ـ[سير أعلام النبلاء]ـ
المؤلف: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (المتوفى: 748هـ)
المحقق: مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط
الناشر: مؤسسة الرسالة
الطبعة: الثالثة، 1405 هـ / 1985 م
عدد الأجزاء: 25 (23 ومجلدان فهارس)
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مشكول، ومذيل بالحواشي، ومضاف لخدمة التراجم](المقدمة/1)
بسم الله الرحمن الرحيم(المقدمة/2)
تقديم الكتاب بقلم الدكتور بشار عواد معروف أستاذ ورئيس قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة بغداد(المقدمة/5)
الذهبي وكتابه سير أعلام النبلاء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي العربي الأمي، وعلى آله وأصحابه الطيبين نجوم الهدى في كل حين، وبعد: فهذا مختصر نافع إن شاء الله في سيرة مؤرخ الإسلام الإمام الثقة المتقن الناقد البارع شمس الدين الذهبي، وفي كتابه النفيس " سير أعلام النبلاء " ومنزلته بين الكتب التي من بابته، جعلته في فصلين: الأول في سيرة الذهبي والثاني في كتابه " السير ".
تناول الفصل الأول البيئة الدمشقية التي نشأ بها الذهبي بكل ما كان فيها من نهضة علمية واسعة، وما اعتراها من صراعات عقائدية، وانتشار الجهل، والاعتقاد بالمغيبات بين العوام.
وحاولت أن أقدم صورة لبيئته العائلية المتدينة المعنية بالعلم التي ربته على حب العلم والعلماء منذ نعومة أظفاره مما هيأه لمستقبل علمي مرسوم، فرأيناه عند اكتمال شخصيته يعنى بطلب العلم من قراءات وحديث، ثم تتبعت رحلاته في طلب العلم، واستطعت أن أحددها بالبلاد الشامية والمصرية والحجازية، وبينت نتيجة تتبعي لنشاطه أن رحلته إلى البلاد المصرية كانت بين شهر رجب، وذي القعدة من سنة 695 هـ،
فصححت بذلك آراء بعض المؤرخين في هذه المسألة.
وأوضحت طبيعة دراساته، وذكرت أنها كانت متنوعة لم تقتصر على جانب واحد، لكنها في الوقت نفسه لم تخرج عن دائرة العلوم الدينية عموما والعلوم المساعدة لها من تاريخ ونحو ولغة وأدب.(المقدمة/7)
وتناول الفصل صلات الذهبي الشخصية بابن تيمية والمزي والبرزالي وأثرها في تبلور فكره السلفي المتمثل بميله إلى آراء الحنابلة ودفاعه عن مذهبهم في العقائد، وارتباطه الشديد بالحديث والمحدثين، ونظرته إلى العلوم والعلماء وفلسفتهم تجاه العلوم العقلية، مما أثر في منهجه التاريخي تأثيرا واضحا، فظهر في اهتمامه الكبير بالتراجم التي صارت تكون أسس كتبه، ومحور تفكيره التاريخي، وفي نظرته إلى الأحداث التاريخية وأسس انتقائها، ثم فيما وجه إلى كتاباته من نقد أثار نقاشا بين علماء عصره، وعند العلماء الذين جاءوا بعده.
أما نشاطه العلمي، فقد بينت أنه اتخذ وجهتين رئيستين: أولاهما كتاباته الكثيرة، وثانيتهما تدريسه الحديث في أمهات دور الحديث بدمشق بحيث استطعنا التعرف على خمس دور للحديث كان يتولى مشيختها في آن واحد قبيل وفاته.
وأبنت منزلة الذهبي العلمية استنادا إلى دراسة مسهبة لآثاره الكثيرة التي خلفها.
وقد أظهرت الدارسة أن منزلته العلمية وبراعته ظهرتا في أحسن الوجوه إشراقا وأكثرها تألقا عند دراستي له محدثا ومؤرخا وناقدا.
وعلى الرغم من أنه عاش في بيئة غلب عليها الجمود والنقل والتلخيص، فإنه قد تخلص من كثير من ذلك بفضل سعة دراساته وفطنته.
وكان مفهوم التاريخ عند الذهبي يتصل اتصالا وثيقا بالحديث النبوي الشريف وعلومه، وقد ظهر ذلك في عنايته التامة بكتب التراجم التي قامت عليها شهرته الواسعة باعتباره مؤرخا.
وقد جعلت منه معرفته الرجالية الواسعة ناقدا ماهرا، ظهر ذلك في مؤلفاته المعنية بالنقد وفي التفاتاته البارعة في أصول النقد، ورده لكثير من الروايات، وتخطئته لكبار النقاد، وقدرته الفائقة على البحث والاستدلال.(المقدمة/8)
وختمت الفصل بتذكرة مختصرة في تآليفه واختصاراته وتخريجاته مرتبة حسب موضوعاتها، وأشرت إلى ما طبع منها وما هو مخطوط مع بيان مكان النسخة الخطية على سبيل الاختصار.
وقد تمكنت أن أعد له مئتين وخمسة عشر مؤلفا ومختصرا وتخريجا.
أما الفصل الثاني الذي خصصته لمنهج " السير " وأهميته، فقد بدأته بالكلام على عنوان الكتاب وتأليفه، وتمكنت فيه أن أحدد تاريخ تأليف الكتاب بسنة 732 هـ خلافا لما هو شائع عند الناس.
ثم عرجت على نطاق الكتاب وعدد مجلداته وتوصلت إلى أن الذهبي لم يكتب المجلدين الأول والثاني منه إنما طالب النساخ باستلالهما من تاريخه الكبير " تاريخ الإسلام "، وأن المجلدين لم يفقدا كما نصت وقفية الكتاب على المدرسة المحمودية، ثم أثبت بما لا يقبل الشك أن المجلد الثالث عشر الذي وصل إلينا ليس هو آخر الكتاب، كما ادعى الدكتور الفاضل صلاح الدين المنجد، وتابعه الناس عليه، بل إن هناك مجلدا آخر يتمم الكتاب هو المجلد الرابع عشر ومنه رجحت أن يكون الذهبي قد رتب كتابه على أربعين طبقة تقريبا وليس على خمس وثلاثين كما هو شائع.
وتناولت في هذا الفصل أيضا ترتيب الكتاب على الطبقات فرأيت أن مستلزمات البحث تقتضي استعراضا لظهور هذا الترتيب في تاريخ الحركة التأليفية عند المسلمين، ومحاولة لتحديد هذا المفهوم التنظيمي عند الذهبي عن طريق دراسة مؤلفاته التراجمية المرتبة على الطبقات، ومنها كتابه " السير ".
وقد تمكنت فيما أعتقد من تفسير التناقض الظاهري الناتج عن اختلاف عدد الطبقات في مؤلفاته ضمن وحدة زمنية محددة معلومة، باختلاف نوعية المترجمين بين كتاب وآخر. وأوضحت بعد ذلك أن فائدة(المقدمة/9)
الترتيب على الطبقات إنما تظهر في العصور الإسلامية الأولى، لذلك صرنا لا نشعر بوجود " الطبقة " في كتاب " السير كلما مضى الزمن بالكتاب، وضربت لكل ذلك أمثلة من الكتاب تعزز هذه الآراء وتقويها.
وكان لا بد لي، وأنا أبحث في منهج الكتاب، أن أتناول طبيعة التراجم المذكورة فيه، والأسس التي استند عليها الذهبي في ذكر ترجمة وإسقاط أخرى، فأبنت أنه ذكر " الأعلام " وأسقط المشهورين والمغمورين، وحاول أن يوجد موازنة بين الأعلام في النوعية والأزمان والأمكنة، واجتهد أن يقدم ترجمة كاملة، ومختصرة في الوقت نفسه لا تؤثر فيها كمية المعلومات التي تتوافر عنده.
ولما كان الذهبي فنانا تراجميا متميز الأسلوب في صياغة الترجمة وأساليب عرضها، فقد حاولت استشفاف منهجه الذي انتهجه في " السير " في هذا المجال.
ثم تناولت بالدراسة منهجه النقدي، فوجدته معنيا بكل أنواعه، لم يقتصر فيه على مجال واحد من مجالاته، فقد عني بنقد المترجمين وتبيان أحوالهم، وأصدر أحكاما وتقويمات تاريخية، وانتقد الموارد التي نقل منها، ونبه إلى أوهام مؤلفيها، وبرع في إصدار الأحكام على الأحاديث إسنادا ومتنا، وسحب ذلك على الروايات التاريخية.
وحاولت بعد ذلك أن أستبين مدى تعصبه، أو إنصافه في النقد، فتبين لي، بعد دراسته لجملة من كتاباته، أن الرجل قد وفق إلى حد كبير أن يكون منصفا، ونبهت إلى وجوب التفريق بين التعصب وبين الإيمان بالشيء، والدفاع عنه بكل ممكن.
أما أهمية كتاب " السير " فقد اجتهدت أن أستشرفها من دراسة علاقته بكتاب " تاريخ الإسلام " إذ كان قد شاع بين أوساط الدارسين أن " السير "(المقدمة/10)
مختصر من " تاريخ الإسلام "، وقد أبانت دراستي للكتابين بطلان هذه الدعوى، ثم تكلمت على أهمية الكتاب في دراسة الحركة الفكرية العربية الإسلامية، وأهميته في دراسة المجتمع الإسلامي.
وحاولت بعد ذلك توضيح العوامل التي يسرت ظهور هذا الكتاب محققا بهذه الهيئة العلمية الرائعة، والصفة البارعة النافعة التي تسر كل محب للتراث، حريص عليه.(المقدمة/11)
الفصل الأول: حياة الذهبي ومنزلته العلمية
أولا - بيئة الذهبي ونشأته
قامت دولة المماليك البحرية على أنقاض الدولة الأيوبية بمصر والشام وتمكن المماليك أن يكونوا دولة قوية كان لها أثر في إيقاف التقدم المغولي، وتصفية الإمارات الصليبية في بلاد الشام (1) .
وكانت دمشق في نهاية القرن السابع الهجري ومطلع القرن الثامن قد أصبحت مركزا كبيرا من مراكز الحياة الفكرية، فيها من المدارس العامرة ودور الحديث والقرآن العدد الكثير، عمل على تعميرها حكامها وبعض المياسير من أهلها لا سيما منذ عهد نور الدين زنكي (2) .
وكانت العناية بالدراسات الدينية، من تفسير وحديث وفقه وعقائد، هي السمة البارزة لهذا العصر، ولم بعد هناك اهتمام كثير بدراسة العلوم الصرفة التي كانت قد أصبحت من " الصنائع المظلمة " (3) و " الهذيان " (4) .
__________
(1) راجع عن عصر المماليك: الدكتور علي إبراهيم حسن: " دراسات في تاريخ المماليك البحرية "، ط 2 (القاهرة 1948) والدكتور سعيد عاشور: " العصر المماليكي في مصر والشام "، وغيرهما.
والكتاب الأخير أحسن ما كتب في الموضوع.
(2) يتضح ذلك من العدد الذي ذكره النعيمي في كتابه " تنبيه الدارس ".
(3) الذهبي: " تاريخ الإسلام "، الورقة 263 (أيا صوفيا 3008) .
(4) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 2، الورقة 4.(المقدمة/12)
ثم لا حظنا تباينا شديدا في قيمة الإنتاج الفكري لهذه الفترة وأصالته، فوجدنا الكثير من المؤلفات الهزيلة التي لم تكن غير تكرار لما هو موجود في بطون الكتب السابقة، ووجدنا القليل من المؤلفات التي امتازت بالأصالة والإبداع والمناهج العلمية المتميزة.
وقد زاد من صعوبة الإبداع أن الواحد من العلماء كان يجد أمامة تراثا ضخما في الموضوع الذي يروم التأليف فيه، وهو في وضعه هذا يختلف عن المؤلفين الأولين الذين لم يجابهوا مثل هذا التراث.
وشهدت دمشق في هذا العصر نزاعا مذهبيا وعقائديا حادا، كان الحكام المماليك يتدخلون فيه في كثير من الأحيان، فيناصرون فئة على أخرى (1) .
وكان الأيوبيون قبل ذلك قد عنوا عناية كبيرة بنشر مذهب الإمام الشافعي، فأسسوا المدارس الخاصة به، وأوقفوا عليها الوقوف (2) .
وعنوا في الوقت نفسه بنشر عقيدة الأشعري، واعتبروها السنة التي يجب اتباعها (3) .
لذلك أصبحت للأشاعرة قوة عظيمة في مصر والشام.
وقد أثر ذلك على المذاهب الأخرى، فأصابها الوهن والضعف عدا الحنابلة الذين ظلوا على جانب كبير من القوة، وكانت لهم في دمشق مجموعة من دور الحديث والمدارس (4) .
وكان النزاع العقائدي بين الحنابلة والأشاعرة مضطرما، زاده اعتماد الحنابلة على النصوص في دراسة العقائد، واعتماد الأشاعرة على الاستدلال
__________
(1) ابن كثير: البداية، 14 / 28، 38، 49، وابن حجر: " الدرر " 1 / 61 وغيرهما.
(2) انظر التفاصيل في كتابنا: المنذري وكتابه " التكملة "، ص 38 فما بعد.
(3) وكان صلاح الدين أشعريا متعصبا كما هو معروف من سيرته.
(4) انظر النعيمي:: " تنبيه الدارس " 2 / 126 29.(المقدمة/13)
العقلي والبرهان المنطقي في دراستها (1) .
وبقدر ما ولد هذا التعصب من تمزق في المجتمع، فإنه ولد في الوقت نفسه نشاطا علميا واضحا في هذا المضمار، تمثل في الكتب الكثيرة التي ألفت فيه.
كما ظهر تحيز واضح في كثير من كتابات العصر.
وكان الجهل والاعتقاد بالخرافات والمغيبات سائدا بين العوام في المجتمع الدمشقي.
وكان التصوف منتشرا في أرجاء البلاد انتشارا واسعا، وظهر بينهم كثير من المشعوذين الذين أثروا على العوام أيما تأثير.
بل عمل الحكام المماليك على الاهتمام بهم، وكان لهم اعتقاد فيهم، فكان للملك
الظاهر بيبرس البندقداري " ت 676 هـ " شيخ اسمه الخضر بن أبي بكر بن موسى العدوي، كان " صاحب حال، ونفس مؤثرة، وهمة إبليسية، وحال كاهني "، وكان الظاهر يعظمه، ويزوره أكثر من مرة في الأسبوع، ويطلعه على أسراره، ويستصحبه في أسفاره لاعتقاده التام به (2) .
وانتشر تقديس الأشياخ، والاعتقاد فيهم، وطلب النذور عند قبورهم، بل كانوا يسجدون لبعض تلك القبور، ويطلبون المغفرة من أصحابها (3) .
في هذه البيئة الفكرية والعقائدية المضطربة، ولد مؤرخ الإسلام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز بن عبد الله الذهبي في شهر ربيع الآخر سنة 673 (4) .
وكان من أسرة تركمانية الأصل، تنتهي بالولاء
__________
(1) أبو زهرة: ابن تيمية، ص 25.
(2) الذهبي: " تاريخ الإسلام " الورقة 36 (أيا صوفيا 3014) .
(3) المصدر نفسه، الورقة 75 (أيا صوفيا 3007) .
(4) انظر مثلا: الذهبي: " طبقات القراء "، ص 549، الصفدي: " الوافي "، 2 / 164، و " نكت الهميان "، ص 242، وذكر ابن حجر أن مولده في الثالث من الشهر المذكور (الدرر، 3 / 426) .(المقدمة/14)
إلى بني تميم (1) ، سكنت مدينة ميافارقين من أشهر مدن ديار بكر (2) .
ويبدو أن جد أبيه قايماز قضى حياته فيها (3) ، وتوفي سنة 661 هـ وقد جاوز المئة، قال الذهبي: " قايماز ابن الشيخ عبد الله التركماني الفارقي جد أبي.
قال لي ابن عم والدي علي بن فارس النجار: توفي جدنا عن مئة وتسع سنين.
قلت عمر، وأضر بأخرة، وتوفي سنة إحدى وستين وست مئة " (4) ، وكان قد حج (5) .
وكان جده فخر الدين أبو أحمد عثمان أميا لم يكن له حظ من علم، قد اتخذ من النجارة صنعة له، لكنه كان " حسن اليقين بالله " (6) .
ويبدو أنه هو الذي قدم إلى دمشق، واتخذها سكنا له، وتوفي بعد ذلك بها سنة 683 هـ وهو في عشر السبعين (7) .
أما والده شهاب الدين أحمد، فقد ولد سنة 641 هـ تقريبا، وعدل عن صنعة أبيه إلى صنعة الذهب المدقوق، فبرع بها، وتميز، وعرف بالذهبي، وطلب العلم، فسمع " صحيح البخاري " سنة 666 هـ، من المقداد القيسي،
__________
(1) كتب الذهبي بخطه على طرة المجلد التاسع عشر من " تاريخ الإسلام " (نسخة أيا صوفيا 3012) " تأليف محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز مولى بني تميم ".
(2) ياقوت: معجم البلدان، 4 / 703، فما بعد.
(3) لم يذكر الذهبي في نسبته أنه دمشقي، بل قال: " الفارقي "، مما يدل على أنه لم ينتقل إلى دمشق.
وذكر الدكتور صلاح الدين المنجد في مقدمة الجزء الذي طبعه من " سير أعلام النبلاء " أن قايماز هو الذي قدم دمشق، وأشار إلى معجم الشيوخ، ولم نجد لذلك دليلا في مصدره 1 / 15 وانظر معجم الشيوخ (م 1 الورقة 89) .
(4) الذهبي: أهل المئة فصاعدا، ص 137، و " معجم الشيوخ "، م 1 ورقة 89.
(5) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 ورقة 89.
(6) الذهبي: " معجم الشيوخ " م 1 ورقة 89.
(7) المصدر نفسه.(المقدمة/15)
وحج في أواخر عمره، وكان دينا يقوم من الليل (1) .
وقد يسرت له صنعته رخاء وغنى، فأعتق من ماله خمس رقاب (2) ، وتزوج من ابنة رجل موصلي الأصل هو علم الدين أبو بكر سنجر بن عبد الله عرف بغناه، وكان " خيرا عاقلا مديرا للمناشير بديوان الجيش..وخلف خمسة عشر ألفا " (3) من الدنانير، وأحله علمه وغناه ومروءته مكانا جعلت خلقا من أهل دمشق يشيعونه يوم وفاته في آخر جمادى الأولى سنة 697 هـ،، يؤمهم قاضي القضاة يومئذ عز الدين ابن جماعة الكناني (4) .
وعرف محمد بابن الذهبي، نسبة إلى صنعة أبيه، وكان هو يقيد اسمه " ابن الذهبي " (5) .
ويبدو أنه اتخذ صنعة أبيه مهنة له في أول أمره، لذلك عرف عند بعض معاصريه ب " الذهبي " مثل الصلاح الصفدي (6) ، وتاج الدين السبكي (7) ، والحسيني (8) ، وعماد الدين ابن كثير (9) ، وغيرهم.
__________
(1) الذهبي: " تاريخ الإسلام " (وفيات 697) نسخة أيا صوفيا 3014، و " معجم الشيوخ "، م 1 ورقة 13، والصفدي: " الوافي "، م 7 ورقة 86.
(2) كان من بينهم فك أسر امرأتين من أسر الفرنجة من عكا (انظر المصادر في الهامش السابق) .
(3) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 ورقة 55 وتوفي سنة 686.
(4) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 13.
(5) ونسبة ب " ابن الذهبي " مقيدة بخطه في معظم الكتب والطباق التي بخطه مثل طبقة سماع كتاب أهل المئة فصاعدا (ص 111 بتحقيقنا) ، وطرر المجلدات التي وصلت بخطه من " تاريخ الإسلام " (نسخة أيا صوفيا) وطبقة سماع لكتاب " الكاشف " له (نسخة التيمورية رقم 1936) وجاء في أول " معجم شيوخه ": " أما بعد، فهذا معجم العبد المسكين محمد بن أحمد..ابن الذهبي ".
(6) " الوافي "، 2 / 163 و " نكت الهميان "، ص 241.
(7) " طبقات الشافعية الكبرى " 9 / 100.
(8) " ذيل تذكرة الحفاظ "، ص 34.
(9) " البداية والنهاية "، 14 / 225.(المقدمة/16)
وعاش طفولته بين أكناف عائلة علمية متدينة، فكانت مرضعته وعمته ست الأهل بنت عثمان، الحاجة أم محمد، قد حصلت على الإجازة من ابن أبي اليسر، وجمال الدين بن مالك، وزهير بن عمر الزرعي، وجماعة آخرين، وسمعت من عمر بن القواس وغيره، وروى الذهبي عنها (1) .
وكان خاله علي قد طلب العلم، وروى عنه الذهبي في " معجم شيوخه "، وقال: " علي بن سنجر بن عبد الله الموصلي، ثم الدمشقي الذهبي الحاج المبارك أبو إسماعيل خالي.
مولده في سنة ثمان وخمسين وست مئة.
وسمع بإفادة مؤدبه ابن الخباز من أبي بكر ابن الأنماطي، وبهاء الدين أيوب الحنفي، وست العرب الكندية.
وسمع معي ببعلبك من التاج عبد الخالق وجماعة.
وكان ذا مروءة وكد على عياله وخوف من الله.
توفي في الثالث والعشرين من رمضان سنة ست وثلاثين وسبع مئة " (2) .
وكان زوج خالته فاطمة، أحمد بن عبد الغني بن عبد الكافي الأنصاري الذهبي، المعرف بابن الحرستاني، قد سمع الحديث، ورواه، وكان حافظا للقرآن الكريم، كثير التلاوة له، وتوفي بمصر سنة 700 (3) هـ.
وطبيعي أن تعتني مثل هذه العائلة المتدينة التي كان لها حظ من العلم بأبنائها، لذلك وجدنا أخاه من الرضاعة علاء الدين أبا الحسن علي بن إبراهيم بن داود بن العطار الشافعي: " 724 654 هـ " (4) يسرع، ويستجيز
__________
(1) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 ورقة 57، ولدت سنة الأهل سنة 653 هـ وتوفيت سنة 729 هـ.
(2) الذهبي: " معجم الشيوخ " م 2 ورقة 6.
(3) المصدر السابق، م 1 ورقة 12.
(4) الذهبي: " ذيل العبر "، ص 136، و " معجم الشيوخ " م 2 ورقة 1، ابن كثير: = سير 1 / 2(المقدمة/17)
للذهبي جملة من مشايخ عصره في سنة مولده (1) منهم من دمشق: أحمد بن عبد القادر، أبو العباس العامري " 673 609 هـ " (2) ، وابن الصابوني " 680 604 هـ " (3) ، وأمين الدين ابن عساكر " 686 614 هـ " (4) ، وجمال الدين ابن الصيرفي " 678 583 هـ " (5) .
ومن حلب: أحمد بن محمد ابن النصيبي " 692 609 هـ " (6) ، ومن مكة: الإمام محب الدين الطبري محدث الحرم ومفتيه " 694 615 هـ " (7) ، وغيره (8) .
ومن المدينة: كافور بن عبد الله الطواشي (9) .
ويبدو أن علاء الدين ابن العطار قد حج في تلك السنة (10) فحصل بعض الإجازات من مكة والمدينة.
وذكر ابن حجر أن الذين أجازوه في هذه السنة " جمع جم (11) " وقال في ترجمة ابن
__________
= " البداية "، 14 / 117، ابن حجر: " الدرر "، 3 / 74 73، النعيمي: " تنبيه الدارس "، 1 / 70 68، 99، 112.
ورأينا لأبي الحسن ابن العطار هذا رسالة في السماع في خزانة كتب جستربتي بدبلن ضمن مجموع برقم 3296.
(1) ابن حجر: " الدرر "، 3 / 426.
(2) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 12.
(3) المصدر السابق، م 2 الورقة 55.
(4) المصدر السابق، م 1 الورقة 80.
(5) المصدر السابق، م 2 الورقة 87.
(6) المصدر السابق، م 1 الورقة 18.
(7) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م الورقة 8.
(8) انظر مثلا: " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 90، م 2 الورقة 6، 31، 60 59، 88، وابن حجر: " الدرر "، 3 / 436.
(9) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 2 الورقة 26.
(10) المصدر السابق، م 2 الورقة 60 59.
(11) ابن حجر: " الدرر "، 3 / 426.(المقدمة/18)
العطار: " وهو الذي استجاز للذهبي سنة مولده، فانتفع الذهبي بعد ذلك بهذه الإجازة انتفاعا شديدا " (1) .
ويمضي الطفل إلى أحد المؤدبين هو علاء الدين علي بن محمد الحلبي المعروف بالبصبص، وكان من أحسن الناس خطا، وأخبرهم بتعليم الصبيان، فيقيم في مكتبه أربعة أعوام (2) ، وفي أثناء ذلك كان جده عثمان يدمنه على النطق بالراء يقوم بذلك لسانه (3) .
ولا نعرف في أية سنة ترك المكتب، ولكنه كان في سنة 682 هـ، لم يزل عنده حيث أنشده في هذه السنة شعرا لأبي محمد القاسم الحريري (4) .
وقد اتجه الذهبي بعد ذلك إلى شيخة مسعود بن عبد الله الصالحي، فلقنه جميع القرآن، ثم قرأ عليه نحوا من أربعين ختمة، وكان الشيخ مسعود إمام مسجد الشاغور، وكان خيرا متواضعا برا بصبيانه، لقن خلقا.
وتوفي سنة 720 هـ (5) .
وبدأ الصبي بالحضور إلى مجالس الشيوخ ليسمع كلام بعضهم (6) .
ولما قدم عز الدين الفاروثي، عالم العراق، إلى دمشق سنة 690 هـ، ذهب الفتى وسلم عليه، وحدثه (7) ، مما يدلل على حبه للعلم والعلماء منذ الصغر.
__________
(1) المصدر السابق، 3 / 73.
(2) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 2 الورقة 11.
(3) المصدر السابق، م 1 الورقة 89.
(4) المصدر السابق، م 2 الورقة 11 ومات مؤدبه في حدود سنة 690 هـ.
(5) الذهبي: " معجم الشيوخ، م 2 الورقة 78.
(6) المصدر السابق، م 2 الورقة 58.
(7) الذهبي: " معرفة القراء "، ص 544. وتوفي الفاروثي سنة 694 هـ.(المقدمة/19)
ثانيا - بدء عنايته بطلب العلم
بدأ الذهبي يعتني بطلب العلم حينما بلغ الثامنة عشرة من عمره، وتوجهت عنايته إلى ناحيتين رئيستين هما: القراءات، والحديث الشريف.
أ - القراءات: اهتم الذهبي بقراءة القرآن الكريم، والعناية بدراسة علم القراءات، فتوجه سنة 691 هـ هو ورفقة له، إلى شيخ القراء جمال الدين أبي إسحاق إبراهيم بن داود العسقلاني، ثم الدمشقي، المعروف بالفاضلي، فشرع عليه بالجمع الكبير (1) ، وكان الفاضلي قد صحب الشيخ علم الدين السخاوي المتوفى سنة 643 هـ، وهو الذي انتهت إليه رياسة الإقراء في زمانه (2) ، وجمع عليه القراءات السبع، وتصدر للإقراء بتربة أم الصالح، ولكنه أصيب بطرف من الفالج، فكان يقرئ في بيته وينتهي الذهبي عليه إلى أواخر سورة القصص، ويزداد الفالج على الشيخ، فيمنع الطلبة من الدخول عليه، ثم يموت سنة 692 هـ، وتظل قراءة الذهبي على الفاضلي ناقصة (3) .
ولكنه كان في أثناء شروعه بالجمع الكبير على الفاضلي، قد شرع في الوقت نفسه يقرأ بالجمع الكبير على الشيخ جمال الدين أبي إسحاق إبراهيم بن غالي
المقرئ الدمشقي " ت 708 (4) هـ ". وقرأ ختمة جامعة لمذاهب القراء
__________
(1) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 27، " ومعرفة القراء "، ص 562 - 563 ابن الجزري: " غاية "، 2 / 71.
(2) سبط ابن الجوزي: " مرآة "، 8 / 758، القفطي: " إنباه "، 2 / 311، الحسيني: " صلة التكملة "، (وفيات 643) ، الذهبي: " العبر "، 5 / 178، ابن كثير: " البداية "، 13 / 17، ابن الجزري: " غاية " 1 / 568.
(3) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 27، و " معرفة القراء "، ص 563 562، 576، 592.
(4) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 30، و " معرفة القراء "، ص 576.(المقدمة/20)
السبعة بما اشتمل عليه كتاب " التيسير " للداني، وكتاب " حرز الأماني " للشاطبي على ابن جبريل المصري نزيل دمشق (1) .
وما لبث الذهبي أن أصبح على معرفة جيدة بالقراءات، وأصولها ومسائلها، وهو لما يزل فتى لم يتعد العشرين من عمره، قال في ترجمة قاضي القضاة شهاب الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن خليل الخويي ثم الدمشقي الشافعي المتوفى سنة 693 هـ: " جلست بين يديه، وسألني عن غير مسألة من القراءات، فمن الله وأجبته وشهد في إجازتي من الحاضرين، وأجاز لي مروياته (2) ".
على أنه استمر في تحصيل هذا الفن، فكتب في سنة 691 هـ " المقدمة في التجويد " عن مؤلفها المقرئ المجود أبي عبد الله محمد بن جوهر التلعفري المتوفى سنة 696 (3) هـ، وتلا ختمة للسبعة على مجد الدين أبي بكر بن محمد المرسي نزيل دمشق المتوفى سنة 718 هـ (4) وجمع الختمة على شيخ القراء ببعلبك موفق الدين المتوفى سنة 695 هـ (5) ، وقرأ
بالسبع أيضا على المقرئ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن منصور الحلبي المتوفى سنة 700 هـ، وكان الحلبي هذا من المتصدرين بالعادلية وبالجامع الأموي (6) .
وقرأ كتاب " المبهج في القراءات السبع (7) " لسبط الشيخ أبي منصور الخياط البغدادي، و " السبعة " لابن مجاهد، وغيرهما على
__________
(1) (1) الحسيني: " ذيل تذكرة الحفاظ "، ص 36.
(2) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 2 الورقة 31.
(3) المصدر السابق، م 2 الورقة 39.
(4) المصدر السابق، م 2 الورقة 39.
(5) المصدر السابق، م 2 الورقة 74.
(6) المصدر السابق، م 2 الورقة 66 65.
(7) عندي منه نسخة مصورة عن نسخة معهد إحياء المخطوطات (رقم 75 قراءات وتجويد) وهو كتاب نفيس للغاية.(المقدمة/21)
شيخه أبي حفص عمر ابن القواس المتوفى سنة 698 هـ، وسمع " الشاطبية " من غير واحد من القراء (1) .
وتميز الشاب في دراسة القراءات، وبرع فيها براعة جعلت شيخه شمس الدين أبا عبد الله محمد بن عبد العزيز الدمياطي ثم الدمشقي الشافعي، وهو من المقرئين المجودين، يتنازل له عن حلقته بالجامع الأموي في أواخر سنة 692 هـ، أو أوائل سنة 693 هـ، حينما أصابه المرض الذي توفي فيه، وكان الذهبي قد أكمل عليه القراءات قبل ذلك (2) ، فكان هذا أول منصب علمي يتولاه الذهبي فيما نعلم، وإن لم يدم فيه أكثر من سنة واحدة (3) .
ب - الحديث:
وفي الوقت نفسه كان الذهبي، وهو في الثامنة عشرة من عمره، قد مال إلى سماع الحديث، واعتنى به عناية فائقة (4) .
وانطلق في هذا العلم حتى؟ طغى على كل تفكيره، واستغرق كل حياته بعد ذلك، فسمع ما لا يحصى كثرة من الكتب والأجزاء، ولقي كثيرا من الشيوخ والشيخات، وأصيب بالشره في سماع الحديث وقراءته، ورافقه ذلك طيلة حياته، حتى كان يسمع من أناس قد لا يرضى عنهم، قال في ترجمة علاء الدين أبي الحسن علي بن مظفر
__________
(1) انظر مثلا الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 2 الورقة 35، 69.
(2) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 2 الورقة 48، توفي شيخه بعد ذلك في صفر من سنة 693 (3) قال الذهبي في ترجمة محمد بن أحمد بن علي شمس الدين أبي عبد الله الرضي الحنفي من معرفة القراء: " ولما سافرت إلى بعلبك، سنة ثلاث وتسعين، وتعوقت بالقراءة على الموفق، وثب على حلقتي، فأخذها لكوني لم أستأذن الحاكم في الغيبة، وهو الآن يقرئ بالجامع " ص 600.
(4) السبكي: " طبقات الشافعية الكبرى "، 9 / 102، والسيوطي: " طبقات الحفاظ "، الورقة 84.(المقدمة/22)
الإسكندراني، ثم الدمشقي، شيخ دار الحديث النفيسية، المتوفى سنة 716 هـ: " ولم يكن عليه ضوء في دينه، حملني الشره على السماع من مثله، والله يسامحه كان يخل بالصلوات، ويرمى بعظائم الأمور (1) "، وقال في ترجمة شيخه شهاب الدين غازي بن عبد الرحمن الدمشقي المتوفى سنة 709 هـ: " وكان ذا سيرة غير محمودة، فالله يعفو عنه، كتب عنه خلق من أبناء البلد " (2) ، وقال في ترجمة شيخه أبي عبد الله محمد بن أحمد المقدسي المتوفى سنة 706 هـ: " فقير مسكين..ورأيتهم يذمونه..روى لنا عن خطيب مردا جزء البطاقة (3) "، وذكر عن شيخه محمود بن يحيى التميمي الدمشقي المتوفى سنة 733 هـ أنه كان " سيء الحال، سفيها (4) "، وقال عن أحد شيوخه: " لا ينبغي الرواية عنه، حكوا لي عنه مصائب (5) "، وقال عن آخر: إنه كان " من عوام الطلبة " (6) ، وقال في ترجمة شيخه محمد بن النصير المؤذن المتوفى سنة 715 هـ: " شويخ عامي سمعنا منه، ولم يكن بذاك (7) "، بل إنه ليذهب به حبه للحديث إلى القراءة على الصم، فقد ذكر في ترجمة شيخه محمود بن محمد الخرائطي الصالحي الأصم المتوفى سنة 716 هـ: " قرأت عليه بأقوى صوتي في أذنه (8) ".
__________
(1) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 2 الورقة 12.
(3) المصدر نفسه، م 2 الورقة 21.
(3) المصدر نفسه، م 2 الورقة 30.
(4) المصدر نفسه، م 2 الورقة 77.
(5) المصدر نفسه، م 1 الورقة 72.
(6) المصدر نفسه، م 2 الورقة 55.
(7) المصدر نفسه، م 2 الورقة 67.
(8) المصدر نفسه، م 2 الورقة 76.(المقدمة/23)
ثالثا - رحلاته في طلب العلم
كان الذهبي يتحسر على الرحلة إلى البلدان الأخرى، لما لذلك من أهمية بالغة في تحصيل علو الإسناد، وقدم السماع، ولقاء الحفاظ، والمذاكرة لهم، والاستفادة عنهم (1) .
إلا أن والده لم يشجعه على الرحلة، بل منعه في بعض الأحيان، قال في ترجمة أبي الفرج عبد الرحمن بن عبد
اللطيف بن محمد بن وريدة البغدادي الحنبلي شيخ المستنصرية " 599 697 (2) هـ ": " وقد هممت بالرحلة إليه، ثم تركته لمكان الوالد (3) "، وقال في ترجمته من " معرفة القراء الكبار ": " وانفرد عن أقرانه، وكنت أتحسر على الرحلة إليه، وما أتجسر خوفا من الوالد، فإنه كان يمنعني (4) "، وقال في ترجمة المكين الأسمر المقرئ الإسكندراني المتوفى سنة 692 هـ: " ولما مات شيخنا الفاضلي، فازددت تلهفا وتحسرا على لقيه، ولم يكن الوالد يمكنني من السفر (5) ".
ولم يكن الذهبي ابنا عاقا يخالف إرادة والده، لا سيما أن آداب طلب العلم تقتضي استئذان الأبوين في الرحلة (6) ، ووجوب طاعتهما وبرهما، وترك الرحلة مع كراهتهما ذلك وسخطهما (7) .
ويبدو لنا أن الذهبي
__________
(1) راجع عن أهمية الرحلة: الخطيب البغدادي: " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع "، " باب الرحلة في الحديث إلى البلاد النائية للقاء الحفاظ وتحصيل الأسانيد العالية " الورقة 168 169 (نسخة مكتبة البلدية بالإسكندرية 3711 ج 1) .
(2) الدكتور ناجي معروف: " تاريخ علماء المستنصرية "، 1 / 345 342.
(3) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 74.
(4) الذهبي: " معرفة القراء "، ص 556 وقال في " تاريخ الإسلام ": " وكنت في سنة أربع وتسعين وسنة خمس أتلهف على لقيه، وأتحسر، وما يمكنني الرحلة إليه لمكان الوالد ثم الوالدة " الورقة 268 (أيا صوفيا 3014) .
(5) المصدر نفسه، ص 551 وانظر أمثلة أخرى في " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 5.
(6) الخطيب البغدادي.
" الجامع لأخلاق الراوي "، الورقة 170.
(7) الخطيب البغدادي: " الجامع "، الورقة 175 171.(المقدمة/24)
كان وحيد أبيه، أو كان هو البارز بين أبنائه في الأقل (1) ، بحيث كان يخاف عليه هذا الخوف كله.
ويظهر أن والده قد سمع له بالرحلة حينما بلغ العشرين من عمره، وذلك سنة 693 هـ (2) .
على أنه سمح له برحلات قصيرة لا يقيم في كل منها أكثر من أربعة أشهر (3) في الأغلب، ويرافقه فيها بعض من يعتمد عليهم (4) .
أ - رحلاته داخل البلاد الشامية: تشير المصادر إلى رحلات الذهبي عرضا، ولكنها لا تقدم لنا عنها الكثير.
على أننا استطعنا أن نتبين أن أول رحلة له ربما كانت إلى بعلبك سنة 693 هـ (5) حيث قرأ فيها القرآن جمعا على الموفق النصيبي المتوفى سنة 695 هـ (6) ، وأكثر عن المحدث الأديب الإمام تاج الدين أبي محمد المغربي، ثم البعلبكي، المتوفى سنة 696 (7) .
وسوف نجده مرة أخرى في بعلبك سنة 707 (8) هـ، وقد سمع في هاتين الرحلتين على كثير من شيوخ
__________
(1) لم نقف على أخ لمحمد بن أحمد الذهبي في جميع الكتب المطبوعة والمخطوطة التي اطلعنا عليها، مع أن الذهبي كثير العناية بذكر أقربائه.
(2) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 65.
(3) قال الذهبي في ترجمة شرف الدين أبي الحسين يحيى بن أحمد الجذامي الإسكندراني وكان قد بلغ السابعة والثمانين من عمره، ووجد الذهبي بعض صعوبات وتأخير في قراءة القراءات عليه، فخاف أن يذهب وقته سدى: " وكنت قد وعدت أبي، وحلفت له أني لا أقيم في الرحلة أكثر من أربعة أشهر، فخفت أعقه " " معرفة القراء "، ص 558.
(4) كان والده يرافقه في رحلته إلى حلب سنة 693 هـ وقد سمع معه فيها، وكان رفيقه في رحلته إلى البلاد المصرية سنة 695 ابن أمه في الرضاع داود بن إبراهيم بن داود ابن العطار الفقيه الشافعي، وهو أكبر من الذهبي بثمانية أعوام " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 47) .
(5) الذهبي: " معجم الشيوخ "، 1 / الورقة 65
(6) ابن الجزري: " غاية "، 2 / 71، الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 2 الورقة 74.
(7) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 71، السبكي: " طبقات "، 9 / 102.
(8) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 52.(المقدمة/25)
البلد (1) .
ورحل بعد ذلك إلى حلب، وأكثر فيها عن علاء الدين أبي سعيد سنقر بن عبد الله الأرمني، ثم الحلبي، قال: " رحلت إليه، وأكثرت عنه، ونعم الشيخ كان دينا ومروءة وعقلا وتعففا (2) "، وسمع من جملة من شيوخها (3) .
وتشير المصادر إلى أنه قد سمع ببلدان عديدة منها: حمص (4) ، وحماة (5) ، وطرابلس (6) ، والكرك (7) ، والمعرة (8) ، وبصرى (9) ، ونابلس (10) ، والرملة (11) ، والقدس (12) ، وتبوك (13) .
ب - رحلته إلى البلاد المصرية: على أن رحلة الذهبي إلى البلاد المصرية كانت من أبرز رحلاته
__________
(1) انظر مثلا الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 24، 83، 88، م 2 الورقة 9، 72، 74، 81.
(2) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 55، و " ذيل العبر "، ص 36، السبكي: " طبقات " 9 / 102، الطباخ: " أعلام النبلاء "، 4 / 540.
(3) انظر مثلا: الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 27، 34، 39، السبكي: " طبقات "، 9 / 102.
(4) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 2 الورقة 63، والصفدي: " الوافي "، 2 / 165.
(5) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 82، م 2 الورقة 68، 82.
(6) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 7، 22: 29، م 2 الورقة 6، 9 وذكر أنه نزل في مدرسة القاضي شمس الدين أحمد بن أبي بكر بن منصور الإسكندراني الفقيه قاضي طرابلس
" معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 22.
(7) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 61، م 2 الورقة 16، 43 42 وقد سمع بها سنة 698 من قاضي القضاة عز الدين محمد بن سلمان الحلبي.
(8) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 89.
(9) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 83.
(10) الذهبي: " معجم الشيوخ، م 1 الورقة 76، م 2 الورقة 7.
(11) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 47، والصفدي: " الوافي "، 2 / 165.
(12) الصفدي: " الوافي " 2 / 165.
(13) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 2 الورقة 65.(المقدمة/26)
المبكرة، ويقول الدكتور صلاح الدين المنجد: إنه لا يعرف متى سافر الذهبي إلى مصر، ثم يقول: " ولعل سفره إلى مصر كان بعيد وفاة أبيه سنة 697 هـ، وقد عاد سنة 699 هـ (1) ".
واستند في ذلك على ما نقله ابن حجر عن مشيخة بدر الدين النابلسي الذي قال: " وأول ما ولي تصدير حلقة إقراء بجامع دمشق في أول رواق زكريا عوضا عن شمس الدين العراقي الضرير المقرئ في المحرم سنة 699 هـ بعد رجوعه من رحلته من مصر بقليل (2) ".
وقد استطعنا، نتيجة تتبعنا لنشاط الذهبي أن نحدد رحلته إلى البلاد المصرية، وأنها كانت بين رجب وذي العقدة من سنة 695 هـ، فقد تبين أنه ابتدأ سفرته في رجب سنة 695 هـ متوجها إلى فلسطين، قال في ترجمة شيخته أم محمد سيدة بنت موسى بن عثمان المارانية المصرية المتوفاة سنة 695 هـ: " وقد رحلت إلى لقيها، فماتت وأنا بفلسطين، في رجب سنة خمس وتسعين وست مئة (3) " وقال في ترجمتها من " تاريخ الإسلام ": " كنت أتلهف على لقيها، ورحلت إلى مصر، وعلمي أنها باقية، فدخلت فوجدتها قد ماتت من عشرة أيام..توفيت يوم الجمعة سادس رجب وأنا بوادي فحمة (4) "، وبذلك نستنتج أنه وصل إلى البلاد المصرية في السادس عشر من رجب سنة 695 هـ.
وأول ما افتتح سماعه بمصر على شيخه جمال الدين أبي العباس أحمد ابن محمد بن عبد الله الحلبي المعروف بابن الظاهري (5) " 626 - 696 هـ "،
__________
(1) انظر مقدمته للجزء الذي طبعه من سير أعلام النبلاء، 1 / 18.
(2) ابن حجر: " الدرر "، 3 / 427.
(3) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 59.
(4) الورقة 246 (أيا صوفيا 3014) ولم يذكر ياقوت وادي فحمة هذا.
(5) كان والده محمد مولى الملك الظاهر صاحب حلب، فنسب إليه.(المقدمة/27)
قال في " تاريخ الإسلام ": " وبه افتتحت السماع في الديار المصرية، وبه اختتمت، وعنده نزلت، وعلى أجزائه اتكلت.
وقد سمع منه علم الدين (يعني البرزالي) أكثر من مئتي جزء (1) "، وقال في ترجمته من " معجم شيوخه ": " ودعته في ذي القعدة سنة خمس وتسعين، فقال لي: قل للجماعة يجعلوني في حل.. (2) ".
وطبيعي أن يرجع الإمام الذهبي في ذي القعدة من السنة لأنه كان قد وعد أباه، وحلف له أنه لا يقيم في الرحلة أكثر من أربعة أشهر، فخاف أن يعقه إذا تأخر (3) .
وقد توفي ابن الظاهري بعد ذلك في ربيع سنة 696 (4) هـ.
وقد ذكر مترجمو الذهبي أنه سمع من الحافظ ابن الظاهري (5) فكيف يصح القول عندئذ أنه سافر بعيد 697 هـ! ؟ وسمع بمصر بعد ذلك من جماعة كبيرة، من أشهر هم: مسند الوقت أبو المعالي أحمد بن إسحاق بن محمد الأبرقوهي (6) المتوفى سنة 701 هـ (7) ، وشيخ الإسلام المجتهد قاضي القضاة تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي المعروف بابن
__________
(1) الورقة 257 (أيا صوفيا 3014) .
(2) م 1 الورقة 18.
(3) الذهبي: " معرفة القراء "، ص 558.
(4) الذهبي: " تاريخ الإسلام " الورقة 257 (أيا صوفيا 3014) ، و " معجم الشيوخ " م 1 الورقة 18، ابن الجزري: " تاريخ " م 2 الورقة 60 (باريس 6739) .
(5) أنظر مثلا: السبكي: " طبقات "، 9 / 102، وسبط ابن حجر: " رونق الألفاظ "، الورقة 180.
(6) نسبة إلى (أبرقوه) بلد قرب يزد، ياقوت: " معجم البلدان "، 1 / 85 وقد ولد بها حينما كان أبو قاضيا عليها، الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 5.
(7) الذهبي: " معجم الشيوخ، م 1 الورقة 5 و " ذيل العبر "، ص 18، السبكي: " طبقات "، 9 / 102، ابن حجر: " الدرر " 1 / 110، 3 / 426، سبط ابن حجر: " رونق الألفاظ " (نسخة الخالدية) ، الفاسي: " العقد الثمين "، 3 / 15، ابن تغري بردي: " النجوم "، 8 / 198 و " المنهل الصافي "، 1 / 218 وغيرها.(المقدمة/28)
دقيق العيد القشيري المتوفى سنة 702 هـ (1) والعلامة شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدمياطي المتوفى سنة 705 هـ (2) ، وغيرهم (3) .
وفي أثناء وجوده بالبلاد المصرية رحل إلى الإسكندرية، وكان بها في شوال من السنة، قال في ترجمة شيخه أبي الحجاج يوسف بن الحسن التميمي القابسي ثم الإسكندراني: " وكنت في شوال هذه السنة في الإسكندرية وهو حي، وسمعت منه التجريد (4) ".
ويظهر أنه سافر إليها في رمضان لأنه قرأ على صدر الدين سحنون ختمة لورش وحفص، وتوفي شيخه في الرابع من شوال سنة 695 هـ (5) .
وفي ثغر الإسكندرية مضى الذهبي إلى أسند أهلها في القراءات، الإمام شرف الدين أبي الحسين يحيى بن أحمد بن عبد العزيز ابن الصواف الجذامي الإسكندراني المقرئ المشهور " 609 705 (6) هـ " فأدخل عليه، فوجده قد أضر وأصم، وهو في سبع وثمانين سنة، فقرأ عليه جزءا، ورفع صوته، فسمع، ثم كلمه في أن يجمع عليه القراءات
__________
(1) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 2 ورقة 55، و " ذيل العبر "، ص 21، و " تذكرة الحفاظ " 4 / 1484 1481، ابن سيد الناس: " أجوبة "، الورقة 65 (الأسكوريال 1160) ، الأدفوي: " الطالع السعيد "، ص 338 317، الصفدي: " الوافي "، 4 / ص 193، ابن حجر: " رفع الإصر "، الورقة 112 وغيرها.
(2) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 87، و " تذكرة الحفاظ "، 4 / 1479 1477، ابن شاكر: " فوات "، 2 / 17، ابن كثير: " البداية "، 14 / 40، ابن قاضي شهبة: " منتقى المعجم المختص "، الورقة 162 " (أوقاف) ، الصفدي: " الوافي "، م 17 ورقة 236، و " معجم شيوخه " لخصه وترجمه إلى الفرنسية الأستاذ جورج فايدا وطبع بباريس سنة 1926 م.
وفي خزانة كتبي الجزء الثالث من إحدى نسخه الخطية.
(3) انظر مثلا: الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 2 الورقة 21، 42، 64، 96.
(4) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 2 الورقة 25.
(5) الذهبي: " تاريخ الإسلام "، الورقة 247 (أيا صوفيا 3014) .
(6) الذهبي: " ذيل العبر "، ص 32، ابن حجر: " الدرر "، 5 / 186 185، الجزري: " غاية "، 2 / 366، المقريزي: " السلوك "، 2 / قسم 1 ص 21.(المقدمة/29)
السبع، فوافق، وبدأ الذهبي بالقراءة، فقرأ عليه الفاتحة وآيات من البقرة والشيخ يرد الخلاف، ويرد رواية يعقوب وغيره، ولما ذكر له الذهبي أن قصده القراءة بالسبع حسب، تخيل الشيخ منه نقص المعرفة، وطلب منه أن يذهب إلى أحد تلامذته، قال الذهبي: " وزهدني فيه أني كنت لا أدخل عليه إلا بمشقة وأمنع، ويؤذن لي مرة، وأيضا فكنت لا أقرأ ربع حزب جمعا، حتى ينقطع صوتي لمكان صممه " فخاف الذهبي ضياع الوقت القصير، فتركه (1) ، وذهب إلى الإمام المقرئ صدر الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الحليم بن عمران الدكالي المعروف بسحنون " 610 - 695 هـ (2) " وكان قد ضعف وأضر، فختم عليه بقراءتي ورش وحفص، في مدة أحد عشر يوما مع جماعة من رفاقه (3) .
وسمع بالإسكندرية من جملة من علمائها المتميزين (4) من أبرزهم: تاج الدين أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد المحسن الهاشمي الحسيني الواسطي الغرافي ثم الإسكندراني " 628 - 704 هـ " شيخ دار الحديث النبيهية بالإسكندرية (5) كما رحل إلى بلبيس، وسمع بها (6) .
لقد كانت هذه الرحلة قصيرة، وكان الذهبي يجهد نفسه في قراءة أكبر كمية ممكنة على شيوخ تلك البلاد، فقد ذكر مثلا أنه قرأ جميع سيرة ابن هشام على شيخه أبي المعالي الأبرقوهي في سنة أيام فقط (7) .
__________
(1) الذهبي: " طبقات القراء "، ص 558، و " معجم الشيوخ "، م 2 الورقة 84.
(2) الذهبي، " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 73.
(3) الذهبي: " تاريخ الإسلام "، الورقة 247 (أيا صوفيا 3014) و " معرفة القراء " ص 555.
(4) انظر مثلا " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 21، 22، 75، 86، م 2 الورقة 17، 60، 74، 83، 85.
(5) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 2 الورقة 3 2، و " ذيل العبر "، ص 3 28 "، الحسيني: " ذيل تذكرة الحفاظ "، ص 94، ابن حجر: " الدرر "، ج 3 ص 86 85، المقريزي: " السلوك "، 2 / ص 13. وانظر أيضا: السبكي: " طبقات "، 9 / 102.
(6) الصفدي: " الوافي "، 2 / 164.
(7) الذهبي: " تاريخ الإسلام "، الورقة 135 (أيا صوفيا 3007) .(المقدمة/30)
ج - رحلته للحج وسماعه هناك:
وفي سنة 698 هـ، أي بعيد وفاة والده رحل الذهبي للحج، قال في حوادث السنة من " تاريخ الإسلام ": وحج بنا الأمير شمس الدين العينتابي (1) "، وكان يرافقه في حجه جماعة من أصحابه وشيوخه (2) ، منهم شيخ دار الحديث بالمدرسة المستنصرية (3) العالم المسند أبو عبد الله محمد ابن عبد المحسن المعروف بابن الخراط الحنبلي " 728 - 638 هـ "، وكان ابن الخراط قد قدم دمشق في تلك السنة، وجلس للوعظ بدمشق في شهر رمضان (4) ، قال الذهبي: " ورافقنا في الحج، فسمعت منه بالعلى ومعان كتاب " الفرج بعد الشدة " (5) .
وقد سمع بمكة (6) ، وعرفة (7) ، ومنى (8) ، والمدينة (9) من مجموعة من الشيوخ.
__________
(1) الذهبي: " تاريخ الإسلام "، الورقة 333 (أيا صوفيا 3014) .
(2) انظر مثلا: " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 72، م 2 الورقة 16.
(3) الدكتور ناجي معروف: " تاريخ علماء المستنصرية "، 1 / 360 354.
(4) ذكر ذلك علم الدين البرزالي المتوفى سنة 639 هـ ابن رجب: " الذيل "، 2 / 385 والذهبي في " معجم شيوخه "، م 2 الورقة 50.
(5) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 2 الورقة 50 والكتاب المذكور للتنوخي كما هو معروف.
(6) السبكي: " طبقات "، 9 / 102.
(7) الذهبي: " معجم الشيوخ " م 1 الورقة 80.
(8) الذهبي: " معجم الشيوخ " م 1 الورقة 83، 84.
(9) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 2 الورقة 50.(المقدمة/31)
رابعا - طبيعة دراساته
لم ينقطع الذهبي طيلة حياته عن الدراسة والسماع لا يشغله عنهما شاغل، تدل على ذلك معجمات شيوخه لا سيما " المعجم الكبير ".
وكانت دراسته وسماعاته متنوعة لم تقتصر على القراءات والحديث.
وقد عني بدراسة النحو، فسمع " الحاجبية " في النحو على شيخه موفق الدين أبي عبد الله محمد بن أبي العلاء النصيبي البعلبكي المتوفى سنة 695 هـ (1) .
ودرس على شيخ العربية، وإمام أهل الأدب في مصر آنذاك الشيخ بهاء الدين محمد بن إبراهيم المعروف بابن النحاس المتوفى سنة 698 هـ (2) .
إضافة إلى سماعه لعدد كبير من مجاميع الشعر واللغة والآداب (3) .
واهتم بالكتب التاريخية، فسمع عددا كبيرا منها على شيوخه، في المغازي (4) ، والسيرة (5) ، والتاريخ العام (6) ، ومعجمات الشيوخ والمشيخات (7) ، وكتب التراجم الأخرى (8) .
__________
(1) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 2 الورقة 74.
(2) المصدر نفسه، م 2 الورقة 30، " وتاريخ الإسلام "، الورقة 287 (أيا صوفيا 3014) .
(3) انظر مثلا " تاريخ الإسلام "، 3 / 65 (مطبوعة) والورقة 117 (أحمد الثالث 2917 / 9) والورقة 157 (أيا صوفيا 3008) والورقة 49 (أحمد الثالث 2917 / 10) " ومعجم الشيوخ " م 2 الورقة 50.
(4) انظر مثلا " تاريخ الإسلام "، 6 / 133 (مطبوعة) .
(5) انظر مثلا " تاريخ الإسلام "، الورقة 135 (أيا صوفيا 3007) .
(6) المصدر نفسه، مثلا الورقة 198 (حلب) .
(7) انظر مثلا " معجم الشيوخ " م 1، الورقة 15، 22، 26، 28، 33، 42، 46، 55، 80 م 2 الورقة 9، 10، 50، 71، 100، " وتاريخ الإسلام "، الورقة 96 (أيا صوفيا 3008) والورقة 22 (أيا صوفيا 3009) والورقة 4 (أحمد الثالث 2917 / 10) والورقة 185 (أحمد الثالث 2917 / 11) .
(8) مثلا " تاريخ الإسلام " الورقة 68، 79 (أيا صوفيا 3002) وغيرها.(المقدمة/32)
إلا أن عنايته الرئيسة في السماع كانت منصبة على الحديث، فقد سمع الذهبي مئات الكتب والأجزاء الحديثية طيلة حياته في طلب العلم، يعرف ذلك من يقرأ معجمات شيوخه وكتبه بروية وإمعان، فضلا عن أن هذه الكتب والأجزاء هي ليست كل ما قرأ الذهبي علي شيوخه، فهناك العدد الهائل من الأحاديث النبوية الشريفة لم يورد في معجمات شيوخه منها إلا أمثلة حسب.
يضاف إلى ذلك أنه كان ربما سمع الكتاب أو الجزء على أكثر من شيخ حتى يبلغ في بعضها عشرات المرات أو عددا كبيرا منها، ولنضرب لذلك بعض الأمثلة، فقد سمع " جزء الحسن بن عرفة " وهو من الأجزاء الحديثية المشهورة أكثر من أربعين مرة على أكثر من أربعين شيخا (1) ، وسمع " نسخة أبي مسهر " عبد الأعلى بن مسهر المتوفى سنة 218 (2) أكثر من اثنتي عشرة مرة (3) ، وسمع " جزء ابن فيل (4) " لأبي طاهر الحسن بن أحمد بن فيل البالسي على أكثر من عشرة من الشيوخ (5) .
وأرى من الواجب أن أشير إلى أن الذهبي لم يعن بذكر مسموعاته بصورة مفصلة في معجم شيوخه كما فعل ابن حجر مثلا في " المعجم المفهرس " الذي رتبه
__________
(1) انظر الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 9، 16، 17، 33، 36، 38، 49، 53، 64، 72، 79، 80، 81، 86، م 2 ورقة 8، 11، 13، 24، 31، 32، 37، 39، 44، 45،
46، 59، 77، 79، 82، 85، 86، 88، 98، 100.
(2) منه نسخة بدار الكتب المصرية، رقم 25551 ب.
(3) انظر الذهبي: " معجم الشيوخ " م 1 الورقة 38، 50، 66، 72، 75، م 2 ورقة 20، 32، 35، 37، 51، 65.
(4) منه نسخة بدار الكتاب المصرية برقم 25568 ب.
(5) انظر الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 6، 20، 72، 74، م 2 الورقة 31، 37، 53، 77، 88.
سير 1 / 3(المقدمة/33)
أساسا على الكتب (1) ، وفي " المجمع المؤسس " الذي رتبه على الشيوخ ولكن ذكر فيه المرويات أيضا (2) .
ومع ذلك فإن المرويات لا تمثل أصلا دراسات الطالب أو العالم، لان الكتب المروية محدودة عموما، بينما يستطيع الطالب أن يقرأ ما يشاء من الكتب الفقهية والتاريخية والأدبية ودواوين الشعراء ونحوها وطائفة كبيرة منها لا تروى.
على أننا نستطيع القول من دراستنا لكتب الذهبي واهتماماته، أنه عني بالعلوم الدينية عموما، والعلوم المساعدة لها كالنحو واللغة والأدب والشعر.
كما أنه اطلع على بعض الكتب الفلسفية.
ونشك أنه درس كتبا في العلوم الصرفة لعدم اعتقاده بجدواها.
__________
(1) ابن حجر: " المعجم المفهرس " (دار الكتب 82 مصطلح الحديث) .
(2) نسختي المصورة (عن دار الكتب 75 مصطلح الحديث) .(المقدمة/34)
خامسا - صلاته الشخصية وأثرها في تكوينه الفكري
اتصل الذهبي اتصالا وثيقا بثلاثة من شيوخ ذلك العصر وهم جمال الدين أبو الحجاج يوسف (1) بن عبد الرحمن المزي الشافعي " 654 - 742 هـ " وتقي الدين أبو العباس أحمد (2) بن عبد الحليم المعروف بابن تيمية الحراني، " 661 - 728 هـ " وعلم الدين أبو محمد القاسم (3) بن محمد البرزالي " 665 - 739 هـ "، وترافق معهم طيلة حياتهم.
وكان الذهبي أصغر رفاقه سنا، وكان أبو الحجاج المزي أكبرهم.
وكان بعضهم يقرأ على بعض، فهم شيوخ وأقران في الوقت نفسه.
وقد ساعد من شد أواصر هذه الرفقة اتجاههم نحو طلب الحديث منذ فترة مبكرة، وميلهم إلى آراء الحنابلة ودفاعهم عن مذهبهم، مع أن المزي والبرزالي
__________
(1) راجع الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 2 الورقة 90، و " تذكرة الحفاظ "، 2 / 1498، الحسيني: " الذيل على ذيل العبر "، ص 229، السبكي: " طبقات "، 6 / 251 (القاهرة 1324) ، ابن كثير: " البداية " 14 / 192 191، ابن ناصر الدين: " الرد الوافر "، ص 128، و " التبيان " الورقة 166، ابن حجر: " الدرر "، 5 / 237 233، ابن تغري بردي: " النجوم " 10 / 76، ابن طولون: " المعزة "، ص 10، ابن العماد: " شذرات "، 6 / 136، الكتاني: " فهرس " 1 / 107.
وراجع ما كتبناه في سيرته في مقدمة المجلد الأول من تهذيب الكمال.
(2) ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية معروفة تناولها معظم المؤرخين الذين تناولوا عصره ومنهم الذهبي.
ومن الذين كتبوا عنه مفردا ابن ناصر الدين في " الرد الوافر " (بيروت 1393 هـ) وابن قدامة: " العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية ".
ومن المحدثين: محمد كرد علي في " ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية " (لم يذكر مكان الطبع ولا تاريخه) ومحمد بن بهجة البيطار في " حياة شيخ الإسلام ابن تيمية " (دمشق 1961) ومحمد أبو زهرة: " ابن تيمية، حياته وعصره، آراؤه وفقهه " (القاهرة 1952) .
(3) انظر الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 2 الورقة 25، " ذيل العبر " ص 209، الحسيني: " ذيل تذكرة الحفاظ "، ص 2 18!، السبكي: " طبقات " 6 / 246 (القاهرة 1324) ، ابن كثير: " البداية "، 14 / 185، ابن شاكر: " فوات "، ص 119، ابن حجر: " الدرر " 3 / 323 321، ابن تغري بردي: " النجوم " 9 / 319، ابن العماد: " شذرات "، 6 / 124.(المقدمة/35)
والذهبي كانوا من الشافعية.
وكان كل واحد منهم محبا للآخر ذاكرا فضله.
ويذكر الذهبي جيدا أن علم الدين البرزالي هو الذي حبب إليه العناية بالحديث النبوي الشريف، فقال في " معجم شيوخه الكبير ": " الإمام الحافظ المتقن الصادق الحجة مفيدنا ومعلمنا ورفيقنا محدث الشام مؤرخ العصر (1) "، وقال في موضع آخر: " وهو الذي حبب إلي طلب الحديث، فإنه رأى خطي، فقال: خطك يشبه خط المحدثين! فأثر قوله في، وسمعت منه، وتخرجت به في أشياء (2) "، وكان على غاية من الإعجاب بعلمه، ولا سيما " معجم شيوخه " (3) الذي خرجه لنفسه، وفيه ثلاثة آلاف شيخ، منهم ألفان بالسماع وألف بالإجازة (4) .
وكتب الذهبي عن شيخه ورفيقه المزي بأنه: " العلامة الحافظ البارع أستاذ الجماعة..محدث الإسلام (5) وأنه كان " خاتمة الحفاظ وناقد الأسانيد والألفاظ وهو صاحب معضلاتنا وموضح مشكلاتنا (6) ".
أما ابن تيمية، فكانت شخصيته قد اكتملت منذ أن كان الذهبي شابا في أول طلبه العلم، وكان قد أصبح مجتهدا، له؟ ؟ الخاصة التي تقوم في أصلها
__________
(1) الذهبي: " معجم الشيوخ " م 2 الورقة 25.
(2) ابن حجر: " الدرر " 3 / 323.
(3) نظم الذهبي في هذا المعجم بيتين من الشعر، قال:
إن رمت تفتيش الخزائن كلها ... وظهور أجزاء حوت وعوالي
ونعوت أشياخ الوجود وما رووا ... طالع أو اسمع معجم البرزالي
ابن حجر: " الدرر "، 3 / 322، ابن ناصر الدين: " الرد الوافر "، ص 120.
(4) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 2 الورقة 25، و " ذيل العبر "، ص 208، ابن حجر: " الدرر "، 3 / 322، ابن ناصر الدين: " الرد الوافر "، ص 120.
(5) " معجم الشيوخ " م 2 الورقة 70، وانظر " تذكرة الحفاظ " 4 / 1499 1498.
(6) ابن حجر: " الدرر " 5 / 236 235.(المقدمة/36)
على اتباع آثار السلف، وابتدأ منذ سنة 698 هـ يدخل في خصومات عقائدية حادة مع علماء عصره من المخالفين له (1) ، ويقيم الحدود بنفسه، ويحلق رؤوس الصبيان (2) ، ويحارب المشعوذين من أدعياء التصوف (3) ، ويمنع من تقديم النذور (4) ، ويدور هو وأصحابه على الخمارات والحانات، ويريق الخمور (5) ، ويقاتل بعض من يعتقد فساد عقيدته (6) ، ويشتط على القضاة (7) ، بل بلغ الأمر به في إحدى المرات أن دخل السجن، وأخرج رفيقه المزي منه بنفسه (8) .
وظهرت شخصيته السياسية في الحرب الغازانية سنة 699 هـ وما بعدها، لا سيما سنة 702 هـ فقد كان له الدور البارز في انتصار المماليك على المغول في وقعة شقحب (9) .
وقد أحب الذهبي شيخه ورفيقه، وأعجب به، فقال بعد أن مدحه مدحا عظيما: " وهو أكبر من أن ينبه مثلي على نعوته، فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت، أني ما رأيت بعيني مثله، ولا والله ما رأى هو مثل نفسه في العلم (10) ". ولما مات،
__________
(1) الذهبي: " تاريخ الإسلام "، الورقة 332 (أيا صوفيا 3014) ، الصفدي: " الوافي " 5 / 22، ابن كثير " البداية 14 / 4، ابن حجر: " الدرر " 1 / 155.
(2) ابن كثير: " البداية "، 14 / 19.
(3) الصفدي: " الوافي " 5 / 18، ابن كثير: " البداية " 14 / 33، وانظر فتواه في " الصوفية
والفقراء " (نشرها رشيد رضا بالقاهرة 1348 ط 2) .
(4) ابن كثير: " البداية " 14 / 34.
(5) المصدر نفسه، 14 / 11.
(6) المصدر نفسه، 14 / 12.
(7) ابن حجر: " الدرر " 1 / 156.
(8) السبكي: " طبقات " 6 / 254 (القاهرة 1324) ، ابن كثير: " البداية " 14 / 37، ابن حجر: " الدرر " 5 / 234.
(9) الذهبي: " تاريخ الإسلام "، الورقة 334 فما بعد (أيا صوفيا 3014) ، الصفدي: " أعيان العصر " 8 / الورقة 7 1 (أيا صوفيا 2968) ، ابن كثير: " البداية " 14 / 9 فما بعد.
(10) ابن ناصر الدين: " الرد الوافر "، ص 35، وقارن ابن حجر: " الدرر " 1 / 169 168.(المقدمة/37)
رثاه بقصيدة (1) ، وذكر أن مصنفاته قد جاوزت الألف (2) ، وبالغ في ذكر مساوئ من حط عليه مثل الأمير سيف الدين تنكز (3) نائب الشام.
ولم تكن محبة رفيقيه وإعجابهما بابن تيمية بأقل من محبة الذهبي له، بل ربما كان المزي أكثرهم إعجابا ومحبة له مع أنه أكبر منه سنا (4) .
ومع أن الذهبي قد خالف رفيقه وشيخه " في مسائل أصلية وفرعية (5) " وأرسل إليه نصيحته الذهبية (6) التي يلومه، وينتقد بعض آرائه وآراء أصحابه بها، إلا أنه بلا ريب قد تأثر به تأثرا عظيما، بحيث قال تاج الدين السبكي المتوفى سنة 771 هـ: " إن هذه الرفقة المزي والذهبي والبرزالي أضر بها أبو العباس ابن تيمية إضرارا بينا وحملها من عظائم الأمور أمرا ليس هينا، وجرهم إلى ما كان التباعد عنه أولى بهم (7) ".
إن هذه الصلة بين الرفقة، وما اختطوه لأنفسهم فيما ارتضوه، ومالوا إليه
من آراء الحنابلة، قد أدت في كثير من الأحيان إلى إيذائهم والتحامل عليهم بما
__________
(1) ابن ناصر الدين: " بديعة الزمان "، الورقة 165، و " الرد الوافر " ص 36 35.
(2) ابن ناصر الدين: " الرد الوافر "، ص 35، وقارن ابن حجر: " الدرر " 1 / ص 160.
وقال الصفدي: " ومن الذي يأتي على مجموعها! " وذكر منها جملة كبيرة " الوافي " 5 / 30 23.
(3) ابن حجر: " الدرر "، 1 / 61.
وعاتب الذهبي تلميذه تاج الدين السبكي بسبب كلام وقع منه في ابن تيمية، فاعتذر منه السبكي برسالة أرسلها إليه. ابن حجر: " الدرر "، 1/ 169.
(4) انظر أقوال المزي في ابن تيمية في كتاب " الرد الوافر " ص 128 - 130 وأقوال البرزالي في الكتاب نفسه ص 119 - 123.
وكان ابن تيمية شديد الإعجاب بالمزي، فلما باشر دار الحديث الأشرفية بعد الشريشي، قال ابن تيمية: " لم يلها من حين بنيت إلى الآن أحق بشرط الواقف منه " انظر: ابن كثير: " البداية "، 14 / 89، ابن حجر: " الدرر " 5 / 234، النعيمي: " تنبيه "، 1 / 35.
(5) ابن حجر: " الدرر " 1 / 166.
(6) الذهبي: " النصيحة الذهبية لابن تيمية " (دمشق 1347 هـ) .
(7) السبكي: " طبقات " 6 / 254 (القاهرة 1324 هـ) .(المقدمة/38)
ليس فيهم. وقد أوذي المزي بسبب ذلك (1) ، وحرم الذهبي بسبب آرائه من تولي أكبر دار للحديث بدمشق، هي دار الحديث الأشرفية (2) التي شغرت مشيختها بعد وفاة رفيقه المزي سنة 742 هـ، فأشار قاضي القضاة علي بن عبد الكافي السبكي أن يعين الذهبي لها، فتكلم الشافعية بأن الذهبي ليس بأشعري، وأن المزي ما وليها إلا بعد أن كتب بخطه، وأشهد على نفسه بأنه أشعري، واتسع النقاش بينهم، ورفض الشافعية أن يتولاها الذهبي بعد أن جمعهم نائب الشام ألطنبغا بالرغم من إلحاح السبكي، ولم يحسم الأمر إلا بتولية السبكي نفسه (3) .
ثم أثرت صلة الذهبي بابن تيمية فيما اختصر (4) أو ألف (5) من كتب، وفي بلورة بعض آرائه، وحبه للحنابلة (6) ، وموقفه من بعض المتصوفة (7) ولا سيما طائفة الأحمدية، أتباع الشيخ أحمد الرفاعي (8) . وهو يذكر
__________
(1) من ذلك ما حدث سنة 705 هـ حينما وقعت المناظرة بين ابن تيمية والشافعية فقرأ الشيخ جمال الدين المزي فصلا بالرد على الجهمية من كتاب خلق أفعال العباد للبخاري تحت قبة النسر بعد قراءة ميعاد البخاري، فغضب بعض الفقهاء الحاضرين، وشكاة إلى القاضي الشافعي ابن صصرى، وكان من أعداء ابن تيمية، فأمر بسجن المزي، ولما بلغ ابن تيمية ذلك، تألم كثيرا، وذهب إلى السجن، فأخرجه منه بنفسه، فغضب نائب دمشق فأعيد المزي، ثم أفرج عنه.
ابن كثير: " البداية " 14 / 37، ابن حجر: " الدرر " 5 / 234) .
(2) منسوبة إلى الملك الأشرف ومظفر الدين موسى ابن العادل الأيوبي، ابتدأ عمارتها سنة 628 هـ، وافتتحت سنة 630 هـ، وأول من وليها محدث عصره الشيخ تقي الدين ابن الصلاح المتوفى سنة 643 هـ انظر الذهبي: " تاريخ الإسلام "، الورقة 243 (أيا صوفيا 3012) ، والنعيمي: " تنبيه الدارس " 1 / 19 فما بعد.
(3) السبكي: " طبقات الشافعية "، 6 / 171 170 (القاهرة 1324) ، ابن قاضي شهبة: " طبقات الشافعية "، الورقة 105 (أحمد الثالث 2836) .
(4) من ذلك مثلا " المنتقى من منهاج الاعتدال لشيخه ابن تيمية (وانظر القسم الخاص بكتبه) .
(5) من ذلك مثلا كتاب " العلو " (وانظر القسم الخاص بكتبه) .
(6) الذهبي: " معجم الشيوخ " م 1 ورقة 4.
(7) قال في ترجمة شيخه بهاء الدين أبي المحاسن عبد المحسن بن محمد المعروف بابن العديم المتوفى سنة 704 هـ: " وكان يدخل في ترهات الصوفية " " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 85.
(8) قال في ترجمة ثعلب بن جامع الصعيدي الأحمدي الباز دار المتوفى سنة 725 هـ: " كان من كبار الأحمدية، وله أتباع، ثم أنه تاب وترك تلك الرعونات " " معجم الشيوخ " م 1 الورقة 40.(المقدمة/39)
أن علم المنطق " نفعه قليل وضرره وبيل وما هو من علوم الإسلام (1) " ويقول عن الفلسفة: " الفلسفة الإلهية ما ينظر فيها من يرجى فلاحه، ولا يركن إلى اعتقادها من يلوح نجاحه، فإن هذا العلم في شق، وما جاءت به الرسل في شق، ولكن ضلال من لم يدر ما جاءت به الرسل كما ينبغي بالحكمة أشر ممن يدري، واغوثاه بالله إذا كان الذين قد انتدبوا للرد على الفلاسفة قد حاروا، ولحقتهم كسفة، فما الظن بالمردود عليهم (2) ؟ ! ".
ثم كان لهذه الرفقة، أعني رفقة ابن تيمية، أن جعلت بعض الناس يجدون فيها سببا لطعنهم في كتاباته بسبب اعتقادهم بتحيزها (3) .
وقد أثارت هذه المطاعن نقاشا بين علماء عصره، وعند العلماء الذين جاؤوا بعده (4) وهو ما سوف نبحثه عند كلامنا على منهجه في " سير أعلام النبلاء " (5) .
ومع أن كثيرا من الانتقادات التي وجهت إلى الذهبي بسبب العقائد كان يغلب عليها طابع التحامل والتعصب، إلا أننا في الوقت نفسه يجب أن نعترف بأن تكوينه الفكري العام قد ارتبط ارتباطا شديدا بالحديث والمحدثين ونظرتهم إلى العلوم والعلماء وفلسفتهم تجاه العلوم العقلية، وقد أثر ذلك، كما سنرى، في منهجه التاريخي تأثيرا واضحا حينما ربطه بالحديث النبوي الشريف وعلومه، فاهتم اهتماما كبيرا بالتراجم حتى صارت أساس كثير من كتبه، ومحور تفكيره.
__________
(1) الذهبي: " بيان زغل العلم "، ص 24 وقال في ترجمة أحد شيوخه: " ثم دخل في؟ ؟، فالله يسلم، ثم أقبل على شأنه " " معجم الشيوخ " م 1 ورقة 67 66.
(2) الذهبي: " بيان زغل العلم " ص 26 25 وانظر " معجم الشيوخ " م 2 الورقة 49.
(3) السبكي: " معيد النعم "، ص 74، و " الطبقات "، 2 / 15 13، 25 22، 9 / 103.
(4) السخاوي: " الإعلان "، ص 499 فما بعد، وابن عبد الهادي: " معجم الشافعية " الورقة 47 48.
(5) انظر الفصل الثاني.(المقدمة/40)
سادسا - نشاطه العلمي ومناصبه التدريسية
بدأت حياة الذهبي العلمية في الإنتاج في مطلع القرن الثامن الهجري كما يبدو، فبدأ باختصار عدد كبير من أمهات الكتب في شتى العلوم التي مارسها، ومن أهمها التاريخ والحديث.
ثم توجه بعد ذلك إلى تأليف كتابه العظيم " تاريخ الإسلام " الذي انتهى من إخراجه لأول مرة سنة 714 (1) هـ.
وقد تولى الذهبي في سنة 703 هـ الخطابة بمسجد كفر بطنا (2) ، وهي قرية بغوطة دمشق (3) ، وظل مقيما بها إلى سنة 718 هـ.
وفي هذه القرية الهادئة ألف الذهبي خيرة كتبه، وقد ساعده على ذلك كما يبدو تفرغه التام للتأليف.
وفي شوال سنة 718 هـ توفي الشيخ كمال الدين أحمد بن محمد بن أحمد ابن الشريشي الوائلي، وكيل بيت المال، وشيخ دار الحديث بتربة أم الصالح وغيرها (4) ، وكانت هذه الدار من كبريات دور الحديث بدمشق آنذاك (5) ، تولاها كمال الدين ابن الشريشي مدة ثلاث وثلاثين سنة ابتداء من سنة 685 هـ وإلى حين وفاته وكان والده قد تولاها قبله (6) .
قال ابن كثير في حوادث سنة 718 هـ: " وفي يوم الاثنين العشرين من
__________
(1) انظر الورقة الأخيرة من نسخة أيا صوفيا 3014.
(2) الحسيني: " ذيل العبر " ص 269، ابن كثير: " البداية " 14 / 28.
(3) محمد كرد علي: " غوطة دمشق " ص 24.
(4) الذهبي: " ذيل العبر " ص 99، ابن كثير: " البداية "، 14 / 91، النعيمي: " تنبيه الدارس " 1 / 34 33.
(5) النعيمي: " تنبيه " 1 / 316، وواقفها هو الصالح إسماعيل ابن الملك العادل سيف الدين أبي بكر.
(6) ابن كثير: " البداية " 14 / 88، 91، النعيمي: " تنبيه " 1 / 34.(المقدمة/41)
ذي الحجة باشر الشيخ شمس الدين محمد بن عثمان الذهبي المحدث الحافظ بتربة أم الصالح عوضا عن كمال الدين ابن الشريشي..وحضر عند الذهبي جماعة من القضاة (1) ".
وقد اتخذها الذهبي سكنا له وبقي فيها إلى حين وفاته.
وفي يوم الأربعاء السابع عشر من جمادى الآخرة سنة 729 هـ ولي شمس الدين الذهبي دار الحديث الظاهرية (2) بعد الشيخ شهاب الدين أحمد بن جهيل ونزل عن خطابة كفر بطنا (3) .
ولما توفي الشيخ علم الدين البرزالي، شيخ الذهبي ورفيقه، سنة 739 هـ، تولى الذهبي تدريس الحديث بالمدرسة النفيسية وإمامتها عوضا عنه، وكتب له تلميذه صلاح الدين الصفدي توقيعا بذلك (4) .
وفي هذه السنة أيضا، أعني سنة 739 هـ، كمل تعمير دار الحديث والقرآن التنكزية (5) ، وباشر الذهبي مشيخة الحديث بها (6) .
وقد أخطأ محيي
__________
(1) ابن كثير: " البداية " 14 / 88.
(2) أسسها الملك الظاهر بيبرس البندقداري سنة 676 هـ، هي والمدرسة الظاهرية وهي اليوم مقر دار الكتب الظاهرية الواقعة قبالة المجمع العلمي العربي بدمشق، انظر عنها: النعيمي: " الدارس " 1 / 348.
(3) ابن كثير: " البداية " 14 / 143.
(4) الصفدي: " الوافي " 2 / 166 وتجد نص التوقيع في كتابه.
(5) منسوبة إلى الأمير تنكز نائب الشام، وليها سنة 712 هـ ومات معتقلا بالإسكندرية في أوائل سنة 741 هـ (الحسيني: " ذيل العبر " ص 220 219، ابن حجر: " الدرر " 2 / 55 / 62) قال ابن كثير في حوادث سنة 739 هـ: " ومما حدث في هذه السنة إكمال دار الحديث السكرية (كذا والصحيح: التنكزية) وباشر مشيخة الحديث بها الشيخ الإمام الحافظ مؤرخ الإسلام شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، وقرر فيها ثلاثون محدثا لكل منهم جراية وجامكية كل شهر سبعة دراهم ونصف رطل خبز، وقرر للشيخ ثلاثون رطل خبز، وقرر فيها ثلاثون نفرا يقرؤون القرآن لكل عشرة شيخ، ولكل واحد من القراء نظير ما للمحدثين، ورتب لها إمام، وقارئ حديث، ونواب، ولقارئ الحديث عشرون درهما وثماني أواق خبز وجاءت في غاية الحسن..الخ، 14 / 184.
(6) ابن كثير: " البداية " 14 / 184، النعيمي: " تنبيه " 1 / 123.(المقدمة/42)
الدين عبد القادر النعيمي المتوفى سنة 927 هـ حينما جعل الذهبي يخلف تقي الدين ابن تيمية في دار الحديث السكرية (1) ، فترجمه فيها (2) وكرر ذلك، مع أن الذهبي لم يتول هذه الدار كما يبدو.
ويظهر أن " التنكزية " تحرفت إلى " السكرية (3) فظن الرجل أنه تولاها، مع أنه ذكر أن الذهبي تولى دار الحديث التنكزية ونقل النصوص الدالة نفسها، قال في دار الحديث السكرية بعد أن ترجم لشيخها تقي الدين ابن تيمية المتوفى سنة 728 هـ: " ثم وليها بعده الحافظ الذهبي وهو محمد.. ثم ولي مشيخة السكرية هذه بعده الصدر المالكي ".
قال الشيخ شمس الدين السيد في " ذيل العبر " (في) (4) سنة تسع وأربعين وسبع مئة: " والإمام صدر الدين سليمان بن عبد الحكم (5) المالكي مدرس الشرابيشية وشيخ السكرية بعد الذهبي ". انتهى.
وقال الصلاح الصفدي في " تاريخه " في حرف السين: " سليمان بن عبد الحكم..إلخ (6) " ثم قال في " دار القرآن والحديث التنكزية " من كتابه بعد ذكر عمارتها ووقوفها: " قال السيد الحسيني في " ذيل العبر " في سنة تسع وأربعين (وسبع مئة) (7) : والإمام صدر الدين سليمان بن عبد الحكم المالكي
__________
(1) " تنبيه الدارس " 1 / 78 77.
(2) المصدر نفسه 1 / 79 78.
(3) علما بأنها محرفة في النسخة المطبوعة من " البداية والنهاية " وهذه النسخة كثيرة الأغلاط كما هو معروف.
(4) زيادة مني يقتضيها السياق.
(5) هكذا في الأصل.
وفي " ذيل العبر " (ص 276) و " ذيل تذكرة الحفاظ " (ص 119) : عبد الحكيم.
وهو الصحيح.
(6) النعيمي: " تنبيه " 1 / 80 77.
(7) زيادة من عندي يقتضيها السياق.(المقدمة/43)
شيخهم ومدرس الشرابيشية وشيخ التنكزية بعد الذهبي. انتهى.
وقد تقدمت ترجمة الذهبي في دار الحديث السكرية.
وقال الصلاح الصفدي في " تاريخه " في حرف السين: " سليمان ابن عبد الحكم..إلخ (1) ".
وهذا النص الأخير هو الصحيح وهو الذي أورده الحسيني في " ذيل العبر " (2) .
إن هذا الاختلاط والتحريف بالنصوص جعل الدكتور صلاح الدين المنجد يذهب إلى القول بأن الذهبي خلف ابن تيمية سنة 728 هـ في دار الحديث السكرية وهو وهم لا أساس له (3) .
ومن دور الحديث التي تولاها الذهبي دار الحديث الفاضلية (4) ، التي أسسها القاضي الفاضل وزير صلاح الدين المتوفى سنة 596 هـ.
وهكذا تولى الذهبي كبريات دور الحديث بدمشق في أيامه، لما وصل إليه من المعرفة الواسعة في هذا الفن.
وحينما توفي سنة 748 هـ كان يتولى مشيخة الحديث في خمسة أماكن هي:
1 - مشهد عروة، أو دار الحديث العروية، ودرس فيها بعده شرف الدين ابن الواني الحنفي، نزل الذهبي له عنها في مرض موته (5) .
__________
(1) النعيمي: " تنبيه الدارس " 1 / 127.
(2) الحسيني: " ذيل ذيل العبر " ص 276.
(3) مقدمة الجزء الذي طبعه من " سير أعلام النبلاء " 1 / 22 والطريف أن ابن تيمية لم يكن متوليا لهذه المدرسة سنة 728 فقد اعتقل في 16 شعبان سنة 726 وظل معتقلا بالقلعة إلى حين وفاته في ليلة العشرين من ذي القعدة سنة 728 (ابن كثير: " البداية " 14 / 123، 135) .
(4) النعيمي: " تنبيه الدارس " 1 / 94.
(5) ابن قاضي شهبة: " الأعلام " الورقة 86 وهي منسوبة إلى شرف الدين محمد بن عروة الموصلي المتوفى سنة 620 هـ (النعيمي: " تنبيه الدارس " 1 / 82) .(المقدمة/44)
2 - دار الحديث النفيسية، وقد نزل الذهبي عنها إلى الشيخ شرف الدين ابن الواني الحنفي في مرض موته أيضا فدرس فيها في ذي القعدة (1) .
3 - دار الحديث التنكرية، ودرس فيها بعده الإمام صدر الدين سليمان ابن عبد الحكيم المالكي كما مر بنا قبل قليل (2) .
4 - دار الحديث الفاضلية بالكلاسة، ودرس فيها بعده تلميذه تقي الدين أبو المعالي محمد بن رافع بن هجرس السلامي المتوفى سنة 774 هـ (3) .
5 - تربة أم الصالح، درس فيها بعده تلميذه الحافظ أبو الفداء عماد الدين ابن كثير الدمشقي المتوفى سنة 774 هـ (4) .
__________
(1) ابن قاضي شهبة: " الأعلام " الورقة 86.
(2) وانظر أيضا ابن قاضي شهبة: " الأعلام " الورقة 86.
(3) ابن قاضي شهبة: " الأعلام " الورقة 86، والنعيمي: " تنبيه " 1 / 94.
(4) قال في كتابه " البداية والنهاية " في حوادث سنة 748 هـ: " وفي يوم الأحد سادس عشر ذي القعدة حضرت تربة أم الصالح رحم الله واقفها عوضا عن الشيخ شمس الدين الذهبي، وحضر جماعة من أعيان الفقهاء وبعض القضاة، وكان درسا مشهودا ولله الحمد والمنة..إلخ " 14 / 225.(المقدمة/45)
سابعا - منزلة الذهبي العلمية
لعل خير ما يصور منزلة الذهبي العلمية واتجاهاته الفكرية هو دراسة آثاره الكثيرة التي خلفها، وتبيان قيمتها مقارنة بمثيلاتها، ومدى اهتمام العلماء والدارسين بها في العصور التالية، والمساهمة الفعلية التي قدمتها للحضارة الإسلامية.
وسيرة الذهبي العلمية، استنادا إلى آثاره، ذات وجوه متعددة يستبينها الباحث الفاحص من نوعية تلك الآثار.
وأول ما يلاحظ الدارس هذا العدد الضخم من الكتب التي اختصرها والتي تربي على خمسين كتابا، معظمها من الكتب الكبيرة التي اكتسبت أهمية عظيمة عند الدارسين، والتي تعد من بين أحسن الكتب التي وضعت في عصرها وأكثرها أصالة، مما يدل على استيعاب الذهبي لمؤلفات السابقين، ومعرفته بالجيد الأصيل منها، وتمتعه بقدرة ممتازة على الانتفاء.
ومما يثير الانتباه أن مختصرات الذهبي لم تكن اختصارات عادية يغلب عليها الجمود والنقل، بل إن المطلع عليها الدارس لها بروية وإمعان يجد فيها إضافات كثيرة، وتعليقات نفيسة، واستدراكات بارعة، وتصحيحات وتصويبات لمؤلف الأصل إذا شعر بوهمه أو غلطه، ومقارنات تدل على معرفته وتبحره في فن الكتاب المختصر، فهو اختصار مع سد نقص وتحقيق ونقد وتعليق وتدقيق، وهو أمر لا يتأتى إلا للباحثين البارعين الذين أوتوا بسطة في العلم ومعرفة بفنونه.
والذهبي حين يضيف إلى الكتاب المختصر يشعر بضرورة ذلك لسد نقص يعتري ذلك الكتاب.
فحينما اختصر مثلا كتاب " أسد الغابة في(المقدمة/46)
معرفة الصحابة " لعز الدين ابن الأثير المتوفى سنة 630 هـ زاده من عدة تواريخ منها: " تاريخ الصحابة الذين نزلوا حمص " لأبي القاسم عبد الصمد ابن سعيد الحمصي المتوفى سنة 324 هـ، و " مسند " الإمام أحمد بن حنبل المتوفى سنة 241 هـ، و " مسند " بقي بن مخلد المتوفى سنة 276 هـ، و " طبقات " ابن سعد المتوفى سنة 230 هـ، و " تاريخ دمشق " لابن عساكر المتوفى سنة 571 هـ، ومن كتابات ابن سيد الناس المتوفى سنة 734 (1) هـ.
وقال سبط ابن حجر عند كلامه على اختصار الذهبي " للمعجم المشتمل على ذكر شيوخ الأئمة النبل " لابن عساكر المتوفى سنة 571 هـ: " زاده فوائد ومحاسن " (2) .
ويجد الباحث في مختصرات الذهبي تعليقات نفيسة، ومن ذلك مثلا ما عمله في كتاب " الكاشف " الذي اختصره من " تهذيب الكمال " لأبي الحجاج المزي المتوفى سنة 742 هـ، فعلى الرغم من محافظة الذهبي على
روح النص الأصلي، فقد بث فيه من روحه ونشر فيه من علمه ما جعله يكاد يكون مؤلفا من تآليفه مخالفا للأصل المختصر منه في كثير من الأمور.
وآية ذلك أنه علق على آراء بعض أئمة الجرح والتعديل فيه تعديلا أو إبطالا، كما حقق كثيرا من التراجم وزاد تدقيقا لا نجده في الأصل.
فضلا عن بيان رأيه في كثير من الرواة على أسس من دراساته الواسعة، وخبرته العميقة بعلم الحديث النبوي الشريف مما حدا بتاج الدين السبكي أن يصف هذا المختصر بأنه " كتاب نفيس " (3) .
__________
(1) أنظر أدناه قائمة المختصرات في مؤلفات الذهبي وما كتبناه عنه في كتابنا: " الذهبي ومنهجه ": 218 217.
(2) " رونق الألفاظ " الورقة 180.
(3) " طبقات الشافعية " 9 / 104.(المقدمة/47)
وتظهر براعة الذهبي في النقد والتحقيق في كثير من هذه المختصرات، فمن ذلك مثلا ما ظهر في مختصره لكتاب " المستدرك على الصحيحين " لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري المتوفى سنة 405 هـ الذي قصد فيه مؤلفه أن يورد أحاديث على شرط البخاري ومسلم مما لم يذكراه في صحيحيهما، حيث يتبين لنا من مطالعة المختصر وتعليقات الذهبي عليه وتخريجاته ونقده أنه لم يصحح من أحاديث الكتاب سوى النصف، وبين أن نصف النصف الآخر يصح سنده وإن كان فيه علة، أما الربع الأخير فهو أحاديث مناكير وواهيات لا تصح، بل إن في بعضها أحاديث موضوعة (1) .
وهذا يعني أن الذهبي قد أعاد دراسة جميع أحاديث المستدرك مجددا ونقدها، فخرج بهذه النتيجة.
وغالبا ما يقوم الذهبي بتخريج الأحاديث الواردة في الكتب التي يقوم باختصارها، فغالب التخريج في كتاب " تلخيص العلل المتناهية في الأحاديث الواهية " الذي لخصه من كتاب " العلل " لابن الجوزي المتوفى سنة 597 هـ هو من كلام الذهبي (2) .
ولما اختصر الذهبي كتاب " السنن الكبرى " للبيهقي المتوفى سنة 458 هـ.
تكلم على أسانيد الكتاب بنفائس تدل على تبحره بهذا الفن، ووضع رموزا على الحديث لمن خرجه من أصحاب الصحيحين والسنن الأربع، وخرج الأحاديث التي لم ترد في هذه الكتب الستة.
وكثيرا ما كان الذهبي يخرج تراجم الكتب التي يختصرها في علم الرجال.
__________
(1) انظر ما كتبناه عن " مختصر المستدرك " في كلامنا على مؤلفات الذهبي من كتابنا: 248 249.
(2) الذهبي: " تلخيص العلل " ورقة 85 (نسخة الأزهر رقم 290 حديث) .(المقدمة/48)
من ذلك مثلا ما عمله في اختصاره لتاريخ ابن الدبيثي المتوفى سنة 637 هـ حيث زاد في كثير من تراجمه ولا سيما الرجال الذين أخذوا عن صاحب الترجمة، وهو ما أغفله ابن الدبيثي في " تاريخه " (1) .
كما تظهر مقارنات دقيقة بالكتب والتواريخ التي من بابته " كتاريخ محب الدين ابن النجار " المتوفى سنة 643 هـ الذي ذيل به على تاريخ الخطيب المتوفى سنة 463 هـ (2) ، و " وفيات الأعيان "، لابن خلكان المتوفى سنة 681 (3) هـ، و " التكملة لوفيات النقلة " لزكي الدين المنذري المتوفى سنة 656 (4) وغيرها.
أو من كتب الشعر ككتاب " الخريدة " للعماد الأصبهاني القرشي المتوفى سنة 596 (5) هـ.
أو من كتابات كبار العلماء الذين أخذوا عن المترجم له، مثل زكي الدين البرزالي المتوفى سنة 636 (6) هـ، وفخر الدين ابن البخاري المتوفى سنة 690 هـ صاحب " المشيخة " المشهورة (7) ، وشهاب الدين أحمد بن إسحاق الأبرقوهي المتوفى سنة 701 هـ (8) ، وضياء الدين المقدسي المتوفى سنة
__________
(1) انظر " المختصر المحتاج " مثلا 1 / 18، 20، 21، 25، 26، 27، 28، 35، 40، 42، 44، 47، 101، 116، 117، 119، 148، 179، 199.
إلخ.
(2) انظر " المختصر المحتاج " مثلا 1 / 21، 49، 51، 69، 72، 77، 80، 101، 136، 149، 150، 158، 169، 170، 172، 175، 178، 181، 183، 184، 188، 200، 201، 211، 212، 215، 216، 220، 223، 227، 228..الخ.
(3) المصدر السابق، مثلا 1 / 175.
(4) المصدر نفسه 1 / 158.
(5) " المختصر " 1 / 225.
(6) " المختصر " مثلا 2 / 62.
(7) المصدر نفسه، مثلا 2 / 63.
(8) " المختصر " مثلا 2 / 36.
سير 1 / 4(المقدمة/49)
643 هـ (1) وغيرهم كثير.
أو من خطوط العلماء نحو قوله: " قرأت بخط ابن قدامة " (2) .
فضلا عما أضاف هو من الأسانيد قرأها على شيوخه مما يتصل بتلك التراجم، وهي إضافة أصيلة للترجمة، فهو حينما يقول مثلا: " وروى لنا عنه بمصر أبو المعالي الأبرقوهي (3) " أو " روى لنا عنه أبو العباس ابن الظاهري وأبو الحسين اليونيني وعلي بن عبد الدائم ومحمد بن يوسف الإربلي..إلخ (4) " فمعنى ذلك أن هؤلاء الشيوخ قد أخذوا عن صاحب الترجمة (5) .
ومن إضافاته إلى تلك المختصرات أيضا تواريخ وفيات المترجمين الذين لم يذكر صاحب الكتاب الأصلي وفياتهم.
فنحن نعلم مثلا أن ابن الدبيثي لم يذكر وفاة أحد ممن ذكر هم في تاريخه ممن تأخرت وفاته عن سنة 621 هـ وهي السنة التي حدث ابن الدبيثي فيها بتاريخه والتي تمثل آخر إخراج له (6) ، في حين أن وفيات بعضهم قد تأخرت إلى النصف الثاني من القرن السابع الهجري، فاستخرج الذهبي وفياتهم وذكرها ليكون اختصاره أكمل ولتكون معلومات الكتاب أتم (7) .
يضاف إلى ذلك أنه يروي بعض الأحاديث الواردة في هذه المختصرات
__________
(1) المصدر نفسه، مثلا 2 / 36، 62.
(2) المصدر نفسه، مثلا 1 / 65.
(3) المصدر نفسه، 1 / 21.
(4) المصدر نفسه 1 / 23.
(5) انظر مزيدا من الأمثلة، " المختصر " مثلا 1 / 76، 130، 136، 140، 152، 226، 231.
(6) انظر كتابنا: " تاريخ بغداد لابن الدبيثي، منهجه، موارده، أهميته " ص 4 (بغداد 1974) .
(7) انظر " المختصر المحتاج إليه " مثلا 1 / 76، 86، 106، 133، 151، 152..إلخ.
ونجدا أيضا ذكرا لوفيات من يرد اسمه عرضا في بعض الأحيان 1 / 103.(المقدمة/50)
بسنده إذا وجد مجالا لذلك (1) .
وأعاد الذهبي تنظيم بعض الكتب التي اختصرها، فحينما اختصر كتاب " الكنى " لأبي أحمد الحاكم المتوفى سنة 378 هـ أعاد ترتيبه على حروف المعجم بعد أن أضاف إليه أشياء أخرى مما ليس فيه (2) .
كما رتب " المجرد من تهذيب الكمال " على عشر طبقات ورتب كل طبقة على حروف المعجم، في حين كان كتاب " تهذيب الكمال " للمزي مرتبا على حروف المعجم (3) .
وقد حفظنا من سيرة الذهبي أنه عني بالقراءات ودرسها على كبار شيوخ عصره من المقرئين المشهورين حتى أصبح " الأستاذ الثقة الكبير (4) " فيها.
وذكر ابن ناصر الدين المتوفى سنة 842 هـ أنه كان " إماما في القراءات (5) ".
لكننا نلاحظ في الوقت نفسه أنه لم يتخرج عليه في القراءات سوى عدد قليل جدا (6) ولعل السبب في ذلك يعود إلى أنه عني بهذه الناحية في مطلع حياته العلمية، ثم اتجه بعد ذلك إلى الحديث والتاريخ وغيرهما.
ولم نعرف من آثاره في هذا الفن غير كتاب " التلويحات في علم القراءات (7) " وكتاب " معرفة
__________
(1) " المختصر المحتاج إليه " 1 / 49، 65.
(2) انظر مقدمة نسخة فيض الله رقم 1531 من الكتاب.
(3) انظر كلامنا على كتاب " المجرد من تهذيب الكمال " في كتابنا: " الذهبي ومنهجه ": 230.
(4) ابن الجزري: " غاية " 2 / 71.
(5) " الرد الوافر " ص 31.
(6) ابن الجزري: " غاية " 2 / 71، قال: " ولم أعلم أحدا قرأ عليه القراءات كاملا، بل شيخنا الشهاب أحمد بن إبراهيم المنبجي الطحان قرأ عليه القرآن جميعه بقراءة أبي عمرو والبقرة جمعا. وروى عنه الحروف إبراهيم بن أحمد الشامي ومحمد بن أحمد ابن اللبان وجماعة. وسمع منه الشاطبية يحيى بن أبي بكر البوني وحدث بها عنه في اليمن ".
(7) انظر أدناه كلامنا على آثار الذهبي (القراءات) .(المقدمة/51)
القراء الكبار على الطبقات والأعصار " الذي هو إلى كتاب التراجم أقرب منه إلى القراءات وإن كانت محتوياته غالبا ما تتعلق بموضوع القراءات.
وقد شهد له ابن الجزري بالإحسان فيه (1) ، لذلك سلخه بأجمعه في كتابه " غاية النهاية " كما نص على ذلك في المقدمة (2) ، ووصفه شمس الدين السخاوي بأنه " كتاب حافل " (3) .
ومع كل ذلك فإن هذا الوجه من حياة الذهبي العلمية هو أضعف الوجوه وأقلها آثارا.
على أن مكانة الذهبي العلمية وبراعته تظهران في أحسن الوجوه إشراقا وأكثرها تألقا عند دراستنا له محدثا يعنى بهذا الفن، فقد مهر الذهبي في علم الحديث وجمع فيه الكتب الكثيرة " حتى كان أكثر أهل عصره تصنيفا (4) ".
وقد رأينا إقباله العظيم عليه وشرهه لسماعه، وذلك العدد الضخم من الشيوخ الذين حوتهم معجمات شيوخه الثلاثة، والكتب، والأجزاء، والمجاميع الكثيرة التي قرأها على الشيوخ أكثر من مرة.
وقد فتحت له هذه المعرفة الواسعة آفاقا عظيمة في هذا الفن فاختصر عددا كبيرا من الكتب، وألف عددا أكبر يستبينه الباحث عند إلقائه نظرة على قائمة مؤلفاته في هذا المجال.
كما ألف في مصطلح الحديث كتبا، وخرج التخاريج الكثيرة من الأربعينات، والثلاثينات، والعوالي، والأجزاء، ومعجمات الشيوخ، والمشيخات، وغيرها مما فصلنا القول فيه عند كلامنا على آثاره (5) .
ومع أن الذهبي قد عاش في عصر غلب عليه الجمود والنقل والتخليص،
__________
(1) " غاية " 2 / 71.
(2) المصدر نفسه 1 / 3.
(3) " الإعلان " ص 564.
(4) ابن حجر: الدرر 3 / 426.
(5) كتابنا: " الذهبي ومنهجه ": 139 فما بعد.(المقدمة/52)
فإنه قد تخلص من كثير من ذلك بفضل سعة دراساته وفطنته.
قال تلميذه صلاح الدين الصفدي المتوفى سنة 764 هـ: " لم أجد عنده جمود المحدثين ولا كودنة (1) النقلة بل هو فقيه النظر، له دربة بأقوال الناس ومذاهب الأئمة من السلف وأرباب المقالات.
وأعجبني منه ما يعانيه في تصانيفه من أنه لا يتعدى حديثا يورده حتى يبين ما فيه من ضعف متن، أو ظلام إسناد، أو طعن في رواته، وهذا لم أر غيره يراعي هذه الفائدة فيما يورده (2) .
إن هذه البراعة في علم الحديث، والتمكن منه ذاك التمكن، جعلت الذهبي ينطلق بعد ذلك يجرح، ويعدل، ويفرع، ويصحح، ويعلل، ويستدرك على كبار العلماء (3) ، " فدخل في كل باب من أبوابه " على حد تعبير تلميذه تاج الدين السبكي (4) ، حتى أطلق عليه معاصروه " محدث العصر (5) ".
وبلغ اعتراف حافظ عصره الإمام ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 هـ بفضل الذهبي وبراعته إلى درجة أنه شرب ماء زمزم سائلا الله أن يصل إلى مرتبة الذهبي في الحفظ وفطنته (6) .
__________
(1) الكودنة: البلادة.
(2) " الوافي " 2 / 163.
(3) الحسيني: " ذيل تذكرة الحفاظ " ص 35.
(4) " الطبقات الوسطى " (ترجمة الذهبي من نسخة دار الكتب المصرية رقم 554) .
(5) السبكي: " الطبقات " 9 / 100، العيني: " عقد الجمان " ورقة 37 (أحمد الثالث رقم 2911) .
(6) استنادا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " ماء زمزم لما شرب له " وقد ذكر ذلك تلميذه السخاوي في " الإعلان " (ص 472) .
وقديما شرب ابن خزيمة المتوفى سنة 311 هـ ماء زمزم وطلب علما نافعا (الذهبي: تذكرة، 2 / 721) .
وقال الحاكم النيسابوري المتوفى سنة 405: " شربت ماء زمزم وسألت الله أن يرزقني حسن التصنيف " (الذهبي: تذكرة، / 3 / 1044) .
وألف شمس الدين محمد بن طولون الدمشقي المتوفى سنة 953 هـ رسالة في " التزام ما لا يلزم فيما ورد في ماء زمزم " منها نسخة في خزانة كتب جستربتي في دبلن ضمن مجموع برقم 3317.(المقدمة/53)
ومفهوم التاريخ عند الذهبي يتصل اتصالا وثيقا بالحديث النبوي وعلومه، ويظهر ذلك من كتب الرجال التي يطلق الذهبي عليها اسم التاريخ ".
وقد أصبح واضحا أن الغاية الرئيسة من العناية بالرجال أتى لضبط الرواة أولا (1) ، وهو ما يظهر في معظم مقدمات كتبه في هذا الفن، وهو مفهوم ساد عند المحدثين المؤرخين لا سيما في ذلك العصر (2) .
وعلى علم الرجال، وعلى آثار الذهبي فيه، قامت شهرته الواسعة باعتباره مؤرخا، كما نرى.
وقد خلف الذهبي في هذا الفن عددا ضخما من الآثار ابتدأها باختصار أمهات الكتب المؤلفة فيه، كالتواريخ المحلية مثل " تاريخ بغداد " للخطيب البغدادي المتوفى سنة 463 هـ، والذيول عليه: لابن السمعاني المتوفى سنة 562 هـ، وابن الدبيثي المتوفى سنة 637 هـ وابن النجار المتوفى سنة 643 هـ.
ومنها أيضا " تاريخ دمشق " لابن عساكر المتوفى سنة 571 هـ، و " تاريخ مصر " لابن يونس المتوفى سنة 347 هـ، و " تاريخ نيسابور " لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري المتوفى سنة 405 هـ، و " تاريخ خوارزم " لابن أرسلان الخوارزمي المتوفى سنة 568 هـ.
ومن كتب الوفيات: " التكملة لوفيات
__________
(1) انظر كتابنا: " أثر الحديث في نشأة التاريخ عند المسلمين ".
بغداد، مطبعة الحكومة 1966 م، وبحثنا: " مظاهر تأثير علم الحديث في علم التاريخ عند المسلمين " المنشور في مجلة الأقلام البغدادية، السنة الأولى، العدد الثالث 1965 م.
(2) حينما شعر الحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 هـ أن من بين مستدركاته على الذهبي في كتابه " المشتبه " أسماء لشعراء وفرسان في الجاهلية وما أشبه ممن ليست لهم رواية حديثية، اعتذر عن ذلك بقوله: " إن غالب من ذكرت يأتي ذكره في كتب المغازي والسير والمبتدأ والأنساب والتواريخ والأخبار ولا يستغني طالب الحديث عن ضبط ما يرد في ذلك من الأسماء ولو لم يكن لهم رواية " " تبصير المنتبه " 4 / 1513.(المقدمة/54)
النقلة " لزكي الدين المنذري المتوفى سنة 656 هـ وصلته للحسيني المتوفى سنة 695 هـ.
ومن كتب الأنساب: كتاب " الأنساب " لأبي سعد السمعاني المتوفى سنة 562 هـ.
ومن كتب الصحابة كتاب " أسد الغابة " لابن الأثير المتوفى سنة 630 هـ.
ومن كتب رجال الصحاح والسنن مثل كتاب " تهذيب الكمال في معرفة الرجال " لأبي الحجاج المزي المتوفى سنة 742 هـ، و " المعجم المشتمل على أسماء شيوخ الأئمة النبل " لابن عساكر المتوفى سنة 571 هـ وغيرها (1) .
فكانت هذه المختصرات المادة الرئيسة التي كونت شخصيته العلمية ومعرفته بالعصور السابقة.
أما تراجم المعاصرين فيعد الذهبي من بين أحسن الذين كتبوا فيهم، وقد أدرك أهمية هذا الأمر فكان كتابه " المعجم المختص بمحدثي العصر " خير دليل على ذلك.
ولا عبرة بعد ذلك بمن انتقده لتناوله التاريخ المعاصر كابن الوردي (2) ، لأن هذا هو التاريخ الأكثر أهمية وخطرا، وهو الذي يعطي المؤرخ أهميته البالغة بين المؤرخين ويميزه عن غيره، وهو مما لم يدركه كثير من المعنيين بالتاريخ ومنهم ابن الوردي.
لقد أنتجت هذه المعرفة الرجالية الواسعة مؤلفات كثيرة لعل من أهمها كتابه العظيم " تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام " الذي هو إلى كتب التراجم أقرب منه إلى التاريخ بمفهومه الحديث، وكتابه النفيس " سير أعلام النبلاء " الذي لم يتضمن غير التراجم، ثم ذلك العدد الضخم من المؤلفات التي عرفناها له.
__________
(1) انظر كلامنا على " المختصرات " من كتابنا: الذهبي ومنهجه: 264 215.
(2) ابن الوردي: تتمة المختصر، 2 / 349.(المقدمة/55)
ولعل مما يميز الذهبي عن غيره من بعض مؤلفي كتب الرجال والتراجم أنه لم يقتصر في تأليفه على عصر معين، أو فئة معينة، أو تنظيم معين، بل تناولت مؤلفاته رجال الإسلام من أول ظهوره حتى عصره، بله المعاصرين له.
وهو في كتابته للترجمة فنان تراجمي ملئ بفن التراجم يجد الباحث فيها دقة متناهية في التعبير، وحبكا للترجمة تشد القارئ إليها مع تعدد الموارد وانتقاء لأفضلها وإبداء لآرائه الشخصية فيها (1) .
وقد عانى الذهبي كتابة " السيرة " وهو فن خاص له مميزاته التي تجعله يختلف عن كتابة " الترجمة " المجردة، فكتب في سير الخلفاء الراشدين، وأئمة الفقه، والحديث، وغيرهم (2) .
ومعرفة الذهبي الواسعة في الرجال دفعت تاج الدين السبكي الذي انتقده في بعض المواضع إلى القول: " إنه كان شيخ الجرح والتعديل ورجل الرجال، وكأنما جمعت الأمة في صعيد واحد فنظرها ثم أخذ يخبر عنها إخبار من حضرها (3) ".
وقد ازداد شأنه بعد عصره بحيث اعتبر هو والمزي مؤرخي القرن الثامن اللذين لا ينافسهما أحد (4) ، وعده الإمام السيوطي المتوفى سنة 911 هـ رأس طبقة ذكر فيها القطب الحلبي المتوفى سنة 735 هـ وابن سيد الناس المتوفى سنة 734 هـ وشمس الدين المقدسي المتوفى سنة 744 هـ
__________
(1) انظر الفصل الثاني من هذا البحث عند كلامنا على منهج الذهبي في " السير " وما كتبناه عن منهجه في كتابه " تاريخ الإسلام " في كتابنا المذكور عنه.
(2) انظر أدناه " السير " من آثار الذهبي.
(3) السبكي: " طبقات " 9 / 101.
(4) السخاوي: " الإعلان " ص 604.(المقدمة/56)
وتقي الدين السبكي المتوفى سنة 756 هـ وعلم الدين البرزالي المتوفى سنة 739 هـ وشهاب الدين النابلسي المتوفى سنة 758 (1) هـ وهم من أعلام الحفاظ المحدثين المؤرخين، وذكر أن المحدثين في عصره عيال في الرجال وغيرها من فنون الحديث على أربعة أحدهم الذهبي (2) .
ومع أن براعة الذهبي التاريخية أكثر ما ظهرت في الرجال فإنه قد درس التاريخ السياسي، واختصر عددا من المؤلفات الرئيسية فيه مثل تاريخ أبي شامة
المتوفى سنة 665 هـ وتاريخ أبي الفداء المتوفى سنة 732 هـ وغيرهما، وأفاد من معظم التواريخ المعروفة في عصره ودرسها كسيرة ابن إسحاق المتوفى سنة 151 هـ وتواريخ: الطبري المتوفى سنة 310 هـ وابن الأثير المتوفى سنة 630 هـ وابن الجوزي المتوفى سنة 597 هـ وغيرهما مما يطول تعداده (3) .
وقد ظهرت هذه الكتابات في تواريخه المرتبة على الحوادث والوفيات مثل " تاريخ الإسلام " و " العبر " و " دول الإسلام " وغيرها.
ونستبين من نطاق كتاباته هذه أنه كان مؤرخا جوال الذهنية استطاع استيعاب عصور التاريخ الإسلامي من أول ظهوره حتى زمانه الذي كتب فيه مؤلفاته، وهي فترة تزيد على السبعة قرون، فألف في كل هذه العصور بعد أن درسها دراسة عميقة قامت على دعامتين رئيستين هما: الرواية الشفوية والكتب وهذا أمر لم يتأت لكثير من العلماء الذين سبقوه أو عاصروه.
وحينما كتب الذهبي كتابه " تذكرة الحفاظ " ورتبه على الطبقات تكلم في
__________
(1) السيوطي:: " طبقات الحفاظ " ورقة 85 فما بعد (نسخة الإسكندرية) .
(2) المصدر نفسه، ورقة 86.
(3) انظر كلامنا على نهج الذهبي في الموارد من كتابنا: " الذهبي ومنهجه ": 284 فما بعد.(المقدمة/57)
نهاية أكثرها على الأوضاع السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية في الوقت الذي تناولته فأجمل الأوضاع العامة بفقرات قليلة دللت على سعة أفقه التاريخي وقدرته الفائقة على تصوير حقبة كاملة من الزمن وعلى امتداد العالم الإسلامي المترامي الأطراف بعبارة وجيزة.
وهذا أمر لا يتأتى إلا لمن استوعب العصر ودرسه دراسة عميقة بحيث حصل له مثل هذا التصور والفهم العام (1) .
ثم إن هذه المعرفة الرجالية الواسعة مع ما أوتي من ذكاء وإدراك واسعين جعلت منه ناقدا رجاليا ماهرا، تدل على ذلك مؤلفاته في النقد وأصوله والتي من أبرزها كتابه العظيم " ميزان الاعتدال في نقد الرجال " الذي اعتبره معاصروه (2) ومن جاء بعدهم (3) من أحسن كتبه وأجلها.
وقد تناوله عدد كبير من الحفاظ والعلماء والمعنيين بالنقد استدراكا وتعقيبا وتلخيصا بحيث قال شمس الدين السخاوي: " وعول عليه من جاء بعده (4) ".
وللذهبي التفاتات بارعة في أصول النقد، فقد ألف رسالة في " ذكر من يؤتمن قوله في الجرح والتعديل " تكلم فيها على أصول النقد وطبقات النقاد وكيفية أخذ أقوالهم (5) .
وأورد في مقدمة " الميزان " عبارات الجرح والتعديل من أعلى مراتبها إلى أدناها وبين مدلولاتها في النقد (6) .
وهو في كتبه يشرح بعض هذه الأصول،
__________
(1) انظر مثلا الذهبي: " تذكرة الحفاظ " 1 / 70، 160 158، 244، 328، 2 / 530، 627 - 628، 4 / 1266، 1485
(2) السبكي: " طبقات " 9 / 104، الحسيني: " ذيل تذكرة الحفاظ " ص 35
(3) ابن حجر: " لسان الميزان " 1 / 4
(4) " الإعلان " ص 587 وانظر كلامنا على الميزان في كتابنا: " الذهبي ومنهجه ": 201 193
(5) نسخة أيا صوفيا رقم 2953 (6) " ميزان الاعتدال " 1 / 4 3(المقدمة/58)
من ذلك مثلا ما ذكره في ترجمة أبان بن تغلب الكوفي، قال: " شيعي جلد، ولكنه صدوق فلنا صدقه، وعليه بدعته. وقد وثقة أحمد بن حنبل، وابن معين، وأبو حاتم، وأورده ابن عدي، وقال: كان غاليا في التشيع. وقال السعدي: زائغ مجاهر.
فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع، وحد الثقة العدالة والإتقان؟ فكيف يكون عدلا من هو صاحب بدعة؟ وجوابه أن البدعة على ضربين: فبدعة صغرى كغلو التشيع، أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق، فلو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بينة.
ثم بدعة كبرى كالرفض الكامل والغلو فيه، والحط على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة..ولم يكن أبان بن تغلب يعرض للشيخين أصلا، بل قد يعتقد عليا أفضل منهما (1) ".
وقال في ترجمة أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني: " أحد الأعلام صدوق، تكلم فيه بلا حجة، ولكن هذه عقوبة من الله لكلامه في ابن منده بهوى، قال الخطيب: " رأيت لأبي نعيم أشياء يتساهل فيها، منها أنه يطلق في الإجازة أخبرنا ولا يبين.
وقلت (يعني الذهبي) : هذا مذهب رآه أبو نعيم وغيره، وهو ضرب من التدليس.
وكلام ابن منده في أبي نعيم فظيع، لا أحب حكايته، ولا أقبل قول كل منهما في الآخر، لا أعلم لهما ذنبا أكثر من روايتهما الموضوعات ساكتين عنها..قلت: كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، ما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصرا من الأعصار سلم أهله من ذلك، سوى الأنبياء
__________
(1) " ميزان الاعتدال " 1 / 6 5 وانظر أمثلة أخرى في " معجم الشيوخ " م 1 الورقة 256، م 2 الورقة 72، " وتاريخ الإسلام " الورقة 93 (أحمد الثالث 2917 / 9) .(المقدمة/59)
والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس، اللهم فلا تجعل في قلوبنا
غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم (1) ".
ولم يكن الذهبي ليصدر اتباعا لآراء الآخرين في النقد فهو يخالفهم في بعض الأحيان حين لا يجد لآرائهم من سند قوي يؤيدها، فمن ذلك - مثلا ما جاء في ترجمة زيد بن وهب الجهني، أحد التابعين، وهو الذي تكلم فيه أبو يعقوب الفسوي في " تاريخه " وذكر أن في حديثه خللا كبيرا، فقال: " ولا عبرة بكلام الفسوي (2) " وأورد في " ميزان الاعتدال " مآخذ الفسوي عليه ورد عليها ثم قال: " فهذا الذي استنكره الفسوي من حديثه ما سبق إليه، ولو فتحنا هذه الوساوس علينا لرددنا كثيرا من السنن الثابتة بالوهم الفاسد (3) " والميزان ملئ بمثل هذه النقدات لا مجال لتكثير الأمثلة منها.
بل وجدناه يؤلف كتابين، يرد فيهما على جملة من علماء الجرح والتعديل هما: " رسالة في الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم "، وكتاب " من تكلم فيه وهو موثق ".
ولم يقتصر نقد الذهبي على الرجال حسب، بل تعدى ذلك إلى نقد الموارد التي يطالعها أو يختصرها أو يأخذ منها، وهو ما يعرف اليوم بنقد المصادر، من ذلك مثلا نقده لكتاب " الضعفاء " لابن الجوزي المتوفى سنة 597 هـ الذي اختصره وذيل عليه، فقال في ترجمة أبان بن يزيد العطار: قد أورده أيضا العلامة ابن الجوزي في " الضعفاء " ولم يذكر فيه أقوال من وثقه.
وهذا من عيوب كتابه يسرد الجرح ويسكت عن التوثيق " (4) . وقال في ترجمة حفص
__________
(1) نفسه، ج 1 ص 111 وانظر " تاريخ الإسلام " الورقة 334 (أيا صوفيا 3008) .
(2) الذهبي: " تذكرة " 1 / 67
(3) الذهبي: " ميزان الاعتدال " 2 / 107 وانظر: " تاريخ الإسلام " الورقة 485 (أيا صوفيا 3009) .
(4) المصدر نفسه، 1 / 16.
وقد تكلم في هذه المسألة ابن حجر في " اللسان " فراجعه هناك تجد فائدة.(المقدمة/60)
ابن؟ ؟ من الميزان: " قال ابن القطان: لا يعرف له حال ولا يعرف قلت: لم أذكر هذا النوع في كتابي هذا، فإن ابن القطان يتكلم في كل من لم يقل فيه إمام عاصر ذاك الرجل أو أخذ عمن عاصره مما يدل على عدالته.
وهذا شيء كثير، ففي الصحيحين من هذا النمط خلق كثير مستورون، ما ضعفهم أحد ولا هم بمجاهيل (1) ".
وانتقد الذهبي كتاب " الضعفاء " لأبي جعفر محمد بن عمرو العقيلي المتوفى سنة 322 هـ لإيراده بعض الثقات ومنهم حافظ عصره علي بن المديني المتوفى سنة 234 فقال في ترجمة ابن المديني من الميزان: " ذكره العقيلي في كتاب الضعفاء، فبئس ما صنع " ورد عليه حينما نقل قول عبد الله بن أحمد بن حنبل: " كان أبي حدثنا عنه، ثم أمسك عن اسمه..ثم ترك حديثه "، بقوله: " بل حديثه عنه في مسنده " وهذا رد مفحم من الذهبي بل قال بعد ذلك: " وهذا أبو عبد الله البخاري وناهيك به قد شحن صحيحه بحديث ابن المديني (2) ".
ولا يقتصر الذهبي عند نقد الكتب على إيراد مساوئها، بل كثيرا ما يذكر محاسنها ومميزاتها، فقد سبق أن قال إن كتاب العقيلي مفيد (3) ، وقال عن كتاب " الكامل " لابن عدي المتوفى سنة 365 هـ إنه " أكمل الكتب وأجلها في ذلك (4) "، وقال في ترجمة الدارقطني المتوفى سنة 385 هـ: " وإذا شئت أن تتبين براعة هذا الإمام الفرد فطالع العلل له فإنك تندهش ويطول تعجبك (5) ".
__________
(1) " ميزان الاعتدال " 1 / 556
(2) " ميزان الاعتدال " 3 / 140 138.
(3) المصدر نفسه 1 / 2.
(4) المصدر نفسه، 1 / 2.
(5) " تذكرة الحفاظ " 3 / 994 993.(المقدمة/61)
ونحن نعلم أيضا أن الذهبي قد عانى النقد في تآليف خاصة رد بها على كتب معينة، فقد ألف كتابا في الرد على ابن القطان المتوفى سنة 628 هـ (1) كما ألف كتاب " من تكلم فيه وهو موثق " رد به على جملة من كتب الضعفاء كما بينا.
وبسبب هذا الذي قدمنا ذكره من براعة الذهبي في النقد والتمكن منه، فقد أصبح " شيخ الجرح والتعديل " كما ذكر تاج الدين السبكي (2) .
وقال ابن ناصر الدين المتوفى سنة 842 هـ: " ناقد المحدثين وإمام المعدلين والمجرحين..وكان آية في نقد الرجال، عمدة في الجرح والتعديل (3) "، وقال شمس الدين السخاوي المتوفى سنة 902: " وهو من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال (4) "، فأصبحت أقوال الذهبي فيمن يترجم لهم تعتبر عند النقاد والمؤرخين الذين جاءوا بعده أقصى حدود الاعتبار، وظهرت بصورة جلية في المؤلفات التي كتبت بعد عصره، ولا سيما في مؤلفات مؤرخ القرن التاسع وحافظه ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 هـ (5) .
وتطالعنا عند قراءة كتب الذهبي العديد من الأمثلة التي تدل على قوته في البحث والاستدلال، ومناقشة آراء الغير بروح علمي يعتمد الدليل والإقناع، من ذلك مثلا مناقشة لمن اتهم الحافظ أبا حاتم محمد بن حيان البستي التميمي المتوفى سنة 354 هـ بالزندقة لقوله: " إن النبوة هي العلم والعمل " وما تبع ذلك من كتابة الخليفة أمرا بقتله لهذا السبب، قال الذهبي: " وهذا
__________
(1) الذهبي: " الرد على ابن القطان " (نسخة الظاهرية، مجموع رقم 70) .
(2) " الطبقات " 9 / 101.
(3) " الرد الوافر " ص 31.
(4) " الإعلان " ص 722.
(5) انظر مثلا كتابه: " لسان الميزان ".(المقدمة/62)
أيضا له محمل حسن ولم يرد حصر المبتدأ بالخبر، ومثله: الحج عرفة.
فمعلوم أن الرجل لا يصير حاجا بمجرد الوقوف بعرفة، وإنما ذكر مهم الحج، ومهم النبوة، إذ أكمل صفات النبي العلم والعمل، ولا يكون أحد نبيا إلا أن يكون عالما عاملا.
نعم، النبوة موهبة من الله تعالى لمن اصطفاه من أولي العلم والعمل لا حيلة للبشر في اكتسابها أبدا، وبها يتولد العلم النافع الصالح، ولا ريب أن إطلاق ما نقل عن أبي حاتم لا يسوغ، وذلك نفس فلسفي (1) ".
ومن الأمثلة الطريفة أيضا مناقشة لمسألة معرفة النبي صلى الله عليه وسلم - الكتابة، فقال في ترجمة الحافظ العلامة أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي المتوفى سنة 474 هـ: " ولما تكلم أبو الوليد في حديث الكتابة يوم الحديبية الذي في البخاري قال بظاهر لفظه، فأنكر عليه الفقيه أبو بكر ابن الصائغ وكفره بإجازة الكتب على رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي الأمي وأنه تكذيب بالقرآن، فتكلم في ذلك من لم يفهم الكلام حتى أطلقوا عليه الفتنة وقبحوا عند العامة ما أتى به خطباؤهم في الجمع وقال شاعرهم: برئت ممن شرى دنيا بآخرة * وقال: إن رسول الله قد كتبا وصنف أبو الوليد رسالة بين فيها أن ذلك غير قادح في المعجزة فرجع بها جماعة.
قلت: ما كل من عرف أن يكتب اسمه فقط بخارج عن كونه أميا لأنه لا يسمى كاتبا.
وجماعة من الملوك قد أدمنوا في كتابة العلامة وهم أميون، والحكم للغلبة لا للصورة النادرة، فقد قال عليه السلام: " إنا أمة أمية " أي أكثر هم كذلك لندور الكتابة في الصحابة، وقال تعالى: [هو الذي بعث في
__________
(1) الذهبي: " تذكرة " 3 / 922 921 وراجع " تاريخ الإسلام " ورقة 17 16 (أحمد الثالث 2917 / 10) وانظر أيضا " ميزان الاعتدال " ج 3 / 508 507 ففيه تفصيل أكثر في هذه المسألة.(المقدمة/63)
الأميين رسولا منهم] (1) .
وقال في موضع آخر معقبا على هذه المسألة أيضا: " قلت: وما المانع من جواز تعلم النبي صلى الله عليه وسلم - يسير الكتابة بعد أن كان أميا لا يدري ما الكتابة، فلعله لكثرة ما أملى على كتاب الوحي وكتاب السنن والكتب إلى الملوك عرف من الخط وفهمه وكتب الكلمة والكلمتين كما كتب اسمه الشريف يوم الحديبية محمد بن عبد الله، وليست كتابته لهذا القدر اليسير ما يخرجه من كونه أميا ككثير من الملوك أميين ويكتبون العلامة " (2) .
ومثل هذا كثير في كتب الذهبي.
وقد حفظنا من سيرة الذهبي أنه كان سلفي العقيدة قد أثرت فيه البيئة الدمشقية وصحبته لشيخ الإسلام ابن تيمية.
ومع أن الذهبي لم يكن متحمسا للخوض في مضايق العقائد ويعتر السكوت فيها أولى وأسلم (3) ، لكنه في الوقت نفسه أبدى آراءه في كثير من المواضع، وألف فيها.
وقد اعتبر " الاعتزال بدعة " (4) وهاجم الفلاسفة اليونانيين هجوما عنيفا (5) .
وكان على غاية من الإعجاب بأعمال السلف وإنجازاتهم (6) ، واهتم اهتماما كبيرا بذكر أخبار العلماء في المحنة التي أصيبوا بها حينما أعلن المأمون رأيه وألزم الناس القول بخلق القرآن، وبين مواقفهم الجريئة من هذا الأمر (7) .
__________
(1) الذهبي: " تذكرة " 3 / 1181 - 1182. والآية الكريمة من سورة الجمعة (2)
(2) المصدر نفسه، 2 / 742
(3) " تذكرة " 2 / 600، 4 / 1499
(4) انظر مثلا " تذكرة الحفاظ " 3 / 1122
(5) " أهل المئة فصاعدا " ص 115
(6) " تذكرة الحفاظ " ج 2 / 628 627
(7) انظر مثلا " تذكرة " 1 / 476، 477، 561، 589، 2 / 730، 733، 747..(المقدمة/64)
لقد اختصر الذهبي عددا من الكتب المهمة في العقائد منها مثلا كتاب " البعث والنشور " وكتاب " القدر " اللذان للبيهقي المتوفى سنة 458 هـ، وكتاب " الفاروق في الصفات " لشيخ الإسلام الأنصاري المتوفى سنة 481 هـ وكتاب " منهاج الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال " لرفيقه وشيخه تقي الدين ابن تيمية المتوفى سنة 728 هـ.
وخلف الذهبي عددا من الآثار في هذا العلم منها كتاب " الكبائر وبيان المحارم " وكتاب " الأربعين في صفات رب العالمين " وكتاب " العرش " و " كتاب مسألة الوعيد " وغيرها.
ولعل من أشهرها كتابه المعروف " العلو للعلي الغفار " الذي يعد أوسع هذه الكتب وأكثرها شهرة (1) .
بحث الذهبي العقائد على طريقة السلف من أهل الحديث، فكانت المادة الرئيسية التي تكون هذه الكتب والأدلة المستعملة فيها من الأحاديث النبوية الشريفة.
وقد انتقد الذهبي من قبل مخالفيه على تأليفه لبعض هذه الكتب واعتقاده
مثل هذه العقائد، قال الشيخ محمد زاهد الكوثري عن كتاب " العلو ": " ولو لم يؤلفه لكان أحسن له في دينه وسمعته لان فيه مآخذ كثيرة، وقد شهر عن الذهبي أنه كان شافعي الفروع حنبلي المعتقد (2) ".
ولم يشتهر الذهبي بوصفه فقيها أو عالما بالفقه مع أنه درسه على أعلام العصر آنذاك مثل الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني، وبرهان الدين الفزاري، وكمال الدين ابن قاضي شهبة، وغيرهم (3) .
وقد ألف في
__________
(1) انظر أدناه كلامنا على آثار الذهبي.
(2) " ذيل تذكر الحفاظ " 348 هامش 2
(3) انظر أعلاه كلامنا على سيرته و " رونق الألفاظ " لسبط ابن حجر، ورقة 180 سير 1 / 5(المقدمة/65)
أصوله، وعني باختصار كتاب " المحلى " لابن حزم (1) ، وهو من كبار الكتب الفقهية، وألف عددا من الكتب والأجزاء التي تناولت موضوعات فقهية، وكانت له خواطر وآراء ونقدات جاءت في ثنايا كتبه، من ذلك مثلا كلامه في مسألة الطلاق ومناقشته لابن تيمية (2) .
وهو كغيره من علماء الحنابلة يعتبر القرآن والحديث هما أساس الفقه، ويظهر مفهوم الفقه عند الذهبي واضحا في بيتين من الشعر له ذكرهما غير واحد ممن ترجم له وهما:
الفقه قال الله قال رسوله ... إن صح والإجماع فاجهد فيه
وحذار من نصب الخلاف جهالة ... بين النبي وبين رأي فقيه (3)
وهذا الذي قدمناه لا يعني أن الذهبي لم يكن عارفا بالفقه، لكنه كان عزوفا عنه لانشغاله بالحديث وروايته الذي هو الأصل الثاني للفقه بعد الكتاب العزيز، قال ابن ناصر الدين المتوفى سنة 842 هـ: " له دربة بمذاهب الأئمة
وأرباب المقالات قائما بين الخلف بنشر السنة ومذهب السلف (4) ".
ولغة الذهبي في كتبه لغة جيدة قياسا بالعصر الذي عاش فيه، ويكفي أننا قلما وجدنا له لحنا في كتبه.
وهو باعتباره محدثا كبيرا وناقدا ماهرا دقيق في تعابيره، لما لذلك من أهمية في وضع الكلمة المناسبة أو العبارة في موضعها الملائم لا سيما في تحبير التراجم، فضلا عن أسلوبه السلس الممتع لمن أدمن قراءة مثل هذه الكتب.
__________
(1) وهو كتاب " المستحلى في اختصار المحلى " وانظر أدناه كلامنا على آثار الذهبي
(2) الذهبي: " تذكرة الحفاظ " 2 / 715 713
(3) ابن ناصر الدين: " الرد الوافر " ص 31. الصفدي: " الوافي " 2 / 166
(4) المصدر نفسه.(المقدمة/66)
وقد عني الذهبي في مطلع حياته العلمية برواية الشعر وأورد طائفة من الأشعار عن شيوخه (1) .
وذكرت لنا مصادر ترجمته بعضا من نظمه في المدح (2) ، والرثاء (3) .
وله شعر تعليمي، فقد علمنا أنه نظم أسماء المدلسين بقصيدة أوردها السبكي في طبقاته (4) ، كما نظم أسماء الخلفاء بقصيدة أخرى (5) .
وكان كثير الاعتناء بالشعراء تدل على ذلك تراجمهم الواسعة في كتابيه " تاريخ الإسلام " " وسير أعلام النبلاء " والنماذج الشعرية الكثيرة التي أوردها وعنايته الفائقة بتتبع دواوين الشعراء بحيث قال في ترجمة أبي الحسن محمد بن المظفر البغدادي الخرقي في وفيات سنة 455 هـ " ولا يكاد يوجد ديوانه (6) ".
وكان للذهبي خط متقن قد أعجب به علم الدين البرزالي منذ أن بدأ الذهبي يطلب العلم (7) .
وقد وصل إلينا الكثير من كتبه وكتب غيره مكتوبا
بخطه، وهو وإن لم يكن جميلا مراعيا لأصول الخطاطين والكتاب، لكنه يمتاز بالدقة والإتقان لا سيما للذي يدمن عليه.
__________
(1) انظر مثلا " معجم الشيوخ " م 1 ورقة 3، 7، 15، 20، 24، 29، 34، 35، 45، 48، 52، 55، 61، 62، 63، 65، 66، 69، 75، 77، 81، 83، 89. م 2 ورقة 6 1، 11، 12، 30، 33، 36، 40، 52، 56، 59، 60، 66، 74، 85، 86، 88، 99 96.
(2) من بين الذين مدحهم الذهبي ووصل إلينا شعره فيهم: إسحاق بن أبي بكر بن إبراهيم الأسدي الحلبي الحنفي النحاس المتوفى سنة 710 هـ (معجم الشيوخ، م 1 ورقة 34) وتقي الدين السبكي المتوفى سنة 756 هـ وولده التاج المتوفى سنة 771 هـ (طبقات السبكي، ج 9 ص 106، والسيوطي: طبقات الحفاظ، ورقة 86) والبرزالي (ابن ناصر الدين: الرد الوافر، ص 120) .
(3) من ذلك قصيدته في رثاء رفيقه وشيخه ابن تيمية المتوفى سنة 728 هـ (ابن ناصر الدين: " الرد الوافر " ص 36 35 و " التبيان " ورقة 165) .
(4) 9 / 109 107.
(5) " تاريخ الإسلام " ورقة 179 (أحمد الثالث 2917 / 11) .
(6) السخاوي: " الإعلان " ص 547.
(7) الذهبي: " معجم الشيوخ " م 2 الورقة 25، ابن حجر: " الدرر " 3 / 323.(المقدمة/67)
وعرف الذهبي بزهده وورعه وديانته المتينة، وقد رأينا عند دراستنا لمجمل سيرته أنه كان يأنس إلى الاجتماع بمشاهير الفقراء والصوفية من ذوي الديانة والتمسك بالآثار.
قال تلميذه تقي الدين ابن رافع السلامي المتوفى سنة 774 هـ: " كان خيرا صالحا متواضعا حسن الخلق حلو المحاضرة، غالب أوقاته في الجمع والاختصار
والاشتغال بالعبادة، له ورد بالليل، وعنده مروءة وعصبية وكرم (1) " وقال الزركشي المتوفى سنة 794 هـ: " مع ما كان عليه من الزهد التام والإيثار العام والسبق إلى الخيرات والرغبة بما هو آت (2) " ويكفي الذهبي أنه أفنى حياته في دراسة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم - وتدريسه.
لقد أصبحت كتب الذهبي متداولة في عصره والعصور التالية له، واعتبرت من أعظم الموارد التي استقى منها الكتاب الذين جاءوا بعده.
قال ابن حجر: " ورغب الناس في تواليفه ورحلوا إليه بسببها وتداولوها قراءة، ونسخا، وسماعا (3) ".
وقال تلميذه الحسيني: " وقد سار بجملة منها الركبان في أقطار البلدان (4) ".
وحسبنا أن نلقي نظرة عجلى على المستدركات والتلخيصات والذيول التي عملت على كتبه لندرك أهميتها البالغة.
وكان الذهبي مدرسة قائمة بذاتها خرجت العديد من الحفاظ والعلماء.
وقد أتاحت له معرفته العظيمة الواسعة بالحديث وعلومه والتاريخ وفنونه مكانة
__________
(1) سبط ابن حجر: " رونق الألفاظ " الورقة 180.
(2) " عقود الجمان " (نسخة مكتبة فاتح رقم 4435) .
(3) ابن حجر: " الدرر " 3 / 427.
(4) " ذيل تذكرة الحفاظ " ص 36.(المقدمة/68)
مرموقة بين أساتيذ العصر، فأمه طلبة العلم من كل حدب وصوب.
ونحن نعلم أن الذهبي تولى مناصب تدريسية كثيرة، نعرف منها مشيخة الحديث في تربة أم الصالح، ودار الحديث الظاهرية، والمدرسة النفيسية، ودار الحديث التنكزية، ودار الحديث الفاضلية، ودار الحديث العروية.
وقد أتاحت له هذه المناصب أن يدرس عليه عدد كبير من الطلبة يفوق الحصر، قال تلميذه الحسيني: " وحمل عنه الكتاب والسنة خلائق (1) " وقال ابن قاضي شهبة الأسدي: " سمع منه السبكي والبرزالي والعلائي وابن كثير وابن رافع وابن رجب وخلائق من مشايخه ونظرائه..وتخرج به حفاظ (2) ".
وإن كتب القرن الثامن لتزخر بمئات من تلاميذ الذهبي النجب لم نجد في إيرادهم كثير فائدة في مثل هذا البحث.
ونرى من المفيد أن نقتطف في نهاية هذا الفصل آراء العلماء فيه لما لذلك من أهمية في تقويمه، وكنا نقلنا في أثناء هذا البحث بعضا منها، فقد وصفه رفيقه وشيخه علم الدين البرزالي المتوفى سنة 739 هـ في " معجم شيوخه " والذهبي ما زال في مطلع حياته العلمية بقوله: " رجل فاضل، صحيح الذهن.
اشتغل ورحل، وكتب الكثير.
وله تصانيف واختصارات مفيدة.
وله معرفة بشيوخ القراءات (3) ".
وقال تلميذه صلاح الدين الصفدي المتوفى سنة 764 هـ: " الشيخ الإمام العلامة الحافظ شمس الدين أبو عبد الله الذهبي.
حافظ لا يجارى ولا فظ لا يبارى، أتقن الحديث ورجاله، ونظر علله وأحواله، وعرف تراجم الناس، وأزال الإبهام في تواريخهم والإلباس.
ذهن يتوقد
__________
(1) " ذيل تذكرة الحفاظ " ص 36.
(2) " الأعلام " م 1 ورقة 90 (نسخة باريس 1398) .
(3) سبط ابن حجر: " رونق الألفاظ " ورقة 180.(المقدمة/69)
ذكاؤه، ويصح إلى الذهب نسبته وانتماؤه.
جمع الكثير، ونفع الجم الغفير، وأكثر من التصنيف، ووفر بالاختصار مؤونة التطويل في التأليف..اجتمعت به وأخذت عنه وقرأت عليه كثيرا من تصانيفه ولم أجد عنده جمود
المحدثين ولا كودنة النقلة " (1) .
وعلى الرغم من مخالفة تاج الدين السبكي لشيخه الذهبي في بعض المسائل ورده عليه، فإنه قال في حقه: " شيخنا وأستاذنا، الإمام الحافظ..محدث العصر.
اشتمل عصرنا على أربعة من الحفاظ، بينهم عموم وخصوص: المزي والبرزالي والذهبي والشيخ الإمام الوالد، لا خامس لهؤلاء في عصرهم..وأما أستاذنا أبو عبد الله فبصر لا نظير له، وكنز هو الملجأ إذا نزلت المعضلة، إمام الوجود حفظا، وذهب العصر معنى ولفظا، وشيخ الجرح والتعديل، ورجل الرجال في كل سبيل..وهو الذي خرجنا في هذه الصناعة، وأدخلنا في عداد الجماعة (2) "، وقال أيضا: " وسمع منه الجمع الكثير.
وما زال يخدم هذا الفن إلى أن رسخت فيه قدمه، وتعب الليل والنهار، وما تعب لسانه وقلمه، وضربت باسمه الأمثال، وسار اسمه مسير لقبه الشمس إلا أنه لا يتقلص إذا نزل المطر، ولا يدبر إذا أقبلت الليالي.
وأقام بدمشق يرحل إليه من سائر البلاد، وتناديه السؤالات من كل ناد " (3) .
ووصفه تلميذه الحسيني المتوفى سنة 765 هـ بأنه " الشيخ الإمام العلامة شيخ المحدثين قدوة الحفاظ والقراء محدث الشام ومؤرخه ومفيده (4) " وقال في موضع آخر: " وكان أحد
__________
(1) " الوافي " 2 / 163.
(2) " الطبقات " 9 / 101 100
(3) المصدر نفسه، 9 / 103
(4) " ذيل تذكرة الحفاظ " ص 34(المقدمة/70)
الأذكياء المعدودين والحفاظ المبرزين (1) ".
وقال تلميذه عماد الدين بن كثير المتوفى سنة 774 هـ: " الشيخ الحافظ الكبير مؤرخ الإسلام وشيخ
المحدثين..وقد ختم به شيوخ الحديث وحفاظه (2) ".
وحينما قدم العلامة أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الكريم الموصلي الأصل الاطرابلسي (3) إلى دمشق سنة 734 هـ ودرس على الذهبي في تلك السنة قال فيه: ما زلت بالسمع أهواكم وما ذكرت * أخباركم قط إلا ملت من طرب وليس من عجب أن ملت نحوكم * فالناس بالطبع قد مالوا إلى الذهب (4) ووصفه الحافظ ابن ناصر الدين المتوفى سنة 842 هـ بأنه " الحافظ الهمام مفيد الشام، ومؤرخ الإسلام (5) ".
وقال ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 هـ " قرأت بخط البدر النابلسي في مشيخته: كان علامة زمانه في الرجال وأحوالهم حديد الفهم ثاقب الذهب وشهرته تغني عن الإطناب فيه (6) ".
وقال بدر الدين العيني المتوفى سنة 855 هـ: " الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ المؤرخ شيخ المحدثين (7) ".
وذكره سبط ابن حجر المتوفى سنة 899 هـ في " رونق الألفاظ " وبالغ في الإطناب فيه، وقال: " الشيخ الإمام العالم العلامة حافظ الوقت الذي صار هذا اللقب علما عليه..فلله دره من إمام محدث..فكم دخل في جميع الفنون وخرج وصحح، وعدل وجرح، وأتقن هذه الصناعة..فهو الإمام سيد الحفاظ إمام المحدثين قدوة الناقدين ". وقال في موضع آخر:
__________
(1) المصدر نفسه ص 36
(2) " البداية والنهاية " 14 / 225
(3) توفي سنة 774 هـ وقد ترجمه ابن حجر في " الدرر " 4 / 307 306
(4) ابن ناصر الدين: " الرد الوافر " ص 32 31
(5) المصدر نفسه، ص 31
(6) الدرر، 3 / 427
(7) " عقد الجمان " ورقة 37 (نسخة أحمد الثالث 2911)(المقدمة/71)
" وكتب بخطه كثيرا من الأجزاء والكتب وحصل الأصول وانتقى على جماعة من شيوخه..وعني بهذا الفن أعظم عناية، وبرع فيه وخدمه الليل والنهار (1) ".
__________
(1) الورقة 180(المقدمة/72)
ثامنا - وفاته وأولاده
أضر الذهبي في أخريات سني حياته، قبل موته بأربع سنين أو أكثر، بماء نزل في عينيه، فكان يتأذى ويغضب إذا قيل له: لو قدحت هذا لرجع إليك بصرك، ويقول: ليس هذا بماء، وأنا أعرف بنفسي، لأنني ما زال بصري ينقص قليلا قليلا إلى أن تكامل عدمه (1) .
وتوفي بتربة أم الصالح ليلة الاثنين ثالث ذي القعدة قبل نصف الليل سنة 748 هـ ودفن بمقابر باب الصغير، وحضر الصلاة عليه جملة من العلماء كان من بينهم تاج الدين السبكي (2) وقد رثاه غير واحد من تلامذته منهم الصلاح الصفدي (3) والتاج السبكي (4) .
وترك الذهبي ثلاثة من أولاده عرفوا بالعلم هم:
1 - ابنته أمة العزيز، وقد أجاز لها غير واحد باستدعاء والدها منهم: شيخ المستنصرية رشيد الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله البغدادي المتوفى سنة 707 (5) .
ويظهر أنها تزوجت في حياة والدها وخلفت ولدا اسمه عبد القادر
__________
(1) الصفدي: " نكت الهميان " ص 242، ابن دقماق: " ترجمان الزمان " الورقة 99.
(2) السبكي: " طبقات " 9 / 106 105 وقد زاره والده تقي الدين السبكي قبل المغرب وسأله عن حاله.
الصفدي: " الوافي " 2 / 156، " ونكت الهميان " ص 242، ابن حجر: " الدرر " 3 / 427 وغيرهم، ممن ترجم له.
(3) " الوافي " 2 / 165
(4) " طبقات " 9 / 111 109 وهي طويلة أورد بعضها، وابن قاضي شهبة: " الأعلام " م 1 ورقة 90
(5) الذهبي: " منتقى المعجم المختص " الورقة 39 (باريس 2076) و " معجم الشيوخ " م 2 ورقة 46، وانظر أيضا م 1 ورقة 78(المقدمة/73)
سمع مع جده من أحمد بن محمد المقدسي المتوفى سنة 737 (1) هـ، وأجاز له جده رواية كتابه " تاريخ الإسلام " (2) .
2 - ابنه أبو الدرداء عبد الله، ولد سنة 708 هـ وأسمعه أبوه من خلق كثير، وحدث ومات في ذي الحجة سنة 754 (3) .
3 - ابنه شهاب الدين أبو هريرة عبد الرحمن، ولد سنة 715 هـ وسمع مع والده أجزاء حديثية كثيرة (4) ، وسمع من عيسى المطعم الدلال المتوفى سنة 719 هـ، وخرج له أبوه أربعين حديثا عن نحو المئة نفس، وحدث منذ سنة 740 هـ وتأخرت وفاته إلى ربيع الآخر سنة 799 (5) هـ وخلف ولدا اسمه محمد، سمع مع جده (6) ، وأجاز له جده رواية كتابه " تاريخ الإسلام " (7) .
__________
(1) الذهبي: " معجم الشيوخ " م 1 الورقة 17.
(2) راجع طرة المجلد الحادي والعشرين من " تاريخ الإسلام " الذي بخط الذهبي (أيا صوفيا 3014) .
(3) ابن حجر: " الدرر " 2 / 392.
(4) انظر مثلا: " معجم الشيوخ " م 1 ورقة 38، 70 69، 75 74، 78، 85، م 2 الورقة 44، 45، 53.
(5) ابن حجر: " الدرر " 2 / 449، والتونسي: " دستور الإعلام بمعارف الأعلام " الورقة 116 (نسخة ولي الدين جار الله 697 1605) .
(6) " معجم الشيوخ " م 1 ورقة 44.
(7) انظر طرة المجلد الحادي والعشرين (أيا صوفيا 3014) .(المقدمة/74)
تاسعا - آثار الذهبي
وهذه تذكرة في آثار مؤرخ الإسلام الذهبي عنيت فيها بذكر ما ألف واختصر، وخرج على أخصر ما يمكن، إذ تفاصيلها مبسوطة في كتابي " الذهبي ومنهجه في كتابه تاريخ الإسلام " (1) ، واقتفيت فيها المنهج الآتي:
1 - قسمت المؤلفات حسب موضوعاتها، ورتبت الكتب الواردة في كل موضوع على حروف المعجم.
أما المختصرات، والمنتقيات، والتخاريج، فاكتفيت بسردها وفق ذلك الترتيب من غير تقسيم لها.
2 - نبهت فيما إذا كان الكتاب موجودا: مخطوطا أو مطبوعا، وأشرت إلى إحدى طبعاته أو نسخه بين قوسين، وتركت الذي لم أعثر له على نسخة غفلا من ذلك.
أولا: القراءات:
1 - التلويحات في علم القراءات (بروكلمان: الملحق 2 / 47) .
ثانيا: الحديث:
2 - الأربعون البلدانية.
3 - الثلاثون البلدانية.
4 - طرق حديث " من كنت مولاه فعلي مولاه ".
5 - الكلام على حديث الطير.
6 - المستدرك على مستدرك الحاكم. (الظاهرية: 62 مجاميع) .
__________
(1) القاهرة: 1976 ص: 276 139(المقدمة/75)
ثالثا: مصطلح الحديث وآدابه:
7 -كتاب الزيادة المضطربة.
8 - طريق أحاديث النزول.
9 - العذب السلسل في الحديث المسلسل.
10 - منية الطالب لا عز المطالب.
11 - الموقظة في علم مصطلح الحديث (باريس: 4577) .
رابعا: العقائد:
12 - أحاديث الصفات.
13 -الأربعين في صفات رب العالمين (منها جزء في الظاهرية، وانظر الألباني: 280) .
14 -جزء في الشفاعة.
15 -جزآن في صفة النار.
16 -الرسالة الذهبية إلى ابن تيمية (طبعت بدمشق: 1347 هـ) .
17 -الروع والاوجال في نبأ المسيح الدجال.
18 -رؤية الباري.
19 -العرش (انظر بروكلمان: الملحق: 1 / 47) .
20 -العلو للعلي الغفار. (طبع غير مرة منها بمصر: 1332 هـ) .
21 -الكبائر. (مطبوع، القاهرة: 1356 هـ) .
22 - ما بعد الموت.
23 - مسألة دوام النار.(المقدمة/76)
24 - مسألة الغيبة.
25 - مسألة الوعيد.
خامسا: أصول الفقه:
26 - مسألة الاجتهاد.
27 - مسألة خبر الواحد.
سادسا: الفقه:
28 - تحريم أدبار النساء.
29 - تشبيه الخسيس بأهل الخميس (دار الكتب المصرية) .
30 - جزء في الخضاب.
31 - جزء من صلاة التسبيح.
32 - جزء في القهقهة.
33 - حقوق الجار. (كوبرلي.1584 / 3) .
34 - فضائل الحج وأفعاله.
35 - اللباس.
36 - مسألة السماع.
37 - الوتر.
سابعا: الرقائق:
38 - جزء في محبة الصالحين.
39 - دعاء المكروب.
40 - ذكر الولدان.(المقدمة/77)
41 - التعزية الحسنة بالأعزة.
42 - كشف الكربة عند فقد الأحبة.
ثامنا: التاريخ والتراجم:
43 - أخبار السد.
44 - أخبار قضاة دمشق.
45 - أسماء من عاش ثمانين سنة بعد شيخ أو بعد تاريخ سماع. (أيا صوفيا: 2953) .
46 - الإشارة إلى وفيات الأعيان والمنتقى من تاريخ الإسلام. (الأحمدية بحلب: 328) .
47 - الإعلام بوفيات الأعلام (نسخه كثيرة منها بالظاهرية: مجموع 117) .
48 - الأمصار ذوات الآثار. (منه نسخة في استانبول وأخرى بالمدينة) .
49 - أهل المئة فصاعدا (مطبوع، بغداد: 1973) .
50 - البيان عن اسم ابن فلان.
51 - تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام (طبع اليسير منه، ونسخه مشتتة في خزائن الكتب، وعندي نسخة كاملة مصورة) .
52 - التاريخ الممتع.
53 - تذكرة الحفاظ. (مطبوع، حيدر آباد 1958 1955 وهي أحسن الطبعات) .
