مدينة الديبل، ويصل إليها مهران السند ويصب في البحر الهندي.
سبسطية (1)
مدينة للروم في طريق القسطنطينية في ساحل الشام، وهي مدينة عظيمة، فيها اثنا عشر ألف حائك، وعشرون ألف فاجرة على كل واحدة منهن للملك مثقالان ونصف خراجها في العام.
سبيطلة
هي مدينة قمودة، على سبعين ميلاً من القيروان، وقال عريب: على مسافة يومين من القيروان، قال اليعقوبي (2) : وهو بلد واسع فيه مدن وحصون، والمدينة القديمة العظمى هي التي يقال لها سبيطلة، وهي كانت مدينة جرجير التي دخلها عليه المسلمون في جيش عبد الله بن سعد بن أبي سرح في صدر الإسلام، وكان فيهم عبد الله بن الزبير، وكان جرجير الملك أبرز ابنته وحرض رومة على قتال المسلمين، ووعد من قتل عبد الله بن سعد بأن يعطيه ابنته ويشاطره في ملكه، وبلغ ذلك عبد الله بن سعد فحرض المسلمين ووعد من قتل الرومي الملك بأن ينفله ابنته، فقتله عبد الله بن الزبير ونفله ابن سعد ابنته، والخبر طويل مشهور (3) .
سبأ
مدينة باليمن هي الآن خراب، وهي مدينة بلقيس صاحبة سليمان عليه السلام المذكورة في القرآن، وبها طوائف من اليمن من أهل عمان، وبها كان السد الذي خرقه سيل العرم المذكور في القرآن.
قالوا (4) : ولم تزل أرض سبأ من أخصب أرض، وأهلها في أرغد عيش، وكانت مسيرة شهر للراكب المجد في مثل ذلك، وكان الملك يسير منها جناناً من أولها إلى أن ينتهي إلى آخرها لا تواجهه الشمس ولا يفارقه الظل مع تدفق المياه وصفاء الهواء واتساع الفضاء، فمكثوا كذلك ما شاء الله لا يعاندهم ملك إلا قصموه، ولا يعارضهم جبار إلا كسروه، وكانت سمة الملك الذي يملك البلد مأرب فاشتهر البلد باسمه قال الشاعر:
من سبإ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما وقيل: إن مأرب سمة قصر الملك في ذلك الزمان وقال أبو الطمحان:
ألم تر مأرباً ما كان أحصنه ... وما حواليه من سور وبنيان وكانت أرض سبأ في بدء الزمان عامرة تركبها السيول وتعمها الوحول فجمع ملك من ملوك حمير الحكماء وأحضر البصراء وشاورهم في دفع ذلك السيل وإزاحة ما كان من أمره،
فأجمعوا على حفر مصارف له إلى برار تؤديه إلى البحار، فحشد الملك لذلك أهل
مملكته حتى صرف الماء واتخذ سداً في الموضع الذي كان فيه مبدأ جريان الماء من الجبل إلى الجبل، وذلك نحو فرسخ، رضمه بالحجارة والحديد، وجعل فيه ثلاثين مجرافاً للماء في استدارة الذراع على أصح هندسة وأكمل تقدير، يجتذبون منها مقداراً من الماء معلوماً وشرباً للأرض مقسوماً، وبعث الله إليهم اثني عشر نبياً، وكانوا يعبدون الشمس، فأرسل إليهم رسلاً يدعونهم إلى الحق ويزجرونهم عن الباطل ويذكرونهم آلاء الله، فأنكروا نعمة الله وقالوا: إن كنتم صادقين فادعوا الله أن يسلبنا ذلك، حتى قالت امرأة منهم:
إن كان ما نصبح في ظلاله ... من ربكم فلينطلق بماله ... إليه عنا وإلى عياله ... فدعت عليهم الرسل، فأرسل الله عليهم السيل بفأرة خرقت ذلك السد المحكم والصخر المرضم ليكون ذلك أثبت في العبرة، فأباد الله خضراءهم وأذهب أموالهم ومزقوا كل ممزق وباعد بين أسفارهم؛ وأول ما تكهن سطيح الغساني في أمر سيل العرم، وكان عمرو بن عامر بلغه علم ذلك فرأى يوماً جرذاً يقل برجله صخرة ما يقلها خمسون رجلاً، فرجع وهو يقول:
أبصرت أمراً هاج لي برح السقم ... يسحب فهراً من جلاميد العرم ... فأجمع على الخروج من أرض سبأ وبيع ماله بها وأعمل الحيلة
__________
(1) نقل ياقوت أنها من أعمال سميساط؛ قلت: وهي المعروفة ب؟ ((سيواس)) ؛ وقد أهمل مؤلف الروض ((سبسطية)) من أعمال نابلس بفلسطين، وذكرها ياقوت.
(2) اليعقوبي: 349.
(3) انظر ابن عذاري 1: 9 - 14.
(4) قارن بمروج الذهب 3: 367 وما بعدها، وابن الوردي: 43.(1/302)
في ذلك، وتم له ذلك ثم أنذر الناس فتفرقوا أيادي سبا وتمزقوا كل ممزق، وبعض هذا مذكور في ذكر مأرب.
سبتة (1) :
مدينة عظيمة على الخليج الرومي المعروف بالزقاق، وهو أول البحر الشامي المنتهي إلى مدينة صور من أرض الشام، وهي تقابل الجزيرة الخضراء والمعروف أنها مفتوحة السين والنسب إليها بكسرها مثل بصرة وبصري والبحر يحيط بسبتة شرقاً وجوفاً وقبلة، وليس لها إلى البر غير طريق واحدة من ناحية الغرب لو شاء أهلها أن يقطعوه قطعوه، ولها بابان أحدهما محدث، ولها من جهات البحر أبواب كثيرة، وفي آخر المدينة بشرقيها جبل كبير فيه شعراء كثيفة يسمى جبل المينا (2) ، وقد كان عبد الملك بن أبي عامر (3) أمر أن تبنى بهذا الجبل مدينة ينقل إليها أهل سبتة، فبنى سورها ومات ولم يتم له المراد، والسور باق إلى الآن كأنه بني بالأمس وهو يظهر من بر الأندلس لبياضه، ومن غرائب ما في ذلك السور أن فيه شقة مستطيلة بأبراجها مبنية بالزيت عوضاً عن الماء، وكان غرضه إتمام عمله على هذا النعت لولا الإنفاق الكثير، فإن البناء بالزيت أصلب وأبقى على مرور الدهر فلم يساعده الأجل.
وسبتة (4) سبعة أجبل صغار متصلة بعضها ببعض، معمورة، طولها من المشرق إلى المغرب نحو ميل، ويتصل بها من جهة المغرب وعلى ميلين منها جبل موسى، وهذا الجبل منسوب إلى موسى بن نصير الذي على يديه كان افتتاح الأندلس في صدر الإسلام، وتجاوره جنات وبساتين وأشجار وقرى كثيرة وقصب سكر وأترج يتجهز به إلى ما جاور سبتة من البلاد، وهو الموضع المسمى بليونش وبه مياه جارية وعيون مطردة وخصب زائد، ويلي المدينة من جهة المشرق جبل عال أعلاه بسيط، في أعلاه سور بناه محمد بن أبي عامر حين جاز إليها من الأندلس، وأراد أن ينقل المدينة إلى أعلى هذا الجبل عند فراغه من بناء أسوارها، وعجز أهل سبتة عن الانتقال، فمكثوا في مدينتهم وبقيت المدينة خالية (5) وأسوارها قائمة قد نبت حطب الشعراء فيها، وهذه الأسوار تظهر من عدوة الأندلس لبياضها.
وسبتة (6) مدينة قديمة سكنها الأول، وفيها آثار كثيرة وكان لها ماء، مجلوب من نهر على ثلاثة أميال منها، يجري إليها من قناة مع ضفة البحر القبلي فكان يدخل كنيستها التي هي الآن جامع سبتة، وكان يوسف بن عبد المؤمن، سنة ثمانين وخمسمائة، أراد أن يجلب الماء إليها من قرية بليونش (7) على ستة أميال من سبتة في قناة تحت الأرض على حسب ما فعله الأوائل في قناة قرطاجنة، وشرع في عمل ذلك ثم اقتصر عليه، وعلى قرية بليونش جبل عظيم فيه القردة، عبر من تحته موسى بن نصير إلى ساحل طريف، وكان عليه حصن هدمته مصمودة المجاورون له، ثم بناه الناصر عبد الرحمن المرواني فهدموه ثانية، وتحته أرض خصيبة فيها مياه عذبة وعليه قرية تعرف بقصر مصمودة، ولها نهر يصب في البحر عذب.
والبحر (8) يحيط بسبتة من جميع جهاتها إلا من جهة الغرب، فإن البحر يكاد يلتقي ولا يبقى بينهما إلا أقل من رمية قوس. وبسبتة مصايد للحوت، ويصاد بها منه نحو مائة نوع، ويصاد بها التن زرقاً بالرماح وفي أسنتها أجنحة تثبت (9) في الحوت ولا تخرج وفي أطراف عصيها شرائط القنب الطوال ولهم في ذلك دربة وحكمة، ويصاد بها أيضاً شجر المرجان الذي لا يعدله مرجان، وبها سوق لتفصيله وحكه وثقبه وتنظيفه.
قالوا: وتظهر سبتة عند صفاء البحر من الجزيرة الخضراء، ولذلك قال بعض المتأخرين (10) :
لما حططت بسبتة قتب النوى ... والقلب يرجو أن يحول حاله
__________
(1) يبدأ بالنقل عن البكري: 102، ثم بعد ثلاثة أسطر يتفق مع الاستبصار: 137، وقد كرر المؤلف بعض الحقائق في هذه المادة، لنقله أكثر ما جاء في المصدرين السابقين ويمزجه بما قاله الإدريسي، وانظر ابن الوردي: 14، وصبح الأعشى 5: 157 - 158.
(2) المنية: (عند الإدريسي) .
(3) هكذا هو هنا، وهو ما ورد في بعض نسخ الاستبصار، وسيرد عند الإدريسي بعد قليل محمد ابن ابي عامر.
(4) عن الإدريسي (د/ ب) : 67/ 107.
(5) يريد المدينة الجديدة التي بناها ابن أبي عامر.
(6) عاد للنقل عن الاستبصار.
(7) راجع مادة ((بليونش)) في ما سبق.
(8) عاد إلى النقل عن الإدريسي (د) : 168.
(9) الإدريسي: تنشب.
(10) هو أبو الحسن سهل بن مالك الغرناطي (- 640) ، انظر المغرب 2 105، واختصار القدح: 60 وأبياته في النفح 4: 8.(1/303)
أبصرت من بلد الجزيرة مكنساً ... والبحر يمنع أن يصاد غزاله
كالشكل في المرآة تبصره وقد ... قربت مسافته وعز مناله
السبخة
1
-:
موضع بالمدينة، بين موضع الخندق وبين سلع، وبها جالت خيل المشركين وقد اقتحمت من مكان ضيق في الخندق منهم عمرو بن عبد ود، فقتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
والسبخة (2) أيضاً موضع بالعراق فيه كانت وقيعة السبخة التي أوقع فيها المختار بن أبي عبيد الثقفي بقتلة الحسين بن علي رضي الله عنهما وكان بعثه الله تعالى نقمة عليهم فقتل منهم بشراً كثيراً، ولما أظفره الله عز وجل بقتلة الحسين رضي الله عنه أظهر العتو وادعى النبوة، وكانت هذه الوقيعة التي أوقع بهم فيها تعرف بوقيعة السبخة، وقتل فيها ربيعة بن شداد بن عوسجة وهرب الشمر بن ذي الجوشن ثم عثر عليه ليلاً فقتل، وقتل الذي جاء برأس الحسين وحرق بالنار، ووجه المختار أبا عمرة صاحب حرسه إلى عمر بن سعد بن أبي وقاص فقتله وجاء برأسه إلى المختار، وابنه حفص جالس عنده فقال له: أتعرف هذا؟ قال: نعم ولا خير في الحياة بعده، قال: صدقت، فأمر به فقتل، ثم قال المختار: هذا بحسين بن علي وهذا بعلي بن حسين ولا سواء، والله لو قتلت منهم كذا لما وفوا بأنملة من أنامله. ثم بعث المختار برأس عمر بن سعد إلى المدينة حتى ألقي بين يدي علي بن الحسين فخر ساجداً، وفي الخبر طول.
سبيبة (3) :
من القيروان إلى وادي الرمل أربعون ميلاً، ومنها إلى سبيبة، وهي مدينة أولية ذات أنهار وثمار، ومياهها سائحة تطحن عليها الأرحاء، وكانت على نظر كبير ومزدرعات كثيرة وقرى عامرة.
ولها (4) سور حجارة وربض فيه الخانات والأسواق.
وتسكنها (5) اليوم قبائل من البربر والعرب ويسمى ذلك النظر القرى، ولم يكن بإفريقية أخصب أرضاً منها ولا أكثر بساتين ومياهاً وعيوناً جارية.
وبمدينة سبيبة عين عظيمة كبيرة من بنيان قديم من عمل الأول، ويقال إن فيها خبئاً، ومن أطرف ما يهتف به أهلها أنهم يقولون إنه يوجد فيها في رأس كل شهر دينار كبير وزنه عشرة مثاقيل، ولا يصل إليه ويأخذه إلا من يعرف رقية العين، ويقولون إن رجلاً كان يعرف رقية العين وكان يبخرها ببخور ويرقي بكلام غير مفهوم، فكان يجد فيها كل يوم ديناراً من تلك الدنانير حتى كسب من ذلك مالاً كثيراً.
وبسبيبة كان التقاء جند زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب صاحب القيروان وجند منصور الطنبذي (6) ، وكانت إفريقية قد انتقضت عليه وحكم كل رئيس على جهته، فتقاتل زيادة الله ومنصور الطنبذي قتالاً عظيماً وانهزم أصحاب زيادة الله واستفحل أمر القواد واستولوا على إفريقية، وفي هذه الوقيعة خاف زيادة الله على ملكه وتوقع انقطاع دولته وبلغ، ذلك منه كل مبلغ فدخلت عليه أمه فصبرته وسهلت عليه الأمر، ففكر ساعة ثم رفع رأسه فأنشدها أبياتاً فيها (7) :
أفنت سبيبة كل قرم باسل ... ومن العبيد جحاجحاً أبطالا
فإذا ذكرت مصابنا بسبيبة ... فابكي جلاجل واندبي إعوالا (8)
سجستان:
بلد جليل له من الكور مثل ما بخراسان وأكثر، غير أنها منقطعة متصلة ببلاد السند والهند، وكان يضاهي خراسان.
وهم ينتفعون (9) بالقنافذ كانتفاع أهل اليمامة بالحفاث، وفي عهد سجستان ألا يقتل قنقذ في بلادهم لأن بلدهم كثير الرمل بناه
__________
(2) انظر الطبري 2: 628.
(3) بدأ النص بالنقل عن البكري: 49، وبعد قليل يتفق مع ما في الاستبصار: 161.
(4) عن الإدريسي (د) : 9 -
(5) عاد إلى النقل عن الاستبصار.
(6) كان ذلك سنة 210هـ؟، (انظر البين المغرب 1: 100 - 101) ؟
(7) الحلة السيراء 1: 166، وجلاجل المخاطبة في البيت الثاني هي أم زيادة الله.
(8) ص: أطلالا؛ ع: اطالا، وآثرنا رواية الحلة السيراء.
(9) البكري (مخ) : 48.(1/304)
ذو القرنين في مطافه، وهو كثير الأفاعي والحيات، ولولا كثرة القنافذ لتلف من هنالك.
قال أصحاب المغازي (1) : قصد عاصم بن عمرو سجستان ولحقه عبد الله بن عمير فالتقوا هم وأهل سجستان في أدنى أرضهم ثم اتبعوهم حتى حصروهم بزرنج، ومخر المسلمون سجستان ما شاء الله، ثم إنهم طلبوا الصلح على زرنج وما احتازوه من الأرضين، فأعطاهم ذلك المسلمون، وكان فيما شرطوه من صلحهم أن قنافذها (2) حمى، فكان المسلمون إذا خرجوا تناذروها خشية أن يصيبوا منها فيخفروا، وأقيم أهل سجستان على الخراج، وكانت سجستان أعظم من خراسان، وأبعد فروجاً، يقاتلون القندهار والترك وأمماً كثيرة، وكانت فيما بين السند إلى نهر بلخ بحياله، فلم تزل أعظم البلدين وأصعب الفرجين وأكثرهما عدداً وجنداً حتى كان زمن معاوية، فهرب الشاه من أخيه رتبيل إلى بلد فيها يدعى آمل، ودانوا لسلم بن زياد وهو يومئذ عامل سجستان، ففرح بذلك وعقد لهم وأنزلهم تلك البلاد، وكتب إلى معاوية بذلك يرى أنه قد فتح عليه، فقال معاوية: إن ابن أخي ليفرح بأمر إنه ليحزنني وينبغي له أن يحزنه، قالوا: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: لأن آمل بلدة بينها وبين زرنج صعوبة ومضايق، وهؤلاء قوم غدر نكر، فيضطرب عليهما الحبل غداً، فأهون ما يجيء منهم أن يغلبوا على بلاد آمل بأسرها، وتم لهم على عهد ابن زياد، فلما وقعت الفتنة بعد معاوية كفر الشاه وغلب على آمل وخافه أخوه، فاعتصم منه بمكانه الذي هو به اليوم، ولم يرضه ذلك حين تشاغل الناس عنه حتى طمع في زرنج فغزاها، فحصرهم حتى أتتهم الأمداد من البصرة. قالوا: وصار رتبيل والذين جاءوا معه فنزلوا تلك البلاد فلم تنتزع إلى اليوم، وقد كانت البلاد مذللة إلى أن مات معاوية.
ومن سجستان أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسماعيل بن بشير بن شداد الأزدي السجستاني صاحب كتاب " السنن "، توفي بالبصرة سنة خمس وسبعين ومائتين.
