:
أَنَّ عُمَيْرَ بنَ جُرْمُوْزٍ أَتَى حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِ مُصْعَبٍ، فَسَجَنَهُ، وَكَتَبَ إِلَى أَخِيْهِ فِي أَمْرِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَنْ بِئْسَ مَا صَنَعْتَ، أَظَنَنْتَ أَنِّي قَاتِلٌ أَعْرَابِياً بِالزُّبَيْرِ؟ خَلِّ سَبِيْلَهُ.
فَخَلاَّهُ، فَلَحِقَ بِقَصْرٍ بِالسَّوَادِ عَلَيْهِ
__________
(1) الابيات عند ابن سعد 3 / 1 / 79 ثلاثة.
وقد نسبها إلى جرير بن الخطفى.
وهي في ديوان جرير من قصيدة طويلة يهجو فيها الفرزدق.
ومطلعها: بان الخليط برامتين فودعوا * أوكلما رفعوا لبين تجزع انظر الديون 340 - 351.(1/64)
أَزَجٌ (1) ، ثُمَّ أَمَرَ إِنْسَاناً أَنْ يَطْرَحَهُ عَلَيْهِ، فَطَرَحَهُ عَلَيْهِ، فَقَتَلَهُ، وَكَانَ قَدْ كَرِهَ الحَيَاةَ لِمَا كَانَ يُهَوَّلُ عَلَيْهِ، وَيُرَى فِي مَنَامِهِ.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عُتْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيْهِ:
أَنَّ الزُّبَيْرَ تَرَكَ مِنَ العُرُوْضِ: بِخَمْسِيْنَ أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَمِنَ العَيْنِ: خَمْسِيْنَ أَلفِ أَلفِ دِرْهَمٍ (2) .
كَذَا هَذِهِ الرِّوَايَةُ.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ: اقْتُسِمَ مَالُ الزُّبَيْرِ عَلَى أَرْبَعِيْنَ أَلْفِ أَلْفٍ (3) .
أَبُو أُسَامَةَ: أَخْبَرَنِي هِشَامُ بنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ:
لَمَّا وَقَفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الجَمَلِ، دَعَانِي.
فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ:
يَا بُنَيَّ! إِنَّهُ لاَ يُقْتَلُ اليَوْمَ إِلاَّ ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُوْمٌ، وَإِنِّي لاَ أُرَانِي إِلاَّ سَأُقْتَلُ اليَوْمَ مَظْلُوْماً، وَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ هَمِّي لَدَيْنِي، أَفَتَرَى دَيْنَنَا يُبْقِي مِنْ مَالِنَا شَيْئاً؟
يَا بُنَيَّ! بِعْ مَا لَنَا، فَاقْضِ دَيْنِي، فَأُوْصِي بِالثُّلُثِ، وَثُلُثِ الثُّلُثِ إِلَى عَبْدِ اللهِ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْ مَالِنَا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ شَيْءٌ، فَثُلُثٌ لِوَلَدِكَ (4) .
قَالَ هِشَامٌ: وَكَانَ بَعْضُ وَلَدِ عَبْدِ اللهِ قَدْ وَازَى بَعْضَ بَنِي الزُّبَيْرِ: خُبَيْبٌ، وَعَبَّادٌ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ بَنَاتٍ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَجَعَلَ يُوصِيْنِي بِدَيْنِهِ، وَيَقُوْلُ: يَا بُنَيَّ! إِنْ عَجِزْتَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَاسْتَعِنْ بِمَوْلاَيَ.
قَالَ: فَوَاللهِ مَا دَرَيْتُ مَا عَنَى
__________
(1) الازج: بيت يبنى طولا.
وأزجته تأزيجا: إذا بنيته.
ويقال: الازج: السقف والجمع: آزاج.
مثل سبب وأسباب.
(2) رجاله ثقات.
(3) رجاله ثقات.
وأخرجه الحاكم 3 / 361، وابن سعد 3 / 1 / 77 من طريق: عبد الله بن مسلمة ابن قعنب، عن سفيان بن عيينة، قال: اقتسم ... وأخرجه الحاكم 3 / 361 من طريق: محمد بن إسحاق، حدثنا قتيبة بن سعيد، عن سفيان، عن مجالد، عن الشعبي، قال: اقتسم ... (4) كذا الأصل، ولفظه في " الطبقات ": يا بني بع ما لنا، واقض ديني، وأوص بالثلث فإن فضل من ما لنا من بعد قضاء الدين شيء فثلثه لولدك.
ورجاله ثقات.(1/65)
حَتَّى قُلْتُ: يَا أَبَةِ، مَنْ مَوْلاَكَ؟
قَالَ: اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-.
قَالَ: فَوَاللهِ (1) مَا وَقَعْتُ فِي كُرْبَةٍ مِنْ دَيْنِهِ، إِلاَّ قُلْتُ: يَا مَوْلَى الزُّبَيْرِ اقْضِ عَنْهُ، فَيَقْضِيَهُ.
قَالَ: وَقُتِلَ الزُّبَيْرُ، وَلَمْ يَدَعْ دِيْنَاراً وَلاَ دِرْهَماً، إِلاَّ أَرَضِيْنَ بِالغَابَةِ، وَدَاراً بِالمَدِيْنَةِ، وَدَاراً بِالبَصْرَةِ، وَدَاراً بِالكُوْفَةِ، وَدَاراً بِمِصْرَ.
قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ أَنَّ الرَّجُلَ يَجِيْءُ بِالمَالِ فَيَسْتَوْدِعُهُ، فَيَقُوْلُ الزُّبَيْرُ: لاَ، وَلَكِنْ هُوَ سَلَفٌ، إِنِّي أَخْشَى عَلَيْهِ الضَّيْعَةَ.
وَمَا وَلِيَ إِمَارَةً قَطُّ، وَلاَ جِبَايَةً، وَلاَ خَرَاجاً، وَلاَ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَكُوْنَ فِي غَزْوٍ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ.
فَحَسَبْتُ دَيْنَهُ، فَوَجَدْتُهُ أَلْفَي أَلْفٍ وَمَائَتَي أَلْفٍ.
فَلَقِيَ حَكِيْمُ بنُ حِزَامٍ الأَسَدِيُّ عَبْدَ اللهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي! كَمْ عَلَى أَخِي مِنَ الدَّيْنِ؟
فَكَتَمَهُ، وَقَالَ: مَائَةُ أَلْفٍ.
فَقَالَ حَكِيْمٌ: مَا أَرَى أَمْوَالَكُمْ تَتَّسِعُ لِهَذِهِ.
فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَتْ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمَائَتَيْ أَلفٍ؟
قَالَ: مَا أَرَاكُمْ تُطِيْقُونَ هَذَا، فَإِنْ عَجِزْتُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاسْتعِيْنُوا بِي.
وَكَانَ الزُّبَيْرُ قَدِ اشْتَرَى الغَابَةَ بِسَبْعِيْنَ وَمَائَةِ أَلْفٍ، فَبَاعَهَا عَبْدُ اللهِ بِأَلْفِ أَلْفٍ وَسِتِّ مَائَةِ أَلْفٍ.
وَقَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا بِالغَابَةِ.
فَأَتَاهُ عَبْدُ اللهِ بنُ جَعْفَرٍ، وَكَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ أَرْبَعُ مَائَةِ أَلْفٍ.
فَقَالَ لابْنِ الزُّبَيْرِ: إِنْ شِئْتَ تَرَكْتُهَا لَكُمْ.
قَالَ: لاَ.
قَالَ: فَاقْطَعُوا لِي قِطْعَةً.
قَالَ: لَكَ مِنْ هَاهُنَا إِلَى هَاهُنَا.
قَالَ: فَبَاعَهُ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ.
قَالَ: وَبَقِيَ مِنْهَا أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ، فَقَالَ المُنْذِرُ بنُ الزُّبَيْرِ:
قَدْ أَخَذْتُ سَهْماً بِمَائَةِ أَلْفٍ.
وَقَالَ عَمْرُو بنُ عُثْمَانَ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْماً بِمَائَةِ أَلْفٍ.
وَقَالَ ابْنُ رَبِيْعَةَ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْماً بِمَائَةِ أَلْفٍ.
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: كَمْ بَقِيَ؟
قَالَ: سَهْمٌ وَنِصْفٌ.
قَالَ: قَدْ أَخَذْتُ بِمَائَةٍ وَخَمْسِيْنَ أَلفاً.
قَالَ: وَبَاعَ ابْنُ جَعْفَرٍ نَصِيْبَهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِسِتِّ مَائَةِ أَلْفٍ.
فَلَمَّا فَرَغَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ، قَالَ بَنُو الزُّبَيْرِ: اقْسِمْ بَيْنَنَا مِيْرَاثَنَا.
قَالَ: لاَ وَاللهِ،
__________
(1) " قال: فوالله " سقطت من المطبوع.(1/66)
حَتَّى أُنَادِي بِالمَوْسِمِ أَرْبَعَ سِنِيْنَ: أَلاَ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا، فَلْنَقْضِهِ.
فَجَعَلَ كُلَّ سَنَةٍ يُنَادِي بِالمَوْسِمِ، فَلَمَّا مَضَتْ أَرْبَعُ سِنِيْنَ قَسَمَ بَيْنَهُمْ.
فَكَانَ لِلزُّبَيْرِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، قَالَ: فَرَفَعَ الثُّلُثَ، فَأَصَابَ كُلَّ امْرَأةٍ أَلْفَ أَلْفٍ وَمَائَةَ أَلْفٍ، فَجَمِيْعُ مَالِهِ خَمْسُوْنَ أَلْفَ أَلْفٍ (1) وَمَائِتَا أَلْفٍ (2) .
لِلزُّبَيْرِ فِي (مُسْنَدِ بَقِيِّ بنِ مَخْلَدٍ) ثَمَانِيَةٌ وَثَلاَثُوْنَ حَدِيْثاً، مِنْهَا فِي (الصَّحِيْحَيْنِ) حَدِيْثَانِ، وَانْفَرَدَ البُخَارِيُّ بِسَبْعَةِ أَحَادِيْثَ.
قَالَ هِشَامٌ: عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ:
بَلَغَ حِصَّةُ عَاتِكَةَ بِنْتِ زَيْدِ بنِ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ، زَوْجَةِ الزُّبَيْرِ مِنْ مِيْرَاثِهِ: ثَمَانِيْنَ أَلْفَ دِرْهَمٍ.
وَقَالَتْ تَرْثِيْهِ:
غَدَرَ ابْنُ جُرْمُوْزٍ بِفَارِسِ بُهْمَةٍ ... يَوْمَ اللِّقَاءِ وَكَانَ غَيْرَ مُعَرِّدِ
يَا عَمْرُو لَوْ نَبَّهْتَهُ لَوَجَدْتَهُ ... لاَ طَائِشاً رَعشَ البَنَانِ وَلاَ اليَدِ
ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ إِنْ ظَفِرْتَ بِمِثْلِهِ ... فِيْمَا مَضَى مِمَّا تَرُوْحُ وَتَغْتَدِي
كَمْ غَمْرَةٍ قَدْ خَاضَهَا لَمْ يَثْنِهِ ... عَنْهَا طِرَادُكَ يَا ابْنَ فَقْعِ الفَدْفَدِ
وَاللهِ رَبِّكَ إِنْ قَتَلْتَ لَمُسْلِماً ... حَلَّتْ عَلَيْكَ عُقُوْبَةُ المُتَعَمِّدِ (3)
__________
(1) سقط من المطبوع لفظ " ألف " الثانية.
(2) أخرجه البخاري بطوله (3129) في فرض الخمس، باب: بركة الغازي بماله حيا وميتا، مع خلاف يسير في بعض ألفاظه.
وانظر ابن سعد 3 / 1 / 75 - 76، و" الحلية " 1 / 91.
(3) الابيات في " الطبقات " لابن سعد 3 / 1 / 79.
وانظر " التصريح " 1 / 231، والعيني 2 / 278، وابن يعيش 8 / 71 - 72، و" شرح الاشموني " 1 / 145، و" أوضح المسالك " 2 / 264، وابن عقيل 1 / 382 و" الخزانة " 4 / 348، و" الهمع " 1 / 142، و" الدرر " 1 / 119، و" الحماسة " 3 / 71 ورواية البيت الأخير فيه " ثكلتك أمك إن قتلت "، القرطبي 2 / 421.
والبهمة: بضم الموحدة وسكون الهاء: الشجاع، وقيل: هو الفارس الذي لا يدرى من أين يؤتي له من شدة بأسه.
واللقاء: الحرب لأنه تتلاقى فيها الابطال.
والمعرد: اسم فاعل من عرد تعريدا بمهملات: إذا فر وهرب.
وطاش يطيش: إذا خف عقله من دهشة وخوف.
رعش: بكسر العين المهملة وصف من رعش - كفرح ومنع - رعشا ورعشانا: أخذته الرعدة.
الغمرة: بالفتح: الشدة.
الفقع: بفتح الفاء وكسرها وسكون =(1/67)
4 - عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفِ بنِ عَبْدِ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ * (ع)
ابْنِ عَبْدِ بنِ الحَارِثِ بنِ زُهْرَةَ بنِ كِلاَبِ بنِ مُرَّةَ بنِ كَعْبِ بنِ لُؤَيٍّ، أَبُو مُحَمَّدٍ.
أَحَدُ العَشْرَةِ، وَأَحَدُ السِّتَّةِ أَهْلِ الشُّوْرَى، وَأَحَدُ السَّابِقِيْنَ البَدْرِيِّيْنَ، القُرَشِيُّ، الزُّهْرِيُّ.
وَهُوَ أَحَدُ الثَّمَانِيَةِ الَّذِيْنَ بَادَرُوا إِلَى الإِسْلاَمِ.
لَهُ عِدَّةُ أَحَادِيْثَ.
رَوَى عَنْهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَنَسُ بنُ مَالِكٍ، وَبَنُوهُ: إِبْرَاهِيْمُ، وَحُمَيْدٌ، وَأَبُو سَلَمَةَ، وَعَمْرٌو، وَمُصْعَبٌ بَنُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمَالِكُ بنُ أَوْسٍ، وَطَائِفَةٌ سِوَاهُم.
لَهُ فِي (الصَّحِيْحَيْنِ) حَدِيْثَانِ، وَانْفَرَدَ لَهُ البُخَارِيُّ بِخَمْسَةِ
__________
= القاف نوع أبيض من ردئ الكمأة.
الفدفد: الأرض المستوية.
وفقع الفدفد مثل للذليل.
وقال الكرماني: أشارت بقولها: " عقوبة المتعمد " إلى قوله تعالى (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها، وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما) [النساء: 93] وقال غيره: عقوبة المتعمد: أن يقتل قصاصا.
(*) مسند أحمد: 1 / 190 - 195، طبقات ابن سعد: 3 / 1 / 87 - 97، نسب قريش: 265، 448، طبقات خليفة: 15، تاريخ خليفة: 166، التاريخ الكبير: 5 / 240، التاريخ الصغير: 1 / 50، 51، 60، 61، المعارف: 235 - 240، الجرح والتعديل: 5 / 247، مشاهير علماء الأمصار: ت: 12، البدء والتاريخ: 5 / 86، ومعجم الطبراني الكبير: 1 / 88 - 99، المستدرك للحاكم: 3 / 306، 312، حلية الأولياء: 1 / 98 - 100، الاستيعاب: 6 / 68 - 84، الجمع بين رجال الصحيحين: 281، صفوة الصفوة: 1 / 135، جامع الأصول: 9 / 19 - 20، ابن عساكر: 12 / 54 / 2، أسد الغابة: 3 / 480 - 485، تهذيب الأسماء واللغات: 1 / 300 - 302، الرياض النضرة: 2 / 281، تهذيب الكمال: 810، دول الإسلام: 1 / 26، تاريخ الإسلام: 2 / 105، العبر: 1 / 33، العقد الثمين: 5 / 396 - 398، تهذيب التهذيب: 6 / 244، الإصابة: 6 / 311 - 313، خلاصة تذهيب الكمال: 232، تاريخ الخميس: 2 / 257، كنز العمال: 13 / 220 - 230، شذرات الذهب: 1 / 38.(1/68)
أَحَادِيْثَ.
وَمَجْمُوْعُ مَا لَهُ فِي (مُسْنَدِ بَقِيٍّ) : خَمْسَة وَسِتُّوْنَ حَدِيْثاً.
وَكَانَ اسْمُهُ فِي الجَاهِلِيَّةِ: عَبْدُ عَمْرٍو.
وَقِيْلَ: عَبْدُ الكَعْبَةِ، فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: عَبْدُ الرَّحْمَنِ (1) .
وَحَدَّثَ عَنْهُ أَيْضاً مِنَ الصَّحَابَةِ: جُبَيْرُ بنُ مُطْعِمٍ، وَجَابِرُ بنُ عَبْدِ اللهِ، وَالمِسْوَرُ بنُ مَخْرَمَةٍ، وَعَبْدُ اللهِ بنُ عَامِرِ بنِ رَبِيْعَةَ.
وَقَدِمَ الجَابِيَةَ مَعَ عُمَرَ (2) ، فَكَانَ عَلَى المَيْمَنَةِ، وَكَانَ فِي نَوْبَةِ سَرْغٍ عَلَى المَيْسَرَةِ.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ حَازِمِ بنِ حَامِدٍ، وَمُحَمَّدُ بنُ عَلِيِّ بنِ فَضْلٍ، قَالاَ:
أَنْبَأَنَا أَبُو القَاسِمِ بنُ صَصْرَى، أَنْبَأَنَا أَبُو القَاسِمِ بنُ الْبن الأَسَدِيُّ (ح) .
وَأَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَلِيٍّ السُّلَمِيُّ، وَأَحْمَدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصُّوْرِيُّ، قَالاَ:
أَنْبَأَنَا أَبُو القَاسِمِ الحُسَيْنُ بنُ هِبَةِ اللهِ التَّغْلِبِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو القَاسِمِ بنُ الْبن، وَنَصْرُ بنُ أَحْمَدَ السُّوْسِيُّ، قَالاَ:
أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيٍّ الفَقِيْهُ، أَنْبَأَنَا أَبُو مَنْصُوْرٍ مُحَمَّدٌ، وَأَبُو عَبْدِ اللهِ أَحْمَدُ، أَنْبَأَنَا الحُسَيْنُ بنُ سَهْلِ بنِ الصَّبَاحِ بِبَلَدٍ (3) فِي رَبِيْعٍ الآخَرِ، سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِيْنَ وَأَرْبَعِ مَائَةٍ، قَالاَ:
حَدَّثَنَا أَبُو العَبَّاسِ أَحْمَدُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ بنِ أَحْمَدَ الإِمَامُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بنُ حَرْبٍ الطَّائِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بنِ دِيْنَارٍ، سَمِعَ بَجَالَةَ يَقُوْلُ: كُنْتُ كَاتِباً لِجُزْءِ بنِ مُعَاوِيَةَ، عَمِّ الأَحْنَفِ بنِ قَيْسٍ، فَأَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ: أَنِ اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ، وَفَرِّقُوا
__________
(1) انظر الطبراني (253) والحاكم 3 / 306، وابن سعد 3 / 1 / 88.
(2) تصحفت في المطبوع إلى " عمرو ".
(3) " بلد " مدينة قديمة على دجلة فوق الموصل، بينهما سبعة فراسخ.
ويقال: بلط. وإليها ينسب عدد كبير من العلماء. " معجم البلدان " 1 / 481.(1/69)
بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنَ المَجُوْسِ، وَانْهُوْهُمْ عَنِ الزَّمْزَمَةِ.
فَقَتَلْنَا ثَلاَثَ سَوَاحِرَ، وَجَعَلْنَا نُفَرِّقُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَحَرِيْمَتِهِ فِي كِتَابِ اللهِ، وَصَنَعَ لَهُمْ طَعَاماً كَثِيْراً، وَدَعَا المَجُوْسَ، وَعَرَضَ السَّيْفَ عَلَى فَخِذِهِ، وَأَلْقَى وِقْرَ بَغْلٍ أَوْ بَغْلَيْنِ مِنْ وَرِقٍ، وَأَكَلُوا بِغَيْرِ زَمْزَمَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الجِزْيَةَ مِنَ المَجُوسَ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخَذَهَا مِنْ مَجُوْسِ هَجَرٍ (1) .
هَذَا حَدِيْثٌ غَرِيْبٌ، مُخَرَّجٌ فِي (صَحِيْحِ البُخَارِيِّ) ، وَ (سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ) ، وَ (النَّسَائَيِّ) ، وَ (التِّرْمِذِيِّ) ، مِنْ طَرِيْقِ سُفْيَانَ، فَوَقَعَ لَنَا بَدَلاً (2) .
وَرَوَاهُ: حَجَّاجُ بنُ أَرْطَاةَ، عَنْ عَمْرٍو مُخْتَصَراً.
وَرَوَى مِنْهُ أَخْذَ الجِزْيَةِ مِنَ المَجُوْسِ: أَبُو دَاوُدَ (3) ، عَنِ الثِّقَةِ، عَنْ يَحْيَى بنِ حَسَّانٍ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ دَاوُدَ بنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ قُشَيْرِ بنِ عَمْرٍو، عَنْ بَجَالَةَ بنِ عَبَدَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَوْفٍ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ أَحْمَدَ العَلَوِيُّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ القَطِيْعِيُّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بنُ عُبَيْدِ اللهِ المُجَلِّدُ (ح) .
وَأَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بنُ إِسْحَاقَ الزَّاهِدُ، أَنْبَأَنَا أَبُو نَصْرٍ عُمَرُ بنُ مُحَمَّدٍ التَّيْمِيُّ، أَنْبَأَنَا هِبَةُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ الشِّبْلِيُّ، قَالاَ:
أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدٍ الهَاشِمِيُّ (4) ، أَنْبَأَنَا أَبُو طَاهِرٍ المُخَلِّصُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ البَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ، حَدَّثَنَا القَاسِمُ بنُ فَضْلٍ الحُدَّانِيُّ، عَنِ النَّضْرِ بنِ شَيْبَانَ قَالَ:
قُلْتُ لأَبِي سَلَمَةَ، حَدِّثْنِي بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ أَبِيْكَ، يُحَدِّثُ بِهِ عَنْ
__________
(1) أخرجه أحمد 1 / 190 - 191، والشافعي 2 / 126 وأبو عبيد في " الاموال " ص: (32) والبخاري (3156) في الجزية و (3157) فيه مختصرا. وأبو داود (3043) في الخراج والامارة
والفئ: باب في أخذ الجزية من المجوس.
والترمذي (1586) في السير: باب ما جاء في أخذ الجزية من المجوس.
(2) البدل: هو الوصول إلى شيخ شيخ أحد المصنفين من غير طريقه.
(3) (3044) في الخراج: باب الجزية.
(4) سقط من المطبوع، من قوله: " أنبأنا أبو نصر إلى قوله: الهاشمي ".(1/70)
رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ قَالَ:
قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فَرَضَ اللهُ (1) عَلَيْكُمْ شَهَرَ رَمَضَانَ، وَسَنَنْتُ لَكُمْ قِيَامَهُ، فَمَنْ صَامَهُ وَقَامَهُ إِيْمَاناً وَاحْتِسَاباً خَرَجَ مِنَ الذُّنُوبِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ (2)) .
هَذَا حَدِيْثٌ حَسَنٌ غَرِيْبٌ.
أَخْرَجَهُ: النَّسَائَيُّ، عَنِ ابْنِ رَاهَوَيْه، عَنِ النَّضْرِ بنِ شُمَيْلٍ، وَابْنُ مَاجَه، عَنْ يَحْيَى بنِ حَكِيْمٍ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، جَمِيْعاً عَنِ الحُدَّانِيِّ.
قَالَ النَّسَائَيُّ: الصَّوَابُ حَدِيْثُ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ السَّلاَمِ العَصْرُوْنِيُّ (3) ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ المُعِزِّ بنُ مُحَمَّدٍ الهَرَوِيُّ، أَنْبَأَنَا تَمِيْمٌ الجُرْجَانِيُّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّيْسَابُورِيُّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ الحِيْرِيُّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بنُ عَلِيٍّ المَوْصِلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، حَدَّثَنَا يَعْقُوْبُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي مَكْحُوْلٌ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَلَسْنَا مَعَ عُمَرَ فَقَالَ: هَلْ
__________
(1) سقط لفظ الجلالة من الأصل.
(2) أخرجه أحمد 1 / 191، 195، والنسائي 4 / 158 في الصيام، وابن ماجه (1328) في الاقامة: باب ما جاء في قيام رمضان.
والطيالسي 1 / 181.
(3) في الأصل: " العصروي ".
ترجمة المؤلف في مشيخته فقال: " محمد بن عبد السلام بن المطهر، ابن العلامة قاضي القضاة أبي سعيد عبد الله بن محمد بن هبة الله بن أبي عصرون الامام، المدرس، الجليل، المعمر، المسند، تاج الدين أبو عبد الله بن أبي الفضل التميمي، الحلبي، ثم الدمشقي، الشافعي.
مدرس الشافعية الصغرى.
كان خيرا، متواضعا، لطيفا، فيه عامية إلا أنه يورد درسه بحروفه إيرادا حسنا.
سمعت منه عدة أجزاء.
مولده بحلب في المحرم، سنة عشر وست مئة.
ومات في ربيع الأول سنة خمس وتسعين ".(1/71)
سَمِعْتَ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَيْئاً أَمَرَ بِهِ المَرْءَ المُسْلِمَ إِذَا سَهَا فِي صَلاَتِهِ كَيْفَ يَصْنَعُ؟
فَقُلْتُ: لاَ وَاللهِ، أَوَ مَا سَمِعْتَ أَنْتَ يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ فِي ذَلِكَ شَيْئاً؟
فَقَالَ: لاَ وَاللهِ.
فَبَيْنَا نَحْنُ فِي ذَلِكَ، أَتَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ فَقَالَ: فِيْمَ أَنْتُمَا؟
فَقَالَ عُمَرُ: سَأَلْتُهُ، فَأَخْبَرَهُ.
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَكِنِّي قَدْ سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْمُرُ فِي ذَلِكَ.
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَأَنْتَ عِنْدَنَا عَدْلٌ، فَمَاذَا سَمِعْتَ؟
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُوْلُ: (إِذَا سَهَا أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ حَتَّى لاَ يَدْرِي أَزَادَ أَمْ نَقَصَ، فَإِنْ كَانَ شَكَّ فِي الوَاحِدَةِ وَالثِّنْتَيْنِ، فَلْيَجْعَلْهَا وَاحِدَةً، وَإِذَا شَكَّ فِي الثِّنْتَيْنِ أَوِ الثَّلاَثِ، فَلْيَجْعَلْهَا ثِنْتَيْنِ، وَإِذَا شَكَّ فِي الثَّلاَثِ وَالأَرْبَعِ، فَلْيَجْعَلْهَا ثَلاَثاً، حَتَّى يَكُوْنَ الوَهْمُ فِي الزِّيَادَةِ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ يُسَلِّمُ (1)) .
هَذَا حَدِيْثٌ حَسَنٌ.
صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ عَنْ: بُنْدَارٍ (2) ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ خَالِدِ بنِ عَثْمَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيْمَ بنِ سَعْدٍ، فَطَرِيْقُنَا أَعْلَى بِدَرَجَةٍ.
وَرَوَاهُ: الحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي صَدْرِ تَرْجَمَةِ ابْنِ عَوْفٍ، وَفِيْهِ:
فَقَالَ: فَحَدِّثْنَا، فَأَنْتَ عِنْدَنَا العَدْلُ الرِّضَا.
__________
(1) أخرجه أحمد 1 / 190، والترمذي (398) في الصلاة: باب ما جاء في الرجل يصلي فيشك في الزيادة والنقصان، وابن ماجه (1029) في الاقامة: باب ما جاء فيمن شك في صلاته، والحاكم 1 / 324 - 325، وصححه ووافقه الذهبي.