54 - تراجم رجال روى عنهم محمد بن إسحاق. (مطبوع، ليدن: 1890) .(المقدمة/78)
55 - تسمية رجال صحيح مسلم الذين انفرد بهم عن البخاري (لا له لي باستانبول: 2089) .
56 - تقييد المهمل.
57 - التلويح بمن سبق ولحق.
58 - جزء أربعة تعاصروا.
59 - دول الإسلام. (مطبوع، حيدر آباد: 1337 هـ) .
60 - ديوان الضعفاء والمتروكين (مطبوع) .
61 - ذكر من اشتهر بكنيته من الأعيان (جستربتي بدبلن: مجموع 3458) .
62 - ذكر من يؤتمن قوله في الجرح والتعديل (أيا صوفيا: 2953) .
63 - ذيل الإشارة إلى وفيات الأعيان.
64 - ذيل دول الإسلام (مطبوع، حيدر آباد: 1337) .
65 - ذيل سير أعلام النبلاء.
66 - ذيل ديوان الضعفاء والمتروكين. (الظاهرية: مجموع 369 حديث) .
67 - ذيل كتاب الضعفاء لابن الجوزي.
68 - الذيل على ذيل كتاب الضعفاء لابن الجوزي.
69 - ذيل العبر في خبر من عبر (مطبوع، الكويت - بدون تاريخ) .
70 - الرد على ابن القطان (مختصر (1) منه في الظاهرية: مجموع: 70) .
__________
(1) ظنه الألباني أصل الكتاب (انظر الفهرس: 282) وهو وهم.(المقدمة/79)
71 - الزلازل.
72 - سير أعلام النبلاء (وهو هذا الكتاب) .
73 - طبقات الشيوخ.
74 - العباب في التاريخ.
75 - العبر في خبر من عبر (مطبوع بالكويت وفيه نقص) .
76 - عنوان السير في ذكر الصحابة.
77 - القبان (في أصحاب التقي ابن تيمية) .
78 - المجرد في أسماء رجال كتب سنن الإمام أبي عبد الله بن ماجة سوى من أخرج له منهم في أحد الصحيحين (الظاهرية: 531 حديث) .
69 - المرتجل في الكنى (بروكلمان: 2 / 59) .
80 - المشتبه في الرجال: أسمائهم وأنسابهم (مطبوع، وأعيد طبعه بالقاهرة 1962) .
81 - معجم الشيوخ الكبير. (دار الكتب المصرية: 65 حديث) 82 معجم الشيوخ الأوسط.
83 - المعجم الصغير (اللطيف) . (الظاهرية: مجموع: 12) .
84 - المعجم المختص بمحدثي العصر (منه انتقاء لابن قاضي شهبة بباريس: 2076 عربيات، والأوقاف العراقية: مجموع رقم: 2841) .
85 - معرفة آل مندة.
86 - معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار (مطبوع، القاهرة: 1969) .
87 - المعين في طبقات المحدثين. (فيض الله باستانبول: 1528) .(المقدمة/80)
88 - المغني في الضعفاء. (مطبوع بحلب: 1971) .
89 - المقدمة ذات النقاط في الألقاب. (دار الكتب المصرية: 4423 ج) .
90 - من تكلم فيه وهو موثق. (عندي منه نسخة) وهو غير:
91 - الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم (المطبوع بالقاهرة: 1906) .
92 - ميزان الاعتدال في نقد الرجال (مطبوع مشهور، منها طبعة القاهرة 1963) .
93 - هالة البدر في عدد أهل بدر (لعله هو الذي في الظاهرية ضمن مجموع: 47) .
تاسعا: السير والتراجم المفردة:
94 - أخبار أبي مسلم الخراساني.
95 - أخبار أم المؤمنين عائشة (1) .
96 - التبيان في مناقب عثمان.
97 - ترجمة ابن عقدة الكوفي.
98 - ترجمة أبي حنيفة. (مطبوع بالقاهرة بدون تاريخ) .
99 - ترجمة أبي يوسف القاضي (مطبوع بالقاهرة بدون تاريخ) .
100 - ترجمة أحمد بن حنبل (2) .
__________
(1) نشر الأستاذ الأفغاني ترجمتها من سير أعلام النبلاء (دمشق: 1945) .
(2) نشر المرحوم الشيخ أحمد شاكر ترجمة الإمام أحمد من تاريخ الإسلام.
سير 1 / 6(المقدمة/81)
101 - ترجمة الخضر.
102 - ترجمة السلفي (1) .
103 - ترجمة الشافعي.
104 - ترجمة الشيخ الموفق (2) .
105 - ترجمة مالك بن أنس.
106 - ترجمة محمد بن الحسن الشيباني (مطبوع بالقاهرة بدون تاريخ) .
107 - توقيف أهل التوفيق على مناقب الصديق.
108 - الدرة اليتيمية في سيرة التيمية.
109 - الزخرف القصري (في ترجمة الحسن البصري) .
110 - سيرة الحلاج.
111 - سيرة أبي القاسم الطبراني.
112 - سيرة سعيد بن المسيب.
113 - سيرة عمر بن عبد العزيز.
114 - السيرة النبوية (وهي في تاريخ الإسلام) .
115 - فتح المطالب في مناقب علي بن أبي طالب.
__________
(1) أبو طاهر أحمد بن محمد الأصبهاني المحدث المشهور المتوفى سنة 576 هـ.
(2) أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي صاحب التصانيف المشهورة المتوفى سنة 620 هـ.(المقدمة/82)
116 - قض نهارك بأخبار ابن المبارك.
117 - مناقب البخاري (دار الكتب المصرية طلعت، مجموع: 965) .
118 - نعم السمر في سيرة عمر.
119 - نفض الجعبة في أخبار شعبة.
120 - سيرة لنفسه.
عاشرا: المنوعات:
121 - بيان زغل العلم والطلب (1) . (مطبوع، دمشق: 1347) .
122 - التمسك بالسنن.
123 - جزء في فضل آية الكرسي.
124 - الطب النبوي (طبع غير مرة، وينسب لغيره أيضا) .
125 - كسر وثن رتن (2) .
أحد عشر: المختصرات والمنتقيات:
126 - أحاديث مختارة من الموضوعات من " الأباطيل " للجوزقاني (3) .
(المكتبة الأزهرية، مجموع: 290 حديث) .
127 - بلبل الروض.
__________
(1) وجاء عنوانه في نسخة برلين (5570) : " رسالة فيما يذم ويعاب في كل طائفة ".
(2) رتن هذا هندي دجال ظهر بعد سنة ست مئة وادعى التعمير وصحبة النبي صلى الله عليه وسلم.
(3) كتاب الأباطيل لأبي عبد الله الحسين بن إبراهيم بن الحسين الجوزقاني المتوفى سنة 543 هـ، وقد نسبه الشيخ الألباني لأبي إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني المتوفى سنة 259 هـ، وتابعه سزكين، وهو وهم.(المقدمة/83)
اختصره من " الروض الأنف " للسهيلي المتوفى سنة 581 هـ.
128 - تجريد أسماء الصحابة. (مطبوع، حيدر آباد: 1315 هـ) . اختصره من " أسد الغابة " لابن الأثير المتوفى سنة 630 هـ.
129 - تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال (أحمد الثالث: 2949 / 4 1) .
130 - ترتيب " الموضوعات " لابن الجوزي. (المكتبة الأزهرية، مجموع: 290 حديث) .
131 - تلخيص " العلل المتناهية في الأحاديث الواهية " لابن الجوزي (المكتبة الأزهرية، مجموع: 290 حديث) .
132 - تنقيح كتاب " التحقيق في أحاديث التعليق " لابن الجوزي. (فيض الله: 296) .
133 - تهذيب تاريخ (1) علم الدين البرزالي.
134 - ذكر الجهر بالبسملة مختصرا. (الظاهرية، مجموع: 55) . اختصره من تصنيف في هذا الموضوع للخطيب البغدادي المتوفى سنة 463 هـ.
135 - الرخصة في الغناء والطرب بشرطه. (الظاهرية: 7159) . اختصره من كتاب " السماع " للإدفوي المتوفى سنة 748 هـ
136 - الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة. (مطبوع، القاهرة: 1972) .
______________
(1) تاريخ البرزالي هو " المقتفي لتاريخ أبي شامة " عندي منه نسخة.(المقدمة/84)
اختصره من " تهذيب الكمال " لشيخه ورفيقه المزي المتوفى سنة 742 هـ.
137 - المجرد من " تهذيب الكمال " (الفاتيكان: 1032) .
138 - مختصر " إنباه الرواة على أنباه النحاة " لابن القفطي. (لبدن)
139 - مختصر " الأنساب " لأبي سعد السمعاني.
140 - مختصر " البعث والنشور " للبيهقي.
141 - مختصر " تاريخ بغداد " للخطيب البغدادي.
142 - مختصر " تاريخ دمشق " لابن عساكر.
143 - مختصر " تاريخ مصر " لابن يونس.
144 - مختصر " تاريخ نيسابور " لأبي عبد الله الحاكم.
145 - مختصر " تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف " للمزي.
146 - مختصر " تقويم البلدان " لأبي الفدا.
147 - مختصر " التكملة لكتاب الصلة " لابن الأبار.
148 - مختصر " التكملة لوفيات النقلة " للمنذري.
149 - مختصر " جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر.
150 - مختصر " الجهاد " لبهاء الدين ابن عساكر.
151 - مختصر " ذيل تاريخ بغداد " لأبي سعد السمعاني.
152 - مختصر " الرد على ابن طاهر (1) " لابن المجد (2) .
153 - مختصر " الروضتين في أخبار الدولتين " وذيله لأبي شامة.
__________
(1) أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي، ابن القيسراني المتوفى سنة 507 هـ وكتابه الذي رد عليه ابن المجد في " السماع ".
(2) سيف الدين أبو العباس أحمد ابن المجد عيسى المقدسي المتوفى سنة 643 هـ.(المقدمة/85)
154 - مختصر " الزهد " للبيهقي. (عارف حكمت بالمدينة المنورة) .
155 - مختصر " سلاح المؤمن في الأدعية المأثورة " لابن الإمام (1) .
156 - مختصر " صلة التكملة لوفيات النقلة " لعز الدين الحسيني.
157 - مختصر " الضعفاء " لابن الجوزي.
158 - مختصر " الفاروق في الصفات " لشيخ الإسلام الأنصاري.
159 - مختصر " القدر " للبيهقي.
160 - المختصر المحتاج إليه من تاريخ الحافظ أبي عبد الله محمد بن سعيد بن محمد ابن الدبيثي. (طبع ببغداد: 1976 1951) .
161 - مختصر " المدخل إلى كتاب السنن " للبيهقي.
162 - مختصر " المستدرك على الصحيحين " لأبي عبد الله الحاكم (طبع بهامش المستدرك) .
163 - مختصر " المعجب في تلخيص أخبار المغرب " للمراكشي.
164 - مختصر " مناقب سفيان الثوري " لابن الجوزي.
165 - مختصر " وفيات الأعيان " لابن خلكان.
166 - مختصر " الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام " لابن القطان. (الظاهرية، مجموع: 70) .
167 - المستحلى في اختصار " المحلى " لابن حزم.
168 - معرفة التابعين من " الثقات " لابن حبان (الاسكوريال: 1689) .
__________
(1) أبو الفتح محمد بن محمد بن علي المصري المتوفى سنة 745 هـ.(المقدمة/86)
169 - المقتضب من " تهذيب الكمال " للمزي.
170 - المقتنى في سرد الكنى. (الأحمدية بحلب: 328) . اختصره من كتاب " الكنى " لأبي أحمد الحاكم المتوفى سنة 378) .
171 - المنتخب من " التاريخ المجدد لمدينة السلام " لابن النجار البغدادي.
172 - منتقى " الاستيعاب في معرفة الأصحاب "، لابن عبد البر.
173 - المنتقى من تاريخ أبي الفدا.
174 - المنتقى من " تاريخ خوارزم " لابن أرسلان الخوارزمي.
175 - المنتقى من " مسند " أبي عوانة.
176 - المنتقى من " مسند " عبد بن حميد.
177 - المنتقى من " معجم شيوخ " يوسف بن خليل الدمشقي.
178 - المنتقى من معجمي الطبراني الأوسط والكبير ومن مسند المقلين لدعلج. (منه قطعة في الظاهرية، مجموع: 71) .
179 - المنتقى من " معرفة الصحابة " لابن مندة.
180 - مهذب " السنن الكبرى " للبيهقي.
(مكتبة مدنية باستانبول 258، 259، 260 وطبع بالقاهرة باسم " المهذب في اختصار السنن الكبير " وهو عنوان غير صحيح) .(المقدمة/87)
182 - نبذة من فوائد تاريخ ابن الجزري (1) كوبرلي: 1147) .
183 - النبلاء في شيوخ السنة.
اختصره من كتاب " المعجم المشتمل على أسماء شيوخ الأئمة النبل " لابن عساكر.
اثنا عشر: التخاريج:
قام الذهبي بتخريج عدد كبير من معجمات الشيوخ والمشيخات والأربعينات والأجزاء الحديثية الكبيرة والصغيرة، منها: أ - معجمات الشيوخ:
184 - معجم شيوخ ابن البالسي المتوفى سنة 711 هـ.
185 - معجم شيوخ ابن حبيب الدمشقي المتوفى سنة 779 هـ.
186 - معجم شيوخ علاء الدين ابن العطار الدمشقي المتوفى سنة 724 هـ.
187 - المعجم العلي للقاضي الحنبلي (أبي الفضل سليمان بن حمزة المقدسي المتوفى سنة 715 هـ) .
ب - المشيخات: 188 - مشيخة التلي (محمد بن أحمد الصالحي الخياط المتوفى سنة 741 هـ) .
189 - مشيخة الجعبري المتوفى سنة 706 هـ.
__________
(1) توفي ابن الجزري سنة 739 وهو غير ابن الجزري صاحب " غاية النهاية في طبقات القراء " وتاريخه هذا يعرف باسم " حوادث الزمان وأنبائه ووفيات الأكابر والأعيان من أبنائه " عندي قطع منه، وهو من التواريخ المستوعبة.(المقدمة/88)
190 - مشيخة ابن الزراد الحريري المتوفى سنة 726 هـ.
191 - مشيخة عز الدين المقدسي المتوفى سنة 700 هـ.
192 - مشيخة ابن القواس المتوفى سنة 698 هـ.
193 - مشيخة زين الدين الكحال المتوفى سنة 730 هـ.
ج - الأربعينات: 194 أربعون حديثا بلدانية من " المعجم الصغير " للطبراني. (التيمورية بمصر: 438 حديث) .
195 - أربعون حديثا بلدانية من " معجم " ابن جميع الصيداوي.
196 - أربعون حديثا بلدانية من " معجم شيوخ " أبي بكر المقدسي المتوفى سنة 718 هـ.
197 - أربعون حديثا بلدانية من " معجم شيوخ " ابن زاذان المتوفى سنة 481 هـ.
198 - أربعون حديثا لأبي المعالي الأبرقوهي المتوفى سنة 701 هـ.
199 - أربعون حديثا لابنه أبي هريرة عبد الرحمان المتوفى سنة 799 هـ
د - الثلاثينات:
200 - ثلاثون حديثا من " المعجم الصغير " للطبراني.
هـ - العوالي:
201 - عوالي الشمس ابن الواسطي المتوفى سنة 699 هـ.
202 - عوالي الطاووسي المتوفى سنة 704 هـ.(المقدمة/89)
203 - عوالي أبي عبد الله ابن اليونيني المتوفى سنة 747 هـ.
204 - العوالي من حديث مالك بن أنس.
205 - العوالي المنتقاة من حديث الذهبي (الظاهرية، مجموع: 4512 عام) .
والأجزاء:
206 - الجزء الملقب بالدينار من حديث المشايخ الكبار (دار الكتب المصرية: 1508 حديث) .
207 - جزء من حديث القزويني المتوفى سنة 704 هـ.
208 - جزء من حديث أبي بكر المرسي المتوفى سنة 718 هـ.
209 - جزء من حديث ابن المحب المقدسي المتوفى سنة 730 هـ.
210 - جزء من حديث ابن الكويك المتوفى سنة 734 هـ.
211 - جزء من حديث أمين الدين الواني المتوفى سنة 735 هـ.
212 - جزء من حديث ابن جماعة الكناني المتوفى سنة 767 هـ.
213 - أحاديث " مختصر " ابن الحاجب المتوفى سنة 646 هـ.
(ومختصر ابن الحاجب من كتب أصول الفقه المشهورة وهو " منتهى السؤال والأمل في علمي الأصول والجدل " وقد طبع) .
214 - ثلاثيات ابن ماجة. (الظاهرية، مجموع: 59) .
215 - المنتقى من حديث تقي الدين ابن الشيخ شمس الدين ابن المجد البعلي. (الظاهرية، مجموع: 25) .(المقدمة/90)
الفصل الثاني: سير أعلام النبلاء منهجه وأهميته
أولا - عنوان الكتاب وتأليفه:
سماه صلاح الدين الصفدي (1) وابن دقماق (2) : " تاريخ النبلاء "، وابن شاكر الكتبي (3) : " تاريخ العلماء النبلاء "، وتاج الدين السبكي (4) : " كتاب النبلاء "، وسبط ابن حجر (5) : " أعيان النبلاء ".
وسماه كل من الحسيني (6) ، وابن ناصر الدين (7) ، وابن حجر (8) ، والسخاوي (9) : " سير النبلاء ".
أما " سير أعلام النبلاء " فقد جاء مخطوطا على طرر المجلدات الموجودة في مكتبة السلطان أحمد الثالث ذوات الرقم 2910 / A، وهي النسخة الأولى التي
__________
(1) الوافي: 2 / 163.
(2) ترجمان الزمان، الورقة: 98.
(3) فوات الوفيات: 2 / 183، وعيون التواريخ، الورقة 86 (كيمبرج 2923) .
(4) طبقات الشافعية: 9 / 104.
(5) رونق الألفاظ، الورقة: 180.
(6) الذيل على ذيل العبر: 268.
(7) الرد الوافر: 31.
(8) الدرر الكامنة: 3 / 426.
(9) الإعلان بالتوبيخ: 674.(المقدمة/91)
نسخت عن نسخة المؤلف التي بخطه وكتبت في حياته في السنوات 739 - 743 هـ، وهو العنوان الأكثر دقة وكمالا، لذلك اعتمده محققو الكتاب.
وقد ألف الذهبي كتابه هذا بعد كتابه العظيم " تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام " الذي انتهى من تأليفه أول مرة سنة 714 هـ ثم أعاد النظر فيه، وبيض قسما منه سنة 726 هـ (1) .
وقد أشار المؤلف إلى بعض كتبه الأخرى، وأحال عليها في كتابه " السير ".
وحينما ذكر تلميذه الصلاح الصفدي بعض كتب الذهبي الخاصة بتراجم الأعيان مثل " نفض الجعبة في أخبار شعبة " و " قض نهارك بأخبار ابن المبارك " وغيرهما قال: " وله في تراجم الأعيان لكل واحد مصنف قائم الذات مثل الأئمة الأربع ومن جرى مجراهم، لكنه أدخل الجميع في " تاريخ النبلاء " (2) .
وهذا النص يوضح أنه ألف " السير " بعد تأليفه لكل تلك التراجم المفردة الكثيرة، ويلاحظ أن ناسخ أول نسخة من الكتاب قد بدأ بنسخها في سنة 739 هـ وانتهى من المجلد الثالث عشر في أوائل سنة 743 هـ، وهذا يعني أن المؤلف كان قد انتهى من تأليف كتابه سنة 739 هـ، أو قبلها.
وقد جزم الدكتور الفاضل صلاح الدين المنجد بتأليف الكتاب سنة 739 هـ، من غير دليل (3) سوى أن الناسخ ابن طوغان قد بدأ بنسخ نسخته في هذه السنة.
أما نحن فنعتقد أنه بدأ في تأليف الكتاب سنة 732 هـ أو قبيلها بقليل، ودليلنا على ذلك قول المؤلف الذهبي في ترجمة العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم: " وقد صار الملك في ذرية العباس، واستمر ذلك، وتداوله تسعة وثلاثون خليفة إلى وقتنا هذا، وذلك ست مئة عام، أولهم السفاح. وخليفة زماننا المستكفي له الاسم المنبري، والعقد والحل بيد
__________
(1) انظر التفاصيل في كتابي: الذهبي: 25 فما بعد.
(2) الوافي بالوفيات، 2 / 164.
(3) انظر مقدمته للجزء الأول الذي نشره من السير ص 38.(المقدمة/92)
السلطان الملك الناصر، أيدهما الله " (1) .
ولما كان العباسيون قد تقلدوا الحكم سنة 132 هـ كما هو مشهور فيكون زمانه الذي أشار إليه هو سنة 732 هـ، والمستكفي بالله هذا هو أبو الربيع سليمان بن أحمد، ولد سنة 683 هـ، وخطب له بمصر بعد وفاة أبيه سنة 701 هـ، وقد ساءت حاله مع السلطان الناصر في آخر أيامه، فأخرجه السلطان إلى قوص من صعيد مصر سنة 738 هـ فأقام بها إلى حين وفاته سنة 740 هـ (2) .
وليس من المعقول أن يستغرق تأليف الكتاب سبع سنوات ومعظم مادته كانت جاهزة عند مؤلفه بسبب أنه ألفه بعد تاريخ الكبير " تاريخ الإسلام ".
ثانيا - نطاق الكتاب وعدد مجلداته:
جعل الذهبي كتابه " سير أعلام النبلاء " في أربعة عشر مجلدا راعى فيها التناسق من حيث عدد الأوراق، ولم يراع في الأغلب ناحية تنظيمية أخرى، لذلك وجدنا النساخ فيما بعد لم يلزموا أنفسهم بتقسيم المؤلف (3) .
وقد أفرد الذهبي المجلدين الأول والثاني للسيرة النبوية الشريفة وسير
الخلفاء الراشدين، لكنه لم يعد صياغتهما، وإنما أحال على كتابه العظيم " تاريخ الإسلام " ليؤخذا منه ويضما إلى " السير " فقد جاء في طرة المجلد الثالث من نسخة أحمد الثالث الأولى تعليق بخط الذهبي كتب على الجهة
__________
(1) سير أعلام النبلاء: 2 / الترجمة: 11 (طبعة مؤسسة الرسالة المحققة) .
(2) البداية لابن كثير: 14 / 187، والسلوك للمقريزي: 2 / 504، والدرر لابن حجر: 2 / 336 وغيرها.
(3) انظر وصف النسخ في مقدمة هذا الجزء الأول من السير.
وقد أشار ناسخ المجلد السابع عشر من النسخة المصورة في المجمع العلمي العربي بدمشق إلى أن نسخته تتكون من عشرين مجلدا.(المقدمة/93)
اليسرى منها نصه: " في المجلد الأول والثاني سير النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة تكتب من تاريخ الإسلام ".
ويلاحظ أن الذهبي قد أشار في حاشية الورقة (98) من المجلد الثاني من تاريخ الإسلام وهو المجلد الذي يبدأ بالسيرة النبوية وعند الفصل الخاص بمعجزاته صلى الله عليه وسلم إلى مكونات " السيرة النبوية " بقوله: " من شاء من الإخوان أن يفرد الترجمة النبوية، فليكتب إذا وصل إلى هنا جميع ما تقدم من كتابنا في السفر الأول بلا بد، فليفعل، فإن ذلك حسن، ثم يكتب بعد ذلك " فصل في معجزاته " إلى آخر الترجمة النبوية وهذا يعني أن " السيرة النبوية " التي أرادها الذهبي تشمل جميع المجلد الأول وهو المجلد الخاص بالمغازي ثم جميع " الترجمة النبوية " وهي المئة والثلاثون ورقة من المجلد الثاني الذي بخطه.
وهذا في رأينا هو المجلد الأول من " سير أعلام النبلاء ".
أما سير الخلفاء الأربعة فهي التي تستغرق بقية المجلد الثاني من نسخة المؤلف التي بخطه وتتضمن الأوراق: 131 - 241، وقسما من المجلد الثالث من نسخة المؤلف وهذا هو المجلد الثاني من " السير " في رأينا.
والظاهر أن ابن طوغان صاحب النسخة لم يقم باستنساخ المجلدين: الأول والثاني، من " تاريخ الإسلام " كما طلب المؤلف، فظن كاتب الوقفية على المدرسة المحمودية أن هذين المجلدين مفقودان، فتابعه الناس على هذا الوهم.
وكان من المظنون أن المجلد الثالث عشر (1) من نسخة ابن طوغان وهو
__________
(1) كان هذا المجلد هو حصتي من تحقيق الكتاب، وقد حققته بمشاركة زميلي السيد محيي هلال السرحان.(المقدمة/94)
المجلد الذي يبتدئ بترجمة المحدث الكبير أبي طاهر السلفي المتوفى سنة 576 هـ، وينتهي بترجمة السلطان الملك المنصور نور الدين علي ابن السلطان الملك المعز أيبك التركماني الصالحي المعزول من السلطنة سنة سبع وخمسين وست مئة، والذي تأخرت وفاته إلى حدود سنة سبع مئة أقول: كان من المظنون أن هذا هو المجلد الأخير من الكتاب، لكنني أعتقد بل أكاد أجزم أن هناك مجلدا آخر يتمم الكتاب هو المجلد الرابع عشر، وهو المجلد الذي ظنه الدكتور الفاضل صلاح الدين المنجد ذيلا لسير أعلام النبلاء وتابعه الناس عليه، وإليك آيات ذلك ودلالاته:
1 - من المعلوم أن الذهبي ألف " سير أعلام النبلاء " عبد تأليف " تاريخ الإسلام " وتابع فيه النطاق الزمني للكتاب المذكور، والذي نعرفه أن " تاريخ الإسلام " يمتد من أول الهجرة النبوية إلى آخر سنة (700 هـ) ، بينما تبين دراستنا لتراجم الطبقة الخامسة والثلاثين وهي آخر المجلد الثالث عشر أن أصحابها توفوا في المدة المحصورة بين السنوات 660 651 هـ، فأين هي تراجم من توفي بين 700 661 هـ؟ وهي مدة طويلة عاصر المؤلف كثيرا من أحداثها واتصل بالعديد من المترجمين فيها، وكان الكثير منهم شيوخه، والباقون من شيوخ شيوخه، وفيهم أعلام الدنيا من مثل أبي شامة، وابن الساعي، والنووي، وفخر الدين ابن البخاري، وابن الظاهري ومئات غيرهم بحيث لا يعقل أن يتركهم الذهبي ولا يترجم لهم، وقد ترجم في كتابه هذا لمن هم أدنى منهم بكثير، فهذه المدة المذكورة البالغة قرابة الأربعين سنة تحتمل من غير شك أن تكون المجلد الرابع عشر من " السير ".
2 - ولكن كيف ظن الفضلاء أن هذا هو المجلد الأخير من " السير " وكيف ذكروا أن تراجمه تصل إلى سنة 700 هـ؟(المقدمة/95)
والذي عندي أن الذي أوقع الناس (1) في هذه المزلقة أمران: أولهما عدم دراسة المجلد الثالث عشر دراسة جيدة والنظر إلى المترجمين فيه نظرة فاحصة منقبة.
وثانيهما: هو ترجمة السلطان الملك المنصور نور الدين علي ابن السلطان الملك المعز أيبك التركماني الذي ذكر المؤلف الذهبي أنه تأخر إلى قريب سنة (700) هـ، لكن الدارسين لم ينتبهوا إلى أن الذهبي، إنما ذكره بسبب توليه الحكم بعد مقتل والده المعز أيبك سنة 655 هـ، وأنه لم يبق في السلطنة غير سنتين ونصف إذ عزل في أواخر سنة 657 هـ حينما تولى سيف الدين قطز السلطنة، فالذي ذكره الذهبي عن بقائه فيما بعد إنما هو من باب الاستطراد لا غير، وقد كان من منهج الذهبي في هذا الكتاب أن يجمع الأقرباء في مكان واحد كما سيأتي بيانه لاحقا.
3 - قلنا إن الذهبي ألف كتابه هذا في أربعة عشر مجلدا، وطلب من النساخ أن يستخرجوا المجلدين الأول والثاني من " تاريخ الإسلام " وهما اللذان يتضمنان السيرة النبوية، وسير الخلفاء الأربعة، كما هو مثبت بخطه في طرة المجلد الثالث من الكتاب.
وقد نصت وقفية الكتاب على المدرسة المحمودية بالقاهرة وهي الوقفية المثبت نصها على جميع المجلدات أن الموقوف منه اثنا عشر مجلدا، وقد جاء في نص الوقفية المدونة على المجلد الثالث، وهو أول المجلدات التي وصلت إلينا - ما نصه: " وقف وحبس وسبل المقر الأشرف العالي الجمالي محمود أستادار
__________
(1) أول من قال بذلك هو الدكتور الفاضل صلاح الدين المنجد، وتابعته في وهمه أنا في كتابي " الذهبي ومنهجه في كتابه تاريخ الإسلام: 170 من طبعة القاهرة " وعذري أنني كنت آنذاك معنيا " بتاريخ الإسلام "، وكان كلامي على السير عارضا، أما هو فقد كان من المفروض أنه خبر الكتاب وسبر غوره.(المقدمة/96)
العالية الملكي الظاهري..جميع هذا المجلد وما بعده من المجلدات إلى آخر الكتاب، وعدة ذلك اثنا عشر مجلدا متوالية من هذا المجلد إلى آخر الرابع عشر..".
فانظر إلى قوله " إلى آخر الكتاب " وقوله " إلى آخر الرابع عشر ".
والواضح البين أن الوقفية لم تشر إلى أن المجلد الرابع عشر هو ذيل سير أعلام النبلاء كما ظن الفاضل الدكتور صلاح الدين المنجد.
4 - وقد جرت عادة النساخ، أو المؤلفين، أوكليهما على الإشارة والنص على انتهاء الكتاب، إلا أننا حينما نقرأ آخر المجلد الثالث عشر لا نجد أية إشارة من المؤلف، أو الناسخ إلى انتهاء الكتاب، وقد وجدت الذهبي
رحمه الله ينص دائما عند انتهاء كتبه، فلماذا يشذ في هذا الكتاب! ؟ أما الناسخ فإن عباراته التي استعملها في نهاية المجلد الثالث عشر لا تنبئ بأي حال على أن هذا هو آخر الكتاب، وهي لا تختلف عن ما جاء في بقية المجلدات (1) .
ثالثا - ترتيب الكتاب:
نظم الذهبي كتاب " السير " على الطبقات، فجعله في أربعين طبقة تقريبا، وآخر ما في المجلد الثالث عشر من نسخة ابن طوغان هي آخر الطبقة
__________
(1) وفي خزانة كتب خليل الله المدراسي بحيدر آباد مجلد صورته بعثة معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية ووضعته في فهرس (التاريخ) من فهارسها (رقم 1100 ج - 2، قسم 3 ص 183) ، قالوا: " مجلد فيه من سنة 550 - سنة 740 ويبدأ بترجمة أبي البركات هبة الله بن ملكا البغدادي، وينتهي بآخر الكتاب وبآخر المجلد فهرست تفصيلي لجميع تراجم الكتاب من أوله لآخرة حسب ترتيب الطبقات من وضع الذهبي نفسه ينقص قليلا ".
وهذا الوصف يثير كثيرا من الإرباك إذ كيف يتصور أن مجلدا واحدا يحوي كل هذه الفترة الزمنية، ثم إن الكتاب غير مرتب على السنين حتى يقال من سنة كذا إلى سنة كذا.
ولم استطع الوقوف عليه في الوقت الحاضر فلا أتمكن من الحكم عليه.
سير 1 / 7(المقدمة/97)
الخامسة والثلاثين ولا أستبعد أن يتضمن المجلد الرابع عشر خمس طبقات إذا قايسنا ذلك ببقية المجلدات.
وقد استعمل المؤلفون المسلمون هذا الأسلوب في عرض التراجم منذ فترة مبكرة من تاريخ الحركة التأليفية، وهو فيما يرى روزنتال تقسيم إسلامي أصيل قد يبدو أقدم تقسيم زمني وجد في التفكير التاريخي
الإسلامي، ولم يكن نتيجة مؤثرات خارجية، بل هو نتيجة طبيعية لفكرة: صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالتابعون..الخ (1) ، ومما يؤيد هذا حديث أورده البخاري ونصه: " خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " (2) وقد أشار العيني في شرحه إلى أن خير القرون الصحابة ثم التابعون ثم أتباع التابعين (3) .
وهذا المفهوم يظهر واضحا في كتب الإمام ابن حبان البستي المتوفى سنة 354 هـ حيث قسم الرواة في كتابيه " الثقات " و " مشاهير علماء الأمصار " إلى ثلاث طبقات هم: الصحابة، والتابعون، وأتباع التابعين، فصارت الطبقة هنا تعني الجيل.
وقد حاول بعض العلماء أن يجعل للطبقة تحديدا زمنيا واضحا، فجعلها بعضهم عشرين سنة (4) ، وجعلها آخرون أربعين سنة (5) ، وهلم جرا.
__________
(1) علم التاريخ عند المسلمين: 134 133.
(2) الصحيح 5 / 3 2 (ط. الشعب) باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من حديث عمران ابن حصين.
(3) عمدة القاري: 16 / 170.
(4) انظر " طبق " من لسان العرب.
(5) استنادا إلى حديث " أمتي على خمس طبقات كل طبقة أربعون عاما ".
(سنن ابن ماجة: 2 / 1349) ولا يصح، بل أورده ابن الجوزي في " الموضوعات ".(المقدمة/98)
لكن الدراسات الحديثة (1) أظهرت أن كثيرا من المؤلفين المتقدمين كابن سعد، وخليفة بن خياط، ومسلم بن الحجاج وغيرهم لم يستعملوا " الطبقة " باعتبارها وحدة زمنية ثابتة، كما لم يستعملوها بمعنى " الجيل " أيضا ففي الوقت الذي عد فيه خليفة بن خياط الصحابة طبقة واحدة عدهم ابن سعد عدة طبقات استنادا إلى سابقتهم في الإسلام.
أما طبقات التابعين ومن بعدهم، فقائم عند خليفة وابن سعد على اعتبار اللقيا بين الصحابة والتابعين، فكبار التابعين هم الذين رووا عن كبار الصحابة ذوي السابقة والفضل، وهم الطبقة الأولى من التابعين، أما التابعون الذين رووا عن صغار الصحابة ولم يلتقوا بكبارهم لعدم لحاقهم بهم، فيكونون طبقة ثالثة أو رابعة، وكذلك فإن من روى عن سعيد بن المسيب مثلا وغيرهم من كبار التابعين فإنهم يكونون الطبقة الأولى من أتباع التابعين.
رابعا - مفهوم الطبقة في " السير " وغيره من مؤلفات الذهبي
نظم الإمام الذهبي مجموعة من كتابه على الطبقات إضافة إلى " السير " منها: " تذكرة الحفاظ " (2) ، و " معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار (3) "، و " المعين في طبقات المحدثين " (4) " و " المجرد في أسماء رجال كتاب سنن الإمام أبي عبد الله بن ماجة سوى من أخرج له منهم في أحد
__________
(1) أنظر دراسة صديقنا العزيز العالم الفاضل الدكتور أكرم العمري لأسس تنظيم طبقات خليفة وابن سعد في كتابه الماتع " بحوث في تاريخ السنة المشرفة " ص: 184 فما بعد (الطبعة الثانية) .
(2) مطبوع منتشر مشهور.
(3) نشرته دار الكتب الحديثة بالقاهرة سنة 1969 باعتناء رجل جاهل يدعى سيد جاد الحق، وهي نشرة رديئة جدا يكثر فيها التصحيف والتحريف السقط وعندي منه نسخة مصورة نفيسة.
(4) عندي من الكتاب نسخة مصورة عن فيض الله.(المقدمة/99)
الصحيحين (1) ، و " طبقات الشيوخ " (2) ، وقد وصلت إلينا جميع هذه الكتب خلا الكتاب الأخير.
وتشير دراستنا لهذه الكتب أن الذهبي لم يراع إيجاد تقسيم واحد في عدد الطبقات بين هذه الكتب، ولا راعى التناسق في عدد المترجمين بين طبقة وأخرى في الكتاب الواحد، كما لم يلتزم بوحدة زمنية ثابتة للطبقة في جميع كتبه فيما عدا " تاريخ الإسلام " الذي لا يدخل في هذا التنظيم كما سيأتي بيانه.
1- عدد الطبقات: فقد قسم الذهبي كتابه " تذكرة الحفاظ " على إحدى وعشرين طبقة (3) ، وقسم " معرفة القراء " على سبع عشرة طبقة، بينما جعل " سير أعلام النبلاء " في أربعين طبقة تقريبا مع أن الكتب الثلاثة المذكورة تناولت نطاقا زمنيا واحدا يمتد من الصحابة إلى عصره الذي عاش فيه.
2- عدد المترجمين: ونجد اختلافا كبيرا جدا في أعداد المذكورين في الطبقات في الكتاب الواحد، ففي " تذكرة الحفاظ " مثلا نجد أن أعداد المترجمين في الإحدى والعشرين طبقة تتضمن الأعداد الآتية حسب تسلل الطبقات: 23، 42، 30، 58، 78، 81، 106، 130، 106، 117، 77، 79، 74، 31، 46، 18، 25، 26، 12، 10، 8، وهكذا نجدها تتراوح بين ثمانية أشخاص ومئة وسبعة عشر شخصا.
وهذا الذي ذكرته عن " التذكرة " ينطبق على " السير " أيضا فإن عدد تراجم الطبقة الثلاثين مثلا بلغ (77) ترجمة بينما بلغ عدد تراجم الطبقة التي تليها (130) ترجمة، وهلم جرا.
__________
(1) عندي منه نسخة مصورة عن الظاهرية.
(2) ذكره الذهبي في تذكرة الحفاظ: 3 / 876 ولا أعرف له نسخة.
(3) وقال في الطبقة الثالثة عشرة: " وقد سميت منهم بضعة وسبعين إماما وقسمت الطبقة طبقتين أولا هما ثمانية وأربعون والثانية خمسة وعشرون نفسا "(المقدمة/100)
3- الوحدة الزمنية: ولم يراع الذهبي وحدة زمنية ثابتة في كتبه التي نظمها على الطبقات، وهو بذلك لم يدخل سني وفيات المترجمين باعتباره بشكل دقيق حيث نجدها متداخلة بين طبقة وأخرى من جهة، كما نلاحظ في الوقت نفسه تباينا كبيرا جدا في المدة الزمنية التي تستغرقها كل طبقة من الطبقات.
ففي " تذكرة الحفاظ " مثلا نجد أن وفيات المترجمين في الطبقة الأولى تمتد من سنة 13 هـ وهي سنة وفاة الصديق - إلى سنة 93 هـ وهي السنة التي توفي فيها أنس بن مالك، وهذا يعني أن مدتها ثمانون سنة.
أما التابعون فقد جعلهم في " التذكرة " ثلاث طبقات: كبار التابعين وتمتد وفيات أصحابها من سنة 62 وهي سنة وفاة علقمة بن قيس النخعي إلى سنة 107 هـ وهي سنة وفاة رجاء العطاردي في ترجيح الذهبي، فتكون مدتها (45) سنة.
ثم الطبقة الوسطى منهم وتمتد وفيات المترجمين فيها من سنة 93 هـ إلى سنة 117 هـ، فتكو مدتها (24) سنة.
ثم طبقة ثالثة من التابعين تمتد وفيات أصحابها من سنة 113 هـ إلى سنة 151، فمدتها (38) سنة.
أما الطبقة الخامسة فتمتد من 144 هـ إلى سنة 180 هـ، فهي (36) سنة وهلم جرا.
وهذا الذي ذكرته عن التباين في مدد الطبقات الأولى من " التذكرة " ينطبق على الطبقات المتأخرة أيضا، فالطبقة العشرون تمتد من سنة 667 إلى سنة 708، فتكون مدتها (41) سنة أما الحادية والعشرون وهي آخر الطبقات فتمتد من سنة 672 هـ إلى سنة 742 هـ سنة وفاة الحافظ المزي فتكون مدتها (70) سنة.
وهذا الذي أبنته من الخلف في مدة الطبقات في " التذكرة " والتباين الشديد نجده أيضا في " سير أعلام النبلاء "، فقد بلغت مدة الطبقة الثلاثين(المقدمة/101)
من السير (19) سنة تمتد من سنة 568 هـ سنة وفاة خوارزم شاه إلى سنة 587 هـ سنة وفاة ابن مغاور الشاطبي وامتدت وفيات المترجمين في الطبقة الحادية والثلاثين من سنة 575 هـ سنة وفاة ابن عياد الأندلسي إلى سنة 601 هـ وهي سنة وفاة الارتاحي، فتكون مدتها (26) سنة.
أما الطبقة الخامسة والثلاثون فلم تتجاوز تسع سنوات حيث أن جميع وفيات المذكورين فيها تمتد من سنة 651 إلى سنة 660 (1) .
أما كتابه " المعين في طبقات المحدثين " فقد جعل الذهبي الطبقات الأولى فيه تتخذ أسماء المشهورين فيها نحو قوله مثلا " طبقة الزهري وقتادة " (2) ، و " طبقة الأعمش وأبي حنيفة (3) " و " طبقة ابن المديني وأحمد (4) " ونحو ذلك.
ثم غير هذه الطريقة حينما وصل إلى مطلع القرن الثالث الهجري، فصار يستعمل السنوات التقريبية في الطبقة نحو قوله: " الطبقة الذين بقوا بعد الثلاث مئة وإلى حدود العشرين والثلاث مئة (5) " و " طبقة من الثلاثين وإلى ما بعد الخمسين وخمس مئة (6) "، وهلم جرا.
وقد تبين لنا من دراسة هذه الوحدات الزمنية التي ذكرها أن الطبقة قد تكون في هذا الكتاب في حدود عشرين سنة (7) ، أو خمس وعشرين (8) ، أو
__________
(1) استثنينا من ذلك ما ذكره الذهبي من تأخر وفاة المنصور ابن المعز أيبك إلى سنة (700) تقريبا وقد بينا أنه إنما ذكره بسبب توليه السلطنة بين 657 655 حسب (نسختي المصورة) .
(2) المعين، الورقة: 7 (3) نفسه، الورقة: 8 (4) نفسه، الورقة: 14 (5) نفسه، الورقة: 19 (6) نفسه، الورقة: 32
(7) نفسه، الورقة: 21، 32 (8) نفسه، الورقة 22، 24(المقدمة/102)
ثلاثين سنة (1)) .
أما كتابه " المجرد في أسماء رجال كتاب سنن الإمام أبي عبد الله بن ماجة " فقد جعله في ثماني طبقات اتخذت كل طبقة أسماء أعلام فيما عدا طبقة الصحابة (2) ، فالطبقات السبع الباقية هي: طبقة زمن الأعمش وابن عون (3) ، وطبقة الزهري وأيوب (4) ،، وطبقة ابن المسيب ومسروق (5) ، وطبقة الحسن وعطاء (6) ، وطبقة عفان وعبد الرزاق (7) ، وطبقة علي ابن المديني وأحمد بن حنبل (8) ، وطبقة البخاري ومن تبقى (9) ، ويلاحظ أن هذه الطبقات لم تراع التناسق الزمني أيضا.
ولكن الذهبي جعل الطبقة عشر سنوات في كتابه العظيم " تاريخ الإسلام " فتألف كتابه من سبعين طبقة، فهل يعني هذا أنه وضع تحديدا زمنيا واضحا للطبقة مخالفا طريقته في كتبه الأخرى؟ علما أن عمله هذا لم يسبقه فيه أحد فيما نعلم.
وقد أدى عمل الذهبي هذا إلى دفع بعض الباحثين المعنيين بعلم التاريخ إلى القول: بأنه خالف الأقدمين، بل خالف نهجه هو في كتبه الأخرى (10) .
على أن دراستنا الموسعة لكتاب " تاريخ الإسلام " قد أبانت أنه لم يقصد بالطبقة هنا غير " العقد "، وهو مفهوم يدل على وحدة
__________
(1) نفسه، الورقة: 20، 21
(2) المجرد، الورقة: 6 1
(3) المجرد، الورقة: 8 - 12
(4) المجرد، الورقة: 12 8
(5) نفسه، الورقة: 13 12
(6) نفسه، الورقة: 14 13
(7) نفسه، الورقة: 14 - 15
(8) نفسه، الورقة: 16 15
(9) نفسه، الورقة 20 16
(10) نظر: روزنثال: علم التاريخ: 121، والعمري: بحوث: 191(المقدمة/103)
زمنية محددة قدرها عشر سنوات، وأنه إنما استخدم هذا المفهوم لحاجات تنظيمية صرفة جاءت في الأغلب من عدم توافر تواريخ وفيات المترجمين بصورة كاملة، كثرة الاختلاف فيها لا سيما في المئات الثلاث الأولى.
وقد أبانت دراستي أن هذا التنظيم لا علاقة له بأدب الطبقات بل من الأفضل أن يربط بأدب التنظيم على السنين (1) .
من كل الذي مر يتضح أن الذهبي استعمل الطبقة للدلالة على القوم المتشابهين من حيث اللقاء أي: في الشيوخ الذين أخذوا عنهم، ثم تقاربهم في السن من حيث المولد والوفاة تقاربا لا يتناقض مع اللقيا، وهو أمر يتيح تفاوتا في وفيات المترجمين من جهة، وتفاوتا في عدد الطبقات أيضا.
ولكن كيف نفسر هذا الاختلاف الكبير في تقسيم الطبقات عند مؤلف واحد مثل الذهبي.
بحيث جعل " معرفة القراء " في سبع عشرة طبقة.
بينما قسم " السير " إلى أربعين طبقة تقريبا؟ وجواب ذلك فيما نرى يعتمد بالدرجة الأولى على نوعية المذكورين في الكتاب الواحد، فإن كتابا مثل " التذكرة " ليس فيه غير كبار الحفاظ من الممكن أن ينظم بطبقات أقل من غيره نظرا لنوعية المذكورين فيه، وكلهم أو
معظمهم من ذوي الإسناد العالي، بحيث تتباعد المدة الزمنية بين طبقة وأخرى، فيقل عدد الطبقات، وهو أمر لا يناقض مبدأ اللقيا.
أما " السير " فنوعية المترجمين فيه تشمل كل رجال " التذكرة " تقريبا مضافا إليهم من هم أقل منهم مرتبة بحيث يضطر إلى زيادة عدد الطبقات.
وطبيعي أنه ليس من المفروض أن يكون كل أحد من طبقة ما قد التقى
__________
(1) انظر تفاصيل موسعة في كتابي: الذهبي ومنهجه: 282 - 302.(المقدمة/104)
بجميع رجال الطبقة السابقة مع إمكان التقائهم.
ومن أجل توضيح هذا الذي ذكرته عن نوعية المترجمين أشير إلى أنه من الممكن نظم جميع الرواة من الصحابة في طبقة واحدة، ولكن من الممكن تقسيم الصحابة إلى أكثر من طبقة حسب الرواية أيضا، لان الصحابي قد يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يروي عن الصحابي أيضا.
ومن الممكن إذا ذكرنا كبار التابعين أن نجعلهم طبقة واحدة، ولكن التوسع في ذكر التابعين يقضي من أجل الدقة تقسيمهم إلى أكثر من طبقة، فكبار التابعين إنما هم الذين رووا عن كبار الصحابة، وصغار التابعين هم الذين رووا عن صغار الصحابة، لعدم لحاقهم بكبار الصحابة، فضلا عن أن بعض التابعين لم يرو عن غير التابعين، وهو أمر يعرفه أهل العناية بهذا الفن الجليل.
وعليه فإن الذهبي لو أراد مثلا أن يؤلف كتابا في جميع القراء وليس في " الكبار " منهم لاضطره الأمر إلى زيادة عدد الطبقات، وهم جرا.
وبهذا يتضح أن كل مترجم إنما تتحدد طبقته حسب الكتاب المذكور فيه وأننا لا يمكن أن نجد توزيعا موحدا للمترجمين في جميع كتب الذهبي المرتبة على الطبقات فلا نستطيع القول: إن فلانا من أهل الطبقة الفلانية عند الذهبي، بل يصح القول: إنه من أهل الطبقة الفلانية في الكتاب الفلاني.
فإذا كان الأمر كذلك، فمن البداهة أن لا نجد تقسيما موحدا للطبقات عند المؤلفين المسلمين، فمكحول - مثلا - في الطبقة الثالثة من أهل الشام عند ابن سعد (1) ، بينما هو في الطبقة الثانية عند خليفة (2) ، وفي الطبقة الرابعة عند الذهبي في " التذكرة " (3) ، وهو من أهل الطبقة الخامسة عند ابن حجر في
__________
(1) الطبقات: 7 / 453
(2) طبقات خليفة: 310 (ط. العمري)
(3) التذكرة: 1 / 107(المقدمة/105)
" التقريب " (1) .
لقد اخترع المحدثون التنظيم على الطبقات لخدمة دراسة الحديث النبوي الشريف ومعرفة إسناد الحديث ونقده، فهو الذي يؤدي إلى معرفة فيما إذا كان الإسناد متصلا، أو ما في السند من إرسال (2) أو انقطاع (3) أو عضل (4) أو تدليس (5) ، أو اتفاق في الأسماء مع اختلاف في الطبقة (6) .
وكان نظام الطبقات على غاية من الأهمية في العصور الأولى التي لم يعتن المؤلفون فيها بضبط مواليد الرواة ووفياتهم إنما كانت تحدد طبقاتهم بمعرفة شيوخهم والرواة عنهم.
على أن من أكبر عيوب التنظيم على الطبقات صعوبة العثور على الترجمة لغير المتمرسين بهذا الفن تمرسا جيدا، فضلا عن عدم وجود تقسيم موحد للطبقة عند المؤلفين.
وحينما توفرت للمؤلفين مادة كافية لضبط تاريخ المواليد والوفيات ازداد عدد المؤلفين الذين ينظمون كتبهم الرجالية على الوفيات، أو على حروف المعجم.
وقد كان من جملة انتقادات أبي الحجاج المزي للحافظ عبد الغني المقدسي في تنظيمه لكتابه " الكمال في أسماء الرجال " أنه أفرد تراجم الصحابة عن بقية التراجم المذكورة في كتابه، قال: " وقد كان صاحب الكتاب رحمه الله ابتدأ بذكر الصحابة، أولا الرجال منهم والنساء على حدة، ثم ذكر من بعدهم على حدة، فرأينا ذكر الجميع
__________
(1) التقريب: 2 / 273.
(2) المرسل: ما رواه التابعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(3) المنقطع: أن يسقط من السند رجل ليس بصحابي.
(4) المعضل: ما سقط من إسناده اثنان أو أكثر على التوالي.
(5) المدلس: هو الذي يروي عمن لقيه أحاديث لم يسمعها منه، أو عمن عاصره ولم يلقه موهما أنه سمعه منه.
(6) وذلك كثير فيعرف الشخص من طبقته وشيوخه.(المقدمة/106)
على نسق واحد أولى، لان الصحابي ربما روى عن صحابي آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيظنه من لا خبرة له تابعيا فيطلبه في أسماء التابعين فلا يجده، وربما روى التابعي حديثا مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيظنه من لا خبرة له صحابيا فيطلبه في أسماء الصحابة فلا يجده، وربما تكرر ذكر الصحابي في أسماء الصحابة وفيمن بعدهم، وربما ذكر الصحابي الراوي عن غير النبي صلى الله عليه وسلم في غير الصحابة، وربما ذكر التابعي المرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحابة، فإذا ذكر الجميع على نسق واحد، زال ذلك المحذور، وذكر في ترجمة كل إنسان منهم ما يكشف عن حاله إن كان صحابيا أو غير صحابي (1) "، لذلك رتب المزي الرجال في كتابه على حروف المعجم وصعد في الترتيب إلى آبائهم وأجدادهم، ثم رتب النساء على ذلك النسق أيضا (2) .
وفائدة التنظيم على الطبقات إنما تظهر في العصور الإسلامية الأولى كما ذكرت، وكلما مضى الزمن بالكتاب صرنا لا نشعر بوجود الطبقة شعورا واضحا، لذلك وجدنا في " سير أعلام النبلاء " نوعا من التسلسل الزمني في الأقسام التي تلت تلك الأعصر الأولى، فضلا عن وجود عدد ليس بالقليل من التراجم التي لا علاقة لأصحابها بالرواية أو العلم فضلا عن اللقيا، مثل الملوك والوزراء والخلفاء والسلاطين والأطباء والشعراء ونحوهم، ولكن مفهوم الذهبي للتاريخ، وتكوينه الفكري المتصل بالحديث والمحدثين جعله يتمسك بهذا التنظيم إلى آخر الكتاب بالرغم من عدم جدواه في القرون المتأخرة ودخول غير أهل الرواية في الكتاب.
__________
(1) انظر المجلد الأول من تهذيب الكمال بتحقيقنا (منشورات مؤسسة الرسالة) .
(2) وقد وجدنا العلماء المتأخرين يعنون بإعادة تنظيم كتب الطبقات على حروف المعجم كما فعل نور الدين الهيثمي في إعادة ترتيب " ثقات " ابن حبان، وغيره.(المقدمة/107)
إن نظرة واحدة للتراجم المذكورة في المجلد الثالث عشر مثلا تشير إلى نوع من التسلسل في ذكر المترجمين حسب وفياتهم، وإن لم يكن ذلك بالدقة التي رتبت فيها الكتب المؤلفة على السنين.
وقد وجدنا الذهبي في " السير " كثيرا ما يجمع تراجم الأقرباء في مكان واحد، ولا سيما الإخوة والآباء والأبناء، وهو بعمله هذا إنما راعى الوحدة التاريخية، لكنه في الوقت نفسه كان على حساب " الطبقة " والزمان.
فحينما ترجم الذهبي لعاقل بن البكير أحد شهداء بدر أتبعه بتراجم إخوته الثلاثة: خالد بن البكير الذي استشهد يوم الرجيع سنة أربع، وإياس بن البكير المتوفى سنة 34 هـ، وعامر الذي استشهد يوم اليمامة.
وحينما ترجم لأبي جندل بن سهيل ترجم بعد ذلك لأخيه عبد الله بن سهيل، ثم لأبيهما سهيل بن عمرو، وحينما ترجم لأبي الحارث نوفل بن الحارث، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ترجم أيضا لابنه الحارث بن نوفل، ثم لابن ابنه: عبد الله ابن الحارث بن نوفل، ثم لابن ابن ابنه: عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، وأتبعهم بعد ذلك بأخويه: سعيد بن الحارث وأبي سفيان بن الحارث، ثم ولد الأخير جعفر بن أبي سفيان بن الحارث.
وهذا الذي ذكرته عن الجمع بين الأقرباء وتجاوز الطبقة منهج سار عليه الذهبي في جميع الكتاب، وإن لم يلتزم به دائما، وقد وجدناه في الأقسام الأخيرة من كتابه يتبع هذا النهج، ففي الطبقة الثلاثين ترجم لأبي العلاء الهمذاني المتوفى سنة 569 هـ، ثم أتبعه بابنه محمد بن الحسن المتوفى سنة 605 وهو من أهل الطبقة التي بعدها.
وترجم لكمال الدين ابن الشهرزوري المتوفى سنة 572 هـ ذكر والده الملقب بالمرتضى المتوفى سنة 511 هـ وهو من أهل طبقة سابقة.
وترجم في الطبقة الثلاثين لقوام الدين أبي المحامد حماد(المقدمة/108)
ابن إبراهيم الصفاري المتوفى سنة 576 هـ، ثم ذكر والده ركن الدين الذي بقي إلى سنة 532 هـ، كما ذكر جده إسماعيل بن إسحاق الذي بقي إلى حدود سنة 500 هـ.
وترجم لأبي المواهب ابن صصرى المتوفى سنة 586 هـ، وأتبعه بترجمة أبيه أبي البركات ابن صصرى المتوفى سنة 573 هـ ثم ترجمة جده محفوظ المتوفى سنة 545 هـ.
وحينما ترجم للسلطان الهمام صلاح الدين يوسف المتوفى سنة 589 هـ ترجم معه لأبنائه: العزيز المتوفى سنة 595 هـ، والظاهر المتوفى سنة 613 هـ، والأفضل المتوفى سنة 622 هـ وهلم جرا
خامسا - طبيعة تراجم " السير " وأسس انتقائها:
عرفنا من دراستنا لسيرة الذهبي أنه كان عالما، واسع الاطلاع، غزير المعارف ولا سيما في التراجم، وهو الحقل الذي ألف فيه مجموعة من الكتب وبرع فيه البراعة التي جعلت العلماء يجمعون على أنه " مؤرخ الإسلام "، وألف كتابه العظيم " تاريخ الإسلام " الذي احتوى على قرابة أربعين ألف ترجمة، وبذلك كانت لديه حصيلة ضخمة من التراجم كان عليه أن ينتقي منها ما يراه مناسبا لكتابه " السير "، فهل كانت لديه خطة معينة سار عليها في ذلك؟ والجواب: إن دراستنا للكتاب تبين أنه سار وفق خطة مرسومة في الانتقاء، سواء أكان ذلك في انتقاء التراجم أم في انتقاء المادة المذكورة في كل ترجمة، وقد انطلق في كل ذلك من ميزانه الذي وزن به المترجم من جهة، والأخبار التي تجمعت لديه عنه من جهة أخرى، وهو في كل ذلك إنما يصدر عن مفهومه المعين لفائدة كتاب من مثل " السير ".
ولعلنا نستطيع فيما يأتي أن نتبين أسس انتقاء التراجم:
1- العلمية: كان الذهبي قد أورد في " تاريخ الإسلام " جميع المشاهير والأعلام، ولم(المقدمة/109)
يورد المغمورين والمجهولين، بعرف أهل الفن في كل عصر لا بعرفنا نحن، إذ لا ريب في أن هناك آلافا من التراجم التي ذكرها لم يسمع بها كثير من المتخصصين في عصرنا.
أما في " السير " فإنه اقتصر فيه على ذكر " الأعلام "، وأسقط المشهورين.
وقد استعمل الذهبي لفظ " الأعلام (1) ليدل على المشهورين جدا بعرفه هو لا بعرف غيره، ذلك أن مفهوم " العلم " يختلف عند مؤلف وآخر استنادا إلى عمق ثقافته ونظرته إلى البراعة في علم من العلوم، أو فن من الفنون، أو عمل من الأعمال، أو أي شيء آخر، لذلك وجدنا أن سعة ثقافة الذهبي، وعظيم اطلاعه، وكثرة معاناته ودربته بهذا الفن قد أدت إلى توسيع هذا المفهوم بحيث صرنا نجد تراجم في " السير " مما لا نجده في كتب تناولت المشهورين، مثل " المنتظم " لابن الجوزي، و " الكامل " لابن الأثير، و " البداية " لابن كثير، و " عقد الجمان " لبدر الدين العيني، وغيرها.
2- الشمول النوعي: ولم يقتصر الذهبي في " السير " على نوع معين من " الأعلام " بل تنوعت تراجمه فشملت كثيرا من فئات الناس، من الخلفاء، والملوك، والأمراء والسلاطين، والوزراء، والنقباء، والقضاة، والقراء، والمحدثين، والفقهاء، والأدباء، واللغويين، والنحاة، والشعراء، وأرباب الملل والنحل والمتكلمين والفلاسفة، ومجموعة من المعنيين بالعلوم الصرفة.
ومع أن المؤلف قصد أن يكون " السير " شاملا لجميع " أعلام " الناس، إلا أننا وجدناه يؤثر المحدثين على غيرهم، لذلك جاءت الغالبية العظمى من
__________
(1) كانت تراجم الأعلام في تاريخ الإسلام أوسع من تراجم المشهورين، وقد أشار الذهبي في تراجمهم من هذا التاريخ بلفظة " أحد الأعلام " انظر على سبيل المثال الأعلام في الجزء الخامس من تاريخ الإسلام، ص: 44، 68، 69، 89، 98، 116، 121، 128، 136، 152، 155، 179، 184، 228، 233، 257..الخ.(المقدمة/110)
المترجمين من أهل العناية بالحديث النبوي الشريف رواية ودراية، وهي فيما نرى ظاهرة طبيعية لما عرفنا من تربية الذهبي ونشأته الحديثية، وحبه لرواية الحديث وشغفه به، ذلك الشغف العظيم الذي ملك عليه قلبه، فهو من صنفهم واسع المعرفة بهم، عظيم الإكبار لهم، شديد الكلف بهم، فضلا عن أن المحدثين هم من أكثر الفئات التي عنيت بالرواية نظرا للأهمية البالغة التي
يحتلها الحديث الشريف في الحياة الإسلامية، ولذلك فإن دراسة أحوال نقلة الحديث وبيان مواليد هم ووفياتهم وآراء العلماء فيهم وشيوخهم والرواة عنهم ونحو ذلك، من الأمور التي تقوم عليها دراسة الأسانيد، ثم معرفة صحيح الحديث من سقيمه.
3- الشمول المكاني: وقد عمل المؤلف أن يكون كتابه شاملا لتراجم الأعلام من كافة أنحاء العالم الإسلامي من الأندلس غربا إلى أقصى المشرق، وهو شمول قل وجوده في كثير من الكتب العامة التي تناولت تراجم المسلمين، إذ كثيرا ما كانت مثل تلك الكتب تعنى بإيراد تراجم أعلام بلدها أو منطقتها، فابن الجوزي في " المنتظم " مثلا عني بتراجم البغداديين عناية فاقت غيرهم من علماء وأعلام البلدان الأخرى مع أنه أراد لكتابه أن يكون عاما شاملا، ولم يعن كثير من المؤلفين المشارقة الذين ألفوا في التراجم العامة بتراجم المغاربة والأندلسيين (1) ، كما لم يعن كثير من المؤلفين المغاربة والأندلسيين بتراجم المشارقة عنايتهم بتراجم أهل بلدهم، بينما نجد نوعا جيدا من التوازن
__________
(1) ألف زكي الدين المنذري " التكملة لوفيات النقلة " ليكون كتابا عاما في " النقلة " لكل العالم الإسلامي، لكننا وجدناه يقصر تقصيرا كبيرا في تراجم الأندلسيين والمغاربة (انظر كتابنا: المنذري وكتابه التكملة: 238 فما بعد النجف 1968) .(المقدمة/111)
في كتاب " السير " يقل نظيره في الكتب التي من بابته، وهو منهج سار عليه الذهبي في كثير من كتبه ولا سيما في كتابه الكبير " تاريخ الإسلام "، مما يشير إلى شمول نظرته، واتساع اطلاعه على المؤلفات في هذا الفن في كل منطقة، من مناطق العالم الإسلامي وصلته بها.
4 - التوازن الزماني: حاول الذهبي في هذا الكتاب أن يوازن في عدد الأعلام الذين يذكرهم على امتداد المدة الزمنية الطويلة التي استغرقها الكتاب والبالغة سبعة قرون، فلم نجد عنده تفضيلا لعصر على آخر في هذا المجال.
ومع أننا نجد تفاوتا في عدد المترجمين بين طبقة وأخرى، لكننا لو نظمنا الكتاب على وفيات المترجمين ونظرنا إلى عدد المذكورين في كل سنة لوجدنا نوعا من التناسق في عدد المذكورين في كل سنة.
نعم، قد نجد كثيرا من السنوات مما يخرج عن هذا القول لكن هذا لا يناقض المسار العام الذي أشرنا إليه، بسبب وفاة عدد من الأعلام في بعض هذه السنوات لعوامل كثيرة منها الأوبئة والحروب وغيرها.
5 - طول التراجم وقصرها: وجد الذهبي، بسبب سعة اطلاعة وتمكنه العظيم في الرجال، مادة وفيرة احتوتها مئات الموارد التراجمية، يساعده على ذلك سعة النطاق الزماني لكتابه الذي يمتد من أول تاريخ الإسلام حتى نهاية المئة السابعة، والنطاق المكاني الذي يشمل العالم الإسلامي كله.
وقد رأينا قبل قليل كيف استطاع أن يحدد نوعية المترجمين باختيار الأعلام منهم، إلا أن ما يبدو أكثر أهمية هو أن هؤلاء الأعلام تتوفر عنهم عند مثل هذا المؤلف الواسع الاطلاع كمية(المقدمة/112)
عظيمة من المادة التاريخية التي لا بد أن ينتقي منها ما يتفق وخطته في صياغة الترجمة من أجل أن لا يتضخم الكتاب أزيد من هذا التضخم الكبير الذي قدره له.
من هذا الذي ذكرت اجتهد الذهبي أن يقدم ترجمة كاملة ومختصرة في الوقت نفسه لا تؤثر فيها كمية المعلومات التي تتوافر لديه، فتخرجه عن خطته العامة.
وقد تمكن الذهبي أن يتخلص من مثل تلك المادة الضخمة التي تحصلت لديه عن بعض كبار الأعلام بإحالة القارئ إلى مصادر أوسع تناولت ذلك العلم بتفصيل أكثر مما ذكره هو في بعض جوانب الترجمة، نحو قوله في ترجمة عكرمة بن أبي جهل: " استوعب أخباره أبو القاسم بن عساكر "، وقوله في ترجمة يزيد بن أبي سفيان: " له ترجمة طويلة في تاريخ الحافظ أبي القاسم "، وقوله في ترجمة بلال بن رباح: " ومناقبه جمة استوفاها الحافظ ابن عساكر "، وقوله في ترجمة الكمال ابن الأنباري بعد أن ذكر عددا من تصانيفه: " وسرد له ابن النجار تصانيف جمة "، والأمثلة كثيرة.
ومع هذا الذي ذكرت فإن طول التراجم وقصرها في " السير " من الأمور الواضحة لمطالع الكتاب، فقد نجد ترجمة لا تزيد على بضعة أسطر، بينما نجد ترجمة أخرى قد تبلغ صفحات عديدة.
وقد انتقده تلميذه التاج السبكي المتوفى سنة 771 هـ على خطته في تطويل التراجم وتقصيرها في كتبه التاريخية وعد ذلك من باب التعصب والهوى العقائدي (1) .
إلا أن دراساتنا لهذه المسألة توضح أن السبكي قد بالغ في نقده بسبب من تعصبه الشديد للأشاعرة، وتبين لنا أن الذهبي راعى في أكثر الأحايين قيمة الإنسان وشهرته بين أهل علمه، أو مكانته بين الذين هم من بابته سواء أكان متفقا معه في
__________
(1) انظر الطبقات الكبرى: 2 / 23 - 24.
سير 1 / 8(المقدمة/113)
العقيدة أم مخالفا، فنراه مثلا يطول في تراجم الشعراء البارزين، أو كبار النحويين، أو أعلام الصوفية، أو كبار الخلفاء والملوك والسلاطين، وقد ترجم للشهاب السهروردي المقتول سنة 587 هـ ترجمة طويلة باعتباره " العلامة الفيلسوف السماوي المنطقي..من كان يتوقد ذكاء، مع قوله " إنه قليل الدين " وأن مصنفاته " سائرها ليست من علوم الإسلام " وأن الذين أفتوا بقتله " أحسنوا وأصابوا " (1) ، وترجم ترجمة حافلة لراشد الدين سنان صاحب الدعوة النزارية الذي كان في رأيه: " سخط وبلاء " (2) ، وأمثلة ذلك في " السير " كثيرة لا نرى كبير فائدة في إيراد المزيد منها.
ومع أن الذهبي كان عظيم الاهتمام بالمحدثين، مكبرا لهم، شديد الكلف بهم، إلا أننا وجدناه يترجم لهم تراجم قصيرة عموما إذا استثنينا بعض كبار أعلامهم مقارنة بكثير من التراجم الطويلة التي خص بها بعض الشعراء والصوفية والمتكلمين والفلاسفة.
على أن هذا الذي قلته لا يعني أنه لم يتأثر إطلاقا بعقيدته وآرائه ونظرته إلى العلوم في فهم المترجمين وتطويل تراجمهم أو تقصيرها، فهذا أمر يجانب الطبيعة البشرية، وهو موجود عند جميع المؤرخين، لكننا نشير إلى محاولاته الجدية في الموازنة، وإلى أنه لم يفعل ذلك عن هوى وتقصد، إنما انطلق من تكوينه الفكري الذي كان يحدد أهمية " العلم " في خدمة الإسلام، أو الإضرار به، فكان ينطلق ليبين هذا أو ذاك فتطول التراجم.
إن تقدير الإمام الذهبي للعلم الذي يترجم له ويطول في ترجمته بسبب المكانة التي يحتلها هي التي دفعت به إلى تخصيص مجلد كامل للسيرة النبوية الشريفة، فسيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هي المثل الأعلى الذي يحتذيه
__________
(1) سير أعلام النبلاء: 21 / الترجمة 99 (بتحقيقنا) .
(2) السير: 21 / الترجمة: 90.(المقدمة/114)
المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها فضلا عن الأحكام المستفادة منها.
وهذا الأمر هو الذي أدى به إلى تخصيص مجلد كامل عن سير الخلفاء الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم لما تمثله من قدوة للمسلمين، ولما يستفاد من دراستها في شتى مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية ولما تحتله من المكانة في بناء الإنسان المسلم.
سادسا - صياغة تراجم " السير " وعناصرها:
تختلف المادة الموجودة في ترجمة ما من تراجم " السير " عن الأخرى حسب طبيعة المترجم له وقيمته العلمية أو الأدبية أو مكانته السياسية من جهة، وتتوحد في الأسس العامة لمكونات الترجمة من جهة أخرى.
ولا نجد تناقضا في ذلك، فالذهبي يعنى في معظم التراجم بذكر اسم المترجم ونسبه، ولقبه وكنيته ونسبته، ثم مولده أو ما يدل على عمره (1) ، ونشأته ودراسته وأخذه عن الشيوخ الذين التقى بهم وروى عنهم، وأفاد منهم، ثم تلامذته الذين أخذوا عنه وانتفعوا يعلمه، وتخرجوا به، وما خلف من آثار علمية أو أدبية أو اجتماعية، ويبين بعد ذلك منزلته العلمية وعقيدته من خلال أقاويل العلماء الثقات فيه جرحا وتعديلا ممن كان وثيق الصلة به، ثم غالبا ما ينهي الترجمة بتحديد تاريخ وفاة المترجم ويدقق في ذلك تدقيقا بارعا.
والمؤلف في الوقت نفسه يذكر في كل ترجمة أمورا متفرقة تتصل بطبيعتها، فهو يعنى مثلا بإيراد أعمال
__________
(1) لقد اعتنى الذهبي بذكر الولادات جهد طاقته فذكرها دائما حينما توفرت له لما لذلك من أهميته كبيرة في الاطمئنان على لقاء المترجم لمشايخه وسماعاته عليهم أو إجازاته منهم.
وكان المحدثون يعنون بتتبع المواليد ويسألون الشيخ عن مولده قبل السماع منه أو الأخذ عنه، فإذا ما وجدوا له رواية قبل هذا التاريخ أو في سن لا تحتمل السماع حكموا بكذبه في هذه الرواية.(المقدمة/115)
الخلفاء والملوك والأمراء والمتولين في تراجمهم، ويركز عنايته على ما قاموا به من نشر عدل أو بث ظلم أو سفك دماء.
وهو يعنى بإيراد نماذج من شعر الشعراء ومختارات من نثر الأدباء، وأقوال للمتفلسفين وأرباب المقالات بما ينبئ عن حسن عقيدتهم أو سوئها ونحو ذلك.
والذهبي له أسلوبه المتميز في صياغة التراجم، وأساليب عرضها يختلف من الموارد التي ينقل منها، وقد دفعه هذا الأمر في أغلب الأحيان إلى إعادة صياغة المادة التاريخية المنقولة عن المؤلفات السابقة بأسلوبه الخاص، ولم ير في ذلك ضيرا طالما قد توخى الدقة والأمانة في نقل معاني الأقوال، لا سيما تلك التي لا تؤثر في قيمتها إعادة الصياغة مثل تاريخ وفاة، أو ميلاد، أو قيام بعمل ما، أو اختصار في أسماء الشيوخ ونحو ذلك، وقد بلغ الأمر به حدا أنه أعاد تركيب الترجمة في كثير من المواضع التي اعتمد فيها مصدرا واحدا.
ولكنه ألزم نفسه في الوقت نفسه بنقل النصوص بألفاظها في الحالات التي تستحق ذلك.
وتتطلبها، مثل أقوال العلماء في الجرح والتعديل، ونصوص الكتب والتوقيعات التي أوردها في " السير "، والقطع النثرية، والقصائد الشعرية، والمناقشات بين العلماء، فضلا عن الروايات المسندة، ونصوص الأحاديث النبوية الشريفة.
أما إذا انتقى من النص أو لخصه، فإنه يشير إلى ذلك للأمانة العلمية من جهة وبما يدفع عنه تهمة التلاعب به من جهة أخرى.
أما أسلوبه الأدبي في عرض الترجمة، فقد تميز بالطراوة والحبك.
ولم يعن بالصنعة البيانية وتزويق الألفاظ مثل غيره من معاصريه وتلامذته، كابن سيد الناس اليعمري وتاج الدين السبكي وصلاح الدين الصفدي وغيرهم.
وهذا أمر طبيعي فيما نرى، لان للكلمة مكانتها عند الذهبي، وهو الناقد الذي يختار(المقدمة/116)
العبارة المناسبة للتعبير عما يريد بدقة وأمانة، ويصف المترجم بالعبارة التي تزنه جرحا أو تعديلا، فهو أسلوب علمي قبل كل شيء.
ومن الواضح لكل ذي بصيرة أنه لا يمكن وصف المترجمين بشكل متقن عند اتباع أسلوب الصنعة البلاغية الذي يتجلى فيه العناية بالأسلوب على حساب دقة المعاني ودلالات الألفاظ.
وقد عرفنا من سيرة الذهبي ومكانته العلمية أنه قد حصل طرفا صالحا من العربية في نحوها وصرفها وآدابها، كما أنه عني عناية كبيرة في مطلع حياته بالقراءات التي تقوم في أساسها على علم تام بالعربية، وقد تعاطى الشعر، فنظم اليسير منه، وأورد من شعر غيره جملة كبيرة في هذا الكتاب وغيره من كتبه.
لكل ذلك أصبحت لغته قوية جدا بحيث يصعب أن نجد في كتابه لحنا أو غلطا لغويا، أو استعمالا عاميا، فإذا كان النادر من ذلك، فإنه من سهو القلم، أو الذهول، أو بعض ما يغلط فيه الخواص، وليس ذاك بشيء.
وقد أدت دراساته لعدد ضخم من المؤلفات التاريخية والأدبية والحديثية واشتهاره بقوة الحافظة إلى وقوفه على أساليب عدد كبير من الكتاب والمؤلفين على مدى عصور طويلة تنوعت أساليب الكتابة فيها، فأكسبه كل ذلك خبرة أدبية قوية، وملكة جيدة على التعبير.
إن معرفة اللغة العربية معرفة جيدة والتمتع بالأسلوب الرصين من العوامل المهمة التي تخرج ترجمة جيدة ينتفع بها، والقول بأن المعني بعلم التراجم لا يحتاج كل هذه المعرفة قول فاسد، وقد أشار شيخ الذهبي ورفيقه الحافظ أبو الحجاج المزي في نهاية تقديمه لكتابه العظيم " تهذيب الكمال " إلى هذه الضرورة فقال: " وينبغي للناظر في كتابنا هذا أن يكون قد حصل طرفا صالحا(المقدمة/117)
من علم العربية نحوها ولغتها وتصريفها، ومن علم الأصول والفروع، ومن علم الحديث والتواريخ وأيام الناس، فإنه إذا كان كذلك، كثر انتفاعه به وتمكن من معرفة صحيح الحديث وضعيفه وذلك خصوصية المحدث التي من نالها وقام بشرائطها ساد أهل زمانه في هذا العلم، وحشر يوم القيامة تحت اللواء المحمدي إن شاء الله تعالى (1) .
سابعا - المنهج النقدي:
كان الإمام الذهبي من المعنيين بالنقد كل العناية بحيث صار يحتل مكانا بارزا في كتبه، وألف الكتب النافعة الخاصة به، ولذلك وجدناه عظيم الاهتمام به في كتبه، ومنها كتابه النفيس " سير أعلام النبلاء " مارسه في كل مادته، واعتبره جزءا أساسيا من منهجه في تأليف الكتاب.
والذهبي إنما ينطلق في هذه العناية وذاك الاهتمام من تكوينه الفكري المتصل بدراسة الحديث النبوي الشريف وروايته وداريته، والذي يؤكد ضرورة تبيين أحوال الرواة، ودرجة الوثوق بهم بتمييز الصادقين منهم عن الكاذبين، فسحبه بعد ذلك على جميع كتابه، سواء أكان ذلك في تراجم المحدثين، أم في تراجم غيرهم وسواء أكانوا من المتقدمين، أم من المتأخرين.
والحق أن المحدثين اخترعوا مناهج للبحث العلمي تعد من أرقي المناهج العلمية التي لم يعرفها الأوربيون إلا في عصور متأخرة جدا.
وقد انتفع بها المؤلفون في الفنون والعلوم الأخرى، منهم: المؤرخون واللغويون والأدباء والفقهاء وغيرهم (2) .
__________
(1) انظر مقدمة تهذيب الكمال، بتحقيقنا.
(2) انظر ما كتبناه عن " أثر دراسة الحديث في تطور الفكر العربي " في كتاب " رحلة في الفكر والتراث " بغداد: 1980.(المقدمة/118)
وقد اعتنى الذهبي في " السير " بكل أنواع النقد، فلم يقتصر على مجال واحد من مجالاته، فقد عني بنقد المترجمين، وتبيان أحوالهم، وأصدر أحكاما وتقويمات تاريخية، وانتقد الموارد التي نقل منها، ونبه إلى أوهام مؤلفيها، وبرع في إصدار الأحكام على الأحاديث إسنادا ومتنا، وسحب ذلك على الروايات التاريخية.
1 - نقد المترجمين:
يقوم نقد المترجم عند الذهبي عادة على إصدار حكم في الرجل وتبيان حاله جرحا أو تعديلا، ويكون ذلك في الأغلب بإيراد آراء الثقات المعاصرين فيه وأحكامهم على وانطباعاتهم الشخصية عنه مما تحصل لديهم نتيجة لصلتهم به، ومعرفتهم بعلمه وسيرته.
وفي مثل هذه الحال قد يكتفي بآرائهم، أو يرد عليها، أو يرجح رأيا منها، وتكون نتيجة التعديل أو التجريح إصدار أحكام بعبارات فنية لها دلالاتها الدقيقة جدا نحو " ثقة " و " صدق "، و " وصويلح "، و " دجال "، و " متروك "، و " كذاب "، و " مجهول "، وما إلى ذلك مما فصله في مقدمة كتابه النفيس " ميزان الاعتدال ".
وكانت الغاية الأساسية من نشوء هذا النقد هو تبيان أحوال رجال الحديث لمعرفة صحيح الحديث من سقيمه، لكننا وجدنا الذهبي في الوقت نفسه يسحبه على معظم المترجمين في كتابه هذا وغيره من الكتب وإن لم يكونوا من المحدثين، بل سحبه إلى مترجمين لا علاقة لهم بالرواية أيا كانت.
وقد أدى هذا الأمر إلى اعتراض بعض معاصريه عليه في عنايته الكبيرة باعتبار أن الدواعي التي دعت إلى قيام النقد عند المتقدمين هي الوصول إلى
تصحيح الحديث النبوي الشريف، وأن الحديث قد استقر في الكتب الرئيسة(المقدمة/119)
فما عادت هناك من حاجة إليه، وأن فائدته قد انقطعت منذ مطلع القرن الرابع الهجري (1) ، كما أخذ عليه بعضهم نقده لغير الرواة واعتبروا أن ذلك لا فائدة فيه وأنه محض غيبة (2) .
وقد أثارت هذه القضية نقاشا بين العلماء فيما بعد، ولا حظنا أن العلماء المسلمين، ومنهم السخاوي، قد سوغوا استعمال النقد في غير مجال الرواة بالفائدة المتوخاة منه للنصيحة ودفع الضرر (3) .
لكننا لاحظنا في هذا التفسير سذاجة، وآية ذلك أنه قد يصح في حالة نقد المعاصرين من غير الرواة، فكيف نفسر نقد الرواة المتأخرين، وكيف نفسر استمرار الذهبي وغيره في نقد السابقين وتأليف الكتب الخاصة بالجرح والتعديل إن كانوا يعتقدون بانقطاع الفائدة؟ الحق أن مثل هذا الأمر لا يفسر بالسذاجة التي ناقشوها، فإن هناك عوامل أكثر عمقا دفعت الإمام الذهبي إلى مثل هذه العناية لعل من أبرزها:
أ - استمرار العناية بالرواية في العصور التالية لظهور دواوين الإسلام في الحديث، وبعض المجاميع الحديثية الأخرى، بل ازدادوا عناية بها تقليدا للسابقين من جهة، وتدينا وحبا بالحديث من جهة أخرى، ولأنها صارت جزءا من الحركة التعليمية والفكرية عند المسلمين من جهة ثالثة.
وهذا يعني استمرار الإسناد ومن ثم ضرورة استمرار النقد في كل عصر لتبيان أحوال الرواة.
ومع أن الإمام الذهبي ركز في كتابه " الميزان " على الرواة القدماء،
__________
(1) ممن صرح بهذا أبو عمر ومحمد بن عثمان الغرناطي المعروف بابن المرابط المتوفى سنة 752 هـ (انظر الإعلان للسخاوي: 460، 470، 474) .
(2) السبكي: طبقات الشافعية: 2 / 14.
(3) الإعلان: 462 461.(المقدمة/120)
واعتبر مطلع القرن الرابع الهجري هو الحد الفاصل بين المتقدم والمتأخر، وأنه لو فتح على نفسه تناول المتأخرين لما سلم معه إلا القليل (1) ، إلا أنه فتح هذا الباب في كتبه الأخرى ومنها " معجم الشيوخ " و " تاريخ الإسلام "، و " سير أعلام النبلاء " وغيرها.
ب - إن الذهبي هو الناقد العظيم الم يتقبل آراء النقاد السابقين باعتبارها مسلمات لا يمكن ردها أو الطعن فيها دائما بالرغم من احترامه الشديد للثقات منهم، ومدحه الكثير لهم، وهو بهذا اعتبر باب الاجتهاد في النقد ما زال مفتوحا، فعني به كل هذه العناية، يدل على ذلك رده لآراء كثير من كبار النقاد وعدم قبولها مثل أحمد بن صالح المصري المتوفى سنة 248 هـ، وأحمد بن عبد الله العجلي المتوفى سنة 261 هـ، وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني السعدي المتوفى سنة 259 هـ، والبرذعي المتوفى سنة 292، والنسائي المتوفى سنة 303 هـ، والعقيلي المتوفى سنة 322 هـ، وابن عدي الجرجاني المتوفى سنة 323 هـ، وابن حبان البستي المتوفى سنة 354 هـ، وأبي الفتح الأزدي المتوفى سنة 367، وابن مندة المتوفى سنة 395 هـ، والخطيب البغدادي المتوفى سنة 463 هـ، وابن عساكر المتوفى سنة 571 هـ، وابن الصلاح المتوفى سنة 643 هـ، وغيرهم مما يطول ذكرهم وتعدادهم.
ج - إن النقد أصبح جزءا من مفهومه التاريخي لذلك حاول تطبيقه في كل كتبه.
وقد أخطأ كثير ممن فسر نقده لكبار العلماء من غير الرواة، أو
الملوك، أو أرباب الولايات أو نحوهم بأنه من صنف " نقد الرجال "، بل هو حكم تاريخي كانت الغاية منه تقويم المترجم.
__________
(1) الميزان: 1 / 4.(المقدمة/121)
والحق أن الذهبي لم ينظر إلى أمثال هؤلاء بالمنظار الذي نظر به إلى الرواة وأشباههم في الأغلب، بل نظر إلى كل طائفة منهم بمنظار يختلف عن الآخر، وهي مسألة قلما انتبه إليها الباحثون، فوقعوا بآفة التعميم، وخرجوا بما ظنوا أنه حقيقة، فذكروا أن المؤرخين المسلمين المتأثرين بالحديث الشريف وعلومه نظروا إلى جميع الناس بمنظار واحد هو منظار الحديث والمحدثين.
وقد استطاع الذهبي في " السير " وغيره أن ينظر إلى كل طائفة منهم بمنظار آخر كون في الأغلب صورة لجماع رأيه في المترجم.
إن تعدد المناظير هذا جعل آراء الذهبي في المترجمين تبدو لأول وهلة متناقضة مضطربة، نحو قوله في ترجمة صدقة بن الحسين الحداد المتوفى سنة 573 هـ " العلامة..الفرضي المتكلم المتهم في دينه " (1) ، فهو هنا قد فرق بين علم الرجل ودينه، وأعطى لكل ناحية تقويما خاصا.
ومن ذلك قوله في ترجمة الشهاب السهروردي المقتول سنة 587 هـ: " العلامة الفيلسوف.
من كان يتوقد ذكاء، إلا أنه قليل الدين " ثم علق الذهبي على إفتاء علماء حلب بقتله، بقوله: " أحسنوا وأصابوا "، وأنه " كان أحمق طياشا منحلا (2) "، ومثل هذا كثير.
وهذا الاختلاف في المناظير وتعددها عند الذهبي جعله يراعي في كل طائفة صفات معينة بصرف النظر عن اتفاقه أو اختلافه معهم، فكان ينظر إلى الخلفاء والملوك والوزراء وأرباب الولايات مثلا من زاوية الحزم والدهاء،
والقوة والضعف، والسياسة، والظلم والعدل، وحب العلم والعلماء ونحوها،
__________
(1) السير: 21 / الترجمة: 21.
(2) السير: 21 / الترجمة: 99.(المقدمة/122)
مثل قوله في ترجمة قايماز مولى المستنجد " كان سمحا كريما.
قليل الظلم " (1) ، وقوله في ابن غانية: " الأمير المجاهد " (2) ، وقوله في مجد الدين ابن الصاحب: " وكان قد تمرد وسفك الدماء وسب الصحابة وعزم على قلب الدولة فقصمه الله " (3) ، وقوله في الملك المظفر تقي الدين عمر صاحب حماة: " كان بطلا شجاعا مقداما جوادا ممدحا له مواقف مشهودة مع عمه السلطان صلاح الدين " (4) ، وغير ذلك كثير (5) .
أما العلماء فكان يراعي فيهم البراعة والمعرفة في العلم الذي تخصصوا فيه، ومن ذلك مثلا الشعراء، فإنه نظر إلى إبداعهم وجودة شعرهم فقومهم استنادا إلى ذلك (6) .
ثم كثيرا ما نجده يقوم بعض المترجمين بعد دراسة بعض كتبهم، ويبين قيمتها العلمية بين الكتب التي من بابتها.
2- نقد الأحاديث والروايات:
أكثر الإمام الذهبي من إيراد الأحاديث النبوية الشريفة في كتبه التاريخية وغيرها، ومنها كتابه " سير أعلام النبلاء ".
وقد عني دائما بالتعليق على هذه الأحاديث من حيث الإسناد والمتن ما استطاع إلى ذلك سبيلا، قال تلميذه
__________
(1) السير: 21 / الترجمة: 20.
(2) السير: 21 / الترجمة: 23.
(3) السير: 21 / الترجمة: 79.
(4) السير: 21 / الترجمة: 97.
(5) انظر مثلا لا حصرا بعض تراجم المجلد الحادي والعشرين من السير: 11، 18، 25، 80، 100، 119..الخ.
(6) انظر مثلا: 21 / التراجم: 14، 24، 63، 84، 85، 101، 102..الخ.(المقدمة/123)
الصلاح الصفدي: " وأعجبني منه ما يعانيه في تصانيفه من أنه لا يتعدى حديثا يورده حتى يبين ما فيه من ضعف متن أو ظلام إسناد، أو طعن في رواته، وهذا لم أر غيره يراعي هذه الفائدة فيما يورده " (1) .
وقد انتقد الإمام الذهبي الحافظين: أبا نعيم الأصبهاني والخطيب البغدادي، وذنبهما بروايتهما الموضوعات في كتبهما وسكوتهما عنها (2) .
ثم وجدنا الذهبي بعد ذلك يسحب هذا النقد الحديثي ويطبقه على الروايات التاريخية والأدبية ونحوها، وبذلك تحصلت في هذا الكتاب ثروة نقدية على غاية من الضخامة، ويلمسها كل من يطالع الكتاب، أو يتصفحه لا سيما في مجلداته الأولى.
وقد وجدنا الذهبي بعد ذلك لا يقتصر على أسلوب واحد في النقد، بل يتوسل بكل ممكن يوصله إلى الحقيقة، فنقد السند والمتن، واستعمل عقله في رد كثير من الروايات.
أ - نقد السند: ويكون هذا النقد عادة بتضعيف السند بسبب الكلام في أحد من رواته أو أكثر، أو تقويته استنادا إلى مقاييس المحدثين، ويحكم عليه وفقا لذلك ويستعمل التعبيرات الفنية الدالة على قولة الإسناد أو تقويته نحو قوله (3) .
" إسناده صالح "، و " إسناده جيد "، و " رواته ثقات "، و " له علة غير مؤثرة "، أو العبارات الدالة على ضعف الإسناد أو تضعيفه نحو قوله: " إسناده ليس بقوي "، و " في إسناده لين "، و " فيه انقطاع "، و " إسناده ضعيف "، و " إسناده
__________
(1) الوافي: 2 / 163.
(2) الميزان: 1 / 111.
(3) أمثلة ذلك مبثوثة في جميع الكتاب ولم نر كثير فائدة في إيراد أماكن وجودها حيث يستطيع القارئ الوقوف على مئات من ذلك بمجرد تصفحه للكتاب.(المقدمة/124)
واه "، و " إسناده مظلم "، وهلم جرا.
أو يبين سبب ضعف السند بتعيين أحد رواته أو ما يشبه ذلك نحو قوله في إسناد فيه داود بن عطاء " وداود ضعيف " (1) ، وقوله عن سند فيه صهيب مولى العباس: " وصهيب لا أعرفه " (2) ، وقوله: " الحسن مدلس لم يسمع من المغيرة " (3) .
ويؤدي هذا النقد إلى إصدار أحكام دقيقة تبين مرتبة الحديث يشير إليها الذهبي من مثل قوله: " صحيح "، أو " متفق عليه "، أو " هو في الصحيحين "، أو " صحيح غريب "، أو " حسن "، أو " غريب " أو " غريب جدا "، أو " منكر "، أو " موضوع " ونحو ذلك مما يعرفه أهل العناية بهذا الفن الجليل.
ومن أجل توثيق الأحاديث والروايات عني الذهبي بنقل الأسانيد التي وردت في المصادر التي نقل عنها، ولم يكتف بإيراد المصدر حسب، وهي طريقة تعينه على تقديم المصادر الأصلية التي اعتمدها المصدر الذي ينقل منه وتتيح له، وللقارئ، الفرصة لتقويم الحديث أو الخبر استنادا إلى ذلك الإسناد، ولعل المثال الآتي يوضح هذه المسألة، قال في ترجمة الزبير بن العوام (4) : " وقال الزبير بن بكار: حدثني أبو غزية محمد بن موسى، حدثنا عبد الله بن مصعب، عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن جدتها أسماء بنت أبي بكر، قال:.."، وقوله: " الدولابي في " الذرية الطاهرة ": حدثنا الدقيقي، حدثنا يزيد، سمعت شريكا، عن الأسود بن قيس.."، فهو كان يستطيع أن يكتفي بالقول " وقال الزبير بن بكار " أو " الدولابي في الذرية
__________
(1) السير: 2 / الترجمة: 11.
(2) نفسه.
(3) السير: 1 / الترجمة: 4 (بتحقيق العالم شعيب الأرناؤوط) .
(4) السير: 1 / الترجمة: 3.(المقدمة/125)
الطاهرة ".
وهذا منهج انتهجه في معظم أقسام كتابه وهو يدل على دقة ومنهج متميز وعقلية نقدية في غاية الرقي.
ثم وجدنا الذهبي بعد ذلك لا يكتفي بنقد السند في كثير من الأحاديث والروايات التي يوردها ويضعفها استنادا إلى ضعف في سندها، بل يحاول جاهدا إيراد ما يقوي هذا التضعيف من الأدلة التاريخية التي تتوافر له، من ذلك مثلا ما جاء في ترجمة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها (1) : " أبو الحسن المدائني، عن يزيد بن عياض، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: دخل عيينة بن حصن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده عائشة وذلك قبل أن يضرب الحجاب فقال: من هذه الحميراء يا رسول الله..الحديث " حيث علق الذهبي بقوله: " هذا حديث مرسل، ويزيد متروك، وما أسلم عيينة إلا بعد نزول الحجاب "، ثم أفاض في نقد الحديث وكان يكفيه بعض من هذا لرد الحديث.
ب - نقد المتن: وهو الذي يقوم على نقد متن الرواية وتحليلها وعرضها على الوقائع التي هي أقوى منها، ومعارضتها بها، ودراسة لغة الخبر وغيرها، واستخدام جميع الوسائل المتاحة للناقد التي تثبت دعواه.
وقد عني الإمام الذهبي في هذا
النوع من النقد عناية بالغة في هذا الكتاب، فرد مئات الروايات وأبطلها بنقده المتين وأسلوبه العلمي المتزن الذي ينبئ عن غزارة علم ونبالة قصد، وقدرة فائقة، وسعة اطلاع.
فمن ذلك مثلا تعليقه على الخبر الذي يشير إلى أن العباس بن عبد المطلب أسلم قبل بدر وأنه طلب القدوم إلى المدينة وأن
__________
(1) السير: 2 / الترجمة: 19.(المقدمة/126)
الرسول صلى الله عليه وسلم طلب منه البقاء فأقام بأمره، بقوله: " ولو جرى هذا لما طلب من العباس فداء يوم بدر " (1) .
ومن ذلك حكاية عن عائشة: " فخرت بمال أبي في الجاهلية وكان ألف ألف أوقية..الحكاية "، قال: وإسنادها فيه لين.
واعتقد لفظة ألف الواحدة باطلة، فإنه يكون أربعين ألف درهم، وفي ذلك مفخر لرجل تاجر، وقد أنفق ماله في ذات الله.
ولما هاجر كان قد بقي معه ستة آلاف درهم فأخذها صحبته، أما ألف ألف أوقية فلا تجتمع إلا لسلطان كبير " (2) .
ومثل هذا كثير في كتابه وهو أمر يدحض رأي من قال: إن المحدثين قصروا نقدهم على إسناد الحديث ولم ينظروا إلى متنه.
3 - التعصب والإنصاف في النقد:
كان من منهج الذهبي نقل آراء الموافقين والمخالفين في المترجم ليقدم صورة كاملة عنه، وهو طابع عام في كتابه تجده في كل ترجمة من تراجمه، بينما اقتصر آخرون على إيراد المدائح في كتبهم مثل السبكي " ت 771 هـ " وغيره.
كما أن الذهبي عني بترجمة عدد كبير من المعاصرين له ولا سيما في معجمه الكبير، ومعجمه المختص بالمحدثين، ولا ريب أنه نقد بعضهم، فلم يعجبهم ذلك، وتأذى البعض منهم، وغضب غضبا شديدا مثل شمس الدين محمد بن أحمد بن بصخان المقرئ المتوفى سنة 743 هـ الذي ترجم له الذهبي، وأورد بعض ما فيه من القدح.
فكتب ابن بصخان هذا بخط غليظ على الصفحة التي بخط الذهبي كلاما أقذع فيه بحق الذهبي بحيث صار خط الذهبي لا يقرأ غالبه (3) .
__________
(1) السير: 2 / الترجمة: 11.
(2) السير: 2 / الترجمة: 19.
(3) السخاوي: " الإعلان " ص 470، وانظر الذهبي: " معجم الشيوخ " م 2 الورقة 31 30.(المقدمة/127)
وقد عرفنا من حياة الذهبي أنه رافق الحنابلة، وتأثر بشيخه ابن تيمية لا سيما في العقائد، فكان شافعي الفروع، حنبلي الأصول، ولذلك عني عند النقد بإيراد العقائد على طريقة أهل الحديث، وعدها جزءا منه كما بينا قبل قليل.
ووجدنا في البيئة الدمشقية في الوقت نفسه من يتعصب للأشاعرة غاية التعصب.
وبسبب العقائد انتقد الذهبي من بعض معاصريه لا سيما تلميذه تاج الدين عبد الوهاب السبكي " 728 - 771 هـ " (1) في غير موضع من كتابه " طبقات الشافعية الكبرى " (2) وفي كتابه الآخر " معيد النعم " (3) ، فقال في ترجمته من الطبقات: " وكان شيخنا - والحق أحق ما قيل، والصدق أولى ما آثره ذو السبيل شديد الميل إلى آراء الحنابلة، كثير الازدراء بأهل السنة، الذين إذا حضروا كان أبو الحسن الأشعري فيهم مقدم القافلة، فلذلك لا ينصفهم في التراجم، ولا يصفهم بخير إلا وقد رغم منه أنف الراغم.
صنف التاريخ الكبير، وما أحسنه لولا تعصب فيه، وأكمله لولا نقص فيه وأي نقص يعتريه " (4) وقال في ترجمة أحمد بن صالح المصري من الطبقات أيضا: " وأما تاريخ شيخنا الذهبي غفر الله له، فإنه على حسنه وجمعه مشحون بالتعصب المفرط لا واخذه الله، فلقد أكثر الوقيعة في أهل الدين أعني الفقراء الذين هم
__________
(1) اتصل السبكي بالذهبي سنة 739 هـ ولم يبلغ آنذاك اثني عشر عاما، ولازمه، فكان يذهب إليه في كل يوم مرتين، وقد ترجم له الذهبي في " معجمه المختص " انظر مقدمة " طبقات الشافعية ".
(2) انظر مثلا 2 / 13 فما بعد، 3 / 299، 353 352، 356، 4 / 33، 133، 147، 9 / 104 103 وغيرها.
(3) " معيد النعم "، ص 74، 77.
(4) 2 / 22.(المقدمة/128)
صفوة الخلق، واستطال بلسانه على أئمة الشافعيين والحنفيين، ومال فأفرط على الأشاعرة، ومدح فزاد في المجسمة، هذا وهو الحافظ المدره، والإمام المبجل، فما ظنك بعوام المؤرخين " (1) .
وذكر في موضع آخر أنه نقل من خط صلاح الدين خليل بن كيلكلدي العلائي " 761 694 هـ "، وهو من تلاميذ الذهبي والمتصلين به (2) ، أنه قال ما نصه: " الشيخ الحافظ شمس الدين الذهبي لا أشك في دينه وورعه وتحريه فيما يقوله الناس، ولكنه غلب عليه مذهب الإثبات، ومنافرة التأويل، والغفلة عن التنزيه، حتى أثر ذلك في طبعه انحرافا شديدا عن أهل التنزيه، وميلا قويا إلى أهل الإثبات، فإذا ترجم لواحد منهم يطنب في وصفه بجميع ما قيل فيه من المحاسن، ويبالغ في وصفه، ويتغافل عن غلطاته ويتأول له ما أمكن، وإذا ذكر أحدا من الطرف الآخر كإمام الحرمين والغزالي ونحو هما لا يبالغ في وصفه، ويكثر من قول من طعن فيه، ويعيد ذلك ويبديه، يعتقده دينا، وهو لا يشعر، ويعرض عن محاسنهم الطافحة، فلا يستوعبها، وإذا ظفر لأحد منهم بغلطة، ذكرها.
وكذلك فعله في أهل عصرنا، إذا لم يقدر على أحد منهم بتصريح يقول في ترجمته: والله يصلحه، ونحو ذلك وسببه المخالفة في العقائد " (3) .
ثم ذكر السبكي أن الحال أزيد مما وصف العلائي، ثم قال: " والذي أدركنا عليه المشايخ النهي عن النظر في كلامه، وعدم اعتبار قوله، ولم يكن يستجرئ أن يظهر كتبه التاريخية إلا لمن يغلب على ظنه أنه لا ينقل عنه ما يعاب عليه " (4)
__________
(1) 9 / 104 103.
(2) ابن حجر: " الدرر " 2 / 179 - 182.
(3) " الطبقات " 2 / 13.
(4) نفسه 2 / 14 13.
سير 1 / 9(المقدمة/129)
وبالغ السبكي بعد ذلك، فقال: " إن الذهبي متقصد في ذلك، وأنه كان يغضب عند ترجمته لواحد من علماء الحنيفية والمالكية والشافعية غضبا شديدا، ثم يقرطم الكلام ويمزقه، ثم هو مع ذلك غير خبير بمدلولات الألفاظ كما ينبغي، فربما ذكر لفظة من الذم لو عقل معناها، لما نطق بها " (1) .
وقد أثارت انتقادات السبكي هذه نقاشا بين المؤرخين، فرد عليه السخاوي " ت 902 - هـ " حيث اتهم السبكي بالتعصب الزائد للأشاعرة، ونقل قول عز الدين الكناني " ت 819 هـ " في السبكي: " هو رجل قليل الأدب، عديم الإنصاف، جاهل بأهل السنة ورتبهم (2) .
وقال يوسف بن عبد الهادي " ت 909 هـ " في معجم الشافعية: " وكلامه هذا في حق الذهبي غير مقبول فإن الذهبي كان أجل من أن يقول ما لا حقيقة له ... والإنكار عليه أشد من الإنكار على الذهبي لا سيما وهو شيخه وأستاذه فما كان ينبغي له أن يفرط فيه هذا الإفراط (3) ".
والحق أن السبكي أشعري جلد متعصب غاية التعصب، ولا أدل على ذلك من شتيمته المقذعة في حق الذهبي في ترجمة أبي الحسن الأشعري من الطبقات، فقد سف بها إسفافا كثيرا بسبب عدم قيام الذهبي بترجمته ترجمة طويلة في " تاريخ الإسلام " ولأنه اكتفى بإحالة القارئ إلى كتاب " تبيين كذب المفتري " لابن عساكر، فعد ذلك نقيصة كبيرة في حق الأشعري (4) . وقد قرأ
__________
(1) نفسه 2 / 14.
(2) " الإعلان " ص 469 فما بعد.
(3) " معجم الشافعية "، الورقة 48 47 (ظاهرية) .
(4) الذهبي: " تاريخ الإسلام "، الورقة 133 132 (أحمد الثالث 2917 / 9) . وقد وصف الذهبي الأشعري بأحسن الأوصاف، وذكر تصانيفه: وقال " من نظر في هذه الكتب عرف محله، ومن أراد أن يتبحر في معرفة الأشعري، فليطالع كتاب تبيين كذب المفتري..".(المقدمة/130)
السخاوي بخطه تجاه ترجمة سلامة الصياد المنبجي الزاهد ما نصه: " يا مسلم استحي من الله، كم تجازف، وكم تضع من أهل السنة الذين هم الأشعرية، ومتى كانت الحنابلة، وهل ارتفع للحنابلة قط رأس " (1) .
ومع ذلك فإن هذه القضية جديرة بالدرس لأنها توضح أهمية كتاب الذهبي من جهة، ومنهجه ومدى عدالته في النقد والتحري من جهة أخرى.
ولقد أبانت دراستنا لتاريخ الإسلام أن الذهبي قد وفق إلى أن يكون منصفا إلى درجة غير قليلة في نقده لكثير من الناس، وما رأينا عنده تفريقا كبيرا بين علماء المذاهب الأربعة، وما كان يرضى الكلام بغير حق ولا حتى نقله في بعض الأحيان، قال في ترجمة الحسن بن زياد اللؤلؤي الفقيه الحنفي " قد ساق في ترجمة هذا أبو بكر الخطيب أشياء لا ينبغي لي ذكرها (2) " وقال في ترجمة ابن الحريري الدمشقي الحنفي " ت 728 ": " قاضي القضاة علامة المذهب ذو العلم والعمل (3) وقوله في قاضي الحنفية شمس الدين الأذرعي " ت 673 ": " لم يخلف بعده مثله " (4) وترجم لأبي جعفر الطحاوي ترجمة رائقة، ودلل على سعة معرفته وفضله وعلمه الجم (5) وقال في ترجمة عماد الدين الجابري الحنفي المتوفى سنة 584 هـ من " السير ": " شيخ الحنفية نعمان الزمان " (6) ، وقال في ترجمة المرغيناني الحنفي: " كان من أوعية العلم " (7)
__________
(1) " طبقات "، 3 / 352 - 353.
(2) الورقة 18 (أيا صوفيا 3007) .
(3) " معجم الشيوخ " م 2 الورقة 51 (4) الورقة 18 (أيا صوفيا 3014) .
(5) الورقة 114 (أحمد الثالث 2917 / 9) .
(6) سير أعلام النبلاء 21 / الترجمة: 82.
(7) (نفسه 21 / الترجمة 115 وانظر أمثلة أخرى في التراجم: 3، 36، 114 من المجلد المذكور.(المقدمة/131)
وهذا هو منهجه في معظم الحنفية لم نره تكلم في أحدهم بسبب المذهب، لا من الشافعية ولا المالكية، ولا الحنفية.
ولو قال السبكي: إنه كان يتعصب على الأشاعرة حسب، لوجد بعض الآذان الصاغية، ولبحث له المؤيدون عن بضعة نصوص قد تؤيد رأيه، علما أني بحثت في " تاريخ الإسلام " " وسير أعلام النبلاء " وغيرهما فلم أستطع أن
أحصل على مثل يصلح أن يسمى انتقادا لأشعري.
نعم قد نجد بعض تقصير في تراجم قسم من الأشاعرة.
وفي هذا المجال صرت أشعر أن سبب قصر بعض تراجم الأشاعرة، قد جاء من عدم قيام الذهبي بنقل آراء المخالفين بتوسع حبا منه للعافية، كما في ترجمة أبي الحسن الأشعري الذي لم يأت الذهبي بكلمة نقد فيه مع أن الأشعري قضى القسم الأكبر من حياته معتزليا، ونحن نعرف موقف الذهبي من المعتزلة.
والواقع أن الذهبي ما بخس فضل هذا الرجل إلى درجة أنه عده مجددا في أصول الدين على رأس المئة الرابعة (1) أما كلام الذهبي في الصوفية، فصحيح ما قاله السبكي، ولكن في النادر منهم، وهذا رأي ارتآه الذهبي، واعتقد فيه وآمن به، فقد ميز بين طائفتين منهم.
أولا هما: كانت متمسكة بالدين القويم، متبعة للسنة، احترمهم الذهبي الاحترام كله، بل لبس هو خرقة التصوف من الشيخ ضياء الدين عيسى بن يحيى الأنصاري السبتي عند رحلته إلى مصر (2) ، وكان يعتقد ببعض كرامات كبار الزهاد، ويعنى بإيرادها في كتابه، بل يكثر منها عادة (3) ، ويورد بعض
__________
(1) تفسير للحديث الشريف " يبعث الله من يجدد..الحديث " وقد فسر الذهبي " من " لصيغة الجمع. انظر السبكي " طبقات " 3 / 26.
(2) تاريخ الإسلام، الورقة 126 (أيا صوفيا 3012) .
(3) انظر تاريخ الإسلام مثلا الورقة 6، 18، 20، 100، 175 (أحمد الثالث 2917 / 9) .(المقدمة/132)
أقوالهم وحكاياتهم في الزهد والمحبة فيه (1) .
أما الثانية: فقد عدهم الذهبي مارقين عن الدين، مشعوذين، بهم مس من الجنون، ومنهم الأحمدية (2) أتباع الشيخ أحمد الرفاعي، والقلندرية (3)
وشيخها جمال الدين محمد الساوجي فقد ذكر ترهاته وانغشاش الناس به، وبحاله الشيطاني (4) ، ووصف بعض أحوالهم في ترجمة يوسف القميني " ت 657 هـ " فقال: " وكان يأوي إلى قمين حمام نور الدين، ولما توفي، شيعه خلق لا يحصون من العامة، وقد بصرنا الله تعالى وله الحمد وعرفنا هذا النموذج.. فقد عم البلاء في الخلق بهذا الضرب..ومن هذا الأحوال الشيطانية التي تضل العامة: أكل الحيات ودخول النار، والمشي في الهواء ممن يتعانى المعاصي، ويخل بالواجبات.
وقد يجئ الجاهل، فيقول: اسكت، لا تتكلم في أولياء الله، ولم يشعر أنه هو الذي تكلم في أولياء الله، وأهانهم إذ أدخل فيهم هؤلاء الأوباش المجانين أولياء الشيطان (5) ".
ولم يكن الذهبي متعصبا للحنابلة بالمعنى الذي صوره السبكي، فالرجل كان محدثا يحب أهل الحديث، ويحترمهم، إلا أن هذا لم يمنعه من تناول مساوئ بعضهم، فقد نقل عن الإمام ابن خزيمة في ترجمة الطبري المؤرخ قوله: " ما أعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير، ولقد ظلمته
__________
(1) تاريخ الإسلام، مثلا الورقة 15، 20، 26، 123، 155، 166، 154، 187، 202، 215، 237 (أحمد الثالث 2917 / 9) ، وسير أعلام النبلاء، مثلا: 21 / التراجم: 89، 93، 106، 132..الخ.
(2) " معجم الشيوخ " م 1 الورقة 40 علما بأنه ترجم في " السير " للرفاعي ترجمة رائعة ووصفه بأنه " الإمام القدوة العابد الزاهد شيخ العارفين " 21 / الترجمة 26.
(3) القلندرية: المحلقون أي الذي يحلقون رؤوسهم ولحاهم.
(4) الورقة 104 (أيا صوفيا 3012) .
(5) الورقة 174 (أيا صوفيا 3013) . وقمين الحمام: أتونه.(المقدمة/133)
الحنابلة "، ثم قال الذهبي معقبا: " كان محمد بن جرير ممن لا تأخذه في الله لومة لائم مع عظيم ما يلحقه من الأذى والشناعات من جاهل وحاسد وملحد (1) ".
وقال في ترجمة عبد الساتر ابن عبد الحميد تقي الدين الحنبلي المتوفى سنة 679 هـ: " ومهر في المذهب.
وقال من سمع منه لأنه كان فيه زعارة، وكان فيه غلو في السنة، ومنابذة للمتكلمين ومبالغة في اتباع النصوص..وهو فكان حنبليا خشنا متحرقا على الأشعري..كثير الدعاوى قليل العلم (2) ".
ومع ما كان للذهبي من إعجاب بشيخه ابن تيمية فإنه أخذ عليه " تغليظه وفظاظته وفجاجة عبارته وتوبيخه الأليم المبكي المنكي المثير النفوس (3) " كما أخذ عليه " الكبر والعجب وفرط الغرام في رياسة المشيخة والازدراء بالكبار (4) ".
وقد رأى في بعض فتاويه انفرادا عن الأمة، قال: " وقد انفرد بفتاوى نيل من عرضه لأجلها، وهي مغمورة في بحر علمه فالله تعالى يسامحه ويرضى عنه فما رأيت مثله، وكل أحد من الأمة فيؤخذ من قوله ويترك فكان ماذا (5) ؟ ".
وقد بلغ حرص الذهبي في النقد وشدة تحريه أنه تكلم في ابنه أبي هريرة عبد الرحمن فقال: إنه حفظ القرآن، ثم تشاغل عنه حتى نسيه (6) .
ولست هنا في حال دفاع عن الرجل فكتاباته خير مدافع عنه، وهي
__________
(1) الورقة 45 (أحمد الثالث 2917 / 9) .
(2) الورقة 66 (أيا صوفيا 3014) .
(3) الورقة 332 من النسخة السابقة.
(4) " بيان زغل العلم " ص 18 17.
(5) " تذكرة الحفاظ " 4 / 1497.
(6) السخاوي: " الإعلان " ص 488.(المقدمة/134)
الحكم في تقويمه، ولكنني أقول: إن تحقيق كثير من الانصا، وإن لم يكن كله، أمر له قيمته العظمى في كل عصر.
ثامنا أهمية كتاب السير:
السير ليس مختصرا لتاريخ الإسلام: ذكرنا عند الكلام على منهج " السير " أن الذهبي عني بذكر " الأعلام " وأسقط المشهورين، ولكن هذا لا يعني أن المؤلف استل جميع تراجم الأعلام من " تاريخ الإسلام " فذكرهم في هذا الكتاب وإن كان كل علم مذكور في هذا الكتاب قد تناوله المؤلف في " تاريخ الإسلام " تقريبا، فقد وجدنا بعد دراستنا للكتابين جملة فروق أساسية بينهما، إضافة لما ذكرنا، من أبرزها:
1 - أن المؤلف كتب تراجم الصدر الأول من " السير " بشكل يختلف اختلافا تاما عما كتبه في " تاريخ الإسلام "، فمعظم تراجم الصدر الأول هذه تراجم حافلة لا يمكن مقارنتها من حيث غزارة الأخبار، وجودة التنظيم بمثيلاتها في " تاريخ الإسلام "، والأمثلة على ذلك كثيرة جدا يلمسها الباحث عند دراسته للكتابين المذكورين، واكتفي هنا بمثل واحد يدعم هذا الذي أذهب إليه: فقد ترجم الذهبي في " السير " لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته تراجم حافلة استغرقت عشرات الصفحات (1) مما لا نجد له مثيلا من حيث غزارة المادة والسعة في تاريخه حيث لم يذكر عنهن هناك إلا النزر اليسير.
2 - ألف الذهبي مجموعة كبيرة من السير الخاصة بالرجال البارزين في تاريخ الإسلام وأفردها بمؤلفات مستقلة (2) ، فلما ألف " سير أعلام النبلاء "
__________
(1) أنظر المجلد الثاني من " السير " وقارن تاريخ الإسلام: 2 / 419 414 (ط. القدسي الثانية) .
(2) أنظر كتابي: الذهبي ومنهجه: 211 202.(المقدمة/135)
أدخل معظم هذه المادة الواسعة في الكتاب الجديد، وقد أشار تلميذه الصلاح الصفدي إلى هذا الأمر حينما قال: " وله في تراجم الأعيان لكل واحد مصنف قائم الذات..ولكنه أدخل الكل في تاريخ النبلاء " (1) ، وهذه المادة لا نجد لها مثيلا من حيث السعة والدقة في تاريخه الكبير، والتراجم الموجودة في " السير " تشهد بذلك مثل تراجم: أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وعائشة، وسعيد بن المسيب، وابن حزم، وغيرها.
3 - وقد لاحظنا في الوقت نفسه أن إضافات الذهبي إلى تراجم " الأعلام" في الأقسام الوسطى والأخيرة من الكتاب قليلة عما ذكره في " تاريخ الإسلام " لكننا وجدنا أيضا استدراكات وتصحيحات وتصويبات ونقدات، فضلا عن إعادة صياغة الترجمة والانتقاء.
4 - ووجدنا الذهبي يضيف عناصر جديدة للترجمة في " السير" مما لم يذكره في " تاريخ الإسلام "، من ذلك مثلا عناية بذكر عدد الأحاديث التي رواها أصحاب الكتب المشهورة في الحديث للمترجم، كالصحيحين والسنن الأربع ومسند بقي بن مخلد وغيرها نحو قوله في ترجمة أبي عبيدة ابن الجراح: " له في صحيح مسلم حديث واحد، وله في جامع أبي عيسى حديث، وفي مسند بقي له خمسة عشر حديثا"، وقوله في ترجمة سعد بن أبي وقاص: " وله في الصحيحين خمسة عشر حديثا، وانفرد له البخاري بخمسة أحاديث، ومسلم بثمانية عشر حديثا..وقع له في مسند بقي بن مخلد مئتان وسبعون حديثا "، وقوله في ترجمة عبد الله بن مسعود: " اتفقا له في الصحيحين على أربعة وستين، وانفرد له البخاري بإخراج أحد وعشرين
__________
(1) الوافي: 2 / 163.(المقدمة/136)
حديثا، ومسلم بإخراج خمسة وثلاثين حديثا، وله عند بقي بالمكرر ثمان مئة وأربعون حديثا "، وهلم جرا، وقلما ترك أحدا من رواة الحديث من غير الإشارة إلى ذلك، وهذه الإضافات، فضلا عن عدم ورودها في " تاريخ الإسلام "، فإنها ثروة كبيرة مضافة يعرف حق قدرها الفضلاء المتخصصون، وهي تدل على اطلاع عظيم وتدقيق كبير (1) .
5 - يضاف إلى كل الذي ذكرت أن الذهبي قد ألف " السير " بعد " تاريخ الإسلام " بل بعد تأليف عدد من كتبه الأخرى، وهو أمر يؤدي إلى ميزتين رئيستين: أولاهما الإضافات الجديدة وإعادة التنظيم، وثانيتهما تشير إلى أنه أعاد النظر في المادة المقدمة طيلة تلك المدة فذكرها بعد أن زادها تحقيقا وتمحيصا وأنها تمثل الشكل الذي ارتضاه في أواخر حياته العلمية الحافلة بجلائل المؤلفات.
أهميته في تاريخ الحركة الفكرية:
وكتاب " السير " من أضخم مؤلفات، الإمام الذهبي بعد كتابه العظيم " تاريخ الإسلام "، وقد حصر مادة ضخمة في تراجم الأعلام لمدة امتدت قرابة السبع مئة سنة فضلا عن التوازن في نطاقه المكاني الذي شمل جميع الرقعة الواسعة التي امتد إليها الإسلام من الأندلس غربا إلى أقصى المشرق، وفي الشمول النوعي للمترجمين في كل ناحية من نواحي الحياة وعدم اقتصاره على فئة أو فئات معينة منهم، بحيث صار واحدا من الكتب التي يقل نظيرها ويعز وجودها في تاريخ الحركة الفكرية العربية الإسلامية، ونتيجة لذلك
__________
(1) أنظر أمثلة من ذلك في " السير ": 2 / التراجم: 1، 2، 4، 11، 19، 20، 21، 23، 24، 25، 26، 27..إلخ.(المقدمة/137)
أصبح الكتاب مصورا لجوانب كثيرة من الحركة الفكرية وتطورها عبر سبع مئة سنة، لان الإنسان هو العنصر الحاسم في هذه الحركة، وبه تتحدد مميزاتها وسماتها، ويؤثر تكوينه الفكري على تطورها سلبا أو إيجابا.
أهميته في دارسة المجتمع:
ولما كان الكتاب قد اقتصر على التراجم، فإنه أشار إلى اتجاه الذهبي وجملة كبيرة من المؤرخين المسلمين نحو تخليد المبرزين في المجتمع، ولذا فهو في غاية الأهمية لدارسة أحوال المجتمع الإسلامي، ومنها الأصول الاجتماعية والاقتصادية لمن عرفوا في التاريخ الإسلامي باسم " العلماء ".
ودراسة مثل هذه الكتب تشير إلى انعدام الطبقية بين المتعلمين، وأن تقدير الإنسان إنما يكون وفق مقاييس راقية أبرزها علمه ومعرفته ودرايته التي تجعله في مكانة بارزة بين الناس، وهي موازين على غاية من الرقي الإنساني.
وقد جربنا المؤلف وهو يمدح فقيرا ويذم غنيا، ويثني على عبد أسود، ويتكلم في سيد كبير.
وقد أبانت دراستنا لهذا الكتاب أن الغالبية العظمى من هؤلاء " العلماء " قد ظهرت من بين عوائل الحرفيين والمغمورين والمعدمين، تدل على ذلك انتساباتهم التي ذكرها المؤلف، وهو أمر أتاحه الإسلام لكل متعلم حينما جعل طلب العلم من الضرورات، وحض عليه في غير ما مناسبة، كما تميزت الدراسات بحرية التفكير والإبداع، وكانت متوفرة لكل واحد يطلبها متى أراد ومن غير كلفة، لأنها كانت في الأغلب في بيوت الله، من مساجد وجوامع مما يستطيع كل مسلم دخولها، والإفادة من الدروس التي تلقى فيها.
نقول هذا في الوقت الذي اقتصرت فيه النواحي العلمية ومحتويات كتب التراجم عند كثير من الأمم ومنهم الأوربيون في هذه الأعصر على فئات معينة من الناس.(المقدمة/138)
هذا التحقيق:
ومما يزيد في قيمة هذا الكتاب النفيس، ويعلي مكانته بين الكتب أن الله سبحانه قد يسر ظهوره بهيئة علمية رائعة، وصفة بارعة نافعة تسر كل محب للتراث، حريص عليه.
وهذا المجهود العلمي الجليل في أعسر فن من فنون التاريخ وهو فن التراجم لم يتحقق عبثا، فقد هيأ الله جل جلاله لتحقيق هذا الكتاب ونشره عوامل النجح كلها، إذ يسر له ناشرا فاضلا هو الأستاذ رضوان دعبول الذي وجد نفسه بحق صاحب رسالة في نشر العلم النافع من عيون التراث العربي الإسلامي.
وقد وجدت الرجل يبذل ماله ويسخر كل قدراته لهذا الغرض النبيل، ويركب الصعب والذلول، فيقدم على مشروع أقل ما يقال فيه: إنه أعجز جامعة الدول العربية التي أرادت نشر هذا الكتاب منذ ثلاثين عاما ولم تخرج منه غير نزر يسير شوهه التصحيف والتحريف وأقل قيمته ونفعه كثرة السقط حتى انعدمت فائدته أو كادت، فضلا عن توقفها عن إتمامه، وعجزها فيه.
وحين أزمع هذا الفاضل على تحقيق " السير " وفر له سبل التوفيق والنجاح على أحسن موفر بأن ندب إلى الاشتغال فيه عددا من المحققين البارعين الكفاة، أجزل لهم العطاة، وحفظ حقوقهم كافة، وهيأ لهم مستلزمات التحقيق الدقيق: من نسخ موثقة، ومصادر مكدسة في متناول أيديهم، فضلا عن بذل المال الوافر في الطباعة الأنيقة الدقيقة والورق الفاخر، والصناعة المتقنة.
ثم توج عمله، وركب جدة من الأمر بأن ندب لمراجعة الكتاب والإشراف على تحقيقه، وإصلاح ما قد يطرأ عليه من الغلط عالما برع(المقدمة/139)
أصحابه في علمه، متأبها عن الشهرة، قديرا على تذليل الصعب، فطينا لإيضاح المبهم، كفيا بتيسير العسير، هو الأستاذ المحدث الشيخ شعيب الأرنؤوط.
وقد عرفت لهذا العالم القدير فضله الكبير على هذا السفر النفيس آثر ذي أثير حين اشترط أن يقام التحقيق على أفضل قواعده، لأنه وصاحبه، ليسا ممن يؤثرون العاجل ويذرون الآجل.
وشاهدته وهو يمسك أصل النسخة الخطية والمحقق يقرأ عليه عمله وهو لا يسهو ولا يغفل لحظة يبين المبهم، ويوضح الخفي، ويصرف الوقت الطويل الثمين في تدقيق لفظ، أو ضبط حركة، ويعيد ذلك ويبديه، ويعده أمانة وديانة، يشد به أزر المحققين، فضلا عن قيامه بتخريج جميع الأحاديث والآثار الواردة في الكتاب وهي بليغة الكثرة وفق الأصول والقواعد المتبعة في علم المصطلح، وهو اليوم فارس هذا الميدان الخطير الذي ضرب آباطه ومغابنه، واستشف بواطنه.
ولست هنا في حال ذكر ما عليه تحقيق الكتاب من تجود في الصنعة، وبراعة وإتقان تمثلت في العناية الفائقة بتدقيق المقابلة، وتنظيم النص، ووضع النقط، والفواصل، والأقواس المتنوعة، وضبط كثير من الألفاظ التي يتعين ضبطها، والإشارة إلى مناجم الكتاب بمقابلة نصوصه وأخباره على الموارد التي استقى منها المؤلف، وتخريج التراجم على أمهات الكتب المعنية بها، وتخريج الأحاديث والآثار وبيان درجتها من الصحة والسقم، وغيره مما يطول ذكره وتعداده، فإن العمل الذي بين يدي القارئ هو المنبئ بكل ذلك [وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون] (التوبة: 105)
كتبه الدكتور بشار عواد معروف(المقدمة/140)
مقدمة التحقيق بقلم الشيخ شعيب الأرنؤوط(المقدمة/141)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد فإن هذا السفر العظيم الذي نقدمه للقراء يعد من أعظم كتب التراجم التي انتهت إلينا من تراث الأقدمين ترتيبا وتنقيحا، وتوثقا وإحكاما، وإحاطة وشمولا، فهو يبين عن سعة اطلاع المؤلف رحمه الله على كل ما سبقه من تواليف في موضوعه، ودراية تامة بأحوال المترجمين، وبكل ما قيل في حقهم، وقدرة بارعة على غربلة الأخبار وتمحيصها وتنقيدها، وبيان حالها.
ويتميز عن غيره من الكتب التي ألفت في بابه أنه أول كتاب عام للتراجم في تراثنا، تناول جميع العصور التي سبقت عصر المؤلف، واشتملت تراجمه على الأعلام المختارة من جميع العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه، ولم يقتصر على نوع معين من الأعلام، بل تنوعت تراجمه، فشملت كل فئات الناس من الخلفاء والملوك، والأمراء والوزراء، والقضاة والقراء، والمحدثين والفقهاء، والأدباء واللغويين، والنحاة والشعراء، والزهاد والفلاسفة والمتكلمين، إلا أنه آثر المحدثين على غيرهم، فإنه كان عظيم الإكبار لهم، شديد الكلف بهم.(المقدمة/143)
وقد ترجم فيه للأعلام النبلاء من بداية الإسلام إلى سنة (700 هـ) تقريبا، وكسره على خمس وثلاثين طبقة (1) ، كل طبقة تستوعب عشرين سنة، تقريبا وأفراد المجلدين الأول والثاني للسيرة النبوية الشريفة، وسير الخلفاء الراشدين، ولكنه لم يعد صياغتهما، وإنما أحال على كتابه العظيم " تاريخ الإسلام " لتؤخذ منه، وتضم إلى السير، كما سنوضحه فيما بعد.
والمنهج العام الذي اتبعه الذهبي في الترجمة هو أنه يذكر اسم المترجم ونسبه ولقبه وكنيته ونسبته، ثم يذكر تاريخ مولده (2) ، وأحوال نشأته ودراسته، وأوجه نشاطه، والمجال الذي اختص به، وأبدع فيه، والشيوخ الذين التقى بهم، وروى عنهم، وأفاد منهم، والتلاميذ الذين أخذوا عنه، وانتفعوا، بعلمه، وتخرجوا به، وآثاره العلمية، أو الأدبية، أو الاجتماعية، ثم يبين منزلته من خلال أقاويل العلماء الثقات فيه معتمدا في ذلك على أوثق المصادر ذات الصلة الوثيقة بالمترجم، ثم يذكر تاريخ وفاته، ويدقق في ذلك تدقيقا بارعا، وربما رجح قولا على آخر عند اختلاف المؤرخين (3) .
وقد نثر غير ما حديث في تراجم المحدثين مما وقع له من طريقهم بإسناد عال موافقة أو بدلا أو مساواة.
وهو على الأغلب يراعي في طول الترجمة أو قصرها قيمة المترجم
__________
(1) هذا إذا كان المجلد الرابع عشر ذيلا للكتاب.
وأما إذا كان من أصل الكتاب، وهو الذي رجحه الدكتور بشار عواد في تقديمه لهذا الكتاب فتكون أربعين طبقة.
(2) عني المؤلف بذكر تاريخ الولادة لما لذلك من أهمية في الاطمئنان على لقاء المترجم لمشايخه، وسماعاته عليهم، ويذكر أحيانا عمر المترجم إذا لم يذكر تاريخ مولده وذلك في نهاية الترجمة.
(3) وقد يجد القارئ في بعض التراجم اختلافا طفيفا عما ذكرناه من المحتويات والتنظيم، وغير خاف أن طبيعة المترجم هي التي تحدد نوعية الأخبار، فقد عني الذهبي مثلا بإيراد أعمال الخلفاء والملوك والأمراء والولاة في تراجمهم، وأورد نماذج من شعر الشعراء، ومختارات من نثر الأدباء.(المقدمة/144)
وشهرته بين أهل علمه، أو منزلته بين الذين هم من بابته، سواء أكان موافقا له في المعتقد أو مخالفا، وربما تخلص من المادة الضخمة التي تحصلت له عن بعض المترجمين الأعلام بإحالة القارئ إلى مصادر أوسع تناولته بتفصيل أكثر.
وقد اتسم الذهبي رحمه الله بالجرأة النادرة التي جعلته ينتقد كبار العلماء والمؤرخين، وينبه على أوهامهم التي وقعت لهم فيما أثر عنهم بأسلوب علمي متزن ينبئ عن غزارة علم، ونبالة قصد، وقدرة فائقة في النقد، والأمثلة على ذلك كثيرة تجدها مبثوثة في تضاعيف هذا الكتاب.
ولما كان الذهبي قد استوعب في " تاريخ الإسلام " فئتين من المترجمين: المشهورين، والأعلام، فقد اقتصر في كتابه هذا على تراجم الأعلام النبلاء، إلا أنه قد يذكر في نهاية بعض التراجم غير واحد من المشهورين للتعريف بهم على سبيل الاختصار، وتحديد وفياتهم.
وقد يضطره اتفاق اسم أحد المشهورين باسم أحد الأعلام الذي يترجمه إلى ترجمة المشهور عقبه للتمييز.
وكثيرا ما جمع بعض الأسر المتقاربين في الطبقة في مكان واحد وإن لم يكونوا من تلك الطبقة، فهو يترجم لإخوة المترجم وأولاده ومن يلوذ به.
وكتاب " سير أعلام النبلاء " وإن كان قد استل من " تاريخ الإسلام " فقد ألفه بعده، وأضاف إليه أخبارا كثيرة لا وجود لها في " التاريخ "، وتناول أشياء بالنقد والتحقيق لم يتعرض لها في " تاريخه "، وصياغة الترجمة فيه تختلف في كثير من الأحيان عما عرضه في " تاريخ الإسلام ".
وإن هذا الكتاب القيم بما تضمنه من مزايا يندر أن توجد في غيره من بابته
سير 1 / 10(المقدمة/145)
قد استحق به مؤلفه مع كتابه الآخر العظيم " تاريخ الإسلام " أن يسمى إمام المؤرخين.(المقدمة/146)
وصف النسخ
كان لدينا عند البدء بالعمل النسخ التالية:
1 - نسخة مصورة عن أصل محفوظ في مكتبة أحمد الثالث في استنبول برقم (2910) ، وتقع في أربعة عشر مجلدا، المفقود منها المجلد الأخير.
2 - نسخة مصورة عن نسخة أحمد الثالث الثانية، والموجود منها سبع مجلدات.
3 مجلدان صورا من مكتبة الإمام اللكنوي بالهند.
4 - مجلدان مصوران يملكهما المجمع العلمي العربي بدمشق.
وقد اعتمدنا من بين تلك النسخ النسخة المصورة عن الأصل المحفوظ في مكتبة أحمد الثالث في استنبول برقم (2910) ، وهي نسخة نفيسة، كتبت بخط نسخي جميل في حياة المؤلف عن نسخته التي بخطه، ثم قوبلت عليها، وقد قام بنسخها لنفسه فرج بن أحمد بن طوغان الذي لم نظفر له بترجمة تبين منزلته العلمية، إلا أن هذه النسخة وهي غاية في الدقة والإتقان وندرة الخطأ، وكونها مقابلة على أصل المؤلف تشهد له أنه من أهل المعرفة والضبط والإتقان.
وقد فرغ من نسخ المجلد الثالث وهو أول الكتاب ليلة الجمعة، مستهل شهر شعبان المبارك سنة تسع وثلاثين وسبع مئة، وفرغ من المجلد الثالث عشر سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة كما جاء في آخر ورقة منه.(المقدمة/147)
وقد جاء على الورقة الأولى: المجلد الثالث من سير أعلام النبلاء تصنيف الشيخ الإمام العالم الأوحد الناقد البارع، إمام الحفاظ، مؤرخ الإسلام شمس الدين أبي عبد الله محمد ابن أحمد بن عثمان الذهبي، أمتع اله ببقائه، ونفع المسلمين ببركة دعائه آمين يا رب العالمين.
وإلى جانبه من الجهة اليسرى كتب بخط دقيق هو خط المصنف رحمه الله كما تبين لنا وللدكتور بشار عواد المتخصص بدراسته ما يلي: " في المجلد الأول والثاني سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة تكتب من تاريخ الإسلام ".
وإلى الأسفل من ذلك جاء نص الوقفية التالي:
وقف وحبس وسبل المقر الأشرف العالي الجمالي محمود (1) استادار العالية الملكي الظاهري أعز الله أنصاره، وختم بالصالحات أعماله جميع هذا المجلد وما بعده من المجلدات إلى آخر الكتاب، وعدة ذلك اثنا عشر مجلدا متوالية من هذا المجلد إلى آخر الرابع عشر، وما قبل ذلك وهما الأول والثاني مفقودان، وقفا شرعيا على طلبة العلم الشريف ينتفعون به على الوجه الشرعي، وجعل مقر ذلك بالخزانة السعيدة المرصدة لذلك بمدرسته التي
__________
(1) ترجمه ابن حجر في " الدرر الكامنة " 6 / 87، فقال: هو محمود بن علي بن أصفر عينه جمال الدين الاستادار في أيام الملك الظاهر برقوق، جاء إلى حلب قبل أن يلي الاستادارية، ثم سافر إلى مصر، وبنى بالقاهرة مدرسة خارج باب زويلة، ووقف عليها كتب ابن جماعة التي اشتراها بعد موته وهي كثيرة جدا، وتنقلت به الأحوال، وحصل أموالا جزيلة تفوق الحصر، وصودر مرارا بعد الحرمة العظيمة والوجاهة بالدولة الظاهرية.
مات سنة 797 هـ 1 هـ.
وقد ذكر المقريزي أنه كان في هذه المدرسة خزانة لا يعرف يومئذ بديار مصر ولا الشام مثلها، فقد كان فيها كتب الإسلام من كل فن.(المقدمة/148)
أنشأها بخط الموازين بالشارع الأعظم بالقاهرة المحروسة.
وشرط الواقف المشار إليه أن لا يخرج ذلك ولا شيء منه من المدرسة المذكورة برهن ولا بغيره، وجعل النظر في ذلك لنفسه أيام حياته، ثم من بعده لمن يؤول إليه النظر على المدرسة المذكورة على ما شرح في وقفها، وجعل لنفسه أن يزيد في شرط ذلك وينقص ما يراه دون غيره من النظار، كما جعل ذلك لنفسه في وقف المدرسة المذكورة [فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم] [البقرة: 181] .
بتاريخ الخامس والعشرين من شعبان المكرم سنة سبع وتسعين وسبع
مئة.
حسبنا الله ونعم الوكيل.
شهد بذلك عبد الله بن علي..شهد بذلك عمر بن عبد الرحمن البرماوي وهذه النقول تدل على جملة أمور:
1 - أن المجلد الأول والثاني من هذا الكتاب الضخم لم يعد الذهبي صياغتهما، وإنما اكتفى بما كتبه في تاريخ الإسلام وقد أحال عليه (1) .
2 - أن من قال: المجلد الأول والثاني مفقودان هو واهم.
3 - أن النسخة الموجودة في مكتبة أحمد الثالث الآن كانت وقفا على المكتبة المحمودية في القاهرة.
4 - أن المجلد الرابع عشر كان موجودا في المكتبة المحمودية قبل أن
__________
(1) وفيهما سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتراجم الخلفاء الراشدين، وكان علينا أن أن نبدأ بنشرها أولا، ولكن عاقنا عن ذلك عدم توفر أصل جيد حينذاك، وأما الآن، فقد تيسر لنا بفضل الله وتوفيقه مجلد السيرة النبوية بخط المؤلف رحمه الله، وسنشرع في تحقيقه إن شاء الله.(المقدمة/149)
تنتقل النسخة إلى مكتبة أحمد الثالث باستنبول.
وهل هذا المجلد هو من تمام الكتاب كما هو ظاهر من نص الوقفية المثبت على كل المجلدات، أم أن الكتاب انتهى بالجزء الثالث عشر، وأن هذا الجزء هو الذيل على الكتاب للمؤلف، الذي استمد منه الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة 1 / 3.
كل ذلك محتمل، ولكن الجزم بواحد منهما ينتظر الدليل القاطع.
وصف مجلدات هذه النسخة:
1 - المجلد الثالث: يبدأ بترجمة أبي عبيدة عامر بن الجراح، وينتهي بترجمة أبي هريرة، ويبلغ عدد أوراقه (252) ورقة.
وقد جاء في آخره: وكان الفراغ من نسخه ليلة الجمعة لمستهل شهر شعبان المبارك سنة تسع وثلاثين وسبع مئة.
2 - المجلد الرابع: يبدأ بترجمة أبي بكرة نفيع بن الحارث مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وينتهي ببداية ترجمة سعيد بن أبي الحسن البصري، ويبلغ عدد أوراقه (286) ورقة عدا الورقة الأخيرة التي جاء فيها ما نصه: تم الجزء الرابع من سير أعلام النبلاء للشيخ الإمام الحجة شمس الدين بن الذهبي فسح الله في مدته، وهو أول نسخة نسخت من خط المصنف وقوبلت عليه، ويتلوه في الجزء الذي يليه وهو الخامس: أبو بردة بن أبي موسى عبد الله بن قيس بن حضار الأشعري رضي الله عنه، وكان الفراغ من نسخه في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد نبيه وخيرته من خلقه وسلم.
وما بين الورقة (286) وهذه الورقة نقص يقدر بثماني ورقات، وفيه من التراجم على التوالي تتمة ترجمة سعيد بن أبي الحسن البصري والأخطل،(المقدمة/150)
والفرزدق، وجرير، وبشير بن يسار، وبسر بن عبيد، والأحوص الشاعر، ويزيد بن أبي مسلم، وأبو بحرية بسر بن سعيد، وسبلان، وسليمان، وزياد الأعجم، والراعي، والضحاك، وطلق بن حبيب، والضحاك عبد الله، وابنه عبيد وزياد بن جبير، ومحمد بن سيرين، وأنس بن سيرين.
وما ندري: هل هذا النقص من الأصل الأم المودع في مكتبة أحمد الثالث أم أنه سقط عند التصوير، ولم يتيسر لنا التأكد من ذلك إلى الآن،
ونرجو أن نوفق إليه في المستقبل إن شاء الله، وقد استدركنا هذا النقص من النسخة الأخرى كما هو مبين في مكانه.
3 - المجلد الخامس: يبدأ بترجمة أبي بردة بن أبي موسى عبد الله بن قيس بن حضار الأشعري، وينتهي بترجمة سعيد بن أبي عروبة، وعدد أوراقه (293) ورقة.
وجاء في آخره: وكان الفراغ من نسخة سنة أربعين وسبع مئة.
4 - المجلد السادس: يبدأ بترجمة معمر بن راشد اليماني، وينتهي بترجمة أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن الحارث الفزاري، وعدد أوراقه (293) ورقة، وقد جاء في آخره: وكان الفراغ من نسخة سنة أربعين وسبع مئة.
5 - المجلد السابع: يبدأ بترجمة الحافظ المحدث زياد بن عبد الله البكائي، وينتهي بترجمة ابن أبي سمينة الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل الهاشمي، وعدد أوراقه (291) ورقة، وقد جاء في آخره: وكان الفراغ من كتابته ليلة الاثنين لسبع بقين من جمادى الآخرة سنة أربعين وسبع مئة.
6 - المجلد الثامن: يبدأ بترجمة الحكم بن موسى البغدادي، وينتهي بترجمة اليسع بن زيد بن سهل الزينبي، وعدد أوراقه (291) ورقة، وجاء في آخره: وكان الفراغ من كتابته ليلة الاثنين لخمس مضين من شهر رمضان المعظم سنة أربعين وسبع مئة.(المقدمة/151)
7 - المجلد التاسع: يبدأ بترجمة عبد الله بن روح المدائني، وينتهي بترجمة أبي جعفر أحمد بن عمرو بن منصور الالبيري، وعدد أوراقه (282) ورقة، وينقص الورقة (50) وقد استدركناها من نسخة أحمد الثالث الثانية، وجاء في آخره: وكان الفراغ منه لليلتين خلتا من شهر ذي الحجة سنة أربعين
وسبع مئة.
8 - لمجلد العاشر: يبدأ بترجمة حماد بن شاكر، وينتهي بترجمة ابن أخي ميمي أبي الحسن محمد بن عبد الله البغدادي الدقاق، وعدد أوراقه (290) ورقة، وجاء في آخره: وكان الفراغ منه ليلة الأحد لعشر خلون من شهر رجب سنة إحدى وأربعين وسبع مئة.
وقد نقص من هذا المجلد الورقة (281) .
9 - المجلد الحادي عشر: يبدأ بترجمة صاحب الموصل حسام الدولة مقلد بن المسيب، وينتهي بترجمة أبي يوسف القزويني المعتزلي، وعدد أوراقه (288) ورقة.
10 - المجلد الثاني عشر: يبدأ بترجمة أبي سعيد الدباس، وينتهي بترجمة ابن بنيمان الهمذاني المؤذن المؤدب، وعدد أوراقه (278) ورقة، وجاء في آخره: وكان الفراغ من كتابته ليلة الجمعة لثلاث بقين من جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة.
وينقص هذا المجلد الورقة (45) .
11 - المجلد الثالث عشر: ويبدأ بترجمة الحافظ أبي طاهر السلفي، وينتهي بترجمة علي بن المعز الملقب بالمنصور، وعدد أوراقه (318) ورقة، وجاء في آخره: وكان الفراغ منه لليلتين خلتا من شهر صفر سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة.(المقدمة/152)
وصف نسخة أحمد الثالث الثانية:
1 - المجلد الثالث: يبدأ بترجمة أبي بردة الأشعري، وينتهي بترجمة ابن أبي عروبة، ويبلغ عدد أوراقه (204) ورقات، وتاريخ نسخه (1002) هـ.
2 - المجلد الخامس: يبدأ بترجمة هشام بن عبد الملك، وينتهي بترجمة صالح بن موسى، وعدد أوراقه (200) ورقة، وتاريخ نسخه (1002) هـ.
3 - المجلد السادس: يبدأ بترجمة زهير بن معاوية، وينتهي بترجمة ابن أبي سمينة، وعدد أوراقه (259) ورقة، وتاريخ نسخة (1004) هـ.
4 - المجلد السابع: ويبدأ بترجمة الحكم بن موسى، وينتهي بترجمة أبي زرعة الرازي، وعدد أوراقه (234) ورقة، وتاريخ نسخه (1002) هـ.
5 -المجلد التاسع: يبدأ بترجمة ابن مروان، وينتهي بترجمة الإمام الداوودي، وعدد أوراقه (251) ورقة، وتاريخ نسخه (1003) هـ.
6 - المجلد العاشر: يبدأ بترجمة القشيري، وينتهي بترجمة الشيخ أرسلان الجعبري الدمشقي، وعدد أوراقه (252) ورقة، وتاريخ نسخه (1003) هـ.
7 - المجلد الحادي عشر: يبدأ بترجمة أبي الحسين الزاهد، وينتهي بترجمة ابن البيطار، وعدد أوراقه (214) ورقة، وتاريخ نسخه (1211) هـ.
وصف المجلدين المصورين عن مكتبة الإمام أبي الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي في الهند:
1 - المجلد السابع: يبدأ بترجمة الحكم بن موسى، وينتهي بترجمة.
سير 1 / 11(المقدمة/153)
إبراهيم الحربي، وعدد صفحاته (680) صفحة، ويعود تاريخ نسخه إلى القرن التاسع.
2 - الخامس عشر: يبدأ بترجمة زهير بن حسن السرخسي، وينتهي بترجمة رضوان بن السلطان تتش، وعدد أوراقه (255) ورقة وتاريخ نسخه القرن التاسع.
ومن مصورة المجمع العلمي العربي بدمشق مجلدان من نسخة مؤلفة من عشرين جزءا، هما:
1 - الخامس: ويبدأ بترجمة أبي بردة الأشعري، وينتهي بترجمة حماد بن سلمة، ولم نجد فيه ما يشير إلى المصدر الذي أخذ عنه، وليس فيه تاريخ النسخ.
2 - السابع عشر: ويبدأ بترجمة أبي البركات الفيلسوف، وينتهي بترجمة ابن حمويه، وفي آخره: تم المجلد السابع عشر من سير أعلام النبلاء، يتلوه المجلد الثامن عشر من تجزئة عشرين، والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.(المقدمة/154)
منهج التحقيق لقد اتبع في تحقيق الكتاب المنهج التالي:
1 - تجزئة المجلدات الإحدى عشر إلى اثنين وعشرين جزءا، لأنه يتعذر إخراج المجلد في جزء واحد لكبر حجمه، ثم دفع كل جزء إلى الأستاذ الذي سيقوم بتحقيقه ليتولى نسخه، وقد اتبع في النسخ الرسم الإملائي الحديث.
2 - قابلنا المنسوخ على الأصل مقابلة دقيقة متأنية، وكان الأستاذ شعيب الأرنؤوط وهو المشرف على تحقيق الكتاب يمسك الأصل بيده، ويقرأ منه، والأستاذ الموكل إليه تحقيق جزء يضبط المنسوخ، ويدون الملاحظات التي يبديها الأستاذ المشرف، وقد كان لهذه المقابلة فائدة عظمي في تدارك السقط والتحريف اللذين وقعا في المنسوخ، والاهتداء إلى معرفة أسماء الأعلام على الوجه الصحيح، فإن كثيرا منها جاء في الأصل مهملا غير منقوط (1) .
3 -ذكرنا المصادر التي عنيت بأخبار المترجم، سواء منها التي تقدمت
__________
(1) وقد أدى التهاون بمقابلة المنسوخ على الأصل إلى وقوع ما يزيد على مئة سقط يتراوح ما بين كلمة وجملة وسطر في الجزء الأول من هذا الكتاب المطبوع بدار المعارف بمصر سنة 1953، وقد بيناه في مواضعه من طبعتنا هذه، ودللنا عليه، كما بينا أيضا السقط والتحريف اللذين وقعا في الجز أين الثاني والثالث من الطبعة المذكورة.
وقد قال أئمة النقد: لا يجوز أن ينخدع في الاعتماد على نسخ الثقة العارف دون مقابلة، ولا على نسخ نفسه بيده ما لم يقابل ويصحح، فإن الفكر يذهب، والقلب يسهو، والنظر يزيغ، والقلم يطغى.(المقدمة/155)
عصر المؤلف، أو جاءت بعده، متوخين في ذلك الاستيعاب في حدود ما يتيسر لنا من مراجع.
4 - راجعنا نصوص الكتاب وأخباره على الموارد التي نقل عنها المؤلف واستمد منها مما أمكننا الوقوف عليه ما طبع منه وما لم يطبع، وهو عمل شاق ومجهد، لكنه أعان على تدارك ما وقع للمؤلف في بعض الأخبار التي يرويها بالمعنى من سقط، أو وهم، أو اضطراب، وقد بين كل ذلك في التعليقات المنثورة في الأجزاء، وما أضفناه من الزيادة على الأصل، فقد ميزناه بوضعه بين حاصرتين.
5 - نسقنا مادة الكتاب تنسيقا يعين على فهم النص فهما صحيحا، ففصلنا كل خبر عن غيره، وميزنا النقول عن التعقبات، وجعلنا ابتداء النقول والأخبار من أول السطر.
6 - وقد تحرينا التحري البالغ في ضبط النص، وبخاصة الأسماء والكنى والألقاب والأنساب والمواضع والبلدان، وهي أكثر الألفاظ تعرضا للغلط لأنها كما قال بعض القدماء: شيء لا يدخله القياس، ولا قبله شيء ولا بعده
شيء يدل عليه فقد قمنا بضبطها، وإزالة الاشتباه عنها، بالشكل تارة وهو الأغلب وبالكتابة بالحرف تارة أخرى، معتمدين على أوثق المصادر التي تكفلت ببيان ذلك، مثل: الإكمال: لابن ماكولا، والمشتبه: للذهبي، وتوضيحه: لابن ناصر الدين الدمشقي، وتبصير المنتبه: لابن حجر، والأنساب: للسمعاني، واللباب: لابن الأثير، ومعجم البلدان: لياقوت الحموي، والروض المعطار: للحميري.
وما كان من الألفاظ يضبط بوجهين أو أكثر، فقد أغفلنا ضبطه إشارة إلى ذلك.(المقدمة/156)
7 - وقد تولى الأستاذ شعيب الأرنؤوط تخريج الأحاديث والآثار الواردة في الكتاب وهي كثيرة جدا لا سيما في الأجزاء الأولى من دواوين السنة ومصادرها المطبوع منها وما لم يطبع مما أمكن الوقوف عليه، فيذكر الجزء والصفحة التي فيها الخبر، وحين يكون للمصدر أكثر من طبعة يضيف ذكر الكتاب والباب تيسيرا للقارئ الذي لا تتيسر له الطبعة التي رجع إليها.
ثم أبان عن درجة كل حديث من الصحة وغيرها حسب الأصول والقواعد المتبعة في علم مصطلح الحديث.
ونحب أن نؤكد هنا أن تنقيد الروايات، والتمييز بين صحيحها وسقيمها أمر تجدر العناية به أكثر من غيره في تحقيق التراث، لا سيما في عصرنا هذا الذي كاد أن ينقرض فيه هذا العلم، وندر أن تجد من يحسن أن يتولاه، ويصبر على معاناته، فإن كثيرا من الأحاديث والأخبار الضعيفة والموضوعة المبثوثة في كتب التاريخ والتراجم، يتلقفها الأدباء والكتاب والخطباء والمدرسون على عواهنها، فتدور على ألسنتهم، أو يستشهدون بها في
مؤلفاتهم وخطبهم، فيتلقاها عنهم عامة الناس، ويعتدون بها، ويعملون بما يستفاد منها، وحدث ولا حرج عما تلحقه تلك الأحاديث والأخبار من الضرر بجوانب كثيرة في الأمور الاعتقادية والعبادية، والسلوكية والفكرية والاجتماعية، وما ينجم عنها من آثار سيئة، وانحرافات خطيرة، وتشويه لحقائق الإسلام، وهذا ما دعانا إلى دراسة أسانيد الأخبار في هذا الكتاب، وتنقيد رواتها، ومعرفة ما يصح منها وما لا يصح، وبيان ذلك كله ليتسنى للقارئ أن يكون على بينة من أمرها، فيطرح كل ما هو ضعيف منها، ويتجنبه، ويحذر من الوقوع فيه.
ونرى أنه ينبغي لكل من يتصدى لتحقيق كتاب في التاريخ، أو التراجم،(المقدمة/157)
أو الحديث، أو التفسير أن تتحقق فيه مهارة المحدث البارع الخبير بعلل الروايات ومواطن الضعف فيها، وإذا لم يتيسر له ذلك، فليستعن بذوي الخبرة والاختصاص بهذا الفن الشريف.
8 - وقد اشتملت التعليقات على شرح غريب الألفاظ والتعريف بالمواضع والأماكن، وبيان المصطلحات الحديثية التي استخدمها المؤلف كالوجادة والبدل والموافقة وغيرها، والتعريف ببعض أرباب المقالات من الإسلاميين، وتنقيد المؤلف في بعض المواطن التي ترجح لدينا أنه قد جانب الصواب فيها.
9 - وضعنا أرقاما متسلسلة للتراجم الأصلية لكل جزء في بداية الترجمة، وتنتهي الأرقام عند نهاية كل جزء، ثم يبدأ الجزء الثاني بأرقام جديدة تبدأ من الواحد وهكذا.
10 - استعمل المؤلف رموزا جرى المحدثون على استعمالها، فكتب
من " حدثنا ": " ثنا "، وربما حذف الثاء، واقتصر على " نا "، وكتب من " أخبرنا ": " أنا " أو " أبنا "، وقد استعضنا عن الرمز بإثبات اللفظ بتمامه.
أما الرموز التي استعملها إشارة إلى من روى للمترجم من أصحاب الكتب الستة فأثبتناها كما هي في الجانب الأيسر من عنوان الترجمة، فاستعمل (ع) لأصحاب الكتب الستة، و (4) لأصحاب السنن الأربعة، و (خ) للبخاري في الصحيح، و (خت) لما استشهد به في الصحيح تعليقا، و (بخ) لما أخرجه في الأدب المفرد، و (م) لمسلم، و (د) لأبي داود، و (ت) للترمذي، و (س) للنسائي، و (ق) لابن ماجه القزويني.