وبسجستان قتلت الخوارج معن بن زائدة فتكاً به سنة اثنتين وخمسين ومائة، وكان معن أحد الأجواد، وقف عليه أعرابي فقال له: جعلت قصدك سببي إليك، وكرمك وسيلتي عندك واستشفعت بك إليك، قال: سل ما أحببت، قال: ألفا درهم، قال معن: الله أكبر، ربحنا أربعة آلاف درهم، فقال الأعرابي: أنت أكرم من أن تربح على مثلي، قال: صدقت، وأمر له بستة آلاف درهم.
سجلماسة (3) :
في صحراء المغرب، بينها وبين البحر خمس عشرة مرحلة، وهي على نهر يقال له زيز، وليس بها عين ولا بئر، وزرعهم الدخن والذرة ولهم النخل الكثير.
وسجلماسة (4) من أعظم مدن المغرب، وهي على طرف الصحراء لا يعرف في قبليها ولا في غربيها عمران، وبينها وبين غانة في الصحراء مسيرة شهرين في رمال وجبال غير عامرة، قليلة الماء، يسكنها قوم من مسوفة رحالون لا يستقر بهم مكان، ليس لهم مدن ولا عمارة يأوون إليها إلا وادي درعة، وبينه وبين سجلماسة مسيرة خمسة أيام.
وهي كثيرة (5) العامر مقصد للوارد والصادر، كثيرة الخضر والجنات، رائعة البقاع والجهات، وهي قصور وديار وعمارات متصلة على نهر كثير الماء يأتي من جهة المشرق من الصحراء يزيد في الصيف، كزيادة النيل، ويزرع بمائه كحال ماء النيل، ولزراعته إصابة كثيرة، وفي السنة الكثيرة الأمطار ينبت لهم ما حصدوه في العام السابق من غير بذر، وربما حصدوه عند تناهيه وتركوا جذوره فينبت من غير حاجة إلى البذر (6) وحكي أن البذر يكون عاماً والحصاد فيه سبع سنين، وبها أنواع من الثمر لا يشبه بعضها بعضاً، وفيها الرطب المسمى البرني، وهي خضراء جداً وحلاوتها تفوق كل حلاوة ونواها في غاية الصغر، وعندهم غلات القطن والكمون والكراويا والحناء، ويتجهز منها إلى سائر بلاد المغرب وغيرها، وهم يأكلون الكلاب والحرذون، وقل ما يوجد في أهلها صحيح العينين.
وسجلماسة (7) محدثة، بنيت سنة أربعين ومائة، أسسها مدرار بن عبد الله، وكان رجلاً من أهل الحديث يقال إنه لقي بإفريقية عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما، وسمع منه،
__________
(1) الطبري 1: 2705.
(2) الطبري: فدافدها.
(3) قارن باليعقوبي: 359.
(4) عن الاستبصار: 200 وبعضه مطايق لما عند البكري: 149.
(5) عن الإدريسي (د/ ب) : 60/ 37، وقارن بابن حوقل: 90.
(6) زيادة من الإدريسي.
(7) عن الاستبصار: 201، وقارن بالبكري: 148.(1/305)
وكان صاحب ماشية، وكثيراً ما كان ينتجع موضع سجلماسة، وكان يجتمع بالموضع بربر تلك النواحي، فاجتمع إلى مدرار قوم من الصفرية، فلما بلغوا أربعين رجلاً، قدموا على أنفسهم مدراراً، وشرعوا في بناء سجلماسة فبنوها، ثم سورها أبو المنصور اليسع بن أبي القاسم بن مدرار، ولم يشركه في الإنفاق في بنائه أحد، أنفق فيه ألف مدي من طعامه. وقال آخرون: إن رجلاً جواداً اسمه مدرار كان من ربضية قرطبة، خرج من الأندلس عند وقعة الربض، فنزل منزلاً بقرب سجلماسة، وموضع سجلماسة إذ ذاك سوق لبربر تلك النواحي، فابتنى بها مدرار خيمة وسكنها، فبنى الناس حوله، فكان ذلك أصل عمارتها، وكان رجلاً أسود وهجي أولاده بذلك.
ولسجلماسة اثنا عشر باباً ولها بساتين كثيرة، وهي كثيرة النخل والأعناب وجميع الفواكه، وزبيب عنبها المعرش الذي لا تناله الشمس لا يزبب إلا في الظل، ويسمى الظلي، وما أصابته الشمس منه زبب في الشمس. وهي على نهرين من عنصر واحد في موضع يسمى الحلف (1) وتمده عيون كثيرة، ولهم مزارع كثيرة يسقونها من النهر في حياض كحياض البساتين، ويزرع بأرض سجلماسة عاماً ويحصد من تلك الزريعة ثلاثة أعوام، لأنه بلد مفرط الحر شديد القيظ، فإذا يبس الزرع تناثر عند الحصاد، وأرضهم مشققة، فيقع ما يتناثر من الحب في تلك الشقوق، فإذا كان العام الثاني أخرجوا النهر على عادتهم، لأن ماء المطر قليل عندهم وحرثوا بلا بذر وكذلك العام الثالث. وقمحهم رقيق الحب يسع مد النبي صلى الله عليه وسلم من قمحهم خمساً وسبعين ألف حبة، وهم يأكلون الزرع إذا أخرج شطأه، وهو عندهم مستظرف.
ومن العجيب (3) بسجلماسة أنها ليس فيها ذباب ولا كلاب لأنهم يسمنونها ويأكلونها كما يصنع أهل البلاد الجريدية، ويسمون الكنافين عندهم المجرمين (3) والبناءون عندهم اليهود لا يتجاوزون بهم هذه الصناعة. والسبب في تسخير أهل سجلماسة لليهود في ذلك كونهم محبين في سكنى بلادهم للاكتساب، لما علموا أن التبر بها أمكن منه بغيرها في بلاد المغرب لكونها باباً لمعدنه، فهم يعاملون التجار به ليخدعوهم بالسرقة وأنواع الخداع، ولما علم منهم (4) ذلك أبو عبد الله الداعي، عند استخراجه عبيد الله الشيعي من سجن اليسع بن مدرار بسجلماسة، وكان الذي عرف به ونم عليه يهودي، وحكى عبيد الله لأبي عبد الله ما جرى له معهم، قتل منهم الأغنياء وأخذ أموالهم بالعذاب وأمر من شاء منهم أن يقيم معهم في البلد بأن يتصرف في هذه الصناعة وفي شغل الكنافين، فمن دخل في الكنافين من أصناف الناس سموهم المجرمين لاجترامهم على حرفة موقوفة على اليهود. وقصروا البناء عليهم خاصة لأنهم خائفون من أن يجوز أحدهم المسلم فيهلكه فهم ينصحونهم في البناء ويلازمون الخدمة دون تردد، وهم الآن قد داخلوا المسلمين.
وبسجلماسة كان قيام الدعوة العبيدية وإخراج أبي عبد الله الشيعي لعبيد الله المهدي من سجن اليسع بن مدرار. قالوا (5) : وكان أبو عبد الله الشيعي محققاً لوجود الإمام المهدي، والخبر عن خروجه إلى شاطئ دجلة وقراءته لسورة الكهف ولقائه الشيخ الذي معه الغلام، وسؤال الشيخ الذي مع الغلام له عن قتل الغلام المذكور في الآية بأمر لا يتحقق، ثم اجتماعه به في منزله وقول الشيخ له: إن الغلام الذي معه هو ولده عبيد الله وإنه الإمام المنتظر، وقوله لأصحابه الذين كانوا معه: هذا ثاني عشرتكم، وتوجيهه له إلى المغرب ليكون آخر دعاته إلى المهدي عبيد الله، مطول (6) مشهور فلنختصره. وكان ذلك في خلافة المعتضد سنة ثمانين ومائتين، ثم مات الشيخ والد عبيد الله، فهرب عبيد الله إلى مصر ونفذت مخاطبات المعتضد إلى صاحب مصر في طلبه والقبض عليه، وإلى اليسع بن مدرار صاحب سجلماسة مثل ذلك، فلما خرج المهدي من مصر، بعث واليها في طلبه، فوجد راجعاً يذكر أنه يطلب كلباً هرب له، فحمل إلى الوالي، وقيل له: هو صياد هرب له كلب فطلبه، وشهد له بذلك شهود، وقيل: أعطى الوالي ما كان معه فأطلقه، ثم وصل إلى سجلماسة فدل عليه يهودي كان هناك، فأخذه اليسع بن مدرار وسجنه هناك وكبله، وتبعه ولده أبو القاسم، فسجنه أيضاً في قرية بالقرب من سجلماسة، فخاطب من السجن أبا عبد الله الداعي فأعلمه بحاله، فاستنفر الداعي قبائل كتامة ومن استجاب لدعوته وقصد سجلماسة،
__________
(1) ص: الخلف؛ الاستبصار: أكلف.
(3) البكري: والمجذمون عندهم هم الكنافون.
(3) البكري: والمجذمون عندهم هم الكنافون.
(4) ص ع: منه.
(5) ما يزال يتابع الاستبصار، وفي هذه التفصيلات عن المهدي والداعي أبي عبيد الله قارن برسالة افتتاح الدعوة للقاضي النعمان، وانظر ص: 33 وتعليق المحققة في هذا الشأن.
(6) خبر للمبتدأ: ((والخبر عن خروجه)) ....(1/306)
وفر اليسع، فقتله جمع من رعيته لحقد كانوا يجدونه له، ووصل الداعي إلى عبيد الله فاستخرجه من سجنه وكسر كبله بيده وأركبه بغلته وكساه برنسه، وقال لهم: هذا مولاي الإمام ومولاكم، ثم استخرج ولده أبا القاسم من السجن وأركبه بغلة أخيه أبي العباس، وقال لأهل سجلماسة: لا يحل لكم أن تستوطنوا بلداً امتحن فيه الإمام، ففزعوا منه فخرجوا، فلما خرجوا أمر بسلبهم، ففتشوا كلهم رجالاً ونساء وأخذ أموالهم وصرفهم، وقيل: إنه تحصل له من التبر والحلي وقر عشرين جملاً أدخلها رقادة، وبايع بها لعبيد الله، وأدخله القيروان وبنى له المهدية، فكان عبيد الله يتساكر ويقتل جواريه ويرمي بهن خارج القصر، وأظهر مذهبه الذي يزعم الشيعة أنه مذهب أهل البيت، فأنكر كتامة ذلك واجتمعوا مع الداعي وأخيه أبي العباس: فقال لهم الداعي: إن الدعاء لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب، والإمام المهدي حق والزمن مجهول عندي، وكنت ارتبت في والد عبيد الله فكيف لا أرتاب فيه (1) ، فسيروا إليه وقولوا له: إن أبا عبد الله وأبا العباس أخاه قد شكا في هذا الخاتم الذي ذكرت أنه بين كتفيك فأره لنا، فإن لم تعاينوه فشأنكم به، فلما صاروا إليه وقالوا تلك المقالة، قال لهم: ألم يعلماكم أنهما أيقنا به؟ قالوا: نعم، فقال: الشك لا يزيل اليقين، ثم التفت إلى صاحب شرطته، فقال له: يا عروبة (2) ايتني برأسيهما، فمضى إليهما متنكراً، فقال له أبو عبد الله: ما الذي أتى بك يا عروبة؟ فقال: إن الذي أمرتني بطاعته أمرني بقتلك، فقتلهما وأتاه في الحين برأسيهما، فحضره أشياخ كتامة وأمر بالكتب إلى الأمصار أن أبا عبد الله أحدث حدثاً فطهرناه بالسيف ولم تمنعنا رعاية الحق له من إقامة الحق عليه، وتمهد أمر عبيد الله الشيعي.
وقد أكثر الناس من الاختلاف في دعوة عبيد الله، قال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب: إنه عبيد الله بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن ميمون القداح، وقال الصولي: والده عبد الله بن سالم بن عبدان الباهلي، وجده سالم صلبه المهدي العباسي على الزندقة على ما قاله الذين فحصوا عن أمره، وأثبت آخرون نسبه ومات عبيد الله بالمهدية سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة، وولي ولده أبو القاسم فأظهر مذهب أهل البيت نسبة إلى جعفر بن محمد الصادق وإلى علي رضي الله عنهما: منه توريث البنت إذا انفردت جميع المال، وأسقط الرجم على الزاني المحصن، والمسح على الخفين، وقول المؤذن: الصلاة خير من النوم، ونادى في الصبح: حي على خير العمل، والصوم بالعلامة والفطر بها لا بالرؤية، وأحل المطلقة ثلاثاً، وأسقط أيمان الحرج، ولا يقيم الحد على المحدود إلا أبواه أو جده أو قريبه، وأمرهم بجهاد من خالف مذهبهم. وقام عليه أو على ابنه إسماعيل المنصور أبو يزيد مخلد بن كيداد النكار وكان على مذهب الصفرية في سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة فكانت له فتنة عظيمة، وكان يعمل أكواماً من رؤوس المسلمين رعية الشيعة ويأمر المؤذنين فيؤذنون عليها، وواقف أبا القاسم الشيعي وهزمه وهرب أمامه إلى المهدية واتبعه أبو يزيد حتى ركز رمحه في الباب، فقال أبو القاسم: لا يعود إليه أبداً، وأمر بالركوب والخروج إليه، وأعطى الجند العطاء الجزيل، فخرجوا يريدون أبا يزيد، ودارت الحرب بينهم، وأثخن أبو يزيد بالجراح، وقبض عليه حياً فأدخل المهدية في قفص حديد وصلب على باب المهدية الذي طعن فيه برمحه، وكان ذلك على يد ابنه إسماعيل المنصور بن أبي القاسم، ودانت للشيعي بلاد المغرب كلها وإفريقية.
السحاب (3) :
جزيرة من جزر الهند، سميت بذلك لأنه ربما طلع من ناحيتها سحاب أبيض يضل المراكب، فيخرج منها لسان رقيق طويل مع الريح العاصفة حتى يلتصق ذلك اللسان بماء البحر، فيعلو (4) له ماء البحر ويضطرب مثل الزوبعة الهائلة، فإذا أدركت المركب ابتلعته، ثم يرتفع ذلك السحاب فيمطر مطراً. وفي هذه الجزيرة تلول إذا مستها النار عادت فضة خالصة، وفيما يليها من جزائر الواق واق مواضع مقطوعة بالجزائر والجبال فلا يصل السالك إليها لامتناع بلادها وصعوبة مسالكها، وسكانها مجوس لا يعرفون ديناً ولا اتصلت بهم شريعة، ونساؤهم يكشفن رؤوسهن ويجعلن فيها الأمشاط المتخذة من العاج مكللة بالصدف، وربما كان في رأس المرأة منهن عشرون مشطاً وغير ذلك، وهم متحصنون بجبالهم لا يصلون إلى أحد ولا يتصل بهم أحد، ولكنهم يشرفون على البحر ويتطلعون إلى المراكب، وربما تكلموا معهم بكلام لا يفهم منهم.
__________
(1) زيادة من الاستبصار.
(2) يرد في رسالة افتتاح الدعوة ((غزوية)) .
(3) نزهة المشتاق: 32 (OG: 90) ، وابن الوردي: 64.
(4) نزهة المشتاق: فيغلي.(1/307)
سحول (1) :
قرية باليمن أو واد، إليها تنسب الثياب السحولية والملاحف السحولية، وقيل: هو واد بقرب الجند، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة.
السدير (2) :
بالعراق، وهو سواد نخل، وقيل: السدير: النهر الذي هناك، وقيل: هو قصر عظيم من إنشاء ملوك لخم في القديم، وما بقي من قصورهم فهي بيع للنصارى، وإياه عنى عدي بن زيد في أبياته المشهورة في قوله:
سره ماله وكثرة ما يم ... لك والبحر معرض والسدير وقال آخر:
أبعد المنذرين أرى سواماً ... تروح بالخورنق والسدير قالوا: وسمي سديراً لأن العرب لما نظرت إلى سواد نخله سدرت أعينهم، فقالوا: ما هذا إلا سدير، قال المنخل:
فإذا شربت فإنني ... رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني ... رب الشويهة والبعير
سدوم (3) :
مدينة من مدائن قوم لوط، وهي وما حولها المؤتفكات وكانت خمس قريات، وسدوم هي القرية العظمى، وهي كلها خراب لا أنيس بها، وإلى أهلها أرسل الله سبحانه نبيه لوطاً عليه السلام، والحجارة الموسومة موجودة فيها يراها السفر سوداء براقة. وكان في كل قرية منها مائة ألف، ويضرب المثل بجور أحكام قاضي سدوم، وهي بأرض الشام.
وسدوم هذه هي القرية التي أمطرت مطر السوء المذكور في سورة الفرقان " الآية: 40 " لأنها رجمت. وقصة قوم لوط عليه السلام وزوجه في القرآن وكانوا يعملون الخبائث كما قال الله تعالى وفيهم قالت الملائكة لإبراهيم عليه السلام: " إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين " وقالوا للوط عليه السلام: " إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فاسر بأهلك بقطع من الليل " الآية (هود: 81) قالوا: أدخل جبريل عليه السلام جناحه الواحد تحت مدائن قوم لوط فقلعها وصعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نهيق الحمير ونباح الكلاب وصراخ الديكة، ثم قلبها دفعة واحدة وضرب بها على الأرض وأمطرت عليهم حجارة من سجيل. وكانت هذه القرى بين المدينة والشام ومنها صبعة وصعرة (4) وعمرة وسدوم ودوما (5) وهي المدينة العظمى، وقال بعض المفسرين: سدوم هي القرية التي كانت تعمل الخبائث، وقد يقال إنه بذال معجمة، وسدوم موضع بالشام كان قاضيه يضاف إلى الجور فيقال في المثل: أجور من قاضي سدوم (6) ، ويقال أيضاً أجور من سدوم (7) ، قال عمرو بن دراك العبدي (8) :
وإني إن قطعت حبال قيس ... وخالفت المزون على تميم
لأعظم فجرة من آبي رغال ... وأجور في الحكومة من سدوم وكانت لقوم لوط عليه السلام مدينتان: سدوم وعامورا، وهما أعظم قراهم أهلكهما الله فيما أهلك منها، وقيل كان سدوم ملكاً وبه سميت المدينة، وكان من أجور الناس.