ورواه أحمد 1 / 195 من طريق أخرى بلفظ: " من صلى صلاة يشك في النقصان، فليصل حتى يشك في الزيادة " وفيه إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف، لكنه يتقوى بالطريق التي قبلها فيحسن.
وأخرج ابن حبان (533) من طريق عبد الله بن محمد، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، عن عبد العزيز بن محمد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: " إذا صلى أحدكم فلم يدر ثلاثا صلى أم أربعا، فليصل ركعة، وليسجد سجدتين قبل السلام.
فإن كانت خامسة شفعتها سجدتان، وإن كانت رابعة.
فالسجدتان ترغيم للشيطان ".
(2) هو محمد بن بشار، وقد تحريف في المطبوع. إلى " مقداد ".(1/72)
فَأَصْحَابُ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِنْ كَانُوا عُدُولاً، فَبَعْضُهُم أَعْدَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَأَثْبَتُ (1) ، فَهُنَا عُمَرُ قَنَعَ بِخَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَفِي قِصَّةِ الاسْتِئْذَانِ (2) يَقُوْلُ: ائْتِ بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ.
وَعَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ يَقُوْلُ: كَانَ إِذَا حَدَّثَنِي رَجُلٌ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اسْتَحْلَفْتُهُ، وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ (3) ، فَلَمْ يَحْتَجْ عَلِيٌّ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الصِّدِّيْقَ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
__________
(1) سقطت من المطبوع.
(2) أخرج أحمد 4 / 393، 398، 400، 403، 410، 417، والبخاري (6245) في الاستئذان: باب التسليم والاستئذان ثلاثا، ومسلم (2153) في الآداب: باب الاستئذان، وأبو داود (5180) و (5181) و (5182) و (5183) و (5184) في الأدب: باب كم مرة يسلم الرجل، والترمذي (2691) في الاستئذان: باب ما جاء في الاستئذان ثلاثا.
وابن ماجه (3706) في الأدب: باب الاستئذان، والدارمي 2 / 274 في الاستئذان: باب الاستئذان ثلاثا، واللفظ لمسلم، عن بسر بن سعيد، قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: كنت جالسا بالمدينة في مجلس الانصار، فأتانا أبو موسى فزعا - أو مذعورا - قلنا: ما شأنك؟ قال: إن عمر أرسل إلي أن آتيه، فأتيت
بابه، فسلمت ثلاثا فلم يرد علي، فرجعت.
فقال: ما منعك أن تأتينا؟ فقلت: إني أتيتك، فسلمت على بابك ثلاثا فلم يردوا علي، فرجعت.
وقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: " إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع ".
فقال عمر: أقم عليه البينة وإلا أو جعتك.
فقال أبي بن كعب: لا يقوم معه إلا أصغر القوم.
قال أبو سعيد: قلت: أنا أصغر القوم.
قال: فاذهب به.
وفي رواية أبي داود (5184) : فقال عمر لأبي موسى: أما إني لم أتهمك ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
(3) إسناده صحيح، أخرجه أحمد 1 / 2 / 10، وأبو داود (1521) في الصلاة: باب في الاستغفار، من طريق أبي عوانة، عن عثمان بن المغيرة الثقفي، عن علي بن ربيعة الأسدي، عن أسماء بن الحكم الفزاري، قال: سمعت عليا، رضي الله عنه، يقول: كنت رجلا إذا سمعت من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حديثا نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني.
وإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته فإذا حلف لي صدقته.
قال: وحدثني أبو بكر، وصدق أبو بكر، رضي الله عنه، أنه قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: " ما من عبد يذنب ذنبا فيحسن الطهور، ثم يقوم فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله إلا غفر له، ثم قرأ هذه الآية: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله) وتمامها: (فاستغفروا لذنوبهم، ومن يغفر الذنوب إلا الله، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) [آل عمران: 135] ، وأخرجه =(1/73)
قَالَ المَدَائِنِيُّ: وُلِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بَعْدَ عَامِ الفِيْلِ بِعَشْرِ سِنِيْنَ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ: وُلِدَ الحَارِثُ بنُ زُهْرَةَ عَبْداً، وَعَبْدُ اللهِ، وَأُمُّهُمَا: قَيْلَةُ.
وَمِنْ وَلَدِ عَبْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفِ بنِ عَبْدِ عَوْفٍ بنِ عَبْدٍ.
وَكَذَا نَسَبَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَأَسْقَطَ البُخَارِيُّ وَالفَسَوِيُّ (1) عَبْداً مِنْ نَسَبِهِ، وَقَالَهُ قَبْلَهُمَا عُرْوَةُ وَالزُّهْرِيُّ.
وَقَالَ الهَيْثَمُ الشَّاشِيُّ، وَأَبُو نَصْرٍ الكَلاَبَاذِيُّ، وَغَيْرُهُمَا: عَبْدُ عَوْفٍ بنُ عَبْدِ الحَارِثِ بنِ زُهْرَةَ.
وَأُمُّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: هِيَ الشِّفَاءُ بِنْتُ عَوْفِ بنِ عَبْدِ بنِ الحَارِثِ بنِ زُهْرَةَ.
قَالَهُ جَمَاعَةٌ.
وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ الحَاكِمُ: أُمُّهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ مَنَافٍ بنِ زُهْرَةَ بنِ كِلاَبٍ.
وَيُقَالُ: الشِّفَاءُ بِنْتُ عَوْفٍ.
إِبْرَاهِيْمُ بنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ قَالَ:
كَانَ اسْمِي عَبْدَ عَمْرٍو، فَلَمَّا أَسْلَمْتُ سَمَّانِي رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَبْدُ الرَّحْمَنِ (2) .
إِبْرَاهِيْمُ بنُ المُنْذِرِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيْزِ بنُ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيْدِ بنِ زِيَادٍ،
__________
= الترمذي (406) في الصلاة، و (3009) في التفسير: باب ومن سورة آل عمران.
وابن ماجه (1395) في الاقامة: باب ما جاء أن الصلاة كفارة، والطيالسي ص: (2) ، والطبري (7853) ، و (7854) ، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان وأخرجه (2454) ، وأبو بكر المروزي رقم 9، 10، 11.
وانظر " الدر المنثور " 2 / 77.
(1) تصحفت في المطبوع إلى " النسوي ".
(2) أخرجه الحاكم 3 / 306 وصححه، ووافقه الذهبي المؤلف.(1/74)
عَنْ حَسَنِ بنِ عُمَرَ، عَنْ سَهْلَةَ بِنْتِ عَاصِمٍ قَالَتْ:
كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ أَبْيَضَ، أَعْيَنَ، أَهَدَبَ الأَشْفَارِ، أَقْنَى، طَوِيْلَ النَّابَيْنِ الأَعْلَيَيْنِ، رُبَّمَا أَدْمَى نَابُهُ شَفَتَهُ، لَهُ جُمَّةٌ أَسْفَلَ مِنْ أُذُنَيْهِ، أَعْنَقَ، ضَخْمَ الكَتِفَيْنِ.
وَرَوَى: زِيَادٌ البَكَّائِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
كَانَ سَاقِطَ الثَّنِيَّتَيْنِ، أَهْتَمَ، أَعْسَرَ، أَعْرَجَ، كَانَ أُصِيْبَ يَوْمَ أُحُدٍ فُهُتِمَ، وَجُرِحَ عِشْرِيْنَ جِرَاحَةً، بَعْضُهَا فِي رِجْلِهِ فَعَرَجَ (1) .
الوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ جَعْفَرٍ، عَنْ يَعْقُوْبَ بنِ عُتْبَةَ، قَالَ:
وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ رَجُلاً طُوَالاً، حَسَنَ الوَجْهِ، رَقِيْقَ البَشْرَةِ، فِيْهِ جَنَأٌ أَبْيَضَ، مُشْرَباً حُمْرَةً، لاَ يُغَيِّرُ شَيْبَهُ (2) .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنَا صَالِحُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ:
كُنَّا نَسِيْرُ مَعَ عُثْمَانَ فِي طَرِيْقِ مَكَّةَ، إِذْ رَأَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ عَوْفٍ، فَقَالَ عُثْمَانُ: مَا يَسْتَطِيْعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْتَدَّ عَلَى هَذَا الشَّيْخِ فَضْلاً فِي الهِجْرَتَيْنِ جَمِيْعاً.
رَوَى نَحْوَهُ: العقدِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ حُمَيْدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنِ المِسْوَرِ بنِ مَخْرَمَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الحُسَيْنِ عَلِيِّ بنِ مُحَمَّدٍ، وَجَمَاعَةٌ قَالُوا:
أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، أَنْبَأَنَا أَبُو الوَقْتِ، أَنْبَأَنَا أَبُو الحَسَنِ الدَّاوُوْدِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بنِ حَمُّوْيَةَ، أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيْمُ بنُ خُزَيْمٍ، حَدَّثَنَا
__________
(1) أخرجه الحاكم 3 / 308، وفيه " إحدى وعشرون جراحة " والطبراني (261) ، وانظر " الإصابة " 6 / 313، وابن هشام 2 / 83.
(2) ابن سعد 3 / 1 / 94، والحاكم 3 / 308، و" الإصابة " 6 / 313 و" الاستيعاب " 6 / 75.
والجنأ: الحدب.(1/75)
عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ (1) ، أَنْبَأَنَا يَحْيَى بنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بنُ زَاذَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ:
أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ عَوْفٍ لَمَّا هَاجَرَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُثْمَانَ، كَذَا هَذَا.
فَقَالَ: إِنَّ لِي حَائِطَيْنِ، فَاخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ.
قَالَ: بَلْ دُلَّنِي عَلَى السُّوْقِ، إِلَى أَنْ قَالَ:
فَكَثُرَ مَالُهُ حَتَّى قَدِمَتْ لَهُ سَبْعُ مَائَةِ رَاحِلَةٍ تَحْمِلُ البُرَّ وَالدَّقِيْقَ وَالطَّعَامَ، فَلَمَّا دَخَلَتْ سُمِعَ لأَهْلِ المَدِيْنَةِ رَجَّةٌ، فَبَلَغَ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ:
سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُوْلُ: (عَبْدُ الرَّحْمَنِ لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ إِلاَّ حَبْواً) .
فَلَمَّا بَلَغَهُ، قَالَ: يَا أُمَّهْ! إِنِّي أُشْهِدُكِ أَنَّهَا بِأَحْمَالِهَا وَأَحْلاَسِهَا فِي سَبِيْلِ اللهِ (2) .
أَخْرَجَهُ: أَحْمَدُ فِي (مُسْنَدِهِ) ، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بنِ حَسَّانٍ، عَنْ عُمَارَةَ.
وَقَالَ: حَدِيْثٌ مُنْكَرٌ.
قُلْتُ: وَفِي لَفْظِ أَحْمَدَ، فَقَالَتْ:
سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُوْلُ: (قَدْ رَأَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ يَدْخُلُ الجَنَّةَ حَبْواً) .
فَقَالَ: إِنِ اسْتَطَعْتُ لأَدْخُلَنَّهَا قَائِماً، فَجَعَلَهَا بِأَقْتَابِهَا (3) وَأَحْمَالِهَا فِي سَبِيْلِ اللهِ.
أَخْبَرَنَا جَمَاعَةٌ كِتَابَةً، عَنْ أَبِي الفَرَجِ بنِ الجَوْزِيِّ، وَأَجَازَ لَنَا ابْنُ عَلاَّنَ وَغَيْرُهُ، أَنْبَأَنَا الكِنْدِيُّ، قَالاَ:
أَنْبَأَنَا أَبُو مَنْصُوْرٍ القَزَّازُ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الخَطِيْبُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ المُذْهِبِ، أَنْبَأَنَا القَطِيْعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا هُذَيْلُ بنُ مَيْمُوْن، عَنْ مُطَّرِحِ بنِ يَزِيْدَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ زَحْرٍ، عَنْ عَلِيِّ
__________
(1) سقط من المطبوع من قوله " أنبأنا أبو الوقت " إلى قوله " عبد بن حميد ".
(2) إسناده ضعيف لضعف عمارة بن زاذان.
وأخرجه أحمد 6 / 115 والطبراني (264) ، وابن سعد 3 / 1 / 93، وصاحب الحلية 1 / 98.
والاحلاس: جمع حلس.
وهو الكساء الذي يلي ظهر البعير تحت القتب.
(3) القتب: رحل صغير على قدر السنام.(1/76)
بنِ يَزِيْدَ، عَنِ القَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ:
قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (دَخَلْتُ الجَنَّةَ فَسَمِعْتُ خَشَفَةً، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟
قِيْلَ: بِلاَلٌ) .
إِلَى أَنْ قَالَ: (فَاسْتَبْطَأْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ عَوْفٍ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ الإِيَاسِ.
فَقُلْتُ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ؟
فَقَالَ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُوْلَ اللهِ! مَا خَلَصْتُ إِلَيْكَ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنِّي لاَ أَنْظُرُ إِلَيْكَ أَبَداً) .
قَالَ: (وَمَا ذَاكَ؟
قَالَ: مِنْ كَثْرَةِ مَالِي أُحَاسَبُ وَأُمَحَّصُ (1)) .
إِسْنَادُهُ وَاهٍ.
وَأَمَّا الَّذِي قَبْلَهُ، فَتَفَرَّدَ بِهِ: عمَارَةُ، وَفِيْهِ لِيْنٌ.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: يُكْتَبُ حَدِيْثُهُ (2) .
وَقَالَ ابْنُ معِيْنٍ: صَالِحٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: عِنْدِي لاَ بَأْسَ بِهِ.
قُلْتُ: لَمْ يَحْتَجَّ بِهِ النَّسَائَيُّ.
وَبِكُلِّ حَالٍ، فَلَوْ تَأَخَّرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ رِفَاقِهِ لِلْحِسَابِ وَدَخَلَ الجَنَّةَ حَبْواً عَلَى سَبِيْلِ الاسْتِعَارَةِ، وَضَرْبِ المَثَلِ، فَإِنَّ مَنْزِلَتَهُ فِي الجَنَّةِ لَيْسَتْ بِدُوْنِ مَنْزِلَةِ
__________
(1) الحديث بتمامه أخرجه أحمد 5 / 259 والنص: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " دخلت الجنة فسمعت فيها خشفة بين يدي.
فقلت: ما هذا؟ قال: بلال.
فمضيت، فإذا أكثر أهل الجنة فقراء المهاجرين، وذراري المسلمين ولم أر أحدا أقل من الاغنياء والنساء.
قيل لي: أما الاغنياء فهم ها هنا بالباب يحاسبون ويمحصون، وأما النساء فألهاهن الاحمران: الذهب والحرير.
قال: ثم خرجنا من أحد أبواب الجنة الثمانية.
فلما كنت عند الباب أتيت بكفة فوضعت فيها ووضعت أمتي في كفة فرجحت بها.
ثم أتي بأبي بكر، رضي الله عنه، فوضع في كفة وجئ بجميع أمتي في كفة فوضعوا، فرجح أبو بكر.
وجئ بعمر فوضع في كفة، وجئ بجميع أمتي فوضعوا فرجح عمر، رضي الله عنه، وعرضت أمتي رجلا رجلا فجعلوا يمرون، فاستبطأت عبد الرحمن بن عوف.
ثم جاء بعد الاياس.
فقلت: عبد الرحمن! فقال: بأبي وأمي يا رسول الله، والذي بعثك بالحق ما خلصت إليك حتى ظننت أني لا أنظر إليك أبدا إلا بعد المشيبات.
قال: وما ذاك؟ قال: من كثرة مالي أحاسب وأمحص ".
وإسناده ضعيف لضعف علي بن يزيد الالهاني.
(2) وتمامه كما في " الميزان ": " ولا يحتج به " وقال البخاري: ربما يضطرب في حديثه.
وقال أحمد: له مناكير.
وقال الدارقطني: ضعيف.
وقال أبو داود: ليس بذاك.
وقول ابن عدي: " لا بأس به " أنه يصلح للمتابعة لا أن حديثه مقبول إذا تفرد به.(1/77)
عَلِيٍّ وَالزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنِ الكُلِّ-.
وَمِنْ مَنَاقِبِهِ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَهِدَ لَهُ بِالجَنَّةِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ الَّذِيْنَ قِيْلَ لَهُم: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُم (1)) .
وَمِنْ أَهْلِ هَذِهِ الآيَةِ: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِيْنَ إِذْ يُبَايِعُوْنَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفَتْحُ: 18] .
وَقَدْ صَلَّى رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَاءهُ.
__________
(1) قطعة من حديث أخرجه أحمد 1 / 80، والبخاري (3007) في الجهاد، باب الجاسوس.
و (3081) فيه: باب إذا اضطر الرجل إلى النظر في شعور أهل الذمة و (3983) في المغازي: باب فضل من شهد بدرا، و (4274) فيه: باب: غزوة الفتح و (4890) في التفسير: باب لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء، و (6259) في الاستئذان، باب: من نظر في كتاب من يحذر على المسلمين ليستبين أمره و (6939) في استتابة المرتدين، باب: ما جاء في المتأولين.
ومسلم (2494) في الفضائل: باب من فضائل أهل بدر، وأبو داود (2650) في الجهاد: باب حكم الجاسوس إذا كان مسلما، والترمذي (3302) في التفسير: باب ومن سورة الممتحنة.
ونص الحديث للبخاري " عن علي ": بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبا مرثد والزبير، وكلنا فارس، قال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين فأدركناها تسير على بعير لها، حيث قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقلنا: الكتاب.
فقالت: ما معنا كتاب.
فأنخناها.
فالتمسنا فلم نر كتابا.
فقلنا ما كذب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لتخرجن الكتاب أو لنجردنك.
فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء فأخرجته.
فانطلقنا بها إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا رسول الله، قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلاضرب عنقه.
فقال النبي، صلى الله عليه وسلم، ما حملك على ما صنعت؟ قال حاطب: والله ما بي ألا أكون مؤمنا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم، صدق.
ولا تقولوا له إلا خيرا.
فقال عمر: إنه قد خان الله والمؤمنين فدعني فلاضرب عنقه.
فقال: أليس من أهل بدر؟ فقال: لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة.
أو فقد غفرت لكم.
فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم ".(1/78)
أَحْمَدُ فِي (المُسْنَدِ) : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيْلُ، حَدَّثَنَا أَيُّوْبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَمْرِو بنِ وَهْبٍ الثَّقَفِيِّ، قَالَ:
كُنَّا مَعَ المُغِيْرَةِ بنِ شُعْبَةَ، فَسُئِلَ: هَلْ أَمَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ غَيْرُ أَبِي بَكْرٍ؟
فَقَالَ: نَعَمْ، فَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ وَعِمَامَتِهِ، وَأَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ، وَأَنَا مَعَهُ، رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ، وَقَضَيْنَا الرَّكْعَةَ الَّتِي سُبِقْنَا (1) .
وَلِحُمَيْدٍ الطَّوِيْلِ نَحْوُهُ، عَنْ بَكْرِ بنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ حَمْزَةَ بن المُغِيْرَةِ، عَنْ أَبِيْهِ (2) .
إِبْرَاهِيْمُ بنُ سَعْدٍ: عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- انْتَهَى إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَأَرَادَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَنْ يَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَنْ مَكَانَكَ، فَصَلَّى، وَصَلَّى رَسُوْلُ اللهِ بِصَلاَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (3) .
__________
(1) أخرجه أحمد 4 / 249 - 250، 251، والنسائي 1 / 77 في الطهارة، باب كيف المسح على العمامة.
أخرجه مسلم (81) ، في الطهارة، من طريق: بكر بن عبد الله المزني، عن عروة بن المغيرة، عن المغيرة بن شعبة، وأخرجه أبو داود (151) من طريق عيسى بن يونس، عن أبيه عن الشعبي، عن عروة بن المغيرة بن شعبة عن المغيرة ... وأخرجه البخاري مختصرا (182) في الوضوء من طريق سعد بن إبراهيم، عن نافع بن جبير، عن عروة بن المغيرة، عن المغيرة بن شعبة، وفي (203) و (206) و (363) و (388) و (2918) و (4421) و (5798) و (5799) مختصرا في هذه المواضع كلها، وابن ماجه (545) في الطهارة مختصرا كالبخاري أيضا.
وابن سعد 3 / 1 / 91 مطولا، والحافظ في " الإصابة " 6 / 312 والطيالسي رقم (223) و (691) .
(2) أخرجه أحمد 4 / 248، وانب ماجه (1236) في الاقامة، باب: ما جاء في صلاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خلف رجل من أمته.
كلاهما من طريق حميد، عن بكر بن عبد الله، عن حمزة بن المغيرة بن شعبة عن أبيه ... وإسناده صحيح.
والفسوي 1 / 398 - 399.
وأخرجه مسلم (274) (81) في الطهارة: باب المسح على الناصية والعمامة، من طريق
حميد، عن بكر بن عبد الله المزني، عن عروة بن المغيرة، عن أبيه.
(3) ذكره الحافظ في " المطالب العالية " (415) ونسبه إلى أبي يعلى.(1/79)
وَرَوَى: الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي (المُسْنَدِ) ، عَنِ الهَيْثَمِ بنِ خَارِجَةَ، عَنْ رِشْدِيْنَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ الوَلِيْدِ:
سَمِعَ أَبَا سَلَمَةَ بنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيْهِ بِنَحْوِهِ (1) .
هِشَامٌ: عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الحَسَنِ، عَنِ المُغِيْرَةِ بنِ شُعْبَةَ بِمِثْلِ هَذَا.
وَرَوَاهُ: زُرَارَةُ بنُ أَوْفَى، عَنِ المُغِيْرَةِ:
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى خَلْفَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ.
وَجَاءَ عَنْ خُلَيْدِ بنِ دَعْلَجٍ، عَنِ الحَسَنِ، عَنِ المُغِيْرَةِ.
وَالحَسَنُ مُدَلِّسٌ، لَمْ يَسْمَعْ مِنَ المُغِيْرَةِ.
عِيْسَى بنُ يُوْنُسَ: عَنْ عُثْمَانَ بنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيْهِ (2) ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ:
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ عَوْفٍ فِي سَرِيَّةٍ، وَعَقَدَ لَهُ اللِّوَاءَ بِيَدِهِ (3) .
عُثْمَانُ: ضَعِيْفٌ، لَكِنْ رَوَى نَحْوَهُ: أَبُو ضَمْرَةَ، عَنْ نَافِعِ بنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ فَرْوَةَ بنِ قَيْسٍ، عَنْ عَطَاءِ بنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
مَعْمَرٌ: عَنْ قَتَادَةَ: {الَّذِيْنَ يَلْمِزُوْنَ المُطَّوِّعِيْنَ} [التَّوْبَةُ: 79] .
قَالَ: تَصَدَّقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ بِشَطْرِ مَالِهِ، أَرْبَعَةِ آلاَفِ دِيْنَارٍ.
فَقَالَ أُنَاسٌ مِنَ المُنَافِقِيْنَ: إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَعَظِيْمُ الرِّيَاءِ (4) .
__________
(1) أخرجه أحمد 1 / 191 - 192 ونصه: " عن عبد الرحمن بن عوف، أنه كان مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فذهب النبي لحاجته، فأدركهم وقت الصلاة، فتقدمهم عبد الرحمن بن عوف، فجاء النبي، صلى الله عليه وسلم، فصلى مع الناس خلفه ركعة.
فلما سلم قال: أصبتم أو أحسنتم ".
ورشدين ضعيف.
لكنه يصلح للمتابعة.
وأبو سلمة لم يسمع من أبيه.
وانظر الفسوي في " المعرفة والتاريخ " 2 / 119.
وقال أحمد شاكر رحمه الله: والقصة نفسها ثابتة من حديث المغيرة بن شعبة رواها أحمد والبخاري ومسلم.
(2) " عن أبيه " سقطت من المطبوع.
(3) ابن هشام 2 / 632 والخبر هناك طويل جدا، وذكره صاحب الكنز (30290) ونسبه إلى ابن عساكر.
(4) أخرجه الطبري 10 / 195 حدثنا محمد بن عبد الأعلى، عن محمد بن ثور عن معمر، عن قتادة.
وانظر " الدر المنثور " 3 / 262.(1/80)
وَقَالَ ابْنُ المُبَارَكِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ:
تَصَدَّقَ ابْنُ عَوْفٍ عَلَى عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِشَطْرِ مَالِهِ أَرْبَعَةِ آلاَفٍ، ثُمَّ تَصَدَّقَ بِأَرْبَعِيْنَ أَلْفِ دِيْنَارٍ، وَحَمَلَ عَلَى خَمْسِ مَائَةِ فَرَسٍ فِي سَبِيْلِ اللهِ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى خَمْسِ مَائَةِ رَاحِلَةٍ فِي سَبِيْلِ اللهِ، وَكَانَ عَامَّةُ مَالِهِ مِنَ التِّجَارَةِ (1) .
أَخْرَجَهُ فِي (الزُّهْدِ) لَهُ.
سُلَيْمَانُ بنُ بِنْتِ شُرَحْبِيْلَ، أَنْبَأَنَا خَالِدُ بنُ يَزِيْدَ بنِ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عَطَاءِ بنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ إِبْرَاهِيْمَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيْهِ:
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (يَا ابْنَ عَوْفٍ! إِنَّكَ مِنَ الأَغْنِيَاءِ، وَلنْ تَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلاَّ زَحْفاً، فَأَقْرِضِ اللهَ -تَعَالَى- يُطْلِقْ لَكَ قَدَمَيْكَ) .
قَالَ: فَمَا أُقْرِضُ يَا رَسُوْلَ اللهِ؟
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: (أَتَانِي جِبْرِيْلُ، فَقَالَ: مُرْهُ فَلْيُضِفِ الضَّيْفَ، وَلْيُعْطِ فِي النَّائِبَةِ، وَلْيُطْعِمِ المِسْكِيْنَ (2)) .
خَالِدُ بنُ الحَارِثِ، وَغَيْرُهُ، قَالاَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ:
رَأَيْتُ الجَنَّةَ، وَأَنِّي دَخَلْتُهَا حَبْواً، وَرَأَيْتُ أَنَّهُ لاَ يَدْخُلُهَا إِلاَّ الفُقَرَاءُ.
قُلْتُ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ (3) ، فَهُوَ وَغَيْرُهُ مَنَامٌ، وَالمَنَامُ لَهُ تَأْوِيْلٌ، وَقَدِ انْتَفَعَ ابْنُ عَوْفٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِمَا رَأَى، وَبِمَا بَلَغَهُ، حَتَّى تَصَدَّقَ بِأَمْوَالٍ عَظِيْمَةٍ، أَطْلَقَتْ
__________
(1) أخرجه الطبراني (265) وأبو نعيم في " الحلية " 1 / 99 وهو في " الإصابة " 6 / 311 ونسبه
صاحب الكنز (36679) إلى ابن عساكر.
ورجاله ثقات.
لكنه منقطع بين الزهري وابن عوف
(2) أخرجه الحاكم 3 / 311 وصححه، ولكن الذهبي قال: خالد ضعفه جماعة، وقال النسائي ليس بثقة، وأخرجه أبو نعيم في " الحلية " 1 / 99 وابن سعد 3 / 1 / 93.
ونسبه صاحب الكنز (36692) إلى ابن عدي وابن عساكر.
(3) تقدم في الصفحة (80) التعليق (1) أن أبا سلمة لم يسمع من أبيه فهو مرسل.(1/81)
لَهُ -وَلِلَّهِ الحَمْدُ- قَدَمَيْهِ، وَصَارَ مِنْ وَرَقَةِ الفِرْدَوْسِ، فَلاَ ضَيْرَ.
أَنْبَأَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، أَنْبَأَنَا حَنْبَلٌ، أَنْبَأَنَا ابْنُ الحُصَيْنِ، حَدَّثَنَا ابْنُ المُذْهِبِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيْقٍ، قَالَ:
دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَ:
يَا أُمَّ المُؤْمِنِيْنَ! إِنِّي أَخْشَى أَنْ أَكُوْنَ قَدْ هَلَكْتُ، إِنِّي مِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالاً، بِعْتُ أَرْضاً لِي بِأَرْبَعِيْنَ أَلْفِ دِيْنَار.