وما كان من هذه الرموز في معرض سياق الخبر، فقد حذفناه، وأثبتنا(المقدمة/158)
مكانه الاسم بتمامه.
11 - وقد صنعنا لكل جزء فهرسا للمترجمين كما أوردهم المؤلف، وآخر على ترتيب حروف المعجم، وسنقوم بعون الله وتوفيقه عند نهاية طبع الكتاب بصنع فهارس مفصلة تشمل الآيات، والأحاديث، والأعلام، والأماكن، والشعر.
وقد بذلنا الجهد في تحقيق هذا السفر العظيم، وإخراجه على الوجه الذي يروق ويعجب، في حدود ما حبانا الله من علم، ومعرفة، وقدرة، فالمأمول من أهل العلم والفضل أن لا يبخلوا علينا بما يبدو لهم أثناء مطالعة الكتاب من استدراكات وملاحظات سيكون لها أثر حميد في استكمال النفع، وتوثيق التحقيق.
نسأل الله العظيم التوفيق والإعانة على إتمام تحقيق الأجزاء المتبقية من الكتاب، وإخراجها على غرار ما سبق، وعلى الله نتوكل وبه نستعين، وآخر
دعوانا أن الحمد الله رب العالمين.
دمشق 12 / ربيع الأول 1401 هـ 17 / كانون الثاني 1981 م(المقدمة/159)
الورقة الأولى من المجلد الثالث نسخة أحمد الثالث الأولى وفيها إحالة المؤلف على كتابه " تاريخ الإسلام " ليؤخذ منه الأول والثاني المتضمنان سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسير الخلفاء الأربعة.(المقدمة/160)
الورقة الأخيرة من المجلد الثالث نسخة أحمد الثالث الا ولى.(المقدمة/161)
الورقة الأولى من المجلد السابع نسخة أحمد الثالث الأولى(المقدمة/162)
الورقة الأخيرة من المجلد السابع نسخة أحمد الثالث الأولى(المقدمة/163)
الورقة الأخيرة من المجلد التاسع نسخة أحمد الثالث الأولى(المقدمة/164)
الورقة الأخيرة من المجلد الثاني عشر نسخة أحمد الثالث الأولى(المقدمة/165)
الورقة الأولى من المجلد الثالث عشر نسخة أحمد الثالث الأولى(المقدمة/166)
الورقة الأخيرة من المجلد الثالث عشر نسخة أحمد الثالث الأولى(المقدمة/167)
الورقة الأخيرة من المجلد الرابع نسخة أحمد الثالث الثانية.(المقدمة/168)
أسماء الأساتذة الذين قاموا بتحقيق كتاب سير أَعْلَام النُّبَلَاء
- أشرف على تحقيق الكتاب وتخريج أحاديثه: الشيخ شعيب الأرنؤوط
الجزء الأول: حسين أسد
الجزء الثاني: شعيب الأرنؤوط
الجزء الثالث: محمد نعيم العرقسوسي، مأمون الصاغرجي
الجزء الرابع: مأمون الصاغرجي
الجزء الخامس: شعيب الأرنؤوط
الجزء السادس: حسين أسد
الجزء السابع: علي أبو زيد
الجزء الثامن: محمد نعيم العرقسوسي
الجزء التاسع: كامل الخراط
الجزء العاشر: محمد نعيم العرقسوسي
الجزء الحادي عشر: صالح السمر
الجزء الثاني عشر: صالح السمر
الجزء الثالث عشر: علي أبو زيد
الجزء الرابع عشر: أكرم البوشي
الجزء الخامس عشر: إبراهيم الزيبق
الجزء السادس عشر: أكرم البوشي
الجزء السابع عشر: محمد نعيم العرقسوسي
الجزء الثامن عشر: محمد نعيم العرقسوسي
الجزء التاسع عشر: شعيب الأرنؤوط
الجزء العشرون: شعيب الأرنؤوط، محمد نعيم العرقسوسي
الجزء الحادي والعشرون: بشار عواد معروف، محيي هلال السرحان
الجزء الثاني والعشرون: بشار عواد معروف، محيي هلال السرحان
الجزء الثالث والعشرون: بشار عواد معروف، محيي هلال السرحان(1/3)
قَالُوا فِي الإِمَام الذَّهَبِيّ
1 - لم أجد عِنْده جُمُود الْمُحدثين، وَلَا كودنة النقلَة، بل هُوَ فَقِيه النّظر، لَهُ دُرْبَة بِأَقْوَال النَّاس، وَمَذَاهِب الْأَئِمَّة من السّلف، وَأَرْبَاب الْمَقَالَات.
2 - وَأَعْجَبَنِي مِنْهُ مَا يُعَانِيه فِي تَصَانِيفه من أَنه لَا يتَعَدَّى حَدِيثا يُورِدهُ حَتَّى يبين مَا فِيهِ من ضعف متن، أَو ظَلام إِسْنَاد، أَو طعن فِي رُوَاته، وَلم أر غَيره يُرَاعِي هَذِه الْفَائِدَة فِيمَا يُورِدهُ.
الصّلاح الصَّفَدِي (ت 764)
3 - أما أُسْتَاذنَا أَبُو عبد الله، فَبَصر لَا نَظِير لَهُ، وَكَنْز هُوَ الْملْجَأ إِذا نزلت الْمُعْضِلَة، إِمَام الْوُجُود حفظا، وَذهب الْعَصْر مَعْنَى وَلَفْظا، وَشَيخ الْجرْح وَالتَّعْدِيل، وَرجل الرِّجَال فِي كل سَبِيل، كَأَنَّمَا جمعت الْأمة فِي صَعِيد وَاحِد، فَنَظَرهَا، ثمَّ أَخذ يخبر عَنْهَا إِخْبَار من حَضَرهَا.
التَّاج السُّبْكِيّ (ت 771)
4 - الْحَافِظ الْكَبِير، مُؤَرخ الْإِسْلَام، وَشَيخ الْمُحدثين، وَخَاتِمَة الْحفاظ.
ابْن كثير الدِّمَشْقِي (ت 774)
5 - إِن الْمُحدثين عِيَال فِي الرِّجَال وَغَيرهَا من فنون الحَدِيث عَلَى أَرْبَعَة: الْمزي، وَالذَّهَبِي، وَالْعِرَاقِي، وَابِن حجر.
جلال الدّين السُّيُوطِيّ (ت 911)(1/4)
[السيرة النبوية]
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
من مولده -صلى الله عليه وسلم- إلى هجرته الشريفة:
ذكر نسب سيد البشر:
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو القاسم سيد المرسلين وخاتم النبيين.
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب واسم عبد المطلب شيبة, ابن هاشم واسمه عمرو, ابن عبد مناف واسمه المغيرة، ابن قصي واسمه زيد بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة ابن مدركة، واسمه عامر بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وعدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم -صلى الله عليهما وعلى نبينا وسلم- بإجماع الناس.
لكن اختلفوا فيما بين عدنان وبين إسماعيل من الآباء، فقيل: بينهما تسعة آباء، وقيل: سبعة، وقيل مثل ذلك عن جماعة. لكن اختلفوا في أسماء بعض الآباء، وقيل: بينهما خمسة عشر أبا، وقيل: بينهما أربعون أبا وهو بعيد وقد ورد عن طائفة من العرب ذلك.
وأما عروة بن الزبير، فقال: ما وجدنا من يعرف ما وراء عدنان ولا قحطان إلا تخرصا.
وعن ابن عباس قال: بين معد بن عدنان وبين إسماعيل ثلاثون أبا، قاله هشام ابن الكلبي النسابة، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس، ولكن هشام وأبوه متروكان.(سيرة 1/29)
وجاء بهذا الإسناد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انتهى إلى عدنان أمسك ويقول:
"كذب النسابون" قال الله تعالى: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان: 38] .
وقال أبو الأسود يتيم عروة: سمعت أبا بكر بن سليمان بن أبي حثمة، وكان من أعلم قريش بأنسابها وأشعارها يقول: ما وجدنا أحدا يعلم ما وراء معد بن عدنان في شعر شاعر ولا علم عالم.
قال هشام ابن الكلبي: سمعت من يقول: إن معدا كان على عهد عيسى ابن مريم، عليه السلام.
وقال أبو عمر بن عبد البر: كان قوم من السلف منهم عبد الله بن مسعود، ومحمد بن كعب القرظي، وعمرو بن ميمون الأودي إذا تلوا: {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} [إبراهيم: 9] ، قالوا: كذب النسابون. قال أبو عمر: ومعنى هذا عندنا على غير ما ذهبوا إليه، وإنما المعنى فيها والله أعلم: تكذيب من ادعى إحصاء بني آدم. وأما أنساب العرب فإن أهل العلم بأيامها وأنسابها قد وعوا وحفظوا جماهيرها وأمهات قبائلها، واختلفوا في بعض فروع ذلك.
والذي عليه أئمة هذا الشأن أنه: عدنان بن أدد بن مقوم بن ناحور ابن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل ابن آزر، واسمه تارح، ابن ناحور بن ساروح بن راعو بن فالخ بن عيبر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام بن لامك بن متوشلخ ابن خنوخ، وهو إدريس عليه السلام بن يرد بن مهليل بن قينن بن يانش بن شيث بن آدم أبي البشر عليه السلام قال: وهذا الذي اعتمده محمد بن إسحاق في السيرة، وقد اختلف أصحاب ابن إسحاق عليه في بعض الأسماء.(سيرة 1/30)
قال ابن سعد: الأمر عندنا الإمساك عما وراء عدنان إلى إسماعيل.
وروى سلمة الأبرش، عن ابن إسحاق هذا النسب إلى يشجب سواء، ثم خالفه فقال: يشجب بن يانش بن ساروغ بن كعب بن العوام بن قيذار بن نبت بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل، عليهم السلام.
وقال ابن إسحاق: يذكرون أن عمر إسماعيل مائة وثلاثون سنة، وأنه دفن في الحجر مع أمه هاجر.
وقال عبد الملك بن هشام: حدثني خلاد بن قرة بن خالد السدوسي، عن شيبان بن زهير، عن قتادة، قال: إبراهيم خليل الله هو ابن تارح بن ناحور بن أشرع بن أرغو بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن لامك بن متوشلخ بن هنوخ بن يرد بن مهلاييل بن قاين بن أنوش بن شيث بن آدم.
وروى عبد المنعم بن إدريس، عن أبيه، عن وهب بن منبه، أنه وجد نسب إبراهيم -عليه السلام- في التوراة: إبراهيم بن تارح بن ناحور بن شروغ بن أرغو بن فالغ بن عابر شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن لمك بن متشالخ بن خنوخ، وهو إدريس بن يارد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم.
وقال ابن سعد: حدثنا هشام ابن الكلبي، قال: علمني أبي وأنا غلام نسب النبي صلى الله عليه وسلم محمد، الطيب المبارك ولد عبد الله بن عبد المطلب، واسمه شيبة الحمد بن هاشم، واسمه عمرو بن عبد مناف، واسمه المغيرة بن قصي، واسمه زيد بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن(سيرة 1/31)
مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
قال أبي: وبين معد وإسماعيل نيف وثلاثون أبا، وكان لا يسميهم ولا ينفذهم.
قلت: وسائر هذه الأسماء أعجمية، وبعضها لا يمكن ضبطه بالخط إلا تقريبا.
وقد قيل في قوله تعالى: {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ} [المعارج: 13] ، فصيلة النبي صلى الله عليه وسلم بنو عبد المطلب أعمامه وبنو أعمامه، وأما فخذه فبنو هاشم. قال: وبنو عبد مناف بطنه، وقريش عمارته، وبنو كنانة قبيلته، ومضر شعبته.
قال الأوزاعي: حدثني شداد أبو عمار، قال: حدثني واثلة بن الأسقع، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى هاشما من قريش، واصطفاني من بني هاشم" رواه مسلم.
وأمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، فهي أقرب نسبا إلى كلاب من زوجها عبد الله برجل.(سيرة 1/32)
مولده المبارك صلى الله عليه وسلم:
أخبرنا أبو المعالي أحمد بن إسحاق، قال: أخبرنا أحمد بن أبي الفتح، والفتح بن عبد الله، قالا: أخبرنا محمد بن عمر الفقيه، قال: أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد ابن النقور، قال: أخبرنا علي بن عمر الحربي، قال: حدثنا أحمد بن الحسن الصوفي، قال: حدثنا يحيى ابن معين، قال: حدثنا حجاج بن محمد، قال: حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل". صحيح.
وقال ابن إسحاق: حدثني المطلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة، عن أبيه، عن جده قيس بن مخرمة بن عبد المطلب، قال: "ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل. كنا لِدَّينِ" أخرجه الترمذي، وإسناده حسن.
وقال إبراهيم بن المنذر الحزامي: حدثنا سليمان النوفلي، عن أبيه، عن محمد بن جبير بن مطعم، قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وكانت عكاظ بعد الفيل بخمس عشرة، وبني البيت على رأس خمس وعشرين سنة من الفيل. وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس أربعين سنة من الفيل.
وقال شباب العصفري: حدثنا يحيى بن محمد، قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران، قال: حدثني الزبير بن موسى، عن أبي(سيرة 1/33)
الحويرث، قال: سمعت قباث بن أشيم يقول: "أنا أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أكبر مني، وقفت بي أمي على روث الفيل محيلا أعقله، وولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل" يحيى هو أبو زكير، وشيخه متروك الحديث.
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب قال: بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم على رأس خمس عشرة سنة من بنيان الكعبة، وكان بين مبعثه وبين أصحاب الفيل سبعون سنة كذا قال.
وقد قال إبراهيم بن المنذر وغيره: هذا وهم لا يشك فيه أحد من علمائنا. إن رسول الله ولد عام الفيل وبعث على رأس أربعين سنة من الفيل.
وقال يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن أبزى، قال: كان بين الفيل وبين مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين. وهذا قول منقطع.
وأضعف منه ما روى محمد بن عثمان بن أبي شيبة، وهو ضعيف قال: حدثنا عقبة بن مكرم، قال: حدثنا السيب بن شريك، عن شعيب بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: حمل برسول الله صلى الله عليه وسلم في عاشوراء المحرم وولد يوم الإثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان سنة ثلاث وعشرين من غزوة أصحاب الفيل. وهذا حديث ساقط كما ترى.
وأوهى منه ما يروى عن الكلبي -وهو متهم ساقط- عن أبي صالح باذام، عن ابن عباس، قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الفيل بخمس عشرة سنة قد تقدم ما يبين كذب هذا القول عن ابن عباس بإسناد صحيح.
قال خليفة بن خيا(سيرة 1/34)
ط: المجمع عليه أنه ولد عام الفيل.
وقال الزبير بن بكار: حدثنا محمد بن حسن عن عبد السلام بن عبد الله عن معروف بن خربوذ، وغيره من أهل العلم، قالوا: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وسميت قريش "آل الله" وعظمت في العرب. ولد لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، وقيل: من رمضان يوم الإثنين حين طلع الفجر.
وقال أبو قتادة الأنصاري: سأل أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما تقول في صوم يوم الإثنين؟ قال: "ذاك يوم ولدت فيه وفيه أوحي إليّ". أخرجه مسلم.
وقال عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وغيره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد في ليلة الإثنين من ربيع الأول عند ابهرار النهار.
وروى ابن إسحاق قال: حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة، قال: حدثني من شئت من رجال قومي، عن حسان بن ثابت، قال: إني والله لغلام يفعة، إذ سمعت يهوديا وهو على أطمة يثرب يصرخ: يا معشر يهود، فلما اجتمعوا إليه، قالوا: ويلك ما لك؟ قال: طلع نجم أحمد الذي يبعث به الليلة.
وقال ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران، عن حنش عن ابن عباس قال: ولد نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين ونبئ يوم الإثنين، وخرج من مكة يوم الإثنين، وقدم المدينة يوم الإثنين وفتح مكة يوم الإثنين، ونزلت سورة المائدة يوم الإثنين، وتوفي يوم الإثنين.
رواه أحمد في مسنده، وأخرجه الفسوي في(سيرة 1/35)
تاريخه.
وقال شيخنا أبو محمد الدمياطي في "السيرة" من تأليفه، عن أبي جعفر محمد بن علي، قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين لعشر ليال خلون من ربيع الأول، وكان قدوم أصحاب الفيل قبل ذلك في النصف من المحرم.
وقال أبو معشر نجيح: ولد لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول.
قال الدمياطي: والصحيح قول أبي جعفر، قال: ويقال: إنه ولد في العشرين من نيسان.
وقال أبو أحمد الحاكم: ولد بعد الفيل بثلاثين يوما. قاله بعضهم. قال: وقيل: بعده بأربعين يوما.
قلت: لا أبعد أن الغلط وقع من هنا على من قال ثلاثين عاما أو أربعين عاما فكأنه أراد أن يقول يوما فقال عاما.
وقال الوليد بن مسلم، عن شعيب بن أبي حمزة، عن عطاء الخراساني، عن عكرمة، عن ابن عباس أن عبد المطلب: ختن النبي صلى الله عليه وسلم يوم سابعه، وصنع له مأدبة وسماه محمدا.
وهذا أصح مما رواه ابن سعد: أخبرنا يونس بن عطاء المكي، قال: حدثنا الحكم بن أبان العدني، قال حدثنا عكرمة، عن ابن عباس، عن أبيه العباس قال: ولد النبي صلى الله عليه وسلم مختونا مسرورا، فأعجب ذلك عبد المطلب وحظي عنده وقال: ليكونن لابني هذا شأن.
تابعه سليمان بن سلمة الخبائري، عن يونس، لكن أدخل فيه بين يونس والحكم: عثمان ابن ربيعة الصدائي.(سيرة 1/36)
قال شيخنا الدمياطي: ويروى عن أبي بكرة، قال: ختن جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طهر قلبه.
قلت: هذا منكر.(سيرة 1/37)
أسماء النبي صلى الله عليه وسلم وكنيته:
الزهري, عن محمد بن جبير بن مطعم, عن أبيه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب". قال الزهري: والعاقب: الذي ليس بعده نبي.
متفق عليه وقال الزهري: وقد سماه الله رءوفا رحيما.
وقال حماد بن سلمة، عن جعفر بن أبي وحشية، عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الحاشر، وأنا الماحي، والخاتم، والعاقب". وهذا إسناد قوي حسن.
وجاء بلفظ آخر، قال: "أنا أحمد، ومحمد، والمقفى، والحاشر، ونبي الرحمة، ونبي الملحمة".
وقال عبد الله بن صالح: حدثنا الليث، قال: حدثني خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال عن عقبة بن مسلم عن نافع بن جبير بن مطعم: أنه دخل على عبد الملك بن مروان فقال له: أتحصي أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كان جبير يعدها؟ قال: نعم هي ستة: محمد، وأحمد، وخاتم وحاشر وعاقب وماحي.
فأما حاشر فبعث مع الساعة نذيرا لكم، وأما عاقب فإنه عقب الأنبياء وأما ماحي فإن الله محا به سيئات من اتبعه.
وقال عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن أبي موسى الأشعري، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه أسماء فقال: "أنا محمد،(سيرة 1/38)
وأحمد، والحاشر، والمقفى، ونبي التوبة، والملحمة" رواه مسلم.
وقال وكيع، عن الأعمش، عن أبي صالح, عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، قال: "أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة".
ورواه زياد بن يحيى الحساني، عن سعير بن الخمس، عن الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة موصولا.
وقد قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] .
وقال وكيع، عن إسماعيل الأزرق، عن ابن عمر، عن ابن الحنفية، قال: يس محمد صلى الله عليه وسلم.
وعن بعضهم، قال: لرسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن خمسة أسماء: محمد، وأحمد، وعبد الله، ويس، وطه.
وقيل: طه، لغة لعك، أي: يا رجل، فإذا قلت لعكي: يا رجل لم يلتفت، وإذا قلت له: طه التفت إليك نقل هذا الكلبي، عن أبي صالح عن ابن عباس والكلبي متروك.
فعلى هذا القول لا يكون طه من أسمائه.
وقد وصفه الله تعالى في كتابه فقال: رسولا، ونبيا أميا وشاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه، وسراجا منيرا، ورءوفا رحيما، ومذكرا، ومدثرا ومزملا وهاديا، إلى غير ذلك.
ومن أسمائه: الضحوك، والقتال. جاء في بعض الآثار عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنا الضحوك أنا القتال".
وقال ابن مسعود: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق،(سيرة 1/39)
وفي التوراة فيما بلغنا أنه حرز للأميين، وأن اسمه المتوكل.
ومن أسمائه: الأمين. وكانت قريش تدعوه به قبل نبوته. ومن أسمائه: الفاتح، وقثم.
وقال علي بن زيد بن جدعان: تذاكروا أحسن بيت قالته العرب، فقالوا: قول أبي طالب في النبي صلى الله عليه وسلم:
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
وقال عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، عن عبد الله، قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة، فقال: "أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا نبي الرحمة، ونبي التوبة، والمقفى، وأنا الحاشر، ونبي الملحمة" قالك المقفى الذي ليس بعده نبي. رواه الترمذي في "الشمائل" وإسناده حسن، وقد رواه حماد بن سلمة، عن عاصم، فقال: عن زر، عن حذيفة نحوه.
ويروى بإسناد واه عن أبي الطفيل، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لي عشرة أسماء، فذكر منها الفاتح، والخاتم.
قلت: وأكثر ما سقنا من أسمائه صفات له لا أسماء أعلام، وقد تواتر أن كنيته أبو القاسم.
قال ابن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "تسموا باسمي، ولا تكتنوا بكنيتي". متفق عليه.
وقال محمد بن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجمعوا اسمي، وكنيتي، أنا أبو القاسم، الله يعطي وأنا أقسم".
وقال ابن لهيعة، عن عقيل، عن الزهري، عن أنس، قال: لما ولد(سيرة 1/40)
إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية كاد يقع في نفسه منه، حتى أتاه جبريل -عليه السلام- فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم. ابن لهيعة ضعيف.(سيرة 1/41)
ذكر ما ورد في قصة سطيح, وخمود النيران ليلة المولد وانشقاق الإيوان:
قال ابن أبي الدنيا وغيره: حدثنا علي بن حرب الطائي، قال: أخبرنا أبو أيوب يعلى بن عمران البجلي، قال: حدثني مخزوم بن هانئ المخزومي، عن أبيه، وكان قد أتت عليه مائة وخمسون سنة، قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفة, وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، ورأى الموبذان إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها، فلما أصبح كسرى أفزعه ما رأى من شأن إيوانه فصبر عليه تشجعا، ثم رأى أن لا يستر ذلك عن وزرائه ومرازبته، فلبس تاجه وقعد على سريره وجمعهم، فلما اجتمعوا عنده، قال: أتدرون فيم بعثت إليكم؟ قالوا: لا إلا أن يخبرنا الملك، فبينا هم على ذلك أورد عليهم كتاب بخمود النار، فازداد غما إلى غمه، فقال الموبذان: وأنا قد رأيت -أصلح الله الملك- في هذه الليلة رؤيا، ثم قص عليه رؤياه فقال: أي شيء يكون هذا يا موبذان؟ قال: حدث يكون في ناحية العرب، وكان أعلمهم في أنفسهم فكتب كسرى عند ذلك: "من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر، أما بعد، فوجه إليّ برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه. فوجه إليه بعبد المسيح بن حيان(سيرة 1/42)
ابن بقيلة الغساني، فلما قدم، عليه قال له: هل لك علم بما أريد أن أسألك عنه؟ قال: ليسألني الملك فإن كان عندي علم وإلا أخبرته بمن يعلمه فأخبره بما رأى، فقال: علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام يقال له سطيح، قال: فائته فسله عما سألتك وائتني بجوابه، فركب حتى أتى على سطيح وقد أشفى على الموت، فسلم عليه وحياه فلم يحر سطيح جوابا، فأنشأ عبد المسيح يقول:
أصم أم يسمع غطريف اليمن ... أم فاد فازلم به شأو العنن
يا فاصل الخطة أعيت من ومن ... أتاك شيخ الحي من آل سنن
وأمه من آل ذئب بن حجن ... أزرق بهم الناب صرار الأذن
أبيض فضفاض الرداء والبدن ... رسول قيل العجم يسرى للوسن
يجوب في الأرض علنداة شجن ... ترفعني وجن وتهوي بي وجن
لا يرهب الرعد ولا ريب الزمن ... كأنما حثحث من حضنى ثكن
حتى أتى عاري الحآجي والقطن ... تلفه في الريح بوغاء الدمن
فقال سطيح: عبد المسيح، جاء إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلادها، يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وخمدت نار فارس, فليس الشام لسطيح شاما، يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت ثم قضى سطيح مكانه، وسار عبد المسيح إلى رحله، وهو يقول:(سيرة 1/43)
شمر فإنك ماضي الهم شمير ... لا يفزعنك تفريق وتغيير
إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم ... فإن ذا الدهر أطوار دهارير
فربما ربما أضحضوا بمنزلة ... تهاب صولهم الأسد المهاصير
منهم أخو الصرح بهرام وإخوته ... والهرمزان وسابور وسابور
والناس أولاد علات فمن علموا ... أن قد أقل فمحقور ومهجور
وهم بنو الأم إما إن رأوا نشبا ... فذاك بالغيب محفوظ ومنصور
والخير والشر مصفودان في قرن ... فالخير متبع والشر محذور
فلما قدم على كسرى أخبره بقول سطيح، فقال كسرى: إلى متى يملك منا أربعة عشر ملكا تكون أمور، فملك منهم عشرة أربع سنين، وملك الباقون إلى آخر خلافة عثمان -رضي الله عنه- هذا حديث منكر غريب.
وبإسنادي إلى البكائي، عن ابن إسحاق، قال كان ربيعة بن نصر ملك اليمن بين أضعاف ملوك التبابعة, فرأى رؤيا هالته وفظع منها، فلم يدع كاهنا ولا ساحرا ولا عائفا ولا منجما من أهل مملكته إلا جمعه إليه، فقال لهم: إني قد رأيت رؤيا هالتني فأخبروني بها وبتأويلها.
قالوا: اقصصها علينا نخبرك بتأويلها. قال: إني إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم عن تأويلها، إنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها. فقيل له: إن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سطيح وشق فإنه ليس أحد أعلم منهما، فبعث إليهما فقدم سطيح قبل شق، فقال له: رأيت حممة خرجت من ظلمة، فوقعت بأرض تهمة، فأكلت منها كل ذات جمجمة. قال: ما أخطأت منها شيئا، فما تأويلها؟
فقال: أحلف بما بين الحرتين من حنش، ليهبطن أرضكم الحبش،(سيرة 1/44)
فليملكن ما بين أبين إلى جرش.
فقال الملك: وأبيك يا سطيح إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن أفي زمانه أم بعده؟
قال: بل بعده بحين، أكثر من ستين أو سبعين يمضين من السنين، قال: أفيدوم ذلك من ملكهم أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين، ثم يقتلون ويخرجون هاربين.
قال: من يلي ذلك من قتلهم وإخراجهم؟ قال: يليه إرم ذي يزن، يخرج عليهم من عدن فلا يترك منهم أحدا باليمن. قال: أفيدوم ذلك؟ قال: بل ينقطع بنبي زكي يأتيه الوحي من قبل العلي. قال: وممن هو؟ قال: من ولد فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر
الدهر. قال: وهل للدهر من آخر؟ قال: نعم، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون. قال: أحق ما تخبرني؟ قال: نعم والشفق والغسق، والفلق إذا اتسق، إن ما أنبأتك به لحق.
ثم قدم عليه شق، فقال له كقوله لسطيح، وكتمه ما قال سطيح لينظر أيتفقان. قال: نعم رأيت حممة خرجت من ظلمة، فوقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة. فلما قال ذلك عرف أنهما قد اتفقا فوقع في نفسه فجهز أهل بيته إلى العراق، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاذ، فأسكنهم الحيرة، فمن بقية ولد ربيعة بن نصر: النعمان بن المنذر، فهو في نسب اليمن: النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر.(سيرة 1/45)
باب: منه
عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "خرجت من لدن آدم من نكاح غير سفاح".
هذا حديث ضعيف، فيه متروكان: الواقدي، وأبو بكر بن أبي سبرة.
وورد مثله عن محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين, عن أبيه، عن جده، عن علي بن الحسين، عن علي، وهو منقطع إن صح عن جعفر بن محمد، ولكن معناه صحيح.
وقال خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق، عن ابن أبي الجدعاء، قال قلت: يا رسول الله، متى كنت نبيا؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد".
وقال منصور بن سعد، وإبراهيم بن طهمان واللفظ له: قال: حدثنا بديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة الفجر، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم متى كنت نبيا؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد".
وقال الترمذي: حدثنا الوليد بن شجاع، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة, عن أبي هريرة: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: متى وجبت لك النبوة؟ قال: "بين خلق آدم ونفخ الروح فيه" قال الترمذي: حسن غريب.
قلت: لولا لين في الوليد بن مسلم لصححه الترمذي.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني ثور بن يزيد،(سيرة 1/46)
عن خالد بن معدان، عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك قال: "دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأن نورا خرج منها أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام".
وروينا بإسناد حسن -إن شاء الله- عن العرباض بن سارية أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إني عبد الله وخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم عن ذلك: دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى لي، ورؤيا أمي التي رأت". وإن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأت حين وضعته نورا أضاءت منه قصور الشام.
ورواه الليث، وابن وهب، عن معاوية بن صالح، سمع سعيد بن سويد يحدث عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن العرباض، فذكره.
ورواه أبو بكر بن أبي مريم الغساني، عن سعيد بن سويد، عن العرباض نفسه.
وقال فرج بن فَضالة: حدثنا لقمان بن عامر، قال: سمعت أبا أمامة، قال قلت: يا رسول الله، ما كان بدء أمرك؟ قال: "دعوة إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت منه قصور الشام". رواه أحمد في "مسنده" عن أبي النضر، عن فرج.
قوله: "لمنجدل" أي ملقى، وأما دعوة إبراهيم فقوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة: 129] ، وبشارة عيسى قوله: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدْ} [الصف: 6] .
وقال أبو ضمرة: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "قسم الله الأرض نصفين فجعلني في خيرهما، ثم قسم النصف(سيرة 1/47)
على ثلاثة فكنت في خير ثلث منها، ثم اختار العرب من الناس، ثم اختار قريشا من العرب، ثم اختار بني هاشم من قريش ثم
اختار بني عبد المطلب من بني هاشم، ثم اختارني من بني عبد المطلب". هذا حديث مرسل.
وروى زحر بن حصن، عن جده حميد بن منهب، قال: سمعت جدي خريم بن أوس بن حارثة يقول: هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من تبوك، فسمعت العباس، يقول: يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك فقال: "لا يفضض الله فاك". فقال:
من قبلها طبت في الظلال وفي ... مستودع حيث يخصف الورق
ثم هبطت البلاد لا بشر ... أنت ولا مضغة ولا علق
بل نطفة تركب السفين وقد ... ألجم نسرا وأهله الغرق
تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق
حتى احتوى بيتك المهيمن من ... خندف علياء تحتها النطق
وأنت لما ولدت أشرقت الـ ... ـأرض وضاءت بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضياء وفي النْـ ... ـنُور وسبل الرشاد نخترق
الظلال: ظلال الجنة قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات: 41] ، والمستودع: هو الموضع الذي كان فيه آدم وحواء يخصفان عليهما من الورق، أي: يضمان بعضه إلى بعض يتستران به، ثم هبطت إلى الدنيا في صلب آدم، وأنت لا بشر ولا مضغة.
وقوله: "تركب السفين" يعني: في صلب نوح. وصالب لغة غريبة في الصلب، ويجوز في الصلب الفتحتان كسقم وسقم.
والطبق: القرن، أي: كلما مضى عالم وقرن جاء قرن، ولأن القرن(سيرة 1/48)
يطبق الأرض بسكناه بها. ومنه قوله -عليه السلام- في الاستسقاء: "اللهم اسقنا غيثا مغيثا طبقا غدقا"، أي: يطبق الأرض. وأما قوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق: 19] ، أي: حالا بعد حال.
والنطق: جمع نطاق وهو ما يشد به الوسط ومنه المنطقة. أي: أنت أوسط قومك نسبا. وجعله في علياء وجعلهم تحته نطاقا. وضاءت: لغة في أضاءت.
وأرضعته ثويبة:
وأرضعته ثويبة جارية أبي لهب عمه، مع عمه حمزة، ومع أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، رضي الله عنهما.
قال شعيب، عن الزهري، عن عروة: إن زينب بنت أبي سلمة وأمها أخبرته، أن أم حبيبة أخبرتهما، قالت: قلت: يا رسول الله! انكح أختي بنت أبي سفيان. قال: "أوتحبين ذلك؟ ". قلت: لست لك بمخلية وأحب إلي من شركني في خير أختي. قال: "إن ذلك لا يحل لي". فقلت: يا رسول الله إنا لنتحدث أنك تريد أن تنكح درة بنت أبي سلمة. فقال: "والله لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن عليّ بناتكن ولا أخواتكن". أخرجه البخاري.
وقال عروة في سياق البخاري: ثويبة مولاة أبي لهب، أعتقها، فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهب رآه بعض أهله في النوم بشر حيبة، يعني: حالة فقال له: ماذا لقيت؟ قال: لم ألق بعدكم رخاء غير أني أسقيت في هذه مني بعتاقتي ثويبة. وأشار إلى النقرة التي بين(سيرة 1/49)
الإبهام والتي تليها.
ثم أرضعته حليمة السعدية:
ثم أرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية، وأخذته معها إلى أرضها، فأقام معها في بني سعد نحو أربع سنين، ثم ردته إلى أمه.
قال يحيى بن أبي زائدة: قال محمد بن إسحاق عن جهم بن أبي جهم، عن عبد الله جعفر، عن حليمة بنت الحارث أم رسول الله صلى الله عليه وسلم السعدية، قالت: خرجت في نسوة نلتمس الرضعاء بمكة على أتان لي قمراء قد أذمت بالركب، وخرجنا في سنة شهباء لم تبق شيئا، ومعنا شارف لنا، والله إن تبض علينا بقطرة، ومع صبي لي لن ننام ليلنا
مع بكائه، فلما قدمنا مكة لم يبق منا امرأة إلا عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه، وإنما كنا نرجو كرامة رضاعه من أبيه، وكان يتيما، فلم يبق من صواحبي امرأة إلا أخذت صبيا، غيري. فقلت لزوجي: لأرجعن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، فأتيته فأخذته، فقال زوجي: عسى الله أن يجعل فيه خيرا. قالت: فوالله ما هو إلا أن جعلته في حجري فأقبل عليه ثديي بما شاء من اللبن، فشرب وشرب أخوه حتى رويا، وقام زوجي إلى شارفنا من الليل، فإذا بها حافل، فحلب وشربنا حتى روينا، فبتنا شباعا رواء، وقد نام صبياننا، قال أبوه: والله يا حليمة ما أراك إلا قد أصبت نسمة مباركة، ثم خرجنا، فوالله لخرجت(سيرة 1/50)
أتاني أمام الركب قد قطعتهن حتى ما يتعلق بها أحد، فقدمنا منازلنا من حاضر بني سعد بن بكر، فقدمنا على أجدب أرض الله، فوالذي نفسي بيده إن كانوا ليسرحون أغنامهم ويسرح راعي غنمي، فتروح غنمي بطانا لبنا حفلا، وتروح أغنامهم جياعا، فيقول لرعاتهم: ويلكم ألا تسرحون حيث يسرح راعي حليمة؟ فيسرحون في الشعب الذي يسرح فيه راعينا، فتروح أغنامهم جياعا ما بها من لبن، وتروح غنمي لبنا حفلا.
شق الصدر:
فكان صلى الله عليه وسلم يشب في يومه شباب الصبي في الشهر، ويشب في الشهر شباب الصبى في سنة، قالت: فقدمنا على أمه فقلنا لها: ردي علينا ابني فإنا نخشى عليه وباء مكة قالت: ونحن أضن شيء به مما رأينا من بركته، قالت: ارجعا به، فمكث عندنا شهرين فبينا هو يلعب وأخوه خلف البيوت يرعيان بهما لنا، إذ جاء أخوه يشتد، فقال: أدركا أخي قد جاءه رجلان فشقا بطنه، فخرجنا نشتد، فأتيناه وهو قائم منتقع اللون، فاعتنقه أبوه وأنا، ثم قال: ما لك يا بني؟ قال: "أتاني رجلان فأضجعاني ثم شقا بطني فوالله ما أدري ما صنعا". فرجعنا به. قالت: يقول أبوه: يا حليمة ما أرى هذا الغلام إلا قد أصيب، فانطلقي فلنرده إلى أهله. فرجعنا به إليها، فقالت: ما ردكما به؟ فقلت: كفلناه وأدينا الحق، ثم تخوفنا عليه الأحداث.
فقالت: والله ما ذاك بكما، فأخبراني خبركما، فما زالت بنا حتى أخبرناها. قالت:
فتخوفتما عليه؟ كلا والله إن لابني هذا شأنا إني حملت به فلم أحمل حملا قط كان أخف منه ولا أعظم بركة، ثم رأيت نورا كأنه شهاب خرج مني حين وضعته أضاءت لي أعناق الإبل ببصرى، ثم وضعته فما وقع كما يقع الصبيان، وقع واضعا(سيرة 1/51)
يديه بالأرض رافعا رأسه إلى السماء، دعاه، والحقا شأنكما. هذا حديث جيد الإسناد.
قال أبو عاصم النبيل: أخبرني جعفر بن يحيى، قال: أخبرنا عمارة بن ثوبان أن أبا الطفيل أخبره، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبلت إليه امرأة حتى دنت منه، فبسط لها رداءه فقلت: من هذه؟ فقالوا: أمه التي أرضعته. أخرجه أبو داود.
قال مسلم: حدثنا شيبان، قال: حدثنا، حماد، قال: حدثنا ثابت، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق قلبه، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه، يعني مرضعته، فقالوا: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه منتقع اللون.
قال أنس: قد كنت أرى أثر المخيط في صدره.
وقال بقية، عن بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي، عن عتبة بن عبد، فذكر نحوا من حديث أنس. وهو صحيح أيضا، وزاد فيه: "فرحلت -يعني ظئره - بعيرا، فحملتني على الرحل، وركبت خلفي حتى بلغنا إلى أمي فقالت: أديت أمانتي وذمتي، وحدثتها بالذي لقيت، فلم يعرها ذلك، وقالت: إني رأيت خرج مني نور أضاء منه قصور الشام.(سيرة 1/52)
وقال سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتيت وأنا في أهلي، فانطلق بي إلى زمزم فشرح صدري، ثم أتيت بطست من ذهب ممتلئة حكمة وإيمانا فحشى بها صدري -قال أنس: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرينا أثره- فعرج بي الملك إلى السماء الدنيا" وذكر حديث المعراج.
وقد روى نحوه شريك بن أبي نمر، عن أنس، عن أبي ذر وكذلك رواه الزهري، عن أنس، عن أبي ذر أيضا. وأما قتادة فرواه عن أنس، عن مالك بن صعصعة، نحوه.
وإنما ذكرت هذا ليعرف أن جبريل شرح صدره مرتين: في صغره ووقت الإسراء به.
وفاة والده:
وتوفي "عبد الله" أبوه، وللنبي صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرون شهرا. وقيل: أقل من ذلك.
وقيل: وهو حمل توفي بالمدينة غريبا، وكان قدمها ليمتار تمرا، وقيل: بل مر بها مريضا راجعا من الشام، فروى محمد بن كعب القرظي وغيره: أن عبد الله بن عبد المطلب خرج إلى الشام إلى غزة في عير تحمل تجارات، فلما قفلوا مروا بالمدينة وعبد الله مريض، فقال: أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار، فأقام عندهم مريضا مدة شهر، فبلغ ذلك عبد المطلب، فبعث إليه الحارث وهو أكبر ولده؛ فوجده قد مات؛ ودفن في دار النابغة أحد بني النجار؛ والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ حمل، على الصحيح. وعاش عبد الله خمسا وعشرين سنة، قال الواقدي: وذلك أثبت الأقاويل في سنة وفاته.(سيرة 1/53)
وترك عبد الله من الميراث أم أيمن وخمسة أجمال وغنما، فورث ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
وفاة أمه وكفالة جده وعمه:
وتوفيت أمه "آمنة" بالأبواء وهي راجعة به -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة من زيارة أخوال أبيه بني عدي ابن النجار، وهو يومئذ ابن ست سنين ومائة يوم. وقيل: ابن أربع سنين. فلما مات ودفنت، حملته أم أيمن مولاته إلى مكة إلى جده، فكان في كفالته إلى أن توفي جده، وللنبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين، فأوصى به إلى عمه أبي طالب.
قال عمرو بن عون: أخبرنا خالد بن عبد الله، عن داود بن أبي هند، عن عباس بن عبد الرحمن، عن كندير بن سعيد، عن أبيه، قال: حججت في الجاهلية، فإذا رجل يطوف بالبيت ويرتجز يقول:
رب رد إليّ راكبي محمدا ... يا رب رده واصطنع عندي يدا
قلت: من هذا؟ قال: عبد المطلب، ذهبت إبل له فأرسل ابن ابنه في طلبها، ولم يرسله في حاجة قط إلا جاء بها، وقد احتبس عليه فما برحت حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم وجاء بالإبل. فقال: يا بني لقد حزنت عليك حزنا؛ لا تفارقني أبدا.
وقال خارجة بن مصعب، عن بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة، عن أبيه، عن جده، أن حيدة بن معاوية اعتمر في الجاهلية، فذكر نحوا من حديث كندير عن أبيه.
وقال إبراهيم بن محمد الشافعي، عن أبيه، عن أبان بن الوليد، عن أبان بن تغلب، قال: حدثني جلهمة بن عرفطة، قال: إني لبالقاع من(سيرة 1/54)
نمرة، إذ أقبلت عير من أعلى نجد، فلما حاذت الكعبة إذا غلام قد رمى بنفسه عن عجز بعير، فجاء حتى تعلق بأستار الكعبة، ثم نادى يا رب البنية أجرني؛ وإذا شيخ وسيم قسيم عليه بهاء الملك ووقار الحكماء، فقال: ما شأنك يا غلام، فأنا من آل الله وأجير من استجار به؟ قال: إن أبي مات وأنا صغير، وإن هذا استعبدني، وقد كنت أسمع أن لله بيتا يمنع من الظلم، فلما رأيته استجرت به. فقال له القرشي: قد أجرتك يا غلام، قال: وحبس الله يد الجندعي إلى عنقه. قال جلهمة: فحدثت بهذا الحديث عمرو بن خارجة وكان قعدد الحي، فقال: إن لهذا الشيخ ابنا يعني أبا طالب. قال: فهويت رحلي نحو تهامة، أكسع بها الجدود، وأعلوا بها الكذان، حتى انتهيت إلى المسجد الحرام، وإذا قريش عزين، قد ارتفعت لهم ضوضاء يستسقون، فقائل منهم يقول: اعتمدوا اللات والعزى؛ وقائل يقول: اعتمدوا لمناة الثالثة الأخرى. وقال شيخ وسيم قسيم حسن الوجه جيد الرأي: أنى تؤفكون وفيكم باقية إبراهيم -عليه السلام- وسلالة إسماعيل؟ قالوا له: كأنك عنيت أبا طالب. قال: إيهًا. فقاموا بأجمعهم، وقمت معهم فدققنا عليه بابه، فخرج إلينا رجل حسن الوجه مصفر، عليه إزار قد اتشح به، فثاروا إليه فقالوا: يا أبا طالب أقحط الوادي، وأجدب العباد فهلم فاستسق؛ فقال: رويدكم زوال الشمس وهبوب الريح؛ فلما زاغت الشمس أو كادت، خرج أبو طالب معه غلام كأنه شمس دجن تجلت عنه سحابة قتماء، وحوله أغيلمة؛ فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ بأصبعه الغلام، وبصبصت الأغيلمة حوله وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من ههنا(سيرة 1/55)
وههنا وأغدق واغدودق وانفجر له الوادي، وأخصب النادي والبادي، وفي ذلك يقول أبو طالب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ربيع اليتامى عصمة للأرامل
يطيف به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده في نعمة وفضائل
وميزان عدل لا يخيس شعيرة ... ووزان صدق وزنه غير عائل
وقال عبد الله بن شبيب وهو ضعيف: حدثنا أحمد بن محمد الأزرقي، قال: حدثني سعيد بن سالم، قال: حدثنا ابن جريج، قال: كنا مع عطاء، فقال: سمعت ابن عباس يقول: سمعت أبي يقول: كان عبد المطلب أطول الناس قامة، وأحسنهم وجها، ما رآه أحد قط إلا أحبه، وكان له مفرش في الحجر لا يجلس عليه غيره، ولا يجلس عليه معه أحد، وكان الندي من قريش حرب بن أمية فمن دونه يجلسون حوله دون المفرش؛ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام لم يبلغ فجلس على المفرش، فجبذه رجل فبكى؛ فقال عبد المطلب -وذلك بعدما كف بصره: ما لابني يبكي؟ قالوا له: إنه أراد أن يجلس على المفرش فمنعوه، فقال: دعوا ابني يجلس عليه، فإنه يحس من نفسه شرفا، وأرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغ عربي قبله ولا بعده. قال: ومات عبد المطلب، والنبي صلى الله عليه وسلم ابن ثمان سنين، وكان خلف جنازة عبد المطلب يبكي حتى دفن بالحجون.
وقد رعى الغنم:
فروى عمرو بن يحيى بن سعيد، عن جده، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي إلا وقد رعى الغنم". قالوا: وأنت(سيرة 1/56)
يا رسول الله؟ قال: "نعم، كنت أرعاها بالقراريط لأهل مكة". رواه البخاري.
وقال أبو سلمة، عن جابر، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران نجتني الكباث، فقال: "عليكم بالأسود منه فإنه أطيب". قلنا: وكنت ترعى الغنم يا رسول الله؟ قال: "نعم وهل من نبي إلا قد رعاها". متفق عليه.
سفره مع عمه إن صح:
قال قراد أبو نوح: حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري، عن أبيه، قال: خرج أبو طالب إلى الشام ومعه محمد صلى الله عليه وسلم وأشياخ من قريش؛ فلما أشرفوا على الراهب نزلوا فخرج إليهم، وكان قبل ذلك لا يخرج إليهم، فجعل يتخللهم وهم يحلون رحالهم؛ حتى جاء فأخذ بيده صلى الله عليه وسلم فقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال أشياخ قريش: وما علمك بهذا؟ قال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدا، ولا يسجدون إلا لنبي، وإني لأعرفه بخاتم النبوة، أسفل "عرصوف" كتفه مثل التفاحة. ثم رجع فصنع لهم طعاما؛ فلما أتاهم به كان صلى الله عليه وسلم في رعية الإبل، قال: فأرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة تظله، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه -يعني إلى فيء شجرة- فلما(سيرة 1/57)
جلس مال فيء الشجرة عليه, فقال: انظروا فيء الشجرة مال عليه, قال: فبينا هو قائم عليه يناشدهم أن لا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم لو رأوه عرفوه بصفته فقتلوه؛ فالتفت فإذا بسبعة نفر قد أقبلوا من الروم، فاستقبلهم الراهب، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا قد بعث إليه ناس، وإنا أخبرنا فبعثنا إلى طريقك هذا؛ قال: أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه، هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا: لا. قال: فتابعوه وأقاموا معه، قال: فأتاهم فقال: أنشدكم بالله أيكم وليه؟ قال أبو طالب: أنا؛ فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب، وبعث معه أبو بكر بلالا، وزوده الراهب من الكعك والزيت.
تفرد به قراد، واسمه عبد الرحمن بن غزوان، ثقة، احتج به البخاري والنسائي؛ ورواه الناس عن قراد، وحسنه الترمذي. وهو حديث منكر جدا؛ وأين كان أبو بكر؟ كان ابن عشر سنين، فإنه أصغر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين ونصف؛ وأين كان بلال في هذا الوقت؟ فإن أبا بكر لم يشتره إلا بعد المبعث، ولم يكن ولد بعد؛ وأيضا، فإذا كان عليه غمامة تظله كيف يتصور أن يميل فيء الشجرة؟ لأن ظل الغمامة يعدم فيء الشجرة التي نزل تحتها، ولم نر النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أبا طالب قط بقول الراهب، ولا تذاكرته قريش، ولا حكته أولئك الأشياخ، مع
توفر هممهم ودواعيهم على حكاية مثل ذلك، فلو وقع لاشتهر بينهم أيما اشتهار، ولبقي عنده صلى الله عليه وسلم حس من النبوة؛ ولما أنكر مجيء الوحي إليه، أولا بغار حراء وأتى خديجة خائفا على عقله، ولما ذهب إلى شواهق الجبال ليرمي نفسه صلى الله عليه وسلم. وأيضا فلو أثر هذا الخوف في أبي طالب ورده،(سيرة 1/58)
كيف كنت تطيب نفسه أن يمكنه من السفر إلى الشام تاجرا لخديجة؟
وفي الحديث ألفاظ منكرة، تشبه ألفاظ الطرقية، مع أن ابن عائذ روى معناه في مغازيه دون قوله: "وبعث معه أبو بكر بلالا" إلى آخره، فقال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: أخبرني أبو داود سليمان بن موسى، فذكره بمعناه.
وقال ابن إسحاق في "السيرة": إن أبا طالب خرج إلى الشام تاجرا في ركب، ومعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام، فلما نزلوا بصرى، وبها بحيرا الراهب في صومعته، وكان أعلم أهل النصرانية؛ ولم يزل في تلك الصومعة قط راهب يصير إليه علمهم عن كتاب فيهم فيما يزعمون، يتوارثونه كابرا؛ عن كابر قال: فنزلوا قريبا من الصومعة، فصنع بحيرا طعاما، وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه حين أقبلوا، وغمامة تظله من بين القوم، فنزل بظل شجرة، فنزل بحيرا من صومعته، وقد أمر بذلك الطعام فصنع، ثم أرسل إليهم فجاءوه فقال رجل منهم: يا بحيرا ما كنت تصنع هذا، فما شأنك؟ قال: نعم، ولكنكم ضيف، وأحببت أن أكرمكم، فاجتمعوا، وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم لصغره في رحالهم. فلما نظر بحيرا فيهم ولم يره، قال: يا معشر قريش لا يتخلف أحد عن طعامي هذا. قالوا: ما تخلف أحد إلا غلام هو أحدث القوم سنا. قال: فلا تفعلوا، ادعوه. فقال رجل: واللات والعزى إن هذا للؤم بنا، يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن الطعام من بيننا، ثم قام واحتضنه، وأقبل به فلما رآه بحيرا جعل يلحظه شديدا، وينظر إلى أشياء من جسده، قد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا شبعوا وتفرقوا قام بحيرا، فقال: يا غلام أسألك باللات والعزى إلا أخبرتني(سيرة 1/59)
عما أسألك عنه، فزعموا أنه قال: لا تسألني باللات والعزى، فوالله ما أبغضت بغضهما شيئا قط. فقال له: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فجعل يسأله عن أشياء من حاله، فتوافق ما عنده من الصفة. ثم نظر فيه أثر خاتم النبوة، فأقبل على أبي طالب، فقال: ما هو منك؟ قال: ابني. قال: ما ينبغي أن يكون أبوه حيا. قال: فإنه ابن أخي. قال: ارجع به واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفته ليبغنه شرا، فإنه كائن لابن أخيك شأن. فخرج به أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته. وذكر الحديث.
وقال معتمر بن سليمان: حدثني أبي، عن أبي مجلز: أن أبا طالب سافر إلى الشام ومعه
محمد، فنزل منزلا، فأتاه راهب، فقال: فيكم رجل صالح، ثم قال: أين أبو هذا الغلام؟ قال أبو طالب: ها أنذا وليه. قال: احتفظ به ولا تذهب به إلى الشام، إن اليهود قوم حسد، وإني أخشاهم عليه. فرده.
وقال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عبد الله بن جعفر وجماعة، عن داود بن الحصين، أن أبا طالب خرج تاجرا إلى الشام، ومعه محمد، فنزلوا ببحيرا ... الحديث.
وروى يونس عن ابن شهاب حديثا طويلا فيه: فلما ناهز الاحتلام، ارتحل به أبو طالب تاجرا، فنزل تيماء فرآه حبر من يهود تيماء، فقال لأبي طالب: ما هذا الغلام؟ قال: هو ابن أخي، قال: فوالله إن قدمت به الشام لا تصل به إلى أهلك أبدا، لتقتلنه اليهود إنه عدوهم.
فرجع به أبو طالب من تيماء إلى مكة.(سيرة 1/60)
قال ابن إسحاق: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما ذكر لي- يحدث عما كان الله تعالى يحفظه به في صغره، قال: "لقد رأيتني في غلمان من قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب الغلمان به، كلنا قد تعرى وجعل إزاره على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر، إذ لكمني لاكم ما أراها، لكمة وجيعة، وقال: شد عليك إزارك، فأخذته فشددته، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي".
قال ابن إسحاق: وهاجت حرب الفجار ولرسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون سنة، سميت بذلك لما استحلت كنانة وقيس عيلان في الحرب من المحارم بينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كنت أنبل على أعمامي". أي أرد عنهم نبل عدوهم إذا رموهم. وكان قائد قريش حرب بن أمية.(سيرة 1/61)
شأن خديجة:
قال ابن إسحاق: ثم إن خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي وهي أقرب منه صلى الله عليه وسلم إلى قصي برجل، كانت، امرأة تاجرة ذات شرف ومال، وكانت تستأجر الرجال في مالها، وكانت قريش تجارا، فعرضت على النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج في مال لها إلى الشام، ومعه غلام اسمه ميسرة، فخرج إلى الشام، فنزل تحت شجرة بقرب صومعة، فأطل الراهب إلى ميسرة فقال: من هذا؟ فقال: رجل من قريش، قال: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي. ثم باع النبي صلى الله عليه وسلم تجارته وتعوض ورجع، فكان ميسرة -فيما يزعمون- إذا اشتد الحر يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو يسير.
روى قصة خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الشام تاجرا، المحاملي، عن عبد الله بن شبيب وهو واه، قال: حدثنا أبو بكر بن شيبة، قال: حدثني عمر بن أبي بكر العدوي، قال: حدثني بن شيبة، قال: حدثتني عميرة بنت عبد الله بن كعب بن مالك، عن أم سعد بنت سعد بن الربيع، عن نفيسة بنت منية أخت يعلى، قالت: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة. فذكر الحديث بطوله، وهو حديث منكر. قال: فلما قدم مكة باعت خديجة ما جاء به فأضعف أو قريبا. وحدثها ميسرة عن قول الراهب، وعن الملكين، وكانت لبيبة حازمة، فبعثت إليه تقول: يابن عمي، إني قد رغبت فيك لقرابتك وأمانتك وصدق وحسن خلقك، ثم عرضت عليه نفسها، فقال ذلك لأعمامه، فجاء معه حمزة عمه حتى(سيرة 1/62)
دخل على خويلد فخطبها منه، وأصدقها النبي صلى الله عليه وسلم عشرين بكرة، فلم يتزوج عليها حتى ماتت، وتزوجها وعمره خمس وعشرون سنة.
وقال أحمد في "مسنده": حدثنا أبو كامل، قال: حدثنا حماد، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس -فيما يحسب حماد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر خديجة، وكان أبوها يرغب عن أن يزوجه، فصنعت هي طعاما وشرابا، فدعت أبها وزمرا من قريش، فطعموا وشربوا حتى ثملوا، فقالت لأبيها: إن محمدا يخطبني فزوجني إياه، فزوجها إياه، فخلقته وألبسته حلة كعادتهم، فلما صحا نظر، فإذا هو مخلق، فقال: ما شأني؟ فقالت: زوجتني محمدا. فقال: وأنا أزوج يتيم أبي طالب! لا لعمري، فقالت: أما تستحيي؟ تريد أن تسفه نفسك عند قريش بأنك كنت سكران، فلم تزل به حتى رضي.
وقد روى طرفا منه الأعمش، عن أبي خالد الوالبي، عن جابر بن سمرة أو غيره.
وأولاده كلهم من خديجة سوى إبراهيم، وهم: القاسم، والطيب, والطاهر، وماتوا صغارا رضعا قبل المبعث، ورقية، وزينب، وأم كلثوم, وفاطمة -رضي الله عنهم- فرقية، وأم كلثوم زوجتا عثمان بن عفان، وزينب زوجة أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس، وفاطمة زوجة علي، رضي الله عنهم أجمعين.
بنيان الكعبة:
قال ابن إسحاق: فلما بلغ صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة اجتمعت(سيرة 1/63)
قريش لبنيان الكعبة، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها، وإنما كانت رضما فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها, وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة فتحطمت، فأخذوا خشبها وأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة نجار قبطي، فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها, وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت يطرح فيها ما يهدى لها كل يوم، فتشرف على جدار الكعبة، فكانت مما يهابون، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت وكشت وفتحت فاها، فكانوا يهابونها، فبينا هي يوما تشرف على جدار الكعبة بعث الله إليها طائرا فاختطفها، فذهب بها,
قال: فاستبشروا بذلك، ثم هابوا هدمها. فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول وهو يقول: اللهم لم ترع، اللهم لا نريد إلا خيرا. ثم هدم من ناحية الركنين، وهدموا حتى بلغوا أساس إبراهيم -عليه السلام- فإذا حجارة خضر آخذ بعضها ببعض. ثم بنوا، فلما بلغ البنيان موضع الركن، يعني الحجر الأسود، اختصموا فيمن يضعه، وحرصت كل قبيلة على ذلك حتى تحاربوا ومكثوا أربع ليال. ثم إنهم اجتمعوا في المسجد وتناصفوا فزعموا أن أبا أمية بن المغيرة, وكان أسن قريش، قال: اجعلوا بينكم فيما تختلفون أول من يدخل من باب المسجد، ففعلوا، فكان أول من دخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا به، فلما انتهى إليهم أخبروه الخبر فقال: "هاتوا لي ثوبا". فأتوا به، فأخذ الركن بيده فوضعه في الثوب، ثم قال: "لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعا". ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو صلى الله عليه وسلم بيده وبنى عليه.
وقال ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، قال: لما بلغ رسول الله(سيرة 1/64)
صلى الله عليه وسلم الحلم أجمرت امرأة الكعبة فطارت شرارة من مجمرتها في ثياب الكعبة فاحترقت، فهدموها حتى إذا بنوها فبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن: أي القبائل تضعه؟ قالوا: تعالوا نحكم أول من يطلع علينا. فطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام عليه وشاح نمرة، حكموه، فأمر بالركن فوضع في ثوب, ثم أخذ سيد كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن، فكان هو يضعه، ثم طفق لا يزداد على السن إلا رضا حتى دعوه الأمين، قبل أن ينزل عليه وحي، وطفقوا لا ينحرون جزورا إلا التمسوه فيدعو لهم فيها.
ويروى عن عروة ومجاهد وغيرهما: أن البيت بني قبل المبعث بخمس عشرة سنة.
وقال داود بن عبد الرحمن العطار: حدثنا ابن خثيم، عن أبي الطفيل، قال: قلت له: يا خال، حدثني عن شأن الكعبة قبل أن تبنيها قريش. قال: كان برضم يابس ليس بمدر تنزوه العناق، وتوضع الكسوة على الجدر ثم تدلى، ثم إن سفينة للروم أقبلت، حتى إذا كانت بالشعيبة انكسرت، فسمعت بها قريش فركبوا إليها وأخذوا خشبها، ورومي يقال له: بلقوم نجار بان، فلما قدموا مكة، قالوا: لو بنينا بيت ربنا -عز وجل- فاجتمعوا لذلك ونقلوا الحجارة من أجياد الضواحي، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل إذ انكشفت نمرته فنودي: يا محمد عورتك، فذلك أول ما نودي، والله أعلم. فما رؤيت له عورة بعد.
وقال أبو الأحوص، عن سماك بن حرب: إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم بنى البيت -وذكر الحديث- إلى أن قال: فمر عليه الدهر فانهدم، فبنته العمالقة، فمر عليه الدهر فانهدم، فبنته جرهم، فمر عليه الدهر فانهدم فبنته(سيرة 1/65)
قريش. وذكر في الحديث وضع النبي صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود مكانه.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن عمرة، عن عائشة, قالت: ما زلنا نسمع أن إسافا ونائلة -رجل وامرأة من جرهم- زنيا في الكعبة فمسخا حجرين.
وقال موسى بن عقبة: إنما حمل قريشا على بناء الكعبة أن السيل كان يأتي من فوقها من فوق الردم الذي صنعوه فأخربه، فخافوا أن يدخلها الماء، وكان رجل يقال له مليح سرق طيب الكعبة، فأرادوا أن يشيدوا بناءها وأن يرفعوا بابها حتى لا يدخلها إلا من شاءوا، فأعدوا لذلك نفقة وعمالا.
وقال زكريا بن إسحاق: حدثنا عمرو بن دينار أنه سمع جابرا يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينقل الحجارة للكعبة مع قريش وعليه إزار، فقال له عمه العباس: يابن أخي لو حللت إزارك فجعلته على منكب دون الحجارة، ففعل ذلك، فسقط مغشيا عليه، فما رؤي بعد ذلك اليوم عريانا. متفق عليه. وأخرجاه أيضا من حديث ابن جريج.
وقال معمر، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الطفيل، قال: لما بنى البيت كان الناس ينقلون الحجارة والنبي صلى الله عليه وسلم معهم، فأخذ الثوب فوضعه على عاتقه فنودي: "لا تكشف عورتك" فألقى الحجر ولبس ثوبه. رواه أحمد في "مسنده".
وقال عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي: حدثنا عمرو بن أبي قيس،(سيرة 1/66)
عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن أبيه، قال: كنت أنا وابن أخي ننقل الحجارة على رقابنا وأزرنا تحت الحجارة، فإذا غشينا الناس اتزرنا فبينا هو أمامي خر على وجهه منبطحا، فجئت أسعى وألقيت حجري، وهو ينظر إلى السماء، فقلت: ما شأنك؟ فقام وأخذ إزاره وقال: "نهيت أن أمشي عريانا". فكنت أكتمها الناس مخافة أن يقولوا مجنون. رواه قيس بن الربيع بنحوه، عن سماك.
وقال حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة، عن علي -رضي الله عنه- قال: لما تشاجروا في الحجر أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب، فكان أول من دخل النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد جاء الأمين.
مسلم الزنجي، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه، قال: جلس رجال من قريش فتذاكروا بنيان الكعبة، فقالوا: كانت مبنية برضم يابس، وكان بابها بالأرض، ولم يكن لها سقف، وإنما تدلى الكسوة على الجدر، وتربط من أعلى الجدر من بطنها، وكان في بطن الكعبة عن يمين الداخل جب يكون فيه ما يهدي للكعبة منذ زمن جرهم، وذلك أنه عدا على ذلك الجب قوم من جرهم فسرقوا ما به، فبعث الله تلك الحية فحرست الكعبة، وما فيها خمسمائة سنة إلى أن بنتها قريش، وكان قرنا الكبش معلقين في بطنها مع معاليق من حلية. إلى أن قال: حتى يطيق الحجر منها ثلاثون رجلا يحرك الحجر منها، فترتج جوانبها، قد تشبك بعضها ببعض، فأدخل الوليد بن المغيرة عتلة بين إصبعين حجرين فانفلقت منه فلقة، فأخذها رجل فنزت من يده(سيرة 1/67)
حتى عادت في مكانها، وطارت من تحتها برقة كادت أن تخطف أبصارهم، ورجفت مكة بأسرها، فأمسكوا. إلى أن قال: وقلت النفقة عن عمارة البيت، فأجمعوا على أن يقصروا عن القواعد ويحجروا ما يقدرون ويتركوا بقيته في الحجر، ففعلوا ذلك وتركوا ستة أذرع وشبرا، ورفعوا بابها وكسوها بالحجارة حتى لا يدخلها السيل ولا يدخلها إلا من أرادوا، وبنوها بساف من حجارة وساف من خشب، حتى انتهوا إلى موضع الركن فتنافسوا في وضعه. إلى أن قال: فرفعوها بمدماك حجارة ومدماك خشب، حتى بلغوا السقف، فقال لهم باقوم النجار الرومي: أتحبون أن تجعلوا سقفها مكنسا أو مسطحا؟ قالوا: بل مسطحا. وجعلوا فيه ست دعائم في صفين, وجعلوا ارتفاعها من ظاهرها ثمانية عشر ذراعا وقد كانت قبل تسعة أذرع، وجعلوا درجة من خشب في بطنها يصعد منها إلى ظهرها، وزوقوا سقفها وحيطانها من بطنها ودعائمها، وصوروا فيها الأنبياء والملائكة والشجر، وصوروا إبراهيم يستقسم بالأزلام، وصوروا عيسى وأمه، وكانوا أخرجوا ما في جب الكعبة من حلية ومال وقرني الكبش، وجعلوه عند أبي طلحة العبدري، وأخرجوا منها هبل، فنصب عند المقام حتى فرغوا فأعادوا جميع ذلك ثم ستروها بحبرات يمانية.
وفي الحديث عن أبي نجيح، عن أبيه، عن حويطب بن عبد العزى وغيره: فلما كان يوم الفتح دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيت, فأمر بثوب فبل بماء وأمر بطمس تلك الصور، ووضع كفيه على صورة عيسى وأمه وقال: "امحوا الجميع إلا ما تحت يدي". رواه الأزرقي.
ابن جريج, قال: سأل سليمان بن موسى الشامي عطاء بن أبي(سيرة 1/68)
رباح، وأنا أسمع: أدركت في البيت تمثال مريم وعيسى؟ قال: نعم أدركت تمثال مريم مزوقا في حجرها عيسى قاعد، وكان في البيت ستة أعمدة سواري، وكان تمثال عيسى ومريم في العمود الذي يلي
الباب: فقلت لعطاء: متى هلك؟ قال: في الحريق زمن ابن الزبير، قلت: أعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعني كان؟ قال: لا أدري، وإني لأظنه قد كان على عهده.
قال داود بن عبد الرحمن، عن ابن جريج: ثم عاودت عطاء بعد حين فقال: تمثال عيسى وأمه في الوسطى من السواري.
قال الأزرقي: حدثنا داود العطار، عن عمرو بن دينار، قال: أدركت في الكعبة قبل أن تهدم تمثال عيسى وأمه، قال داود: فأخبرني بعض الحجبة عن مسافع بن شيبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا شيبة امح كل صورة إلا ما تحت يدي". قال: فرفع يده عن عيسى ابن مريم وأمه.
قال الأزرقي، عن سعيد بن سالم: حدثني يزيد بن عياض بن جعدبة، عن ابن شهاب: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة وفيها صورة الملائكة، فرأى صورة إبراهيم فقال: "قاتلهم الله جعلوه شيخا يستقسم بالأزلام". ثم رأى صورة مريم فوضع يده عليها فقال: "امحو ما فيها إلا صورة مريم". ثم ساقه الأزرقي بإسناد آخر بنحوه، وهو مرسل، لكن قول عطاء وعمرو ثابت، وهذا أمر لم نسمع به إلى اليوم.
أخبرنا سليمان بن حمزة، قال: أخبرنا محمد بن عبد الواحد، قال: أخبرنا محمد بن أحمد، أن فاطمة بنت عبد الله أخبرتهم، قالت: أخبرنا ابن بريدة، قال: أخبرنا الطبراني، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، عن(سيرة 1/69)
عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن خثيم، عن أبي الطفيل، قال: كانت الكعبة في الجاهلية مبنية بالرضم، ليس فيها مدر، وكانت قدر ما نقتحمها، وكانت غير مسقوفة، إنما توضع ثيابها عليها، ثم تسدل عليها سدلا، وكان الركن الأسود موضوعا على سورها باديا، وكانت ذات ركنين كهيئة الحلقة، فأقبلت سفينة من أرض الروم فانكسرت بقرب جدة، فخرجت قريش ليأخذوا خشبها، فوجدوا رجلا روميا عندها، فأخذوا الخشب، وكانت السفينة تريد الحبشة، وكان الرومي الذي في السفينة نجارا، فقدموا به وبالخشب، فقالت قريش: نبني بهذا الذي في السفينة بيت ربنا، لما أرادوا هدمه إذا هم بحية على سور البيت، مثل قطعة الجائز سوداء الظهر، بيضاء البطن، فجعلت كلما دنا أحد إلى البيت ليهدم أو يأخذ من حجارته، سعت إليه فاتحة فاها، فاجتمعت قريش عند المقام فعجوا إلى الله وقالوا: ربنا لم ترع، أردنا تشريف بيتك وتزيينه، فإن كنت ترضى بذلك، وإلا فما بدا لك فافعل. فسمعوا خوارا في السماء، فإذا هم بطائر أسود الظهر، أبيض البطن، والرجلين، أعظم من النسر، فغرز مخلابه في رأس الحية، حتى انطلق بها يجرها، ذنبها أعظم من كذا وكذا ساقطا، فانطلق بها نحو أجياد، فهدمتها قريش، وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي، تحملها قريش على رقابها، فرفعوا في السماء عشرين ذراعا، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يحمل
حجارة من أجياد، وعليه نمرة، فضاقت عليه النمرة، فذهب يضعها على عاتقه، فبرزت عورته من صغر النمرة، فنودي: يا محمد، خمر عورتك، فلم ير عريانا بعد ذلك. وكان بين بنيان الكعبة، وبين ما أنزل عليه خمس سنين. هذا حديث صحيح.(سيرة 1/70)
وقد روى نحوه داود العطار، عن ابن خثيم.
ورواه محمد بن كثير المصيصي، عن عبد الله بن واقد، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن نافع بن سرجس، قال: سألت أبا الطفيل، فذكر نحوه.
وقال عبد الصمد بن النعمان: حدثنا ثابت بن يزيد، قال: حدثنا هلال بن خباب، عن مجاهد، عن مولاه، أنه حدثه أنه كان فيمن يبني الكعبة في الجاهلية، قال: ولى حجر أنا نحته بيدي أعبده من دون الله، فأجيء باللبن الخاثر الذي أنفسه على نفسي فأصبه عليه، فيجيء الكلب فيلحسه، ثم يشغر فيبول، فبنينا حتى بلغنا الحجر، وما يرى الحجر منا أحد، فإذا هو وسط حجارتنا، مثل رأس الرجل، يكاد يتراءى منه وجه الرجل، فقال بطن من قريش: نحن نضعه، وقال آخرون: بل نحن نضعه. فقالوا: اجعلوا بينكم حكما. قالوا: أول رجل يطلع من الفج، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتاكم الأمين، فقالوا له، فوضعه في ثوب، ثم دعا بطونهم، فأخذوا بنواحيه معه، فوضعه هو. اسم مولى مجاهد: السائب بن عبد الله.
وقال إسرائيل، عن أبي يحيى القتات، عن جاهد عن عبد الله بن عمرو، قال: كان البيت قبل الأرض بألفي سنة {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ} [الانشقاق: 3] ، قال: من تحته مدا. وروى نحوه عن منصور، عن مجاهد.
ما عصمه الله به من أمر الجاهلية:
ومما عصم الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من أمر الجاهلية أن قريشا كانوا يسمون الحمس، يعني الأشداء الأقوياء، وكانوا يقفون في الحرم بمزدلفة، ولا يقفون مع الناس بعرفة، يفعلون رياسة(سيرة 1/71)
وبأوا، وخالفوا بذلك شعائر إبراهيم عليه السلام في جملة ما خالفوا. فروى البخاري ومسلم من حديث جبير بن مطعم، قال: أضللت بعيرا لي يوم عرفة، فخرجت أطلبه بعرفة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم واقفا مع الناس بعرفة، فقلت: هذا من الحمس، فما شاء ههنا؟ .
وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة، عن الحسن بن محمد بن الحنفية، عن أبيه، عن جده، سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما هممت بقبيح مما يهم به أهل الجاهلية إلا مرتين، عصمني الله، قلت ليلة لفتى من قريش: أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما تسمر الفتيان. قال: نعم، فخرجت حتى جئت أدنى دار من دور مكة، فسمعت غناء وصوت دفوف ومزامير، فقلت: ما هذا؟ قالوا: فلان تزوج، فلهوت بذلك حتى غلبتني عيني، فنمت، فما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي، ثم فعلت ليلة أخرى مثل ذلك فوالله ما هممت بعدها بسوء مما يعمله أهل الجاهلية، حتى أكرمني الله بنبوته".
وروى مسعر، عن العباس بن ذريح، عن زياد النخعي، قال: حدثنا عمار بن ياسر أنهم سألوا رسول الله صلى لله عليه وسلم: هل أتيت في الجاهلية شيئا حراما؟ قال: "لا، وقد كنت معه على ميعادين، أما أحدهما فحال بيني وبينه سامر قومي، والآخر غلتني عيني" أو كما قال.
وقال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أبو بكر بن أبي سبرة، عن حسين
ابن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة، عن(سيرة 1/72)
ابن عباس قال: حدثتني أم أيمن، قالت: كان بوانة صنما تحضره قريش، تعظمه وتنسك له النساك، ويحلقون رءوسهم عنده، ويعكفون عنده يوما في السنة، وكان أبو طالب يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر ذلك العيد، فيأبى، حتى رأيت أبا طالب غضب، ورأيت عماته غضبن يومئذ أشد الغضب، وجعلن يقلن: إنا نخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا، فلم يزالوا به حتى ذهب فغاب عنهم ما شاء الله، ثم رجع إلينا مرعوبا، فقلن: ما دهاك؟ قال: "إني أخشى أن يكون بي لمم". فقلن: ما كان الله ليبتليك بالشيطان، وفيك من خصال الخير ما فيك، فما الذي رأيت؟ قال: "إني كلما دنوت من صنم منها تمثل لي رجل أبيض طويل يصيح: وراءك يا محمد لا تمسه". قالت: فما عاد إلى عيد لهم حتى نبئ.
وقال أبو أسامة: حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أسامة بن زيد، عن أبيه، قال: كان صنم من نحاس يقال له: إساف أو نائلة يتمسح المشركون به إذا طافوا، فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطفت معه، فلما مررت مسحت به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمسه" قال زيد: فطفنا، فقلت في نفسي: لأمسنه حتى أنظر ما يكون، فمسحته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم تنه؟ ". هذا حديث حسن. وقد زاد فيه بعضهم عن محمد بن عمرو بإسناده: قال زيد: فوالله ما استلم صنما حتى أكرمه الله بالذي أنزل عليه.
وقال جرير بن عبد الحميد، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم شهد مع المشركين مشاهدهم، فسمع ملكين خلفه، وأحدهما يقول لصاحبه: اذهب بنا(سيرة 1/73)
حتى نقوم خلف رسول الله، فقال: كيف نقوم خلفه، وإنما عهده باستلام الأصنام قبيل؟ قال: فلم يعد بعد ذلك أن يشهد مع المشركين مشاهدهم. تفرد به جرير، وما أتى به عنه سوى شيخ البخاري عثمان بن أبي شيبة. وهو منكر.
وقال إبراهيم بن طهمان: أخبرنا بديل بن ميسرة, عن عبد الكريم، عن عبد الله بن شقيق، عن أبيه، عن عبد الله بن أبي الحمساء، قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعا قبل أن يبعث، فبقيت له بقية، فوعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك. قال: فنسيت يومي والغد, فأتيته
في اليوم الثالث، فوجدته في مكانه، فقال: "يا فتى لقد شققت علي، أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك" أخرجه أبو داود.
وأخبرنا الخضر بن عبد الرحمن الأزدي، قال: أخبرنا أبو محمد بن البن، قال: أخبرنا جدي، قال: أخبرنا أبو القاسم علي بن أبي العلاء، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي نصر، قال: أخبرنا علي بن أبي العقب، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم, قال: حدثنا محمد بن عائذ, قال: حدثني الوليد، قال: أخبرني معاوية بن سلام، عن جده أبي سلام الأسود، عمن حدثه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا بأعلى مكة، إذا براكب عليه سواد فقال: هل بهذه القرية رجل يقال له: أحمد؟ فقلت: ما بها أحمد ولا محمد غيري, فضرب ذراع راحلته فاستناخت، ثم أقبل حتى كشف عن كتفي حتى نظر إلى الخاتم الذي بين كتفي فقال: أنت نبي الله؟ قلت: ونبي أنا؟ قال: نعم. قلت: بم أبعث؟ قال: بضرب أعناق قومك، قال: فهل من زاد؟ فخرجت حتى أتيت خديجة فأخبرتها،(سيرة 1/74)
فقالت: حريا أو خليقا أن لا يكون ذلك، فهي أكبر كلمة تكلمت بها في أمري، فأتيته بالزاد فأخذه وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى زودني نبي الله صلى الله عليه وسلم طعاما، وحمله لي في ثوبه".(سيرة 1/75)
ذكر زيد بن عمرو بن نفيل، رحمه الله:
قال موسى بن عقبة: أخبرني سالم أنه سمع أباه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل أسفل بلدح، وذلك قبل الوحي، فقدم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة فيها لحم، فأبى أن يأكل وقال: لا آكل مما يذبحون على أنصابهم، أنا لا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه. رواه البخاري؛ وزاد في آخره: فكان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله؟ إنكارا لذلك وإعظاما له. ثم قال البخاري: قال موسى: حدثني سالم بن عبد الله، ولا أعلم إلا يحدث به عن ابن عمر: أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالما من اليهود، فسأله عن دينهم، فقال: إني لعلي أن أدين دينكم، قال: إنك لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. قال زيد: ما أفر إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا وأنا أستطيعه، فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا. قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله. فخرج زيد فلقي عالما من النصارى، فذكر له مثله فقال: لن تكون على ديننا، حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. قال: ما أفر إلا من لعنة الله، فقال له كما قال اليهودي، فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم خرج، فلما برز رفع يديه فقال: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم. وهكذا أخرجه البخاري.(سيرة 1/76)
وقال عبد الوهاب الثقفي: حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، ويحيى بن عبد الرحمن، عن أسامة بن زيد، عن أبيه، قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما حارا وهو مردفي إلى نصب من الأنصاب، وقد ذبحنا له شاة فأنضجناها، فلقينا زيد بن عمرو بن نفيل، فحيا كل واحد منهما صاحبه بتحية الجاهلية، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا زيد ما لي أرى قومك قد شنفوا لك؟ قال: والله يا محمد إن ذلك لبغير نائلة ترة لي فيهم, ولكني خرجت أبتغي هذا الدين حتى أقدم على أحبار فدك فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به فقلت: ما هذا بالدين الذي أبتغي، فقدمت الشام فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به، فخرجت فقال لي شيخ منهم: إنك تسأل عن دين ما نعلم أحدا يعبد الله به إلا شيخ بالجزيرة، فأتيته، فلما رآني قال: ممن أنت؟ قلت: من أهل بيت الله، قال: من أهل الشوك والقرظ؟ إن الذي تطلب قد ظهر ببلادك، قد بعث نبي قد طلع نجمه، وجميع من رأيتهم في ضلال. قال: فلم أحس بشيء، قال: فقرب إليه السفرة فقال: ما هذا يا محمد؟ قال: شاة ذبحت للنصب قال: ما كنت لآكل مما لم يذكر اسم الله عليه قال: فتفرقا. وذكر باقي الحديث.
وقال الليث، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش والله ما منكم أحد على دين إبراهيم غيري. وكان يحيي الموءودة، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: "مه! لا تقتلها أنا أكفيك مئونتها". فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها: "إن شئت دفعتها إليك وإن شئت كفيتك مئونتها". هذا حديث صحيح.
وقال محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أسامة بن زيد، عن أبيه، أن زيد بن عمرو بن نفيل مات، ثم أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه يبعث يوم القيامة أمة وحده". إسناده حسن.
أنبئت عن أبي الفخر أسعد، قال: أخبرتنا فاطمة، قالت: أخبرنا ابن ريذة، قال: أخبرنا الطبراني، قال: أخبرنا علي بن عبد العزيز، قال: أخبرنا عبد الله بن رجاء، قال: أخبرنا المسعودي، عن نفيل بن هشام بن سعيد بن زيد، عن(سيرة 1/77)
أبيه، عن جده قال: خرج أبي وورقة بن نوفل يطلبان الدين حتى مرا بالشام، فأما ورقة فتنصر، وأما زيد فقيل له: إن الذي تطلب أمامك، فانطلق حتى الموصل، فإذا هو براهب، فقال: من أين أقبل صاحب الراحلة، قال: من بيت إبراهيم، قال: ما تطلب؟ قال: الدين، فعرض عليه النصرانية، فأبى أن يقبل وهو يقول: لبيك حقا، تعبدا ورقا، البر أبغي لا الخال، وما مهجر كمن قال:
عذت بما عاذ به إبراهيم ... مستقبل القبلة وهو قائم
أنفي لك اللهم عان راغم ... مهما تجشمني فإني جاشم
ثم يخر فيسجد للكعبة. قال: فمر زيد بالنبي صلى الله عليه وسلم وبزيد بن حارثة، وهما يأكلان من سفرة لهما، فدعياه فقال: يابن أخي لا آكل مما ذبح على النصب، قال: فما رؤي النبي صلى الله عليه وسلم يأكل مما ذبح على النصب من يومه ذاك حتى بعث.
قال: وجاء سعيد بن زيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن زيدا كان كما رأيت، أو كما بلغك، فاستغفر له؟ قال: "نعم، فاستغفروا(سيرة 1/78)
له، فإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده".
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: كانت قريش حين بنوا الكعبة يتوافدون على كسوتها كل عام تعظيما لحقها، وكانوا يطوفون بها، ويستغفرون الله عندها، ويذكرونه مع تعظيم الأوان والشرك في ذبائحهم ودينهم كله.
وقد كان نفر من قريش: زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، وعثمان بن الحويرث بن أسد، وهو ابن عم ورقة، وعبيد الله بن جحش بن رئاب، وأمه أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم حضروا قريشا عند وثن لهم كانوا يذبحون عنده لعيد من أعيادهم، فلما اجتمعوا خلا بعض أولئك النفر إلى بعض وقالوا: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض، فقال قائلهم: تعلمن والله ما قومكم على شيء, لقد أخطئوا دين إبراهيم وخالفوه، وما وثن يعبد لا يضر ولا ينفع، فابغوا لأنفسكم، فخرجوا يطلبون ويسيرون في الأرض يلتمسون أهل الكتاب من اليهود والنصارى والملل كلها، يتبعون الحنفية دين إبراهيم، فأما ورقة فتنصر، ولم يكن منهم أعدل شأنا من زيد بن عمرو، اعتزل الأوثان وفارق الأديان إلا دين إبراهيم.
وقال الباغندي: حدثنا أبو سعيد الأشج, قال: حدثنا أبو معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة, قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنة فرأيت لزيد بن عمرو بن نفيل دوحتين".
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: حدثني هشام، عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل شيخا كبيرا(سيرة 1/79)
مسندا ظهره إلى الكعبة، وهو يقول: يا معشر قريش، والذي نفسي بيده! ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري، ثم يقول: اللهم لو أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به، ثم يسجد على راحلته".
قال ابن إسحاق: فقال زيد في فراق دين قومه:
أربا واحدا أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور
عزلت اللات والعزى جميعا ... كذلك يفعل الجلد الصبور
في أبيات.
قال ابن إسحاق: وكان الخطاب بن نفيل عمه وأخوه لأمه يعاتبه ويؤذيه حتى أخرجه إلى أعلى مكة، فنزل حراء مقابل مكة، فإذا دخل مكة سرا آذوه وأخرجوه، كراهية أن يفسد عليهم دينهم، وأن يتابعه أحد. ثم خرج يطلب دين إبراهيم، فجال الشام والجزيرة، إلى أن قال ابن إسحاق: فرد إلى مكة حتى إذا توسط بلاد لخم عدوا عليه فقتلوه.
باب:
أخبرتنا ست الأهل بنت علوان، قالت: أخبرنا البهاء عبد الرحمن، قال: أخبرنا منوجهر بن محمد، قال: أخبرنا هبة الله بن أحمد، قال: حدثنا الحسين بن علي بن بطحا، قال: أخبرنا محمد بن الحسين الحراني، قال: أخبرنا محمد بن سعيد الرسعني، قال: أخبرنا المعافى بن سليمان, قال: حدثنا فليح، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار،(سيرة 1/80)
قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص, فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45] ، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا. قال عطاء: ثم لقيت كعب الأحبار فسألته، فما اختلفا في حرف، إلا أن كعبا يقول بلغته: أعينا عمومى وآذانا صمومى وقلوبا غلوفى. أخرجه البخاري عن العوقي، عن فليح.
وقد رواه سعيد بن أبي هلال، عن هلال بن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن سلام، فذكره نحوه. ثم قال عطاء: وأخبرني أبو واقد الليثي أنه سمع كعب الأحبار يقول مثل ما قال ابن سلام.
قلت: وهذا أصح فإن عطاء لم يدرك كعبا.
وروى نحوه أبو غسان محمد بن مطرف، عن زيد بن أسلم, أن عبد الله بن سلام قال: صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة، وذكر الحديث.
وروى عطاء بن السائب، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، قال: إن الله ابتعث نبيه لإدخال رجل الجنة، فدخل الكنيسة، فإذا هو بيهود، وإذا بيهودي يقرأ التوراة، فلما أتوا على صفة النبي صلى الله عليه وسلم أمسكوا، وفي ناحية الكنيسة رجل مريض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما لكم أمسكتم؟ " قال المريض: أتوا على صفة نبي فأمسكوا، ثم جاء المريض(سيرة 1/81)
يحبو حتى أخذ التوراة فقرأ حتى أتى على صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، فقال هذه صفتك وأمتك أشهد أن لا إله
إلا الله، وأنك رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لوا أخاكم". أخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده".
أخبرنا جماعة عن ابن اللتي أن أبا الوقت أخبره، قال: أخبرنا الداوودي، قال: أخبرنا ابن حمويه، قال: أخبرنا عيسى السمرقندي، قال: أخبرنا الدارمي، قال: أخبرنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا معن بن عيسى، قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن أبي فروة، عن ابن عباس أنه سأل كعبا: كيف تجد نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟ قال: نجده محمد بن عبد الله، يولد بمكة، ويهاجر إلا طابة، ويكون ملكه بالشام، وليس بفحاش ولا سخاب في الأسواق، ولا يكافئ بالسيئة السيئة, ولكن يعفو ويغفر، أمته الحمادون، يحمدون الله في كل سراء، ويكبرون الله على كل نجد، يوضئون أطرافهم، ويأتزرون في أوساطهم، يصفون في صلاتهم كما يصفون في قتالهم، دويهم في مساجدهم كدوي النحل، يسمع مناديهم في جو السماء. قلت: يعني الأذان.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني محمد بن ثابت بن شرحبيل، عن أم الدرداء، قالت: قلت لكعب الحبر: كيف تجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة. فذكر نحو حديث عطاء.(سيرة 1/82)
قصة سلمان الفارسي:
قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر، عن محمود بن لبيد, عن ابن عباس، قال: حدثني سلمان الفارسي، قال: كنت رجلا من أهل فارس من أهل أصبهان، من قرية يقال لها: جي، وكان أبي دهقان أرضه, وكان يحبني حبا شديدا، لم يحبه شيئا من ماله ولا ولده، فما زال به حبه إياي حتى حبسني في البيت كما تحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار الذي يوقدها، فلا أتركها تخبو ساعة، فكنت لذلك لا أعلم من أمر الناس شيئا إلا ما أنا فيه، حتى بنى أبي بنيانا له، وكانت له ضيعة فيها بعض العمل، فدعاني فقال: أي بني، إنه قد شغلني ما ترى من بنياني عن ضيعتي هذه، ولا بد لي من اطلاعها، فانطلق إليها فمرهم بكذا وكذا، ولا تحتبس علي فإنك إن احتبست عني شغلني ذلك عن كل شيء. فخرجت أريد ضيعته، فمررت بكنيسة للنصارى، فسمعت أصواتهم فقلت: ما هذا؟ قالوا: النصارى، فدخلت فأعجبني حالهم، فوالله ما زلت جالسا عندهم حتى غربت الشمس، وبعث أبي في طلبي في كل وجه حتى جئته حين أمسيت، ولم أذهب إلى ضعيفته فقال: أين كنت؟ قلت: مررت بالنصارى، فأعجبني صلاتهم ودعاؤهم، فجلست أنظر كيف يفعلون. قال: أي بني دينك ودين آبائك خير من دينهم. فقلت: لا والله ما هو بخير من دينهم، هؤلاء قوم يعبدون الله، ويدعونه ويصلون له، ونحن نعبد نارا نوقدها(سيرة 1/83)
بأيدينا، إذا تركناها ماتت. فخاف فجعل في رجلي حديدا وحبسني، فبعثت إلى النصارى فقلت: أين أصل هذا الدين الذي أراكم عليه؟ فقالوا: بالشام فقلت: فإذا قدم عليكم من هناك ناس فآذنوني. قالوا: نفعل فقدم عليهم ناس من تجارهم فآذنوني بهم, فطرحت الحديد من رجلي ولحقت بهم، فقدمت معهم الشام، فقلت: من أفضل أهل هذا الدين؟ قالوا: الأسقف صاحب الكنيسة. فجئته فقلت: إني قد أحببت أن أكون معك في كنيستك، وأبعد الله فيها معك، وأتعلم منك الخير. قال: فكن معي قال: فكنت معه، فكان رجل سوء، يأمر بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوها له اكتنزها ولم يعطها المساكين، فأبغضته بغضا شديدا، لما رأيت من حاله، فلم ينشب أن مات، فلما جاءوا ليدفنوه قلت لهم: هذا رجل سوء، كان يأمركم بالصدقة ويكتنزها. قالوا: وما علامة ذلك؟ قلت: أنا أخرج إليكم كنزه، فأخرجت لهم سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا، فلما رأوا ذلك قالوا: والله لا يدفن أبدا، فصلبوه ورموه بالحجارة، وجاءوا برجل فجعلوه مكانه، ولا والله يا ابن عباس، ما رأيت رجلا قط لا يصلي الخمس، أرى أنه أفضل منه، وأشد اجتهادا، ولا أزهد في الدنيا، ولا أدأب ليلا ونهارا، وما أعلمني أحببت شيئا قط قبله حبه، فلم أزل معه حتى حضرته الوفاة، فقلت: قد حضرك ما ترى من أمر الله فماذا تأمرني؟ وإلى
من توصيني؟ قال لي: أي بني، والله ما أعلمه إلا بالموصل، فأته فإنك ستجده على مثل حالي.
فلما مات لحقت بالموصل، فأتيت صاحبها فوجدته على مثل حاله من الاجتهاد والزهد، فقلت له: إن فلانا أوصى بي إليك. قال: فأقم أي بني، فأقمت عنده على مثل أمر صاحبه حتى حضرته الوفاة، فقلت: إن فلانا أوصى بي إليك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصيني؟ قال: والله ما أعلمه إلا رجلا بنصيبين. فلما دفناه لحقت(سيرة 1/84)
بالآخر، فأقمت عنده على مثل حالهم، حتى حضره الموت فأوصى بي إلى رجل من عمورية بالروم، فأتيته فوجدته على مثل حالهم، فأقمت عنده واكتسبت حتى كانت لي غنيمة وبقيرات، ثم احتضر فكلمته، فقال: أي بني والله ما أعلمه بقي أحد على مثل ما كنا عليه، ولكن قد أظلك زمان نبي يبعث من الحرم، مهاجره بين حرتين؛ أرض سبخة ذات نخل، وإن فيه علامات لا تخفى، بين كتفيه خاتم النبوة، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، فإن استطعت أن تخلص إلى تلك البلاد فافعل، فإنه قد أظلك زمانه.
فلما واريناه أقمت حتى مر بي رجال من تجار العرب من كلب، فقلت لهم: تحملوني إلى أرض العرب، وأنا أعطيكم غنيمتي هذه وبقراتي؟ قالوا: نعم. فأعطيتهم إياها وحملوني، حتى إذا جاءوا بي وادي القرى ظلموني فباعوني عبدا من رجل يهودي بوادي القرى، فوالله لقد رأيت النخل، وطمعت أن يكون البلد الذي نعت لي صاحبي، وما حقت عندي حتى قدم رجل من بني قريظة فابتاعني، فخرج بي حتى قدمنا المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفت نعتها فأقمت في رقي.
وبعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم بمكة لا يذكر لي شيء من أمره، مع ما أنا فيه من الرق، حتى قدم قباء، وأنا أعمل لصاحبي في نخله، فوالله إني لفيها، إذ جاء ابن عم له فقال: يا فلان، قاتل الله بني قيلة، والله إنهم الآن مجتمعون على رجل جاء من مكة، يزعمون أنه نبي. فوالله ما هو إلا أن سمعتها فأخذتني العرواء -يقول الرعدة- حتى ظننت لأسقطن على صاحبي، ونزلت أقول: ما هذا الخبر؟ فرفع مولاي يده فلكمني لكمة شديدة، وقال: مالك ولهذا، أقبل على عملك. فقلت: لا شيء، إنما سمعت خبرا فأحببت أن أعلمه، فلما أمسيت وكان عندي شيء من طعام، فحملته وذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء فقلت له: بلغني(سيرة 1/85)
أنك رجل صالح، وأن معك أصحابا لك غرباء، وقد كان عندي شيء للصدقة، فرأيتكم أحق من بهذه البلاد فهاكها فكل منه، فأمسك وقال لأصحابه: "كلوا". فقلت في نفسي: هذه واحدة، ثم
رجعت وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجمعت شيئا ثم جئته به، فقلت: هذا هدية، فأكل وأكل أصحابه، فقلت: هذه خلتان، ثم جئته وهو يتبع جنازة وعلي شملتان لي، وهو في أصحابه، فاستدرت لأنظر إلى الخاتم، فلما رآني استدبرته عرف أني أستثبت شيئا وصف لي، فوضع رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم بين كتفيه، كما وصف لي صاحبي، فأكببت عليه أقبله وأبكي، فقال: تحول يا سلمان هكذا. فتحولت، فجلست بين يديه، وأحب أن يسمع أصحابه حديثي عنه، فحدثته يابن عباس كما حدثتك. فلما فرغت قال: "كاتب يا سلمان". فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له وأربعين أوقية، فأعانني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل ثلاثين ودية وعشرين ودية وعشر, فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فقر لها، فإذا فرغت فآذني حتى أكون أنا الذي أضعها بيدي". ففقرتها وأعانني أصحابي، يقول: حفرت لها حيث توضع حتى فرغنا منها، وخرج معي، فكنا نحمل إليه الودي فيضعه بيده ويسوس عليها، فوالذي بعثه ما مات منها ودية واحدة وبقيت علي الدراهم، فأتاه رجل من بعض المعادن بمثل البيضة من الذهب فقال: "أين الفارسي؟ " فدعيت له فقال: "خذ هذه فأد بها ما عليك". قلت: يا رسول الله! وأين تقع هذه مما عليّ؟ قال: "فإن الله سيؤدي بها عنك". فوالذي نفس سلمان بيده، لوزنت لهم منها أربعين أوقية فأديتها إليهم وعتق سلمان. وحبسني الرق حتى فاتتني بدر وأحد، ثم شهدت الخندق، ثم لم يفتني معه مشهد.(سيرة 1/86)
قوله: قطن النار: جمع قاطن، أي: مقيم عندها، أو هو مصدر، كرجل صوم وعدل.
وقال يونس بن بكير وغيره، عن ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، قال: حدثني من سمع عمر بن عبد العزيز، قال: وجهت هذا من حديث سلمان, قال: حدثت عن سلمان: أن صاحب عمورية قال له لما احتضر: ائت غيضتين من أرض الشام، فإن رجلا يخرج من إحداهما إلى الأخرى في كل سنة ليلة، يعترضه ذوو الأسقام، فلا يدعو لأحد به مرض إلا شفي، فسله عن هذا الدين دين إبراهيم، فخرج حتى أقمت بها سنة، حتى خرج تلك الليلة، وإنما كان يخرج مستجيزا، فخرج وغلبني عليه الناس، حتى دخل في الغيضة، حتى ما بقي إلا منكبه، فأخذت به فقلت: رحمك الله! الحنيفية دين إبراهيم؟ فقال: تسأل عن شيء ما سأل عنه الناس اليوم، قد أظلك نبي يخرج عند أهل هذا البيت بهذا الحرم،
ويبعث بسفك الدم. فلما ذكر ذلك سلمان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لئن كنت صدقتني يا سلمان لقد رأيت حواري عيسى ابن مريم".
وقال مسلمة بن علقمة المازني: حدثنا داود بن أبي هند، عن سماك بن حرب، عن سلامة العجلي، قال: جاء ابن أخت لي من البادية يقال له: قدامة، فقال: أحب أن ألقى سلمان الفارسي فأسلم عليه، فخرجنا إليه فوجدناه بالمدائن، وهو يومئذ على عشرين ألفا، ووجدناه على سرير يسف خوصا فسلمنا عليه، فقلت: يا أبا عبد الله هذا ابن أخت لي قدم علي من البادية، فأحب أن يسلم عليك. قال: وعليه السلام(سيرة 1/87)
ورحمة الله وبركاته. قلت: يزعم أنه يحبك. قال: أحبه الله. فتحدثنا وقلنا: يا أبا عبد الله، ألا تحدثنا عن أصلك؟ قال: أما أصلي فأنا من أهل رامهرمز، كنا قوما مجوسا، فأتى رجل نصراني من أهل الجزيرة كانت أمه منا، فنزل فينا واتخذ فينا ديرا وكنت من كتاب الفارسية، فكان لا يزال غلام معي في الكتاب يجيء مضروبا يبكي، قد ضربه أبواه، فقلت له يوما: ما يبكيك؟ قال: يضربني أبواي. قلت: ولم يضربانك؟ فقال: آتي صاحب هذا الدير، فإذا علما ذلك ضرباني، وأنت لو أتيته سمعت منه حديثا عجبا. قلت فاذهب بي معك، فأتيناه، فحدثنا عن بدء الخلق وعن الجنة والنار، فحدثنا بأحاديث عجب، فكنت أختلف إليه معه، وفطن لنا غلمان من الكتاب، فجعلوا يجيئون معنا، فلما رأى ذلك أهل القرية أتوه، فقالوا: يا هناه إنك قد جاورتنا فلم تر من جوارنا إلا الحسن، وإنا نرى غلماننا يختلفون إليك، ونحن نخاف أن تفسدهم علينا، اخرج عنا. قال: نعم فقال لذلك الغلام الذي كان يأتيه: اخرج معي. قال: لا أستطيع ذلك. قلت: أنا أخرج معك، وكنت يتيما لا أب لي، فخرجت معه، فأخذنا جبل رامهرمز، فجعلنا نمشي ونتوكل، ونأكل من ثمر الشجر، فقدمنا نصيبين، فقال لي صاحبي: يا سلمان، إن ههنا قوما هم عباد أهل الأرض، فأنا أحب أن ألقاهم. قال: فجئناهم يوم الأحد، وقد اجتمعوا، فسلم عليها صاحبي، فحيوه وبشوا به، وقالوا: أين كانت غيبتك؟ فتحدثنا، ثم قال: قم يا سلمان، فقلت: لا، دعني مع هؤلاء. قال: إنك لا تطيق ما يطيقون، هؤلاء يصومون من الأحد إلى الأحد، ولا ينامون هذا الليل. وإذا فيهم رجل من أبناء الملوك ترك الملك ودخل في العبادة، فكنت فيهم حتى أمسينا، فجعلوا يذهبون واحدا واحدا إلى غاره الذي يكون فيه، فلما أمسينا قال ذاك الرجل الذي من أبناء الملوك: هذا الغلام ما تضيعوه ليأخذه رجل(سيرة 1/88)
منكم. فقالوا: خذه أنت، فقال لي: هلم فذهب بي إلى غاره، وقال لي: هذا
خبز وهذا أدم فكل إذا غرثت، وصم إذا نشطت، وصل ما بدا لك، ونم إذا كسلت. ثم قام في صلاته فلم يكلمني، فأخذني الغم تلك السبعة الأيام لا يكلمني أحد، حتى كان الأحد، وانصرف إلي، فذهبنا إلى مكانهم الذي يجتمعون فيه في الأحد، فكانوا يفطرون فيه، ويلقى بعضهم بعضا ويسلم بعضهم على بعض، ثم لا يلتقون إلى مثله، قال: فرجعنا إلى منزلنا فقال لي مثل ما قال أول مرة، ثم لم يكلمني إلى الأحد الآخر، فحدثت نفسي بالفرار فقلت: اصبر أحدين أو ثلاثة فلما كان الأحد واجتمعوا، قال لهم: إني أريد بيت المقدس. فقالوا: ما تريد إلى ذلك؟ قال: لا عهد لي به. قالوا: إنا نخاف أن يحدث بك حدث فيليك غيرنا. قال: فلما سمعته يذكر ذاك خرجت، فخرجنا أنا وهو، فكان يصوم من الأحد إلى الأحد، ويصلي الليل كله، ويمشي بالنهار، فإذا نزلنا قام يصلي، فأتينا بيت المقدس، وعلى الباب مقعد يسأل فقال: أعطني. قال: ما معي شيء. فدخلنا بيت المقدس، فلما رأوه بشوا إليه واستبشروا به، فقال لهم: غلامي هذا فاستوصوا به، فانطلقوا بي فأطعموني خبزا ولحما، ودخل في الصلاة، فلم ينصرف إلى الأحد الآخر، ثم انصرف. فقال: يا سلمان إني أريد أن أضع رأسي، فإذا بلغ الظل مكان كذا فأيقظني. فبلغ الظل الذي قال، فلم أوقظه مأواة له مما دأب من اجتهاده ونصبه، فاستيقظ مذعورا، فقال: يا سلمان، ألم أكن قلت لك: إذا بلغ الظل مكان كذا فأيقظني؟ قلت: بلى، ولكن إنما منعني مأواة لك من دأبك. قال: ويحك إني أكره أن يفوتني شيء من الدهر لم أعمل لله فيه خيرا، ثم قال: اعلم أن أفضل دين اليوم النصرانية قلت: ويكون بعد اليوم دين أفضل من النصرانية -كلمة ألقيت على لساني- قال: نعم، يوشك أن يبعث نبي يأكل الهدية(سيرة 1/89)
ولا يأكل الصدقة، وبين كتفيه خاتم النبوة، فإذا أدركته فاتبعه وصدقه. قلت: وإن أمرني أن أدع النصرانية؟ قال: نعم فإنه نبي لا يأمر إلا بحق ولا يقول إلا حقا، والله لو أدركته ثم أمرني أن أقع في النار لوقعتها.
ثم خرجنا من بيت المقدس، فمررنا على ذلك المقعد، فقال له: دخلت فلم تعطني، وهذا تخرج فأعطني، فالتفت فلم ير حوله أحدا، قال: أعطني يدك. فأخذه بيده، فقال: قم بإذن الله، فقام صحيحا سويا، فتوجه نحو أهله فأتبعته بصري تعجبا مما رأيت، وخرج صاحبي مسرعا وتبعته، فتلقاني رفقة من كلب، فسبوني فحملوني على بعير وشدوني وثاقا، فتداولني البياع حتى سقطت إلى المدينة، فاشتراني رجل من الأنصار، فجعلني في حائط له ومن ثم تعلمت عمل الخوص، أشتري بدرهم خوصا فأعمله فأبيعه بدرهمين، فأنفق درهما، أحب أن آكل من عمل يدي. وهو يومئذ أمير على عشرين ألفا. قال: فبلغنا ونحن بالمدينة أن
رجلا قد خرج بمكة يزعم أن الله أرسله، فمكثنا ما شاء الله أن نمكث، فهاجر إلينا، فقلت: لأجربنه، فذهبت فاشتريت لحم جزور بدرهم، ثم طبخته، فجعلت قصعة من ثريد، فاحتملتها حتى أتيته بها على عاتقي حتى وضعتها بين يديه. فقال: "أصدقة أم هدية؟ " قلت: صدقة فقال لأصحابه: "كلوا بسم الله". وأمسك ولم يأكل، فمكثت أياما، ثم اشتريت لحما فأصنعه أيضا وأتيته به، فقال: "ما هذه؟ " قلت: هدية. فقال لأصحابه: "كلوا بسم الله" وأكل معهم. قال: فنظرت فرأيت بين كتفيه خاتم النبوة مثل بيضة الحمامة، فأسلمت، ثم قلت له: يا رسول الله أي قوم النصارى؟ قال: "لا خير فيهم". ثم سألته بعد أيام قال: "لا خير فيهم ولا فيمن يحبهم". قلت في نفسي: فأنا والله أحبهم، قال: وذاك حين بعث السرايا وجرد السيف، فسرية تدخل وسرية تخرج، والسيف يقطر. قلت يحدث بي الآن أني أحبهم، فيبعث(سيرة 1/90)
فيضرب عنقي، فقعدت في البيت، فجاءني الرسول ذات يوم فقال: يا سلمان أجب.
قلت: هذا والله الذي كنت أحذر. فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبسم وقال: "أبشر يا سلمان فقد فرج الله عنك". ثم تلا علي هؤلاء الآيات: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} ، إلى قوله: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص: 52-54] ، قلت: والذي بعثك بالحق، لقد سمعته يقول: لو أدركته فأمرني أن أقع في النار لوقعتها.
هذا حديث منكر غريب، والذي قبله أصح، وقد تفرد مسلمة بهذا، وهو ممن احتج به مسلم، ووثقه ابن معين، وأما أحمد بن حنبل فضعفه، رواه قيس بن حفص الدارمي شيخ البخاري عنه.
وقال عبد الله بن عبد القدوس: حدثنا عبيد المكتب، قال: أخبرنا أبو الطفيل، قال: حدثني سلمان، قال: كنت من أهل جي، وكان أهل قريتي يعبدون الخيل البلق، فكنت أعرف أنهم ليسوا على شيء، فقيل لي: إن الدين الذي تطلب بالمغرب، فخرجت حتى أتيت الموصل، فسألت عن أفضل رجل بها، فدللت على رجل في صومعة، ثم ذكر نحوه. كما قال الطبراني، قال: وقال في آخره: فقلت لصاحبي: بعني نفسي. قال: على أن تنبت لي مائة نخلة، فإذا نبتن جئني بوزن نواة من ذهب. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: اشتر نفسك بالذي سألك، وائتني بدلو من ماء النهر التي كنت تسقي منها ذلك النخل. قال: فدعا لي، ثم سقيتها، فوالله لقد غرست مائة فما غادرت منها نخلة إلا نبتت،(سيرة 1/91)
فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أن النخل قد نبتن، فأعطاني قطعة من ذهب، فانطلقت بها فوضعتها في كفة
الميزان، ووضع في الجانب الآخر نواة، قال: فوالله ما استعلت القطعة الذهب من الأرض، قال: وجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأعتقني.
علي بن عاصم، قال: أخبرنا حاتم بن أبي صغيرة، عن سماك بن حرب، عن زيد بن صوحان، أن رجلين من أهل الكوفة كانا صديقين ولهما إخاء، وقد أحبا أن يسمعا حديثك كيف كان أول إسلامك؟ قال: فقال سلمان: كنت يتيما من رامهرمز، وكان ابن دهقان رامهرمز يختلف إلى معلم يعلمه، فلزمته لأكون في كنفه، وكان لي أخ أكبر مني، وكان مستغنيا في نفسه، وكنت غلاما فقيرا، فكان إذا قام من مجلسه تفرق من يحفظه فإذا تفرقوا خرج فتقنع بثوبه، ثم يصعد الجبل متنكرا، فقلت: لم لا تذهب بي معك؟ فقال: أنت غلام وأخاف أن يظهر منك شيء. قلت: لا تخف. قال: فإن في هذا الجبل قوما في برطيل، لهم عبادة يزعمون أنا عبدة النيران، وأنا على غير دين فأستأذن لك. قال: فاستأذنهم ثم واعدني وقال: اخرج في وقت كذا، ولا يعلم بك أحد، فإن أبي إن علم بهم قتلهم. قال: فصعدنا إليهم. قال علي -وأراه قال- وهم ستة أو سبعة. قال: وكأن الروح قد خرجت منهم من العبادة يصومون النهار، ويقومون الليل، يأكلون الشجر وما وجدوا، فقعدنا إليهم فذكرنا الحديث بطوله، وفيه: أن الملك شعر بهم، فخرجوا، وصحبهم سلمان إلى الموصل، واجتمع بعابد من بقايا أهل الكتاب، فذكر من عبادته وجوعه شيئا مفرطا، وأنه صحبه إلى بيت(سيرة 1/92)
المقدس، فرأى مقعدا فأقامه، فحملت على المقعد أثاثه ليسرع إلى أهله، فانملس مني صاحبي، فتبعت أثره، فلم أظفر به، فأخذني ناس من كلب وباعوني، فاشترتني امرأة من الأنصار، فجعلتني في حائط لها وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتراني أبو بكر فأعتقني.
وهذا الحديث يشبه حديث مسلمة المازني، لأن الحديثين يرجعان إلى سماك، ولكن قال
هنا عن زيد بن صوحان، فهو منقطع، فإنه لم يدرك زيد بن صوحان، وعلي بن عاصم ضعيف كثير الوهم، والله أعلم.
عمرو العنقزي: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي قرة الكندي، عن سلمان، قال: كان أبي من الأساورة فأسلمني الكتاب، فكنت أختلف ومعي غلامان، فإذا رجعا دخلا على راهب أو قس، فدخلت معهما، فقال لهما، ألم أنهكما أن تدخلا علي أحدا. فكنت أختلف حتى كنت أحب إليه منهما، فقال لي: يا سلمان، إني أحب أن أخرج من هذه الأرض. قلت: وأنا معك فأتى قرية فنزلها, وكانت امرأة تختلف إليه، فلما حضر قال: احفر عند رأسي، فحفرت فاستخرجت جرة من دراهم، فقال: ضعها على صدري، فجعل يضرب بيده على صدره ويقول: ويل للقنائين! قال: ومات فاجتمع القسيسون والرهبان، وهممت أن أحتمل المال، ثم إن الله عصمني، فقلت للرهبان، فوثب شباب من أهل القرية، فقالوا: هذا مال أبينا كانت سريته تختلف إليه، فقلت لأولئك: دلوني على عالم أكون معه.
قالوا: ما نعلم أحدا أعلم من راهب بحمص. فأتيته فقال: ما جاء بك إلا طلب العلم. قلت: نعم. قال: فإني لا أعلم أحدا أعلم من رجل يأتي بيت(سيرة 1/93)
المقدس كل سنة في هذا الشهر. فانطلقت فوجدت حماره واقفا، فخرج فقصصت عليه، فقال: اجلس ههنا حتى أرجع إليك. فذهب فلم يرجع إلى العام المقبل، فقال: وإنك لههنا بعد؟ قلت: نعم. قال: فإني لا أعلم أحدا في الأرض أعلم من رجل يخرج بأرض تيماء وهو نبي وهذا زمانه، وإن انطلقت الآن وافقته، وفيه ثلاث: خاتم النبوة، ولا يأكل الصدقة، ويأكل الهدية. وذكر الحديث.
وقال ابن لهيعة: حدثنا يزيد بن أبي حبيب، قال: حدثني السلم بن الصلت، عن أبي الطفيل، عن سلمان، قال: كنت رجلا من أهل جي مدينة أصبهان، فأتيت رجلا يتحرج من كلام الناس، فسألته: أي الدين أفضل؟ قال: ما أعلم أحدا غير راهب بالموصل، فذهبت إليه. وذكر الحديث، وفيه: فأتيت حجازيا، فقلت: تحملني إلى المدينة؟ قال: ما تعطيني؟ قلت: أنا لك عبد. فلما قدمت جعلني في نخله، فكنت أستقي كما يستقي البعير حتى دبر ظهري وصدري من ذلك، ولا أجد أحدا يفقه كلامي، حتى جاءت عجوز فارسية تستقي، فقلت لها: أين هذا الرجل الذي خرج؟ فدلتني عليه، فجمعت تمرا وجئت فقربته إليه. وذكر الحديث.(سيرة 1/94)
ذكر مبعثه صلى الله عليه وسلم:
قال الزهري، عن عروة عن عائشة، قالت: أول ما بدئ به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة ثم حبب إليه الخلاء، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه، أي: يتعبد الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى فجأه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: "فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني الثانية فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ". حتى بلغ إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5] ، قالت: فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال: "زملوني". فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال: "يا خديجة ما لي! ". وأخبرها الخبر وقال: "قد خشيت [على نفسي] ". فقالت له: كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث، وتحمل الكل [وتكسب المعدوم، وتقري الضيف] ، وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت به خديجة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الخط العربي، فكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا قد عمي. فقالت: اسمع من ابن أخيك. فقال: يابن أخي(سيرة 1/95)
ما ترى؟ فأخبره، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعا حين يخرجك قومك، قال: "أومخرجي هم"؟. قال: نعم، إنه لم يأت أحد بما جئت به إلا عودي وأوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي.
فروى الترمذي، عن أبي موسى الأنصاري، عن يونس بن بكير، عن عثمان بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ورقة، فقالت له خديجة: إنه -يا رسول الله- كان صدقك، وإنه مات قبل أن تظهر. فقال: "رأيته في المنام عليه ثياب بيض، ولو كان من أهل النار لكان عليه لباس غير ذلك".
وجاء من مراسيل عروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت لورقة جنة أو جنتين".
وقال الزهري، عن عروة، عن عائشة: "وفتر الوحي فترة، حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا، وغدا مرارا يتردى من شواهق الجبال، وكلما أوفى بذروة ليلقي نفسه، تبدى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال مثل ذلك. رواه أحمد في "مسنده" والبخاري.
وقال هشام بن حسان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة، فهاجر عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين.(سيرة 1/96)
رواه البخاري.
وقال يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب، قال: أنزل على رسول الله صلى الله وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين سنة، فمكث بمكة عشرا وبالمدينة عشرا.
وقال محمد بن أبي عدي، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، قال: نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل القرآن، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل، فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة، ومات وهو ابن ثلاث وستين.
أخبرنا أبو المعالي الأبرقوهي، قال: أخبرنا عبد القوي بن الجباب، قال: أخبرنا عبد الله بن رفاعة، قال: أخبرنا علي بن الحسن الخلعي، قال: أخبرنا أبو محمد بن النحاس، قال: أخبرنا عبد الله بن الورد، قال: أخبرنا عبد الرحيم بن عبد الله البرقي، قال: حدثنا عبد الملك بن هشام، قال: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن إسحاق، قال: كانت الأحبار والرهبان وكهان العرب قد تحدثوا بأمر محمد صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه لما تقارب من زمانه، أما أهل الكتاب فعمَّا وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه، وما كان عهد إليهم أنبياؤهم من شأنه
وأما الكهان فأتتهم الشياطين بما استرقت من السمع، وأنها قد حجبت عن استراق السمع ورميت بالشهب. قال الله تعالى: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 9] ، فلما سمعت الجن القرآن(سيرة 1/97)
من النبي صلى الله عليه وسلم عرفت أنها منعت من السمع قبل ذلك، لئلا يشكل الوحي بشيء من خبر السماء فيلتبس الأمر فآمنوا وصدقوا وولوا إلى قومهم منذرين.
حدثني يعقوب بن عتبة أنه بلغه أن أول العرب فزع للرمي بالنجوم ثقيف، فجاءوا إلى عمرو بن أمية وكان أدهى العرب، فقالوا: ألا ترى ما حدث؟ قال: بلى، فانظروا فإن كان معالم النجوم التي يهتدى بها وتعرف بها الأنواء هي التي يرمى بها، فهي والله طي الدنيا وهلاك أهلها، وإن كانت نجوما غيرها، وهي ثابتة على حالها، فهذا أمر أراد الله به هذا الخلق فما هو.
قلت: روى حديث يعقوب بنحوه حصين، عن الشعبي، لكن قال: فأتوا عبد ياليل بن عمرو الثقفي، وكان قد عمي.
وقد جاء غير حديث بأسانيد واهية أن غير واحد من الكهان أخبره رئية من الجن بأسجاع ورجز، فيها ذكر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وسمع من هواتف الجان من ذلك أشياء.
وبالإسناد إلى ابن إسحاق، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه، قالوا: إن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله وهداه لنا، أنا كنا نسمع من يهود، وكنا أصحاب أوثان، وهم أهل كتاب، وكان لا يزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم قالوا: إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله رسول الله صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا، وعرفنا ما كان يتوعدونا به، فبادرناهم إليه، فآمنا به وكفروا به، ففي ذلك نزل:(سيرة 1/98)
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 89] ، الآيات.
حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن محمود بن لبيد، عن سلمة بن سلامة بن وقش، قال: كان لنا جار يهودي، فخرج يوما حتى وقف على بني عبد الأشهل، وأنا يومئذ أحدثهم سنا، فذكر القيامة والحساب والميزان والجنة والنار، قال ذلك لقوم أصحاب أوثان لا يرون بعثا بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان، أوترى هذا كائنا أن الناس يبعثون! قال: نعم. قالوا: فما آية ذلك؟ قال: نبي مبعوث من نحو هذه البلاد، وأشار إلى مكة واليمن. قالوا: ومتى نراه؟ قال: فنظر إليَّ وأنا حدث فقال: إن يستنفد هذا الغلام عمره
يدركه، قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا، فآمنا به، وكفر به بغيا وحسدا، فقلنا له: ويحك يا فلان، ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت! قال: بلى، ولكن ليس به.
حدثني عاصم بن عمر، عن شيخ من بني قريظة، قال لي: هل تدري عم كان الإسلام لثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد، نفر من إخوة بني قريظة، كانوا معهم في جاهليتهم، ثم كانوا سادتهم في الإسلام؟ قلت: لا والله، قال: إن رجلا من يهود الشام يقال له: ابن التيهان قدم علينا قبل الإسلام بسنين، فحل بين أظهرنا، والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس أفضل منه، فأقام عندنا فكان إذا قحط عنا المطر يأمرنا بالصدقة ويستسقي لنا، فوالله ما يبرح من مجلسه حتى نسقى، قد فعل ذلك غير مرتين ولا ثلاث، ثم حضرته الوفاة، فلما(سيرة 1/99)
عرف أنه ميت قال: يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير، إلى أرض البؤس والجوع؟ قلنا: أنت أعلم. قال: إنما قدمت أتوكف خروج نبي قد أظل زمانه، وهذه البلدة مهاجره، كنت أرجو أن يبعث فأتبعه، وقد أظلكم زمانه، فلا تسبقن إليه يا معشر يهود، إنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري والنساء ممن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه. فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم وحاصر خيبر قال هؤلاء الفتية، وكانوا شبابا أحداثا: يا بني قريظة، والله إنه للنبي الذي كان عهد إليكم فيه ابن التيهان. قالوا: ليس به فنزل هؤلاء وأسلموا وأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهاليهم.
وبه، قال ابن إسحاق: وكانت خديجة قد ذكرت لعمها ورقة بن نوفل، وكان قد قرأ الكتب وتنصر، ما حدثها ميسرة من قول الراهب وإظلال الملكين، فقال: لئن كان هذا حقا يا خديجة إن محمدا لنبي هذه الأمة، وقد عرفت أن لهذه الأمة نبيا ينتظر زمانه، قال: وجعل ورقة يستبطئ الأمر ويقول: حتى متى؟ وقال:
لججت وكنت في الذكرى لجوجا ... لهم طالما بعث النشيجا
ووصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظاري يا خديجا
ببطن المكتين على رجائي ... حديثك أن أرى منه خروجا
بما خبرتا من قول قس ... من الرهبان أكره أن يعوجا
بأن محمدا سيسود قوما ... ويخصم من يكون له حجيجا
ويظهر في البلاد ضياء نور ... يقيم به البرية أن تموجا
فيلقى من يحاربه خسارا ... ويلقى من يسالمه فلوجا
فيا ليتني إذا ما كنت ذاكم ... شهدت فكنت أولهم ولوجا(سيرة 1/100)
فإن يبقوا وأبق تكن أمور ... يضج الكافرون لا ضجيجا
وقال سليمان بن معاذ الضبي، عن سماك، عن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بمكة لحجرا يسلم عليّ ليالي بعثت إني لأعرفه الآن". رواه أبو داود.
وقال يحيى بن أبي كثير: حدثنا أبو سلمة، قال: سألت جابرا: أي القرآن أنزل أول {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] ، أو {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] ؟ فقال: ألا أحدثكم بما حدثني به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: "إني جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي فنوديت فنظرت أمامي وخلفي، وعن يميني وشمالي، فلم أر شيئا، ثم نظرت إلى السماء، فإذا هو على عرش في الهواء -يعني الملك- فأخذني رجفة، فأتيت خديجة، فأمرتهم فدثروني، ثم صبوا عليّ الماء، فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ} ". [المدثر: 1، 2] .
وقال الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي، قال: "بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجئثت منه رعبا، فرجعت، فقلت: زملوني فدثروني، ونزلت: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} إلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} ". [المدثر: 1-5] ، وهي الأوثان. متفق عليه. وهو نص في {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} نزلت بعد فترة الوحي الأول، {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} فكان الوحي الأول للنبوة والثاني للرسالة.(سيرة 1/101)
فأول من آمن به خديجة رضي الله عنها:
قال عز الدين أبو الحسن ابن الأثير: خديجة أول خلق الله أسلم بإجماع المسلمين، لم يتقدمها رجل ولا امرأة.
وقال الزهري، وقتادة، وموسى بن عقبة، وابن إسحاق، والواقدي، وسعيد بن يحيى الأموي، وغيرهم: أول من آمن بالله ورسوله: خديجة، وأبو بكر، وعليّ.
وقال حسان بن ثابت وجماعة: أبو بكر أول من أسلم.
وقال غير واحد: بل علي.
وعن ابن عباس: فيهما قولان، لكن أسلم علي وله عشر سنين أو نحوها على الصحيح، وقيل: وله ثمان سنين، وقيل: تسع، وقيل: اثنتا عشرة، وقيل: خمس عشرة، وهو قول شاذ، فإن ابنه محمدا، وأبا جعفر الباقر، وأبا إسحاق السبيعي وغيرهم، قالوا: توفي وله ثلاث وستون سنة. فهذا يقضي بأنه أسلم وله عشر سنين، حتى إن سفيان بن عيينة روى عن جعفر الصادق، عن أبيه، قال: قتل علي وله ثمان وخمسون سنة.
وقال ابن إسحاق: أول ذكر آمن بالله علي -رضي الله عنه- وهو ابن عشر سنين، ثم أسلم زيد مولى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم أبو بكر.
وقال الزهري: كانت خديجة أول من آمن بالله، وقبل الرسول(سيرة 1/102)
رسالة ربه وانصرف إلى بيته، وجعل لا يمر على شجرة ولا صخرة إلا سلمت عليه، فلما دخل على خديجة قال: "أرأيتك الذي كنت أحدثك أني رأيته في المنام، فإنه جبريل استعلن لي، أرسله إليّ ربي". وأخبرها بالوحي. فقالت: أبشر، فوالله لا يفعل الله بك إلا خيرا، فاقبل الذي جاءك من الله فإنه حق، ثم انطلقت إلى عداس غلام عتبة بن ربيعة، وكان نصرانيا من أهل نينوى فقالت: أذكرك الله إلا ما أخبرتني، هل عندك علم من جبريل؟ فقال عداس: قدوس قدوس. قالت: أخبرني بعلمك فيه. قال: فإنه أمين الله بينه وبين النبيين، وهو صاحب موسى، وعيسى -عليهما السلام- فرجعت من عنده إلى ورقة. فذكر الحديث.
وقد رواه ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير بنحو منه، وزاد: ففتح جبريل عينا من ماء فتوضأ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، فوضأ وجه ويديه إلى المرفقين، ومسح رأسه ورجليه إلى الكعبين، ثم نضح فرجه، وسجد سجدتين مواجه البيت، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم كما رأى جبريل يفعل.(سيرة 1/103)
من معجزاته الأول:
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي، عن بعض أهل العلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله كرامته وابتدأه بالنبوة، كان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سلم عليه وسمع منه، وكان يخرج إلى حراء في كل عام شهرا من السنة ينسك فيه.
وقال سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث". أخرجه مسلم.
وقال الوليد بن أبي ثورة وغيره، عن إسماعيل السدي، عن عباد بن عبد الله، عن علي -رضي الله عنه- قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فخرج في بعض نواحيها، فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال: السلام عليك يا رسول الله. أخرجه الترمذي، وقال: غريب.
وقال يوسف بن يعقوب القاضي: حدثنا أبو الربيع، قال: أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس بن مالك، قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو خارج من مكة، قد خضبه أهل مكة بالدماء، قال: ما لك؟ قال: "خضبني هؤلاء بالدماء وفعلوا وفعلوا".(سيرة 1/104)
قال: تريد أن أريك آية؟ قال: "نعم". قال: ادع تلك الشجرة. فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت تخط الأرض حتى قامت بين يديه، قال: مرها فلترجع إلى مكانها قال: ارجعي إلى مكانك فرجعت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حسبي". هذا حديث صحيح.
وقال ابن إسحاق: حدثني وهب بن كيسان، قال: سمعت عبد الله بن الزبير يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي: حدثنا يا عبيد الله عن كيف كان بدء ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من
النبوة حين جاءه جبريل. فقال عبيد بن عمير: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كل سنة شهرا، وكان ذلك مما تتحنث به قريش في الجاهلية. والتحنث التبرر.
قال ابن إسحاق: فكان يجاور ذلك في كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى جواره من شهره، كان أول ما يبدأ به الكعبة، فيطوف ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله كرامته، وذلك الشهر رمضان، خرج صلى الله عليه وسلم إلى حراء ومعه أهله، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته، جاءه جبريل بأمر الله تعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب، فقال اقرأ. قلت: ما أقرأ؟ قال: فغتني به حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: وما أقرأ؟ فغتني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: وما أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي(سيرة 1/105)
بمثل ما صنع بي فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5] ، فقرأتها ثم انتهى عني، وهببت من نومي، فكأنما كتبت في قلبي كتابا". في هذا المكان زيادة، زادا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، وهي: "ولم يكن في خلق الله أحد أبغض إليّ من شاعر أو مجنون فكنت لا أطيق أنظر إليهما، فقلت: إن الأبعد -يعني نفسه- لشاعر أو مجنون، ثم قلت: لا تحدث عني قريش بهذا أبدا، لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي فلأستريحن، فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل، سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل، فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء، فقال: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. فوقفت أنظر إليه، فما أتقدم ولا أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفا حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها، وأنا واقف في مكاني ذلك. ثم انصرف عني، فانصرفت إلى أهلي، حتى أتيت خديجة، فجلست إلى فخذها مضيفا إليها فقالت: يا أبا القاسم أين كنت؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا أعلى مكة ورجعوا. ثم حدثتها بالذي رأيت، فقالت: أبشر يابن عمي واثبت فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة".
ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل، وهو ابن عمها، وكان قد تنصر وقرأ الكتب، فأخبرته بما رأى وسمع، فقال ورقة: قدوس، والذي نفسي بيده لئن كنت
صدقت يا(سيرة 1/106)
خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وإنه لنبي هذه الأمة فقولي له فليثبت. فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة، فلما قضى جواره طاف الكعبة، فلقيه ورقة وهو يطوف فقال: أخبرني بما رأيت وسمعت، فأخبره، فقال: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى ولتكذبنه ولتؤذنه ولتخرجنه ولتقاتلنه، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه، ثم أدنى رأسه منه فقبل يافوخه.
وقال موسى بن عقبة في "مغازيه": كان صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا أول ما رأى أن الله أراه رؤيا في المنام، فشق ذلك عليه، فذكرها لخديجة، فعصمها الله وشرح صدرها بالتصديق، فقالت: أبشر. ثم أخبرها أنه رأى بطنه شق ثم طهر وغسل ثم أعيد كما كان، قالت: هذا والله خير فأبشر. ثم استعلن له جبريل وهو بأعلى مكة، فأجلسه في مجلس كريم معجب كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أجلسني على بساط كهيئة الدرنوك فيه الياقوت واللؤلؤ، فبشره برسالة الله -عز وجل- حتى اطمأن.
الذي فيها من شق بطنه يحتمل أن يكون أخبرها بما تم له في صغره ويحتمل أن يكون شق مرة أخرى، ثم شق مرة ثالثة حين عرج به إلى السماء.
وقال ابن بكير عن ابن إسحاق، فأنشد ورقة:
إن يك حقا يا خديجة فاعلمي ... حديثك إيانا فأحمد مرسل
وجبريل يأتيه وميكال معهما ... من الله وحي يشرح الصدر منزل
يفوز به من فاز فيها بتوبة ... ويشقى به العاني الغوي المظلل
فسبحان من تهوى الرياح بأمره ... ومن هو في الأيام ما شاء يفعل(سيرة 1/107)
ومن عرشه فوق السماوات كلها ... وأقضاؤه في خلقه لا تبدل
وقال ابن إسحاق: حدثني إسماعيل بن أبي حكيم أن خديجة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي ابن عم، إن استطعت أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك. قال: "نعم" قال: فلما جاءه قال: "يا خديجة هذا جبريل". قالت: ابن عم قم فاجلس على فخذي اليسرى، فقام فجلس عليها، قالت: هل تراه؟ قال: "نعم". قالت: فتحول فاقعد على فخذي اليمنى. فتحول فقعد على فخذها، قالت: هل تراه؟ قال: "نعم". قالت: فاجلس في
حجري. ففعل، قالت: هل تراه؟ قال: "نعم". فتحسرت فألقت خمارها، ثم قالت: هل تراه؟ قال: "لا". قالت: اثبت وأبشر فوالله إنه لملك وما هذا بشيطان. قال: وحدثت عبد الله بن حسن هذا الحديث فقال: قد سمعت أمي فاطمة بنت حسين تحدث هذا الحديث، عن خديجة، إلا أني سمعتها تقول: أدخلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وبين درعها فذهب عند ذلك جبريل، فقالت: إن هذا لملك وما هو بشيطان.
وقال أبو صالح: حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني محمد بن عباد بن جعفر المخزومي أنه سمع بعض علمائهم يقول: كان أول ما أنزل الله على نبيه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5] ، فقالوا: هذا صدرها الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حراء، ثم أنزل آخرها بعد بما شاء الله.
وقال ابن إسحاق: ابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتنزيل في رمضان، قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [القدر: 1] ، وقال تعالى: {إِنَّا(سيرة 1/108)
أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] .
قال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، قال: همز جبريل بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت عين، فتوضأ جبريل ومحمد عليهما السلام ثم صلى ركعتين ورجع، قد أقر الله عينه، وطابت نفسه، فأخذ بيد خديجة، حتى أتى بها العين فتوضأ كما توضأ جبريل، ثم صلى ركعتين هو وخديجة، ثم كان هو وخديجة يصليان سرا، ثم إن عليا جاء بعد ذلك بيوم فوجدهما يصليان فقال علي: ما هذا يا محمد؟ فقال: "دين اصطفاه الله لنفسه وبعث به رسله فأدعوك إلى الله وحده وكفر باللات والعزى". فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم، فلست بقاض أمرا حتى أحدث به أبا طالب. وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن عليه أمره، فقال له: "يا علي! إن لم تسلم فاكتم". فمكث علي تلك الليلة ثم أوقع الله في قلبه الإسلام، فأصبح فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقي يأتيه على خوف من أبي طالب، وكتم إسلامه.
وأسلم زيد بن حارثة فمكثا قريبا من شهر، يختلف علي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مما أنعم الله على علي أنه كان في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام.
وقال سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله(سيرة 1/109)
بن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: أصابت قريشا أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس عمه -وكان موسرا: "إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى،
فانطلق لنخفف عنه من عياله". فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم عليا، فضمه إليه، فلم يزل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبيا فاتبعه علي وآمن به.
وقال الدراوردي، عن عمر بن عبد الله، عن محمد بن كعب القرظي، قال: إن أول من أسلم خديجة، وأول رجلين أسلما أبو بكر وعلي، وإن أبا بكر أول من أظهر الإسلام، وإن عليا كان يكتم الإسلام فرقا من أبيه، حتى لقيه أبوه فقال: أسلمت؟ قال: نعم، قال: وازر ابن عمك وانصره. وقال: أسلم علي قبل أبي بكر.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة وتردد ونظر، إلا أبا بكر، ما عتم منه حين ذكرته وما تردد فيه".
وقال إسرائيل، عن ابن إسحاق، عن أبي ميسرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا برز، سمع من يناديه، يا محمد، فإذا سمع الصوت انطلق هاربا، فأسر ذلك إلى أبي بكر، وكان نديما له في الجاهلية.(سيرة 1/110)
إسلام السابقين الأولين:
قال ابن إسحاق: ذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة، خرج إلى شعاب مكة ومعه علي فيصليان فإذا أمسيا رجعا، ثم إن أبا طالب عبر عليهما وهما يصليان، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يابن أخي ما هذا؟ قال: "أي عم هذا دين الله ودين ملائكته ورسله ودين إبراهيم، بعثني الله به رسولا إلى العباد وأنت أي عم أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى وأحق من أجابني وأعانني". فقال أبو طالب: أي ابن أخي لا أستطيع أن أفارق دين آبائي، ولكن والله لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما بقيت، ولم يكلم عليا بشيء يكره، فزعموا أنه قال: أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فاتبعه. ثم أسلم زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أول ذكر أسلم، وصلى بعد علي، رضي الله عنهما.
وكان حكيم بن حزام قدم من الشام برقيق، فدخلت عليه خديجة بنت خويلد فقال: اختاري أي هؤلاء الغلماء شئت فهو لك، فاختارت زيدا، فأخذته، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فاستوهبه، فوهبته له، فأعتقه وتبناه قبل الوحي، ثم قدم أبوه حارثة لموجدته عليه وجزعه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن شئت فأقم عندي، وإن شئت فانطلق مع أبيك". قال: بل أقيم عندك، وكان يدعى زيد بن محمد، فلما نزلت {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] ، قال: أنا زيد بن حارثة.(سيرة 1/111)
قال ابن إسحاق: وكان أبو بكر رجلا مألفا لقومه محببا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش، وكان تاجرا ذا خلق ومعروف، فجعل لما أسلم يدعو إلى الله وإلى الإسلام من وثق به من قومه، ممن يغشاه، ويجلس إليه، فأسلم بدعائه: عثمان، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسلموا وصلوا، فكان هؤلاء النفر الثمانية أول من سبق بالإسلام وصلوا وصدقوا.
ثم أسلم أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح الفهري، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله المخزومي، والأرقم بن أبي الأرقم بن أسد بن عبد الله المخزومي، وعثمان بن مظعون الجمحي، وأخواه قدامة وعبد الله، وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف المطلبي، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي، وامرأته فاطمة أخت عمر بن الخطاب، وأسماء بنت أبي بكر، وخباب بن الأرت حليف بني زهرة، وعمير بن أبي وقاص أخو سعد، وعبد الله بن مسعود، وسليط بن عمرو بن عبد شمس العامري، وأخوه حاطب، وعياش بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، وامرأته أسماء, وخنيس بن حذافة السهمي، وعامر
ابن ربيعة حليف آل الخطاب، وعبد الله وأبو أحمد ابنا جحش بن رئاب الأسدي، وجعفر بن أبي طالب، وامرأته أسماء بنت عميس، وحاطب بن الحارث الجمحي، وامرأته فاطمة بنت المجلل، وأخوه خطاب، وامرأته فكيهة بنت يسار، ومعمر بن الحارث أخوهما، والسائب بن عثمان بن مظعون، والمطلب بن أزهر بن عبد عوف العدوي الزهري، وامرأته رملة بنت أبي عوف، والنحام وهو نعيم بن عبد الله بن أسد العدوي، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، وخالد بن(سيرة 1/112)
سعيد بن العاص بن أمية، وامرأته أمينة بنت خلف، وحاطب بن عمرو، وأبو حذيفة مهشم ابن عتبة بن ربيعة، وواقد بن عبد الله حليف بني عدي، وخالد، وعامر، وعاقل، وإياس بنو البكير حلفاء بني عدي، وعمار بن ياسر حليف بني مخزوم، وصهيب بن سنان النمري حليف بني تميم.
وقال محمد بن عمر الواقدي: حدثني الضحاك بن عثمان، عن مخرمة بن سليمان الوالبي، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، قال: قال طلحة بن عبيد الله: حضرت سوق بصرى، فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل الموسم، أفيهم أحد من أهل الحرم؟ قال طلحة: قلت: نعم أنا. فقال: هل ظهر أحمد بعد؟ قلت: ومن أحمد؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذي يخرج فيه، وهو آخر الأنبياء، مخرجه من الحرم ومهاجره إلى نخل وحرة وسباخ، فإياك أن تسبق إليه. قال طلحة: فوقع في قلبي، فأسرعت إلى مكة، فقلت: هل من حدث؟ قالوا: نعم، محمد بن عبد الله الأمين تنبأ، وقد تبعه ابن أبي قحافة، فدخلت عليه فقلت: اتبعت هذا الرجل؟ قال: نعم، فانطلق فاتبعه. فأخبره طلحة بما قال الراهب، فخرج به حتى دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم طلحة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فلما أسلم أبو بكر وطلحة أخذهما نوفل بن خويلد بن العدوية فشدهما في حبل واحد، ولم تمنعهما بنو تيم، وكان نوفل يدعى "أسد قريش"، فلذلك سمي أبو بكر وطلحة: القرينين.
وقال إسماعيل بن مجالد، عن بيان بن بشر، عن وبرة، عن همام، قال: سمعت عمار بن ياسر يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر. أخرجه البخاري.(سيرة 1/113)
قلت: ولم يذكر عليا لأنه كان صغيرا ابن عشر سنين.
وقال العباس بن سالم، ويحيى بن أبي كثير، عن أبي أمامة، عن عمرو بن عبسة، قال:
أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة مستخفيا، فقلت: ما أنت؟ قال: "نبي". قلت: وما النبي؟ قال: "رسول الله" قلت: الله أرسلك؟ قال: "نعم". قلت: بم أرسلك؟ قال: "بأن يعبد الله وتكسر الأوثان وتوصل الأرحام". قلت: نعم ما أرسلك به، فمن تبعك؟ قال: "حر وعبد". يعني أبا بكر وبلال، فكان عمرو يقول: لقد رأيتني وأنا رابع أو ربع، فأسلمت وقلت: أتبعك يا رسول الله، قال: "لا، ولكن الحق بقومك، فإذا أخبرت بأني قد خرجت فاتبعني" أخرجه مسلم.
وقال هاشم بن هاشم، عن ابن المسيب، أنه سمع سعد بن أبي وقاص يقول: لقد مكثت سبعة أيام، وإني لثلث الإسلام. أخرجه البخاري.
وقال زائدة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، قال: أول من أظهر إسلامه سبعة: النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعمار وأمه، وصهيب، وبلال، والمقداد. تفرد به يحيى بن أبي بكير.
وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن سعيد بن زيد، قال: والله لقد رأيتني وإن عمر لموثقي وأخته على الإسلام، قبل أن يسلم عمر, ولو أن أحدا ارفض للذي صنعتم بعثمان لكان. أخرجه البخاري.(سيرة 1/114)
وقال الطيالسي في "مسنده": حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله بن مسعود، قال: كنت يافعا أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط بمكة فأتى عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وقد فرا من المشركين فقالا: "يا غلام هل عندك لبن تسقينا"؟ قلت: إني مؤتمن ولست بساقيكما. فقالا: "هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل". قلت: نعم، فأتيتهما بها، فاعتقلها أبو بكر، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الضرع فدعا، فحفل الضرع، وأتاه أبو بكر بصخرة منقعرة، فحلب فيها، ثم شربا وسقياني، ثم قال للضرع: "اقلص". فقلص فلما كان بعد، أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: علمني من هذا القول الطيب، يعني القرآن فقال: "إنك غلام معلم". فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد.(سيرة 1/115)
فصل: في دعوة النبي صلى الله عليه وسله عشيرته إلى الله وما لقى من قومه
وقال جرير، عن عبد الملك بن عمير، عن موسى بن طلحة، عن أبي هريرة، قال: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، دعا النبي صلى الله عليه وسلم قريشا، فاجتمعوا فعم وخص، فقال: "يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئا، غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها". أخرجه مسلم عن قتيبة وزهير، عن جرير، واتفقا عليه من حديث الزهري، عن ابن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة.
وقال سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن قبيصة بن المخارق، وزهير بن عمرو، قالا: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رضمة من جبل، فعلاها ثم نادى: "يا بني عبد مناف، إني نذير، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يربأ أهله، فخشي أن يسبقوه فهتف: يا صباحاه". أخرجه(سيرة 1/116)
مسلم.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني من سمع عبد الله بن الحارث بن نوفل، واستكتمني اسمه، عن ابن عباس، عن علي، قال: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عرفت أني إن بادأت قومي رأيت منهم ما أكره، فصمت عليها، فجاءني جبريل فقال: يا محمد إنك إن لم تفعل ما أمرك به ربك عذبك". قال علي: فدعاني فقال: "يا علي إن الله قد أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فعرفت أني إن بادأتهم بذلك رأيت منهم ما أكره، فصمت، ثم جاءني جبريل فقال: إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك، فاصنع لنا يا علي رجل شاة على صاع من طعام وأعد لنا عس لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب". ففعلت, فاجتمعوا له، وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون، فيهم أعمامه أبو طالب، وحمزة والعباس، وأبو لهب، فقدمت إليهم تلك الجفنة فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حذية، فشقها بأسنانه، ثم رمى بها في نواحيها وقال: "كلوا باسم الله". فأكل القوم حتى نهلوا عنه ما نرى إلا آثار أصابعهم، والله إن كان الرجل منهم يأكل
مثلها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسقهم يا علي". فجئت بذلك القعب، فشربوا منه حتى نهلوا جميعا، وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتكلم بدره أبو لهب فقال: لهدما سحركم صاحبكم. فتفرقوا ولم يكلمهم، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم من الغد: "عد لنا يا علي بمثل ما صنعت بالأمس". ففعلت وجمعتهم، فصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع بالأمس، فأكلوا حتى نهلوا، وشربوا من ذلك(سيرة 1/117)
القعب حتى نهلوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شابا من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم، إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة".
قال أحمد بن عبد الجبار العطاردي: بلغني أن ابن إسحاق إنما سمعه من عبد الغفار بن القاسم أبي مريم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: فكان بين ما أخفى النبي صلى الله عليه وسلم أمره إلى أن أمر بإظهاره ثلاث سنين.
وقال الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، ورهطك منهم المخلصين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف؛ يا صباحاه. قالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد، فاجتمعوا إليه، فقال: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي". قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". فقال أبو لهب: تبا لك، ألهذا جمعتنا، ثم قام، فنزلت: "تبت يدا أبي لهب وقد تب". كذا قرأ الأعمش. متفق عليه إلا "وقد تب" فعند بعض أصحاب الأعمش، وهي في صحيح مسلم.
وقال ابن عيينة: حدثنا الوليد بن كثير، عن ابن تدرس، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: لما نزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] ، أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب، ولها ولولة، وفي يدها فهر وهي تقول:(سيرة 1/118)
مذمما أبينا ... ودينه قلينا
وأمره عصينا
والنبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقال أبو بكر: يا رسول الله قد أقبلت وأخاف أن تراك. قال:
إنها لن تراني، وقرأ قرآنا فاعتصم به وقرأ: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45] ، فوقفت على أبي بكر، ولم تر النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أخبرت أن صاحبك هجاني, فقال: لا ورب هذا البيت ما هجاك، فولت وهي تقول قد علمت قريش أني ابنة سيدها.
روى نحوه علي بن مسهر، عن سعيد بن كثير، عن أبيه، عن أسماء.
وقال أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "انظروا قريشا كيف يصرف الله عني شتمهم ولعنهم، يشتمون مذمما ويلعنون مذمما، وأنا محمد". أخرجه البخاري.
وقال ابن إسحاق: وفشا الإسلام بمكة ثم أمر الله رسوله فقال: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] ، وقال: {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} [الحجر: 89] قال: وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا في الشعاب واستخفوا بصلاتهم من قومهم، فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر بشعب، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون فناكروهم وعابوا عليهم وقاتلوهم، فضرب سعد رجلا من المشركين بلحي بعير فشجه، فكان أول دم في الإسلام، فلما بادأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه وصدع بالإسلام، لم يبعد منه ولم يردوا عليه -فيما بلغني- حتى عاب آلهتهم، فأعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته، فحدب عليه(سيرة 1/119)
عمه أبو طالب، ومنعه وقام دونه، فلما رأت قريش أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه، ورأوا أن عمه يمنعه مشوا إلى أبي طالب فكلموه، وقالوا: إما أن تكفه عن آلهتنا وعن الكلام في ديننا، وإما أن تخلي بيننا وبينه. فقال لهم قولا رفيقا، وردهم ردا جميلا، فانصرفوا. ثم بعد ذلك تباعد الرجال وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحض بعضهم بعضا عليه، ومشوا إلى أبي طالب مرة أخرى، فقالوا: إن لك نسبا وشرفا فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله ما نصبر على شتم آلهتنا وتسفيه أحلامنا حتى تكفه أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين. ثم انصرفوا عنه، فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوته لهم، ولم يطلب نفسا أن يسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ولا أن يخذله.
وقال يونس بن بكير، عن طلحة بن يحيى بن عبيد الله، عن موسى بن طلحة قال: أخبرني عقيل بن أبي طالب، قال: جاءت قريش إلى أبي طالب، فقالوا: إن ابن أخيك هذا
قد آذانا في نادينا ومسجدنا، فانهه عنا، فقال: يا عقيل انطلق فائتني بمحمد. فانطلقت إليه فاستخرجته من حفش أو كبس -يقول: بيت صغير- فلما أتاهم قال أبو طالب: إن بني عمك هؤلاء قد زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم فانته عن أذاهم. فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء، فقال: "أترون هذه الشمس"؟ قالوا: نعم، قال: "فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تستشعلوا منها شعلة". فقال أبو طالب: والله ما كذبنا ابن أخي قط فارجعوا. رواه البخاري في "التاريخ" عن أبي كريب، عن يونس.
وقال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة أن قريشا(سيرة 1/120)
حين قالت لأبي طالب ما قالوا، بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يابن أخي إن قومك قد جاءوا إليَّ فقالوا: كذا وكذا، فأبق عليَّ وعلى نفسك, ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق. فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه بداء وأنه خاذله ومسلمه، فقال: "يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته". ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قام، فلما ولى ناداه أبو طالب، فقال: أقبل يابن أخي. فأقبل إليه فقال: اذهب فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك أبدا.
قال ابن إسحاق فيما رواه عنه يونس: ثم قال أبو طالب في ذلك شعرا.
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا
فامض لأمرك ما عليك غضاضة ... أبشر وقر بذاك منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي ... فلقد صدقت وكنت قدما أمينا
وعرضت دينا قد عرفت بأنه ... من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذاري سبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا
وقال الحارث بن عبيد: حدثنا الجريري، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] ، فأخرج رأسه من القبة فقال لهم: "أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله".
وقال محمد بن عمرو بن علقمة عن محمد بن المنكدر، عن ربيعة بن عباد الدؤلي، قال:
رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله، ووراءه رجل أحول تقد وجنتاه، وهو يقول: لا يغرنكم عن دينكم ودين آبائكم. قلت: من هذا؟ قالوا: أبو لهب.(سيرة 1/121)
وقال عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه, عن ربيعة بن عباد من بني الديل، وكان جاهليا فأسلم، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم بذي المجاز، وهو يمشي بين ظهراني الناس يقول: "يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا". ووراءه أبو لهب. فذكر الحديث. قال ربيعة: وأنا يومئذ أزفر القربة لأهلي.
وقال شعبة، عن الأشعث بن سليم، عن رجل من كنانة، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز، وهو يقول: "قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا". وإذا خلفه رجل يَسفي عليه التراب، فإذا هو أبو جهل ويقول: لا يغرنكم هذا عن دينكم، فإنما يريد أن تتركوا عبادة اللات والعزى. إسناده قوي.
وقال المعتمر بن سليمان، عن أبيه: حدثني نعيم بن أبي هند، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قيل: نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته، فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، فقيل له: ما لك؟ قال: إن بيني وبينه لخندقا من نار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا". أخرجه مسلم.
وقال عكرمة، عن ابن عباس: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن عنقه. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لو فعل لأخذته الملائكة عيانا". أخرجه البخاري.(سيرة 1/122)
وقال محمد بن إسحاق: ثم إن قريشا أتوا أبا طالب فقالوا: يا أبا طالب هذا عمارة بن
الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصرته واتخذه ولدا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك نقتله، فإنما رجل كرجل. فقال: بئس والله ما تسومونني، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه! هذا والله ما لا يكون أبدا. فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وشهدوا على التخلص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا. فقال: والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم عليّ، فاصنع ما بدا لك. فحقب الأمر، وحميت الحرب، وتنابذ القوم، فقال أبو طالب:
ألا قل لعمرو والوليد ومطعم ... ألا ليت حظي من حياطتكم بكر
من الخور حبحاب كثير رغاؤه ... يرش على الساقين من بوله قطر
أرى أخوينا من أبينا وأمنا ... إذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمر
أخص خصوصا عبد شمس ونوفلا ... هما نبذانا مثلما ينبذ الجمر
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني شيخ من أهل مصر، منذ بضع وأربعين سنة، عن عكرمة، عن ابن عباس في قصة طويلة جرت بين المشركين وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قام عنهم قال أبو جهل: يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وسب آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر، فإذا سجد فضخت به رأسه فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم.(سيرة 1/123)
فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا وجلس، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقام يصلي بين الركنين الأسود واليماني، وكان يصلي إلى الشام، وجلست قريش في أنديتها ينظرون، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع مرعوبا منتقعا لونه، قد يبست يداه على حجره، حتى قذف به من يده، وقامت إليه رجال قريش فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ فقال: قمت إليه لأفعل ما قلت لكم فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، والله ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فهم أن يأكلني.
قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ذاك جبريل -عليه السلام- لو دنا مني لأخذه.
وقال المحاربي وغيره، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: مر أبو جهل بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فقال: ألم أنهك عن أن تصلي يا محمد؟ لقد علمت ما بهذا أحد أكثر ناديا مني. فانتهره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال جبريل: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ، سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 17، 18] ، والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية العذاب.
وقال البيهقي: أخبرنا الحاكم، قال: أخبرنا محمد بن علي الصنعاني بمكة، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة، عن أبن عباس أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأن رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا. قال: لم؟ قال: ليعطوك فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله. قال: قد علمت(سيرة 1/124)
أني من أكثرها مالا. قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر لها، أو أنك كاره له. قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيدته مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أفكر فيه. فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره، فنزلت: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] ، يعني الآيات. هكذا رواه الحاكم موصولا. ورواه معمر، عن عباد بن منصور، عن عكرمة مرسلا. ورواه مختصرا حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة مرسلا.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفر من قريش، وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم، فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا. قالوا: فقل وأقم لنا رأيا. قال: بل أنتم فقولوا وأنا أسمع. قالوا: نقول كاهن. فقال: ما هو بكاهن، لقد رأيت الكهان، فما هو بزمزمة الكاهن وسحره. فقالوا: نقول مجنون. فقال: ما هو بمجنون، ولقد رأينا الجنون، وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قال: فنقول شاعر. قال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر.