السد:
هو سد يأجوج ومأجوج المذكور في القرآن العزيز في قوله تعالى: " فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً ". وفي شعر الحماسة (9) :
فأوصيكما يا ابني نزار فتابعا ... وصية مضفي النصح والصدق والود
__________
(1) معجم ما استعجم 3: 727، والبكري (مخ) : 67.
(2) انظر معجم ما استعجم (الخورنق) و3: 729، وقارن بياقوت (السدير) .
(3) بعضه من معجم ما استعجم 3: 729، وقارن بياقوت (سدوم) ، وتفسير الثعلبي: 102 وما بعدها، وسائر كتب التفسير، وتاريخ الطبري 1: 325 - 343.
(4) ص ع: صعبة وصعدة.
(5) يختلف رسم هذه الأسماء في المصادر، وبلحظ أن المؤلف لم يذكر بينها ((زعموا)) التي أثبتها في حرف الزاي؛ إلا أن تكون هي صعرة ((صاعورا زعورا)) ؛ أما دوما فقد كانت في الأصلين: درعا؛ وأثبت ما في الطبري.
(6) الميداني 1: 128.
(7) انظر ثمار القلوب: 83 - 84 حيث جاء: جور سدوم.
(8) تاج العروس (سدم) .
(9) من أبيات للعديل بن الفرخ العجلي (شرح المرزوقي: 729) .(1/308)
فما ترب أثرى لو جمعت ترابها ... بأكثر من إبني نزار على العد
هما كنفا الأرض اللذا لو تزعزعا ... تزعزع ما بين الجنوب إلى السد والسدان المذكوران في قوله تعالى: " بين السدين " جبلان سدا مسالك تلك الناحية من الأرض وبين طرفي الجبلين فتح هو موضع الردم، وقيل: السدان أرمينية وأذربيجان، وقيل: هما من وراء بلاد الترك الذين قالوا: يا ذا القرنين، هم الذين كانوا بقرب السد. قالوا: وهذا السد بينه وبين حدود بلاد الخزر مسيرة شهر وأزيد.
وذكر قتادة (1) ، قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: رأيت السد، قال: " كيف رأيته؟ "، قال: كأنه حبرة، قال: " فقد رأيته ".
وبلاد يأجوج ومأجوج في الإقليم الخامس، وبلاد يأجوج عامرة، وهم عدد كثير وجمع غفير وأمم لا يحصون كثرة، وبلادهم بلاد خصب ومياه جارية ومدائن كثيرة، وهم من ولد سام بن نوح، وهم المفسدون في الأرض، وخلقهم خلق صغار جداً، ولا يعرف ما ديانتهم ولا أي شيء معتقدهم. فأما يأجوج فكلهم قصار جداً، حتى إن طول الرجل منهم لا يتجاوز ثلاثة أشبار، ونساؤهم مثل ذلك، وأوجههم مستديرة في غاية الاستدارة، وعليهم شبه الزغب كثير جداً، وآذانهم كبار مستديرة مسترخية حتى إن أذن الرجل إذا هي تعطفت تلحق طرف منكبه، وكلامهم شبيه بالصفير والشرة عليهم بادية، وهم خفاف الوثوب، وفيهم زنا فاحش، وبلادهم بلاد ثلج وشتاء دائم والبرد عندهم لازم في كل الأوقات.
ويقال: إن يأجوج ومأجوج أخوان لأب ولأم، والغالب على ألوانهم البياض والحمرة، ونكاحاتهم كثيرة ونتاجهم فاش، وكانوا قبل أن يصل إليهم الإسكندر ويبني السد عليهم في باب جبلهم الذي كانوا يدخلون منه ويخرجون عليه، يغيرون على من جاورهم حتى أخلوا كثيراً من البلاد والمدن المجاورة لهم من غربي الجبل، وحديث سد ذي القرنين المبني عليهم، وأكثر تلك البلاد خالية لا ساكن بها لكثرة جبالها وغزر مياهها ووحشة أرضها، فلما طغت يأجوج ومأجوج وغلبوا وأكثروا الفساد في الأرض، شكي أمرهم إلى الإسكندر، فلما قصد أرضهم اختبرهم فوجد منهم أمماً عم خيرهم وقل ضررهم هاجروا إلى الإسكندر قبل أن يلحق أرضهم وتبرأوا له مما يفعل إخوانهم يأجوج ومأجوج، وشهد كثير من القبائل لهم بذلك وأنهم لم يزالوا أبد الدهر يطلبون السلامة، فتركهم الإسكندر خارج السد وأقطعهم تلك الأرض، فسمتهم العرب تركاً؛ لأنهم ممن ترك الإسكندر من يأجوج ومأجوج وأسكنهم خلف السد، فقروا في تلك الأرض، فجميع أصناف الترك، وهم أمم كثيرة، تركهم الإسكندر خلف الردم فانتشروا في الأرض وعمروها وكثرت أنسابهم، وأكثرهم مجوس وعباد نيران، والغالب عليهم الجفاء وغلظ النفوس وقلة الانقياد، وهم بالجملة طائعون لأولي الأمر منهم، وفيهم صرامة لازمة وحمية في طلب الثأر وجبايات الأقطار.
فأما السد، فقال وهب بن منبه: إن ذا القرنين انصرف إلى ما بين الصدفين، وهو في منقطع أرض الترك مما يلي الشمال، فذرع ما بينهما فوجده مائة فرسخ، فحفر له أساً حتى بلغ إلى الماء ثم جعل عرضه خمسين فرسخاً وجعل حشوه الصخور وطينته النحاس يذاب ويصب عليه، ثم علاه على الأرض بزبر الحديد والنحاس المذاب، وجعل لذلك عمداً من النحاس الأصفر فصار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد.
ولما بعث عمر (2) بن الخطاب رضي الله عنه، سراقة بن عمرو إلى الباب، بعد أن رد أبا موسى رضي الله عنه مكانه إلى البصرة، وجعل عمر على مقدمته عبد الرحمن بن ربيعة، وكان من فتح الباب ما كان، فحدث مطر بن ثلج التميمي، قال: دخلت على عبد الرحمن بن ربيعة بالباب وشهربراز وهو كان صاحب الباب عنده، فأقبل رجل عليه شحوب (3) حتى جلس إلى شهربراز فتسارا، ثم إن شهربراز قال لعبد الرحمن: أيها الأمير، أتدري من أين جاء هذا الرجل. هذا رجل بعثته منذ سنتين (4) نحو السد لينظر لي ما حاله ومن دونه، وزودته
__________
(1) انظر تفسير القرطبي 11: 62، والثعلبي: 360؛ وفي قصة ((يأجوج ومأجوج)) اجمالاً تراجع كتب التفسير المتعلقة بالآيات التي تذكر السد وذا القرنين من سورة الكهف، وكتاب التيجان، وقارن بياقوت (سد يأجوج ومأجوج) .
(2) الطبري 1: 2669.
(3) الطبري: شحوبة.
(4) الطبري: سنين.(1/309)
مالاً عظيماً، وكتبت إلى من يليني وأهديت له وسألته أن يكتب إلى من وراءه، وزودته لكل ملك هدية، ففعل ذلك بكل ملك بينه وبينه حتى انتهى إليه، فلما انتهى إلى الملك الذي السد في ظهر أرضه كتب له إلى عامله على ذلك البلد فأتاه فبعث معه بازياره ومعه عقابه، فذكر أنه أحسن إلى البازيار، قال: فشكر لي البازيار، فلما انتهينا إذا جبلان بينهما سد مسدود حتى ارتفع على الجبلين بعدما استوى بهما، وإذا دون السد خندق أشد سواداً من الليل لبعده، فنظرت إلى ذلك كله وتفرست فيه ثم ذهبت لأنصرف، فقال لي البازيار: على رسلك أكافئك، إنه لا يلي ملك بعد ملك إلا تقرب إلى الله تعالى بأفضل ما عنده من الدنيا فيرمي به في هذا اللهب، فشرح بضعة لحم معه وألقاها في ذلك الهوي وانقضت عليها العقاب، فقال: إن أدركتها قبل أن تقع فلا شيء وإن لم تدركها حتى تقع فذلك شيء، فخرجت علينا باللحم (1) في مخالبها، وإذا فيها ياقوتة فأعطانيها وهي هذه، فتناولها منه شهربراز حمراء فناولها عبد الرحمن فنظر إليها ثم ردها إليه، فقال شهربراز: لهذه خير من هذا البلد، يعني الباب، وأيم الله لأنتم أحب إلي ملكة من آل كسرى، ولو كنت في سلطانهم ثم بلغهم خبرها لانتزعوها مني، وأيم الله لا يقوم لكم شيء ما وفيتم أو وفى لكم ملككم الأكبر. فأقبل عبد الرحمن على الرسول وقال له: ما حال الردم وما يشبهه؟ فقال: هذا الثوب الذي على هذا الرجل، وأشار إلى مطر بن ثلج وكان عليه قباء برود يمنة أرضه حمراء ووشيه أسود أو وشيه أحمر وأرضه سواد، فقال مطر: صدق والله الرجل، لقد نفذ ورأى، قال عبد الرحمن: أجل ووصف صفة الحديد والصفر وقرأ: " آتوني زبر الحديد " إلى آخر الآية. وقال عبد الرحمن لشهربراز: كم كانت هديتك؟ قال: قيمة مائة ألف في بلادي هذه، وثلاثة آلاف ألف وأكثر في تلك البلدان.
وذكر ابن عفير أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، أرسل خمسة وعشرين رجلاً إلى سد يأجوج ومأجوج ينظرون كيف هو، وكتب إلى ملك الخزر أن يجوزهم إلى من خلفه، وأهدى إليهم هدايا، ففعل حتى انتهوا إلى الجبلين فرأوا بينهما مثل البصيص وهو بريق الصفر في الحديد وسمعوا جلبة من داخل السور ورأوا درجاً يرقى فيه إلى أعلاه، فصعد فيه رجل منهم، فلما بلغ وسطه تحير فسقط فمات، وانصرفوا بقطعة مسحاة وجدوها عند السد، فأرسل معاوية رضي الله عنه إلى رجل عالم فسأله فقال: يرسل ملك جنده إلى السد، فيهلك واحد منهم ويأتون بحديد ويجمعهم على مائدة فيها طعام، فوافى العالم وهم على تلك المائدة قد جمعهم عليها معاوية رضي الله عنه وخلطهم بغيرهم، فقال هؤلاء هم، فعجب معاوية رضي الله عنه من ذلك.
وقال ابن خرداذبه (2) : حدثني سلام الترجمان، وكان هو الذي يترجم كتب الترك التي كانت ترد على الواثق قال: لما رأى الواثق في المنام كأن السد الذي بناه ذو القرنين مفتوح وجهني وضم إلي خمسين رجلاً وقال لي: عاينه وجئني بخبره، ووصلني بخمسة آلاف دينار وعشرة آلاف درهم وأعطى كل رجل من الخمسين ألف درهم ورزق سنة وأعطاني مائتي بغل أحمل عليها الزاد والماء وكتب إلى إسحاق بن إسماعيل صاحب أرمينية وهو بتفليس في انفاذنا، فشخصنا إليه من سر من رأى، فكتب إسحاق إلى صاحب السرير، وكتب لنا صاحب السرير إلى بلد اللان، وكتب ملك اللان إلى فيلان شاه وهو ملك ما يلي الباب والأبواب من خارج، وكتب فيلان شاه إلى طرخان ملك الخزر، فوجه معنا ملك الخزر خمسة أدلاء، وسرنا من عنده خمسة وعشرين يوماً حتى انتهينا إلى أرض سوداء منتنة الرائحة، وكنا قد تحملنا شيئاً نشمه ونحجب به نتن ريحها عند دخولها، فسرنا نحو عشرة أيام حتى أفضينا إلى مدن خراب، فسألنا عنها فأخبرنا أن يأجوج ومأجوج خربوها، فسرنا فيها سبعة وعشرين يوماً حتى أفضينا إلى حصن يقرب من الجبل الذي هو أحد الصدفين، تتصل به حصون فيها قوم يتكلمون بالعربية والفارسية مسلمون يقرأون القرآن ولهم مساجد، فسألونا من أين أقبلنا، فأخبرناهم أنا رسل أمير المؤمنين، فجعلوا يتعجبون ويقولون: أمير المؤمنين؟! فنقول: نعم، فيقولون: أشيخ هو أم شاب؟ فقلنا: شاب، فعجبوا أيضاً وقالوا: أين يكون؟ قلنا: بالعراق في مدينة يقال لها سر من رأى، فيقولون: ما سمعنا بهذا قط (3) ، ثم سرنا إلى جبل أملس يكاد البصر ينبو عنه، وإذا جبل مقطوع عرضه مقدار مائة وخمسين ذراعاً، وإذا عضادتان مبنيتان
__________
(1) ص ع: بالفحم.
(2) حديث سلام الترجمان ورد عند ابن خرداذبه: 162 - 170، وياقوت والمقدسي: 362، والثعلبي: 366، ونزهة المشتاق: 312، وقد اختلف سياق النص عند الإدريسي بعض اختلاف.
(3) عند الإدريسي هنا توضع الطريقة التي أسلموا بها.(1/310)
مما يلي الجبل من جنبتي الوادي عرض كل عضادة خمس وعشرون ذراعاً في سمك خمسين ذراعاً وعتبة الباب السفلى عشرة أذرع في بسط مائة ذراع سوى ما تحت العتبتين، والظاهر منها خمسة أذرع، وهذا الذراع بذراع السواد، وعلى أعلى العضادتين دروند حديد طرفاه على العضادتين طوله مائة وعشرون ذراعاً، والدروند العتبة العليا، وقد ركب فيها على كل واحدة من العضادتين مقدار عشرة أذرع، ومن فوق الدروند بنيان متصل بلبن الحديد المغيب في النحاس إلى رأس الجبل وارتفاعه مدى البصر وفوقه شرافات حديد في طرف كل شرافة قرنان مثنيا الأطراف بعضهما إلى بعض، وللباب مصراعان معلقان، عرض كل مصراع خمسون ذراعاً في ثخن خمسة أذرع، وقائمتاهما في دوارة على قدر الدروند، وعلى الباب قفل طوله سبعة أذرع في غلظ ذراع في الاستدارة، وارتفاع القفل من الأرض خمسة وعشرون ذراعاً، وفوق القفل بخمسة أذرع غلق طوله أكثر من طول القفل، وعلى الغلق مفتاح طوله ذراع ونصف ذراع، وله اثنا عشر دندانجة، كل دندانجة منها كأغلظ ما يكون من دساتج الهواوين (1) كل واحدة منها معلقة في سلسلة طولها ثمانية أذرع في استدارة أربعة أشبار، والحلقة التي في السلسلة مثل حلقة المنجنيق، قال: ورئيس ذلك الحصن يركب في كل جمعة في عشرة فوارس مع كل فارس مرزبة من حديد فيها خمسة (2) أمنان، فيضربون القفل بتلك المرازب ثلاث مرات، فيسمع من وراء الباب الصوت، فيعلم أن هناك حفظة، ويعلم هؤلاء أن أولئك لم يحدثوا شيئاً في الباب، فإذا ضرب أصحاب الحصون القفل وضعوا آذانهم فيسمعون دوياً، ومع هذا الباب حصنان يكون كل واحد منهما مائتي ذراع في مثلها، بينهما عين عذبة، وفي أحد الحصنين بقية من آلة البنيان التي بني بها السد من قدور الحديد ومغارف الحديد والديدكانات، وعلى كل ديدكان (3) أربع قدور مثل قدور الصابون، وهناك بقايا من لبن الحديد قد التصق بعضها ببعض، واللبنة ذراع ونصف في سمك شبر، وبالقرب من هذا الموضع حصن كبير، عشر فراسخ في مثلها تكسيرها مائة فرسخ، قال: وسألت من هناك، هل رأوا أحداً من يأجوج ومأجوج، فذكروا أنهم رأوا مرة واحدة عدداً منهم فوق الشرف، فهبت ريح سوداء فألقتهم إلى جانبهم من السد، وكان مقدار الرجل منهم، في رأي العين، شبراً ونصف شبر.
قال: فلما انصرفنا أخذنا أدلاء فأخرجونا إلى ناحية خراسان حتى وصلنا إلى سمرقند، وكان أصحاب الحصون زودونا، ثم صرنا إلى عبد الله بن طاهر، قال سلام: فوصلني بمائة ألف درهم، ووصل كل رجل معي بخمسة آلاف درهم وأجرى علينا حتى وصلنا إلى الري، فوصلنا إلى سر من رأى لثمانية عشر شهراً وعشرين يوماً من يوم خرجنا منها.
وفي بعض الأخبار أن الرجل الواحد منهم لا يموت حتى يولد له ألف ولد.
سر من رأى (4) :
مدينة بالعراق، محدثة إسلامية، بناها المعتصم (5) ، ثم عاجلها الخراب بعدما عمرت وبهر حسنها (6) .
السرر (7) :
موضع بقرب مكة، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " فإذا كنت بين الأخشبين ومنى، ونفح بيمينه نحو المشرق، فإن هناك وادياً يقال له السرر فيه سرحة سر تحتها سبعون نبياً ".
سرحة:
مدينة في طريق اليمن بمقربة من عثر، وهي دونها في العظم.
السراة (8) :
أعظم جبال العرب، وهو ما بين جرش والطائف، وقيل هو جبل الأزد الذين هم به يقال لهم السراة.
وفي سير ابن إسحاق (9) : أن أشراف اليمن اغتنموا غضبة عمرو بن عامر، وقالت الأزد: لا نتخلف عنه، فساروا وتفرقوا في البلاد، فنزلت آل جفنة الشام، ونزل الأوس والخزرج يثرب، ونزلت أزد السراة السراة، ونزلت أزد عمان عمان، ثم أرسل الله تعالى على السد السيل، الحديث بطوله.
__________
(1) وردت في ص ع بعد هذه اللفظة ((رلوكا)) ولم ترد في المصادر الأخرى.
(2) عند المقدسي: خمسون.