قَالَتْ: يَا بُنَيَّ! أَنْفِقْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُوْلُ: (إِنَّ مِنْ أَصْحَابِي مَنْ لَنْ يَرَانِي بَعْدَ أَنْ أُفَارِقَهُ) .
فَأَتَيْتُ عُمَرَ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَأَتَاهَا، فَقَالَ: بِاللهِ أَنَا مِنْهُم.
قَالَتْ: اللَّهُمَّ لاَ، وَلَنْ أُبْرِئَ أَحَداً بَعْدَكَ.
رَوَاهُ أَيْضاً: أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، فَقَالَ:
عَنْ شَقِيْقٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ (1) .
زَائِدَةُ: عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:
كَانَ بَيْنَ خَالِدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ شَيْءٌ.
فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (دَعُوا لِي أَصْحَابِي، أَوْ أُصَيْحَابِي، فَإِنَّ أَحَدَكُم لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحِدٍ ذَهَباً لَمْ يُدْرِكْ مُدَّ أَحَدِهِم وَلاَ نَصِيْفَهُ) (2) .
__________
(1) أخرجه أحمد 6 / 317، و298، 312، ورجاله ثقات.
وهو في " الاستيعاب " 6 / 79، 80.
(2) سنده حسن.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 10 / 15 ونسبه إلى البزار وقال: رجاله رجال الصحيح، غير عاصم بن أبي النجود وقد وثق.
وأخرجه مسلم (2540) وابن ماجه (161) كلاهما من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة ... ، ونقل النووي عن أبي مسعود الدمشقي، قوله: هذا وهم.
والصواب: من حديث أبي معاوية.
عن الأعمش، عن أبي صالح، عن الخدري، لا عن أبي هريرة، وكذا رواه يحيى بن يحيى وأبو كريب والناس.(1/82)
وَأَمَّا الأَعْمَشُ فَرَوَاهُ عَنْ: أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ (1) ، وَفِي البَابِ حَدِيْثُ زُهَيْرِ بنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ (2) .
أَبُو إِسْمَاعِيْلَ المُؤدِّبُ: عَنْ إِسْمَاعِيْلَ بنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ:
شَكَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ خَالِداً إِلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
فَقَالَ: (يَا خَالِدُ! لاَ تُؤْذِ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، فَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً لَمْ تُدْرِكْ عَمَلَهُ) .
قَالَ: يَقَعُوْنَ فِيَّ، فَأَرُدُّ عَلَيْهِم.
فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لاَ تُؤْذُوا خَالِداً، فَإِنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيُوْفِ اللهِ، صَبَّهُ اللهُ عَلَى الكُفَّارِ (3)) .
لَمْ يَرْوِهِ عَنِ المُؤَدِّبِ سِوَى الرَّبِيْعِ بنِ ثَعْلَبٍ (4) ، وَقَدْ رَوَى نَحْوَهُ: جَرِيْرُ بنُ حَازِمٍ، عَنِ الحَسَنِ مُرْسَلاً.
شُعْبَةُ: أَنْبَأَنَا حُصَيْنٌ، سَمِعْتُ هِلاَلَ بن يِسَافٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ ظَالِمٍ المَازِنِيِّ، عَنْ سَعِيْدِ بنِ زَيْدٍ:
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ عَلَى حِرَاءَ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ،
__________
(1) أخرجه البخاري 7 / 27، 28 في فضائل أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، ومسلم (2541) ، وأبو داود (4658) ، والترمذي (3860) ، وأحمد 3 / 11.
(2) أخرجه أحمد 3 / 266، وذكره الهيثمي في " المجمع " 10 / 15 عن أحمد وقال: رجاله رجال الصحيح.
(3) ذكره الهيثمي في المجمع 9 / 349، ونسبه إلى الطبراني في الصغير " و" الكبير " باختصار والبزار بنحوه، وقال: رجال الطبراني ثقات.
وأخرجه الخطيب البغدادي 12 / 150، والحاكم 3 / 298، وصححه، وتعقبه الذهبي بقوله: رواه ابن إدريس، عن ابن أبي خالد، عن الشعبي مرسلا.
وهو أشبه.
(4) وهو ثقة مترجم في " الجرح والتعديل " 3 / 456 وباقي رجال الإسناد ثقات.(1/83)
فَقَالَ: (اثْبُتْ حِرَاءُ! فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ، أَوْ صِدِّيْقٌ، أَوْ شَهِيْدٌ (1)) .
وَذَكَرَ سَعِيْدٌ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُمْ.
وَكَذَا رَوَاهُ: جَرِيْرٌ، وَهُشَيْمٌ، وَأَبُو الأَحْوَصِ، وَالأَبَّارُ، عَنْ حُصَيْنٍ.
وَأَخْرَجَهُ: أَرْبَابُ السُّنَنِ الأَرْبَعَةِ مِنْ طَرِيْقِ شُعْبَةَ، وَجَمَاعَةٍ كَذَلِكَ.
وَرَوَاهُ: ابْنُ إِدْرِيْسَ، وَوَكِيْعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُوْرٍ، عَنْ هِلاَلِ بنِ يِسَافٍ.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ:
وَرَوَاهُ: الأَشْجَعِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُوْرٍ، فَقَالَ: عَنْ هِلاَلٍ (2) ، عَنِ ابْنِ حَيَّانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ ظَالِمٍ، عَنْ سَعِيْدٍ، تَابَعَهُ قَاسِمٌ الجرْمِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ.
وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَجَاءَ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُوْرٍ وَحُصَيْنٍ، عَنْ هِلاَلٍ، عَنْ سَعِيْدٍ نَفْسِهِ.
أَبُو قِلاَبَةَ الرَّقَاشِيُّ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بنُ أَيُّوْبَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ مَعْنٍ الغِفَارِيِّ، حَدَّثَنَا مُجَمِّعُ بنُ يَعْقُوْبَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ مُجَمِّعٍ: أَنَّ عُمَرَ قَالَ لأُمِّ كُلْثُوْمٍ بِنْتِ عُقْبَةَ، امْرَأَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ:
أَقَالَ لَكِ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (انْكِحِيْ سَيِّدَ المُسْلِمِيْنَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ عَوْفٍ؟) .
قَالَتْ: نَعْم (3) .
__________
(1) أخرجه أحمد 1 / 188، 189، وأبو داود (4648) في السنة: باب في الخلفاء، والترمذي (3758) في المناقب، باب: مناقب سعيد بن زيد وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وابن ماجه (134) في المقدمة: باب فضائل العشرة.
(2) سقط من المطبوع من قوله: " بن يساف " إلى قوله " عن هلال ".
(3) أخرجه ابن عساكر من طريق: عبد الرحمن بن حميد.
عن أبيه، عن أمه أم كلثوم بنت عقبة ابن أبي معيط، عن بسرة بنت صفوان، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " أنكحوا عبد الرحمن بن عوف، فإنه من خيار المسلمين، ومن خيارهم من كان مثله ".
وأخرجه البخاري في " التاريخ الصغير " 1 / 90 من طريق: إبراهيم بن حمزة، عن سليمان بن سالم، مولى عبد الرحمن بن حميد، عن عبد الرحمن بن حميد، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم، دعا بسرة بنت صفوان وقال: من يخطب أم كلثوم؟ قالت: فلان، فلان، وعبد الرحمن بن عوف قال: أنكحوا عبد الرحمن من خيار المسلمين.
فأرسلت إلى أخيها الوليد أنكحني عبد الرحمن الساعة ".(1/84)
عَلِيُّ بنُ المَدَيْنِيُّ: حَدَّثَنِي سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيْحٍ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ أُمَّ كُلْثُوْمٍ بِنَحْوِهِ.
وَيُرْوَى مِنْ وَجْهَيْنِ (1) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ حُمَيْدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ أُمِّهِ أُمِّ كُلْثُوْمٍ نَحْوَهُ (2) .
مَعْمَرٌ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بنُ عَبْدِ اللهِ:
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْطَى رَهْطاً فِيْهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ، فَلَمْ يُعْطِهِ، فَخَرَجَ يَبْكِي.
فَلَقِيَهُ عُمَرُ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيْكَ؟
فَذَكَرَ لَهُ، وَقَالَ: أَخْشَى أَنْ يَكُوْنَ مَنَعَهُ مَوْجِدَةٌ وَجَدَهَا عَلَيَّ.
فَأَبْلَغَ عُمَرُ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: (لَكِنِّي وَكَلْتُهُ إِلَى إِيْمَانِهِ) (3) .
قُرَيْشُ بنُ أَنَسٍ: عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (خِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِي) .
فَأَوْصَى لَهُنَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِحَدِيْقَةٍ قُوِّمَتْ بِأَرْبَعِ مَائَةِ أَلْفٍ (4) .
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ جَعْفَرٍ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَتْنَا أُمُّ بَكْرٍ بِنْتُ المِسْوَرِ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بَاعَ أَرْضاً لَهُ مِنْ عُثْمَانَ بِأَرْبَعِيْنَ أَلْفَ دِيْنَارٍ، فَقَسَمَهُ فِي فُقَرَاءِ بَنِي
__________
(1) تحرفت في المطبوع إلى " حصين ".
(2) أخرجه الحاكم 3 / 309 وصححه، وتعقبه الذهبي بقوله: في إسناده يعقوب بن محمد الزهري، وهو ضعيف.
(3) أخرجه عبد الرزاق (20410) وهو مرسل.
وعبيد الله بن عبد الله إن كان ابن ثعلبة فهو مجهول، وإن كان عبيد الله بن عبد الله بن أبي، أو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أو عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب.
فكل واحد من هؤلاء ثقة وروى عنهم الزهري.
على أنه جاء في " مصنف عبد الرزاق " عبيد الله بن عبد الله بن عبيد، ولم نتبينه وذكره صاحب الكنز (36677) ، ونسبه إلى ابن منده، وابن عساكر.
(4) أخرجه الحاكم 3 / 311 - 312، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
وأخرجه الترمذي (3750) وقال: حديث حسن غريب.
وقد وقع في مطبوع الترمذي بتحقيق إبراهيم عطوة تحريفات ثلاثة قبيحة فقد جاء فيه " قيس " بدل " قريش " وبحذيقة " بدل " بحديقة " و" يبعث " بدل " بيعت ".(1/85)
زُهْرَةَ، وَفِي المُهَاجِرِيْنَ، وَأُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ.
قَالَ المِسْوَرُ: فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ بِنَصِيْبَهَا، فَقَالَتْ: مَنْ أَرْسَلَ بِهَذَا؟
قُلْتُ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ.
قَالَتْ: أَمَا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُوْلُ: (لاَ يَحْنُو عَلَيْكُنَّ بَعْدِي إِلاَّ الصَّابِرُوْنَ) ، سَقَى اللهُ ابْنَ عَوْفٍ مِنْ سَلْسَبِيْلِ الجَنَّةِ.
أَخْرَجَهُ: أَحْمَدُ فِي (مُسْنَدِهِ (1)) .
عَلِيُّ بنُ ثَابِتٍ الجَزَرِيُّ: عَنِ الوَازِعِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:
جَمَعَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نِسَاءهُ فِي مَرَضِهِ، فَقَالَ: (سَيَحْفَظُنِي فِيْكُنَّ الصَّابِرُوْنَ الصَّادِقُوْنَ (2)) .
وَمِنْ أَفْضَلِ أَعْمَالِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَزْلُهُ نَفْسَهُ مِنَ الأَمْرِ وَقْتَ الشُّورَى، وَاخْتِيَارُهُ لِلأُمَّةِ مَنْ أَشَارَ بِهِ أَهْلُ الحِلِّ وَالعَقْدِ، فَنَهَضَ فِي ذَلِكَ أَتَمَّ نُهُوضٍ عَلَى جَمْعِ الأُمَّةِ عَلَى عُثْمَانَ، وَلَوْ كَانَ مُحَابِياً فِيْهَا لأَخَذَهَا لِنَفْسِهِ، أَوْ لَوَلاَّهَا ابْنَ عَمِّهِ، وَأَقْرَبَ الجَمَاعَةِ إِلَيْهِ، سَعْدَ بنَ أَبِي وَقَّاصٍ.
وَيُرْوَى عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ نِيَارٍ الأَسْلَمِيِّ (3) ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ مِمَّنْ يُفْتِي فِي عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، بِمَا سَمِعَ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
__________
(1) أخرجه أحمد 6 / 104، 135، وأم بكر بنت المسور مجهولة، وأخرجه الحاكم 3 / 310 - 311، وصححه، وتعقبه الذهبي بقوله: ليس بمتصل.
(2) إسناده ضعيف لضعف الوازع وهو ابن نافع العقيلي الجزري.
قال ابن معين وأحمد: ليس بثقة.
وقال البخاري: منكر الحديث.
وقال النسائي: متروك.
وقال ابن عدي: عامة ما يرويه الوازع غير محفوظ.
(3) تحرف في المطبوع إلى " عبد الله بن دينار " وسقط منه لفط: " الاسلمي ".(1/86)
قَالَ يَزِيْدُ بنُ هَارُوْنَ: حَدَّثَنَا أَبُو المُعَلَّى الجَزَرِيُّ، عَنْ مَيْمُوْن بنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ قَالَ لأَهْلِ الشُّورَى: هَلْ لَكُم أَنْ أَخْتَارَ لَكُمْ وَأَنْفَصِلَ مِنْهَا؟
قَالَ عَلِيٌّ: نَعَمْ، أَنَا أَوَّلُ مَنْ رَضِيَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُوْلُ: (إِنَّكَ أَمِيْنٌ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ، وَأَمِيْنٌ فِي أَهْلِ الأَرْضِ (1)) .
أَخْرَجَهُ: الشَّاشِيُّ (2) فِي (مُسْنَدِهِ) ، وَأَبُو المُعلَّى (3) : ضَعِيْفٌ.
ذَكَرَ مُجَالِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ عَوْفٍ حَجَّ بِالمُسْلِمِيْنَ فِي سَنَةِ ثَلاَثَ عَشْرَةَ.
جُوَيْرِيَةُ بنُ أَسْمَاءَ: عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيْدٍ: أَنَّ سَعْدَ بنَ أَبِي وَقَّاصٍ أَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَجُلاً وَهُوَ قَائِمٌ يَخْطُبُ: أَنِ ارْفَعْ رَأْسَكَ إِلَى أَمْرِ النَّاسِ، أَيِ ادْعُ إِلَى نَفْسِكَ.
فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ! إِنَّهُ لَنْ يَلِيَ هَذَا الأَمْرَ أَحَدٌ بَعْدَ عُمَرَ إِلاَّ لاَمَهُ النَّاسُ (4) .
تَابَعَهُ أَبُو أُوَيْسٍ عَبْدُ اللهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ.
ابْنُ سَعْدٍ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ العَزِيْزِ الأُوَيْسِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أُمِّ بَكْرٍ، عَنْ أَبِيْهَا المِسْوَرِ قَالَ:
لَمَّا وَلِيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ الشُّورَى
__________
(1) أخرجه ابن سعد 3 / 1 / 95، وأبو نعيم في " الحلية " 1 / 98، وابن عبد البر في " الاستيعاب " 6 / 74، والحافظ في " الإصابة " 6 / 312، والحاكم 3 / 310، وصححه، وقال الذهبي: أبو المعلى هو فرات بن السائب تركوه.
ونقل في " ميزانه " قول البخاري فيه: منكر الحديث، وقول ابن معين: ليس بشيء، وقول الدارقطني وغيره: متروك.
ونسبه الحافظ في المطالب العالية (4008) إلى أحمد بن منيع، وقد ضعفه البوصيري.
(2) الشاشي: هو الهيثم بن كليب، بن شريح، بن معقل الشاشي.
محدث ما وراء النهر، ومؤلف " المسند الكبير ".
توفي سنة (335) ومسنده منه نسخة في ظاهرية دمشق.
وقد تحرف " الشاشي " في المطبوع إلى " المشاشي ".
(3) تحرفت في المطبوع إلى " يعلى ".
(4) رجاله ثقات.
وسعيد هو ابن المسيب.(1/87)
كَانَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ أَنْ يَلِيَهُ، فَإِنْ تَرَكَ، فَسَعْدٌ، فَلَحِقَنِي عَمْرُو بنُ العَاصِ، فَقَالَ: مَا ظَنُّ خَالِكَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِاللهِ إِنْ وَلَّى هَذَا الأَمْرَ أَحَداً وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ؟
فَأَتَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: وَاللهِ لأَنْ تُؤخَذُ مِدْيَةٌ، فَتُوْضَعُ فِي حَلْقِي، ثُمَّ يُنْفَذُ بِهَا إِلَى الجَانِبِ الآخَرِ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ (1) .
ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيْعَةَ، عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيْدٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَزْهَرَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ عُثْمَانَ اشْتَكَى رُعَافاً، فَدَعَا حُمْرَانَ، فَقَالَ:
اكْتُبْ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ العَهْدَ مِنْ بَعْدِي.
فَكَتَبَ لَهُ، وَانْطَلَقَ حُمْرَانُ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: البُشْرَى!
قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟
قَالَ: إِنَّ عُثْمَانَ قَدْ كَتَبَ لَكَ العَهْدَ (2) مِنْ بَعْدِهِ.
فَقَامَ بَيْنَ القَبْرِ وَالمِنْبَرِ، فَدَعَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مِنْ تَوْلِيَةِ عُثْمَانَ إِيَّايَ هَذَا الأَمْرَ فَأَمِتْنِي قَبْلَهُ، فَلَمْ يَمْكُثْ إِلاَّ سِتَّةَ أَشْهُرٍ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ (3) .
يَعْقُوْبُ بنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيْمُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ العَزِيْزِ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ طَلْحَةَ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَوْفٍ، قَالَ:
كَانَ أَهْلُ المَدِيْنَةِ عِيَالاً عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ: ثُلُثٌ يُقْرِضُهُمْ مَالَهُ، وَثُلُثٌ يَقْضِي دَيْنَهُمْ، وَيَصِلُ ثُلثاً.
مُبَارَكُ بنُ فَضَالَةَ: عَنْ عَلِيِّ بنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ المُسَيِّبِ قَالَ:
كَانَ بَيْنَ طَلْحَةَ وَابنِ عَوْفٍ تَبَاعُدٌ، فَمَرِضَ طَلْحَةُ، فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَعُوْدُهُ.
فَقَالَ طَلْحَةُ:
__________
(1) أخرجه ابن سعد 3 / 1 / 94 - 95.
ورجاله ثقات.
غير أم بكر بنت المسور، فإنها لا تعرف.
(2) سقطت من المطبوع.
(3) أبو عبيد بن عبد الله، بن عبد الرحمن، بن أزهر لم نجد له ترجمة.
وأبوه لم يوثقه غير ابن حبان.
وانظر الفتح 7 / 80.(1/88)
أَنْتَ -وَاللهِ- يَا أَخِي خَيْرٌ مِنِّي.
قَالَ: لاَ تَفْعَلْ (1) يَا أَخِي!
قَالَ: بَلَى -وَاللهِ- لأَنَّكَ لَوْ مَرِضْتَ مَا عُدْتُكَ.
ضَمْرَةُ بنُ رَبِيْعَةِ: عَنْ سَعْدِ بنِ الحَسَنِ (2) ، قَالَ:
كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ لاَ يُعْرَفُ مِنْ بَيْنِ عَبِيْدِهِ.
شُعَيْبُ بنُ أَبِي (3) حَمْزَةَ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيْمُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ:
غُشِيَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ فِي وَجَعِهِ (4) حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ فَاضَتْ نَفْسُهُ، حَتَّى قَامُوا مِنْ عِنْدِهِ وَجَلَّلُوْهُ، فَأَفَاقَ يُكَبِّرُ، فَكَبَّرَ أَهْلَ البَيْتِ، ثُمَّ قَالَ لَهُم: غُشِيَ عَلَيَّ آنِفاً؟
قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ: صَدَقْتُم! انْطَلَقَ بِي فِي غَشْيَتِي رَجُلاَنِ، أَجِدُ فِيْهِمَا شِدَّةً وَفَظَاظَةً، فَقَالاَ:
انْطَلِقْ نُحَاكِمْكَ إِلَى العَزِيْزِ الأَمِيْنِ، فَانْطَلَقَا بِي حَتَّى لَقِيَا رَجُلاً.
قَالَ: أَيْنَ تَذْهَبَانِ بِهَذَا؟
قَالاَ: نُحَاكِمُهُ إِلَى العَزِيْزِ الأَمِيْنِ.
فَقَالَ: ارْجِعَا، فَإِنَّهُ مِنَ الَّذِيْنَ كَتَبَ اللهُ لَهُمُ السَّعَادَةَ وَالمَغْفِرَةَ وَهُمْ فِي بُطُوْنِ أُمَّهَاتِهِم، وَإِنَّهُ سَيُمَتَّعُ بِهِ بَنُوْهُ إِلَى مَا شَاءَ اللهُ، فَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ شَهْراً (5) .
__________
(1) أشار إليها هكذا الدكتور المنجد في هامش مطبوعه، غير أنه أثبت مكانها " لا تقل ".
(2) في الأصل " سعيد بن الحسين " وقد أثبت فوقه إشارة الخطأ.
وما أثبتناه هو الصواب.
فقد ترجمه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " 4 / 82 فقال: سعد بن الحسن، أبو همام روى الحديث عن ليث، وزائدة، وروى عنه: ضمرة ومحمد بن يوسف الفريابي.
وقد التبس على المنجد فحرفه إلى " سعيد بن جبير ".
(3) سقطت من المطبوع لفظة " أبي ".
(4) تحرفت في المطبوع إلى " مرضه ".
(5) إسناده صحيح، وأخرجه الفسوي في " المعرفة والتاريخ " 1 / 367.
وأخرجه الحاكم 3 / 307 من طريق: أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، بأطول مما هنا.
وأخرجه ابن سعد 3 / 1 / 95 من طريق: محمد بن كثير العبدي، عن سليمان بن كثير، عن الزهري.
وذكره الحافظ في " المطالب العالية " (4007) ونسبه إلى أبي إسحاق.
وقال البوصيري: إسناده صحيح.
وذكره صاحب الكنز (36689) ونسبه إلى أبي نعيم، وابن عساكر.(1/89)
رَوَاهُ: الزُّبَيْدِيُّ (1) ، وَجَمَاعَةٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ.
وَرَوَاهُ: سَعْدُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ، عَنْ أَبِيْهِ.
ابْنُ لَهِيْعَةَ: عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ:
أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ عَوْفٍ أَوْصَى بِخَمْسِيْنَ أَلْفَ دِيْنَارٍ فِي سَبِيْلِ اللهِ، فَكَانَ الرَّجُلُ يُعْطَى مِنْهَا أَلْفُ دِيْنَارٍ.
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَوْصَى لِلْبَدْرِيِّيْنَ، فَوَجَدُوا مَائَةً، فَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُم أَرْبَعَ مَائَةِ دِيْنَارٍ، فَكَانَ مِنْهُم عُثْمَانُ فَأَخَذَهَا.
وَبِإِسْنَادٍ آخَرَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَوْصَى بِأَلْفِ فَرَسٍ فِي سَبِيْلِ اللهِ.
قَالَ إِبْرَاهِيْمُ بنُ سَعْدٍ (2) : عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ جَدِّهِ:
سَمِعَ عَلِيّاً يَقُوْلُ يَوْمَ مَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ: اذْهَبْ يَا ابْنَ عَوْفٍ، فَقَدْ أَدْرَكْتَ صَفْوَهَا، وَسَبَقْتَ رَنْقَهَا (3) .
الرَّنْقُ: الكَدَرُ.
قَالَ سَعْدُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ: عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ:
رَأَيْتُ سَعْداً فِي جِنَازَة عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ، وَهُوَ بَيْنَ يَدَي السَّرِيْرِ، وَهُوَ يَقُوْلُ: وَاجَبَلاَهُ (4) .
رَوَاهُ: جَمَاعَةٌ، عَنْ سَعْدٍ.
مَعْمَرٌ: عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ:
رَأَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ عَوْفٍ، قُسِمَ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ مَائَةُ أَلْفٍ.
__________
(1) تحرفت في المطبوع إلى " الترمذي " والزبيدي: هو محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي، الحمصي، القاضي.
ثقة، ثبت من كبار أصحاب الزهري.
(2) " إبراهيم بن سعد " تحرف في المطبوع إلى " سعد بن إبراهيم ".
وأبوه هو سعد بن إبراهيم، وجده هو إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف.
(3) إسناده صحيح.
وأخرجه الطبراني (263) في " الكبير ".
وأبو نعيم في " الحلية " 1 / 100، وابن سعد 3 / 1 / 96.
(4) أخرجه ابن سعد 3 / 1 / 96 والحاكم 3 / 308.
وقد زيدت في " المستدرك " خطأ لفظة " عن جده وكذلك عند الفسوي في " المعرفة والتاريخ " 1 / 213 وبدون زيادة هذه اللفظة " عن جده " 1 / 222.(1/90)
وَرَوَى: هِشَامٌ، عَنِ ابْنِ سِيْرِيْنَ، قَالَ:
اقْتَسَمْنَ ثُمُنَهُنَّ (1) ثَلاَثَ مَائَةِ أَلْفٍ وَعِشْرِيْنَ أَلْفاً.
وَرَوَى نَحْوَهُ: لَيْثُ بنُ أَبِي مُسلمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ.
وَقَدِ اسْتَوْفَى صَاحِبُ (تَارِيْخِ دِمَشْقَ) أَخْبَارَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي أَرْبَعَةِ كَرَارِيْسَ.
وَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى المَدِيْنَةِ كَانَ فَقِيْراً لاَ شَيْءَ لَهُ، فَآخَى رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بنِ الرَّبِيْعِ، أَحَدِ النُّقَبَاءِ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُشَاطِرَهُ نِعْمَتَهُ، وَأَنْ يُطَلِّقَ لَهُ أَحْسَنَ زَوْجَتَيْهِ.
فَقَالَ لَهُ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، وَلَكِنْ دُلَّنِي عَلَى السُّوْقِ، فَذَهَبَ، فَبَاعَ وَاشْتَرَى، وَرَبِحَ، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ أَنْ صَارَ مَعَهُ دَرَاهِمَ، فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى زِنَةٍ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ رَأَى عَلَيْهِ أَثَراً مِنْ صُفْرَةٍ: (أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ) .
ثُمَّ آلَ أَمْرُهُ فِي التِّجَارَةِ إِلَى مَا آلَ (2) .
__________
(1) وقد تحرفت في المطبوع إلى " منهن ".
وهو ثمن الزوجات من الميراث.
(2) أخرج البخاري (2048) في البيوع: باب قوله تعالى (فإذا قضيت الصلاة) ، و (3780) في مناقب الانصار: باب إخاء النبي بين المهاجرين والانصار، من طريق عبد العزيز بن عبد الله، عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه عن جده قال: قال عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه: " لما قدمنا المدينة آخى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بيني وبين سعد بن الربيع.
فقال سعد بن الربيع: إني أكثر الانصار مالا، فأقسم لك نصف مالي.
وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها فإذا حلت تزوجتها.
قال: فقال له عبد الرحمن: لا حاجة لي في ذلك.
هل من سوق فيه تجارة؟ قال: سوق قينقاع.
قال: فغدا إليه عبد الرحمن فأتى بأقط وسمن.
قال: ثم تابع الغدو.
فما لبث أن جاء عبد الرحمن عليه أثر صفرة.
فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تزوجت؟ قال: نعم.
قال: ومن؟ قال: امرأة من الانصار.
قال: كم سقت؟ قال: زنة نواة من ذهب - أو نواة من ذهب - فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم: أولم ولو بشاة ".
وانظر البخاري أيضا (3781) و (2049) و (2292) و (3937) و (5072) و (5148) و (5153) و (5155) و (5167) و (6072) و (6386) .