قالوا: فنقول ساحر. قال: ما هو بساحر، قد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثه ولا
عقده. فقالوا: ما(سيرة 1/125)
تقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله حلاوة وإن أصله لغدق وإن فرعه لجني، فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول أن نقول ساحر يفرق بين المرء وبين ابنه وبين المرء وبين أخيه وبين عشيرته. فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون للناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه. فأنزل في الوليد: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} إلى قوله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر: 11-26] ، وأنزل الله في الذين كانوا معه: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر: 91] ، أي: أصنافا، {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] .
وقال ابن بكير، عن ابن إسحاق، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قام النضر بن الحارث بن كلدة العبدري، فقال: يا معشر قريش، إنه والله لقد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله، لقد كان محمد فيكم غلاما حدثا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم، قلتم ساحر، لا والله ما هو بساحر، ولا بكاهن، ولا بشاعر، قد رأينا هؤلاء وسمعنا كلامهم، فانظروا في شأنكم. وكان النضر من شياطين قريش، ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصب له العداوة.
وقال محمد بن فضيل: حدثنا الأجلح، عن الذيال بن حرملة، عن جابر بن عبد الله، قال: قال أبو جهل والملأ من قريش: لقد انتشر علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر، فكلمه ثم أتانا ببيان من أمره. فقال عتبة: لقد سمعت بقول السحرة والكهانة والشعر، وعلمت من ذلك علماء، وما يخفى عليّ إن كان كذلك. فأتاه، فلما أتاه قال له عتبة: يا محمد أنت خير أم هاشم؟ أنت(سيرة 1/126)
خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فلم يجبه، قال: فبم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا؟ فإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا لك ألويتنا، فكنت رأسنا ما بقيت, وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي أبيات قريش شئت، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت، فلما فرغ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم {حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ". [فصلت: 2] ، فقرأ حتى بلغ {أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] ، فأمسك عتبة على فيه، وناشده الرحم أن يكف عنه، ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم، فقال أبو جهل: يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد، وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته، انطلقوا بنا إليه. فأتوه، فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما حسبنا إلا أنك صبوت، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك ما يغنيك
عن طعام محمد. فغضب وأقسم بالله لا يكلم محمدا أبدا، وقال: لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته، فقص عليهم القصة، فأجابني بشيء والله ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة، قرأ: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ". [فصلت: 1-3] ، حتى بلغ {أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] ، فأمسكت بفيه، وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب. رواه يحيى بن معين عنه.
وقال داود بن عمرو الضبي: حدثنا المثنى بن زرعة، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على عتبة بن ربيعة {حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أتى أصحابه فقال لهم: يا(سيرة 1/127)
قوم أطيعوني في هذا اليوم واعصوني فيما بعده، فوالله لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت أذناي قط كلاما مثله، وما دريت ما أرد عليه.
قال ابن إسحاق: حدثنا يزيد بن أبي زياد، عن محمد بن كعب القرظي، قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة، لما أسلم حمزة قالوا له: يا أبا الوليد كلم محمدا. فأتاه فقال: يابن أخي إنك منا حيث علمت من البسطة والمكان في النسب، وإنك أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به بينهم، وسفهت أحلامهم، وعبت به آلهتهم، فاسمع مني. قال: قل يا أبا الوليد. قال: إن كنت تريد مالا جمعنا لك، حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد شرفا سودناك وملكناك، وإن كان الذي يأتيك رئيا طلبنا لك الطب. حتى إذا فرغ قال: فاسمع مني. قال: أفعل. قال:
{حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت: 1-3] ، ومضى، فأنصت عتبة، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه، فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة سجد، ثم قال: "قد سمعت يا أبا الوليد فأنت وذاك". فقام إلى أصحابه، فقال بعضهم: نحلف والله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس قالوا: ما وراءك؟ قال: ورائي أني سمعت قولا، والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني، واجعلوها بي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب، فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك والله بلسانه. قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم.(سيرة 1/128)
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني الزهري. قال: حدثت أن أبا جهل، وأبا سفيان, والأخنس بن شريق خرجوا ليلة يلتمسون يتسمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي في جوف بيته، وأخذ كل رجل منهم مجلسا، وكلا لا يعلم بمكان صاحبه، فلما أصبحوا تفرقوا
فجمعهم الطريق، فتلاوموا وقالوا: لا نعود فلو رآنا بعض السفهاء لوقع في نفسه شيء، ثم عادوا لمثل ليلتهم، فلما تفرقوا تلاقوا فتلاوموا كذلك، فلما كان في الليلة الثالثة وأصبحوا جمعتهم الطريق فتعاهدوا أن لا يعودوا، ثم إن الأخنس بن شريق أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها. فقال الأخنس: وأنا والذي حلفت به. ثم أتى أبا جهل فقال: ما رأيك؟ فقال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه، والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه. فقام الأخنس عنه.
وقال يونس بن بكير، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن المغيرة بن شعبة، قال: إن أول يوم عرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أمشي أنا وأبو جهل، إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأبي جهل: "يا أبا الحكم هلم إلى الله وإلى رسوله، أدعوك إلى الله". فقال أبو جهل: يا محمد هل أنت منته عن سب آلهتنا، هل تريد إلا أن نشهد أن قد بلغت، فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حقا ما اتبعتك. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عليَّ فقال: والله إني لأعلم أن ما يقول حق، ولكن بني قصي قالوا: فينا الحجابة، فقلنا: نعم، فقالوا: ففينا الندوة، قلنا: نعم، ثم قالوا: فينا(سيرة 1/129)
اللواء، فقلنا: نعم، وقالوا: فينا السقاية، فقلنا: نعم، ثم أطعموا وأطعمنا حتى إذا تحاكت الركب قالوا: منا نبي. والله لا أفعل.
وقال ابن إسحاق: ثم إن قريشا وثبت كل قبيلة على من أسلم منهم يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، فمنع الله رسوله صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب، فقام أبو طالب فدعا بني هاشم وبني عبد المطلب إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه، فاجتمعوا إليه وقاموا معه، إلا ما كان من الخاسر أبي لهب، فجعل أبو طالب يمدحهم ويذكر قديمهم، ويذكر فضل محمد صلى الله عليه وسلم، وقال في ذلك أشعارا، ثم إنه لما خشي دهماء العرب أن يركبوه مع قومه، لما انتشر ذكره قال قصيدته التي منها:
ولما رأيت القوم لا ود فيهم ... وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد صارحونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة ... وأبيض عضب من تراث المقاول
وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي ... وأمسكت من أثوابه بالوصائل
أعوذ برب الناس من كل طاعن ... علينا بسوء أو ملح بباطل
وفيها يقول:
كذبتم وبيت الله نبزى محمدا ... ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وينهض قوم نحوكم غير عزل ... ببيض حديث عهدها بالصياقل
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده في رحمة وفواضل
لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد ... وإخوته دأب المحب المواصل
فمن مثله في الناس أي مؤمل ... إذا قاسه الحكام عند التفاضل(سيرة 1/130)
حليم رشيد عادل غير طائش ... يوالي إلها ليس عنه بغافل
فوالله لولا أن أجيء بسبة ... تجر على أشياخنا في المحافل
لكنا اتبعناه على كل حالة ... من الدهر جدا غير قول التهازل
لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل
فأصبح فينا أحمد ذو أرومة ... يقصر عنها سورة المتطاول
حدبت بنفسي دونه وحميته ... ودافعت عنه بالذرى والكلاكل
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا ... عقوبة شر عاجلا غير آجل
فلما انتشر ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين العرب ذكر بالمدينة، ولم يكن حي من العرب أعلم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر، وقبل أن يذكر، من الأوس والخزرج, وذلك لما كانوا يسمعون من الأحبار، وكانوا حلفاء يعني اليهود في بلادهم. وكان أبو قيس بن الأسلت يحب قريشا, وكان لهم صهرا، وعنده أرنب ابنة أسد بن عبد العزى, وكان يقيم بمكة السنين بزوجته، فقال:
أيا راكبا إما عرضت فبلغن ... مغلغلة عني لؤي بن غالب
رسول امرئ قد راعه ذات بينكم ... على النأي محزون بذلك ناصب
أعيذكم بالله من شر صنعكم ... وشر تباغيكم ودس العقارب
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة ... هي الغول للأقصين أو للأقارب
أقيموا لنا دينا حنيفا فأنتم ... لنا غاية قد نهتدي بالذوائب
فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا ... بأركان هذا البيت بين الأخاشب
فعندكم منه بلاء مصدق ... غداة أبي يكسوم هادي الكتائب
فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم ... جنود المليك بين ساف وحاصب
فولوا سراعا هاربين ولم يؤب ... إلى أهله ملجيش غير عصائب(سيرة 1/131)
أبو يكسوم: ملك أصحاب الفيل.
وقال ابن إسحاق: فحدثني يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: قلت له: ما أكثر ما رأيت أصابت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانوا يظهرون من عداوته؟ قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر, فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط، قد سفه أحلامنا، وسب آلهتنا, وفعل وفعل. فطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستلم الركن وطاف بالبيت، فلما مر غمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجهه، فلما مر الثانية غمزوه، فلما مر الثالثة غمزوه، فوقف, فقال: "أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح". قال: فأخذت القوم كلمته حتى ما فيهم رجل إلا كأن على رأسه طائرا واقع، حتى إن أشدهم فيه وطأة ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم، فوالله ما كنت جهولا. فانصرف صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من الغد اجتمعوا في الحجر، وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه، حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه. فبينا هم في ذلك، إذ طلع النبي صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ فيقول: "نعم". فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه، فقام أبو بكر دونهم يبكي ويقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28] ، ثم انصرفوا عنه، فحدثني بعض آل أبي بكر، أن أم كلثوم بنت أبي بكر قالت: لقد رجع أبو بكر يومئذ وقد صدعوا فرق رأسه مما جذبوه بلحيته، وكان كثير الشعر.(سيرة 1/132)
إسلام أبي ذر، رضي الله عنه:
وقال سليمان بن المغيرة: حدثنا حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت قال: قال أبو ذر: خرجنا من قومنا غفار، وكانوا يحلون الشهر الحرام، فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا، فانطلقنا حتى نزلنا على خال لنا ذي مال وهيئة فأكرمنا, فحسدنا قومه، فقالوا: إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس. فجاء خالنا فنثا علينا ما قيل له. فقلت له: أما ما مضى من معروفك، فقد كدرته ولا جماع لك فيما بعد، فقربنا صرمتنا فاحتملنا عليها، وتغطى خالنا ثوبه، فجعل يبكي، فانطلقنا فنزلنا بحضرة مكة، فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها، فأتينا الكاهن فخير أنيسا، فأتانا بصرمتنا ومثلها معها. قال: وقد صليت يابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، فقلت: لمن؟ قال لله. قلت: فأين توجه؟ قال: أتوجه حيث يوجهني الله أصلي عشاء, حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء -يعني الثوب- حتى تعلوني الشمس. فقال أنيس: إن لي حاجة بمكة فاكفني حتى آتيك. فأتى مكة فراث -أي أبطأ- عليَّ، ثم أتاني فقلت ما حبسك؟ قال: لقيت رجلا بمكة يزعم أن الله أرسله على دينك. قلت: ما يقول الناس؟ قال: يقولون: إنه شاعر، وساحر، وكاهن، وكان أنيس أحد الشعراء. فقال: لقد سمعت قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولو وضعت قوله على أقوال(سيرة 1/133)
الشعراء, فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، ووالله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون قال: قلت له: هل أنت كافيني حتى أنطلق فأنظر؟ قال: نعم، وكن من أهل مكة على حذر، فإنهم قد شنفوا له وتجهموا. فأتيت مكة، فتضعفت رجلا، فقلت: أين هذا الذي تدعونه الصابئ؟ قال: فأشار إلى الصابئ. قال: فمال عليَّ أهل الوادي بكل مدرة وعظم، حتى خررت مغشيا عليَّ، فارتفعت حين ارتفعت، كأني نصب أحمر، فأتيت زمزم فشربت من مائها، وغسلت عني الدم، فدخلت بين الكعبة وأستارها، ولقد لبثت يابن أخي ثلاثين من بين ليلة ويوم، وما لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما
وجدت على كبدي سخفة جوع. فبينما أهل مكة، في قمراء إضحيان، قد ضرب الله على أصمخة أهل مكة فما يطوف بالبيت أحد غير امرأتين، فأتتا عليَّ، وهما تدعوان إسافا ونائلة، فأتتا علي في طوافهما، فقلت: أنكحا أحدهما الأخرى. قال: فما تناهتا عن قولهما -وفي لفظ: فما ثناهما ذلك عما قالتا- فأتتا علي فقلت: هن مثل الخشبة، غير أني لا أكنى. فانطلقتا تولولان، وتقولان: لو كان ههنا أحد من أنفارنا. فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وهما هابطان من الجبل، فقالا لهما: ما لكما؟ قالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها. قالا: ما قال لكما؟ قالتا: قال لنا كلمة تملأ الفم. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، فاستلم الحجر، ثم طافا، فلما قضى صلاته أتيته، فكنت أول من حياه بتحية الإسلام. فقال: "وعليك ورحمة الله". ثم قال: "ممن(سيرة 1/134)
أنت؟ " قلت: من غفار، فأهوى بيده فوضعها على جبينه فقلت في نفسي: كره أني انتميت إلى غفار، فأهويت لآخذ بيده، فقدعني صاحبه، وكان أعلم به مني, ثم رفع رأسه، فقال: "متى كنت ههنا؟ " قلت: قد كنت ههنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوما. قال: "فمن كان يطعمك؟ " قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم. فقال: "إنها مباركة، إنها طعام طعم، وشفاء سقم". فقال أبو بكر: ائذن لي يا رسول الله في طعامه الليلة. ففعل، فانطلقا، وانطلقت معهما، حتى فتح أبو بكر بابا، فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف، فكان ذلك أول طعام أكلته بها. قال: فغبرت ما غبرت ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "إني قد وجهت إلى أرض ذات نخل لا أحسبها إلا يثرب، فهل أنت مبلغ عني قومك لعل الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟ ". فانطلقت حتى أتيت أخي أنيسا فقال لي: ما صنعت؟ قلت: صنعت أني أسلمت وصدقت. ثم أتينا أمنا فقالت: ما بي رغبة عن دينكما. فأسلمت، ثم احتملا حتى أتينا قومنا غفار، فأسلم نصفهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان يؤمهم خفاف بن إيماء بن رحضة الغفاري، وكان سيدهم يومئذ، وقال بقيتهم: إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمنا، فقدم المدينة فأسلم بقيتهم. وجاءت أسلم فقالوا: يا رسول الله إخواننا، نسلم على الذي أسلموا عليه، فأسلموا فقال: "غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله". أخرجه مسلم عن هدبة، عن سليمان.
وفي الصحيحين من حديث مثنى بن سعيد، عن أبي جمرة(سيرة 1/135)
الضبعي، أن ابن عباس
حدثهم بإسلام أبي ذر، قال: أرسلت أخي فرجع وقال: رأيت رجلا يأمر بالخير. فلم يشفني, فأتيت مكة، فجعلت لا أعرفه، وأشرب من زمزم، فمر بي عليٌّ، فقال: كأنك غريب. قلت: نعم قال: انطلق إلى المنزل فانطلقت معه، فلم أسأله، فلما أصبحنا، جئت المسجد، ثم مر بي عليٌّ، فقال: أما آن لك أن تعود؟ قلت: لا. قال: ما أمرك؟ قلت: إن كتمت عليَّ أخبرتك, ثم قلت: بلغنا أنه خرج نبي. قال: قد رشدت فاتبعني. فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: اعرض عليَّ الإسلام. فعرضه عليَّ، فأسلمت، فقال: اكتم إسلامك وارجع إلى قومك. قلت: والله لأصرخن بها بين أظهرهم، فجاء في المسجد, فقال: يا معاشر قريش أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله. فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ فقاموا، فضربت لأموت، فأدركني العباس فأكب عليَّ وقال: تقتلون، ويلكم رجلا من بني غفار، ومتجركم وممركم على غفار؟! فأطلقوا عني. ثم فعلت من الغد كذلك، وأدركني العباس أيضا.
وقال النضر بن محمد اليمامي: حدثنا عكرمة بن عمار، عن أبي زميل سماك بن الوليد، عن مالك بن مرثد، عن أبيه، عن أبي ذر قال: كنت ربع الإسلام، أسلم قبل ثلاثة نفر، أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: السلام عليك يا رسول الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فرأيت الاستبشار في وجهه.(سيرة 1/136)
إسلام حمزة، رضي الله عنه:
وقال ابن إسحاق: حدثني رجل من أسلم، كان واعية، أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا، فآذاه وشتمه، فلم يكلمه النبي صلى الله عليه وسلم، ومولاة لعبد الله بن جدعان، تسمع، ثم انصرف عنه، فعمد إلى نادي قريش عند الكعبة, فجلس معهم، فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشحا قوسه، راجعا من قنص له، وكان صاحب قنص، وكان إذا رجع من قنصه بدأ بالطواف بالكعبة، وكان أعز فتى في قريش، وأشده شكيمة، فلما مر بالمولاة قالت له: يا أبا عمارة ما لقي ابن أخيك آنفا من أبي الحكم، وجده ههنا جالسا فآذاه وسبه وبلغ منه، ولم يكلمه محمد. فاحتمل حمزة الغضب، لما أراد الله به من كرامته، فخرج يسعى مغذا لأبي جهل، فلما رآه جالسا في القوم أقبل نحوه، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس، فضربه بها، فشجه شجة منكرة، ثم قال: أتشتمه! فأنا على دينه أقول ما يقول، فرد على ذلك إن استطعت، فقامت رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة فوالله لقد سببت ابن أخيه سبا قبيحا، وتم حمزة على إسلامه، فلما أسلم، عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع، وأن حمزة -رضي الله عنه- سيمنعه، فكفوا بعض الشيء.(سيرة 1/137)
إسلام عمر, رضي الله عنه:
قال عبد بن حميد وغيره: حدثنا أبو عامر العقدي، قال: حدثنا خارجة بن عبد الله بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك: بعمر بن الخطاب، أو بأبي جهل بن هشام". وروى نحوه عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر.
وقال مبارك بن فضالة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أعز الدين بعمر".
وقال عبد العزيز الأويسي: حدثنا الماجشون بن أبي سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب خاصة".
قال إسماعيل بن أبي خالد: حدثنا قيس، قال ابن مسعود: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر.
أخرجه البخاري.
وقال أحمد في "مسنده": حدثنا أبو المغيرة، قال: حدثنا صفوان, قال: حدثنا شريح بن عبيد قال: قال عمر: خرجت أتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أعجب من تأليف القرآن، فقلت: هذا والله شاعر، كما قالت قريش، فقرأ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا(سيرة 1/138)
تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 40، 41] الآيات، فوقع في قلبي الإسلام كل موقع.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا يحيى بن يعلى الأسلمي، عن عبد الله بن المؤمل، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: كان أول إسلام عمر أن عمر قال: ضرب أختي المخاض ليلا،
فخرجت من البيت، فدخلت في أستار الكعبة في ليلة قرة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل الحجر، وعليه تبان، فصلى ما شاء الله، ثم انصرف، فسمعت شيئا لم أسمع مثله، فخرج، فاتبعته فقال: "من هذا؟ " قلت: عمر. قال: "يا عمر ما تدعني ليلا ولا نهارا"، فخشيت أن يدعو عليَّ فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. فقال: "يا عمر أسره". قلت: لا والذي بعثك بالحق لأعلننه، كما أعلنت الشرك.
وقال محمد بن عبيد الله ابن المنادى: حدثنا إسحاق الأزرق، قال: حدثنا القاسم بن عثمان البصري، عن أنس بن مالك، قال: خرج عمر -رضي الله عنه- متقلدا السيف، فلقيه رجل من بني زهرة فقال له: أين تعمد يا عمر؟ قال: أريد أن أقتل محمدا. قال: فكيف تأمن في بني هاشم وبني زهرة، وقد قتلت محمدا؟ فقال: ما أراك إلا قد صبوت. قال: أفلا أدلك على العجب، إن ختنك وأختك قد صبوا وتركا دينك. فمشى عمر فأتاهما، وعندهما خباب، فلما سمع بحس عمر توارى في البيت، فدخل فقال: ما هذه الهينمة؟ وكانوا يقرءون "طه"، قالا: ما عدا حديثا تحدثناه بيننا. قال: فلعلكما قد صبوتما؟ فقال له ختنه: يا عمر إن كان الحق في غير دينك. فوثب عليه فوطئه وطئا شديدا, فجاءت أخته لتدفعه عن زوجها، فنفحها نفحة بيده فدمّى وجهها، فقالت وهي غضبى: وإن كان الحق في غير دينك إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله. فقال عمر: أعطوني الكتاب الذي هو عندكم فأقرؤه، وكان عمر يقرأ الكتاب، فقالت أخته: إنك رجس، وإنه لا يمسه إلا المطهرون، فقم فاغتسل أو توضأ، فقام فتوضأ، ثم أخذ الكتاب فقرأ: {طه} حتى انتهى إلى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 1-14] ، فقال عمر: دلوا على محمد، فلما سمع خباب قول عمر خرج فقال: أبشر يا عمر فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لك ليلة الخميس: "اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصل الدار التي في أصل الصفا. فانطلق عمر حتى أتى الدار وعلى بابها حمزة، وطلحة، وناس، فقال حمزة: هذا عمر، إن يرد الله به خيرا يسلم وإن يرد غير ذلك يكن قتله علينا هينا. قال: والنبي صلى الله عليه وسلم داخل يوحى إليه، فخرج حتى أتى عمر، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف فقال: "ما أنت منته يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة؟ فهذا عمر! اللهم أعز الإسلام بعمر". فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا(سيرة 1/139)
الله وأنك عبد الله ورسوله.
وقد رواه يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، وقال فيه: زوج أخته سعيد بن زيد بن عمرو.
وقال ابن عيينة، عن عمرو، عن ابن عمر، قال: إني لعلى سطح، فرأيت الناس مجتمعين على رجل وهم يقولون: صبأ عمر، صبأ عمر. فجاء العاص بن وائل عليه قباء ديباج، فقال: إن كان عمر قد صبأ فمه أنا له جار. قال فتفرق الناس عنه. قال: فعجبت من عزه. أخرجه البخاري عن ابن المديني، عنه.(سيرة 1/140)
قال البكائي, عن ابن إسحاق: حدثني نافع، عن ابن عمر، قال: لما أسلم عمر، قال: أي قريش أثقل للحديث؟ قيل: جميل بن معمر الجمحي. فغدا عليه، قال ابن عمر: وغدوت أتبع أثره وأنا غلام أعقل، حتى جاءه، فقال: أعلمت أني أسلمت؟ فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه، حتى قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، ألا إن ابن الخطاب قد صبأ قال: يقول عمر من خلفه: كذب، ولكني أسلمت. وثاروا إليه فما برح يقاتلهم، ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم. قال: وطلح فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا. فبينا هو على ذلك إذ أقبل شيخ عليه حلة حبرة، وقميص موشى، حتى وقف عليهم، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: صبأ عمر. قال: فمه! رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون! أترون بني كعب بن عدي يسلمون! خلوا عنه. قال: فوالله لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه، فقلت لأبي بعد أن هاجر: يا أبة، من الرجل الذي زجر القوم عنك؟ قال: العاص بن وائل.
أخرجه ابن حبان، من حديث جرير بن حازم، عن ابن إسحاق.
وقال إسحاق بن إبراهيم الحنيني، عن أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، قال: قال لنا عمر: كنت أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا أنا في يوم حار بالهاجرة، في بعض طريق مكة، إذ لقيني رجل فقال: عجبا لك يابن الخطاب، إنك تزعم أنك وأنك، وقد دخل علينا الأمر في بيتك. قلت: وما ذاك؟ قال: أختك قد أسلمت. فرجعت(سيرة 1/141)
مغضبا حتى قرعت الباب، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أسلم الرجل والرجلان ممن لا شيء له ضمهما إلى من في
يده سعة فينالان من فضل طعامه، وقد كان ضم إلى زوج أختي رجلين, فلما قرعت الباب قيل: من هذا؟ قلت: عمر. فتبادروا فاختفوا مني, وقد كانوا يقرءون صحيفة بين أيديهم وتركوها أو نسوها، فقامت أختي تفتح الباب، فقلت: يا عدوة نفسها، أصبوت. وضربتها بشيء في يدي على رأسها، فسال الدم وبكت، فقالت: يابن الخطاب ما كنت فاعلا فافعل فقد صبوت. قال: ودخلت حتى جلست على السرير، فنظرت إلى الصحيفة فقلت: ما هذا؟ ناولنيها. قالت: لست من أهلها، أنت لا تطهر من الجنابة، وهذا كتاب لا يمسه إلا المطهرون. فما زلت بها حتى ناولتنيها، ففتحتها، فإذا فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم", فكلما مررت باسم من أسماء الله عز وجل ذعرت منه فألقيت الصحيفة ثم رجعت إلى نفسي فتناولتها، فإذا فيها: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فذعرت، فقرأت إلى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحديد: 1-7] ، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله. فخرجوا متبادرين وكبروا، وقالوا: أبشر فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا يوم الإثنين فقال: "اللهم أعز دينك بأحب الرجلين إليك إما أبو جهل وإما عمر". ودلوني على النبي صلى الله عليه وسلم في بيت بأسفل الصفا، فخرجت حتى قرعت الباب، فقالوا: من؟ قلت: ابن الخطاب، وقد علموا شدتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما اجترأ أحد يفتح الباب، حتى قال: "افتحوا له". ففتحوا لي، فأخذ رجلان بعضدي، حتى أتيا بي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "خلوا عنه". ثم أخذ بمجامع قميصي وجذبني إليه، ثم قال: "أسلم يابن الخطاب, اللهم اهده". فتشهدت، فكبر المسلمون تكبيرة سمعت بفجاج مكة، وكانوا مستخفين, فلم أشأ أن أرى رجلا يضرب ويضرب إلا رأيته، ولا يصيبني من ذلك شيء، فجئت(سيرة 1/142)
خالي وكان شريفا، فقرعت عليه الباب، فقال: من هذا؟ قلت: ابن الخطاب وقد صبوت. قال: لا تفعل. ثم دخل وأجاف الباب دوني. فقلت: ما هذا شيء. فذهبت إلى رجل من عظماء قريش، فناديته، فخرج إليّ، فقلت مثل مقالتي لخالي، وقال لي مثل ما قال خالي، فدخل وأجاف الباب دوني, فقلت: ما هذا شيء، إن المسلمين يضربون وأنا لا أضرب، فقال لي رجل: أتحب أن يعلم بإسلامك؟ قلت: نعم. قال: فإذا جلس الناس في الحجر فأت فلانا -لرجل لم يكن يكتم السر- فقل له فيما بينك وبينه: إني قد صبوت، فإنه قلما يكتم السر. فجئت، وقد اجتمع الناس في الحجر، فقلت فيما بيني وبينه: إني قد صبوت. قال: أوقد فعلت؟ قلت: نعم. فنادى بأعلى صوته: إن ابن الخطاب قد صبأ، فبادروا إليَّ، فما زلت أضربهم ويضربوني، واجتمع عليَّ الناس، قال خالي: ما هذه الجماعة؟ قيل: عمر قد صبأ، فقام على الحجر، فأشار بكمه: ألا إني قد أجرت ابن أختي،
فتكشفوا عني، فكنت لا أشاء أن أرى رجلا من المسلمين يضرِب ويضرَب إلا رأيته، فقلت: ما هذا شيء حتى يصيبني, فأتيت خالي فقلت: جوارك رد عليك، فما زلت أضرِب وأضرَب حتى أعز الله الإسلام.
ويروى عن ابن عباس بإسناد ضعيف، قال: سألت عمر، لأي شيء سميت الفاروق؟ قال: أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام، فخرجت إلى المسجد، فأسرع أبو جهل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسبه، فأخبر حمزة، فأخذ قوسه وجاء إلى المسجد، إلى حلقة قريش التي فيها أبو جهل، فاتكأ على قوسه مقابل أبي جهل، فنظر إليه، فعرف أبو جهل الشر في وجهه، فقال: ما لك يا أبا عمارة, فرفع القوس فضرب بها أخدعيه، فقطعه(سيرة 1/143)
فسالت الدماء، فأصلحت ذلك قريش مخافة الشر، قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف في دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، فانطلق حمزة فأسلم. وخرجت بعده بثلاثة أيام، فإذا فلان المخزومي فقلت: أرغبت عن دين آبائك واتبعت دين محمد؟ قال: إن فعلت فقد فعله من هو أعظم عليك حقا مني، قلت: ومن هو؟ قال: أختك وختنك. فانطلقت فوجدت همهمة، فدخلت فقلت: ما هذا؟ فما زال الكلام بيننا حتى أخذت برأس ختني ضربته وأدميته، فقامت إليَّ أختي فأخذت برأسه، وقالت: قد كان ذلك على رغم أنفك. فاستحييت حين رأيت الدماء، فجلست وقلت: أروني هذا الكتاب. فقالت: إنه لا يمسه إلا المطهرون. فقمت فاغتسلت، فأخرجوا إليَّ صحيفة فيها: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" قلت: أسماء طيبة طاهرة. {طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} إلى قوله: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [ط: 1-8] ، فتعظمت في صدري، وقلت: مِنْ هذا فرت قريش. فأسلمت، وقلت: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: فإنه في دار الأرقم. فأتيت فضربت الباب، فاستجمع القوم، فقال لهم حمزة: ما لكم؟ قالوا: عمر.
قال: وعمر! افتحوا له الباب، فإن أقبل قبلنا منه، وإن أدبر قتلناه. فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج فتشهد عمر، فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد. قلت: يا رسول الله ألسنا على الحق؟ قال: "بلى". قلت: ففيم الاختفاء. فخرجنا صفين أنا في أحدهما، وحمزة في الآخر، حتى دخلنا المسجد، فنظرت قريش إليَّ وإلى حمزة، فأصابتهم كآبة شديدة, فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم "الفاروق" يومئذ، وفرق بين الحق والباطل.
وقال الواقدي: حدثنا محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن ابن المسيب، قال: أسلم عمر بعد أربعين رجلا وعشر نسوة، فلما أسلم ظهر الإسلام بمكة.(سيرة 1/144)
وقال الواقدي: حدثنا معمر، عن الزهري أن عمر أسلم بعد أن دخل النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وبعد أربعين أو نيف وأربعين من رجال ونساء، فلما أسلم نزل جبريل فقال: يا محمد استبشر أهل السماء بإسلام عمر.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: كان إسلام عمر بعد خروج من خرج من الصحابة إلى الحبشة. فحدثني عبد الرحمن بن الحارث، عن عبد العزيز بن عبد الله بن عامر ابن ربيعة، عن أمه ليلى، قالت: كان عمر من أشد الناس علينا في إسلامنا، فلما تهيأنا للخروج إلى الحبشة، جاءني عمر، وأنا على بعير، نريد أن نتوجه، فقال: إلى أين يا أم عبد الله؟ فقلت: قد آذيتمونا في ديننا، فنذهب في أرض الله حيث لا نؤذى في عبادة الله. فقال: صحبكم الله، ثم ذهب، فجاء زوجي عامر بن ربيعة فأخبرته بما رأيت من رقة عمر بن الخطاب، فقال: ترجين أن يسلم؟ قلت: نعم. قال: فوالله لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب. يعني من شدته على المسلمين.
قال يونس، عن ابن إسحاق: والمسلمون يومئذ بضع وأربعون رجلا، وإحدى عشرة امرأة.(سيرة 1/145)
الهجرة الأولى إلى الحبشة ثم الثانية:
قال يعقوب الفسوي في "تاريخه": حدثني العباس بن عبد العظيم، قال: حدثني بشار بن موسى الخفاف، قال: حدثنا الحسن بن زياد البرجمي -إمام مسجد محمد بن واسع- قال: حدثنا قتادة, قال: أول من هاجر إلى الله بأهله عثمان بن عفان. قال: سمعت النضر بن أنس يقول: سمعت أبا حمزة يعني أنس بن مالك، يقول: خرج عثمان برقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة، فأبطأ خبرهم، فقدمت امرأة من قريش, فقالت: يا محمد قد رأيت ختنك ومعه امرأته، فقال: "على أي حال رأيتهما؟ " قالت: رأيته حمل امرأته على حمار من هذه الدبابة، وهو يسوقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صحبهما الله، إن عثمان أول من هاجر بأهله بعد لوط".
ورواه يحيى بن أبي طالب، عن بشار.
عن عبد الله بن إدريس، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: حدثني الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، وعروة، وعبد الله بن أبي بكر، وصلت الحديث عن أبي بكر، عن أم سلمة, قالت: لما أمرنا بالخروج إلى الحبشة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى ما يصيبنا من البلاء: "الحقوا بأرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، فأقيموا ببلاده حتى(سيرة 1/146)
يجعل الله مخرجا مما أنتم فيه". فقدمنا عليه فاطمأننا في بلاده ... الحديث.
قال البغوي في تاسع "المخلصيات": وروى ابن عون، عن عمير بن إسحاق، عن عمرو بن العاص بعض هذا الحديث.
وقال البكائي: قال ابن إسحاق: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية بمكانة من الله، ومن عمه، وأنه لا يقدر أن يمنعهم من البلاء، قال لهم: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة, فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه" فخرج عند ذلك المسلمون مخافة الفتنة، وفرارا بدينهم إلى الله. فخرج عثمان بزوجته، وأبو حذيفة ولد عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بزوجته سهلة بنت سهيل بن عمرو فولدت له بالحبشة محمدا، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير العبدري، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وزوجته أم سلمة أم المؤمنين، وعثمان بن مظعون الجمحي، وعامر بن ربيعة حليف آل الخطاب، وامرأته ليلى بنت
أبي حثمة العدوية، وأبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى العامري، وسهيل بن بيضاء، وهو سهيل بن وهب الحارثين, فكانوا أول من هاجر إلى الحبشة.
قال: ثم خرج جعفر بن أبي طالب، وتتابع المسلمون إلى الحبشة. ثم سمى ابن إسحاق جماعتهم، وقال: فكان جميع من لحق بأرض الحبشة، أو ولد بها، ثلاثة وثمانين رجلا، فعبدوا الله وحمدوا جوار النجاشي, فقال عبد الله بن الحارث بن قيس السهمي:(سيرة 1/147)
يا راكبا بلغن عني مغلغلة ... من كان يرجو بلاغ الله والدين
كل امرئ من عباد الله مضطهد ... ببطن مكة مقهور ومفتون
أنا وجدنا بلاد الله واسعة ... تنجي من الذل والمخزاة والهون
فلا تقيموا على ذل الحياة وخز ... ي في الممات وعيب غير مأمون
إنا تبعنا نبي الله واطرحوا ... قول النبي وعالوا في الموازين
فاجعل عذابك في القوم الذي بغوا ... وعائذ بك أن يعلوا فيطغوني
وقال عثمان بن مظعون يعاتب أمية بن خلف ابن عمه، وكان يؤذيه:
أتيم بن عوف والذي جاء بغضة ... ومن دونه الشرمان والبرك أكتع
أأخرجتني من بطن مكة أيمنا ... وأسكنتني في سرح بيضاء نقذع
تريش نبالا لا يواتيك ريشها ... وتبري نبالا ريشها لك أجمع
وحاربت أقواما كراما أعزة ... وأهلكت أقواما بهم كنت تفزع
ستعلم إن نابتك يوما ملمة ... وأسلمك الأرياش ما كنت تصنع
وقال موسى بن عقبة: ثم إن قريشا ائتمروا واشتد مكرهم، وهموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إخراجه، فعرضوا على قومه أن يعطوهم ديته ويقتلوه، فأبوا حمية. ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم شعب بني عبد المطلب، أمر أصحابه بالخروج إلى الحبشة فخرجوا مرتين؛ رجع الذين خرجوا في المرة الأولى حين أنزلت سورة "النجم"، وكان المشركون يقولون: لو كان محمد يذكر آلهتنا بخير قررناه وأصحابه، ولكنه لا يذكر من حالفه من اليهود والنصارى بمثل ما يذكر به آلهتنا من الشتم، والشر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمنى هداهم، فأنزلت: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19، 20] ، فألقى الشيطان عندها كلمات "وإنهن(سيرة 1/148)
الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن ترتجى" فوقعت في قلب كل مشرك بمكة, وذلت بها
ألسنتهم وتباشروا بها. وقالوا: إن محمدا قد رجع إلى ديننا. فلما بلغ آخر النجم سجد صلى الله عليه وسلم وسجد كل من حضر من مسلم أو مشرك، غير أن الوليد بن المغيرة كان شيخا كبيرا رفع ملء كفيه ترابا فسجد عليه، فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود، بسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم، عجب المسلمون بسجود المشركين معهم، ولم يكن المسلمون سمعوا ما ألقى الشيطان، وأما المشركون فاطمأنوا إلى رسول الله صلى الله عله وسلم وأصحابه، لما ألقى في أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وحدثهم الشيطان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرأها في السجدة، فسجدوا تعظيما لآلهتهم.
وفشت تلك الكلمة في الناس، وأظهرها الشيطان، حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين؛ عثمان بن مظعون وأصحابه، وحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم وصلوا، وأن المسلمين قد آمنوا بمكة، فأقبلوا سراعا، وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان، وأنزلت: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] الآيات، فلما بين الله قضاءه وبرأه من سجع الشيطان انقلب المشركون(سيرة 1/149)
بضلالتهم وعداوتهم.
وكان عثمان بن مظعون وأصحابه، فيمن رجع، فلم يستطيعوا أن يدخلوا مكة إلا بجوار، فأجار الوليد بن المغيرة عثمان بن مظعون، فلما رأى عثمان ما يلقى أصحابه من البلاء، وعذب طائفة منهم بالسياط والنار، وعثمان معافى لا يعرض له، استحب البلاء، فقال للوليد: يا عم قد أجرتني، وأحب أن تخرجني إلى عشيرتك فتبرأ مني. فقال: يابن أخي لعل أحدا آذاك أو شتمك؟ قال: لا والله ما اعترض لي أحد ولا آذاني. فلما أبى إلا أن يتبرأ منه أخرجه إلى المسجد، وقريش فيه، كأحفل ما كانوا، ولبيد بن ربيعة الشاعر ينشدهم، فأخذ الوليد بيد عثمان وقال: إن هذا قد حملني على أن أتبرأ من جواره، وإني أشهدكم أني بريء منه، إلا أن يشاء. فقال عثمان: صدق، أنا والله أكرهته على ذلك، وهو مني بريء. ثم جلس مع القوم فنالوا منه.
قال موسى: وخرج جعفر بن أبي طالب وأصحابه فرارا بدينهم إلى الحبشة، فبعثت قريش عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد ابن المغيرة، وأمروهما أن يسرعا ففعلا، وأهدوا للنجاشي فرسا وجبة ديباج، وأهدوا لعظماء الحبشة هدايا، فقبل النجاشي هديتهم، وأجلس عمرا على سريره، فقال: إن بأرضك رجالا منا سفهاء ليسوا على دينك ولا ديننا، فادفعهم إلينا. فقال: حتى أكلمهم وأعلم على أي شيء هم. فقال عمرو: هم أصحاب الرجل الذي خرج فينا، وإنهم لا يشهدون أن عيسى ابن الله، ولا يسجدون لك إذا دخلوا. فأرسل النجاشي إلى جعفر وأصحابه، فلم يسجد له جعفر ولا أصحابه وحيوه بالسلام، فقال عمرو: ألم نخبرك خبر القوم. فقال النجاشي: حدثوني أيها الرهط، ما لكم لا تحيوني كما يحييني من أتاني من قومكم؟ وأخبروني ما تقولون في عيسى وما دينكم؟ أنصارى أنتم؟ قالوا: لا. قال: أفيهود أنتم؟(سيرة 1/150)
قالوا: لا. قال: فعلى دين قومكم؟ قالوا: لا. قال: فما دينكم؟ قالوا: الإسلام. قال: وما الإسلام؟ قالوا: نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا. قال: من جاءكم بهذا؟ قالوا: جاءنا به رجل منا قد عرفنا وجهه ونسبه، بعثه الله كما بعث الرسل إلى من كان قبلنا، فأمرنا بالبر والصدقة والوفاء والأمانة، ونهانا أن نعبد الأوثان، وأمرنا أن نعبد الله، فصدقناه، وعرفنا كلام الله، فعادانا قومنا وعادوه وكذبوه، وأرادونا على عبادة الأصنام، ففررنا إليك بديننا ودمائنا من قومنا. فقال النجاشي: والله إن خرج هذا الأمر إلا من المشكاة التي خرج منها أمر عيسى. قال: وأما التحية فإن رسولنا أخبرنا أن تحية أهل الجنة السلام، فحييناك بها، وأما عيسى فهو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه وابن العذراء البتول. فخفض النجاشي يده إلى الأرض، وأخذ عودا فقال: والله ما زاد ابن مريم على هذا وزن هذا العود. فقال عظماء الحبشة: والله لئن سمعت هذا الحبشة لتخلعنك. فقال: والله لا أقول في عيسى غير هذا أبدا، وما أطاع الله الناس فيَّ حين رد إليَّ ملكي، فأنا أطيع الناس في دين الله! معاذ الله من ذلك. وكان أبو النجاشي ملك الحبشة، فمات والنجاشي صبي، فأوصى إلى أخيه أن إليك ملك قومك حتى يبلغ ابني، فإذا بلغ فله الملك. فرغب أخوه في الملك، فباع النجاشي لتاجر، وبادر بإخراجه إلى السفينة، فأخذ الله عمه قعصا فمات، فجاءت الحبشة بالتاجر، وأخذوا النجاشي فملكوه، وزعموا أن التاجر قال: ما لي بد من غلامي أو مالي. قال النجاشي: صدق، ادفعوا إليه ماله. قال: فقال النجاشي حين كلمه جعفر: ردوا إلى هذا هديته -يعني عمرا- والله لو رشوني على هذا دبر
ذهب -والدبر بلغته الجبل- ما قبلته، وقال لجعفر وأصحابه: امكثوا آمنين، وأمر لهم بما يصلحهم من(سيرة 1/151)
الرزق. وألقى الله العداوة بين عمرو وعمارة بن الوليد في مسيرهما، فمكر به عمرو وقال: إنك رجل جميل، فاذهب إلى امرأة النجاشي فتحدث عندها إذا خرج زوجها، فإن ذلك عون لنا في حاجتنا. فراسلها عمارة حتى دخل عليها، فلما دخل عليها انطلق عمرو إلى النجاشي، فقال: إن صاحبي هذا صاحب نساء، وإنه يريد أهلك فاعلم علم ذلك. فبعث النجاشي، فإذا عمارة عند امرأته، فأمر به فنفخ في إحليله شحوة ثم ألقي في جزيرة من البحر فجن، وصار مع الوحش، ورجع عمرو خائب السعي.
وقال البكائي قال ابن إسحاق: حدثني الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أم سلمة، قالت: لما نزلنا أرض الحبشة، جاورنا بها خير جار النجاشي، أمنا على ديننا، وعبدنا الله تعالى، لا نؤذي، ولا نسمع ما نكره، فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي رجلين جلدين, وأن يهدوا للنجاشي، فبعثوا بالهدايا مع عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص. وذكر القصة بطولها، وستأتي إن شاء الله، رواها جماعة، عن ابن إسحاق.
وذكر الواقدي أن الهجرة الثانية كانت سنة خمسة من المبعث.
وقال حديج بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن عتبة، عن ابن مسعود، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، ونحن ثمانون رجلا، ومعنا جعفر، وعثمان بن مظعون، وبعثت قريش عمارة، وعمرو بن العاص، وبعثوا معهما بهدية إلى النجاشي، فلما دخلا عليه سجدا(سيرة 1/152)
له، وبعثا إليه بالهدية، قالا: إن ناسا من قومنا رغبوا عن ديننا، وقد نزلوا أرضك. فبعث إليهم، فقال لنا جعفر: أنا خطيبكم اليوم. قال: فاتبعوه حتى دخلوا على النجاشي، فلم يسجدوا له، فقال: وما لكم لم تسجدوا للملك؟ فقال: إن الله قد بعث إلينا نبيه, فأمرنا أن لا نسجد إلا لله. فقال النجاشي: وما ذاك؟ قال عمرو: إنهم يخالفونك في عيسى. قال: فما تقولون في عيسى وأمه؟ قال: نقول كما قال الله، هو روح الله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول، التي لم يمسها بشر، ولم يفرضها ولد. فتناول النجاشي عودا، فقال: يا معشر القسيسين والرهبان، ما تزيدون على ما يقول هؤلاء ما يزن هذا،
فمرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، وأنا أشهد أنه نبي، ولوددت أني عنده فأحمل نعليه -أو قال أخدمه- فانزلوا حيث شئتم من أرضي. فجاء ابن مسعود فشهد بدرا. رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده" عن حديج.
وقال عبيد الله بن موسى: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق مع جعفر إلى الحبشة. وساق كحديث حديج.
ويظهر لي أن إسرائيل وهم فيه، دخل عليه حديث في حديث، وإلا أين كان أبو موسى الأشعري ذلك الوقت.
رجعنا إلى تمام الحديث الذي سقناه عن أم سلمة قالت: فلم يبق بطريق من بطارقة النجاشي إلا دفعا إليه هدية، قبل أن يكلما النجاشي, وأخبرا ذلك البطريق بقصدهما، ليشير على الملك بدفع المسلمين إليهم، ثم قربا هدايا النجاشي فقبلها، ثم كلماه فقالا: أيها الملك إنه قدم إلى بلادك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في(سيرة 1/153)
دينك، جاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن، ولا أنت، فقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من أقاربهم لتردهم عليهم، فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم. قالت: ولم يكن أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي، فقالت بطارقته حوله: صدقا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم من دينهم، فأسلمهم إليهما. فغضب ثم قال: لاها الله إذن لا أسلمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما تقولان. فأرسل إلى الصحابة فدعاهم، فلما جاءوا وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم، سألهم فقال: ما دينكم؟ فكان الذي كلمه جعفر، فقال: أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك, حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله
لنوحده ونعبده، ونخلع ما كان يعبد آباؤنا من الحجارة، وأمرنا بالصدق والأمانة وصلة الرحم -وعدد عليه أمور الإسلام- فصدقناه واتبعناه، فعدا علينا قومنا فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، وضيقوا علينا، فخرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال: وهل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قال جعفر: نعم، وقرأ عليه صدرا من {كهيعص} [مريم: 1] ، فبكى والله النجاشي، حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته، حتى أخضلوا مصاحفهم، ثم قال النجاشي: إن هذا، والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يكاد. قالت: فلما خرجا من عنده قال عمرو: والله لآتينهم غدا بما أستأصل به خضراءهم. فقال له ابن أبي ربيعة، وكان(سيرة 1/154)
أتقى الرجلين فينا: لا تفعل، فإن لهم أرحاما. قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى عبد. ثم غدا عليه، فقال له ذلك، فطلبنا، قالت: ولم ينزل بنا مثلها، فاجتمع القوم، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون في عيسى ابن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول, والله، ما قال الله، كائنا في ذلك ما كان، فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول: هو عبد الله ورسوله، وروحه، وكلمته، ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فأخذ النجاشي عودا ثم قال: ما عدا عيسى ما قلت هذا العود. فتناخرت بطارقته حوله، فقال: وإن نخرتم، والله، اذهبوا فأنتم سيوم بأرضى -والسيوم: الآمنون- من سبكم غرم، ما أحب أن لي دبرا من ذهب، وأني آذيت رجلا منكم، ردوا هداياهما فلا حاجة لي فيها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليَّ ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيَّ فأطيعهم فيه. قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به. قالت: فإنا على ذلك، إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه، فوالله ما علمنا حزنًا حزنا قط كان أشد علينا من حزن حزناه عند ذلك، تخوفا أن يظهر ذلك الرجل على النجاشي، فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه. فسار إليه النجاشي، وكان بينهما عرض النيل، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رجل يخرج حتى يحضر الوقعة، ثم يأتينا بالخبر؟ فقال الزبير: أنا، فنفخوا له قربة، فجعلها في صدره، ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها يلتقي القوم، ثم انطلق حتى حضرهم، ودعونا الله تعالى للنجاشي، فإنا لعلى ذلك، إذ طلع الزبير يسعى فلمع بثوبه، وهو يقول: ألا أبشروا، فقد ظهر النجاشي، وقد أهلك الله عدوه، ومكن له في بلاده.(سيرة 1/155)
قال الزهري: فحدثت عروة بن الزبير هذا الحديث فقال: هل تدري ما قوله: ما أخذ الله مني الرشوة إلى آخره؟ قلت: لا. قال: فإن عائشة أم المؤمنين حدثتني أن أباه كان ملك قومه، ولم يكن له ولد إلا النجاشي، وكان للنجاشي عم من صلبه اثنا عشر رجلا، فقالت الحبشة: لو أنا قتلنا هذا وملكنا أخاه، فإنه لا ولد له غير هذا الغلام، ولأخيه اثنا عشر ولدا، فتوارثوا ملكه من بعده بقيت الحبشة بعد دهرا، فعدوا على أبي النجاشي فقتلوه، وملكوا أخاه.
فمكثوا حينا، ونشأ النجاشي مع عمه، فكان لبيبا حازما فغلب على أمر عمه، ونزل منه بكل منزلة، فلما رأت الحبشة مكانه منه قالت بينها: والله لقد غلب هذا على عمه، وإنا لنتخوف أن يملكه علينا، وإن ملك ليقتلنا بأبيه، فكلموا الملك، فقال: ويلكم، قتلت أباه بالأمس، وأقتله اليوم! بل أخرجه من بلادكم. قالت: فخرجوا به فباعوه لتاجر بستمائة درهم، فقذفه في سفينة وانطلق به، حتى إذا كان آخر النهار، هاجت سحابة، فخرج عمه يستمطر تحتها، فأصابته صاعقة فقتلته، ففزعت الحبشة إلى ولده، فإذا هو محمق ليس في ولده خير، فمرج الأمر، فقالوا: تعلموا، والله إن ملككم الذي لا يقيم أمركم غيره للذي بعتموه غدوة.
فخرجوا في طلبه فأدركوه، وأخذوه من التاجر، ثم جاءوا به فعقدوا عليه التاج، وأقعدوه على سرير ملكه، فجاء التاجر فقال: مالي. قالوا: لا نعطيك شيئا، فكلمه، فأمرهم فقال: أعطوه دراهمه أو عبده. قالوا: بل نعطيه دراهمه، فكان ذلك أول ما خبر من عدله، رضي الله عنه.
وروى يزيد بن رومان، عن عروة، قال: إنما كان يكلم النجاشي عثمان بن عفان، رضي الله عنه.(سيرة 1/156)
أخبرنا إبراهيم بن حمد، وجماعة، قالوا: أخبرنا ابن ملاعب، قال: حدثنا الأرموي، قال: أخبرنا جابر بن ياسين، قال: أخبرنا المخلص، قال: حدثنا البغوي، قال: حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان، قال: حدثنا أسد بن عمرو البجلي، عن مجالد، عن الشعبي، عن عبد الله بن جعفر, عن أبيه، قال: بعثت قريش عمرا وعمارة بهدية إلى النجاشي ليؤذوا المهاجرين، وذكر الحديث، فقال النجاشي: أعبيد هم لكم؟ قالوا: لا. قال: فلكم عليهم دين؟ قالوا: لا. قال: فخلوهم فقال عمرو: إنهم يقولون في عيسى غير ما تقول فأرسل إلينا، وكانت الدعوة الثانية أشد علينا، فقال: ما يقول صاحبكم في عيسى؟ قال: يقول هو روح الله وكلمته ألقاها إلى عذراء بتول. فقال: ادعوا لي فلانا القس، وفلانا الراهب، فأتاه أناس منهم، فقال: ما تقولون في عيسى؟ قالوا: أنت أعلمنا. قال: وأخذ شيئا من
الأرض، فقال: ما عدا عيسى ما قال هؤلاء مثل هذا. ثم قال: أيؤذيكم أحد؟ قالوا: نعم.
فنادى: من آذى أحدا منهم فأغرمه أربعة دراهم، ثم قال: أيكفيكم؟ قلنا: لا. فأضعفها، قال: فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر أخبرناه، قال فرودنا وحملنا، ثم قال: أخبر صاحبك بما صنعت إليكم، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله، وقل له يستغفر لي. فأتينا المدينة، فتلقاني النبي صلى الله عليه وسلم فاعتنقني وقال: "ما أدري أنا بقدوم جعفر أفرح أم بفتح خيبر؟ "، وقال: "اللهم اغفر للنجاشي". ثلاث مرات، وقال المسلمون: آمين.(سيرة 1/157)
إسلام ضماد:
داود بن أبي هند، عن عمرو بن سعيد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قدم ضماد مكة، وهو من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الرياح، فسمع سفهاء من سفهاء الناس يقولون: إن محمدا مجنون، فقال: آتي هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدي. قال: فلقيت محمدا فقلت: إني أرقي من هذه الرياح، وإن الله يشفي على يدي من يشاء، فهلم. فقال محمد: "إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له". "ثلاث مرات"، وأن محمدا عبده ورسوله، أما بعد. فقال: والله لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات ولقد بلغن قاموس البحر، فهلم يدك أبايعك على الإسلام. فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: "وعلى قومك". فقال: وعلى قومي. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، فمروا بقوم ضماد، فقال صاحب الجيش للسرية: هل أصبتم من هؤلاء شيئا؟ فقال رجل منهم: أصبت منهم مطهرة. فقال: ردوها عليهم فإنهم قوم ضماد. أخرجه مسلم.(سيرة 1/158)
إسلام الجن:
قال الله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف: 29] ، وقال: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] وأنزل فيهم سورة الجن.
وقال أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ, وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها. قال: فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله وهو بنخلة، عامدا إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم فقالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} ، فأنزلت: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} [الجن: 1] ، متفق عليه.
ويحمل قول ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم ما قرأ على الجن ولا رآهم،(سيرة 1/159)
يعني أول ما سمعت الجن القرآن، ثم إن داعي الجن أتى النبي صلى الله عليه وسلم كما في خبر ابن مسعود، وابن مسعود قد حفظ القصتين، فقال سفيان الثوري عن عاصم عن زر، عن عبد الله قال: هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه أنصتوا، قالوا: صه، وكانوا سبعة أحدهم زوبعة، فأنزل الله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} [الأحقاف: 29] .
وقال مسعر، عن معن، قال: حدثنا أبي، قال: سألت مسروقا: من آذن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة استمعوا القرآن؟ فقال: حدثني أبوك، يعني ابن مسعود: أنه آذنته بهم شجرة. متفق عليه.
وقال داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة، قال: قلت لابن مسعود: هل صحب
رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد؟ فقال: ما صحبه منا أحد، ولكنا فقدناه ذات ليلة بمكة، فقلنا اغتيل، استطير، ما فعل؟ فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما كان في وجه الصبح -أو قال: في السحر- إذا نحن به يجيء من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله، فذكروا الذي كانوا فيه، فقال: "إنه أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم". فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم. رواه مسلم.
وقد جاء ما يخالف هذا، فقال عبد الله بن صالح: حدثني الليث، قال: حدثني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو عثمان بن سنة الخزاعي من أهل الشام، أنه سمع ابن مسعود يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه، وهو بمكة: "من أحب منكم أن يحضر الليل أمر الجن فليفعل". فلم يحضر منهم أحد غيري حتى إذا كنا بأعلى مكة خط لي برجله خطا، ثم أمرني أن أجلس فيه، ثم انطلق حتى قام، فافتتح القرآن(سيرة 1/160)
فغشيته أسودة كثيرة، حالت بيني وبينه، حتى سمعت ما أسمع صوته، ثم انطلقوا وطفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب، ذاهبين، حتى ما بقي منهم رهط، وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر، فانطلق فتبرز، ثم أتاني فقال: "ما فعل الرهط؟ " فقلت: هم أولئك يا رسول الله، فأخذ عظما وروثا فأعطاهم إياه زادا، ثم نهى أن يستطيب أحد بعظم أو بروث. أخرجه النسائي من حديث يونس.
وقال سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، أن ابن مسعود أبصر زطًّا في بعض الطريق فقال: ما هؤلاء؟ قالوا: هؤلاء الزط، قال: ما رأيت شبههم إلا الجن ليلة الجن، وكانوا مستثفرين يتبع بعضهم بعضًا. صحيح.
يقال: استثفر الرجل بثوبه، إذا أخذ ذيله من بين فخذيه إلى حجزته فغرزه. وكذا يقال في الكلب، إذا جعل ذنبه بين فخذيه، ومنه قوله للحائض: استثفري.
وقال عثمان بن عمرو بن فارس، عن مستمر بن الريان، عن أبي الجوزاء، عن ابن مسعود، قال: انطلقت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، حتى أتى الحجون فخط عليَّ خطًّا، ثم تقدم إليهم، فازدحموا عليه، فقال سيد لهم يقال له وردان: إني أنا أرحلهم عنك، فقال: إني لن يجيرني من الله أحد.
وقال زهير بن محمد التميمي، عن ابن المنكدر، عن جابر، قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة
"الرحمن"، ثم قال: "ما لي أراكم سكوتًا؟ لَلْجن كانوا أحسن ردًّا منكم، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] ، إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا(سيرة 1/161)
نكذب، فلك الحمد". زهير ضعيف.
وقال عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن العاص، عن جده سعيد، قال: كان أبو هريرة يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإداوة لوضوئه. فذكر الحديث، وفيه: "أتاني جن نصيبين فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم أن لا يمروا بروثة، ولا بعظم إلا وجدوا طعامًا". أخرجه البخاري. ويدخل هذا الباب في باب شجاعته صلى الله عليه وسلم وقوة قلبه.
ومنه حديث محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عفريتًا من الجن تفلَّتَ عليَّ البارحة ليقطع عليَّ صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد، حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35] ، فرددته خاسئًا". وفي لفظ: "فأخذته فذغته". يعني خنقته، متفق عليه.(سيرة 1/162)
فصل: فيما ورد من هواتف الجان وأقوال الكهان
قال ابن وهب: أخبرنا عمر بن محمد، قال: حدثني سالم بن عبد الله، عن أبيه، قال: ما سمعت عمر رضي الله عنه يقول لشيء قط إني لأظنه كذا، إلا كان كما يظن، فبينا عمر جالس إذ مر به رجل جميل فقال: لقد أخطأ ظني، أو إن هذا على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم، على الرجل، فَدُعيَ له، فقال له عمر: لقد أخطأ ظني أو أنك على دينك في الجاهلية، أو لقد كنت كاهنهم. فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم، قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني. فقال: كنت كاهنهم في الجاهلية. فقال: ما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ قال: بينا أنا جالس جاءتني أعرف فيها الفزع قالت:
ألم تر الجن وإبلاسها ... ويأسها بعد وإبلاسها
ولحوقها بالقلاص وأحلاسها ... وإياسها من أنساكها
قال عمر: صدق، بينا أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ منه صارخ لم أسمع صارخا قط أشد صوتا منه يقول: لا إله إلا الله. فوثب القوم، قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله. قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء(سيرة 1/163)
هذا، فأعاد قوله، قال: فقمت فما نشبت أن قيل هذا نبي. أخرجه البخاري عن رجل عنه هكذا. وظاهره أن عمر بنفسه سمع الصارخ من العجل، وسائر الروايات تدل على أن الكاهن هو الذي سمع.
فروى يحيى بن أيوب، عن ابن الهاد، عن عبد الله بن سليمان، عن محمد بن عبد الله بن عمرو، عن نافع، عن ابن عمر، قال: بينما رجل مار، فقال عمر: قد كنت مرة ذا فراسة، وليس لي رئي، ألم يكن قد كان هذا الرجل ينظر ويقول في الكهانة، ادعوه لي، فدعوه، فقال عمر: من أين قدمت؟ قال: من الشام. قال: فأين تريد؟ قال: أردت هذا البيت، ولم أكن أخرج حتى آتيك. قال: هل كنت تنظر في الكهانة؟ قال: نعم. قال: فحدثني. قال: إني ذات ليلة بواد، إذ سمعت صائحا يقول: يا جليح، خبر نجيح، رجل يصيح، يقول: لا إله إلا الله، الجن وإياسها، والإنس وإبلاسها، والخيل وأحلاسها، فقلت: من هذا؟ إن هذا لخبر يئست منه الجن، وأبلست منه الإنس، وأعلمت فيه الخيل، فما حال الحول حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورواه الوليد بن مزيد العذري، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن ابن مسكين الأنصاري، قال: بينا عمر جالس. وهذا منقطع. ورواه حجاج بن أرطاة، عن مجاهد. ويروى عن ابن كثير أحد القراء، عن مجاهد موقوفا.
ويشبه أن يكون هذا الكاهن هو سواد بن قارب المذكور في حديث أحمد بن موسى الحمار الكوفي، قال: حدثنا زياد بن يزيد القصري، قال: حدثنا محمد بن تراس الكوفي، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: بينا عمر يخطب إذ قال:(سيرة 1/164)
أفيكم سواد بن قارب؟ فلم يجبه أحد تلك السنة، فلما كانت السنة المقبلة قال: أفيكم سواد بن قارب؟ قالوا: وما سواد بن قارب؟ قال: كان بدء إسلامه شيئا عجبا، فبينا نحن كذلك، إذ طلع سواد بن قارب، فقال له: حدثنا ببدء إسلامك يا سواد، قال: كنت نازلا بالهند، وكان لي رئي من الجن، فبينا أنا ذات ليلة نائم إذ جاءني في منامي ذلك، قال: قم فافهم واعقل إن كنت تعقل، قد بعث رسول من لؤي بن غالب, ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وأنجاسها ... وشدها العيس بأحلاسا
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنوها مثل أرجاسها
فانهض إلى الصفوة من هاشم ... وآسم بعينيك إلى راسها
يا سواد! إن الله قد بعث نبيا فانهض إليه تهتد وترشد، فلما كان من الليلة الثانية أتاني فأنبهني، ثم قال:
عجبت للجن وتطلابها ... وشدها العيس بأقتابها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ليس قداماها كأذنابها
فانهض إلى الصفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى نابها
فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فأنبهني، ثم قال:
عجبت للجن وتخبارها ... وشدها العيس بأكوارها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ليس ذوو الشر كأخيارها
فانهض إلى الصفوة من هاشم ... ما مؤمنو الجن ككفارها
فوقع في قلبي حب الإسلام، وشددت رحلي، حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هو بالمدينة، والناس عليه كعرف الفرس، فلما رآني قال: "مرحبا بسواد بن قارب، قد علمنا ما جاء بك". قلت: يا رسول الله قد(سيرة 1/165)
قلت شعرا فاسمعه مني:
أتاني رئي بعد ليل وهجعة ... ولم يك فيما قد بلوت بكاذب
ثلاث ليال قوله كل ليلة ... أتاك نبي من لؤي بن غالب
فشمرت عن ساقي الإزار ووسطت ... بي الذغلب الوجناء عند السباسب
فأشهد أن الله لا شيء غيره ... وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين شفاعة ... إلى الله يابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك يا خير من مشى ... وإن كان فيما جاء شيب الذوائب
فكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لي: "أفلحت يا سواد! " فقال له عمر: هل يأتيك رئيك الآن؟ قال: منذ قرأت القرآن لم يأتني، ونعم العوض كتاب الله من الجن.
هذا حديث منكر بالمرة، ومحمد بن تراس وزياد مجهولان لا تقبل روايتهما، وأخاف أن يكون موضوعا على أبي بكر بن عياش، ولكن أصل الحديث مشهور.
وقد قال أبو يعلى الموصلي، وعلي بن شيبان: حدثنا يحيى بن حجر الشامي، قال: حدثنا علي بن منصور الأبناوي، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن الوقاصي، عن محمد بن كعب القرظي، قال: بينما عمر جالس إذ مر به رجل، فقال قائل: أتعرف هذا؟ قال: ومن هو؟ قال: سواد بن قارب، فأرسل إليه عمر فقال: أنت سواد بن قارب؟ قال: نعم. قال: أنت الذي أتاه رئيه بظهور النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: فأنت على كهانتك. فغضب وقال: ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت. قال عمر: سبحان الله ما كنا عليه من الشرك أعظم، قال: فأخبرني بإتيانك(سيرة 1/166)
رئيك بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: بينا أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان، إذ أتاني فضربني برجله، وقال: قم يا سواد بن قارب اسمع مقالتي واعقل، إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى عبادة الله، ثم ذكر الشعر قريبا مما تقدم، ثم أنشأ عمر يقول: كنا يوما في حي من قريش يقال لهم: آل ذريح, وقد ذبحوا عجلا، والجزار يعالجه
إذ سمعنا صوتا من جوف العجل ولا نرى شيئا هو يقول: يا آل ذريح، أمر نجيح، صائح يصيح، بلسان فصيح، يشهد أن لا إله إلا الله.
أبو عبد الرحمن اسمه عثمان بن عبد الرحمن، متفق على تركه، وعلي بن منصور فيه جهالة، مع أن الحديث منقطع.
وقد رواه الحسن بن سفيان، ومحمد بن عبد الوهاب الفراء، عن بشر بن حجر أخي يحيى بن حجر، عن علي بن منصور، عن عثمان بن عبد الرحمن، بنحوه.
وقال ابن عدي في "كامله": حدثنا الوليد بن حماد، بالرملة، قال: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن، قال: حدثنا الحكم بن يعلى المحاربي، قال: حدثنا أبو معمر عباد بن عبد الصمد، قال: سمعت سعيد بن جبير، يقول: أخبرني سواد بن قارب قال: كنت نائما على جبل من جبال الشراة، فأتاني آت فضربني برجله وقال: قم يا سواد أتى رسول من لؤي بن غالب، فذكر الحديث.
كذا فيه سعيد يقول: أخبرني سواد، وعباد ليس بثقة يأتي بالطامات.
وقال معمر، عن الزهري، عن علي بن الحسين، قال: أول ما سمع بالمدينة أن امرأة من أهل يثرب تدعى فطيمة، كان لها تابع من الجن،(سيرة 1/167)
فجاء يوما فوقع على جدارها، فقالت: ما لك لا تدخل؟ فقال: إنه قد بعث نبي يحرم الزنى. فحدثت بذلك المرأة عن تابعها من الجن، فكان أول خبر تحدث به بالمدينة.
وقال يحيى بن يوسف الزمي: حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر، قال: أول خبر قدم عن النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أن امرأة كان لها تابع، فجاء في صورة طائر حتى وقع على حائط دراهم، فقالت له المرأة: انزل. قال: لا. إنه قد بعث بمكة نبي يحرم الزنى، قد منع منا القرار.
في الباب عدة أحاديث عامتها واهية الأسانيد.(سيرة 1/168)
انشقاق القمر:
قال الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ، وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [القمر: 1-3] ، قال: شيبان، عن قتادة، عن أنس: إن أهل مكة سألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر مرتين. أخرجاه من حديث شيبان، لكن لم يقل البخاري مرتين.
وقال معمر، عن قتادة، عن أنس مثله، وزاد: "فانشق فرقتين". وللبخاري نحو منه، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة. وأخرجاه من حديث شعبة عن قتادة.
وقال ابن عيينة وغيره: عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود، قال: رأيت القمر منشقا شقتين بمكة، قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم شقة على أبي قبيس، وشقة على السويداء، فقالوا: سحر القمر.
لفظ عبد الرزاق، عن ابن عيينة، وأراد "قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم" يعني إلى المدينة.
أخرجاه من حديث ابن عيينة، ولفظه: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا".(سيرة 1/169)
وأخرجاه عن عمر بن حفص، عن أبيه، عن الأعمش، قال: حدثنا إبراهيم، عن أبي معمر، عن عبد الله، قال: انفلق القمر، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصارت فلقة من وراء الجبل، وفلقة دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا". وأخرجاه من حديث شعبة، عن الأعمش.
وقال أبو داود الطيالسي في "مسنده": حدثنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله، قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة فقالوا: انظروا ما يأتيكم به السفار، فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فجاء السفار فقالوا: ذلك صحيح.
وقال هشيم، عن مغيرة، نحوه.
وقال بكر بن مضر، عن جعفر بن ربيعة، عن عراك بن مالك، عن عبيد الله بن عبد الله
ابن عتبة، عن ابن عباس أنه قال: إن القمر انشق على زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم. متفق عليه من حديث بكر.
وقال شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر، في قوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] ، قال: قد كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم انشق فلقتين، فلقة من دون الجبل، وفلقة من خلف الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اشهد". أخرجه مسلم.
وقال ابراهيم بن طهمان، وهشيم، عن حصين، عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جده، قال: انشق القمر، ونحن بمكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذا رواه أبو كدينة، والمفضل بن يونس،(سيرة 1/170)
عن حصين. ورواه محمد بن كثير، عن أخيه سليمان بن كثير، عن حصين، عن محمد بن جبير، عن أبيه. والأول أصح.(سيرة 1/171)
باب: ويسألونك عن الروح
قال يحيى بن أبي زائدة, عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل. فقالوا: سلوه عن الروح، فنزلت: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [الإسراء: 85] ، قالوا: نحن لم نؤت من العلم إلا قليلا؟ وقد أوتينا التوراة فيها حكم الله، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا. قال: فنزلت: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} [الكهف: 109] ، وهذا إسناد صحيح.
وقال يونس، عن ابن إسحاق، قال: حدثني رجل من أهل مكة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن مشركي قريش، بعثوا النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، وقالوا لهم: سلوهم عن محمد، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله، فإنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفوا لهم أمره ببعض قوله، فقالت لهم أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان من أمرهم، فإنه كان لهم حديث عجب. وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها وما كان نبؤه. وسلوه عن الروح ما هو. فقدما مكة، فقالا: يا(سيرة 1/172)
معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد أخبرنا، وسألوه، فقال: "أخبركم غدا"، ولم يستثن، فانصرفوا عنه، فمكث خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا، ولم يأته جبريل، حتى أرجف أهل مكة، وقالوا: وعدنا غدا واليوم خمس عشر. وأحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي، ثم جاءه جبريل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه، وخبر الفتية والرجل الطواف، وقال: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] .
وأما حديث ابن مسعود، فيدل على أن سؤال اليهود عن الروح كان بالمدينة.
ولعله صلى الله عليه وسلم سئل مرتين.
وقال جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: سأل أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعوا فيها. فقال الله: إن شئت آتيناهم ما سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلك من كان قبلهم، وإن شئت أن أستأني بهم. لعلنا نستحيي منهم، وأنزل الله: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59] ، حديث صحيح. ورواه سلمة بن كهيل، عن عمران، عن ابن عباس، وروي عن أيوب، عن سعيد بن جبير.(سيرة 1/173)
ذكر أذية المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين:
الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني محمد بن إبراهيم التيمي، قال: حدثني عروة، قال: سألت عبد الله بن عمرو قلت: حدثني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أقبل عقبة بن أبي معيط والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة، فلوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه، فدفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28] أخرجه البخاري.
ورواه ابن إسحاق، عن يحيى بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله.
ورواه سليمان بن بلال، وعبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عمرو بن العاص. وهذه علة ظاهرة، لكن رواه محمد بن فليح، عن هشام، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، فهذا ترجيح للأول.
وقال سفيان، وشعبة، واللفظ له، قال: حدثنا أبو إسحاق، قال: سمعت عمرو بن ميمون يحدث عن عبد الله، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس من قريش، وثم سلى بعير، فقالوا: من يأخذ سلى هذا الجزور فيقذفه على ظهره. فجاء عقبة بن أبي معيط فقذفه على ظهره صلى الله عليه وسلم، وجاءت فاطمة فأخذته عن ظهره، ودعت على من صنع(سيرة 1/174)
ذلك، قال عبد الله: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم إلا يومئذ فقال: "اللهم عليك الملأ من قريش، اللهم عليك أبا جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف" -أو أبي ابن خلف، شك شعبة، ولم يشك سفيان أنه أمية- قال عبد الله: فقد رأيتهم قتلوا يوم بدر وألقوا في القليب، غير أن أمية كان رجلا بادنا، فتقطع قبل أن يبلغ به البئر. أخرجاه من حديث شعبة، ومن حديث سفيان.
وقال مسلم: حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان، قال: أخبرنا عبد الرحيم بن سليمان، عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس، فقال: أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلى جزور فيضعه على كتفي محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقاهم، فأخذه فوضعه بين كتفيه، فضحكوا وجعل بعضهم يميل إلى بعض، وأنا قائم أنظر لو كانت لي منعة طرحته، والنبي صلى الله عليه وسلم ما يرفع رأسه، فجاءت فاطمة، وهي جويرية فطرحته عنه وسبتهم، فلما قضى صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاثا، وإذا سأل سأل ثلاثا، ثم قال: "اللهم عليك بقريش" ثلاثا، فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته، ثم قال: "اللهم عليك بأبي جهل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عقبة، وأمية بن خلف، وعقبة(سيرة 1/175)
بن أبي معيط". وذكر السابع ولم أحفظه.
فوالذي بعث محمدا بالحق، لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب، قليب بدر.
وقال زائدة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، قال: إن أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد. فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه أبي طالب. وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه. وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد، وأوقفوهم في الشم، فما من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا غير بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد. حديث صحيح.
وقال هشام الدستوائي، عن أبي الزبير، عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بعمار وأهله، وهم يعذبون، فقال: "أبشروا آل عمار فإن موعدكم الجنة".
وقال الثوري، عن منصور، عن مجاهد، قال: كان أول شهيد في الإسلام أم عمار سمية، طعنها أبو جهل بحربة في قبلها.
وقال يونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه أن أبا بكر أعتق ممن كان يعذب في الله سبعة، فذكر منهم الزنيرة، قال: فذهب بصرها، وكانت ممن يعذب في الله على الإسلام، فتأبى إلا الإسلام، فقال المشركون: ما أصاب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: كلا والله، ما هو كذلك. فرد الله عليها بصرها.(سيرة 1/176)
وقال إسماعيل بن أبي خالد وغيره: حدثنا قيس، قال: سمعت خبابا يقول: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال: "إن كان من كان قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله عز وجل". متفق عليه، وزاد البخاري من حديث بيان بن بشر: "والذئب على غنمه".
وقال البكائي، عن ابن إسحاق، قال: حدثني حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير, قلت لابن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم والله، إن كانوا ليضربون أحدهم، يجيعونه ويعطشونه، حتى ما يقدر على أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولون له: اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، حتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون له: أهذا الجعل إلهك من دون الله، فيقول: نعم، افتداء منهم مما يبلغون من جهده.
وحدثني الزبير بن عكاشة، أنه حدث، أن رجالا من بني مخزوم مشوا إلى هشام بن الوليد، حين أسلم أخوه الوليد بن الوليد، وكانوا قد أجمعوا أن يأخذوا فتية منهم كانوا قد أسلموا، منهم سلمة بن هشام،(سيرة 1/177)
وعياش بن أبي ربيعة، قال: فقالوا له وخشوا "شرهم": إنا قد أردنا أن تعاتب هؤلاء الفتية على هذا الدين الذي قد أحدثوا، فإنا نأمن بذلك في "غيرهم". قال: هذا فعليكم به فعاتبوه، يعني أخاه الوليد، ثم إياكم ونفسه، وقال:
ألا لا تقتلن أخي عييش ... فيبقى بيننا أبدا تلاحي
احذروا على نفسه، فأقسم بالله لئن قتلتموه لأقتلن أشرفكم رجلا، [قال: فقالوا: اللهم العنه، ومن يغزر بهذا الخبيث، فوالله لو أصيب في أيدينا لقتل أشرفنا رجلا. قال: فتركوه ونزعوا عنه] .
فتركوه، فكان ذلك مما دفع الله به عنه.
وقال عمرو بن دينار، فيما رواه عنه ابن عيينة: لما قدم عمرو بن العاص من الحبشة جلس في بيته فقالوا: ما شأنه، ما له لا يخرج؟ فقال: إن أصحمة يزعم أن صاحبكم نبي.
ويروى عن ابن إسحاق، من طريق محمد بن حميد الرازي، أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى النجاشي يدعوه إلى الإسلام، وذلك مع عمرو بن أمية الضمري، وأن النجاشي كتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من النجاشي أصحمة بن أبجر، سلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته، أشهد أنك رسول الله، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين، وقد بعثت إليك أريحا ابني، فإني لا أملك إلا نفسي، وإن شئت أن آتيك فعلت، يا رسول الله.
قال يونس، عن ابن إسحاق: كان اسم النجاشي مصحمة، وهو بالعربية عطية، وإنما النجاشي اسم الملك، كقولك كسرى وهرقل.
وفي حديث جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على أصحمة النجاشي، وأما قوله: "مصحمة" فلفظ غريب.(سيرة 1/178)
ذكر شعب أبي طالب والصحيفة:
قال موسى بن عقبة، عن الزهري، قال: ثم إنهم اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا، حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، واجتمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية. فلما رأى أبو طالب عملهم جمع بني أبيه وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم ويمنعوه ممن أراد قتله، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيمانا، فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوه أجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم، حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهودا ومواثيق، لا يقبلوا من بني هاشم أبدا صلحا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل.
فلبث بنو هاشم في شعبهم، يعني ثلاث سنين، واشتد عليهم البلاء، وقطعوا عنهم الأسواق، وكان أبو طالب إذا نام الناس أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع على فراشه، حتى يرى ذلك من أراد مكرا به واغتياله، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوته فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فراش ذلك فينام عليه. فلما كان رأس ثلاث سنين، تلاوم رجال من بني عبد مناف، ومن بني قصي، ورجال أمهاتهم(سيرة 1/179)
من نساء بني هاشم، ورأوا أنهم قد قطعوا الرحم واستخفوا بالحق، واجتمع أمرهم من ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة منه.
وبعث الله على صحيفتهم الأرضة، فلحست كل ما كان فيها من عهد وميثاق، ويقال: كانت معلقة في سقف البيت، فلم تترك اسما لله إلا لحسته، وبقي ما كان فيها من شرك أو ظلم، فأطلع الله رسوله على ذلك، فأخبر به أبا طالب، فقال أبو طالب: لا والثواقب ما كذبني. فانطلق يمشي بعصابة من بني عبد المطلب، حتى أتى المسجد وهو حافل من قريش، فأنكروا ذلك، فقال أبو طالب: قد حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم، فائتوا بصحيفتكم التي تعاهدتم عليها، فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح. فأتوا بها وقالوا: قد آن لكم أن تقبلوا وترجعوا إلى أمر يجمع قومكم، فإنما قطع بيننا وبينكم رجل واحد، جعلتموه خطرا للهلكة.
قال أبو طالب: إنما أتيتكم لأعطيكم أمرا لكم فيه نصف، إن ابن أخي قد أخبرني ولم يكذبني، أن الله برئ من هذه الصحيفة، ومحا كل اسم هو له فيها، وترك فيها غدركم وقطيعتكم، فإن كان كما قال، فأفيقوا، فوالله لا نسلمه أبدا حتى نموت من عند آخرنا، وإن كان الذي قال باطلا، دفعناه إليكم، فرضوا وفتحوا الصحيفة، فلما رأتها قريش كالذي قال
أبو طالب، قالوا: والله إن كان هذا قط إلا سحرا من صاحبكم، فارتكسوا وعادوا لكفرهم، فقال بنو عبد المطلب: إن أولى بالكذب والسحر غيرنا، فكيف ترون، وإنا نعلم أن الذي اجتمعتم عليه قطيعتنا أقرب إلى الجبت والسحر من أمرنا، ولولا أنكم اجتمعتم على السحر لم تفسد الصحيفة، وهي في أيديكم، أفنحن السحرة أم أنتم؟ فقال أبو البختري، ومطعم بن عدي، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة، وزمعة بن الأسود، وهشام بن عمرو -وكانت الصحيفة عنده،(سيرة 1/180)
وهو من بني عامر بن لؤي- في رجال من أشرافهم: نحن برآء مما في هذه الصحيفة. فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل.
وذكر نحو هذه القصة ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة.
وذكر ابن إسحاق نحوا من هذا، وقال: حدثني حسين بن عبد الله أن أبا لهب -يعني حين فارق قومه من الشعب- لقي هندا بنت عتبة بن ربيعة، فقال لها: هل نصرت اللات والعزى وفارقت من فارقها؟ قالت: نعم فجزاك الله خيرا أبا عتبة.
وأقام بنو هاشم سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا، لا يصل إليهم شيء إلا سرا مستخفى به. وقد كان أبو جهل فيما يذكرون لقي حكيم بن حزام بن خويلد، ومعه غلام يحمل قمحا، يريد به عمته خديجة -رضي الله عنها- وهي في الشعب فتعلق به، وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم، والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة. فجاءه أبو البختري بن هشام، فقال: ما لك وله! قال: يحمل الطعام إلى بني هاشم! قال: طعام كان لعمته عنده أفتمنعه أن يأتيها بطعامها، خل سبيل الرجل. فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ له أبو البختري لحي بعير، فضربه فشجه ووطئه وطئا شديدا، وحمزة يرى ذلك، يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فيشمتوا بهم، قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا، سرا وجهرا.
وقال موسى بن عقبة: فلما أفسد الله الصحيفة، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطه، فعاشوا وخالطوا الناس.(سيرة 1/181)
باب: إنا كفيناك المستهزئين
قال الثوري، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله -عز وجل: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} [الحجر: 95] ، قال: المستهزئون: الوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث الزهري، وأبو زمعة الأسود بن المطلب من بني أسد بن عبد العزى، والحارث بن عيطل السهمي، والعاص بن وائل، فأتاه جبريل فشكاهم النبي صلى الله عليه وسلم إليه، فأراه الوليد، وأومأ جبريل إلى أبجله فقال: "ما صنعت"؟ قال: كفيته. ثم أراه الأسود، فأومأ جبريل إلى عينيه، فقال: "ما صنعت"؟ قال: كفيته. ثم أراه أبا زمعة، فأومأ إلى رأسه، فقال: "ما صنعت"؟ قال: كفيته، ثم أراه الحارث، فأومأ إلى رأسه أو بطنه، وقال: كفيته. ومر به العاص فأومأ إلى أخمصه، وقال: كفيته. فأما الوليد، فمر برجل من خزاعة، وهو يريش نبلا له فأصاب أبجله فقطعها، وأما الأسود فعمي، وأما ابن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها، وأما الحارث فأخذه الماء الأصفر في بطنه، حتى خرج خرؤه من فيه فمات منها، وأما العاص فدخل في رأسله شبرقة، حتى امتلأت فمات منها، وقال(سيرة 1/182)
غيره: إن ركب إلى الطائف حمارا فربظ به على شوكة، فدخلت في أخمصه فمات منها. حديث صحيح.(سيرة 1/183)
دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش بالسِّنَة:
قال الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال: بينما رجل يحدث في المسجد، إذ قال فيما يقول: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} ، قال: دخان يكون يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكمة، فقمنا فدخلنا على عبد الله بن مسعود فأخبرناه، فقال: أيها الناس من علم منكم علما فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، إن من العلم أن يقول العالم لما لا يعلم الله أعلم، قال الله لرسوله: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] . وسأحدثكم عن الدخان: إن قريشا لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبطئوا عن الإسلام قال: "اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف". فأصابتهم سنة فحصت كل شيء حتى أكلوا الجيف والميتة، حتى إن أحدهم كان يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع، ثم دعوا فكشف عنهم، يعني قولهم: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان: 12] ، ثم قرأ عبد الله: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15] ، قال: فعادوا فكفروا فأخروا إلى يوم بدر {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} [الدخان: 16] ، قال عبد الله: يوم بدر فانتقم منهم. متفق عليه.
وقال علي بن ثابت الدهان -وقد توفي سنة تسع عشرة ومائتين: أخبرنا أسباط بن نصر، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن(سيرة 1/184)
عبد الله، قال: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس إدبارا قال: "اللهم سبع كسبع يوسف". فأخذتهم سنة حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام، فجاءه أبو سفيان وغيره، فقال: إنك تزعم أنك بعثت رحمة، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم، فدعا فسقوا الغيث.
قال ابن مسعود: مضت آية الدخان، وهو الجوع الذي أصابهم، وآية الروم، والبطشة الكبرى، وانشقاق القمر. وأخرجا من حديث الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال عبد الله: خمس قد مضين: اللزام، والروم، والدخان، والقمر، والبطشة.
وقال أيوب وغيره، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغيث من الجوع، لأنهم لم يجدوا شيئا، حتى أكلوا العِلهز بالدم، فنزلت: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76] .(سيرة 1/185)
ذكر الروم:
وقال أبو إسحاق الفزاري، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس، لأنهم أهل كتاب، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم، لأنهم أهل أوثان، فذكر ذلك المسلمون لأبي بكر، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أما إنهم سيظهرون". فذكر أبو بكر لهم ذلك، فقالوا: اجعل بيننا وبينكم أجلا، فجعل بينهم أجلَ خمسِ سنين فلم يظهروا، فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا جعلته -أراه قال- دون العشرة"، قال: فظهرت الروم بعد ذلك. فذلك قوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 2-4] .
قال سفيان الثوري: وسمعت أنهم ظهروا يوم بدر.
وقال الحسين بن الحسن بن عطية العوفي: حدثني أبي، عن جدي، عن ابن عباس: {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 1، 2] قال: قد مضى ذلك وغلبتهم فارس، ثم غلبتهم الروم بعد ذلك، ولقي نبي الله صلى الله عليه وسلم مشركي العرب، والتقت الروم وفارس، فنصر الله النبي صلى الله عليه وسلم على المشركين، ونصر الروم على مشركي العجم، ففرح المؤمنون بنصر الله إياهم ونصر أهل الكتاب.
قال عطية: فسألت أبا سعيد الخدري عن ذلك، فقال: التقينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن ومشركو العرب، والتقت الروم وفارس، فنصرنا الله(سيرة 1/186)
على المشركين، ونصر الله أهل الكتاب على المجوس، ففرحنا بنصرنا ونصرهم.
وقال الليث: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: لما نزلت هاتان الآيتان -يعني أول الروم- ناحب أبو بكر بعض المشركين -يعني راهن قبل أن يحرم القمار- على شيء، إن لم تغلب فارس في سبع سنين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم فعلت؟ فكل ما دون العشر بضع". فكان ظهور فارس على الروم في سبع
سنين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم فعلت"؟ فكان ظهور فارس على الروم في تسع سنين، ثم أظهر الله الروم عليهم زمن الحديبية، ففرح بذلك المسلمون.
وقال ابن أبي عروبة، عن قتادة {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} [الروم: 3] ، قال: غلبهم أهل فارس على أدنى الشام، قال: فصدق المسلمون ربهم، وعرفوا أن الروم سيظهرون بعد، فاقتمروا هم والمشركون على خمس قلائص، وأجلوا بينهم خمس سنين، فولي قمار المسلمين أبو بكر، وولي قمار المشركين أبي بن خلف، وذلك قبل أن ينهى عن القمار، فجاء الأجل، ولم تظهر الروم، فسأل المشركون قمارهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم تكونوا أحقاء أن تؤجلوا أجلا دون العشر، فإن البضع ما بين الثلاث إلى العشر, فزايدوهم ومدوهم في الأجل". ففعلوا، فأظهر الله الروم عند رأس السبع من قمارهم الأول، وكان ذلك مرجعهم من الحديبية، وفرح المسلمون بذلك.(سيرة 1/187)
وقال الوليد بن مسلم: حدثنا أسيد الكلابي، أنه سمع العلاء بن الزبير الكلابي يحدث عن أبيه، قال: رأيت غلبة فارس الروم، ثم رأيت غلبة الروم فارس، ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم، وظهورهم على الشام والعراق، كل ذلك في خمس عشرة سنة.(سيرة 1/188)
ثم توفي عمه أبو طالب وزوجته خديجة:
يقال في قوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 26] أنها نزلت في أبي طالب ونزل فيه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] .
قال سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عمن سمع ابن عباس يقول في قوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} قال: نزلت في أبي طالب، كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وينأى عنه.
ورواه حمزة الزيات، عن حبيب، فقال: عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وقال معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه، قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عم قل: لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله". فقالا: أي أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب! قال: فكان آخر كلمة أن قال: على ملة عبد المطلب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك". فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113، 114] الآيتين، ونزلت: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] ، أخرجه مسلم.
وللبخاري مثله من حديث شعيب بن أبي حمزة.(سيرة 1/189)
وقد حكى عن أبي طالب، واسمه عبد مناف، ابنه علي، وأبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم.
ابن عون، عن عمرو بن سعيد، أن أبا طالب، قال: كنت بذي المجاز مع ابن أخي، فعطشت، فشكوت إليه، فأهوى بعقبه إلى الأرض، فنبع الماء فشربت.
وعن بعض التابعين، قال: لم يكن أحد يسود في الجاهلية إلا بمال، إلا أبو طالب وعتبة بن ربيعة.
قلت: ولأبي طالب شعر جيد مدون في السيرة وغيرها.
وفي "مسند أحمد" من حديث يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن حبة العرني، قال: رأيت عليا ضحك على المنبر حتى بدت نواجذه، ثم ذكر قول أبي طالب، ظهر علينا أبو
طالب وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصلي ببطن نخلة فقال: ماذا تصنعان يابن أخي؟ فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فقال: ما بالذي تصنعان من بأس، ولكن الله لا تعلوني استى أبدا، فضحكت تعجبا من قول أبي.
وروى معتمر بن سليمان، عن أبيه أن قريشا أظهروا لبني عبد المطلب العداوة والشتم، فجمع أبو طالب رهطه، فقاموا بين أستار الكعبة يدعون الله على من ظلمهم، وقال أبو طالب: إن أبى قومنا إلا البغي علينا فعجل نصرنا، وحل بينهم، وبين الذي يريدون من قتل ابن أخي، ثم دخل بآله الشعب.
ابن إسحاق: حدثني العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله، عن ابن عباس، قال: لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم أبا طالب قال: "أي عم،(سيرة 1/190)
قل: لا إله إلا الله أستحل لك بها الشفاعة". قال: يابن أخي، والله لولا أن تكون سبة على أهل بيتك، يرون أني قلتها جزعا من الموت، لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها، فلما ثقل أبو طالب رؤي يحرك شفتيه، فأصغى إليه أخوه العباس ثم رفع عنه فقال: يا رسول الله! قد والله قالها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم أسمع".
قلت: هذا لا يصح، ولو كان سمعه العباس يقولها لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هل نفعت عمك بشيء، ولما قال علي بعد موته، يا رسول الله إن عمك الشيخ الضال قد مات. صح أن عمرو بن دينار روى عن أبي سعيد بن رافع، قال: سألت ابن عمر: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] ، نزلت في أبي طالب؟ قال: نعم.
زيد بن الحباب، قال: حدثنا حماد، عن ثابت، عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث، عن العباس، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما ترجو لأبي طالب؟ قال: "كل الخير من ربي".
أيوب، عن ابن سيرين، قال: لما اختصر أبو طالب دعا النبي صلى الله عليه وسلم، قال: يابن أخي إذا أنا مت فأت أخوالك من بني النجار، فإنهم أمنع الناس لما في بيوتهم.
قال عروة بن الزبير: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زالت قريش كاعة عني حتى مات عمي.
كاعة: جمع كائع، وهو الجبان، يقال: كع: إذا جبن وانقبض.
وقال يزيد بن كيسان: حدثني أبو حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه: "قل: لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة". فقال: لولا أن تعيرني قريش، يقولون: إنما حمله عليه الجزع لأقررت بها عينك. فأنزل الله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الآية. أخرجه(سيرة 1/191)
مسلم.
وقال أبو عوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن العباس أنه قال: يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: "نعم. هو في ضحضاح من النار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار". أخرجاه وكذلك رواه السفيانان، عن عبد الملك.
وقال الليث، عن ابن الهاد، عن عبد الله بن خباب، عن أبي سعيد الخدري، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -وذكر عنده عمه أبو طالب فقال: "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه". أخرجاه.
وقال حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي عثمان، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أهون أهل النار عذابا أبو طالب منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه". مسلم.
وقال الثوري وغيره، عن أبي إسحاق، عن ناجية بن كعب، عن علي رضي الله عنه قال: لما مات أبو طالب أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن عمك الشيخ الضال قد مات. قال: "اذهب فوار أباك ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني". فأتيته فأمرني فاغتسلت، ثم دعا لي بدعوات ما يسرني أن لي بهن ما على الأرض من شيء. ورواه الطيالسي في "مسنده" عن شعبة.
عن أبي إسحاق فزاد بعد اذهب فواره: "فقلت: إنه مات مشركا"(سيرة 1/192)
قال: "اذهب فواره" وفي حديث تصريح السماع من ناجية قال: شهدت عليا يقول: وهذا حديث حسن متصل.
وقال عبد الله بن إدريس: حدثنا محمد بن إسحاق، عمن حدثه، عن عروة بن الزبير، عن عبد الله بن جعفر، قال: لما مات أبو طالب عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم سفيه من قريش، فألقى عليه ترابا، فرجع إلى بيته، فأتت بنته تمسح عن وجهه التراب وتبكي فجعل يقول: "أي بنية لا تبكين، فإن الله مانع أباك"، ويقول ما بين ذلك: "ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب". غريب مرسل.
وروي عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم عارض جنازة أبي طالب، فقال: "وصلتك رحم يا عم وجزيت خيرا" تفرد به إبراهيم بن عبد الرحمن الخوارزمي.
وهو منكر الحديث يروي عنه عيسى غنجار، والفضل السيناني.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله، عن ابن عباس، قال: لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا طالب في مرضه قال: "أي عم، قل: لا إله إلا الله أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة". فقال: يابن أخي والله لولا أن تكون سبة عليك وعلى أهل بيتك من بعدي يرون أني قلتها جزعا حين نزل بي الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها، فلما ثقل أبو طالب رؤي يحرك شفتيه، فأصغى إليه العباس ليستمع قوله، فرفع العباس عنه، فقال: يا رسول(سيرة 1/193)
الله، قد والله قال الكلمة التي سألته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لم أسمع".
إسناده ضعيف لأن فيه مجهولا، وأيضا، فكان العباس ذلك الوقت على جاهليته، ولهذا إن صح الحديث لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم روايته وقال له: لم أسمع، وقد تقدم أنه بعد إسلامه قال: يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك ويغضب لك، فلو كان العباس عنده علم من إسلام أخيه أبي طالب لما قال هذا، ولما سكت عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: "هو في ضحضاح من النار"، ولقال: إني سمعته يقول: لا إله إلا الله، ولكن الرافضة قوم بهت.
وقال ابن إسحاق: ثم إن خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأبا طالب ماتا في عام واحد فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب بهلاكهما.
وكانت خديجة وزيرة صدق على الإسلام، كان يسكن إليها.
وذكر الواقدي أنهم خرجوا من الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين، وأنهما توفيا في ذلك العام، وتوفيت خديجة قبل أبي طالب بخمسة وثلاثين يوما.
وذكر أبو عبد الله الحاكم أن موتها كان بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام، وكذا قال غيره.
وهي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي الأسدية.
قال الزبير بن بكار: كانت تدعى في الجاهلية الطاهرة، وأمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم العامرية. وكانت خديجة تحت أبي هالة بن زرارة التميمي، واختلف في اسم أبي هالة، ثم خلف عليها بعده عتيق بن عائذ(سيرة 1/194)
بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ثم النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن إسحاق: بل تزوجها أبو هالة بعد عتيق. وكانت وزيرة صدق على الإسلام.
وعن عائشة، قالت: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة، وقيل: كان موتها في رمضان، ودفنت بالحجون، وقيل: إنها عاشت خمسا وستين سنة.
وقال الزبير: تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ولها أربعون سنة، وأقامت معه أربعا وعشرين سنة.
قال مروان بن معاوية الفزاري، عن وائل بن داود، عن عبد الله البهي، قال: قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان خديجة لم يكد يسأم من ثناء عليها، واستغفار لها، فذكرها يوما، فاحتملتني الغيرة، فقلت: لقد عوضك الله من كبيرة السن، فرأيته غضب غضبا أسقطت في خلدي، وقلت في نفسي: اللهم إنك إن أذهبت غضب رسولك عني لم أعد إلى ذكرها بسوء، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما لقيت قال: "كيف قلت! والله لقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، ورزقت منها الولد، وحرمتموه مني". قالت: فغدا وراح عليَّ بها شهرا.
وقال هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، مما كنت أسمع من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، وما تزوجني إلا بعد موتها بثلاث
سنين، ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
متفق عليه.
وقال الزهري: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة.(سيرة 1/195)
وقال ابن فضيل، عن عمارة، عن أبي زرعة، سمع أبا هريرة يقول: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذه خديجة، أتتك معها إناء فيه إدام طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب. متفق عليه.
وقال عبد الله بن جعفر: سمعت عليا رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خير نسائها خديجة بنت خويلد، وخير نسائها مريم بنت عمران". أخرجه مسلم.(سيرة 1/196)
ذكر الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى:
قال موسى بن عقبة، عن الزهري: أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس قبل الهجرة بسنة.
وكذا قال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة.
وقال أبو إسماعيل الترمذي: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء بن الضحاك الزبيدي بن زبريق، قال: حدثا عمرو بن الحارث، عن عبد الله بن سالم، عن الزبيدي محمد بن الوليد، قال: حدثنا الوليد بن عبد الرحمن، أن جبير بن نفير قال: حدثنا شداد بن أوس، قال: قلنا يا رسول الله كيف أسري بك؟ قال: "صليت لأصحابي صلاة العتمة بمكة معتما، فأتاني جبريل بدابة بيضاء فوق الحمار ودون البغل، فقال: اركب، فاستصعب عليّ، فرازها بأذنها، ثم حملني عليها، فانطلقت تهوي بنا، يقع حافرها حيث أدرك طرفها، حتى بلغنا أرضا ذات نخل، فأنزلني فقال: صل. فصليت، ثم ركبنا، فقال: أتدري أين صليت؟ قلت: الله أعلم. قال: صليت بيثرب، صليت بطيبة. فانطلقت تهوي بنا، يقع حافرها حيث أدرك طرفها، ثم بلغنا أرضا، فقال: انزل فصل. ففعلت، ثم ركبنا. قال: أتدري أين صليت؟ قلت: الله أعلم. قال صليت بمدين عند شجرة موسى -عليه السلام- ثم انطلقت تهوي بنا، يقع حافرها حيث أدرك طرفها، ثم بلغنا أرضا بدت لنا قصور، فقال: انزل، فصليت(سيرة 1/197)
وركبنا. فقال لي: صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى. ثم انطلق بي حتى دخلنا المدينة من بابها اليماني، فأتى قبلة المسجد فربط فيه دابته، ودخلنا المسجد من باب فيه تميل الشمس والقمر، فصليت من المسجد حيث شاء الله، وأخذني من العطش أشد ما أخذني، فأتيت بإناءين لبن وعسل، أرسل إليَّ بهما جميعا، فعدلت بينهما، ثم هداني الله فأخذت اللبن، فشربت حتى قرعت به جبيني، وبين يدي شيخ متكئ على مثراة له، فقال: أخذ صاحبك الفطرة إنه ليهدى. ثم انطلق بي حتى أتينا الوادي الذي في المدينة فإذا جهنم تنكشف عن مثل الزرابي". قلت: يا رسول الله، كيف وجدتها؟ قال: "مثل الحمأة السخنة. ثم انصرف بي، فمررنا بعير لقريش،
بمكان كذا وكذا، قد ضلوا بعيرا لهم، قد جمعه فلان، فسلمت عليهم، فقال بعضهم: هذا صوت محمد. ثم أتيت أصحابي قبل الصبح بمكة، فأتاني أبو بكر فقال: أين كنت الليلة، فقد التمستك في مظانك؟ قلت: علمت أني أتيت بيت المقدس الليلة، فقال: يا رسول الله إنه مسيرة شهر، فصفه لي. قال: ففتح لي صراط كأني أنظر إليه، لا يسألني عن شيء إلا أنبأته عنه. قال: أشهد أنك رسول الله. فقال المشركون: انظروا إلى ابن أبي كبشة، يزعم أنه أتى بيت المقدس الليلة. فقال: إني مررت بعير لكم، بمكان كذا، وقد أضلوا بعيرا لهم، فجمعه فلان، وإن مسيرهم ينزلون بكذا، ثم كذا، ويأتونكم يوم كذا، يقدمهم جمل آدم، عليه مسح أسود، وغرارتان سوداوان. فلما كان اليوم، أشرف الناس ينظرون حتى كان قريبا من نصف النهار، حين أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل".
قال البيهقي: هذا إسناد صحيح.(سيرة 1/198)
قلت: ابن زبريق تكلم فيه النسائي. وقال أبو حاتم: شيخ.
قال حماد بن سلمة: حدثنا أبو حمزة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "أتيت بالبراق فركبته خلف جبريل، فسار بنا، فكان إذا أتى على جبل ارتفعت رجلاه، وإذا هبط ارتفعت يداه، فسار بنا في أرض فيحاء طيبة، فأتينا على رجل قائم يصلي، فقال: من هذا معك يا جبريل؟ قال: أخوك محمد، فرحب ودعا بالبركة، وقال: سل لأمتك اليسر". ثم سار, فذكر أنه مر على موسى وعيسى، قال: "ثم أتينا على مصابيح فقلت: ما هذا؟ قال: هذه شجرة أبيك إبراهيم، تحب أن تدنو منها؟ قلت: نعم. فدنونا منها، فرحب بي، ثم مضينا حتى أتينا بيت المقدس, ونشر لي الأنبياء من سمى الله ومن لم يسم، وصليت بهم إلا هؤلاء النفر الثلاثة: موسى، وعيسى، وإبراهيم، فربطت الدابة بالحلقة التي تربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فقربت لي الأنبياء، من سمى الله منهم، ومن لم يسم، فصليت بهم".
هذا حديث غريب، وأبو حمزة هو ميمون، ضعف.
وقال يونس، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليلة أسري به بإيلياء بقدحين من خمر ولبن، فنظر إليهما، فأخذ اللبن، فقال له جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمتك. متفق عليه.
قرأت على القاضي سليمان بن حمزة، أخبركم محمد بن عبد الواحد الحافظ, قال: أخبرنا الفضل بن الحسين، قال: أخبرنا علي بن الحسن الموازيني، قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحمن، قال: أخبرنا يوسف(سيرة 1/199)
القاضي, قال: أخبرنا أبو يعلى التميمي، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل الوساوسي, قال: حدثنا ضمرة، عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني، عن أبي صالح مولى أم هانئ، عن أم هانئ، قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بغَلَس وأنا على فراشي فقال: "شعرت أني نمت الليلة في المسجد الحرام، فأتى جبريل فذهب بي إلى باب المسجد، فإذا دابة أبيض، فوق الحمار، ودون البغل، مضطرب الأذنين, فركبته، وكان يضع حافره مد بصره، إذا أخذ بي في هبوط طالت يداه، وقصرت رجلاه، وإذا أخذ بي في صعود طالت رجلاه وقصرت يداه، وجبريل لا يفوتني، حتى انتهينا إلى بيت المقدس، فأوثقه بالحلقة التي كانت الأنبياء توثق بها، فنشر لي رهط من الأنبياء، فيهم إبراهيم، وموسى، وعيسى، فصليت بهم وكلمتهم، وأتيت بإناءين أحمر وأبيض، فشربت الأبيض فقال لي جبريل: شربت اللبن وتركت الخمر، لو شربت الخمر لارتدت أمتك. ثم ركبته إلى المسجد الحرام، فصليت به الغداة". قالت: فتعلقت بردائه، وقلت: أنشدك الله يابن عم أن تحدث بهذا قريشا فيكذبك من صدقك. فضرب بيده على ردائه فانتزعه من يدي، فارتفع عن بطنه، فنظرت إلى عكنه فوق إزاره وكأنه طي القراطيس، وإذا نور ساطع عند فؤاده، يكاد يختطف بصري، فخررت ساجدة، فلما رفعت رأسي إذا هو قد خرج، فقلت لجاريتي نبعة: ويحك اتبعيه فانظري. فلما رجعت أخبرتني أنه انتهى إلى قريش في الحطيم، فيهم المطعم بن عدي، وعمرو بن هشام، والوليد بن المغيرة، فقص عليهم مسراه، فقال عمرو كالمستهزئ: صفهم لي. قال: "أما عيسى ففوق الربعة، عريض الصدر، ظاهر الدم، جعد الشعر، تعلوه صهبة، كأنه عروة بن مسعود الثقفي، وأما موسى فضخم، آدم، طوال، كأنه من(سيرة 1/200)
رجال شنوءة كثير الشعر، غائر العينين، متراكب الأسنان، مقلص الشفتين، خارج اللثة، عابس، وأما إبراهيم، فوالله لأشبه الناس بي خَلْقا وخُلُقا". فضجوا وأعظموا ذلك، فقال المطعم: كل
أمرك كان قبل اليوم أممًا، غير قولك اليوم، أنا أشهد أنك كاذب! نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس شهرا، أتيته في ليلة!
وذكر باقي الحديث، وهو حديث غريب، الوساوسي ضعيف تفرد به.
وقال مسلم: حدثنا محمد بن رافع، قال: حدثنا حجين بن المثنى، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الله بن الفضل الهاشمي، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيتني في الحجر، وقريش تسألني عن مسراي، فسألوني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربا ما كربت مثله قط، فرفعه الله لي، أنظر إليه، ما يسألونني عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي فإذا رجل ضرب جعد، كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلي, أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم -يعني نفسه- فحانت الصلاة فأممتهم، فلما فرغت من الصلاة قال لي قائل: يا محمد هذا مالك صاحب النار، فسلم عليه, فالتفت إليه, فبدأني بالسلام".
وقد رواه أبو سلمة أيضا، عن جابر مختصرا.
قال الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو سلمة، قال: سمعت جابر بن عبد الله يحدث، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(سيرة 1/201)
"لما كذبتني قريش قمت في الحجر فجلا الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته، وأنا أنظر إليه". أخرجاه.
وقال إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب: سمعت ابن المسيب يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتهى إلى بيت المقدس لقي فيه إبراهيم وموسى، وعيسى، ثم أخبر أنه أسري به، فافتتن ناس كثير كانوا قد صلوا معه. وذكر الحديث وهذا مرسل.
وقال محمد بن كثير المصِّيصي: حدثنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس ممن آمن، وسعوا إلى أبي بكر، فقالوا: هل لك في صاحبك، يزعم أنه أسري به الليلة إلى
بيت المقدس! قال: أوقال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: لئن قال ذلك لقد صدق. قالوا: وتصدقه! قال: نعم إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة. فلذلك سمي أبو بكر الصديق.
وقال معتمر بن سليمان التيمي، عن أبيه، سمع أنسا يقول: حدثني بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به مر على موسى وهو يصلي في قبره. وذكر الحديث.
وقال عبد العزيز بن عمران بن مقلاص الفقيه، ويونس، وغيرهما: حدثنا ابن وهب قال: حدثني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، عن أنس بن مالك، قال: لما جاء جبريل -عليه السلام- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق،(سيرة 1/202)
كأنها أمرت ذنبها، فقال لها جبريل: مه يا براق! فوالله إن ركبك مثله. وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو بعجوز على جانب الطريق، فقال: "ما هذه يا جبريل؟ " قال له: سر يا محمد، فسار ما شاء الله أن يسير فإذا شيء يدعوه متنحيا عن الطريق يقول: هلم يا محمد، فقال جبريل: سر يا محمد. فسار ما شاء الله أن يسير، قال: فلقيه خلق من الخلق فقالوا: السلام عليك يا آخر، السلام عليك يا حاشر فرد السلام، فانتهى إلى بيت المقدس، فعرض عليه الماء، والخمر، واللبن، فتناول اللبن، فقال له جبريل: أصبت الفطرة، ولو شربت الماء لغرقت أمتك وغرقت، ولو شربت الخمر لغويت وغوت أمتك. ثم بعث له آدم فمن دونه من الأنبياء، فأمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، ثم قال له جبريل: أما العجوز فلم يبق من الدنيا إلى ما بقي من عمر تلك العجوز، وأما الذي أراد أن تميل إليه، فذاك عدو الله إبليس، أراد أن تميل إليه، وأما الذين سلموا عليك فإبراهيم، وموسى، وعيسى.
أنبئنا عن ابن كليب، عن ابن بيان، قال: أخبرنا بشر ابن القاضي، قال: حدثنا محمد بن الحسن اليقطيني، قال: أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة، قال: حدثنا أبو عمر ابن النحاس، قال: حدثنا الوليد، قال: حدثني الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة قال: رؤي عبادة بن الصامت على حائط بيت المقدس يبكي فقيل: ما يبكيك؟ فقال: من ههنا حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى ملكا يقلب جمرا كالقطف. إسناده جيد.
وقال النضر بن شميل، وروح، وغندر: أخبرنا عوف، قال: حدثنا زرارة بن أوفى، قال: قال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما كانت(سيرة 1/203)
ليلة أسري بي، ثم أصبحت بمكة، فظعت بأمري، وعلمت بأن الناس يكذبوني". قال: فقعد معتزلا حزينا، فمر به أبو جهل، فجاء فجلس فقال كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم". قال: ما
هو؟ قال: "إني أسري بي الليلة" قال: إلى أين؟ قال: "إلى بيت المقدس". قال: ثم أصبحت بين أظهرنا! قال: "نعم". قال: فلم ير أنه يكذبه مخافة أن يجحده الحديث، فدعا قومه، فقال: أرأيت إن دعوت إليك قومك أتحدثهم بما حدثتني؟ قال: "نعم". فدعا قومه فقال: يا معشر بني كعب بن لؤي هلم، فانتقضت المجالس، فجاءوا حتى جلسوا إليهما، فقال: حدثهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أسري بي الليلة". قالوا: إلى أين؟ قال: "إلى بيت المقدس". قالوا: ثم أصبحت بين ظهرينا! قال: "نعم". قال: فمن بين مصفر وواضع يده على رأسه مستعجب للكذب، زعم, قال: وفي القوم من قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد فقال: هل تستطيع أن تنعت لنا المسجد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فذهبت أنعت، فما زلت حتى التبس علي بعض النعت"، قال: فجيء بالمسجد حتى وضع دون دار عقيل أو عقال قال: فنعته وأنا أنظر إليه. فقالوا: أما النعت فقد والله أصاب ورواه هوذة، عن عوف.
مسلم بن إبراهيم: قال: حدثنا الحارث بن عبيد، قال: حدثنا أبو عمران، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما أنا قاعد ذات يوم، إذا دخل جبريل، فوكز بين كتفي، فقمت إلى شجرة فيها مثل وكري(سيرة 1/204)
الطائر، فقعد في واحدة، وقعدت في أخرى، فارتفعت حتى سدت الخافقين، فلو شئت أن أمس السماء لمسست، وأنا أقلب طرفي فالتفت إلى جبريل، فإذا هو لاطئ، فعرفت فضل علمه بالله، وفتح لي باب السماء ورأيت النور الأعظم، ثم أوحى الله إليَّ ما شاء أن يوحى".
إسناده جيد حسن، والحارث من رجال مسلم.
سعيد بن منصور: حدثنا أبو معشر، عن أبي وهب مولى أبي هريرة، عن أبي هريرة، قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، قال: "يا جبريل إن قومي لا يصدقوني" قال: يصدقك أبو بكر وهو الصديق.
رواه إسحاق بن سليمان، عن يزيد بن هارون، قال: أخبرنا مسعر، عن أبي وهب هلال بن خباب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: فحدثهم صلى الله عليه وسلم بعلامة بيت المقدس، فارتدوا كفارا، فضرب الله رقابهم مع أبي جهل. وقال أبو جهل: يخوفنا محمد بشجرة الزقوم، هاتوا تمرا وزبدا، فتزقموا ورأى الدجال في صورته رؤيا عين، ليس برؤيا منام، وعيسى، وموسى، وإبراهيم. وذكر الحديث.
وقال حماد بن سلمة عن عاصم عن زر، عن حذيفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بالبراق، وهو
دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل، فلم يزايلا ظهره هو وجبريل، حتى انتهيا به إلى بيت المقدس، فصعد به جبريل إلى السماء، فاستفتح جبريل، فأراه الجنة والنار، ثم قال لي: هل صلى في بيت المقدس؟ قلت: نعم. قال: اسمك يا أصلع. قلت: زر بن حبيش. قال: فأين تجده صلاها؟ فتأولت الآية: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1](سيرة 1/205)
قال: فإنه لو صلى لصليتم كما تصلون في المسجد الحرام قلت: لحذيفة: أربط الدابة بالحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء؟ قال: أكان يخاف أن تذهب منه وقد أتاه الله بها. كأن حذيفة لم يبلغه أنه صلى في المسجد الأقصى, ولا ربط البراق بالحلقة.
وقال ابن عيينة، عن عمر، عن عكرمة، عن ابن عباس {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به.
{وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء: 60] قال: هي شجرة الزقوم. أخرجه البخاري.(سيرة 1/206)
ذكر معراج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء:
قال الله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 5-11] ، وقال: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم: 13، 14] ، تفسير ذلك: قال زائدة وغيره، عن أبي إسحاق الشيباني، قال: سألت زر بن حبيش عن قوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} فقال: حدثنا عبد الله بن مسعود، أنه رأى جبريل له ستمائة جناح أخرجاه.
وروى شعبة، عن الشيباني هذا، لكن قال: سألته عن قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] ، فذكر أنه رأى جبريل له ستمائة جناح.
وقال البخاري: قبيصة: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} قال: رأى رفرفا أخضر قد ملأ الأفق.
وقال حماد بن سلمة: حدثنا عاصم، عن زر، عن عبد الله {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت جبريل عند سدرة، عليه ستمائة جناح، ينفض من ريشه التهاويل الدر والياقوت.(سيرة 1/207)
عاصم بن بهدلة القارئ، ليس بالقوي.
وقال مالك بن مغول، عن الزبير بن عدي، عن طلحة بن مصرف، عن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، قال: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم فانتهى إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة -كذا قال- وإليها ينتهي ما يصعد به، حتى يقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها، حتى يقبض منها {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم: 16] ، قال: غشيها فراش من ذهب، وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة, وغفر لمن لا يشكر بالله من أمته المقحمات. أخرجه مسلم.
وقال إسرائيل، عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] ، قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه حلة من رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض.
وقال عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن أبي هريرة {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] ، قال: رأى جبريل -عليه السلام- أخرجه مسلم.
وقال زكريا بن أبي زائدة، عن ابن أشوع، عن الشعبي، عن مسروق، قال: قلت لعائشة: فأين قوله تعالى: {دَنَا فَتَدَلَّى} ؟ قالت: إنما ذاك جبريل، كان يأتيه في صورة الرجل، وإنه أتاه في هذه المرة في صورته التي هي صورته، فسد أفق السماء. متفق عليه.
وقال ابن لهيعة: حدثني أبو الأسود، عن عروة، عن عائشة أن(سيرة 1/208)
نبي الله -عليه السلام- كان أول شأنه يرى المنام، فكان أول ما رأى جبريل بأجياد، أنه خرج لبعض حاجته، فصرخ به: يا محمد يا محمد فنظر يمينا وشمالا فلم ير شيئا، ثم نظر، فلم ير شيئا، فرفع بصره، فإذا هو ثانيا إحدى رجليه على الأخرى في الأفق، فقال: يا محمد جبريل جبريل، يسكنه، فهرب حتى دخل في الناس، فنظر فلم ير شيئا، ثم رجع فنظر فرآه، فذلك قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 1-2] .
محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن ابن عباس {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} قال: دنا ربه منه فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى قال ابن عباس: قد رآه النبي صلى الله عليه وسلم. إسناده حسن.
أخبرنا التاج عبد الخالق، قال: أخبرنا ابن قدامة، قال: أخبرنا أبو زرعة، قال: أخبرنا المقدمي، قال: أخبرنا القاسم بن أبي المنذر، قال: حدثنا ابن سلمة، قال: أخبرنا ابن ماجة، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا الحسن بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي الصلت، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتيت ليلة أسري بي على قوم، بطونهم كالبيوت، فيها الحيات، ترى من خارج بطونهم، فقلت: من هؤلاء
يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا" رواه أحمد في "مسنده" عن الحسن، وعفان، عن حماد وزاد فيه: "رأيت ليلة أسري بي لما انتهينا إلى السماء السابعة". أبو الصلت مجهول.
أخبرنا إسماعيل بن عبد الرحمن المرداوي، قال: أخبرنا أبو محمد(سيرة 1/209)
عبد الله بن أحمد الفقيه، قال: أخبرنا هبة الله بن الحسن بن هلال، قال: أخبرنا عبد الله بن علي بن زكرى سنة أربع وثمانين وأربعمائة, قال: أخبرنا علي بن محمد بن عبد الله، قال: أخبرنا أبو جعفر محمد بن عمرو، قال: حدثنا سعدان بن نصر، قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، عن ابن عون، قال: أنبأنا القاسم بن محمد، عن عائشة أنها قالت: من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله، ولكنه رأى جبريل مرتين في صورته وخلقه، سادا ما بين الأفق. أخرجه البخاري عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج، عن الأنصاري.
قلت: قد اختلف الصحابة -رضي الله عنهم- في رؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه، فأنكرتها عائشة، وأما الروايات عن ابن مسعود، فإنما فيها تفسير ما في النجم، وليس في قوله ما يدل على نفي الرؤية لله. وذكرها في الصحيح وغيره.
وقال يونس، عن ابن شهاب، عن أنس، قال: كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل -عليه السلام- ففرج صدري, ثم غسله من ماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا ثم أفرغها في صدري، ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا، فقال لخازنها: افتح، قال: من هذا؟ قال: جبريل قال: هل معك أحد؟ قال: نعم محمد. قال: أرسل إليه؟ قال: نعم ففتح، فلما علونا السماء الدنيا، إذا رجل عن يمينه أسودة، وعن يساره أسودة، فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فقال: مرحبا بالنبي الصالح، والابن الصالح. قلت: يا جبريل من(سيرة 1/210)
هذا؟ [قال هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه، فأهل اليمين أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى]
ثم عرج بي جبريل حتى أتى السماء الثانية، فقال لخازنها: افتح. فقال له خازنها مثل ما قال خازن السماء الدنيا، ففتح".
قال أنس: فذكر أنه وجد في السموات: آدم، وإدريس، وعيسى، وموسى، وإبراهيم، ولم يثبت -يعني أبا ذر- كيف منازلهم، غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا، وإبراهيم في السادسة، فلما مر جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بإدريس، قال: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح. قال: ثم مر، "قلت: من هذا؟ قال: إدريس، قال: ثم مررت بموسى فقال: مرحبا بالنبي الصالح، والأخ الصالح. قلت: من هذا؟ قال: موسى. ثم مررت بعيسى، فقال: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح. قلت: من هذا؟ قال: عيسى. ثم مررت بإبراهيم، فقال: مرحبا بالنبي الصالح، والابن الصالح. قلت: من هذا؟ قال: إبراهيم".
قال ابن شهاب: وأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة(سيرة 1/211)
الأنصاري كانا يقولان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام".
قال ابن شهاب: قال ابن حزم، وأنس بن مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ففرض الله -عز وجل- على أمتي خمسين صلاة، قال: فرجعت بذلك حتى أمر بموسى، فقال: ماذا فرض ربك على أمتك؟ قلت: فرض عليهم خمسين صلاة. قال موسى: فراجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك. قال: فراجعت ربي، فوضع عني شطرها، فرجعت إلى موسى فأخبرته، قال: فراجع ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك. فراجعت ربي فقال: هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي. فرجعت إلى موسى فقال: ارجع إلى ربك. فقلت: قد استحييت من ربي. قال: ثم انطلق بي حتى أتى سدرة المنتهى، فغشيها ألوان لا أدري ما هي، قال: ثم دخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك".
أخبرنا بهذا الحديث يحيى بن أحمد المقرئ بالإسكندرية، ومحمد بن حسين الفوى بمصر، قالا: أخبرنا محمد بن عماد، قال: أخبرنا عبد الله بن رفاعة، قال: أخبرنا علي بن الحسن الشافعي، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن عمر البزار، قال: حدثنا أبو الطاهر أحمد بن محمد بن عمرو، المديني، قال: حدثنا أبو موسى يونس بن عبد الأعلى الصدفي، قال:
حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، فذكره. رواه مسلم عن حرملة، عن ابن وهب.(سيرة 1/212)
وروى النسائي شطره الثاني من قول ابن شهاب: وأخبرني ابن حزم أن ابن عباس، وأبا حبة، إلى آخره، عن يونس، فوافقناه بعلو.
وقد أخرجه البخاري من حديث الليث، عن يونس وتابعه عقيل، عن الزهري.
وقال همام: سمعت قادة يحدث، عن أنس، أن مالك بن صعصعة حدثه، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به، قال: "بينما أنا في الحطيم" وربما قال قتادة: في الحجر "مضطجعا إذ أتاني آت" فجعل يقول لصاحبه الأوسط بين الثلاثة قال: فأتاني وقد سمعت قتادة يقول: "فشق ما بين هذه إلى هذه"، قال قتادة: قلت لجارود، وهو إلى جنبي: ما يعني؟ قال: من ثغرة نحره إلى شعرته؟ قال: "فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملوء إيمانا، فغسل قلبي، ثم حشي، ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل، وفوق الحمار أبيض" فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ قال: نعم. "يضع خطوه عند أقصى طرفه، فحملت عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم قال: مرحبا به ونعم المجيء جاء. ففتح له، فلما خلصت فإذا آدم فيها، فقال: هذا أبوك آدم فسلم عليه، فسلمت عليه. فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالابن(سيرة 1/213)
الصالح، والنبي الصالح، ثم صعد حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال جبريل: قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ [قال: نعم قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء. ففتح. فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة. قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلمت فردا ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء. ففتح، فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي] حتى السماء الرابعة فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به ونعم المجيء جاء. قال: ففتح، فلما خلصت فإذا إدريس، قال: هذا إدريس فسلم عليه، فسلمت ورد، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي
الصالح. ثم صعد حتى أتى السماء الخامسة، فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به ونعم المجيء جاء. قال: ففتح، فلما خلصت فإذا هارون، قال: هذا هارون فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد حتى أتى السماء السادسة، فاستفتح, فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبا به ونعم المجيء جاء. قال: ففتح، فلما خلصت فإذا موسى -عليه السلام- فسلمت عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، قال: فلما جاوزت بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأنه غلام بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي. ثم صعد حتى أتى السماء السابعة، فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم فقال: مرحبا به ونعم المجيء جاء. ففتح فلما خلصت فإذا إبراهيم -عليه السلام- قال: هذا [أبوك] فسلم عليه فسلمت عليه، فرد، وقال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح. ثم رفعت إلى سدرة المنتهى. فإذا نبقها مثل قلال هجر وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، فقال: هذه سدرة المنتهى. وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان، ونهران ظاهران. فقلت: ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في(سيرة 1/214)
الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات. ثم رفع البيت المعمور، [ثم أتيت بإناء من خمر، وإناء من لبن، وإناء من عسل] ، فأخذت اللبن. فقال: هذه الفطرة التي أنت عليها وأمتك. قال: ثم فرضت عليَّ الصلاة، خمسون صلاة في كل يوم، فرجعت فمررت على موسى فقال: بم أمرت؟ قلت: بخمسين صلاة في كل يوم. قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك، فإني قد خبرت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، قال: فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى، فقال: بما أمرت؟ قلت: بأربعين صلاة كل يوم. قال: إن أمتك لا تستطيعها فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. فرجعت فوضع عني عشرا أخر، ثم رجعت إلى موسى". فذكر الحديث إلى أن قال: "إن أمتك لا تستطيع بخمس صلوات كل يوم، وإني خبرت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. قلت: قد سألت ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلم. فلما نفرت ناداني مناد: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي". أخرجه البخاري، عن هدبة عنه.
وقال معاذ بن هشام: حدثني أبي، عن قتادة، قال: حدثنا أنس، عن مالك بن صعصعة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكر نحوه، وزاد فيه: فأتيت بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا، فشق من النحر إلى مراق البطن، فغسل بماء زمزم، ثم ملئ حكمة وإيمانا. أخرجه مسلم بطوله.(سيرة 1/215)
وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، عن مالك بن صعصعة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما أنا عند البيت، بين النائم واليقظان، إذ سمعت قائلا يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين. قال: فأتيت فانطلق بي، ثم أتيت بسطت من ذهب فيه من ماء زمزم، فشرح صدري إلى كذا وكذا". قال قتادة: قلت لصاحبي: ما يعني؟ قال: إلى أسفل بطني. "فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم، ثم أعيد مكانه، وحشي". أو قال: كنز إيمانا وحكمة -شك سعيد- "ثم أتيت بدابة أبيض يقال له البراق، فوق الحمار ودون البغل، يقع خطوه عند أقصى طرفه، فحملت عليه ومعي صاحبي لا يفارقني، فانطلقنا حتى أتينا السماء الدنيا".
وساق الحديث كحديث همام، إلى قوله: البيت المعمور فزاد: "يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، حتى إذا خرجوا منه لم يعودوا فيه آخر ما عليهم".
قلت: وهذه زيادة رواها همام في حديثه، وهو أتقن من ابن أبي عروبة، فقال: قال قتادة، فحدثنا الحسن، عن أبي هريرة أنه رأي البيت يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه. ثم رجع إلى حديث أنس، وفي حديث ابن أبي عروبة: "في سدرة المنتهى" إن ورقها مثل آذان الفيلة، ولفظه: "ثم أتيت على موسى فقال: بم أمرت؟ قلت: بخمسين صلاة، قال: إني قد بلوت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة وإن أمتك لا يطيقون ذلك، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك. فرجعت، فحط عني خمس صلوات، فما زلت أختلف بين ربي وبين موسى كلما أتيت عليه، قال لي مثل مقالته، حتى رجعت بخمس صلوات، كل يوم، فلما أتيت على موسى قال كمقالته، قلت: لقد رجعت إلى ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلم. فنوديت أن قد أمضيت، وخففت عن عبادي، وجعلت بكل(سيرة 1/216)
حسنة عشر أمثالها". أخرجه مسلم.
وقد رواه ثابت البناني، وشريك بن أبي نمر، عن أنس، فلم يسنده لهما، لا عن أبي ذر، ولا عن مالك بن صعصعة، ولا بأس بمثل ذلك، فإن مرسل الصحابي حجة.
قال حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتيت بالبراق، وهو دابة أبيض، فركبته حتى أتينا ببيت المقدس، فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء، ثم دخلت
فصليت فأتاني بإناءين خمر ولبن، فاخترت اللبن، فقال: أصبت الفطرة. ثم عرج بي إلى السماء الدنيا، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: أنا جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: قد أرسل، ففتح لنا، فإذا بآدم".
فذكر الحديث وفيه: "فإذا بيوسف، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن، فرحب بي ودعا لي بخير". إلى أن قال لما فتح له السماء السابعة: "فإذا بإبراهيم -عليه السلام- وإذا هو مستند إلى البيت المعمور، فرحب بي، ودعا لي بخير، فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى، فإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال، قال: فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت. فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها، قال: فدنا فتدلى وأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض عليّ في كل يوم خمسون صلاة، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى، قال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة في كل يوم وليلة. قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك؛ فإني قد بلوت بني إسرائيل وجربتهم وخبرتهم.(سيرة 1/217)
قال: فرجعت فقلت: أي رب خفف عن أمتي. فحط عني خمسا، فرجعت حتى انتهيت إلى موسى، فقال: ما فعلت؟ قلت: قد حط عني خمسا، فقال: إن أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك. فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى حتى قال: هي خمس صلوات في كل يوم وليلة، بكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة". أخرجه مسلم دون قوله: فدنا فتدلى، وذلك ثابت في رواية حجاج بن منهال، وهو ثبت في حماد بن سلمة.
وقال سليمان بن بلال، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، قال: سمعت أنسا يقول، وذكر حديث الإسراء، وفيه: ثم عرج به إلى السماء السابعة، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله، حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة، فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى. أخرجه البخاري، عن عبد العزيز بن عبد الله، عن سليمان.
وقال شيبان، عن قتادة، عن أبي العالية، قال: حدثنا ابن عباس، قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ليلة أسري بي موسى -عليه السلام- رجلا طوالا جعدا، كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأس". قال: ورأى مالكا خازن النار والدجال في آيات أراهن الله إياه قال: {فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} [السجدة: 23] ، فكان قتادة يفسرها أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد لقي موسى. أخرجه مسلم.
وفي الصحيحين، من حديث سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم حين أسري به: "لقيت موسى وعيسى -ثم(سيرة 1/218)
نعتهما- ورأيت إبراهيم، وأنا أشبه ولده به".
وقال مروان بن معاوية الفزاري، عن قنان النهمي، قال: حدثنا أبو ظبيان الجنبي، قال: كنا جلوسا عند أبي عبيدة بن عبد الله ومحمد بن سعد بن أبي وقاص، فقال محمد لأبي عبيدة: حدثنا عن أبيك ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال أبو عبيدة: لا، بل حدثنا أنت عن أبيك. قال: لو سألتني قبل أن أسألك لفعلت. فأنشأ أبو عبيدة يحدث، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل بدابة فوق الحمار ودون البغل، فحملني عليه، فانطلق يهوي بنا، كلما صعد عقبة استوت رجلاه مع يديه، وإذا هبط استوت يداه مع رجليه، حتى مررنا برجل طوال سبط آدم، كأنه من رجال أزد شنوءة، وهو يقول ويرفع صوته ويقول: أكرمته وفضلته، فدفعنا إليه، فسلمنا، فرد السلام، فقال: من هذا معك يا جبريل؟ قال: هذا أحمد. قال: مرحبا بالنبي الأمي الذي بلغ رسالة ربه ونصح لأمته. قال: ثم اندفعنا، فقلت: من هذا يا جبريل؟ قال: موسى. قلت: ومن يعاتب؟ قال: يعاتب ربه فيك. قلت: ويرفع صوته على ربه! قال: إن الله قد عرف له حدته. قال: ثم اندفعنا حتى مررنا بشجرة كأن ثمرها السرج وتحتها شيخ وعياله، فقال لي جبريل: اعمد إلى أبيك إبراهيم، فسلمنا عليه فرد السلام وقال: من هذا معك يا جبريل؟ قال: ابنك أحمد. فقال: مرحبا بالنبي الأمي الذي بلغ رسالة ربه ونصح لأمته، يا بني إنك لاق ربك الليلة، فإن استطعت أن تكون حاجتك أو جلها في أمتك فافعل. قال: ثم اندفعنا حتى انتهينا إلى المسجد الأقصى، فنزلت فربطت الدابة بالحلقة التي في باب المسجد التي كانت الأنبياء تربط بها، ثم دخلت المسجد فعرفت النبيين ما بين قائم وراكع وساجد، ثم أتيت بكأسين من عسل ولبن، فأخذت اللبن فشربته، فضرب جبريل منكبي، وقال: أصبت الفطرة ورب محمد. ثم(سيرة 1/219)
أقيمت الصلاة، فأممتهم، ثم انصرفنا فأقبلنا". هذا حديث حسن غريب.
فإن قيل: فقد صح عن ثابت، وسليمان التيمي، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتيت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر، هو قائم يصلي في قبره"، وقد صح عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى يصلي، وذكر إبراهيم، وعيسى قال: فحانت الصلاة فأممتهم". ومن حديث ابن المسيب أنه لقيهم في بيت المقدس، فكيف الجمع بين هذه الأحاديث وبين ما تقدم، من أن رأى هؤلاء الأنبياء في السموات، وأنه راجع موسى؟
فالجواب: أنهم مثلوا له، فرآهم غير مرة، فرأى موسى في مسيرة قائما يصلي في قبره، ثم رآه ببيت المقدس، ثم رآه في السماء السادسة هو وغيره، فعرج بهم، كما عرج بنبينا صلوات الله على الجميع وسلامه، والأنبياء أحياء عند ربهم كحياة الشهداء عند ربهم، وليست حياتهم كحياة أهل الدنيا، ولا حياة أهل الآخرة، بل لون آخر، كما ورد أن حياة الشهداء بأن جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، تسرح في الجنة وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، فهم أحياء عند ربهم بهذا الاعتبار كما أخبر سبحانه وتعالى، وأجسادهم في قبورهم. وهذه الأشياء أكبر من عقول البشر، والإيمان بها واجب كما قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] .
أخبرنا أبو الفضل أحمد بن هبة الله، قال: أخبرنا أبو روح عبد المعز بن محمد كتابة، أن تميم بن أبي سعيد الجرجاني أخبرهم، قال: أخبرنا(سيرة 1/220)
أبو سعيد محمد بن عبد الرحمن، قال: أخبرنا أبو عمرو بن حمدان، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى، قال: حدثنا هدبة بن خالد، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مررت ليلة أسري بي برائحة طيبة، فقلت: ما هذه الرائحة يا جبريل؟ قال: هذه ماشطة بنت فرعون، كانت تمشطها، فوقع المشط من يدها، فقالت: باسم الله. قالت بنت فرعون: أبي. قالت: ربي ورب أبيك. قالت: أقول له إذا. قالت: قولي له. قال لها: أولك رب غيري! قالت: ربي وربك الذي في السماء. قال: فأحمى لها بقرة من نحاس، فقالت: إن لي إليك حاجة. قال: وما هي؟ قال: أن تجمع عظامي وعظام ولدي. قال: ذلك لك علينا لما لك علينا من الحق. فألقى ولدها في البقرة، واحدا واحدا واحدا، فكان آخرهم صبي، فقال: يا أمه اصبري فإنك على الحق". قال ابن عباس: فأربعة تكلموا وهم صبيان: ابن ماشطة بنت فرعون، وصبي جريج، وعيسى ابن مريم، والرابع لا أحفظه. هذا حديث حسن.
وقال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، عن أبي بكر بن أبي سبرة وغيره، قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه أن يريه الجنة والنار، فلما كان ليلة السبت لسبع عشرة خلت من رمضان، قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم في بيته أتاه جبريل بالمعراج، فإذا هو أحسن شيء منظرا، فعرج به إلى السموات سماء سماء، فلقي فيها الأنبياء، وانتهى إلى سدرة المنتهى.(سيرة 1/221)
قال ابن سعد: وأخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أسامة بن زيد، الليثي، عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده. قال محمد بن عمر: وحدثنا موسى بن يعقوب الزمعي، عن
أبيه، عن جده، عن أم سلمة. وحدثنا موسى بن يعقوب، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة. وحدثني إسحاق بن حازم، عن وهب بن كيسان، عن أبي مرة، عن أم هانئ.
وحدثني عبد الله بن جعفر، عن زكريا بن عمرو، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، دخل حديث بعضهم في بعض، قالوا: أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول قبل الهجرة من شعب أبي طالب إلى بيت المقدس، وساق الحديث إلى أن قال: وقال بعضهم في الحديث: فتفرقت بنو عبد المطلب يطلبونه حين فقد يلتمسونه، حتى بلغ العباس ذا طوى، فجعل يصرخ: يا محمد يا محمد، فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لبيك". فقال: يابن أخي عنيت قومك منذ الليلة، فأين كنت؟ قال: "أتيت من بيت المقدس". قال: في ليلتك! قال: "نعم". قال: هل أصابك إلا خير؟ قال: "ما أصابني إلا خير".
وقالت أم هانئ: ما أسري به إلا من بيتنا: نام عندنا تلك الليلة بعد ما صلى العشاء، فلما كان قبل الفجر أنبهناه للصبح، فقام، فلما صلى الصبح قال: "يا أم هانئ جئت بيت المقدس، فصليت فيه، ثم صليت الغداة معكم". فقالت: لا تحدث الناس فيكذبونك، قال: "والله لأحدثنهم". فأخبرهم فتعجبوا، وساق الحديث.
فرق الواقدي، كما رأيت، بين الإسراء والمعراج، وجعلهما في تاريخين.(سيرة 1/222)
وقال عبد الوهاب بن عطاء: أخبرنا راشد أبو محمد الحماني، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له أصحابه: يا رسول الله أخبرنا عن ليلة أسري بك فيها، فقرأ أول {سُبْحَانَ} وقال: "بينا أنا نائم عشاء في المسجد الحرام، إذ أتاني آت فأيقظني، فاستيقظت، فلم أر شيئا، ثم عدت في النوم، ثم أيقظني، فاستيقظت، فلم أر شيئا، ثم نمت، فأيقظني، فاستيقظت، فلم أر شيئا، فإذا أنا بهيئة خيال فأتبعته بصري، حتى خرجت من المسجد، فإذا أنا بدابة أدنى شبهه بدوابكم هذه بغالكم، مضطرب الأذنين، يقال له البراق، وكانت الأنبياء تركبه قبلي، يقع حافره مد بصره، فركبته، فبينا أنا أسير عليه إذ دعاني داع عن يميني: يا محمد انظرني أسألك. فلم أجبه، فسرت، ثم دعاني داع عن يساري: يا محمد انظرني أسألك. فلم أجبه، ثم إذا أنا بامرأة حاسرة عن ذراعيها، وعليها من كل زينة، فقالت: يا محمد انظرني أسألك. فلم ألتفت إليها، حتى أتيت بيت المقدس، فأوثقت دابتي بالحلقة، فأتاني جبريل بإناءين: خمر ولبن، فشربت اللبن، فقال: أصبت الفطرة. فحدثت جبريل عن الداعي الذي عن يميني، قال: ذاك داعي اليهود، لو أجبته لتهودت أمتك، والآخر داعي النصارى، لو أجبته لتنصرت أمتك، وتلك المرأة الدنيا، لو أجبتها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة. ثم دخلت أنا وجبريل بيت المقدس، فصلينا
ركعتين، ثم أتيت بالمعراج الذي تعرج عليه أرواح بني آدم، فلم تر الخلائق أحسن من المعراج، أما رأيتم الميت حيث يشق بصره طامحا إلى السماء، فإنما يفعل ذلك عجبه به، فصعدت أنا وجبريل، فإذا أنا بملك يقال له إسماعيل، وهو صاحب سماء الدنيا، وبين يديه سبعون ألف ملك، مع كل ملك جنده مائة ألف ملك، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوْ} [المدثر: 31] ، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال:(سيرة 1/223)
جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: أو قد بعث إليه؟ قال: نعم. فإذا أنا بآدم كهيئته يوم خلقه الله على صورته، تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول: روح طيبة ونفس طيبة اجعلوها في عليين، ثم تعرض عليه أرواح ذريته من الفجار، فيقول: روح خبيثة ونفس خبيثة، اجعلوها في سجين.
ثم مضيت هنيهة، فإذا أنا بأخونة - يعني بالخوان المائدة- عليها لحم مشرح، ليس يقربها أحد، وإذا أنا بأخونة أخرى، عليها لحم قد أروح، ونتن، وعندها أناس يأكلون منها: قلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء من أمتك يتركون الحلال ويأتون الحرام. قال: ثم مضيت هنيهة، فإذا أنا بأقوام بطونهم أمثال البيوت، كلما نهض أحدهم خر يقول: اللهم لا تقم الساعة، وهم على سابلة آل فرعون، فتجيء السابلة فتطؤهم، فسمتهم يضجون إلى الله، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء من أمتك الذين يأكلون الربا. ثم مضيت هنيهة، فإذا أنا بأقوام مشافرهم كمشافر الإبل، فتفتح أفواههم ويلقمون الجمر، ثم يخرج من أسافلهم فيضجون، قلت: من هؤلاء؟ قال: الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما. ثم مضيت هنيهة، فإذا أنا بنساء يعلقن بثديهن، فسمعتهن يضججن إلى الله، قلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: الزناة من أمتك. ثم مضيت هنيهة، فإذا أنا بأقوام يقطع من جنوبهم اللحم، فيلقمون، فيقال له: كل ما كنت تأكل من لحم أخيك، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الهمازون من أمتك اللمازون. ثم صعدت إلى السماء الثانية فإذا أنا برجل أحسن ما خلق الله، قد فضل على الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب، قلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا أخوك يوسف، ومعه نفر من قومه. فسلمت عليه وسلم علي، ثم صعدت إلى السماء الثالثة، فإذا أنا بيحيى وعيسى ومعهما نفر من قومهما. ثم صعدت إلى الرابعة، فإذا أنا بإدريس، ثم صعدت إلى(سيرة 1/224)
السماء الخامسة، فإذا أنا بهارون ونصف لحيته بيضاء ونصفها سوداء، تكاد لحيته تصيب سرته من طولها، قلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا المحبب في قومه، هذا هارون بن عمران، ومعه نفر من قومه. فسلمت عليه، ثم صعدت إلى السماء السادسة، فإذا أنا بموسى رجل آدم كثير الشعر، لو كان عليه قميصان لنفذ شعره دون القميص، وإذا هو يقول: يزعم الناس أني أكرم على الله من هذا، بل هذا أكرم على الله مني. قلت: من هذا؟ قال: موسى
ثم صعدت السابعة، فإذا أنا بإبراهيم، ساند ظهره إلى البيت المعمور، فدخلته ودخل معي طائفة من أمتي، عليهم ثياب بيض، ثم دفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا كل ورقة منها تكاد أن تغطي هذه الأمة، وإذا فيها عين تجري، يقال لها سلسبيل، فيشق منها نهران، أحدهما الكوثر والآخر نهر الرحمة، فاغتسلت فيه، فغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، ثم إني دفعت إلى الجنة، فاستقبلتني جارية، فقلت: لمن أنت؟ قالت: لزيد بن حارثة. ثم عرضت علي النار، ثم أغلقت، ثم إني دفعت إلى سدرة المنتهى فتغشى لي، وكان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى، قال: ونزل على كل ورقة ملك من الملائكة، وفرضت علي الصلاة خمسين، ثم دفعت إلى موسى" -فذكر مراجعته في التخفيف. أنا اختصرت ذلك وغيره إلى أن قال- فقلت: "رجعت إلى ربي حتى استحييته".
ثم أصبح بمكة يخبرهم بالعجائب، فقال: إني أتيت البارحة بيت المقدس، وعرج بي إلى السماء، ورأيت كذا، ورأيت كذا، فقال أبو جهل: ألا تعجبون مما يقول محمد، وذكر الحديث.
هذا حديث غريب عجيب حذفت نحو النصف منه، رواه يحيى بن أبي طالب، عن عبد الوهاب، وهو صدوق، عن راشد الحماني، وهو مشهور، روى عنه حماد بن زيد، وابن المبارك، وقال أبو(سيرة 1/225)
حاتم: صالح الحديث، عن أبي هارون عمارة بن جوين العبدي، وهو ضعيف شيعي. وقد رواه عن أبي هارون أيضا هشيم، ونوح بن قيس الحداني بطوله نحوه، حدث به عنهما قتيبة بن سعيد. ورواه سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن روح بن القاسم، عن أبي هارون العبدي بطوله. ورواه أسد بن موسى، عن مبارك بن فضالة. ورواه عبد الرزاق، عن معمر. والحسن بن عرفة، عن عمار بن محمد، كلهم عن أبي هارون، وبسياق مثل هذا الحديث صار أبو هارون متروكا.
عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء: 60] ، قال: رأي عين.
ابن أبي الزناد، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: أسري بروح رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نائم على فراشه.
معمر عن قتادة عن الحسن، قال: أسري بروح رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نائم على فراشه.
وقال إبراهيم بن حمزة الزبيري: حدثنا حاتم بن إسماعيل، قال: حدثني عيسى بن ماهان، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي هريرة. "ح". وقال هاشم بن القاسم،
ويونس بن بكير، وحجاج الأعور: حدثنا أبو جعفر الرازي، وهو عيسى بن ماهان، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي هريرة أو غيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] ، قال: أتي بفرس فحمل عليه، خطوه منتهى بصره، فسار وسار معه جبريل، فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء المهاجرون في سبيل الله، تضاعف لهم الحسنة بسبع مائة ضعف {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39] ، ثم أتى على قوم ترضخ رءوسهم بالصخر، كلما رضخت عادت! قال: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل رءوسهم عن الصلاة. ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع، وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الأنعام عن الضريع والزقوم، ورضف جهنم، قال: يا جبريل ما هؤلاء؟ قال: الذين لا يؤدون الزكاة. ثم أتى على خشبة على الطريق لا يمر بها شيء إلا قصعته، يقول الله تعالى: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} [الأعراف: 86] ، ثم مر على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها، وهو يريد أن يزيد عليها، قال: يا جبريل ما هذا؟ قال: هذا رجل من أمتك عليه أمانة، لا يستطيع أداءها، وهو يزيد عليها. ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد، كلما قرضت عادت كما كانت. قال: يا جبريل من(سيرة 1/226)
هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء الفتنة.
ثم نعت الجنة والنار، إلى أن قال: ثم سار حتى أتى بيت المقدس، فدخل وصلى، ثم أتى أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم.
وذكر حديثا طويلا في ثلاث ورقات كبار. تفرد به أبو جعفر الرازي، وليس هو بالقوي، والحديث منكر يشبه كلام القصاص، إنما أوردته للمعرفة لا للحجة.
وروى في المعراج إسحاق بن بشير، وليس بثقة، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس حديثا.
وقال معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: فرضت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ركعتين ركعتين، فلما خرج إلى المدينة(سيرة 1/227)
فرضت أربعا، وأقرت صلاة السفر ركعتين أخرجه البخاري. آخر الإسراء.(سيرة 1/228)
زواجه صلى الله عليه وسلم بعائشة وسودة أمي المؤمنين:
قال هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم متوفى خديجة، قبل الهجرة، وأنا ابنة ست، وأدخلت عليه وأنا ابنة تسع سنين جاءني نسوة وأنا ألعب على أرجوحة، وأنا مجممة، فهيأنني وصنعنني، ثم أتين بي إليه. قال عروة: ومكثت عنده تسع سنين. وهذا حديث صحيح.
وقال أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، قال: توفيت خديجة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بثلاث سنين، فلبث سنتين أو قريبا من ذلك، ونكح عائشة وهي بنت ست سنين، ثم بنى بها وهي ابنة تسع. أخرجه البخاري هكذا مرسلا.
وقال هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيتك في المنام مرتين، أرى أن رجلا يحملك في سرقة حرير فيقول: هذه امرأتك، فأكشف فأراك فأقول: إن كان هذا من عند الله يمضه". متفق عليه.
وقال عبد الله بن إدريس، عن محمد بن عمرو، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، قال: قالت عائشة رضي الله عنها: لما ماتت خديجة جاءت خولة بنت حكيم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ألا تزوج؟(سيرة 1/229)
قال: "ومن"؟ قالت: إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا. قال: "من البكر ومن الثيب"؟ فقالت: أما البكر فعائشة ابنة أحب خلق الله إليك. وأما الثيب فسودة بنت زمعة، قد آمنت بك واتبعتك. قال: "اذكريهما علي". قالت: فأتيت أم رومان فقلت: يا أم رومان ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة! قالت: ماذا؟ قالت: رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر عائشة. قالت: انتظري فإن أبا بكر آت. فجاء أبو بكر فذكرت ذلك له. فقال: أوتصلح له وهي ابنة أخيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أخوه وهو أخي وابنته تصلح لي". قالت: وقام أبو بكر، فقالت لي أم رومان: إن المطعم بن عدي قد كان ذكرها على ابنه، ووالله ما أخلف وعدا قط، تعني أبا بكر. قالت: فأتى أبو بكر المطعم فقال: ما تقول في أمر هذه الجارية. قالت:
فأقبل على امرأته فقال لها: ما تقولين؟ فأقبلت على أبي بكر فقالت: لعلنا إن أنكحنا هذا الفتى إليك تصبئه وتدخله في دينك. فأقبل عليه أبو بكر فقال: ما تقول أنت؟ فقال: إنها لتقول ما تسمع. فقام أبو بكر وليس في نفسه من الموعد شيء، فقال لها: قولي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فليأت. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فملكها، قالت: ثم انطلقت إلى سودة بنت زمعة، وأبوها شيخ كبير قد جلس عن الموسم فحييته بتحية أهل الجاهلية وقلت: أنعم صباحا. قال: من أنت؟ قلت: خولة بنت حكيم. فرحب بي وقال ما شاء الله أن يقول، قلت: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يذكر سودة بنت زمعة. قال: كفؤ كريم، ماذا تقول صاحبتك؟ قلت: تحب ذلك. قال: قولي له فليأت. قالت فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فملكها. قالت: وقدم عبد بن زمعة فجعل يحثو على رأسه التراب، فقال بعد أن أسلم: إني لسفيه يوم أحثو على رأسي التراب أن تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة. إسناده حسن.(سيرة 1/230)
عرض نفسه صلى الله عليه وسلم على القبائل:
قال إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول: "هل من رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي" أخرجه أبو داود عن محمد بن كثير، عن إسرائيل، وهو على شرط البخاري.
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنين يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم، ويكلم كل شريف قوم، لا يسألهم مع ذلك إلا أن يؤوه ويمنعوه، ويقول: لا أكره أحدا منكم على شيء، من رضي منكم بالذي أدعوه إليه فذاك، ومن كره لم أكرهه، إنما أريد أن تحرزوني مما يراد بي من الفتك، حتى أبلغ رسالات ربي، وحتى يقضي الله لي ولمن صحبني بما شاء. فلم يقبله أحد ويقولون: قومه أعلم به، أترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه، ولفظوه، فكان ذلك مما ذخر الله للأنصار.
وتوفي أبو طالب، وابتلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد ما كان، فعمد لثقيف بالطائف، رجاء أن يؤوه، فوجد ثلاثة نفر منهم، هم سادة ثقيف: عبد ياليل، وحبيب، ومسعود بنو عمرو، فعرض عليهم نفسه، وشكا إليهم البلاء، وما انتهك منه قومه. فقال أحدهم: أنا أسرق أستار الكعبة إن كان الله بعثك قط. وقال الآخر: أعجز على الله أن يرسل غيرك. وقال الآخر: والله لا أكلمك بعد مجلسك هذا، والله لئن كنت رسول الله(سيرة 1/231)
لأنت أعظم شرفا وحقا من أن أكلمك، ولئن كنت تكذب على الله، لأنت أشر من أكلمك. وتهزؤوا به، وأفشوا في قومهم الذي راجعوه به، وقعدوا له صفين على طريقه، فلما مر جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة، ودموا رجليه، فخلص منهم وهما تسيلان الدماء، فعمد إلى حائط من حوائطهم، واستظل في ظل سمرة حبلة منه، وهو مكروب موجع، فإذا في الحائط عتبة بن ربيعة، وشيبة أخوه، فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عدواتهما، فلما رأياه أرسلا إليه غلاما لهما يدعى عداسا، وهو نصراني من أهل نينوى، معه عنب، فلما جاء عداس، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أي أرض أنت يا عداس"؟ قال: من أهل نينوى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى"؟ فقال: وما يدريك من يونس بن متى؟ قال: "أنا رسول الله، والله أخبرني خبر يونس" فلما أخبره خر عداس ساجدا
لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يقبل قدميه وهما تسيلان الدماء، فلما أبصر عتبة، وشيبة ما يصنع غلامهما سكتا، فلما أتاهما قالا: ما شأنك سجدت لمحمد وقبلت قدميه؟ قال: هذا رجل صالح، أخبرني بشيء عرفته من شأن رسول بعثه الله إلينا يدعى يونس بن متى، فضحكا به، وقالا: لا يفتنك عن نصرانيتك، فإنه رجل خداع. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة.