(3) والديد كانات ... ديد كان: الرسم هنا متابع لما عند الإدريسي؛ وعند المقدسي: ديدكان، وهذه تعني ((المرجل)) بالفارسية.
(4) قد تقدم الحديث عنها في مادة ((سامرا)) مفصلاً.
(5) ص ع: المتوكل.
(6) سقطت من ص.
(7) معجم ما استعجم 3: 732، وقارن بياقوت (السرر) .
(8) قارن بياقوت (السراة) .
(9) السيرة 1: 13.(1/311)
وسراة (1) :
بغير ألف ولام مدينة بين أردبيل والمراغة من عمل أرمينية، وهي مدينة لطيفة كثيرة الخير والبساتين والمياه والمزارع والفواكه والطواحين، وفيها أسواق حسنة، ومن كور سراة المراغة بينهما أربعة وثمانون ميلاً.
سرف (2) :
أظنه بكسر الراء، قال البكري: هو بإسكان الثاني، ماء على ستة أميال من مكة، وهناك أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بميمونة، مرجعه من مكة حين قضى نسكه، وهناك ماتت ميمونة رضي الله عنها. لأنها اعتلت بمكة، فقالت: أخرجوني من مكة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني أني لا أموت بمكة، فحملوها حتى أتوا بها سرفاً إلى الشجرة التي بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم له تحتها في موضع القبة، فماتت هناك سنة ثمان وثلاثين، وهناك عند قبرها سقاية.
وبسرف كان منزل قيس بن ذريح الكناني الشاعر، ولذلك قال حين نقلت لبنى عنه:
الحمد لله قد أمست مجاورة ... أهل العقيق وأمسينا على سرف
حي يمانون والبطحاء منزلنا ... هذا لعمرك شكل غير مؤتلف
قد كنت آليت جهداً لا أفارقها ... أفٍ لأكثر ذاك القيل والحلف
حتى تكنفني الواشون فافتلتت ... لا تأمنن أبداً إفلات مكتنف وبسرف مات عدو الله تعالى أبي بن خلف بسبب طعنة النبي صلى الله عليه وسلم له بالحربة مرجعه من بدر في الخبر المشهور، ذكره ابن إسحاق مبسوطاً (3) .
سرت (4) :
مدينة في برقة، بينها وبين طرابلس مائتا ميل وثلاثون ميلاً وبينها وبين البحر ميلان، وعليها سور تراب، وفيها النخل، ولا زيتون بها، والتوت بها كثير وبعض شجر تين، غير أن العرب أتت على أكثرها وكانت فيها فواكه وأعناب ذهبت.
وهي (5) قديمة وأهلها أخس الناس خلقاً وأسوأهم معاملة، ولا يبتاعون إلا بسعر قد اتفقوا عليه، وربما نزل المركب بساحهم موسوقاً بزيت، وهم أحوج الناس إليه، فيعمدون إلى الزقاق الفارغة فينفخونها ويضعونها في حوانيتهم ليرى أهل المركب أن الزيت عندهم كثير بائر، فلو أقام أهل المركب ما شاء الله أن يقيموا ما باعوا منهم إلا على حكمهم، وهم يعرفون بعبيد قرلة ويغضبون لذلك.
سرتة (6) :
هي دار مملكة النوبة في أحد شطي النيل، وقيل اسمها ويلولة (7) من ناحية الصعيد، وهذا الشط أوسع مملكة من الآخر، وأهلها أصفى ألواناً وأحسن زياً وملوكهم يزعمون أنهم من حمير.
سرين (7) :
مدينة عظيمة في طريق مكة من اليمن بمقربة من يلملم، وفيها أسواق ومسجد جامع، وسورها في البحر، وأكثر بنائها بالخشب والحشيش إلا المسجد الجامع فإنه مبني من المدر، والحمامات فيها من الحشيش والخشب، ولا يستعمل فيها وقود بل يسخن الماء خارجاً منها ويغتسل به داخلها، وماؤهم من السماء، وهي من عمل مكة، وفيها مزارع وشبه حظائر للمواشي، وأكثر زروعهم الذرة والسمسم، والميرة تجلب إليها من عثر وحردة (9) وعثر منها على مسيرة عشرة أيام.
سرنديب (10) :
جزيرة بالهند في بحرهم المسمى هركند، وهي
__________
(1) نزهة المشتاق: 267؛ وما بين معقفين زيادة لازمة من الإدريسي.
(2) معجم ما استعجم 3: 735، وقد ذكر أنه بكسر ثانية، على غير ما قاله مؤلف الروض؛ ورحلة الناصري: 233.
(3) السيرة 2: 84.
(4) الإدريسي (د/ ب) : 122/ 90 (صرت) .
(5) الاستبصار: 109، والبكري: 6، وقارن بياقوت (سرت) .
(6) وردت في المروج 3: 32 سرية (أو سوية) وأقرب الصور إليها ((سوية)) عند اليعقوبي: 336، وخطط المقريزي 1: 193، وذكر الإدريسي (د) : 14 ((سوله)) ؛ ومن المعروف أن سوبه كانت عاصمة مملكة علوة النوبية.
(7) غير معجمة في ع؛ وفي ص: وبلوبه؛ وانظر ابن الوردي: 36.
(7) غير معجمة في ع؛ وفي ص: وبلوبه؛ وانظر ابن الوردي: 36.
(9) انظر الهمداني: 52.
(10) الإدريسي (ق) : 7 (OG: 72) ، وانظر ابن الوردي: 65، ونخبة الدهر: 160، وابن خرداذبه: 64.(1/312)
جزيرة كبيرة مشهورة الذكر، وهي ثمانون فرسخاً في ثمانين فرسخاً.
وبجزيرة سرنديب (1) هيكل عظيم من ذهب يفرطون في مبلغ زنته وقيمة الجوهر الذي عليه، وإليه يجتمع أهلها فيتدارسون سير آبائهم وقصص ملوكهم.
وبهذه الجزيرة نزل آدم عليه السلام حين أهبط من الجنة، نزل على جبل الرهون منها وهو جبل سامي الذروة عالي القمة ذاهب في الجو، يراه البحريون من مراكبهم عن مسيرة أيام، وهو الذي ذكر أن آدم عليه السلام أهبط عليه، وعلى هذا الجبل يتلألأ نور يشبه البرق الدائري، عليه دائماً وحوله أنواع الياقوت الأحمر والأصفر والأكحل، والأحمر أشرفها وأنفسها لأنه إذا ألقي في النار ازداد حمرة وحسناً، وإن كانت فيه نكتة شديدة الحمرة وجعلت في النار انبسطت في الحجر تلك الحمرة فحسنته ولونته، ومبارد الحديد لا تؤثر في جميع ألوان الياقوت، والأصفر أقل صبراً على النار من الأحمر، وأما الأكحل فلا صبر له، قالوا: ومن تقلد حجراً أو تختم به من هذه الأصناف الثلاثة من الياقوت وكان في بلد قد وقع فيه الطاعون منع أن يصيبه ما أصاب أهل ذلك البلد. ويذكر البراهمة، وهم عباد الهند، أن على هذا الجبل أثر قدم آدم عليه السلام مغموس في الحجر، وطوله سبعون ذراعاً، وأن على هذا الأثر نوراً يخطف شبيهاً بالبرق دائماً، وأن القدم الثانية منه جاءت في البحر عند خطوته، والبحر من الجبل على مسيرة يومين أو ثلاثة، وفي وادي هذا الجبل الماس الذي يحاول به نقش الفصوص من أنواع الحجارة، وعلى هذا الجبل أنواع من الطيب وضروب من صنوف العطر مثل العود والأفاويه ودابة المسك ودابة الزباد، وبه الأرز والنارجيل وقصب السكر، وفي أنهاره يوجد جيد البلور وكبيره. وبجميع سواحل هذه الجزيرة مغايص اللؤلؤ الجيد النفيس المثمن.
وفي جزيرة سرنديب قواعد كثيرة، وملك هذه الجزيرة يسكن أغنا، وهي مدينة القصر، وبها دار ملكه، وهو ملك عادل كثير السياسة ناظر في أمور رعيته حافظ لهم ذاب عنهم، وله ستة عشر وزيراً: أربعة من أهل ملته وأربعة نصارى وأربعة مسلمون وأربعة يهود، وقد رتب لهم موضعاً تجتمع فيه أهل الملل وتكتب حججهم وأخبارهم، ويجتمع إلى علماء كل ملة: الهندية والرومية والإسلامية واليهودية، جمل من الناس وعدة طوائف، فيكتبون عنهم سير أنبيائهم وقصص ملوكهم في سائر الأزمان ويعلمونهم ويفهمونهم ما لا يعلمونه، وللملك في بده صنم من ذهب لا يدرى لما عليه من الدر والياقوت وأنواع الأحجار أثمان، وليس يملك أحد من ملوك الهند ما يملكه صاحب سرنديب من الدر النفيس والياقوت الجليل وأنواع الأحجار لأن أكثر ذلك يوجد في جبال جزيرته وفي أوديتها وبحرها، وإليها تقصد مراكب أهل الصين وسائر بلاد الملوك المجاورين له.
وملك سرنديب تحمل إليه الخمر من العراق وفارس فيشتريها بماله وتباع له في بلاده، وهو يشرب ويحرم الزنا ولا يراه، وملوك الهند وأهلها يبيحون الزنا ويحرمون الشراب المسكر. ويجلب من سرنديب الحرير والياقوت بجميع ألوانه كلها والبلور والماس والسنباذج وأنواع من العطر كثيرة.
ولأهل (2) سرنديب نظر في زراعة النارجيل، ويقومون بحفظه ويبيحونه للصادر والوارد ابتغاء الأجر وطلب المثوبة، وأهل عمان وغيرها من بلاد اليمن ربما قصدوا إلى هذه الجزائر التي فيها النارجيل، فيقطعون من خشب النارجيل ما أحبوه ويصنعون من ليفه حبالاً يحرزون به ذلك الخشب وينشئون منه مراكب ويصنعون منه صواريها، ويفتلون من خوصه حبالاً، ثم يسقون تلك المراكب بخشب النارجيل ويمضون بها إلى بلادهم، فيبيعونه هناك ويتصرفون به.
قالوا: ولما نزل آدم عليه السلام، على جبل الرهون من هذه الجزيرة وعليه الورق الذي خصفه فيبس فذرته الرياح في بلاد الهند، فيقال، والله أعلم، أن علة كون الطيب بأرض الهند من ذلك الورق، وقيل غير ذلك، ولذلك خصت أرض الهند بالعود والقرنفل والأفاويه والمسك وسائر الطيب، وكذلك الجبل لمعت عليه اليواقيت.
قالوا: ولما أهبط آدم عليه السلام من الجنة أخرج معه منها صرة من الحنطة وثلاثين قضيباً من شجر الجنة مودعة أصناف الثمار،
__________
(1) البكري (مخ) : 33، ثم يلقتي مع الإدريسي ويستقل بأكثر المنقول عنه، وقارن بأخبار الزمان: 34، وابن الفقيه: 10، وياقوت (سرنديب) / وأخبار الصين: 4، وابن الوردي: 64.
(2) النقل مستمر عن الإدريسي (ق) : 12.(1/313)
وقيل أهبط آدم عليه السلام قبل غروب الشمس من اليوم الذي خلق فيه بالهند على جبل يقال له مود، وقبل سرنديب كما قدمناه وهو المشهور الذي لا يدفعه علماء الإسلام وأهل التوراة والإنجيل.
سرادق (1) :
بحر سرادق متصل بخليج القسطنطينية، ونزل الططر على سرادق في سنة سبع عشرة وستمائة، ودوخوا تلك البلاد الشمالية من وراء سيحون إلى هذا البحر، نحو نصف سنة، وفعلوا في كل إقليم من أقاليمها العجائب، ورجعوا إلى ملكهم جنكزخان وهو على حصار الطالقان.
سرمة (2) :
جزيرة تتصل ببلاد مشارق الشمس، عظيمة كثيرة الزرع والحبوب. وفيها أنواع من الطيور المأكولة التي ليست في بلاد الهند، وبها نارجيل كثير، ويتصل بهذه الجزيرة جزائر كثيرة صغار كلها معمورة وملكها يسمى قامرون، وبلادها كثيرة المطر والرياح، وفيها قوم يسمون القنجت (3) مفلفلو الشعور سود، يخرجون إلى المراكب بالعدد والأسلحة والسهام المسمومة، وقليلاً ما ينجو منهم من يمر بهم أو سقط في أيديهم، وفي أرنبة كل واحد منهم حلقة حديد أو نحاس أو ذهب.
السرير (4) :
هي مدينة تلي اللان بعد (5) سمندر مما يلي بلاد الخزر وأهل المدينة نصارى، وسميت بالسرير لأن ملكاً من ملوك الفرس اتخذ بها لنفسه سرير ذهب يقصر الوصف عنه صنع في سنين، فهلك وتغلبت الروم على ملكه فأبقوا السرير على حاله، وملوكهم يسمون به.
سردانية (6) :
جزيرة على طرف من البحر الشامي، وهي كبيرة النظر كثيرة الجبال قليلة المياه، طولها مائتان وثلاثون (7) ميلاً وعرضها من الغرب إلى الشرق مائة وثمانون ميلاً، وفيها ثلاث مدن الفيصنة (8) وهي مدينة عامرة، ومنها مدينة قالمرة، وهي رأس المجاز إلى جزيرة قرشقة، والثالثة تسمى قشتالة (9) .
وأهل سردانية في الأصل روم أفارقة متبربرة متوحشون من أجناس الروم، وهم أهل نجدة وحزم لا يفارقون السلاح. وفي سردانية معادن الفضة الجيدة ومنها تخرج إلى كثير من بلاد الروم، وبين سردانية وجزيرة قرشقة مجاز طوله عشرون ميلاً.
وقيل سميت سردانية باسم ساردوس (10) بن هرقل إذ قصدها بجمع عظيم وحاصرها وافتتحها، وهي كثيرة الزرع والضرع كثيرة الخير، وقيل طولها مائة وثلاثون ميلاً وعرضها مائة وعشرون ميلاً وحكي أن دورها يزيد على أزيد من خمسمائة ميل، ويقابلها من المشرق مدينة رومية، وبها أربع مدن.
وكان أبو الجيش مجاهد العامري الملقب بالموفق قد دخلها سنة تسع وأربعمائة وافتتح أكثرها وجدد إحدى مدنها فأصاب المسلمين فيها جوع ووباء، فخرج عنها بمن معه من المسلمين في سنة عشر وأربعمائة، فهدم الروم بعد ذلك مدينته فهي اليوم خرابة، وكان أبو الجيش هذا غزا سردانية قبل هذا فعصفت بشوانيه الريح وكسرتها على جزيرة تسمى مذ ذاك جزيرة الشهداء وقتل العدو من المسلمين خلقاً، ونالوا منهم نيلاً.
ورأيت في موضع آخر أن جزيرة سردانية كثيرة الأنهار والخيرات، ويذكر أن من فيها من النصارى من ناقلة بلاد البربر، وهم يطيلون الشعور كشعور النساء، ولهم خيل موصوفة، وسلاحهم المزاريق، وهم كشف لا تراس لهم، وبسردانية حمات شديدة الحر، وليس يكون فيها شيء من الهوام المؤذية ولا تنبت شيئاً من الأشجار المسمومة.
قال ابن عفير (11) : لما غزا المسلمون أهل سردانية وعلموا أنهم مغلوبون عليها عمدوا إلى مبنى لهم في البحر فسكروه وأخرجوا ماءه تم قذفوا فيه آنيتهم من الذهب والفضة وسائر أمتعتهم، ودفنوا ذلك في الرمل وردوا عليه الماء، وعمدوا لكنيسة لهم فجعلوا لها
__________
(1) ذكرها ابن بطوطة: 344 وقال إنها من مدن دشت قفجق على ساحل البحر، ومرساها من أعظم المراسي وأحسنها، وبخارجها البستاين والمياه، وأكثر بيوتها خشب؛ وهي ((سراي)) عند صادق أصفهاني: 103.
(2) نزهة المشتاق: 32، وفي (OG: 88) سبومة.
(3) ص ع: العجب.
(4) نزهة المشتاق: 272، وقارن بالكرخي: 130، وياقوت (السرير) ، وابن الفقيه: 291 وابن رسته: 147.
(5) ص ع: لها.
(6) نزهة المشتاق: 175، والإدريسي (م) : 15 - 16.
(7) نزهة المشتاق: وثمانون.
(8) ص ع: القيطنة.
(9) ص ع: قشتيلة.
(10) ع: سارودس.
(11) فتوح ابن عبد الحكم: 209.(1/314)
سقفاً دون سقف، ووضعوا ما كان لهم من المال بين السقفين، فنزل رجل من المسلمين يغتسل في ذلك الموضع الذي سكروه فوقعت رجله على شيء فأخرجه فإذا هو صحفة فضة، ثم غاص أيضاً فأخرج شيئاً آخر، فعلم بذلك المسلمون وحبسوا عنه الماء وأخرجوا جميع ما فيه، ونظر رجل من المسلمين في تلك الكنيسة ذات السمكين إلى حمام وكان عنده قوس بندق فرماه فأخطأه وأصاب خشب السمك فكسر منه شيئاً فانهار عليهم المال، فغل المسلمون يومئذ غلولاً كثيراً، فإن كان الرجل ليأخذ الهر فيذبحه ويرمي بما في جوفه ثم يحشوه مالاً ويخيط عليه ويرمي به في الطريق ليوهم من رآه أنه ميتة فإذا خرج أخذه، وكان الرجل ينزع نصل سيفه فيطرحه ويملأ الجفن غلولاً ويضع قائم سيفه في الجفن، فلما ركبوا السفن وتوجهوا سمعوا منادياً ينادي: اللهم غرق بهم، فعاذوا بالمصاحف وتقلدوها وغرقوا جميعاً إلا أبا عبد الرحمن الحبلي وحنش بن عبد الله فإنهما لم يكونا تدنسا من الغلول بشيء، وما ذكر بعض المؤرخين من أن الذين غرقوا هم الذين غلوا من غنائم الأندلس فإنما هم الذين غلوا من غنائم سردانية.