وأخرجه ابن ماجه (1907) في النكاح مختصرا،
والدارمي 2 / 104 في الاطعمة، و2 / 143 في النكاح، وابن سعد 3 / 1 / 88، 89.(1/91)
أَرَّخَ المَدَائِنِيُّ، وَالهَيْثَمُ بنُ عَدِيٍّ (1) ، وَجَمَاعَةٌ وَفَاتَهَ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلاَثِيْنَ.
وَقَالَ المَدَائِنِيُّ: وَدُفِنَ بِالبَقِيْعِ.
وَقَالَ يَعْقُوْبُ بنُ المُغِيْرَةِ: عَاشَ خَمْساً وَسَبْعِيْنَ سَنَةً (2) .
قَالَ أَبُو عُمَرَ بنُ عَبْدِ البَرِّ: كَانَ مَجْدُوْداً فِي التِّجَارَةِ، خَلَّفَ: أَلْفَ بَعِيْرٍ، وَثَلاَثَةَ آلاَفِ شَاةٍ، وَمَائَةَ فَرَسٍ، وَكَانَ يَزْرَعُ بِالجُرْفِ (3) عَلَى عِشْرِيْنَ نَاضِحاً.
قُلْتُ: هَذَا هُوَ الغَنِيُّ الشَاكِرُ، وَآوِي فَقِيْرٌ صَابِرٌ، وَأَبُو ذَرٍّ، أَوْ أَبُو عُبَيْدَةَ، زَاهِدٌ عَفِيْفٌ.
حُسَيْنٌ الْجَافِي: عَنْ جَعْفَرِ بنِ أترقان، قَالَ:
بَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ عَوْفٍ أَعْتَقَ ثَلاَثِيْنَ أَلْفَ بَيْتٍ (4) .
5 - سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ مَالِكِ بنِ أُهَيْبٍ الزُّهْرِيُّ * (ع)
وَاسْمُ أَبِي وَقَّاصٍ: مَالِكُ بنُ أُهَيْبِ بن عَبْدِ مَنَافٍ بنِ زُهْرَةَ بنِ كِلاَبِ بنِ مُرَّةَ بنِ كَعْبِ بنِ لأي.
__________
(1) في الأصل " علي " وهو خطأ.
والهيثم بن عدي هذا أخباري، راوية، له تآليف كثيرة.
ترجمه ياقوت في " معجم الأدباء " 19 / 304 - 310.
(2) الحاكم 3 / 308.
(3) موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام.
(4) هو في " حلية الأولياء " 1 / 99 وفيه " نبت " بدل " بيت " وهو تحريف.
(*) مسند أحمد: 1 / 168 - 187، فتوح البلدان: 315، طبقات ابن سعد: 3 / 1 / 97 - 105، نسب قريش: 94، 251، 263، 269، 393، 421، طبقات خليفة: 15، 126، تاريخ خليفة: 223، التاريخ الكبير: 4 / 43، التاريخ الصغير: 1 / 99 - 101، المعارف: 241 - 244، مشاهير علماء الأمصار: ت: 10، حلية الأولياء: 1 / 92 - 95، الاستيعاب: 4 / 170 - 177، تاريخ بغداد: 1 / 144 - 146، تاريخ ابن عساكر: 7 / 66 / 2، جامع الأصول: 9 / 10 - 18، أسد الغابة: =(1/92)
الأَمِيْر، أَبُو إِسْحَاقَ القُرَشِيُّ، الزُّهْرِيُّ، المَكِّيُّ.
أَحَدُ العَشَرَةِ، وَأَحَدُ السَّابِقِيْنَ الأَوَّلِيْنَ، وَأَحَدُ مَنْ شَهِدَ بَدْراً، وَالحُدَيْبِيَةَ، وَأَحَدُ السِّتَّةِ أَهْلِ الشُّوْرَى.
رَوَى جُمْلَةً صَالِحَةً مِنَ الحَدِيْثِ، وَلَهُ فِي (الصَّحِيْحَيْنِ) خَمْسَةَ عَشَرَ حَدِيْثاً، وَانْفَرَدَ لَهُ البُخَارِيُّ بِخَمْسَةِ أَحَادِيْثَ، وَمُسْلِمٌ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَدِيْثاً.
حَدَّثَ عَنْهُ: ابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَالسَّائِبُ بنُ يَزِيْدَ، وَبَنُوْهُ؛ عَامِرٌ، وَعُمَرُ، وَمُحَمَّدٌ (1) ، وَمُصْعَبٌ، وَإِبْرَاهِيْمُ، وَعَائِشَةُ، وَقَيْسُ بنُ أَبِي حَازِمٍ، وَسَعِيْدُ بنُ المُسَيِّبِ، وَأَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ، وَعُمَرُ بنُ مَيْمُوْن، وَالأَحْنَفُ بنُ قَيْسٍ، وَعَلْقَمَةُ بنُ قَيْسٍ، وَإِبْرَاهِيْمُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَشُرَيْحُ بنُ عُبَيْدٍ الحِمْصِيُّ، وَأَيْمَن المَكِّيُّ، وَبِشْرُ بنُ سَعِيْدٍ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَأَبُو صَالِحٍ ذَكْوَانُ، وَعُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ، وَخَلْقٌ سِوَاهُم.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ السَّلاَمِ بنِ المُطَهَّرِ التَّمِيْمِيُّ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ المُعِزِّ (2) بنُ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِهِ، أَنْبَأَنَا تَمِيْمُ بنُ أَبِي سَعِيْدٍ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَمْرٍو بنُ حَمْدَانَ، أَنْبَأَنَا أَبُو يَعْلَى المَوْصِلِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بنُ الجَعْدِ، أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ:
سَمِعْتُ جَابِرَ بنَ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِسَعْدٍ: قَدْ
__________
= 2 / 366 - 370، تهذيب الأسماء واللغات: 1 / 213 - 214، تهذيب الكمال: 478، دول الإسلام: 1 / 40، تاريخ الإسلام: 2 / 281، العبر: 1 / 60، نكت الهميان: 155، مجمع الزوائد: 9 / 153 - 160، العقد الثمين: 4 / 537 - 547، طبقات القراء: 1 / 304، تهذيب التهذيب: 3 / 483، الإصابة: 4 / 160 - 164، النجوم الزاهرة: 1 / 147، تاريخ الخلفاء: 250، خلاصة تذهيب الكمال: 135، كنز العمال: 13 / 212 - 213، شذرات الذهب: 1 / 61، تهذيب تاريخ ابن
عساكر: 6 / 95 - 110.
(1) سقط من المطبوع " ومحمد ".
(2) تصحفت في المطبوع إلى " العزيز ".(1/93)
شَكَوْكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى فِي الصَّلاَةِ.
قَالَ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أَمُدُّ (1) فِي الأُوْلَيَيْنِ، وَأَحْذِفُ فِي الأُخْرَيَيْنِ، وَمَا آلُو مَا اقْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ صَلاَةِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
قَالَ: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ، أَوْ كَذَاكَ الظَّنُّ بِكَ (2) .
أَبُو عَوْنَ الثَّقَفِيُّ: هُوَ مُحَمَّدُ بنُ عُبَيْدِ اللهِ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَبِهِ إِلَى أَبِي يَعْلَى: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيْلُ بنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا يُوْنُسُ بنُ أَبِي إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيْمُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي وَالِدِي، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ:
مَرَرْتُ بِعُثْمَانَ فِي المَسْجِدِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَمَلأَ عَيْنَيْهِ مِنِّي (3) ، ثُمَّ لَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ السَّلاَمَ، فَأَتَيْتُ عُمَرَ.
فَقُلْتُ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ! هَلْ حَدَثَ فِي الإِسْلاَمِ شَيْءٌ؟
قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟
قُلْتُ: إِنِّي مَرَرْتُ بِعُثْمَانَ آنِفاً، فَسَلَّمْتُ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ.
فَأَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى عُثْمَانَ.
فَأَتَاهُ، فَقَالَ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَكُوْنَ رَدَدْتَ عَلَى أَخِيْكَ السَّلاَمَ؟
قَالَ: مَا فَعَلْتُ.
قُلْتُ: بَلَى، حَتَّى حَلَفَ وَحَلَفْتُ.
ثُمَّ إِنَّهُ ذَكَرَ، فَقَالَ: بَلَى، فَأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوْبُ إِلَيْهِ، إِنَّكَ مَرَرْتَ بِي آنِفاً، وَأَنَا أُحَدِّثُ نَفْسِي بِكَلِمَةٍ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لاَ وَاللهِ مَا ذَكَرْتُهَا قَطُّ إِلاَّ يَغْشَى بَصَرِي وَقَلْبِي غِشَاوَةً.
فَقَالَ سَعْدٌ: فَأَنَا أُنْبِئُكَ بِهَا، إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ ذَكَرَ لَنَا أَوَّلَ (4) دَعْوَةٍ، ثُمَّ جَاءهُ أَعْرَابِيٌّ فَشَغَلَهُ، ثُمَّ قَامَ رَسُوْلُ اللهِ، فَاتَّبَعْتُهُ، فَلَمَّا
__________
(1) في الأصل " أمر " وهو خطأ.
(2) أخرجه أحمد 1 / 175، والبخاري (770) في الاذان: باب يطول في الاوليين، ويحذف في الاخريين، ومسلم (453) في الصلاة، باب: تخفيف الاخريين.
والنسائي 2 / 174 في الافتتاح:
باب الركود في الركعتين الاوليين.
كلهم من طريق: شعبة، عن أبي عون، عن جابر.
وأخرجه البخاري (758) ، ومسلم (453) (159) ، وأحمد 1 / 176، 179، 180، والطبراني برقم (290) من طرق عن جابر.
(3) سقطت من الأصل.
واستدركت من " المسند ".
(4) في الأصل " لها أهل " والتصويب من " المسند ".(1/94)
أَشْفَقْتُ أَنْ يَسْبِقَنِي إِلَى مَنْزِلِهِ، ضَرَبْتُ بِقَدَمِي الأَرْضَ، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ، فَالْتَفَتُّ.
فَقَالَ: (أَبُو إِسْحَاقَ؟) .
قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُوْلَ اللهِ!
قَالَ: (فَمَهْ؟) .
قُلْتُ: لاَ وَاللهِ، إِلاَّ أَنَّكَ ذَكَرْتَ لَنَا أَوَّلَ دَعْوَةٍ، ثُمَّ جَاءَ هَذَا الأَعْرَابِيُّ.
فَقَالَ: (نَعَم، دَعْوَةُ ذِي النُّونِ: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِيْنَ} [الأَنْبِيَاءُ: 87] فَإِنَّهَا لَمْ يَدْعُ بِهَا مُسْلِمٌ رَبَّهُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ اسْتَجَابَ لَهُ (1)) .
أَخْرَجَهُ: التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيْقِ الفِرْيَابِيِّ، عَنْ يُوْنُسَ.
ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ، حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ:
أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ المِسْوَرِ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ أَبِي، وَسَعْدٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ الأَسْوَدِ بنِ عَبْدِ يَغُوْثَ عَامَ أَذْرح، فَوَقَعَ الوَجَعُ بِالشَّامِ، فَأَقَمْنَا بِسَرْغٍ خَمْسِيْنَ لَيْلَةً، وَدَخَلَ عَلَيْنَا رَمَضَانَ، فَصَامَ المِسْوَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَفْطَرَ سَعْدٌ وَأَبَى أَنْ يَصُوْمَ.
فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ! أَنْتَ صَاحِبُ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَشَهِدْتَ بَدْراً، وَأَنْتَ تُفْطِرُ وَهُمَا صَائِمَانِ؟
قَالَ: أَنَا أَفْقَهُ مِنْهُمَا (2) .
ابْنُ جُرَيْحٍ: حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بنُ عَمْرَو (3) :
أَنَّ سَعْدَ بنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَفَدَ عَلَى
__________
(1) أخرجه أحمد 1 / 170، والترمذي (3500) في الدعوات: باب دعوة ذي النون في بطن الحوت.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 7 / 68، ونسبه إلى أحمد، وقال: ورجاله رجال الصحيح، غير إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبي وقاص وهو ثقة.
وصححه الحاكم 2 / 382 ووافقه الذهبي.
وهو كما قالا، وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 4 / 334 وزاد نسبته للنسائي والحكيم الترمذي في " نوادر الأصول "، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبزار، وابن مردويه، والبيهقي في " الشعب ".
وانظر ابن كثير 4 / 580 - 589.
(2) إسناده حسن، وأخرجه الفسوي في " المعرفة والتاريخ " 1 / 369 - 370.
وذكره ابن حزم في " المحلى " 6 / 248.
(3) كذا الأصل " عمرو " بواو.
وفي " التاريخ الكبير " 3 / 450 و" الجرح والتعديل " 3 / 598، و" مصنف عبد الرزاق ": " عمر " بدونها.(1/95)
مُعَاوِيَةَ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ شَهْراً يَقْصُرُ الصَّلاَةَ، وَجَاءَ شَهْرَ رَمَضَان فَأَفْطَرَهُ (1) .
مُنْقَطِعٌ.
شُعْبَةُ، وَغَيْرُهُ: عَنْ حَبِيْبِ بنِ أَبِي ثَابِتٍ:
سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ المِسْوَرِ قَالَ: كُنَّا فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الشَّامِ يُقَالُ لَهَا: عَمَّانُ، وَيُصَلِّي سَعْدٌ رَكْعَتَيْنِ.
فَسَأَلْنَاهُ.
فَقَالَ: إِنَّا نَحْنُ أَعْلَمُ (2) .
ابْنُ عُيَيْنَةَ: عَنْ عَمْرٍو قَالَ: شَهِدَ سَعْدٌ وَابْنُ عُمَرَ الحَكَمَيْنِ.
ابْنُ عُيَيْنَةَ: عَنْ عَلِيِّ بنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيْدِ بنِ المُسَيِّبِ، عَنْ سَعْدٍ، قُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ! مَنْ أَنَا؟
قَالَ: (سَعْدُ بنُ مَالِكِ بنِ وُهَيْبِ بنِ عَبْدِ مَنَافِ بنِ زُهْرَةَ، مَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَعَلَيْهِ لَعنَةُ اللهِ (3)) .
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: وَأُمُّهُ: حَمْنَةُ بِنْتُ سُفْيَانَ بنِ أُمَيَّةَ بنِ عَبْدِ شَمْسِ بن عَبْدِ مَنَافٍ (4) .
قَالَ ابْنُ مَنْدَةَ: أَسْلَمَ سَعْدُ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ قَصِيْراً، دَحْدَاحاً،
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق (4351) وزكريا بن عمر له يوثقه غير ابن حبان، وهو لم يدرك سعدا.
فالخبر منقطع كما قال المؤلف.
(2) أخرجه عبد الرزاق (4350) عن الثوري عن حبيب ... ، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " 1 / 244 من طريق: شعبة، عن حبيب، ورجاله ثقات.
(3) إسناده ضعيف لضعف علي بن زيد وهو ابن جدعان.
وأخرجه الطبراني في " الكبير " (289) ، والحاكم 3 / 495.
والفسوي 3 / 166، وابن سعد 3 / 1 / 97 من طريق علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب.
وقد ذكره الهيثمي في " المجمع " 9 / 153 وقال: رواه الطبراني، والبزار مسندا ومرسلا.
ورجال المسند وثقوا.
(4) " الطبقات لابن سعد " 3 / 1 / 97، والحاكم 3 / 495، وفي " الإصابة " 4 / 160 وفيه " أمه حمزة " وهو خطأ.(1/96)
شَثْنَ الأَصَابِعِ، غَلِيْظاً، ذَا هَامَةٍ.
تُوُفِّيَ بِالعَقِيْقِ فِي قَصْرِهِ، عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ مِنَ المَدِيْنَةِ، وَحُمِلَ إِلَيْهَا سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِيْنَ.
الوَاقِدِيُّ: عَنْ بُكَيْرِ بنِ مِسْمَارٍ (1) ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ، قَالَتْ:
كَانَ أَبِي رَجُلاً قَصِيْراً، دَحْدَاحاً، غَلِيْظاً، ذَا هَامَةٍ، شَثْنَ الأَصَابِعِ، أَشْعَرَ، يَخْضِبُ بِالسَّوَادِ (2) .
وَعَنْ إِسْمَاعِيْلَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ سَعْدٍ، قَالَ:
كَانَ سَعْدٌ جَعْدَ الشَّعْرِ، أَشْعَرَ الجَسَدِ، آدَمَ، أَفْطَسَ، طَوِيْلاً (3) .
يَعْقُوْبُ بنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ: أَنْبَأَنَا إِسْحَاقُ بنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ العَزِيْزِ بنِ عِمْرَانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ جَعْفَرِ بنِ المِسْوَرِ، عَنْ إِسْمَاعِيْلَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ سَعْدٍ، عَنْ عَامِرِ بنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ:
رَدَّ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عُمَيْرَ بنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ بَدْرٍ، اسْتَصْغَرَهُ.
فَبَكَى عُمَيْرٌ، فَأَجَازَهُ، فَعَقَدْتُ عَلَيْهِ حِمَالَةَ سَيْفِهِ، وَلَقَدْ شَهِدْتُ بَدْراً وَمَا فِي وَجْهِي شَعْرَةٌ وَاحِدَةٌ أَمْسَحُهَا بِيَدِي (4) .
جَمَاعَةٌ: عَنْ هَاشِمِ بنِ هَاشِمِ، عَنْ سَعِيْدِ بنِ المُسَيِّبِ: سَمِعْتُ سَعْداً
__________
(1) سقط من المطبوع " عن بكير بن مسمار ".
(2) ابن سعد 3 / 1 / 101 والحاكم 3 / 496، والطبراني في " الكبير " برقم (294) .
(3) أخرجه الطبراني في " الكبير " (293) وقد ذكره الهيثمي في " المجمع " 9 / 153 وقال: وفيه: عبد العزيز بن عمران وهو متروك.
(4) إسناده محتمل للتحسين.
يعقوب بن محمد الزهري صدوق، وما رواه عن الثقات مقبول كما قال ابن معين.
وهذا رواه عن ثقة وعن ضعيف.
فإسحاق بن جعفر صدوق، وعبد العزيز بن، عمران متروك كما تقدم، وباقي رجال السند ثقات.(1/97)
يَقُوْلُ:
مَا أَسْلَمَ أَحَداً فِي اليَوْمِ الَّذِي أَسْلَمْتُ، وَلَقَدْ مَكَثْتُ سَبْعَ لَيَالٍ، وَإِنِّي لَثُلُثُ الإِسْلاَمِ (1) .
وَقَالَ يُوْسُفُ بنُ المَاجِشُوْنِ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ سَعْدٍ تَقُوْلُ:
مَكَثَ أَبِي يَوْماً إِلَى اللَّيْلِ وَإِنَّهُ لَثُلُثُ الإِسْلاَمِ.
إِسْمَاعِيْلُ بنُ أَبِي (2) خَالِدٍ: عَنْ قَيْسٍ قَالَ:
قَالَ سَعْدُ بنُ مَالِكٍ: مَا جَمَعَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَبَوَيْهِ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ لَيَقُوْلُ لِي: (يَا سَعْدُ! ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي) .
وَإِنِّي لأَوَّلُ المُسْلِمِيْنَ رَمَى المُشْرِكِيْنَ بِسَهْمٍ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَابِعَ سَبْعَةٍ، مَا لَنَا طَعَامٌ إِلاَّ وَرَقَ السَّمُرِ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ، ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي عَلَى الإِسْلاَمِ، لَقَدْ خِبْتُ إِذَنْ وَضَلَّ سَعْيِي (3) .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
رَوَاهُ: جَمَاعَةٌ، عَنْ إِسْمَاعِيْلَ.
وَرَوَى: المَسْعُوْدِيُّ، عَنِ القَاسِمِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي
__________
(1) أخرجه البخاري (3726) و (3727) في الفضائل: باب مناقب سعد، و (3858) في مناقب الانصار: باب إسلام سعد، وابن ماجه (132) في المقدمة: باب فضل سعد.
واستدركه
الحاكم 3 / 498 فأخطأ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 1 / 92 والطبراني في " الكبير " (298) و (313) وابن سعد في " الطبقات " 3 / 1 / 98.
(2) سقطت من المطبوع لفظة " أبي ".
(3) أخرجه أحمد 1 / 174، 181، 186، والبخاري (3728) في الفضائل: باب مناقب سعد.
و (5412) في الاطعمة مختصرا: باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون.
و (6453) في الرقاق: باب كيف كان عيش النبي وأصحابه.
ومسلم (2966) في الزهد، في صدره، والترمذي (2367) في الزهد: باب ما جاء في معيشة النبي، و (2366) فيهما من طريق اخرى، وابن سعد 3 / 1 / 39، وأبو نعيم في " الحلية " 1 / 92.(1/98)
سَبِيْلِ اللهِ: سَعْدٌ، وَإِنَّهُ مِنْ أَخْوَالِ النَّبِيِّ (1) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
حَاتَمُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ، عَنْ بُكَيْرِ بنِ مِسْمَارٍ، عَنْ عَامِرِ بنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيْهِ:
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَمَعَ لَهُ أَبَوَيْهِ.
قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ المُشْرِكِيْنَ قَدْ أَحْرَقَ المُسْلِمِيْنَ،
فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ: (ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي) .
فَنَزَعْتُ بِسَهْمٍ لَيْسَ فِيْهِ نَصْلٌ، فَأَصَبْتُ جَبْهَتَهُ، فَوَقَعَ، وَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ، فَضَحِكَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُه (2) .
عَبْدُ اللهِ بنُ مُصْعَبٍ: حَدَّثَنَا مُوْسَى بنُ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ
قَالَ: قَتَلَ سَعْدٌ يَوْمَ أُحدٍ بِسَهْمٍ رُمِيَّ بِهِ، فَقَتَلَ، فَرُدَّ عَلَيْهِم، فَرَمَوا بِهِ، فَأَخَذَهُ سَعْدٌ فَرَمَى بِهِ الثَّانِيَةَ، فَقَتَلَ، فَرُدَّ عَلَيْهِم، فَرَمَى بِهِ الثَّالِثَةَ، فَقَتَلَ، فَعَجِبَ النَّاسُ مِمَّا فَعَلَ.
إِسْنَادُهُ مُنْقَطِعٌ.
ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي صَالِحُ بنُ كَيْسَانَ، عَنْ بَعْضِ آلِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدٍ: أَنَّهُ رَمَى يَوْمَ أُحُدٍ.
قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُنَاوِلُنِي النَّبْلَ وَيَقُوْلُ: (ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي) .
حَتَّى إِنَّهُ لَيُنَاوِلُنِي السَّهْمَ مَا لَهُ مِنْ نَصْلٍ، فَأَرْمِي بِهِ (3) .
__________
(1) المسعودي هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الكوفي، اختلط قبل موته.
والقاسم هو ابن عبد الرحمن بن مسعود ثقة.
ومعنى الشطر الأول ثابت في الحديث المتقدم.
وأما قوله: إنه خال النبي، صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج الحاكم في " المستدرك " 3 / 498 من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن جابر قال: كنا جلوسا عند النبي، صلى الله عليه وسلم، فأقبل سعد بن أبي وقاص، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم،: " هذا خالي فليرني امرؤ خاله " وصححه، ووافقه الذهبي.
وأخرجه الترمذي في جامعه (3753) وحسنه، وقال: كان سعد من بني زهرة، وكانت أم النبي، صلى الله عليه وسلم، من بني زهرة، فلذلك قال النبي، صلى الله عليه وسلم،: " هذا خالي ".
(2) أخرجه مسلم (2412) في الفضائل: باب مناقب سعد، وانظر ما بعده أيضا، والطبراني (315) في " الكبير ".
(3) بعض آل سعد مجهول، وباقي رجاله ثقات.
وانظر ابن هشام 2 / 82.(1/99)
قَالَ ابْنُ المُسَيِّبِ: كَانَ جَيِّدَ الرَّمْي، سَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: جَمَعَ لِي رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَبَوَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ (1) .
أَخْرَجَهُ: البُخَارِيُّ، وَقَدْ سَاقَهُ الحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ (2) بِضْعَةَ عَشَرَ وَجْهاً.
وَسَاقَ حَدِيْثَ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ طَرِيْقاً بِأَلْفَاظِهَا، وَبِمِثْلِ هَذَا كَبِرَ تَارِيْخُهُ.
وَسَاقَ حَدِيْثَ عَبْدِ اللهِ بنِ شَدَّادٍ، عَنْ عَلِيٍّ: مَا سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَمَعَ أَبَوَيْهِ لأَحَدٍ غَيْرَ سَعْدٍ، مِنْ سِتَّةِ عَشَرَ وَجْهاً.
رَوَاهُ: مِسْعَرٌ، وَشُعْبَةُ، وَسُفْيَانُ، عَنْ سَعْدِ بنِ إِبْرَاهِيْمَ عَنْهُ.
ابْنُ عُيَيْنَةَ: عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيْدٍ، عَنِ ابْنِ المُسَيِّبِ قَالَ:
قَالَ عَلِيٌّ: مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَجْمَعُ أَبَوَيْهِ لأَحَدٍ غَيْرَ سَعْدٍ (3) .
تَفَرَّدَ بِهِ: ابْنُ عُيَيْنَةَ.
وَقَدْ رَوَاهُ: شُعْبَةُ، وَزَائِدَةُ، وَغَيْرُهُمَا، عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيْدٍ، عَنْ سَعْدٍ، وَهُوَ أَصَحُّ.
__________
(1) أخرجه أحمد 1 / 174، 180.
والبخاري (3725) في الفضائل، و (4055) و (4056) و (4057) في المغازي: باب إذ همت طائفتان منكم ان تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون.
وابن ماجه (130) في المقدمة: باب: فضل سعد.
(2) تصحفت في المطبوع إلى " عن ".
(3) أخرجه الترمذي (3753) من طريق: الحسن بن الصباح، عن ابن عيينة عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن علي.
وقال: هذا حديث حسن.
وأخرجه أحمد 1 / 180 والبخاري (4056) و (4057) في المغازي: باب إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا، ومسلم (2412) في الفضائل، والترمذي (3754) ، وابن ماجه (130) في المقدمة، كلهم من طريق: يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب، عن سعد بن أبي وقاص.
وأخرجه أحمد 1 / 92، 124، 136، 137، والبخاري (2905) و (4058) و (4059) و (6184) ، ومسلم (2411) في الفضائل، والترمذي (3755) ، وابن ماجه (129) من طريق: ابن شداد، عن علي، رضي الله عنه.(1/100)
ابْنُ زَنْجَوَيْه: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ (1) ، عَنْ أَيُّوْبَ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ: سَمِعْتُهَا (2) تَقُوْل: أَنَا ابْنَةُ المُهَاجِرِ الَّذِي فَدَاهُ رَسُوْلُ اللهِ يَوْمَ أُحُدٍ بِالأَبَوَيْنِ.
الأَعْمَشُ: عَنْ إِبْرَاهِيْمَ، قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُوْدٍ: لَقَدْ رَأَيْتُ سَعْداً يُقَاتِلُ يَوْمَ بَدْرٍ قِتَالَ الفَارِسِ فِي الرِّجَالِ (3) .
رَوَاهُ: بَعْضُهُمْ، عَنِ الأَعْمَشِ، فَقَالَ: عَنْ إِبْرَاهِيْمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ.
يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ: عَنْ عُثْمَانَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الوَقَّاصِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ:
بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَرِيَّةً فِيْهَا سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ إِلَى جَانِبٍ مِنَ الحِجَازِ، يُدْعَى: رَابِغٍ، وَهُوَ مِنْ جَانِبِ الجُحْفَةِ، فَانْكَفَأَ المُشْرِكُوْنَ عَلَى المُسْلِمِيْنَ، فَحَمَاهُمْ سَعْدٌ يَوْمَئِذٍ بِسِهَامِهِ، فَكَانَ هَذَا أَوَّلُ قِتَالٍ فِي الإِسْلاَمِ.