وقال يونس بن يزيد، عن الزهري: أخبرني عروة، أن عائشة حدثته، أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم أشد عليك من يوم أحد؟ قال: "ما لقيت من قومك كان أشد منه، يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا هو جبريل،(سيرة 1/232)
فناداني: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. ثم ناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قومك، وأنا ملك الجبال، قد بعثني إليك ربك لتأمرني بما شئت، إن شئت يطبق عليهم الأخشبين". فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل أرجو أن يخرج الله من أسرارهم -أو قال: من أصلابهم- من يعبد الله لا يشرك به شيئا". أخرجاه.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي قال: لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، عمد إلى نفر من ثقيف، وهم يومئذ سادتهم، وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل بن عمر، وأخواه مسعود، وحبيب، وعند أحدهم امرأة من قريش من جمح، فجلس إليهم ودعاهم إلى الله، فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك، وقال الآخر: أما وجد الله من يرسله غيرك؟ وقال الآخر: والله لا أكلمك.
وذكره كما في حديث ابن شهاب، وفيه زياد وهي: فلما اطمأن صلى الله عليه وسلم قال فيما ذكر لي: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور
وجهك الكريم الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك، لك العتبى حتى(سيرة 1/233)
ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك".
وحدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، قال: سمعت ربيعة بن عباد يحدث أبي، قال: إني لغلام شاب مع أبي بمنى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على القبائل من العرب، يقول: "يا بني فلان إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوه لا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه، وأن تؤمنوا وتصدقوني وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به". قال: وخلفه رجل أحول وضيء، له غديرتان، عليه حلة عدنية، فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله قال: يا بني فلان إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الحي من بني مالك بن أقيش، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه. فقلت لأبي: من هذا؟ قال: هذا عمه عبد العزى أبو لهب.
وحدثني ابن شهاب أنه صلى الله عليه وسلم أتى كندة في منازلهم، وفيهم سيد لهم يقال له مليح، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فأبوا عليه.
وحدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حصين، أنه أتى كلبا في منازلهم، إلى
بطن منهم يقال له: بنو عبد الله، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، حتى إنه ليقول: يا بني عبد الله إن الله قد أحسن اسم أبيكم، فدعاهم إلى الله فلم يقبلوا.
وحدثني بعض أصحابنا أنه أتى بني حنيفة في منازلهم، ودعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فلم يكن أحد من العرب أقبح ردا منهم.(سيرة 1/234)
وحدثني الزهري أنه أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقال رجل منهم يقال له بحيرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: "الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء". قال: أفنهدف نحورنا للعرب دونك؟ فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك فأبوا عليه.
وقال يونس بن بكير، عن إسحاق: حدثني عاصم بن عمرو بن قتادة، عن أشياخ من قومه، قالوا: قدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا، وكان سويد يسميه قومه فيهم "الكامل" لسنه وجلده وشعره، فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاه إلى الله، فقال سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما الذي معك"؟ قال: مجلة لقمان، يعني: حكمة لقمان، قال: "اعرضها". فعرضها عليه، فقال: "إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل منه، قرآن أنزله الله علي". فتلا عليه القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه، وقال: إن هذا لقول حسن. ثم انصرف فقدم المدينة على قومها، فلم يلبث أن قتلته الخزرج، فكان رجال من قومه يقولون: إنا لنرى أنه قتل وهو مسلم، وكان قتله يوم بعاث.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق، قال: وسويد الذي يقول:
ألا رب من تدعو صديقا ولو ترى ... مقالته بالغيب ساءك ما يفرى
مقالته كالشهد ما كان شاهدا ... وبالغيب مأثور على ثغرة النحر
يسرك باديه وتحت أديمه ... تميمة غش تبترى عقب الظهر(سيرة 1/235)
تبين لك العينان ما هو كاتم ... من الغل والبغضاء بالنظر الشزر
فرشني بخير طالما قد بريتني ... وخير الموالي من يريش ولا يبري(سيرة 1/236)
حديث يوم بعاث:
قال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني الحصين بن عبد الرحمن بن سعد بن معاذ، عن محمود بن لبيد، قال: لما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل، فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فقال لهم: "هل لكم إلى خير مما جئتم له"؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: "أنا رسول الله بعثني الله إلى العباد". ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فقال إياس، وكان غلاما حدثا: يا قوم هذا والله خير مما جئتم له. فيأخذ أبو الحيسر حفنة من الحصباء، فضرب بها وجه إياس، وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا. فسكت، وقام النبي صلى الله عليه وسلم عنهم وانصرفوا إلى المدينة، وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك. قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضره من قومي أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات، وكانوا لا يشكون أنه مات مسلما. وقد كان استشعر من الإسلام في ذلك المجلس، حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع.(سيرة 1/237)
وقال هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد افترق ملؤهم وقتلت سرواتهم -يعني: وجرحوا- قدمه الله لرسوله في دخولهم في الإسلام. أخرجه البخاري.(سيرة 1/238)
ذكر مبدأ خبر الأنصار والعقبة الأولى:
قال أحمد بن المقدام العجلي: حدثنا هشام بن محمد الكلبي، قال: حدثنا عبد الحميد بن أبي عيسى بن خير، عن أبيه، قال: سمعت قريش قائلا يقول في الليل على أبي قبيس:
فإن يسلم السعدان يصبح محمد ... بمكة لا يخشى خلاف المخالف
فلما أصبحوا قال أبو سفيان: من السعدان؟ سعد بن بكر، سعد تميم؟ فلما كان في الليلة الثانية سمعوا الهاتف يقول:
أيا سعد الأوس كن أنت ناصرا ... ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف
أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا ... على الله في الفردوس منية عارف
فإن ثواب الله للطالب الهدى ... جنان من الفردوس ذات رفارف
فقال أبو سفيان: هو والله سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: لما أراد الله إظهار دينه، وإعزاز نبيه، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقيه فيه الأنصار، فعرض نفسه على القبائل، كما كان يصنع، فبينا هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج، فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن أشياخ من قومه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لقيهم قال: "من أنتم"؟ قالوا: نفر من الخزرج. قال: "أمن موالي يهود"؟ قالوا: نعم. قال: "أفلا تجلسون أكلمكم"؟ قالوا: بلى. فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم(سيرة 1/239)
الإسلام، وتلا عليهم القرآن، وكان مما صنع الله به في الإسلام أن يهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا أهل شرك وأوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا: إن نبيا مبعوث الآن، قد أظل زمانه، نتبعه، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلموا والله إنه للنبي الذي تواعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه. فأجابوه وأسلموا، وقالوا: إنا تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك, ونعرض عليهم الذي أجبناك به، إن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا.
قال ابن إسحاق: وهم فيما ذكر ستة من الخزرج: أسعد بن زرارة، وعوف بن عفراء، ورافع بن مالك الزرقي، وقطبة بن عامر السلمي، وعقبة بن عامر. رواه جرير بن حازم عن
ابن إسحاق، فقال بدل عقبة: معوذ بن عفراء، وجابر بن عبد الله أحد بني عدي بن غنم.
فلما قدموا المدينة ذكروا لقومهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوهم إلى الإسلام، وفشا فيهم ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان العام المقبل، وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة، وهي "العقبة الأولى"، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب، وهم أسعد بن زرارة، وعوف، ومعوذ ابنا الحارث وهما ابن عفراء، وذكوان بن عبد قيس، ورافع بن مالك، وعبادة بن الصامت، ويزيد بن ثعلبة البلوي، وعباس بن عبادة بن نضلة، وقطبة بن عامر، وعقبة بن عامر، وهم من الخزرج، وأبو الهيثم ابن التيهان، وعويم بن ساعدة، وهما من الأوس.(سيرة 1/240)
وقال يونس وجماعة، عن ابن إسحاق: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن أبي عبد الله الصنابحي عبد الرحمن بن عسيلة، قال: حدثني عبادة بن الصامت، قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الأولى، ونحن اثنا عشر رجلا، فبايعناه بيعة النساء على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، وذلك قبل أن تفترض الحرب، فإن وفيتم بذلك فلكم الجنة، وإن غشيتم شيئا فأمركم إلى الله، إن شاء غفر، وإن شاء عذب.
أخرجاه عن قتيبة، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب. أخبرنا الخضر بن عبد الرحمن، وإسماعيل بن أبي عمرو، قالا: أخبرنا الحسن بن علي بن الحسين بن الحسن بن البن، قال: أخبرنا جدي أبو القاسم الحسين، قال: أخبرنا أبو القاسم علي بن محمد بن علي بن أبي العلاء سنة تسع وسبعين وأربعمائة، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن عثمان المعدل، قال: أخبرنا علي بن يعقوب، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم القرشي، قال: أخبرنا محمد بن عائذ، قال: أخبرني إسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن عبادة بن الصامت، قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول في الله عز وجل، لا تأخذنا فيه لومة لائم، وعلى أن ننصره إذا قدم علينا يثرب، فنمنعه مما نمنع أنفسنا وأزواجنا، ولنا الجنة. رواه زهير بن معاوية، عن ابن خثيم، عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، أن عبادة قال نحوه.(سيرة 1/241)
خالفه داود بن عبد الرحمن العطار ويحيى بن سليم، فرويا عن ابن خثيم هذا المتن بإسناد آخر، وهو عن أبي الزبير عن جابر. وسيأتي.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: فلما انصرف القوم, بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن
عمير العبدري يقرئهم ويفقههم في الدين، فنزل على أسعد بن زرارة، فحدثني عاصم ابن عمر أنه كان يصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض.
قال ابن إسحاق: وكان يسمى مصعب بالمدينة المقرئ.
وحدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال: كنت قائد أبي حين ذهب بصره، فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة، فسمع الأذان صلى على أبي أمامة أسعد بن زرارة، واستغفر، فقلت: يا أبه مالك إذا سمعت الأذان للجمعة صليت على أبي أمامة! قال: أي بني، كان أول من جمع بنا بالمدينة في هزم من حرة بني بياضة يقال له نقيع الخضمات. قلت: وكم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلا.
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، قال: فلما حضر الموسم حج نفر من الأنصار، منهم معاذ بن عفراء، وأسعد بن زرارة، ورافع بن مالك، وذكوان، وعبادة بن الصامت، وأبو عبد الرحمن بن تغلب، وأبو الهيثم بن التيهان، وعويم بن ساعدة، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرهم خبره، وقرأ عليهم القرآن، فأيقنوا به واطمأنوا، وعرفوا ما كانوا يسمعون من أهل الكتاب، فصدقوه، ثم قالوا: قد علمت الذي كان بين الأوس والخزرج من سفك الدماء، ونحن حراص على ما أرشدك الله(سيرة 1/242)
به، مجتهدون لك بالنصيحة, وإنا نشير عليك برأينا، فامكث على اسم الله حتى نرجع إلى قومنا فنذكر لهم شأنك, وندعوهم إلى الله، فلعل الله يصلح ذات بينهم، ويجمع لهم أمرهم فنواعدك الموسم من قابل. فرضي بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجعوا إلى قومهم فدعوهم سرا وتلوا عليهم القرآن، حتى قل دار من الأنصار إلا قد أسلم فيها ناس، ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن عفراء، ورافع بن مالك أن ابعث إلينا رجلا من قبلك يفقهنا. فبعث مصعب بن عمير، فنزل في بني تميم على أسعد يدعو الناس سرا، ويفشو فيهم الإسلام ويكثر، ثم أقبل مصعب وأسعد، فجلسا عند بئر بني مرق، وبعثا إلى رهط من الأنصار، فأتوهما مستخفين، فأخبر بذلك سعد بن معاذ -ويقول بعض الناس: بل أسيد بن حضير -فأتاهم في لأمته معه الرمح، حتى وقف عليهم، فقال لأبي أمامة أسعد: علام أتيتنا في دورنا بهذا الوحيد الغريب الطريد، يسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم إليه، لا أراك بعدها تسيء من جوارنا. فقاموا، ثم إنهم عادوا مرة أخرى لبئر بني مرق، أو قريبا منها، فذكروا لسعد بن معاذ الثانية فجاءهم، فتواعدهم وعيدا دون وعيده الأول، فقال له أسعد: يابن خالة، اسمع من قوله، فإن سمعت حقا فأجب إليه، وإن سمعت منكرا فاردده بأهدى منه، فقال: ماذا يقول؟ فقرأ عليه مصعب: {حم، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا
عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 1-3] ، فقال سعد: ما أسمع إلا ما أعرفه. فرجع سعد وقد هداه الله، ولم يظهر لهما إسلامه، حتى رجع إلى قومه فدعا بني عبد الأشهل إلى الإسلام، وأظهر لهم إسلامه وقال: من شك منكم فيه فليأت بأهدى منه، فوالله لقد جاء أمر لتحزَّنَّ منه الرقاب. فأسلمت بنو عبد الأشهل عند إسلام سعد بن معاذ، إلا من لا يذكر.
ثم إن بني النجار أخرجوا مصعب بن عمير، واشتدوا على أسعد،(سيرة 1/243)
فانتقل مصعب إلى سعد بن معاذ يدعو آمنا ويهدي الله به. وأسلم عمرو بن الجموح، وكسرت أصنامهم، وكان المسلمون أعز من بالمدينة، وكان مصعب أول من جمع الجمعة بالمدينة، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. هكذا قال ابن شهاب: إن مصعبا أول من جمع بالمدينة.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن المغيرة بن معيقيب، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم، أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير، يريد به دار بني عبد الأشهل، ودار بني ظفر، وكان سعد بن معاذ ابن خالة أسعد بن زرارة، فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر، وقالا: على بئر مرق، فاجتمع إليهما ناس، وكان سعد وأسيد بن حضير سيدي بني عبد الأشهل، فلما سمعا به قال سعد لأسيد: انطلق إلى هذين فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارينا، فلولا، أسعد بن زرارة ابن خالتي كفيتك ذلك. فأخذ أسيد حربته، ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد قال: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه. قال مصعب: إن يجلس أكلمه. قال: فوقف عليهما، فقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا، اعتزلانا إن كان لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره. قال: أنصف. ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا فيما بلغنا: والله لعرفنا في وجه الإسلام، قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا: تغتسل وتطهر وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي. فقام فاغتسل وأسلم وركع ركعتين ثم قال لهما: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه من(سيرة 1/244)
قومه أحد، وسأرسله إليكما. ثم انصرف إلى سعد بن معاذ وقومه، وهم جلوس في ناديهم، فلما رآه سعد مقبلا قال: أقسم بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ولى به، ثم قال له: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين، فما رأيت بهما بأسا، وقد تهيبتهما فقالا: لا نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك. فقام سعد مغضبا مبادرا متخوفا، فأخذ الحربة، وقال: والله ما أراك أغنيت عنا شيئا. ثم خرج إليهما، فلما رآهما سعد مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد منه أن يسمع منهما،
فوقف عليهما متبسما. ثم قال لأسعد: يا أبا أمامة، والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت مني هذا، أتغشانا في دارينا بما نكره! وقد قال أسعد لمصعب: أي مصعب جاءك والله سيد من وراءه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان. فقال: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهت عزلنا عنك ما تكره. قال: أنصفت. فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، فعرفنا في وجهه، والله، الإسلام قبل أن يتكلم به، لإشراقه وتسهله. ثم فعل كما عمل أسيد، وأسلم، وأخذ حربته، وأقبل عامدا إلى نادي قومه، ومعه أسيد, فلما رآه قومه، قالوا: نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعرفون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة. قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا. فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما ومسلمة، ورجع مصعب وأسعد إلى منزلهما، ولم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء ومسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد، وخطمة، ووائل، وواقف، وتلك أوس الله وهم من الأوس بن(سيرة 1/245)
حارثة، وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت، وهو صيفي، وكان شاعرا لهم وقائدا، يستمعون منه ويطيعونه فوقف بهم عن الإسلام، فلم يزل على ذلك حتى مضت أحد والخندق.(سيرة 1/246)
العقبة الثانية:
قال يحيى بن سليم الطائفي، وداود العطار, وهذا لفظه: حدثنا ابن خثيم، عن أبي الزبير المكي، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث عشر سنين يتبع الحاج في منازلهم في المواسم: مجنة وعكاظ، ومنى، يقول: "من يؤويني وينصرني حتى أبلغ رسالات ربي وله الجنة"؟ فلا يجد، حتى إن الرجل يرحل صاحبه من مضر أو اليمن، فيأتيه قومه أو ذو رحمه يقول: احذر فتى قريش لا يفتنك، يمشي بين رحالهم يدعوهم إلى الله عز وجل، يشيرون إليه بأصابعهم، حتى بعثنا الله له من يثرب، فيأتيه الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من يثرب إلا وفيها رهط يظهرون الإسلام. ثم ائتمرنا واجتمعنا سبعين رجلا منا، فقلنا: حتى متى نذر رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف في جبال مكة ويخاف. فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم، فواعدنا شعب العقبة، فاجتمعنا فيه من رجل ورجلين، حتى توافينا عنده، فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟ قال: "على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله، لا تأخذكم فيه لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب، تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة". فقمنا نبايعه، فأخذ بيده أسعد بن زرارة، وهو أصغر السبعين،(سيرة 1/247)
إلا أنا، فقال: رويدا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، إن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على عض السيوف إذا مستكم، وعلى قتل خياركم، وعلى مفارقة العرب كافة، فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة، فذروه فهو أعذر لكم عند الله عز وجل. قلنا: أمط يدك يا أسعد، فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها، فقمنا إليه نبايعه رجلا رجلا، يأخذ علينا شرطه، ويعطينا على ذلك الجنة.
زاد في وسطه يحيى بن سليم: فقال له عمه العباس: يابن أخي لا أدري ما هذا القوم الذين جاءوك، إني ذو معرفة بأهل يثرب. قال: فاجتمعا عنده من رجل ورجلين، فلما نظر العباس في وجوهنا، قال: هؤلاء قوم لا أعرفهم أحداث، فقلنا: علام نبايعك.
وقال أبو نعيم: حدثنا زكريا، عن الشعبي، قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم معه عمه العباس، إلى السبعين من الأنصار، عند العقبة تحت الشجرة، قال: ليتكلم متكلمكم ولا يطيل الخطبة، فإن عليكم من المشركين عينا. فقال أسعد: سل يا محمد لربك ما شئت، ثم سل لنفسك، ثم
أخبرنا ما لنا على الله. قال: "أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأسألكم لنفسي ولأصحابي أن تؤونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم". قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: "لكم الجنة". قالوا: فلك ذلك.
وقال أبو نعيم: حدثنا زكريا، عن الشعبي، قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم معه عمه العباس، إلى السبعين من الأنصار، عند العقبة تحت الشجرة، قال: ليتكلم متكلمكم ولا يطيل الخطبة، فإن عليكم من المشركين عينا. فقال أسعد: سل يا محمد لربك ما شئت، ثم سل لنفسك، ثم أخبرنا ما لنا على الله. قال: "أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا, وأسألكم لنفسي ولأصحابي أن تؤونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم". قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: "لكم الجنة". قالوا: فلك ذلك.
ورواه أحمد بن حنبل، عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، قال: أخبرنا مجالد، عن الشعبي، عن أبي مسعود الأنصاري بنحوه، قال:(سيرة 1/248)
وكان أبو مسعود أصغرهم سنا.
وقال ابن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر، وعبد الله بن أبي بكر، أن العباس بن عبادة بن نضلة أخا بني سالم قال: يا معشر الخزرج هل تدرون على ما تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود، فإن كنتم ترون أنها إذا أنهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتل، تركتموه وأسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم مستضلعون به وافون له، فهو والله خير الدنيا والآخرة. قال عاصم: فوالله ما قال العباس هذه المقالة إلا ليشد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بها العقد.
وقال ابن أبي بكر: ما قالها إلا ليؤخر بها أمر القوم تلك الليلة، ليشهد أمرهم عبد الله بن أبي، فيكون أقوى. قالوا: فما لنا بذلك يا رسول الله؟ قال: "الجنة". قالوا: ابسط يدك.
وبايعوه، فقال عباس بن عبادة: إن شئت لنملين عليهم غدا بأسيافنا، فقال: "لم أؤمر بذلك".
وقال الزهري -ورواه ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة- وقاله موسى بن عقبة، وهذا لفظه: إن العام المقبل حج من الأنصار سبعون رجلا، أربعون من ذوي أسنانهم وثلاثون من شبانهم، أصغرهم أبو مسعود عقبة بن عمرو، وجابر بن عبد الله، فلقوه بالعقبة، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه العباس، فلما أخبرهم بما خصه الله من النبوة والكرامة، ودعاهم إلى الإسلام وإلى البيعة أجابوه، وقالوا: اشترط علينا لربك ولنفسك ما شئت. فقال: "أشترط لربي أن لا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم". فلما طابت بذلك(سيرة 1/249)
أنفسهم من الشرط أخذ عليهم العباس المواثيق لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالوفاء، وعظم
العباس الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أن أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو بن زيد بن عدي بن النجار. وذكر الحديث بطوله.
قال عروة: فجميع من شهد العقبة من الأنصار سبعون رجلا وامرأة وقال ابن إسحاق: سبعون رجلا وامرأتان، إحداهما أم عمارة وزوجها وابناهما.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: فحدثني معبد بن كعب بن مالك بن القين، عن أخيه عبيد الله، عن أبيه كعب رضي الله عنه قال: خرجنا في الحجة التي بايعنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة مع مشركي قومنا، ومعنا البراء بن معرور كبيرنا وسيدنا، حتى إذا كنا بظاهر البيداء، قال: يا هؤلاء تعلمون أني قد رأيت رأيا، والله ما أدري توافقوني عليه أم لا؟ فقلنا: وما هو يا أبا بشر؟ قال: إني قد أردت أن أصلي إلى هذه البنية ولا أجعلها مني بظهر. فقلنا: لا والله لا تفعل، والله ما بلغنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم يصلي إلا إلى الشام. قال: فإني والله لمصل إليها. فكان إذا حضرت الصلاة توجه إلى الكعبة، وتوجهنا إلى الشام, حتى قدمنا مكة، فقال لي البراء: يابن أخي انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أسأله عما صنعت، فلقد وجدت في نفسي بخلافكم إياي. قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليبه وسلم فلقينا رجلا بالأبطح، فقلنا: هل تدلنا على محمد؟ قال: وهل تعرفانه إن رأيتماه؟ قلنا: لا والله. قال: فهل تعرفان العباس؟ فقلنا: نعم، وقد كنا نعرفه، كان يختلف إلينا بالتجارة، فقال: إذا دخلتما المسجد فانظرا العباس، فهو الرجل الذي معه. قال: فدخلنا(سيرة 1/250)
المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم والعباس ناحية المسجد جالسين، فسلمنا، ثم جلسنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تعرف هذين يا أبا الفضل؟ قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب بن مالك، فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشاعر"؟ قال: نعم. فقال له البراء: يا رسول الله إني قد كنت رأيت في سفري هذا رأيا، وقد أحببت أن أسألك عنه. قال: وما ذاك؟ قال: رأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر فصليت إليها. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد كنت على قبلة لو صبرت عليها". فرجع إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهله يقولون: قد مات عليها، ونحن أعلم به، قد رجع إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى معنا إلى الشام.
ثم واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة، أوسط أيام التشريق، ونحن سبعون رجلا للبيعة، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر، وإنه لعلى شركه، فأخذناه فقلنا: يا أبا جابر والله إنا لنرغب بك أن تموت على ما أنت عليه، فتكون لهذه النار غدا حطبا، وإن الله قد بعث رسولا يأمر بتوحيده وعبادته، وقد أسلم رجال من قومك، وقد واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيعة. فأسلم وطهر ثيابه، وحضرها معنا فكان نقيبا، فلما كانت الليلة التي وعدنا فيها رسول
الله صلى الله عليه وسلم بمنى أول الليل مع قومنا، فلما استثقل الناس من النوم تسللنا من فرشنا تسلل القطا، حتى اجتمعنا بالعقبة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمه العباس، ليس معه غيره، أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، فكان أول متكلم، فقال: يا معشر الخزرج إن محمدا منا حيث قد علمتم، وهو في منعة من قومه وبلاده، قد منعناه ممن هو على مثل رأينا منه، وقد أبى إلا الانقطاع إليكم، وإلى ما دعوتموه إليه، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما وعدتموه، فأنتم وما تحملتم، وإن كنتم تخشون من أنفسكم خذلانا فاتركوه في قومه، فإنه في منعة من عشيرته وقومه. فقلنا: قد سمعنا ما قلت، تكلم يا رسول(سيرة 1/251)
الله. فتكلم ودعا إلى الله، وتلا القرآن، ورغب في الإسلام، فأجبناه بالإيمان والتصديق له، وقلنا له: خذ لربك ولنفسك. فقال: إني أبايعكم على أن تمنعوني مما منعتم منه أبناءكم ونساءكم. فأجابه البراء بن معرور فقال: نعم والذي بعثك بالحق نمنعك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحروب وأهل الحلقة، ورثناها كابرا عن كابر. فعرض في الحديث أبو الهيثم بن التيهان، فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين أقوام حبالا، وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن الله أظهرك ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فقال: "بل الدم الدم والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أسالم من سالمتم وأحارب من حاربتم". فقال له البراء بن معرور: ابسط يدك يا رسول الله نبايعك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا". فأخرجوهم له، فكان نقيب بني النجار: أسعد بن زرارة، ونقيب بني سلمة: البراء بن معرور، وعبد الله بن عمرو بن حرام، ونقيب بني ساعدة: سعد بن عبادة، والمنذر ابن عمرو، ونقيب بني زريق: رافع بن مالك، ونقيب بني الحارث بن الخزرج: عبد الله بن رواحة، وسعد بن الربيع، ونقيب بني عوف بن الخزرج: عبادة بن الصامت -وبعضهم جعل بدل عبادة بن الصامت خارجة بن زيد- ونقيب بني عمرو بن عوف: سعد بن خيثمة، ونقيب بني عبد الأشهل -وهم من الأوس- أسيد بن حضير، وأبو الهيثم بن التيهان، قال: فأخذ البراء بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب عليها، وكان أول من بايع، وتتابع الناس فبايعوا، فصرخ الشيطان على العقبة بأنفذ -والله- صوت سمعته قط، فقال: يا أهل(سيرة 1/252)
الجباجب هل لكم من مذمم والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا أزب العقبة، هذا ابن أزيب، أما والله لأفرغن لك، ارفضوا إلى رحالكم". فقال العباس بن عبادة أخو بني سالم: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا. فقال: "إنا لم نؤمر بذلك" فرحنا إلى رحالنا فاضطجعنا، فلما أصبحنا، أقبلت جلة من قريش فيهم الحارث بن هشام، فتى شاب وعليه نعلان له جديدتان، فقالوا: يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا لتستخرجوه من بين أظهرنا، وإنه والله ما من العرب أحد أبغض
إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم. فانبعث من هناك من قومنا من المشركين يحلفون لهم بالله، ما كان من هذا من شيء، وما فعلناه. فلما تثور القوم لينطلقوا قلت كلمة كأني أشركهم في الكلام: يا أبا جابر -يريد عبد الله بن عمرو- أنت سيد من سادتنا وكهل من كهولنا، لا تستطيع أن تتخذ مثل نعلي هذا الفتى من قريش. فسمعه الحارث، فرمى بهما إليّ وقال: والله لتلبسنهما. فقال أبو جابر: مهلا أحفظت لعمر الله الرجل -يقول: أخجلته- اردد عليه نعليه. فقلت: لا والله لا أردهما، فأل صالح إني لأرجو أن أسلبه.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، قال: ثم انصرفوا عنهم فأتوا عبد الله بن أبي يعني ابن سلول فسألوه، فقال: إن هذا الأمر جسيم وما كان قومي ليتفوتوا عليّ بمثله.
فانصرفوا عنه.
وقال ابن إدريس، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر(سيرة 1/253)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: "ابعثوا منكم اثني عشر نقيبا كفلاء على قومهم، ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم". فقال أسعد بن زرارة: نعم يا رسول الله، قال: فأنت نقيب على قومك، ثم سمى النقباء كرواية معبد بن مالك.
وقال ابن وهب: حدثني مالك، قال: حدثني شيخ من الأنصار أن جبريل -عليه السلام- كان يشير للنبي صلى الله عليه وسلم إلى من يجعله نقيبا. قال مالك: كنت أعجب كيف جاء من قبيلة رجل، ومن قبيلة رجلان، حتى حدثني هذا الشيخ أن جبريل كان يشير إليهم يوم البيعة، قال مالك: وهم تسعة نقباء من الخزرج، وثلاثة من الأوس.
وقال: ابن إسحاق:
تسمية من شهد العقبة:
قلت: تركت النقباء لأنهم قد تقدموا.
فمن الأوس: سلمة بن سلامة بن وقش.
مومن بني حارثة: ظهير بن رافع، وأبو بردة بن نيار، وبهير بن الهيثم.
ومن بني عمرو بن عوف: رفاعة بن عبد المنذر -وعده ابن إسحاق نقيبا عوض أبي الهيثم بن التيهان- وعبد الله بن جبير بن النعمان أمير الرماة يوم أحد ويومئذ استشهد، ومعن بن عدي قتل يوم اليمامة، وعويم بن ساعدة.(سيرة 1/254)
فجميع من شهد العقبة من الأوس أحد عشر رجلا.
ومن الخزرج من بني النجار: أبو أيوب خالد بن زيد, ومعاذ بن عفراء وأخوه عوف، وعمارة بن حزم، وقتل يوم اليمامة.
ومن بني عمرو بن مبذول: سهل بن عتيك، بدري.
ومن بني عمرو بن النجار، وهم بنو حديلة: أوس بن ثابت، وأبو طلحة زيد بن سهل.
ومن بني مازن بن النجار: قيس بن أبي صعصعة، وعمرو بن غزية.
ومن بلحارث بن الخزرج: خارجة بن زيد، استشهد يوم أحد، وبشير بن سعد، وعبد الله بن زيد صاحب النداء، وخلاد بن سويد، استشهد يوم قريظة، وأبو مسعود عقبة بن عمرو.
ومن بني بياضة: زياد بن لبيد، وفروة بن عمرو، وخالد بن قيس.
ومن بني زريق: ذكوان بن عبد قيس، وكان خرج إلى مكة، فكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقال له: مهاجري أنصاري، واستشهد يوم أحد، وعباد بن قيس، والحارث بن قيس.
ومن بني سلمة: بشر بن البراء بن معرور ابن أحد النقباء، وسنان ابن صيفي, والطفيل ابن النعمان، واستشهد يوم الخندق، ومعقل بن المنذر، ومسعود بن يزيد, والضحاك بن حارثة، ويزيد بن حرام، وجبار بن صخر، والطفيل بن مالك.
ومن بني غنم بن سواد: سليم بن عمرو، وقطبة بن عامر، ويزيد بن(سيرة 1/255)
عامر، وأبو اليسر كعب بن عمرو، وصيفي بن سواد.
ومن بني نابي بن عمرو: ثعلبة بن غنمة، وقتل بالخندق، وأخوه عمرو، وعبس بن عامر، وعبد الله بن أنيس، وخالد بن عدي.
ومن بني حرام: جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، ومعاذ بن عمرو بن الجموح، وثابت بن الجذع، استشهد بالطائف، وعمير بن الحارث، وخديج بن سلامة, ومعاذ بن جبل.
ومن بني عوف بن الخزرج: العباس بن عبادة، استشهد يوم أحد، وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة البلوي حليف لهم، وعمرو بن الحارث.
ومن بني سالم بن غنم بن عوف: رفاعة بن عمرو، وعقبة بن وهب.
ومن بني ساعدة: النقيبان سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو الذي كان أميرا يوم بئر معونة فاستشهد.
وأما المرأتان: فأم منيع أسماء بنت عمرو بن عدي، وأم عمارة نسيبة بنت كعب، حضرت ومعها زوجها زيد بن عاصم بن كعب، وابناها حبيب وعبد الله، وحبيب هو الذي مثل به مسيلمة الكذاب وقطعه عضوا عضوا.
قال ابن إسحاق: فلما تفرق الناس عن البيعة، فتشت قريش من الغد عن الخبر والبيعة، فوجدوه حقا، فانطلقوا في طلب القوم، فأدركوا سعد بن عبادة، وهرب منذر بن عمرو، فشدوا يدي سعد إلى عنقه بنسعة، وكان ذا شعر كثير، فطفقوا يجبذونه بجمته ويصكونه ويلكزونه، إلى أن جاء مطعم بن عدي، والحارث بن أمية، وكان سعد(سيرة 1/256)
يجبرهما إذا قدما المدينة فأطلقاه من أيديهم وخليا سبيله.
قال: وكان معاذ بن عمرو بن الجموح قد شهد العقبة، وكان أبوه من سادة بني سلمة، وقد اتخذ في داره صنما من خشب يقال له مناف، فلما أسلم فتيان بني سلمة: معاذ بن جبل، وابنه معاذ بن عمرو وغيرهما، كانوا يدخلون بالليل على صنمه فيأخذونه ويطرحونه في بعض الحفر، وفيها عذر الناس، منكسا على رأسه، فإذا أصبح عمرو قال: ويلكم من عدا على إلهنا في هذه الليلة! ثم يلتمسه حتى إذا وجده غسله وطهره وطيبه، ثم قال: أما والله لو أعلم من يصنع بك هذا لأخزيته. فإذا أمسى ونام فعلوا به مثل ذلك، وفعل مرات، وفي الآخر علق عليه سيفه، ثم قال: إني والله ما أعلم من يصنع بك ما ترى، فإن كان فيك خير فامتنع، وهذا السيف معك. فلما كان الليل أخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلبا ميتا فعلقوه وربطوه به وألقوه في جب عذره، فغدا عمرو فلم يجده، فخرج يتبعه حتى وجدوه في البئر منكسا مقرونا بالكلب، فلما رآه أبصر شأنه، وكلمه من أسلم من قومه فأسلم وحسن إسلامه،
وقال:
تالله لو كنت إلها لم تكن ... أنت وكلب وسط بئر في قرن
أف لمصرعك إلا مستدن ... الآن فتشناك عن سوء الغبن
الحمد لله العلي ذي المنن ... الواهب الرزق وديان الدين
هو الذي أنقذني من قبل أن ... أكون في ظلمة قبر مرتهن(سيرة 1/257)
ذكر أول من هاجر إلى المدينة:
عقيل وغيره، وعن الزهري عن عروة، عن عائشة: قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين بمكة: "قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين". وهما الحرتان. فهاجر من هاجر قبل المدينة عند ذلك، ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين، وتجهز أبو بكر مهاجرا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي". فقال أبو بكر: وترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال: "نعم". فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين عنده ورق السمر أربعة أشهر. أخرجه البخاري.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق، قال: فلما أذن الله لنبيه في الحرب وبايعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها واللحوق بالأنصار، فخرجوا أرسالا، فكان أول من هاجر أبو سلمة بن عبد الأسد إلى المدينة، هاجر إليها قبل العقبة الكبرى بسنة، وقد كان قدم من الحبشة مكة، فآذته قريش، وبلغه أن جماعة من الأنصار قد أسلموا، فهاجر إلى المدينة.
فعن أم سلمة، قالت: لما أجمع أبو سلمة الخروج رحل لي بعيره، ثم حملني وابني عليه، ثم خرج بي يقودني. فلما رأته رجال بني المغيرة(سيرة 1/258)
قاموا إليه، فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، هذه، علام نتركك تسير بها في البلاد! فنزعوا خطام البعير من يده، فأخذوني منه، وغضب عند ذلك رهط أبي سلمة، فقالوا: والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا.
فتجاذبوا ابني سلمة حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، فانطلق زوجي إذ فرقوا بيننا، فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح، فلا أزال أبكي حتى أمسي، سنة أو قريبا منها. حتى مر بي رجل من بني عمي فرحمني، فقال: ألا تحرجون من هذه المسكينة، فرقتم بينها وبين ولدها؟ فقالوا لي: الحقي بزوجك. قالت: ورد بنو عبد الأسد إلي عند ذلك ابني. فارتحلت بعيري، ثم وضعت سلمة في حجري، وخرجت أريد زوجي بالمدينة، وما معي أحد من خلق الله، قلت: أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة العبدري، فقال: إلى أين يا ابنة أبي أمية؟ قلت: أريد زوجي بالمدينة. قال: أوما معك أحد؟ قالت: لا والله إلا الله وبني هذا. قال: والله
ما لك من مترك. فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلا من العرب، أرى أنه أكرم منه، كان أبدا إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عني حتى إذا نزلت استأخر ببعيري، فحط عنه، ثم قيده في الشجرة, ثم تنحى إلى الشجرة، فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فرحله، ثم استأخر عني وقال: اركبي، فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه، فقادني حتى ينزل بي، فلم يزل يصنع ذلك حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء، قال: زوجك في هذه القرية، ثم انصرف راجعا.
ثم كان أول من قدمها بعد أبي سلمة: عامر بن ربيعة حليف بني عدي بن كعب مع امرأته، ثم عبد الله بن جحش حليف بني أمية، مع(سيرة 1/259)
امرأته وأخيه أبي أحمد، وكان أبو أحمد ضرير البصر، وكان يمشي بمكة بغير قائد، وكان شاعرا، وكانت عنده الفرعة بنت أبي سفيان بن حرب، وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب، فنزل هؤلاء بقباء على مبشر بن عبد المنذر.
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، قال: فلما اشتدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة، فخرجوا رسلا رسلا، فخرج منهم قبل مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو سلمة وامرأته، وعامر بن ربيعة، وامرأته أم عبد الله بنت أبي حثمة، ومصعب بن عمير، وعثمان بن مظعون، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وعبد الله بن جحش، وعثمان بن الشريد، وعمار بن ياسر, ثم خرج عمر وعياش بن أبي ربيعة وجماعة، فطلب أبو جهل والحارث بن هشام عياشا، وهو أخوهم لأمهم، فقدموا المدينة فذكروا له حزن أمه، وأنها حلفت لا يظلها سقف، وكان بها برا، فرق لها وصدقهم، فلما خرجا به أوثقاه وقدما به مكة، فلم يزل بها إلى قبل الفتح.
قلت: وهو الذي كان يدعو له النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت: "اللهم أنج سلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة". الحديث.
قال ابن شهاب: وخرج عبد الرحمن بن عوف، فنزل على سعد بن الربيع، وخرج عثمان، والزبير، وطلحة بن عبيد الله، وطائفة ومكث ناس من الصحابة بمكة، حتى قدموا المدينة بعد مقدمه، منهم: سعد بن أبي وقاص، على اختلاف فيه.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني نافع، عن ابن عمر، عن أبيه عمر بن الخطاب، قال: لما اجتمعنا للهجرة اتعدت أنا وعياش بن(سيرة 1/260)
أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل، وقلنا: الميعاد بيننا التناضب من أضاة بني غفار، فمن أصبح منكم لم يأتها فقد حبس. فأصبحت عندها أنا وعياش، وحبس هشام وفتن فافتتن وقدمنا المدينة فكنا نقول: ما الله بقابل من هؤلاء توبة, قوم عرفوا الله وآمنوا به وصدقوا رسوله، ثم رجعوا عن ذلك لبلاء أصابهم في الدنيا فأنزلت: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53] ، فكتبتها بيدي كتابا، ثم بعثت بها إلى هشام، فقال هشام بن العاص: فلما قدمت عليَّ خرجت بها إلى ذي طوى أصعد فيها النظر وأصوِّبه لأفهمها، فقلت: اللهم فهمنيها، فعرفت إنما أنزلت فينا لما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا، فرجعت فجلست على بعيري، فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقتل هشام بأجنادين.
وقال عبد العزيز الدراوردي، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قدمنا من مكة فنزلنا العصبة عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة، وسالم مولى أبي حذيفة، فكان يؤمهم سالم، لأنه كان أكثرهم قرآنا.
وقال إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: أول من قدم علينا مصعب بن عمير، فقلنا له: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو مكانه وأصحابه على أثري ثم أتى بعد عمرو بن أم مكتوم الأعمى أخو بني فهر، ثم عمار بن ياسر، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وبلال، ثم أتانا عمر بن الخطاب في عشرين راكبا، ثم أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه، فلم يقدم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قرأت سورا من المفصل. أخرجه مسلم.(سيرة 1/261)
وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود, عن عروة قال: ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحج بقية ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وإن مشركي قريش أجمعوا أمرهم ومكرهم، على أن يأخذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإما أن يقتلوه أو يحبسوه أو يخرجوه، فأخبره الله بمكرهم في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 30] ، الآية, فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر تحت الليل قِبَل الغار بثور، وعمد عليٌّ فرقد على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم يواري عنه العيون.
وكذا قال موسى بن عقبة، وزاد: فباتت قريش يختلفون ويأتمرون أيهم يجثم على صاحب الفراش فيوثقه، إلى أن أصبحوا، فإذا هم بعلي -رضي الله عنه- فسألوه عن
النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرهم أنه لا علم له به، فعلموا عند ذلك أنه قد خرج فارا منهم، فركبوا في كل وجه يطلبونه.
وكذا قال ابن إسحاق، وقال: لما أيقنت قريش أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد بويع، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان بمكة من أصحابه أن يلحقوا بإخوانهم بالمدينة، توامروا فيما بينهم فقالوا: الآن، فأجمعوا في أمر محمد فوالله لكأنه قد كر عليكم بالرجال، فأثبتوه أو اقتلوه أو أخرجوه.
فاجتمعوا له في دار الندوة ليقتلوه، فلما دخلوا الدار اعترضهم الشيطان في صورة رجل جميل في بَتٍّ له فقال: أأدخل؟ قالوا: من أنت؟ قال: أنا رجل من أهل نجد، سمع بالذي اجتمعتم له، فأراد أن يحضره معكم فعسى أن لا يعدمكم منه نصح ورأي. قالوا: أجل فادخل. فلما دخل قال بعضهم لبعض: قد كان من الأمر ما قد علمتم، فأجمعوا رأيا في هذا الرجل، فقال قائل: أرى أن تحبسوه. فقال(سيرة 1/262)
النجدي: ماذا برأي، والله لئن فعلتم ليخرجن رأيه وحديثه إلى من وراءه من أصحابه، فأوشك أن ينتزعوه من أيديكم، ثم يغلبونكم على ما في أيديكم من أمركم. فقال قائل منهم: بل نخرجه فننفيه, فإذا غيب عنا وجهه وحديثه ما نبالي أين وقع؟ قال النجدي: ماذا برأي، أما رأيتم حلاوة منطقه، وحسن حديثه، وغلبته على من يلقاه، ولئن فعلتم ذلك ليدخل على قبيلة من قبائل العرب فأصفقت معه على رأيه، ثم سار بهم إليكم حتى يطأكم بهم. فقال أبو جهل: والله إن لي فيه لرأيا، ما أراكم وقعتم عليه، قالوا: وما هو؟ قال: أرى أن تأخذوا من كل قبيلة من قريش غلاما جلدا نهدا نسيبا وسيطا، ثم تعطوهم شفارا صارمة، فيضربوه ضربة رجل واحد، فإذا قتلتموه تفرق دمه في القبائل، فلم تدر عبد مناف بعد ذلك ما تصنع، ولم يقووا على حرب قومهم، وإنما غايتهم عند ذلك أن يأخذوا العقل فتدونه لهم. قال النجدي: لله در هذا الفتى، هذا الرأي وإلا فلا شيء، فتفرقوا على ذلك واجتمعوا له، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر وأمر أن لا ينام على فراشه تلك الليلة، فلم يبت موضعه، بل بيَّتَ عليا في مضجعه. رواه سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي، عن أبيه.
حدثنا ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس "ح". قال ابن إسحاق: وحدثني الكلبي عن باذان مولى أم هانئ, عن ابن عباس، فذكر معنى الحديث، وزاد فيه: وأذن الله عند ذلك بالخروج، وأنزل عليه بالمدينة "الأنفال" يذكر نعمته عليه(سيرة 1/263)
وبلاءه عنده {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ} [الأنفال: 30] .(سيرة 1/264)
سياق خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجرا:
قال عقيل: قال ابن شهاب: وأخبرني عروة أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا ويأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشيا, فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قبل أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد، لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة, قال: أين تريد يا أبا بكر؟ قال: أخرجني قومي، فأريد أن أسبح في الأرض وأعبد ربي. قال: إن مثلك لا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق, وأنا لك جار، فارجع فاعبد ربك ببلادك. وارتحل ابن الدغنة مع أبي بكر، فطاف في أشراف قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرُج مثله ولا يخرَج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق! فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة، وقالوا له: مر أبا بكر يعبد ربه في داره, فليصل وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن أبناؤنا ونساؤنا. فقال ذلك لأبي بكر، فلبث يعبد ربه ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير داره، ثم بدا لأبي بكر، فابتنى مسجدا بفناء داره وبرز، فيصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، يعجبون وينظرون إليه، وكان أبو بكر لا يكاد يملك دمعه حين يقرأ، فأفزع ذلك أشراف قريش فأرسلوا إلى ابن(سيرة 1/265)
الدغنة، فقدم عليهم، فقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره، وإنه جاوز ذلك، وابتنى مسجدا بفناء داره، وأعلن الصلاة والقراءة، وإنا قد خشينا أن يفتن أبناؤنا ونساؤنا، فأته فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد عليك جوارك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة أبا بكر فقال: قد علمت الذي عقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترد إليَّ ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له. قال أبو بكر: أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين: "قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين". وهما الحرتان، فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة وتجهز أبو بكر مهاجرا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي". قال: هل ترجو بأبي أنت ذلك؟ قال: "نعم". فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر. فبينا نحن جلوس في بيتنا في نحر الظهيرة، قيل لأبي بكر: هذا رسول الله مقبلا متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا
فيها. فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، أما والله إن جاء به في هذه الساعة إلا أمر. قالت: فجاء واستأذن، فأذن له فدخل، فقال لأبي بكر: "أخرج من عندك". قال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله. فقال: "اخرج فقد أذن لي في الخروج". قال: فخذ مني إحدى راحلتي. قال: "بالثمن". قالت عائشة: فجهزتهما أحث الجهاز، فصنعنا لهما(سيرة 1/266)
سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فأوكت به الجراب، فبذلك كانت تسمى "ذات النطاقين"، ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل يقال له ثور، فمكثا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب لقن ثقف، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح في قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا يكيدون به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة، ويريح عليهما حين تذهب ساعة من الليل، فيبيتان في رسل منحتهما حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك كل ليلة من الليالي الثلاث. واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل هاديا خريتا، قد غمس يمين حلف في آل العاص بن وائل، وهو على جاهليته، فدفعا إليه راحلتيهما ووعداه غار ثور، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ثلاث، فارتحلا، وانطلق عامر بن فهيرة والدليل الديلي، فأخذ بهما في طريق الساحل. أخرجه البخاري.
عن عمر -رضي الله عنه- قال: والله لليلة من أبي بكر ويوم خير من عمر، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هاربا من أهل مكة ليلا، فتبعه أبو بكر، فجعل يمشي مرة أمامه، ومرة خلفه يحرسه، فمشي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته حتى حفيت رجلاه، فلما رآهما أبو بكر حمله على كاهله، حتى أتى به فم الغار، وكان فيه خرق فيه حيات، فخشي أبو بكر أن يخرج منهن شيء يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقمه قدمه، فجعلن يضربنه ويلسعنه -الحيات والأفاعي- ودموعه تتحدر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {لا تَحْزَنْ(سيرة 1/267)
إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] ، وأما يومه، فلما ارتدت العرب قلت: يا خليفة رسول الله تألف الناس وارفق بهم، فقال: جبار في الجاهلية خوار في الإسلام، بم أتألفهم أبشعر مفتعل أم بقول مفترى! وذكر الحديث.
وهو منكر، سكت عنه البيهقي، وساقه من حديث يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن إبراهيم الراسبي، قال: حدثني فرات بن السائب، عن ميمون، عن ضبة بن محصن، عن عمر. وآفته من هذا الراسبي فإنه ليس بثقة، مع كونه مجهولا، ذكره الخطيب في تاريخه فغمزه.
وقال الأسود بن عامر: حدثنا إسرائيل، عن الأسود، عن جندب، قال: كان أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، فأصاب يده حجر فقال:
إن أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
الأسود: هو ابن قيس، سمع من جندب البجلي، واحتجا به في الصحيحين.
وقال همام: حدثنا ثابت، عن أنس أن أبا بكر حدثه، قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم ينظر إلى تحت قدميه لأبصرنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما". متفق عليه.
وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة أنهم ركبوا في كل وجه يطلبون النبي صلى الله عليه وسلم، وبعثوا إلى أهل المياه يأمرونهم به، ويجعلون لهم الجعل العظيم إلى أن قال: فأجاز بهما الدليل أسفل مكة، ثم مضى بهما(سيرة 1/268)
حتى جاء الساحل أسفل من عسفان ثم سلك في أمج، ثم أجاز بهما حتى عارض الطريق بعد أن أجاز قديدا، ثم سلك في الخرار، ثم أجاز على ثنية المرة، ثم سلك نقعا، مدلجة ثقيف، ثم استبطن مدلجة محاج، ثم بطن مرجح ذي العصوين، ثم أجاز القاحة، ثم هبط للعرج، ثم أجاز في ثنية الغابر عن يمين ركوبة، ثم هبط بطن رئم ثم قدم قباء من قبل العالية.
وقال مسلم بن إبراهيم: حدثنا عون بن عمرو القيسي, قال: سمعت أبا مصعب المكي، قال: أدركت المغيرة بن شعبة وأنس بن مالك وزيد بن أرقم، فسمعتهم يتحدثون أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الغار أمر الله بشجرة فنبتت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فسترته، وأمر الله العنكبوت فنسجت فسترته، وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقعتا بفم الغار، وأقبل فتيان قريش بعصيهم وسيوفهم، فجاء رجل ثم رجع إلى الباقين فقال: رأيت حمامتين بفم الغار، فعلمت أنه ليس فيه أحد.
وقال إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: اشترى أبو بكر من عازب رحلا بثلاثة عشر درهما، فقال أبو بكر لعازب: مر البراء فليحمله إلى رحلي، فقال له عازب: لا حتى تحدثنا كيف صنعت أنت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجتما، والمشركون يطلبونكما.
قال: أدلجنا من مكة ليلا، فأحيينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا، وقام قائم الظهيرة، فرميت ببصري هل أرى من ظل نأوي إليه، فإذا صخرة فانتهيت إليها، فإذا بقية ظل لها فسويته، ثم
فرشت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروة، ثم قلت: اضطجع يا رسول الله. فاضطجع, ثم ذهبت أنفض ما حولي هل أرى من الطلب أحدا، فإذا براعي غنم يسوق غنمه إلى(سيرة 1/269)
الصخرة, ويريد منها الذي أريد، يعني الظل، فسألته: لمن أنت؟ فقال: لرجل من قريش، فسماه فعرفته، فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم. قلت: هل أنت حالب لي؟ قال: نعم. فأمرته، فاعتقل شاة من غنمه، وأمرته أن ينفض ضرعها من التراب، ثم أمرته أن ينفض كفيه، فقال هكذا، فضرب إحداهما على الأخرى، فحلب لي كثبة من لبن، وقد رويت معي لرسول الله صلى الله عليه وسلم إداوة، على فمها خرقة، فصببت على اللبن حتى برد أسفله، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوافيته وقد استيقظ، فقلت: اشرب يا رسول الله. فشرب حتى رضيت، ثم قلت: قد آن الرحيل. قال: فارتحلنا والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له، فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله. قال: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] ، فلما أن دنا منا، وكان بيننا وبينه قيد رمحين أو ثلاثة، قلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله. وبكيت، فقال: "ما يبكيك"؟ قلت: أما والله ما على نفسي أبكي، ولكني إنما أبكي عليك. فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اللهم اكفناه بما شئت". فساخت به فرسه في الأرض إلى بطنها، فوثب عنها، ثم قال: يا محمد قد علمت أن هذا عملك، فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه، فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب، وهذه كنانتي فخذ منها سهما، فإنك ستمر بإبلي وغنمي بمكان كذا وكذا، فخذ منها حاجتك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حاجة لنا في إبلك وغنمك". ودعا له، فانطلق راجعا إلى أصحابه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى قدمنا المدينة ليلا. أخرجاه من حديث زهير بن معاوية، سمعت أبا إسحاق، قال سمعت البراء. وأخرج البخاري حديث إسرائيل، عن عبد الله بن(سيرة 1/270)
رجاء، عنه.
وقال عقيل، عن الزهري: أخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي أن أباه أخبره، أنه سمع سراقة بن مالك بن جعشم يقول: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحد منهما في قتله أو أسره، فبينا أنا جالس في مجلس قومي بني مدلج، أقبل رجل منهم، حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل، أراها محمدا وأصحابه. قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت: إنهم ليسوا بهم، ولكن رأيت فلانا وفلانا، انطلقوا باغين، ثم قلَّ ما لبثتُ في المجلس حتى قمت فدخلت بيتي، فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي فتهبطها من وراء أكمة فتحبسها عليَّ، فأخذت برمحي
وخرجت من ظهر البيت، فخططت بزجه الأرض، وخفضت عالية الرمح حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها تقرب بي، حتى إذا دنوت منهم عثرت بي فرسي فخررت, فقمت فأهويت بيدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها أضرهم أو لا أضرهم، فخرج الذي أكره: لا أضرهم، فركبت فرسي وعصيت الأزلام، فرفعتها تقرب بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر التلفت, ساخت يدا فرسي في الأرض، حتى بلغت الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يداها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره "لا أضرهم"، فناديتهما بالأمان، فوقفا لي وركبت(سيرة 1/271)
فرسي حتى جئتهما، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهما، أنه سيظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيكما الدية، وأخبرتهما أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزءوني شيئا، ولم يسألني، إلا أن قال: "أخف عنا". فسألته أن يكتب لي كتاب موادعة آمن به، فأمر عامر بن فهيرة، فكتب في رقعة من أدم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاري.
وقال موسى بن عقبة: حدثنا ابن شهاب الزهري، قال: حدثني عبد الرحمن بن مالك بن جعشم المدلجي أن أباه أخبره، أن أخاه سراقة بن جعشم أخبره، ثم ساق الحديث، وزاد فيه: وأخرجت سلاحي ثم لبست لأمتي، وفيه: فكتب لي أبو بكر، ثم ألقاه إلي فرجعت فسكت، فلم أذكر شيئا مما كان حتى فتح الله مكة، وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين خرجت لألقاه ومعي الكتاب، فدخلت بين كتيبة من كتائب الأنصار، فطفقوا يقرعونني بالرماح ويقولون: إليك إليك، حتى دنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته، أنظر إلى ساقه في غرزه كأنها جمارة، فرفعت يدي بالكتاب فقلت: يا رسول الله هذا كتابك. فقال: "يوم وفاء وبر ادن". قال: فأسلمت، ثم ذكرت شيئا أسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن شهاب: سأله عن الضالة وشيء آخر، قال: فانصرفت وسقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقتي.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: حدثت عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، أتى نفر من قريش، فيهم(سيرة 1/272)
أبو جهل، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك؟ قلت: لا أدري والله أين أبي، فرفع أبو جهل يده -وكان فاحشا خبيثا- فلطمني على خدي لطمة طرح منها قرطي.
وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير أن أباه حدثه عن جدته أسماء بنت أبي بكر قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج معه أبو بكر، احتمل أبو بكر ماله كله معه، خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم، فانطلق به معه، فدخل علينا جدي أبو قحافة -وقد ذهب بصره- فقال: والله إني لأراه فجعكم بماله مع نفسه. قالت: قلت: كلا يا أبه، قد ترك لنا خيرا كثيرا. قالت: فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة من البيت كان أبي يضع فيها ماله، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده فقلت: ضع يدك على هذا المال فوضع يده عليه فقال: لا بأس إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن, وفي هذا بلاغ لكم، قالت: ولا والله ما ترك لنا شيئا، ولكني أردت أن أسكن الشيخ.
وحدثني الزهري، أن عبد الرحمن بن مالك بن جعشم حدثه، عن أبيه، عن عمه سراقة بن مالك بن جعشم، قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجرا، جعلت قريش فيه مائة ناقة لمن رده، قال: فبينا أنا جالس، أقبل رجل منا فقال: والله لقد رأيت ركبا ثلاثة مروا علي آنفا، إني لأراهم محمدا وأصحابه، فأومأت إليه، يعني أن اسكت، ثم قلت: إنما هم بنو فلان يبتغون ضالة لهم، قال: لعله، فمكثت قليلا، ثم قمت فدخلت بيتي، فذكر نحو ما تقدم.
قال: وحدثت عن أسماء بنت أبي بكر قالت: فمكثنا ثلاث ليال ما ندري أين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة(سيرة 1/273)
يتغنى بأبيات من شعر غناء العرب، وإن الناس ليتبعونه، ويسمعون صوته، حتى خرج من أعلى مكة، وهو يقول:
جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر ثم تروحا ... فأفلح من أمسى رفيق محمد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
قالت: فعرفنا حيث وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن وجهه إلى المدينة.
قلت: قد سقت خبر أم معبد بطوله في صفته صلى الله عليه وسلم، كما يأتي إن شاء الله تعالى.
وقال يحيى بن زكريا بن أبي زائدة: حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: حدثنا عبد الرحمن ابن الأصبهاني، قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي بكر الصديق قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، فانتهينا إلى حي من أحياء العرب، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت متنحيا، فقصد إليه، فلما نزلنا لم يكن فيه إلا امرأة، فقالت: يا عبدي الله
إنما أنا امرأة وليس معي أحد، فعليكما بعظيم الحي إن أردتم القرى. قال: فلم يجبها، وذلك عند المساء، فجاء ابن لها بأعنز له يسوقها، فقالت له: يا بني انطلق بهذه العنز والشفرة إليهما فقل: اذبحا هذه وكلا وأطعمانا، فلما جاء قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "انطلق بالشفرة وجئني بالقدح" قال: إنها قد عزبت وليس لها لبن. قال: "انطلق". فانطلق فجاء بقدح، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم ضرعها، ثم حلب حتى ملأ القدح، ثم قال: "انطلق به إلى أمك". فشربت حتى رويت، ثم جاء به فقال: "انطلق بهذه وجئني بأخرى".
ففعل بها كذلك، ثم سقى أبا بكر، ثم جاء بأخرى،(سيرة 1/274)
ففعل بها كذلك، ثم شرب صلى الله عليه وسلم، قال: فبتنا ليلتنا ثم انطلقنا، فكانت تسميه "المبارك"، وكثر غنمها حتى جلبت جلبا إلى المدينة، فمر أبو بكر فرآه ابنها فعرفه فقال: يا أمه إن هذا الرجل الذي كان مع المبارك. فقامت إليه فقالت: يا عبد الله من الرجل الذي كان معك؟ قال: وما تدرين من هو! قالت: لا، قال: هو النبي صلى الله عليه وسلم قالت: فأدخلني عليه، فأدخلها عليه فأطعمها وأعطاها.
رواه محمد بن عمران بن أبي ليلى، وأسد بن موسى، عن يحيى، وإسناده نظيف لكن منقطع بين أبي بكر، وعبد الرحمن بن أبي ليلى.
أوس بن عبد الله بن بريدة: أخبرنا الحسين بن واقد، عن ابن بريدة، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتفاءل، وكانت قريش قد جعلت مائة من الإبل لمن يرده عليهم، فركب بريدة في سبعين من بني سهم، فلقي نبي الله ليلا فقال له: "من أنت"؟ قال: بريدة. فالتفت إلى أبي بكر فقال: "برد أمرنا وصلح". ثم قال: "وممن"؟ قال: من أسلم. قال لأبي بكر: "سلمنا". ثم قال: "ممن"؟ قال: من بني سهم. قال: "خرج سهمك". فأسلم بريدة والذين معه جميعا، فلما أصبحوا قال بريدة للنبي صلى الله عليه وسلم: لا تدخل المدينة إلا ومعك لواء، فحل عمامته ثم شدها في رمح، ثم مشى بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا نبي الله تنزل عليَّ. قال: إن ناقتي مأمورة فسار حتى وقفت على باب أبي أيوب فبركت. قلت: أوس متروك.
وقال الحافظ أبو الوليد الطيالسي: حدثنا عبيد الله بن إياد بن لقيط، قال: حدثنا أبي، عن قيس بن النعمان، قال: لما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مستخفيين مروا بعبد يرعى غنما فاستسقياه اللبن، فقال: ما عندي شاة تحلب، غير أن ههنا عناقا حملت أول الشتاء، وقد أخدجت وما بقي لها لبن. فقال: "ادع بها". فدعا بها، فاعتقلها النبي صلى الله عليه وسلم ومسح ضرعها ودعا حتى أنزلت، وجاء أبو بكر بمجن فحلب فسقى أبا بكر،(سيرة 1/275)
ثم حلب فسقى الراعي، ثم حلب فشرب، فقال: الراعي: بالله من أنت، فوالله ما رأيت مثلك قط؟ قال: "أتكتم علي حتى أخبرك"؟. قال: نعم. قال: "فإني محمد رسول الله". فقال: أنت الذي تزعم قريش أنه
صابئ؟ قال: "إنهم ليقولون ذلك". قال: فأشهد أنك نبي، وأشهد أن ما جئت به حق، وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي، وأنا متبعك. قال: "إنك لن تستطيع ذلك يومك، فإذا بلغك أني قد ظهرت فائتنا".
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، قال: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة، عن رجال من قومه، قالوا: لما بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، كنا نخرج كل غداة فنجلس له بظاهر الحرة، نلجأ إلى ظل الجدر حتى تغلبنا عليه الشمس, ثم نرجع إلى رحالنا، حتى إذا كان اليوم الذي جاء فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، جلسنا كما كنا نجلس، حتى إذا رجعنا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرآه رجل من اليهود، فنادى: يا بني قيلة هذا جدكم قد جاء، فخرجنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أناخ إلى ظل هو وأبو بكر، والله ما ندري أيهما أسن، هما في سن واحدة، حتى رأينا أبا بكر ينحاز له عن الظل، فعرفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وقد قال قائل منهم: إن أبا بكر قام فأظل رسول الله صلى الله عليه وسلم بردائه، فعرفناه.
وقال محمد بن حمير، عن إبراهيم بن أبي عبلة: حدثني عقبة بن وساج، عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم، يعني المدينة، وليس في أصحابه أشمط غير أبي بكر، فغفلها بالحناء والكتم أخرجه البخاري، من حديث محمد بن حمير.(سيرة 1/276)
وقال شعبة: أنبأنا أبو إسحاق، قال: سمعت البراء يقول: أول من قدم علينا من الصحابة مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، وكانا يقرئان القرآن، ثم جاء عمار، وبلال، وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين راكبا، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء قط فرحهم به، حتى رأيت الولائد والصبيان يسعون في الطرق يقولون: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما قدم المدينة حتى تعلمت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] في مثلها من المفصل. خ.
وقال إسرائيل عن أبي إسحاق، عن البراء، في حديث الرحل، قال أبو بكر: ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه، حتى قدمنا المدينة ليلا، فتنازعه القوم أيهم ينزل عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أنزل الليلة على بني النجار أخوال بني عبد المطلب أكرمهم بذلك". وقدم الناس حين قدمنا المدينة، في الطريق وعلى البيوت، والغلمان والخدم يقولون: جاء رسول الله،
جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أكبر جاء محمد صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح انطلق فنزل حيث أمر. متفق عليه.
وقال هاشم بن القاسم: حدثنا سليمان -هو ابن المغيرة- عن ثابت، عن أنس، قال: إني لأسعى في الغلمان يقولون: "جاء محمد"، وأسعى ولا أرى شيئا، ثم يقولون: "جاء محمد"، فأسعى، حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر فكمنا في بعض جدار المدينة، ثم بعثا رجلا من أهل البادية ليؤذن بهما الأنصار، قال: استقبلهما زهاء خمس مائة من الأنصار، حتى انتهوا إليهما، فقالوا: انطلقا آمنين مطاعين. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه بين أظهرهم، فخرج أهل المدينة، حتى إن العواتق لفوق البيوت يتراءينه يقلن: أيهم هو؟ أيهم هو؟ قال: فما(سيرة 1/277)
رأينا منظرا شبها به يومئذ. صحيح.
وقال الوليد بن محمد الموقري وغيره، عن الزهري، قال: فأخبرني عروة أن الزبير كان في ركب تجار بالشام، فقفلوا إلى مكة، فعارضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر بثياب بياض، وسمع المسلمون بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه، حتى يردهم نحر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعدما أطالوا انتظاره، فلما أووا إلى بيوتهم، أوفى رجل من يهود أطما من آطامهم لشأنه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العريب هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة، فعدل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين، حتى نزل في بني عمرو بن عوف من الأنصار، وذلك يوم الإثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر يذكر الناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسبه أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرفوا رسول الله عند ذلك، فلبث في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة.
وأسس المسجد الذي أسس على التقوى، فصلى فيه، ثم ركب راحلته فسار، فمشى معه الناس، حتى بركت بالمدينة عند مسجده صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدا للتمر لسهل وسهيل، غلامين يتيمين أخوين في حجر أسعد بن زرارة من بني النجار، فقال حين بركت به راحلته: "هذا إن شاء الله المنزل". ثم دعا الغلامين فساومهما المربد ليتخذه مسجدا، فقال: بل نهبه لك. فأبى حتى ابتاعه وبناه.(سيرة 1/278)
وقال عبد الوارث بن سعيد وغيره: حدثنا أبو التياح، عن أنس، قال: لما قدم
رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نزل في علوم المدينة في بني عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى ملأ بني النجار، فجاءوا متقلدين سيوفهم، فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ردفه، وملأ بني النجار حوله، حتى ألقى بفناء أبي أيوب. متفق عليه.
وقال عثمان بن عطاء الخراساني، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مر على عبد الله بن أبي وهو جالس على ظهر الطريق، فوقف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر أن يدعوه إلى المنزل، وهو يومئذ سيد أهل المدينة في أنفسهم، فقال عبد الله: انظر الذين دعوك فأتهم، فعمد إلى سعد بن خيثمة، فنزل عليه في بني عمرو بن عوف ثلاث ليال، واتخذ مكانه مسجدا فكان يصلي فيه، ثم بناه بنو عمرو، فهو الذي أسس على التقوى والرضوان.
ثم إنه ركب يوم الجمعة، فمر على بني سالم، فجمع فيهم, وكانت أول جمعة صلاها حين قدم المدينة، واستقبل بيت المقدس، فلا أبصرته اليهود صلى قبلتهم طمعوا فيه للذي يجدونه مكتوبا عندهم، ثم ارتحل فاجتمعت له الأنصار يعظمون دين الله بذلك، يمشون حول ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يزال أحدهم ينازع صاحبه زمام الناقة، فقال: "خلوا سبيل الناقة، فإنما أنزل حيث أنزلني الله". حتى انتهى إلى دار أبي أيوب في بني غنم، فبركت على الباب، فنزل، ثم دخل دار أبي أيوب، فنزل عليه حتى ابتنى مسجده ومسكنه في بني غنم، وكان المسجد موضعا للتمر لابني أخي أسعد بن زرارة، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطى ابني(سيرة 1/279)
أخيه مكانه نخلا له في بني بياضة، فقالوا: نعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نأخذ له ثمنا، وبنى النبي صلى الله عليه وسلم لحمزة ولعلي ولجعفر، وهم بأرض الحبشة، وجعل مسكنهم في مسكنه، وجعل أبوابهم في المسجد مع بابه، ثم إنه بدا له، فصرف باب حمزة وجعفر. كذا قال: وهم بأرض الحبشة، وإنما كان علي بمكة. رواه ابن عائذ، عن محمد بن شعيب، عنه.
وقال موسى بن عقبة: يقال: لما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر من المدينة، وقدم طلحة بن عبيد الله من الشام، خرج طلحة عامدا إلى مكة، لما ذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، خرج إما متلقيا لهما، وإما عامدا عمده بمكة، ومعه ثياب أهداها لأبي بكر من ثياب الشام، فلما لقيه أعطاه الثياب، فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر منها.
وقال الوليد بن مسلم، عن عبد الله بن يزيد، عن أبي البداح بن عاصم بن عدي، عن أبيه: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الإثنين، لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، فأقام بالمدينة عشر سنين.
وقال ابن إسحاق: المعروف أنه قدم المدينة يوم الإثنين لثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، قال: ومنهم من يقول لليلتين مضتا منه. رواه يونس وغيره، عن ابن إسحاق.
وقال عبد الله بن إدريس: حدثنا ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر، عن عروة، عن عبد الرحمن بن عويم، قال: أخبرني بعض قومي، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، فأقام بقباء بقية يومه وثلاثة أيام, وخرج يوم الجمعة على ناقته القصواء، وبنو عمرو بن عوف يزعمون أنه لبث فيهم ثماني عشرة ليلة.
وقال زكريا بن إسحاق: حدثنا عمرو بن دينار، عن ابن عباس،(سيرة 1/280)
قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثة عشرة، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين. متفق عليه.
وقال سفيان بن عيينة: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عجوز لهم، قالت: رأيت ابن عباس يختلف إلى صرمة بن قيس الأنصاري, كان يروي هذه الأبيات:
ثوى في قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو ألفى صديقا مواتبا
ويعرض في أهل المواسم نفسه ... فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا
فلما أتانا واطمأنت به النوى ... وأصبح مسرورا بطيبة راضيا
وأصبح ما يخشى ظلامه ظالم ... بعيد ولا يخشى من الناس راعيا
بذلنا له الأموال من جل مالنا ... وأنفسنا عند الوغي والتآسيا
نعادي الذي عادى من الناس كلهم ... جميعا وإن كان الحبيب المواسيا
ونعلم أن الله لا شيء غيره ... وأن كتاب الله أصبح هاديا
وقال عبد الوارث: حدثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف، ونبي الله صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف -يريد دخول الشيب في لحيته دونه لا في السن- قال أنس: فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا رجل يهديني السبيل. فيحسب الحاسب أنه يعني الطريق، وإنما يعني طريق الخير. فإذا هو بفارس قد لحقهم، فقال: يا نبي الله هذا فارس قد لحق، فقال: "اللهم اصرعه" فصرعه فرسه، ثم قامت تحمحم. فقال: يا نبي الله مرني بم شئت. قال: "تقف مكانك لا تتركن أحدا يلحق بنا" قال: فكان أول النهار جاهدا على(سيرة 1/281)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخر النهار مسلحة له، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم جانب الحرة، وأرسل إلى الأنصار، فجاءوا رسول الله، فسلموا عليهما. فقالوا: اركبا آمنين مطاعين. فركبا وحفوا
حولهما بالسلاح، فقيل في المدينة: جاء رسول الله، جاء رسول الله وأقبل حتى نزل إلى جانب بيت أبي أيوب، قال: فإنه ليحدث أهله إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لأهله، يخترف لهم منه، فعجل أن يضع التي يخترف فيها فجاءه وهي معه، فسمع من نبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى أهله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي بيوت أهلنا أقرب"؟ فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله هذه داري، قال: "اذهب فهيء لنا مقيلا" فذهب فهيأ لهما مقيلا، ثم جاء فقال: يا نبي الله قد هيأت لكما مقيلا، قوما على بركة الله فقيلا.
فلما جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم، جاء عبد الله بن سلام، فقال: أشهد أنك رسول الله حقا، وأنك جئت بحق، ولقد علمت يهود أني سيدهم وأعلمهم. وذكر الحديث أخرجه البخاري.(سيرة 1/282)
السنة الأولى من الهجرة:
روى البخاري في صحيحه من حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة أن المسلمين بالمدينة سمعوا مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكانوا يغدون إلى الحرة ينتظرونه، حتى يردهم حر الشمس، فانقلبوا يوما، فأوفى يهودي على أطم فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فأخبرني عروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام فكسا الزبير -رضي الله عنه- رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض.
قال: فلم يملك اليهودي أن صاح، يا معشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون. فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوه بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل في بني عمرو بن عوف يوم الإثنين مع ربيع الأول. فقام أبو بكر للناس فطفق من لم يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر يظله بردائه، فعرف الناس عند ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلبث في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس مسجدهم. ثم ركب راحلته وسار حوله الناس يمشون، حتى بركت به مكان المسجد، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين -وكان مربدا(سيرة 1/283)
لسهل وسهيل- فدعاهما فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله. ثم بناه مسجدا، وكان ينقل اللبن معهم ويقول:
هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر
ويقول:
اللهم إن الأجر أجر الآخره ... فارحم الأنصار والمهاجره
وخرج البخاري من حديث أبي إسحاق عن البراء حديث الهجرة بطوله.
وخرج من حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو مردف أبا بكر. وأبو بكر شيخ يعرف، والنبي صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف، فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: من هذا بين يديك؟ فيقول: رجل يهديني الطريق، وإنما يعني طريق الخير إلى أن قال:
فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم جانب الحرة، ثم بعث إلى الأنصار، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسلموا عليهما، وقالوا: اركبا آمنين مطاعين. فركبا، وحفوا دونهما بالسلاح. فقيل في المدينة: جاء نبي الله، جاء نبي الله، فأقبل يسير حتى نزل إلى جانب دار أبي أيوب، وذكر الحديث.
وروينا بإسناد حسن، عن أبي البداح بن عاصم بن عدي، عن أبيه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، فأقام في المدينة عشر سنين.
وقال محمد بن إسحاق: فقدم ضحى يوم الإثنين لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول، فأقام في بني عمرو بن عوف؛ فيما قيل؛ يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، ثم ظعن يوم الجمعة، فأدركته(سيرة 1/284)
الجمعة في بني سالم بن عوف، فصلاها بمن معه. وكان مكان المسجد؛ مربدا لغلامين يتيمين، وهما سهل وسهيل ابنا رافع بن عمرو من بني النجار فيما قال موسى بن عقبة، وكانا في حجر أسعد بن زرارة.
وقال ابن إسحاق: كان المربد لسهل وسهيل ابني عمرو، وكانا في حجر معاذ بن عفراء.
وغلط ابن مندة فقال: كان لسهل وسهيل ابني بيضاء، وإنما ابنا بيضاء من المهاجرين.
وأسس رسول الله صلى الله عليه وسلم في إقامته ببني عمرو بن عوف مسجد قباء. وصلى الجمعة في بني سالم في بطن الوادي. فخرج معه رجال منهم، وهم: العباس بن عبادة، وعتبان بن مالك، فسألوه أن ينزل عندهم ويقيم فيهم، فقال: "خلوا الناقة فإنها مأمورة". وسار والأنصار حوله حتى أتى بني بياضة، فتلقاه زياد بن لبيد، وفروة بن عمرو، فدعوه إلى النزول فيهم، فقال: "دعوها فإنها مأمورة". فأتى دور بني عدي بن النجار؛ وهم أخوال عبد المطلب؛ فتلقاه سليط بن قيس، ورجال من بني عدي، فدعوه إلى النزول والبقاء عندهم، فقال: "دعوها فإنها مأمورة". ومشى حتى أتى دور بني مالك بن النجار، فبركت الناقة في موضع المسجد، وهو مربد تمر لغلامين يتيمين. وكان فيه نخل وخرب، وقبور للمشركين. فلم ينزل عن ظهرها، فقامت ومشت قليلا، وهو صلى الله عليه وسلم لا يهيجها، ثم التفت فكرت إلى مكانها وبركت فيه، فنزل عنها فأخذ أبو(سيرة 1/285)
أيوب الأنصاري رحلها فحمله إلى داره. ونزل النبي صلى الله عليه وسلم في بيت من دار أبي أيوب. فلم يزل ساكنا عند أبي أيوب حتى بنى مسجده وحُجَرَه في المربد. وكان قد طلب شراءه فأبت بنو النجار من بيعه، وبذلوه لله وعوضوا اليتيمين. فأمر بالقبور فنبشت، وبالخرب فسويت. وبنى عضادتيه بالحجارة، وجعل سواريه من جذوع النخل، وسقفه بالجريد, وعمل فيه المسلمون حسبة.
فمات أبو أمامة أسعد بن زرارة الأنصاري تلك الأيام بالذبحة. وكان من سادة الأنصار ومن نقبائهم الأبرار. ووجد النبي صلى الله عليه وسلم وجدا لموته، وكان قد كواه. ولم يجعل على بني النجار بعده نقيبا وقال: أنا نقيبكم. فكانوا يفخرون بذلك.
وكانت يثرب لم تمصر، وإنما كانت قرى مفرقة: بنو مالك بن النجار في قرية، وهي مثل المحلة، وهي دار بني فلان. كما الحديث: "خير دور الأنصار دار بني النجار".
وكان بنو عدي بن النجار لهم دار، وبنو مازن بن النجار كذلك، وبنو سالم كذلك، وبنو ساعدة كذلك، وبنو الحارث بن الخزرج كذلك، وبنو عمرو بن عوف كذلك، وبنو عبد الأشهل كذلك وسائر بطون الأنصار كذلك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وفي كل دور الأنصار خير".
وأمر -عليه السلام- بأن تبنى المساجد في الدور. فالدار -كما قلنا- هي القرية. ودار بني عوف هي قباء. فوقع بناء مسجده صلى الله عليه وسلم في بني مالك بن النجار، وكانت قرية صغيرة.(سيرة 1/286)
وخرج البخاري من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل في بني عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة. ثم أرسل إلى بني النجار فجاءوا.
وآخى في هذه المدة بين المهاجرين والأنصار. ثم فرضت الزكاة. وأسلم الحبر عبد الله بن سلام، وأناس من اليهود، وكفر سائر اليهود.(سيرة 1/287)
قصة إسلام ابن سلام:
قال عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، قال: جاء عبد الله بن سلام فقال: أشهد أنك رسول الله حقا. ولقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم فسلهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت. فأرسل إليهم فأتوا، فقال لهم: "يا معشر يهود، ويلكم اتقوا الله، فوالذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله فأسلموا". قالوا: ما نعلمه، فأعاد ذلك عليهم ثلاثا. ثم قال: "فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام"؟ قالوا: ذلك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا. قال: "أفرأيتم إن أسلم"؟ قالوا: حاش لله، ما كان ليسلم. قال: "يابن سلام اخرج عليهم". فخرج عليهم، فقال: ويلكم اتقوا الله، فوالذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله حقا، قالوا: كذبت. فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاري بأطول منه.
وأخرج من حديث حميد عن أنس، قال: سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في أرض، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: "أخبرني بهن جبريل آنفا". قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة. قال: ثم قرأ: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة: 97] ، "أما أول أشراط الساعة، فنار تخرج على الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت. وغذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد(سيرة 1/288)
إلى أبيه، وإذا سبق ماء المرأة نزع إلى أمه". فتشهد وقال: إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني. فجاءوا، فقال: "أي رجل عبد الله بن سلام فيكم" قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا. قال: "أرأيتم إن أسلم"؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك. فخرج فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا، وتنقصوه. قال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله.
وقال عوف الأعرابي، عن زرارة بن أوفى، عن عبد الله بن سلام قال: لما قدم رسول
الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس قبله، قالوا: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجئت لأنظر، فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب. فكان أول شيء سمعته منه أن قال: "أيها الناس، أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام". صحيح.
وروى أسباط بن نصر، عن السدي عن أبي مالك، وأبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] ؛ قال: كانت العرب تمر باليهود فيؤذونهم وكانوا يجدون محمدا في التوراة، فيسألون الله أن يبعثه فيقاتلون معه العرب. فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به حين لم يكن من بني إسرائيل.(سيرة 1/289)
قصة بناء المسجد:
قال أبو التياح، عن أنس: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملأ بني النجار فجاءوا فقال: "يا بني النجار، ثامنوني بحائطكم هذا". قالوا: لا والله، لا نطلب ثمنه إلا إلى الله. فكان فيه ما أقول لكم: كان فيه قبور المشركين، وكان فيه خرب ونخل. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل فقطع. فصفوا النخل قبلة، وجعلوا عضادتيه حجارة، وجعلوا ينقلون الصخر، وهم يرتجزون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، ويقولون:
اللهم لا خير إلا خير الآخره ... فانصر الأنصار والمهاجره
متفق عليه. وفي رواية: فاغفر للأنصار.
وقال موسى بن عقبة, عن ابن شهاب، في قصة بناء المسجد: فطفق هو وأصحابه ينقلون اللبن، ويقول وهو ينقل اللبن معهم:
هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر
ويقول:
اللهم لا خير إلا خير الآخره ... فارحم الأنصار والمهاجره
قال ابن شهاب: فتمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعر رجل من المسلمين لم يسم في الحديث. ولم يبلغني في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر غير هذه الأبيات.(سيرة 1/290)
ذكره البخاري في صحيحه.
وقال صالح بن كيسان: حدثنا نافع أن عبد الله أخبره أن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيا باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل. فلم يزد فيه أبو بكر شيئا. وزاد فيه عمر، وبناه على بنيانه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد، وأعاد عمده خشبا. وغيره
عثمان، فزاد فيه زيادة كبيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج. أخرجه البخاري.
وقال حماد بن سلمة، عن أبي سنان، عن يعلى بن شداد، عن عبادة، أن الأنصار جمعوا مالا، فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابن بهذا المسجد وزينه، إلى متى نصلي تحت هذا الجريد؟ فقال: "ما بي رغبة عن أخي موسى، عريش كعريش موسى".
وروي عن الحسن البصري في قوله: "كعريش موسى"؛ قال: إذا رفع يده بلغ العريش، يعني السقف.
وقال عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق بن علي، عن أبيه قال: بنيت مع النبي صلى الله عليه وسلم مسجد المدينة، فكان يقول: قربوا اليمامي من الطين، فإنه من أحسنكم له بناء.
وقال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المسجد الذي أسس على التقوى مسجدي هذا أخرجه مسلم بأطول منه.(سيرة 1/291)
وقال صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة". صحيح.
وقال أبو سعيد: كنا نحمل لبنة لبنة، وعمار يحمل لبنتين لبنتين؛ يعني في بناء المسجد،
فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل ينفض عنه التراب ويقول: "ويح عمار، تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار". أخرجه البخاري دون قوله: "تقتله الفئة الباغية"، وهي زيادة ثابتة الإسناد.
ونافق طائفة من الأوس والخزرج، فأظهروا الإسلام مداراة لقومهم. فممن ذكر منهم: من أهل قباء: الحارث بن سويد بن الصامت، وكان أخوه خلاد رجلا صالحا، وأخوه الجلاس، دون خلاد في الصلاح.
ومن المنافقين: نبتل بن الحارث، وبجاد بن عثمان، وأبو حبيبة ابن الأزعر أحد من بنى مسجد الضرار، وجارية بن عامر، وابناه: زيد ومجمع -وقيل: لم يصح عن مجمع النفاق، وإنما ذكر فيهم لأن قومه جعلوه إمام مسجد الضرار- وعباد بن حنيف، وأخواه سهل وعثمان من فضلاء الصحابة.(سيرة 1/292)
ومنهم: بشر، ورافع، ابنا زيد، ومربع، وأوس، ابنا قيظي، وحاطب بن أمية، ورافع بن وديعة، وزيد بن عمرو، وعمرو بن قيس؛ ثلاثتهم من بني النجار، والجد بن قيس الخزرجي؛ من بني جشم، وعبد الله بن أبي بن سلول، من بني عوف بن الخزرج، وكان رئيس القوم.
وممن أظهر الإيمان من اليهود ونافق بعد: سعد بن حنيف، وزيد بن اللصيت، ورافع بن حرملة، ورفاعة بن زيد بن التابوت، وكنانة بن صوريا.
ومات فيها: البراء بن معرور السلمي أحد نقباء العقبة -رضي الله عنه- وهو أول من بايع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وكان كبير الشأن.
وتلاحق المهاجرون الذين تأخروا بمكة بالنبي صلى الله عليه وسلم فلم يبق إلا محبوس أو مفتون، ولم
يبق دار من دور الأنصار إلا أسلم أهلها، إلا أوس الله، وهم حي من الأوس؛ فإنهم أقاموا على شركهم.
ومات فيها: الوليد بن المغيرة المخزومي والد خالد، والعاص بن وائل السهمي والد عمرو بمكة على الكفر.
وكذلك: أبو أحيحة سعيد بن العاص الأموي توفي بماله بالطائف.
وفيها: أرِيَ الأذان عبد الله بن زيد، وعمر بن الخطاب، فشرع الأذان على ما رأيا.
وفي شهر رمضان عقد النبي صلى الله عليه وسلم لواء لحمزة بن عبد المطلب يعترض عيرا لقريش. وهو أول لواء عقد في الإسلام.
وفيها: بعث النبي صلى الله عليه وسلم حارثة وأبا رافع إلى مكة لينقلا بناته وسودة أم المؤمنين.
وفي ذي القعدة عقد لواء لسعد بن أبي وقاص، ليغير على حي من(سيرة 1/293)
بني كنانة أو بني جهينة. ذكره الواقدي.
وقال عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رومان، عن عروة قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فكان أول راية عقدها راية عبيدة بن الحارث.
وفيها: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، على المواساة والحق.
وقد روى أبو داود الطيالسي، عن سليمان بن معاذ، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وورث بعضهم من بعض، حتى نزلت: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] .
والسبب في قلة من توفي في هذا العام وما بعده من السنين، أن المسلمين كانوا قليلين بالنسبة إلى من بعدهم فإن الإسلام لم يكن إلا ببعض الحجاز، أو من هاجر إلى الحبشة. وفي خلافة عمر -رضي الله عنه- بل وقبلها انتشر الإسلام في الأقاليم، فبهذا يظهر لك سبب قلة من توفي في صدر الإسلام، وسبب كثرة من توفي في زمان التابعين فمن بعدهم.
وكان في هذا القرب أبو قيس بن الأسلت بن جشم بن وائل الأوسي الشاعر، وكان يعدل بقيس بن الخطيم في الشجاعة والشعر، وكان يحض الأوس على الإسلام، وكان قبل الهجرة يتأله ويدعي الحنيفية، ويحض قريشا على الإسلام، فقال قصيدته المشهورة التي أولها:
أيا راكبا إما عرضت فبلغن ... مغلغلة عني لؤي بن غالب(سيرة 1/294)
أقيموا لنا دينا حنيفا فأنتمو ... لنا قادة قد يقتدى بالذوائب
روى الواقدي عن رجاله قالوا: خرج ابن الأسلت إلى الشام، فتعرض آل جفنة فوصلوه، وسأل الرهبان فدعوه إلى دينهم فلم يرده، فقال له راهب: أنت تريد دين الحنيفية، وهذا وراءك من حيث خرجت. ثم إنه قدم مكة معتمرا، فلقي زيد بن عمرو بن نفيل، فقص عليه أمره، فكان أبو قيس بعد يقول: ليس أحد على دين إبراهيم إلا أنا وزيد. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ وقد أسلمت الخزرج والأوس، إلا ما كان من أوس الله فإنها وقفت مع ابن الأسلت، وكان فارسها وخطيبها، وشهد يوم بعاث، فقيل له: يا أبا قيس، هذا صاحبك الذي كنت تصف. قال: رجل قد بعث بالحق. ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعرض عليه شرائع الإسلام، فقال: ما أحسن هذا وأجمله، أنظر في أمري. وكاد أن يسلم، فلقيه عبد الله ابن أبي، فأخبره بشأنه فقال: كرهت والله حرب الخزرج. فغضب وقال: والله لا أسلم سنة. فمات قبل السنة.
فروى عن ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن أشياخه أنهم كانوا يقولون: لقد سمع يوحد عند الموت، والله أعلم.(سيرة 1/295)
سنة اثنتين من الهجرة:
غزوة الأبواء:
في صفرها غزوة الأبواء، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة غازيا، واستعمل على المدينة سعد بن عبادة حتى بلغ ودان يريد قريشا وبني ضمرة، فوادع بني ضمرة بن عبد مناة بن كنانة، وعقد ذلك معه سيدهم مخشي بن عمرو، ثم رجع إلى المدينة. وودان على أربع مراحل.
بعث حمزة:
ثم في أحد الربيعين بعث عمه حمزة في ثلاثين راكبا من المهاجرين إلى سيف البحر من ناحية العيص، فلقي أبا جهل في ثلاث مائة. وقال الزهري: في مائة وثلاثين راكبا. وكان مجدي بن عمرو الجهني وقومه حلفاء الفريقين جميعا، فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني.
بعث عبيدة:
وبعث في هذه المدة عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، في ستين راكبا أو نحوهم من المهاجرين، فنهض حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة، فلقي بها جمعا من قريش، عليهم عكرمة بن أبي جهل، وقيل مكرز بن حفص، فلم يكن بينهم قتال. إلا أن سعد بن أبي(سيرة 1/297)
وقاص كان في ذلك البعث، فرمى بسهم، فكان أول سهم رمي في سبيل الله.
وفر من الكفار يومئذ إلى المسلمين: المقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة، وعتبة بن غزوان المازني حليف بني عبد مناف، وكان مسلمين, ولكنهما خرجا ليتوصلا بالمشركين.
غزوة بواط، وغزوة العشيرة
غزوة بواط:
وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول غازيا، فاستعمل على المدينة السائب أخا عثمان بن مظعون، حتى بلغ بواط من ناحية رضوى ثم رجع ولم يلق حربا.
غزوة العشيرة:
وخرج غازيا في جمادى الأولى, واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، حتى بلغ العشيرة، فأقام هناك أياما، ووادع بني مدلج. ثم رجع فأقام بالمدينة أياما. والعشيرة من بطن ينبع.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني يزيد بن محمد بن خشيم عن محمد بن كعب القرظي قال: حدثني أبوك محمد بن خثيم المحاربي، عن عمار بن ياسر قال: كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة من بطن ينبع. فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بها شهرا، فصالح(سيرة 1/298)
بها بني مدلج، فقال لي علي: هل لك يا أبا اليقظان أن نأتي هؤلاء؛ نفرا من بني مدلج يعملون في عين لهم؛ ننظر كيف يعملون؟ فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة، ثم غشينا النوم فنمنا، فوالله ما أهبنا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدمه، فجلسنا، فيومئذ قال لعلي: "يا أبا تراب". لما عليه من التراب.
بدر الأولى:
وخرج في جمادى الآخرة في طلب كرز بن جابر الفهري، وكان قد أغار على سرح المدينة، فبلغ صلى الله عليه وسلم وادي سَفَوان من ناحية بدر، فلم يلق حربا، وسميت بدرا الأولى، ولم يدرك كُرْزا.
سرية سعد بن أبي وقاص:
وبعث سعد بن أبي وقاص في ثمانية من المهاجرين، فبلغ الخوار، ثم رجع إلى المدينة.
بعث عبد الله بن جحش:
قال عروة: ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم -في رجب- عبد الله بن جحش الأسدي، ومعه ثمانية، وكتب معه كتابا، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين. فلما قرأ الكتاب وجده: إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بين نخلة والطائف، فترصد لنا قريشا، وتعلم لنا من أخبارهم. فلما نظر عبد الله في الكتاب قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن(سيرة 1/299)
أمضي إلى نخلة، ونهاني أن أستكره أحدا منكم. فمن كان يريد الشهادة فلينطلق، ومن كره الموت فليرجع، فأما أنا فماض لأمر رسول الله. فمضى ومضى معه الثمانية، وهم: أبو حذيفة بن عتبة، وعكاشة بن محصن، وعتبة بن غزوان، وسعد بن أبي وقاص، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبد الله التميمي، وسهيل بن بيضاء الفهري، وخالد بن البكير.
فسلك بهم على الحجاز، حتى إذا كان بمعدن فوق الفُرْع يقال له بحران، أضل سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان بعيرا لهما، فتخلفا في طلبه. ومضى عبد الله بمن بقي حتى نزل بنخلة. فمرت بهم عير لقريش تحمل زبيبا وأدما، وفيها عمرو بن الحضرمي وجماعة. فلما رآهم القوم هابوهم. فأشرف لهم عكاشة؛ وكان قد حلق رأسه؛ فلما رأوه أمنوا، وقالوا: عمار لا بأس عليكم منهم.
وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر رجب، فقالوا: والله لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم به، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام. وترددوا, ثم أجمعوا على قتلهم وأخذ تجارتهم، فرمى واقد بن عبد الله عمرو بن الحضرمي فقتله، واستأسروا عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل بن عبد الله.
وأقبل ابن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين، حتى قدموا المدينة وعزلوا خمس ما غنموا للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزل القرآن كذلك. وأنكر النبي صلى الله عليه وسلم قتل ابن الحضرمي، فنزلت: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217] ، وقبل النبي صلى الله عليه وسلم الفداء في الأسيرين فأما(سيرة 1/300)
عثمان فمات بمكة كافرا، وأما الحكم فأسلم واستشهد ببئر معونة.
وصرفت القبلة في رجب، أو قريبا منه، والله أعلم.
غزوة بدر الكبرى: من السيرة لابن إسحاق، رواية البكائي
قال ابن إسحاق: سمع النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا سفيان بن حرب قد أقبل من الشام في عير لقريش وتجارة عظيمة، فيها ثلاثون أو أربعون رجلا من قريش، منهم: مخرمة بن نوفل، وعمرو بن العاص. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها". فانتدب الناس، فخف بعضهم, وثقل بعض، ظنا منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلقى حربا. واستشعر أبو سفيان فجهز منذرا إلى قريش يستنفرهم إلى أموالهم. فأسرعوا الخروج، ولم يتخلف من أشرافهم أحد، إلا أن أبا لهب قد بعث مكانه العاص أخا أبي جهل. ولم يخرج أحد من بني عدي بن كعب. وكان أمية بن خلف شيخا جسيما فأجمع القعود. فأتاه عقبة بن أبي معيط -وهو في المسجد- بمجمرة وبخور وضعها بين يديه، وقال: أبا علي، استجمر! فإنما أنت من النساء. قال: قبحك الله، ثم تجهز وخرج معهم. وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثامن رمضان، واستعمل على المدينة عمرو بن أم مكتوم على الصلاة. ثم رد أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير. وكان أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم رايتان سوداوان؛ إحداهما مع علي، والأخرى مع رجل أنصاري. وكانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ.(سيرة 1/301)
فكان مع المسلمين سبعون بعيرا يعتقبونها، وكانوا يوم بدر ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي، ومرثد بن أبي مرثد يعتقبون بعيرا. وكان أبو بكر، وعمر، وعبد الرحمن بن عوف يعتقبون بعيرا. فلما قرب النبي صلى الله عليه وسلم من الصفراء بعث اثنين يتجسسان أمر أبي سفيان. وأتاه الخبر بخروج نفير قريش، فاستشار الناس، فقالوا خيرا. وقال المقداد بن عمرو: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو
إسرائيل لموسى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم له خيرا ودعا له.
وقال سعد بن معاذ: يا رسول الله، والله لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك. فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله، وقال: "سيروا وأبشروا، فإن ربي قد وعدني إحدى الطائفتين: إما العير وإما النفير".
وسار حتى نزل قريبا من بدر. فلما أمسى بعث عليا والزبير وسعدا في نفر إلى بدر يلتمسون الخبر. فأصابوا راوية لقريش فيها أسلم وأبو يسار من مواليهم، فأتوا بهما النبي صلى الله عليه وسلم. فسألوهما فقالا: نحن سقاة لقريش. فكره الصحابة هذا الخبر ورجوا أن يكونوا سقاة للعير. فجعلوا يضربونهما، فإذا آلمهما الضرب قالا: نحن من عير أبي سفيان. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فلما سلم قال: "إذا صدقا ضربتموهما، وإذا كذبا تركتموهما". ثم قال: "أخبراني أين قريش"؟ قالا: هم وراء هذا الكثيب. فسألهما: "كم ينحرون كل يوم"؟ قالا: عشرا من الإبل أو تسعا: فقال: "القوم ما بين التسعمائة إلى الألف".
وأما اللذان بعثهما النبي صلى الله عليه وسلم يتجسسان، فأناخا بقرب ماء بدر واستقيا في شنهما، ومجدي بن عمرو بقربهما لم يفطنا به، فسمعا(سيرة 1/302)
جاريتين من حواري الحي تقول إحداهما للأخرى: إنما تأتي العير غدا أو بعد غد، فأعمل لهم ثم أقضيك. فصرفهما مجدي، وكان عينا لأبي سفيان. فرجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبراه. ولما قرب أبو سفيان من بدر تقدم وحده حتى أتى ماء بدر فقال لمجدي: هل أحسست أحدا؟ فذكر له الراكبين، فأتى أبو سفيان مناخهما، فأخذ من أبعار بعيريهما ففته، فإذا فيه النوى، فقال: هذه والله علائف يثرب. فرجع سريعا فصرف العير عن طريقها، وأخذ طريق الساحل فنجى، وأرسل يخبر قريشا أنه قد نجا فارجعوا. فأبى أبو جهل، وقال: والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر، ونقيم عليه ثلاثا، فتهابنا العرب أبدا.
ورجع الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة ببني زهرة كلهم، وكان فيهم مطاعا.
ثم نزلت قريش بالعدوة القصوى من الوادي.
وسبق النبي صلى الله عليه وسلم إلى ماء بدر، ومنع قريشا من السبق إلى الماء مطر عظيم لم يصب المسلمين منه إلا ما لبد لهم الأرض. فنزل النبي صلى الله عليه وسلم على أدنى ماء من مياه بدر إلى المدينة فقال الحباب بن المنذر بن عمرو بن الجموح: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة". قال: يا رسول الله، إنّ هذا ليس لك بمنزِل، فانهضْ بنا حتى نأتي أدنى ماءٍ من القوم فننزله ونُغَورَ ما وراءه من القُلُب، ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماءً، فنشرب ولا يشربون.
فاستحسن النَبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك من رأيه، وفعل ما أشار به، وأمر بالقُلُب فغُوّرت، وبنى حوضاً وملأه ماءً. وبُني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عريشٌ يكون فيه، ومشى النبي - صلى الله عليه وسلم - على موضع الوقعة، فأرى أصحابَه مَصَارعَ قُريش، يقول: هذا مَصْرع فلان، وهذا مَصْرع فلان. قال: فما عدا واحدٌ منهم مصرعه ذلك.(سيرة 1/303)
ثم بعثت قُرَيش فَحَزَرُوا المسلمين، وكان فيهم فارسان: المِقداد والزُّبير. وأراد عُتبة بن ربيعة، وحكيم بن حِزام قُريشأ على الرجوع فأبَوْا، وكان الذي صمّم على القتال أبو جهل. فارتحلوا من الغد قاصدين نحو الماء، فلما رآهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُقْبلين قال: اللهم هذه قُريش قد أقبلت بخُيَلائها وفخْرها تُحَادُّك وتكذب رسولَك، اللهم فنصْرك الذي وعدتني، الفهئمَ أحْتِفْهم الغَدَاة. وقال - صلى الله عليه وسلم - وقد رأى عُتْبة ابن ربيعة في القوم على جملٍ أحمر- إنْ يكن في أحدٍ من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر، إنْ يُطيعوه يَرْشُدُوا.
وكان خُفَاف بن إيماء بن رَحَضة الغِفاريّ بعث إلى قُرَيش، حين مَرّوا به، ابناً بجزائر هديّة، وقال: إنْ أحببتم أن نمدّكم بسلاحٍ ورجالٍ فَعَلْنا. فأرسلوا إليه: أنْ وصلتك رَحِمٌ، قد قضيتَ الذي ينبغي، فَلَعَمْري لئنْ كنّا إنّما نقاتل النّاسَ فما بنا ضَعْفٌ، وإنْ كنّا إنّما نقاتل الله، كما يزعُمُ محمد، ما لأحدٍ بالله من طاقة.
فلمّا نزل النّاس أقبل نفرٌ من قُرَيش حتى وردوا حوْضَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دَعُوهم. فما شرب رجل يومئذٍ إلاّ قُتل، إلاّ ما كان من حكيم بن حزام، ثم إنّه أسلم بعد ذلك، وكان إذا اجتهد في يمينه قال: لا والذي نَجاني يوم بدر.
ثم بعثتْ قُريشٌ عُمَيْر بن وهب الجُمَحي ليَحْزر المسلمين، فجال بفرسه حول العسكر، ثم رجع فقال: هم ثلاث مئة يزيدون قليلا أو ينقصونه، ولكن أمهلوني حتى أنظر لِلقَومِ كمينٌ أو مَدَد؟ وضرب في الوادي، فلم ير شيئاً. فرجع إليهم فقال: ما رأيت شيئاً، ولكني قد رأيتُ- يا معشر قريش- البلايا تحملُ المنايا، نواضحُ يثرب تحملُ(سيرة 1/304)
الموتَ النّاقع، قومٌ ليس لهم منعة ولا ملجأ إلاّ سيوفهم، والله ما أرى أنْ يُقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم، فما خيرُ العيش بعد ذلك؟ فَرَوْا رأيَكم. فلما سمع حكيم بن حِزام ذلك مشى في النّاس، فأتى عُتْبة بن رَبيعة فقال: يا أبا الوليد إنّك كبير قريش وسيّدها والمُطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزال تُذكر بخيرٍ إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالنّاس، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي، قال: قد فعلت، أنت علي بذلك، إنما هو حليفي فعلي عقله وما أصيب من ماله، فأت ابن الحنظلية -والحنظلية أم أبي جهل- فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره. ثم قام عتبة خطيبا فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا, والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه الرجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه وابن خاله أو رجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون.
قال حكيم: فأتيت أبا جهل فوجدته قد شد درعا من جرابها فهو يهيؤها فقلت له: يا أبا الحكم، إن عتبة قد أرسلني بكذا وكذا. فقال: انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه. كلا، والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بعتبة ما قال، ولكنه قد رأى محمدا وأصحابه أكلة جزور، وفيهم ابنه قد تخوفكم عليه. ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي فقال: هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك. فقام عامر فكشف رأسه وصرخ: واعمراه، واعمراه. فحميت الحرب وحقب أمر الناس واستوسقوا على ما هم عليه من الشر، وأفسد على الناس رأي عتبة الذي دعاهم إليه.(سيرة 1/305)
فلما بلغ عتبة قول أبي جهل: انتفخ والله سحره، قال: سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره. ثم التمس عتبة بيضة لرأسه، فما وجد في الجيش بيضة تسعه من عظم هامته، فاعتجر على رأسه ببرد له.
وخرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي -وكان شرسا سيئ الخلق- فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه. وأتاه فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- فالتقيا فضربه حمزة فقطع ساقه، وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دما. ثم جاء إلى الحوض حتى اقتحم فيه ليبر يمينه، واتبعه حمزة فقتله في الحوض.
ثم إن عتبة بن ربيعة خرج للمبارزة بين أخيه شيبة، وابنه الوليد بن عتبة، ودعوا للمبارزة، فخرج إليه عوف ومعوذ ابنا عفراء وآخر من الأنصار. فقالوا: من أنتم؟ قالوا: من الأنصار. قالوا: ما لنا بكم من حاجة، ليخرج إلينا أكفاؤنا من قومنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم يا عبيدة بن الحارث، ويا حمزة، ويا علي". فلما دنوا منهم، قالوا: من أنتم؟ فتسموا لهم. فقال: أكفاء كرام فبارز عبيدة -وكان أسن القوم- عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد. فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله. وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله. واختلف عتبة
وعبيدة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه. وكر علي وحمزة على عتبة فدففا عليه.
واحتملا عبيدة إلى أصحابهما.
والصحيح كما سيأتي إنما بارز حمزة عتبة، وعلي شيبة, والله أعلم. ثم تزاحف الجمعان. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يحملوا حتى(سيرة 1/306)
يأمرهم وقال: "انضحوهم عنكم بالنبل". وهو صلى الله عليه وسلم في العريش، ومعه أبو بكر، وذلك يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة رمضان.
قال سفيان، عن قتادة: إن وقعة بدر صبيحة يوم الجمعة سابع عشر رمضان. وقال قرة بن خالد: سألت عبد الرحمن بن القاسم عن ليلة القدر، فقال: كان زيد بن ثابت يعظم سابع عشرة ويقول: هي وقعة بدر. وكذلك قال إسماعيل السدي وغيره في تاريخ يوم بدر، وقاله عروة بن الزبير، ورواه خالد بن عبد الله الواسطي عن عمرو بن يحيى عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عامر بن ربيعة قال: كانت صبيحة بدر سبع عشرة من رمضان؛ لكن روى قتيبة عن جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن ابن مسعود في ليلة القدر قال: تحروها لإحدى عشرة بقين، صبيحتها يوم بدر، كذا قال ابن مسعود والمشهور ما قبله.
ثم عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف بنفسه، ورجع إلى العريش ومعه أبو بكر فقط، فجعل يناشد ربه ويقول: "يا رب إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد في الأرض". وأبو بكر يقول: يا نبي الله بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك. ثم خفق صلى الله عليه وسلم فانتبه وقال: "أبشر يا أبا بكر، أتاك النصر، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، على ثنايا النقع".
فرمي مهجع -مولى عمر- بسهم، فكان أول قتيل في سبيل الله. ثم رمي حارثة بن سراقة النجاري بسهم وهو يشرب من الحوض، فقتل.
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس يحرضهم على القتال، فقاتل(سيرة 1/307)
عمير بن الحمام حتى قتل، ثم قاتل عوف ابن عفراء -وهي أمه- حتى قتل.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى المشركين بحفنة من الحصباء وقال: "شاهت الوجوه". وقال لأصحابه: "شدوا عليهم". فكانت الهزيمة، وقتل الله من قتل من صناديد الكفر: فقتل سبعون وأسر مثلهم.
ورجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى العريش، وقام سعد بن معاذ على الباب بالسيف في نفر من الأنصار، يخافون على رسول الله صلى الله عليه وسلم كرة العدو.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي أحدا من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هشام بن الحارث فلا يقتله، ومن لقي العباس فلا يقتله فإنه إنما خرج مستكرها". فقال أبو حذيفة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا ونترك العباس، والله لئن لقيته لألجمنه بالسيف. فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لعمر: "يا أبا حفص أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف"؟. فقال عمر: دعني فلأضرب عنق هذا المنافق. فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا آمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفا، إلا أن تكفرها عني الشهادة. فاستشهد يوم اليمامة.
وكان أبو البختري أكف القوم عن رسول الله، وقام في نقض الصحيفة، فلقيه المجذر بن ذياد البلوي حليف الأنصار. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن قتلك. فقال: وزميلي جنادة الليثي؟ فقال المجذر: لا والله ما أمرنا إلا بك وحدك. فقال: لأموتن أنا وهو، لا يتحدث عني نساء مكة أني تركت زميلي حرصا على الحياة. فاقتتلا،(سيرة 1/308)
فقتله المجذر. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر، فآتيك به، فأبى إلا أن يقاتلني.
وعن عبد الرحمن بن عوف: كان أمية بن خلف صديقا لي بمكة، قال: فمررت به ومعي أدراع قد استلبتها، فقال لي: هل لك فيَّ، فأنا خير لك من الأدراع؟ قلت: نعم، ها الله إذًا.
وطرحت الأدراع، فأخذت بيده ويد ابنه، وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط. أما لكم حاجة في اللبن؟ يعني: من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن. ثم جئت أمشي بهما، قال لي أمية:
من الرجل المعلم بريشة نعامة في صدره؟ قلت: حمزة قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل.
فوالله إني لأقودهما، إذ رآه بلال؛ وكان يعذب بلالا بمكة، فلما رآه قال: رأس الكفر أمية بن خلف؟ لا نجوت إن نجا. قلت: أي بلال، أبأسيري؟ قال: لا نجوت إن نجا. قال: أتسمع يابن السوداء ما تقول؟ ثم صرخ بلال بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. قال: فأحاطوا بنا، وأنا أذب عنه. فأخلف رجل السيف، فضرب رجل ابنه فوقع، فصاح أمية صيحة عظيمة، فقلت: انج بنفسك، ولا نجاء، فوالله ما أغني عنك شيئا.
فهبروهما بأسيافهم، فكان يقول: رحم الله بلالا، ذهبت أدراعي، وفجعني بأسيري.
وعن ابن عباس، عن رجل من غفار، قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى أصعدنا في جبل
يشرف بنا على بدر، ونحن مشركان، ننتظر الدائرة على من تكون، فننتهب مع من ينتهب.
فبينا نحن في الجبل، إذ دنت منا سحابة، فسمعت فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم، فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه، وأما أنا(سيرة 1/309)
فكدت أهلك ثم تماسكت.
رواه عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عمن حدثه، عن ابن عباس.
وروى الذي بعده ابن حزم عمن حدثه من بني ساعدة عن أبي أسيد مالك بن ربيعة قال:
لو كان معي بصري وكنت ببدر لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة.
قال ابن إسحاق: فحدثني أبي، عن رجال، عن أبي داود المازني، قال: إني لأتبع رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه بالسيف، إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قتله غيري.
وعن ابن عباس قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر.
وأما أبو جهل بن هشام فاحتمى في مثل الحرجة -وهو الشجر الملتف- وبقي أصحابه يقولون: أبو الحكم لا يوصل إليه. قال معاذ بن عمرو بن الجموح: فلما سمعتها جعلته من شأني، فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه. فوالله ما أشبهها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها. فضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي, فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلت عامة يومي، وإني لأسحبها خلفي. فلما آذتني وضعت عليها قدمي، ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها. قال: ثم عاش بعد ذلك إلى زمن عثمان.
ثم مر بأبي جهل معوذ ابن عفراء، فضربه حتى أثبته, وتركه وبه رمق، وقاتل معوذ حتى قتل، وقتل أخوه عوف قبله، واسم أبيهما: الحارث بن رفاعة بن الحارث الزرقي.(سيرة 1/310)
ثم مر عبد الله بن مسعود بأبي جهل حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتماسه، وقال فيما بلغنا: "إن خفي عليكم في القتلى فانظروا إلى أثر جرح في ركبته، فإني ازدحمت أنا وهو يوما على مأدبة لعبد الله بن جدعان، ونحن غلامان؛ وكنت أشف منه بيسير، فدفعته فوقع على ركبته
فجحش فيها". قال ابن مسعود: فوجدته بآخر رمق، فوضعت رجلي على عنقه. وقد كان ضبث بي مرة بمكة، فآذاني ولكزني. فقلت له: هل أخزاك الله يا عدو الله؟ قال: وبماذا أخزاني، وهل فوق رجل قتلتموه؟ أخبرني لمن الدائرة اليوم؟ قلت: لله ولرسوله، ثم قال: لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا. قال: فاحتززت رأسه وجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! هذا رأس عدو الله أبي جهل. قال: "آلله الذي لا إله غيره"؟. قلت: نعم. وألقيت رأسه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم أمر بالقتلى أن يطرحوا في قليب هناك. فطرحوا فيه إلا ما كان من أمية بن خلف، فإنه انتفخ في درعه فملأها، فذهبوا ليخرجوه فتزايل، فأقروه به، وألقوا عليه التراب فغيبوه.
فلما ألقوا في القليب، وقف عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فإني وجدت ما وعدني ربي حقا". فقالوا: يا رسول الله أتنادي قوما قد جيفوا؟ فقال: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا".(سيرة 1/311)
وفي رواية: فناداهم في جوف الليل: "يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام". فعدد من كان في القليب.
زاد ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا أهل القليب، بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم؛ كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس".
وعن أنس: لما سحب عتبة بن ربيعة إلى القليب نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه أبي حذيفة ابنه، فإذا هو كئيب متغير. فقال: "لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء"؟. قال: لا والله ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكني كنت أعرف منه رأيا وحلما، فكنت أرجو أن يسلم، فلما رأيت ما أصابه وما مات عليه أحزنني ذلك. فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم وقال له خيرا.
وكان الحارث بن ربيعة بن الأسود، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج قد أسلموا، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم حبسهم آباؤهم وعشائرهم، وفتنوهم عن الدين فافتتنوا -نعوذ بالله من فتنة الدين-
ثم ساروا مع قومهم يوم بدر، فقتلوا جميعا. وفيهم نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97] .
وعن عبادة بن الصامت قال: فينا أهل بدر نزلت الأنفال حين تنازعنا في الغنيمة وساءت فيها أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسوله، فقسمه بين المسلمين على السواء. ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة، وزيد بن حارثة، بشيرين إلى(سيرة 1/312)
المدينة. قال أسامة: أتانا الخبر حين سوينا على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبرها، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفني عليها مع عثمان.
ثم قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الأسارى؛ فيهم: عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث. فلما خرج من مضيق الصفراء قسم النفل، فلما أتى الروحاء لقيه المسلمون يهنئونه بالفتح، فقال لهم سلمة بن سلامة: ما الذي تهنئونا به؟ فوالله إن لقينا إلا عجائز ضلعا كالبدن المعقلة فنحرناها. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "أي ابن أخي، أولئك الملأ". يعني الأشراف والرؤساء.
ثم قتل النضر بن الحارث العبدري بالصفراء، وقتل بعرق الظبية عقبة بن أبي معيط، فقال عقبة حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله: فمن للصبية يا محمد؟ قال: النار. فقتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، وقيل: علي.
وقال حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن الشعبي قال: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل عقبة قال: أتقتلني يا محمد من بين قريش؟ قال: "نعم، أتدرون ما صنع هذا بي؟ جاء وأنا ساجد خلف المقام فوضع رجله على عنقي وغمزها، فما رفع حتى ظننت أن عيني ستندران، وجاء مرة أخرى بسلى شاة فألقاه على رأسي وأنا ساجد، فجاءت فاطمة فغسلته عن رأسي".
واستشهد يوم بدر:
مهجع وذو الشمالين عمير بن عبد عمرو الخزاعي، وعاقل بن البكير، وصفوان بن بيضاء، وعمير بن أبي وقاص أخو سعد، وعبيدة بن(سيرة 1/313)
الحارث بن المطلب بن عبد مناف المطلبي الذي قطع رجله عتبة، مات بعد يومين بالصفراء. وهؤلاء من المهاجرين.
وعمير بن الحمام، وابنا عفراء، وحارثة بن سراقة، ويزيد بن الحارث فُسحُم، ورافع بن المعلى الزرقي، وسعد بن خيثمة الأوسي، ومبشر بن عبد المنذر أخو أبي لبابة.
فالجملة أربعة عشر رجلا.
وقتل عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وهما ابنا أربعين ومائة سنة. وكان شيبة أكبر بثلاث سنين.
قال ابن إسحاق: وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش: الحسمان بن عبد الله الخزاعي.
فقالوا: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة، وشيبة, وأبو جهل، وأمية، وزمعة بن الأسود، ونبيه، ومنبه، وأبو البختري بن هشام. فلما جعل يعدد أشراف قريش قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر: والله إن يعقل هذا فسلوه عني. فقالوا: ما فعل صفوان؟ قال: ها هو ذاك جالسا، قد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا.
وعن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت غلاما للعباس وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس وأسلمت، وكان العباس يهاب قومه ويكره الخلاف ويكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه. وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر، فلما جاءه الخبر بمصاب قريش كبته الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزة, وكنت رجلا ضعيفا، وكنت أنحت الأقداح في حجرة زمزم، فإني لجالس أنحت(سيرة 1/314)
أقداحي، وعندي أم الفضل، وقد سرنا الخبر، إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر، حتى جلس على طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري. فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم. فقال أبو لهب: إليَّ، فعندك الخبر. قال: فجلس إليه، والناس قيام عليه، فقال: يابن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا ويأسرونا، وايم الله ما لمت الناس، لقينا "رجالا بيضا" على خيل بلق بين السماء والأرض، والله ما تليق شيئا ولا يقوم لها شيء.
قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك والله الملائكة. فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة قال: وثاورته، فحملني وضرب بي الأرض، ثم برك علي يضربني، وكنت رجلا ضعيفا. فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته به ضربة, فلقت في رأسه شجة منكرة، وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيده؟ فقام موليا ذليلا، فوالله ما عاش إلا سبع ليال, حتى رماه الله بالعدسة فقتلته. وكانت قريش تتقي هذه العدسة كما يتقى الطاعون، حتى قال رجل من قريش لابنيه: ويحكما؟ ألا تستحيان أن أباكما
قد أنتن في بيته ألا تدفنانه؟ فقالا: نخشى عدوى هذه القرحة. فقال: انطلقا فأنا أعينكما فوالله ما غسلوه إلا قذفا بالماء عليه من بعيد. ثم احتملوه إلى أعلى مكة، فأسندوه إلى جدار، ثم رضموا عليه(سيرة 1/315)
الحجارة.
رواه محمد بن إسحاق من طريق يونس بن بكير عنه بمعناه. قال: حدثني الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: حدثني أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، قال: ناحت قريش على قتلاها ثم قالوا: لا تفعلوا فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم.
وكان الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده: زمعة، وعقيل، والحارث فكان يحب أن يبكي عليهم.
قال ابن إسحاق: ثم بعثت قريش في فداء الأسارى، فقدم مكرز بن حفص في فداء سهيل بن عمرو، فقال عمر: دعني يا رسول الله أنزع ثنيتي سهيل يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا، فقال: "لا أمثل به فيمثل الله بي، وعسى أن يقوم مقاما لا تذمه". فقام في أهل مكة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من خطبة أبي بكر الصديق، وحسن إسلامه.
وانسل المطلب بن أبي وداعة، ففدى أباه بأربعة آلاف درهم، وانطلق به.
وبعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء زوجها أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس، بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة(سيرة 1/316)
أدخلتها بها على أبي العاص. فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها, وقال: "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها". قالوا: نعم، يا رسول الله. وأطلقوه.
فأخذ عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يخلي سبيل زينب, وكانت من المستضعفين من النساء، واستكتمه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك, وبعث زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار، فقال: كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب فتصحبانها حتى تأتياني بها. وذلك بعد بدر بشهر.
فلما قدم أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها، فتجهزت فقدم أخو زوجها كنانة بن الربيع بعيرا، فركبته وأخذ قوسه وكنانته، ثم خرج بها نهارا يقودها. فتحدث بذلك رجال، فخرجوا في طلبها، فبرك كنانة ونثر كنانته لما أدركوها لذي طوى، فروعها هبار بن الأسود بالرمح. فقال كنانة: والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهما. فتكركر الناس عنه وأتى أبو سفيان في جلة من قريش، فقال: أيها الرجل كف عنا نبلك حتى نكلمك. فكف فوقف
عليه أبو سفيان فقال: إنك لم تصب، خرجت بالمرأة على رءوس الناس علانية، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذا خرجت بابنته إليه علانية أن ذلك على ذل أصابنا، وأن ذلك منا وهن وضعف، ولعمري ما بنا بحبسها عن أبيها من حاجة، ولكن ارجع بالمرأة، حتى إذا هدأت الأصوات، وتحدث الناس أنا رددناها، فسلها سرا وألحقها بأبيها. قال: ففعل، ثم خرج بها ليلا، بعد ليال، فسلمها إلى زيد وصاحبه، فقدما بها على النبي صلى الله عليه وسلم فأقامت عنده.(سيرة 1/317)
فلما كان قبل الفتح، خرج أبو العاص تاجرا إلى الشام بماله، وبمال كثير لقريش، فلما رجع لقيته سرية فأصابوا ما معه، وأعجزهم هاربا، فقدموا بما أصابوا. وأقبل أبو العاص في الليل، حتى دخل على زينب، فاستجار بها فأجارته، وجاء في طلب ماله. فلما خرج صلى الله عليه وسلم إلى الصبح وكبر وكبر الناس معه، صرخت زينب من صفة النساء: أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع.
وبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى السرية الذين أصابوا ماله فقال: "إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالا، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له، فإنا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم، فأنتم أحق به". قالوا: بل نرده فردوه كله. ثم ذهب به إلى مكة، فأدى إلى كل ذي مال ماله. ثم قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحد منكم عندي مال؟ قالوا: لا، فجزاك الله خيرا، فقد وجدناك وفيا كريما. قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أني إنما أردت أكل أموالكم.
ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عباس قال: رد عليه النبي صلى الله عليه وسلم زينب على النكاح الأول، لم يحدث شيئا.
ومن الأسارى: الوليد بن الوليد بن المغيرة المخزومي، أسره عبد الله بن جحش، وقيل: سليط المازني.
وقدم في فدائه أخواه: خالد بن الوليد، وهشام بن الوليد، فافتكاه بأربعة آلاف درهم، وذهبا به.
فلما افتدي أسلم، فقيل له في ذلك فقال: كرهت أن يظنوا بي أني(سيرة 1/318)
جزعت من الأسر، فحبسوه بمكة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو له في القنوت، ثم هرب ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية، وتوفي قديما؛ لعل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فبكته أم سلمة، وهي بنت عمه:
يا عين فابكي للوليـ ... ـد بن الوليد بن المغيره
قد كان عيثا في السنيـ ... ـن ورحمة فينا وميره
ضخم الدسيعة ماجدا ... يسمو إلى طلب الوتيره
مثل الوليد بن الوليد ... أبي الوليد كفى العشيره
ومن الأسرى: أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي. كان محتاجا ذا بنات، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: قد عرفت أني لا مال لي، وأني ذو حاجة وعيال، فامنن عليَّ. فمن عليه، وشرط عليه أن لا يظاهر عليه أحدا.
وقال عروة بن الزبير: جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية، بعد مصاب أهل بدر بيسير، في الحجر، وكان عمير من شياطين قريش، وممن يؤذي المسلمين، وكان ابنه وهيب في الأسرى، فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان: "والله ما في العيش بعدهم خير". فقال عمير: صدقت، والله لولا دين عليّ ليس عندي له قضاء، وعيال أخشى عليهم، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي فيهم علة؛ ابني أسير في أيديهم. فاغتنمها صفوان فقال: عليّ دينك وعيالك. قال: فاكتم عليّ. ثم شحذ سيفه وسمه، ومضى إلى المدينة.
فبينا عمر في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، إذ نظر عمر إلى عمير حين أناخ على باب المسجد متوشحا بالسيف. فقال: هذا الكلب عدو الله عمير، قال: وهو الذي حزرنا يوم بدر. ثم دخل على(سيرة 1/319)
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا عمير. قال: أدخله عليّ. فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه، فلببه به، وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله فاجلسوا عنده واحذروا عليه هذا الخبيث. ثم دخل به, فقال عليه السلام: "أرسله يا عمر، ادن يا عمير". فدنا، ثم قال: أنعموا صباحا، قال: "فما جاء بك"؟. قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم. قال: "فما بال السيف في عنقك"؟. قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت شيئا؟ قال: "اصدقني ما الذي جئت له". قال: ما جئت إلا لذلك. قال: "بلى، قعدت أنت وصفوان في الحجر". وقص له ما قالا. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما تأتينا به من خبر السماء، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا
وصفوان فوالله لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام. فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "فقهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن وأطلقوا له أسيره". ففعلوا.
ثم قال: يا رسول الله إني كنت جاهدا على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله، وأنا أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله ورسوله، لعل الله أن يهديهم، وإلا آذيتهم في دينهم. فأذن له ولحق بمكة. وكان صفوان يعد قريشا يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن تنسيكم وقعة بدر. وكان صفوان يسأل عنه الركبان، حتى قدم راكبا فأخبره عن إسلامه، فحلف لا يكلمه أبدا ولا ينفعه بشيء أبدا. ثم أقام يدعو إلى الإسلام، ويؤذي المشركين، فأسلم على يديه ناس كثير.(سيرة 1/320)
بقية أحديث غزوة بدر:
وهي كالشرح لما قدمناه، منها:
قال إسرائيل: عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود، قال: انطلق سعد بن معاذ معتمرا: فنزل على أمية بن خلف -وكان أمية ينزل عليه إذا سافر إلى الشام- فقال لسعد: انتظر حتى إذا انتصف النهار وغفل الناس فطف قال: فبينما هو يطوف إذ أتاه أبو جهل فقال: من أنت. قال: سعد. قال: أتطوف آمنا وقد آويتم محمدا وأصحابه، وتلاحيا. فقال أمية لسعد: لا ترفع صوتك على أبي الحكم فإنه سيد أهل الوادي. فقال: والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن عليك متجرك بالشام. وجعل أمية يقول: لا ترفع صوتك. فغضب وقال: دعنا منكم، فإني سمعت محمدا صلى الله عليه وسلم يزعم أنه قاتلك، قال: إياي؟ قال: نعم. قال: والله ما يكذب محمد فكاد أن يحدث، فرجع فقال لامرأته: أتعلمين ما قال أخي اليثربي؟ قالت: وما قال؟ قال: زعم أن محمدا يزعم أنه قاتلي. قالت: فوالله ما يكذب. فلما خرجوا لبدر وجاء الصريخ قالت له امرأته: أما علمت ما قال اليثربي! قال: فإني إذن لا أخرج. فقال له أبو جهل: إنك من أشراف أهل الوادي فسر معنا يوما أو يومين. فسار معهم، فقتل. أخرجه البخاري.
وأخرجه أيضا من حديث إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق السبيعي، عن أبيه، عن جده، وفيه: فلما استنفر أبو جهل الناس وقال:(سيرة 1/321)
أدركوا عيركم، كره أمية أن يخرج، فأتاه أبو جهل فقال: يا أبا صفوان إنك متى يراك الناس تخلفت -وأنت سيد أهل الوادي- تخلفوا
معك فلم يزل به حتى قال: إذ غلبتني فوالله لأشترين أجود بعير مكة. ثم قال: يا أم صفوان جهزيني فما أريد أن أجوز معهم إلا قريبا. فلما خرج أخذ لا ينزل منزلا إلا عقل بعيره، فلم يزل بذاك حتى قتله الله ببدر. البخاري.
وذكر الزهري قال: إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن خرج من أصحابه يريدون عير قريش التي قدم بها أبو سفيان من الشام، حتى جمع الله بين الفئتين من غير ميعاد. قال الله تعالى: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} [الأنفال: 42] .
رؤيا عاتكة:
قال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة، عن ابن عباس.
"ح" قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان، عن عروة، قالا:
رأت عاتكة بنت عبد المطلب فيما يرى النائم قبل مقدم ضمضم بن عمرو الغفاري على قريش مكة بثلاث ليال، رؤيا، فأصبحت عاتكة فأعظمتها، فبعثت إلى أخيها العباس فقالت له: يا أخي لقد رأيت الليلة(سيرة 1/322)
رؤيا ليدخلن منها على قومك شر وبلاء. فقال: وما هي؟ قالت: رأيت فيما يرى النائم أن رجلا أقبل على بعير له فوقف بالأبطح فقال: انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث، فاجتمعوا إليه، ثم أرى بعيره دخل به المسجد واجتمع الناس إليه. ثم مثل به بعيره فإذا هو على رأس الكعبة، فقال: انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث. ثم أرى بعيره مثل به على رأس أبي قبيس، فقال: انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث. ثم أخذ صخرة فأرسلها من رأس الجبل فأقبلت تهوي، حتى إذا كانت في أسفله ارفضت فما بقيت دار من دور قومك ولا بيت إلا دخل فيه بعضها.
فقال العباس: والله إن هذه لرؤيا، فاكتميها. فقالت: أنت فاكتمها، لئن بلغت هذه قريشا ليؤذننا. فخرج العباس من عندها، فلقي الوليد بن عتبة -وكان له صديقا- فذكرها له واستكتمه، فذكرها الوليد لأبيه، فتحدث بها، ففشا الحديث، فقال العباس: والله إني لغاد
إلى الكعبة لأطوف بها، فإذا أبو جهل في نفر يتحدثون عن رؤيا عاتكة، فقال أبو جهل: يا أبا الفضل تعال. فجلست إليه فقال: متى حدثت هذه النبية فيكم؟ ما رضيتم يا بني عبد المطلب أن ينبأ رجالكم حتى تنبأ نساؤكم، سنتربص بكم هذه الثلاث التي ذكرت عاتكة، فإن كان حقا فسيكون، وإلا كتبنا عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب.
قال: فوالله ما كان إليه مني من كبير، إلا أني أنكرت ما قالت، وقلت: ما رأت شيئا ولا سمعت بهذا، فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلى أتتني فقلن: صبرتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في(سيرة 1/323)
رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع، فلم يكن عندك في ذلك غير. فقلت: قد والله صدقتن وما كان عندي في ذلك من غير إلا أني أنكرت، ولا تعرضن له، فإن عاد لأكفينه.
فغدوت في اليوم الثالث أتعرض له ليقول شيئا فأشاتمه، فوالله إني لمقبل نحوه، وكان رجلا حديد الوجه، حديد النظر، حديد اللسان، إذ ولى نحو باب المسجد يشتد، فقلت في نفسي: اللهم العنه، كل هذا فرقا أن أشاتمه. وإذا هو قد سمع ما لم أسمع، صوت ضمضم بن عمرو، وهو واقف بعيره بالأبطح؛ قد حول رحله وشق قميصه وجدع بعيره؛ يقول: يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة! أموالكم مع أبي سفيان، قد عرض لها محمد، فالغوث الغوث! فشغله ذلك عني، وشغلني عنه، فلم يكن إلا الجهاز حتى خرجنا، فأصاب قريشا ما أصابهم يوم بدر، فقالت عاتكة:
ألم تكن الرؤيا بحق وجاءكم ... بتصديقها فل من القوم هارب
فقلتم ولم أكذب كذبت وإنما ... يكذبنا بالصدق من هو كاذب
وقال أبو إسحاق: سمعت البراء يقول: استصغرت أنا وابن عمر يوم بدر. وكنا -أصحاب محمد- نتحدث أن عدة أهل بدر ثلاثمائة وبضعة عشر، كعدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر، وما جازه إلا مؤمن. أخرجه البخاري.
وقال: سمعت البراء يقول: كان المهاجرون يوم بدر نيفا وثمانين.(سيرة 1/324)
أخرجه البخاري.
وقال ابن لهيعة: حدثني يزيد بن أبي حبيب، حدثني أسلم أبو عمران أنه سمع أبا أيوب الأنصاري يقول: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة: "هل لكم أن نخرج فنلقى العير لعل الله يغنمنا"؟. قلنا: نعم. فخرجنا، فلما سرنا يوما أو يومين أمرنا أن نتعاد، ففعلنا، فإذا نحن ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، فأخبرناه بعدتنا، فسر بذلك وحمد الله، وقال: "عدة أصحاب طالوت".
وقال ابن وهب: حدثني حيي بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوم بدر بثلاثمائة وخمسة عشر من المقاتلة كما خرج طالوت فدعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج فقال: "اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأشبعهم". ففتح الله لهم، فانقلبوا وما منهم رجل إلا وقد رجع بجمل أو جملين، واكتسوا وشبعوا.
وقال أبو إسحاق، عن البراء، قال: لم يكن يوم بدر فارس غير المقداد.
وقال أبو إسحاق، عن حارثة بن مضرب: إن عليا قال: لقد رأيتنا ليلة بدر وما منا أحد إلا وهو نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يصلي إلى شجرة ويدعو حتى أصبح، ولقد رأيتنا وما منا أحد فارس يومئذ إلا المقداد. رواه شعبة عنه.
ومن وجه آخر عن علي، قال: ما كان معنا إلا فرسان. فرس للزبير وفرس للمقداد بن الأسود.(سيرة 1/325)
وعن إسماعيل بن أبي خالد، عن البهي، قال: كان يوم بدر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فارسان، الزبير على الميمنة، والمقداد على الميسرة.
وقال عروة: كان على الزبير يوم بدر عمامة صفراء، فنزل جبريل على سيما الزبير.
وقال حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، قال: كنا يوم بدر نتعاقب ثلاثة على بعير، فكان علي وأبو لبابة زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان إذا حانت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولان له: اركب حتى نمشي فيقول: "إني لست بأغنى عن الأجر منكما، ولا أنتما بأقوى على المشي مني".
المشهور عند أهل المغازي: مرثد بن أبي مرثد الغنوي بدل أبي لبابة، فإن أبا لبابة رده النبي صلى الله عليه وسلم واستخلفه على المدينة.
وقال معمر: سمعت الزهري يقول: لم يشهد بدرا إلا قرشي أو أنصاري أو حليف لهما.
وعن الحسن، قال: كان فيهم اثنا عشر من الموالي.
وقال عمرو العنقزي: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي عنه قال: أخذنا رجلين يوم بدر، أحدهما عربي والآخر مولى، فأفلت العربي وأخذنا المولى؛ مولى لعقبة بن أبي معيط؛ فقلنا: كم هم؟ قال: كثير عددهم شديد بأسهم, فجعلنا نضربه، حتى انتهينا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كم ينحرون من الجزر"؟. فقال: في كل يوم عشرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القوم ألف، لكل جزور مائة".
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثنا عبد الله بن أبي بكر، أن(سيرة 1/326)
سعد بن معاذ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا نبني لك عريشا، فتكون فيه، وننيخ لك ركائبك ونلقى عدونا، فإن أظهرنا الله عليهم فذاك، وإن تكن الأخرى فتجلس على ركائبك وتلحق بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد لك حبا منهم، ولو علموا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، ويوادونك وينصرونك. فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له. فبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش، فكان فيه وأبو بكر ما معهما غيرهما.
وقال البخاري: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا إسرائيل، عن مخارق، عن طارق بن شهاب، سمع ابن مسعود يقول: شهدت من المقداد مشهدا لأن أكون صاحبه كان أحب إلي مما عدل به: أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يدعو على المشركين فقال: لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] ، ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك ومن بين يديك ومن خلفك، قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرق لذلك، وسره.
وقال مسلم وأبو داود: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب أصحابه فانطلق إلى بدر، فإذا هم بروايا قريش, فيها عبد أسود لبني الحجاج، فأخذه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا يسألونه: أين أبو سفيان؟ فيقول: والله ما لي بشيء من أمره علم، ولكن هذه قريش قد جاءت، فيهم أبو جهل، وعتبة، وشيبة ابنا ربيعة، وأمية بن خلف. قال: فإذا قال لهم ذلك ضربوه، فيقول: دعوني دعوني(سيرة 1/327)
أخبركم. فإذا تركوه قال كقوله سواء، والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يسمع ذلك فلما انصرف، قال: "والذي نفسي بيده إنكم لتضربونه إذا صدقكم وتدعونه إذا كذبكم، هذه قريش قد أقبلت لتمنع أبا سفيان".
قال أنس: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا مصرع فلان غدا". ووضع يده على الأرض, "وهذا مصرع فلان" , ووضع يده على الأرض، "وهذا مصرع فلان"، ووضع يده على الأرض.
قال: والذي نفسي بيده ما جاوز أحد منهم عن موضع يده صلى الله عليه وسلم قال: فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بأرجلهم، فسحبوا فألقوا في قليب بدر. صحيح.
وقال حماد أيضا، عن ثابت، عن أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة -كذا قال، والمعروف ابن معاذ- فقال: إيانا تريد يا رسول الله؟ والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا. قال: فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فانطلقوا حتى نزلوا بدرا وساق الحديث المذكور قبل هذا. أخرجه مسلم.
ورواه أيضا من حديث سليمان بن المغيرة أخصر منه عن ثابت، عن أنس: حدثنا عمر، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبرنا عن مصارع القوم بالأمس: هذا مصرع فلان إن شاء الله غدا، هذا مصرع فلان إن شاء الله غدا. فوالذي بعثه بالحق، ما أخطئوا تلك الحدود، وجعلوا يصرعون حولها، ثم ألقوا في القليب.(سيرة 1/328)
وجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا". فقلت: يا رسول الله أتكلم أجسادا لا أرواح فيها؟ فقال: "والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يردوا عليّ".
وقال شعبة، عن أبي إسحاق، عن حارثة، عن علي، قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد على فرس أبلق، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة يصلي ويبكي، حتى أصبح.
وقال أبو علي عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي: حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، قال: أخبرني إسماعيل بن عون بن عبيد الله بن أبي رافع، عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده، عن علي، قال: لما كان يوم بدر قاتلت شيئا من قتال، ثم جئت لأنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعل، فجئت فإذا هو ساجد يقول: يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم، لا يزيد عليها. فرجعت إلى القتال، ثم جئت وهو ساجد يقول أيضا. غريب.
وقال الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة, عن عبد الله، قال: ما سمعت مناشدا ينشد حقا أشد من مناشدة محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر, جعل يقول: "اللهم أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد". ثم التفت وكأن شق وجهه القمر؛ فقال: "كأنما أنظر إلى مصارع القوم عشية".
وقال خالد, عن عكرمة، عن ابن عباس, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في(سيرة 1/329)
قبته يوم بدر: "اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا". فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك؛ وهو في الدرع. فخرج وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 45، 46] ، أخرجه البخاري.
وقال عكرمة بن عمار: حدثني أبو زميل سماك الحنفي، قال: حدثني ابن عباس، عن عمر، قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف, وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا. فاستقبل القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه فقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] ، فأمده الله بالملائكة فحدثني ابن
عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس: أقدم حيزوم. إذ نظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع. فجاء الأنصاري، فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة". فقتلوا يومئذ سبعين، وأسروا سبعين. أخرجه مسلم.
وقال سلامة بن روح، عن عقيل، حدثني ابن شهاب قال: قال أبو(سيرة 1/330)
حازم، عن سهل بن سعد، قال: قال أبو أسيد الساعدي بعدما ذهب بصره: يابن أخي، والله لو كنت أنا وأنت ببدر، ثم أطلق الله لي بصري لأريتك الشعب الذي خرجت علينا منه الملائكة، غير شك ولا تمار.
وقال الواقدي: حدثنا ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس. وحدثنا موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا بكر أبشر هذا جبريل معتجر بعمامة صفراء آخذ بعنان فرسه بين السماء والأرض. فلما نزل إلى الأرض، تغيب عني ساعة ثم طلع، على ثناياه النقع يقول: أتاك نصر الله إذ دعوته".
وقال عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: "هذا جبريل آخذ برأس فرسه، عليه أداة الحرب". أخرجه البخاري.
وقال موسى بن يعقوب الزمعي: حدثني أبو الحويرث، قال: حدثني محمد بن جبير بن مطعم أنه سمع عليا -رضي الله عنه- خطب الناس فقال: بينما أنا أمتح من قليب بدر إذ جاءت ريح شديدة لم أر مثلها ثم ذهبت، ثم جاءت ريح شديدة كالتي قبلها، فكانت الريح الأولى جبريل نزل في ألف من الملائكة, وكانت الثانية ميكائيل نزل في ألف من الملائكة، وجاءت ريح ثالثة كان فيها إسرافيل في ألف. فلما هزم الله أعداءه حملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرسه, فجرت بي، فوقعت على عقبي، فدعوت الله فأمسكت، فلما استويت عليها طعنت بيدي هذه في القوم حتى اختضب هذا، وأشار إلى إبطه. غريب، وموسى فيه(سيرة 1/331)
ضعف.
وقوله: "حملني على فرسه" لا يعرف إلا من هذا الوجه.
وقال يحيى بن بكير: حدثني محمد بن يحيى بن زكريا الحميري، قال: حدثنا العلاء بن كثير، قال: حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، قال: حدثني أبو أمامة بن سهل، قال: قال أبي: يا بني لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى رأس المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف.
وقال ابن إسحاق: حدثني من لا أتهم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضا قد أرسلوها في ظهورهم ويوم حنين عمائم حمرا، ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر، وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددا ومددا.
وجاء في قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12] ؛ ذكر الواقدي، عن إبراهيم بن أبي حبيبة؛ حدثه عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان الملك يتصور في صورة من يعرفون من الناس، يثبتونهم، فيقول: إني قد دنوت منهم فسمعتهم يقولون: لو حملوا علينا ما ثبتنا. إلى غير ذلك من القول.
وقال إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة، عن علي، قال: لما قدمنا المدينة، أصبنا من ثمارها فاجتويناها وأصابنا بها وعك، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخبر عن بدر. فلما بلغنا أن المشركين قد أقبلوا، سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر -وهي بئر- فسبقنا المشركين إليها، فوجدنا فيها(سيرة 1/332)
رجلين: رجلا من قريش ومولى لعقبة بن أبي معيط. أما القرشي فانفلت، وأما مولى عقبة فأخذناه فجعلنا نقول له: كم القوم؟ فيقول: هم والله كثير عددهم شديد بأسهم. فجعل المسلمون إذا قال ذلك ضربوه، حتى انتهوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "كم القوم"؟ قال: هم كثير عددهم شديد بأسهم، فجهد أن يخبره كم هم فأبى, ثم سأله: "كم ينحرون كل يوم من الجزور"؟ فقال: عشرة. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "القوم ألف، كل جزور بمائة وتبعها".
ثم إنه أصابنا من الليل طش من مطر، فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها. وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ويقول: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في
الأرض". فلما طلع الفجر نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلاة جامعة". فجاء الناس من تحت الشجر والحجف والجرف فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحض على القتال، ثم قال: "إن جمع قريش عند هذه الضلع الحمراء من الجبل". فلما دنا القوم منا وضايقناهم إذا رجل منهم يسير في القوم على جمل أحمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا علي ناد لي حمزة -وكان أقربهم من المشركين- من صاحب الجمل الأحمر؟ وماذا يقول لهم"؟. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن يك في القوم أحد يأمر بخير فعسى أن يكون صاحب الجمل الأحمر". فجاء حمزة فقال: هو عتبة بن ربيعة، وهو ينهى عن القتال ويقول: يا قوم إني أرى أقواما مستميتين لا تصلون إليهم وفيكم خير، يا قوم اعصبوها اليوم برأسي وقولوا: جبن عتبة. وقد تعلمون أني لست(سيرة 1/333)
بأجبنكم. فسمع بذلك أبو جهل فقال: أنت تقول هذا؟ والله لو غيرك يقول هذا لأعضضته. قد ملئت جوفك رعبا، فقال: إياي تعني يا مصفر استه؟ ستعلم اليوم أينا أجبن؟
فبرز عتبة وابنه الوليد وأخوه حمية، فقال: من يبارز؟ فخرج من الأنصار شببة، فقال عتبة: لا نريد هؤلاء، ولكن يبارزنا من بني عمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم يا علي، قم يا حمزة، قم يا عبيدة بن الحارث". فقتل الله عتبة، وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة، وجرح عبيدة. فقتلنا منهم سبعين وأسرنا سبعين، فجاء رجل من الأنصار قصير برجل من بني هاشم أسيرا فقال الرجل: إن هذا والله ما أسرني، ولقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها على فرس أبلق, ما أراه في القوم. فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله فقال: "اسكت، فقد أيدك الله بملك كريم". قال: فأسر من بني عبد المطلب: العباس، وعقيل، ونوفل بن الحارث.
وقال إسحاق بن منصور السلولي: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: لقد قلوا في أعيننا يوم بدر، حتى قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة. فأسرنا رجلا, فقلت: كم كنتم؟ قال: ألفا.
وقال سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض". قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله عرضها السموات والأرض؟ فقال: "نعم". قال: بخ بخ! قال: "ما يحملك على قولك: بخ بخ"؟. قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال: "فإنك من أهلها".(سيرة 1/334)
فأخرج
تميرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة فرمى بهن، ثم قاتل حتى قتل. أخرجه مسلم.
وقال عبد الرحمن بن الغسيل، عن حمزة بن أبي أسيد, عن أبيه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اصطففنا يوم بدر: إذا أكثبوهم؛ يعني: إذا غشوكم، فارموهم بالنبل، واستبقوا نبلكم. أخرجه البخاري.
وروى عمر بن عبد الله بن عروة، عن عروة بن الزبير، قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شعار المهاجرين يوم بدر: يا بني عبد الرحمن، وشعار الخزرج: يا بني عبد الله، وشعار الأوس: يا بني عبيد الله. وسمى خيله: خيل الله.
أخبرنا أبو محمد عبد الخالق بن عبد السلام، وابنة عمه ست الأهل بنت علوان -سنة ثلاث وتسعين- وآخرون قالوا: حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الفقيه، قال: أنبأتنا شهدة بنت أحمد، قالت: أخبرنا الحسين بن طلحة، قال: أخبرنا أبو عمر بعد الواحد بن مهدي، قال: حدثنا الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا محمود بن خداش، قال: حدثنا هشيم, قال: أخبرنا أبو هاشم، عن أبي مجلز، عن قيس بن عباد، قال: سمعت أبا ذر -رضي الله عنه- يقسم قسما: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] ، أنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر: حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث -رضي الله عنهم- وعتبة، وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة.(سيرة 1/335)
أخرجه البخاري عن يعقوب الدورقي وغيره، ومسلم عن عمرو بن زرارة، عن هشيم، عن أبي هاشم يحيى بن دينار الرماني الواسطي، عن أبي مجلز لاحق بن حميد السدوسي البصري. وهو من الأبدال العوالي.
وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصي المطلبي، أمه ثقفية, وكان أسن من النبي صلى الله عليه وسلم بعشر سنين، أسلم هو وأبو سلمة بن عبد الأسد وعثمان بن مظعون في وقت.
وهاجر هو وأخواه الطفيل والحصين. وكان عبيدة كبير المنزلة عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مربوعا مليحا، توفي بالصفراء. وهو الذي بارز عتبة بن ربيعة، فاختلفا ضربتين، كلاهما أثبت صاحبه، كما تقدم. وقد جهزه النبي صلى الله عليه وسلم في ستين راكبا من المهاجرين أمره عليهم؛ فكان أول لواء عقده النبي صلى الله عليه وسلم لواء عبيدة، فالتقى بقريش وعليهم أبو سفيان عند ثنية المرة، فكان أول قتال في الإسلام. قاله محمد بن إسحاق.
وقال ابن إسحاق وغيره عن الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير أن المستفتح يوم بدر أبو جهل، قال لما التقى الجمعان: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف، فأحنه الغداة.
فقتل، ففيه أنزلت: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال: 19] .
وقال معاذ بن معاذ: حدثنا شعبة، عن عبد الحميد صاحب الزيادي، سمع أنسا يقول: قال أبو جهل: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ(سيرة 1/336)
فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ، [الأنفال: 32] ، فنزلت: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 32] ، فنزلت: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] ، متفق عليه.
وعن ابن عباس في قوله: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} [الأنفال: 34] ، قال: يوم بدر بالسيف قاله عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عنه.
وبه عنه في قوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} [الأنفال: 7] ، قال: أقبلت عير أهل مكة تريد الشام -كذا قال- فبلغ أهل المدينة ذلك, فخرجوا ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون العير. فبلغ ذلك أهل مكة فأسرعوا السير، فسبقت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الله وعدهم إحدى الطائفتين. وكانوا أن يلقوا العير أحب إليهم، وأيسر شوكة وأحضر مغنما.
فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد القوم، فكره المسلمون مسيرهم لشوكة القوم، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وبينهم وبين الماء رملة دعصة، فأصاب المسلمين ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم القنط يوسوسهم: تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم كذا. فأنزل الله عليهم مطرا شديدا، فشرب المسلمون وتطهروا، فأذهب الله عنهم رجز الشيطان، وصار الرمل؛ يعني ملبدا. وأمدهم الله بألف من الملائكة.
وجاء إبليس في جند من الشياطين، معه رايته في صورة رجال بني مدلج، والشيطان في
صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال للمشركين: {لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} [الأنفال: 48] ، فلما اصطف القوم قال أبو جهل:(سيرة 1/337)
اللهم أولانا بالحق فانصره.
ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال: "يا رب إنك إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا". فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب. فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه، فولوا مدبرين, وأقبل جبريل إلى إبليس، فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين نزع يده وولى مدبرا وشيعته. فقال الرجل: يا سراقة، أما زعمت أنك لنا جار؟ قال: {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} [الأنفال: 48] .
وقال يوسف بن الماجشون: أخبرنا صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن جده، قال: إني لواقف يوم بدر في الصف, فنظرت عن يمين وشمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما. فتمنيت أن أكون بين أضلع منهما. فغمزني أحدهما فقال: يا عم أتعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، وما حاجتك إليه؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده إن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا.
فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي مثلها. فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل وهو يجول في الناس، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه. فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبراه، فقال: أيكما قتله؟ فقال كل واحد منهما: أنا قتلته. فقال: "هل مسحتما سيفيكما"؟ قالا: لا. قال: فنظر في السيفين، فقال: "كلاهما قتله". وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو، والآخر معاذ بن عفراء. متفق عليه.(سيرة 1/338)
وقال زهير بن معاوية: حدثنا سليمان التيمي، قال: حدثني أنس، عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: من ينظر ما صنع أبو جهل؟ فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد. قال: أنت أبو جهل؟ فأخذ بلحيته. فقال: هل فوق رجل قتلتموه، أو قتله قومه؟ أخرجه البخاري ومسلم.
وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس, عن عبد الله أنه أتى أبا جهل فقال: قد أخزاك الله. فقال: هل أعمد من رجل قتلتموه؟ أخرجه البخاري.
وقال عثام بن علي: حدثنا الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: انتهيت إلى أبي جهل وهو صريع، وعليه بيضة, ومعه سيف جيد، ومعي سيف رث.
فجعلت أنقف رأسه بسيفين وأذكر نقفا كان ينقف رأسي بمكة، حتى ضعفت يده، فأخذت سيفه, فرفع رأسه فقال: على من كانت الدبرة، لنا أو علينا؟ ألست رويعينا بمكة؟ قال: فقتلته. ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم, فقلت: قتلت أبا جهل. فقال: "آلله الذي لا إله إلا هو"؟. فاستحلفني ثلاث مرار. ثم قام معي إليهم, فدعا عليهم.
وروي نحوه عن سفيان الثوري, عن أبي إسحاق وفيه: فاستحلفني(سيرة 1/339)
وقال: "الله أكبر، الحمد لله الذي صدق وعده, ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، انطلق فأرنيه". فانطلقت فأريته. فقال: "هذا فرعون هذه الأمة".
وروي عن أبي إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه قتله خر ساجدا.
وقال الواقدي: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مصرع ابني عفراء فقال: "يرحم الله ابني عفراء، فهما شركاء في قتل فرعون هذه الأمة ورأس أئمة الكفر". فقيل: يا رسول الله، ومن قتله معهما؟ قال: "الملائكة، وابن مسعود قد شرك في قتله".
وقال أبو نعيم: حدثنا سلمة بن رجاء، عن الشعثاء؛ امرأة من بني أسد، قالت: دخلت على عبد الله بن أبي أوفى، فرأيته صلى الضحى ركعتين، فقالت له امرأته: إنك صليت ركعتين. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الضحى ركعتين حين بشر بالفتح، وحين جيء برأس أبي جهل.
وقال مجالد، عن الشعبي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني مررت ببدر, فرأيت رجلا يخرج من الأرض، فيضربه رجل بمقمعة حتى يغيب في الأرض، ثم يخرج، فيفعل به مثل ذلك مرارا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك أبو جهل بن هشام يعذب إلى يوم القيامة".