وفي (1) سنة سبع وثمانين (2) ، أغزى موسى بن نصير عبد الله ابنه إلى سردانية فافتتح وأصاب سبياً وغنائم، وفي سنة ثلاث ومائة أغزى بشر بن صفوان يزيد بن مسروق اليحصبي سردانية ففتح وسبى وسلم وفي سنة ست ومائة أغزى بشر بن صفوان محمد بن أبي بكير مولى بني جمح فأصاب كرسقة وسردانية، وفي سنة تسع ومائة أغزى بشر بن صفوان من إفريقية حسان بن محمد بن أبي بكير مولى بني جمح سردانية فغنم وسبى، وفي سنة تسع عشرة أغزى ابن الحبحاب قثم بن عوانة فأصاب قلعة سردانية (3) ، وغرق قثم في منصرفه ومراكب المسلمين وسلم بعضهم.
سرطانية:
هي بلاد البرجان قالوا: فيها جزيرة فيها عين ماء تجري، من شرب منه من الخلق وكان به وجع في عينيه أو غشاوة في بصره أو بياض أو أي ضرر كان فيهما ذهب عنه.
سرغ (4) :
مدينة بالشام، وهي بالراء المسكنة والغين المعجمة، وهي التي جاءها عمر رضي الله عنه في توجهه إلى الشام وبلغه أن الوباء قد وقع بالشام وأخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه، وإن وقع بأرض لستم بها فلا تقدموا عليه "، فرجع عمر رضي الله عنه من سرغ، والخبر مشهور.
وافتتح أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه سرغ واليرموك والجابية.
سرق (5) :
بلد من عمل البصرة كان وليه حارثة بن بدر الغداني وكان صاحب خمر فقال له أبو الأسود:
أحار بن بدر قد وليت إمارة ... فكن جرذاً فيها تخون وتسرق
ولا تحقرن يا حار شيئاً أصبته ... فحظك من ملك العراقين سرق وسرق يقال لها الدورق (6) ، وبينها وبين سوق الأهواز أربعة وعشرون فرسخاً في الماء على الظهر، ومن سرق إلى أرجان اثنان وثلاثون فرسخاً، وبينهما قنطرة طويلة على وادي الملح، وبينها وبين أرجان اثنا عشر فرسخاً.
وفتح أبو موسى (7) رضي الله عنه، سرق على مثال رامهرمز، ثم غدروا، فوجه إليهم حارثة بن بحر الغداني المذكور، في جيش كثيف فلم يفتحها، فلما قدم عبد الله بن عامر فتحها عنوة.
سروج (8) :
بلد من أرض الجزيرة وبمقربة من ملطية، وهي رستاق كثير القرى والكروم في بطن بين جبال.
قال البلاذري (9) : سروج ورأس كيفا وأرض البيضاء أتاها عياض بن غنم بعد صلح الرها سنة تسع عشرة.
__________
(1) في غزوات المسلمين إلى سردانية انظر المكتبة الصقلية في عدة مواضع.
(2) ص ع: سبع وثلاثين، وعند ابن الأثير أن ذلك كان بعد فتح الأندلس سنة 92.
(3) سقط من ع.
(4) معجم ما استعجم 2: 735، والطبري 1: 2511، وياقوت (سرغ) وقال: هو بين المغيثة وتبوك من منازل حاج الشام.
(5) معجم ما استعجم 2: 734، وياقوت (سرق) .
(6) الدورق عاصمة مقاطعة سرق.
(7) فتوح البلدان: 467.
(8) انظر ابن حوقل: 207، والكرخي: 55، وياقوت (سروج) .
(9) فتوح البلدان: 208.(1/315)
ومن سروج (1) إلى حصن كيفا ستة فراسخ، ثم إلى سميساط سبعة فراسخ، ثم إلى ملطية عشرة فراسخ، ثم إلى زبطرة خمسة فراسخ.
وسروج كثيرة الفواكه، وهي التي نسبها الحريري لأبي زيد تاج الغرباء، وفيها البساتين والمياه المطردة.
سرخس (2) :
مدينة بينها وبين نيسابور ستة مراحل، وهي بين نيسابور ومرو، وهي على نهر لا يدوم جريانه لأنهم إنما تأتيهم فضلته، وكذلك نهر هراة، وليس لسرخس طواحين ماء إنما طحنهم بالدواب، وتكون سرخس في مقدار نصف مرو.
ولما سار ابن عامر (3) إلى الطبسين يريد أبرشهر، وهي نيسابور، فتح ما حولها: طوس وبيورد، ونسا وحمران، وسرخس. ويقال: بعث إلى سرخس عبد الله بن خازم ففتحها وأصاب جاريتين من آل كسرى.
وهو بلد جليل، ومدينته عظيمة، وهو في برية في رمال فيها أخلاط من الناس، وهي طيبة الثرى (4) معتدلة الهواء لها رساتيق وقرى، ولأهل بواديها همة في انتخاب الجمال وتنسيلها، وشربهم من مياه الآبار، وأرحاؤها تديرها الدواب، وبناؤها بالطين واللبن، ومنها إلى هراة خمس مراحل.
وإلى سرخس هرب نصر بن سيار عامل مروان بن محمد لما استوسقت الأمور إلى أبي مسلم صاحب الدعوة فخاف على نفسه فهرب إلى سرخس.
ولما غلب ابن عامر على ما بين سرخس إلى نيسابور أرسل إليه أهل مرو يطلبون الصلح، فصالحهم على ألفي ألف ومائتي ألف، وقيل ستة آلاف ألف ومائتي ألف.
وفيها قتل المأمون وزيره الفضل بن سهل، دخل الحمام بسرخس فقتل غيلة، وأحضر المأمون قتلته فقتلهم. وذكر أن المأمون كان وقع للفضل بن سهل بخطه توقيعاً نسخته (5) : أغنيت يا فضل بن سهل بمعاونتك إياي على طاعة الله تعالى وإقامة سلطاني عن معاضدة غيرك فرأيت أن أغنيك، وسبقت الناس من الحاضر كان لي والغائب عني، فأحببت أن أسبق إلى الكتاب لك بخطي بما رأيته لك على نفسي، وأنا أسأل الله تعالى تمامه فإن حولي وقوتي ومقدرتي وقبضتي وبسطي به لا شريك له، وقد أقطعتك السيب من أرض العراق حيازة تميم مولى أمير المؤمنين عطاء لك ولعقبك لما أنت عليه من النزاهة عن أموال رعيتي ولما قمت به من حق الله تعالى وحقي، فلم تأخذك في ذلك لومة لائم، وقد جعلت لك بعد ذلك مرتبة من يقول في كل شيء فيسمع منه ولا تتقدمك مرتبة أحد ما لزمت ما أمرتك به من العمل لله ولدينه والقيام بصلاح دولة أنت ولي القيام بها، وجعلت كله لك بشهادة الله تعالى وجعلته لك كفيلاً على عهدي، وكتبت خطي في صفر سنة أربع (6) وتسعين ومائة.
سروس (7) :
هي أم قرى جبل نفوسة (8) ، وهي مدينة جليلة فيها آثار للأول، وأهلها اباضية، وليس فيها جامع ولا فيما حولها من القرى، وفي قطرها أزيد من ثلثمائة قرية لا يرون في مذهبهم الجمعة، وفي هذا الجبل أمم كثيرة على مذاهب شتى أكثرهم اباضية، ليس لهم أمير يرجعون إليه إنما لهم شيوخ وفقهاء على مذهبهم، ولهم رخص كثيرة في مذهبهم. وقال رجل من المغرب رأيت في بلادهم رجلاً أراد الطهر، فنزل على ماء ونزع ثيابه وجعل يشير كأنه يغتسل وكأنه يريق الماء على رأسه وعلى جسده فأخذه المغربي وحمله إلى الحاكم في البلد، فقال له الحاكم: من أين أنت؟ قال: من المغرب، فقال: والله لولا أنك غريب لأدبتك، ما يدريك لعل له عذراً، قال الله تعالى: " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " وهذا أفضل مذاهبهم، ففيهم من لا يرى الاغتسال بالماء جملة ويتمرغ في التراب ويتيمم مكان الوضوء، وزنا الحرم بجبال نفوسة مباح في مذهبهم، وللغني منهم وصائف يزينهن ويحليهن ويبرزهن (9) على الطريق للبغاء، ولهم ديار معدة للبغاء ولا ينكرونه.
__________
(1) انظر ابن خرداذبه: 97، وفيه بعض اختلاف.
(2) الكرخي، وابن حوقل: 371، وياقوت (سرخس) ، وقارن بابن رسته: 173، والمقدسي 312، 313، وآثار البلاد: 390.
(3) فتوح البلدان: 500 - 501، والطبري 1: 2887.
(4) نزهة المشتاق: 138.
(5) الجهشياري: 306.
(6) الجهشياري: سنة ست.
(7) هي ((شروس) في الاستبصار: 144، وعنه ينقل المؤلف وذلك متفق مع البكري: 9، وكذلك وردت بالشين في الإدريسي (د/ ب) : 105/ 76.
(8) جاء في الاستبصار أن ((جادوا)) هي أم قرى جبل نفوسة.
(9) ص ع: يزينهم ويحلبهم ويبرزهم.(1/316)
سرقسطة (1) :
في شرق الأندلس وهي المدينة البيضاء.
وهي قاعدة (2) من قواعد الأندلس، كبيرة القطر آهلة ممتدة الأطناب واسعة الشوارع، حسنة الديار والمساكن متصلة الجنات والبساتين، ولها سور حجارة حصين، وهي على ضفة نهر كبير يأتي بعضه من بلاد الروم من جبال قلعة أيوب ومن غير ذلك، فتجتمع هذه الأنهار كلها فوق مدينة تطيلة، ثم تنصب إلى مدينة سرقسطة ومدينة سرقسطة هي المدينة (3) البيضاء، لكثرة جصها وجيارها، ومن خواصها أنها لا تدخلها حية البتة وإن جلبت إليها ماتت وحياً.
فمن الناس (4) من يزعم أن فيها طلسماً لذلك، ومنهم من يقول بنيانها من الرخام الرخو الذي هو صنف من الملح الدراني، ومن خاصيته ألا تدخل الحناش موضعاً يكون فيه، ولها أقاليم عدة (5) .
وبسرقسطة (6) جسر عظيم يجاز عليه إلى المدينة، ولها أسوار منيعة ومبان رفيعة.
واسمها مشتق من اسم قيصر (7) ، وهو الذي بناها، وذكر أنها بنيت على مثال الصليب، وجعل لها أربعة أبواب: باب إذا طلعت الشمس أقصى المطالع في القيظ قابلته عند بزوغها، فإذا غربت قابلت الباب الذي بإزائه من الجانب الغربي، وباب إذا طلعت الشمس من أدنى مطالعها في الشتاء قابلته عند بزوغها وهو الباب القبلي، وإذا غربت قابلت الذي بإزائه من الجانب الغربي. وهذه المدينة على خمسة أنهار.
وسرقسطة واسعة الخطة لا يعرف بالأندلس مدينة تشبهها، وقيل: تعرف بالبيضاء لأن أسوارها القديمة من حجر الرخام الأبيض، وكان الذي بنى (8) المسجد الجامع بسرقسطة ووضع محرابه حنش بن عبد الله الصنعاني، فلما زيد فيه هدم الحائط القبلي، غير المحراب، فإنه احتفره من جوانبه حتى انتهى إلى قواعده، فأعملت الحيلة في حمله على الخشب وجره (9) إلى الموضع الذي هو فيه اليوم، فتصدع وبني حواليه البناء الذي هو باق إلى الآن، وتوفي حنش هذا وعلي بن رباح اللخمي، وهما من جلة التابعين، بمدينة سرقسطة وقبراهما بها معروفان بمقبرة باب القبلة، وكان بعض من مضى من الملوك أراد أن يتخذ عليها مشهداً ويبني فوقها مصنعاً، فلما اعتزم على ذلك أتته امرأة معروفة بالصلاح والأمانة موسومة بالعدالة وأخبرته أنها رأتهما فيما يرى النائم، وأخبراها أنهما يكرهان أن يبنى على قبريهما شيء، فرجع عن ذلك الأمر الذي هم به.
ومدينة سرقسطة أطيب البلدان بقعة وأكثرها ثمرة لكثرة الفواكه في بساتينهم حتى لا يقوم ثمنها. بمؤونة نقلها لرخصها فيتخذونها سرجيناً يدمنون به أرضهم، وربما بيع فيها وسق القارب من التفاح بما تباع به الأرطال اليسيرة في غيرها، ومما خصت به سرقسطة معدن الملح الدراني الذي لا يوجد مثله في مكان ولا يعدل به.
وأخذ النصارى سرقسطة من أيدي المسلمين سنة اثنتين وخمسمائة بعد أن حاصروها تسعة أشهر، صلحاً، خرج إليها الإفرنج في خمسين ألف راكب، وابن ردمير في جملة أخرى، أعادها الله للإسلام بفضله.
ومن سرقسطة قاسم بن ثابت صاحب " الدلائل " بلغ فيه الغاية من الإتقان ومات قبل أن يكمله، فأكمله أبوه ثابت بعده. وكان قاسم ورعاً فاضلاً أريد علي أن يلي قضاء سرقسطة، فأبى من ذلك، فأراد أبوه إكراهه على ذلك، فسأله أن يتركه ثلاثة أيام حتى ينظر في أمره ويستخير الله تعالى، فمات في هذه الثلاثة الأيام، فيروى أنه دعا لنفسه بالموت، وكان يقال إنه مجاب الدعوة، توفي بسرقسطة سنة اثنتين وثلثمائة.
سرقوسة (10) :
هي مدينة بينها وبين جزيرة صقلية مجاز لطيف،
__________
(1) بروفنسال: 96، والترجمة: 118 (Saragosse) ، وقارن بالعذري: 22، والزهري: 226.
(2) متابع للإدريسي (د) : 190.
(3) زيادة من الإدريسي.
(4) مشبه لما عند العذري: 23.
(5) انظر في أسماء أقاليمها كتاب العذري.
(6) عاد إلى النقل عن الإدريسي.
(7) قال العذري: تفسير سرقسطة باللسان اللطيني (جاجر أغشت)) (Caesarea Augusta) وهذا النص مشابه لما عند العذري: 21، 22.
(8) مشابه للعذري: 23، 22.
(9) ع: وجربه.
(10) الإدريسي (م) : 29.(1/317)
وهي كبيرة عليها ثلاثة أسوار، وهي من مشاهير المدن وأعيان البلاد، يقصدها كل حاضر وباد من جميع الأقطار، والبحر محدق بها من جميع جهاتها، والدخول إليها والخروج منها على باب واحد شمالها، ولها مرسيان وليس مثلهما في جميع البلدان، أحدهما أكبر من الآخر، وبها فوارة اليهودي (1) تنبع من جرف على حاشية البحر، وهي عجيبة الأمر، وبها ما بأكثر المدن من الأسواق ذوات السماطات والخانات والديار والحمامات والمباني الرائعة والأفنية الواسعة، ولها إقليم كبير وضياع ومنازل خصيبة زكية المزارع، توسق فيها السفن بالطعام.
وفي سرقوسة مات أسد بن الفرات الفقيه، كان وجهه زيادة الله الأغلبي أمير القيروان، غازياً إلى صقلية، فسار إليها مقلعاً من سوسة، ودخلها في عشرة آلاف فارس وكان أميراً قاضياً، فقاتل أهلها وفتح فيها بلاداً، وتوفي بها.
وافتتحت سرقوسة (2) ، سنة أربع وستين ومائتين، وكان جعفر بن محمد التميمي أخرج أبا العباس أحمد بن عبد الله بن يعقوب بالصائفة، فهزم أهل سرقوسة وقتل منهم مقتلة عظيمة، وحاصرها براً وبحراً، وفتحها بعد تسعة أشهر من نزوله عليها في شهر رمضان من العام المؤرخ، وأصاب فيها من المغانم ما لم يكن يصاب مثله في مدينة من مدن الشرك ولم يستحي من علوجها أحداً ولا أفلت منهم نافخ ضرمة.
وسرقوسة مدينة كبيرة عليها ثلاثة أسوار، ولها مرسى يعرف بالمينا الصغيرة وبينه وبين مرسى المينا الكبيرة حفير، وعلى الحفير قنطرة إلى المدينة، والمينا الكبيرة مرسى مشتى للسفن، والفوارة على المرسى وعليها مسجد.
سطيف (3) :
مدينة أو حصن، بينها وبين ميلة مرحلة، وهي قديمة أزلية كثيرة الخلق كالمدينة، كثيرة المياه والشجر المثمر بضروب الفواكه، ومنها يحمل الجوز المتناهي طيباً إلى الأقطار، وكان عليها سور صخر عظيم قديم خربته كتامة مع أبي عبد الله الشيعي، وهي رخيصة الأسعار كثيرة الفواكه والثمار، غزيرة المياه والأنهار والبساتين والأشجار.
سطفسيف (4) :
نهر تلمسان ينبعث من أسفل جبل البغل هناك ويصب في بركة عظيمة من عمل الأول، ويسمع لوقوعه فيها خرير شديد على مسافة، ثم ينشق منه بحكمة مدبرة إلى موضع يسمى المهراز (5) ، ثم ينصب في أنهار كثيرة، وبعد ذلك ينحدر إلى البحر.
سطح العيران:
موضع على قسنطينة فيه تنزل المحلات.
سطفورة (6) :
اسم إقليم جليل فيه قرى وقواعد، وهو على بنزرت، كان يقال له سطفورة، ومدنه: بنزرت وتينجة وغيرهما.
سلقطة (7) :
مدينة بينها وبين المهدية ثمانية أميال، ويقال إن الكاهنة حصرها عدو في قصر الأجم، فحفرت سرباً في صخرة صماء منه إلى مدينة سلقطة يمشي فيه العدد الكثير، وبينهما ثمانية عشر ميلاً، ويقال إن الكاهنة كانت في سلقطة، فكان الطعام يجلب إليها في ذلك السرب على ظهور الدواب.
سلمى (8) :
أحد جبلي طيء.
سلمان (9) :
ماء لبني شيبان، على طريق مكة إلى العراق، فيه مات نوفل بن عبد مناف.