فَقَالَ سَعْدٌ:
أَلاَ هَلْ أَتَى رَسُوْلَ اللهِ أَنِّي ... حَمَيْتُ صَحَابَتِي بِصُدُورِ نَبْلِي
فَمَا يَعتَدُّ رَامٍ فِي عَدُوٍّ ... بِسَهْمٍ يَا رَسُوْلَ اللهِ قَبْلِي (4)
وَفِي البُخَارِيِّ لِمَرْوَانَ بنِ مُعَاوِيَةَ: أَخْبَرَنِي هَاشِمُ بنُ هَاشِمٍ: سَمِعْتُ سَعِيْدَ بنَ المُسَيِّبِ: سَمِعْتُ سَعْداً يَقُوْلُ:
نَثَلَ لِي رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كِنَانَتَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَالَ: (ارْمِ! فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي) (5) .
__________
(1) تحرفت في المطبوع إلى " عمر ".
(2) تصحفت في المطبوع إلى " سمعت ".
ورجال السند ثقات.
(3) الخبر في " طبقات ابن سعد " 3 / 1 / 100.
(4) عند ابن هشام 1 / 594 - 595 والابيات عنده ستة.
وأخرج الحاكم الابيات 3 / 498 عن عائشة بنت سعد.
وفي " الإصابة " 4 / 164 وابن سعد في " الطبقات " 3 / 1 / 100.
(5) أخرجه البخاري (4055) في المغازي، باب: إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا.
وابن سعد 3 / 1 / 100 ونثل الكنانة: نفضها واستخرج ما فيها من النبل.
والكنانة: جعبة السهام.(1/101)
أَنْبَأَنَا بِهِ أَحْمَدُ بنُ سَلاَمَةَ، عَنِ ابْنِ كُلَيْبٍ، أَنْبَأَنَا ابْنُ بَيَانٍ، أَنْبَأَنَا ابْنُ مَخْلَدٍ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيْلُ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا الحَسَنُ بنُ عَرَفَةَ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ، فَذَكَرَهُ.
القَعْنَبِيُّ، وَخَالِدُ بنُ مَخْلَدٍ، قَالاَ:
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بنُ بِلاَلٍ، عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَامِرِ بنِ رَبِيْعَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:
أَرِقَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ لَيْلَةٍ
فَقَالَ: (لَيْتَ رَجُلاً صَالِحاً مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ) .
قَالَتْ: فَسَمِعْنَا صَوْتَ السِّلاَحِ.
فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ: (مَنْ هَذَا؟) .
قَالَ سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ: أَنَا يَا رَسُوْلَ اللهِ! جِئْتُ أَحْرُسُكَ.
فَنَامَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيْطَهُ (1) .
أَبُو بَكْرٍ الحَنَفِيُّ عَبْدُ الكَبِيْرِ: حَدَّثَنَا بُكَيْرُ بنُ مِسْمَارٍ، عَنْ عَامِرِ بنِ سَعْدٍ:
أَنَّ أَبَاهُ سَعْداً كَانَ فِي غَنَمٍ لَهُ، فَجَاءَ ابْنُهُ عُمَرُ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: أَعُوْذُ بِاللهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الرَّاكِبِ.
فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ، قَالَ: يَا أَبَةِ أَرَضِيْتَ أَنْ تَكُوْنَ أَعْرَابِياً فِي غَنَمِكَ، وَالنَّاسُ يَتَنَازَعُوْنَ فِي الملْكِ بِالمَدِيْنَةِ.
فَضَرَبَ صَدْرَ عُمَرَ وَقَالَ: اسْكُتْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُوْلُ (2) : (إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُحِبُّ العَبْدَ التَّقِيَّ، الغَّنِيَّ، الخَفِيَّ (3)) .
روحٌ، وَالأَنْصَارِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ: أَنْبَأَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَامِرِ بنِ سَعْدٍ، قَالَ:
قَالَ سَعْدٌ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
__________
(1) أخرجه البخاري (2885) في الجهاد، باب: الحراسة في الغزو، (7231) في التمني: باب: قوله صلى الله عليه وسلم: ليت كذا وكذا.
ومسلم (2410) في الفضائل: باب فضائل سعد.
والترمذي (3757) في المناقب: باب مناقب سعد، والحاكم 3 / 501.
(2) سقطت لفظة " يقول " من المطبوع.
(3) أخرجه أحمد 1 / 168، ومسلم (2965) في الزهد، في أوله، وأبو نعيم في حلية الأولياء 1 / 94.(1/102)
ضَحِكَ يوْمَ الخَنْدَقِ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ.
كَانَ رَجُلٌ مَعَهُ تُرْسٌ، وَكَانَ سَعْدٌ رَامِياً، فَجَعَلَ يَقُوْلُ كَذَا، يُحَوِّي بِالتُّرْسِ، وَيُغَطِّي جَبْهَتَهُ.
فَنَزَعَ لَهُ سَعْدٌ بِسَهْمٍ، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ رَمَاهُ، فَلَمْ يُخْطِ هَذَهِ مِنْهُ -يَعْنِي: جَبْهَتَهُ- فانْقَلَبَ، وَأَشَالَ بِرِجْلِهِ، فَضَحِكَ رَسُوْلُ اللهِ مِنْ فِعْلِهِ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ (1) .
يَحْيَى القَطَّانُ، وَجَمَاعَةٌ: عَنْ صَدَقَةَ بنِ المُثَنَّى، حَدَّثَنِي جَدِّي رِيَاحِ بنِ الحَارِثِ:
أَنَّ المُغِيْرَةَ كَانَ فِي المَسْجِدِ الأَكْبَرِ، وَعِنْدَهُ أَهْلُ الكُوْفَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكُوْفَةِ، فَاسْتَقْبَلَ المُغِيْرَةَ، فَسَبَّ وَسَبَّ.
فَقَالَ سَعِيْدُ بنُ زَيْدٍ: مَنْ يَسُبُّ هَذَا يَا مُغِيْرَةُ؟
قَالَ: يَسُبُّ عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ.
قَالَ: يَا مُغير بن شُعَيِّب، يَا مُغير بن شُعَيِّب! أَلاَ تَسْمَعُ أَصْحَابَ رَسُوْلِ اللهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُسَبُّوْنَ عِنْدَكَ وَلاَ تُنْكِرُ وَلاَ تُغَيِّرُ؟ فَأَنَا أَشْهَدُ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَا سَمِعْتْ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي مِنْ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنِّي لَمْ أَكُنْ أَرْوِي عَنْهُ كَذِباً، إِنَّهُ قَالَ: (أَبُو بَكْرٍ فِي الجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الجَنَّةِ، وَعلِيٌّ فِي الجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الجَنَّةِ، وَطَلْحَةُ فِي الجَنَّةِ، وَالزُّبَيْرُ فِي الجَنَّةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي الجَنَّةِ، وَسَعْدُ بنُ مَالِكٍ فِي الجَنَّةِ) ، وَتَاسِعُ المُؤْمِنِيْنَ فِي الجَنَّةِ، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أُسَمِّيَهُ لَسَمَّيْتُهُ.
فَضَجَّ أَهْلُ المَسْجِدِ يُنَاشِدُوْنَهُ: يَا صَاحِبَ رَسُوْلِ اللهِ! مَنِ التَّاسِعُ؟
قَالَ: نَاشَدْتُمُوْنِي بِاللهِ وَاللهُ عَظِيْمٌ، أَنَا هُوَ، وَالعَاشِرُ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاللهِ لَمَشْهَدٌ شَهِدَهُ رَجُلٌ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَفْضَلَ مِنْ عَمَلِ أَحَدِكُم، وَلَوْ عُمِّرَ مَا عُمِّرَ نُوْحٌ (2) .
__________
(1) أخرجه أحمد 1 / 186 وسنده حسن وفي الشواهد.
وانظر الصفحة (99) تعليق رقم (2) .
(2) إسناده صحيح.
وأخرجه أحمد 1 / 187، وأبو داود (4650) في السنة: باب في الخلفاء، وابن ماجه (133) في المقدمة مختصرا.
وأبو نعيم في " الحلية " 1 / 95 - 96.
وفي المسند " يا مغير ابن شعب " وفي " الحلية " يا مغيرة بن شعبة.(1/103)
أَخْرَجَهُ: أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائَيُّ، وَابْنُ مَاجَه، مِنْ طَرِيْقِ صَدَقَةَ.
شُعْبَةُ: عَنِ الحُرِّ: سَمِعْتُ رَجُلاً يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ الأَخْنَسِ، قَالَ:
خَطَبَ المُغِيْرَةُ بنُ شُعْبَةَ، فَنَالَ مِنْ عَلِيٍّ، فَقَامَ سَعِيْدُ بنُ زَيْدٍ، فَقَالَ:
مَا تُرِيْدُ إِلَى هَذَا؟ أَشْهَدُ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَقَالَ: (عَشْرَةٌ فِي الجَنَّةِ: رَسُوْلُ اللهِ فِي الجَنَّةِ، وَأَبُو بَكْرٍ فِي الجَنَّةِ ... ) الحَدِيْثُ (1) .
الحُرُّ: هُوَ ابْنُ الصَّيَّاحِ.
عَبْدُ الوَاحِدِ بنُ زِيَادٍ: عَنِ الحَسَنِ بنِ عُبَيْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا الحُرُّ بِنَحْوِهِ.
ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ: حَدَّثَنَا مُوْسَى بنُ يَعْقُوْبَ، عَنْ عُمَرَ بنِ سَعِيْدِ بنِ سُرَيْجٍ (2) : أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ حُمَيْد حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِيْهِ حُمَيْدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي سَعِيْدُ بنُ زَيْدٍ فِي نَفَرٍ:
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (عَشْرَةٌ فِي الجَنَّةِ: أَبُو بَكْرٍ فِي الجَنَّةِ ... ) ، وَسَمَّى فِيْهِم أَبَا عُبَيْدَةَ (3) .
__________
(1) رجاله ثقات، إلا عبد الرحمن بن الاخنس لم يوثقه غير ابن حبان.
وهو في " المسند " 1 / 188.
وأخرجه أبو داود (4649) في السنة: باب في الخلفاء.
وانظر الحديث (4) في الصفحة التالية.
وانظر ما قبله أيضا.
(2) ترجمه المؤلف في " الميزان " 3 / 200 ولينه.
وسريج بالسين والجيم كما ضبطه ابن ماكولا، وابن حجر، وقد تحرف في الأصل إلى " جريج " وعند الحاكم 3 / 440 وابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " إلى " شريح " وعند ابن حبان في الضعفاء 1 / 109 - 110 إلى " سريح ".
(3) أخرجه الحاكم 3 / 440 من طريق: ابن أبي فديك، عن موسى بن يعقوب عن عمر بن سعيد بن سريج وكلاهما ضعيف، عن عبد الرحمن بن حميد، عن أبيه حميد، عن سعيد بن زيد.
وأخرجه الترمذي (3748) من طريق: موسى بن يعقوب، عن عمر بن سعيد، ولم ينسبه إلى جده.
وهو عمر بن سعيد بن أبي حسين الكوفي، النوفلي وهو ثقة، من رجال الشيخين والترمذي والنسائي، وابن ماجه.
وأخرجه أحمد 1 / 193، والترمذي (3747) من طريق: قتيبة بن سعيد، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن عبد الرحمن بن حميد، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف.
وهذا سند رجاله ثقات.(1/104)
ابْنُ عُيَيْنَةَ: عَنْ سُعَيْرِ بنِ الخِمْسِ (1) ، عَنْ حَبِيْبِ بنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ:
قَالَ رَسُوْلُ اللهِ: (عَشْرَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي الجَنَّةِ: أَبُو بَكْرٍ ... ) ثُمَّ سَمَّى العَشْرَةَ (2) .
أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، وَجَمَاعَةٌ، إِذْناً، قَالُوا:
أَنْبَأَنَا حَنْبَلٌ، أَنْبَأَنَا هِبَةُ اللهِ، أَنْبَأَنَا ابْنُ المُذْهِبِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ (3) بنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ هِلاَلِ بنِ يِسَافٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ ظَالِمٍ، قَالَ:
خَطَبَ المُغِيْرَةُ، فَنَالَ مِنْ عَلِيٍّ، فَخَرَجَ سَعِيْدُ بنُ زَيْدٍ، فَقَالَ:
أَلاَ تَعْجَبُ مِنْ هَذَا يَسُبُّ عَلِيّاً! أَشْهَدُ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّا كُنَّا عَلَى حِرَاءٍ أَوْ أُحُدٍ، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (اثْبُتْ حِرَاءُ، أَوْ أُحُدُ! فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ، أَوْ صِدِّيْقٌ، أَوْ شَهِيْدٌ) .
فَسَمَّى النَّبِيَّ، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيّاً، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرَ، وَسَعْداً، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَسَمَّى سَعِيْدٌ نَفْسَهُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِم (4) -.
وَلَهُ طُرُقٌ، وَمِنْهَا:
عَاصِمُ بنُ عَلِيٍّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ هِلاَلِ بنِ
__________
(1) تصحف في المطبوع إلى " سعد بن الحسن ".
(2) ذكره صاحب الكنز برقم (33137) ونسبه إلى الطبراني، وابن عساكر.
(3) تحرف في المطبوع إلى " حمد ".
(4) إسناده حسن.
وعبد الله بن ظالم المزني وثقة ابن حبان وروى عنه غير واحد، وباقي رجاله ثقات.
والحديث صحيح بطرقه، فقد أخرجه أحمد 1 / 188، 189، وأبو داود (4648) في السنة: باب في الخلفاء، والترمذي (3728) في المناقب: باب مناقب سعيد بن زيد.
وابن ماجه (134) في المقدمة: باب فضائل العشرة.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، والحاكم 3 / 450، وأخرجه الطبراني (356) من طريق محمد بن بكير الحضرمي، عن ثابت بن الوليد بن عبد الله بن جميع القرشي عن أبي الطفيل، عن سعيد بن زيد، وقد تقدم تخريج حديث أبي هريرة في الصفحة (53) تعليق رقم (3) فارجع إليه.(1/105)
يِسَافٍ، عَنْ سَعِيْدٍ نَفْسِهِ، وَقَالَ: (اسْكُنْ حِرَاءُ) .
أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي الخَيْرِ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الغَنِيِّ الحَافِظُ فِي كِتَابِهِ إِلَيْنَا، أَنْبَأَنَا المُبَارَكُ بنُ المُبَارَكِ السِّمْسَارُ، أَنْبَأَنَا النِّعَالِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو القَاسِمِ بنُ المُنْذِرِ، أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيْلُ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا الدَّقِيْقِيُّ، حَدَّثَنَا يُوْنُسُ بنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيْدَ بنِ الهَادِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ بنِ حَزْمٍ، قَالَ:
جَاءتْ أَرْوَى بِنْتُ أُوَيْسٍ إِلَى مُحَمَّدِ بنِ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ، فَقَالَتْ:
إِنَّ سَعِيْدَ بنَ زَيْدِ بنِ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ قَدْ بَنَى ضَفِيْرَةً (1) فِي حَقِّي، فَائْتِهِ، فَكَلِّمْهُ، فَوَاللهِ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ لأَصِيْحَنَّ بِهِ فِي مَسْجِدِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
فَقَالَ لَهَا: لاَ تُؤْذِي صَاحِبَ رَسُوْلِ اللهِ، مَا كَانَ لِيَظْلِمَكِ، مَا كَانَ لِيَأْخُذَ لَكِ حَقّاً.
فَخَرَجَتْ، فَجَاءتْ عمَارَةَ بنَ عَمْرٍو، وَعَبْدَ اللهِ بنَ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ لَهُمَا:
ائْتِيَا سَعِيْدَ بن زَيْدٍ، فَإِنَّهُ قَدْ ظَلَمَنِي، وَبنَى ضَفِيْرَةً فِي حَقِّي، فَوَاللهِ لَئِنْ لَمْ يَنْزَعْ، لأَصِيْحَنَّ بِهِ فِي مَسْجِدِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
فَخَرَجَا، حَتَّى أَتَيَاهُ فِي أَرْضِهِ بِالعَقِيْقِ، فَقَالَ لَهُمَا: مَا أَتَى بِكُمَا؟
قَالاَ: جَاءَ بِنَا أَرْوَى، زَعَمَتْ أَنَّكَ بَنَيْتَ ضَفِيْرَةً فِي حَقِّهَا، وَحَلَفَتْ بِاللهِ لَئِنْ لَمْ تَنْزعْ لَتَصِيْحَنَّ بِكَ فِي مَسْجِدِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَحْبَبْنَا أَنْ نَأْتِيَكَ، وَنُذَكِّرَكَ بِذَلِكَ.
فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُوْلُ: (مَنْ أَخَذَ شِبْراً مِنَ الأَرْضِ بِغَيْرِ حَقٍّ، طُوِّقَهُ يَوْمَ القِّيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِيْنَ) .
لَتَأْتِيَنَّ، فَلْتَأْخُذْ مَا كَانَ لَهَا مِنْ حَقٍّ، اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ كَذَبَتْ عَلَيَّ فَلاَ تُمِتْهَا حَتَّى تُعْمِي بَصَرَهَا، وَتَجْعَلَ مَنِيَّتهَا فِيْهَا، ارْجِعُوا فَأَخْبِرُوْهَا بِذَلِكَ.
فَجَاءتْ، فَهَدَمَتِ الضَّفِيْرَةَ، وَبَنَتْ بَيْتاً، فَلَمْ تَمْكُثْ إِلاَّ قَلِيْلاً حَتَّى
__________
(1) تحرفت في المطبوع إلى " صغيرة " في المواطن الأربعة.
والضفيرة: هي الحائط يبنى في وجه الماء.(1/106)
عَمِيَتْ، وَكَانَت تَقُوْمُ مِنَ اللَّيْلِ، وَمَعَهَا جَارِيَةٌ تَقُوْدُهَا، فَقَامَتْ لَيْلَةً، وَلَمْ تُوْقِظِ الجَارِيَةَ، فَسَقَطَتْ فِي البِئْرِ، فَمَاتَتْ (1) .
هَذَا يُؤَخَّرُ إِلَى تَرْجَمَةِ سَعِيْدِ بنِ زَيْدٍ (2) .
أَحْمَدُ فِي (مُسْنَدِهِ) : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بنُ دَاوُدَ الهَاشِمِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيْمُ بنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ سَعْدٍ، قَالَ:
رَأَيْتُ رَجُلَيْنِ عَنْ يَمِيْنِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَسَارِهِ يَوْمَ أُحُدٍ، عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيْضُ، يُقَاتِلاَنِ عَنْهُ كَأَشَدِّ (3) القِتَالِ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ (4) .
الثَّوْرِيُّ: عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ، قَالَ:
اشْتَرَكْتُ أَنَا، وَسَعْدٌ، وَعَمَّارٌ، يَوْمَ بَدْرٍ فِيْمَا أَصَبْنَا مِنَ الغَنِيْمَةِ، فَجَاءَ
__________
(1) هو في تاريخ ابن عساكر.
وأخرجه مسلم (1610) (139) من طريق: أبي الربيع العتكي، عن حماد بن زيد، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، أن أروى بنت أويس ادعت على سعيد بن زيد، أنه أخذ شيئا من أرضها، فخاصمته إلى مروان بن الحكم.
فقال سعيد: أنا كنت آخذ من أرضها شيئا بعد الذي سمعت من رسول الله، صلى الله عليه وسلم،؟ قال: وما سمعت من رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: من أخذ شبرا من الأرض ظلما طوقه إلى سبع أرضين.
فقال له مروان: لا أسألك بينة بعد هذا.
فقال: اللهم إن كانت كاذبة، فعم بصرها، واقتلها في أرضها قال: فما ماتت حتى ذهب بصرها.
ثم بينا هي تمشي في أرضها إذ وقعت في حفرة فماتت ".
وأخرجه عبد الرزاق (19755) من طريق: معمر عن هشام ... ، وفيه: ثم جاء السيل بعد ذلك فكسح الأرض فخرجت الاعلام كما قال سعيد.
وهو في الطبراني (342) بمعناه.
وأخرج المرفوع منه أحمد 1 / 188، 189، 190 والبخاري (3198) في بدء الخلق: باب ما جاء في سبع أرضين.
و (2452) ، ومسلم (1610) .
(2) لأنه لا علاقة له بترجمة سعد.
(3) هي في الأصل " كأشد " تحرفت في المطبوع إلى " كلما شد ".
(4) أخرجه أحمد 1 / 171، 177، وأخرجه البخاري 7 / 276 في المغازي، باب: قوله تعالى: (إذ همت طائفتان) وفي اللباس: باب الثياب البيض، ومسلم (2306) في الفضائل: باب قتال
جبريل وميكائيل عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد.(1/107)
سَعْدٌ (1) بِأَسِيْرَيْنِ، وَلَمْ أَجِئْ أَنَا وَعَمَّارٌ بِشَيْءٍ (2) .
شَرِيْكٌ: عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ:
أَشَدُّ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ: عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدٌ (3) .
أَبُو يَعْلَى فِي (مُسْنَدِهِ) : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ قَيْسٍ الرَّقَاشِيُّ، حَدَّثَنَا أَيُّوْبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:
كُنَّا جُلُوْساً عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (يَدْخُلُ عَلَيْكُم مِنْ هَذَا البَابِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ) .
فَطَلَعَ سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ (4) .
رِشْدِيْنُ بنُ سَعْدٍ (5) : عَنِ الحَجَّاجِ بنِ شَدَّادٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الغِفَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو:
أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ هَذَا البَابِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ) .
فَدَخَلَ سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ (6) .
__________
(1) سقط " سعد " من المطبوع.
(2) رجاله ثقات إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه فهو منقطع.
وأخرجه أبو داود (3388) في البيوع: باب في الشركة على غير رأسمال، والنسائي 7 / 57: باب شركة الابدان، و (319) : باب الشركة بغير مال.
وابن ماجه (2288) في التجارات: باب الشركة والمضاربة، من طرق عن سفيان، عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة، عن عبد الله، والطبراني (297) من طريق زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق به.
(3) " الإصابة ": 4 / 163.
(4) عبد الله بن قيس الرقاشي، قال العقيلي في " الضعفاء ": عبد الله بن قيس الرقاشي، عن أيوب حديثه غير محفوظ، ولا يتابع عليه، ولا يعرف إلا به ثم أورد حديثه هذا ... ، وأخرجه الحاكم 3 / 499 من طريق الخصيب بن ناصح، عن عبدة بن نائل، عن عائشة، عن أبيها سعد،
وصححه، ووافقه الذهبي.
(5) سقطت لفظة " رشدين " من المطبوع.
(6) إسناده ضعيف لضعف رشدين بن سعد.
قال ابن يونس: كان صالحا في دينه، فأدركته غفلة الصالحين، فخلط في الحديث.
وذكره صاحب الكنز (37112) ونسبه إلى ابن عدي، وابن عساكر.(1/108)
ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ، أَخْبَرَنَا عقِيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي مَنْ لاَ أَتَّهِمُ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ:
بَيْنَا نَحْنُ جُلُوْسٌ عِنْدَ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: (يَطْلُعُ عَلَيْكُم الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ) .
فَاطَّلَعَ (1) سَعْدٌ (2) .
الثَّوْرِيُّ: عَنِ المِقْدَامِ بنِ شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ سَعْدٍ: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِيْنَ يَدْعُوْنَ رَبَّهُم} [الأَنْعَامُ: 52] .
قَالَ: نَزَلَتْ فِي سِتَّةٍ: أَنَا وَابْنُ مَسْعُوْدٍ مِنْهُم (3) .
مَسْلَمَةُ بنُ عَلْقَمَةَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ: أَنَّ سَعْداً قَالَ:
نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِيَّ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} [العَنْكَبُوْتُ: 8] .
قَالَ: كُنْتُ بَرّاً بِأُمِّي، فَلَمَّا أَسْلَمْتُ، قَالَتْ:
يَا سَعْدُ! مَا هَذَا الدِّيْنُ الَّذِي قَدْ أَحْدَثْتَ؟ لَتَدَعَنَّ دِيْنَكَ هَذَا، أَوْ لاَ آكُلُ، وَلاَ أَشْرَبُ حَتَّى أَمُوْتَ، فَتُعَيَّرَ بِي، فَيُقَالُ: يَا قَاتِلَ أُمِّهِ.
قُلْتُ: لاَ تَفْعَلِي يَا أُمَّهُ، إِنِّي لاَ أَدَعُ دِيْنِي هَذَا لِشَيْءٍ.
فَمَكَثَتْ يَوْماً لاَ تَأْكُلُ وَلاَ تَشْرَبُ وَلَيْلَةً، وَأَصْبَحَتْ وَقَدْ جُهِدَتْ.
فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ، قُلْتُ: يَا أُمَّهُ! تَعْلَمِيْنَ - وَالله - لَوْ كَانَ لَكِ مَائَةُ نَفْسٍ، فَخَرَجَتْ نَفْساً نَفْساً، مَا تَرَكْتُ دِيْنِي، إِنْ شِئْتِ فَكُلِي أَوْ لاَ تَأْكُلِي.
__________
(1) يقال: أطلع رأسه إذا أشرف على شيء.
وكذلك اطلع.
(2) ذكره صاحب الكنز (37116) ونسبه إلى ابن عساكر، وقال: ورجاله رجال الصحيح، إلا أن ابن شهاب قال: حدثني من لا أتهم، عن أنس ...
(3) أخرجه مسلم (2413) في الفضائل، باب: فضائل سعد.
وابن ماجه (4128) في الزهد، باب: مجالسة الفقراء.
والواحدي ص: 162.
ونسبه السيوطي في " الدر المنثور " 3 / 13 إلى الفريابي، وأحمد، وعبد بن حميد، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والحاكم، وأبي نعيم، والبيهقي في " الدلائل "، وانظر ابن كثير في تفسيره 3 / 27.(1/109)
فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ، أَكَلَتْ (1) .
رَوَاهُ: أَبُو يَعْلَى فِي (مُسْنَدِهِ) .
مُجَالِدٌ: عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ:
كُنَّا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ أَقْبَلَ سَعْدُ بنُ مَالِكٍ.
فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (هَذَا خَالِي، فَلْيُرِنِي امْرُؤٌ خَالَهُ (2)) .
قُلْتُ: لأَنَّ أُمَّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زُهْرِيَّةٌ، وَهِيَ: آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبِ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ، ابْنَةُ عَمِّ أَبِي وَقَّاصٍ.
يَحْيَى القَطَّانُ (3) : عَنِ الجَعْدِ بنِ أَوْسٍ، حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ بِنْتُ سَعْدٍ، قَالَتْ:
قَالَ سَعْدٌ: اشْتَكَيْتُ بِمَكَّةَ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعُوْدُنِي، فَمَسَحَ وَجْهِي وَصَدْرِي وَبَطْنِي، وَقَالَ: (اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْداً) .
فَمَا زِلْتُ يُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنِّي أَجِدُ بَرْدَ يَدِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى كَبِدِي حَتَّى السَّاعَةَ (4) .
__________
(1) أخرجه أحمد 1 / 181 - 182، ومسلم (1748) في الجهاد، باب: الانفال مختصرا ومطولا.
وفي الفضائل، باب: فضائل سعد بن أبي وقاص، والترمذي (3188) كلهم من طريق: سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، عن أبيه سعد ... وأخرجه، مختصرا، أبو داود (3740) في الجهاد، باب في النفل، والترمذي (3080) في التفسير: باب ومن سورة الانفال، وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 5 / 141 وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.
(2) أخرجه الترمذي (3753) في المناقب: باب مناقب سعد، والطبراني في " الكبير " برقم
(323) ، وابن سعد 3 / 1 / 97 من طريق مجالد، عن الشعبي عن جابر.
وصححه الحاكم 3 / 498 من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن جابر، ووافقه الذهبي.
وقد تقدم تخريجه.
(3) تحرفت في المطبوع إلى " البطان ".