وقال البخاري ومسلم من حديث ابن أبي عروبة، عن قتادة قال: ذكر لنا أنس، عن أبي طلحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش، فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث. وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال. فلما كان ببدر اليوم الثالث، أمر براحلته فشد عليها، ثم مشى ما تبعه أصحابه، فقالوا:(سيرة 1/340)
ما نراه إلا ينطلق لبعض حاجته، حتى قام على شفة الركى فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: "يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حق ا"؟. فقال عمر: يا رسول الله، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال: "والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم".
قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندامة. صحيح.
وقال هشام، عن أبيه، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر فقال: إنهم ليسمعون ما أقول. قال عروة: فبلغ عائشة فقالت: ليس هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما قال: إنهم ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق، إنهم قد تبوءوا مقاعدهم من جهنم، إن الله يقول: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] ، {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22، 23] ، أخرجه البخاري.
ما روت عائشة لا ينافي ما روى ابن عمر وغيره، فإن علمهم لا يمنع من سماعهم قوله -عليه السلام- وأما إنك لا تسمع الموتى، فحق لأن الله أحياهم ذلك الوقت كما يحيي الميت لسؤال منكر ونكير.
وقال عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس في قوله: {بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا} [إبراهيم: 28] ، قال: هم كفار من قريش {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28] ؛ قال: النار يوم بدر. أخرجه البخاري.(سيرة 1/341)
وقال إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من القتلى قيل له: عليك العير ليس دونها شيء. فناداه العباس وهو في الوثاق: إنه لا يصلح لك. قال: لم؟ قال: لأن الله -عز وجل- وعدك إحدى الطائفتين، وقد أنجز لك ما وعدك. هذا إسناد صحيح، رواه جعفر بن محمد بن شاكر، عن أبي نعيم، عنه.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني خبيب بن عبد الرحمن قال: ضرب خبيب بن عدي يوم بدر فمال شقه، فتفل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأمه ورده، فانطبق.
أحمد بن الأزهر: حدثنا عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان، عن أبي عمران الجوني، عن أنس أو غيره قال: شهد عمير بن وهب الجمحي بدرا كافرا، وكان في القتلى. فمر به رجل فوضع سيفه في بطنه، فخرج من ظهره. فلما برد عليه الليل لحق بمكة فصح. فاجتمع هو وصفوان بن أمية فقال: لولا عيالي ودَيني لكنت الذي أقتل محمدا. فقال صفوان: وكيف تقتله؟ قال: أنا رجل جريء الصدر جواد لا ألحق، فأضربه وألحق بالجبل فلا أدرك. قال: عيالك في عيالي ودَينك عليَّ. فانطلق فشحذ سيفه وسمه، وأتى المدينة، فرآه عمر فقال للصحابة: احفظوا أنفسكم فإني أخاف عميرا إنه رجل فاتك، ولا أدر ما جاء به. فأطاف المسلمون برسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء عمير، متقلدا سيفه، إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنعم صباحا. قال: "ما جاء بك يا عمير"؟. قال: حاجة. قال: "فما بال السيف"؟. قال: قد حملناها يوم بدر فما أفلحت ولا أنجحت. قال: "فما قولك لصفوان وأنت في الحجر"؟. وأخبره بالقصة فقال عمير: قد كنت تحدثنا عن خبر السماء فنكذبك،(سيرة 1/342)
وأراك تعلم خبر الأرض. أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، بأبي أنت وأمي، أعطني منك علما يعلم أهل مكة أني أسلمت. فأعطاه، فقال عمر: لقد جاء عمير وإنه لأضل من خنزير، ثم رجع وهو أحب إليَّ من ولدي.
وقال يونس، عن ابن إسحاق، قال: حدثنا عكاشة الذي قاتل بسيفه يوم بدر حتى انقطع في يده، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه جذلا من حطب، فقال: "قاتل بهذا". فلما أخذه هزه فعاد سيفا في يده، طويل القامة شديد المتن أبيض الحديدة. فقاتل بها، حتى فتح الله على رسوله،
ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قتل في قتال أهل الردة وهو عنده، وكان ذلك السيف يسمى القوي.
هكذا ذكره ابن إسحاق بلا سند.
وقد رواه الواقدي، قال: حدثني عمر بن عثمان الجحشي، عن أبيه، عن عمته، قالت: قال عكاشة بن محصن: انقطع سيفي يوم بدر، فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا، فإذا هو سيف أبيض طويل. فقاتلت به.
وقال الواقدي: حدثني أسامة بن زيد الليثي، عن داود بن الحصين، عن جماعة، قالوا: انكسر سيف سلمة بن أسلم يوم بدر، فبقي أعزل لا سلاح معه، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قضيبا كان في يده من عراجين، فقال: اضرب به. فإذا هو سيف جيد. فلم يزل عنده حتى قتل يوم جسر أبي عبيد.(سيرة 1/343)
ذكر غزوة بدر: من مغازي موسى بن عقبة فإنها من أصح المغازي
قد قال إبراهيم بن المنذر الحزامي: حدثني مطرف ومعن وغيرهما أن مالكا إذا سئل عن المغازي قال: عليك بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة، فإنه أصح المغازي.
قال محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة قال: قال ابن شهاب "ح" وقال إسماعيل بن أبي أويس: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة -وهذا لفظه- عن عمه موسى بن عقبة، قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قتل ابن الحضرمي شهرين، ثم أقبل أبو سفيان في عير لقريش، ومعه سبعون راكبا من بطون قريش؛ منهم: مخرمة بن نوفل وعمرو بن العاص، وكانوا تجارا بالشام، ومعهم خزائن أهل مكة، ويقال: كانت عيرهم ألف بعير. ولم يكن لقريش أوقية فما فوقها إلا بعثوا بها مع أبي سفيان؛ إلا حويطب بن عبد العزى، فلذلك تخلف عن بدر فلم يشهدها. فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد كانت الحرب بينهم قبل ذاك، فبعث عدي ابن أبي الزغباء الأنصاري، وبسبس بن عمرو، إلى العير، عينا له، فسارا، حتى أتيا حيا من جهينة، قريبا من ساحل البحر، فسألوهم عن العير، فأخبروهما بخبر القوم. فرجعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم(سيرة 1/344)
فأخبراه. فاستنفر المسلمين للعير، في رمضان.
قدم أبو سفيان على الجهنيين وهو متخوف من المسلمين, فسألهم فأخبروه خبر الراكبين، فقال أبو سفيان: خذوا من بعر بعيريهما. ففته فوجد النوى فقال: هذه علائف أهل يثرب.
فأسرع وبعث رجلا من بني غفار يقال له، ضمضم بن عمرو، إلى قريش أن انفروا فاحموا عيركم من محمد وأصحابه. وكانت عاتكة قد رأت قبل قدوم ضمضم؛ فذكر رؤيا عاتكة،
إلى أن قال: فقدم ضمضم فصاح: يا آل غالب بن فهر انفروا فقد خرج محمد وأهل يثرب يعترضون لأبي سفيان. ففزعوا، وأشفقوا من رؤيا عاتكة، ونفروا على كل صعب وذلول، وقال أبو جهل: أيظن محمد أن يصيب مثل ما أصاب بنخلة؟ سيعلم أنمنع عيرنا أم لا؟
فخرجوا بخمسين وتسعمائة مقاتل، وساقوا مائة فرس, ولم يتركوا كارها للخروج. فأشخصوا العباس بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث، وطالب بن أبي طالب، وأخاه عقيلا، إلى أن نزلوا الجحفة.
فوضع جهيم بن الصلت بن مخرمة المطلبي رأسه فأغفى، ثم نزع فقال لأصحابه: هل رأيتم الفارس الذي وقف علي آنفا. قالوا: لا، إنك مجنون فقال: قد وقف عليَّ فارس فقال: قتل أبو جهل وعتبة وشيبة وزمعة وأبو البختري وأمية بن خلف، فعد جماعة. فقالوا: إنما لعب بك الشيطان. فرفع حديثه إلى أبي جهل، فقال: قد جئتمونا بكذب بني عبد المطلب مع كذب بني هاشم، سترون غدا من يقتل.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب العير، فسلك على نقب بني دينار، ورجع حين رجع من ثنية الوداع، فنفر في ثلاثمائة وثلاثة عشر(سيرة 1/345)
رجلا، وأبطأ عنه كثير من أصحابه وتربصوا. وكانت أول وقعة أعز الله فيها الإسلام.
فخرج في رمضان ومعه المسلمون على النواضح يعتقب النفر منهم على البعير الواحد.
وكان زميل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب، ليس مع الثلاثة إلا بعير واحد فساروا، حتى إذا كانوا بعرق الظبية لقيهم راكب من قبل تهامة، فسألوه عن أبي سفيان فقال: لا علم لي به. فقالوا: سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وفيكم رسول الله؟ قالوا: نعم. وأشاروا إليه فقال له: أنت رسول الله؟ قال: "نعم". قال: إن كنت رسول الله فحدثني بما في بطن ناقتي هذه فغضب سلمة بن سلامة بن وقش الأنصاري، فقال: وقعت على ناقتك فحملت منك. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال سلمة فأعرض عنه.
ثم سار لا يلقاه خبر ولا يعلم بنفرة قريش، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا علينا. فقال أبو بكر: أنا أعلم بمسافة الأرض، أخبرنا عدي بن أبي الزغباء: أن العير كانت بوادي كذا.
وقال عمر: يا رسول الله، إنها قريش وعزها، والله ما ذلت منذ عزت ولا آمنت منذ كفرت، والله لتقاتلنك، فتأهب لذلك.
فقال: "أشيروا عليَّ".
قال المقداد بن عمرو: إنا لا نقول لك كما قال أصحاب موسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم متبعون.(سيرة 1/346)
فقال: "أشيروا عليَّ".
فلما رأى سعد بن معاذ كثرة استشارته ظن سعد أنه يستنطق الأنصار شفقا أن لا يستحوذوا معه، أو قال: أن لا يستجلبوا معه على ما يريد، فقال: لعلك يا رسول الله تخشى أن لا تكون الأنصار يريدون مواساتك، ولا يرونها حقا عليهم، إلا بأن يروا عدوا في بيوتهم وأولادهم ونسائهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم، فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذته منا أحب إلينا مما تركته علينا، فوالله لو سرت حتى تبلغ البرك من غمد ذي يمن لسرنا معك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيروا على اسم الله -عز وجل- فإني قد أريت مصارع القوم. فعمد لبدر.
وخفض أبو سفيان فلصق بساحل البحر، وأحرز ما معه، فأرسل إلى قريش، فأتاهم الخبر بالجحفة. فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نقدم بدرا فنقيم بها. فكره ذلك الأخنس بن شريق وأشار بالرجعة، فأبوا وعصوه، فرجع ببني زهرة فلم يحضر أحد منهم بدرا. وأرادت بنو هاشم الرجوع فمنعهم أبو جهل.
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أدنى شيء من بدر, ثم بعث عليا والزبير وجماعة يكشفون الخبر، فوجدوا وارد قريش عند القليب، فوجدوا غلامين فأخذوهما فسألوهما عن العير، فطفقا يحدثانهم عن قريش، فضربوهما. وذكر الحديث، إلى أن قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشيروا عليَّ في المنزل.
فقام الحباب بن المنذر السلمي: أنا يا رسول الله عالم بها وبقلبها؛(سيرة 1/347)
إن رأيت أن تسير إلى قليب منها قد عرفتها كثيرة الماء عذبة، فتنزل عليها وتسبق القوم إليها ونغوِّر ما سواها.
فقال: سيروا، فإن الله قد وعدكم إحدى الطائفتين.
فوقع في قلوب ناس كثير الخوف, فتسارع المسلمون والمشركون إلى الماء، فأنزل الله تلك الليلة مطرا واحدا؛ فكان على المشركين بلاء شديدا منعهم أن يسيروا، وكان على المسلمين ديمة خفيفة لبد لهم الأرض، فسبقوا إلى الماء فنزلوا عليه شطر الليل، فاقتحم القوم في القليب فماحوها حتى كثر ماؤها، وصنعوا حوضا عظيما، ثم غوروا ما سواه من المياه.
ويقال: كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسان؛ على أحدهما: مصعب بن عمير، وعلى الآخر: سعد بن خيثمة. ومرة الزبير بن العوام، والمقداد.
ثم صف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحياض، فلما طلع المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم, فيما زعموا: "اللهم هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك". واستنصر المسلمون الله واستغاثوه، فاستجاب الله لهم.
فنزل المشركون وتعبئوا للقتال، ومعهم إبليس في صورة سراقة المدلجي يحدثهم أن بني كنانة وراءه قد أقبلوا لنصرهم.
قال: فسعى حكيم بن حزام إلى عتبة بن ربيعة فقال: هل لك أن تكون سيد قريش ما عشت؟ قال: فأفعل ماذا؟ قال: تجير بين الناس وتحمل دية بن الحضرمي، وبما أصاب محمد في تلك العير، فإنهم لا يطلبون من محمد غير هذا. قال عتبة: نعم قد فعلت، ونعما قلت،(سيرة 1/348)
فاسع في عشيرتك فأنا أتحمل بها. فسعى حكيم في أشراف قريش بذلك.
وركب عتبة جملا له، فسار عليه في صفوف المشركين فقال: يا قوم أطيعوني ودعوا هذا الرجل؛ فإن كان كاذبا ولى قتله غيركم من العرب فإن فيهم رجالا لكم فيهم قرابة قريبة، وإنكم إن تقتلوهم لا يزال الرجل ينظر إلى قاتل أخيه أو ابنه أو ابن أخيه أو ابن عمه، فيورث ذلك فيكم إحنا وضغائن. وإن كان هذا الرجل ملكا كنتم في ملك أخيكم. وإن كان نبيا لم تقتلوا النبي فتسبوا بهز ولن تخلصوا إليهم حتى يصيبوا أعدادكم، ولا آمن أن تكون لهم الدبرة عليكم.
فحسده أبو جهل على مقالته: وأبى الله إلا أن ينفذ أمره, وعتبة يومئذ سيد المشركين.
فعمد أبو جهل إلى ابن الحضرمي -وهو أخو المقتول- فقال: هذا عتبة يخذل بين الناس، وقد تحمل بدية أخيك، يزعم أنك قابلها، أفلا تستحيون من ذلك أن تقبلوا الدية؟ وقال لقريش: إن عتبة قد علم أنكم ظاهرون على هذا الرجل ومن معهن وفيهم ابنه وبنو عمه، وهو يكره صلاحكم وقال لعتبة: انتفخ سحرك. وأمر النساء أن يعولن عمرا، فقمن يصحن: واعمراه واعمراه؛ تحريضا على القتال.
وقام رجال فتكشفوا؛ يعيرون بذلك قريشا، فأخذت قريش مصافها للقتال. فذكر الحديث إلى أن قال: فأسر نفر ممن أوصى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يقتلوهم إلا أبا البختري, فإنه أبى أن يستأسر, فذكروا له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرهم أن لا يقتلوه إن استأسر، فأبى. ويزعم ناس أن(سيرة 1/349)
أبا اليسر قتل أبا البختري, ويأبى عظم الناس إلا أن المجذر هو الذي قتله. بل قتله أبو داود المازني.
قال: ووجد ابن مسعود أبا جهل مصروعا, بينه وبين المعركة غير كثير, مقنعا في الحديد واضعا سيفه على فخذيه ليس به جرح, ولا يستطيع أن يحرك منه عضوا، وهو منكب ينظر إلى الأرض. فلما رآه ابن مسعود أطاف حوله ليقتله وهو خائف أن يثور إليه، وأبو جهل مقنع بالحديد، فلما أبصره لا يتحرك ظن أنه مثبت جراحا، فأراد أن يضربه بسيفه، فخشي أن لا يغني سيفه شيئا, فأتاه من ورائه, فتناول قائم سيفه فاستله وهو منكب، فرفع عبد الله سابغة البيضة عن قفاه فضربه، فوقع رأسه بين يديه ثم سلبه. فلما نظر إليه إذا هو ليس به جراح، وأبصر في عنقه خدرا, وفي يديه وفي كتفيه كهيئة آثار السياط، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذلك ضرب الملائكة.
قال: وأذل الله بوقعة بدر رقاب المشركين والمنافقين, فلم يبق بالمدينة منافق ولا يهودي إلا وهو خاضع عنقه لوقعة بدر. وكان ذلك يوم الفرقان؛ يوم فرق الله بين الشرك والإيمان.
وقالت اليهود: تيقنا أنه النبي الذي نجد نعته في التوراة, والله لا يرفع راية بعد اليوم إلا ظهرت.
وأقام أهل مكة على قتلاهم النوح بمكة شهرا.
ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فدخل من ثنية الوداع.
ونزل القرآن فعرفهم الله نعمته فيما كرهوا من خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، فقال: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5] ، وثلاث آيات معها.(سيرة 1/350)
ثم ذكر موسى بن عقبة الآيات التي نزلت في سورة الأنفال في هذه الغزوة وآخرها.
وقال رجال ممن أسر: يا رسول الله، إنا كنا مسلمين، وإنما أخرجنا كرها، فعلام يؤخذ منا الفداء؟ فنزلت: {قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 70] .
حذفت من هذه القصة كثيرا مما سلف من الأحاديث الصحيحة استغناء بما تقدم.
وقد ذكر هذه القصة -بنحو قول موسى بن عقبة- ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة، ولم يذكر أبا داود المازني في قتل أبي البختري، وزاد يسيرا.
وقال هو وابن عقبة: إن عدد من قتل من المسلمين ستة من قريش، وثمانية من الأنصار.
وقتل من المشركين تسعة وأربعون رجلا، وأسر تسعة وثلاثون رجلا. كذا قالا.
وقال ابن إسحاق: استشهد أربعة من قريش وسبعة من الأنصار. وقتل من المشركين بضعة وأربعون، وكانت الأسارى أربعة وأربعين أسيرا.
وقال الزهري عن عروة: هزم المشركون وقتل منهم زيادة على سبعين، وأسر مثل ذلك.
ويشهد لهذا القول حديث البراء الذي في البخاري؛ قال:(سيرة 1/351)
أصاب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين يوم بدر أربعين ومائة؛ سبعين أسيرا وسبعين قتيلا، وأصابوا منا يوم أحد سبعين.
وقال حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسامة بن زيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم خلف عثمان وأسامة بن زيد على بنته رقية أيام بدر. فجاء زيد بن حارثة على العضباء، ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبشارة. قال أسامة: فسمعت الهيعة، فخرجت فإذا أبي قد جاء بالبشارة، فوالله ما صدقت حتى رأينا الأسارى، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان بسهمه.
وقال عبدان بن عثمان: حدثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن عبد الرحمن -رجل من أهل صنعاء- قال: أرسل النجاشي إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه، فدخلوا عليه وهو في بيت، عليه خلقان جالس على التراب. قال جعفر: فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال فقال: أبشركم بما يسركم؛ إنه جاءني من نحو أرضكم عين لي فأخبرني أن الله قد نصر نبيه صلى الله عليه وسلم وأهلك عدوه، وأسر فلان وفلان، التقوا بواد يقال له بدر، كثير الأراك، كأني أنظر إليه، كنت أرعى به لسيدي -رجل من بني ضمرة- إبله. فقال له جعفر: ما بالك جالس على التراب، ليس تحتك بساط، وعليك هذه الأخلاق؟ قال: إنا نجد فيما أنزل الله على عيسى -عليه السلام- أن حقا على عباد الله أن يحدثوا تواضعا عندما أحدث لهم من نعمته. فلما أحدث الله لي نصر نبيه أحدثت له هذا التواضع.
ذكر مثل هذه الحكاية الواقدي في مغازيه بلا سند.(سيرة 1/352)
في غنائم بدر والأسرى:
قال خالد الطحان، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "من فعل كذا وكذا، فله من النفل كذا وكذا". قال: فتقدم الفتيان، ولزم المشيخة الرايات. فلما فتح الله عليهم قالت المشيخة: كنا ردءا لكم، لو انهزمتم، فئتم إلينا، فلا تذهبوا بالمغنم ونبقى. فأبى الفتيان وقالوا: جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا، فأنزل الله -تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} إلى قوله: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 1-5] ، يقول: فكان ذلك خيرا لهم. فكذلك أيضا: أطيعوني فإني أعلم بعاقبة هذا منكم. أخرجه أبو داود.
ثم ساقه من وجه آخر عن داود بإسناده. وقال: فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسواء.
وقال عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم تنفل سيفه ذا الفقار يوم بدر.
وقال عمر بن يونس: حدثني عكرمة بن عمار، قال: حدثني أبو زميل، قال: حدثني ابن عباس، قال: حدثني عمر قال: لما كان يوم بدر، فذكر القصة.
قال ابن عباس: فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ترون في هؤلاء"؟. فقال أبو بكر: هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم(سيرة 1/353)
فدية فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ترى يابن الخطاب"؟. قلت: لا والله يا رسول الله لا أرى الذي رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم؛ فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكني من فلان؛ نسيب لعمر؛ فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت: فلما كان من الغد جئت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يبكيان, قلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكيان، فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت لبكائكما. فقال: "أبكي للذي عرض عليَّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض عليَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة"؛ شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال: 67-69] ، فأحل الله لهم الغنيمة. أخرجه مسلم.
وقال جرير، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة بن عبد الله، عن أبيه قال: لما كان يوم بدر قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تقولون في هؤلاء الأسارى"؟. فقال عبد الله بن رواحة: أنت في واد كثير الحطب فأضرم نارا ثم ألقهم فيها. فقال العباس: قطع الله رحمك. فقال عمر: قادتهم ورءوسهم قاتلوك وكذبوك، فاضرب أعناقهم. فقال أبو بكر: عشيرتك وقومك.
ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض حاجته. فقالت طائفة: القول ما قال عمر. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما تقولون في هؤلاء إن مثل هؤلاء كمثل إخوة لهم كانوا من قبلهم؛ قال نوح: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِن(سيرة 1/354)
َ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] ، وقال موسى: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [يونس: 88] ، وقال إبراهيم: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] ، وقال عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] الآية، وأنتم قوم بكم عيلة، فلا ينفلتن أحد منهم إلا بفداء أو بضربة عنق". فقلت: إلا سهيل بن بيضاء فإنه لا يقتل، قد سمعته يتكلم بالإسلام. فسكت, فما كان يوم أخوف عندي أن يلقي الله عليَّ حجارة من السماء
من يومي ذلك، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا سهيل بن بيضاء".
وقال ابن إسحاق، عن البراء أو غيره, قال: جاء رجل من الأنصار بالعباس قد أسره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال العباس: ليس هذا أسرني، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد آزرك الله بملك كريم".
وقال ابن إسحاق: حدثني من سمع عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان الذي أسر العباس أبو اليسر كعب بن عمرو السلمي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كيف أسرته"؟. فقال: لقد أغلق عليه رجل ما رأيته قبل ولا بعد، هيئته كذا وكذا. فقال: "لقد أعانك عليه ملك كريم". وقال للعباس: "افد نفسك وابن أخيك عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث". فأبى وقال: إني
كنت مسلما وإنما استكرهوني. قال: "الله أعلم بشأنك إن يك ما تدعي حقا فالله يجزيك بذلك، وأما ظاهر أمرك فقد كان علينا، فافد نفسك".
وكان قد أخذ معه عشرون أوقية ذهبا، فقال: يا رسول الله احسبها لي من فدائي. قال:
"لا، ذاك شيء أعطانا الله منك".
وقال عبد العزيز بن عمران الزهري، وهو ضعيف: حدثني محمد بن(سيرة 1/355)
موسى، عن عمارة بن عمار بن أبي اليسر، عن أبيه, عن جده قال: نظرت إلى العباس يوم بدر، وهو قائم كأنه صنم وعيناه تذرفان، فقلت: جزاك الله من ذي رحم شرا، تقاتل ابن أخيك مع عدوه؟ قال: ما فعل، أقتل؟ قلت: الله أعز له وأنصر من ذلك. قال: ما تريد إليَّ؟ قلت: إسار، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتلك. قال: ليست بأول صلته. فأسرته.
وروى ابن إسحاق، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: فبعثت قريش في فداء أسراهم. وقال العباس: إني كنت مسلما. فنزل فيه: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 70] ، قال العباس: فأعطاني الله مكان العشرين أوقية عشرين عبدا كلهم في يده مال يضرب به، مع ما أرجو من المغفرة.
وقال أزهر السمان، عن ابن عون، عن محمد، عن عبيدة، عن علي، وبعضهم يرسله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأسارى يوم بدر: "إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم واستمتعتم بالفداء، واستشهد منكم بعدتهم".
وكان آخر السبعين ثابت بن قيس، قتل يوم اليمامة.
هذا الحديث داخل في معجزاته صلى الله عليه وسلم، وإخباره عن حكم الله فيمن يستشهد، فكان كما قال.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني نبيه بن وهب العبدري، قال: لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسارى فرقهم على المسلمين، وقال: "استوصوا بهم خيرا". قال نبيه: فسمعت من يذكر عن أبي عزيز, قال: كنت في الأسارى يوم بدر، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "استوصوا بالأسارى خيرا". فإن كان ليقدم إليهم الطعام فما تقع(سيرة 1/356)
بيد أحدهم كسرة إلا رمى بها إلى أسيره، ويأكلون التمر. فكنت أستحيي فآخذ الكسرة فأرمي بها إلى الذي رمى بها إليَّ، فيرمي بها إليَّ.
أبو عزيز هو أخو مصعب بن عمير، يقال: إنه أسلم. وقال ابن الكلبي وغيره: إنه قتل يوم أحد كافرا.
وعن ابن عباس، قال: جعل النبي صلى الله عليه وسلم فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة.
أخرجه أبو داود من حديث شعبة، عن أبي العنبس، عن أبي الشعثاء عنه.
وقال أسباط، عن إسماعيل السدي: كان فداء أهل بدر: العباس، وعقيل ابن أخيه، ونوفل، كل رجل أربعمائة دينار.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: "إني قد عرفت أن ناسا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحدا منهم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله، ومن لقي العباس فلا يقتله فإنه إنما أخرج مستكرها". فقال أبو حذيفة بن عتبة: أنقتل آباءنا وإخواننا ونترك العباس؟ والله لئن لقيته لألحمنه بالسيف. فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر بن الخطاب: "يا أبا حفص، أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف"؟. فقال عمر: يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه فوالله لقد نافق.
فكان أبو حذيفة بعد يقول: والله ما آمن من تلك الكلمة التي قلت، ولا أزال منها خائفا، إلا أن يكفرها الله عني بشهادة. فاستشهد يوم اليمامة.(سيرة 1/357)
قال ابن إسحاق: إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أبي البختري لأنه كان أكف القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة.
وكان العباس أكثر الأسرى فداء لكونه موسرا، فافتدى نفسه بمائة أوقية ذهب.
وقال ابن شهاب: حدثني أنس أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ائذن لنا فلنترك لابن أختنا فداءه. فقال: "لا والله لا تذرن درهما". أخرجه البخاري.
وقال إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قالوا: يا رسول الله، بعدما فرغ من بدر، عليك بالعير ليس دونها شيء. فقال العباس وهو في وثاقه: لا يصلح. قال: "ولِمَ"؟. قال: لأن الله وعدك إحدى الطائفتين، وقد أعطاك ما وعدك.
وقد ذكر إرسال زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلادتها في فداء أبي العاص زوجها، رضي الله عنهما.
وقال سعيد بن أبي مريم: حدثنا يحيى بن أيوب، قال: حدثنا ابن الهاد، قال: حدثني عمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير، عن عروة، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة خرجت ابنته زينب من مكة مع كنانة -أو ابن كنانة- فخرجوا في أثرها فأدركها هبار بن الأسود، فلم يزل يطعن بعيرها برمحه حتى صرعها، وألقت ما في بطنها وأهريقت دما. فتحملت فاشتجر فيها بنو هاشم وبنو أمية. فقالت بنو أمية: نحن أحق بها. وكانت تحت أبي العاص، فكانت عند هند بنت عتبة بن ربيعة, وكانت تقول لها هند: ها من سبب أبيك.
قالت: فقال رسول(سيرة 1/358)
الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة: "ألا تنطلق فتأتي بزينب"! فقال: بلى يا رسول الله قال: "فخذ خاتمي فأعطها إياه". فانطلق زيد, فلم يزل يتلطف حتى لقي راعيا فقال له: لمن ترعى؟ قال: لأبي العاص قال: فلمن هذه الغنم؟ قال: لزينب بنت محمد فسار معه شيئا ثم قال له: هل لك أن أعطيك شيئا تعطيها إياه، ولا تذكره لأحد؟ قال: نعم فأعطاه الخاتم وانطلق الراعي حتى داخل فأدخل غنمه وأعطاها الخاتم، فعرفته فقالت: من أعطاك هذا؟ قال: رجل قالت: فأين تركته؟ قال: بمكان كذا وكذا. فسكتت، حتى إذا كان الليل خرجت إليه فقال لها: اركبي بين يدي على بعيره. فقالت: لا، ولكن اركب أنت بين يدي. وركبت وراءه حتى أتت المدينة.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هي أفضل بناتي، أصيبت فيَّ".
قال: فبلغ ذلك علي بن الحسين، فانطلق إلى عروة فقال: ما حديث بلغني عنك أنك تحدثه تنتقص به فاطمة؟ فقال عروة: والله ما أحب أن لي ما بين المشرق والمغرب وأني أتنقص فاطمة حقا هو لها، وأما بعد فلك أن لا أحدثه أبدا.
أسماء من شهد بدرا:
جمعها الحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد في جزء كبير. فذكر من أجمع عليه ومن اختلف فيه من البدريين، ورتبهم على حروف المعجم. فبلغ عددهم ثلاثمائة وبضعة وثلاثين رجلا. وإنما وقعت هذه الزيادة في عددهم من جهة الاختلاف في بعضهم.(سيرة 1/359)
وقد جاء في فضلهم حديث سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرث الغنوي، والزبير، والمقداد، وكلنا فارس، فقال: "انطلقوا حتى تأتو روضة خاخ". وهو موضع بين مكة والمدينة فذكرت الحديث، ومكاتبة حاطب بن أبي بلتعة قريشا, قال عمر: دعني أضرب عنقه فقد خان الله ورسوله. فقال:
"أليس هو من أهل بدر؟ وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة أو قد غفرت لكم". فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم. متفق عليه.
وقال الليث، عن أبي الزبير، عن جابر، أن عبدا لحاطب بن أبي بلتعة جاء يشكوه فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار فقال: "كذبت لا يدخلها فإنه شهد بدرا والحديبية". أخرجه مسلم.
وقال يحيى بن سعيد الأنصاري، عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي -وكان أبوه بدريا- أنه كان يقول لابنه: ما أحب أني شهدت بدرا ولم أشهد العقبة قال: سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم: كيف أهل بدر فيكم؟ قال: "خيارنا". قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة هم خيار الملائكة. أخرجه البخاري.
ذكر طائفة من أعيان البدريين:
أبو بكر, وعمر, وعلي, واحتبس عنها عثمان يمرض زوجته رقية(سيرة 1/360)
بنت النبي صلى الله عليه وسلم فتوفيت في العشر الأخير من رمضان يوم قدوم المسلمين المدينة من بدر، وضرب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره.
ومن البدريين: سعد بن أبي وقاص وأما سعيد بن زيد، وطلحة بن عبيد الله فكانا بالشام فقدما بعد بدر وأسهم لهما النبي صلى الله عليه وسلم.
الزبير بن العوام، أبو عبيدة بن الجراح، عبد الرحمن بن عوف، حمزة بن عبد المطلب،
زيد بن حارثة، عبيدة بن الحارث بن المطلب، وأخواه: الطفيل، والحصين، وابن عمه: مسطح بن أثاثه بن عباد بن المطلب، وأربعتهم لم يعقبوا، مصعب بن عمير العبدري، المقداد بن الأسود، عبد الله بن مسعود، صهيب بن سنان، أبو سلمة بن عبد الأسد، عمار بن ياسر، زيد بن الخطاب أخو عمر.
ومن أعيان الأنصار، من الأوس: سعد بن معاذ.
ومن بني عبد الأشهل: عباد بن بشر، محمد بن مسلمة أبو الهيثم بن التيهان.
ومن بني ظفر: قتادة بن النعمان.
ومن بني عمرو بن عوف: مبشر بن عبد المنذر، وأخوه: رفاعة. ولم يحضرها أخوهما أبو لبابة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رده فاستعمله على المدينة، وضرب له بسهمه وأجره.
ومن بني النجار:
أبو أيوب خالد بن زيد، عوف، ومعوذ، ومعاذ, بنو الحارث بن رفاعة بن الحارث بن سواد بن مالك بن غنم بن عوف، وهم بنو عفراء، أبي بن كعب، أبو طلحة زيد بن سهل، بلال مولى أبي بكر، عبادة بن الصامت، معاذ بن جبل الخزرجي، عاصم بن ثابت بن أبي(سيرة 1/361)
الأقلح، عتبان بن مالك الخزرجي، عكاشة بن محصن، كعب بن عمرو أبو اليسر السلمي، معاذ بن عمرو بن الجموح حشرنا الله في زمرتهم وقد ذكرنا من استشهد منهم.
وقتل من المشركين:
حنظلة بن أبي سفيان بن حرب، وعبيد بن سعيد بن العاص، وأخوه: العاص، وعتبة، وشيبة، ابنا ربيعة، وولد عتبة: الوليد، وعقبة بن أبي معيط، قتل صبرا، والحارث بن عامر النوفلي، وابن عمه طعيمة بن عدي، وزمعة بن الأسود، وابنه: الحارث, وأخوه: عقيل، وأبو البختري بن هشام بن الحارث بن أسد -واسمه العاص- ونوفل بن خويلد أخو خديجة، والنضر بن الحارث, قتل صبرا بعد يومين، وعمير بن عثمان التيمي عم طلحة بن عبيد الله، وأبو جهل، وأخوه: العاص بن هشام، ومسعود بن أبي أمية المخزومي أخو أم سلمة، وأبو قيس أخو خالد بن الوليد، والسائب بن أبي السائب المخزوم، وقيل: لم يقتل، بل أسلم بعد ذلك, وقيس بن الفاكه بن المغيرة، ومنبه ونبيه ابنا الحجاج بن عامر السهمي، وولدا منبه: الحارث والعاص، وأمية بن خلف الجمحي، وابنه: علي.
وذكر ابن إسحاق وغيره سائر المقتولين، وكذا سمى الذين أسروا. تركتهم خوفا من التطويل.
وفي رمضان: فرض الله صوم رمضان, ونسخ فرضية يوم عاشوراء. وفي آخره: فرضت الفطرة.
وفي شوال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة, وهي بنت تسع سنين.(سيرة 1/362)
وفي صفر: توفي أبو جبير المطعم بن عدي بن نوفل -ونوفل هو أخو هاشم بن عبد مناف بن قصي- توفي مشركا عن سن عالية، وكان من عقلاء قريش وأشرافهم. وهو الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كان المطعم بن عدي حيا وكلمني في هؤلاء النتن لأجبته". وكانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يد، لأنه قام في نقض الصحيفة.
وفيها توفي أبو السائب عثمان بن مظعون -رضي الله عنه- ابن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح الجمحي، بعد بدر بيسير. وقد شهدها هو وأخواه: قدامة، وعبد الله.
وعثمان هذا أحد السابقين، أسلم بعد ثلاثة عشر رجلا، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى، ولما قدم أجاره الوليد بن المغيرة أياما. ثم رد على الوليد جواره. وكان صواما قواما قانتا لله.
وفيها: توفي أبو سلمة "ت ق" عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم -رضي الله عنه- مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر. وهو ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة، وأمه برة بنت عبد المطلب. من السابقين الأولين, شهد بدرا، وتزوجت أم سلمة بعده بالنبي صلى الله عليه وسلم، وروت عنه القول عند المصيبة، وقيل: توفي سنة ثلاث بعد أحد أو قبلها.
وفيها: ولد عبد الله بن الزبير، بالمدينة، والمسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم: بمكة.(سيرة 1/363)
قصة النجاشي: من السيرة
ثم إن قريشا قالوا: إن ثأرنا بأرض الحبشة، فانتدب إليها عمرو بن العاص، وابن أبي ربيعة.
قال الزهري: بلغني أن مخرجهما كان بعد وقعة بدر.
فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم مخرجهما، بعث عمرو بن أمية الضمري بكتابه إلى النجاشي.
وقال سعيد بن المسيب وغيره: فبعث الكفار مع عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي
ربيعة للنجاشي، ولعظماء الحبشة هدايا فلما قدما على النجاشي قبل الهدايا، وأجلس عمرو بن العاص على سريره. فكلم النجاشي فقال: إن بأرضكم رجالا منا ليسوا على دينك ولا على ديننا، فادفعهم إلينا. فقال عظماء الحبشة للنجاشي: صدق، فادفعهم إليه فقال: حتى أكلمهم.
وقال الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أم سلمة، قالت: نزلنا الحبشة، فجاورنا بها خير جار، النجاشي، أمنا على ديننا وعبدنا الله -عز وجل- لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه. فلما بلغ ذلك قريش ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي مع رجلين بما يستطرف من مكة. وكان من أعجب ما يأتيه منها: الأدم فجمعوا له أدما كثيرا ولم يتركوا بطريقا عنده إلا أهدوا له. وبعثوا عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص وقالوا: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي(سيرة 1/364)
فقدما، وقالا لكل بطريق: إنه قد ضوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، خالفوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم. وقد بعثنا أشرافنا إلى الملك ليردهم، فإذا كلمناه فأشيروا عليه أن يسلمهم إلينا. فقالوا: نعم.
ثم قربا هداياهما إلى النجاشي فقبلها، فكلماه فقالت بطارقته: صدقا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم, فغضب النجاشي، ثم قال: لاها الله أبدا، لا أرسلهم إليهم. قوم جاوروني ونزلوا بلادي، واختاروني على سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقولون.
ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما جاء رسوله اجتمعوا، وقال بعضهم لبعض: ما تقولون إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا الله، وأمرنا به نبينا، كائن في ذلك ما كان, فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته ونشروا مصاحفهم حوله سألهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني ولا في دين أحد من الملل.
قالت: فكلمه جعفر بن أبي طالب، فقال: أيها الملك: كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء إلى الجار ويأكل القوي منا الضعيف كنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعا إلى الله لنعبده وحده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله
ولا نشرك به شيئا،(سيرة 1/365)
وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام وعد أمور الإسلام. قال: فصدقناه واتبعناه، فلما قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، وآثرناك على من سواك فرغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك.
قال: فهل معك شيء مما جاء به عن الله؟ قال جعفر: نعم فقرأ: {كهيعص} .
قالت: فبكى النجاشي وأساقفته حتى أخضلوا لحاهم، حين سمعوا القرآن.
فقال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. انطلقا, فوالله لا أسلمهم إليكما أبدا.
قالت: فلما خرجنا من عنده، قال عمرو بن العاص: والله لآتينه غدا بما أستاصل به خضراءهم. فقال له ابن أبي ربيعة؛ وكان أتقى الرجلين فينا: لا تفعل، فإن لهم أرحاما، وإن كانوا قد خالفونا. قال: فوالله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى عبد.
قالت: ثم غدا عليه، فقال: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى قولا عظيما. فأرسل إلينا ليسألنا. قالت: ولم ينزل بنا مثلها.
فقال: ما تقولون في عيسى؟
فقال جعفر: نقول فيه الذي جاء به نبينا: عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.
فضرب النجاشي بيده إلى الأرض، وأخذ منها عودا، وقال: ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا المقدار.
قال: فتناخرت بطارقته حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم(سيرة 1/366)
والله ثم قال لجعفر وأصحابه: اذهوا آمنين. ما أحب أن لي دبر ذهب، وأني آذيت واحدا منكم -والدبر بلسان الحبشة: الجبل- ردوا عليهما هديتهما، فلا حاجة لنا فيها، فوالله ما أخذ الله فيَّ الرشوة فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيَّ فأطيعهم فيه. فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به.
قالت: فوالله إنا لعلى ذلك، إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه، فوالله ما علمنا
حزنا قط أشد من حزن حزناه عند ذلك، تخوفا أن يظهر عليه من لا يعرف حقنا. فسار إليه النجاشي، وبينهما عرض النيل.
فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يخرج حتى يحضر الوقعة ويخبرنا؟ فقال الزبير بن العوام: أنا أخرج. وكان من أحدث القوم سنا. فنفخوا له قربة فجعلها في صدره, وسبح عليها إلى الناحية التي فيها الوقعة، ودعونا الله للنجاشي، فوالله إنا لعلى ذلك، متوقعون لما هو كائن، إذ طلع علينا الزبير يسعى ويلوح بثوبه: ألا أبشروا, فقد ظهر النجاشي، وأهلك الله عدوه فوالله ما علمنا فرحة مثلها قط.
ورجع النجاشي سالما، واستوسق له أمر الحبشة فكنا عنده في خير منزل، حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة.
أخرجه أبو داود من حديث ابن إسحاق عن الزهري.
وهؤلاء قدموا مكة، ثم هاجروا إلى المدينة، وبقي جعفر وطائفة بالحبشة إلى عام خيبر.
وقد قيل إن إرسال قريش إلى النجاشي كان مرتين، وأن المرة الثانية كان مع عمرو: عمارة بن الوليد المخزومي أخو خالد ذكر ذلك(سيرة 1/367)
ابن إسحاق أيضا وذكر ما دار لعمرو بن العاص مع عمارة بن الوليد من رميه إياه في البحر، وسعي عمرو به إلى النجاشي في وصوله إلى بعض حرمه أو خدمه، وأنه ظهر ذلك في ظهور طيب الملك عليه، وأن الملك دعا بسحرة فسحروه ونفخوا في إحليله. فتبرر ولزم البرية، وهام، حتى وصل إلى موضع رام أهله أخذه فيه، فلما قربوا منه فاضت نفسه فمات.
وقال ابن إسحاق، قال الزهري: حدثت عروة بن الزبير حديث أبي بكر عن أم سلمة، فقال: هل تدري ما قوله: ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليَّ ملكي فآخذ الرشوة فيه, وما أطاع الناس فيَّ فأطيعهم فيه؟ قلت: لا. قال: فإن عائشة حدثتني أن أباه كان ملك قومه، لم يكن له ولد إلا النجاشي. وكان للنجاشي عم، له من صلبه اثنا عشر رجلا، وكانوا أهل بيت
مملكة الحبشة. فقالت الحبشة: لو أنا قتلنا أبا النجاشي وملكنا أخاه لتوارث بنوه ملكه بعده، ولبقيت الحبشة دهرا. قالت: فقتلوه وملكوا أخاه. فنشأ النجاشي مع عمه وكان لبيبا حازما، فغلب على أمر عمه. فلما رأت الحبشة ذلك قالت: إنا نتخوف أن يملكه بعده، ولئن ملك ليقتلنا بأبيه فشموا إلى عمه فقالوا: إما أن تقتل هذا الفتى، وإما أن تخرجه من بين أظهرنا فقال: ويلكم! قتلت أباه بالأمس، وأقتله اليوم؟ بل أخرجه قال: فخرجوا به فباعوه من تاجر بستمائة درهم فانطلق به في سفينة فلما كان العشي هاجت سحابة من سحائب الخريف فخرج عمه يستمطر تحتها فأصابته صاعقة فقتلته. ففزعت الحبشة إلى ولده فإذا هو محمق ليس في ولده خير فمرج(سيرة 1/368)
على الحبشة أمرهم وضاق عليهم ما هم فيه. فقال بعضهم لبعض: تعلموا، والله أن ملككم الذي لا يقيم أمركم غيره للذي بعتم قال: فخرجوا في طلبه وطلب الذي باعوه منه، حتى أدركوه فأخذوه منه. ثم جاءوا به فعقدوا عليه التاج وأجلسوه على سرير الملك فجاء التاجر فقال: إما أن تعطوني مالي وإما أن أكلمه في ذلك فقالوا: لا نعطيك شيئا قال: إذن والله أكلمه قالوا: فدونك. فجاءه فجلس بين يديه، فقال: أيها الملك، ابتعت غلاما من قوم بالسوق بستمائة درهم حتى إذا سرت به أدركوني فأخذوه ومنعوني دراهمي فقال النجاشي: لتعطنه غلامه أو دراهمه. قالوا: بل نعطيه دراهمه.
قالت: فلذلك يقول: ما أخذ الله مني رشوة حين رد عليَّ ملكي، فآخذ الرشوة فيه.
وكان ذلك أول ما خبر من صلابته في دينه وعدله.
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان، عن عروة، عن عائشة، قالت: لما مات النجاشي كان يتحدث أنه لا يزال على قبره نور.
قال: وحدثني جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي: إنك فارقت ديننا، وخرجوا عليه. فأرسل إلى جعفر وأصحابه فهيأ لهم سفنا, وقال: اركبوا فيها، وكونوا كما أنتم، فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم, وإن ظفرت فاثبتوا. ثم عمد إلى كتاب فكتب: هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى عبده ورسوله وروحه وكلمته.
ثم جعله في قبائه وخرج إلى الحبشة، وصفوا له، فقال: يا(سيرة 1/369)
معشر الحبشة، ألست أحق الناس بكم؟ قالوا: بلى قال: فكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا: خير سيرة. قال: فما
بالكم؟ قالوا: فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد. قال: فما تقولون أنتم؟ قالوا: هو ابن الله فوضع يده على صدره، على قبائه، وقال: هو يشهد أن عيسى بن مريم لم يزد على هذا شيئا. وإنما يعني على ما كتب. فرضوا وانصرفوا.
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات صلى عليه واستغفر له -رضي الله عنه- وإنما ذكرنا بعد بدر استطرادا، والله أعلم.
سرية عمير بن عدي الخطمي:
ذكر الواقدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه لخمس بقين من رمضان, إلى عصماء بنت مروان، من بني أمية بن زيد, وكانت تعيب الإسلام، وتحرض على النبي صلى الله عليه وسلم، وتقول الشعر، فجاءها عمير بالليل فقتلها غيلة.
غزوة بني سليم:
قال ابن إسحاق: لم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم، منصرفه عن بدر بالمدينة، إلا سبعة أيام. ثم خرج بنفسه يريد بني سليم, واستخلف على المدينة سباع عرفطة الغفاري, وقيل: ابن أم مكتوم. فبلغ ماء يقال له: الكدر، فأقام عليه ثلاثا, ثم انصرف, ولم يلق أحدا.(سيرة 1/370)
سرية سالم بن عمير لقتل أبي عفك:
وذكر الواقدي أن أبا عفك اليهودي، كان قد بلغ مائة وعشرين سنة، وهو من بني عمرو بن عوف، كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول الشعر، ويحرض عليه. فانتدب له سالم بن عمير، فقتله غيلة، في شوال منها.
غزوة السويق: في ذي الحجة
قال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب: كان أبو سفيان بن حرب، حين بلغه وقعة بدر، نذر أن لا يمس رأسه دهن ولا غسل، ولا يقرب أهله، حتى يغزو محمدا ويحرق في طوائف المدينة فخرج من مكة سرا خائفا، في ثلاثين فارسا, ليحل يمينه. حتى نزل بجبل من جبال المدينة يقال له: نبت فبعث رجلا أو رجلين من أصحابه، وأمرهما أن يحرقا أدنى نخل يأتيانه من نخل المدينة فوجدا صورا من صيران نخل العريض. فأحرقا فيها وانطلقا، وانطلق أبو سفيان مسرعا.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى بلغ قرقرة الكدر ففاته أبو سفيان،(سيرة 1/371)
فرجع.
وذكر مثل هذا ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة، وقال: وركب المسلمون في آثارهم، فأعجزوهم وتركوا أزوادهم، فسميت غزوة أبي سفيان: غزوة السويق.
وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، ويزيد بن رومان، وحدثني من لا أتهم، عن عبيد الله بن كعب بن مالك، قالوا:
لما رجع أبو سفيان إلى مكة، ورجع فل قريش من يوم بدر، نذر أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا. فخرج في مائتي راكب، إلى أن نزل بحبل يقال له: نبت، على نحو بريد من المدينة. ثم خرج من الليل حتى أتى حيي بن أخطب، فضرب عليه بابه، فلم يفتح له وخافه. فانصرف إلى سلام بن مشكم، وكان سيد بني النضير، فأذن له وقراه، وأبطن له من خير الناس. ثم خرج في عقب ليلته حتى أتى أصحابه، فبعث رجاله، فأتوا ناحية العريض، فوجدوا رجلين من المسلمين، فقتلوهما وردوا ونذر بهم الناس.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم، حتى بلغ قرقرة الكدر، ثم انصرف، وقد فاته أبو سفيان، وأصحابه, قد رموا زادا لهم في جرب, وسويقا كثيرا، يتخففون منها للنجاء. فقال المسلمون حين رجع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! أنطمع أن تكون لنا غزوة؟ فقال: نعم قال: وذلك بعد بدر بشهرين.
وفي هذه السنة: تزوج عثمان بأم كلثوم، رضي الله عنهما.
وفيها تزوج علي -رضي الله عنه- بفاطمة الزهراء، رضي الله عنها.(سيرة 1/372)
قال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن علي -رضي الله عنه- قال: خطبت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت لي مولاة لي: علمت أن فاطمة خطبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لا. قالت: فما يمنعك أن تأته فيزوجك؟ فقلت: وعندي شيء أتزوج به؟ قالت: إنك إن جئته زوجك. قال: فوالله ما زالت ترجيني، حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جلالة وهيبة, فأفحمت، فوالله ما استطعت أن أتكلم. فقال: "ما حاجتك، ألك حاجة"؟. فسكت. ثم قال: "لعلك جئت تخطب فاطمة"؟. قلت: نعم. قال: "وهل عندك من شيء تستحلها به"؟. فقلت: لا والله فقال: "ما فعلت درع سلحتكها"؟. فوالذي نفس علي بيده إنها لحطيمة ما ثمنها أربعة دراهم, فقلت: عندي. فقال: "قد زوجتكها, فابعث إليَّ بها". فإن كانت لصداق فاطمة، رضي الله عنها.
وقال أيوب، عن عكرمة, عن ابن عباس، قال: لما تزوج علي فاطمة -رضي الله عنهما- قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أعطها شيئا". قال: ما عندي شيء. قال: "أين درعك الحطمية"؟. أخرجه أبو داود.
وقال عطاء بن السائب عن أبيه, عن علي -رضي الله عنه- قال: جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة في خميل وقربة, ووسادة أدم حشوها إذخر.(سيرة 1/373)
وفيها: توفي سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة الخزرجي الساعدي، والد سهل بن سعد.
وكان تجهز إلى بدر فمات قبلها في رمضان. فيقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب له بسهمه، ورده على ورثته.
وفيها: بعد بدر، توفي خنيس بن حذاة السهمي، أحد المهاجرين، شهد بدرا. وتأيمت منه حفصة بنت عمر بن الخطاب.
وفي شوال: بنى النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة -رضي الله عنها- وعمرها تسع سنين.(سيرة 1/374)
ثم دخلت سنة ثلاث من الهجرة:
غزوة ذي أمر، وغزوة بحران
غزوة ذي أمر:
في المحرم، غزا النبي صلى الله عليه وسلم نجدا، يريد غطفان، واستعمل على المدينة عثمان، فأقام بنجد صفرا كله، ورجع من غير حرب. قاله ابن إسحاق.
وأما الواقدي فقال: كانت في ربيع الأول، وأن غيبته أحد عشر يوما. ثم روى عن أشياخه، عن التابعين: عبد الله بن أبي بكر بن حزم، وغيره، قالوا: بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن جمعا من غطفان، من بني ثعلبة، بذي أمر، قد تجمعوا يريدون أن يصيبوا من أطراف المسلمين، والله أعلم.
غزوة بحران:
قال ابن إسحاق: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ربيع الأول ثم غزا يريد قريشا.
قال عبد الملك بن هشام: فبلغ بحران، معدنا بالحجاز، فأقام هناك ربيع الآخر كله، وجمادى الأولى.
وبحران من ناحية الفرع ثم رجع ولم يلق كيدا.(سيرة 1/375)
وقال الواقدي: غزا النبي صلى الله عليه وسلم بني سليم ببحران، لست خلون من جمادى الأولى. وبحران من ناحية الفرع بينها وبين المدينة ثمانية برد. فغاب عشر ليال. وكان بلغه أن بها جمعا من بني سليم، فخرج في ثلاثمائة، واستخلف ابن أم مكتوم. الفرع: بضم الفاء وسكون الراء بين مكة والمدينة.
إنك ترى أنا كقومك؟ لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة إنا والله لو حاربتنا لتعلمن أنا نحن الرجال.
عن ابن عباس، قال: ما نزل هؤلاء الآيات إلا فيهم: {قُلْ لِلَّذِينَ(سيرة 1/376)
كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ} [آل عمران: 12] .
وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا وحاربوا فيما بين بدر وأحد.
قال: وعن أبي عون، قال: كان أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوقهم، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فلم تفعل، فعمد الصائغ إلى طف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها فضحكوا، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فأغضب المسلمين ووقع الشر.
وحدثني عاصم، قال: فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد، أحسن في مواليَّ. فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسلني". وغضب، "أرسلني، ويحك". قال: والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليَّ: أربعمائة حاسر، وثلاثمائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، إني والله امرؤ أخشى الدوائر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هم لك".
وحدثني أبي إسحاق، عن عبادة بن الوليد، قال: لما حاربت بنو قنيقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تشبث بأمرهم ابن سلول وقام دونهم.
قال: ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أحد بني عوف، لهم من حلفه مثل الذي لابن سلول، فجعلهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم، وقال: أتولى الله ورسوله والمؤمنين، فنزلت فيه وفي ابن سلول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ(سيرة 1/377)
وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} إلى قوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} إلى قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 51-55] ، وذلك لتولي عبادةُ اللهَ ورسولهَ.
وذكر الواقدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصرهم خمس عشرة ليلة، إلى هلال ذي القعدة. وكانوا أول من غدر من اليهود، وحاربوا حتى قذف الله في قلوبهم الرعب، ونزلوا على حكمه، وأن له أموالهم. فأمر صلى الله عليه وسلم بهم فكتفوا، واستعمل على كتافهم المنذر بن قدامة السلمي، من بني السلم، فكلم عبد الله بن أبي فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألح عليه فقال: "خذهم". وأمر بهم أن يجلوا من المدينة، وولي إخراجهم منها عبادة بن الصامت، فلحقوا بأذرعات، فما كان أقل من بقائهم فيها. وتولى قبض أموالهم محمد بن مسلمة، ثم خمست، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من سلاحهم ثلاثة أسياف، ودرعين، وغير ذلك.
غزوة بني النضير:
قال معمر، عن الزهري، عن عروة: كانت غزوة بني النضير، وهم طائفة من اليهود، على رأس ستة أشهر من وقعة بدر وكانت منازلهم ونخلهم بناحية المدينة، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل إلا السلاح، فأنزلت: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر: 2] الآيات.
فأجلاهم إلى الشام، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء وكان الله قد كتب عليهم الجلاء، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي.(سيرة 1/378)
وقوله: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} ، فكان جلاؤهم ذلك أول حشر في الدنيا إلى الشام.
ويرويه عقيل عن الزهري، قوله. وأسنده زيد بن المبارك الصنعاني، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة وذكر عائشة فيه غير محفوظ.
وقال ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر: أن يهود بني النضير، وقريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلى بني النضير، وأقر قريظة ومن عليهم، حتى حاربوا بعد ذلك. أخرجه البخاري.
وقال معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن كفار قريش كتبوا إلى ابن أبي ومن كان يعبد معه الأوثان من الأوس والخزرج قبل وقعة بدر: إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه أو لنسيرن إليكم بجمعنا حتى نقتل مقاتلكم ونستبيح نساءكم. فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي وأصحابه، اجتمعوا لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغه ذلك فلقيهم فقال: "لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما
كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم, تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم؟ فلما سمعوا ذلك تفرقوا. فبلغ ذلك كفار قريش فكتبوا، بعد بدر، إلى اليهود: إنكم أهل الحلقة والحصن وإنكم لتقاتلن صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا، ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء. وهي الخلاخيل.
فلما بلغ كتابهم للنبي صلى الله عليه وسلم، أجمعت بنو النضير بالغدر، وأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: اخرج إلينا في ثلاثين رجلا من أصحابك، وليخرج منا(سيرة 1/379)
ثلاثون حبرا, حتى نلتقي بمكان المنصف، فيسمعوا منك، فإن صدقوا وآمنوا بك آمنا بك. فقص خبرهم.
فلما كان الغد، غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتائب فحصرهم، فقال لهم: "إنكم والله لا تأمنون عندي إلا بعهد تعاهدوني عليه فأبوا أن يعطوه عهدا، فقاتلهم يومهم ذلك".
ثم غدا على بني قريظة بالكتائب، وترك بني النضير، ودعاهم إلى أن يعاهدوه، فعاهدوه، فانصرف عنهم.
وغدا إلى بني النضير بالكتائب، فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء. فجلت بنو النضير، واحتملوا ما أقلت الإبل من أمتعتهم وأبوابهم وخشبهم فكان نخل بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، أعطاه الله إياها، فقال: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6] ، يقول: بغير قتال. فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها المهاجرين وقسمها بينهم، وقسم منها لرجلين من الأنصار كانوا ذوي حاجة. وبقي منها صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي في أيدي بني فاطمة، رضي الله عنها.
وذهب موسى بن عقبة، وابن إسحاق إلى أن غزوة بني النضير كانت بعد أحد، وكذلك قال غيرهما. ورواه ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة. وهذا حديث موسى وحديث عروة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى بني النضير يستعينهم في عقل الكلابيين. وكانوا -يزعمون- قد دسوا إلى قريش حين نزلوا بأحد لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحضوهم على القتال ودلوهم على العورة. فلما كلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في عقل الكلابيين,(سيرة 1/380)
قالوا: اجلس يا أبا القاسم حتى تطعم وترجع بحاجتك ونقوم فنتشاور فجلس بأصحابه، فلما خلوا والشيطان معهم، ائتمروا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: لن تجدوه أقرب منه الآن، فاستريحوا منه تأمنوا. فقال رجل: إن شئتم ظهرت فوق البيت الذي هو تحته فدليت عليه حجرا فقتلته. فأوحى الله إليه فأخبره بشأنهم وعصمه، فقام كأنه يقضي حاجة. وانتظره أعداء الله، فراث عليه. فأقبل رجل من المدينة فسألوه عنه فقال: لقيته قد دخل أزقة المدينة. فقالوا لأصحابه: عجل أبو
القاسم أن نقيم أمرنا في حاجته. ثم قام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعوا ونزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} [المائدة: 11] الآية.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجلائهم، وأن يسيروا حيث شاءوا. وكان النفاق قد كثر بالمدينة. فقالوا: أين تخرجنا؟ قال: "أخرجكم إلى الحشر". فلما سمع المنافقون ما يراد بأوليائهم أرسلوا إليهم: إنا معكم محيانا ومماتنا، إن قوتلتم فلكم علينا النصر، وإن أخرجتم لم نتخلف عنكم. وسيد اليهود أبو صفية حيي بن أخطب. فلما وثقوا بأماني المنافقين عظمت غرتهم ومناهم الشيطان الظهور، فنادوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: إنا، والله، لا نخرج ولئن قاتلتنا لنقاتلنك.
فمضى النبي صلى الله عليه وسلم لأمر الله فيهم، وأمر أصحابه فأخذوا السلاح ثم مضى إليهم، وتحصنت اليهود في دورهم وحصونهم فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى أزقتهم وحصونهم كره أن يمكنهم من القتال في دورهم وحصونهم، وحفظ الله له أمره وعزم له على رشده، فأمر أن يهدم الأدنى فالأدنى من دورهم، وبالنخل أن تحرق وتقطع، وكف الله أيديهم وأيدي المنافقين فلم ينصروهم، وألقى في قلوب الفريقين الرعب ثم جعلت اليهود كلما خلص رسول الله صلى الله عليه وسلم من هدم ما يلي مدينتهم، ألقى الله في(سيرة 1/381)
قلوبهم الرعب، فهدموا الدور التي هم فيها من أدبارها، ولم يستطيعوا أن يخرجوا على النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه يهدمون شيئا فشيئا. فلما كادت اليهود أن يبلغ آخر دورها، وهم ينتظرون المنافقين وما كانوا منوهم، فلما يئسوا مما عندهم، سألوا النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان عرض عليهم قبل ذلك، فقاضاهم على أن يجليهم، ولهم أن يحملوا ما استقلت به الإبل إلا السلاح وطاروا كل مطير، وذهبوا كل مذهب. ولحق بنو أبي الحقيق بخيبر ومعهم آنية كثيرة من فضة، فرآها النبي صلى الله عليه وسلم. وعمد حيي بن أخطب حتى قدم مكة على قريش، فاستغواهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبين الله لرسوله حديث أهل النفاق، وما بينهم وبين اليهود، وكانوا قد عيروا المسلمين حين قطعوا النخل وهدموا. فقالوا: ما ذنب الشجرة وأنتم تزعمون أنكم مصلحون؟ فأنزل الله {سَبَّحَ لِلَّهِ} سورة الحشر ثم جعلها نفلا لرسوله، فقسمها فيمن أراه الله من المهاجرين. وأعطى منها أبا دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، الأنصاريين, وأعطى -زعموا- سعدَ بن معاذ سيفَ ابنِ أبي الحقيق.
وكان إجلاء بني النضير في المحرم سنة ثلاث.
وأقامت بنو قريظة في المدينة في مساكنهم، لم يؤمر فيهم النبي صلى الله عليه وسلم بقتل ولا إخراج حتى فضحهم الله بحيي بن أخطب وبجموع الأحزاب.
هذا لفظ موسى بن عقبة، وحديث عروة بمعناه، إلى إعطاء سعد السيف.
وقال موسى بن عقبة وغيره، عن نافع، عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم(سيرة 1/382)
قطع نخل بني النضير وحرق، ولها يقول حسان بن ثابت:
وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير
وفي ذلك نزلت هذه الآية: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر: 5] , متفق عليه.
وقال عمرو بن دينار، عن الزهري، عن مالك بن أوس، عن عمر، أن أموال بني النضير كانت مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة ينفق منها على أهله نفقة سنة, وما بقي جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله. أخرجاه.
سرية زيد بن حارثة إلى القردة:
قال ابن إسحاق: وسرية زيد التي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، حين أصاب عير قريش، وفيها أبو سفيان، على القردة، ماء من مياه نجد.
وكان من حديثها أن قريشا خافوا طريقهم التي كانوا يسلكون إلى الشام حين جرت وقعة بدر، فسلكوا طريق العراق فخرج منهم تجار فيهم أبو سفيان، واستأجروا رجلا من بني بكر بن وائل يقال له: فرات بن حيان يدلهم, فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة فلقيهم على ذلك الماء، فأصاب تلك العير وما فيها، وأعجزهم الرجال، فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم.(سيرة 1/383)
غزوة قرقرة الكدر:
قال الواقدي: إنها في المحرم سنة ثلاث وهي ناحية معدن بني سليم, واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم.
وكان صلى الله عليه وسلم بلغه أن بهذا الموضع جمعا من سليم وغطفان. فلم يجد في المحال أحدا، ووجد رعاء منهم غلام يقال له: يسار، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ظفر بالنعم، فانحدر به(سيرة 1/384)
وقال محمد بن يونس الجمال المخرمي -الذي قال فيه ابن(سيرة 1/385)
عدي: كان عندي ممن يسرق الحديث. قلت: لكن روى عنه مسلم- حدثنا ابن عيينة، قال: حدثنا عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قدم حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف مكة على قريش فحالفوهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لهم: أنتم أهل العلم القديم وأهل الكتاب، فأخبرونا عنا وعن محمد، قالوا: ما أنتم وما محمد؟ قالوا: نحن ننحر الكوماء، ونسقي اللبن على الماء، ونفك العناة، ونسقي الحجيج، ونصل الأرحام قالوا: فما محمد؟ قالوا: صنبور قطع أرحامنا واتبعه سراق الحجيج بنو غفار قالوا: لا، بل أنتم خير منه وأهدى سبيلا. فأنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51] الآية.
قال سفيان: كانت غفار سرقة في الجاهلية.
وقال إبراهيم بن جعفر بن محمود بن مسلمة، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، قال: ولحق كعب بن الأشرف بمكة إلى أن قدم المدينة معلنا بمعاداة النبي صلى الله عليه وسلم وهجائه، فكان أول ما خرج منه قوله:
أذاهب أنت لم تحلل بمنقبة ... وتارك أنت أم الفضل بالحرم
صفراء رادعة لو تعصر انعصرت ... من ذي البوارير والحناء والكتم
إحدى بني عامر هام الفؤاد بها ... ولو تشاء شفت كعبا من السقم
. . . لم أر شمسا قبل طلع ... حتى تبدت لنا في ليلة الظلم(سيرة 1/386)
وقال:
طحنت رحى بدر لمهلك أهلها
الأبيات.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم يوما: "من لكعب بن الأشرف؟ فقد آذانا بالشعر وقوى المشركين علينا". فقال محمد بن مسلمة: أنا يا رسول الله. قال: "فأنت". فقام فمشى ثم رجع فقال: إني قائل. فقال: قل فأنت في حل. فخرج محمد، بعد يوم أو يومين، حتى أتى كعبا وهو في حائط فقال: يا كعب، جئت لحاجة، الحديث.
وقال ابن عيينة: قال عمرو بن دينار: سمعت جابرا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله"؟. فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله، أعجب إليك أن أقتله؟ قال: "نعم". قال: فأذن لي أن أقول شيئا. قال: قل. فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وقد عنانا، وإني قد أتيتك أستسلفك. قال: وأيضا لتملنه. قال: إنا قد اتبعناه فنكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه, وقد أردنا أن تسلفنا. قال: ارهنوني نساءكم. قال: نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال: فارهنوني أبناءكم. قال: كيف نرهنك أبناءنا فيقال رهن بوسق أو وسقين؟ قال: فأي شيء؟ قال: نرهنك اللأمة. فواعده أن يأتيه ليلا، فجاءه ليلا ومعه أبو نائلة، وهو أخو كعب من الرضاعة، فدعاه من الحصن فنزل إليهم، فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟ قال: إنما هو أخي أبو نائلة ومحمد بن مسلمة، إن الكريم لو دعي إلى طعنة بليل لأجاب. قال محمد: إذا ما جاء فإني قائم بشَعْرِه فأشمه ثم أشمكم، فإذا رأيتموني أثبتُّ يدي فدونكم, فنزل إليهم متوشحا، وهو ينفح منه ريح الطيب،(سيرة 1/387)
فقال محمد: ما رأيت كاليوم ريحا، أي: أطيب، أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم فشمه ثم شم أصحابه، ثم قال: أتأذن لي؟ يعني ثانيا. قال: نعم. فلما استمكن منه قال: دونكم. فضربوه فقتلوه وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه. أخرجه البخاري.
وقال شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه، أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا، وكان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش في شعره. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وأهلها أخلاط، منهم المسلمون، ومنهم عبدة الأوثان، ومنهم اليهود، وهم أهل الحلقة والحصون، وهو حلفاء الأوس والخزرج، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة استصلاحهم كلهم، وكان الرجل يكون مسلما وأبوه مشرك أو أخوه، وكان المشركون واليهود حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يؤذونه أشد الأذى، فأمر الله رسوله والمسلمين بالصبر والعفول، فقال تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيرًا} [آل عمران: 186] ، وقال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109] .
فأمر رسول الله سعد بن معاذ أن يبعث رهطا ليقتلوا كعبا، فبعث إليه سعدٌ محمدَ بن
مسلمة وأبا عبس، والحارث ابن أخي سعد بن معاذ في خمسة رهط أتوه عشية، وهو في مجلسهم بالعوالي. فلما رآهم كعب أنكرهم وكاد يذعر منهم، فقال لهم: ما جاء بكم؟ قالوا: جاءت بنا إليك حجة. قال: فليدن إليَّ بعضكم فليحدثني بها. فدنا إليه(سيرة 1/388)
بعضهم, فقال: جئناك لنبيعك أدراعا لنا لنستنفق أثمانها. فقال: والله لئن فعلتم ذلك لقد جهدتم، قد نزل بكم هذا الرجل. فواعدهم أن يأتوه عشاء حين يهدأ عنهم الناس. فجاءوا فناداه رجل منهم، فقام ليخرج, فقالت امرأته: ما طرقوك ساعتهم هذه لشيء تحب. فقال: بل إنهم قد حدثوني حديثهم. فاعتنقه أبو عبس، وضربه محمد بن مسلمة بالسيف، وطعنه بعضهم بالسيف في خاصرته, فلما قتلوه فزعت اليهود ومن كان معهم من المشركين. فغدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبحوا فقالوا: إنه طرق صاحبنا الليلة وهو سيد من ساداتنا فقتل، فذكر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يقول في أشعاره، ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يكتب بينه وبينهم كتابا، فكتب بينهم صحيفة. وكانت تلك الصحيفة بعده عند علي. أخرجه أبو داود.
وذكر موسى بن عقبة وغيره أن عباد بن بشر كان معهم، فأصيب في وجهه بالسيف أو رجله.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ومشى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد، ثم وجههم وقال: "انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم".
وذكر البكائي، عن ابن إسحاق هذه القصة بأطول مما هنا وأحسن عبارة، وفيه: فاجتمع في قتله محمد، وسلكان بن سلامة بن وقش، وهو أبو نائلة الأشهلي، وعباد بن بشر، وأبو عبس بن جبر الحارثي. فقدَّموا إلى ابن الأشرف سلكانَ، فجاءه فتحدث معه ساعة وتناشدا شعرا، ثم قال: ويحك يابن الأشرف، إني قد جئت لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عني. قال: أفعل. قال: كان قدوم هذا الرجل(سيرة 1/389)
علينا بلاء من البلاء، عادتنا العرب ورمونا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال وجهدنا. فقال: أنا ابن الأشرف! أما والله لقد أخبرتك يابن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما أقول. فقال: إني أردت أن تبيعنا طعاما ونرهنك ونوثق لك، وتحسن في ذلك. فقال: أترهنوني أبناءكم؟ قال: لقد أردت أن تفضحنا، إن معي أصحابا لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم، وتحسن في ذلك، ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاء. قال: فرجع سلكان إلى أصحابه فأخبرهم خبره، وأمرهم أن يأخذوا السلاح ثم ينطلقوا فيجتمعوا إليه واجتمعوا، وساق القصة.
قال ابن إسحاق: وأطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل اليهود، وقال: "من ظفرتم به من اليهود فاقتلوه". وحينئذ أسلم حويصة بن مسعود، وكان قد أسلم قبله أخوه محيصة, فقتل محيصةُ ابنَ سنينة اليهودي التاجر، فقال حويصة قبل أن يسلم وجعل يضرب أخاه ويقول: أي عدو الله قتلته؟ أما والله لرب شحم في بطنك من ماله. فقال: والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك. قال: والله إن دينا بلغ بك هذا لعجب فأسلم حويصة.
وفي رمضان: وُلِدَ السيد أبو محمد الحسن بن علي، رضي الله عنهما.
وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بحفصة بنت عمر.
وفي هذه السنة: تزوج أيضا بزينب بنت خزيمة، من بني عامر بن صعصعة، وهي أم المساكين، فعاشت عنده شهرين أو ثلاثة، وتوفيت وقيل: أقامت عنده ثمانية أشهر، فالله أعلم.(سيرة 1/390)
غزوة أحد: وكانت في شوال
قال شيبان، عن قتادة: واقَعَ نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد من العام المقبل بعد بدر في شوال، يوم السبت لإحدى عشرة ليلة مضت من شوال وكان أصحابه يومئذ سبعمائة والمشركون ألفين أو ما شاء الله من ذلك.
وقال ابن إسحاق: للنصف من شوال.
وقال مالك: كان القتال يومئذ في أول النهار.
وقال بريد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت أني قد هززت سيفا فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت في رؤياي بقرا، والله خير، فإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير وثواب الصدق الذي آتانا يوم بدر". أخرجاه.
وقال ابن وهب: أخبرني ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: تنفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه ذا الفقار يوم بدر، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد. وذلك أنه لما جاءه المشركون يوم أحد كان رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم بالمدينة فيقاتلهم فيها، فقال له ناس لم يكونوا شهدوا بدرا: تخرج بنا يا رسول الله إليهم نقاتلهم بأحد،(سيرة 1/391)
ورجوا من الفضيلة أن يصيبوا ما أصاب أهل بدر فما زالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لبس أداته، ثم ندموا وقالوا: يا رسول الله، أقم فالرأي رأيك. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ينبغي لنبي أن يضع أداته بعد أن لبسها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه". قالوا: وكان ما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يلبس أداته: "إني رأيت أني في درع حصينة فأولتها المدينة، وأني مردف كبشا فأولته كبش الكتيبة، ورأيت أن سيفي ذا الفقار فل فأولته فلا فيكم، ورأيت بقرا تذبح، فبقر والله خير، فبقر والله خير".
وقال يونس عن الزهري في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد، قال: حتى إذا كان بالشوط من الجنانة، انخزل عبد الله بن أبي بقريب من ثل الجيش ومضى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم في سبعمائة وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف، ومعهم مائتا فرس قد جنبوها، وجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل.
وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وهم ألف، والمشركون ثلاثة آلاف. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا، ورجع عنه عبد الله بن أبي في ثلاثمائة، فسقط في أيدي الطائفتين, وهمتا أن تفشلا، والطائفتان: بنو سلمة وبنو حارثة.
وقال ابن عيينة، عن عمرو عن جابر: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} [آل عمران: 122] ، بنو سلمة وبنو حارثة، ما أحب أنها لم تنزل لقوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران: 122] . متفق عليه.(سيرة 1/392)
وقال شعبة، عن عدي بن ثابت، سمع عبد الله بن يزيد يحدث، عن زيد بن ثابت، قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد، رجع ناس خرجوا معه فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين، فرقة تقول: نقاتلهم. وفرقة تقول: لا نقاتلهم، فنزلت: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء: 88] ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها طيبة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة. متفق عليه.
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179] ، قال: ميزهم يوم أحد.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق قال: كان من حديث أحد، كما حدثني الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر، والحصين بن عبد الرحمن، وغيرهم كل قد حدث بعض الحديث، وقد اجتمع حديثهم كله فيما سقت من هذا الحديث عن يوم أحد، أن كفار قريش لما أصيب منهم أصحاب القليب، ورجع فلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بن حرب بالعير، مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم، فكلموا أبا سفيان ومن كان له في تلك العير تجارة, فقالوا: يا معشر قريش! إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا بمن أصاب منا فاجتمعوا لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير بأحابيشها ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة.(سيرة 1/393)
وكان أبو عزة الجمحي قد من عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذا عيال وحاجة، فقال: يا رسول الله! إني فقير ذو عيال وحاجة، فامنن عليَّ. فقال له صفوان: يا أبا عزة، إنك امرؤ شاعر فأعنا بلسانك فاخرج معنا. فقال: إن محمدا قد منَّ عليَّ فلا أريد أن أظاهر عليه.
قالوا: بلى, فأعنا بنفسك، فلك الله عليَّ إن رجعت أن أعينك، وإن أصبت أن أجعل بناتك
مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر. فخرج أبو عزة يسير في تهامة ويدعو بني كنانة، ويقول:
إيهًا بني عبد مناة الرزام ... أنتم حماة وأبوكم حام
لا تعدوني نصركم بعد العام ... لا تسلموني لا يحل إسلام
وخرج مسافع بن عبد مناف الجمحي إلى بني مالك بن كنانة يدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول شعرا. ودعا جبير بن مطعم غلاما له حبشيا يقال له: وحشي، يقذف بحربة له قذف الحبشة قلما يخطئ بها، فقال له: اخرج مع الناس فإن أنت قتلت حمزة بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق. فخرجت قريش بحدها وحديدها وأحابيشها ومن تابعها، وخرجوا معهم بالظُعن التماس الحفيظة وأن لا يفروا. وخرج أبو سفيان وهو قائد الناس, بهند بنت عتبة، وخرج عكرمة بأم حكيم بنت الحارث بن هشام, حتى نزلوا بعينين بجبل أحد ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مقابل المدينة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قتلناهم فيها وكان يكره الخروج إليهم. فقال رجال ممن فاته يوم بدر: يا رسول الله! اخرج بنا إليهم لا يرون أنا جبنا عنهم. فلم يزالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل فلبس لأمته، وذلك يوم(سيرة 1/394)
الجمعة حين فرغ الناس من الصلاة فذكر خروجه وانخزال ابن أبي بثلث الناس، فاتبعهم عبد الله والد جابر، يقول: أذكركم الله أن تخذلوا قومكم ونبيكم. قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال. وقالت الأنصار: يا رسول الله، ألا نستعين بحلفائنا من يهود؟ قال: "لا حاجة لنا فيهم". ومضى حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال: لا يقاتلن أحد حتى نأمره بالقتال. وتعبأ للقتال وهو في سبعمائة، وأمَّر على الرماة عبد الله بن جبير وهم خمسون رجلا، فقال: "انضحوا عنا الخيل بالنبل، لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا، فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك". وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير. وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف معهم مائتا فرس قد جنبوها فجعلوا على الميمنة خالدا، وعلى الميسرة عكرمة.
وقال سلام بن مسكين، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: كانت راية
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد مرطا أسود كان لعائشة، وراية الأنصار يقال لها: العقاب، وعلى ميمنته علي، وعلى ميسرته المنذر بن عمرو الساعدي، والزبير بن العوام كان على الرجال، ويقال: المقداد بن الأسواد، وكان حمزة على القلب، واللواء مع مصعب بن عمير، فقتل، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم عليا، قال: ويقال: كانت له ثلاثة ألوية، لواء إلى مصعب بن عمير للمهاجرين، ولواء إلى علي، ولواء إلى المنذر.
وقال ثابت, عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ سيفا يوم أحد فقال: "من يأخذ مني هذا السيف بحقه"؟. فبسطوا أيديهم كل إنسان منهم يقول: أنا، أنا. فقال: "من يأخذه بحقه"؟. فأحجم القوم، فقال له أبو دجانة سماك: أنا آخذه بحقه. قال: فأخذه ففلق به هام المشركين. أخرجه مسلم.
وقال ابن إسحاق: حتى قام إليه أبو دجانة سماك بن خرشة، أخو بني ساعدة، فقال: وما حقه؟ قال: "تضرب به في العدو حتى ينحني". قال: فأنا آخذه يا رسول الله. فأعطاه إياه، وكان رجلا شجاعا يختال عند الحرب، وكان إذا قاتل علم بعصابة له حمراء فاعتصب بها على رأسه، ثم جعل يتبختر بين الصفين. فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين رآه يبختر: "إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن".
وقال عمرو بن عاصم الكلابي: حدثني عبيد الله بن الوازع، قال: حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن الزبير بن العوام، قال: عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفا يوم أحد فقال: "من يأخذه بحقه"؟. فقمت فقلت: أنا يا رسول الله! فأعرض عني, ثم قال: "من يأخذ هذا السيف بحقه"؟. فقام أبو دجانة(سيرة 1/395)
سماك بن خرشة فقال: أنا يا رسول الله! فما حقه؟ قال: "أن لا تقتل به مسلما ولا تفر به عن كافر". قال: فدفعه إليه، وكان إذا أراد القتال أعلم بعصابة، فقلت:
لأنظرن إليه كيف يصنع؟ قال: فجعل لا يرتفع له شيء إلا هتكه وأفراه, حتى انتهى إلى نسوة في سفح جبل معهن دفوف لهن، فيهن امرأة وهي تقول:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
إن تقبلوا نعانق ... أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق(سيرة 1/396)
قال: فاهوى بالسيف إلى امرأة ليضربها، ثم كف عنها. فلما انكشف القتال قلت له: كل عملك قد رأيت ما خلا رفعك السيف على المرأة ثم لم تضربها. قال أكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقتل به امرأة.
وروى جعفر بن عبد الله بن أسلم, مولى عمر، عن معاوية بن معبد بن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين رأى أبا دجانة يتبختر: إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن.
وقال ابن إسحاق، عن الزهري وغيره: إن رجلا من المشركين خرج يوم أحد، فدعا إلى البراز، فأحجم الناس عنه حتى دعا ثلاثا، وهو على جمل له، فقام إليه الزبير فوثب حتى استوى معه على بعيره, ثم عانقه فاقتتلا فوق البعير جميعا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذي يلي حضيض الأرض مقتول". فوقع المشرك ووقع عليه الزبير فذبحه. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قرب الزبير فأجلسه على فخذه وقال: "إن لكل نبي حواريا والزبير حواريي".
قال ابن إسحاق: واقتتل الناس حتى حميت الحرب، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس، وحمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وآخرون.
وقال زهير بن معاوية: حدثنا أبو إسحاق، قال: سمعت البراء يحدث قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة يوم أحد, وكانوا خمسين, عبد الله بن جبير, وقال: "إذا رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم". قال: فهزمهم فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل(سيرة 1/397)
قد بدت خلاخيلهن وسوقهن رافعات ثيابهن. فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة، أي قوم، الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله لهم: أنسيتم ما قال لكم
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة. فأتوهم فصرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين. فذلك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم. فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا, فأصابوا منا سبعين.
فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد؟ ثلاث مرات. فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه. ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ ثلاثا. ثم رجع إلى أصحابه, فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا. فما ملك عمر نفسه أن قال: كذبت يا عدو الله، إن الذي عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوءك. فقال: يوم بيوم بدر والحرب سجال، إنكم ستجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. ثم أخذ يرتجز: اعل هبل، اعل هبل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تجيبوه"؟. قالوا: ما نقول؟ قال: "قولوا: الله أعلى وأجل".
ثم قال: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تجيبوه"؟. قالوا: ما نقول؟ قال: "قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم". أخرجه البخاري.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: فحدثني الحصين بن عبد الرحمن، عن محمود بن عمرو بن يزيد بن السكن, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد حين غشيه القوم: من رجل يشري لنا نفسه؟ فقام زياد(سيرة 1/398)
بن السكن في خمسة من الأنصار، وبعض الناس يقول: هو عمارة ابن زياد بن السكن، فقاتلوا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجل ثم رجل يقتلون دونه، حتى كان آخرهم زيادا أو عمارة فقاتل حتى أثبتته الجراحة. ثم فاءت من المسلمين فئة فأجهضوهم عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أدنوه مني". فأدنوه منه, فوسده قدمه, فمات وخده على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وترَّسَ دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو دجانة بنفسه، يقع النبل في ظهره, وهو منحنٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كثرت فيه النبل.
وقال حماد بن سلمة عن ثابت, وغيره, عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال: "من يردهم عنا وله الجنة -أو- هو رفيقي في الجنة"؟. فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، وتقدم آخر فقاتل حتى قتل فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال لصاحبيه: "ما أنصفنا أصحابنا". رواه مسلم.
وقال سليمان التيمي، عن أبي عثمان، قال: لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في بعض تلك الأيام التي قاتل فيهن غير طلحة بن عبيد الله وسعد، عن حديثهما. متفق عليه.
وقال قيس بن أبي حازم: رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم، يعني يوم أحد. أخرجه البخاري.
وقال عبد الله بن صالح: حدثني يحيى بن أيوب، عن عمارة بن غزية، عن أبي الزبير مولى حكيم بن حزام، عن جابر قال: انهزم الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فبقي معه أحد عشر رجلا من الأنصار،(سيرة 1/399)
وطلحة بن عبيد الله وهو يصعد في الجبل، فلحقهم المشركون فقال: "ألا أحد لهؤلاء"؟. فقال طلحة: أنا يا رسول الله! قال: "كما أنت يا طلحة". فقال رجل من الأنصار: فأنا يا رسول الله! فقاتل عنه، وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه ثم قتل الأنصار فلحقوه, فقال: "ألا أحد لهؤلاء"؟. فقال طلحة مثل قوله, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل قوله، فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله! فأذن له فقاتل ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يصعدون، ثم قتل, فلحقوه فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مثل قوله ويقول طلحة: أنا. فيحبسه ويستأذنه رجل من الأنصار فيأذن له، حتى لم يبق معه إلا طلحة فغشوهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من لهؤلاء"؟. فقال طلحة: أنا. فقاتل مثل قتال جميع من كان قبله وأصيبت أنامله, فقال: حس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو قلت بسم الله أو ذكرت اسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون إليك حتى تلج بك في جو السماء". ثم صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم مجتمعون.
وقال عبد الوارث: حدثنا عبد العزيز, عن أنس قال: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يجوب عنه بحجفة معه. وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثة وكان الرجل يمر بالجعبة فيها النبل فينثرها لأبي طلحة ويشرف نبي الله صلى الله عليه وسلم فينظر إلى القوم, فيقول أبو طلحة: يا نبي الله! بأبي أنت وأمي، لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك. ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر، وأم سليم وإنهما(سيرة 1/400)
مشمرتان أرى خدم سوقهما، تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانه في أفواه القوم.
ولقد وقع السيف من يد أبي طلحة من النعاس إما مرتين أو ثلاثة. متفق عليه.
وقال ابن إسحاق: وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل، قتله ابن قميئة الليثي، وهو يظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرجع إلى قريش فقال: قتلت محمدا.
ولما قتل مصعب أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء علي بن أبي طالب ورجالا من المسلمين.
وقال موسى بن عقبة: واستجلبت قريش من شاءوا من مشركي العرب، وسار أبو سفيان
في جمع قريش. ثم ذكر نحو ما تقدم، وفيه: فأصابوا وجهه، يعني النبي صلى الله عليه وسلم وقصموا رباعيته، وخرقوا شفته. يزعمون أن الذي رماه عتبة بن أبي وقاص.
وعنده -يعني عند ابن عقبة- المنام، وفيه: "فأولت الدرع الحصينة المدينة، فامكثوا واجعلوا الذراري في الآطام، فإن دخلوا علينا في الأزقة قاتلناهم ورموا من فوق البيوت". وكانوا قد سكوا أزقة المدينة بالبنيان حتى كانت كالحصن. فأبى كثير من الناس إلا الخروج، وعامتهم لم يشهدوا بدرا. قال: وليس مع المسلمين فرس.
وكان حامل لواء المشركين طلحة بن عثمان، أخو شيبة العبدري،(سيرة 1/401)
وحامل لواء المسلمين رجل من المهاجرين، فقال: أنا عاصم إن شاء الله لما معي. فقال له طلحة بن عثمان: هل لك في المبارزة؟ قال: نعم. فبدره ذلك الرجل فضرب بالسيف على رأسه حتى وقع السيف في لحيته.
فكان قتل صاحب المشركين تصديقا لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "أراني أني مردف كبشا".
فلما صرع انتشر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وصاروا كتائب متفرقة فجاسوا العدو ضربا حتى أجهضوهم عن أثقالهم. وحملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات، كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مفلولة وحمل المسلمون فنهكوهم قتلا، فلما أبصر الرماة الخمسون أن الله قد فتح، قالوا: والله ما نجلس ههنا لشيء. فتركوا منازلهم التي عهد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتركوها، وتنازعوا وفشلوا وعصوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فأوجفت الخيل فيهم قتلا، وكان عامتهم في العسكر فلما أبصر ذلك المسلمون اجتمعوا، وصرخ صارخ: أخراكم أخراكم، قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسقط في أيديهم، فقتل منهم من قتل، وأكرمهم الله بالشهادة. وأصعد الناس في الشعب لا يلوون على أحد، وثبت الله نبيه، وأقبل يدعو أصحابه مصعدا في الشعب، والمشركون على طريقه، ومعه عصابة منهم طلحة بن عبيد الله والزبير، وجعلوا يسترونه حتى قُتِلوا إلا ستة أو سبعة.
ويقال: كان كعب بن مالك أول من عرف عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين فقد، من وراء المغفر فنادى بصوته الأعلى: الله أكبر، هذا رسول الله، فأشار إليه -زعموا- رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن اسكت. وجرح رسول(سيرة 1/402)
الله صلى الله عليه وسلم في وجهه وكسرت رباعيته.
وكان أبي بن خلف قال حين افتدى: والله إن عندي لفرسا أعلفها كل يوم فرق ذرة، ولأقتلن عليها محمدا. فبلغ قوله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "بل أنا أقتله إن شاء الله". فأقبل أبي
مقنعا في الحديد على فرسه تلك يقول: لا نجوت إن نجا محمد فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال موسى: قال سعيد بن المسيب: فاعترض له رجال، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلوا طريقه، واستقبله مصعب بن عمير يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل مصعبا. وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبي من فرجة بين سابغة البيضة والدرع، فطعنه فيها بحربته، فوقع أبي عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم.
قال سعيد: فكُسِرَ ضلع من أضلاعه، ففي ذلك نزلت: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] ، فأتاه أصحابه وهو يخور خوار الثور فقالوا: ما جزعك؟ إنما هو خدش. فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل أنا أقتل أبيا". ثم قال: والذي نفسي بيده، لو كان هذا الذي بي بأهل المجاز لماتوا أجمعون. فمات قبل أن يقدم مكة.
وقال ان إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جده، أن الزبير قال: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم سوق هند وصواحباتها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل ولا كثير، إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب، وخلوا ظهورنا للخيل، فأتينا من أدبارنا، وصرخ صارخ: ألا إن محمدا قد قتل، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب لوائهم، حتى ما يدنو(سيرة 1/403)
منه أحد من القوم.
قال ابن إسحاق: لم يزل لواؤهم صريعا حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية، فرفعته لقريش فلاذوا به.
وقال ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله تعالى: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} أي: تقتلونهم, {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ} يعني: إقبال من أقبل منهم على الغنيمة، {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} ، {مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 152-153] ، يعني النصر. ثم أديل للمشركين عليهم بمعصيتهم الرسول حتى حصبهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى السدي، عن عبد خير، عن عبد الله، قال: ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزلت فينا: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152] .
وقال هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: هُزم المشركون يوم أحد هزيمة بينة، فصرخ إبليس: أي عباد الله أخراكم، فرجعت أولاهم واجتلدوا هم وأخراهم. فنظر حذيفة فإذا هو
بأبيه اليمان، فقال: أبي، أبي. فوالله ما نحجزوا عنه حتى قتلوه. فقال حذيفة: غفر الله لكم. قال عروة: فوالله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لقي الله. أخرجه البخاري.
وقال ابن عون عن عمير بن إسحاق، عن سعد بن أبي وقاص، قال: كان حمزة يقاتل يوم أحد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيفين، ويقول: أنا أسد الله رواه يونس بن بكير، عن ابن عون عن عمير مرسلا وزاد: فعثر فصرع مستلقيا وانكشفت الدرع عن بطنه، فزرقه الحبشي(سيرة 1/404)
العبد, فبقره.
وقال عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الله بن الفضل الهاشمي، عن سليمان بن يسار، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري، قال: خرجت مع عبيد الله بن عدي بن الخيار إلى الشام فلما أن قدمنا حمص قال لي عبيد الله: هل لك في وحشي نسأله عن قتل حمزة؟ قلت: نعم. وكان وحشي يسكن حمص، فسألنا عنه، فقيل لنا: هو ذاك في ظل قصره كأنه حميت. فجئنا حتى وقفنا عليه يسيرا فسلمنا فرد علينا السلام وكان عبيد الله معتجرا بعمامته، ما يرى وحشي إلا عينيه ورجليه. فقال عبيد الله: يا وحشي تعرفني؟ فنظر إليه فقال: لا والله إلا أني أعلم أن عدي بن الخيار تزوج امرأة يقال لها: أم فثال بنت أبي العيص، فولدت غلاما بمكة فاسترضعته، فحملتُ ذلك الغلام مع أمه فناولتها إياه، لكأني نظرت إلى قدميك. قال: فكشف عبيد الله عن وجهه، ثم قال: ألا تخبرنا بقتل حمزة؟ قال: نعم, إن حمزة قتل طعيمة بن عدي بن الخيار ببدر. فقال لي مولاي جبير بن مطعم: إن قتلت حمزة بعمي فأنت حر فلما خرج الناس عن عينين -وعينون جبل تحت أحد, بينه وبين أحد واد- خرجت مع الناس إلى القتال فلما أن اصطفوا للقتال خرج سباع, فقال: هل من مبارز؟ فخرج إليه حمزة فقال: يا سباع يابن مقطعة البظور، تحاد الله ورسوله؟ ثم شد عليه, فكان كأمس الذاهب. قال فمكنت لحمزة تحت صخرة حتى مر عليَّ، فرميته بحربتي فأضعها في ثنته حتى خرجت من وركه، فكان ذاك العهد به,(سيرة 1/405)
فلما رجع الناس رجعت معهم، فأقمت بمكة حتى فشا فيها الإسلام، ثم خرجت إلى الطائف. قال: وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا، وقيل: إنه لا يهيج الرسل، فخرجت معهم, فلما رآني قال: "أنت وحشي"؟. قلت: نعم. قال: "الذي قتل حمزة"؟. قلت: نعم, قد كان الأمر الذي بلغك. قال: "ما تستطيع أن تغيب عني وجهك"؟. قال: فرجعت فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج مسيلمة، قلت: لأخرجن إليه لعلي أقتله فأكافئ به حمزة. فخرجت مع الناس وكان من أمرهم ما كان، فإذا رجل قائم في ثلمة جدار كأنه جمل أورق ثائر رأسه. قال: فأرميه بحربتي فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من بين كتفيه، ووثب إليه رجل من الأنصار فضربه بالسيف على هامته.
قال سليمان بن يسار: فسمعت ابن عمر يقول: قالت جارية على ظهر بيت: وا أمير المؤمنين، قتله العبد الأسود. أخرجه البخاري.
وقال ابن إسحاق: ذكر الزهري، قال: كان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة, وقول الناس: قُتِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم. كعبُ بن مالك, قال: عرفت عينيه تزهران من تحت المغفر، فناديت: يا معشر المسلمين! أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليَّ: أن انصت. ومعه جماعة فلما أسند في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: يا محمد! لا نجوتُ إن نجوتَ ... الحديث.
وقال هاشم بن هاشم الزهري: سمعت سعيد بن المسيب، سمع سعدا يقول: نثل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته يوم أحد، وقال: "ارم، فداك أبي وأمي". أخرجه البخاري.(سيرة 1/406)
وقال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله, عن أبيه، عن جده، عن الزبير، قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظاهر بين درعين يومئذ، فلم يستطع أن ينهض إليها، يعني إلى صخرة في الجبل، فجلس تحته طلحة بن عبيد الله فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استوى عليها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوجب طلحة".
وقال حميد وغيره، عن أنس، قال: غاب أنس بن النضر، عم أنس بن مالك عن قتال بدر فقال: غبت عن أول قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين، لئن الله أشهدني قتالا ليرين الله ما أصنع, فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعني المشركين وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني المسلمين من الهزيمة فمشى بسيفه فلقيه سعد بن معاذ فقال: أي سعد إني لأجد ريح الجنة دون أحد واهًا لريح الجنة! فقال سعد: يا رسول الله! فما استطعت أن أصنع كما صنع. قال أنس بن مالك: فوجدناه بين القتلى، به بضع وثمانون جراحة من ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، فما عرفناه، حتى عرفته أخته ببنانه، فكنا نتحدث أن هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] ، نزلت فيه وفي أصحابه. متفق عليه, لكن مسلم من حديث ثابت البناني، عن أنس.
وقال محمد بن عمرو، عن أبي سلمة, عن أبي هريرة, أن عمرو بن أقيش كان له ربًا في الجاهلية، فكره أن يسلم حتى يأخذه. فجاء يوم أحد فقال: أين بنو عمي؟ قالوا: بأحد.
فلبس لأمته وركب فرسه ثم توجه قبلهم، فلما رآه المسلمون قالوا: إليك عنا. قال: إني قد آمنت.(سيرة 1/407)
فقاتل حتى جرح، فحمل جريحا, فجاءه سعد بن معاذ, فقال لأخته: سليه، حمية
لقومك أو غضبا لله؟ قال: بل غضبا لله ورسوله فمات فدخل الجنة وما صلى صلاة. أخرجه أبو داود.
وقال حيوة بن شريح المصري: حدثني أبو صخر حميد بن زياد، أن يحيى بن النضر حدثه عن أبي قتادة، قال: أتى عمرو بن الجموح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل، أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة وكان أعرج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم". فقتل يوم أحد هو وابن أخيه ومولى لهم، فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: "كأني أراك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة". وأمر بهما وبمولاهما فجعلوا في قبر واحد.
وقال ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب قال: قال عبد الله بن جحش: اللهم إني أقسم عليك أن ألقى العدو غدا فيقتلوني ثم يبقروا بطني ويجدعوا أنفي وأذني، ثم تسألني: بم ذاك؟ فأقول: فيك. قال سعيد بن المسيب: إني لأرجو أن يبر الله آخر قسمه كما أبر أوله.
وروى الزبير بن بكار في "الموفَّقيات", أن عبد الله بن جحش، انقطع سيفه، قال: فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم عرجونا فصار في يده سيفا. فكان يسمى العرجون، ولم يزل يتناول حتى بيع من بغا التركي بمائتي دينار. وكان عبد الله من السابقين، أسلم قبل دار الأرقم، وهاجر إلى الحبشة هو وإخوته وشهد بدرا.
وقال معمر، عن سعيد بن عبد الرحمن الجحشي: حدثنا أشياخنا أن عبد الله بن جحش جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وقد ذهب سيفه،(سيرة 1/408)
فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم عسيبا من نخل، فرجع في يد عبد الله سيفا. مرسل.
عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد لطلب سعد بن الربيع، وقال لي: "إن رأيته فأقرئه مني السلام وقل له: يقول لك رسول الله: كيف تجدك"؟. فجعلت أطواف بين القتلى، فأصبته وهو في آخر رمق وبه سبعون ضربة, فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام ويقول لك: "خبرني كيف تجدك"؟. قال: على رسول الله السلام وعليك، قل له: يا رسول الله! أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم شفر يطرف. قال: وفاضت نفسه. أخرجه البيهقي، ثم ساقه فيما بعد من حديث محمد بن إسحاق، عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن المازني، منقطعا، فهو شاهد لما رواه خارجة.
وقال موسى بن عقبة: ثم انكفأ المشركون إلى أثقالهم، لا يدري المسلمون ما يريدون. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن رأيتموهم ركبوا وجعلوا الأثقال تتبع آثار الخيل، فهم يريدون أن يدنوا من البيوت والآطام التي فيها الذراري، وأقسم بالله لئن فعلوا لأواقعنهم في جوفها، وإن كانوا ركبوا الأثقال وجنبوا الخيل فهم يريدون الفرار". فلما أدبروا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص في آثارهم. فلما رجع قال: رأيتهم سائرين على أثقالهم والخيل مجنوبة. قال: فطابت أنفس القوم، وانتشروا يبتغون قتلاهم. فلم يجدوا قتيلا إلا وقد مثلوا به، إلا حنظلة بن أبي عامر، وكان أبوه مع المشركين فترك لأجله. وزعموا أن أباه وقف عليه قتيلا فدفع صدره برجله ثم قال: ذنبان أصبتهما، قد تقدمتُ إليك في(سيرة 1/409)
مصرعك هذا يا دبيس، ولعمر الله إن كنت لواصلا للرحم برا بالوالد.
ووجدوا حمزة بن عبد المطلب قد بُقِرَ بطنه وحُمِلَت كبده، احتملها وحشي وهو الذي قتله، فذهب بكبده إلى هند بنت عتبة في نذر نذرته حين قتل أباها يوم بدر. فدفن في نمرة كانت عليه، إذا رفعت إلى رأسه بدت قدماه، فغطوا قدمية بشيء من الشجر.
وقال الزهري: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "زملوهم بدمائهم, فإنه ليس أحد يكلم في الله إلا وهو يأتي يوم القيامة وجرحه يدمي, لونه لون الدم وريحه ريح المسك".
وقال: إن المشركين لن يصيبوا منا مثلها. وقد كان أبو سفيان ناداهم حين ارتحل المشركون: إن موعدكم الموسم, موسم بدر. وهي سوق كانت تقوم ببدر كل عام, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا له: نعم".
قال: ودخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وإذا النَّوْح في الدور. قال: "ما هذا"؟. قالوا: نساء الأنصار يبكين قتلاهم. وأقبلت امرأة تحمل ابنها وزوجها على بعير، قد ربطتهما بحبل ثم ركبت بينهما, وحُمِلَ قتلى، فدفنوا في مقابر المدينة، فنهاهم عن ذلك وقال: "واروهم حيث أصيبوا".
وقال لما سمع البكاء: "لكن حمزة لا بواكي له". واستغفر له، فسمع ذلك سعد بن معاذ وابن رواحة وغيرهما، فجمعوا كل نائحة وباكية بالمدينة، فقالوا: والله لا تبكين قتلى الأنصار حتى تبكين عم رسول الله(سيرة 1/410)
صلى الله عليه وسلم، فلما سمع رسول الله بالبكاء، قال: "ما هذا"؟. قال: فأخبر، فاستغفر لهم وقال لهم خيرا، وقال: "ما هذا أردت وما أحب البكاء". ونهى عنه.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن نافع الأنصاري، قال: انتهى أنس بن النضر إلى عمر، وطلحة، ورجال قد ألقوا بأيديهم فقال: ما يجلسكم؟ فقالوا:
قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قُتِلَ.
قال ابن إسحاق: وقد كان حنظلة بن أبي عامر التقي هو وأبو سفيان بن حرب، فلما استعلاه حنظلة رآه شداد بن الأسود فضرب حنظلة بالسيف فقتله. وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن صاحبكم لتغسله الملائكة". يعني حنظلة، فسألوا أهله: ما شأنه؟ فسئلت صاحبته قالت: خرج وهو جنب حين سمع الهيعة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لذلك غسلته الملائكة".
وقال البكَّائي، عن ابن إسحاق: وخلص العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدُثَّ بالحجارة حتى وقع لشقه فأصيبت رباعيته، وشج في وجهه، وكلمت شفته وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص. فحدثني حميد الطويل عن أنس، قال: كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وشج في وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه وهو يمسحه ويقول: "كيف يفلح(سيرة 1/411)
قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم"؟. فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128] .
وقال عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد، قال: جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه, فكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل الدم، وعليٌّ يسكب الماء عليه بالمجن. فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة، أخذت قطعة حصير أحرقته، حتى إذا صار رمادا ألصقته بالجرح، فاستمسك الدم. أخرجاه.
ورواه مسلم من حديث سعيد بن أبي هلال، عن أبي حازم، عن سهل، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أصيبت رباعيته وهشمت بيضته. وذكر باقي الحديث.
وقال معمر، عن همام، عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشتد غضب الله على قوم فعلوا برسول الله"، وهو يشير إلى رباعيته، "اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله". متفق عليه.
وللبخاري مثله من حديث عكرمة، عن ابن عباس. لكن فيه: "دموا وجه رسول الله"، بدل ذكر رباعيته.
وقال ابن المبارك، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله: أخبرني عيسى بن طلحة، عن عائشة، قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد بكى ثم قال: ذاك يوم كان كله يوم طلحة. ثم أنشأ يحدث، قال:(سيرة 1/412)
كنت أول من فاء يوم أحد، فرأيت رجلا يقاتل مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم دونه. وأراه قال: يحميه، فقلت: كن طلحة، حيث فاتني، قلت: يكون رجلا من قومي أحب إليَّ، وبيني وبين المشرق رجل لا أعرفه، وأنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، وهو يخطف المشي خطفا لا أخطفه. إذا هو أبو عبيدة. فانتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد كسرت رباعيته, وشج في وجهه، وقد دخل في وجهه حلقتان من حلق المغفر, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"عليكما صاحبكما". يريد طلحة, وقد نزف, فلم نلتفت إلى قوله، وذهبت لأنزع ذلك من وجهه, فقال أبو عبيدة: أقسمت عليك بحقي لما تركتني فكره أن يتناولها بيده فيؤذي النبي، فأزم عليهما بفيه، فاستخرج إحدى الحلقتين. ووقعت ثنيته مع الحلقة وذهبت لأصنع ما صنع، فقال: أقسمت عليك بحقي لما تركتني. ففعل ما فعل في المرة الأولى، فوقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة فكان أبو عبيدة من أحسن الناس هتمًا, فأصلحنا من شأن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار، فإذا بضع وسبعون، أقل أو أكثر، من بين طعنة ورمية وضربة, وإذا قد قطعت إصبعه. فأصلحنا من شأنه.
وروى الواقدي عن ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبي الحويرث، عن نافع بن جبير، قال: سمعت رجلا من المهاجرين يقول: شهدت أحدا، فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها، كل ذلك يصرف عنه. ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ: دلوني على محمد, فلا نجوت إن نجا, ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ما معه أحد، ثم تجاوزه فعاتبه في ذلك صفوان، فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع، خرجنا أربعة(سيرة 1/413)
فتعاهدنا على قتله، فلم نخلص إلى ذلك.
قال الواقدي: الثبت عندنا أن الذي رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجنتيه: ابن قمئة، والذي رمى شفتيه وأصاب رباعيته: عتبة بن أبي وقاص.
وقال ابن إسحاق: حدثني صالح بن كيسان، عمن حدثه، عن سعد بن أبي وقاص، قال: والله ما حرصت على قتل أحد قط ما حرصت على قتل عتبة بن أبي وقاص، وإن كان ما علمته لسيئ الخلق مبغضا في قومه، ولقد كفاني منه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشتد غضب الله على من دمى وجه رسول الله".
وقال معمر، عن الزهري، عن عثمان الجزري، عن مقسم أن النبي صلى الله عليه وسلم على عتبة حين كسر رباعيته: "اللهم لا تحل عليه الحول حتى يموت كافرا". فما حال عليه الحول حتى مات كافرا إلى النار. مرسل.
ابن وهب: أخبرنا عمرو بن الحارث قال: حدثني عمر بن السائب، أنه بلغه أن والد
أبي سعيد الخدري، لما جرح النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، مص جرحه حتى أنقاه ولاح أبيض، قيل له: مجه فقال: لا والله لا أمجه أبدا ثم أدبر فقاتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا". فاستشهد.
قال ابن إسحاق قال حسان بن ثابت:
إذا الله جازى معشرا بفعالهم ... ونصرهم الرحمن رب المشارق
فأخزاك ربي يا عتيب بن مالك ... ولقاك قبل الموت إحدى الصواعق
بسطت يمينا للنبي تعمدا ... فأدميت فاه قطعت بالبوارق
فهلا ذكرت الله والمنزل الذي ... تصير إليه عند إحدى البوائق(سيرة 1/414)
قال ابن إسحاق: وعن أبي سعيد الخدري، أن عتبة كسر رباعية النبي صلى الله عليه وسلم اليمنى السفلى، وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن شهاب شجه في جبهته، وأن ابن قمئة جرح وجنته، فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، ووقع صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون، فأخذ عليَّ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفعه طلحة حتى استوى قائما. ومص مالك بن سنان, أبو أبي سعيد, الدم عن وجهه ثم ازدرده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مس دمه دمي لم تمسه النار". منقطع.
قال البكائي: قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى عن قوسه حتى اندقت سِيتُها، فأخذها قتادة بن النعمان، فكانت عنده. وأصيبت يومئذ عين قتادة، حتى وقعت على وجنته فحدثني عاصم بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردها بيده، وكانت أحسن عينيه وأحدهما.
وقال الواقدي: حدثنا موسى بن يعقوب الزمعي، عن عمته، عن أمها، عن المقداد بن عمرو قال: فربما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يوم أحد يرمي عن قوسه، ويرمي بالحجر، حتى تحاجزوا، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو في عصابة صبروا معه.
هذا الحديثان ضعيفان، وفيهما أنه رمى بالقوس.
وقال سليمان بن أحمد نزيل واسط: حدثنا محمد بن شعيب، قال: سمعت إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، يحدث عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح، عن أبي سعيد الخدري، عن قتادة بن النعمان، وكان(سيرة 1/415)
أخا أبي سعيد لأمه، أن عينه ذهبت يوم أحد، فجاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فردها، فاستقامت.
وقال يحيى الحماني: حدثنا عبد الرحمن بن الغسيل، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن قتادة بن النعمان، أنه أصيبت عينه يوم بدر، فسالت حدقته على وجنته، فأرادوا أن يقطعوها، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا". فدعا به فغمز حدقته براحته فكان لا يدري أي عينيه أصيبت.
كذا قال ابن الغسيل: يوم بدر.
وقال موسى بن عقبة: إن أبا حذيفة بن اليمان، واسمه حسيل بن جبير حليف للأنصار، أصابه المسلمون -زعموا- في المعركة لا يدرون من أصابه فتصدق حذيفة بدمه على من أصابه.
قال موسى: وجميع من استشهد من المسلمين تسعة وأربعون رجلا.
وقتل من المشركين ستة عشر رجلا.
وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: حمل أبي بن خلف على النبي صلى الله عليه وسلم يريد قتله، فاستقبله مصعب بن عمير، فقتل مصعبا وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبي فطعنه بحربته فوقع عن فرسه، ولم يخرج منها دم فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور.
وروى نحوه الزهري، عن ابن المسيب.
وذكره الواقدي، عن يونس بن محمد, عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه.
قال الواقدي: وكان ابن عمر يقول: مات أبي ببطن رابغ، فإني(سيرة 1/416)
لأسير ببطن رابغ بعد هوى من الليل إذا نار تأجج لي فهبتُها، فإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يصيح: العطش. ورجل يقول: لا تسقه, فإن هذا قتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أبي بن خلف.
وقال عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، قال: ما نُصر النبي صلى الله عليه وسلم في موطن كما نُصر يوم أحد فأنكرنا ذلك، فقال ابن عباس: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله, إن الله تعالى يقول في يوم أحد: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} والحس: القتل, {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 152] الآية، وإنما عني بهذا الرماة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع وقال: "احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا". فلما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم وانكفأ عسكر المشركين، نزلت
الرماة دخلوا في العسكر ينتهبون، وقد التفت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم هكذا، وشبك أصابعه، والتبسوا. فلما خلى الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها، دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فضرب بعضهم بعضا والتبسوا وقتل من المسلمين ناس كثير وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار، حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة، وجال المسلمون جولة نحو الجبل، وصاح الشيطان: قُتل محمد. فلم يشك فيه أنه حق, وساق الحديث.
وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، عن أبي طلحة، قال: كنت ممن تغشاه النعاس يوم أحد، حتى سقط سيفي من يدي(سيرة 1/417)
مرارا. أخرجه البخاري.
وقال حماد بن سلمة, عن ثابت, عن أنس, عن أبي طلحة، قال: رفعت رأسي يوم أحد, فجعلت أنظر, وما منهم أحد إلا وهو يميد تحت حجفته من النعاس. فذلك قوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} [آل عمران: 154] .
وقال يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جده، عن الزبير، قال: والله لكأني أسمع قول معتب بن قشير, وإن النعاس ليغشاني ما أسمعها منه إلا كالحلم، وهو يقول: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران: 154] .
وروى الزهري، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، عن أبيه، عن أبيه، قال: ألقي علينا النوم يوم أحد.
وقال ابن إسحاق عن عاصم بن عمر، والزهري وجماعة، قالوا: كان يوم أحد يوم بلاء وتمحيص اختبر الله به المؤمنين ومحق به المنافقين ممن كان يظهر إسلامه بلسانه، ويوم أكرم الله فيه بالشهادة غير واحد، وكان مما نزل من القرآن في يوم أحد ستون آية من آل عمران.
وقال المدائني، عن سلام بن مسكين، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد مرطا أسود كان(سيرة 1/418)
لعائشة، وراية الأنصار يقال لها: العقاب، وعلى الميمنة علي، وعلى الميسرة المنذر بن عمرو الساعدي، والزبير بن العوام على الرجال، ويقال: المقداد بن عمرو، وحمزة بن عبد المطلب على القلب.
ولواء قريش مع طلحة بن أبي طلحة فقتله علي -رضي الله عنه- فأخذ اللواء سعد بن أبي طلحة فقتله سعد بن مالك، فأخذه عثمان بن أبي طلحة، فقتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح, فأخذه الجلاس بن طلحة، فقتله ابن أبي الأقلح أيضا، ثم كلاب والحارث ابنا
طلحة، فقتلها قزمان حليف بني ظفر، وأرطاة بن عبد شرحبيل العبدري قتله مصعب بن عمير، وأخذه أبو يزيد بن عمير العبدري، وقيل: عبد حبشي لبني عبد الدار، قتله قزمان.
قال ابن إسحاق: وبقي اللواء ما يأخذه أحد، وكانت الهزيمة على قريش.
وقال مروان بن معاوية الفزاري: حدثنا عبد الواحد بن أيمن، قال: حدثنا عبيد بن رفاعة الزرقي، عن أبيه، قال: لما كان يوم أحد انكفأ المشركون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استووا حتى أثني على ربي". فصاروا خلفه صفوفا فقال: "اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت، ولا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت, اللهم ابسط علينا من بركاتك، أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول, اللهم عائذا بك من سوء ما أعطيتنا وشر ما منعت منا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين وأحينا(سيرة 1/419)
مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين, اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب, إله الحق".
هذا حديث غريب منكر، رواه البخاري في الأدب، عن علي بن المديني، عن مروان.
عدد الشهداء:
قد مر أن البخاري أخرج من حديث البراء، أن المشركين أصابوا منا سبعين.
وقال حماد بن سلمة، عن ثابت, عن أنس، قال: يا رب السبعين من الأنصار، سبعين يوم أحد، وسبعين يوم بئر معونة، وسبعين يوم مؤتة، وسبعين يوم اليمامة.
وقال عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيب، قال: قتل من الأنصار في ثلاثة مواطن سبعون سبعون: يوم أحد، ويوم اليمامة، ويوم جسر أبي عبيد.
وقال ابن جريج: أخبرني عمر بن عطاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله تعالى: {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران: 165] ، قال: قتل المسلمون من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين, وقتل المشركون يوم أحد من المسلمين سبعين.
وأما ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، فقال: جميع من قتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، من قريش والأنصار: أربعة، أو قال: سبعة(سيرة 1/420)
وأربعون رجلا. وجميع من قتل يوم أحد، يعني من المشركين تسعة عشر رجلا.
وقال موسى بن عقبة: جميع من استشهد من المسلمين، من قريش والأنصار سبعة وأربعون رجلا.
وقال ابن إسحاق: جميع من استشهد من المسلمين، من المهاجرين والأنصار، يوم أحد، خمسة وستون رجلا وجميع قتلى المشركين اثنان وعشرون.
قلت: قول من قال سبعين أصح ويحمل قول أصحاب المغازي هذا على عدد من عرف اسمه من الشهداء، فإنهم عدوا أسماء الشهداء بأنسابهم.
قال ابن إسحاق: استشهد من المهاجرين:
حمزة، وعبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي، حليف بني عبد شمس، وهو ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد دفن مع حمزة في قبر واحد، ومصعب بن عمير، وعثمان بن عثمان، ولقبه شماس، وهو عثمان بن عثمان بن الشريد بن سويد بن هرمي بن عامر بن مخزوم القرشي المخزومي، ابن أخت عتبة بن ربيعة، هاجر إلى الحبشة وشهد بدرا، ولقب شماسا لملاحته.(سيرة 1/421)
ومن الأنصار: عمرو بن معاذ بن النعمان الأوسي، أخو سعد، وابن أخيه الحارث بن أوس بن معاذ، والحارث بن أنيس بن رافع، وعمارة بن زياد بن السكن، وسلمة، وعمرو، ابنا ثابت بن وقش، وعمهما: رفاعة بن وقش، وصيفي بن قيظي، وأخوه: حباب، وعباد بن سهل, وعبيد بن التيهان، وحبيب بن زيد, وإياس بن أوس، الأشهليون، واليمان أبو حذيفة، حليف لهم، ويزيد بن حاطب بن أمية الظفري، وأبو سفيان بن الحارث بن قيس، وغسيل الملائكة حنظلة بن أبي عامر الراهب، ومالك بن أمية؛ وعوف بن عمرو، وأبو حية بن عمرو بن ثابت, وعبد الله بن جبير بن النعمان أمير الرماة، وأنس بن قتادة وخيثمة والد سعد بن خيثمة وحليفه: عبد الله بن سلمة العجلاني، وسبيع بن حاطب بن الحارث، وحليفه: مالك بن أوس، وعمير بن عدي الخطمي. وكلهم من الأوس.
واستشهد من الخزرج: عمرو بن قيس النجاري، وابنه: قيس، وثابت بن عمرو بن زيد، وعامر بن مخلد، وأبو هبيرة بن الحارث بن علقمة، وعمرو بن مطرف, وإياس بن عدي، وأوس أخو حسان بن ثابت، وهو والد شداد بن أوس، وأنس بن النضر بن ضمضم، وقيس بن مخلد، وعشرتهم من بني النجار، وعبد لهم اسمه: كيسان، وسليم بن الحارث، ونعمان بن عبد عمرو، وهما من بني دينار بن الحارث.
ومن بني الحارث بن الخزرج: خارجة بن زيد بن أبي زهير، وسعد بن الربيع بن عمرو ابن أبي زهير، وأوس بن أرقم بن زيد، أخو زيد بن أرقم.
ومن بني خدرة: مالك بن سنان، وسعيد بن سويد، وعتبة بن ربيع.(سيرة 1/422)
ومن بني ساعدة: ثعلبة بن سعد بن مالك، وثقف بن فروة، وعبد الله بن عمرو بن وهب وضمرة، حليف لهم من جهينة.
ومن بني عوف بن الخزرج، ثم من بني سالم: عمرو بن إياس، ونوفل بن عبد الله، وعبادة بن الحسحاس، والعباس بن عبادة بن نضلة، والنعمان بن مالك، والمجذر ذياد البلوي، حليف لهم.
ومن بني الحبلى: رفاعة بن عمرو.
ومن بني سواد بن مالك: مالك بن إياس.
ومن بني سلمة: عبد الله بن عمرو بن حرام، وعمرو بن الجموح بن زيد بن حرام، وكانا متواخيين وصهرين، فدفنا في قبر واحد، وخلاد بن عمرو بن الجموح، ومولاه أسير، أبو أيمن، مولى عمرو.
ومن بني سواد بن غنم: سليم بن عمرو بن حديدة، ومولاه عنترة، وسهيل بن قيس.
ومن بني زريق: ذكوان بن عبد قيس، وعبيد بن المعلى بن لوذان.
قال ابن إسحاق: وزعم عاصم بن عمر بن قتادة أن ثابت بن وقش قتل يومئذ مع ابنيه.
وذكر الواقدي جماعة قتلوا سوى من ذكرنا.
وقال البكائي: قال ابن إسحاق، عن محمود بن لبيد، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد رفع حسيل بن جابر -والد حذيفة بن اليمان- وثابت بن وقش في الآطام مع النساء والصبيان، فقال أحدهما لصاحبه -وهما شيخان كبيران: لا أبا لك، ما ننتظر؟ فوالله ما بقي(سيرة 1/423)
لواحدنا من عمره إلا ظمء حمار، إنما نحن هامة اليوم أو غد، أفلا نأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله يرزقنا الشهادة مع رسوله؟ فخرجا حتى دخلا في الناس، ولم يعلم بهما فأما ثابت فقتله المشركون، وأما حسيل فقتله المسلمون ولا يعرفونه.
قال: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، قال: كان فينا رجل أتى لا يدرى ممن هو، يقال له قزمان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا ذكر له: "إنه لمن أهل النار". فلما كان يوم أحد قتل وحده ثمانية أو سبعة من المشركين وكان ذا بأس، فأثبتته الجراحة، فاحتمل إلى دار بني ظفر،
فجعلوا يقولون له: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان، فأبشر. قال: بماذا أبشر؟ والله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك لما قاتلت. فلما اشتدت عليه جراحته أخذ سهما فقتل به نفسه.
قال ابن إسحاق: وكان ممن قتل يومئذ مخيريق، وكان أحد بني ثعلبة بن العيطون، قال لما كان يوم أحد: يا معشر يهود، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحق. قالوا: إن اليوم يوم السبت قال: لا سبت فأخذ سيفه وعدته وقال: إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل معه حتى قتل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا: "مخيريق خير يهود".
ووقعت هند بنت عتبة والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى؛ يجدعن الآذان والأنف، حتى اتخذت هند من آذان الرجال وأنوفهم خدما،(سيرة 1/424)
وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها ثم علت على صخرة مشرفة، فصرخت بأعلى صوتها:
نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر ... ولا أخي وعمه وبكري
شفيتُ صدري وقضيت نذري ... شفيتَ وحشي غليل صدري
وقتل من المشركين -على ما ذكر ابن إسحاق- أحد عشر رجلا من بني عبد الدار، وهم:
طلحة وأبو سعيد وعثمان: بنو أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى ومولاهم: صؤاب، وبنو طلحة المذكور: مسافع, والحارث, والجلاس, وكلاب. وأبو زيد بن عمير أخو مصعب بن عمير وابن عمه: أرطاة بن شرحبيل بن هاشم، وابن عمهم: قاسط بن شريح.
ومن بني أسد: عبد الله بن حميد بن زهير الأسدي، وسباع بن عبد العزى الخزاعي حليف بني أسد.
وأربعة من بني مخزوم: أخو أم سلمة: هشام بن أبي أمية بن المغيرة، والوليد بن العاص بن هشام بن المغيرة وأبو أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة، وحليفهم خالد بن الأعلم.
ومن بني زهرة: أبو الحكم بن الأخنس بن شريق، حليف لهم.
ومن بني جمح: أبي بن خلف، وأبو عزة عمرو بن عبد الله بن عمير، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه صبرا، وذلك أنه أسر يوم بدر، وأطلقه النبي صلى الله عليه وسلم بلا فداء لفقره، وأخذ
عليه أن لا يعين عليه، فنقض العهد وأسر يوم أحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لا تمسح عارضيك(سيرة 1/425)
بمكة تقول خدعت محمدا مرتين وأمر به فضربت عنقه". وقيل: لم يؤسر سواه.
ومن بني عامر بن لؤي: عبيد بن جابر، وشيبة بن مالك.
وقال سليمان بن بلال, عن عبد الأعلى بن عبد الله بن أبي فروة، عن قطن بن وهب، عن عبيد بن عمير، عن أبي هريرة ورواه حاتم بن إسماعيل، عن عبد الأعلى -فأرسله مرة وأسنده مرة- عن أبي ذر عوض أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أحد مر على مصعب بن عمير وهو مقتول -على طريقه- فوقف عليه ودعا له ثم قرأ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] ، ثم قال: "أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه السلام".
وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، وحدثنيه بريدة بن سفيان، عن محمد بن كعب، قال: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بحمزة من المثل -جدع أنف ولعب به- قال: "لولا أن تجزع صفية وتكون سنة من بعدي ما غيب حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير".
وحدثني بريدة، عن محمد بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن ظفرت بقريش لأمثلن بثلاثين منهم". فلما رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما به من الجزع قالوا: لئن ظفرنا بهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ} [النحل: 126] ، إلى آخر السورة فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم.(سيرة 1/426)
وروى ابن إسحاق، عن شيوخه الذين روى عنهم قصة أحد، أن صفية أقبلت لتنظر إلى حمزة -وهو أخوها لأبويها- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير: "القها فأرجعها، لا ترى ما بأخيها". فلقيها فقال: أي أمه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي, قالت: ولم؟ فقد بلغني أنه مثل بأخي، وذلك في الله فما أرضانا بما كان من ذلك، فلأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله. فجاء الزبير فأخبره قولها, قال: "فخل سبيلها". فأتته، فنظرت إليه واسترجعت واستغفرت له ثم أمر به فدفن.
وقال أبو بكر بن عياش عن يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس قال: لما قتل حمزة أقبلت صفية فلقيت عليا والزبير فأرياها أنهما لا يدريان. فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "فإني أخاف على عقلها". فوضع يده على صدرها ودعا لها، فاسترجعت وبكت ثم جاء فقام
عليه وقد مثل به فقال: "لولا جزع النساء لتركته حتى يحشر من حواصل الطير وبطون السباع". ثم أمر بالقتلى فجعل يصلي عليهم سبع تكبيرات، ويرفعون ويترك حمزة، ثم يجاء بسبعة فيكبر عليهم سبعا، حتى فرغ منهم.
وحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليهم أصح.
وفي الصحيحين من حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد صلاته على الميت. فالله أعلم.
عثمان بن عمر، وروح بن عبادة, بإسناد الحاكم في "المستدرك" إليهما: حدثنا أسامة بن زيد عن الزهري عن أنس(سيرة 1/427)
قال: لما كان يوم أحد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمزة وقد جدع ومثل به فقال: "لولا أن تجد صفية تركته حتى يحشره الله من بطون الطير والسباع". فكفنه في نمرة ولم يصل على أحد من الشهداء غيره ... الحديث.
وقال يحيى الحماني: حدثنا قيس -هو ابن الربيع- عن ابن أبي ليلى, عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قتل حمزة ومثل به: "لئن ظفرت بقريش لأمثلن بسبعين منهم". فنزلت: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل نصبر يا رب". إسناده ضعيف من قبل قيس.
وقد روى نحوه حجاج بن منهال وغيره عن صالح المري -وهو ضعيف- عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن أبي هريرة، وزاد: فنظر إلى منظر لم ينظر إلى شيء قط أوجع لقلبه منه.
أخبرنا محمد بن محمد بن صاعد القاضي، قال: حدثنا الحسن بن أحمد الزاهد ببيت المقدس سنة تسع وعشرين وستمائة قال: أخبرنا أحمد بن محمد السلفي قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي قال: أخبرنا الحسن بن أحمد بن إبراهيم قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الفارسي قال: حدثنا يعقوب الفسوي قال: حدثنا عبد الله بن عثمان قال: حدثنا عيسى بن عبيد الكندي، قال: حدثني ربيع بن أنس، قال: حدثني أبو العالية عن أبي بن كعب أنه أصيب من الأنصار يوم أحد أربعة وستون وأصيب من المهاجرين ستة، منهم حمزة فمثلوا بقتلاهم فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما من الدهر لنربين عليهم.(سيرة 1/428)
فلما كان يوم فتح مكة نادى رجل لا يعرف: لا قريش بعد اليوم، مرتين فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كفوا عن القوم".
وقال يونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: جاءت صفية يوم أحد ومعها ثوبان لحمزة، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم كره أن ترى حمزة على حاله، فبعث إليها الزبير يحبسها وأخذ الثوبين. وكان إلى جنب حمزة قتيل من الأنصار، فكرهوا أن يتخيروا لحمزة، فقال: "أسهموا بينهما، فأيهما طار له أجود الثوبين فهو له". فأسهموا بينهما، فكفن حمزة في ثوب والأنصاري في ثوب.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير، قال: لما أشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد، قال: "أنا الشهيد على هؤلاء، ما من جريح يجرح في الله إلا بعث يوم القيامة وجرحه يثعب دما، اللون لون الدم والريح ريح المسك، انظروا أكثرهم جمعا للقرآن فاجعلوه أمام صاحبه في القبر". فكانوا يدفنون الاثنين والثلاثة في القبر.
قال ابن إسحاق: وحدثني والدي, عن رجال من بني سلمة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين أصيب عمرو بن الجموح، وعبد الله بن عمرو بن حرام: "اجمعوا بينهما، فإنهما كانا متصافيين في الدنيا". قال أبي: فحدثني أشياخ من الأنصار قالوا: لما ضرب معاوية عينه التي مرت على قبور الشهداء استصرخنا عليهم وقد انفجرت عليهما في قبرهما, فأخرجناهما وعليهما بردتان قد غطي بهما وجوههما، وعلى أقدامهما(سيرة 1/429)
شيء من نبات الأرض، فأخرجناهما يتثنيان كأنما دفنا بالأمس.
وهذا هو عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم الأنصاري السلمي, سيد بني سلمة قال ابن سعد وغيره: شهد بدرا. وابنه معاذ بن عمرو بن الجموح هو الذي قطع رجل أبي جهل وقضى النبي صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ. وكان عمرو بن الجموح زوج أخت عبد الله بن عمرو بن حرام.
ثابت البناني، عن عكرمة قال: كان مناف في بيت عمرو بن الجموح فلما قدم مصعب بن عمير المدينة بعث إليهم عمرو: ما هذا الذي جئتمونا به؟ قالوا: إن شئت جئنا وأسمعناك، فواعدهم فجاءوا فقرأ عليه: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف: 1] فقرأ ما شاء الله أن يقرأ، فقال: إن لنا مؤامرة في قومنا -وكان سيد بني سلمة- فخرجوا، فدخل على مناف، فقال: يا مناف! تعلم والله ما يريد القوم غيرك فهل عندك من نكير؟ قال: فقلده سيفا وخرج فقام أهله فأخذوا السيف فجاء فوجدهم أخذوا السيف، فقال: يا مناف أين السيف ويحك، إن العنز لتمنع استها، والله ما أرى في أبي جعار غدا من خير. ثم قال لهم: إني ذاهب إلى مالي فاستوصوا بمناف خيرا فذهب فكسروا مناف وربطوه
مع كلب ميت. فلما جاء رأى مناف, فبعث إلى قومه فجاءوه، فقال: ألستم على ما أنا عليه؟ قالوا: بلى، أنت سيدنا. قال: فإني أشهدكم أني قد آمنت بمحمد فلما كان يوم أحد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض". فقام وهو أعرج، فقاتل حتى قتل.(سيرة 1/430)
أبو صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم الرجل عمرو بن الجموح".
وروى محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، وروى فطر بن خليفة, عن حبيب بن أبي ثابت وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا بني سلمة من سيدكم؟ قالوا: الجد بن قيس، وإنا لنبخله، قال: وأي داء أدوى من البخل؟ بل سيدكم الجعد الأبيض عمرو بن الجموح.
وقد قال الواقدي: لم يشهد بدرا, ولما أراد الخروج إلى أحد منعه بنوه وقالوا: قد عذرك الله وبك عرج، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: "أما أنت فقد عذرك الله". وقال لبنيه: "لا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة". فخرج فاستشهد هو وابنه خلاد.
إسرائيل عن سعيد بن مسروق, عن أبي الضحى, أن عمرو بن الجموح قال لبنيه: منعتموني الجنة يوم بدر والله لئن بقيت لأدخلن الجنة. فكان يوم أحد في الرعيل الأول.
وقال حماد بن زيد عن أيوب عن أبي الزبير عن جابر قال: استصرخنا إلى قتلانا يوم أحد وذلك حين أجرى معاوية العين فأتيناهم فأخرجناهم تتثنى أطرافهم رطابا، على رأس أربعين سنة. قال حماد: وزادني صاحب لي في الحديث: أصاب قدم حمزة فانثعب دما.
وقال ابن عيينة عن الأسود، عن نبيح العنزى، عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحد أن يردوا إلى مصارعهم.
وقال أبو عوانة: حدثنا الأسود بن قيس، عن نبيح العنزي، عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى المشركين لقتالهم فقال لي أبي:(سيرة 1/431)
ما عليك أن تكون في النظارة حتى تعلم إلى ما يصير أمرنا, فوالله لولا أني أترك بنات لي بعدي لأحببت أن تقتل بين يدي فبينما أنا في النظارين إذ جاءت عمتي بأبي وخالي عادلتهما على ناضح، فدخلت بهما المدينة لتدفنهما في مقابرنا، فجاء رجل ينادي: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن ترجعوا بالقتلى فتدفنوها في مصارعها فبينما أنا في خلافة معاوية، إذ جاءني رجل فقال: يا جابر، قد والله أثار أباك عمال معاوية فبدت طائفة منه قال: فأتيته فوجدته على النحو الذي تركته لم يتغير منه شيء إلا ما لم يدع القتيل، فواريته.
وقال حسين المعلم، عن عطاء عن جابر، قال: لما حضر أحد قال أبي: ما أراني إلا مقتولا، وإني لا أترك بعدي أعز عليَّ منك غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن عليَّ دينا فاقض واستوص بأخواتك خيرا فأصبحنا فكان أول قتيل فدفنت معه آخر في قبر، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع آخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته هنية غير أذنه.
أخرجه البخاري.
وقال الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب ثم يقول: أيهما أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا. أخرجه البخاري عن قتيبة عن الليث عنه.
وقال أيوب، عن حميد بن هلال عن هشام بن عامر قال: قالوا يوم أحد: يا رسول الله قد أصابنا قرح وجهد فكيف تأمر؟ قال: "احفروا(سيرة 1/432)
وأوسعوا وأعمقوا واجعلوا الاثنين والثلاثة في القبر، وقدموا أكثرهم قرآنا".
ومنهم من يقول: حميد بن هلال، عن سعيد بن هشام بن عامر، عن أبيه.
وقال شعبة, عن ابن المنكدر: سمعت جابرا يقول: لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عنه، وجعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينهوني، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينهاني، وقال: "لا تبكيه -أو- ما تبكيه، فما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه". أخرجاه.
وأخرج البخاري من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بدفن قتلى أحد في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم. وكان يجمع بين الرجلين في الثوب الواحد, ثم يقول: أيهما أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد.
وقال علي بن المديني: حدثنا موسى بن إبراهيم الأنصاري، سمع طلحة بن خراش، قال: سمعت جابر بن عبد الله، قال: نظر إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما لي أراك مهتما"؟. قلت: يا رسول الله قتل أبي وترك دينا وعيالا، فقال: "ألا أخبرك؟ ما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحا, فقال له: يا عبدي سلني أعطك، فقال: أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانيا، فقال: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، قال يا رب فأبلغ من ورائي". فأنزل الله -عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران: 169] .
ويروى نحوه عن عروة، عن عائشة.(سيرة 1/433)
وكان أبو جابر من سادة الأنصار شهد بدرا، وهو أحد النقباء ليلة العقبة، وهو عبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة وأمه الرباب بنت قيس من بني سلمة شهد معه العقبة ولده جابر.
وقال إبراهيم بن سعد عن أبيه، عن جده، قال: أتي ابن عوف بطعام فقال: قتل مصعب بن عمير -وكان خيرا مني- فلم يوجد له إلا بردة يكفن فيها، ما أظننا إلا قد عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا. أخرجه البخاري.
وقال الأعمش عن أبي وائل عن خباب قال: هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله فمنا من ذهب لم يأكل من أجره، وكان منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد، ولم يكن له إلا نمرة، كنا إذا غطينا رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطينا رجليه خرج رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر". ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها. متفق عليه.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الواحد بن أبي عون، عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، قال: كانت امرأة من الأنصار من بني دينار قد أصيب زوجها وأخوها يوم أحد فلما نعوا لها قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرا، يا أم فلان. فقالت: أرونيه حتى أنظر إليه فأشاروا لها إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك(سيرة 1/434)
جلل؛ أي: هين. ويكون في غير ذا بمعنى عظيم.
وعن أبي برزة أن جليبيبا كان من الأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم لرجل: "زوجني ابنتك" قال: نعم ونعمة عين. قال: "لست أريده لنفسي" قال: فلمن؟ قال: "لجليبيب" قال: حتى أستأمر أمها. فأتاها فأجابت: لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إنما يريد ابنتك لجليبيب. قالت: ألجليبيب؟ لا لعمر الله لا أزوجه فلما قام أبوها ليأتي النبي صلى الله عليه وسلم قالت الفتاة من خدرها لأبويها: من خطبني؟ قالا: رسول الله. قالت: أفتردون عليه أمره؟ ادفعوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لن يضيعني. فذهب أبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: شأنك بها فزوجها جليبيبا، ودعا لهما. فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغزى له قال: "هل تفقدون من أحد"؟. قالوا: نفقد فلانا ونفقد فلانا قال: "لكني أفقد جليبيبا". فاطلبوه, فنظروا فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا مني وأنا منه قتل سبعة ثم قتلوه". فوضعوه على ساعديه ثم حفروا له، ماله سرير إلا ساعدا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وضعه في قبره. قال ثابت البناني: فما في الأنصار أنفق منها.
أخرجه مسلم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن كنانة بن نعيم، عن أبي برزة.
وقال الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق: سألنا عبد الله بن مسعود عن قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران: 169] ، قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك، فقال: أرواحهم في جوف طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش.(سيرة 1/435)
قال: فبينما هم كذلك إذ اطلع عليهم ربك اطلاعة فقال: سلوني ما شئتم. فقالوا: يا ربنا وما نسألك ونحن نسرح في الجنة في أيها شئنا؟ فلما رأوا أن لا يتركوا من أن يسألوا. قالوا: نسألك أن ترد أرواحنا إلى أجسادنا في الدنيا فنقتل في سبيلك.
فلما رأى أنهم لا يسألون إلا هذا، تركوا. أخرجه مسلم.
وقال عبد الله بن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم، قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق، لئلا ينكلوا عند الحرب ولا يزهدوا في الجهاد قال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزلت: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169] ".
وقال يونس عن ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، عن أبيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا ذكر أصحاب أحد: "أما والله لوددت أني غودرت مع أصحاب نحص الجبل". يقول: قتلت معهم.
وقال الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: "إني فرطكم وأنا شهيد عليكم"(سيرة 1/436)
الحديث أخرجه البخاري.
وروى العطاف بن خالد: حدثني عبد الأعلى بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبور الشهداء بأحد.
وروى عبد العزيز بن عمران بن موسى, عن عباد بن أبي صالح، عن أبيه, عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي قبور الشهداء، فإذا أتى فرضة الشعب يقول: "السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار". وكان يفعله أبو بكر ثم عمر بعده ثم عثمان.
وذكر نحو هذا الحديث الواقدي في "مغازيه" بلا سند.
وقال أبو حسان الزيادي: ومات في شوال يوم جمعة عمرو بن مالك الأنصاري أحد بني النجار، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد فصلى عليه في موضع الجبان. وكان أول من فعل به ذلك.
غزوة حمراء الأسد:
قال ابن إسحاق: فلما كان الغد من يوم الأحد يعني صبيحة وقعة أحد؛ أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس لطلب العدو، وأذن مؤذنه: "لا يخرج معنا أحد إلا أحد حضر يومنا بالأمس". وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهبا للعدو ليبلغهم أنه قد خرج في أثرهم وليظنوا به قوة.
وقال ابن لهيعة: حدثنا أبو الأسود، عن عروة قال: قدم رجل فاستخبره النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي سفيان فقال: نازلتهم فسمعتهم يتلاومون،(سيرة 1/437)
يقول بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئا، أصبتم شوكة القوم وحدهم، ثم تركتموهم ولم تبيدوهم، وقد بقي منهم رءوس يجمعون لكم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه -وبهم أشد القرح- بطلب العدو، ليسمعوا بذلك. وقال: "لا ينطلقن معي إلا من شهد القتال". فقال عبد الله بن أبي: أركب معك؟ قال: لا. فاستجابوا لله والرسول على ما بهم من البلاء. فانطلقوا، فطلبهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ حمراء الأسد.
وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان؛ أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل قال: شهدت أحدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخ لي، فرجعنا جريحين, فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو، قلت لأخي، فقال لي: تفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ووالله ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح. فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أيسر جراحة منه، فكان إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد، وهي من المدينة على ثمانية أميال، فأقام بها ثلاث ثم رجع.
وقال هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: يابن أختي كان أبواك تعني -الزبير وأبا بكر- من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح قال: لما انصرف المشركون من أحد وأصاب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما أصابهم، خاف أن يرجعوا فقال: "من ينتدب لهؤلاء في آثارهم حتى يعلموا أن بنا قوة"؟. قال: فانتدب أبو بكر والزبير في سبعين خرجوا في آثار القوم فسمعوا بهم وانقلبوا بنعمة من الله(سيرة 1/438)
وفضل لم يمسسهم سوء قال: لم يلقوا عدوا. أخرجاه.
وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن معبدا الخزاعي مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، صفوهم معه لا يخفون عليه شيئا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك فقال: يا محمد، والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله عافاك فيهم ثم خرج حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء، وقد أجمعوا الرجعة وقالوا: أصبنا حد أصحاب محمد وقادتهم, ثم نرجع قبل أن نستأصلهم! لنكون على بقيتهم فلنفرغن منهم فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: ما وراءك؟ قال: محمد قد خرج في طلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط. قال: ويلك ما تقول؟ قال: والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل. قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم. قال: فإني أنهاك ذاك، والله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتا. قال: وما قلت؟ قال:
كادت تهدمن الأصوات راحلتي ... إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تردي بأسد كرام لا تنابلة ... عند اللقاء ولا ميل معازيل(سيرة 1/439)
فظلت عدوا أظن الأرض مائلة ... لما سموا برئيس غير مخذول
فقلت ويل ابن حرب من لقائكم ... إذا تغطمطت البطحاء بالجيل
إني نذرت لأهل البسل ضاحية ... لكل ذي إربة منهم ومعقول
من جيش أحد لا وخش تنابلة ... وليس يوصف ما أنذرت بالقيل
قال: فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه. ومر ركب من عبد القيس، فقال أبو سفيان: أين تريدون؟ قالوا: المدينة لنمتار. فقال: أما أنتم مبلغون عني محمدا رسالة، وأحمل لكم على إبلكم هذه زبيبا بعكاظ غدا إذا وافيتموه؟ قالوا: نعم. قال: إذا جئتم محمدا فأخبروه أنا قد أجمعنا الرجعة إلى أصحابه لنستأصلهم. فلما مر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد أخبروه, فقال هو والمسلمون: "حسبنا الله ونعم الوكيل". فأنزلت: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173] الآيات.
وقال البكائي: قال ابن إسحاق: وكان عبد الله بن أبي بن سلول، كما حدثني الزهري، له مقام يقومه كل جمعة لا يتركه شرفا له في نفسه وفي قومه. فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يخطب قام فقال: أيها الناس هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم أكرمكم الله به وأعزكم به، فعزروه وانصروه واسمعوا له وأطيعوا. ثم يجلس حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع ورجع الناس، قام يفعل كفعله، فأخذ المسلمون ثيابه من نواحيه، وقالوا: اجلس أي عدو الله، لست لذلك بأهل، وقد صنعت ما(سيرة 1/440)
صنعت، فخرج يتخطى رقاب الناس ويقول: والله لكأني قلت هجرا أن قمت أشد أمره. فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد فقالوا: ما لك؟ ويلك! قال: قمت أشد أمره فوثب عليَّ رجال من أصحابه يجبذونني ويعنفونني، لكأنما قلت هجرا. قال: ويلك ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: والله ما أبغي أن يستغفر لي.
فائدة: قال الواقدي: حدثنا إبراهيم بن جعفر، عن أبيه وحدثنا سعيد بن محمد بن أبي زيد، قال: حدثنا يحيى بن عبد العزيز بن سعيد، قالوا: كان سويد بن الصامت قد قتل ذيادا، فقتله به المجذر بن ذياد, فهيج بقتله وقعة بعاث. فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أسلم المجذر، والحارث بن سويد بن الصامت، فشهدا بدرا. فجعل الحارث يطلب مجذرا ليقتله بأبيه. فلما كان يوم أحد أتاه من خلفه فقتله.
فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من حمراء الأسد أتاه جبريل فأخبره بأنه قتل مجذرا. فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء، فأتاه الحارث بن سويد في ملحفة مورسة. فلما رآه دعا عويم بن ساعدة وقال: "اضرب عنق الحارث بمجذر بن ذياد". فقال: والله ما قتلته رجوعا عن الإسلام ولكن حمية، وإني أتوب إلى الله وأخرج ديته وأصوم وأعتق وجعل يتمسك بركاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن فرغ من كلامه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قدمه يا عويم فاضرب عنقه". فضرب عنقه على باب المسجد، والله أعلم.(سيرة 1/441)
السنة الرابعة من الهجرة:
سرية أبي سلمة إلى قطن في أولها:
قال الواقدي: حدثنا عمر بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد اليربوعي، عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد، وغيره، قالوا: شهد أبو سلمة أحدا، وكان نازلا في بني أمية بن زيد بالعالية، حين تحول من قباء فجرح بأحد، وأقام شهرا يداوي جرحه. فلما كان هلال المحرم دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "اخرج في هذه السرية فقد استعملتك عليها". وعقد له لواء وقال: "سر حتى تأتي أرض بني أسد فأغر عليهم". وكان معه خمسون ومائة، فساروا حتى انتهوا إلى أدنى قطن -ماء من مياههم- فيجدون سرحا لبني أسد، فأغاروا عليه وأخذوا مماليك ثلاثة، وأفلت سائرهم. ثم رجع إلى المدينة فغاب بضع عشرة ليلة.
قال عمر بن عثمان: فحدثني عبد الملك بن عبيد، قال: لما(سيرة 1/443)
دخل أبو سلمة المدينة انتقض جرحه، فمات لثلاث بقين من جمادى الآخرة.
غزوة الرجيع:
وهي في صفر من السنة الرابعة، فيما ورخه الواقدي، وقال: هي على سبعة أميال من عسفان. فحدثني موسى بن يعقوب، عن أبي الأسود، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب الرجيع عيونا إلى مكة ليخبروه.
قال إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب: أخبرني عمر بن أسيد بن جارية الثقفي، أن أبا هريرة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة رهط عينا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري, فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهدأة؛ بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم: بنو لحيان، فنفروا لهم بقريب من مائة رجل رام. فاقتصوا آثارهم, حتى وجدوا مأكلهم التمر، فقالوا: نوى يثرب، فاتبعوا آثارهم. فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجئوا إلى قردد، أي: فدفد من الأرض فأحاط بهم(سيرة 1/444)
القوم، فقالوا لهم: انزلوا -فأعطوا بأيديكم، ولكم العهد والميثاق أن لا نقتل منكم أحدا. فقال عاصم: أما أنا فوالله لا أنزل في ذمة مشرك, اللهم أخبر عنا نبيك. فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما في سبعة من أصحابه، ونزل إليهم ثلاثة على العهد والميثاق: خبيب، وزيد بن الدثنة، وآخر فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها, فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم إن لي بهؤلاء أسوة. يريد القتلى فجروه وعالجوه فأبى أن يصحبهم فقتلوه، وانطلقوا بخبيب، وزيد، حتى
باعوهما بمكة بعد وقعة بدر. فابتاع بنو الحارث بن عامر بن نوفل خبيبا. وكان خبيب هو قتل الحارث يوم بدر.
وفائدة:
قال الدمياطي: هذا وهم، ما شهد خبيب بن عدي الأوسي بدرا ولا قتل الحارث بن عامر، إنما الذي شهدها وقتله هو خبيب بن أساف الخزرجي.
رجعٌ, قال: فلبث خبيب عندهم أسيرا حتى أجمعوا على قتله، فاستعار من بعض بنات الحارث موسى يستحد بها للقتل فأعارته. فدرج بني لها وهي غافلة حتى أتاه، فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده ففزعت فزعة عرفها خبيب فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك، فقالت: والله ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب، والله لقد رأيته، أو وجدته، يأكل قطفا من عنب وإنه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمرة، وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله خبيبا. فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم: دعوني أركع ركعتين. فتركوه فركع ركعتين، ثم قال: والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع من القتل لزدت، اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تبق منهم أحدا، وقال:(سيرة 1/445)
فلست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
ثم قال إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله.
وكان خبيب هو سن لكل مسلم، قتل صبرا، الصلاة.
واستجاب الله لعاصم يوم أصيب، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم أصيبوا خبرهم.
وبعث ناس من قريش إلى عاصم بن ثابت ليؤتوا منه بشيء يعرف، وكان قتل رجلا من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله على عاصم مثل الظلة من الدبر، فحمته من رسلهم فلم يقدروا على أن يقطعوا منه شيئا.
أخرجه البخاري.
وقال موسى بن عقبة، وغير واحد: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصم بن ثابت وأصحابه عينا له، فسلكوا النجدية، حتى إذا كانوا بالرجيع فذكروا القصة.
قال موسى: ويقال: كان أصحاب الرجيع ستة منهم: عاصم وخبيب وزيد بن الدثنة وعبد الله بن طارق -حليف لبني ظفر- وخالد بن البكير الليثي، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي؛ حليف حمزة. وساق حديثهم.
وقال يونس عن ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن نفرا من عضل والقارة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة بعد أحد، فقالوا: إن فينا إسلاما، فابعث معنا نفرا من أصحابك ليفقهونا في الدين(سيرة 1/446)
ويقرئونا القرآن، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم خبيب بن عدي.
قال ابن إسحاق: بعث معهم ستة، أمر عليهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي. وسماهم كما قال موسى.
قال ابن إسحاق: فخرجوا مع القوم، حتى إذا كانوا على الرجيع -ماء لهذيل بناحية الحجاز على صدور الهدء- غدروا بهم، فاستصرخوا عليهم هذيلا، فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوهم. فقالوا لهم: والله ما نريد قتلكم ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم. أما مرثد، وعاصم، وابن البكير فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا. وأرادت هذيل أخذ رأس عاصم ليبيعوه من سلافة بنت سعد وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها يوم أحد، لئن قدرت على عاصم لتشربن في قفحه الخمر، فمنعته الدبر، فانتظروا ذهابها عنه، فأرسل الله الوادي فحمل عاصما فذهب به.
وقد كان عاصم أعطى الله عهدا أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركا أبدا تنجسا. وأسروا خبيبا وابن الدثنة وعبد الله بن طارق ثم مضوا بهم إلى مكة ليبيعوهم، حتى إذا كانوا بالظهران انتزع عبد الله يده من القران ثم أخذ سيفه واستأخر عن القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه فقبره بالظهران.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: حدثني يحيى, عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عقبة بن الحارث سمعته يقول: ما أنا والله قتلت(سيرة 1/447)
خبيبا، لأنا كنت أصغر من ذلك، ولكن أبا ميسرة أخا بني عبد الدار أخذ الحربة فجعلها في يدي، ثم أخذ بيدي وبالحربة، ثم طعنه بها حتى قتله.
ثم ذكر ابن إسحاق أن خبيبا قال:
لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وكلهم مبدي العداوة جاهد ... علي لأني في وثاق مضيع
وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم ... وقربت من جذع طويل ممنع
إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي ... وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
فذا العرش صبرني على ما يراد بي ... فقد بضعوا لحمي وقد ياس مطمعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
وقد خيروني الكفر والموت دونه ... وقد هملت عيناي من غير مجزع
وما بي حذار الموت إني لميت ... ولكن حذاري جحم نار ببلقع
ووالله لم أحفل إذا مت مسلما ... على أي جنب كان في الله مصرعي
فلست بمبد للعدو تخشعا ... ولاجزعا إني إلى الله مرجعي
وقال يونس بن بكير، وجعفر بن عون، عن إبراهيم بن إسماعيل: حدثني جعفر بن عمرو بن أمية أن أباه حدثه عن جده، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعثه عينا؛ قال: فجئت إلى خشبة خبيب فرقيت فيها وأنا أتخوف العيون، فأطلقته فوقع بالأرض، ثم اقتحمت فانتبذت قليلا، ثم التفت فلم أر خبيبا، فكأنما ابتلعته الأرض.
زاد جعفر بن عون: فلم تذكر لخبيب رمة حتى الساعة.(سيرة 1/448)
غزوة بئر معونة:
قال ابن إسحاق: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب بئر معونة في صفر، على رأس أربعة أشهر من أحد.