سلع (10) :
جبل متصل بالمدينة، وفي حديث الاستسقاء: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، قال أنس رضي الله عنه: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت انتشرت ثم أمطرت، وقال الشاعر (11) :
إن بالشعب الذي دون سلع ... لقتيلاً دمه ما يطل
__________
(1) الإدريسي: النبودي.
(2) ص ع: صقلية.
(3) الاستبصار: 166، والبكري: 76، والإدريسي (د/ ب) : 98/ 70.
(4) الاستبصار: 176 - 177، والبكري.
(5) البكري والاستبصار: المهماز.
(6) الإدريسي (د/ ب) : 114/ 83.
(7) البكري: 31.
(8) معجم ما استعجم 3: 750، وقارن بياقوت (سلمى) .
(9) ص ع: سلامان والتصويب عن معجم البكري: 750، وقارن بياقوت (سلمان) .
(10) معجم ما استعجم 3: 747.
(11) ينسب إلى ابن أخت تأبط شرا في رثاء خاله، والقصيدة حماسية.(1/318)
سلا:
ببلاد المغرب، بينها وبين مراكش على ساحل البحر تسع مراحل، وهي مدينة (1) قديمة أزلية، فيها آثار للأول معروفة بضفة الوادي، متصلة بالعمارة التي أحدثها هناك أحد ملوك بني عبد المؤمن، وكان قد اتخذ أرباب البلد مدينة بالعدوة الشرقية، وهي المعروفة الآن بسلا الحديثة، وهي على ضفة البحر، وسلا القديمة (2) خراب الآن. وأما سلا الحديثة فهي منيعة من جهة البحر. لا يقدر أحد من أهل المراكب على الوصول إليها من جهته، وهي حسنة في أرض رمل، ولها أسواق نافقة وتجارات ودخل وخرج، ولأهلها سعة أموال، والطعام بها كثير رخيص جداً، وبها كروم وغلات وبساتين، ومراكب أهل اشبيلية وسائر المدن الساحلية من الأندلس يقلعون عنها ويحطون بها بضروب من البضائع، ويقصدها أهل اشبيلية بالزيت الكثير، ويتجهز منها بالطعام إلى سائر بلاد الأندلس الساحلية، ومرساها مكشوف، إنما ترسي المراكب الواردة عليها في الوادي وتجوزه بدليل لأن في فم الوادي حجارة وتروشاً تنكسر عليها المراكب، فلا يدخلها إلا من يعرفها، وهذا الوادي يدخله المد والجزر مرتين في كل يوم، فإذا كان المد دخلت المراكب به إلى داخل الوادي وكذلك تخرج في وقت خروجها، وفي هذا الوادي أنواع من السمك وضروب من الحيتان، ولا يباع بها ولا يشترى لكثرته وجودته، وكل شيء من المأكولات في مدينة سلا بأيسر القيمة. وكان يوسف بن عبد المؤمن أمر ببناء مدينة كبيرة متصلة بالقصبة التي كان أحدثها بها أمير المؤمنين وفيها جامع وقصور وصهاريج الماء، أمام الجامع وهو مجلوب من نحو عشرين ميلاً، وفي هذه المدينة المحدثة قيسارية عظيمة وحمام وفنادق وديار كثيرة ومياه مطردة وسقايات ومنافع أعدت لورود المحلات عليها، إذ وضعها على المجاز والمعبر إلى مراكش، وعلى هذا المعبر قنطرة مركبة على ثلاث وعشرين معدية، مدت عليها أوصال الخشب وصلبت عليها الألواح والفرش الوثيق الذي لا يؤثر فيه الحافر، تجوز عليه العساكر والمسافرون، ويتصيد حوله أنواع السمك الشابل وغيره، ويمد البحر فترتفع القنطرة ويغطي الجسر فتقوم عليه المراكب وترسي دونه الأجفان الكبار، وقلما تسلم عند دخولها أو خروجها لصعوبة المدخل، وهو مشهور عند أهل البحر، ويقابله من مراسي بلاد الأندلس وادي شلب، وبينهما في البحر يوم وليلة. وهذه البلدة وقت مرور المحلات عليها متفرج عظيم، ولا سيما في الأعوام الخصبة والفصول المعتدلة، وناهيك من ساحل طوله ميلان وعرضه نحو ميل، والزوارق هناك بركابها والمنارة مطلة عليها. وعلقات الثمار وعقد الزيتون وقباب الجلوس للسادة هناك فهي إحدى متنزهات الدنيا.
ومن صور رسالة كتب بها أبو العباس بن أمية وهو بسبتة إلى الفقيه أبي المطرف بن عميرة وكان إذ ذاك بسلا:
حلوا سلا فسلي فؤادي هل سلا ... النفس أنزع والصبابة أطوع
بعدوا فهل لهم اضطلاع بالذي ... حملته من كلف الغرام الأضلع
شطر أول ... شطر ثاني
شطر أول ... شطر ثاني وقال الفقيه أبو المطرف في فصل جواب هذه الرسالة:
قد كان صفو العيش يدنو لو دنا ... ثاو بسبتة من مقيم في سلا
من بعدهم لم أرض ظلاً سجسجاً ... كلا ولا استعذبت ماء سلسلا ولا أدري هل سلا هذه هي التي ذكر أنها على ضفة النيل وشماله ببلاد السودان أو هي غيرها، فقالوا (3) : سلى التي بضفة النيل مدينة حاضرة، بها مجتمع السودان، ومتاجرها صالحة وأهلها أهل بأس وعدة، وهي من عمالة التكروري، وهو سلطان له عبيد وأجناد، وله حزم وجلادة وعدل مشهور وبلاد آمنة، وموضع مستقره مدينة تكرور، وهي في جنوبي النيل، وبينها وبين سلى مقدار يومين في البحر وفي البر.
سلاهط (2) :
جزيرة من جزر الهند بها صندل كثير وسنبل وقرنفل، وصفة شجر القرنفل يشبه نبات شجر الحناء ونباته في دقة أغصانه وحمرته، وله زهر يتفتح في كمام شبه شجر النارجيل سواء، فإذا سقط الزهر جففوا تلك الكمام إلى أن تصلح فيخرجونه ويبيعونه للتجار الواردين عليهم فيتجهزون به إلى أقطار الأرض، وفي آخر هذه الجزيرة بركان نار يتقد مقدار ارتفاعه مائة ذراع
__________
(1) الاستبصار: 140، والإدريسي (د/ ب) 72/ 47.
(2) هي التي تسمى شالة أو شلة.
(3) الإدريسي (د/ ب) : 3/ 4 (OG: 18) وقارن بالبكري: 172: 172، والاستبصار: 217.
(2) هي التي تسمى شالة أو شلة.(1/319)
فهو بالنهار دخان وبالليل نار تتقد.
سلوق (1) :
مدينة عظيمة جليلة كثيرة العمران عجيبة البنيان، كانت في ساحل أنطاكية.
وسلوق (2) أيضاً قرية باليمن تنسب إليها الدروع والكلاب، قال النابغة:
تقد السلوقي المضاعف نسجه ... وتوقد بالصفاح نار الحباحب ولبعضهم:
الناس طراً كلاب ... حفوا بكل طريق
فمنهم قلطي ... ومنهم كلب سوق
فإن ظفرت بحر ... منهم فذاك سلوقي
سلمية (3) :
بفتح أوله وكسر الميم وتخفيف الياء، قرية من بلاد اليمامة حسنة عامرة قد أحدقت بها حدائق النخيل، لها تمور حسنة الألوان شهية المأكل.
وسلمية (4) أيضاً بلد من أعمال قنسرين بثغور الشام على طرف البادية، وهو حصن كالمدينة صغير عامر آهل، بينه وبين حمص مرحلة.
سليمانان (5) :
من كور خوزستان، على ضفة نهر الدجلة، حسنة المطلع بهية النواحي مفيدة الزراعات والغلات، بها حوت كثير ولحوم وأرزاق.
سلحين (6) :
هو قصر سبأ بمأرب، وفيه أنشدوا:
وبعد سلحين يبني الناس أبياتا ...
سلى (7) :
بكسر أوله وتشديد ثانيه، موضع بناحية الأهواز، كانت فيه وقيعة عظيمة بين الخوارج الأزارقة وبين المهلب بن أبي صفرة، قتل فيها عبيد الله بن الماحوز رئيس الخوارج وأخوه، وولي بعده أمرهم قطري بن الفجاءة، فإن الخوارج لما أوقعوا بأهل البصرة الوقيعة المشهورة بدولاب هال ذلك أهل البصرة وراعهم، ثم بلغهم أن الخوارج متوجهون نحو البصرة ففزعوا إلى الأحنف بن قيس، فأجمع رأي الناس على أنه ليس للخوارج إلا المهلب، فكلموا المهلب على ذلك فقال: لا أفعل، هذا عهد أمير المؤمنين، يعني عبد الله بن الزبير معي على خراسان، فلم أكن لأدع عهده وأمره، فاحتالوا عليه بأن افتعلوا كتاباً على لسان ابن الزبير يقتضي تحريضه على النهوض إلى الخوارج لما فيه من الخير العاجل والآجل: فإنه لن يفوتك من سلطاننا خراسان ولا غير خراسان، فقبل المهلب منهم على شروط شرطها أجابوه إليها، فانتخب الناس فبلغت نخبته اثني عشر ألفاً وعقد الجسر وعبر إلى الخوارج فتنحوا عنه إلى الأهواز، ودس الجواسيس إلى عسكر الخوارج فإذا حشوة ما بين قصاب وصباغ ودابغ، فخطب الناس وذكر من هناك، ثم قال للناس: أمثل هؤلاء يغلبونكم على فيئكم؟! وما زال حتى تتام إليه زهاء عشرين ألفاً، ثم مضى يؤم سوق الأهواز حتى انتهى إلى منزل من منازل الأهواز يقال له سلى وسلبرى، فنزل به المهلب وخندق عليه ووضع المسالح وأذكى العيون وأقام الأحراس، فلم يزل الجند على مصافهم والناس على راياتهم وأبواب الخنادق عليها رجال موكلون بها، فكانت الخوارج إذا أرادوا بيات المهلب وجدوا أمراً محكماً فرجعوا، فلم يقاتلهم إنسان قط أشد عليهم ولا أغيظ لقلوبهم منه، فبعث الخوارج عبيدة بن هلال والزبير بن الماحوز في جيش عظيم ليلاً إلى عسكر المهلب، فجاء الزبير من جانبه الأيمن وجاء عبيدة من جانبه الأيسر، فكبروا وصاحوا بالناس فوجدوهم على تعبئتهم ومصافهم حذرين فلم يصيبوا للقوم غرة ولم يظفروا منهم بشيء، فلما أصبحوا أخرجهم المهلب على تعبئتهم: الأزد وتميم ميمنة الناس، وبكر بن وائل وعبد القيس ميسرة الناس، وأهل العافية في القلب وسط الناس، وخرجت الخوارج على تعبئة أيضاً وهم أحسن عدة
__________
(1) البكري (مخ) : 52 (سلوقة) ، وعن أبي حاتم أنها ((سليقة)) (معجم ما استعجم 3: 751) وانظر نزهة المشتاق: 196.
(2) معجم ما استعجم 3: 751 - 752.
(3) لم يذكر البكري وياقوت، ولكن ذكرها الإدريسي (نزهة المشتاق: 56) OG: 160، وعنه ينقل المؤلف.
(4) قارن باليعقوبي 324، وياقوت (سلمية) ، والكرخي: 46، والنقل عن نزهة المشتاق: 196.
(5) انظر المقدسي: 118، ونزهة المشتاق: 123.
(6) انظر معجم ما اشتعجم 3: 746، وراجع مادة (بينون)) وياقوت (سلحين) .
(7) معجم ما استعجم 3: 748، وياقوت (سلى) ؛ وأكثر المادة وردت في ((دولاب)) فيما تقدم.(1/320)
وأكرم خيولاً وأكثر سلاحاً من أهل البصرة لأنهم فجروا الأرض وأكلوا ما بين الأهواز إلى كرمان، فاقتتلوا أشد القتال، وصبر بعضهم لبعض عامة النهار، ثم إن الخوارج شدت على الناس بأجمعها شدة منكرة فأجفل الناس وانصاعوا منهزمين لا تلوي أم على ولد حتى بلغت البصرة هزيمة الناس، ونادى مناد أن قد قتل المهلب، ونعي بالبصرة، فنسي الناس رجالهم، وقام أهل كل دار يبكون المهلب لا يسألون عن أحد غيره، وضرب المهلب يومئذ على جبهته ولم يبق يومئذ أحد من ولده إلا جرح، وأسرع المهلب حتى سبقهم إلى مكان يفاع في جانب عن سنن المنهزمين ثم إنه نادى الناس: إلي عباد الله، فثاب إليه جماعة من قومه من أهل عمان، فاجتمع إليه منهم نحو من ثلاثة آلاف رجل، فلما نظر إلى من قد اجتمع رضي جماعتهم، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن الله تعالى ربما يكل الجمع الكثير إلى أنفسهم فيهزمون وينزل النصر على الجمع القليل فيظفرون، ولعمري ما بكم من قلة، إني بجماعتكم لراض، وإنكم لأنتم أهل الصبر وفرسان المصر، وما أحب أن أحداً ممن انهزم معكم، لو كانوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً، عزمت على كل امرئ منكم لما أخذ عشرة أحجار معه أو ما استطاع، ثم امشوا بنا نحو عسكرهم فإنهم الآن من ذلك آمنون، وقد خرجت خيلهم في طلب إخوانكم، فوالله إني لأرجو ألا ترجع إليهم وخيلهم، حتى تستبيحوا عسكرهم وتقتلوا أميرهم، ففعلوا ثم أقبل بهم زحفاً، فلا والله ما شعرت الخوارج إلا والمهلب يضاربهم بالمسلمين في جانب عسكرهم، ثم استقبلوا عبيد الله بن الماحوز وأصحابه وعليهم الدروع والسلاح كاملاً، فأخذ الرجل من أصحاب المهلب يستقبل الرجل منهم فيستعرض وجهه بالحجارة فيرميه حتى يثخنه ثم يطعنه بعد ذلك برمحه أو يضربه بسيفه، فلم يقاتلهم إلا ساعة حتى قتل عبيد الله بن الماحوز وأخوه عثمان بن الماحوز، وضرب الله وجوه أصحابه فأخذ القوم عسكر القوم وما فيه، وقتل الأزارقة قتلاً ذريعاً، وأقبل من كان من الأزارقة في طلب المنهزمين من أهل البصرة راجعين وقد وضع لهم المهلب خيلاً ورجالاً في الطريق تختطفهم وتقتلهم، فانكفأوا راجعين مفلولين محروبين مغلوبين، فلما أصبح المهلب غدا على القتلى فأصابوا ابن الماحوز قتيلاً، وفي ذلك يقول شاعرهم: مفلولين محروبين مغلوبين، فلما أصبح المهلب غدا على القتلى فأصابوا ابن الماحوز قتيلاً، وفي ذلك يقول شاعرهم:
بسلى وسلبرى مصارع فتية ... كرام وعقرى من كميت ومن ورد وقال أيضاً عبيدة بن هلال منهم:
لعمري لقد بعنا الحياة وعيشها ... برضوان رب بالخلائق عالم
غداة نكر الخيل تدمى نحورها ... بدولاب يوم المأزق المتلاحم
فإن تك قتلى يوم سلى تتابعت ... فكم غادرت أسيافنا من قماقم
صريع ومن جيش الجناة، وأصبحت ... بواكيهم يعولن بين المآتم وقال رجل من موالي المهلب: لقد صرعت يومئذ بحجر واحد ثلاثة: رميت رجلاً فأصبت به أصل أذنه فصرعته، ثم أخذت الحجر فضربت به آخر على هامته فصرعته، ثم ضربت به آخر ثالثاً. وقال رجل من أصحاب المهلب:
ويوم سلى وسلبرى أحاط بهم ... منا صواعق لا تبقي ولا تذر
حتى تركنا عبيد الله منجدلاً ... كما تجدل جذع مال منقعر وانصرفت الخوارج حين انصرفت وإن أصحاب النيران الخمس أو الست ليجتمعون على النار الواحدة من الفلول وقلة العدد، حتى جاءتهم مادة من قبل البحرين، فخرجوا نحو كرمان وأصبهان. وقال المهلب لفارسين من أصحابه: أمعنا في الأرض فمن لقيتما من الناس فاعلماه حياتي وامضيا إلى البصرة فأخبرا أهلها بالظفر، والخبر أطول من هذا وفيما أوردناه كفاية.
سلماس (1) :
بلد في داخل المشرق، ذكرها السلفي في الأربعين البلدانية.
سمنان (2) :
بين الري ونيسابور من عمل قومس التي بناها أنوشروان، وهي مدينة حسنة متوسطة بها أسواق وصناعات، ومن سمنان إلى الدامغان مرحلتان إلى جهة نيسابور.
__________
(1) قال ياقوت (سلماس) : مدينة مشهورة بأذربيجان بينها وبين أرمية يومان، وبينها وبين تبريز ثلاثة أيام، وقد خرب الآن معظمها؛ وانظر آثار البلاد: 391.
(2) قارن بياقوت (سمنان) ، والمقدسي: 356، وابن رسته: 169.(1/321)
السماوة (1) :
مفازة ببن الكوفة والشام، وقيل بين الموصل والشام، وهي من أرض كلب، وكانت باسم ابن عمليق بن لاوذ بن إرم من العماليق صارت إلى أرض السماوة وهي بين العراق والشام، فأهلكها الله تعالى بالريح السوداء لإفسادها فلم يبق به منهم باقية.
سمقندة (2) :
في بلاد السودان بينها وبين كوغة في جهة المغرب عشرة أيام.