(4) الجعد بن أوس هو الجعد بن عبد الرحمن بن أوس، وينسب إلى جده وقد يصغر.
وهو في " المسند " 1 / 171 من طريق يحيى بن سعيد، عن الجعد بن أوس بن عائشة بنت سعد، عن أبيها سعد.
وأخرجه البخاري (5659) في المرضى: باب وضع اليد على المريض، من طريق: بكير =(1/110)
أَخْرَجَهُ: البُخَارِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.
أَحْمَدُ فِي (مُسْنَدِهِ) : حَدَّثَنَا أَبُو المُغِيْرَةِ، حَدَّثَنَا مُعَانُ بنُ رِفَاعَةَ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بنُ يَزِيْدَ، عَنِ القَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ:
جَلَسْنَا إِلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَّرَنَا، وَرَقَّقَنَا، فَبَكَى سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَأَكْثَرَ البُكَاءَ.
فَقَالَ: يَا لَيْتَنِي مِتُّ!
فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يَا سَعْدُ! أَتَتَمَنَّى المَوْتَ عِنْدِي؟)
فَرَدَّدَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: (يَا سَعْدُ! إِنْ كُنْتَ خُلِقْتَ لِلْجَنَّةِ، فَمَا طَالَ عُمُرُكَ أَوْ حَسُنَ مِنْ عَمَلِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ (1)) .
مُحَمَّدُ بنُ الوَلِيْدِ البُسْرِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بنُ سَعِيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيْلَ، عَنْ قَيْسٍ، أَخْبَرَنِي سَعْدٌ:
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ لِسَعْدٍ إِذَا دَعَاكَ (2)) .
رَوَاهُ: جَعْفَرُ بنُ عَوْنٍ، عَنْ إِسْمَاعِيْلَ، عَنْ قَيْسٍ:
أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَهُ.
__________
= ابن إبراهيم، أخبرنا الجعيد، عن عائشة بنت سعد، أن أباها قال: تشكيت بمكة شكوى شديدة، فجاءني النبي، صلى الله عليه وسلم، يعودني.
فقلت: يا نبي الله! إني أترك مالا، وإني لم أترك إلا بنتا واحدة، فأوصي بثلثي مالي وأترك الثلث؟ قال: لا.
قلت: فأوصي بالنصف وأترك النصف؟ قال: لا.
قلت: فأوصي بالثلث وأترك الثلثين؟ قال: الثلث والثلث كثير.
ثم وضع يده على جبهته، ثم مسح يده على وجهي وبطني، ثم قال: اللهم اشف سعدا، وأتمم له هجرته.
فما زلت أجد برده على
كبدي فيما يخال إلى حتى الساعة ".
وأخرجه أيضا في كتاب " المرضى ": باب دعاء العائد للمريض.
والنسائي 6 / 241 في الوصايا: باب الوصية بالثلث، وأخرجه مسلم (1628) من طرق وبروايات مختلفة اختصارا وتفصيلا.
وأخرجه أحمد 1 / 168 من طريق: أيوب، عن عمرو بن سعيد، عن حميد بن عبد الرحمن الحميري، عن ثلاثة من ولد سعد، عن سعد ...
(1) أخرجه أحمد 5 / 267 وإسناده ضعيف، لضعف علي بن زيد وهو الالهاني.
(2) إسناده صحيح.
وأخرجه الترمذي (3725) في المناقب: باب مناقب سعد بن أبي وقاص.
وابن حبان (2215) ، والحاكم 3 / 499، وصححه ووافقه الذهبي.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 9 / 153 ونسبه إلى البزار وقال: رجاله رجال الصحيح.(1/111)
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ مَغْرَاءَ: عَنْ سَعِيْدِ بنِ المَرْزُبَانِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ: (اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ لِسَعْدٍ) ثَلاَثَ مَرَّاتٍ (1) .
ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي أَبُو صَخْرٍ، عَنْ يَزِيْدَ بنِ قُسَيْطٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بنِ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ، حَدَّثَنِي أَبِي:
أَنَّ عَبْدَ اللهِ بنَ جَحْشٍ قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ: أَلاَ تَأْتِي نَدْعُو اللهَ -تَعَالَى-؟
فَخَلَوْا فِي نَاحِيَةٍ، فَدَعَا سَعْدٌ، فَقَالَ:
يَا رَبّ! إِذَا لَقِيْنَا العَدُوَّ غَداً، فَلَقِّنِي رَجُلاً شَدِيْداً بَأْسُهُ، شَدِيْداً حَرَدُهُ، أَقَاتِلُهُ وَيُقَاتِلُنِي، ثُمَّ ارْزُقْنِي الظَّفَرَ عَلَيْهِ حَتَّى أَقْتُلَهُ، وَآخُذَ سَلَبَهُ، فَأَمَّنَ عَبْدَ اللهِ.
ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي غَداً رَجُلاً شَدِيْداً بَأْسُهُ، شَدِيْداً حَرَدُهُ، فَأُقَاتِلُهُ وَيقَاتِلُنِي، ثُمَّ يَأْخُذُنِي فَيَجْدَعُ أَنْفِي وَأُذُنِي، فَإِذَا لَقِيْتُكَ غَداً قُلْتَ لِي: يَا عَبْدَ اللهِ! فِيْمَ جُدِعَ أَنْفُكَ وَأُذُنَاكَ؟
فَأَقُوْلُ: فِيْكَ وَفِي رَسُوْلِكَ.
فَتَقُوْلُ: صَدَقْتُ.
قَالَ سَعْدٌ: كَانَتْ دَعْوَتُهُ خَيْراً مِنْ دَعْوَتِي، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ آخِرَ النَّهَارِ، وَإِنَّ أَنْفَهُ وَأُذُنَهُ لَمُعَلَّقٌ فِي خَيْطٍ (2) .
أَبُو عَوَانَةَ، وَجَمَاعَةٌ: حَدَّثَنَا عَبْدُ المَلِكِ بنُ عُمَيْرٍ، عَنْ جَابِرِ بنِ سَمُرَةَ، قَالَ:
__________
(1) إسناده ضعيف لضعف عبد الرحمن بن مغراء وشيخه.
وذكره صاحب الكنز برقم (37110) ونسبه إلى ابن أبي شيبة.
وليس فيه " ثلاث مرات ".
(2) في إسناده من لا يعرف.
وأخرجه ابن سعد 3 / 1 / 63 من طريق حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن رجل سمع عبد الله بن جحش ... بنحوه، ومن طريق: عبد الله بن عبد الحمجيد الحنفي، عن كثير بن زيد، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب بنحوه مع زيادة.
وأخرجه الحاكم 3 / 199 - 200 من طريق سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، قال: قال عبد الله بن جحش ... بنحوه، وقال الحاكم: حديث صحيح على شرطهما لولا إرساله.
وقال الذهبي: صحيح مرسل.(1/112)
شَكَا أَهْلُ الكُوْفَةِ سَعْداً إِلَى عُمَرَ، فَقَالُوا:
إِنَّهُ لاَ يُحْسِنُ أَنْ يُصَلِّي.
فَقَالَ سَعْدٌ: أَمَّا أَنَا، فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِم صَلاَةَ رَسُوْلِ اللهِ صَلاَتَي العَشِيِّ، لاَ أَخْرِمُ مِنْهَا، أَرْكُدُ فِي الأُوْلَيَيْنِ، وَأَحْذِفُ فِي الأُخْرَيَيْنِ.
فَقَالَ عُمَرُ: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ.
فَبَعَثَ رِجَالاً يَسْأَلُوْنَ عَنْهُ بِالكُوْفَةِ، فَكَانُوا لاَ يَأْتُوْنَ مَسْجِداً مِنْ مَسَاجِدِ الكُوْفَةِ إِلاَّ قَالُوا خَيْراً، حَتَّى أَتَوْا مَسْجِداً لِبَنِي عَبْسٍ.
فَقَالَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو سعدَةَ: أَمَا إِذْ نَشَدْتُمُوْنَا بِاللهِ، فَإِنَّهُ كَانَ لاَ يَعْدِلُ فِي القَضِيَّةِ، وَلاَ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلاَ يَسِيْرُ بِالسَّرِيَّةِ.
فَقَالَ سَعْدٌ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ كَاذِباً فَأَعْمِ بَصَرَهُ، وَأَطِلْ عُمُرَهُ، وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ.
قَالَ عَبْدُ المَلِكِ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ يَتَعَرَّضُ لِلإِمَاءِ فِي السِّكَكِ، فَإِذَا سُئِلَ كَيْفَ أَنْتَ؟
يَقُوْلُ: كَبِيْرٌ مَفْتُوْنٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ.
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1) .
مُحَمَّدُ بنُ جُحَادَةَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بنُ عَدِيٍّ، عَنْ مُصْعَبِ بنِ سَعْدٍ:
أَنَّ سَعْداً خَطَبَهُمْ بِالكُوْفَةِ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الكُوْفَةِ! أَيُّ أَمِيْرٍ كُنْتُ لَكُم؟
فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ مَا عَلِمْتُكَ لاَ تَعْدِلُ فِي الرَّعِيَّةِ، وَلاَ تَقْسِمُ بِالسَّوِيِّةِ، وَلاَ تَغْزُو فِي السَّرِيَّةِ.
فَقَالَ سَعْدٌ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ كَاذِباً فَأَعْمِ بَصَرَهُ، وَعَجِّلْ فَقْرَهُ، وَأَطِلْ عُمُرَهُ، وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ.
__________
(1) أخرجه أحمد 1 / 175، 176، 177، 179، 180، والطيالسي برقم (217) ، والبخاري (755) في الاذان: باب وجوب القراءة للامام والمأموم في الصلوات كلها.
و (758) فيهما.
و (770) فيه: باب يطول في الاوليين، ويحذف في الاخريين.
ومسلم (453) في الصلاة: باب القراءة في الظهر والعصر، والنسائي 2 / 217: باب الركود في الاوليين، وأخرجه أبو داود (803) في الصلاة، باب: تخفيف الاخريين، والنسائي 2 / 174 في الصلاة: باب الركود في الركعتين الاوليين، كلاهما من طريق شعبة، عن أبي عون، عن جابر بن سمرة.
وأخرجه الطبراني مختصرا، برقم (290) ومطولا برقم (308) .(1/113)
قَالَ: فَمَا مَاتَ حَتَّى عَمِيَ، فَكَانَ يَلْتَمِسُ الجُدُرَاتِ، وَافْتَقَرَ حَتَّى سَأَلَ، وَأَدْرَكَ فِتْنَةَ المُخْتَارِ، فَقُتِلَ فِيْهَا (1) .
عَمْرُو بنُ مَرْزُوْقٍ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بنِ إِبْرَاهِيْمَ، عَنْ سَعِيْدِ بنِ المُسَيِّبِ، قَالَ:
خَرَجَتْ جَارِيَةٌ لِسَعْدٍ، عَلَيْهَا قَمِيْصٌ جَدِيْدٌ، فَكَشَفَتْهَا الرَّيْحُ، فَشَدَّ عُمُرُ عَلَيْهَا بِالدِّرَّةِ، وَجَاءَ سَعْدٌ لِيَمْنَعَهُ، فَتَنَاوَلَهُ بِالدِّرَّةِ.
فَذَهَبَ سَعْدٌ يَدْعُو عَلَى عُمَرَ، فَنَاوَلَهُ الدِّرَّةَ، وَقَالَ: اقْتَصَّ.
فَعَفَا عَنْ عُمَرَ (2) .
أَسَدُ بنُ مُوْسَى: حَدَّثَنَا يَحْيَى بنُ زَكَرِيَّا، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيْلُ، عَنْ قَيْسٍ، قَالَ:
كَانَ لابْنِ مَسْعُوْدٍ عَلَى سَعْدٍ مَالٌ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُوْدٍ: أَدِّ المَالَ.
قَالَ: وَيْحَكَ مَا لِي وَلَكَ؟
قَالَ: أَدِّ المَالَ الَّذِي قِبَلَكَ.
فَقَالَ سَعْدٌ: وَاللهِ إِنِّي لأَرَاكَ لاَقٍ مِنِّي شَرّاً، هَلْ أَنْتَ إِلاَّ ابْنُ مَسْعُوْدٍ، وَعَبْدُ بَنِي هُذَيْلٍ.
قَالَ: أَجل وَاللهِ! وَإِنَّكَ لابْنُ حَمْنَةَ.
فَقَالَ لَهُمَا هَاشِمُ بنُ عُتْبَةَ: إِنَّكُمَا صَاحِبَا رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَنْظُرُ إِلَيْكُمَا النَّاسُ.
فَطَرَحَ سَعْدٌ عُوْداً كَانَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ!
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ: قُلْ قَوْلاً وَلاَ تَلْعَنْ.
فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ سَعْدٌ: أَمَا وَاللهِ لَوْلاَ اتِّقَاءُ اللهِ لَدَعَوْتُ عَلَيْكَ دَعْوَةً لاَ تُخْطِئُكَ (3) .
__________
(1) كانت فتنة المختار الثقفي سنة 65 - 67 هـ وانظر " تاريخ الإسلام " 2 / 369 - 377 للذهبي.
(2) أخرجه الطبراني برقم (309) في " الكبير ".
وذكره الهيثمي في " المجمع " 9 / 153 - 154 ونسبه إلى الطبراني، وقال: ورجاله ثقات.
(3) رجاله ثقات.
وإسماعيل هو ابن أبي خالد الاحمسي، ثقة ثبت.
وقيس هو ابن أبي حازم وأخرجه الطبراني (306) .
وذكره الهيثمي في " المجمع " 9 / 154 وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح، غير أسد بن موسى وهو ثقة مأمون.
وقد تحرف في المطبوع من الطبراني " إسماعيل عن قيس " إلى " إسماعيل بن قيس ".
فيصحح من هنا.(1/114)
رَوَاهُ: ابْنُ (1) المَدِيْنِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيْلَ، وَكَانَ قَدْ أَقْرَضَهُ شَيْئاً مِنْ بَيْتِ المَالِ.
وَمِنْ مَنَاقِبِ سَعْدٍ أَنَّ فَتْحَ العِرَاقِ كَانَ عَلَى يَدَيْ سَعْدٍ، وَهُوَ كَانَ مُقَدَّمَ الجُيُوْشِ يَوْمَ وَقْعَةِ القَادِسِيَّةِ (2) ، وَنَصَرَ اللهُ دِيْنَهُ.
وَنَزَلَ سَعْدٌ بِالمَدَائِنِ، ثُمَّ كَانَ أَمِيْرَ النَّاسِ يَوْمَ جَلُوْلاَءَ (3) ، فَكَانَ النَّصْرُ عَلَى يَدِهِ، وَاسْتَأْصَلَ اللهُ الأَكَاسِرَةَ.
فَرَوَى زِيَادٌ البَكَّائِيُّ، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بنِ عُمَيْرٍ، عَنْ قَبِيْصَةَ بنِ جَابِرٍ، قَالَ:
قَالَ ابْنُ عَمٍّ لَنَا يَوْمَ القَادِسِيَّةِ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ نَصْرَهُ ... وَسَعْدٌ بِبَابِ القَادِسِيَّةِ مُعْصَمُ
فَأُبْنَا وَقَدْ آمَتْ نِسَاءٌ كَثِيْرَةٌ ... وَنِسْوَةُ سَعْدٍ لَيْسَ فِيْهِنَّ أَيِّمُ
فَلَمَّا بَلَغَ سَعْداً، قَالَ: اللَّهُمَّ اقْطَعْ عَنِّي لِسَانَهُ وَيَدَهُ.
فَجَاءتْ نُشَّابَةٌ أَصَابَتْ فَاهُ، فَخَرِسَ، ثُمَّ قُطِعَتْ يَدُهُ فِي القِتَالِ.
وَكَانَ فِي جَسَدِ سَعْدٍ قُرُوْحٌ، فَأَخْبَرَ النَّاسَ بِعُذْرِهِ عَنْ شُهُوْدِ القِتَالِ (4) .
وَرَوَى نَحْوَهُ: سَيْفُ بنُ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ.
هُشَيْمٌ: عَنْ أَبِي مُسلمٍ، عَنْ مُصْعَبِ بنِ سَعْدٍ:
أَنَّ رَجُلاً نَالَ مِنْ عَلِيٍّ،
__________
(1) سقطت لفظة " ابن " من المطبوع.
(2) انظر " معجم البلدان " 4 / 291 - 293.
وانظر خبر هذه المعركة في " تاريخ الطبري ".
و" الكامل " لابن الأثير، و" البداية " لابن كثير في أحداث سنة (16) للهجرة.
(3) انظر " معجم البلدان " 2 / 156 وانظر خبر هذه المعركة عند الطبري، وابن الأثير وابن كثير في " التاريخ " لعام (16) للهجرة.
(4) رواه الطبراني (310) و (311) وقد ذكره الهيثمي 9 / 154، وقال: رواه الطبراني باسنادين، رجال أحدهما رجال الصحيح.
وفي الأصل " ابن عمر لنا " وهو تحريف، والتصويب من الطبراني و" المجمع ".(1/115)
فَنَهَاهُ سَعْدٌ، فَلَمْ يَنْتَهِ، فَدَعَا عَلَيْهِ، فَمَا بَرِحَ حَتَّى جَاءَ بَعِيْرٌ نَادٌّ (1) ، فَخَبَطَهُ حَتَّى مَاتَ.
وَلِهَذِهِ الوَاقِعَةِ طُرُقٌ جَمَّةٌ، رَوَاهَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي (مُجَابِيّ الدَّعْوَةِ (2)) .
وَرَوَى نَحْوَهَا: الزُّبَيْرُ بنُ بَكَّارٍ، عَنْ إِبْرَاهِيْمَ بنِ حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَامِرِ بنِ سَعْدٍ.
وَحَدَّثَ بِهَا أَبُو كُرَيْبٍ (3) ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ.
وَرَوَاهَا ابْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ ابْنِ المُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ الأَسْوَدِ.
وَقَرَأْتُهَا عَلَى عُمَرَ بنِ القَوَّاسِ، عَنِ الكِنْدِيِّ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ القَاضِي، أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ البَرْمَكِيُّ حُضُوْراً، أَنْبَأَنَا ابْنُ مَاسِي (4) ، أَنْبَأَنَا أَبُو مُسلمٍ، حَدَّثَنَا الأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ.
وَحَدَّثَ بِهَا: ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدٍ.
وَرَوَاهَا ابْنُ جُدْعَانَ، عَنِ ابْنِ المُسَيِّبِ:
أَنَّ رَجُلاً كَانَ يَقَعُ فِي عَلِيٍّ، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ، فَجَعَلَ سَعْدٌ يَنْهَاهُ، وَيَقُوْلُ:
لاَ تَقَعْ فِي إِخْوَانِي.
فَأَبَى، فَقَامَ سَعْدٌ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَدَعَا.
فَجَاءَ بُخْتِيّ يَشُقُّ النَّاسَ، فَأَخَذَهُ بِالبلاَطِ، فَوَضَعَهُ بَيْنَ كِرْكِرَتِهِ وَالبلاَطِ حَتَّى سَحَقَهُ، فَأَنَا رَأَيْتُ النَّاسَ يَتْبَعُوْنَ سَعْداً، يَقُوْلُوْنَ:
هَنِيْئاً لَكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ! اسْتُجِيْبَتْ دَعْوَتُكَ (5) .
__________
(1) يقال: ند البعير فهو ناد: إذا شرد ونفر وذهب على وجهه.
(2) تصحف في المطبوع إلى " مجاني الدعوة ".
وهو اسم كتاب لا بن أبي الدنيا.
(3) تصحف في المطبوع إلى " كرب ".
(4) هو أبو محمد عبد الله بن إبراهيم بن أيوب بن ماسي، سمع أبا مسلم الكجي وغيره.
انظر ابن ماكولا 7 / 197.
(5) رواه الطبراني (307) من طريق: ابن عون، عن محمد بن محمد بن الأسود عن عامر بن سعد قال ... وذكره الهيثمي في " المجمع " 9 / 154 ونسبه للطبراني وقال: رجاله رجال الصحيح.
والبختي: نسبة إلى البخت.
وهي الابل الخراسانية تنتج من بين عربي ودخيل.
والكركرة: رحى زور البعير.(1/116)
قُلْتُ: فِي هَذَا كَرَامَةٌ مُشْتَرَكَة بَيْنَ الدَّاعِي وَالَّذِيْنَ نِيْلَ مِنْهُم.
جَرِيْرٌ الضَّبِّيُّ: عَنْ مُغِيْرَةَ، عَنْ أُمِّهِ، قَالَتْ:
زُرْنَا آلَ سَعْدٍ، فَرَأَيْنَا جَارِيَّةً، كَأَنَّ طُوْلَهَا شِبْرٌ، قُلْتُ: مَنْ هَذِهِ؟
قَالُوا: مَا تَعْرِفِيْنَهَا؟ هَذِهِ بِنْتُ سَعْدٍ، غَمَسَتْ يَدَهَا فِي طهُوره.
فَقَالَ: قَطَعَ اللهُ قرنَك، فَمَا شِبْتُ بَعْدُ (1) .
وَرَوَى: عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ مِيْنَا مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ:
أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَطَّلِعُ عَلَى سَعْدٍ، فَيَنْهَاهَا، فَلَمْ تَنْتَهِ، فَاطَّلَعَتْ يَوْماً وَهُوَ يَتَوَضَّأ، فَقَالَ: شَاهَ وَجْهُكِ.
فَعَادَ وَجْهُهَا فِي قَفَاهَا.
مِيْنَا: مَتْرُوْكٌ (2) .
حَاتِمُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَبِي لَبِيْبَةَ (3) ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ:
دَعَا سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالَ: يَا رَبِّ! بَنِيَّ صِغَارٌ، فَأَخِّرْ عَنِّي المَوْتَ حَتَّى يَبْلُغُوا.
فَأَخَّرَ عَنْهُ المَوْتَ عِشْرِيْنَ سَنَةً.
قَالَ خَلِيْفَةُ بنُ خَيَّاطٍ: وَفِي سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ وَقْعَةُ القَادِسِيَّةِ، وَعَلَى المُسْلِمِيْنَ سَعْدٌ، وَفِي سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِيْنَ شَكَا أَهْلُ الكُوْفَةِ سَعْداً أَمِيْرَهُم إِلَى عُمَرَ، فَعَزَلَهُ.
__________
(1) ذكره الحافظ في " الإصابة " 4 / 162، ونسبه إلى ابن أبي الدنيا في كتاب: " مجابي الدعوة ".
(2) هو مينا بن أبي مينا الزهري مولى عبد الرحمن بن عوف.
قال ابن معين والنسائي: ليس بثقة.
وقال أبو زرعة: ليس بقوي.
وقال أبو حاتم: منكر الحديث.
روى أحاديث مناكير في الصحابة، لا يعبأ بحديثه، كان يكذب.
(3) " ابن أبي لبيبة " سقط من المطبوع وهو مترجم في " الجرح والتعديل " 9 / 166 وفي " الميزان " للذهبي، وهو ضعيف.(1/117)
وَقَالَ اللَّيْثُ بنُ سَعْدٍ: كَانَ فَتْحُ جَلُوْلاَءَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ، افْتَتَحَهَا سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ.
قُلْتُ: قُتِلَ المَجُوْسُ يَوْمَ جَلُوْلاَءَ قَتْلاً ذَرِيْعاً، فَيُقَالُ: بَلَغَتِ الغَنِيْمَةُ ثَلاَثِيْنَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
وَعَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: سُمِّيَتْ جَلُوْلاَءُ: فَتْحَ الفُتُوْحِ (1) .
قَالَ الزُّهْرِيُّ: لَمَّا اسْتُخْلِفَ عُثْمَانُ عَزَلَ عَنِ الكُوْفَةِ المُغِيْرَةَ، وَأَمَّرَ عَلَيْهَا سَعْداً.
وَرَوَى: حُصَيْنٌ، عَنْ عَمْرِو بنِ مَيْمُوْنٍ، عَنْ عُمَرَ:
أَنَّهُ لَمَّا أُصِيْبَ، جَعَلَ الأَمْرَ شُوْرَى فِي السِّتَّةِ.
وَقَالَ: مَنِ اسْتَخْلَفُوْهُ فَهُوَ الخَلِيْفَةُ بَعْدِي، وَإِنْ أَصَابَتْ سَعْداً، وَإِلاَّ فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ الخَلِيْفَةُ بَعْدِي، فَإِنَّنِي لَمْ أَنْزَعْهُ -يَعْنِي: عَنِ الكُوْفَةِ- مِنْ ضَعْفٍ وَلاَ خِيَانَةٍ (2) .
ابْنُ عُلَيَّةَ: حَدَّثَنَا أَيُّوْبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ:
نُبِّئْتُ أَنَّ سَعْداً قَالَ: مَا أَزْعُمُ أَنِّي بِقَمِيْصِي هَذَا أَحَقُّ مِنِّي بِالخِلاَفَةِ، جَاهَدْتُ وَأَنَا أَعْرَفُ بِالجِهَادِ، وَلاَ أَبْخَعُ نَفْسِي إِنْ كَانَ رَجُلاً خَيْراً مِنِّي، لاَ أُقَاتِلُ حَتَّى يَأْتُوْنِي بِسَيْفٍ لَهُ عَيْنَانِ وَلِسَانٌ، فَيَقُوْلَ: هَذَا مُؤْمِنٌ، وَهَذَا كَافِرٌ (3) .
__________
(1) انظر خبر هذا المعركة في " معجم البلدان " 2 / 156، والطبري، و" الكامل "، و" البداية " في حوادث سنة (16) للهجرة.
(2) هو في الطبراني (320) ، و" الإصابة " 4 / 163.
(3) رجاله ثقات.
وأخرجه ابن سعد 3 / 1 / 101.
وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 1 / 94.
والطبراني في " الكبير " (322) .
وذكره الهيثمي في " المجمع " 7 / 299 وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح.(1/118)
وَتَابَعَهُ: مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوْبَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الغَنَائِمِ القَيْسِيُّ، وَجَمَاعَةٌ كِتَابَةً، قَالُوا:
أَنْبَأَنَا حَنْبَلٌ، أَنْبَأَنَا هِبَةُ اللهِ، أَنْبَأَنَا ابْنُ المُذْهِبِ، أَنْبَأَنَا القَطِيْعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ المَلِكِ بنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا كَثِيْرُ بنُ زَيْدٍ، عَنِ المُطَّلِبِ، عَنْ عُمَرَ بنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيْهِ:
أَنَّهُ جَاءهُ ابْنُهُ عَامِرٌ، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ! أَفِي الفِتْنَةِ تَأْمُرُنِي أَنْ أَكُوْنَ رَأْساً؟ لاَ وَاللهِ، حَتَّى أُعْطَى سَيْفاً، إِنْ ضَرَبْتُ بِهِ مُسْلِماً نَبَا عَنْهُ، وَإِنْ ضَرَبْتُ كَافِراً قَتَلَهُ.
سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُوْلُ: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الغَنِيَّ، الخَفِيَّ، التَّقِيَّ (1)) .
الزُّبَيْرُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ الضَّحَّاكِ الحِزَامِيُّ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ:
قَامَ عَلِيٌّ عَلَى مِنْبَرِ الكُوْفَةِ، فَقَالَ حِيْنَ اخْتَلَفَ الحَكَمَانِ:
لَقَدْ كُنْتُ نَهَيْتُكُم عَنْ هَذِهِ الحُكُوْمَةِ، فَعَصَيْتُمُوْنِي.
فَقَامَ إِلَيْهِ فَتَى آدَمُ، فَقَالَ: إِنَّكَ -وَاللهِ- مَا نَهَيْتَنَا، بَلْ أَمَرْتَنَا، وَذَمَرْتَنَا (2) ، فَلَمَّا كَانَ مِنْهَا مَا تَكْرَهُ بَرَّأْتَ نَفْسَكَ، وَنَحَلْتَنَا ذَنْبَكَ.
فَقَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: مَا أَنْتَ وَهَذَا الكَلاَم، قَبَّحَكَ اللهُ! وَاللهِ لَقَدْ كَانَتِ الجَمَاعَةُ، فَكُنْتَ فِيْهَا خَامِلاً، فَلَمَّا ظَهَرَتِ الفِتْنَةُ نَجَمْتَ فِيْهَا نُجُوْمَ
__________
(1) سنده حسن وهو في " المسند " 1 / 177، و" الحلية " 1 / 94.
وأخرجه أحمد 1 / 168، ومسلم (2965) في أول الزهد، من طريق أبي بكر الحنفي، عن بكير بن مسمار، عن عامر بن سعد، قال: كان سعد بن أبي وقاص في إبله، فجاءه ابنه عمر، فلما رآه سعد قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب.
فنزل.
فقال له: أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم؟ فضرب سعد في صدره فقال: اسكت.
سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: " إن الله يحب العبد التقي، الغني، الخفي ".
المراد بالغنى هنا: غنى النفس.
والخفي: بالخاء المعجمة: ومعناه الخامل المنقطع إلى العبادة، أي الذي لا يبغي الشهرة ولا يتعرض للناس من أجلها.
(2) ذمرتنا: أي حضضتنا، وحثثتنا.
والذمر: الحث مع لوم واستبطاء.
وقد التبست على محقق المطبوع، فأثبت مكانها " ودعوتنا ".(1/119)
قَرْنِ المَاعِزِ.
ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ: للهِ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ سَعْدُ بنُ مَالِكٍ، وَعَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، وَالله لَئِنْ كَانَ ذَنْباً إِنَّهُ لَصَغِيْرٌ مَغْفُوْرٌ، وَلَئِنْ كَانَ حسناً إِنَّهُ لَعَظِيْمٌ مَشْكُوْرٌ (1) .
أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الحَاكِمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ خُزَيْمَةَ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بنُ مُوْسَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ جُحَادَةَ، عَنْ نُعَيْمِ بنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ حُسَيْنِ بنِ خَارِجَةَ الأَشْجَعِيِّ، قَالَ:
لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ، أَشْكَلَتْ عَلَيَّ الفِتْنَةُ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ أَرِنِي مِنَ الحَقِّ أَمْراً أَتَمَسَّكُ بِهِ.
فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ بَيْنَهُمَا حَائِطٌ، فَهَبَطْتُ الحَائِطَ، فَإِذَا بِنَفَرٍ، فَقَالُوا: نَحْنُ المَلاَئِكَةُ.
قُلْتُ: فَأَيْنَ الشُّهَدَاءُ؟
قَالُوا: اصْعَدِ الدَّرَجَاتِ.
فَصَعَدْتُ دَرَجَةً، ثُمَّ أُخْرَى، فَإِذَا مُحَمَّدٌ، وَإِبْرَاهِيْمُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِمَا - وَإِذَا مُحَمَّدٌ يَقُوْلُ لإِبْرَاهِيْمَ: اسْتَغْفِرْ لأُمَّتِي.
قَالَ: إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، إِنَّهُم اهْرَاقُوا دِمَاءهُم، وَقَتَلُوا إِمَامَهُم، أَلاَ فَعَلُوا كَمَا فَعَلَ خَلِيْلِي سَعْدٌ؟
قَالَ: قُلْتُ: لَقَدْ رَأَيْتُ رُؤْيَا، فَأَتَيْتُ سَعْداً فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ، فَمَا أَكْثَرَ فَرحاً، وَقَالَ:
قَدْ خَابَ مَنْ لَمْ يَكُنْ إِبْرَاهِيْمُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- خَلِيْلَهُ.
قُلْتُ: مَعَ أَيِّ الطَّائِفَتَيْنِ أَنْتَ؟
قَالَ: مَا أَنَا مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي؟
قَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ غَنَمٍ؟
قُلْتُ: لاَ.
قَالَ: فَاشْتَرِ غَنَماً، فَكُنْ فِيْهَا حَتَّى تَنْجَلِي (2) .
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيْلُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ بنُ قُدَامَةَ، أَنْبَأَنَا هِبَةُ اللهِ
__________
(1) ذكره الهيثمي في " المجمع " 7 / 246 وقال: رواه الطبراني.
ومحمد بن الضحاك وولده يحيى لم أعرفهما.
(2) رجاله ثقات.
وأخرجه الحاكم 3 / 501 - 502 من طريق: عمران بن موسى، عن عبد الوارث بن سعيد، به ... وانظر " الإصابة " 3 / 8.(1/120)
بنُ الحَسَنِ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ عَلِيٍّ الدّقَاقُ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ (1) بنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا سَعْدَانُ بنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَامِرِ بنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ:
مَرِضْتُ عَامَ الفَتْحِ مَرَضاً أَشْفَيْتُ مِنْهُ، فَأَتَانِي رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعُوْدُنِي.
فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ! إِنَّ لِي مَالاً كَثِيْراً، وَلَيْسَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ، أَفَأُوْصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟
قَالَ: (لاَ) .
قُلْتُ: فَالشَّطْرُ؟
قَالَ: (لاَ) .
قُلْتُ: فَالثُّلُثُ؟
قَالَ: (وَالثُّلُثُ كَثِيْرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَتْرُكَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَتْرُكَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُوْنَ النَّاسَ، لَعَلَّكَ تُؤَخَّرُ عَلَى جَمِيْعِ أَصْحَابِكَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تُرِيْدُ بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلاَّ أُجِرْتَ فِيْهَا، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا إِلَى فِيِّ امْرَأَتِكَ) .
قُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ! إِنِّي أَرْهَبُ أَنْ أَمُوْتَ بِأَرْضٍ هَاجَرْتُ مِنْهَا.
قَالَ: (لَعَلَّكَ أَنْ تَبْقَى حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ، وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُوْنَ، اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِي هِجْرَتَهُم، وَلاَ تَرُدَّهُم عَلَى أَعْقَابِهِم، لَكِنِ البَائِسُ سَعْدُ بنُ خَوْلَةَ) .
يَرْثِي لَهُ أَنَّهُ مَاتَ بِمَكَّةَ (2) .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ.
__________
(1) سقطت من المطبوع " أنبأنا محمد ".
(2) أخرجه أحمد 1 / 179، ومالك في الوصية برقم (4) : باب الوصية في الثلث لا تتعدى.
والبخاري (1295) في الجنائز: باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة، و (3936) في مناقب الانصار و (6373) في الدعوات: باب الدعاء برفع الوباء والوجع، و (6733) في الفرائض، باب: ميراث البنات.
ومسلم (1628) في الوصية: باب الوصية بالثلث.
وأبو داود (2864) في الوصايا: باب ما جاء فيما لا يجوز للموصي في ماله، والترمذي (2117) في الوصايا: باب ما جاء في الوصية بالثلث، وابن ماجه (2708) في الوصايا: باب الوصية بالثلث.
وأخرجه البخاري (2742) في الوصايا: باب أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس، و (5354) في النفقات: باب فضل النفقة، من طريق سفيان، عن سعد بن إبراهيم، به.
وقوله: " يرثي له أنه مات بمكة " هو من كلام الزهري.
انظر " الفتح " 3 / 165 سلفية.(1/121)
وَعَنْ عَلِيِّ بنِ زَيْدٍ، عَنِ الحَسَنِ، قَالَ:
لَمَّا كَانَ الهَيْجُ فِي النَّاسِ، جَعَلَ رَجُلٌ يَسْأَلُ عَنْ أَفَاضِلِ الصَّحَابَةِ، فَكَانَ لاَ يَسْأَلُ أَحَداً إِلاَّ دَلَّهُ عَلَى سَعْدِ بنِ مَالِكٍ.
وَرَوَى: عُمَرُ بنُ الحَكَمِ، عَنْ عَوَانَةَ، قَالَ:
دَخَلَ سَعْدٌ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ بِالإِمْرَةِ.
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَوْ شِئْتَ أَنْ تَقُوْلَ غَيْرَهَا لَقُلْتَ.
قَالَ: فَنَحْنُ المُؤْمِنُوْنَ، وَلَمْ نُؤَمِّرْكَ، فَإِنَّكَ مُعْجَبٌ بِمَا أَنْتَ فِيْهِ، وَاللهِ مَا يَسُرُّنِي أَنِّي عَلَى الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ، وَأَنِّي هَرَقْتُ مِحْجَمَةَ دَمٍ.
قُلْتُ: اعْتَزَلَ سَعْدٌ الفِتْنَةَ، فَلاَ حَضَرَ الجَمَلَ، وَلاَ صِفِّيْنَ، وَلاَ التَّحْكِيْمَ، وَلَقَدْ كَانَ أَهْلاً لِلإِمَامَةِ، كَبِيْرَ الشَّأْنِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
رَوَى نُعَيْمُ بنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيْسَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيْرِيْنَ:
أَنَّ سَعْدَ بنَ أَبِي وَقَّاصٍ طَافَ عَلَى تِسْعِ جَوَارٍ فِي لَيْلَةٍ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَتِ العَاشِرَةُ لَمَّا أَيْقَظَهَا، فَنَام هُوَ، فَاسْتَحْيَتْ أَنْ تُوْقِظَهُ.
حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ: عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ مُصْعَبِ بنِ سَعْدٍ، أَنَّهُ قَالَ:
كَانَ رَأْسُ أَبِي فِي حجْرِي، وَهُوَ يَقْضِي، فَبَكَيْتُ.
فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيَّ، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ (1) ! مَا يُبْكِيْكَ؟
قُلْتُ: لِمَكَانِكَ، وَمَا أَرَى بِكَ.
قَالَ: لاَ تَبْكِ، فَإِنَّ اللهَ لاَ يُعَذِّبُنِي أَبَداً، وَإِنِّي مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ (2) .
قُلْتُ: صَدَقَ وَاللهِ، فَهَنِيْئاً لَهُ.
اللَّيْثُ: عَنْ عقِيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ:
أَنَّ سَعْدَ بنَ أَبِي وَقَّاصٍ لَمَّا احْتُضِرَ، دَعَا بِخَلَقِ جُبَّةِ صُوْفٍ، فَقَالَ:
كَفِّنُوْنِي فِيْهَا، فَإِنِّي لَقِيْتُ المُشْرِكِيْنَ فِيْهَا يَوْمَ بَدْرٍ،
__________
(1) تصحفت في المطبوع إلى " شيء ".
(2) ابن سعد 3 / 1 / 104.(1/122)
وَإِنَّمَا خَبَأْتُهَا لِهَذَا اليَوْمِ (1) .
ابْنُ سَعْدٍ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بنُ زُبَيْدٍ (2) ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ، قَالَتْ:
أَرْسَلَ أَبِي إِلَى مَرْوَانَ بِزَكَاتِهِ خَمْسَةَ آلاَفٍ، وَتَرَكَ يَوْمَ مَاتَ مَائتَيْ أَلْفٍ وَخَمْسِيْنَ أَلْفاً (3) .
قَالَ الزُّبَيْرُ بنُ بَكَّارٍ: كَانَ سَعْدٌ قَدِ اعْتَزَلَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، فِي قَصْرٍ بَنَاهُ بِطَرَفِ حَمْرَاء الأَسَدِ (4) .
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ:
لَمَّا مَاتَ سَعْدٌ، وَجِيْءَ بِسَرِيْرِهِ، فَأُدْخِلَ عَلَيْهَا، جَعَلت تَبْكِي وَتَقُوْلُ:
بَقِيَّةُ أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
النُّعْمَانُ بنُ رَاشِدٍ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَامِرِ بنِ سَعْدٍ، قَالَ:
كَانَ سَعْدٌ آخِرَ المُهَاجِرِيْنَ وَفَاةً (5) .
قَالَ المَدَائِنِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَجَمَاعَةٌ: تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِيْنَ.
__________
(1) أخرجه الحاكم 3 / 496، والطبراني في " الكبير " (316) .
وذكره الهيثمي في " المجمع " 3 / 25 وقال: ورجاله ثقات إلا أن الزهري لم يدرك سعدا.
(2) هو فروة بن زييد، روى عن أبيه، عن جده، عن ابن عمر، وروى عن عائشة بنت سعد.
روى عنه أبو بكر الحنفي، ومحمد بن عمر انظر " الجرح والتعديل " 7 / 83، و" الإكمال " لابن ماكولا 4 / 171.
وقد تصحف في المطبوع إلى " رسد "، وفي الطبقات لابن سعد 3 / 1 / 105 إلى " زبير ".
والخبر في الطبقات كما أشرنا.
(3) زاد في المطبوع لفظ " درهم ".
ولا ندري ما الذي سوغ له ذلك.
(4) موضع على ثمانية أميال من المدينة، عن يسار الطريق إذا أردت ذا الحليفة.
وإليها انتهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في مطاردة المشركين يوم أحد.
انظر " زاد المعاد " لابن القيم 3 / 242 نشر مؤسسة الرسالة.
(5) أخرجه الحاكم 3 / 496.(1/123)
وَرَوَى: نُوْحُ بنُ يَزِيْدَ (1) ، عَنْ إِبْرَاهِيْمَ بنِ سَعْدٍ:
أَنَّ سَعْداً مَاتَ وَهُوَ ابْنُ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِيْنَ سَنَةً، فِي سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِيْنَ.
وَقِيْلَ: سَنَةَ سَبْعٍ.
قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ المُلاَئِيُّ: سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِيْنَ، وَتَبِعَهُ قَعْنَبُ بنُ المحرزِ، وَالأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيْحُ.
وَقَعَ لَهُ فِي (مُسْنَدِ بَقِيِّ بنِ مَخْلَدٍ) : مَائَتَانِ وَسَبْعُوْنَ حَدِيْثاً، فَمِنْ ذَاكَ فِي (الصَّحِيْحِ) : ثَمَانِيَةٌ وَثَلاَثُوْنَ حَدِيْثاً.
6 - سَعِيْدُ بنُ زَيْدِ بنِ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ العَدَوِيُّ * (ع)
ابْنِ عَبْدِ العُزَّى بنِ رِيَاحِ بنِ قُرْطِ بنِ رَزَاحِ بنِ عَدِيِّ بنِ كَعْبِ بنِ لُؤَيِّ بنِ غَالِبٍ، أَبُو الأَعْوَرِ، القُرَشِيُّ، العَدَوِيُّ.
أَحَدُ العَشَرَةِ المَشْهُوْدِ لَهُم بِالجَنَّةِ، وَمِنَ السَّابِقِيْنَ الأَوَّلِيْنَ البَدْرِيِّيْنَ، وَمِنَ الَّذِيْنَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وَرَضُوْا عَنْهُ (2) .
شَهِدَ المَشَاهِدَ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَشَهِدَ حِصَارَ دِمَشْقَ، وَفَتَحَهَا، فَوَلاَّهُ
__________
(1) تحرفت في المطبوع إلى " زيد ".
(*) مسند أحمد: 1 / 187، طبقات ابن سعد: 3 / 1 / 275 - 281، نسب قريش: 433، طبقات خليفة: 22 / 127، تاريخ خليفة: 218، التاريخ الصغير: 1 / 101، المعارف: 245 - 246، 292، الجرح والتعديل: 4 / 21، مشاهير علماء الأمصار: ت: 11، الاستيعاب: 4 / 186 - 194، حلية الأولياء: 1 / 95 - 97 ابن عساكر: 7 / 115 / 2، أسد الغابة: 2 / 387 - 389، تهذيب الأسماء واللغات: 1 / 217 - 218، تهذيب الكمال: 491، دول الإسلام: 1 / 38، تاريخ الإسلام: 1 / 285، العقد الثمين: 4 / 559 - 564، تهذيب التهذيب: 4 / 34، الإصابة: 4 / 188 - 189، خلاصة تذهيب الكمال: 138، شذرات الذهب: 1 / 57، تهذيب تاريخ ابن عساكر: 6 / 129 - 131.
(2) في " الاستيعاب " لابن عبد البر 4 / 188، و" الإصابة " 4 / 188.(1/124)
عَلَيْهَا أَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَمِلَ نِيَابَةَ دِمَشْقَ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ (1) .
وَلَهُ أَحَادِيْثَ يَسِيْرَةً: فَلَهُ حَدِيْثَانِ فِي (الصَّحِيْحَيْنِ) ، وَانْفَرَدَ البُخَارِيُّ لَهُ بِحَدِيْثٍ (2) .
رَوَى عَنْهُ: ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو الطُّفَيْلِ، وَعَمْرُو بنُ حُرَيْثٍ، وَزِرُّ بنُ حُبَيْشٍ، وَأَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ، وَعُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدُ اللهِ بنُ ظَالِمٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَطَائِفَةٌ.
قَرَأْتُ عَلَى أَحْمَدَ بنِ عَبْدِ الحَمِيْدِ، أَخْبَرَكُمُ الإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ بنُ قُدَامَةَ سَنَةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ وَسِتِّ مَائَةٍ، أَخْبَرَتْنَا شُهْدَةُ بِنْتُ أَحْمَدَ الكَاتِبَةُ بِقِرَاءَتِي، أَنْبَأَنَا طِرَادُ بنُ مُحَمَّدٍ الزَّيْنَبِيُّ، أَنْبَأَنَا ابْنُ رِزْقَوَيْهِ، أَنْبَأَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى الطَّائِيُّ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلاَثِيْنَ وَثَلاَثِ مَائَةٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَمْرِو بنِ حُرَيْثٍ، عَنْ سَعِيْدِ بنِ زَيْدِ بنِ عَمْرٍو:
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (الكَمْأَةُ مِنَ المَنِّ الَّذِيْ أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيْلَ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلعَيْنِ) .
أَخْرَجَهُ: البُخَارِيُّ (3) مِنْ طَرِيْقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، فَوَقَعَ لَنَا بَدَلاً عَالياً.
__________
(1) في " الاستيعاب " لابن عبد البر 4 / 188، و" الإصابة " 4 / 188.
(2) سترد هذه الأحاديث خلال الترجمة.
(3) أخرجه أحمد 1 / 187، 188، والبخاري (4478) في التفسير: باب وظللنا عليكم الغمام، و (4639) فيه: باب (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ... ) ، و (5708) في الطب: باب المن شفاء للعين، ومسلم (2049) في الاشربة: باب فضل الكمأة ومداواة العين بها، والترمذي (2067) في الطب: باب ما جاء في الكمأة والعجوة.(1/125)
قَرَأْتُ عَلَى عَلِيِّ بنِ عِيْسَى التَّغْلِبِيِّ، أَخْبَرَكُمْ مُحَمَّدُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ الصُّوْفِيُّ سَنَةَ عِشْرِيْنَ وَسِتِّ مَائَةٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو طَاهِرٍ السِّلَفِيُّ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللهِ الثَّقَفِيُّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بنُ الحَسَنِ، أَنْبَأَنَا حَاجِبُ بنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيْمِ، هُوَ ابْنُ مُنِيْبٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ طَلْحَةَ:
عَنْ سَعِيْدِ بنِ زَيْدٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (مَنْ ظَلَمَ مِنَ الأَرْضِ شِبراً طُوِّقَهُ مِنْ سَبعِ أَرَضِيْنَ، وَمَنْ قُتِلَ دُوْنَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيْدٌ (1)) .
هَذَا حَدِيْثٌ صَالِحُ الإِسْنَادِ، لَكِنَّهُ فِيْهِ انْقِطَاعٌ، لأَنَّ طَلْحَةَ بنَ عَبْدِ اللهِ بنِ عَوْفٍ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ سَعِيْدٍ.
رَوَاهُ: مَالِكٌ، وَيُوْنُسُ، وَجَمَاعَةٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فَأَدْخَلُوا بَيْنَ طَلْحَةَ وَسَعِيْدٍ: عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ عَمْرِو بنِ سَهْلٍ (2) الأَنْصَارِيَّ.
أَخْرَجَهُ: البُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي اليَمَانِ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ.
كَانَ وَالِدُهُ زَيْدُ (3) بنُ عَمْرٍو مِمَّنْ فَرَّ إِلَى اللهِ مِنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ، وَسَاحَ فِي أَرْضِ الشَّامِ يَتَطَلَّبُ الدِّيْنَ القَيِّمِ، فَرَأَى النَّصَارَى وَاليَهُوْدَ، فَكَرِهَ دِيْنَهُمْ،
__________
(1) أخرجه أحمد 1 / 187، والنسائي 7 / 115، في تحريم الدم: باب من قتل دون ماله، وأبو داود (4772) في السنة: باب في قتال اللصوص، وابن ماجه (2580) في الحدود: باب من قتل دون ماله فهو شهيد، من طريق طلحة بن عبد الله بن عوف، عن سعيد بن زيد، عن النبي، صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه أحمد 1 / 188 والترمذي (1421) في الديات: باب فيمن قتل دون ماله فهو شهيد، من طريق معمر، عن الزهري، عن طلحة بن عبد الله بن عوف، عن عبد الرحمن بن عمر بن سهل، عن سعيد بن زيد، عن النبي ... وأخرجه البخاري (2452) في المظالم: باب إثم من ظلم شيئا من الأرض من طريق أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، عن طلحة بن عبد الله، عن عبد الرحمن بن سهل، عن سعيد، عن النبي، وهو عنده أيضا برقم (3198) في بدء الخلق: باب ما جاء في سبع أرضين، من طريق أبي أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن سعيد بن زيد.
(2) تحرفت في المطبوع إلى " سهيل ".
(3) انظر " تاريخ الإسلام " للمؤلف 1 / 52 وما بعدها.(1/126)
وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَلَى دِيْنِ إِبْرَاهِيْمَ (1) ، وَلَكِنْ لَمْ يَظْفَرْ بِشَرِيْعَةِ إِبْرَاهِيْمَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- كَمَا يَنْبَغِي، وَلاَ رَأَى مَنْ يُوْقِفُهُ عَلَيْهَا، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّجَاةِ، فَقَدْ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَنَّهُ: (يُبْعَثُ أُمَّةً وَحْدَهُ (2)) .
وَهُوَ ابْنُ عَمِّ الإِمَامِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، رَأَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَمْ يَعِشْ حَتَّى بُعِثَ.
فَنَقَلَ يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ، وَهُوَ مِنْ أَوْعِيَةِ العِلْمِ بِالسِّيَرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ إِسْحَاقَ قَالَ:
قَدْ كَانَ نَفَرَ مِنْ قُرَيْشٍ: زَيْدُ بنُ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ، وَوَرَقَةُ بنُ نَوْفَلٍ، وَعُثْمَانُ بنُ الحَارِثِ بنِ أَسَدٍ، وَعُبَيْدُ اللهِ بنُ جَحْشٍ، وَأُمَيْمَةُ ابْنَةُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، حَضَرُوا قُرَيْشاً عِنْدَ وَثَنٍ لَهُم، كَانُوا يَذْبَحُوْنَ عِنْدَهُ لِعِيْدٍ مِنْ أَعْيَادِهِمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا خَلاَ أُوْلَئِكَ النَّفَرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَقَالُوا: تَصَادَقُوا وَتَكَاتَمُوا.
فَقَالَ قَائِلُهُمْ: تَعْلَمُنَّ -وَاللهِ- مَا قَوْمُكُمْ عَلَى شَيْءٍ، لَقَدْ أَخْطَؤُوا دِيْنَ إِبْرَاهِيْمَ، وَخَالفُوْهُ، فَمَا وَثَنٌ يُعَبْدُ لاَ يَضرُّ وَلاَ يَنْفَعُ، فَابْتَغُوا لأَنْفُسِكُمْ.
قَالَ: فَخَرَجُوا يَطْلُبُوْنَ وَيَسِيْرُوْنَ فِي الأَرْضِ، يَلْتَمِسُوْنَ أَهْلَ كِتَابٍ مِنَ اليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى وَالمِلَلِ كُلِّهَا، يَتَطَلَّبُوْنَ الحَنِيْفِيَّةَ.
فَأَمَّا وَرَقَةُ: فَتَنَصَّرَ وَاسْتَحْكَمَ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، وَحَصَّلَ الكُتُبَ، وَعَلِمَ عِلْماً كَثِيْراً.
وَلَمْ يَكُنْ فِيْهِم أَعْدَلُ شَأْناً مِنْ زَيْدٍ: اعْتَزَلَ الأَوْثَانَ وَالمِلَلَ، إِلاَّ دِيْنَ إِبْرَاهِيْمَ، يُوَحِّدُ اللهَ -تَعَالَى- وَلاَ يَأْكُلُ مِنْ ذَبَائِحِ قَوْمِهِ.
وَكَانَ الخَطَّابُ عَمُّهُ قَدْ آذَاهُ، فَنَزَحَ عَنْهُ إِلَى أَعْلَى مَكَّةَ، فَنَزَلَ حِرَاءَ، فَوَكَّلَ بِهِ الخَطَّابُ شَبَاباً سُفَهَاءَ لاَ يَدَعُوْنَهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ، فَكَانَ لاَ يَدْخُلُهَا إِلاَّ سِرّاً، وَكَانَ الخَطَّابُ أَخَاهُ أَيْضاً مِنْ أُمِّهِ، فَكَانَ يَلُوْمُهُ عَلَى فِرَاقِ دِيْنِهِ، فَسَارَ زَيْدٌ إِلَى الشَّامِ، وَالجَزِيْرَةِ، وَالمَوْصِلِ، يَسَأَلُ عَنِ الدِّيْنِ (3) .
__________
(1) سقط من مطبوع دار المعارف من قوله: فرأى النصارى ... إلى قوله: على دين إبراهيم.
(2) سيرد الحديث في الصفحة (130) وسيخرج هناك.
(3) الخبر عند ابن هشام 1 / 222، وفي " الاستيعاب " 4 / 189، وعند ابن الأثير في " الكامل " 2 / 47 - 48.(1/127)
أَخْبَرَنَا يُوْسُفُ بنُ أَحْمَدَ بنِ أَبِي بَكْرٍ الحَجَّارُ، أَنْبَأَنَا مُوْسَى بنُ عَبْدِ القَادِرِ، أَنْبَأَنَا سَعِيْدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ (1) البَنَّا (ح) .
وَأَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بنُ المُؤَيَّدِ، أَنْبَأَنَا الحَسَنُ بنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عُبَيْدِ اللهِ بنِ الزَّاغُوْنِيِّ، وَقَرَأْتُ عَلَى عُمَرَ بنِ عَبْدِ المُنْعِمِ فِي سَنَةِ ثَلاَثٍ وَتِسْعِيْنَ، عَنْ أَبِي اليُمْنِ الكِنْدِيِّ إِجَازَةً فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَسِتِّ مَائَةٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو الفَضْلِ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ المُهْتَدِي بِاللهِ قَالُوا:
أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدٍ الزَّيْنَبِيُّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ الوَرَّاقُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ سُلَيْمَانِ، حَدَّثَنَا عِيْسَى بنُ حَمَّادٍ، أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ بنُ سَعْدٍ، عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ:
لَقَدْ رَأَيْتُ زَيْدَ بنَ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ قَائِماً، مُسْنِداً ظَهْرَهُ إِلَى الكَعْبَةِ، يَقُوْلُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! وَاللهِ مَا فِيْكُمْ أَحَدٌ عَلَى دِيْنِ إِبْرَاهِيْمَ غَيْرِيْ.
وَكَانَ يُحْيِي المَوْؤُوْدَةَ، يَقُوْلُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ: مَهْ، لاَ تَقْتُلْهَا، أَنَا أَكْفِيْكَ مُؤْنَتَهَا، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَالَ لأَبِيْهَا: إِنْ شِئْتَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ، وَإِنْ شِئْتَ كَفَيْتُكَ مُؤْنَتَهَا (2) .
هَذَا حَدِيْثٌ صَحِيْحٌ غَرِيْبٌ، تَفَرَّدَ بِهِ: اللَّيْثُ، وَإِنَّمَا يَرْوِيْهِ عَنْ هِشَامٍ كِتَابَةً.
وَقَدْ عَلَّقَهُ البُخَارِيُّ فِي (صَحِيْحِهِ (3)) فَقَالَ: وَقَالَ اللَّيْثُ: كَتَبَ إِلَيَّ هِشَامٌ، فَذَكَرَهُ.