وقال موسى بن عقبة قال الزهري: حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، ورجال من أهل العلم، أن عامر بن مالك الذي يدعى ملاعب الأسنة، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشرك، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، فأبى أن يسلم، وأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم هدية فقال: "إني لا أقبل هدية مشرك". فقال: ابعث معي من شئت من رسلك، فأنا لهم جار، فبعث رهطا، فيهم المنذر بن عمرو الساعدي؛ وهو الذي يقال له: أعنق ليموت، بعثه عينا له في أهل نجد، فسمع بهم عامر بن الطفيل، فاستنفر بني عامر، فأبوا أن يطيعوه، فاستنفر بني سليم فنفروا معه، فقتلوهم ببئر معونة، غير عمرو بن أمية الضمري، فإنه أطلقه عامر بن الطفيل، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن إسحاق: حدثني والدي، عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم، وغيرهما، قالوا: قدم أبو البراء عامر بن مالك بن جعفر، ملاعب الأسنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلم يسلم ولم يبعد من الإسلام، وقال: يا محمد لو بعثت معي رجالا من أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك.
قال: أخشى عليهم أهل نجد قال أبو البراء: أنا لهم(سيرة 1/449)
جار فبعث المنذر بن عمرو في أربعين رجلا، فيهم الحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان؛ أخو بني عدي بن النجار، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي، ورافع بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، في رجال من خيار المسلمين، فساروا حتى نزلوا بئر معونة، بين أرض بني عامر وحرة بني سليم.
ثم بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل، فلم ينظر في الكتاب حتى قتل الرجل ثم استصرخ بني سليم فأجابوه وأحاطوا بالقوم فقاتلوهم حتى استشهدوا كلهم إلا كعب بن زيد، من بني النجار تركوه وبه رمق فارتث من بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق.
وكان في سرح القوم عمرو بن أمية ورجل من الأنصار، فلم يخبرهما بمصاب القوم إلا الطير تحوم على العسكر، فقالا: والله إن لهذه الطير لشأنا، فأقبلا فنظرا، فإذا القوم في دمائهم وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة. فقال الأنصاري لعمرو: ماذا ترى؟ قال: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر فقال الأنصاري: لكني لم أكن لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، وما كنت لأخبر عنه الرجال. وقاتل حتى قتل وأسروا عمرا. فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل وجز ناصيته وأعتقه. فلما كان بالقرقرة أقبل رجلان من بني عامر حتى نزلا في ظل هو فيه، وكان معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوار لم يعلم به عمرو. حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما. فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره، فقال: "قد قتلت قتيلين، لأدينهما". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارها متخوفا". فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر أبا براء، فحمل ربيعة ولد أبي براء على عامر بن الطفيل فطعنه في فخذه فأشواه، فوقع من فرسه, وقال:(سيرة 1/450)
هذا عمل أبي براء؛ إن مت فدمي لعمي فلا يتبعن به، وإن أعش فسأرى رأيي.
وقال موسى بن عقبة: ارتث في القتلى كعب بن زيد، فقتل يوم الخندق.
وقال حماد بن سلمة: أخبرنا ثابت، عن أنس أن ناسا جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجالا يعلموننا القرآن، والسنة فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار يقال لهم القراء، وفيهم خالي حرام بن ملحان، يقرءون القرآن ويتدارسون بالليل ويتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعون ويشترون به الطعام لأهل الصفة، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم, فتعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان قالوا: اللهم بلغ عنا نبيك أن قد لقيناك فرضيت عنا ورضينا عنك قال: وأتى رجل خالي من خلفه فطعنه بالرمح حتى أنفذه، فقال حرام: فزت ورب الكعبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "إن إخوانكم قد قتلوا وقالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أن قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا". رواه مسلم.
وقال همام وغيره، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة: حدثني أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خاله حراما في سبعين رجلا فقتلوا يوم بئر معونة وكان رئيس المشركين عامر بن الطفيل، وكان أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخيرك بين ثلاث خصال: أن يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر، أو أكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء، قال: فطعن في بيت امرأة من بني فلان فقال: غدة كغدة(سيرة 1/451)
البكر في بيت امرأة من بني فلان ائتوني بفرسي، فركبه فمات على ظهر فرسه وانطلق حرام ورجلان معه أحدهما أعرج فقال: كونا قريبا مني حتى آتيهم فإن آمنوني كنت كفوا، وإن قتلوني أتيتم أصحابكم. فأتاهم حرام فقال: أتؤمنوني أبلغكم رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فجعل يحدثهم، وأومئوا إلى رجل فأتاه من خلفه فطعنه, قال همام وأحسبه قال: فزت ورب الكعبة قال: وقتل كلهم إلا الأعرج، كان في رأس الجبل.
قال أنس: أنزل علنيا، ثم كان من المنسوخ، "إنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضيناه" فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين صباحا على رعل وذكوان وبني لحيان وعصية عصت الله ورسوله.
أخرجه البخاري، وقال: ثلاثين صباحا، وهو الصحيح.
وروى نحوه قتادة, وثابت وغيرهما، عن أنس. وبعضهم يختصر الحديث، وفي بعض طرقه: سبعين صباحا.
قال سليمان بن المغيرة، عن ثابت، قال: كتب أنس في أهله كتابا فقال: اشهدوا معاشر
القراء فكأني كرهت ذلك فقلت: لو سميتم بأسمائهم وأسماء آبائهم فقال: وما بأس أن أقول لكم معاشر القراء, أفلا أحدثكم عن إخوانكم الذين كنا ندعوهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم القراء؟ قال: فذكر أنس سبعين من الأنصار كانوا إذا جهم الليل أووا إلى معلم بالمدينة فيبيتون يدرسون، فإذا أصبحوا فمن كانت عنده قوة أصاب من الحطب واستعذب من الماء ومن كانت عنده سعة أصابوا(سيرة 1/452)
الشاة فأصلحوها، فكان معلقا بحجر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما أصيب خبيب بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان فيهم خالي حرام فأتوا على حي من بني سليم فقال حرام لأميرهم: دعني فلأخبر هؤلاء أنا ليس إياهم نريد فيخلون وجوهنا. فأتاهم فقال ذلك، فاستقبله رجل منهم برمح فأنفذه به. قال: فلما وجد حرام مس الرمح قال: الله أكبر فزت ورب الكعبة. قال: فانطووا عليهم فما بقي منهم مخبر. قال: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد على شيء وجده عليهم. فقال أنس: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما صلى الغداة رفع يديه يدعو عليهم, فلما كان بعد ذلك، إذا أبو طلحة يقول: هل لك في قاتل حرام؟ قلت: ما له، فعل الله به وفعل. فقال: لا تفعل، فقد أسلم.
وقال أبو أسامة: حدثنا هشام عن أبيه، عن عائشة قالت: كان عامر بن فهيرة غلاما لعبد الله بن الطفيل بن سخبرة، أخي عائشة لأمها؛ وكانت لأبي بكر منحة، فكان يروح بها ويغدو، ويصبح فيدلج إليهما ثم يسرح فلا يفطن به أحد من الرعاء، ثم خرج بهما يعقبانه حتى قدم المدينة معهما. فقتل عامر بن فهيرة يوم بئر معونة، وأسر عمرو بن أمية. فقال له عامر بن الطفيل: من هذا؟ وأشار إلى قتيل قال: هذا عامر بن فهيرة فقال: لقد رأيته بعدما قتل رفع إلى السماء حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض. وذكر الحديث. أخرجه البخاري.
قال ابن إسحاق: فقال حسان بن ثابت يحرض بني أبي البراء على عامر بن الطفيل:(سيرة 1/453)
بني أم البنين ألم يرعكم ... وأنتم من ذوائب أهل نجد
تهكم عامر بأبي براء ... ليخفره وما خطأ كعمد
ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي ... فما أجدثت في الحدثان بعدي
أبوك أبو الحروب أبو براء ... وخالك ماجد حكم بن سعد
ذكر الخلاف في غزوة بني النضير, وقد تقدمت في سنة ثلاث:
ذهب الزهري إلى أنها كانت قبل أحد وقال غير واحد: كانت بعد أحد، وبعد بئر معونة.
أخبرنا إسماعيل بن عبد الرحمن، قال: أخبرنا الحسن بن علي بن الحسين بن البن، قال: أخبرنا جدي، قال: أخبرنا أبو القاسم المصيصي، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي نصر، قال: أخبرنا علي بن أبي العقب، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم, قال: حدثنا محمد بن عائذ، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الله بن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه إلى بني النضير يستعينهم في عقل الكلابيين. وكانوا -زعموا- قد دسوا إلى قريش حين نزلوا بأحد لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يحضونهم على القتال ودلوهم على العورة فلما كلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في عقل الكلابيين، قالوا: اجلس أبا القاسم، حتى تطعم وترجع بحاجتك. ثم ساق الحديث كله، وتقدم ذكره.
وقال الواقدي: حدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه قال: لما(سيرة 1/454)
خرجت بنو النضير أقبل عمرو بن سعدى فأطاف بمنازلهم، فرأى خرابها وفكر ثم رجع إلى بني قريظة فيجدهم في الكنيسة فينفخ في بوقهم، فاجتمعوا فقال الزبير بن باطا: يا أبا سعيد أين كنت منذ اليوم؟ وكان لا يفارق الكنيسة وكان يتأله في اليهودية, قال: رأيت اليوم عبرا قد عبرنا بها، رأيت منازل إخواننا خالية بعد ذلك العز والجلد والشرف الفاضل والعقل البارع، قد تركوا أموالهم وملكها غيرهم، وخرجوا خروج ذل. ولا والتوراة ما سلط هذا على قوم قط لله بهم حاجة. فقد أوقع قبل ذلك بابن الأشرف ذي عزهم، بيته في بيته آمنا، وأوقع بابن سنينة سيدهم، وأوقع ببني قينقاع فأجلاهم وهم جد يهود، وكانوا أهل عدة وسلاح ونجدة، فحصرهم فلم يخرج منهم إنسان رأسه حتى سباهم، وكلم فيهم فتركهم على أن أجلاهم من يثرب، يا قوم قد رأيتم ما رأيت فأطيعوني وتعالوا نتبع محمدا، فوالله إنكم لتعلمون أنه نبي، وقد بشرنا به وبأمره ابن الهيبان وابن جواس، وهما أعلم يهود، جاءانا من بيت المقدس يتوكفان قدومه، أمرا باتباعه، وأمرانا أن نقرئه منهما السلام، ثم ماتا على دينهما، فأسكت القوم، فأعاد هذا القول ونحوه، وتخوفهم بالحرب والسباء والجلاء. فقال ابن باطا: قد والتوراة قرأت صفته التي أنزلت على موسى، ليس في المثاني التي أحدثنا. فقال له كعب بن أسد: ما يمنعك يا أبا عبد الرحمن من اتباعه؟ قال: أنت. قال كعب: ولم -والتوراة- ما حلت بينك وبينه قط. قال الزبير: أنت صاحب عهدنا وعقدنا فإن اتبعته اتبعناه وإن أبيت أبينا. فأقبل عمرو بن سعدى على كعب فذكر ما تقاولا في ذلك، إلى أن قال كعب: ما عندي في أمره إلا ما قلت، ما تطيب نفسي أن أصبر تابعا.(سيرة 1/455)
وقال ابن إسحاق: كانت غزوة بني النضير في ربيع الأول سنة أربع وحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم ست ليال، ونزل تحريم الخمر، والله أعلم.
غزوة بني لحيان:
قال ابن إسحاق: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمادى الأول، على رأس ستة أشهر من صلح بني قريظة إلى بني لحيان يطلب بأصحاب الرجيع: خبيب وأصحابه، وأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرة.
وقال يونس، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن حزم، وغيره، قالوا: لما أصيب خبيب وأصحابه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم طالبا لدمائهم ليصيب من بني لحيان غرة، فسلك طريق الشام وورَّى على الناس أنه لا يريد بني لحيان، حتى نزل أرضهم -وهم من هذيل- فوجدهم قد حذروا فتمنعوا في رءوس الجبال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أنا هبطنا عسفان لرأت قريش أنا قد جئنا مكة". فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتي راكب حتى نزل عسفان، ثم بعث فارسين حتى جاءا كراع الغميم ثم انصرفا إليه. فذكر أبو عياش الزرقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بعسفان صلاة الخوف.
وقال بعض أهل المغازي: إن غزوة بني لحيان كانت بعد قريظة، فالله أعلم.(سيرة 1/456)
غزوة ذات الرقاع:
قال ابن إسحاق: إنها في جمادى الأولى سنة أربع، وهي غزوة خصفة من بني ثعلبة من غطفان.
وقال محمد بن إسماعيل رحمه الله: كانت بعد خيبر، لأن أبا موسى جاء بعد خيبر، يعني وشهدها قال: وإنما جاء أبو هريرة فأسلم أيام خيبر.
وقال ابن إسحاق: في هذه الغزوة سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل نخلا، فلقي بها جمعا من غطفان، فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب. وقد خاف الناس بعضهم بعضا، حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الخوف ثم انصرف بالناس.
وقال الواقدي: إنما سميت ذات الرقاع لأنه جبل كان فيه بقع حمرة وسواد وبياض، فسمي ذات الرقاع. قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لعشر خلون من المحرم، على رأس سبعة وأربعين شهرا، قدم صرارا لخمس بقين من المحرم.(سيرة 1/457)
وذات الرقاع قريبة من النخيل بين السعد والشقرة.
قال الواقدي: فحدثني الضحاك بن عثمان، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر، وحدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن جابر، قال: وعن مالك، وغيره، عن وهب بن كيسان، عن جابر، قال: قدم قادم بجلب له، فاشترى بسوق النبط، وقالوا: من أين جلبك؟ قال: جئت به من نجد، وقد رأيت أنمارا وثعلبة قد جمعوا لكم جموعا، وأراكم هادين عنهم. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله، فخرج في أربعمائة من أصحابه -وقيل سبعمائة- وسلك على المضيق ثم أفضى إلى وادي الشقرة، فأقام بها يوما، وبث السرايا، فرجعوا إليه مع الليل وأخبروه أنهم لم يروا أحدا، وقد وطئوا آثارا حديثة. ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه، حتى أتى محالهم، فإذا ليس فيها أحد، وهربوا إلى الجبال، فهم مطلون على النبي صلى الله عليه وسلم. وخاف الناس بعضهم بعضا. وفيها صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الخوف.
وقال عبد الملك بن هشام: وإنما قيل لها ذات الرقاع لأنهم رقعوا فيها راياتهم. قال: ويقال ذات الرقاع شجرة هناك والظاهر أنهما غزوتان.
وقال شعيب، عن الزهري: حدثني سنان بن أبي سنان الدؤلي، وأبو سلمة, عن جابر أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فلما قفل قفل(سيرة 1/458)
معه، فأدركته القائلة في واد كثير العِضَاه، فنزل وتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر، وقال هو تحت شجرة فعلق بها سيفه، فنمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا فأجبناه، فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال: من يمنعك مني؟ قلت: الله. فشام السيف وجلس". فلم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد فعل ذلك. متفق عليه. وشام: أغمد.
قال أبو عوانة، عن أبي بشر: اسم الأعرابي "غورث بن الحارث".
ثم روى أبو بشر، عن سليمان بن قيس، عن جابر، قال: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب بن خصفة بنخل، فرأوا من المسلمين غرة، فجاء رجل منهم يقال له: غورث بن الحارث، حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف فقال: من يمنعك مني؟ قال: "الله". قال: فسقط السيف من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من يمنعك مني"؟. قال: كن خير آخذ. قال: "تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله"؟. قال: لا، ولكن أعاهدك على أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلى سبيله فأتى أصحابه وقال: جئتكم من عند خير الناس ثم ذكر صلاة الخوف، وأنه صلى بكل طائفة ركعتين وهذا حديث صحيح إن شاء الله.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: حدثني وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله، قال:
خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة ذات الرقاع من نخل على جمل لي ضعيف، فلما قف رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت الرفاق(سيرة 1/459)
تمضي، وجعلت أتخلف، حتى أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما لك يا جابر؟ قلت: يا رسول الله أبطأ بي جملي هذا. قال: أنخه وساق قصة الجمل.
غزوة بدر الموعد:
قال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، وروى عن عروة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر المسلمين لموعد أبي سفيان بدرا. وكان أهلا للصدق والوفاء صلى الله عليه وسلم، فاحتمل الشيطان أولياءه من الناس، فمشوا في الناس يخوفونهم، وقالوا: قد أخبرنا أن قد جمعوا لكم مثل الليل من الناس، يرجون أن يوافقوكم فيتنهبوكم، فالحذر الحذر لا تغدوا. فعصم الله المسلمين من تخويف الشيطان فاستجابوا لله ولرسوله وخرجوا ببضائع لهم، وقالوا: إن لقينا أبا سفيان فهو الذي خرجنا له، وإن لم نلقه ابتعنا ببضائعنا. وكان بدر متجرا يوافى في كل عام. فانطلقوا حتى أتوا موسم بدر، فقضوا منه حاجتهم، وأخلف أبو سفيان الموعد، فلم يخرج هو ولا أصحابه.
وأقبل رجل من بني ضمرة، بينه وبين المسلمين حلف، فقال: والله إن كنا لقد أخبرنا أنه لم يبق منكم أحد، فما أعملكم إلى أهل هذا الموسم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يريد أن يبلغ ذلك عدوه من قريش: "أعملنا إليه موعد أبي سفيان وأصحابه وقتالهم، وإن شئت مع ذلك نبذنا إليك وإلى قومك حلفهم ثم جالدناكم". فقال الضمري: معاذ الله.(سيرة 1/460)
قال: وذكروا أن ابن الحمام قدم على قريش، فقال: هذا محمد وأصحابه ينتظرونكم لموعدكم فقال أبو سفيان: قد والله صدق فنفروا وجمعوا الأموال فمن نشط منهم قووه، ولم يقبل من أحد منهم دون أوقية ثم سار حتى أقام بمجنة من عسفان ما شاء الله أن يقيم، ثم ائتمر هو وأصحابه، فقال أبو سفيان: ما يصلحكم إلا عام خصب ترعون فيه السمر وتشربون من اللبن، ثم رجع إلى مكة، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بنعمة من الله وفضل، وكانت تلك الغزوة تدعى غزوة جيش السويق. وكانت في شعبان سنة أربع.
وقال الواقدي: كانت بدر الموعد، وتسمى بدر الصغرى, لهلال ذي القعدة على رأس خمسة وأربعين شهرا من مهاجره -عليه الصلاة والسلام- وأنه خرج في ألف وخمسمائة من أصحابه، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة، وكان موسم بدر يجتمع فيه العرب لهلال ذي القعدة إلى ثامنه. فأقام بها المسلمون ثمانية أيام وباعوا بضائع، فربح الدرهم درهما، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل.(سيرة 1/461)
غزوة الخندق:
قال موسى بن عقبة: كانت في شوال سنة أربع. وقال ابن إسحاق: كانت في شوال سنة خمس. فالله أعلم.
ويقوي الأول قول ابن عمر: إنه عرض يوم أحد وهو ابن أربع عشرة، فلم يجزه النبي صلى الله عليه وسلم، وعرض عليه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة فأجازه لكن هذه التقوية مردودة بما سنذكره في سنة خمس، إن شاء الله تعالى.
وفيها: توفي عبد الله ابن رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو عثمان -رضي الله عنه- عن ست سنين ونزل أبوه في حفرته.
وفيها: في شعبان ولد الحسين بن علي -رضي الله عنهما.
وفيها قتل عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح وأصحابه. وقد ذكروا. وكنية عاصم: أبو سليمان، واسم جده أبي الأقلح: قيس بن عصمة من بني عمرو بن عوف، ومن ذريته الأحوص الشاعر ابن عبد لله بن محمد بن عاصم بن ثابت.
وكان عاصم من الرماة المذكورين، ثبت يوم أحد وقتل غير واحد، وشهد بدرا.
وقتل يوم بئر معونة من الصحابة:
عامر بن فهيرة مولى الصديق -رضي الله عنه- وكان من سادة المهاجرين.(سيرة 1/462)
ومن قريش: الحكم بن كيسان المخزومي، ونافع بن بديل بن ورقاء السهمي.
وقتل يومئذ من الأنصار: الحارث بن الصمة بن عمرو بن عتيك بن عمرو بن مبذول أبو سعد. فعن محمد بن إبراهيم التيمي، أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين الحارث بن الصمة وصهيب. وقال الواقدي: شهد الحارث أحدا، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعه على الموت، وقتل عثمان بن عبد الله بن المغيرة. وعن المسور بن رفاعة أن الحارث خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، فكسر بالروحاء، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وضرب له بسهمه وأجره قال ابن سعد: وله ذرية بالمدينة وبغداد.
حرام بن ملحان، واسم ملحان مالك بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، شهد بدرا، وهو أخو أم سليم, قال لما طعن يوم بئر معونة: فزت ورب الكعبة، رحمه الله ورضي عنه.
عطية بن عمرو، من بني دينار. وهذا لم أره في الصحابة لابن الأثير.
المنذر بن عمرو بن خنيس بن حارثة بن لوذان بن عبد ود الساعدي، أحد النقباء ليلة العقبة. شهد بدرا وأحدا. وخنيس هو المعروف بالمعنق ليموت.
أنس بن معاوية بن أنس، أحد بني النجار.
أبو شيخ بن ثابت بن المنذر، وسهل بن سعد، من بني(سيرة 1/463)
النجار كلاهما.
معاذ بن ناعض الزرقي، بدري. عروة بن الصلت السلمي حليف الأنصار.
مالك بن ثابت، وأخوه: سفيان كلاهما من بني النبيت.
فهؤلاء الذين حفظت أسماؤهم من الشهداء السبعين الذين صح أنه نزل فيهم: "بلغو عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا" ثم نسخت.
وقيل: بل كانوا اثنين وعشرين راكبا. ولعل الراوي عد الركاب دون الرجالة.
أخبرنا إسماعيل بن أبي عمرو، أخبرنا ابن البن، قال: أخبرنا جدي، قال: أخبرنا ابن أبي العلاء، قال: أخبرنا ابن أبي نصر، قال: أخبرنا ابن أبي العقب، قال: أخبرنا أحمد بن البسري، قال: حدثنا محمد بن عائذ، قال: أخبرني حجوة بن مدرك الغساني، عن الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: بعث عامر بن مالك ملاعب الأسنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابعث إليَّ رهطا ممن معك يبلغوني عنك وهم في جواري. فأرسل إليه المنذر بن عمرو -رضي الله عنه- في اثنين وعشرين راكبا، فلما أتوا أداني أرض بني عامر بعث أربعة ممن معه إلى بعض مياههم، أو قال إلى بعضهم قال: وسمع عامر بن الطفيل فأتاهم فقاتلهم فقتلهم قال: ورجع الأربعة رهط الذين كان وجه بهم المنذر، فلما دنوا إذا هم بنسور تحوم، قالوا: إنا لنرى نسورا تحوم، وإنا نرى أصحابنا قد قتلوا. فلما أتوهم قال رجلان منهم: لا نطلب الشهادة بعد اليوم، فقاتلا حتى قتلا. ورجع(سيرة 1/464)
الرجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيا رجلين من بني عامر فسألاهما ممن هما فأخبراهما فقتلاهما وأخذا ما معهما, وأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه خبر أصحابهم وخبر الرجلين العامريين، وأتياه بما أصاب لهما. فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حلتين كان كساهما، فقال: "قد كانا منا في عهد". فوداهما إلى قومهما دية الحرين المسلمين.
وقال حسان بعد موت عامر بن مالك يحرض ابنه ربيعة:
بني أم البنين ألم يرعكم
فذكر الأبيات.
فقال ربيعة: هل يرضى مني حسان طعنة أطعنها عامرا؟ قيل: نعم, فشد عليه فطعنه فعاش منها.
وفيها توفيت أم المؤمنين زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة القيسية الهوازنية العامرية الهلالية -رضي الله عنها- وكانت تسمى أم المساكين لإحسانها إليهم، تزوجت أولا بالطفيل بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف -رضي الله عنه- ثم طلقها فتزوجها أخوه عبيدة بن الحارث -رضي الله عنه- فاستشهد يوم بدر، ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان سنة ثلاثة، ومكثت عنده على الصحيح ثمانية أشهر، وقيل: كانت وفاتها في آخر ربيع الآخر، وصلى عليها النبي صلى الله عليه وسلم ودفنها بالبقيع، ولها نحو ثلاثين سنة.
وفيها تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة أم المؤمنين هند بنت أبي أمية واسمه حذيفة، وقيل: سهيل، ويدعى زاد الراكب؛ ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشية المخزومية، وكانت قبله عند ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وأمه برة بنت عبد المطلب، وهاجر بها إلى الحبشة فولدت له هناك(سيرة 1/465)
زينب، وولدت له سلمة وعمر ودرة، وكان أخا النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، أرضعتهما وحمزة ثويبة مولاة أبي لهب، ويقال: إنه كان أسلم بعد عشرة أنفس، وكان أول من هاجر إلى الحبشة، ثم كان أول من هاجر إلى المدينة، ولما عبر إلى الله كان الذي أغمضه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا له، وكان قد جرح بأحد جرحا، ثم انتقض عليه، فمات منه في جمادى الآخرة سنة أربع. فلما توفي تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، حين حلت في شوال، وكانت من أجمل النساء؛ وهي آخر نسائه وفاة.
ثم تزوج بعدها بأيام يسيرة، بنت عمته أم الحكم؛ زينب بنت جحش بن رئاب الأسدي، وكان اسمها برة فسماها زينب. وكانت هي وإخوتها من المهاجرين، وأمهم أميمة بنت عبد المطلب، وهي التي نزلت هذه الآية فيها: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] ، وكانت تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله من السماء. وفيها نزلت آية الحجاب، وتزوجها وهي بنت خمس وثلاثين سنة.
وفي هذه السنة رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهودي واليهودية اللذين زنيا.
وفيها توفيت أم سعد بن عبادة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم غائب في بعض مغازيه, ومعه ابنها سعد، قال قتادة، عن سعيد بن المسيب: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر أم سعد بعد أشهر، والله أعلم.(سيرة 1/466)
السنة الخامسة من الهجرة:
غزوات ذات الرقاع، وغزوة دُومة الجندل بضم الدال
غزوة ذات الرقاع:
خرج لها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعشر خلون من المحرم. قاله الواقدي كما تقدم. وقال ابن إسحاق: إنها في جمادى الأولى سنة أربع.
غزوة دُومة الجندل: وهي بضم الدال:
قيل سميت بدومى بن إسماعيل -عليه السلام- لكونها كانت منزله. ودَومة بالفتح موضع آخر. وهذه الغزوة كانت في ربيع الأول. ورجع النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إليها، ولم يلق كيدا.
وقال المدائني: خرج صلى الله عليه وسلم في المحرم، يريد أكيدر دومة، فهرب أكيدر، وانصرف النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الله بن أبي لبيد، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن. وحدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز, عن عبد الله بن أبي بكر وغيرهما، قالوا: أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرب إلى(سيرة 1/467)
أدنى الشام ليرهب قيصر, وذكر له أن بدومة الجندل جمعا عظيما يظلمون من مر بهم وكان بها سوق وتجار، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف يسير الليل ويكمن النهار، ودليله مذكور العذري، فنكب عن طريقهم، فلما كان بينه وبين دومة يوم قوي، قال له: يا رسول الله إن سوائمهم ترعى عندك، فأقم حتى أنظر. وسار مذكور حتى وجد آثار النعم، فرجع وقد عرف مواضعهم، فهجم بالنبي صلى الله عليه وسلم على ماشيتهم ورعائهم فأصاب من أصاب، وجاء الخبر إلى دومة فتفرقوا، ورجع النبي صلى الله عليه وسلم.
وهي تبعد عن المدينة ستة عشر يوما، وبينها وبين دمشق خمس ليال للمجد، وبينها وبين الكوفة سبع ليال، وهي أرض ذات نخل، يزرعون الشعير وغيره، ويسقون على النواضح وبها عين ماء.
غزوة المريسيع:
وتسمى غزوة بني المصطلق، كانت في شعبان سنة خمس على الصحيح, بل المجزوم به.
قال الواقدي: استخلف النبي صلى الله عليه وسلم فيها على المدينة زيد بن حارثة. فحدثني شعيب بن عباد عن المسور بن رفاعة، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة.
وقال يونس بن بكير: قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر، وعبد الله بن أبي بكر، قالوا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغه أن بني المصطلق يجمعون له، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية أم المؤمنين، فسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالمريسيع، ماء من مياههم؛ فأعدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتزاحف الناس فاقتتلوا، فهزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المصطلق وقتل من قتل منهم ونفل نساءهم وأبناءهم وأموالهم، وأقام عليهم من ناحية قديد والساحل.
وقال الواقدي، عن معمر وغيره: أن بني المصطلق من خزاعة كانوا ينزلون ناحية الفرع، وهم حلفاء بني مدلج، وكان رأسهم الحارث بن أبي(سيرة 1/468)
ضرار، وكان قد سار في قومه ومن قدر عليه، وابتاعوا خيلا وسلاحا، وتهيئوا للمسير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الواقدي: وحدثني سعيد بن عبد الله بن أبي الأبيض، عن أبيه, عن جدته، وهي مولاة جويرية, سمعت جويرية تقول: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن على المريسيع، فأسمع أبي يقول: أتانا ما لا قبل لنا به. قالت: وكنت أرى من الناس والخيل والعدة ما لا أصف من الكثرة، فلما أن أسلمت وتزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجعنا جعلت أنظر إلى المسلمين فليسوا كما كنت أرى، فعرفت أنه رعب من الله، وكان رجل منهم قد أسلم يقول: لقد كنا نرى رجالا بيضا على خيل بلق، ما كنا نراهم قبل ولا بعد.
قال الواقدي: ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء، وضربت له قبة من أدم، ومعه عائشة وأم سلمة، وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، ثم أمر عمر فنادى فيهم، قولوا: لا إله إلا الله، تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم، ففعل عمر، فأبوا. فكان أول من رمى رجل منهم بسهم، فرمى المسلمون ساعة بالنبل، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يحملوا،(سيرة 1/469)
فحملوا، فما أفلت منهم إنسان، فقتل منهم عشرة وأسر سائرهم، وقتل من المسلمين رجل واحد.
وقال ابن عون: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال، فكتب: إنما كان ذلك في أول الإسلام، قد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى سبيهم، فأصاب يومئذ -أحسبه قال: جويرية- وحدثني ابن عمر بذلك، وكان في ذلك الجيش. متفق عليه.
وقال إسماعيل بن جعفر، عن ربيعة الرأي، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز، سمع أبا سعيد يقول: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المصطلق فسبينا كرائم العرب، وطالت علينا العزبة، ورغبنا في الفداء فأردنا أن نستمتع ونعزل، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
"لا عليكم أن لا تفعلوا، ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون". متفق عليه، عن قتيبة عن إسماعيل.
تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بجويرية:
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة، قالت: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية في السهم لثابت بن قيس بن شماس، أو لابن عم له فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة ملاحة، لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه, فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها، فوالله ما هو إلا أن(سيرة 1/470)
رأيتها فكرهتها، وقلت: سيري منها مثل ما رأيت. فلما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: أنا جويرية بنت الحارث سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، وقد كاتبت فأعني فقال: "أو خير من ذلك أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك". فقالت: نعم. ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ الناس أنه قد تزوجها، فقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأرسلوا ما كان في أيديهم من بني المصطلق فلقد أعتق بها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها وكان اسمها برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني محمد بن يحيى بن حبان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة، في قصة بني المصطلق: فبينا النبي صلى الله عليه وسلم مقيم هناك، إذ اقتتل على الماء جهجاه بن سعيد الغفاري أجير عمر، وسنان بن زيد. قال: فحدثني محمد بن يحيى أنهما ازدحما على الماء فاقتتلا، فقال سنان: يا معشر الأنصار وقال جهجاه: يا معشر المهاجرين وكان زيد بن أرقم ونفر من الأنصار عند عبد الله بن أبي، يعني: ابن سلول، فلما سمعها قال: قد ثاورونا في بلادنا والله ما أعدنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم أقبل على من عنده من قومه، فقال: هذا ما صنعتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو كففتم عنهم لتحولوا عنكم من بلادكم فسمعها زيد، فذهب بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غليم، وعنده عمر فأخبره الخبر فقال عمر: يا رسول الله مر عباد(سيرة 1/471)
بن بشر فليضرب عنقه فقال: "كيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟ لا ولكن ناد يا عمر في الرحيل". فلما بلغ ذلك ابن أبي أتى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذر، وحلف له بالله ما قال ذلك، وكان عند قومه بمكان. فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم عسى أن يكون هذا الغلام أوهم وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجرا في ساعة كان لا يروح فيها فلقيه أسيد بن حضير فسلم عليه بتحية النبوة ثم قال:
والله لقد رحت في ساعة منكرة فقال: "أما بلغك ما قال صاحبك ابن أبي"؟. فقال: يا رسول الله فأنت والله العزيز وهو الذليل. ثم قال: يا رسول الله ارفق به، فوالله لقد جاء الله بك وإنا لننظم له الخرز لنتوجه فإنه ليرى أن قد استلبته ملكا فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس بقية يومه وليلته، حتى أصبحوا وحتى اشتد الضحى. ثم نزل بالناس بقية يومه وليلته، حتى أصبحوا وحتى اشتد الضحى. ثم نزل بالناس ليشغلهم عما كان من الحديث، فلم يأمن الناس أن وجدوا مس الأرض فناموا. ونزلت سورة المنافقين.
وقال ابن عيينة: حدثنا عمرو بن دينار قال: سمعت جابرا يقول: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار. فقال الأنصاري: يا للأنصار. وقال المهاجري: يا للمهاجرين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بال دعوى الجاهلية؟ دعوها فإنها منتنة". فقال عبد الله بن أبي بن سلول: أو قد فعلوها؟ والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال: وكانت الأنصار بالمدينة أكثر من المهاجرين حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم ثم كثر المهاجرون بعد ذلك, فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه". متفق عليه.(سيرة 1/472)
وقال عبيد الله بن موسى: أخبرنا إسرائيل، عن السدي عن أبي سعيد الأزدي، قال: حدثنا زيد بن أرقم قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معنا ناس من الأعراب فكنا نبتدر الماء وكانت الأعراب يسبقوننا, فيسبق الأعرابي أصحابه فيملأ الحوض ويجعل حوله حجارة ويجعل النطع عليه حتى يجيء أصحابه، فأتى أنصاري فأرخى زمام ناقته لتشرب فمنعه فانتزع حجرا فغاض الماء, فرفع الأعرابي خشبة فضرب بها رأس الأنصاري فشجه، فأتى عبد الله بن أبي فأخبره فغضب, وقال: لا تنفقوا على من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى ينفضوا من حوله؛ يعني الأعراب وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منه الأذل. قال زيد: فسمعته فأخبرت عمي، فانطلق فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحلف وجحد، فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني فجاء إليَّ عمي فقال: ما أردت أن مقتك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبك المسلمون. فوقع عليَّ من الغم ما لم يقع على أحد قط فبينا أن أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خفقت برأسي من الهم، إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي، فما كان يسرني أن لي بها الخلد أو الدنيا. ثم إن أبا بكر لحقني فقال: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قلت: ما قال لي شيئا. فقال أبشر فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين حتى بلغ منها: {الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8] .
وقال إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن زيد بن أرقم، قال: سمعت عبد الله بن أبي يقول لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله. وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فذكرت ذلك لعمي فذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فحلفوا ما قالوا، فصدقهم وكذبني، فأصابني هم، فأنزل الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ(سيرة 1/473)
الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1] ، فأرسل إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليَّ، وقال: "إن الله صدقك يا زيد". أخرجه البخاري.
وقال أنس بن مالك: زيد بن أرقم هو الذي يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا الذي أوفى الله له بأذنه". أخرجه البخاري، من حديث عبد الله بن الفضل عن أنس.
وقال الأعمش، عن أبي سفيان عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم من سفر، فلما كان قرب المدينة هاجت ريح تكاد أن تدفن الراكب، فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت هذه الريح لموت منافق". قال: فقدم المدينة فإذا منافق عظيم قد مات. أخرجه مسلم.
وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود عن عروة قال: فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق عمان سرحوا ظهرهم، وأخذتهم ريح شديدة، حتى أشفق الناس منها، وقيل: يا رسول الله ما شأن هذه الريح؟ فقال: "مات اليوم منافق عظيم النفاق، ولذلك عصفت الريح وليس عليكم منها بأس إن شاء الله". وذلك في قصة بني المصطلق.
وقال يونس، عن ابن إسحاق، عن شيوخه الذين روى عنهم قصة بني المصطلق، قالوا:
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان ببقعاء من أرض الحجاز دون البقيع هبت ريح شديدة فخافها الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تخافوا فإنها هبت لموت عظيم من عظماء الكفر". فوجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت قد مات يومئذ، وكان من بني قينقاع، وكان قد أظهر الإسلام وكان كهفا للمنافقين.(سيرة 1/474)
وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة من بني المصطلق، أتاه
عبد الله بن عبد الله بن أبي، فقال: يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل أبي، فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالده مني، ولكني أخشى أن تأمر به رجلا مسلما فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله يمشي في الأرض حيا حتى أقتله، فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بل نحسن صحبته ونترفق به ما صحبنا". والله أعلم.
حديث الإفك: وكان في هذه الغزوة
قال سليمان بن حرب: حدثنا حماد بن زيد، عن معمر، والنعمان بن راشد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه. قالت: فأقرع بيننا في غزاة المريسيع، فخرج سهمي، فهلك فيَّ من هلك.
وكذلك قال ابن إسحاق، والوقاد وغيرهما: أن حديث الإفك في غزوة المريسيع.
وروي عن عباد بن عبد الله، قال: قلت يا أماه حدثيني حديثك في غزوة المريسيع.
قرأت على أبي محمد عبد الخالق بن عبد السلام، ببعلبك، قال:(سيرة 1/475)
أخبرنا عبد الرحمن بن إبراهيم، قال: أخبرنا أبو الحسين عبد الحق اليوسفي، قال: أخبرنا أبو سعد بن خشيش، قال: أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد، قال: أخبرنا ميمون بن إسحاق، قال: حدثنا أحمد بن عبد الجبار، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: لقد تحدث بأمري في الإفك واستفيض فيه وما أشعر وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أناس من أصحابه، فسألوا جارية لي سوداء كانت تخدمني، فقالوا: أخبرينا ما علمك بعائشة؟ فقالت: والله ما أعلم منها شيئا أعيب من أنها ترقد ضحى حتى إن الداجن داجن أهل البيت تأكل خميرها. فأداروها وسألوها حتى فطنت، فقالت: سبحان الله، والذي نفسي بيده ما أعلم على عائشة إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر. قالت: فكان هذا وما شعرت.
ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد، أشيروا عليَّ في أناس أبنوا أهلي، وايم الله إن علمت على أهلي من سوء قط، وأبنوهم بمن والله إن علمت عليه سوء قط، ولا دخل على أهلي إلا وأنا شاهد، ولا غبت في سفر إلا غاب معي". فقال سعد بن معاذ: أرى يا رسول الله أن تضرب أعناقهم. فقال رجل من
الخزرج, وكانت أم حسان من رهطه، وكان حسان من رهطه: والله ما صدقت، ولو كان من الأوس ما أشرت بهذا. فكاد يكون بين الأوس والخزرج شر في المسجد، ولا علمت بشيء منه، ولا ذكره لي ذاكر، حتى أمسيت من ذلك اليوم فخرجت في نسوة لحاجتنا، وخرجت معنا أم مسطح -بنت خالة أبي بكر- فإنا لنمشي ونحن عامدون لحاجتنا، عثرت أم مسطح فقالت: تعس مسطح. فقلت: أي أم، أتسبين ابنك؟ فلم تراجعني. فعادت ثم عثرت، فقالت: تعس مسطح. فقلت: أي أم, أتسبين ابنك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلم تراجعني. ثم عثرت الثالثة، فقالت: تعس مسطح. فقلت: أي أم,(سيرة 1/476)
أتسبين ابنك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: والله ما أسبه إلا من أجلك وفيك. فقلت: وفي أي شأني؟ قالت: وما علمت بما كان؟ فقلت: لا، وما الذي كان؟ قالت: أشهد أنك مبرأة مما قيل فيك ثم بقرت لي الحديث، فلأكر راجعة إلى البيت ما أجد مما خرجت له قليلا ولا كثيرا. وركبتني الحمى فحممت فدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم, فسألني عن شأني، فقلت: أجدني موعوكة، ائذن لي أذهب إلى أبوي. فأذن لي، وأرسل معي الغلام، فقال: "امش معها". فجئت فوجدت أمي في البيت الأسفل ووجدت أبي يصلي في العلو فقلت لها: أي أمه، ما الذي سمعت؟ فإذا هي لم ينزل بها من حيث نزل مني, فقالت: أي بنية وما عليك، فما من امرأة لها ضرائر تكون جميلة يحبها زوجها إلا وهي يقال لها بعض ذلك. فقلت: وقد سمعه أبي؟ فقالت: نعم. فقلت: وسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ورسول الله صلى الله عليه وسلم. فبكيت، فسمع أبي البكاء، فقال: ما شأنها؟ فقالت: سمعت الذي تحدث به. ففاضت عيناه يبكي, فقال: أي بنية، ارجعي إلى بيتك، فرجعت وأصبح أبواي عندي حتى إذا صليت العصر دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بين أبوي، أحدهما عن يميني والآخر عن شمالي، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد يا عائشة إن كنت ظلمت أو أخطأت أو أسأت فتوبي وراجعي أمر الله واستغفري". فوعظني، وبالباب امرأة من الأنصار قد سلمت, فهي جالسة بباب البيت في الحجرة وأنا أقول: ألا تستحيي أن تذكر هذا, والمرأة تسمع, حتى إذا قضى كلامه قلت لأبي, وغمزته: ألا تكلمه؟ فقال: وما أقول له؟ والتفت إلى أمي فقلت: ألا تكلمينه؟ فقالت: وماذا(سيرة 1/477)
أقول له؟ فحمدت الله وأثنيت عليه بما هو أهله ثم قلت: أما بعد فوالله لئن قلت لكم: أن قد فعلت والله يشهد أني لبريئة ما فعلت لتقولن: قد باءت به على نفسها واعترفت به، ولئن قلت: لم أفعل والله يعلم أني لصادقة ما أنتم بمصدقي لقد دخل هذا في أنفسكم واستفاض فيكم، وما أجد لي ولكم مثلا إلا قول أبي يوسف العبد الصالح؛ وما أعرف يومئذ اسمه: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] .
ونزل الوحي ساعة قضيت كلامي، فعرفت والله البشر في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتكلم فمسح جبهته وجبينه ثم قال: أبشري يا عائشة، فقد أنزل الله عذرك. وتلا القرآن. فكنت أشد ما كنت غضبا، فقال لي أبواي: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا إياكما ولكني أحمد الله الذي برأني. لقد سمعتم فما أنكرتم ولا جادلتم ولا خاصمتم.
فقال الرجل الذي قيل له ما قيل، حين بلغه نزول العذر: سبحان الله، فوالذي نفسي بيده ما كشفت قط كنف أنثى. وكان مسطح يتيما في حجر أبي بكر ينفق عليه, فحلف لا ينفع مسطحا بنافعة أبدا. فأنزل الله: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} إلى قوله: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] ، فقال أبو بكر: بلى والله يا رب، إني أحب أن تغفر لي وفاضت عيناه فبكى رضي الله عنه. وهذا عال حسن الإسناد، أخرجه البخاري تعليقا؛ فقال: وقال أبو أسامة، عن هشام بن عروة فذكره.
وقال الليث -واللفظ له- وابن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب: أخبرني عروة وابن المسيب وعلقمة بن وقاص(سيرة 1/478)
وعبيد الله بن عبد الله عن حديث عائشة، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله؛ وكل حدثني بطائفة من الحديث، وبعض حديثهم يصدق بعضا، وإن كان بعضهم أوعى له من بعض. قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه. فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج سهمي فخرجت معه بعدما نزل الحجاب وأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة, آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل, فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع فالتمسته، وحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي واحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت وهم يحسبون أني فيه. وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكروا خفة الهودج حين رفعوه، وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فأممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إليَّ، فبينا أنا جالسة غلبتني عيني فنمت. وكان صفوان بن
المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش. فأدلج فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفت، فخمرت وجهي بجلبابي، والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه. فأناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة, فهلك من هلك. وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن(سيرة 1/479)
سلول. فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شهرا، والناس يفيضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي. إنما يدخل عليَّ فيسلم ثم يقول: "كيف تيكم"؟. ثم ينصرف. فذلك الذي يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت يوما بعدما نقهت. فخرجت مع أم مسطح قبل المناصع؛ وهو متبرزنا؛ وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط، وكنا نتأذى بالكنف نتخذها عند بيوتنا. فانطلقت أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رهم بن عبد مناف وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق وابنها مسطح بن أثاثة بن المطلب، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي، قد فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلا شهد بدرا؟ قالت: أي هنتاه، أو لم تسمعي ما قال؟ قلت: وماذا؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك. فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى بيتي ودخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم قال: "كيف تيكم"؟. فقلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ وأنا أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي، فجئت أبوي فقلت لأمي: يا أمتاه ما يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية هوني عليكِ، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر، إلا كثرن عليها. فقلت: سبحان الله، ولقد تحدث الناس بهذا؟ فبكيت الليلة حتى لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم, ثم أصبحت أبكي.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله. فأما أسامة فأشار على رسول(سيرة 1/480)
الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود، فقال أسامة: يا رسول الله أهلك ولا نعلم إلا خيرا. وأما عليٌّ فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، واسأل الجارية تصدقك. قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال: "أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك"؟. قالت: لا, والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول، فقال
وهو على المنبر: "يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغنا أذاه في أهل بيتي؟ فوالله ما علمت في أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي". فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج -وكان قبل ذلك رجلا صالحا- ولكن احتملته الحمية، فقال: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان: الأوس والخزرج، حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا وسكت.
قالت: فبكيت يومي ذلك وليلتي لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم فأصبح أبواي عندي، وقد بكيت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع، حتى يظنان أن البكاء فالق كبدي. فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي، استأذنت عليَّ امرأة من الأنصار فجلست تبكي معي.
فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس، ولم يجلس عندي(سيرة 1/481)
منذ قيل لي ما قيل وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني شيء. قالت: فتشهد حين جلس ثم قال: "أما بعد يا عائشة! فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه". قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته، قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة, فقلت لأبي: أجب رسول الله فيما قال. قال: والله ما أدري ما أقول له؟ فقلت لأمي: أجيبي رسول الله. قالت: ما أدري ما أقول له؟ فقلت وأنا يومئذ حديثه السن لا أقرأ كثيرا من القرآن: إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة، والله يعلم أني بريئة، لا تصدقوني بذلك ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقني، والله ما أجد لكم مثلا إلا قول أبي يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] ، ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، وأنا أعلم أني بريئة وأن الله يبرئني ببراءتي ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى، ولشأني كان في نفسي أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها قالت: فوالله ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق، وهو في يوم شاتٍ من ثقل القول الذي ينزل عليه. فلما سري عنه وهو يضحك كان أول كلمة تكلم
بها: يا عائشة أما والله لقد برأك الله. فقالت أمي: قومي إليه. فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله. وأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور: 11] ، العشر الآيات كلها.
فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر، وكان ينفق على مسطح(سيرة 1/482)
لقرابته وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة. فأنزل الله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] ، قال أبو بكر: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي. فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا. قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمري، فقالت: أحمي سمعي وبصري ما علمت إلا خيرا، وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك. متفق عليه من حديث يونس الأيلي.
وقال أبو معشر: حدثني أفلح بن عبد الله بن المغيرة، عن الزهري، قال: كنت عند الوليد بن عبد الملك فذكر الحديث بطوله عن الأربعة عن عائشة، فقال الوليد: وما ذاك؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة بني المصطلق فساهم بين نسائه، فخرج سهمي وسهم أم سلمة.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن الزهري، قال: كنت عند الوليد بن عبد الملك فقال: الذي تولى كبره منهم عليٌّ. فقلت: لا, حدثني سعيد، وعروة, وعلقمة، وعبيد الله كلهم سمع عائشة تقول: الذي تولى كبره عبد الله بن أبي. فقال لي: فما كان جرمه؟ قلت: سبحان الله, أخبرني رجلان من قومك: أبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو(سيرة 1/483)
بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنهما سمعا عائشة تقول: كان مسيئا في أمري. أخرجه البخاري.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن عمرة، عن عائشة، قالت: لما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم القصة التي نزل بها عذري على الناس، نزل, فأمر برجلين وامرأة ممن كان تكلم بالفاحشة في عائشة, فجلدوا الحد. قال: وكان رماها ابن أبي، ومسطح، وحسان, وحمنة بنت جحش.
وقال شعبة، عن سليمان، عن أبي الضحى, عن مسروق، قال: دخل حسان بن ثابت على عائشة -رضي الله عنها- فشبب بأبيات له:
حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
قالت: لستَ كذلك. قلت: تدعين مثل هذا يدخل عليك وقد أنزل الله -عز وجل: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11] ، قالت: وأي عذاب أشد من العمى؟ وقالت: كان يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم. متفق عليه.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني محمد بن إبراهيم التيمي، قال: وكان صفوان بن المعطل قد كثر عليه حسان في شأن عائشة, وقال يعرِّض به:
أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا ... وابن الفريعة أمسى بيضة البلد
فاعترضه صفوان ليلة وهو آت من عند أخواله بني ساعدة، فضربه(سيرة 1/484)
بالسيف على رأسه، فيعدو عليه ثابت بن قيس، فجمع يديه إلى عنقه بحبل أسود, وقاده إلى دار بني حارثة، فلقيه عبد الله بن رواحة، فقال: ما هذا؟ فقال: ما أعجبك! عدا على حسان بالسيف فوالله ما أراه إلا قد قتله. فقال: هل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما صنعت به؟ فقال: لا. فقال: والله لقد اجترأت، خل سبيله فسنغدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنعلمه أمره فخل سبيله. فلما أصبحوا غدوا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا له ذلك فقال: "أين ابن المعطل"؟. فقام إليه، فقال: ها أنذا يا رسول الله، فقال: "ما دعاك إلى ما صنعت"؟. قال: آذاني وكثَّر عليَّ ولم يرض حتى عرَّض بي في الهجاء، فاحتملني الغضب، وها أنذا، فما كان عليَّ من حق فخذني به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادعوا لي حسان". فأتي به؛ فقال: "يا حسان! أتشوهت على قومي أن هداهم الله للإسلام". يقول: تنفست عليهم يا حسان! "أحسن فيما أصابك". فقال: هي لك يا رسول الله! فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيرين القبطية. فولدت له عبد الرحمن، وأعطاه أرضا كانت لأبي طلحة تصدق بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدثني يعقوب بن عتبة، أن صفوان بن المعطل قال حين ضرب حسان:
تلق ذباب السيف عنك فإنني ... غلام إذا هوجيت لست بشاعر
وقال حسان لعائشة -رضي الله عنها:(سيرة 1/485)
رأيتك وليغفر لك الله حرة ... من المحصنات غير ذات غوائل
حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
وإن الذي قد قيل ليس بلائق ... بك الدهر بل قيل امرئ متماحل
فإن كنت أهجوكم كما بلغوكم ... فلا رفعت سوطي إلي أناملي
فكيف وودي ما حييت ونصرتي ... لآل رسول الله زين المحافل
وإن لهم عزا يرى الناس دونه ... قصارا وطال العز كل التطاول
منها:
عقيلة حي من لؤي بن غالب ... كرام المساعي مجدهم غير زائل
مهذبة قد طيب الله خيمها ... وطهرها من كل سوء وباطل
استشهد صفوان في وقعة أرمينية سنة تسع عشرة. قاله ابن إسحاق.
وعن عائشة قالت: لقد سألوا عن ابن المعطل فوجدوه حصورا ما يأتي النساء. ثم قتل بعد ذلك شهيدا.
غزوة الخندق:
قال الواقدي: وهي غزوة الأحزاب، وكانت في ذي القعدة.
قالوا: لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير ساروا إلى خيبر، وخرج نفر من وجوههم إلى مكة فألبوا قريشا ودعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوهم على قتاله، وواعدوهم لذلك وقتا. ثم أتوا غطفان وسليما, فدعوهم إلى ذلك, فوافقوهم.
وتجهزت قريش وجمعوا عبيدهم وأتباعهم، فكانوا في أربعة آلاف، وقادوا معهم نحو ثلاثمائة فرس من سوى الإبل. وخرجوا وعليهم أبو(سيرة 1/486)
سفيان بن حرب، فوافتهم بنو سليم بمر الظهران، وهم سبعمائة وتلقتهم بنو أسد يقودهم طليحة بن خويلد الأسدي، وخرجت فزارة وهم في ألف بعير يقودهم عيينة بن حصن، وخرجت أشجع وهم أربعمائة يقودهم الحارث بن عوف, وقيل: إنه رجع ببني مرة، والأول أثبت، فكان جميع الأحزاب عشرة آلاف وأمر الكل إلى أبي سفيان وكان المسلمون في ثلاثة آلاف. هذا كلام الواقدي.
وأما ابن إسحاق فقال: كانت غزوة الخندق في شوال.
قال: وكان من حديثها أن سلام بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع، وهوذة في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم, قدموا مكة فدعوا قريشا إلى القتال، وقالوا: إنا نكون معكم حتى نستأصل محمدا. فقالت قريش: يا معشر يهود، إنكم أهل كتاب وعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد, أفديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق. وفيهم نزل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51] الآيات، فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطوا إلى الحرب واتعدوا لهم. ثم خرج أولئك النفر اليهود حتى جاءوا غطفان، فدعوهم فوافقوهم.
فخرجت قريش، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة في بني فزارة،(سيرة 1/487)
والحارث بن عوف المري في قومه، ومسعود بن زحلية فين تابعه من قومه أشجع. فلما سمع بهم النبي صلى الله عليه وسلم حفر الخندق على المدينة وعمل فيه بيده، وأبطأ عن المسلمين في عمله رجال منافقون، وعمل المسلمون فيه حتى أحكموه. وكان في حفره أحاديث بلغتني، منها: بلغني أن جابرا كان يحدث أنهم اشتدت عليهم كدية فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بإناء من ماء فتفل فيه، ثم دعا بما شاء الله، ثم نضح الماء على الكدية حتى عادت كثيبا.
وحدثني سعيد بن ميناء، عن جابر بن عبد الله قال: عملنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق فكانت عندي شُويهة، فقلت: والله لو صنعناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرت امرأتي فطحنت لنا شيئا من شعير، فصنعت لنا منه خبزا، وذبحت تلك الشاة فشويناها، فلما أمسينا وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الانصراف، وكنا نعمل في الخندق نهارا فإذا أمسينا رجعنا إلى أهالينا، فقلت: يا رسول الله إني قد صنعت كذا وكذا، وأحب أن تنصرف معي، وإنما أريد أن ينصرف معي وحده فلما قلت له ذلك قال: "نعم". ثم أمر صارخا فصرخ أن انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت جابر. فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، فأقبل وأقبل الناس معه، فجلس وأخرجناها إليه، فبرك وسمى، ثم أكل وتواردها الناس كلما فرغ قوم قاموا وجاء ناس، حتى صدر أهل الخندق عنها.
وحدثني سعيد بن ميناء, أنه حدث أن ابنة لبشير بن سعد قالت: دعتني أمي عمرة بنت رواحة فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت:(سيرة 1/488)
أي بنية اذهبي إلى أبيك وخالك عبد الله بغدائهما. فانطلقت بها فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألتمس أبي وخالي، فقال: ما هذا معك؟ قلت: تمر بعثت به أمي إلى أبي وخالي، قال: هاتيه فصببته في كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فملأتهما، ثم أمر بثوب فبسط، ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب، ثم قال لإنسان عنده:
"اصرخ في أهل الخندق أن هلموا إلى الغداء". فاجتمعوا فجعلوا يأكلون منه وجعل يزيد، حتى صدر أهل الخندق عنه وإنه ليسقط من أطراف الثوب.
وحدثني من لا أتهم، عن أبي هريرة، أنه كان يقول حين فتحت هذه الأمصار في زمان عمر وعثمان وما بعده: افتحوا ما بدا لكم، والذي نفسي بيده، أو نفس أبي هريرة بيده، ما افتتحتم من مدينة ولا تفتحونها إلى يوم القيامة إلا وقد أعطى الله محمدا صلى الله عليه وسلم مفاتيحها قبل ذلك.
وقال: وحدثت عن سلمان الفارسي، قال: ضربت في ناحية من الخندق فغلظت عليَّ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريب مني، فلما رآني أضرب, نزل وأخذ المعول فضرب به ضربة فلمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب أخرى فلمعت تحته أخرى, ثم ضرب الثالثة فلمعت أخرى. قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما هذا؟ قال: "أو قد رأيت"؟. قلت: نعم. قال: أما الأولى، فإن الله فتح عليَّ بها اليمن، وأما الثانية، فإن الله فتح عليَّ بها الشام والمغرب، وأما الثالثة, فإن الله فتح عليَّ بها المشرق".(سيرة 1/489)
قال ابن إسحاق: ولما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع السيول من دومة بين الجرف وزغابة في عشر آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني كنانة وأهل تهامة وغطفان، فنزلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد بذنب تعمر إلى جانب أحد. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف، فعسكروا هنالك، والخندق بينه وبين القوم, فذهب حيي بن أخطب إلى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم وقد كان وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه، فلما سمع كعب بحيي أغلق دونه الحصن فأبى أن يفتح له, فناداه: يا كعب افتح لي. قال: إنك امرؤ مشئوم، وإني قد عاهدت محمدا, فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا. قال: ويحك افتح لي أكلمك. قال: ما أنا بفاعل. قال: والله إن أغلقت دوني إلا عن جشيشتك أن آكل معك منها. فأحفظه, ففتح له, فقال: ويحك يا كعب، جئتك بعز الدهر وببحر طام، جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من دومة، وبغطفان على قادتها وسادتها فأنزلتهم بذنب تعمر إلى جانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه. قال له كعب: جئتني والله بذل الدهر(سيرة 1/490)
وبجهام قد هراق ماءه
برعد وبرق ليس فيه شيء، يا حيي فدعني وما أنا عليه فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء.
فلم يزل حيي بكعب حتى سمح له بأن أعطاه عهدا لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك. فنقض كعب عهده وبرئ مما كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما انتهى الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، سيدا الأنصار، ومعهما عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير، فقال: "انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء؟ فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس". فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم، فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه، وكان فيه حدة، فقال له ابن عبادة: دع عنك مشاتمتهم، فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة ثم رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه، وقالوا: عَضل والقَارة، أي كغدر عَضل والقارة بأصحاب الرجيع خُبيب وأصحابه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر! أبشروا يا معشر المسلمين". فعظم عند ذلك الخوف.
قال الله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10، 11] .
وتكلم المنافقون حتى قال معتب بن قُشير أحد بني عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على(سيرة 1/491)
نفسه أن يذهب إلى الغائط. فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام عليه المشركون بضعا وعشرين ليلة لم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل والحصار.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما، فجرى بينه وبينهما صلح، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح، إلا المراوضة في ذلك.
فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل، بعث إلى السعدين فاستشارهما، فقالا: يا رسول الله أمرا تحبه فنصنعه، أم شيئا أمرك الله به لا بد لنا منه، أم شيئا تصنعه لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم. فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك ولا يطمعون أن يأكلوا منا تمرة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا
بك نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. قال: فأنت وذاك. فأخذ سعد الصحيفة فمحاها، ثم قال: ليجهدوا علينا.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والأحزاب، فلم يكن بينهم قتال إلا فوارس من قريش، منهم عمرو بن عبد ود، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب، وضرار بن الخطاب، تلبسوا للقتال ثم خرجوا على خيلهم، حتى مروا بمنازل بني كنانة، فقالوا: تهيئوا للقتال يا بني كنانة فستعلمون من الفرسان اليوم، ثم أقبلوا تُعنق بهم خيلهم حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، قال: فتيمموا مكانا من الخندق ضيقا فضربوا خيلهم، فاقتحمت منه بهم في(سيرة 1/492)
السبخة بين الخندق وسلع.
وخرج علي -رضي الله عنه- في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة، فأقبلت الفرسان تعنق نحوهم، وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد يوم أحد، فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه، فلما وقف هو وخيله، قال: من يبارزني؟ فبرز له علي -رضي الله عنه- فقال: يا عمرو إنك كنت عاهدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتهما منه. قال له: أجل. قال: فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام. قال: لا حاجة لي بذلك. قال: فإني أدعوك إلى النزال. قال له: لم يا ابن أخي؟ فوالله ما أحب أن أقتلك. قال علي -كرم الله وجهه: لكني والله أحب أن أقتلك. فحمي عمرو واقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علي فتنازلا وتجاولا، فقتله علي -رضي الله عنه- وخرجت خيلهم منهزمة حتى اقتحمت من الخندق.
وألقى عكرمة يومئذ رمحه وانهزم وقال علي -رضي الله عنه- في ذلك:
نصر الحجارة من سفاهة رأيه ... ونصرت دين محمد بضراب
نازلته فتركته متجدلا ... كالجذع بين دكادك وروابي
لا تحسبن الله خاذل دينه ... ونبيه يا معشر الأحزاب
وحدثني أبو ليلى عبد الله بن سهل، أن عائشة -رضي الله عنها- كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق، وكانت أم سعد بن معاذ معها في الحصن، فمر سعد وعليه درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه كلها، وفي يده حربة يرفل با ويقول:
لبث قليلا يشهد الهيجا حمل ... لا بأس بالموت إذا حان الأجل(سيرة 1/493)
فقالت له أمه: الحق أي بني فقد أخرت. قالت عائشة: فقلت لها: يا أم سعد لوددت أن
درع سعد كانت أسبغ مما هي. فرمي سعد بسهم قطع منه الأكحل، ورماه ابن العرقة فلما أصابه قال: خذها مني وأنا ابن العرقة. فقال له سعد: عرق الله وجهك في النار، اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها فإنه لا قوم أحب إليَّ من أن أجاهدهم فيك من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه، اللهم إن كنت وضعت الحرب بينهم وبيننا فاجعله لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة.
وكانت صفية بنت عبد المطلب في فارع -حصن حسان بن ثابت- وكان معها فيه مع النساء والولدان، قالت: فمر بنا يهودي فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة ونقضت وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، والنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا. فقالت: يا حسان! إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن, وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من يهود، وقد شغل عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فانزل إليه فاقتله. فقال: غفر الله لك يا ابنة عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا. فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئا احتجزت ثم أخذت عمودا ونزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته. فلما فرغت رجعت إلى الحصن فقلت: يا حسان انزل إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل قال: ما لي بسلبه من حاجة.(سيرة 1/494)
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما وصف الله تعالى من الخوف والشدة لتظاهر عدوهم عليهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم.
وروى نحوه يونس بن بكير، عن هشام بن عروة عن أبيه.
ثم إن نعيم بن مسعود الغطفاني أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، وقال: إن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت يا رسول الله. قال: "إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا ما استطعت فإن الحرب خدعة".
فأتى قريظة -وكان نديما لهم في الجاهلية- فقال لهم: قد عرفتم ودي إياكم. قالوا: صدقت. قال: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم وبه أموالكم وأولادكم ونساؤكم، لا تقدروا أن تتحولوا عنه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان جاءوا لحرب محمد وأصحابه, وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فليسوا كأنتم، فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا حتى تناجزوه. فقالوا: لقد أشرت بالرأي.
ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان ومن معه: قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت عليَّ حقا أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموه عليَّ. قالوا: نفعل. قال: تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين، قريش وغطفان، رجالا من أشرافهم، فنعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون(سيرة 1/495)
معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم فأرسل إليهم: نعم. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون رهنا منكم من رجالكم فلا تفعلوا.
ثم خرج فأتى غطفان، فقال: يا معشر غطفان أنتم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إليَّ، ولا أراكم تتهموني. قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم. قال: فاكتموا عني. قالوا: نفعل.
ثم قال لهم مثل ما قال لقريش، وحذرهم ما حذرهم.
فلما كانت ليلة السبت من شوال، وكان من صنع الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرسل أبو سفيان ورءوس غطفان، إلى بني قريظة، عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان, فقالوا: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا. فأرسلوا إليهم الجواب أن اليوم يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا، وقد كان بعضنا أحدث فيه حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا، ولا طاقة لنا بذلك.
فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: والله لقد حدثكم نعيم بن مسعود بحق. فأرسلوا إلى بني قريظة: إنا والله ما ندفع إليكم رجلا من رجالنا, فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا.
فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلون، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم. فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا. فأبوا عليهم. وخذل الله بينهم.(سيرة 1/496)
فلما أنهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا حذيفة بن اليمان فبعثه ليلا لينظر ما فعل القوم.
قال: فحدثني يزيد بن أبي زياد، عن محمد بن كعب القرظي، قال: قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة: يا أبا عبد الله! رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه؟ قال: نعم يابن أخي.
قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد. فقال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا. فقال: يابن أخي والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق، وصلى هويا من الليل، ثم التفت إلينا, فقال: "من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع" -يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة- "أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة". فما قام أحد من شدة الخوف وشدة الجوع والبرد فلما لم يقم أحد دعاني فلم يكن لي من القيام بد حين دعاني. فقال: "يا حذيفة اذهب فادخل في القوم، فانظر ماذا يفعلون ولا تحدثن شيئا حتى تأتينا". فذهبت فدخلت في القوم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا يقر لهم قرار ولا نار ولا بناء. فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش! لينظر امرؤ من جليسه. قال حذيفة -رضي الله عنه: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت: من أنت، فقال: فلا بن فلان، ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش! إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل. ثم قام إلى جملة وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فوالله ما أطلق عقاله إلا وهو قائم. ولولا(سيرة 1/497)
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تحدث شيئا حتى تأتيني، ثم شئت لقتلته بسهم.
قال: فرجعتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه مراحل -وهو ضرب من وشي اليمن فسره ابن هشام- فلما رآني أدخلني إلى رجليه وطرح عليَّ طرف المرط، ثم ركع وسجد وإني لفيه، فلما سلم أخبرته الخبر.
وسمعت غطفان بما فعلت قريش، فانشمروا راجعين إلى بلادهم.
قال الله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25] .
وهذا كله من رواية البكائي عن محمد بن إسحاق.
وقال يونس بن بكير، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، أن رجلا قال لحذيفة: صحبتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدركتموه. فذكر الحديث نحو حديث محمد بن كعب، وفي آخره:
فجعلت أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي سفيان، فجعل يضحك حتى جعلت أنظر إلى أنيابه.
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل يوم بدر في رمضان سنة اثنين، ثم قاتل يوم أحد في شوال سنة ثلاث، ثم قاتل يوم الخندق، وهو يوم الأحزاب وبني
قريظة، في شوال سنة أربع. وكذا قال عروة في حديث ابن لهيعة عن أبي الأسود عنه. كذا قالا: سنة أربع, وقالا: في قصة الخندق إنها كانت بعد أحد بسنتين.
وقال قتادة من رواية شيبان عنه: كان يوم الأحزاب بعد أحد بسنتين، فهذا هو المقطوع به وقول موسى وعروة إنها في سنة أربع وهم بين، ويشبهه قول عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: "عرضني(سيرة 1/498)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني. فلما كان يوم الخندق عرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني". فيحمل قوله على أنه كان قد شرع في أربع عشرة سنة، وأنه يوم الخندق كان قد استكمل خمس عشرة سنة، وزاد عليها فلم يعد تلك الزيادة. والعرب تفعل هذا في عددها وتواريخها وأعمارها كثيرا، فتارة يعتدون بالكسر ويعدونه سنة، وتارة يسقطونه. وذهب بعض العلماء إلى ظاهر هذا الحديث وعضدوه بقول موسى بن عقبة وعروة أن الأحزاب في شوال سنة أربع، وذلك مخالف لقول الجماعة, ولما اعترف به موسى وعروة من أن بين أحد والخندق سنتين، والله أعلم.
وقال أبو إسحاق الفزاري، عن حميد، عن أنس، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غداة باردة إلى الخندق، والمهاجرون والأنصار يحفرون الخندق بأيديهم، ولم يكن لهم عبيد: فلما رأى ما بهم من الجوع والنصب قال:
اللهم إن العيش عيش الآخره ... فاغفر للأنصار والمهاجره
فقالوا مجيبين له:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا
أخرجه البخاري. ولمسلم نحوه من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت.
وقال عبد الوارث: حدثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس نحوه، وزاد, قال: ويؤتون بمثل حفنتين شعيرا يصنع لهم بإهالة سنخة وهي(سيرة 1/499)
بشعة في الحلق، ولها ريح منكرة فتوضع بين يدي القوم. أخرجه البخاري.
وقال شعبة وغيره: حدثنا أبو إسحاق، سمع البراء يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معنا التراب يوم الأحزاب، وقد وارى التراب بياض إبطه وهو يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألي قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا
رفع بها صوته. أخرجه البخاري.
وعنده أيضا من وجه آخر: ويمد بها صوته.
وقال عبد الواحد بن أيمن المخزومي، عن أبيه، سمع جابرا يقول: كنا يوم الخندق نحفر الخندق فعرضت فيه كدانة -وهي الجبل- فقلنا: يا رسول الله: إن كدانة قد عرضت. فقال: "رشوا عليها". ثم قام فأتاها وبطنه معصوب بحجر من الجوع، فأخذ المعول أو المسحاة فسمى ثلاثا ثم ضرب، فعادت كثيبا أهيل، فقلت له: ائذن لي يا رسول الله إلى المنزل، ففعل، فقلت للمرأة: هل عندك من شيء؟ وذكر نحو ما تقدم وما سقناه من مغازي ابن إسحاق. أخرجه البخاري.
وقال هوذة بن خليفة: حدثنا عوف الأعرابي، عن ميمون بن(سيرة 1/500)
أستاذ الزهراني، قال: حدثني البراء بن عازب، قال: لما كان حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، عرض لنا في بعض الخندق صخرة عظيمة شديدة لا تأخذ فيها المعاول، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآها أخذ المعول وقال: "بسم الله". وضرب ضربة فكسر ثلثها. فقال: "الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام, والله إني لأبصر قصورها الحمر إن شاء الله". ثم ضرب الثانية وقطع ثلثا آخر فقال: "الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض". ثم ضرب الثالثة فقال: "بسم الله"، فقطع بقية الحجر فقال: "الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة".
وقال الثوري: حدثنا ابن المنكدر، سمعت جابرا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "من يأتينا بخبر القوم"؟. فقال الزبير: أنا. فقال: "من يأتينا بخبر القوم"؟. فقال الزبير: أنا. فقال: "إن لكل نبي حواريا وحواريي الزبير". أخرجه البخاري.
وقال الحسن بن الحسن بن عطية العوفي: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] ، قال: كان ذلك يوم أبي سفيان؛ يوم الأحزاب.
{وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13] ، قال: هم بنو حارثة، قالوا: بيوتنا مخلية نخشى عليها السرق.
قوله: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ} [الأحزاب: 22] ، قال: لأن(سيرة 1/501)
الله قال لهم في سورة البقرة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة: 214] ، فلما مسهم البلاء حيث رابطوا الأحزاب في الخندق، تأول المؤمنون ذلك، ولم يزدهم إلا إيمانا وتسليما.
وقال حماد بن سلمة: أخبرنا حجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: أن رجلا من المشركين قتل يوم الأحزاب، فبعث المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا بجسده ونعطيهم اثني عشر ألفا. فقال: "لا خير في جسده ولا في ثمنه".
وقال الأصمعي: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، قال: ضرب الزبير بن العوام يوم الخندق عثمان بن عبد الله بن المغيرة بالسيف على مغفره فقدَّه إلى القربوس , فقالوا: ما أجود سيفك، فغضب, يريد أن العمل ليده لا لسيفه.
قال شعبة، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن علي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوم الأحزاب قاعدا على فرضة من فرض الخندق، فقال صلى الله عليه وسلم: "شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس، ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا -أو- بطونهم". أخرجه مسلم.
وقال يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر، أن عمر يوم الخندق بعدما غربت الشمس جعل يسب كفار قريش، وقال: يا رسول الله! ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأنا والله ما صليتها بعد". فنزلت مع رسول الله -أحسبه قال: إلى بطحان- فتوضأ للصلاة وتوضأنا، فصلى العصر بعدما غربت(سيرة 1/502)
الشمس، ثم صلى المغرب. متفق عليه.
وقال جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، قال: كنا عند حذيفة بن اليمان، فقال رجل: لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلت معه وأبليت. فقال: أنت كنت تفعل ذاك؟ لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يأتي بخبر القوم يكون معي يوم القيامة"؟. فلم يجبه منا أحد، ثم الثانية، ثم الثالثة مثله. ثم قال: "يا حذيفة قم فأتنا بخبر القوم". فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم. فقال: "ائتني بخبر القوم ولا تذعرهم عليَّ". قال: فمضيت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم, فإذا أبو سفيان يصلي ظهره بالنار فوضعت سهمي في كبد قوسي وأردت أن أرميه، ثم ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تذعرهم عليَّ". ولو رميته لأصبته قال: فرجعت كأنما أمشي في حمام فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أصابني البرد حين فرغت وقررت، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألبسني من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائما حتى الصبح، فلما أن أصبحت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم يا نومان". أخرجه مسلم.
وقال أبو نعيم: حدثنا يوسف بن عبد الله بن أبي بردة عن موسى بن أبي المختار، عن بلال العبسي، عن حذيفة: أن الناس تفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب، فلم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا، فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جاث من البرد، فقال: "انطلق إلى عسكر الأحزاب". فقلت: والذي بعثك بالحق ما قمت إليك من البرد إلا حياء منك. قال: "فانطلق يابن اليمان فلا بأس عليك من حر ولا برد حتى ترجع إليَّ". فانطلقت إلى عسكرهم، فوجدت أبا سفيان يوقد النار في عصبة حوله، قد تفرق(سيرة 1/503)
الأحزاب عنه، حتى إذا جلست فيهم، حس
أبو سفيان أنه دخل فيهم من غيرهم، فقال: يأخذ كل رجل منكم بيد جليسه. قال: فضربت بيدي على الذي عن يميني فأخذت بيده، ثم ضربت بيدي إلى الذي عن يساري فأخذت بيده. فكنت فيهم هنية ثم قمت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي، فأومأ إليَّ بيده أن: ادن. فدنوت ثم أومأ إليَّ فدنوت حتى أسبل عليَّ من الثوب الذي عليه وهو يصلي فلما فرغ قال: ما الخبر؟ قلت: تفرق الناس عن أبي سفيان، فلم يبق إلا في عصبة يوقد النار، قد صب الله عليه من البرد مثل الذي صب علينا, ولكنا نرجو من الله ما لا يرجو.
وقال عكرمة بن عمار، عن محمد بن عبيد الحنفي، عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة، قال: ذكر حذيفة مشاهدهم، فقال جلساؤه: أما والله لو كنا شهدنا ذلك لفعلنا وفعلنا. فقال حذيفة: لا تمنوا ذلك، فلقد رأيتنا ليلة الأحزاب. وساق الحديث مطولا.
وقال إسماعيل بن أبي خالد: حدثنا ابن أبي أوفى، قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال: "اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم". متفق عليه.
وقال الليث: حدثني المقبري عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده لا شيء بعده". متفق عليه.
وقال إسرائيل وغيره عن أبي إسحاق، عن سليمان بن صرد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أجلى عنه الأحزاب: "الآن نغزوهم ولا(سيرة 1/504)
يغزونا؛ نسير إليهم". أخرجه البخاري.
وقال خارجة بن مصعب، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [الممتحنة: 7] ، قال: تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، فصارت أم المؤمنين، وصار معاوية خال المؤمنين. كذا روى الكلبي وهو متروك.
وذهب العلماء في أمهات المؤمنين أن هذا حكم مختص بهن ولا يتعدى التحريم إلى بناتهن ولا إلى إخوتهن ولا أخواتهن.
واستشهد يوم الأحزاب:
عبد الله بن سهل بن رافع الأشهلي، تفرد ابن هشام بأنه شهد بدرا.
وأنس بن أوس بن عتيك الأشهلي، والطفيل بن النعمان بن خنساء، وثعلبة بن عنمة؛ كلاهما من بني جشم بن الخزرج.
وكعب بن زيد أحد بني النجار، أصابه سهم غرب، وقد شهد هؤلاء الثلاثة بدرا.
ذكر ابن إسحاق أن هؤلاء الخمسة قتلوا يوم الأحزاب.
وقال ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة قال: قتل من المشركين يوم الخندق: نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي؛ أقبل على فرس له ليوثبه الخندق، فوقع في الخندق فقتله الله، وكبر ذلك على المشركين وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نعطيكم الدية على أن تدفعوه إلينا فندفنه. فرد إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه خبيث الدية لعنه الله(سيرة 1/505)
ولعن ديته ولا نمنعكم أن تدفنوه، ولا أرب لنا في ديته".
غزوة بني قريظة:
وكانوا قد ظاهروا قريشا وأعانوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيهم نزلت: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} [الأحزاب: 26، 27] .
قال هشام, عن أبيه، عن عاشة, قالت: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل وقال: وضعت السلاح؟ والله ما وضعناه، اخرج إليهم. قال: "فأين"؟. قال: ههنا. وأشار إلى بني قريظة. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم. متفق عليه.
وقال حميد بن هلال، عن أنس: كأني أنظر إلى الغبار ساطعا من سكة بني غنم، موكب جبريل حين سار إلى بني قريظة. البخاري.
وقال جويرية، عن نافع، عن ابن عمر، قال: نادى فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم انصرف من الأحزاب أن: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة". فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون قريظة. وقال آخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت. فما عنف واحدا من الفريقين. متفق عليه.
وعند مسلم في بعض طرقه: الظهر بدل العصر, وكأنه وهم.
وقال بشر بن شعيب، عن أبيه قال: حدثنا الزهري قال: أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أن عمه عبيد الله بن كعب(سيرة 1/506)
أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من طلب الأحزاب وضع عنه اللأمة واغتسل واستجمر، فتبدى له جبريل -عليه السلام- فقال: عذيرك من محارب، ألا أراك قد وضعت اللأمة وما وضعناها بعد, فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعا فعزم على الناس أن لا يصلوا العصر حتى يأتوا بني قريظة. فلبسوا السلاح، فلم يأتوا بني قريظة حتى غربت الشمس، فاختصم الناس عند غروبها، فقال بعضهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم علينا أن لا نصلي حتى نأتي بني قريظة، وإنما نحن في عزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس علينا إثم. وصلى طائفة من الناس احتسابا، وتركت طائفة حتى غربت الشمس فصلوا حين جاءوا بني قريظة. فلم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا من الفريقين.
وروى نحوه عبد الله بن عمر، عن أخيه عبد الله، عن القاسم عن عائشة, وفيه أن رجلا سلم علينا ونحن في البيت, فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعا، فقمت في إثره فإذا بدحية الكلبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا جبريل يأمرني أن أذهب إلى بني قريظة". وقال: وضعتم السلاح لكنا لم نضع السلاح طلبنا المشركين حتى بلغنا حمراء الأسد وفيه: فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجالس بينه وبين بني قريظة، فقال: "هل مر بكم من أحد"؟. قالوا: مر علينا دحية الكلبي على بغلة شهباء تحته قطيفة ديباج قال: "ليس ذاك بدحية الكلبي ولكنه جبريل أرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم ويقذف في قلوبهم الرعب". فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر أصحابه أن يستروه بالحجف حتى يسمعهم كلامه فناداهم: "يا إخوة القردة والخنازير". فقالوا: يا أبا
القاسم لم تك فحاشا. فحاصرهم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ وكانوا حلفاءه، فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم.(سيرة 1/507)
وقال محمد بن عمرو، عن أبيه، عن جده علقمة، عن عائشة قالت: جاء جبريل وعلى ثناياه النقع، فقال: أوضعت السلاح؟ والله ما وضعته الملائكة، اخرج إلى بني قريظة. فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وأذن بالرحيل، ثم مر على بني عمرو فقال: "من مر بكم"؟. قالوا: دحية. وكان دحية يشبه لحيته ووجهه جبريل فأتاهم فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة، ثم نزلوا على حكم سعد، وذكر الحديث بطوله في مسند أحمد.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: قدَّم رسول الله عليا معه رايته وابتدر الناس.
وقال موسى بن عقبة: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثر جبريل، فمر على مجلس بني غنم وهم ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألهم: "مر عليكم فارس آنفا"؟. فقالوا: مر علينا دحية على فرس أبيض تحته نمط أو قطيفة من ديباج عليه اللأمة. قال: "ذاك جبريل". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشبه دحية بجبريل قال: ولما رأى علي بن أبي طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا تلقاه وقال: ارجع يا رسول الله، فإن الله كافيك اليهود وكان علي سمع منهم قولا سيئا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه. فكره عليٌّ أن يسمع ذلك, فقال: لم تأمرني بالرجوع؟ فكتمه ما سمع منهم. قال: "أظنك سمعت لي منهم أذى؟ فامض فإن أعداء الله لو قد رأوني لم يقولوا شيئا مما سمعت".
فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصنهم، وكانوا في أعلاه، نادى بأعلى صوته نفرا من أشرافها حتى أسمعهم فقال: "أجيبونا يا معشر يهود يا(سيرة 1/508)
إخوة القردة، لقد نزل بكم خزي الله". فحاصرهم صلى الله عليه وسلم بكتائب المسلمين بضع عشرة ليلة، ورد الله حيي بن أخطب حتى دخل حصنهم، وقذف الله في قلوبهم الرعب، واشتد عليهم الحصار، صرخوا بأبي لبابة بن عبد المنذر وكانوا حلفاء الأنصار فقال: لا آتيهم حتى يأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: "قد أذنت لك فأتاهم". فبكوا إليه وقالوا: يا أبا لبابة ماذا ترى فأشار بيده إلى حلقه يريهم أن ما يراد بكم القتل, فلما انصرف سُقط في يده ورأى أنه قد أصابته فتنة عظيمة, فقال: والله لا أنظر في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحدث لله توبة نصوحا يعلمها الله من نفسي فرجع إلى المدينة فربط يديه إلى جذع من جذوع المسجد فزعموا أنه ارتبط قريبا من عشرين ليلة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ذُكِرَ، حين راث عليه أبو لبابة: "أما فرغ أبو لبابة من
حلفائه"؟. قالوا: يا رسول الله! قد والله انصرف من عند الحصن وما ندري أين سلك؟ فقال:
"قد حدث له أمر". فأقبل رجل فقال: يا رسول الله! رأيت أبا لبابة ارتبط بحبل إلى جذع من جذوع المسجد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أصابته بعدي فتنة". ولو جاءني لاستغفرت له, فإذ فعل هذا فلن أحركه من مكانه حتى يقضي الله فيه ما شاء".
وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، فذكر نحو ما قص موسى بن عقبة، وعنده: فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته وأذن بالخروج، وأمرهم أن يأخذوا السلاح ففزع الناس للحرب وبعث عليا على المقدمة ودفع إليه اللواء ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على آثارهم.
ولم يقل بضع عشرة ليلة.(سيرة 1/509)
وقال يونس بن بكير والبكائي -واللفظ له- عن ابن إسحاق قال: حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة، حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب وكان حيي بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان، وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه، فلما أيقنوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال كعب بن أسد: يا معشر يهود، قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا أيها شئتم قالوا: وما هي؟ قال: نبايع هذا الرجل ونصدقه، فوالله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل, وأنه للذي تجدونه في كتابكم فتأمنون على دمائكم وأموالكم. قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره. قال: فإذ أبيتم عليَّ هذه، فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه مصلتين السيوف لم نترك وراءنا ثقلا، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه، وإن نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء. قالوا: نقتل هؤلاء المساكين فما خير العيش بعدهم؟ قال: فإن أبيتم هذه فإن الليلة ليلة السبت وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة. قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا، إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ؟ قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما.
رواه يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، لكنه قال عن أبيه، عن معبد بن كعب بن مالك، فذكره وزاد فيه: ثم بعثوا يطلبون أبا لبابة، وذكر ربطه نفسه.(سيرة 1/510)
وزعم سعيد بن المسيب: أن ارتباطه بسارية التوبة كان بعد تخلفه عن غزوة تبوك حين أعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عليه عاتب، بما فعل يوم قريظة، ثم تخلف عن غزوة تبوك فيمن تخلف. والله أعلم.
وفي رواية علي بن أبي طلحة، وعطية العوفي، عن ابن عباس في ارتباطه حين تخلف عن تبوك ما يؤكد قول ابن المسيب وقيل: نزلت هذه الآية في أبي لبابة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [الأنفال: 27] .
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: حدثني يزيد بن عبد الله بن قسيط، أن توبة أبي لبابة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة، قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر وهو يضحك، فقلت: مم تضحك؟ قال: "تيب على أبي لبابة". قلت: أفلا أبشره؟ قال: "إن شئتِ". قال: فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن يضرب عليهم الحجاب، فقالت: يا أبا لبابة! أبشر فقد تاب الله عليك. قالت: فثار إليه الناس ليطلقوه. فقال: لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده. فلما مر عليه خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه.
قال عبد الملك بن هشام: أقام أبو لبابة مرتبطا بالجذع ست ليال؛ تأته امرأته في وقت كل صلاة تحله للصلاة، ثم يعود فيرتبط بالجذع، فيما حدثني بعض أهل العلم الآية التي نزلت في توبته: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102] .
قال ابن إسحاق: ثم إن ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد، وهم نفر من هدل، أسلموا تلك الليلة التي نزل فيها بنو قريظة(سيرة 1/511)
على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
شعبة: أخبرني سعد بن إبراهيم قال: أبا أمامة بن سهل يحدث عن أبي سعيد قال: نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه على حمار فلما دنا قريبا من المجد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوموا إلى سيدكم -أو- إلى خيركم". فقال: "إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك". فقال: تقتل مقاتلتهم وتسبى ذريتهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت عليهم بحكم الله". وربما قال: "بحكم الملك". متفق عليه.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال: قاموا إليه فقالوا: يا أبا عمرو! قد ولاك رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مواليك لتحكم فيهم. فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه؟ قالوا:
نعم. قال: وعلى من ههنا من الناحية التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم". فقال سعد: أحكم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري.
شعبة وغيره: عن عبد الملك بن عمير، عن عطية القرظي، قال: كنت في سبي قريظة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن أنبت أن يقتل، فكنت فيمن لم ينبت.
موسى بن عقبة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سألوه أن يحكم فيهم رجلا: "اختاروا من شئتم من أصحابي"؟. فاختاروا سعد بن معاذ، فرضي بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلوا على حكمه. فأمر -عليه السلام- بسلاحهم فجعل في قبته، وأمر بهم فكتفوا وأوثقوا وجعلوا في دار أسامة وبعث(سيرة 1/512)
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد، فأقبل على حمار أعرابي يزعمون أن وطاءه برذعة من ليف، واتبعه رجل من بني عبد الأشهل، فجعل يمشي معه ويعظم حق بني قريظة ويذكر حلفهم والذي أبلوه يوم بعاث، ويقول: اختاروك على من سواك رجاء رحمتك وتحننك عليهم, فاستبقهم فإنهم لك جمال وعدد فأكثر ذلك الرجل، وسعد لا يرجع إليه شيئا، حتى دنوا، فقال الرجل: ألا ترجع إليَّ فيما أكلمك فيه؟ فقال سعد: قد آن لي أن لا تأخذني في الله لومة لائم. ففارقه الرجل، فأتى قومه فقالوا: ما وراءك؟ فأخبرهم أنه غير مستبقيهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل مقاتلتهم، وكانوا فيما زعموا ستمائة مقاتل قتلوا عند دار أبي جهم بالبلاط، فزعموا أن دماءهم بلغت أحجار الزيت التي كانت بالسوق، وسبى نساءهم وذراريهم، وقسم أموالهم بين من حضر من المسلمين. وكانت خيل المسلمين ستة وثلاثين فرسا. وأخرج حيي بن أخطب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل أخزاك الله"؟. قال له: لقد ظهرت عليَّ وما ألوم إلا نفسي في جهادك والشدة عليك. فأمر به فضربت عنقه كل ذلك بعين سعد.
وكان عمرو بن سعدى اليهودي في الأسرى، فلما قدموه ليقتلوه فقدوه, فقيل: أين عمرو؟ قالوا: والله ما نراه، وإن هذه لرمته التي كان فيها، فما ندري كيف انفلت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلتنا بما علم الله في نفسه". وأقبل ثابت بن قيس بن شماس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هب لي الزبير. يعني ابن باطا وامرأته فوهبهما له، فرجع ثابت إلى الزبير، فقال: يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني -وكان الزبير يومئذ أعمى كبيرا- قال: هل ينكر الرجل أخاه؟ قال ثابت: أردت أن أجزيك اليوم بيدك، قال: افعل فإن الكريم يجزى الكريم. فأطلقه فقال: ليس لي(سيرة 1/513)
قائد، وقد أخذتم امرأتي وبني، فرجع ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله
ذرية الزبير وامرأته، فوهبهم له، فرجع إليه فقال: قد رد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأتك وبنيك قال الزبير: فحائط لي فيه أعذق ليس لي ولأهلي عيش إلا به. فوهبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ثابت: أسلم. قال: ما فعل المجلسان؟ فذكر رجالا من قومه بأسمائهم, فقال ثابت: قد قتلوا وفرغ منهم، ولعل الله أن يهديك. فقال الزبير: أسألك بالله وبيدي عندك إلا ما ألحقتني بهم، فما في العيش خير بعدهم. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بالزبير فقتل.
وقال الله تعالى في بني قريظة في سياق أمر الأحزاب: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ} يعني: الذين ظاهروا قريشا: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} [الأحزاب: 26] .
وقال عروة في قوله: {وَأَرْضًا لَمْ تَطَأُوهَا} [الأحزاب: 27] ، هي خيبر.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن علقمة بن وقاص الليثي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة".
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار بنت الحارث النجارية، وخرج إلى سوق المدينة، فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق وفيهم حيي بن أخطب وكعب بن أسد رأس القوم وهم ستمائة أو سبعمائة،(سيرة 1/514)
والمكثر يقول: كانوا بين الثمان والتسعمائة. وقد قالوا لكعب وهو يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا: يا كعب ما تراه يصنع بنا؟ قال: أفي كل موطن لا تعقلون أما ترون الداعي لا ينزع وأنه من ذهب منكم لا يرجع؟ هو والله القتل وأتي بحيي بن أخطب وعليه حلة فقاحية قد شقها من كل ناحية قدر أنملة لئلا يسلبها، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل الله يخذل. ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله. كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل. ثم جلس فضربت عنقه.
وقال ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عمه عروة، عن عائشة، قالت: لم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة، قالت: إنها والله لعندي تحدث معي وتضحك ظهرا وبطنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالهم بالسوق إذ هتف هاتف: يا بنت فلانة! قالت: أنا والله. قلت: ويلك ما لك؟ قالت: أقتل. قلت: ولم؟ قالت: حدث أحدثته فانطلق بها فضربت عنقها.
قال عكرمة وغيره: صياصيهم: حصونهم.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد، أخا بني عبد الأشهل بسبايا بني قريظة إلى نجد، فابتاع له بهم خيلا وسلاحا. وكان صلى الله عليه وسلم قد اصطفى لنفسه ريحانة بنت عمرو بن خنافة، وكانت عنده حتى توفي وهي في ملكه، وعرض عليها أن يتزوجها، ويضرب عليها الحجاب، فقالت: يا رسول الله بل تتركني في مالك فهو(سيرة 1/515)
أخف عليك وعليَّ. فتركها وقد كانت أولا توقفت عن الإسلام ثم أسلمت، فسر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، والله أعلم.
وفي ذي الحجة: وفاة سعد بن معاذ من سنة خمس
هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: أصيب سعد يوم الخندق، رماه رجل من قريش يقال له: حبان بن العرقة، رماه في الأكحل، فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب, فلما رجع من الخندق؛ وذكر الحديث، وفيه قالت عائشة: ثم إن كلمه تحجر للبرء فقال: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إليَّ أن أجاهد فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها واجعل موتي فيها. قال: فانفجر من لبته، فلم يرعهم -ومعهم في المسجد أهل خيمة من بني غفار- إلا والدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة، هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد جرحه يغذو فمات منها. متفق عليه.
وقال الليث: حدثني أبو الزبير، عن جابر، قال: رمي سعد يوم الأحزاب, فقطعوا أكحله، فحسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنار، فانتفخت يده، فتركه, فنزفه الدم فحسمه أخرى. فانتفخت يده، فلما رأى ذلك قال: اللهم لا تخرج نفسي حتى تقر عيني من بني قريظة. فاستمسك عرقه فما(سيرة 1/516)
قطرت منه قطرة، حتى نزلوا على حكم سعد، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم أن تقتل رجالهم وتسبى نساؤهم وذراريهم، قال: وكانوا أربعمائة. فلما فرغ من قتلهم، انفتق عرقه فمات. حديث صحيح.
وقال ابن راهويه: حدثنا عمرو بن محمد القرشي، قال: حدثنا عبد الله بن إدريس، عن
عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الذي تحرك له العرش -يعني سعد بن معاذ- وشيع جناته سبعون ألف ملك، لقد ضم ضمة ثم فرج عنه".
وقال سليمان التيمي، عن الحسن: اهتز عرش الرحمن فرحا بروحه.
وقال يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن معاذ بن رفاعة، عن جابر، قال: جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من هذا العبد الصالح الذي مات؛ فتحت له أبواب السماء وتحرك له العرش؟ قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا سعد بن معاذ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبره وهو يدفن، فبينما هو جالس قال: "سبحان الله". مرتين, فسبح القوم. ثم قال: "الله أكبر الله أكبر". فكبر القوم فقال: "عجبت لهذا العبد الصالح شدد عليه في قبره حتى كان هذا حين فرج له".
روى بعضه محمد بن إسحاق، عن معاذ بن رفاعة، قال: أخبرني(سيرة 1/517)
محمود بن عبد الرحمن بن عمرو بن الجموح، عن جابر.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني معاذ بن رفاعة الزرقي، قال: أخبرني من شئت من رجال قومي أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم في جوف الليل معتجرا بعمامة من إستبرق، فقال: يا محمد من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واهتز له العرش؟ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر ثوبه مبادرا إلى سعد بن معاذ فوجده قد قبض.
وقال البكائي عن ابن إسحاق: حدثني من لا أتهم عن الحسن البصري قال: كان سعد رجلا بادنا فلما حمله الناس وجدوا له خفة فقال رجال من المنافقين: والله إن كان لبادنا وما حملنا من جنازة أخف منه, فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن له حملة غيركم، والذي نفسي بيده لقد استبشرت الملائكة بروح سعد واهتز له العرش".
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني أمية بن عبد الله أنه سأل بعض أهل سعد: ما بلغكم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا؟ فقالوا: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فقال: "كان يقصر في بعض الطهور من البول".
وقال يزيد بن هارون: أخبرنا محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبيه، عن جده، عن عائشة، قالت: خرجت يوم الخندق أقفوا آثار الناس، فسمعت وئيد الأرض، تعني حس الأرض، ورائي, فالتفت فإذا أنا بسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنه. فجلست،(سيرة 1/518)
فمر سعد وهو يقول:
لبث قليلا يدرك الهيجا حمل ... ما أحسن الموت إذا حان الأجل
قالت: وعليه درع قد خرجت منها أطرافه، فتخوفت على أطرافه، وكان من أطول الناس وأعظمهم. قالت: فاقتحمت حديقة، فإذا فيها نفر فيهم عمر، وفيهم رجل عليه مغفر فقال لي عمر: ما جاء بك؟ والله إنك لجريئة، وما يؤمنك أن يكون تحوزا وبلاء. فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت ساعتئذ, فدخلت فيها. قالت: فرفع الرجل المغفر عن وجهه، فإذا طلحة بن عبيد الله, فقال: ويحكَ، قد أكثرت وأين التحوز والفرار إلا إلى الله؟ قالت: ويرمي سعدا رجل من قريش، يقال له: ابن العرقة بسهم، قال: خذها، وأنا ابن العرقه، فأصاب أكحله. فدعا الله سعد فقال: اللهم لا تمتني حتى تشفيني من قريظة. وكانوا مواليه وحلفاءه في الجاهلية فرقأ كلمه وبعث الله الريح على المشركين. وساق الحديث بطوله, وفيه قالت: فانفجر كلمه وقد كان برئ حتى ما يرى منه إلا مثل الخرص. ورجع إلى قبته. قالت: وحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر فإني لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر، وأنا في حجرتي، وكانوا كما قال الله تعالى: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] ، قال: فقلت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع؟ قالت: كانت عيناه لا تدمع على أحد ولكنه إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته.
وقال حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد, عن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، أن بني قريظة نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى سعد بن معاذ فأتى به محمولا على حمار وهو مضني من جرحه، فقال له: "أشر عليَّ في هؤلاء". فقال: إني أعلم أن الله قد أمرك(سيرة 1/519)
فيهم بأمر أنت فاعله. قال: "أجل، ولكن أشر عليَّ فيهم". فقال: لو وليت أمرهم قتلت مقاتلتهم وسبيت ذراريهم وقسمت أموالهم. فقال: "والذي نفسي بيده لقد أشرت عليَّ فيهم بالذي أمرني الله به".
وقال محمد بن سعد: أخبرنا خالد بن مخلد، قال: حدثني محمد بن صالح التمار، عن سعد بن إبراهيم، سمع عامر بن سعد، عن أبيه، قال: لما حكم سعد بن معاذ في قريظة أن
يقتل من جرت عليه الموسى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد حكم فيهم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سماوات".
وقال ابن سعد: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن رجل من الأنصار قال: لما قضى سعد في قريظة ثم رجع انفجر جرحه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه فأخذ رأسه فوضعه في حجره، وسجي بثوب أبيض إذا مد على وجهه بدت رجلاه، وكان رجلا أبيض جسيما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إن سعدا قد جاهد في سبيلك وصدق رسولك وقضى الذي عليه، فتقبل روحه بخير ما تقبلت روح رجل". فلما سمع سعد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح عينيه، فقال: السلام عليك يا رسول الله! أشهد أنك رسول الله. قال: وأمه تبكي وتقول:
ويل أم سعد سعدا ... حزامة وجدا
فقيل لها: أتقولين الشعر على سعد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوها فغيرها من الشعراء أكذب".
وقال عبد الرحمن بن الغسيل، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، قال: لما أصيب أكحل سعد حولوه عند امرأة يقال لها:(سيرة 1/520)
رفيدة، وكانت تداوي الجرحي، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر به يقول: "كيف أمسيت"؟. وإذا أصبح قال: "كيف أصبحت"؟. فيخبره، فذكر القصة. وقال: فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم المشي إلى سعد, فشكا ذلك إليه أصحابه, فقال: "إني أخاف أن تسبقنا إليه الملائكة فتغسله كما غسلت حنظلة". فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيت وهو يغسل، وأمه تبكيه وتقول:
ويل أم سعد سعدا ... حزامة وجدا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل نائحة تكذب إلا أم سعد". ثم خرج به فقالوا: ما حملنا ميتا أخف منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يمنعكم أن يخف عليكم وقد هبط من الملائكة كذا وكذا لم يهبطوا قط، قد حملوه معكم".
وقال شعبة: أخبرني سماك بن حرب، قال: سمعت عبد الله بن شداد يقول: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على سعد بن معاذ وهو يكيد بنفسه فقال: "جزاك الله خيرا من سيد قوم، فقد أنجزت الله ما وعدته ولينجزنك الله ما وعدك".
وقال ابن نمير: حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، قال: بلغني أنه شهد سعدا سبعون ألف ملك لم ينزلوا إلى الأرض.
رواه غيره: عن عبيد الله، عن نافع، فقال: عن ابن عمر.
وقال شبابة: أخبرنا أبو معشر، عن المقبري، قال: لما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم سعدا قال: "لو نجا أحد من ضغطة القبر لنجا سعد ولقد ضم ضمة اختلفت منها أضلاعه من أثر البول".
وقال يزيد بن هارون: أخبرنا محمد بن عمرو، عن محمد بن(سيرة 1/521)
المنكدر، عن محمد بن شرحبيل، أن رجلا أخذ قبضة من تراب قبر سعد يوم دفن، فتحها بعد فإذا هي مسك.
وقال محمد بن موسى الفطري: أخبرنا معاذ بن رفاعة الزرقي، قال: دفن سعد بن معاذ إلى أس دار عقيل بن أبي طالب.
قال محمد بن عمرو بن علقمة: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استيقظ فجاءه جبريل، أو قال: ملك. فقال: من رجل من أمتك مات الليلة استبشر بموته أهل السماء؟ قال: "لا أعلمه إلا أن سعد بن معاذ أمسى قريبا، ما فعل سعد"؟. قالوا: يا رسول الله قبض وجاء قومه فاحتملوه إلى دارهم. فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس الصبح, ثم خرج وخرج الناس مشيا حتى إن شسوع نعالهم تقطع من أرجلهم وإن أرديتم لتسقط من عوائقهم، فقال قائل: يا رسول الله قد بتتَّ الناس مشيا، قال: "أخشى أن تسبقنا إليه الملائكة كما سبقتنا إلى حنظلة".
شعبة: حدثنا سعد بن إبراهيم، عن نافع، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن للقبر ضغطة، ولو كان أحد ناجيا منها نجا منها سعد بن معاذ".
شعبة: حدثني أبو إسحاق، عن عمرو بن شرحبيل، قال: لما انفجر جرح سعد بن معاذ التزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت الدماء تسيل على النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو بكر فقال: واكسر ظهرناه. فقال: "مه يا أبا بكر". ثم جاء(سيرة 1/522)
عمر فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
روى عقبة بن مكرم: حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة, عن سعد بن إبراهيم عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، عن عائشة مرفوعا: "لو نجا أحد من ضمة القبر لنجا منها سعد". وقد تقدم هذا, وما فيه صفية.
وليس هذا الضغط من عذاب القبر في شيء، بل هو من روعات المؤمن كنزع روحه، وكألمه من بكاء حميمه عليه، وكروعته من هجوم ملكي الامتحان عليه، وكروعته يوم الموقف وساعة ورود جهنم، ونحو ذلك نسأل الله أن يؤمن روعاتنا.
وقال يزيد بن هارون: أخبرنا حمد بن عمرو، عن أبيه، عن جده، عن عائشة، قالت: ما كان أحد أشد فقدا على المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أو أحدهما من سعد بن معاذ.
وقال الواقدي: أخبرنا عتبة بن جَبيرة، عن الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، قال: كان سعد بن معاذ أبيض طوالا، جميلا، حسن الوجه، أعين, حسن اللحية.
فرمي يوم الخندق سنة خمس فمات منها، وهو ابن سبع وثلاثين سنة. ودفن بالبقيع.
وقال أبو معاوية عن الأعمش، عن أبي سفيان عن جابر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اهتز عرش الله لموت سعد بن معاذ".
وقال عوف، عن أبي نضرة, عن أبي سعيد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اهتز العرش لموت سعد بن معاذ".
وقال يزيد بن هارون: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن إسحاق بن راشد، عن امرأة من الأنصار يقال لها: أسماء بنت يزيد بن السكن،(سيرة 1/523)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأم سعد بن معاذ: "ألا يرقأ دمعك ويذهب حزنك بأن ابنك أول من ضحك الله له واهتز له العرش"؟.
وقال يوسف بن الماجشون عن أبيه، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن جدته رميثة أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم -ولو أشاء أن أقبل الخاتم الذي بين كتفيه من قربي منه لفعلت- يقول لسعد بن معاذ يوم مات: "اهتز له عرش الرحمن".
وقال محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: اهتز العرش لحب لقاء الله سعدا قال: إنما يعني السرير قال: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} [يوسف: 100] ، قال: تفسخت أعواده. قال: ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبره فاحتبس، فلما خرج قيل له: يا رسول الله! ما حبسك؟ قال: "ضم سعد في القبر ضمة فدعوت الله يكشف عنه".
وقال الثوري وغيره، عن أبي إسحاق، عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بثوب حرير، فجعل أصحابه يتعجبون من لينه فقال: "إن مناديل سعد بن معاذ في الجنة ألين من هذا". متفق على صحته.
وقال يزيد بن هارون: أخبرنا محمد بن عمرو، عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ، قال: دخلت على أنس بن مالك؛ وكان واقد من أعظم الناس وأطولهم؛ فقال لي: من أنت؟
قلت: أنا واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ. فقال: إنك بسعد لشبيه, ثم بكى فأكثر البكاء. ثم قال: يرحم الله سعدا، كان من أعظم الناس وأطولهم. ثم قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا إلى أكيدر دومة، فبعث إلى رسول الله بجبة من ديباج(سيرة 1/524)
منسوج فيها الذهب، فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل الناس يمسحونها وينظرون إليها, فقال: "أتعجبون من هذه الجبة"؟. قالوا: يا رسول الله ما رأينا ثوبا قط أحسن منه. قال: "فوالله لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن مما ترون".
قلت: هو سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو، ولقبه النبيت، ابن مالك بن الأوس؛ أخي الخزرج وهما ابنا حارثة بن عمرو؛ ويدعى حارثة العنقاء؛ وإليه جماع الأوس والخزرج أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويكنى سعد أبا عمرو، وأمه كبشة بنت رافع الأنصاري، من المبايعات أسلم هو وأسيد بن الحضير على يد مصعب بن عمير، وكان مصعب قدم المدينة قبل العقبة الآخرة يدعو إلى الإسلام ويقرئ القرآن. فلما أسلم سعد لم يبق من بني عبد الأشهل -عشيرة سعد- أحد إلا أسلم يومئذ ثم كان مصعب في دار سعد هو وأسعد بن زرارة، يدعوان إلى الله. وكان سعد وأسعد ابني خالة. وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سعد بن معاذ وأبي عبيدة بن الجراح. قاله ابن إسحاق.
وقال الواقدي، عن عبد الله بن جعفر، عن سعد بن إبراهيم، وغيره: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن أبي وقاص.
شهد سعد بدرا، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حين ولى الناس.
وقال أبو نعيم: حدثنا إسماعيل بن مسلم العبدي: حدثنا أبو المتوكل، أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الحمى، فقال: من كانت به فهي حظه من النار فسألها سعد بن معاذ ربه، فلزمته فلم تفارقه حتى فارق الدنيا.(سيرة 1/525)
وكان لسعد من الولد: عمرو، وعبد الله، وأمهما: عمة أسيد بن الحضير هند بنت سماك من بني عبد الأشهل، صحابية. وكان تزوجها أوس بن معاذ أخو سعد -وقتل عبد الله بن عمرو بن سعد- يوم الحرة.
وكان لعمرو من الولد: واقد بن عمرو، وجماعة قيل إنهم تسعة.
وقتل عمرو أخو سعد بن معاذ يوم أحد، وقتل ابن أخيهما الحارث بن أوس يومئذ شابا،
وقد شهدوا بدرا، والحارث أصابه السيف ليلة قتلوا كعب بن الأشرف، واحتمله أصحابه.
وشهد بعد ذلك أحدا.
روى عن سعد بن معاذ: عبد الله بن مسعود قصته بمكة مع أمية بن خلف، وذلك في صحيح البخاري.
وحصن بني قريظة على أميال من المدينة، حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة.
واستشهد من المسلمين: خلاد بن سويد الأنصاري الخزرجي، طرحت عليه رحى، فشدخته.
ومات في مدة الحصار أبو سنان بن محصن، بدري مهاجري، وهو أخو عكاشة بن محصن الأسدي. شهد هو وابنه سنان بدرا. ودفن بمقبرة بني قريظة التي يتدافن بها من نزل دورهم من المسلمين، وعاش أربعين سنة، ومنهم من قال: بقي إلى أن بايع تحت الشجرة.(سيرة 1/526)
إسلام ابني سعية وأسد بن عبيد:
قال يونس بن بكير، وجرير بن حازم، عن ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن شيخ من بني قريظة، أنه قال: هل تدري عم كان إسلام ثعلبة وأسد ابني سعية، وأسد بن عبيد، نفر من هدل، لم يكونوا من بني قريظة ولا نضير، كانوا فوق ذلك؟ قلت: لا. قال: إنه قدم علينا رجل من الشام يهودي، يقال له: ابن الهيبان، ما رأينا خيرا منه. فكنا نقول إذا احتبس المطر: استسق لنا. فيقول: لا والله، حتى تخرجوا صدقة صاعا من تمر أو مدا من شعير. فنفعل فيخرج بنا إلى ظاهر حرتنا فوالله ما يبرح مجلسه حتى تمر بنا الشعاب تسيل. قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين فلما حضرته الوفاة، قال: يا معشر يهود! ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قلنا: أنت أعلم. قال: أخرجني نبي أتوقعه يبعث الآن فهذه البلدة مهاجره، وإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذرية، فلا يمنعنكم ذلك منه ولا تسبقن إليه. ثم مات.
زاد يونس بن بكير في حديثه: فلما كانت الليلة التي افتتحت فيها قريظة, قال أولئك الثلاثة، وكانوا شبابا أحداثا: يا معشر يهود! هذا الذي كان ذكر لكم ابن الهيبان. قالوا: ما هو؟ فقالوا: بلى والله إنه لهو بصفته. ثم نزلوا فأسلموا وخلوا أموالهم وأهلهم، وكانت في الحصن، فلما فتح رد ذلك عليهم.(سيرة 1/527)
بسم الله الرحمن الرحيم
سنة ست من الهجرة:
قال البكائي، عن ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة ذا الحجة والمحرم وصفرًا وشهري ربيع، وخرج في جمادى الأولى إلى بني لحيان يطلب بأصحاب الرجيع: خبيب بن عدي وأصحابه، وأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرة، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال، فقال: لو أنا هبطنا عسفان لرأى أهل مكة أنا قد جئنا مكة. فهبط في مائتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان. ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع الغميم، ثم كرّا. وراح قافلًا.
غزوة ذي قرد:
ثم قدم المدينة فأقام بها ليالي، فأغار عُيينة بن حصن في خيل من غطفان على لقاح النبي -صلى الله عليه وسلم- بالغابة، وفيها رجل من بني غفار وامرأة، فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة في اللقاح.
وكان أول من نذرَ بهم سلمة بن الأكوع، غدا يريد الغابة ومعه غلام لطلحة بن عبيد الله معه فرسه، حتى إذا علا ثنية الوداع نظر إلى(سيرة 2/5)
بعض خيولهم فأشرف في ناحية من سَلع، ثم صرخ: واصباحاه، ثم خرج يشتد في آثار القوم، وكان مثل السَّبُع، حتى لحق بالقوم. وجعل يردهم بنبله، فإذا وجهت الخيل نحوه هرب ثم عارضهم فإذا أمكنه الرمي رمى. وبلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك فصرخ بالمدينة: "الفزع الفزع". فترامت الخيول إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: المقداد، وعباد بن بشر، وأسيد بن ظهير، وعكاشة بن محصن وغيرهم. فأمَّر عليهم سعد بن زيد، ثم قال: اخرج في طلب القوم حتى ألحقك بالناس، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما بلغني -لأبي عياش: "لو أعطيت فرسك رجلًا أفرس منك"؟ فقلت: يا رسول الله أنا أفرس الناس. وضربت الفرس فوالله ما مشى بي إلا خمسين ذراعًا حتى طرحني فعجبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو أعطيته أفرس منك وجوابي له".
ولم يكن سلمة بن الأكوع يومئذ فارسًا، وكان أول من لحق القوم على رجليه. وتلاحق الفرسان في طلب القوم، فأول من أدركهم محرز بن نضلة الأسدي، فأدركهم ووقف لهم بين أيديهم ثم قال: قفوا يا معشر بني اللكيعة حتى يلحق بكم من وراءكم من المسلمين. فحمل عليه رجل منهم فقتله، ولم يُقْتَل من المسلمين سواه.
قال عبد الملك بن هشام: وقتل يومئذ من المسلمين وقاص بن مجزز المدلجي.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: حدثني من لا أتهم عن عبد الله بن كعب بن مالك، أن مجززًا إنما كان على فرس عكاشة يقال له:(سيرة 2/6)
الجناح، فقتل مجزز واستلب الجناح. ولما تلاحقت الخيل قتل أبو قتادة بن ربعي. حبيب بن عيينة بن حصن، وغشاه ببرده، ثم لحق بالناس. وأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمسلمين، فاسترجعوا وقالوا: قُتِلَ أبو قتادة. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس بأبي قتادة ولكنه قتيل لأبي قتادة وضع عليه برده لتعرفوا أنه صاحبه".
وأدرك عُكاشة بن محصن أوبارًا وابنه عمرو بن أوبار، كلاهما على بعير، فانتظمهما بالرمح فقتلهما جميعًا، واستنقذوا بعض اللقاح.
وسار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى نزل بالجبل من ذي قَرَد، وتلاحق الناس، فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- به، وأقام عليه يومًا وليلة. وقال سلمة: يا رسول الله لو سرحتني في مائة رجل لاستنقذت بقية السرح، وأخذت بأعناق القوم. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فيما بلغني: إنهم الآن ليغبقون في غطفان. فقسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه، في كل مائة رجل، جزورًا. وأقاموا عليها ثم رجعوا إلى المدينة.
قال: وانفلتت امرأة الغفارى على ناقة من إبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى قدمت عليه، وقالت: إني نذرت لله أن أنحرها إن نجاني الله عليها. قال: فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "بئس ما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها، إنه لا نذر فيما لا يملك ابن آدم إنما هي ناقة من إبلي، ارجعي على بركة الله".
قلت: هذه الغزوة تسمى غزوة الغابة، وتسمى غزوة ذي قرد. وذكر ابن إسحاق وغيره: أنها كانت في سنة ست. وأخرج(سيرة 2/7)
مسلم أنها كانت زمن الحديبية.
قال أبو النضر هاشم بن القاسم: حدثنا عكرمة بن عمّار، قال: حدثنى إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، قال: قدمنا المدينة زمن الحديبية مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخرجت أنا ورباح -غلام النبي- بظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وخرجت بفرس لطلحة بن عبيد الله كنت أريد أن أنديه
مع الإبل. فلما كان بغلس، أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقتل راعيها وخرج يطردها هو وأناس معه في خيل. فقلت: يا رباح اقعد على هذا الفرس فألحقه بطلحة وأخبر رسول الله الخبر. وقمت على تل فجعلت وجهي من قبل المدينة ثم ناديت ثلاث مرات: يا صباحاه. ثم اتبعت القوم معي سيفي ونبلي، فجعلت أرميهم وأعقر بهم وذلك حين يكثر الشجر، فإذا رجع إليَّ فارس جلست له في أصل شجرة ثم رميت، فلا يقبل عليَّ فارس إلا عقرت به. فجعلت أرميهم وأقول:
أنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع
فألحق برجل منهم فأرميه وهو على راحلة رحله، فيقع سهمي في الرحل حتى انتظمت كتفه، فقلت: خذها وأنا ابن الأكوع.
وكنت إذا تضايقت الثنايا علوتُ الجبل فردأتهم بالحجارة، فما زال ذلك شأني وشأنهم أتبعهم فأرتجز، حتى ما خلق الله شيئًا من سرح النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا خلفته ورائي واستنقذته من أيديهم. ثم لم أزل أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين رمحًا وأكثر من ثلاثين بردة يستخفون منها، ولا يلقون من ذلك شيئًا إلا جعلت عليه حجارة وجمعته على طريق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا مُدّ الضُّحَاء أتاهم عيينة بن بدر الفزاري مددًا لهم، وهم في(سيرة 2/8)
ثنية ضيقة. ثم علوت الجبل، فقال عيينة: ما هذا الذي أرى؟ قالوا: لقينا من هذا البَرْح، ما فارقنا بسحر حتى الآن، وأخذ كل شيء كان في أيدينا وجعله وراء ظهره. فقال عيينة: لولا أن هذا يرى أن وراءه مددًا لقد ترككم، ليقم إليه نفر منكم. فقام إليَّ أربعة فصعدوا في الجبل. فلما أسمعتهم الصوت قلت: أتعرفوني؟ قالوا: ومن أنت؟ قلت: أنا ابن الأكوع، والذي كَّرم وجه محمد -صلى الله عليه وسلم- لا يطلبني رجل منكم فيدركني ولا أطلبه فيفوتني.
قال رجل منهم: إني أظن؛ يعني كما قال. فما برحت مقعدي ذلك حتى نظرت إلى فوارس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتخللون الشجر، وإذا أولهم الأخرم الأسدي وعلى إثره أبو قتادة، وعلى إثره المقداد، فولى المشركون. فأنزل من الجبل فأعترض الأخرم فآخذ عنان فرسه، فقلت: يا أخرم انذر القوم يعني احذرهم فإني لا آمن أن يقطعوك، فاتئد حتى يلحق النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه. فقال: إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فلا تحل بيني وبين الشهادة، قال: فخليت عنان فرسه فيلحق بعبد الرحمن بن عيينة، وطعنه عبد الرحمن فقتله. وتحول عبد الرحمن على فرس الأخرم فيلحق أبو قتادة به، فاختلفا طعنتين، فعقر بأبي قتادة، وقتله أبو قتادة، وتحول على فرس الأخرم. ثم إني خرجت أعدو في أثر القوم حتى ما أرى من غبار أصحابي
شيئًا ويعرضون قبل المغيب إلى شعب فيه ماء يقال له: ذو قرد، فأرادوا أن يشربوا منه، فأبصروني أعدو وراءهم، فعطفوا عنه وأسندوا في الثنية، ثنية ذي تير، وغربت الشمس،(سيرة 2/9)
فألحق رجلًا فأرميه فقلت: خذها وأنا ابن الأكوع. قال: فقال: يا ثكل أمي، أكوعي بُكْرَة؟ قلت: نعم يا عدو نفسه، وكان الذي رميته بُكْرة، فأتْبعتُه سهمًا آخر فعلق به سهمان. ويخلفون فرسين فجبذتهما أسوقهما إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على الماء الذي جليتهم عنه ذو قرد؛ فإذا نبي الله -صلى الله عليه وسلم- في خمس مائة، وإذا بلال قد نحر جزورًا مما خلفت، فهو يشوي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم. فقلت: يا رسول الله خلني فأنتخبُ من أصحابك مائة واحدة فآخذ على الكفار بالعشوة فلا يبقى منهم مخبر. قال: أكنت فاعلًا يا سلمة؟ قلت: نعم، والذي أكرمك. فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى رأيت نواجذه في ضوء النار. ثم قال: إنهم يُقْرَون الآن بأرض غطفان. فجاء رجل من غطفان فقال: مروا على فلان الغطفاني فنحر لهم جزورًا، فلما أخذوا يكشطون جلدها رأوا غبرة، فتركوها وخرجوا هُرَّابًا.
فلما أصبحنا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة". وأعطاني سهم الراجل والفارس جميعًا. ثم أردفني وراءه على العضباء راجعين إلى المدينة.
فلما كان بيننا وبينها قريبًا من ضحوة، وفي القوم رجل من الأنصار كان لا يسبق، فجعل ينادي: هل من مسابق؟ وكرر ذلك. فقلت له: أما تكرم كريمًا ولا تهاب شريفًا؟ قال: لا، إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي خلني فلأسابقه. قال: "إن شئت". قلت: أذهب إليك. فطفر عن راحلته، وثنيت رجلي فطفرت عن الناقة. ثم إني ربطت عليه شرفًا أو شرفين؛ يعني استبقيت نفسي، ثم إني عدوت حتى ألحقه فأصُكّ بين كتفيه بيدي. قلت: سبقتك والله. فضحك وقال:(سيرة 2/10)
إن أظن حتى قدمنا إلى المدينة.
أخرجه مسلم عن شيخ، عن هاشم.
قرأت على أبي الحسن علي بن عبد الغني الحراني بمصر، وعلي أبي الحسن علي بن أحمد
الهاشمي بالإسكندرية، وعلى أبي سعيد سنقر بن عبد الله بحلب، وعلي أحمد بن سليمان المقدس بقاسيون وأخبرنا محمد بن عبد السلام الفقيه، وأبو الغنائم بن محاسن، وعمر بن إبراهيم الأديب، قالوا: أخبرنا أبو الحسن علي بن أبي بكر بن روزبة.
"ح" وقرأت على أبي الحسين اليونيني، ومحمد بن هاشم العباسي، وإسماعيل بن عثمان الفقيه، ومحمد بن حازم، وعلي بن بقاء، وأحمد بن عبد الله بن عزيز، وخلق سواهم: أخبركم أبو عبد الله الحسين بن أبي بكر بن الزبيدي؛ قالا: أخبرنا أبو الوقت السجزي، قال: أخبرنا أبو الحسن الدراوردي، قال: أخبرنا أبو محمد بن حمويه، قال: أخبرنا محمد بن يوسف، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، قال: حدثنا مكي بن إبراهيم، قال: حدثنا يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة أنه أخبره، قال: خرجت من المدينة ذاهبًا نحو الغابة، حتى إذا كنت بثنية الغابة لقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف، قلت: ويحك ما بك؟ قال: أخذت لقاح النبي -صلى الله عليه وسلم. قلت: من أخذها؟ قال: غطفان وفزارة. فصرخت ثلاث صرخات أسمعت ما بين لابتيها: يا صباحاه، يا صباحاه. ثم اندفعت حتى ألقاهم وقد أخذوها، فجعلت أرميهم وأقول:
أنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع
فاستنقذتها منهم قبل أن يشربوا. فأقبلت بها أسوقها، فلقيني النبي(سيرة 2/11)
-صلى الله عليه وسلم-، فقلت: يا رسول الله إن القوم عطاش، وإني أعجلتهم أن يشربوا سقيهم، فابعث في أثرهم. فقال: يا ابن الأكوع ملكت فأسجح، إن القوم يقرون في قومهم.
مقتل أبي رافع:
وهو سلام بن أبي الحقيق؛ وقيل: عبد الله بن أبي الحقيق اليهودي، لعنه الله.
قال البكائي، عن ابن إسحاق: ولما انقضى شأن الخندق وأمر بني قريظة، وكان سلام بن أبي الحقيق أبو رافع فيمن حزب الأحزاب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وكانت الأوس قبل أحد قد قتلت كعب بن الأشرف. فاستأذنت الخزرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قتل ابن أبي الحُقيق وهو كبير، فأذن لهم.
وحدثني الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك، قال: كان مما صنع الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم: أن هذين الحيين من الأنصار كانا يتصاولان مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تصاول الفحلين لا تصنع الأوس شيئًا فيه غناء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا قالت الخزرج: والله لا يذهبون بهذه فضلًا علينا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي الإسلام. فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها. وإذا فعلت الخزرج شيئًا قالت الأوس مثل ذلك.
ولما أصابت الأوس كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قالت الخزرج: والله لا يذهبون بهذه فضلًا علينا. فتذاكروا من رجل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كابن الأشرف، فذكروا ابن أبي الحُقَيق وهو بخيبر.(سيرة 2/12)
فاستأذنوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأذن لهم. فخرج إليه من الخزرج خمسة من بني سلمة: عبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة بن ربعي، وآخر حليف لهم. فأمَّر عليهم ابن عتيك، فخرجوا حتى قدموا خيبر، فأتوا دار ابن أبي الحقيق ليلا، فلم يدعوا بيتًا في الدار إلا أغلقوه على أهله، ثم قاموا على بابه فاستأذنوا، فخرجت إليهم امرأته فقالت: من أنتم؟ قالوا: نلتمس الميرة. قال: ذاكم صاحبكم، فادخلوا عليه.
قال: فلما دخلنا أغلقنا علينا وعليها الحجرة تخوفًا أن تكون دونه مجاولة تحول بينا وبينه. قال: فصاحت امرأته فنوهت بنا، وابتدرناه وهو على فراشه، والله ما يدلنا عليه في سواد البيت إلا بياضه، كأنه قُبطية ملقاة. فلما صاحت علينا جعل الرجل منا يرفع سيفه عليها ثم يذكر نهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قتل النساء، فيكف يده. فلما ضربناها بأسيافنا تحامل عليه عبد الله بن أنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه، وهو يقول: قطني قطني؛ أي: حسبي. قال: وخرجنا، وكان ابن عتيك سيئ البصر فوقع من الدرجة، فَوثئَتْ يدهُ وثأ شديدًا وحملناه حتى نأتي منهرًا من عيونهم فندخل فيه. فأوقدوا النيران واشتدوا في كل وجه يطلبون، حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبهم فاكتنفوه. فقلنا: كيف لنا بأن نعلم أنه هلك؟ فقال رجل منا: أنا أذهب فأنظر لكم. فانطلق حتى دخل في الناس. قال: فوجدتُها وفي يدها المصباح وحوله رجال وهي تنظر في وجهه وتحدثهم وتقول: أما والله لقد سمعت صوت ابن عتيك(سيرة 2/13)
ثم أكذبت نفسي فقلت: أنى ابن عتيك بهذه البلاد؟ ثم أقبلت عليه تنظر في وجهه، ثم قالت: فاض، وإله يهود. فما سمعُت من كلمة كانت ألذ إليَّ منها. قال: ثم جاء فأخبرنا الخبر، فاحتملنا صاحبنا فقدمنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرناه واختلفنا في قتله، فكلنا يدعيه. فقال: هاتوا أسيافكم، فجئنا بها فنظر إليها فقال لسيف عبد الله بن أنيس: هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام والشراب.
وقال زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رهطًا من الأنصار إلى أبي رافع، فدخل عليه عبد الله بن عتيك بيته ليلًا فقتله وهو نائم. أخرجه البخاري.
وقال إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي رافع رجالًا من الأنصار، عليهم عبد الله -يعني ابن عتيك. وكان أبو رافع يؤذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويعين عليه، وكان في حصن له بأرض الحجاز. فلما دنوا وقد غربت الشمس وراح الناس بسَرْحِهم؛ قال: عبد الله لأصحابه: اجلسوا مكانكم فإني منطلق فمتلطف للبواب لعلي أدخل. فأقبل حتى دنا من الباب ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته. وقد دخل الناس، فهتف به البواب: يا عبد الله إن كنت تريد أن تدخل فادخل لأغلق. فدخلت فكمنت، فأغلق الباب وعلق الأقاليد على ود، فقمت ففتحت الباب.
وكان أبو رافع يسمر عنده وكان في علالي. فلما أن ذهب عنه(سيرة 2/14)
أهل سمره صعدت إليه، وجعلت كلما فتحت بابًا أغلقته عليَّ من داخل، وقلت: إن القوم نذروا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله. فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، لا أدري أين هو من البيت. قلت: يا أبا رافع، قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف، وأنا دهش، فما أغنى شيئًا، فصاح، فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه فقلت: ما هذا الضرب أبا رافع؟ قال: لأمك الويل، إن رجلًا في البيت ضربني قبل بالسيف. قال: فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت صدر السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعلمت أني قد قتلته، فجعلت أفتح الأبواب بابًا فبابًا حتى انتهيت إلى درجة، فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامتي، ثم انطلقت حتى جلست عند الباب. فقلت: لا أبرح الليلة حتى أعلم أقتلته أم لا. فلما صاح الديك قام الناعي على السور فقال: أنعي أبا رافع. فانطلقت إلى أصحابي، فقلت: النجاء النجاء، فقد قتل الله أبا رافع، فانتهينا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وحدثناه فقال: "ابسط رجلك"، فبسطتها، فمسحها، فكأنما لم أشكها قط. أخرجه البخاري.
وأخرجه أيضًا من حديث إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن جده، عن البراء بنحوه. وفيه: ثم انطلقت إلى أبواب بيوتهم فغلقتها عليهم من ظاهر. وفيه: ثم جئت كأني أغيثه وغيرت صوتي، وقلت: ما لك يا أبا رافع. قال: ألا أعجبك، دخل علي رجل فضربني بالسيف. قال: فعمدت له أيضًا فأضربه أخرى فلم تغن شيئًا. فصاح وقام أهله، ثم جئت وغيرت صوتي كهيئة المغيث، وإذا هو(سيرة 2/15)
مستلق على ظهره، فأضع السيف في بطه ثم أتكئ عليه حتى سمعت صوت العظم. ثم خرجت دهشًا إلى السلم، فسقطت فاختلعت رجلي فعصبتها. ثم أتيت أصحابي أحجُل فقلت: انطلقوا فبشروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإني لا أبرح حتى أسمع الناعية. فلما كان وجه الصبح صعد الناعية، فقال: أنعي أبا رافع. فقمت أمشي، ما بي قلبة، فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فبشرته.
وقال ابن لهيعة: حدثنا أبو الأسود، عن عروة، قال: كان سلام بن أبي الحُقيق قد أجلب في غطفان ومن حوله من مشركي العرب يدعوهم إلى قتال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويجعل لهم الجعل العظيم. فبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه جماعة فبيتوه ليلًا.
وقال موسى بن عقبة في مغازيه: فطرقوا أبا رافع اليهودي بخيبر فقتلوه في بيته.
قتل ابن نبيح الهذلي:
ابن لهيعة: حدثنا أبو الأسود: عن عروة، قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن أنيس السلمي إلى سفيان بن نُبيح الهذلي ثم اللحياني ليقتله وهو بعرنة وادي مكة.
وقال محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن عبد الله بن أنيس، عن أبيه، قال: دعاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنه بلغني أن ابن نبيح الهذلي يجمع الناس ليغزوني وهو بنخلة أو بعُرنَةَ، فأتِه فاقتله". قلت: يا رسول الله انعته لي حتى(سيرة 2/16)
أعرفه. قال: "آية ما بينك وبينه أنك إذا رأيته وجدت له قشعريرة". فخرجت متوشحًا سيفي، حتى دُفعتُ إليه في ظعن يرتاد لهن منزلًا وقت العصر. فلما رأيته وجدت له ما وصف لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من القُشَعريرة. فأقبلت نحوه وخشيت أن يكون بيني وبينه مجاولة تشغلني عن الصلاة، فصليت وأنا أمشي نحوه أومئ برأسي إيماء. فلما انتهت إليه قال: من الرجل؟ قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل، فجاء لذلك. قال: أجل نحن في ذلك. فمشيتُ معه حتى إذا أمكنني حملت عليه بالسيف فقتلته، ثم خرجت وتركت ظعائنه مكبات عليه.
فلما قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أفلح الوجه". قلت: قد قتلته يا رسول الله. قال: "صدقت". ثم قام بي فدخل بي بيته فأعطاني عصًا، فقال: "أمسك هذه عندك". فخرجت بها على الناس. فقالوا: ما هذه العصا؟ فقلت: أعطانيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وأمرني أن أمسكها عندي. قالوا: أفلا ترجع فتسأله فرجعت فسألته: لم أعطيتنيها يا رسول الله؟ قال: "آية بيني وبينك يوم القيامة، إن أقل الناس المتخصرن يومئذ". قال: فقرنها عبد الله بسيفه فلم تزل معه، حتى إذا مات أمر بها فضمت معه في كفنه، فدفنا جميعًا.
رواه عبد الوارث بن سعيد، عن ابن إسحاق، فقال: إلى خالد بن سفيان الهذلي.
وقال موسى بن عقبة: بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى سفيان بن عبد الله بن أبي نبيح الهذلي، والله أعلم.(سيرة 2/17)
غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع:
قال ابن إسحاق: غزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بني المصطلق من خزاعة، في شعبان سنة ست. كذا قال ابن إسحاق.
وقال ابن شهاب وعروة: هي في شعبان سنة خمس.
وكذلك يروى عن قتادة.
وقاله أيضًا الواقدي، فقال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان سنة خمس، وقدم المدينة لهلال رمضان.
قلت: وفيها حديث الإفك، وقد تقدم ذلك في سنة خمس. وهو الصحيح.
سرية نجد: قيل إنها كانت في المحرم سنة ست:
قال الليث بن سعد: حدثني سعيد المقبري أنه سمع أبا هريرة يقول: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيلًا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما عندك"؟ قال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، حتى كان من الغد، فقال: "ما عندك يا ثُمامة"؟ قال: عندي ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت(سيرة 2/18)
تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فقال: "أطلقوه". فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. يا محمد، والله ما كان على وجه الأرض أبغض إليَّ من وجهك، وقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه كلها إليَّ. والله ما كان دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله إليَّ. والله ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إليَّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأمره أن يعتمر. فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت يا ثمامة. قال: لا، ولكني أسلمت، فوالله لا يأتيكم من اليمامة حبة حتى يأذن فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. متفق عليه، "وأخرجه" مسلم أيضًا من حديث عبد الحميد بن جعفر عن المقبري، به.
خالفهما محمد بن إسحاق، فيما روى يونس بن بكير عنه: حدثني سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: كان إسلام ثمامة بن أثال أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا الله حين عرض لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما عرض له وهو مشرك، فأراد قتله، فأقبل معتمرًا حتى دخل المدينة، فتحير فيها حتى أخذ، فأتى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأمر به فَرُبِطَ إلى عمود من عمد المسجد. وفيه: وإن تسأل مالًا تعطه.
قال أبو هريرة: فجعلنا المساكين نقول: ما نصنع بدم ثمامة؟ والله(سيرة 2/19)
لأكلهٌ من جزور سمينة من فدائه أحب إلينا من دمه.
قلت: وهذا يدل على أن إسلام ثمامة كان بعد إسلام أبي هريرة، وهو في سنة سبع فذكر الحديث، وفيه: فانصرف من مكة إلى اليمامة، ومنع الحمل إلى مكة حتى جهدت قريش، فكتبوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة يخلي لهم حمل الطعام. وكانت اليمامة ريف مكة. قال: فأذن النبي -صلى الله عليه وسلم.
وفيها: كان من السرايا، على ما زعم الواقدي: قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ربيع الأول أو الآخر عُكاشة بن محصن في أربعين رجلًا إلى الغمْر، وفيهم ثابت بن أقرم وشجاع بن وهب. فأسرعوا، ونذر بهم القوم وهربوا. فنزل عكاشة على مياههم وبعث الطلائع فأصابوا من دلهم على بعض ماشيتهم، فوجدوا مائتي بعير، فساقوها إلى المدينة.
وقال: وفيها بعث سرية أبي عبيدة إلى القصة، في أربعين رجلًا، فساروا ليلهم مشاة ووافوا ذا القصة مع عماية الصبح، فأغار عليهم وأعجزهم هربًا في الجبال. وأصابوا رجلًا فأسلم، وبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محمد بن مسلمة، في عشرة، فكمن القوم لهم حتى نام هو وأصحابه، فما شعروا إلا بالقوم، فقتل أصحاب محمد، وأفلت هو جريحًا.(سيرة 2/20)
قال: وفيها كانت سرية زيد بن حارثة بالجموم. فأصاب امرأة من مزينة، يقال لها: حليمة، فدلتهم على مكان فأصابوا مواشي, أسراء، منهم زوجها، فوهبها النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسها وزوجها.
وفيها سرية زيد بن حارثة إلى الطرف؛ إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلًا. فهربت الأعراب وخافوا، فأصاب من نعمهم عشرين بعيرًا. وغاب أربع ليال.
وفيها كانت سرية زيد بن حارثة إلى العيص؛ في جمادى الأولى؛ وأخذت الأموال التي كانت مع أبي العاص، فاستجار بزينب بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأجارته.
وحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: أقبل دحية الكلبي من عند قيصر، قد أجازه بمال. فأقبل حتى كان بُحْسمي، فلقيه ناس من جُذَام، فقطعوا عليه الطريق وسلبوه، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يدخل بيته فأخبره. فبعث زيد بن حارثة إلى حُسْمَى؛ وهي وراء وادي القرى وكانت في جمادى الآخرة.
ثم سرية زيد إلى وادي القرى في رجب.
ثم قال: وحدثني عبد الله بن جعفر، عن يعقوب بن عتبة، قال: خرج علي -رضي الله عنه- في مائة إلى فدك إلى حي من بني سعد بن بكر. وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلغه عنهم أن
لهم جمعًا يريدون أن يمدوا يهود(سيرة 2/21)
خيبر. فسار إليهم الليل وكمن النهار، وأصاب عينا فأقر له أنه بُعِثَ إلى خيبر يعرض عليهم نصرهم على أن يجعلوا لهم تمر خيبر.
قال الواقدي: وذلك في شعبان.
وكانت غزوة أم قرفة في رمضان سار إليها زيد بن حارثة؛ لأنها كانت تؤذي النبي -صلى الله عليه وسلم، ذكره الواقدي.
قال: وفيها سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دُومة الجندل في شعبان، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن أطاعوا فتزوج ابنة ملكهم". فأسلم القم، وتزوج عبد الرحمن تماضر بنت الأصبغ؛ والدة أبي سلمة، وكان أبوها ملكهم.
وفي شوال كانت سرية كُرز بن جابر الفهري إلى العُرنيين الذي قتلوا راعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستاقوا الإبل. فبعثه في عشرين فارسًا وراءهم.
وقال ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس: أن رهطًا من عكل وعرينة أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: إنا أناس من أهل ضرع، ولم نكن أهل ريف، فاستوخمنا المدينة. فأمر لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذود وزاد، وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من أبوالها وألبانها. فانطلقوا حتى إذا كانوا في ناحية الحرة قتلوا راعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستاقوا الذود، وكفروا بعد إسلامهم. فبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- في طلبهم، فأمر بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم، وتركهم في ناحية الحرة حتى ماتوا وهم كذلك.
قال قتادة: فذكر لنا أن هذه الآية نزلت فيهم: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ(سيرة 2/22)
يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] ، قال قتادة: بلغنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يحث في خطبته بعد ذلك على الصدقة وينهى عن المثلة. متفق عليه.
وفي بعض طرقه: من عكل، أو عُرينة.
ورواه شعبة، وهمام، وغيرهما، عن قتادة فقال: من عرينة؛ من غير شكٍّ.
وكذلك قال حميد، وثابت، وعبد العزيز بن صهيب، عن أنس.
وقال زهير: حدثنا سماك بن حرب، عن معاوية بن قرة، عن أنس: أن نفرًا من عرينة أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبايعوه، وقد وقع في المدينة الموم -وهو البرسام- فقالوا: هذا الوجع قد وقع يا رسول الله، فلو أذنت لنا فرحنا لي الإبل. قال: "نعم، فاخرجوا وكونوا فيها". أخرجوا، فقتلوا أحد الراعيين وذهبوا بالإبل، وجاء الآخر وقد جُرحَ، قال: قد قتلوا صاحبي ذهبوا بالإبل. وعنده شباب من الأنصار قريب من عشرين، فأرسلهم إليهم وبعث معهم قائفًا يقتص أثرهم. فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم. أخرجه مسلم.
وقال أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: قدم رهط من عُكْل فأسلموا فاجتووا الأرض، فذكره، وفيه: فلم ترتفع الشمس حتى أتى بهم، فأمر بمسامير فأحميت لهم، فكواهم وقطع أيديهم وأرجلهم، ولم يحسمهم وألقاهم في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا.(سيرة 2/23)
أخرجه البخاري.
إسلام أبي العاص مبسوطًا:
أسلم أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي العبشمي، ختن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ابنته زينب، أم أمامة، في وسط سنة ست. واسمه لقيط، قاله ابن معين والفلاس. وقال ابن سعد: اسمه مقسم، وأمه هالة بنت خويلد خالة زوجته، فهما أبناء خالة. تزوج بها قبل المبعث، فولدت له عليًا فمات طفلًا، وأمامة التي صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو حاملها وهي التي تزوجها علي -رضي الله عنه- بعد موت خالتها فاطمة -رضي الله عنها- وكان أبو العاص يُدْعَى جَرْو البطحاء، وأسر يوم بدر، وكانت زينب مكة.
قال يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة، قالت: فبعثت في فدائه بمال منه قلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها. فلما رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القلادة رق لها وقال: "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا". ففعلوا. فأخذ عليه عهدًا أن يخلي زينب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سرًّا.
وقال ابن إسحاق: فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زيد بن حارثة ورجلًا،(سيرة 2/24)
فقال: كونا ببطن يأجَج حتى تمر بكما زينب. وذلك بعد بدر بشهر. قال: وكان أبو العاص من رجال قريش المعدودين مالًا وأمانة وتجارة. وكان الإسلام قد فرَّق بينه وبين زينب، إلا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يقدر أن يفرق بينهما.
قال يونس: عن ابن إسحاق: حَدَّثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم، قال: خرج أبو العاص تاجرًا إلى الشام، وكان رجلًا مأمونًا. وكانت معه بضائع لقريش. فأقبل قافلًا فلقيته سرية للنبي -صلى الله عليه وسلم، فاستقوا عيره وهرب. وقدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما أصابوا فقسمه بيهم، وأتى أبو العاص حتى دخل على زينب فاستجار بها، وسألها أن تطلب له من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رد ماله عليه. فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السرية فقال لهم: "إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالًا ولغيره مما كان معه، وهو فيء، فإن رأيتم أن تردوا عليه فافعلوا، وإن كرهتم فأنتم وحقكم". قالوا: بل نرده عليه. فردوا والله عليه ما أصابوا، حتى إن الرجل ليأتي بالشنة، والرجل بالإداوة وبالحبل. ثم خرج حتى قدم مكة، فأدَّى إلى الناس بضائعهم، حتى إذا فرغ قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحد منكم معي مال؟ قالوا: لا، فجزاك الله خيرًا. فقال: أما والله ما منعني أن أسلم قبل أن أقدم عليكم إلا تخوفت أن تظنوا أني إنما أسلمت لأذهب بأموالكم، فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمَّدًا عبده ورسوله.
وأما موسى بن عقبة فذكر أن أموال أبي العاص إنما أخذها أبو بصير في الهدنة بعد هذا التاريخ.
وقال ابن نمير، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، قال: قدم أبو العاص من الشام ومعه أموال المشركين، وقد أسلمت امرأته زينب وهاجرت، فقيل له: هل لك أن تسلم وتأخذ هذه الأموال التي معك؟ فقال: بئس ما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي، فكفلت عنه امرأته أن(سيرة 2/25)
يرجع فيؤدي إلى كل ذي حق حقه؛ فيرجع ويسلم. ففعل. وما فرق بينهما، يعني النبي -صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن لهيعة عن موسى بن جبير الأنصاري، عن عراك بن مالك، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أم سلمة أن زينب بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرسل إليها زوجها أبو العاص أن خذي لي أمانًا من أبيك. فأطلعت رأسها من باب حجرتها، والنبي -صلى الله عليه وسلم- في الصبح، فقالت: أيها الناس إني زينب بنت رسول الله، وإني قد أجرت أبا العاص. فلما فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الصلاة قال: "أيها الناس إني لا علم لي بهذا حتى سمعتموه، ألا وإنه يجير على الناس أدناهم".
وقال ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: رد النبي -صلى الله عليه وسلم- ابنته على أبي العاص على النكاح الأول بعد ست سنين.
وقال حجاج بن أرطاة، عن محمد بن عبيد الله العرزمي -وهو ضعيف- عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ردها بمهر جديد ونكاح جديد.
قال الإمام أحمد: هذا حديث ضعيف، والصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقرهما على النكاح الأول.
وقال ابن إسحاق: ثم إن أبا العاص رجع إلى مكة مسلمًا، فلم يشهد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- مشهدًا. ثم قدم المدينة بعد ذلك، فتوفي في آخر(سيرة 2/26)
سنة اثنتي عشرة، والله أعلم.
سرية عبد الله بن رواحة إلى أسير بن زارم في شوال:
قيل: إن سلام بن أبي الحقيق لما قتل أمرت يهود عليهم أسير بن زارم فسار في غطفان وغيرهم يجمعهم لحرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فوجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابن رواحة في ثلاثة نفر سرًا، فسأل عن خبره وغرته فأخبر بذلك. فقدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره. فندب رسول الله -صلى الله عليه وسلم الناس فانتدب له ثلاثون رجلًا، فبعث عليهم ابن رواحة. فقدموا على أسير فقالوا: نحن آمنون نعرض عليك ما جئنا له؟ قال: نعم، ولي منكم مثل ذلك. فقالوا: نعم. فقالوا: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثنا إليك لتخرج إليك فيستعملك على خيبر ويحسن إليك. فطمع في ذلك فخرج، وخرج معه ثلاثون من اليهود، مع كل رجل رديف من المسلمين. حتى إذا كانوا بقرقرة ثبار ندم أسير فقال عبد الله بن أنيس -وكان في السرية: وأهوى بيده إلى سيفي ففطنت له ودفعت بعيري وقلت: غدرًا، أي عدو الله. فعل ذلك مرتين. فنزلت فسقت بالقوم حتى انفردت إلى أسير فضربته بالسيف فأندرت عامة فخذه، فسقط وبيده مخرش، فضربني فشجني مأمومة، وملنا إلى أصحابه فقتلناهم، وهرب منهم رجل.(سيرة 2/27)
فقدمنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لقد نجاكم الله من القوم الظالمين".
وقال ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة، "ح" وموسى بن عقبة عن ابن شهاب، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث عبد الله بن رواحة في ثلاثين راكبًا فيهم عبد الله بن أنيس إلى بُشَير بن رزام اليهودي حتى أتوه بخيبر، فذكر نحو ما تقدم، والله أعلم.
قصة غزوة الحديبية وهي على تسعة أميال من مكة:
خرج إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذي القعدة سنة ست. قاله نافع، وقتادة، والزهري، وابن إسحاق، وغيرهم، وعروة في "مغازيه"، رواية أبي الأسود.
وتفرد علي بن مسهر، عن هشام، عن أبيه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج إلى الحديبية في رمضان وكانت الحديبية في شوال.
وفي الصحيحين عن هدبة، عن همام، قال: حدثنا قتادة، أن أنسًا أخبره أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة، إلا العمرة التي مع حجته: عمرة الحديبية زمن الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل، وعمرة من الجعرانة، حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته.
وقال الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-(سيرة 2/28)
خرج عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأشعره، وأحرم منها. أخرجه البخاري.
وقال شعبة، عن عمرو بن مرَّة، سمع ابن أبي أوفى -وكان قد شهد بيعة الرضوان- قال: كنا يومئذ ألفًا وثلاث مائة. وكانت أسلم يومئذ ثمن المهاجرين. أخرجه مسلم. وعلقه البخاري في صحيحه.
وقال حصين بن عبد الرحمن، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر، قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة. متفق عليه.
وخالفه الأعمش، عن سالم، عن جابر، فقال: كنا أربع عشرة مائة، أصحاب الشجرة، اتفقا عليه أيضًا.
وكأن جابرًا قال ذلك على التقريب. ولعلهم كانوا أربع عشرة مائة كاملة تزيد عددًا لم يعتبره، أو خمس عشرة مائة تنقص عددًا لم يعتبره والعرب تفعل هذا كثيرًا، كما تراهم قد اختلفوا في سن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاعتبروا تارة السنة التي ولد فيها والتي توفي فيها فأدخلوهما في العدد. واعتبروا تارة السنين الكاملة وسكتوا عن الشهور الفاضلة.
ويبين هذا أن قتادة قال: قلت لسعيد بن المسيب: كم كان الذين شهدوا بيعة الرضوان؟ قال: خمس عشرة مائة. قلت: إن جابرًا قال: كانوا أربع عشرة مائة، قال: يرحمك الله، وهم. هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة. أخرجه البخاري.
وقال عمرو بن دينار: سمعت جابر بن عبد الله يقول: كنا يوم الحديبية ألفا وأربع مائة. فقال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أنتم خير أهل الأرض". اتفقا عليه من حديث ابن عيينة.
وقال الليث، عن أبي الزبير، عن جابر: كنا يوم(سيرة 2/29)
الحديبية ألفًا وأربع مائة. صحيح.
وقال الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر: نحرنا عام الحديبية سبعين بدنة، البدنة عن سبعة. قلنا لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: ألفًا وأربع مائة بخيلنا ورجلنا.
وكذلك قاله البراء بن عازب، ومعقل بن يسار، وسلمة بن الأكوع، في أصح الروايتين عنه، والمسيب بن حزم، من رواية قتادة، عن سعيد، عن أبيه.
قال البخاري: معمر، عن الزهري، عن عروة، عن المسور، ومروان بن الحكم، يصدق كل واحد منهم حديث صاحبه، قالا: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زمن الحديبية في بضع
عشرة مائة من أصحابه. حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي وأشعره، وأحرم بالعمرة. وبعث بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش. وسار حتى إذا كان بعذبة الأشطاط قريبا من عسفان أتاه عينه الخزاعي فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد جمعوا لك جموعا، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أشيروا علي، أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين وإن(سيرة 2/30)
لجوا تكن عنقا قطعها الله، أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه "؟ قال أبو بكر: الله ورسوله أعلم إنما جئنا معتمرين ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه. قال: "فروحوا إذا".
قال الزهري في الحديث: فراحوا، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين". فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هو بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش. وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التى يهبط عليهم منها بركت راحلته، فقال الناس: حل حل، فألحت، فقالوا: خلأت القصواء خلأت القصواء. قال: فروحوا إذا.
قال الزهري: قال أبو هريرة: ما رأيت أحدا كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال المسور ومروان في حديثهما: فراحوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش" -رجع الحديث إلى موضعه- قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما خلأت القصواء وما ذلك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل". ثم قال: "والذي نفسى بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها". ثم زجرها فوثبت به. قال: فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء، إنما يتبرضه
الناس تبرضا، فلم يلبثه الناس أن نزحوه، فشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش. فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه،(سيرة 2/31)
قال: فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه.
فبينا هم كذلك إذ جاءه بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة، وكانوا عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة. فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العوذ، المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نجئ لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره". فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا، فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم نعرضه عليكم فعلنا؛ فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا في أن تحدثنا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته. قال: سمعته يقول كذا كذا. فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال عروة بن مسعود الثقفي، فقال: أي قوم ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى. قال: ألست بالولد؟ قالوا: بلى. قال: هل تتهموني؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا عليه جئتكم(سيرة 2/32)
بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلي. قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد، فاقبلوها ودعوني آته. قالوا: ائته فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال نحوا من قوله لبديل. فقال: أي محمد أرأيت إن استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوها وأرى أوباشا من
الناس خلقاء أن يفروا ويدعوك. فقال له أبو بكر -رضي الله عنه- امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟ قال: من ذا؟ قال: أبو بكر. قال: والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم كلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم، ضرب يده بنعل السيف وقال: أخر يدك. فرفع رأسه فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة. فقال: أي غدر، أولست أسعى في غدرتك؟ قال: وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء".