سمرقند (3) :
مدينة من خراسان، ويقال: إن شمر بن إفريقش (4) غزا أرض الصغد حتى وصل إلى سمرقند فهدمها ثم ابتناها، ويقال إنها بنيت أيام الإسكندر وتولى ذلك شمر فقيل شمرقند، وعربت فقيل سمرقند، وإلى ذلك أشار دعبل في قوله من قصيدته التي افتخر فيها على الكميت:
وهم كتبوا الكتاب بباب مرو ... وباب الصين كانوا الكاتبينا
وهم وسموا بشمر سمرقنداً ... وهم غرسوا هناك الثبتينا وهي مدينة حسنة (5) كبيرة على جنوب وادي الصغد، وقصبة الصغد سمرقند، ولها شوارع ومبان وقصور سامية وفنادق وحمامات، وعليها سور تراب متسع (6) يطيف به خندق، وهي كثيرة الخصب والنعم والفواكه، ولها أربعة أبواب، ويدخل المدينة ماء يجلب إليها، يدخل على باب كبير ويعم أكثر قصورها، ولهذا النهر حفظة وحراس لئلا يصل إليه شيء من الفساد، ولها قهندز حصين، والمسجد الجامع بأسفل المدينة وبينهما عرض المحجة، وفي المدينة ديار شامخة وقصور عظيمة، وقلما يكون فيها قصر ولا دار كبيرة إلا وفيها بستان ومياه متدفقة، وكانت الولاة قبل هذا بسمرقند إلى أن تحولت إلى بخارى، وأكثر سمرقند اليوم خراب لعود الرياسة إلى بخارى. وابتدأ بنيان سمرقند تبع الأكبر وأتم ذلك ذو القرنين.
وهي في الإقليم الخامس، وكان طولها في قديم الدهر اثني عشر فرسخاً، وقد تهدم وخرب منها كثير، والعمران منها اليوم أربعة فراسخ، ويضم سورها اثني عشر ألف بستان، ومسجد جامعها أسفل القهندز وبينهما عرض الطريق، وهو منها في ناحية المشرق، وإذا كان يوم الجمعة غدا أهل الناحية الغربية إليه ثم ينصرفون بعد الصلاة فلا يصلون إلى محالهم إلا بعد صلاة العصر.
ويشتمل (7) على سمرقند سور له أربعة أبواب: باب من ناحية المشرق يقال له باب الصين مرتفع عن الأرض ينزل منه في عدد درج مطل على وادي الصغد، وبابها مما يلي المغرب يسمى النوبهار وهو على شرف من الأرض أيضاً، ومما يلي الشمال باب بخارى، ومما يلي الجنوب باب كش، وهي كثيرة الحمامات والخانات، وفي المدينة مياه ظاهرة وبساتين، ودار الإمارة بالمدينة، والربض ممتد من وراء نهر الصغد بموضع يعرف بأفشينة، وقطر السور المحيط بالربض نحو فرسخين في فرسخين، وليس على هذا السور غلق، ومجتمع الأسواق رأس الطاق، ثم يتصل بصغار الأسواق وشوارع السكك، فليس من سكة ولا دار إلا وفيها ماء جار، وقل دار تخلو من بستان. والبلد كله، طرقه وسككه، مفروش بالحجارة.
وذكر من يرجع إلى خبرة، أن سمرقند تشتمل على أزيد من ألفي مكان يستقى منه ماء الجمد مسبلة للأجر من بين سقاية مبنية وحباب نحاس منصوبة وقلال خزف في الحيطان مثبتة.
وفي الشمال من سمرقند جبل كبير يخرج من تحته عين خرارة قد صنع لها في أصل الجبل طيقان وجلب عليها الماء في قنوات رصاص حتى يصب في سمرقند بمجرى اسمه بارمس (8) يصب في البحيرة التي في أصل بنكث من سمرقند على نحو ثلاثين فرسخاً، ويخرج في شرقي سمرقند فيصير إلى ماء الصغد وهو موضع درغش (9)
__________
(1) معجم ما استعجم 3: 754، وانظر ياقوت (السماوة) .
(2) ع: سمعيدة؛ ص: سمعدة؛ والتصويب عن الإدريسي (د) : 10 (OG: 27) .
(3) قارن بياقوت (سمرقند) ، وابن الوردي: 31.
(4) ص ع: فلان.
(5) نزهة المشتاق: 214.
(6) نزهة المشتاق: منيع.
(7) ابن حوقل: 406، وقارن بالكرخي: 177، والمقدسي: 278.
(8) ص ع: نامس؛ وهو بارمش عند ابن حوقل والكرخي، وبالسين المهملة عند الإدريسي.
(9) لم أوفق لضبط هذا الأسم؛ وأصله في ص ع: درجش، في هذا الموضع فقط، ولعله: درغم.(1/322)
ومن مدينة سمرقند على أربعة فراسخ يخرج خليج من هذا الوادي يسمى العريش يسقي الرساتيق.
ولم يكن لمدينة سمرقند حائط غير سور المدينة، فلما وردها أبو مسلم صاحب الدعوة، بنى حائطاً يحيط بها، وعرض سور المدينة خمسون ذراعاً وارتفاعه من قبل الخندق مائة ذراع، وارتفاع حائط أبي مسلم خمس عشرة ذراعاً، وعرضه سبعة أذرع واستدارته سبعون ألف ذراع وعليه ثلثمائة برج، والغالب على هوائها اليبس، وأهلها يستعملون دسم الطعام كثيراً، ويشتكون بالبواسير ليبسها، وعامة تجارها مراوزة، وعربها من محارب وشيبان والأزد وباهلة وطيء، ويقال: إن فقراء أهلها الذين يعطون الزكاة سبعة عشر ألفاً، وفقراء ربضها وسوادها خمسون ألفاً، وفي باب سمرقند مكتوب: بين هذه المدينة وصنعاء ألف فرسخ.
وسمرقند من عمل الصغد وهو كله من خراسان، وحد عمل الصغد غرباً ما بين كرمينية والدبوسية وشمالاً وادي الشاش ومنبرها الأجل سمرقند ثم كش ثم نسف ثم الكشانية ثم اوفر (1) ثم الدبوسية ثم درغش.
وذكروا أن الططر (2) نزلوا على سمرقند انقضاء سنة ست عشرة وستمائة وفي سنة سبع عشرة، وبها من جند خوارزم شاه خمسون ألف فارس، فاغتر بهم أهل المدينة وسبقوهم بالخروج إلى الططر، وأخذ الجند في الاحتياط لما عرفوه من أمور الططر، فتورط البلديون، وقتل منهم في وقعة واحدة سبعون ألفاً، وطلب الجند الأمان، فقال لهم الططر: أعطونا سلاحكم وخيلكم واخرجوا في أمان الله، فلما أخذوا سلاحهم وخيلهم قال شيخ مجرب منهم: أهكذا نقتل كما يقتل كذا؟ أما تعلمون غدر هؤلاء القوم وكيف قتلوا جند بخارى وجميع عامتها بعد العذاب والفضيحة في الحرم؟ والله لا أنزل حتى أقتل أو أرى ما يفعل الله بأصحابي، فحكي ذلك لجنكيزخان، فقال: ما في هذه المدينة رجل غير هذا الشيخ، يقف حتى يشاهد ما نفعل بأصحابه، ثم قتلوا عن آخرهم وهو ينظر إليهم، وقيل للشيخ: قد أعتقك خاقان لأنك رجل، فسر حتى تحدث خوارزم شاه، فسار على فرسه إلى خوارزم شاه وجعل يحذر الجند والعامة من أن يركنوا إلى أمان الططر وغدرهم (3) ومكرهم. ثم أنهم فعلوا بعامة سمرقند ما فعلوه بأهل بخارى ورحلوا عن المدينة وهي خاوية على عروشها. وكانت سمرقند في نهاية العظم، وكان بها جامع على قدر المدينة، وأهلها حنفية لا يرون الصلاة في جامعين، فكانوا إذا صلي الظهر من يوم الجمعة ركبوا أو باتوا في أماكن لهم قرب الجامع لتقرب عليهم المسافة يوم الجمعة، فقس على هذا كيف كانت هذه المدينة وما كان فيها من العدد.
سميساط (4) :
بلد من بلاد العجم منها السميساطي (5) ، رجل من العجم كان موصوفاً بالورع والزهد، كان بنى خانقة للصوفية بدمشق في موضع الدار التي كانت لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان اشتراها وبناها وجعل لها الأوقاف الواسعة، وأمر أن يدفن فيها ويختم عليه القرآن كل ليلة جمعة، وعين من تلك الأوقاف لكل من يحضر لذلك في كل ليلة جمعة رطلاً من خبز الحوارى، وكان سبب تموله أنه وجد يوماً من الأيام إزاء داره المذكورة رجلاً أسود مريضاً مطروحاً بموضعه لا يلتفت إليه أحد فتأجر الله تعالى فيه والتزم تمريضه وخدمته اغتناماً للثواب فجاءت وفاة الرجل، فاستدعى ممرضه السميساطي المذكور وقال: أنت قد أحسنت إلي وخدمتني ولطفت بي ومرضتني، وأشفقت لحالي وغربتي، فأنا أريد أن أكافئك على ذلك زائداً على مكافأة الله تعالى لك عني في الآجل، إن شاء الله تعالى، إني كنت أحد فتيان الخليفة المعتضد العباسي معروفاً بزمام الدار؛ وكانت لي حظوة ومكانة، فعتب علي في بعض الأمر فخرجت طريداً فانتهيت إلى هذه البلدة، فأصابني من أمر الله تعالى ما أصابني، فقيضك الله تعالى لي رحمة، فأنا أقلدك أمانة وأعهد إليك عهداً، إذا أنا مت وغسلتني ودفنتني فانهض إلى بغداد، وتلطف في السؤال عن دار زمام فتى الخليفة، فإذا أرشدت إليها فتحيل في اكترائها وأرجو أن الله تعالى يعينك على ذلك، فإذا سكنتها فاعمد إلى موضع سماه له وذكر له إمارة عليه فاحفر فيه مقدار كذا، وانزع اللوح الذي تجد متعرضاً تحت الأرض، وخذ الذي تجده مدفوناً وصيره في منافعك وما يوفقك الله إليه من وجوه الخير وأعمال البر
__________
(1) ص ع: ازمنجير، وعند ياقوت: أوغر.
(2) قارن بابن الأثير: 12: 367.
(3) ع ص: وغيرهم.
(4) عن ابن جبير: 289؛ وهو متابع له في قوله ((بلد من بلاد العجم)) وذلك تعريف قاصر، فان سميساط من بلاد الفرات الأعلى، قال ياقوت الأعلى، قال ياقوت ((في طرف بلاد الروم على غربي الفرات)) . وانظر المصادر الجغرافية الأخرى.
(5) اسمه عند الذهبي (المشتبه: 372) أبو القاسم علي بن محمد.(1/323)
مباركاً لك في ذلك إن شاء الله تعالى، ثم توفي الرجل المريض وتوجه الموصى إليه بعهده إلى بغداد، فيسر الله له في اكتراء الدار، وانتهى إلى الموضع المذكور، فاستخرج منه ذخائر لا قيمة لها عظيمة الشأن كبيرة القدر، فدسها في أحمال متاع ابتاعها وخرج من بغداد إلى دمشق، فابتاع الدار المذكورة المنسوبة لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وبناها خانقة للصوفية واحتفل فيها، وابتاع لها الأوقاف ضياعاً ورباعاً، وجعلها برسم الصوفية، وأوصى بأن يدفن فيها وأن يختم القرآن على قبره كل جمعة، وعين لكل من حضر لذلك ما ذكرناه، فوجد الغرباء والفقراء في ذلك مرفقاً كثيراً، فتغص الخانقة بالفقراء (1) في كل ليلة جمعة فإذا ختموا القرآن دعوا له وانصرفوا واندفع لكل واحد منهم رطل من الخبز على الصفة المذكورة.
سمندر (2) :
مدينة بالهند، واسعة المتاجر كثيرة المنافع لأهلها بضائع وأحوال (3) كثيرة، والإقلاع منها والحط بها كثير، وهي من أعمال القنوج (4) وهو ملك تلك البلاد، وهي أيضاً على جون (5) يصل إليها من مدينة قشمير، وفيها حبوب وأرز كثير وحنطة ممكنة، ويحمل إليها العود من مسيرة خمسة عشر يوماً في ماء عذب من بلاد كارموت، وهناك منابت عود جيد طيب. ولهذه المدينة جزيرة كبيرة تسامتها وبينهما مجرى ساعة، وهذه الجزيرة عامرة بالناس والتجار من كل الآفاق، ومنها إلى جزيرة سرنديب أربعة مجار.
وكانت سمندر (6) دار مملكة الخزر على ثمانية أميال من مدينة الباب، والخزر بلاد كبيرة، مسلمون ونصارى وفيهم عباد أوثان ولهم بلاد ومدن منها سمندر هذه، وهي خارج الباب والأبواب. وبلنجر وغيرها، وكانت تلك البلاد بناها أنوشروان كسرى، وهي الآن عامرة، ومن باب الأبواب إلى سمندر أربعة أيام، وبين باب الأبواب ومملكة السرير ثمانية أيام، ويسكن سمندر اليوم خلق من الخزر، وكانت افتتحت في بدء الزمان على يد سليمان بن ربيعة الباهلي رضي الله عنه، وقد كان يهود ملك الخزر في خلافة الرشيد فانصرف إليه خلق من اليهود ووردوا عليه من سائر أمصار المسلمين وبلاد الروم.
وهم يحرقون موتاهم ودواب بيتهم والآلة والحلي، وإذا مات الرجل منهم أحرقت معه امرأته وهي بالحياة، وإن ماتت المرأة لم يحرق الرجل، وإن مات منهم عزب زوج بعد وفاته، يرتجين في تحريق أنفسهن دخول الجنة، وهذا كما تفعله الهنود بأنفسها.
وكانت (7) سمندر قبل هذا عامرة وكان بها من الأشجار والكروم ما لا يحصى فأتت قبيلة الروس عليها فأهلكتها وغيرت حالها، ومن آخر حدودها إلى أول عمالات صاحب السرير أحد وخمسون ميلاً.
سمورة (8) :
هي دار مملكة الجلالقة، على ضفة نهر كبير جداً خرار كثير الماء شديد الجرية عميق القعر، وبين سمورة و (9) البحر ستون ميلاً، وسمورة مدينة جليلة قاعدة من قواعد الروم، وعليها سبعة أسوار من عجيب البنيان قد أحكمته الملوك السابقة، وبين الأسوار فصلان وخنادق ومياه واسعة. وقد كان عبد الرحمن بن محمد الخليفة الأموي بالأندلس غزا سنة سبع وعشرين وثلثمائة في أزيد من مائة (10) ألف من الناس، فنزل على دار مملكة الجلالقة وهي سمورة هذه.
وكان (11) أشد ما على الأندلس من الأمم المحاربة لهم الجلالقة، على أن الإفرنجة حرب لهم، غير أن الجلالقة أشد بأساً، وكان لعبد الرحمن بن محمد صاحب الأندلس وزير من ولد أبيه (12) يقال له أحمد بن إسحاق، قبض عليه عبد الرحمن لموجدة وجدها عليه، فقتله عبد الرحمن، وكان لذلك الوزير أخ يقال له أمية في مدينة شنترين من ثغور الأندلس، فلما نمي إليه ما فعل
__________
(1) الرحلة: بالقرأة.
(2) ادريسي (ق) : 66 - 67 (OG: 192) .
(3) الإدريسي: وأموال.
(4) ص ع: الفتوح.
(5) الإدريسي: خور.
(6) تراجع المعلومات عن سمندر والخزر في رسالة ابن فضلان، والكرخي 129 - 131، وابن حوقل: 323، وياقوت (خزر، سمندر) ، وابن الوردي: 53.
(7) نزهة المشتاق: 271.
(8) أفاد في المادة من الإدريسي (د) : 66 وأكثرها نقل عن البكري (ح) : 74 - 79، وانظر بروفنسال: 98، والتجمة: 120 (Zamora) .
(9) سقطت من ع.
(10) بروفنسال: مائتي.
(11) من هنا بدء النقل عن البكري.
(12) بروفنسال أمية؛ البكري: أخيه.(1/324)
بأخيه عصى عبد الرحمن وصار في حيز رذمير ملك الجلالقة، فأعانه على المسلمين ودله على عوراتهم، ثم خرج أمية في بعض الأيام عن المدينة يتصيد في بعض متنزهاته، فغلب على المدينة بعض غلمانه ومنعه من الدخول إليها، وكاتب عبد الرحمن، فمضى أمية بن إسحاق أخو الوزير المقتول إلى رذمير فاصطفاه واستوزره وصيره في جملته. وغزا عبد الرحمن صاحب الأندلس مدينة سمورة دار مملكة الجلالقة، وكان في أزيد من مائة ألف فكانت الوقيعة بينه وبين رذمير ملك الجلالقة في شوال سنة سبع وعشرين وثلثمائة كما قدمناه، فكانت للمسلمين عليهم، ثم ثابوا بعد أن حصروا وألجئوا إلى المدينة، فقتلوا من المسلمين بعد عبورهم الخندق خمسين ألفاً، وقيل إن الذي منع رذمير من طلب من نجا من المسلمين أمية بن إسحاق، خوفه الكمين ورغبه في ما كان في عسكر المسلمين من الأموال والعدد والخزائن، ولولا ذلك لأتى على جميع المسلمين، ثم إن أمية هذا استأمن عبد الرحمن بعد ذلك وتخلص من رذمير، فقبله عبد الرحمن أحسن قبول، وقد كان عبد الرحمن صاحب الأندلس بعد هذه الوقيعة جند عساكر مع عدة من قواده إلى دار الجلالقة، فكانت لهم حروب هلك فيها من الجلالقة ضعف ما قتل من المسلمين في الوقيعة الأولى، وكانت للمسلمين عليهم.
ومدينة سمورة محدثة، اتخذت داراً سنة ثمان وثمانين ومائتين.
السنح (1) :
منازل بني الحارث بن الخزرج بالمدينة النبوية، وهو أطم من آطام المدينة، وبه سميت تلك الناحية، وفي الخبر أن أبا بكر رضي الله عنه كان ساعة موت النبي صلى الله عليه وسلم في أهله بالسنح.