وَقَدْ سَمِعَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ هِشَامٍ،
__________
(1) سقطت " بن " من المطبوع.
(2) سقط من المطبوع من قوله فيأخذها إلى هنا.
(3) (3828) في المناقب: باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل.
ووصله الحاكم 3 / 440 وصححه ووافقه الذهبي، وابن سعد 3 / 1 / 277.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 9 / 418، ونسبه إلى
الطبراني وقال: يحسن إسناده.
وعنده زيادة ليست عند البخاري والحاكم، وأخرجه ابن هشام 1 / 225 من طريق: إبن إسحاق، حدثني هشام بن عروة، عن أبيه عن أسماء، وهذا سند قوي.(1/128)
وَعِنْدِي بِالإِسْنَادِ المَذْكُوْرِ إِلَى اللَّيْثِ عَنْ هِشَامٍ (1) نُسْخَةٌ، فَمَنْ أَنْكَرَ مَا فِيْهَا: عَنْ أَبِيْهِ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ:
مَرَّ وَرَقَةُ بنُ نَوْفَلٍ عَلَى بِلاَلٍ وَهُوَ يُعَذَّبُ، يُلْصَقُ ظَهْرُهُ بِالرَّمْضَاءِ، وَهُوَ يَقُوْلُ: أَحَدٌ أَحَدٌ.
فَقَالَ وَرَقَةُ: أَحَدٌ أَحَدٌ يَا بِلاَلُ، صَبْراً يَا بِلاَلُ، لِمَ تُعَذِّبُوْنَهُ؟ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَئِنْ قَتَلْتُمُوْهُ، لأَتَّخِذَنَّهُ حَنَاناً.
يَقُوْلُ: لأَتَمَسَّحَنَّ بِهِ.
هَذَا مُرْسَلٌ، وَوَرَقَةُ لَوْ أَدْرَكَ هَذَا لَعُدَّ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا مَاتَ الرَّجُلُ فِي فَتْرَةِ الوَحْيِ، بَعْدَ النُّبُوَّةِ، وَقَبْلَ الرِّسَالَةِ، كَمَا فِي الصَّحِيْحِ (2) .
يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ: عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي هِشَامٌ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ أَسْمَاءَ:
أَنَّ وَرَقَةَ كَانَ يَقُوْلُ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَوْ أَعْلَمُ أَحبَّ الوُجُوْهِ إِلَيْكَ عَبَدْتُكَ بِهِ، وَلَكِنِّي لاَ أَعْلَمُ، ثُمَّ يَسْجُدُ عَلَى رَاحُتِهِ (3) .
يُوْنُسُ بنُ بُكَيْرٍ وَعِدَّةٌ: عَنِ المَسْعُوْدِيِّ، عَنْ نُفَيْلِ بنِ هِشَامِ بنِ سَعِيْدِ بنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ:
مَرَّ زَيْدُ بنُ عَمْرٍو عَلَى رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَزَيْدِ بنِ حَارِثَةَ، فَدَعَوَاهُ إِلَى سُفْرَةٍ لَهُمَا، فَقَالَ:
يَا ابْنَ أَخِي! إِنِّي لاَ آكُلُ مِمَّا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، فَمَا رُؤِيَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ ذَلِكَ اليَوْمِ يَأْكُلُ مِمَّا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ.
المَسْعُوْدِيُّ: لَيْسَ بِحُجَّةٍ.
أَخْرَجَهُ: الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي (مُسْنَدِهِ) ، عَنْ يَزِيْدَ، عَنِ المَسْعُوْدِيِّ، ثُمَّ زَادَ فِي آخِرِهِ: قَالَ سَعِيْدٌ (4) :
فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ! إِنَّ أَبِي كَانَ كَمَا قَدْ رَأَيْتَ وَبَلَغَكَ، وَلَو أَدْرَكَكَ لآمَنَ بِكَ وَاتَّبَعَكَ، فَاسْتَغْفِرْ لَهُ.
قَالَ: (نَعَم، فَأَسْتَغْفِرُ لَهُ، فَإِنَّهُ
__________
(1) سقط لفظ " هشام " من المطبوع
(2) انظر " فتح الباري " شرح الحديث رقم (3) وفيه: أن ورقة لم ينشب أن توفي.
(3) رجاله ثقات.
وهو عند ابن هشام 1 / 225 وانظر " السيرة " لابن كثير 1 / 154.
(4) سقط من المطبوع عبارة: " قال سعيد "(1/129)
يُبْعَثُ أُمَّةً وَحْدَهُ (1)) .
وَقَدْ رَوَاهُ: إِبْرَاهِيْمُ الحَرْبِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيْمُ بنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو قَطَنٍ، عَنِ المَسْعُوْدِيِّ، عَنْ نُفَيْلٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ:
مَرَّ زَيْدٌ بِرَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبِابْنِ حَارِثَةَ وَهُمَا يَأْكُلاَنِ فِي سُفْرَةٍ، فَدَعَوَاهُ.
فَقَالَ: إِنِّي لاَ آكُلُ مِمَّا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ.
قَالَ: وَمَا رُؤِيَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آكِلاً مِمَّا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ (2) .
فَهَذَا اللَّفْظُ مَلِيْحٌ، يُفَسِّرُ مَا قَبْلَهُ، وَمَا زَالَ المُصْطَفَى مَحْفُوظاً مَحْرُوْساً قَبْلَ الوَحْيِ وَبَعْدَهُ، وَلَوِ احْتُمِلَ جَوَازُ ذَلِكَ، فَبِالضَّرُوْرَةِ نَدْرِي أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ ذَبَائِحِ
__________
(1) أخرجه أحمد 1 / 189 - 190، والحاكم 3 / 439 - 440، والطبراني (350) ، وذكره الهيثمي في " المجمع " 9 / 417 ونسبه إلى الطبراني والبزار باختصار، وفيه المسعودي وقد اختلط، وبقية رجاله ثقات.
كذا قال، مع أن نفيل بن هشام وأباه لم يوثقهما غير ابن حبان على عادته في توثيق المجاهيل، وقد سقط من الأصل " عن جده " واستدركت من المسند.
وانظر الصفحة (222) التعليق رقم (1) .
قال الخطابي: " كان النبي، صلى الله عليه وسلم، لا يأكل مما يذبحون عليها للاصنام ويأكل ما عدا ذلك، وإن كانوا لا يذكرون اسم الله عليه.
لان الشرع لم يكن نزل بعد، بل لم ينزل الشرع بمنع أكل ما لم يذكر اسم الله عليه إلا بعد المبعث بمدة طويلة ".
وقال ابن حجر معلقا على هذا الكلام: وهذا الجواب أولى مما ارتكبه ابن بطال، وعلى تقدير أن يكون زيد بن حارثة ذبح على الحجر المذكور فإنما يحمل أنه إنما ذبح عليه لغير الاصنام.
وقال الداوودي: كان النبي، صلى الله عليه وسلم، قبل المبعث يجانب المشركين في عاداتهم، لكن لم يكن يعلم ما يتعلق بأمر الذبح، وكان زيد قد علم ذلك من أهل الكتاب الذين لقيهم.
وقال السهيلي: فإن قيل: فالنبي، صلى الله عليه وسلم، كان أولى من زيد بهذه الفضيلة، فالجواب أنه ليس في الحديث، أنه صلى الله عليه وسلم، أكل منها.
وعلى تقدير أن يكون أكل، فزيد إنما كان يفعل ذلك برأي يراه لا بشرع بلغه، وإنما كان عند أهل الجاهلية بقايا من دين إبراهيم، وكان في شرع إبراهيم تحريم الميتة لا تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه، وإنما نزل تحريم ذلك في الإسلام، والاصح أن الاشياء قبل الشرع لا توصف بحل ولا بحرمة.
وقال ابن حجر معلقا على هذا القول: وقوله: إن زيدا فعل ذلك برأيه أولى من قول الداوودي: إنه تلقاه عن أهل الكتاب، لا سيما وأن زيدا يصرح عن نفسه بأنه لم يتبع أحدا من أهل الكتابين.
وقال القاضي عياض: إنها كالممتنع، لان النواهي إنما تكون بعد تقرير الشرع، والنبي، صلى الله عليه وسلم، لم يكن متعبدا قبل أن يوحى إليه بشرع من قبله على الصحيح.
وانظر " فتح الباري " 7 / 143 - 144.
(2) سنده ضعيف كسابقه.(1/130)
قُرَيْشٍ قَبْلَ الوَحْيِ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الإِبَاحَةِ، وَإِنَّمَا تُوْصَفُ ذَبَائِحُهُمْ بِالتَّحْرِيْمِ بَعْدَ نُزُوْلِ الآيَةِ، كَمَا أَنَّ الخَمْرَةَ كَانَتْ عَلَى الإِبَاحَةِ إِلَى أَنْ نَزَلَ تَحْرِيْمُهَا بِالمَدِيْنَةِ بَعْدَ يَوْمِ أُحُدٍ.
وَالَّذِي لاَ رَيْبَ فِيْهِ أَنَّهُ كَانَ مَعْصُوْماً قَبْلَ الوَحْيِ وَبَعْدَهُ، وَقَبْلَ التَّشْرِيْعِ مِنَ الزِّنَى قَطْعاً، وَمِنَ الخِيَانَةِ، وَالغَدْرِ، وَالكَذِبِ، وَالسُّكْرِ، وَالسُّجُوْدِ لِوَثَنٍ، وَالاسْتِقْسَامِ بِالأَزْلاَمِ، وَمِنَ الرَّذَائِلِ، وَالسَّفَهِ، وَبَذَاءِ اللِّسَانِ، وَكَشْفِ العَوْرَةِ، فَلَمْ يَكُنْ يَطُوْفُ عُرْيَاناً، وَلاَ كَانَ يَقِفُ يَوْمَ عَرَفَةَ مَعَ قَوْمِهِ بِمُزْدَلِفَةَ، بَلْ كَانَ يَقِفُ بِعَرَفَةَ.
وَبِكُلِّ حَالٍ، لَوْ بَدَا مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، لَمَا كَانَ عَلَيْهِ تَبِعَةٌ، لأَنَّهُ كَانَ لاَ يَعْرِفُ، وَلَكِنَّ رُتْبَةَ الكَمَالِ تَأْبَى وُقُوْعَ ذَلِكَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيْماً -.
أَبُو مُعَاوِيَةَ: عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ عَائِشَةَ:
قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (دَخَلْتُ الجَنَّةَ فَرَأَيْتُ لِزَيْدِ بنِ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ دَوْحَتَيْنِ) .
غَرِيْبٌ.
رَوَاهُ: البَاغَنْدِيُّ (1) ، عَنِ الأَشَجِّ، عَنْهُ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ أَبِي الزِّنَادِ: عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ:
رَأَيْتُ زَيْدَ بنَ عَمْرٍو شَيْخاً كَبِيْراً، مُسنِداً ظَهْرَهُ إِلَى الكَعْبَةِ، وَهُوَ يَقُوْلُ:
__________
(1) الباغندي: هو محدث العراق أبو بكر محمد بن سليمان بن الحارث مترجم في تذكرة المؤلف (736) .
وذكره ابن كثير في البداية 2 / 241 عن الباغندي، عن أبي سعيد الاشجع، عن أبي معاوية، عن هشام، عن أبيه عن عائشة ... وقال: هذا إسناد جيد وليس هو في شيء من الكتب، وأخرج الطبري في " تاريخه " 2 / 296 من طريق محمد بن سعد، أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني علي بن عيسى الحكمي، عن أبيه، عن عامر بن ربيعة قال: فلما أسلمت، أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قول زيد بن عمرو، وأقرأته منه السلام، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترحم عليه، وقال: " قد رأيته في الجنة يسحب ذيولا " وهذا سند ضعيف، وذكره ابن حجر في " الفتح " 7 / 143، ونسبه إلى محمد بن سعد، والفاكهي.(1/131)
وَيْحَكُم يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! إِيَّاكُمْ وَالزِّنَى، فَإِنَّهُ يُوْرِثُ الفَقْرَ (1) .
أَبُو الحَسَنِ المَدَائِنِيُّ: عَنْ إِسْمَاعِيْلَ بنِ مُجَالِدٍ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ زَيْدِ بنِ الخَطَّابِ قَالَ:
قَالَ زَيْدُ بنُ عَمْرٍو: شَامَمْتُ النَّصْرَانِيَّةَ وَاليَهُوْدِيَّةَ فَكَرِهْتُهُمَا، فَكُنْتُ بِالشَّامِ، فَأَتَيْتُ رَاهِباً، فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ أَمْرِي.
فَقَالَ: أَرَاكَ تُرِيْدُ دِيْنَ إِبْرَاهِيْمَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- يَا أَخَا أَهْلِ (2) مَكَّةَ، إِنَّكَ لَتَطْلُبُ دِيْناً مَا يُوْجَدُ اليَوْمَ، فَالْحَقْ بِبَلَدِكَ، فَإِنَّ اللهَ يَبْعَثُ مِنْ قَوْمِكَ مَنْ يَأْتِي بِدِيْنِ إِبْرَاهِيْمَ بِالحَنِيْفِيَّةِ، وَهُوَ أَكْرَمُ الخَلْقِ عَلَى اللهِ (3) .
وَبِإِسْنَادٍ ضَعِيْفٍ، عَنْ حُجَيْرِ بنِ أَبِي إِهَابٍ، قَالَ:
رَأَيْتُ زَيْدَ بنَ عَمْرٍو يُرَاقِبُ الشَّمْسَ، فَإِذَا زَالَتِ اسْتَقْبَلَ الكَعْبَةَ، فَصَلَّى رَكْعَةً، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ.
وَأَنْشَدَ الضَّحَّاكُ بنُ عُثْمَانَ الحِزَامِيُّ لِزَيْدٍ:
وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ المُزْنُ تَحْمِلُ عَذْباً زُلاَلاَ
إِذَا سُقِيَتْ بَلْدَةٌ مِنْ بِلاَدٍ ... سِيْقَتْ إِلَيْهَا فَسَحَّتْ سِجَالاَ (4)
وَأَسْلَمْتُ نَفْسِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْراً ثِقَالاَ
__________
(1) ذكره ابن كثير في " البداية " 2 / 241.
(2) سقطت من المطبوع لفظة " أهل ".
(3) إسناده ضعيف لضعف مجالد.
وأبو الحسن المدائني هو علي بن محمد، ترجمه المؤلف في " ميزانه " ونقل عن ابن عدي قوله فيه: ليس بالقوي في الحديث وسترد ترجمته في " السير ".
(4) رواية البيت في " سيرة ابن هشام " 1 / 231: إذا هي سيقت إلى بلدة * أطاعت فصبت عليه سجالا(1/132)
دَحَاهَا فَلَمَّا اسْتَوَتْ شَدَّهَا ... سَوَاءً وَأَرْسَى عَلَيْهَا الجِبَالاَ (1)
وَرَوَى: هِشَامُ بنُ عُرْوَةَ، فِيْمَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ:
أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ زَيْدَ بنَ عَمْرٍو كَانَ بِالشَّامِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ خَبَرَ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَقْبَلَ يُرِيْدُهُ، فَقَتَلَهُ أَهْلُ مَيْفَعَةٍ بِالشَّامِ (2) .
وَرَوَى الوَاقِدِيُّ: أَنّه مَاتَ فَدُفِنَ بِأَصْلِ حِرَاءٍ، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: قُتِلَ بِبِلاَدِ لَخْمٍ.
عَبْدُ العَزِيْزِ (3) بنُ المُخْتَارِ: أَنْبَأَنَا مُوْسَى بنُ عُقْبَةَ، أَخْبَرَنِي سَالِمٌ: سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ لَقِيَ زَيْدَ بنَ عَمْرٍو أَسْفَلَ بَلْدَحَ قَبْلَ الوَحْي، فَقَدَّمَ إِلَى زَيْدٍ سُفْرَةً فِيْهَا لَحْمٌ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ وَقَالَ: لاَ آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُوْنَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ، أَنَا لاَ آكُلُ إِلاَّ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ.
أَخْرَجَهُ: البُخَارِيُّ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: وَكَانَ يَعِيْبُ عَلَى قُرَيْشٍ، وَيَقُوْلُ: الشَّاةُ خَلَقَهَا اللهُ، وَأَنْزَلَ لَهَا مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنْبَتَ لَهَا مِنَ الأَرْضِ، ثُمَّ تَذْبَحُوْنَهَا عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللهِ (4) ؟
أَبُو أُسَامَةَ، وَغَيْرُهُ، قَالاَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَيَحْيَى بنِ
__________
(1) رواية البيت في السيرة لابن هشام 1 / 231:
دحاها فلما رآها استوت * على الماء أرسى عليها الجبالا
(2) ابن هشام 1 / 231، وميفعة: من أرض البلقاء.
(3) تحرفت في المطبوع إلى " الكريم ".
(4) أخرجه البخاري (3826) في المناقب: باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل، و (5499) في الذبائح: باب ما ذبح على النصب والاصنام.
وابن سعد 3 / 1 / 277، وابن عبد البر في " الاستيعاب " 4 / 191.
وبلد ح: واد قبل مكة من جهة الغرب.(1/133)
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ، عَنْ زَيْدِ بنِ حَارِثَةَ، قَالَ:
خَرَجْتُ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ مُرْدِفِي إِلَى نُصُبٍ مِنَ الأَنْصَابِ، فَذَبَحْنَا لَهُ - ضَمِيْرُ (لَهُ) رَاجِعٌ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاةً، وَوَضَعْنَاهَا فِي التَّنُّوْرِ، حَتَّى إِذَا نَضَجَتْ جَعَلْنَاهَا فِي سُفْرَتِنَا، ثُمَّ أَقْبَلَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسِيْرُ وَهُوَ مُرْدِفِي فِي أَيَّامِ الحَرِّ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِأَعْلَى الوَادِي لَقِيَ زَيْدَ بنَ عَمْرٍو، فَحَيَّى أَحَدُهُمَا الآخَرَ.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَالِي أَرَى قَوْمَكَ قَدْ شَنِفُوا لَكَ؟) أَيْ: أَبْغَضُوْكَ.
قَالَ: أَمَا وَاللهِ إِنَّ ذَلِكَ مِنِّي لِغَيْرِ نَائِرَةٍ كَانَتْ مِنِّي إِلَيْهِمْ، وَلَكِنِّي أَرَاهُمْ عَلَى ضَلاَلَةٍ، فَخَرَجْتُ أَبْتَغِي الدِّيْنَ حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى أَحْبَارِ أَيْلَةَ، فَوَجَدْتُهُمْ يَعْبُدُونَ اللهَ وَيُشْرِكُوْنَ بِهِ، فَدُلِلْتُ عَلَى شَيْخٍ بِالجَزِيْرَةِ، فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ، فَأَخْبَرْتُهُ.
فَقَالَ: إِنَّ كُلَّ مَنْ رَأَيْتَ فِي ضَلاَلَةٍ، إِنَّكَ لَتَسْأَلُ عَنْ دِيْنٍ هُوَ دِيْنُ اللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ، وَقَدْ خَرَجَ فِي أَرْضِكَ نَبِيٌّ، أَوْ هُوَ خَارِجٌ، ارْجِعْ إِلَيْهِ وَاتَّبِعْهُ، فَرَجَعْتُ فَلَمْ أَحِسَّ شَيْئاً.
فَأَنَاخَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- البَعِيْرَ، ثُمَّ قَدَّمْنَا إِلَيْهِ السُّفْرَةَ.
فَقَالَ: مَا هَذِهِ؟
قُلْنَا: شَاةٌ ذَبَحْنَاهَا لِلنُّصُبِ، كَذَا قَالَ.
فَقَالَ: إِنِّي لاَ آكُلُ مِمَّا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللهِ، ثُمَّ تَفَرَّقَا، وَمَاتَ زَيْدٌ قَبْلَ المَبْعَثِ.
فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يَأْتِي أُمَّةً وَحْدَهُ (1)) .
رَوَاهُ: إِبْرَاهِيْمُ الحَرْبِيُّ فِي (الغَرِيْبِ) ، عَنْ شَيْخَيْنِ لَهُ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ.
ثُمَّ قَالَ: فِي ذَبْحِهَا عَلَى النُّصُبِ وَجْهَانِ:
إِمَّا أَنَّ زَيْداً فَعَلَهُ عَنْ غَيْرِ أَمْرِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ، فَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، لأَنَّ زَيْداً لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنَ العِصْمَةِ وَالتَّوْفِيْقِ
__________
(1) إسناده حسن.
وذكره الحافظ في " المطالب العالية " (4057) ونسبه إلى أبي يعلى.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 9 / 417، 418 ونسبه إلى أبي يعلى والبزار، والطبراني، وقال: وأحد أسانيد الطبراني رجال الصحيح، غير محمد بن عمرو بن علقمة، وهو حسن الحديث.
وابن سعد، مختصرا 3 / 1 / 277 والنائرة: العدواة.
وأيله: مدينة على ساحل البحر الاحمر، وهي العقبة.(1/134)
مَا أَعْطَاهُ اللهُ لِنَبِيِّهِ، وَكَيْفَ يَجُوْزُ ذَلِكَ وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَدْ مَنَعَ زَيْداً أَنْ يَمَسَّ صَنَماً، وَمَا مَسَّهُ هُوَ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ؟ فَكَيْفَ يَرْضَى أَنْ يَذْبَحَ لِلصَّنَمِ؟ هَذَا مُحَالٌ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُوْنَ ذُبِحَ لِلِّهِ، وَاتّفَقَ ذَلِكَ عِنْدَ صَنَمٍ كَانُوا يَذْبَحُوْنَ عِنْدَهُ.
قُلْتُ: هَذَا حَسَنٌ، فَإِنَّمَا الأَعْمَالٌ بِالنِّيَّةِ.
أَمَّا زَيْدٌ فَأَخَذَ بِالظَّاهِرِ، وَكَانَ البَاطِنُ لِلِّهِ، وَرُبَّمَا سَكَتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الإِفْصَاحِ خَوْفَ الشَّرِّ، فَإِنَّا مَعَ عِلْمِنَا بِكَرَاهِيَتِهِ لِلأَوْثَانِ، نَعْلَمُ أَيْضاً أَنَّهُ مَا كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ مُجَاهِراً بِذَمِّهَا بَيْنَ قُرَيْشٍ، وَلاَ مُعْلِناً بِمَقْتِهَا قَبْلَ المَبْعَثِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ زَيْداً -رَحِمَهُ اللهُ- تُوُفِّيَ قَبْلَ المَبْعَثِ، فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ إِسْحَاقَ (1) أَنَّ وَرَقَةَ بنَ نَوْفَلٍ رَثَاهُ بِأَبْيَاتٍ، وَهِيَ:
رَشَدْتَ وَأَنْعَمْتَ ابْنَ عَمْرٍو وَإِنَّمَا ... تَجَنَّبْتَ تَنُّوْراً مِنَ النَّارِ حَامِيَا
بِدِيْنِكَ رَبّاً لَيْسَ رَبٌّ كَمِثِلِهِ ... وَتَرْكِكَ أَوْثَانَ الطَّوَاغِي كَمَا هِيَا (2)
وَإِدْرَاكِكَ الدِّيْنَ الَّذِي قَدْ طَلَبْتَهُ ... وَلَمْ تَكُ عَنْ تَوْحِيْدِ رَبِّكَ سَاهِيَا
فَأَصْبَحْتَ فِي دَارٍ كَرِيْمٍ مُقَامُهَا ... تُعَلَّلُ فِيْهَا بِالكَرَامَةِ لاَهِيَا (3)
وَقَدْ تُدْرِكُ الإِنْسَانَ رَحْمَةُ رَبِّهِ ... وَلَوْ كَانَ تَحْتَ الأَرْضِ سَبْعِيْنَ وَادِيَا
نَعَم، وَعَدَّ عُرْوَةُ سَعِيْدَ بنَ زَيْدٍ فِي البَدْرِيِّيْنَ، فَقَالَ:
قَدِمَ مِنَ الشَّامِ بَعْدَ بَدْرٍ، فَكَلَّمَ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ، وَأَجْرِهِ (4) .
وَكَذَلِكَ قَالَ مُوْسَى بنُ
__________
(1) انظر ابن هشام 1 / 232، وجمهرة نسب قريش ص 418 للزبير بن بكار.
(2) في الأصل " رب " والتصويب من " سيرة ابن هشام ".
(3) بعد هذا البيت بيت خامس عند ابن هشام هو: تلاقي خليل الله فيها ولم تكن * من الناس جبارا إلى النار هاويا وانظر " تهذيب ابن عساكر " 6 / 32، و" البداية " لابن كثير 2 / 238.
(4) أخرجه الحاكم 3 / 438، والطبراني (338) و (339) ، وابن عبد البر في " الاستيعاب " 4 / 187، وابن سعد 3 / 1 / 279، والحافظ في " الإصابة " 4 / 188.(1/135)
عُقْبَةَ، وَابْنُ إِسْحَاقَ.
وَامْرَأَتُهُ: هِيَ ابْنَةُ عَمِّهِ فَاطِمَةُ، أُخْتُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ.
أَسْلَمَ سَعِيْدٌ قَبْلَ دُخُوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَارَ الأَرْقَمِ (1) .
وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ، عَنْ إِسْمَاعِيْلَ، عَنْ قَيْسِ بنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ:
قَالَ سَعِيْدُ بنُ زَيْدٍ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي، وَإِنَّ عُمَرَ لَمُوْثِقِي عَلَى الإِسْلاَمِ وَأُخْتَهُ، وَلَوْ أَنَّ أَحَداً انْقَضَّ بِمَا صَنَعْتُم بِعُثْمَانَ لَكَانَ حَقِيْقاً (2) .
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي إِسْلاَمِ عُمَرَ فَصْلاً فِي المَعْنَى.
وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ فِي (طَبَقَاتِهِ) ، عَنِ الوَاقِدِيِّ، عَنْ رِجَالِهِ، قَالُوا:
لَمَّا تَحَيَّنَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وُصُوْلَ عِيْرِ قُرَيْشٍ مِنَ الشَّامِ، بَعَثَ طَلْحَةَ وَسَعِيْدَ بنَ زَيْدٍ قَبْلَ خُرُوْجِهِ مِنَ المَدِيْنَةِ بِعَشْرٍ، يَتَحَسَّسَانِ خَبَرَ العِيْرِ، فَبَلَغَا الحَوْرَاءَ، فَلَمْ يَزَالاَ مُقِيْمَيْنِ هُنَاكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمُ العِيْرُ، فَتَسَاحَلَتْ.
فَبَلَغَ نَبِيَّ اللهِ الخَبْرُ قَبْلَ
__________
(1) أخرجه الحاكم 3 / 438، وابن سعد 3 / 1 / 278، والحافظ في " الإصابة " 4 / 188.
(2) أخرجه البخاري (3862) في مناقب الانصار: باب إسلام سعيد بن زيد و (3867) فيهما، و (6942) في الاكراه: باب من اختار الضرب، والقتل، والهوان على الكفر.
والحاكم 3 / 440 وصححه ووافقه الذهبي، ورواية البخاري الأولى: قتيبة بن سعيد، حدثنا سفيان، عن إسماعيل، عن قيس، قال: سمعت سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل في مسجد الكوفة، يقول: والله لقد رأيتني، وإن عمر لموثقي على الإسلام، قبل أن يسلم عمر.
ولو أن أحدا ارفض للذي صنعتم بعثمان لكان محقوقا أن يرفض " وفي الرواية الثانية " انقض " بالنون والقاف.
وقال الحافظ في " الفتح " 7 / 176: لموثقي عليه الإسلام: أي ربطه بسبب إسلامه إهانة له، وإلزاما بالرجوع عن الإسلام.
" ولو أن أحدا ارفض ": أي زال من مكانه.
ورواية " انقض " أي: سقط.
" لكان ذلك محقوقا " أي: واجبا.
وفي رواية الاسماعيلي: " لكان حقيقا ".
وإنما قال سعيد ذلك لعظم قتل عثمان، رضي الله عنه.(1/136)