ثم إن عروة جعل يرمق صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم؛ فوالله ما تنخم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم يدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم بأمر ابتدروه، وإذا توضأ ثاروا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له. فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك؛ وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا. والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في(سيرة 2/33)
كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، ولا يحدون إليه النظر تعظيما له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من بني كنانة: دعونى آته. فقالوا: ائته. فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها له. فبعثت له. واستقبله القوم يلبون. فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فرجع إلى أصحابه فقال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت. فقام رجل منهم يقال له: مكرز بن حفص فقال: دعوني آته. فقالوا: ائته. فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا مكرز وهو رجل فاجر". فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم. فبينا هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو.
قال معمر: وأخبرني أيوب، عن عكرمة أنه قال: لما جاء سهيل قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد سهل لكم من أمركم".
قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو، فقال: هات اكتب بيننا وبينك كتابًا.
فدعا الكاتب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم". فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتب باسمك اللهم" ثم قال-: "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله". فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله".
قال الزهري: وذلك لقوله: لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها.(سيرة 2/34)
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف". فقال: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن لك من العام المقبل. فكتب. فقال سهيل: على أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا. فقال: المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟ فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى نفسه بين أظهر المسلمين. فقال سهيل: وهذا أول ما أقاضيك عليه أن ترده. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نقض الكتاب بعد". قال: فوالله إذا لا نصالحك على شيء أبدا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأجره لي". قال: ما أنا بمجيره لك. قال: "بلي، فافعل" قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز: بلى قد أجرناه. قال أبو جندل: معاشر المسلمين أأرد إلى المشركين وقد جئت مسلما، ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذابا شديدا في الله.
فقال عمر: والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، ألست نبي الله؟ قال: "بلى"، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: "بلى"، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: "إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري". قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف حقا؟ قال: "بلي"، أنا أخبرتك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: "فإنك آتيه ومطوف به". قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا؟ قال: بلي. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى.
قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: أيها الرجل إنه رسول وليس يعصي(سيرة 2/35)
ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحق. قلت: أوليس كان يحدثنا أنه
سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به.
قال: الزهري. قال عمر: فعلمت لذلك أعمالا.
فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "قوموا فانحروا ثم احلقوا". قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ثلاث مرات. فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس. فقالت: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك، ثم تدعو بحالقك فيحلقك. فقام فخرج فلم يكلم أحدا حتى فعل ذلك. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما، ثم جاءه نسوة مؤمنات، وأنزل الله: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} حتى بلغ {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] ، فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية، والأخرى صفوان بن أمية.
ثم رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، فجاءه أبو بصير، رجل من قريش، وهو مسلم، فأرسلوه في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا. فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا به ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم. فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا جيدا جدا. فاستله الآخر فقال: أجل، والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت.
فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه. فأمكنه منه فضربه حتى برد. وفر الآخر حتى بلغ المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال للنبي -صلى الله عليه وسلم: قتل والله صاحبي وإني لمقتول. قال: فجاء أبو بصير فقال: يا نبي(سيرة 2/36)
الله قد أوفي الله ذمتك، والله قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد". فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم.
فخرج حتى أتى سيف البحر. وينفلت منهم أبو جندل ابن سهيل فلحق بأبي بصير، فلا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة.
قال: فوالله لا يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم. فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم، فمن أتاه منهم فهو آمن. فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فأنزل: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} حتى بلغ {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 24- 26] ، وكانت حميتهم أنهم لم يقروا بنبي الله ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت. أخرجه البخاري، عن المسندي، عن عبد الرزاق، عن معمر، بطوله.
وقال قرة، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من يصعد الثنية، ثنية المرار، فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل. فكان أول من صعد خيل بني الخزرج. ثم تبادر الناس بعد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر". فقلنا: تعال يستغفر لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم. قال: والله لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم. وإذا هو رجل ينشد ضالة. أخرجه مسلم.
وقال البخاري: عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية. كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع(سيرة 2/37)
عشرة مائة، والحديبية بئر، فنزحناها فما تركنا فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء منها فتوضأ ثم تمضمض ودعا ثم صبه فيها فتركها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا نحن وركابنا. أخرجه البخاري.
وقال عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، قال: قدمنا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم الحديبية، ونحن أربع عشرة مائة، وعليها خمسون شاة ما ترويها، فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جباها، فإما دعا وإما بزق فيها فجاشت فسقينا واستقينا. أخرجه مسلم.
وقال البكائي: قال ابن إسحاق: حدثني الزهري، عن عروة، عن مسور، ومروان بن الحكم أنهما حدثاه، قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت، لا يريد قتالا.
وساق معه الهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبع مائة رجل، فكانت كل بدنة عن عشرة نفر.
قال ابن إسحاق: وكان جابر بن عبد الله فيما بلغني يقول: كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة.
قلت: قد ذكرنا عن جماعة من الصحابة كقول جابر.
ثم ساق ابن إسحاق حديث الزهري بطوله، وفيه ألفاظ غريبة، منها: وجعل عروة بن مسعود يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، والمغيرة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد. قال: فجعل يقرع يد عروة إذا تناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: اكفف يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم أن(سيرة 2/38)
لا تصل إليك. فيقول عروة: ويحك ما أفظك وأغلظك. قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له عروة: من هذا يا محمد؟ قال: "هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة". قال: أي غدر، وهل غسلت سوءتك إلا بالأمس؟
قال ابن هشام: أراد عروة بقوله هذا أن المغيرة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشر رجلا من بني مالك بن ثقيف، فتهايج الحيان من ثقيف رهط المقتولين، والأحلاف رهط المغيرة، فودى عروة المقتولين ثلاثة عشر دية، وأصلح الأمر.
وقال ابن لهيعة: حدثنا أبو الأسود، قال عروة: وخرجت قريش من مكة، فسبقوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى بلدح وإلى الماء، فنزلوا عليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد سبق نزل على الحديبية، وذلك في حر شديد وليس بها إلا بئر واحدة، فأشفق القوم من الظمأ وهم كثير، فنزل فيها رجال يميحونها، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلو من ماء فتوضأ في الدلو ومضمض فاه ثم مج فيه، وأمر أن يصب في البئر، ونزع سهما من كنانته فألقاه في البئر ودعا الله تعالى، ففارت بالماء حتى جعلوا يغترفون بأيديهم منها، وهم جلوس على شفتها. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم سلك على غير الطريق التي بلغه أن قريشا بها.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر، أن رجلا من أسلم قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فسلك بهم طريقا وعرا أخزل من شعاب، فلما خرجوا منه وقد شق ذلك على المسلمين، وأفضوا(سيرة 2/39)
إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا: نستغفر الله ونتوب إليه" فقالوا ذلك. فقال: "والله إنها للحطة التى عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها".
قال عبد الملك بن هشام: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال: "اسلكوا ذات اليمين بين ظهري المحمص في طريق تخرجه على ثنية المرار، مهبط الحديبية من أسفل مكة" فلما رأت قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم ركضوا راجعين إلى قريش.
وقال شعبة، وغيره، عن حصين، عن سالم بن أبي الجعد، قال: قلت لجابر: كم كنتم يوم الشجرة؟ قال: كنا ألفا وخمس ومائة: وذكر عطشا أصابهم، فاتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء في تور فوضع يده فيه، فجعل الماء يخرج من بين أصابعه كأنه العيون، فشربنا ووسعنا وكفانا، ولو كنا مائة ألف لكفانا.
وقد أخرجه البخاري من أوجه أخر عن حصين.
وقال أبو عوانة، عن الأسود بن قيس، عن نبيح العنزي، قال: جابر بن عبد الله: غزونا أو سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن يومئذ أربع عشرة مائة، فحضرت الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل في القوم من طهور"؟ فجاء رجل يسعى بإداوة فيها شيء من ماء ليس في القوم ماء غيره، فصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قدح ثم توضأ، ثم انصرف وترك القدح. قال: فركب الناس ذلك القدح وقالوا: تمسحوا تمسحوا. فقال رسول(سيرة 2/40)
الله صلى الله عليه وسلم: "على رسلكم"، حين سمعهم يقولون ذلك. قال: فوضع كفه في الماء والقدح وقال: "سبحان الله". ثم قال: "أسبغوا الوضوء". فوالذي ابتلاني ببصري لقد رأيت العيون عيون الماء تخرج من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرفعها حتى توضؤوا أجمعون. رواه مسدد، عنه.
وقال عكرمة بن عمار العجلي: حدثنا إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فأصابنا جهد، حتى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا. فأمر نبي الله صلى الله عليه وسلم فجمعنا مزاودنا فبسطنا له نطعا، فاجتمع زاد القوم على النطع. فتطاولت لأحزركم هو؟
فحزرته كربضة العنز ونحن أربع عشرة مائة. قال: فأكلنا حتى شعبنا جميعا ثم حشونا
جرباننا. ثم قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "هل من وضوء"؟ فجاء رجل بإداوة له، فيها نطفة فأفرغها في قدح. فتوضأنا كلنا، ندغفقه دغفقة، أربع عشرة مائة. قال: ثم جاء بعد ذلك ثمانية فقالوا: هل من طهور؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فرغ الوضوء". أخرجه مسلم.
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، قال: قال ابن عباس: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية كلمه بعض أصحابه فقالوا: جهدنا وفي الناس ظهر فانحره. فقال عمر: لا تفعل يا رسول الله فإن الناس إن يكن معهم بقية ظهر أمثل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ابسطوا أنطاعكم وعباءكم". ففعلوا. ثم قال: "من كان عنده بقية من زاد وطعام فلينثره".(سيرة 2/41)
ودعا لهم ثم قال: "قربوا أوعيتكم". فأخذوا ما شاء الله. يحدثه نافع بن جبير.
وقال يحيى بن سليم الطائفي، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مر الظهران في صلح قريش قال أصحابه: لو انتحرنا يا رسول الله من ظهورنا فأكلنا من لحومها وشحومها وحسونا من المرق أصبحنا غدا إذا عدونا عليهم وبنا جمام. قال: "لا، ولكن ائتوني بما فضل من أزوادكم". فبسطوا أنطاعا ثم صبوا عليها فضول أزوادهم. فدعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة، فأكلوا حتى تضلعوا شبعا، ثم لففوا فضول ما فضل من أزوادهم في جربهم.
مالك، عن إسحاق بن أبي طلحة، عن أنس، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت صلاة العصر والتمسوا الوضوء، فلم يجدوه. فأتى بوضوء، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في ذلك الإناء وأمر الناس أن يتوضؤوا منه. قال: فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه. فتوضأ الناس حتى توضؤوا من عند آخرهم. متفق عليه.
وقال حماد بن زيد: حدثنا ثابت، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بماء فأتي بقدح رحراح فجعل القوم يتوضؤون. فحزرت ما بين السبعين إلى الثمانين من توضأ منه، فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه. متفق عليه.
وقال عبد الله بن بكر: حدثنا حميد، عن أنس، قال: حضرت الصلاة، فقام من كان قريب الدار إلى أهله يتوضأ وبقي قوم. فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بمخضب من حجارة فيه ماء، فصغر المخضب أن يبسط فيه كفه(سيرة 2/42)
فتوضأ القوم. قلنا: كم هم؟ قال: ثمانون وزيادة. أخرجه البخاري.
وجاء: أنهم كانوا بقباء.
وقال ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالزوراء يتوضؤون.
فوضع كفه في الماء، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه حتى توضؤوا. فقلنا لأنس: كم كنتم؟ قال: زهاء ثلاث مائة.
أخرجه مسلم، والبخاري أيضا بمعناه. والزوراء بالمدينة عند السوق والمسج.
وقال أبو عبد الرحمن المقرئ: حدثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: حدثني زياد بن نعيم الحضرمي، قال: سمعت زياد بن الحارث الصدائي، قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر حديثا طويلا منه: فوضع كفه صلى الله عليه وسلم في الماء فرأيت بين إصبعين من أصابعه عينا تفور. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أستحيي من ربي لسقينا واستقينا". عبد الرحمن ضعيف.
وهذه الأحاديث تدل على البركة في الماء غير مرة.
وقال إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: كنا نأكل مع
النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نسمع تسبيح الطعام. وأتي بإناء فجعل الماء ينبع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم. فقال: "حي على الطهور المبارك والبركة من السماء". حتى توضأنا كلنا. أخرجه البخاري.(سيرة 2/43)
وقال أبو كدينة، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى، عن ابن عباس، قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناء من ماء، فجعل أصابعه في فم الإناء وفتح أصابعه، فرأيت العيون تنبع من بين أصابعه. وذكر الحديث. إسناده جيد.
وقال ابن لهيعة: حدثنا أبو الأسود، قال: قال عروة في نزوله صلى الله عليه وسلم بالحديبية: ففزعت قريش لنزوله عليهم، فأحب أن يبعث إليهم رجلا. فدعا عمر ليبعثه فقال: إني لا آمنهم، وليس بمكة أحد من بني كعب يغضب لي، فأرسل عثمان فإن عشيرته بها. فدعا عثمان فأرسله وقال: أخبرهم أنا لم نأت لقتال، وادعهم إلى الإسلام. وأمره أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح. فانطلق عثمان فمر على قريش ببلدح. فقالت قريش: إلى أين؟ فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم لأدعوكم إلى الإسلام، ويخبركم أنا لم نأت لقتال وإنما جئنا عمارا. فدعاهم عثمان كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: قد سمعنا ما تقول فانفذ لحاجتك. وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص فرحب به وأسرج فرسه، فحمل عليه عثمان فأجاره، وردفه أبان حتى جاء مكة. ثم إن قريشا بعثوا بديل بن ورقاء؛ فذكر الحديث والصلح. وذكر أنهم أمن بعضهم بعضا وتزاوروا. فبيناهم كذلك، وطوائف من المسلمين في المشركين، إذ رمى رجل رجلا من الفريق الآخر. فكانت معاركة، وتراموا بالنبل والحجارة، وصاح الفريقان وارتهن كل واحد من الفريقين من فيهم، فارتهن المسلمون سهيل بن عمرو وغيره، وارتهن المشركون عثمان وغيره.
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة. ونادى منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن(سيرة 2/44)
روح القدس قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بالبيعة، فاخرجوا على اسم الله فبايعوا. فثار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة، فبايعوه على أن لا يفروا أبدا. فذكر القصة بطولها، وفيها: فقال المسلمون وهم بالحديبية قبل أن يرجع عثمان بن عفان: خلص عثمان من بيننا إلى البيت فطاف به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون". قالوا: وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص؟ قال: "ذلك ظني به أن لا يطوف بالكعبة حتى يطوف معنا". فرجع إليهم عثمان، فقال المسلمون: اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت؟
فقال: عثمان: بئس ما ظننتم بي، فوالذي نفسى بيده لو مكثت بها مقيما سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بالحديبية ما طفت بها حتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت.
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بلغه أن عثمان قد قتل: "لا نبرح حتى نناجز القوم". فدعا الناس إلى البيعة. فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة. فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت، وكان جابر يقول: لم يبايعنا على الموت ولكن بايعنا على أن لا نفر.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني بعض آل عثمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب بإحدى يديه على الأخرى، وقال: هذه لي وهذه لعثمان إن كان حيًّا: ثم بلغهم أن ذلك باطل، ورجع عثمان. ولم يتخلف عن بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة. قال جابر: والله لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ضبأ(سيرة 2/45)
إليها يستتر بها من الناس.
قال الحسن بن بشر البجلي: حدثنا الحكم بن عبد الملك -وليس بالقوي قال النسائي- عن قتادة، عن أنس، قال: لما أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببيعة الرضوان كان عثمان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة. فبايع الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عثمان في حاجة الله ورسوله". فضرب بإحدى يديه على الأخرى فكانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان خيرا من أيديهم لأنفسهم.
وقال ابن عيينة: حدثنا أبو الزبير، سمع جابرا يقول: لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة وجدنا رجلا منا يقال له: الجد بن قيس مختبئا تحت إبط بعير. أخرجه مسلم من حديث ابن جريج، عن أبي الزبير، وبه قال: لم نبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الموت، ولكن بايعناه على أن لا نفر.
أخرجه مسلم عن ابن أبي شيبة، عن ابن عيينة، وأخرجه من حديث الليث، عن أبي الزبير، وقال: فبايعناه وعمر -رضي الله عنه- آخذ بيده تحت الشجرة، وهي سمرة.
وقال خالد الحذاء، عن الحكم بن عبد الله الأعرج، عن معقل بن يسار، قال: لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه، ونحن أربع عشرة مائة. ولم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أن لا نفر. أخرجه مسلم.
وقال ابن عيينة: حدثنا ابن أبي خالد، عن الشعبي، قال: لم دعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة كان أول من انتهى إليه أبو سنان الأسدي،(سيرة 2/46)
فقال: ابسط يدك أبايعك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "علام تبايعني" قال: على ما في نفسك.
وقال مكي بن إبراهيم، وأبو عاصم -واللفظ له- عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع، قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، ثم عدلت إلى ظل شجرة. فلما خف الناس قال: "يا ابن الأكوع ألا تبايع" قلت: قد بايعت يا رسول الله. قال: "وأيضا". فبايعته الثانية فقلت لسلمة: يا أبا مسلم على أى شي كنتم تبايعون يومئذ؟ قال: على الموت. متفق عليه.
وقال عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة، عن أبيه، فذكر الحديث، وقال: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا البيعة في أصل الشجرة، فبايعته أول الناس ويايع، حتى إذا كان في وسط الناس، قال: "بايعني يا سلمة". فقلت: يا رسول الله قد بايعتك. قال: "وأيضا".
قال: ورآني عزلا فأعطاني حجفة أو درقة. ثم بايع، حتى إذا كان في آخر الناس قال: "ألا تبايع"؟ قلت: يا رسول الله قد بايعتك في أول الناس وأوسطهم. قال: "وأيضا". فبايعت الثالثة. فقال: "يا سلمة أين حجفتك أو درقتك التي أعطيتك"؟ قلت: لقيني عامر فأعطيتها إياه. فضحك ثم قال: "إنك كالذي قال الأول: اللهم ابغني حبيبا هو أحب إلي من نفسي". ثم إن مشركي مكة راسلونا بالصلح حتى مشى بعضنا إلى بعض فاصطلحنا. وكنت خادما لطلحة بن عبيد الله أسقي فرسه وأحسه وآكل من طعامه. وتركت أهلي ومالي مهاجرا إلى الله(سيرة 2/47)
ورسوله. فلما اصطلحنا واختلط بعضنا ببعض أتيت شجرة فكسحت شوكها فاضطجعت في ظلها. فأتاني أربعة من أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبغضتهم، فتحولت إلى شجرة أخرى، فعلقوا سلاحهم واضطجعوا. فبينا هم كذلك إذ ناد مناد من أسفل الوادي: يا للمهاجرين، قتل ابن زنيم. فاخترطت سيفي فشددت على أولئك الأربعة وهم رقد، فأخذت سلاحهم فجعلته ضغثا في يدي، ثم قلت: والذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم لا يرفع أحد منكم إلا ضربت الذي فيه عيناه، ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجاء عمي عامر برجل من العبلات يقال له: مكرز يقوده حتى وقفنا بهم على
رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين من المشركين، فنظر إليهم. وقال: "دعوهم، يكون لهم بدء الفجور وثناؤه". فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزلت: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} [الفتح: 24] ، أخرجه مسلم.
وقال حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أن رجالا من أهل مكة هبطوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قبل جبل التنعيم ليقاتلوه. قال: فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذا، فأعتقهم. فأنزل الله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} الآية، أخرجه مسلم.
وقال الوليد بن مسلم: حدثنا عمر بن محمد العمري، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر، أن الناس كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، قد(سيرة 2/48)
تفرقوا في ظلال الشجر، فإذا الناس محدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال -يعني عمر: يا عبد الله انظر ما شأن الناس؟ فوجدهم يبايعون، فبايع ثم رجع إلى عمر، فخرج فبايع.
أخرجه البخاري فقال: وقال هشام بن عمار، حدثنا الوليد. قلت: ورواه دحيم، عن الوليد.
قلت: وسميت بيعة الرضوان من قوله -تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18] .
قال أبو عوانة، عن طارق بن عبد الرحمن، عن سعيد بن المسيب، قال: كان أبي ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الشجرة، قال: فانطلقنا في قابل حاجين، فخفي علينا مكانها، فإن كانت تبينت لكم فأنتم أعلم. متفق عليه.
وقال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير المكي أنه سمع جابرا يقول: أخبرتني أم مبشر أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: "لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة
"الذين بايعوا تحتها أحد". قلت: بلى يا رسول الله، فانتهرها، فقال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] ، فقال: قد قال -تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72] ، أخرجه مسلم.
قرأت على عبد الحافظ بن بدران: أخبركم موسى بن عبد القادر، والحسين بن أبي بكر، قالا: أخبرنا عبد الأول بن عيسى، قال: أخبرنا(سيرة 2/49)
محمد بن أبي مسعود، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح، قال: حدثنا أبو القاسم البغوي، قال: حدثنا العلاء بن موسى إملاء، سنة سبع وعشرين ومائتين، قال: أخبرنا الليث بن سعد، عن أبي الزبير المكي، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل أحد ممن بايع تحت الشجرة النار". أخرجه النسائي.
وقال قتيبة: حدثنا الليث، عن أبي الزبير، عن جابر، أن عبدا لحاطب بن أبي بلتعة جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشكو حاطبا؛ قال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "كذبت لا يدخلها، فإنه شهد بدرا والحديبية".
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة، ومروان في قصة الحديبية؛ قالا: فدعت قريش سهيل بن عمرو؛ قالوا: اذهب إلى هذا الرجل فصالحه ولا تكونن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، لا تحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة. فخرج سهيل من عندهم، فلما رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقبلا، قال: "قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل". فوقع الصلح على أن توضع الحرب بينهما عشر
سنين، وأن يخلوا بينه وبين مكة من العام المقبل، فيقيم بها ثلاثا، وأنه لا يدخلها إلا بسلاح الراكب والسيوف في القرب، وأنه من أتانا من أصحابك بغير إذن وليه لم نرده عليك، ومن أتاك منا بغير إذن وليه رددته علينا، وأن بينا وبينك عيبة مكفوفة، وأنه(سيرة 2/50)
لا إسلال ولا إغلال.
وذكر الحديث.
الإسلال: الخفية، وقيل: الغارة، وقيل: سل السيوف والإغلال: الغارة.
وقال شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: لما صالح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مشركي مكة كتب بينهم كتابا: "هذا ما صالح عليه محمد رسول الله". قالوا: لو علمنا أنك رسول الله لم نقاتلك. قال لعلي: "امحه". فأبى، فمحاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده، وكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله. واشتراطوا عليه أن يقيموا ثلاثا، وأن لا يدخلوا مكة بسلاح إلا جلبان السلاح، يعني السيف بقرابه. متفق عليه.
وقال حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس نحوه أو قريبا منه. أخرجه مسلم.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني بريدة بن سفيان، عن محمد بن كعب أن كاتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للصلح كان عليا -رضي الله عنه- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو". فجعل علي يتلكأ ويأبى أن يكتب إلا: محمد رسول الله. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اكتب، فإن لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد"، فكتب: "هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله".
وقال عبد العزيز بن سياه: حدثنا حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل، قال: قام سهل بن حنيف يوم صفين فقال: أيها الناس اتهموا(سيرة 2/51)
أنفسكم، لقد كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية، ولو نرى قتالا لقاتلنا. فأتي عمر فقال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى. قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: ففيم نعطي الدنية في أنفسنا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ قال: "يا ابن الخطاب، إني رسول الله ولن يضيعني الله"، فانطلق متغيظا إلى أبي بكر، فقال له كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونزل القرآن، فأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عمر فأقرأه إياه. فقال: يا رسول الله، أوفتح هو؟ قال: "نعم"، فطابت نفسه ورجع. متفق عليه.
وقال يونس، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن المسور، ومروان، قالا: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عند أم سلمة فلم يكلم أحدا حتى أتى هديه فنحر وحلق. فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا وحلق بعض وقصر بعض. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر للمحلقين". فقيل: يا رسول الله والمقصرين؟ فقال: "اغفر للمحلقين"، ثلاثا. قيل: يا رسول الله وللمقصرين؟ قال: "وللمقصرين".
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: قيل له: لم ظاهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للمحلقين ثلاثا وللمقصرين واحدة؟ فقال: إنهم لم يشكوا.
وقال يونس -هو ابن بكير- عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي إبراهيم، عن أبي سعيد، قال: حلق أصحاب رسول(سيرة 2/52)
الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية كلهم غير رجلين؛ قصرا ولم يحلقا.
أبو إبراهيم مجهول.
وقال ابن عيينة، عن إبراهيم بن ميسرة، عن وهب بن عبد الله بن قارب، قال: كنت مع أبي، فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يرحم الله المحلقين". قال رجل: والمقصرين يا رسول الله؟ فلما كانت الثالثة، قال: "والمقصرين".
وقال يحيى بن أبي بكير، قال: حدثنا زهير بن محمد، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: نحر يوم الحديبية سبعون بدنة فيها جمل أبي جهل، فلما صدت عن البيت حنت كما تحن إلى أولادها.
ويروى عن ابن عباس، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أهدي في عمرة الحديبية جملا كان لأبي جهل، في أنفه برة من ذهب أهداه ليغيظ به قريشا.
وقال فليح بن سليمان، [عن نافع] عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج معتمرا، فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية، وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل، ولا يحمل سلاحا عليها إلا سيوفا، ولا يقيم بها إلا ما أحبوا، فاعتمر من العام المقبل، فدخلها كما صالحهم. فلما أن أقام بها ثلاثا، أمروه أن يخرج فخرج. أخرجه البخاري.
وقال مالك عن أبي الزبير، عن جابر، نحرنا بالحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة. رواه مسلم.(سيرة 2/53)
نزول سورة الفتح:
قال مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يسير في بعض أسفاره، وعمر معه ليلا. فسأله عمر عن شيء فلم يجبه، ثم سأله فلم يجيه، ثم سأله فلم يجبه، فقال عمر: ثكلتك أمك، نزرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال: فحركت بعيري حتى تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في قرآن، فلم أنشب أن سمعت صارخا يصرخ، قال: قلت: لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن، فجئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسلمت عليه، فقال: "لقد أنزلت علي الليلة سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس"، ثم قرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح] ، أخرجه البخاري.
وقال يونس بن بكير، عن عبد الرحمن المسعودي، عن جامع بن شداد، عن عبد الرحمن بن أبي علقمة، عن ابن مسعود؛ قال: لما أقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الحديبية، جعلت ناقته تثقل، فتقدمنا، فأنزل عليه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} .
وقال شعبة، عن قتادة، عن أنس: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} قال: فتح الحديبية، فقال رجل: هنيئا مريئا يا رسول الله هذا لك، فما لنا؟ فأنزلت: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} [الفتح: 5] .
قال شعبة: فقدمت الكوفة فحدثتهم عن قتادة، عن أنس، ثم قدمت البصرة فذكرت ذلك لقتادة، فقال: أما الأول فعن أنس، وأما الثاني:(سيرة 2/54)
{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} ، فعن عكرمة، أخرجه البخاري.
وقال همام: حدثنا قتادة، عن أنس، قال: لما نزلت: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} إلى آخر الآية على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرجعه من الحديبية، وأصحابه مخالطو الحزن والكآبة، فقال:
"نزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا". فلما تلاها قال رجل: قد بين الله ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فأنزلت التي بعدها: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} . أخرجه مسلم.
وقال يونس، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن المسور، ومروان قالا في قصة الحديبية: ثم انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- راجعا، فلما أن كان بين مكة والمدينة نزلت عليه سورة الفتح. فكانت القصة في سورة الفتح وما ذكر الله من بيعة الرضوان تحت الشجرة. فلما أمن الناس وتفاوضوا، لم يكلم أحد بالإسلام إلا دخل فيه. فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام أكثر مما كان فيه قبل ذلك. وكان صلح الحديبية فتحا عظيما.
وقال ابن لهيعة: حدثنا أبو الأسود، عن عروة؛ قالوا: وأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الحديبية راجعا. فقال رجال من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم: والله ما هذا بفتح؛ لقد صددنا عن البيت وصد هدينا، وعكف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالحديبية ورد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلين من المسلمين خرجا. فبلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قول رجال من أصحابه: إن هذا ليس بفتح، فقال: "بئس الكلام، هذا أعظم الفتح، لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألونكم القضية ويرغبون إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما(سيرة 2/55)
كرهوا، وقد أظفركم الله عليهم وردكم سالمين غانمين مأجورين، فهذا أعظم الفتوح. أنسيتم يوم أحد، إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم؟ أنسيتم يوم الأحزاب، إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم"؟، فقال المسلمون: صدق الله ورسوله، هذا أعظم الفتوح والله يا نبي الله.
قال ابن أبي عروبة، عن قتادة، قال: ظهرت الروم على فارس عند مرجع المسلمين من الحديبية، وقال مثل ذلك عقيل، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود.
وكانت بين الروم وبين فارس ملحمة مشهودة نصر الله -تعالى- فيها الروم، ففرح المسلمون بذلك، لكون أهل الكتاب في الجملة نصروا على المجوس.
وقال مغيرة، عن الشعبي في قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} ؛ قال: فتح الحديبية، وبايعوا بيعة الرضوان، وأطعموا نخيل خيبر، وظهرت الروم على فارس. ففرح المؤمنون بتصديق كتاب الله ونصر أهل الكتاب على المجوس.
وقال شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18] ، قال: خيبر. {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} [الفتح: 21] ، قال: فارس والروم.
وقال ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: أرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو بالحديبية أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين، فقالوا له حين نحر بالحديبية: أين رؤياك يا رسول الله؟ فأنزل الله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ} إلى قوله: {فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 27] ، يعني النحر بالحديبية، ثم رجعوا ففتحوا(سيرة 2/56)
خيبر، فكان تصديق رؤياه في السنة المقبلة.
وقال هشيم: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد، وعكرمة: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الفتح: 16] ، قالا: هوازن يوم حنين. رواه سعيد بن منصور في سننه.
وقال بندار: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، عن هشيم، فذكره، وزاد: هوازن وبنو حنيفة.
وقال عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في قوله: {أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} ، قال: فارس. وقال: {السَّكِينَة} هي الرحمة.
وقال أبو حذيفة النهدي: حدثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن أبي الأحوص، عن علي {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 4] ، قال: السكينة لها وجه كوجه الإنسان، ثم هي بعد ريح هفافة.
وقال ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: السكينة كهيئة الريح، لها رأس كرأس الهرة وجناحان.
وقال المسعودي، عن قتادة عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَة} ، قال السرية، {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} ، قال: هو محمد -صلى الله عليه وسلم. {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} [الرعد: 31] ، قال: فتح مكة.
وعن مجاهد: {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} ، قال: الحديبية ونحوها. رواه شريك، عن منصور، عنه.
وقال الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب: أخبرني عروة أنه سمع مروان بن الحكم، والمسور، يخبران عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما كاتب سهيل بن عمرو، فذكر الحديث، وفيه: وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذ(سيرة 2/57)
وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهن: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] .
قال عروة: فأخبرتني عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يمتحنهن بهذه الآية: {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} الآية [الممتحنة: 12] ، قالت: فمن أقر بهذا الشرط منهن قال لها: $"قد بايعتك"، كلاما يكلمها به، والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة، ما بايعهن إلا بقوله. أخرجه البخاري.
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، قال: ولما رجع رسول الله إلى المدينة انفلت من ثقيف أبو بصير بن أسيد بن جارية الثقفي من المشركين، فذكر من أمره نحوًا مما قدمناه. وفيه زيادة وهي: فخرج أبو بصير معه خمسة كانوا قدموا من مكة، ولم ترسل قريش في طلبهم كما أرسلوا في أبي بصير، حتى كانوا بين العيص وذي المروة من أرض جهينة على طريق عير قريش مما يلي سيف البحر، لا يمر بهم عير لقريش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها.
وانفلت أبو جندل في سبعين راكبا أسلموا وهاجروا، فلحقوا بأبي بصير، وقطعوا مادة قريش من الشام، وكان أبو بصير يصلي بأصحابه، فلما قدم عليه أبو جندل كان يؤمهم.
واجتمع إلى أبي جندل حين سمعوا بقدومه ناس من بني غفار(سيرة 2/58)
وأسلم وجهينة وطوائف، حتى بلغوا ثلاث مائة مقاتل وهم مسلمون، فأرسلت قريش إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألونه أن يبعث إلى أبي بصير ومن معه فيقدموا عليه، وقالوا: من خرج منا إليك فأمسكه، قال: ومر بأبي بصير أبو العاص بن الربيع من الشام فأخذوه، فقدم على امرأته زينب سرا. وقد تقدم شأنه.
وأرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتابه إلى أبي بصير أن لا يعترضوا لأحد. فقدم الكتاب على أبي جندل وأبي بصير، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في يده يقرؤه، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا.
وقال يحيى بن أبي كثير: حدثني أبو سلمة، أن أبا هريرة حدثه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا
صلى العشاء الآخرة نصب في الركعة الآخرة بعدما يقول: "سمع الله لمن حمده"، ويقول: "اللهم نج الوليد بن الوليد، اللهم نج سلمة بن هشام، اللهم نج عياش بن أبي ربيعة، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين مثل سني يوسف". ثم لم يزل يدعو حتى نجاهم الله -تعالى- ثم ترك الدعاء لهم بعد ذلك.
وفي سنة ست:
مات سعد بن خولة -رضي الله عنه- في الأسر بمكة. ورثى له النبي -صلى الله عليه وسلم- لكونه مات بمكة.
وفيها قتل هشام بن صبابة أخو مقيس، قتله رجل من المسلمين وهو يظن أنه كافر، فأعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- مقيسا ديته. ثم إن مقيسا قتل قاتل أخيه، وكفر وهرب إلى مكة.(سيرة 2/59)
وفي ذي الحجة: ماتت أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية، أم عائشة -رضي الله عنهما- أخرج البخاري من رواية مسروق عنها حديثا وهو منقطع؛ لأنه لم يدركها، أو قد أدركها فيكون تاريخ موتها هذا خطأ. والله أعلم.(سيرة 2/60)
السنة السابعة:
غزوة خيبر:
قال عبد الله بن إدريس، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، قال: كان افتتاح خيبر في عقب المحرم، وقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في آخر صفر.
قلت: وكذا رواه ابن إسحاق عن غير عبد الله بن أبي بكر.
وذكر الواقدي، عن شيوخه، في خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى خيبر: في أول سنة سبع.
وشذ الزهري فقال، فيما رواه عنه موسى بن عقبة في مغازيه، قال: ثم قاتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم خيبر من سنة ست. وهذا لا يصح إلا إذا جعلنا ذلك في السنة السادسة من ساعة قدومه المدينة. والله أعلم.
وخيبر: بليدة على ثمانية برد من المدينة.
قال وهيب: حدثنا خثيم بن عراك، عن أبيه، عن نفر من بني غفار، قالوا: إن أبا هريرة قدم المدينة وقد خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى خيبر، واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري.
قال أبو هريرة: فوجدناه في صلاة الصبح، فقرأ في الركعة الأولى {كهيعص} [مريم: 1] ، وقرأ في الثانية {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِين} [المطففين: 1] ، قال أبو(سيرة 2/61)
هريرة: فأقول في صلاتي: ويل لأبي فلان له مكيالان، إذا اكتال بالوافي، وإذا كال كال بالناقص. قال: فلما فرغنا من صلاتنا أتينا سباع ابن عرفطة فزودنا شيئا حتى قدمنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد فتح خيبر، فكلم المسلمين فأشركونا في سهمانهم.
وقال مالك، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار: أخبرني سويد بن النعمان، أنه خرج مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام خيبر، حتى إذا كانوا بالصهباء -وهي أدنى خيبر- صلى العصر، ثم دعا بأزواد فلم يؤت إلا بالسويق، فأمر به فثري، فأكل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأكلنا. ثم قام إلى المغرب فمضمض ومضمضنا، ثم صلى ولم يتوضأ. أخرجه البخاري.
وقال حاتم بن إسماعيل، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة، قال: خرجنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى خيبر فسرنا ليلا. فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هنيهاتك؟. وكان عامر رجلا شاعرا فنزل يحدو بالقوم ويقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداء لك ما اقتفينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
وألقين سكينة علينا ... إنا إذا صيح بنا أتينا
وبالصياح عولوا علينا
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من هذا السائق"؟ قالوا: عامر. قال: "يرحمه الله". قال رجل من القوم: وجبت يا رسول الله، لولا أمتعتنا به. فأتينا خيبر فحاصرهم، حتى أصابتنا مخمصة شديدة. فلما أمسى(سيرة 2/62)
الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم أوقدوا نيرانا كثيرة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما هذه النيران على أي شي توقد"؟ قالوا: على لحم حمر إنسية. فقال: "أهريقوها واكسروها". فقال رجل: أو يهريقوها ويغسلوها. قال: "أو ذاك".
قال: فلما تصاف القوم كان سيف عامر فيه قصر، فتناول به ساق يهودي ليضربه، فيرجع ذباب سيفه فأصاب عين ركبة عامر، فمات منه. فلما قفلوا قال سلمة، وهو آخذ بيدي لما رآني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ساكتا، قال: "مالك"؟ قلت: فداك أبي وأمي، زعموا أن عامرا حبط عمله. قال: "من قاله"؟ قلت: فلان وأسيد بن حضير. فقال: "كذب من قاله، له أجران، وجمع بين أصبعيه، إنه لجاهد مجاهد قل عربي مشى بها مثله". متفق عليه.
وقال مالك: عن حميد، أنس، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين خرج إلى خيبر أتاها ليلا.
وكان إذا أتى قوما بليل لم يغر حتى يصبح. فلما أصبح خرجت يهود بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوه قالوا: محمد والله، محمد والخميس. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر خربت خيبر. إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين". أخرجه البخاري. وأخرجاه من حديث ابن صهيب، عن أنس.
وقال غير واحد: شعبة، وابن فضيل، عن مسلم الملائي، عن أنس، قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعود المريض، ويتبع الجنازة، ويجيب(سيرة 2/63)
دعوة الملوك، ويركب الحمار، ولقد رأيته يوم خيبر على حمار خطامه ليف.
وقال يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم: أخبرني سهل بن سعد، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال يوم خيبر: "لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله". قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها؟ فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كلهم يرجوا أن يعطاها. فقال: "أين علي بن أبي طالب"؟ قيل: هو يا رسول الله يشتكي عينيه. قال: فأرسلوا إليه. فأتي به فبصق رسول الله في عينيه ودعا له، فبرأ حتى كان لم يكن به وجع. فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ قال: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم". أخرجه عن قتيبة، عن يعقوب.
وقال سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لأعطين الراية غدا رجلا يجب الله ورسوله، يفتح الله على يديه". فقال عمر: أحببت الإمارة قط حتى يؤمئذ. فدعا عليا فبعثه، ثم قال: "اذهب فقاتل حتى يفتح الله عليك ولا تلتفت"، قال علي: علام أقاتل الناس؟ قال: "قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله". أخرجه مسلم، وأخرجا نحوه من(سيرة 2/64)
حديث سلمة بن الأكوع.
وقال عكرمة بن عمار: حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع، قال: حدثني أبي أن عمه عامرا حدا بهم، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "غفر لك ربك". قال: وما خص بها أحد إلا استشهد. فقال عمر: هلا متعتنا بعامر؟ فقدمنا خبير، فخرج مرحب وهو يخطر بسيفه، ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
فبرز له عامر، وهو يقول:
قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مغامر
قال: فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عامر، فذهب عامر يسفل له، فرجع بسيفه على نفسه فقطع أكحله، وكانت نفسه. قال سلمة: فخرجت فإذا نفر من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يقولون: بطل عمل عامر، قتل نفسه. فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا أبكي، قال: "ما لك"؟ فقلت: قالوا إن عامرا بطل عمله. قال: "من قال ذلك "؟ قلت: نفر من أصحابك. فقال: "كذب أولئك بل له من الأجر مرتين" قال: فأرسل إلى علي يدعوه وهو أرمد فقال: لأعطين الراية اليوم رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. قال: فجئت به أقوده. قال: فبصق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عينيه فبرأ، فأعطاه الراية. قال: فبرز مرحب وهو يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
قال: فبرز له علي -رضي الله عنه- وهو يقول:(سيرة 2/65)
أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظره
أوفيهم بالصاع كيل السندره
فضرب مرحبا ففلق رأسه فقتله، وكان الفتح. أخرجه مسلم.
وقال البكائي: قال ابن إسحاق، فحدثني محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبي الهيثم بن نصر الأسلمي أن أباه حدثه أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول -في مسيره لخيبر- لعامر بن الأكوع: خذ لنا من هناتك فنزل يرتجز، فقال:
والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
إنا إذا قوم بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يرحمك الله". فقال عمر: وجب والله يا رسول الله، لو أمتعتنا به. فقتل يوم خيبر شهيدا.
وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: حدثني بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي، عن أبيه، عن سلمة بن الأكوع، قال: فخرج علي -رضي الله عنه- بالراية يهرول وإنا نخلفه حتى ركزها في رضم من حجارة تحت الحصن. فاطلع إليه يهودي من رأس الحصن فقال: من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب: فقال اليهودي: غلبتم -وعند البكائي: علوتم -وما أنزل على موسى. فما رجع حتى فتح الله عليه.
وقال يونس بن بكير، عن المسيب بن مسلم الأزدي: حدثنا عبد الله(سيرة 2/66)
بن بريدة، عن أبيه، قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ربما أخذته الشقيقة فيلبث اليوم واليومين لا يخرج، ولما نزل خيبر أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس، وأن أبا بكر أخذ راية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم نهض فقاتل قتالا شديدا، ثم رجع. فأخذها عمر فقاتل قتالا شديدا هو أشد من القتال الأول، ثم رجع فأخبر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "لأعطينها غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يأخذها عنوة"، وليس ثم علي. فتطاولت لها قريش، رجاكل رجل منهم أن يكون صاحب ذلك. فأصبح وجاء علي على بعير حتى أناخ قريبا، وهو أرمد قد عصب عينه بشق برد قطري. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما لك"؟ قال: رمدت بعدك، قال: "ادن مني"، فتفل في عينه، فما وجعها حتى مضى لسبيله، ثم أعطاه الراية فنهض بها، وعليه جبة أرجوان حمراء قد أخرج خملها، فأتى مدينة خيبر.
وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر مظهر يماني وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه، وهو يرتجز، فارتجز علي واختلفا ضربتين، فبدر علي بضربة، فقد الحجر والمغفر ورأسه ووقع في الأضراس، وأخذ المدينة.
وقال عوف الأعرابي، عن ميمون أبي عبد الله الأزدي، عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: فاختلف مرحب وعلي ضربتين، فضربه علي على هامته حتى عض السيف بأضراسه. وسمع أهل العسكر صوت ضربته.(سيرة 2/67)
وما تتام آخر الناس مع علي حتى فتح الله له ولهم.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن الحسن، عن بعض أهله، عن أبي رافع مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال: خرجنا مع علي حين بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- برايته. فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم، فضربه رجل من يهود فطرح ترسه من يده، فتناول علي باب الحصن فترس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه. ثم ألقاه من يده، فلقد رأيتني مع نفر سبعة أنا ثامنهم، نجهد أن نقلب ذلك الباب فما استطعنا أن نقلبه.
رواه البكائي، عن ابن إسحاق، عن أبي رافع منقطعا، وفيه: فتناول على بابا كان عند الحصن. والباقى بمعناه.
وقال إسماعيل بن موسى السدي: حدثنا مطلب بن زياد، عن ليث بن أبي سليم، عن أبي جعفر محمد بن علي، قال: دخلت عليه، فقال: حدثني جابر بن عبد الله أن عليا حمل الباب يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه، فافتتحوها، وأنه خرب بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلًا.
تابعه فضيل بن عبد الوهاب، عن مطلب.
وقال يونس بن بكير، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن الحكم، والمنهال بن عمرو، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: كان علي يلبس في الحر والشتاء القباء المحشو الثخين وما يبالي الحر، فأتاني أصحابي فقالوا: إنا قد رأينا من أمير المؤمنين شيئا فهل رأيته؟ فقتلت: وهو؟ قالوا: رأيناه يخرج علينا في الحر الشديد في القباء(سيرة 2/68)
المحشو وما يبالي الحر، ويخرج علينا في البرد الشديد في الثوبين الخفيفين وما يبالي البرد، فهل سمعت في ذلك شيئا؟ فقلت: لا. فقالوا: سل لنا أباك فإنه يسمر معه. فسألته فقال: ما سمعت في ذلك شيئا. فدخل عليه فسمر معه فسأله فقال علي: أو ما شهدت معنا خيبر؟ قال: بلي. قال: فما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين دعا أبا بكر فعقد له وبعثه إلى القوم، فانطلق فلقي القوم، ثم جاء بالناس وقد هزموا؟ فقال: بلي. قال: ثم بعث إلى عمر فعقد له وبعثه إلى القوم، فانطلق فلقي القوم فقاتهلم ثم رجع وقد هزم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك: "لأعطين الراية رجلا يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله يفتح الله عليه غير فرار"، فدعاني فأعطاني الراية، ثم قال: "اللهم اكفه الحر والبرد"، فما وجدت بعد ذلك حرا ولا بردا.
وقال أبو عوانة، عن مغيرة الضبي، عن أم موسى، قالت: سمعت عليا يقول: ما رمدت ولا صدعت مذ دفع إلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الراية يوم خيبر.
رواه أبو داود الطيالسي في مسنده.
فصل فيمن ذكر أن مرحبا قتله محمد بن مسلمة:
قال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام يوم خيبر فوعظهم. وفيه: فخرج اليهود بعاديتها، فقتل صاحب عادية اليهود فانقطعوا. وقتل محمد بن مسلمة الأشهلي مرحبا اليهودي.(سيرة 2/69)
وقال ابن لهيعة: حدثنا أبو الأسود، عن عروة، نحوه.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن سهل الحارثي، عن جابر بن عبد الله، قال: خرج مرحب اليهودي من حصن خيبر، قد جمع سلاحه وهو يرتجز ويقول: من يبارز؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من لهذا"؟ فقال محمد بن مسلمة: أنا له، أنا والله الموتور الثاثر، قتلوا أخي بالأمس. قال: "قم إليه، اللهم أعنه عليه". فلما تقاربا دخلت بينهما شجرة عمرية، فجعل كل واحد منها يلوذ بها من صاحبه، كلما لاذ بها أحدهما اقتطع بسيفه ما دونه، حتى برز كل واحد منهما، وصارت بينهما كالرجل القائم ما فيها فنن، ثم حمل على محمد فضربه فاتقاه بالدرقة، فعضت بسيفه فأمسكته، وضربه محمد حتى قتله، فقيل: إنه ارتجز فقال:
قد علمت خيبر أني ماضي ... حلو إذا شئت وسم قاضي
وكان ارتجاز مرحب:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الليوث أقبلت تلهب ... وأحجمت عن صولة المغلب
أطعن أحيانا وحينا أضرب ... إن حماي للحمى لا يقرب
وقال الواقدي: حدثني محمد بن الفضل بن عبيد الله بن رافع بن خديج، عن أبيه، عن جابر، قال: وحدثني زكريا بن زيد، عن عبد الله بن أبي سفيان، عن أبيه، عن سلمة بن سلامة، قال: وعن مجمع بن يعقوب، عن أبيه، عن مجمع بن جارية، قالوا جميعا: إن محمد بن مسلمة قتل مرحبا.(سيرة 2/70)
وذكر الواقدي، عن إبراهيم بن جعفر بن محمود بن محمد بن مسلمة، عن أبيه، أن عليا حمل على مرحب فقطره على الباب، وفتح على الباب الآخر، وكان للحصن بابان.
قال الواقدي: وقيل: إن محمد بن مسلمة ضرب ساقي مرحب فقطعهما، فقال: أجهز علي يا محمد. فقال: ذق الموت كما ذاقه أخي محمود، وجاوزه، ومر به علي فضرب عنقه وأخذ سلبه. فاختصما إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سلبه، فأعطاه محمدا. وكان عند آل محمد بن مسلمة فيه كتاب لا يدرى ما هو، حتى قرأه يهودي من يهود تيماء فإذا فيه: هذا سيف مرحب من يذقه يعطب.
قال الواقدي: حدثني محمد بن الفضل بن عبيد الله بن رافع، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، قال: برز مرحب وكان طوالا جسيما، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين برز وطلع: "أترونه خمسة أذرع"؟ وهو يدعو إلى البراز؛ فبرز له علي فضربه ضربات، كل ذلك لا يصنع شيئا، حتى ضرب ساقيه فبرك، ثم دفف عليه وأخذ سلاحه.
قال ابن إسحاق: ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر، فبرز له الزبير فقتله.
وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة. ورواه موسى بن عقبة -واللفظ له- قال: ثم دخلوا حصنا لهم منيعا يدعى القموص، فحاصرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- قريبا من عشرين ليلة.
وكانت أرضًا وخمة شديدة الحر، فجهد المسلمون جهدا شديدا، فوجدوا أحمرة ليهود، فذكر(سيرة 2/71)
قصتها، ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أكلها. ثم قال: وجاء عبد حبشي من أهل خيبر كان في غنم لسيده، فلما رأى أهل خيبر قد أخذوا السلاح، سألهم ما تريدون؟ قالوا: نقاتل هذا الذي يزعم أنه نبي. فوقع في نفسه، فأقبل بغنمه حتى عمد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسلم، وقال: ماذا لي؟ قال: "الجنة" فقال: يا رسول الله إن هذه الغنم عندي أمانة. قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أخرجها من عسكرنا وارمها بالحصباء فإن الله سيؤدي عنك أمانتك"، ففعل؛ فرجعت الغنم إلى سيدها. ووعظ النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس، إلى أن قال: "وقتل من المسلمين العبد الأسود، فاحتملوه فأدخل في فسطاط، " فزعموا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اطلع في الفسطاط، ثم أقبل على أصحابه فقال: "لقد أكرم الله هذا العبد، وقد رأيت عند رأسه اثنتين من الحور العين".
وقال ابن وهب: أخبرني حيوة بن شريح، عن ابن الهاد، عن شرحبيل بن سعد، عن جابر بن عبد الله، قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة خيبر، فخرجت سرية فأخذوا إنسانا معه غنم يرعاها، فجاؤوا به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكلمه، فقال له الرجل: إني قد آمنت بك فكيف بالغنم فإنها أمانة، وهي للناس الشاة والشاتان، قال: "احصب وجوهها ترجع إلى أهلها". فأخذ قبضة من حصباء أو تراب فرمى بها وجوهها، فخرجت تشتد حتى دخلت كل
شاة إلى أهلها. ثم تقدم إلى الصف، فأصابه سهم فقتله. ولم يصل لله سجدة قط، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أدخلوه الخباء" فأدخل خباء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل عليه ثم خرج فقال: "لقد حسن إسلام صاحبكم، لقد دخلت عليه وإن عنده لزوجتين له من الحور العين".(سيرة 2/72)
وهذا حديث حسن أو صحيح.
وقال مؤمل بن إسماعيل: حدثنا حماد، قال: حدثنا ثابت، عن أنس، أن رجلا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إني رجل أسود اللون، قبيح الوجه، منتن الريح، لا مال لي، فإن قاتلت هؤلاء حتى أقتل أدخل الجنة؟ قال: "نعم". فتقدم فقاتل حتى قتل. فأتى عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مقتول، فقال: "لقد أحسن الله وجهك وطيب روحك وكثر مالك". قال: وقال -لهذا أو لغيره: "لقد رأيت زوجتيه من الحور العين ينازعانه جبته عنه، يدخلان فيما بين جلده وجبته". وهذا حديث صحيح.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن بعض أسلم، أن بعض بنى سهم من أسلم أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخيبر، فقالوا: يا رسول الله، والله لقد جهدنا وما بأيدينا شيء، فلم يجدوا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئا، فقال: "اللهم إنك قد علمت حالهم وأنهم ليست لهم قوة وليس بيدي ما أعطيهم إياه، فافتح عليهم أعظم حصن بها غني، أكثره طعاما وودكا". فغدا الناس ففتح الله عليهم حصن الصعب بن معاذ، وما بخبير حصن أكثر طعاما وودكا منه. فلما افتتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حصونهم ما افتتح، وحاز من الأموال ما حاز انتهوا إلى حصنيهم الوطيح والسلالم، وكانا آخر حصون خيبر افتتاحا، فحاصرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بضع عشرة ليلة.(سيرة 2/73)
ذكر صفية:
وقال البكائي، عن ابن إسحاق، قال: وتدنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأموال، يأخذها مالا مالا، ويفتحها حصنا حصنا. فكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم، وعنده قتل محمود بن مسلمة الأنصاري أخو محمد، ألقيت عليه رحى فقتلته. ثم القموص؛ حصن ابن أبي الحقيق. وأصاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم سبايا، منهن صفية بنت حيي بن أخطب، وبنتا عم لها، فأعطاهما دحية الكلبي.
وقال يونس، عن ابن إسحاق، حدثني ابن لمحمد بن مسلمة الأنصاري عمن أدرك من أهله، وحدثنيه مكنف، قالا: حاصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهل خيبر في حصنيهم الوطيح والسلالم، حتى إذا أيقنوا بالهلكة، سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يسيرهم ويحقن دماءهم، ففعل. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد حاز الأموال كلها: الشق والنطاة والكتيبة وجميع حصونهم، إلا ما كان في ذينك الحصنين. فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا، بعثوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسألونه أن يسيرهم ويحقن دماءهم، ويخلون بينه وبين الأموال، ففعل. فكان ممن مشى بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبينهم، في ذلك، محيصة بن مسعود. فلما نزلوا على ذلك سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يعاملهم على الأموال على النصف، وقال: "نحن أعلم بها منكم وأعمر لها". فصالحهم على النصف على أنا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم. وصالحه أهل فدك على مثل ذلك. فكانت أموال خيبر فيئا بين المسلمين، وكانت فدك خالصة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن(سيرة 2/74)
المسلمين لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب.
وقال حماد بن زيد، عن ثابت، وعبد العزيز بن صهيب، عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما ظهر على أهل خيبر قتل المقاتلة وسبى الذراري، فصارت صفية لدحية الكلبي، ثم صارت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم تزوجها وجعل صداقها عتقها. متفق عليه.
وقال يعقوب بن عبد الرحمن، عن عمرو بن أبي عمرو، عن أنس، قال: ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- جمال صفية، وكانت عروسًا وقتل زوجها، فاصطفاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنفسه، فلما كنا بسد الصهباء حلت، فبنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم: واتخذ حيسا في نطع صغير، وكانت وليمته.
فرأيته يحوي لها بعباءة خلفه، ويجلس عند ناقته، فيضع ركبته فتجيء صفية فتضع رجلها على ركبته ثم تركب. فلما بدا لنا أحد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هذا جبل يحبنا ونحبه".
أخرجه البخاري، بأطول من هذا، ومسلم.
وقال محمد بن جعفر بن أبي كثير: أخبرني حميد، سمع أنسا، قال: أقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين خيبر والمدينة ثلاث ليال يبني عليه بصفية، فدعوت المسلمين إلى وليمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ما كان فيها من خبز ولا لحم، وما كان إلا أن أمر بالأنطاع فبسطت، وألقي عليها التمر والأقط والسمن. فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين هي أو مما ملكت يمينه؟ قالوا: إن حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين، وإن(سيرة 2/75)
لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه. فلما ارتحل وطأ لها خلفه، ومد الحجاب بينها وبين الناس. أخرجه البخاري.
وقال حماد بن سلمة: حدثنا عبيد الله بن عمر- فيما أحسب- عن نافع عن ابن عمر، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم، فغلب على الأرض والزرع والنخل، فصالحوه على أن يجلوا منها، ولهم ما حملت ركابهم، ولرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصفراء
والبيضاء، ويخرجون منها، واشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد. فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب، كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعم حيي: "ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير"؟ قال: أذهبته النفقات والحروب. فقال: " العهد قريب والمال أكثر من ذلك". فدفعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الزبير، فمسه بعذاب، وقد كان حيي قبل ذلك دخل خربة، فقال عمه: قد رأيت حييا يطوف في خربة ههنا. فذهبوا فطافوا، فوجدوا المسك في الخربة. فقتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابني حقيق، وأحدهما زوج صفية. وسبى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نساءهم وذراريهم، وقسم أموالهم بالنكث الذي نكثوا. وأراد أن يجليهم منها، فقالوا: يا محمد، دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها. ولم يكن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها، فأعطاهم على النصف ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان عبد الله بن رواحة يأتيهم كل عام فيخرصها عليهم ثم يضمنهم الشطر. فشكوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شدة خرصه، وأرادوا أن يرشوه فقال: يا أعداء الله تطمعوني السحت؟ والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي، ولأنتم أبغض إلي من عدتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني(سيرة 2/76)
بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم. فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض.
قال: ورأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعين صفية خضرة، فقال: "ما هذه"؟ قالت: كان رأسي في حجر ابن أبي الحقيق وأنا نائمة، فرأيت كأن قمرا وقع في حجري فأخبرته بذلك، فلطمني وقال: تمنين ملك يثرب؟ قالت: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أبغض الناس إلي، قتل أبي وزوجي. فما زال يعتذر إلي ويقول: "إن أباك ألب العرب علي وفعل وفعل"، حتى ذهب ذلك من نفسي.
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطي كل امرأة من نسائه ثمانين وسقا من تمر كل عام، وعشرين وسقا من شعير.
فلما كان زمن عمر غشوا المسلمين، وألقوا ابن عمر من فوق بيت، ففدعوا يديه، فقال عمر: من كان له سهم بخيبر فليحضر، حتى قسمها بينهم. وقال رئيسهم: لا تخرجنا، دعنا نكون فيها كما أقرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر. فقال له: أتراه سقط عني قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كيف بك إذا رقصت بك راحلتك تخوم الشام يوما ثم يوما ثم يوما. وقسمها عمر بين من كان شهد خيبر من أهل الحديبية.
استشهد به البخاري في كتابه، فقال: ورواه حماد بن سلمة.
وقال أبو أحمد المرار بن حمويه: حدثنا محمد بن يحيى الكناني، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لما فدعت بخيبر قام عمر خطيبا، فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عامل يهود خيبر على أموالها، وقال: "نقركم ما أقركم الله"، وإن عبد الله بن عمر خرج إلى خيبر، ماله(سيرة 2/77)
هناك، فعدي عليه من الليل ففدعت يداه، وليس لنا هناك عدو غيرهم، وهم تهمتنا، وقد رأيت إجلاءهم. فلما أجمع على ذلك أتاه أحد بني أبي الحقيق فقال: يا أمير المؤمنين، تخرجنا وقد أقرنا محمد وعاملنا؟ فقال: أظننت أني نسيت قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك ليلة بعد ليلة. فأجلاهم وأعطاهم قيمة مالهم من الثمر مالًا وإبلًا وعروضا من أقتاب وحبال وغير ذلك. أخرجه البخاري عن أبي أحمد.
وقال ابن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، عن رجال من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما ظهر على خيبر قسمها على ستة وثلاثين سهما، جمع كل سهم مائة سهم، فكان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وللمسلمين النصف من ذلك. وعزل النصف الباقي لمن نزل به من الوفود والأمور ونوائب الناس. أخرجه أبو داود.
وقال سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قسم خيبر ستة وثلاثين سهما، فعزل للمسلمين ثمانية عشر سهما، يجمع كل سهم مائة،
والنبي -صلى الله عليه وسلم- معهم وله سهم كسهم أحدهم. وعزل النصف لنوائبه وما ينزل به من أمور المسلمين، فكان ذلك الوطيح والسلالم والكتيبة وتوابعها، فلما صارت الأموال بيد النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، لم يكن لهم عمال يكفونهم عملها، فدعا اليهود فعاملهم.
قال البيهقي -رحمه الله: وهذا لأن بعض خيبر فتح عنوة، وبعضها صلحا. فقسم ما فتح عنوة بين أهل الخمس والغانمين، وعزل ما فتح(سيرة 2/78)
لنوائبه وما يحتاج إليه في مصالح المسلمين.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن خيبر يوم أشركها النبي -صلى الله عليه وسلم- كان فيها زرع، ونخل فكان يقسم لنسائه كل سنة لكل واحدة منهن مائة وسق تمر، وعشرين وسق شعير لكل امرأة.
رواه الذهلي، عن عبد الرزاق، فأسقط منه: ابن عمر.
وقال ابن وهب: قال يحيى بن أيوب: حدثني إبراهيم بن سعد، عن كثير مولى بني مخزوم، عن عطاء، عن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قسم لمائتي فرس يوم خيبر سهمين سهمين.
قال ابن وهب: وقال لي يحيى بن أيوب، عن يحيى بن سعيد، وصالح بن كيسان مثل ذلك.
وقال ابن عيينة، حدثنا يحيى بن سعد، عن صالح بن كيسان، قال: كانوا يوم خيبر ألفا وأربع مائة، وكانت الخيل مائتي فرس.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: أخبرني الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن جبير بن مطعم، قال: لم قسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سهم ذوي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب، مشيت أنا وعثمان فقلنا: يا رسول الله، هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله به منهم، أرأيت إخوتنا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا، وإنما نحن وهم بمنزل واحد منك. فقال: "إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد"، ثم شبك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يديه إحداهما في الأخرى.(سيرة 2/79)
استشهد به البخاري.
وقال شعبة، عن حميد بن هلال، عن عبد الله بن مغفل، قال: دلى جراب من شحم يوم خيبر فالتزمته، وقلت: هذا لا أعطي أحدا منه شيئا. فالتفت فإذا النبي -صلى الله عليه وسلم- يتبسم فاستحييت منه. متفق عليه.
وقال أبو معاوية: حدثنا أبو إسحاق الشيباني، عن محمد بن أبي مجالد، عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: قلت: أكنتم تخمسون الطعام في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أصبنا طعاما يوم خيبر فكان الرجل يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينصرف. أخرجه أبو داود.
وقال أبو معاوية، عن عاصم الأحوال، عن أبي عثمان النهدي -أو عن أبي قلابة- قال: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيبر قدم والتمرة خضرة، فأشرع الناس فيها فحموا، فشكوا ذلك إليه فأمرهم أن يقرسوا الماء في الشنان، ثم يحدرون عليهم بين أذاني الفجر، ويذكرون اسم الله عليه، قال: ففعلوا فكأنما نشطوا من عقل.
وقال بشر بن المفضل، عن محمد بن زيد: حدثني عمير مولى آبي اللحم، قال: شهدت خيبر، مع سادتي، فكلموا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأمر به فقلدت سيفا، فإذا أنا أجره، فأخبر أني مملوك، فأمر لي بشيء من خرثي المتاع. أخرجه أبو داود.(سيرة 2/80)
ذكر من استشهد على خيبر:
على ما ذكر ابن إسحاق، قال: من حلفاء بني أمية: ربيعة بن أكثم، وثقف بن عمرو، ورفاعة بن مسروح.
ومن بني أسد بن عبد العزى: عبد الله بن الهبيب.
ومن الأنصار: فضيل بن النعمان السلمي، ومسعود بن سعد الزرقي، وأبو الضياح بن ثابت، أحد بني عمرو بن عوف، والحارث بن حاطب، وعروة بن مرة، وأوس بن القائف، وأنيف بن حبيب، وثابت بن أثلة، وطلحة، وعمارة بن عقبة الغفاري.
وقد تقدم: عامر بن الأكوع، ومحمود بن مسلمة، والأسود الراعي.
وزاد عبد الملك بن هشام، فقال: مسعود بن ربيعة، حليف بني زهرة، وأوس بن قتادة الأنصاري.
وزاد بعضهم، فقال: ومبشر بن عبد المنذر، وأبو سفيان بن الحارث، وليس بالهاشمي، والله أعلم.(سيرة 2/81)
قدوم جعفر بن أبي طالب ومن معه:
البخاري ومسلم قالا: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثني بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري، قال: بلغنا مخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم، أحدهما أبو رهم، والآخر أبو بردة، إما قال: بضع، وإما قال: في ثلاثة، أو اثنين وخمسين رجلا من قومي، فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده. فقال جعفر: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثنا وأمرنا؛ يعني بالإقامة؛ فأقيموا معنا، فأقمنا معه، حتى قدمنا جميعا، فوافقنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين فتح خيبر. فأسهم لنا، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر شيئا إلا لمن شهد معه، إلا أصحاب سفينتنا، مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم.
قال: فكان أناس من الناس يقولون لنا: سبقناكم بالهجرة.
قال: ودخلت أسماء بنت عميس؛ وهي ممن قدمت معنا؛ على حفصة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- زائرة وقد كانت هاجرت إلى النجاشي. فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال عمر حين رأي أسماء: من هذه؟ فقال: أسماء بنت عميس، قال: عمر: الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟ فقالت أسماء: نعم. فقال عمر: سبقناكم بالهجرة، نحن أحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فغضبت، فقالت كلمة: يا عمر! كلا والله، كنتم مع رسول الله -(سيرة 2/82)
صلى الله عليه وسلم- يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في دار -أو أرض- البعداء، أو البغضاء، بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله، وايم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونحن كنا نؤذي ونخاف، وسأذكر له ذلك وأسأله. فلما جاء قالت: يا نبي الله، إن عمر قال كذا وكذا. قال: "ليس بأحق بي منكم، له ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم -أهل السفينة- هجرتان". قلت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتوني أرسالا، يسألونني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أفراج ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال أبو بردة: قالت: أسماء: فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني. وقال: "لكم الهجرة مرتين، هاجرتم إلى النجاشي وهاجرتم إلي".
وقال أجلح بن عبد الله، عن الشعبي، قال: لما قدم جعفر من الحبشة تلقاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقبل جبهته، ثم قال: "والله ما أدري بأيهما أفرح، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر". وبعضهم يقول: عن أجلح، عن الشعبي، عن جابر.
وقال ابن عيينة: حدثنا الزهري، أنه سمع عنبسة بن سعيد القرشي يحدث عن أبي هريرة، قال: قدمت المدينة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخيبر حين افتتحها، فسألته أن يسهم لي. فتكلم بعض ولد سعيد بن العاص فقال: لا تسهم له يا رسول الله. فقلت: هذا قاتل ابن قوقل.
فقال: أظنه ابن سعيد بن العاص: يا عجبي لوبر قد تدلى علينا من قدوم ضال يعيرني بقتل امرئ مسلم أكرمه الله على يدي، ولم يهني على يديه.(سيرة 2/83)
هذا لفظ أبي داود، وأخرجه البخاري، لكن قال: من قدوم ضأن.
وقال إسماعيل بن عياش، عن الزبيدي، عن الزهري: أخبرني عنبسة بن سعيد، أنه سمع أبا هريرة يخبر سعيد بن العاص، قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبان على سرية قبل نجد، فقدم أبان وأصحابه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخيبر بعد فتحها، وإن حزم خيلهم لليف، فقلت: يا رسول الله لا تقسم لهم. فقال أبان: وأنت بهذا يا وبر تحدر من رأس ضال. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: يا أبان، اجلس. فلم يقسم لهم. علقه البخاري في صحيحه، فقال: ويذكر عن الزبيدي.
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، قال: كانت بنو فزارة ممن قدم على أهل خيبر ليعينوهم، فراسلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن لا يعينوهم، وسألهم أن يخرجوا عنهم، ولكم من خبير كذا وكذا. فأبوا عليه. فلما فتح الله خيبر، أتاه من كان هنالك من بني فزارة، قالوا: حظنا والذي وعدتنا. فقال: "حظكم"؛ أو قال: لكم ذو الرقيبة -لجبل من جبال خيبر- قالوا: إذا نقاتلك. فقال: "موعدكم جنفاء". فلما سمعوا ذلك هربوا. جنفاء: ماء من مياه بني فزارة.
وقال البخاري: حدثنا مكي بن إبراهيم، قال: حدثنا يزيد بن أبي عبيد، قال: رأيت أثر ضربة في ساق سلمة فقلت: يا أبا مسلم، ما هذه الضربة؟ فقال: هذه ضربة أصابتني يوم خيبر، فقال الناس: أصيب(سيرة 2/84)
سلمة، فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فنفث فيه ثلاث نفثات، فما اشتكيتها حتى الساعة.
قال عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التقى هو والمشركون في بعض مغازيه، فاقتتلوا. فمال كل قوم إلى عسكرهم، وفي المسلمين رجل لا يدع للمشركين شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما إنه من أهل النار". فقالوا: أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار؟ فقال رجل: والله لا يموت على هذه الحال أبدا، فاتبعه حتى جرح، فاشتدت جراحته واستعجل الموت، فوضع سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه. فجاء الرجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أشهد أنك لرسول الله، قال: "وما ذاك"؟ فأخبره, فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وإنه من أهل النار، وإنه ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس، وإنه لمن أهل الجنة". متفق عليه.
وأخرج البخاري من حديث شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، قال: شهدنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيبر، فقال لرجل؛ يعني النبي -صلى الله عليه وسلم: "إن هذا من أهل النار"، فلما حضر القتال قاتل الرجل. فذكر نحو حديث سهل بن سعد.
وقال يحيى القطان وغيره، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن أبي عمرة، عن زيد بن خالد الجهني أن رجلا توفي يوم خيبر، فذكر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "صلوا على صاحبكم"، فتغيرت وجوههم، فقال: إن صاحبكم غل في سبيل الله. ففتشنا متاعه، فوجدنا(سيرة 2/85)
خرزا من خرز اليهود لا يساوي درهمين.
شان الشاة المسمومة:
وقال ليث بن سعد، عن سعيد، عن أبي هريرة، قال: لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- شاة فيها سم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اجمعوا من كان ههنا من اليهود". فجمعوا له، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقي عنه"؟ قالوا: نعم، يا أبا القاسم. فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من أبوكم"؟ قالوا: أبونا فلان. قال: "كذبتم، بل أبوكم فلان". قالوا: صدقت وبررت. قال لهم: "هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه"؟ قالوا: نعم، يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في آبائنا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من أهل النار"؟ قالوا: نكون فيها يسيرًا ثم تخلفوننا فيها. فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اخسؤوا فيها فوالله لا نخلفكم"، ثم قال: "هل أنتم صادقي"؟، قالوا: نعم قال: "أجعلتم في هذه الشاة سما"؟ قالوا: نعم. قال: "فما حملكم على ذلك"؟ قالوا: أردنا إن كنت كاذبا أن نستريح منك، وإن كنت نبيا لم يضرك. أخرجه البخاري.
وقال خالد بن الحارث: حدثنا شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس أن يهودية أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- بشاة مسمومة، فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسألها عن ذلك، قالت: أردت لأقتلك. فقال: "ما كان الله ليسلطك على ذلك". أو قال: "علي"، قالوا: ألا نقتلها. قال: "لا" فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. متفق عليه من حديث(سيرة 2/86)
خالد.
وقال عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن أبي سلمة وابن المسيب،
عن أبي هريرة؛ أن امرأة من اليهود أهدت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شاة مسمومة، فقال: $"أمسكوا فإنها مسمومة"، وقال: $"ما حملك على ما صنعت"؟ قالت: أردت أن أعلم إن كنت نبيا فسيطلعك الله، وإن كنت كاذبا أريح الناس منك. قال: عرض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى عن جابر نحوه.
وقال معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، أن يهودية أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاة مصلية بخيبر، فأكل وأكلوا، ثم قال: "امسكوا". وقال لها: "هل سميت هذه الشاة"؟ قالت: من أخبرك؟ قال: $"هذا العظم". قالت: نعم. فاحتجم على الكاهل، وأمر أصحابه فاحتجموا، فمات بعضهم.
قال الزهري: فأسلمت، فتركها.
وقال أبو داود في سننه: حدثنا سليمان المهري، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: كان جابر يحدث أن يهودية سمت شاة أهدتها للنبي صلى الله عليه وسلم ...
الحديث.
وقال خالد الطحان، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدت له يهودية بخيبر شاة، نحو حديث جابر، قال: فمات بشر بن البراء بن معرور، وأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فقتلت.
ويحتمل أنه لم يقتلها أولا، ثم لما مات بشر قتلها.
وبشر شهد العقبة وبدرًا، وأبوه فأحد النقباء ليلة العقبة. وهو الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بني سلمة، من سيدكم"؟ قالوا: الجد بن قيس، على بخل فيه. فقال: "وأي داء أدوى من البخل؟ بل سيدكم الأبيض الجعد بشر بن(سيرة 2/87)
البراء".
وقال موسى بن عقبة، وابن شهاب، وعروة، واللفظ لموسى، قالوا: لها فتحت خيبر أهدت زينب بنت الحارث اليهودية -وهي ابنة أخي مرحب- لصفية شاة مصلية وسمتها وأكثرت في الذراع؛ لأنه بلغها أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب الذراع. وذكر الحديث.
وعن عروة، وموسى بن عقبة، قالا: كان بين قريش حين سمعوا بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر تراهن وتبايع، منهم من يقول: يظهر محمد، ومنهم من يقول: يظهر الحليفان ويهود خيبر. وكان الحجاج بن علاط السلمي البهزي قد أسلم وشهد فتح خيبر، وكانت تحته
أم شيبة العبدرية، وكان الحجاج ذا مال، وله معادن من أرض بني سليم. فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على خيبر، قال الحجاج: يا رسول الله، إن لي ذهبا عند امرأتي، وإن تعلم هي وأهلها بإسلامي فلا مال لي، فائذن لي فأسرع السير ولا يسبق الخبر.
وقال محمد بن ثور -واللفظ له- وعبد الرزاق، عن معمر: سمعت ثابتا البناني، عن أنس، قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، قال الحجاج بن علاط: يا رسول الله، إن لي بمكة مالا، وإن لي بها أهلا أريد إتيانهم، فأنا في حل إن أنا نلت منك فقلت شيئا؟ فأذن له رسول الله(سيرة 2/88)
صلى الله عليه وسلم. فقال لامرأته، وقال لها: أخفي علي واجمعى ما كان عندك لي، فإني أريد أن أشتري من غنائم محمد وأصحابه، فإنهم قد استبيحوا وأصيبت أموالهم. ففشا ذلك بمكة، واشتد على المسلمين وبلغ منهم، وأظهر المشركون فرحا وسرورا، فبلغ العباس الخبر فعقر وجعل لا يستطيع أن يقوم.
قال معمر: فأخبرني عثمان الجريري، عن مقسم، قال: فأخذ العباس ابنا له يقال له: قثم واستلقى ووضعه على صدره وهو يقول:
حي قثم ... شبيه ذي الأنف الأشم
فتى ذي النعم ... برغم من رغم
قال معمر في حديث أنس: فأرسل العباس غلاما له إلى الحجاج، أن ويلك، ما جئت به وما تقول؟ والذي وعد الله خير مما جئت به. قال الحجاج: يا غلام، أقرئ أبا الفضل السلام، وقل له: فليخل لي في بعض بيوته فآتيه، فإن الأمر على ما يسره. فلما بلغ العبد باب الدار، قال: أبشر يا أبا الفضل. فوثب العباس فرحا حتى قبل ما بين عينيه وأعتقه، ثم جاء الحجاج فأخبره بافتتاح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، وغنم أموالهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطفى صفية، ولكن جئت لمالي، وأني استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم فأذن لي، فأخف علي يا أبا الفضل ثلاثًا، ثم اذكر ما شئت. قال: وجمعت له امرأته متاعه، ثم انشمر، فلما كان بعد ثلاث، أتى العباس امرأة الحجاج فقال: ما فعل زوجك؟ قالت: ذهب، لا يحزنك الله يا أبا الفضل لقد شق علينا الذي بلغك. فقال: أجل، لا يحزنني الله، ولم يكن بحمد الله إلا ما أحب؛ فتح الله على رسوله،(سيرة 2/89)
وجرت سهام الله في خيبر، واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه، فإن كان لك في زوجك حاجة فالحقي به. قالت: أظنك والله صادقا. ثم أتى مجالس قريش وحدثهم. فرد الله ما كان بالمسلمين من كآبة وجزع على المشركين
غزوة وادي القرى:
مالك، عن ثور بن زيد، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر، فلم نغنم ذهبا ولا ورقا، إلا الثياب والمتاع. فوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو وادي القرى، وقد أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عبد أسود يقال له: مدعم. حتى إذا كانوا بوادي القرى، بينما مدعم يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء سهم فقتله فقال الناس: هنيئا له الجنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلا، والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارًا". فلما سمعوا بذلك، جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال -عليه السلام: "شراك من نارا أو قال: شراكان من نار". متفق عليه.
وقال الواقدي: حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى وادي القرى، وكان رفاعة بن زيد الجذامي قد وهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم عبدا يقال له: مدعم، نزلنا بوادي القرى، انتهينا إلى يهود وقد ثوى إليها ناس من العرب، فينما مدعم يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد(سيرة 2/90)
استقبلنا يهود بالرمي حيث نزلنا، ولم نكن على تعبئة، وهم يصيحون في آطامهم، فيقبل سهم عائر، فأصاب مدعما فقتله. فقال الناس: هنيئا له الجنة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارًا". فلما سمع بذلك الناس، جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراك أو بشراكين، فقال: "شراك أو شراكان، من نار". فعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للقتال وصفهم، ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة، ودفع راية إلى الحباب بن المنذر، وراية إلى سهل بن حنيف، وراية إلى عباد بن بشر، ثم دعاهم إلى الإسلام وأخبرهم أنهم إن أسلموا أحرزوا أموالهم وحقنوا دماءهم، فبرز رجل، فبرز له الزبير فقتله، ثم برز آخر، فبرز إليه علي فقتله، ثم برز آخر، فبرز إليه أبو دجانة فقتله، حتى قتل منهم أحد عشر رجلا ثم أعطوا من الغد بأيديهم. وفتحها الله عنوة.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي القرى أربعة أيام، فلما بلغ ذلك أهل تيماء صالحوا على الجزية. فلما كان عمر، أخرج يهود خيبر وفدك، ولم يخرج أهل تيماء ووادي القرى؛ لأنهما داخلتان في أرض الشام؛ ويرى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجاز، وما وراء ذلك من الشام.
وقال ابن وهب: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من غزوة خيبر، فسار ليله حتى إذا أدركنا الكرى عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لبلال: اكلأ لنا الليل. فغلبت بلالا عيناه فلم يستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ولا بلال إلا بحر الشمس ... الحديث. أخرجه مسلم.(سيرة 2/91)
وروى أن ذلك كان في طريق الحديبية. رواه شعبة، عن جامع بن شداد، عن عبد الرحمن بن أبي علقمة، عن ابن مسعود، ويحتمل أن يكون نومهم مرتين.
وقد رواه زافر بن سليمان، عن شعبة، فذكر أن ذلك كان في غزة تبوك.
وقد روي النوم عن الصلاة: عمران بن حصين، وأبو قتادة الأنصاري. والحديثان صحيحان رواهما مسلم، وفيهما طول.
وقال عمارة بن عكرمة، عن عائشة: لما افتتحنا خيبر، قلنا: الآن نشبع من التمر.
وقال ابن وهب: أخبرنا يونس، عن ابن شهاب، عن أنس، قال: لما قدم المهاجرون المدينة قدموا وليس بأيديهم شيء، وكان الأنصار أهل أرض، فقاسموا المهاجرين على أن أعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام، ويكفونهم العمل والمؤونة. وكانت أم أنس، وهي أم سليم، أعطت رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاقا لها، فأعطاهن رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مولاته أم أسامة بن زيد. فأخبرني أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قتال أهل خيبر، وانصرف إلى المدينة، رد المهاجرون إلى الأنصار متاعهم، ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمي عذاقها، وأعطى أم أيمن مكانهن من حائطه.
قال ابن شهاب: وكان من شأن أم أسامة بن زيد أنها كانت وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب، وكانت من الحبشة، فلما ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت أم أيمن تحضنه حتى كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقها، ثم أنكحها زيد بن حارثة، ثم توفيت بعدما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر.(سيرة 2/92)
أخرجه مسلم؟.
وقال معتمر: حدثنا أبي، عن أنس، أن الرجل كان يعطي من ماله النخلات أو ما شاء الله من ماله، النبي صلى الله عليه وسلم، حتى فتحت عليه قريظة والنضير، فجعل يرد بعد ذلك، فأمرني أهلي أن آتيه فأسأله الذي كانوا أعطوه أو بعضه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه أم أيمن، أو كما شاء الله. قال: فسألته، فأعطانيهن. فجاءت أم أيمن فلوت الثوب في عنقي، وجعلت تقول: كلا والله الذي لا إله إلا هو، لا يعطيكهن وقد أعطانيهن. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "يا أم أيمن اتركي ولك كذا وكذا". وهي تقول: كلا والله. حتى أعطاها عشرة أمثال ذلك، أو نحوه.
وفي لفظ في الصحيح: وهي تقول: كلا والله حتى أعطي عشرة أمثاله. أخرجاه.
وفي سنة سبع: قدم حاطب به أبي بلتعة من الرسلية إلى المقوقس ملك ديار مصر، ومعه منه هدية للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي مارية القبطية، أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وأختها شيرين التي وهبها لحسان بن ثابت، وبغلة النبي صلى الله عليه وسلم دلدل، وحماره يعفور.
وفيها: توفيت ثويبة مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم بلبن ابنها مسروح، وكانت مولاة لأبي لهب أعتقها عام الهجرة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إليها إلى مكة بصلة وكسوة. حتى جاءه موتها سنة سبع مرجعة من خيبر، فقال: "ما فعل ابنها مسروح"؟ قالوا: مات قبلها. وكانت خديجة تكرمها، وطلبت شراءها من أبي لهب فامتنع. رواه الواقدي، عن غير واحد. أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل حليمة أياما، وأرضعت أيضا حمزة بن عبد المطلب، وأبا سلمة بن عبد الأسد، رضي الله عنهما.(سيرة 2/93)
سرية أبي بكر -رضي الله عنه- إلى نجد:
وكانت بعد خيبر سنة سبع.
قال عكرمة بن عمار: حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر -رضي الله عنه- إلى بني فزارة، وخرجت معه حتى إذا دنونا من الماء عرس بنا أبو بكر، حتى إذا ما صلينا الصبح، أمرنا فشننا الغارة، فوردنا الماء. فقتل أبو بكر من قتل، ونحن معه، فرأيت عنقا من الناس فيهم الذراري، فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل، فأدركتهم، فرميت بسهمي، فلما رأوه قاموا، فإذا امرأة عليها قشع من أدم، معها ابنتها من أحسن العرب فجئت أسوقهم. فلما رأوه قاموا، فإذا امرأة عليها قشع من أدم، معها ابنتها من أحسن العرب فجئت أسوقهم إلى أبي بكر فنفلني أبو بكر ابنتها فلم أكشف لها ثوبا حتى قدمت المدينة، ثم باتت عندي فلم أكشف لها ثوبا، حتى لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق فقال: $"يا سلمة، هب لي المرأة"، قلت: يا نبي الله والله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبا.
فسكت حتى كان من الغد، فقال: "يا سلمة، هب لي المرأة لله أبوك". قلت: هي لك يا رسول الله. قال: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة، ففدى بها أسرى من المسلمين أخرجه مسلم.
وقيل: كان ذلك في شعبان.(سيرة 2/94)
سرية عمر -رضي الله عنه- إلى عجز هوازن:
قال الواقدي: حدثنا أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبي بكر عمر بن عبد الرحمن، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر إلى تربة عجز هوازن، في ثلاثين راكبا، فخرج ومعه دليل.
فكانوا يسيرون الليل ويكمنون النهار. فأتى الخبر هوازن، فهربوا. وجاء عمر محالهم، فلم يلق منهم أحدا، فانصرف إلى المدينة، حتى سلك النجدية. فلما كانوا بالجدد، قال الدليل لعمر: هل لك في جمع آخر تركته من خثعم جاؤوا سائرين، قد أجدبت بلادهم؟ فقال عمر: ما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم. ورجع إلى المدينة. وذلك في شعبان.
سرية بشير بن سعد:
قال الواقدي: حدثني عبد الله بن الحارث بن الفضل، عن أبيه، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بشير بن سعد في ثلاثين رجالا إلى بني مرة بفدك. فخرج فلقي رعاء الشاء، فاستاق الشاء والنعم منحدرا إلى المدينة. فأدركه الطلب عند الليل، فباتوا يرامونهم بالنبل حتى فني نبل أصحاب بشير، فأصابوا أصحابه وولى منهم من ولى، وقاتل بشير قتالا شديدا حتى ضربت كعباه، وقيل: قد مات، ورجعوا بنعمهم وشائهم، وتحامل بشير حتى انتهى إلى فدك، فأقام عند يهودى حتى ارتفع من الجراح، ثم رجع إلى المدينة.(سيرة 2/95)
سرية غالب بن عبد الله الليثي:
قال الواقدي: حدثني أفلح بن سعيد، عن بشير بن محمد ابن الذي أري الأذان عبد الله بن زيد، قال: كان مع غالب بن عبد الله: أبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري، وكعب بن عجرة، وعلبة بن زيد. فلما دنا غالب منهم بعث الطلائع ثم رجعوا فأخبروه فأقبل يسير حتى إذا كان بمنظر العين منهم ليلا وقد احتلبوا وهدأوا، قام فحمد الله وأثنى عليه وأمر بالطاعة، قال: وإذا كبرت فكبروا، وجردوا السيوف. فذكر الحديث في إحاطتهم بهم. قال: ووضعنا السيوف حيث شئنا منهم، ونحن نصيح بشعارنا: أمت أمت. وخرج أسامة فحمل على رجل فقال: لا إله إلا الله. وذكر الحديث.
وقال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق: حدثني شيخ من أسلم، عن رجال من قومه، قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الكلبي، كلب ليث، إلى أرض بني مرة، فأصاب بها مرداس بن نهيك، حليف لهم من الحرقة فقتله أسامة. فحدثني محمد بن أسامة بن محمد بن أسامة، عن أبيه، عن جده أسامة بن زيد، قال: أدركته، يعني مرداسا، أنا ورجل من الأنصار، فلما شهرنا عليه السيف قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فلم ننزع عنه حتى قتلناه. فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرناه خبره، فقال: "يا أسامة من لك بلا إله إلا الله"؟ فقلت: يا رسول الله، إنما قالها تعوذا من القتل. قال: "فمن لك بلا إله إلا الله".
فالذي بعثه بالحق، ما زال يرددها علي حتى لوددت أن ما مضي من إسلامي لم يكن. وأني أسلمت يومئذ ولم أقتله.(سيرة 2/96)
وقال هشيم: أخبرنا حصين بن عبد الرحمن، قال: حدثنا أبو ظبيان، قال: سمعت أسامة بن زيد يحدث، قال: أتينا الحرقة من جهينة، قال: فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله. قال: فكف عنه الأنصاري، وطعنته أنا برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال: "أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله، ثلاث مرات". قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوذا، قال: فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أن أسلمت قبل يومئذ. متفق عليه.
وقال محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة، عن مسلم بن عبد الله الجهني، عن جندب بن مكيث الجهني، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله إلى بني الملوح بالكديد، وأمره أن يغير عليهم، وكنت في سريته، فمضينا حتى إذا كنا بقديد، لقينا به الحارث بن مالك بن البرصاء الليثي، فأخذناه، فقال: إني إنما جئت لأسلم. فقال له غالب:
إن كنت إنما جئت لتسلم فلا يضرك رباط يوم وليلة، وإن كنت على غير ذلك استوثقنا منك. قال: فأوثقه رباطا وخلف عليه رويجلا أسود، قال: امكث عليه حتى نمر عليك، فإن نازعك فاحتز رأسه، وأتينا بطن الكديد فنزلناه بعد العصر. فبعثني أصحابي إليه، فعمدت إلى تل يطلعني على الحاضر، فانبطحت عليه، وذلك قبل الغروب. فخرج رجل فنظر فرآني منبطحا على التل فقال لامرأته: إني لأرى سوادا على هذا التل ما رأيته في أول النهار، فانظري لا تكون الكلاب اجترت بعض أوعيتك. فنظرت فقالت: والله ما أفقد(سيرة 2/97)
شيئا. قال: فناوليني قوسي وسهمين من نبلي. فناولته فرماني بسهم فوضعه في جبيني، أو قال: في جنبي، فنزعته فوضعته ولم أتحرك، ثم رماني بالآخر، فوضعه في رأس منكبي، فنزعته فوضعته ولم أتحرك. فقال لامرأته: أما والله لقد خالطه سهماي، ولو كان زائلا لتحرك، فإذا أصبحت فابتغي سهمي فخذيهما، لا تمضغهما علي الكلاب.
قال: ومهلنا حتى راحت روائحهم، وحتى إذا احتلبوا وعطنوا وذهب عتمة من الليل شننا عليهم الغارة فقتلنا من قتلنا واستقنا النعم فوجهنا قافلين به، وخرج صريخ القوم إلى قومهم، قال: وخرجنا سراعا حتى نمر بالحارث بن مالك بن البرصاء وصاحبه، فانطلقنا به معنا. وأتانا صريخ الناس فجاءنا ما لا قبل لنا به، حتى إذا لم يكن بيننا وبينهم إلا بطن الوادي من قديد، بعث الله من حيث شاء ماء ما رأينا قبل ذلك مطرا ولا خالا، فجاء بما لا يقدر أحد يقدم عليه، لقد رأيتهم وقوفا ينظرون إلينا ما يقدر أحد منهم أن يقدم عليه، ونحن نحدوها فذهبنا سراعا حتى أسندناها في المشلل، ثم حدرنا عنه وأعجزناهم.
سرية حنان:
قال الواقدي في مغازيه: حدثني يحيى بن عبد العزيز بن سعيد بن سعد بن عبادة، عن بشير بن محمد بن عبد الله بن زيد، قال: قدم رجل من أشجع يقال له: حسيل بن نويرة، وكان دليل النبي صلى الله عليه وسلم إلى(سيرة 2/98)
خيبر، فقال له: "من أين يا حسيل" قال: من يمن وحنان، قال: "وما وراءك"؟ قال: تركت جمعا من يمن وغطفان وحنان وقد بعث إليهم عيينة: إما أن تسيروا إلينا وإما أن نسير إليكم، فأرسلوا إليه أن سر إلينا، وهم يريدونك أو بعض أطرافك. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر فذكر لهما ذلك فقالا جميعا: ابعث بشير بن سعد، فعقد له لواء وبعث معه ثلاث مائه رجل، وأمرهم أن يسيروا الليل ويكمنوا النهار، ففعلوا، حتى أتوا أسفل خيبر، فأغاروا وقتلوا فأغاروا وقتلوا عينا لعيينة. ثم لقوا جمع عيينة فناوشوهم، ثم انكشف جمع عيينة وأسر منهم رجلان، وقدموا بهما على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلما.
سرية أبي حدرد إلى الغابة:
قال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: كان من حديث أبي حدرد الأسلمي ما حدثني جعفر بن عبد الله بن أسلم، عن أبي حدرد، قال: تزوجت امرأة من قومي، فأصدقتها مائتي درهم. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستعينه على نكاحي، فقال: "كم أصدقت"؟ قلت: مائتي درهم. فقال: "سبحان الله، والله لو كنتم تأخذونها من واد ما زاد، لا والله ما عندي ما أعينك به". فلبث أياما، ثم أقبل رجل من جشم بن معاوية يقال له: رفاعة بن قيس أو قيس بن رفاعة، في بطن عظيم من جشم، حتى نزل بقومه ومن معه بالغابة، يريد أن يجمع قيسا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان ذا شرف، فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم ورجلين من المسلمين، فقال: "اخرجوا إليه، حتى تأتوا منه بخبر وعلم". وقدم لنا شارفا عجفاء، فحمل عليها(سيرة 2/99)
أحدنا، فوالله ما قامت به ضعفا، حتى دعمها الرجال من خلفها بأيديهم، حتى استقلت وما كادت، وقال: تبلغوا على هذه. فخرجنا، حتى إذا جئنا قريبا من الحاضر مع غروب الشمس، فمكنت في ناحية، وأمرت صاحبي فكمنا في ناحية، وقلت: إذا سمعتماني قد كبرت وشددت في العسكر، فكبروا وشدوا معي، فوالله إنا لكذلك نتنظر أن نرى غرة وقد ذهبت فحمة العشاء، وقد كان لهم راع قد سرح في ذلك البلد فأبطأ عليهم، فقام زعيمهم رفاعة فأخذ سيفه وقال: لأتبعن أثر راعينا. فقالوا: نحن نكفيك. قال: لا والله لا يتبعني أحد منكم. وخرج حتى يمر بي، فلما أمكنني نفحته بسهم فوضعته في فؤاده، فوالله ما نطق، فوثبت إليه، فاحتززت رأسه، ثم شددت في ناحية العسكر وكبرت وكبر صاحباي، فوالله ما كان إلا النجاء ممن كان فيه: عندك! بكل ما قدروا عليه من نسائهم وأبنائهم وما خف معهم، واستقنا إبلا عظيمة وغنما كثيرة، فجئنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجئت برأسه أحمله معي، فأعطاني من تلك الإبل ثلاثة عشر بعيرًا في صداقي، فجمعت إلي أهلي.
سرية محلم بن جثامة:
قال محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق: حدثني يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن ابن عبد الله بن أبي حدرد، عن أبيه، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضم في نفر من المسلمين منهم أبو قتادة، ومحلم بن جثامة بن قيس. حتى إذا كنا ببطن إضم، مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي(سيرة 2/100)
على قعود له، معه متيع له، ووطب من لبن، فسلم علينا بتحية الإسلام. فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم فقتله لشيء كان بينه وبينه، وأخذ بعيره ومتاعه، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرناه الخبر. فنزل فينا القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94] ، إلى آخر الآية. ورواه حماد بن سلمة، عن ابن إسحاق.
وقال حماد بن سلمة، عن ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، سمعت زياد بن ضميرة بن سعد الضمري يحدث عن أبيه وجده، وقد شهدا حنينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى الظهر وجلس في ظل شجرة، فقام إليه عيينة بن بدر يطلب بدم عامر بن الأضبط، سيد قيس، وجاء الأقرع بن حابس يرد عن محلم بن جثامة، وهو سيد خندف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوم عامر: "هل لكم أن تأخذوا منا الآن خمسين بعيرا، وخمسين إذا رجعنا إلى المدينة"؟
فقال عيينة بن بدر: والله لا أدعه حتى أذيق نساءه من الحر مثل ما أذاق نسائي. فقام رجل من بني ليث يقال له: ابن مكيتيل، وهو قصد من الرجال، فقال: يا رسول الله، ما أجد لهذا القتيل مثلا في غرة الإسلام إلا كغنم وردت فرميت أولاها ففرت أخراها، اسنن اليوم وغير غدا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل لكم أن تأخذوا خمسين بعيرا الآن وخمسين إذا رجعنا" فلم يزل بهم حتى رضوا بالدية. قال قوم محلم: ائتوا به حتى يستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فجاء رجل طوال ضرب اللحم في حلة قد تهيأ فيها للقتل، فقام بين يدي(سيرة 2/101)
النبي صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تغفر لمحلم". قالها ثلاثا. فقام وإنه ليتلقى دموعه بطرف ثوبه.
قال ابن إسحاق: وزعم قوم أنه استغفر له بعد.
وقال أبو داود في سننه: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا حماد، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: فحدثني محمد بن جعفر، سمعت زياد بن ضميرة. "ح" قال: وحدثنا أحمد بن سعيد الهمداني، ووهب بن بيان، قالا: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن محمد بن جعفر، أنه سمع زياد بن سعد بن ضميرة السلمي. وهذا حديث وهب وهو أتم، يحدث عروة بن الزبير، عن أبيه، قال موسى: وجده، وكانا شهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا، يعني أباه وجده. ثم رجعنا إلى حديث وهب: أن محلم بن جثامة قتل رجلا من أشجع في الإسلام. وذلك أول غير قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتكلم عيينة في قتل الأشجعي؛ لأنه من غطفان، وتكلم الأقرع بن حابس، فذكر القصة إلى أن قال: ومحلم رجل طويل آدم، وهو طرف الناس، فلم يزالوا حتى تخلص فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعيناه تدمعان. فقال: يا رسول الله، إني قد فعلت الذي بلغك، وإني أتوب إلى الله، فاستغفر لي يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقتلته بسلاحك في غرة الإسلام؟ اللهم لا تغفر لمحلم". بصوت عال.
زاد أبو سلمة: فقام وإنه ليتلقى دموعه بطرف ردائه. والله -تعالى- أعلم.(سيرة 2/102)
سرية عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي:
قال ابن جريج: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْْ} [النساء: 59] ، نزلت في عبد الله بن حذافة السهمي، بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية. أخبرنيه يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. أخرجاه في الصحيح.
وقال الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن على بن أبي طالب: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الأنصار على سرية، وأمرهم أن يطيعوه، فأغضبوه في شيء فقال: اجمعوا لي حطبا. فجمعوا، وأمرهم فأوقدوه، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى. قال: فادخلوها. فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار. فسكن غضبه، وطفئت النار. فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا له ذلك. فقال: "لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف". أخرجاه.
وفيها كانت غزوة ذات الرقاع، وقد تقدمت سنة أربع، وأوردنا الخلاف فيها، فلعلهما غزوتان. والله أعلم.
عمرة القضية:
روى نافع بن أبي نعيم، عن نافع مولى ابن عمر، قال: كانت(سيرة 2/103)
عمرة القضية في ذي القعدة سنة سبع.
وقال معتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، بعث سرايا وأقام بالمدينة حتى استهل ذو القعدة. ثم نادى في الناس أن تجهزوا إلى العمرة، فتجهزوا، وخرجوا معه إلى مكة.
وقال ابن شهاب: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة حتى بلغ يأجج وضع الأداة كلها: الحجف والمجان والرماح والنبل، ودخلوا بسلاح الراكب: السيوف. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفرا بين يديه إلى ميمونة بنت الحارث بن حزن العامرية فخطبها عليه، فجعلت أمرها إلى العباس؛ وكانت أختها تحته، وهي أم الفضل فزوجها العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما قدم أمر أصحابه، فقال: اكشفوا عن المناكب واسعوا في الطواف، ليرى المشركون جلدهم وقوتهم، وكان يكايدهم بكل ما استطاع. فاستلف أهل مكة -الرجال والنساء والصبيان- ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يطوفون بالبيت، وعبد الله بن رواحة يرتجز بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشحا بالسيف يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله ... أنا الشهيد أنه رسوله
قد أنزل الرحمن في تنزيله ... في صحف تتلى على رسوله
فاليوم نضربكم على تأويله ... كما ضربناكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
وتغيب رجال من أشرافهم أن ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غيظا وحنقا، ونفاسة وحسدا، خرجوا إلى الخندمة. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم(سيرة 2/104)
بمكة، وأقام ثلاث ليال، وكان ذلك آخر الشرط، فلما أصبح من اليوم الرابع أتاه سهيل بن عمرو وغيره، فصاح حويطب بن عبد العزى: نناشدك الله والعقد لما خرجت من أرضنا فقد مضت الثلاث. فقال سعد بن عبادة: كذبت لا أم لك ليس بأرضك ولا بأرض آبائك، والله لا نخرج. ثم نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيلا وحويطبا، فقال: "إني قد نكحت فيكم امرأة فما يضركم أن أمكث حتى أدخل بها، ونصنع الطعام فنأكل وتأكلون معنا". قالوا: نناشدك الله والعقد إلا خرجت عنا. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا رافع فأذن بالرحيل. وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بطن سرف وأقام المسلمون، وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا رافع ليحمل ميمونة إليه حين يمسي. فأقام بسرف حتى قدمت عليه، وقد لقيت عناء وأذى من سفهاء قريش، فبنى بها. ثم أدلج فسار حتى قدم المدينة. وقدر الله -تعالى- أن يكون موت ميمونة بسرف بعد حين.
وقال فليح، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمرًا، فحال كفار قريش بينه وبين البيت. فنحر هدية وحلق رأسه بالحديبية، وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل، ولا يحمل سلاحا إلا سيوفا، ولا يقيم بها إلا ما أحبوا. فاعتمر من العام فدخلها كما صالحهم، فلما أن أقام بها ثلاثا أمروه أن يخرج، فخرج. أخرجه البخاري.
وقال الواقدي: حدثنا عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: لم تكن هذه العمرة قضاء ولكن شرطا على المسلمين أن يعتمروا قابل في الشهر الذي صدهم المشركون.(سيرة 2/105)
وقال محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمرو بن ميمون، سمعت أبا حاضر الحضرمي يحدث أبي: ميمون بن مهران، قال: خرجت معتمرا سنة حوصر ابن الزبير، وبعث معي رجال من قومي بهدي، فلما انتهينا إلى أهل الشام منعونا أن ندخل الحرم، فنحرت الهدي مكاني، ثم أحللت ثم رجعت. فلما كان من العام المقبل خرجت لأقضي عمرتي، فأتيت ابن عباس فسألته، فقال: أبدل الهدي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن
يبدلوا الهدي الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء. زاد فيه يونس عن ابن إسحاق، قال: فعزت الإبل عليهم، فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في البقر.
وقال الواقدي: حدثني غانم بن أبي غانم، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: قد ساق النبي صلى الله عليه وسلم، في القضية ستين بدنة. قال: ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، وقدم السلاح إلى بطن يأجج، حيث ينظر إلى أنصاب الحرم. وتخوفت قريش، فذهب في رؤوس الجبال وخلوا مكة.
وقال معمر، عن الزهري، عن أنس، قال: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء، مشى ابن رواحة بين يديه وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله ... قد نزل الرحمن في تنزيله
بأن خير القتل في سبيله ... نحن قتلناكم على تأويله
كما قتلناكم على تنزيله ... يا رب إني مؤمن بقيله
وقال أيوب، عن سعيد بن جبير، حدثه، عن ابن عباس: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وقد وهنتهم حمى يثرب. فقال المشركون: إنه(سيرة 2/106)
يقدم عليكم قوم قد وهنتهم الحمى، ولقوا منها شرا. فأطلع الله نبيه على ما قالوه، فأمرهم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا بين الركنين. فلما رأوهم رملوا، قالوا: هؤلاء الذين ذكرتم أن الحمى وهنتهم؟ هؤلاء أجلد منا.
قال ابن عباس: ولم يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا للإبقاء عليهم. أخرجاه.
وقال يزيد بن هارون: أخبرنا الجريري، عن أبي الطفيل، قال: قلت لابن عباس: إن قومك يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رمل وأنها سنة. قال: صدقوا وكذبوا؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مكة والمشركون على قعيقعان، وكان أهل مكة قوما حسدا، فجعلوا يتحدثون بينهم أن أصحاب محمد ضعفاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أروهم ما يكرهون منكم". فرمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليريهم قوته وقوة أصحابه، وليست بسنة. أخرجه مسلم.
وقد بقي الرمل سنة في طواف القدوم؛ وإن كان قد زالت علته فإن جابرا قد حكى في حجة النبي صلى الله عليه وسلم رمله، ورملوا في عمرة الجعرانة.
وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن ابن أبي أوفى سمعه يقول: اعتمرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنا نستره -حين طاف- من صبيان مكة لا يؤذونه. وأرانا ابن أبي أوفى ضربة أصابته مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر. البخاري.(سيرة 2/107)
تزويجه -عليه السلام- بميمونة:
قال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني أبان بن صالح، وعبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد وعطاء، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة، وكان الذي زوجه العباس. فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثا. فأتاه حويطب بن عبد العزى، في نفر من قريش، فقالوا: قد انقضى أجلك فاخرج عنا. قال: "لو تركتموني فعرست بين أظهركم، وصنعنا طعاما فحضرتموه". قالوا لا حاجة لنا به. فخرج، وخلف أبا رافع مولاه على ميمونة، حتى أتاه بها بسرف، فبنى عليها.
وقال وهيب: حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم، وبنى بها وهو حلال، وماتت بسرف. رواه البخاري.
وقال عبد الرزاق: قال لي الثوري: لا تلتفت إلى قول أهل المدينة. أخبرني عمرو، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج وهو محرم. وقد رواه الثوري أيضا عن ابن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وهما في الصحيح.
وقال الأوزاعي: حدثنا عطاء، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم فقال سعيد بن المسيب: وهل وإن كانت خالته. وما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد ما أحل.
أخرجه البخاري، عن أبي(سيرة 2/108)
المغيرة، عنه.
وقال حماد بن سلمة، عن حبيب الشهيد، عن ميمون بن مهران، عن يزيد بن الأصم، عن ميمونة، قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بسرف. رواه أبو داود. وقد أخرجه مسلم من وجه آخر عن يزيد بن الأصم.
وقال سليمان بن حرب: حدثنا حماد بن زيد، قال: حدثنا مطر الوراق، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع، قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال. وكنت الرسول بينهما.
وقال إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة. فذكر الحديث بطوله. وفيه: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني من مكة، فتبعتهم ابنة
حمزة، فنادت: يا عم يا عم. فتناولها علي -رضي الله عنه- وقال لفاطمة: دونك، فحملتها. قال: فاختصم فيها علي وزيد بن حارثة وجعفر، فقال علي: أنا أخذتها وهي ابنة عمي، وقال جعفر: ابنة عمى، وخالتها تحتي، وقال زيد: ابنة أخي، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بها لخالتها، وقال: "الخالة بمنزلة الأم"، وقال لعلي: "أنت مني وأنا منك"، وقال لجعفر: "أشبهت خلقي وخلقي"، وقال لزيد: "أنت أخونا ومولانا"، أخرجه البخاري عن عبيد الله، عنه.(سيرة 2/109)
وقال الواقدي: حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن عمارة بنت حمزة، وأمها سلمى بنت عميس كانتا بمكة. فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم، كلم علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: علام نترك بنت عمنا يتيمة بين ظهراني المشركين؟ فلم ينه النبي صلى الله عليه وسلم عن إخراجها، فخرج بها، فتكلم زيد بن حارثة، وكان وصي حمزة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بينهما. وذكر الحديث؛ وفيه: فقضى بها لجعفر وقال: "تحتك خالتها، ولا تنكح المرأة على خالتها ولا عمتها".
وعن ابن شهاب، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من عمرته في ذي الحجة سنة سبع بعث ابن أبي العوجاء في خمسين إلى بني سليم، كما سيأتي.(سيرة 2/110)
ثم دخلت سنة ثمان من الهجرة:
قال الواقدي: حدثني محمد بن عبد الله، عن عمه ابن شهاب، قال: سار ابن أبي العوجاء السلمي في خمسين رجلا إلى بني سليم، وكان عين لبني سليم معه، فلما فصل من المدينة، خرج العين إلى قومه فحذرهم. فجمعوا كثيرا. وجاءهم ابن أبي العوجاء وهم معدون. فلما رآهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأوا جمعهم، دعوهم إلى الإسلام، فرشقوهم بالنبل، ولم يسمعوا قولهم، فرمهم ساعة، وجعلت الأمداد تأتي، وأحدقوا بهم، فقاتلوا حتى قتل عامتهم، وأصيب ابن أبي العوجاء جريحا في القتلى، ثم تحامل حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم المدينة في أول صفر.
إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد:
وفيها: أسلم عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد.
قال الواقدي: أخبرنا عبد الحميد، بن جعفر، عن أبيه، قال: قال عمرو بن العاص كنت للإسلام مجانبا معاندا، حضرت بدرا مع المشركين فنجوت، ثم حضرت أحدا والخندق فنجوت، فقلت في(سيرة 2/111)
نفسي: كم أوضع، والله ليظهرن محمد على قريش. فلحقت بمالي بالوهط. فلما كان صلح الحديبية، جعلت أقول: يدخل محمد قابلا مكة بأصحابه، ما مكة بمنزل ولا الطائف، وما شيء خير من الخروج. فقدمت مكة فجمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأيي ويسمعون مني، فقلت: تعلمون -والله- إني لأرى أمر محمد يعلو علوا منكرا، وإني قد رأيت رأيا. قالوا: وما هو؟ قلت: نلحق بالنجاشي فنكون معه، فإن يظهر محمد كنا عند النجاشي، أحب إلينا من أن نكون تحت يد محمد. وإن تظهر قريش فنحن من قد عرفوا.
قالوا: هذا الرأى. قلت: فاجمعوا ما تهدونه له، وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم.
فجمعنا له أدما كثيرا، ثم خرجنا حتى أتيناه، فإنا لعنده؛ إذ جاء عمرو بن أمية الضمري بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ليزوجه بأم حبيبة بنت أبي سفيان فدخل عليه ثم خرج من عنده، فقلت لأصحابي: لو دخلت على النجاشي، فسألته هذا فأعطانيه لقتلته لأسر بذلك قريشا. فدخلت عليه فسجدت له فقال: مرحبا بصديقي، أهديت لي من بلادك شيئا؟ قلت:
نعم أيها الملك أهديت لك أدما، وقربته إليه، فأعجبه، ففرق منه أشياء بين بطارقته، ثم قلت: إني رأيت رجلا خرج من عندك وهو رسول عدو لنا قد وترنا وقتل أشرافنا، فأعطنيه فأقتله، فغضبب ورفع يده فضرب بها أنفي ضربة ظننت أنه كسره، فابتدر منخراي فجعلت أتلقى الدم
بثيابي، فأصابني من ذلك الذل ما لو انشقت لي الأرض دخلت فيها فرقا منه. ثم قلت: أيها الملك: لو ظننت أنك تكره ما قلت ما سألتكه. قال: فاستحيا، وقال: يا عمرو، تسألني أن أعطيك رسول من يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وعيسى -عليهما(سيرة 2/112)
السلام- لتقتله؟ قال عمرو: وغير الله قلبي عما كنت عليه، وقلت في نفسي: عرف هذا الحق العرب والعجم وتخالف أنت؟ قلت: أتشهد أيها الملك بهذا؟ قال: نعم، أشهد به عند الله يا عمرو، فأطعني واتبعه، فوالله إنه لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه، كما ظهر موسى على فرعون. قلت: أفتبايعني له على الإسلام؟ قال: نعم، فبسط يده فبايعني على الإسلام، ثم دعا بطست، فغسل عني الدم، وكسانى ثيابا، وكانت ثيابي قد امتلأت بالدم فألقيتها.
وخرجت على أصحابي فلما رأوا كسوة النجاشي سروا بذلك، وقالوا: هل أدركت من صاحبك ما أردت؟ فقلت: كرهت أن أكلمه في أول مرة، وقلت: أعود إليه- ففارقتهم، وكأني أعمد لحاجة- فعمدت إلى موضع السفن فأجد سفينة قد شحنت تدفع. فركبت معهم، ودفعوها حتى انتهوا إلى الشعبية، وخرجت من الشعيبة ومعي نفقة، فابتعت بعيرا، فإذا رجلان قد سبقاني بغير كثير، يريدان منزلا، وأحدهما داخل في خيمة، والآخر قائم يمسك الراحلتين.
فنظرت فإذا خالد بن الوليد. فقلت: أبا سليمان؟ قال: نعم. قلت: أين تريد؟ قال: محمدًا، دخل الناس في الإسلام فلم يبق أحد به طعم، والله لو أقمت لأخذ برقابنا كما يؤخذ برقبة الضبع في مغارتها. قلت: وأنا والله قد أردت محمدا وأردت الإسلام. فخرج عثمان بن طلحة، فرحب بي، فنزلنا جميعا ثم ترافقنا إلى المدينة، فما أنسى قول رجل لقينا بدير أبي عنبة يصيح: يا رباح، يا رباح. فتفاءلنا بقوله، وسرنا ثم نظر إلينا، فأسمعه يقول: قد أعطت مكة المقادة بعد هذين. فظننت أنه(سيرة 2/113)
يعنيني خالد بن الوليد. وولى مدبرا إلى المسجد سريعا فظننت أنه بشر النبي صلى الله عليه وسلم بقدومنا، فكان كما ظننت. وأنخنا بالحرة فلبسنا من صالح ثيابنا، ونودي بالعصر، فانطلقنا حتى اطلعنا عليه، وإن لوجهه تهللا، والمسلمون حوله قد سروا بإسلامنا. وتقدم خالد فبايع، ثم تقدم عثمان بن طلحة فبايع، ثم تقدمت فوالله ما هو إلا أن جلست بين يديه، فما استطعت أن أرفع طرفي إليه حياء منه، فبايعته على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولم يحضرني ما تأخر. فقال: "إن الإسلام يجب ما كان قبله، والهجرة تجب ما كان قبلها". فوالله ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد أحدا في أمر حزبه منذ أسملنا، ولقد كنا عند أبي بكر بتلك المنزلة، ولقد كنت عند عمر بتلك الحال، وكان عمر على خالد كالعاتب.
قال عبد الحميد بن جعفر: فذكرت هذا الحديث ليزيد بن أبي حبيب، فقال: أخبرني راشد مولى حبيب بن أوس الثقفي، عن حبيب، عن عمرو؛ نحو ذلك. فقلت ليزيد: ألم يوقت لك متى قدم عمرو خالد؟ قال: لا، إلا أنه قال: قبل الفتح. قلت: فإن أبي أخبرني أن عمرا وخالدا وعثمان قدموا المدينة لهلال صفر سنة ثمان.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن راشد مولى حبيب، عن حبيب بن أبي أوس، قال: حدثني عمرو بن العاص، قال: لما انصرفنا من الخندق، جمعت رجالا من قريش، فقلت: والله إني لأرى أمر محمد يعلو علوا منكرا، والله ما يقوم له شيء، وقد رأيت رأيا ما أدري كيف رأيكم فيه؟ قالوا: وما هو؟ قلت: أن نحلق بالنجاشي. فذكر الحديث، لكن فيه: فضرب بيده أنف(سيرة 2/114)
نفسه حتى ظننت أنه قد كسره. والباقي بمعناه مختصرا.
وقال الواقدي: حدثني يحيى بن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، قال: سمعت أبي يحدث عن خالد بن الوليد، قال: لما أراد الله بي ما أراد من الخير قذف في قلبي الإسلام، وحضرني رشدي، وقلت: قد شهدت هذه المواطن كلها على محمد فليس موطن أشهده إلا أنصرف وأنا أرى في نفسي أني موضع في غير شي، وأن محمدًا يسظهر. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية، خرجت في خيل المشركين، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه بعسفان، فأقمت بإزائه وتعرضت له، فصلى بأصحابه الظهر أمامنا، فهممنا أن نغير عليه، ثم لم يعزم لنا، وكانت فيه خيرة، فأطلع على ما أنفسنا من الهموم، فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف. فوقع ذلك منا موقعا، وقلت: الرجل ممنوع. فافترقا، وعدل عن سنن خيلنا، وأخذت ذات اليمين.
فلما صالح قريشا قلت: أي شيء بقي؟ أين المذهب؟ إلى النجاشي؟ فقد اتبع محمدا، وأصحابه عنده آمنون. فأخرج إلى هرقل؟ فأخرج من ديني إلى النصرانية أو اليهودية فأقيم مع عجم تابعا مع عيب ذلك؟ أو أقيم في داري فيمن بقي؟ فأنا على ذلك، إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، فتغيبت.
وكان أخي الوليد بن الوليد قد دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، فطلبني فلم يجدني، فكتب إلى كتابا فإذا فيه: أما بعد؛ فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام.
وعقلك عقلك، ومثل الإسلام يجهله أحد؟ قد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك فقال: أين خالد؟ فقلت:(سيرة 2/115)
يأتي الله به. فقال: ما مثله جهل الإسلام، ولو كان جعل نكايته وجده مع
المسلمين على المشركين كان خيرا له ولقدمناه على غيره، فاستدرك يا أخي ما قد فاتك. فلما جاءني كتابه، نشطت للخروج، وزادني رغبة في الإسلام، وأرى في النوم كأني في بلاد ضيقة جدبة، فخرجت إلى بلاد خضراء واسعة، قلت: إن هذه لرؤيا.
فلما قدمنا المدينة، قلت: لأذكرنها لأبي بكر، فذكرتها، فقال: هو مخرجك الذي هداك الله للإسلام، والضيق هو الشرك. قال: فلما أجمعت الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: من أصحاب إلى محمد؟ فلقيت صفوان بن أمية، فقلت: يا أبا وهب، أما ترى ما نحن فيه، إنما كنا كأضراس، وقد ظهر محمد على العرب والعجم، فلو قدمنا على محمد فاتبعناه فإن شرفه لنا شرف. فأبى أشد الإباء، وقال: لو لم يبق غيري ما اتبعته أبدًا. فافترقنا وقلت: هذا رجل قتل أخوه وأبوه ببدر. فلقيت عكرمة بن أبي جهل فقلت له مثل ما قلت لصفوان، فقال لي مثل ما قال صفوان. قلت: فاكتم ذكر ما قلت لك. وخرجت إلى منزلي، فأمرت براحلتي أن تخرج إلى أن ألقى عثمان بن طلحة. فقلت: إن هذا لي صديق، فذكرت له، فقال: نعم، إني عمدت اليوم، وأنا أزيد أن أغدو، وهذه راحلتي بفخ مناخة. قال: فاتعدت أنا وهو بيأجج، وأدلجنا سحرا، فلم يطلع الفجر حتى التقينا بيأجج، فغدونا حتى انتهينا إلى الهدة، فنجد عمرو بن العاص بها، فقال: مرحبا بالقوم. فقلنا: وبك. فذكر الحديث. وقال: كان قدومنا في صفر سنة ثمان، فوالله ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من يوم أسلمت يعدل بي أحدا من أصحابه فيما حزبه.(سيرة 2/116)
سرية شجاع بن وهب الأسدي:
قال الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن عمر بن الحكم، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب في أربعة وعشرين رجلًا، إلى جمع من هوازن، وأمره أن يغير عليهم. فخرج يسير الليل ويكمن النهار، حتى صبحهم غارين، فأصابوا نعمًا وشاء، فاستاقوا ذلك إلى المدينة. فكانت سهمانهم خمسة عشر بعيرًا لكل رجل منهم، وعدلوا البعير من الغنم. وغابت السرية خمس عشرة ليلة.
قال ابن أبي سبرة: فحدثت بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، فقال: كذبوا، قد أصابوا في ذلك الحاضر نسوة فاستاقوهن، فكانت فيهن جارية وضيئة، فقدموا بها المدينة، ثم قدم وفدهم مسلمين، فكلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السبي. فكلم النبي صلى الله عليه وسلم شجاعا وأصحابه في ردهن، فردوهن. قال ابن أبي سبرة: فأخبرت شيخا من الأنصار بذلك، فقال: أما الجارية الوضيئة فأخذها شجاع بثمن فأصابها، فلما قدم الوفد، خيرها فاختارت شجاعا، فقتل يوم اليمامة وهي عنده.
سرية نجد:
قال نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية قبل نجد وأنا(سيرة 2/117)
فيهم. فغنموا إبلا كثيرة، فبلغت سهمانهم لكل واحد اثني عشر بعيرا، ثم نفلوا بعيرا بعيرا، فلم يغير رسول الله صلى الله عليه وسلم. متفق عليه.
سرية كعب بن عمير:
قال الواقدي: حدثنا محمد بن عبد الله، عن الزهري، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن عمير الغفاري، في خمسة عشر رجلا حتى انتهوا إلى ذات أطلاح من الشام، فوجدوا جمعا من جمعهم كثيرا، فدعوهم إلى الإسلام، فلم يستجيبوا لهم، ورشقوهم بالنبل، فلما رأى ذلك المسلمون قاتلوهم أشد القتال، حتى قتلوا، فأفلت منهم رجل جريح في القتلى، فلما برد عليه الليل، تحامل حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فهم بالبعثة إليهم، فبلغه أنهم ساروا إلى موضع آخر، فتركهم. والله أعلم.
غزوة مؤتة:
قال محمد بن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني ربيعة بن عثمان، عن عمر بن الحكم، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير الأزدي إلى ملك بصرى بكتابه، فلما نزل مؤتة عرض للحارث شرحبيل بن عمرو الغساني، فقال: أين تريد؟ قال: الشام. قال: لعلك(سيرة 2/118)
من رسل محمد؟ قال: نعم، فأمر به فضربت عنقه. ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسول غيره.
وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فاشتد عليه، وندب الناس فأسرعوا. وكان ذلك سبب خروجهم إلى غزوة مؤتة.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرة القضاء في ذي الحجة، فأقام بالمدينة حتى بعث إلى مؤتة في جمادى من سنة ثمان، وأمر على الناس زيد بن حارثة. وقال إن أصيب فجعفر، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة، فإن أصبت فليرتض المسلمون رجلا. فتهيؤوا للخروج، وودع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبكى ابن رواحة، فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: أما والله ما
بي حب للدنيا، ولا صبابة إليها، ولكني سمعت الله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] ، فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود؟ فقال المسلمون: صحبكم الله وردكم إلينا صالحين ودفع عنكم. فقال عبد الله بن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرع تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة ... بحربه تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي ... يا أرشد الله من غاز وقد رشدا
ثم إنه ودع النبي صلى الله عليه وسلم، وقال:
ثبت الله ما آتاك من حسن ... تثبيت موسى، ونصرا كالذي نصروا
إني تفرست فيك الخير نافلة ... والله يعلم أني ثابت بصر(سيرة 2/119)
أنت الرسول فمن يحرم نوافله ... والوجه منه فقد أزرى به القدر
ثم خرج القوم حتى نزلوا معان، فبلغهم أن هرقل قد نزل مآرب في مائة ألف من الروم، ومائة ألف من المستعربة، فأقاموا بمعان يومين، وقالوا: نبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبره.
فشجع الناس عبد الله بن رواحة، فقال: يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم لها تطلبون، الشهادة. وما نقاتل الناس بعدد ولا كثرة، وإنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فإن يظهرنا الله به فربما فعل، وإن تكن الأخرى فهي الشهادة، وليست بشر المنزلتين. فقال الناس: والله لقد صدق فانشمر الناس، وهم ثلاثة آلاف، حتى لقوا جموع الروم بقرية من قرى البلقاء يقال له: مشارف، ثم انحاز المسلمون إلى مؤتة، قرية فوق أحساء. وكانوا ثلاثة آلاف.
وقال الواقدي: حدثني ربيعة بن عثمان، عن المقبري، عن أبي هريرة، قال: شهدت مؤتة، فلما رآنا المشركون رأينا ما لا قبل لأحد به من العدة والسلاح والكراع والديباج والذهب. فبرق بصري، فقال لي ثابت بن أقرم: مالك يا أبا هريرة، كأنك ترى جموعا كثيرة؟ قلت: نعم. قال: لم تشهد معنا بدرا، إنا لم ننصر بالكثرة.
وقال المغيرة بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن نافع، عن ابن عمر، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة زيد بن حارثة، فإن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة. قال ابن عمر: كنت معهم، ففتشناه -يعني ابن رواحة- فوجدنا فيما أقبل من(سيرة 2/120)
جسده بضعا وسبعين، بين طعنة ورمية.
وقال مصعب الزبيري وغيره، عن مغيرة: بضعا وتسعين. أخرجه البخاري.
وقال الواقدي: حدثني ربيعة بن عثمان، عن عمر بن الحكم، عن أبيه، قال: جاء النعمان بن مهص اليهودي، فوقف مع الناس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "زيد بن حارثة أمير الناس، فإن قتل زيد فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل فعبد الله بن رواحة، فإن قتل عبد الله فليرتض المسلمون رجلا فليجعلوه عليهم". فقال النعمان: أبا القاسم، إن كنت نبيا، فسميت من سميت قليلا أو كثيرا أصيبوا جميعا. إن الأنبياء في بني إسرائيل كانوا إذا استعملوا الرجل على القوم، فقالوا: إن أصيب فلان ففلان، فلو سموا مائة أصيبوا جميعا. ثم جعل اليهودي يقول لزيد: اعهد، فلا ترجع إن كان محمد نبيا. قال زيد: أشهد أنه نبي بار صادق.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: كان على ميمنة المسلمين قطبة بن قتادة العذري، وعلى الميسرة عباية بن مالك الأنصاري. والتقى الناس، فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، قال: حدثني أبي من الرضاعة، وكان أحد بني مرة بن عوف، قال: والله لكأني أنظر إلى جعفر بن أبي طالب يوم مؤتة حين اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ثم تقدم فقاتل حتى قتل.
قال ابن إسحاق: فهو أول من عقر في الإسلام، وقال جعفر:
يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة باردة شرابها(سيرة 2/121)
والروم روم قد دنا عذابها ... علي إن لاقيتها ضرابها
فلما قتل أخذ الراية عبد الله بن رواحة.
حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، قال: أخذها عبد الله بن رواحة فالتوى بها بعض الالتواء، ثم تقدم بها على فرسه فجعل يستنزل نفسه ويتردد.
حدثني عبد الله بن أبي بكر، أن ابن رواحة قال عند ذلك:
أقسمت يا نفس لتنزلنه ... طائعة أو سوف تكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنه ... ما لي أراك تكرهين الجنة
يا طالما قد كنت مطمئنه ... هل أنت إلا نطفة في شنه
ثم نزل فقاتل حتى قتل.
قال ابن إسحاق: وقال أيضا:
يا نفس إن لا تقتلي تموتي ... هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت ... إن تفعلي فعلهما هديت
وإن تأخرت فقد شقيت
فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق لحم، فقال: شد بها صلبك، فنهس منه نهسة، ثم سمع الحطمة في ناحية، فقال: وأنت في الدنيا؟ فألقاه من يده. ثم قاتل حتى قتل.
فحدثني محمد بن جعفر، عن عروة، قال: ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم، فقال: اصطلحوا يا معشر المسلمين على رجل. قالوا: أنت لها.(سيرة 2/122)
فقال: لا، فاصطلحوا على خالد بن الوليد. فحاش بالناس، فدافع وانحاز وانحيز عنه، ثم انصرف بالناس.
وقال حماد بن زيد، عن أيوب، عن حميد بن هلال، عن أنس، قال: نعى النبي صلى الله عليه وسلم جعفرا وزيد بن حارثة، وابن رواحة، نعاهم قبل أن يجيء خبرهم، وعيناه تذرفان.
أخرجه البخاري، وزاد فيه: فنعاهم، وقال: أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة. ثم أخذ الراية بعدهم سيف من سيوف الله: خالد بن الوليد.
قال: فجعل يحدث الناس وعيناه تذرفان.
وقال سليمان بن حرب: حدثنا الأسود بن شيبان، عن خالد بن سمير، قال: قدم علينا عبد الله بن رباح الأنصاري، وكانت الأنصار تفقهه، فغشيه الناس، فغشيته فيمن غشيه من الناس، فقال: حدثنا أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش الأمراء، وقال: "عليكم زيد بن حارثة، فإن أصيب فجعفر، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة"، فوثب جعفر فقال: يا رسول الله، ما كنت أرهب أن تستعمل زيدا علي. قال: "فامض. فإنك لا تدري أي ذلك خير". فانطلقوا، فلبثوا ما شاء الله. فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
المنبر، وأمر فنودي: الصلاة جامعة. فاجتمع الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أخبركم عن جيشكم هذا: إنهم انطلقوا فلقوا العدو، فقتل زيد شهيدا"، فاستغفر له. ثم قال: "أخذ اللواء جعفر فشد على القوم حتى قتل شهيدا"، شهد له بالشهادة واستغفر له. "ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة، فأثبت قدميه(سيرة 2/123)
حتى قتل شهيدا"، فاستغفر له، "ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد، ولم يكن من الأمراء وهو أمر نفسه"، ثم قال: "اللهم إنه سيف من سيوفك، فأنت تنصره". فمن يومئذ سمي خالد "سيف الله".
وقال البكائي، عن ابن إسحاق: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أخذ الراية زيد فقاتل بها حتى قتل شهيدا، ثم أخذها جعفر فقاتل حتى قتل شهيدا"، ثم صمت، حتى تغيرت وجوه الأنصار، وظنوا أنه قد كان في عبد الله بعض ما يكرهون. فقال: "ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا"، ثم قال: "لقد رفعوا إلى الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب. فرأيت في سرير عبد الله ازورارًا عن سريري صاحبيه. فقلت: عم هذا؟ فقيل لي: مضيا وتردد عبد الله بعض التردد ثم مضى".
وقال الواقدي: حدثني عبد الله بن الحارث بن فضيل، عن أبيه، قال: لما أخذ خالد الراية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الآن حمي الوطيس".
قال: فحدثني العطاف بن خالد، قال: لما قتل ابن رواحة مساء، بات خالد، فلما أصبح غدا وقد جعل مقدمته ساقة، وساقته مقدمة، وميمنته ميسرة، وميسرته ميمنة. فأنكروا ما كانوا يعرفون من راياتهم وهيئتهم، وقالوا: قد جاءهم مدد، فرعبوا فانكشفوا منهزمين، فقتلوا مقتلة ثم يقتلها قوم.
وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس: سمعت خالد بن الوليد يقول: لقد اندق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا(سيرة 2/124)
صفيحة يمانية. أخرجه البخاري.
وقال الواقدي: حدثني محمد بن صالح التمار، عن عاصم بن عمر بن قتادة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما قتل زيد أخذ الراية جعفر فجاءه الشيطان فحبب إليه الحياة وكره إليه الموت ومناه الدنيا، فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين، تمنيني الدنيا؟ ثم مضى قدما حتى استشهد"، فصلى عليه ودعا له، وقال: "استغفروا له، فإنه دخل الجنة وهو يطير في الجنة بجناحين من ياقوت حيث يشاء من الجنة".
وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي أن ابن عمر كان إذا سلم على عبد الله بن جعفر، قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين. رواه البخاري.
وقال عبد الوهاب الثقفي: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: أخبرتني عمرة، قالت: سمعت عائشة تقول: لماء جاء قتل جعفر وابن حارثة وابن رواحة، جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد يعرف فيه الحزن, وأنا أطلع من شق الباب، فأتاه رجل فقال: يا رسول الله، إن نساء جعفر؛ وذكر بكاءهن، فأمره أن ينهاهن. فذهب الرجل ثم أتى فقال: قد نهيتهن. وذكر أنهن لم يطعنه، فأمره الثانية أن ينهاهن، فذهب ثم أتى فقال: والله قد غلبننا. فزعمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فاحث في أفواههن التراب". فقلت: أرغم الله أنفك، ما أنت تفعل، وما تركت رسول(سيرة 2/125)
الله صلى الله عليه وسلم من العناء. أخرجاه عن محمد بن المثنى، عنه.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن أم عيسى الجزار، عن أم جعفر، عن جدتها أسماء بنت عميس، قالت: لما أصيب جعفر وأصحابه، دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عجنت وغسلت بني ودهنتهم ونظفتهم. فقال: "ائتيني ببني جعفر". فأتيته بهم، فشمهم، فدمعت عيناه. فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه؟ فقال: "نعم. أصيبوا هذا اليوم". فقمت أصيح، واجتمع الناس. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله، فقال: "لا تغفلوا آل جعفر أن تصنعوا لهم طعاما، فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم".
قال ابن إسحاق: فسمعت عبد الله بن أبي بكر، يقول: لقد أدركت الناس بالمدينة إذا مات لهم ميت؛ تكلف جيرانهم يومهم ذلك طعامهم؛ فلكأني أنظر إليهم قد خبزوا خبزا صغارا، وصنعوا لحما، فيجعل في جفنة، ثم يأتون به أهل الميت، وهم يبكون على ميتهم مشتغلين فيأكلونه. ثم إن الناس تركوا ذلك.
فائدة: أخرج مسلم في صحيحه، من حديث عوف بن مالك، قال: خرجت في غزوة مؤته، فرافقني مددي من أهل اليمن، ليس معه غير سيفه. فنحر رجل جزورًا فسأله المددي طائفة من جلده، فأعطاه(سيرة 2/126)
فاتخذه كهيئة الدرقة. ومضينا فلقينا جموع الروم، وفيهم رجل على فرس له أشقر وعليه سرج مذهب وسلاح مذهب، فجعل يفري بالمسلمين. وقعدوا له المددي خلف صخرة، فمر به الرومي فعرقب فرسه، فخر وعلاه فقتله وحاز فرسه وسلاحه. فأخذه
منه خالد بن الوليد، فأتيته فقلت: أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى، ولكني استكثرته. قلت: لتردنه أو لأعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فاجتمعنا، فقصصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم القصة، فقال لخالد: "ما حملك على ما صنعت"؟ قال: استكثرته. قال: "رد عليه ذلك". فقلت: دونك يا خالد، ألم أقل لك؟ فقال رسول الله: "ما ذاك"؟ فأخبرته. قال: فغضب وقال: "يا خالد لا ترده عليه. هل أنتم تاركوا لي أمرائي، لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره".
وقال الواقدي: حدثني محمد بن مسلم، عن يحيى بن أبي يعلى، قال: سمعت عبد الله بن جعفر يقول: أنا أحفظ حين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمي، فنعى لها أبي، فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي، وعيناه تهراقان الدموع، ثم قال: "اللهم إن جعفرا قد قدم إليك إلى أحسن ثواب، فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحدا من عبادك في ذريته". ثم قال: "يا أسماء، ألا أبشرك"؟ قالت: بلي، بأبي أنت وأمي. قال: "إن الله جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة". قالت: فأعلم الناس ذلك. وذكر الحديث.
وقال الواقدي: حدثني سليمان بن بلال، قال: حدثني عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله، قال: أصيب بها ناس من المسلمين، وغنم المسلمون بعض أمتعة المشركين.
فكان مما غنموا(سيرة 2/127)
خاتم جاء به رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قتلت صاحبه يومئذ، فنفله رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه.
وقال عوف بن مالك الأشجعي: لقيناهم في جماعة من قضاعة وغيرهم من نصارى العرب، فصافوا، فجعل رجل من الروم يشتد على المسلمين، فجعلت أقول في نفسي: من لهذا؟ وقد رافقني رجل من أمداد حمير، ليس معه إلا السيف، إذ نحر رجل جزورا فسأله
المددي طائفة من جلده، فوهبه منه، فجعله في الشمس وأوتد في أطرافه أوتادًا، فلما جف اتخذ منه مقبضا وجعله درقة. قال: فلما رأى ذلك المددي فعل الرومي، كمن له خلف صخرة، فلما مر به خرج عليه فعرقب فرسه، فقعد الفرس على رجليه وخر عنه العلج، فشد عليه فعلاه بالسيف فقتله.
قال: وحدثني بكير بن مسمار، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن أبيه، قال: حضرت مؤتة فبارزني رجل منهم، فأصبته وعليه بيضة له فيها ياقوتة، فأخذتها، فلما انكشفنا فانهزمنا رجعت إلى المدينة، فأتيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفلنيها، فبعتها زمن عثمان بمائة دينار، فاشتريت بها حديقة نخل.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر، عن عروة، قال: لما أقبل أصحاب مؤتة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه. فجعلوا يحثون عليهم التراب ويقولون: يا فرار فررتم في سبيل الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليسوا بالفرار، ولكنهم الكرار إن شاء الله".
فحدثني عبد الله بن أبي بكر، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، أن أم(سيرة 2/128)
سلمة قالت لامرأة سلمة بن هشام بن المغيرة: ما لي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله ما يستطيع أن يخرج، كلما خرج صاح به الناس: يا فرار، فررتم في سبيل الله، وكان في غزوة مؤتة.
وعن زيد بن أرقم، قال: كنت يتيما لعبد الله بن رواحة في حجره، فخرج بي في سفره ذلك، مردفي على حقيبة رحله، فوالله إنه ليسير إذ سمعته ينشد أبياته هذه:
إذا أدنيتني وحملت رحلي ... مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك فانعمى وخلاك ذم ... ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وآب المسلمون وغادروني ... بأرض الشام مشهور الثواء
وردك كل ذي نسب قريب ... إلى الرحمن منقطع الإخاء
هنالك لا أبالي طلع بعل ... ولا نخل، أسافلها رواء
فلما سمعتهن بكيت، فخفقني بالدرة، وقال: ما عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة، وترجع بين شعبتي الرحل!
وقال عبد الملك بن هشام: حدثني من أثق به أن جعفرا أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. فأثابه الله -تعالى- بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء. وروى أنهم قتلوه بالرماح.
ترجمة جعفر بن أبي طالب:
قلت: وكان جعفر من السابقين الأولين، هاجر الهجرتين. قال له(سيرة 2/129)
النبي صلى الله عليه وسلم: "أشبهت خلقي وخلقي".
وقال عكرمة، عن أبي هريرة، قال: ما احتذى النعال ولا ركب المطايا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر. وكنا نسميه أبا المساكين.
وقال مجالد، عن الشعبي، عن عبد الله بن جعفر، قال: ما سألت عليا -رضي الله عنه- شيئا بحق جعفر إلا أعطانيه.
وعن ابن عمر، قال: وجدت في مقدم جسد جعفر يوم مؤتة بضعا وأربعين ضربة. ولما قدم جعفر من الحبشة عند فتح خيبر، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتنقه وقال: "ما أدري أنا أسر بقدوم جعفر أو بفتح خيبر"؟.
وقال مهدي بن ميمون، عن محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، عن الحسن بن سعد، عن عبد الله بن جعفر، قال: لما نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفرا أتانا فقال: "أخرجوا إلي بني أخي". فأخرجتنا أمنا أغيلمة ثلاثة كأنهم أفرخ: عبد الله، وعون، ومحمد.
ترجمة زيد بن حارثة:
وأما أبو أسامة زيد بن حارثة شراحيل الكلبي حب رسول الله صلى الله عليه وسلم(سيرة 2/130)
وأول من آمن به من الموالي؛ فإنه من كبار السابقين الأولين وكان من الرماة المذكورين. آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين حمزة بن عبد المطلب، وعاش خمسا وخمسين سنة، وهو الذي سمى الله في كتابه في قوله: {تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} يعني من زينب بنت جحش: {زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] ، وكان المسلمون يدعونه زيد ابن النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] ، وقال -تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب: 4] ، وقال: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] .
روى عن زيد ابنه أسامة وأخوه جبلة.
واختلف في سنه، فروى الواقدي أن محمد بن الحسن بن أسامة بن زيد حدثه، عن أبيه، قال: كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين زيد بن حارثة عشر سنين؛ رسول الله أكبر منه، وكان قصيرًا شديد الأدمة أفطس.
قال محمد بن سعد: كذا صفته في هذه الرواية، وجاءت من وجه آخر أنه كان أبيض وكان ابنه أسود. ولذلك أعجب النبي صلى الله عليه وسلم بقول مجزز المدلجي القائف: "إن هذه الأقدام بعضها من بعض".
قلت: وعلى هذه الرواية أيضا يكون عمره خمسين سنة أو نحوها.
وقال أبو إسحاق السبيعي: إن زيد بن حارثة أغارت عليه خيل من تهامة، فوقع إلى خديجة فاشترته، ثم وهبته للنبي صلى الله عليه وسلم. ويروى أنها اشترته بسبع مائه درهم.(سيرة 2/131)
وقال الزهري: ما علمنا أحد أسلم قبله.
وقال موسى بن عقبة: حدثنا سالم بن عبد الله، عن ابن عمر، قال: ما كنا ندعوا زيدا إلا زيد بن محمد. فنزلت {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] .
وقال يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع قال: غزوت مع زيد بن حارثة سبع غزوات، كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤمره علينا. كذا رواه الفسوي عن أبي عاصم عن يزيد.
وقال ابن عيينة: أخبرنا عبد الله بن دينار، سمع ابن عمر يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أسامة على قوم، فطعن الناس في إمارته. فقال: "إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه، وأيم الله إن كان لخليقا للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن ابنه هذا لأحب الناس إلي بعده".
وقال ابن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن محمد بن أسامة، عن أبيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي: "يا زيد أنت مولاي ومني وإلي وأحب القوم إلي".(سيرة 2/132)
وقال محمد بن عبيد: حدثنا إسماعيل، عن مجالد، عن عامر، عن عائشة أنها كانت تقول: "لو أن زيدا كان حيا لاستخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ورواه محمد بن عبيد مرة أخرى، فقال: حدثنا وائل بن داود، عن البهي، عن عائشة، قالت: ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في جيش قط إلا أمره عليهم، ولو بقي بعده استخلفه.
وقال حسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "دخلت الجنة فاستقبلتني جارية شابة، فقلت: لمن أنت؟ قالت: لزيد بن حارثة".
إسناده حسن، رواه الروياني في مسنده، ورواه حماد بن سلمة عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد، يرفعه.
وقال حماد بن يزيد، عن خالد بن سلمة المخزومي، قال: أصيب زيد فأتى النبي صلى الله عليه وسلم منزله، فجهشت بنت زيد زيد في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكى حتى انتحب. فقال له سعد بن عبادة: يا رسول الله، ما هذا؟ قال: "شوق الحبيب إلى حبيبه".
له
ترجمة ابن رواحة:
وأما عبد الله بن رواحة بن ثعلبة الخزرجي الأنصاري أبو عمرو، أحد النقباء ليلة العقبة، شهد بدرا والمشاهد، وكان شاعر النبي صلى الله عليه وسلم،(سيرة 2/133)
وأخا أبي الدرداء لأمه.
روى عنه أبو هريرة، وابن أخته النعمان بن بشير، وزيد بن أرقم، وأنس قوله، وأرسل عنه جماعة من التابعين. وقال الواقدي: كنيته أبو محمد. وقيل: أبو رواحة.
وروت أم الدرداء، عن أبي الدرداء قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر في يوم شديد الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة.
وقال معمر: عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: تزوج رجل امرأة عبد الله بن رواحة فقال لها: هل تدرين لم تزوجتك؟ قالت: لا، قال: لتخبريني عن صنيع عبد الله
في بيته. فذكرت له شيئا لا أحفظه، غير أنها قالت: كان إذا أراد أن يخرج من بيته صلى ركعتين، وإذا دخل بيته صلى ركعتين، لا يدع ذلك أبدا.
وقال هشام بن عروة، عن أبيه، قال: لما نزلت: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُون} [الشعراء] ، قال: ابن رواحة: قد علم الله أني منهم. فأنزلت: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} الآية [الشعراء: 227] وقيل: هذا البيت بن رواحة يخاطب زيد بن أرقم:
يا زيد زيد اليعملات الذبل ... تطاول الليل هديت فانزل
يعني: انزل فسق بالقوم.
وعن مصعب بن شيبة، قال: لما نزل ابن رواحة للقتال طعن(سيرة 2/134)
فاستقبل الدم بيده، فدلك به وجهه، ثم صرع بين الصفين فجعل يقول: يا معشر المسلمين ذبوا عن لحم أخيكم. فكانوا يحملون حتى يجوزونه. فلم يزالوا كذلك حتى مات مكانه.
وقال ابن وهب: حدثني أسامة بن زيد الليثي، قال: حدثني نافع، قال: كانت لابن رواحة امرأة وكان يتقيها. وكانت له جارية فوقع عليها، فقالت له وفرقت أن يكون قد فعل فقال: سبحان الله. قالت: اقرأ علي إذا، فإنك جنب. فقال:
شهدت بإذن الله أن محمدا ... رسول الذي فوق السموات من عل
وإن أبا يحيى ويحيى كلاهما ... له عمل من ربه متقبل
وقد رويا لحسان.
وقال ابن وهب، عن عبد الرحمن بن سلمان، عن ابن الهاد، أن امرأة عبد الله بن رواحة رأته على جارية له فجحدها. فقالت له: فاقرأ، فقال:
شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العريش رب العالمينا
وتحمله ملائكة كرام ... ملائكة الإله مقربينا
فقالت: آمنت بالله وكذبت البصر. فحدث ابن رواحة النبي صلى الله عليه وسلم، فضحك.
وقال موسى بن جعفر بن أبي كثير: حدثنا عبد العزيز الماجشون، عن الثقة أن ابن رواحة اتهمته امرأته. فذكر القصة.
وقال ابن إسحاق: لم يعقب ابن رواحة.(سيرة 2/135)
واستشهد بمؤته:
عباد بن قيس الخزرجي؛ أحد من شهد بدرا، والحارث بن النعمان بن أساف النجاري، ومسعود بن سويد بن حارثة الأنصاري، ووهب بن سعد بن أبي سرح العامري، وزيد بن عبيد بن المعلى الخزرجي؛ الذي قتل أبوه يوم أحد، وعبد الله بن سعيد بن العاص بن أمية الأموي، وقيل: قتل هذا يوم اليمامة، وأبو كلاب، وجابر ابنا أبي صعصعة الخزرجي، رضي الله عنهم.
ذكر رسل النبي صلى الله عليه وسلم:
وفي هذا السنة كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك النواحى يدعوهم إلى الله تعالى.
قال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب قبل موته إلى كسرى، وإلى قيصر، وكتب إلى النجاشي، يعني الذي ملك الحبشة بعد النجاشي المسلم، وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله، عز وجل. رواه مسلم.
وليس في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم: كتب إلى النجاشي الثاني يدعوه إلى الله في هذه السنة. بل ذلك مسكوت عنه، وإنما كان ذلك بعد النجاشي الأول المسلم وموته، كما سيأتي في سنة تسع. والله أعلم.
وقال إبراهيم بن سعد، صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس أنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى(سيرة 2/136)
قيصر يدعوه إلى الإسلام. وبعث بكتابه إليه مع دحية الكلبي، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى قيصر. فدفعه عظيم بصرى إلى قيصر، وكان قيصر لما كشف الله عنه جنود فارس، مشى من حمص إلى إيلياء شكرًا لما أبلاه الله -تعالى- فلما أن جاء قيصر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال حين قرأه: التمسوا لي ههنا أحدا من قومه لنسألهم.
قال ابن عباس: فأخبرني أبو سفيان أنه كان بالشام في رجال من قريش قدموا للتجارة، في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش.
قال أبو سفيان: فوجدنا رسول قيصر ببعض الشام، فانطلق بنا حتى قدمنا إيلياء، فأدخلنا عليه، فإذا هو جالس في مجلسه وعليه التاج، وحوله عظماء الروم، فقال لترجمانه: سلهم أيهم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قلت: أنا أقربهم إليه نسبا. قال: ما قرابة ما بينك وبينه؟ قلت: هو ابن عمي. قال: وليس في الركب يومئذ أحد من بني عبد مناف غيري، قال: أدنوه مني. ثم أمر بأصحابي فجعلهم خلف ظهري، عند كتفي، ثم قال لترجمانه: قل لأصحابه إني سائله عن هذا الذي يزعم أنه نبي، فإن كذب فكذبوه.
قال أبو سفيان: والله لولا الحياء يومئذ أن يأثر عني أصحابي الكذب لكذبته عنه. ثم قال لترجمانه: قل له: كيف نسب هذا الرجل فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول أحد منكم قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. قال: فيزيدون أو ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟(سيرة 2/137)
قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا. ونحن الآن منه في مدة ونحن نخاف منه أن يغدر؛ ولم يمكنى كلمة أدخل فيها شيئا أنتقصه بها، لا أخاف أن تؤثر عني غيرها. قال: فهل قاتلتموه وقاتلكم؟ قلت: نعم. قال: فكيف حربكم وحربه؟ قلت: كانت دولا وسجالا، يدال عينا المرة ويدال عليه الأخرى، قال: فماذا يأمركم به؟ قلت: يأمرنا أن نعبد الله وحده، ولا نشرك به شيئا، وينهانا عما كان يعيد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء(سيرة 2/138)
الأمانة.
قال فقال لترجمانه قل له: إني سألتك عن نسبه فيكم، فزعمت أنه ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل قال هذا القول أحد قبله، فزعمت أن لا، فقلت: لو كان أحد منكم قال هذا القول قبله لقلت: رجل يأتم قد قيل قبله. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فزعمت أن لا، فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله. وسألتك: هل كان من آبائه من ملك، فزعمت أن لا، فقلت: لو كان من آبائه ملك قلت: رجل يطلب ملك آبائه. وسالتك: أشراف الناس يتبعونه أو ضعفاؤهم، فزعمت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل. وسألتك: هل يزيدون أو ينقصون، فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم. وسألتك: هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد. وسألتك: هل يغدر، فزعمت أن لا، وكذلك الرسل لا يغدرون. وسألتك: هل قاتلتموه وقاتلكم، فزعمت أن قد فعل، وأن حربكم وحربه يكون دولا، وكذلك الرسل تبتلى وتكون لها العاقبة. وسألتك ماذا يأمركم به، فزعمت أن يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، وهذه صفة نبي، قد كنت أعلم أنه خارج، ولكن لم أظن أنه منكم؛ وإن يكن ما قلت حقا فيوشك أن يملك موضع قدمي هاتين، ولو أرجو أن أخلص إليه لتجشمت لقيه، ولو كنت عنده لغسلت قدميه. قال: ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر به فقرئ فإذا فيه:
"بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم:
سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين. وإن توليت فعليك إثم الأريسيين. و: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] .
قال أبو سفيان: فلما أن قضى مقالته علت أصوات الذين حوله من عظماء الروم وكثر لغطهم، فلا أدري ما قالوا، وأمر بنا فأخرجنا. فلما أن خرجت مع أصحابي وخلوت بهم قلت لهم: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة؛ هذا ملك بني الأصفر يخافه.
قال أبو سفيان: ووالله ما زلت ذليلا، مستيقنا بأن أمره سيظهر حتى أدخل الله قلبي الإسلام وأنا كاره. أخرجاه من حديث إبراهيم.
وأخرجاه من حديث معمر، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس أن أبا سفيان
حدثه، قال: انطلقت في المدة التى كانت بيني وبين(سيرة 2/139)
رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فبينا أنا بالشام. فذكر حديث إبراهيم.
ورواه يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، عن الزهري بسنده. وفيه قال أبو سفيان: فلما كانت هدنة الحديبية بيننا وبين النبي صلى الله عليه وسلم خرجت تاجرًا إلى الشام. فوالله ما علمت بمكة امرأة ولا رجلا إلا قد حملني بضاعة. فقدمت غزة، وذلك حين ظهر قيصر على من كان ببلاده من الفرس، فأخرجهم منها. ورد عليه صليبه الأعظم، وكان منزله بحمص فخرج منها متشكرا إلى بيت المقدس، تبسط له البسط وتطرح له عليها الرياحين. حتى انتهى إلى إيلياء، فصلى بها. فأصبح ذات غداة مهموما يقلب طرفه إلى السماء، فقالت له بطارقته: أيها الملك، لقد أصبحت مهموما. فقال: أجل. قالوا: وما ذاك؟ قال: أريت في هذه الليلة أن ملك الختان ظاهر. فقالوا: والله ما نعلم أمة من الأمم تختتن إلا يهود، وهم تحت يدك وفي سلطانك، فإن كان قد وقع هذا في نفسك منهم، فابعث في مملكتك كلها فلا يبقى يهودي إلا ضربت عنقه فتستريح من هذا الهم.
فبينما هم في ذلك؛ إذ أتاهم رسول صاحب بصرى برجل من العرب قد وقع إليهم.
فقال: أيها الملك هذا رجل من العرب من أهل الشاء والإبل، يحدثك عن حدث كان ببلاده، فسله عنه. فلما انتهى إليه قال لترجمانه: سله ما هذا الخبر الذي كان في بلاده؟ فسأله فقال: هو رجل من قريش خرج يزعم أنه نبي، وقد تبه أقوام وخالفه آخرون، فكانت بينهم ملاحم، فقال: جردوه. فإذا هو مختون فقال: هذا والله الذي أريت، لا ما تقولون. ثم دعا صاحب شرطته فقال له: قلب لي الشام ظهرا وبطنا حتى تأتي برجل من قوم هذا أسأله عن شأنه. فوالله(سيرة 2/140)