سنح (2) :
في بلاد التبت من أرض الأتراك، وهي متوسطة الكبر في رأس جبل منيع، عليها سور حجارة حصين، ولها باب واحد وبها صناعات للترك وأعمال وتجارات كثيرة مع من جاورهم وسار إليهم من أرض كابل وأرض الجبل، ويجلب إليها الحديد المنسوب إلى التبت والمسك.
ويحكى أن في هذا الجبل المتصل بسنح ينبت السنبل كثيراً وفي غياضه دواب المسك ترعى السنبل وتشرب من ماء الوادي الجاري إلى سنح فيكون من غذائها هذا المسك، وفي هذا الجبل كهف بعيد القعر يسمع فيه خرير ماء جار، ولا يدرك لهذا الكهف قعر ألبتة، وصوت الماء وخريره مسموع سماعاً فاشياً ولا يعلم حقيقة ما هو عليه إلا الله سبحانه. وينبت بهذا الجبل كثيراً الراوند الصيني ومنه يتجهز به إلى كثير من الآفاق ويتصل بالمشرق والمغرب.
سنترية (3) :
مدينة متصلة بأرض الجفار، وهي مدينة صغيرة بها منبر وقوم من البربر وأخلاط من العرب المتحضرة، وهي على أول الصحراء، ومنها إلى البحر الشامي في جهة الشمال تسع مراحل، وشرب أهلها من الآبار وعيون قليلة، وبها نخل كثير. ومن سنترية يسير من أراد الدخول إلى أرض كوار وسائر بلاد السودان، وكذلك من سنترية إلى أوجلة عشرة أيام.
سنجة (4) :
قرية من قرى مرو بعمل خراسان.
قال المسعودي (5) : قنطرة سنجة إحدى عجائب العالم، وهي ناحية سميساط من الثغور الجزرية، وسنجة نهر تعرف القنطرة به يصب في الفرات.
سنداد (6) :
نهر فيما بين الحيرة إلى الأبلة.
وقصر سنداد بظهر الكوفة، وهو الذي ذكره الأسود بن يعفر في قصيدته المشهورة، فقال (7) :
ماذا أؤمل بعد آل محرق ... تركوا منازلهم وبعد إياد
__________
(1) ص ع: السيح؛ وانظر معجم ما استعجم 3: 760، والسيرة 2: 253، وياقوت (سنح) .
(2) النقل عن نزهة المشتاق: 151، ولكن رسم الكلمة ((سنح)) ورد على الصور الآتية: قفنح، قنفح، سنح، سفح، وفي ص ع: سيح، وعند ابن الوردي: 32 ينتج.
(3) الإدريسي (د/ب) : 44 - 45/ 30، وقارن بالبكري: 14.
(4) سنج عند ياقوت وكذلك في معجم البكري 2: 759؛ وأما النهر الذي يجري في ديار مضر من أعمال الجزيرة فهو سنجة عند ياقوت، بفتح السين.
(5) التنبيه والإشراف: 64، وانظر ابن الوردي: 82.
(6) معجم ما استعجم 3: 761 و 2: 517، وانظر ياقوت (سنداد) .
(7) من قصيدة له مفضلية.(1/325)
أهل الخورنق والسدير وبارق ... والقصر ذي الشرفات من سنداد
أرض تخيرها لطيب مقيله ... كعب بن مامة وابن أم دواد
جرت الريح على محل ديارهم ... فكأنما كانوا على ميعاد
سنابل (1) :
قرية بأرض عمان منها مازن بن الغضوبة الطائي (2) وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: وسبب إسلامه ووفوده على النبي صلى الله عليه وسلم وإقطاعه له أرض عمان، قال: عترت يوماً عتيرة، وهي الذبيحة، فسمعت صوتاً من الصنم يقول: يا مازن أقبل أقبل فاسمع ما لا يجهل، هذا نبي مرسل، جاء بحق منزل، فآمن به كي تعدل، عن حر نار تشعل، وقودها بالجندل. قال مازن: فقلت والله إن هذا لعجب، ثم عقرت بعد أيام عتيرة أخرى، فسمعت صوتاً أبين من الأول، وهو يقول: يا مازن اسمع تسر، ظهر خير وبطن شر بعث نبي من مضر، بدين الله الأكبر، فدع نحيتاً من حجر، تسلم من حر سقر. قال مازن: فقلت إن هذا والله لعجب، وإنه لخير يراد بي، وقدم علينا رجل من أهل الحجاز فقلنا: ما الخبر وراءك. قال: خرج بتهامة رجل يقول لمن أتاه: أجيبوا داعي الله، يقال له أحمد، فقلت: هذا والله نبأ ما سمعت، فثرت إلى الصنم فكسرته أجذاذاً، وشددت راحلتي ورحلت حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشرح لي الإسلام فأسلمت، وأنشأت أقول:
كسرت يا جر (3) أجذاذاً وكان لنا ... رباً نطيف به ضلاً بتضلال
بالهاشمي هدانا من ضلالتنا ... ولم يكن دينه منا على بال
يا راكباً بلغن عمراً وإخوتها ... أني لما قال ربي ياجر قال وقلت: يا رسول الله، إني امرؤ مولع بالطرب وشرب الخمر وبالهلوك إلى النساء، وألحت علي السنون فأذهبن الأموال وأهزلن الذراري والرجال، وليس لي ولد، فادع الله أن يذهب عني ما أجد ويأتني بالحيا ويهب لي ولداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم أبدله بالطرب قراءة القرآن وبالحرام الحلال وأتهم بالحيا وهب له ولداً "، فقال مازن: فأذهب الله عني كل ما أجد. وأخصبت عمان، وتزوجت أربع حرائر ووهب الله تعالى لي حبان (4) بن مازن وأنشأت أقول:
إليك رسول الله سقت مطيتي ... تجوب الفيافي من عمان إلى العرج
لتشفع لي يا خير من وطئ الحصى ... فيغفر لي ربي فأرجع بالفلج
إلى معشر خالفت في الله دينهم ... فلا رأيهم رأيي ولا شرجهم شرجي
وكنت امرءاً بالدعب والخمر مولعاً ... شبابي حتى آذن الجسم بالنهج
فأصبحت همي في جهاد ونيتي ... ولله ما صومي ولله ما حجي
سنجار (5) :
هي برية الثرثار، ومدينتها الحضر، وهي كلها من الجزيرة، وفي سنجار فوهة نهر الخابور، ويمر حتى يصب في الفرات، وهو الذي يقول فيه الشاعر:
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج ... لة تجبى إليه والخابور وفي سنة ست عشرة وستمائة (6) مات صاحب سنجار قطب الدين أبو المظفر محمد بن عماد الدين زنكي فقام ابنه شاهنشاه مقامه، فأساء السيرة، فهرب كثير من أكابر الدولة إلى جاره الملك الأشرف بن العادل، فوصلوا في خدمته إلى سنجار وحصره حتى استولى عليها وأخرجه فمات سليباً غريباً.
__________
(1) الاكتفاء للكلاعي 1: 289 - 291، ودلائل النبوة: 32 واسم القرية فيه ((سمايا)) ، وانظر الاستيعاب: 1344.
(2) ص ع: الكناني.
(3) أعلام النبوة: باحر، وذكره ابن الأثير في النهاية باسم ((باجر)) تكسر جيمه وتفتح، ويروى بالحاء المهملة.
(4) الاكتفاء: حبة؛ الدلائل: حيان.
(5) معجم ما استعجم 3: 760، وقارن بآثار البلاد: 393.
(6) انظر مرآة الزمان: 607، وابن الأثير 12: 355.(1/326)
سندروسة (1) :
هي جزيرة في البحر المحيط، حكي أن قوماً مروا بجزيرة في هذا البحر، والبحر قد هاج وعظم، فنظروا فإذا شيخ أبيض الرأس واللحية وعليه ثياب خضر وهو مستقل على الماء بقول: سبحان من دبر الأمور، وعلم ما في ضمائر الصدور، وألجم بقدرته البحور، سيروا بين الغرب والشرق حتى تنتهوا إلى جبال، فاسلكوا أوسطها تنجوا بحول الله عز وجل وتسلموا، فركبوا السمت الذي حد لهم حتى انتهوا إلى جزيرة سندروسة هذه، وفيها أمة طوال الوجوه معهم قضبان الذهب المخلوقة يعتمدون عليها ويحاربون بها، على رؤوسهم الذهب، وثيابهم منسوجة بالذهب وطعامهم الموز، فأقاموا عندهم شهراً وأخذوا من قضبان الذهب التي عندهم ما استطاعوا حمله، ثم ساروا على السمت فخلصوا. وكان الذي أرشدهم الخضر عليه السلام وتلك الجزيرة مكان قراره وهي وسط البحر الأعظم.
السند:
بلاد كبيرة فيما بين ديار فارس وديار الهند، وبلغ المأمون أن بشر بن داود المهلبي والي السند أنشد في مجلسه بيت دعبل:
من أي ثنية نجمت معد ... وكانوا معشراً متنبطينا فقال المأمون: جواب هذا يأتي بعد إن شاء الله تعالى، وأنفذ غسان بن عباد إلى السند، وأمره في بشر بأمره، فأنفذ بشراً مقيداً، فقال المأمون: هذا وقت الجواب، قولوا لبشر نجمت معد من الثنية التي نجم عليك منها غسان فهد أركانك وأزال سلطانك وأخذ مالك وأرمل عيالك.
والسند مما يلي الإسلام ثم الهند، ولغتهم غير لغة الهند، وفي شرقي بلاد السند مكران وطراز وشيء من بلاد الهند، وفي غربيها كرمان ومفازة سجستان وأعمالها، وفي الشمال منها بلاد الهند.
سناسنا (2) :
جزيرة بالهند عامرة كثيرة الصادر والوارد، بينها وبين الساحل أقل من نصف مجرى. قالوا: وفيها بئر تخرج منها في بعض الأوقات نار محرقة.
سفوان (3) :
ماء بين ديار بني شيبان وديار بني مازن على أربعة أميال من البصرة، ومكان سفوان من البصرة كمكان القادسية من الكوفة، التقت عليه القبيلتان فتنازعتا فيه، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فظهرت بنو تميم وشلوا (4) بني شيبان، وقال الشاعر:
رويداً بني شيبان بعض وعيدكم ... تلاقوا غداً خيلي على سفوان وسفوان أيضاً واد بقرب بدر موضع الوقيعة المباركة النبوية، وهو الذي بلغ إليه النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر الأولى.
سقمانية (5) :
مدينة في بلاد الترك تلي الأرض المنتنة من جهة شمالها، وهي مدينة كبيرة عامرة لا ملك لها ولا رئيس، إنما يتولى أحكامها ويتصرف في أمورها شيوخها ورؤوسها، وهذه المدينة في رأس جبل منيع، ولأهلها مزارع ومدافن في حضيض جبلها، ويسمى جبلها طغورا، سمي الجبل باسم طغورا، مدينة هناك على ست مراحل من مدينة سقمانية، والمدينتان معاً في الأرض المنتنة وفي غربي أرض سيسان (6) وأرض سيسان، كلها خراب من قبل أيام الإسكندر وبنيانه السد.
السقيا (7) :
بالحجاز، قرية جامعة في طريق مكة من المدينة، ومن العرج إلى السقيا ستة وثلاثون ميلاً، وهي منزل عظيم فيه أهل كثير وبساتين كثيرة وفيه شجر ونخيل، ومن السقيا إلى الأبواء سبعة وعشرون (8) ميلاً.
سقوطرى (9) أو سقطرى:
جزيرة معروفة من الإقليم الأول، وبينها وبين الساحل مجريان بالريح الطيبة، وهي جزيرة واسعة
__________
(1) البكري (مخ) : 38، وعند ابن الوردي: 72 سرندوسة، وأورد حكاية الشيخ: 70. وفي ص: سندورسة.
(2) الادريسي (ق) : وأثبتها المحقق مرة (76) : سناسا، ومرة سناسيا؛ وفي ص: ساسنا؛ وفي مخطوطة نزهة المشتاق: سناسنا.
(3) معجم ما استعجم 3: 740.
(4) ص ع: وسموا.
(5) نزهة المشتاق: 315.
(6) ص ع: سماوة.
(7) معجم ما استعجم 3: 742، وقارن بنزهة المشتاق: 51.
(8) في معجم البكري (مادة: عقيق) : تسعة عشر ميلاً، ولكن المؤلف يتابع الادريسي.
(9) نزهة المشتاق: 19 (OG: 49) وبعضه في البكري (مخ) : 60 وأصله عند المسعودي، مروج 3: 36.(1/327)
القطر جليلة القدر نامية الشجر، طولها ثمانون فرسخاً، وأكثر نباتها شجر الصبر، ولا صبر يفوق صبرها في الطيب كالذي يتخذ بحضرموت اليمن وبالشحر وغيرها، وتتصل من جهة الشمال والمغرب ببلاد اليمن، بل هي محسوبة منه ومنسوبة إليه، وبها من جميع قبائل مهرة، وبها نخل كثير، ويسقط إليها العنبر، وإذا قيل لمهري: يا سقطري، غضب، وتقابلها بلاد الزنج، وأكثر أهل هذه الجزيرة نصارى، لأن الإسكندر لما غلب على ملك فارس وغزت أساطيله جزائر الهند وقتل ملك الهند، وكان معلمه أرسطوطاليس قد أوصاه بطلب جزيرة الصبر فكان في بال الإسكندر ذلك من أجل وصية معلمه، فعند فراغه من أخذ جزائر الهند وتغلبه عليها وعلى ملوكها أخذ راجعاً في بحر الهند إلى جهة البحر العماني إلى أن وصل إلى جزيرة سقطرى فأعجبه طيب ثراها واعتدال هوائها، فكتب إلى معلمه بذلك، فأجابه يأمره بأن ينقل أهلها عنها ويستبدلهم باليونانيين ويوصيهم بحفظ شجرة الصبر وحياطتها لما في ذلك من المنافع الطبية، وأنه لا تتم الايارجات إلا به، مع انتفاع جميع الأمم بتصريفه لأنه في ذاته دواء جليل كثير المنافع، ففعل الإسكندر ذلك فأخرج عنها جملة أهلها ونقل إليها قوماً من اليونانيين، وأمرهم بحفظ شجرة الصبر والقيام بها وغراستها وإدامة تنميتها، ففعلوا ذلك إلى أن ظهر دين المسيح فآمنت به، فدخل أهل سقوطرى في دين النصرانية، وبقايا ذراريهم بها إلى هذا الوقت مع سائر من سكنها من غيرهم، وأوراق شجر الصبر تجمع في شهر يوليه، ويستخرج لعابها ويطبخ في قدور النحاس وغيرها، ويوضع في زقاق ويجفف في شهر أغشت للشمس، ويباع منه بهذه الجزيرة قناطير فيتجهز به إلى الآفاق شرقاً وغرباً.
وقد يسقط العنبر إلى جزيرة سقوطرى (1) ، ومن عمان إلى الساحل إلى سقوطرى، والطريق من عمان إلى مسقط على الساحل ثم منه إلى سقوطرى، وبها الصبر الذي لا يعدل به كما قلناه.
سقوما (2) :
قلعة سقوما على مقربة من فاس بالمغرب.
ولما وصل موسى بن نصير إلى طنجة، مال عياض بن عقبة إلى قلعة سقوما ومال معه سليمان بن مهاجر وسألا موسى الرجوع معهما فأبى، وقال: هؤلاء قوم في الطاعة، فأغلظا له القول حتى رجع فقاتل أهل سقوما، فكان لهم على العرب ظهور، فجاءهم عياض بن عقبة من خلفهم فتسور عليهم في قلعتهم، فانهزم القوم واشتد القتل فيهم فغلبوا، وكتب موسى إلى الوليد بن عبد الملك أنه سار إليك يا أمير المؤمنين من بني سقوما مائة ألف رأس، فكتب إليه الوليد: ويحك أظنها بعض كذباتك، فإن كنت صادقاً فهذا محشر الأمم.
ولم يكن بالمغرب أعظم من مدينة سقوما.
سهرورد (3) :
بلدة بين زنجان وهمذان.
السواجير (4) :
موضع بالشام.
سويقة (5) :
بالتصغير، موضع بشق اليمامة.
وسويقة أيضاً بمقربة من المدينة بها كانت منازل حسن بن حسن بن علي رضي الله عنهم، قال موسى بن عبد الله بن حسن: خرجت من منازلنا بسويقة جنح ليل، وذلك قبل خروج محمد أخي، فإذا أنا بنسوة توهمت أنهن خرجن من ديارنا فأدركتني غيرة عليهن، فاتبعتهن لأنظر أين يردن، حتى إذا كن بطرف الحفير (6) التفتت إلي إحداهن وهي تقول:
سويقة بعد ساكنها يباب ... لقد أمست أجد بها الخراب فقلت لهن: أمن الإنس أنتن، فلم يراجعنني، فخرج محمد هذا فقتل وخربت ديارنا.
وقال إسماعيل (7) : لقيني موسى بن عبد الله فقال لي: هلم حتى أريك ما صنع بنا بسويقة، فانطلقت معه، فإذا نخلها قد عضد عن آخره، وديارها ومصانعها قد خربت فخنقتني العبرة، فقال: إليك فنحن والله كما قال دريد بن الصمة:
__________
(1) قد تقدم هذا في هذه المادة.
(2) في الاستبصار: 194 سكوما؛ والمؤلف ينقل عن البكري: 117.
(3) قارن بياقوت (سهرود) .
(4) ص ع: السواحر؛ وعند ياقوت: نهر مشهور من عمل منبج بالشام.
(5) معجم ما استعجم 3: 767.
(6) معجم البكري: الجمير.
(7) يعني اسماعيل بن جعفر بن إبراهيم.(1/328)
تقول ألا تبكي أخاك وقد أرى ... مكان البكا لكن جبلت على الصبر وقال سعيد بن عقبة: نزلت ببطحاء سويقة فاستوحشت لخرابها إلى أن خرجت ضبع من دار عبد الله بن حسن فقلت:
إني مررت على دار فأحزنني ... لما مررت عليها منظر الدار
وحشاً خراباً كأن لم تغن عامرة ... بخير أهل لمعتر وزوار
لا يبعد الله قوماً كان يجمعهم ... جنبا سويقة أخيار لأخيار
الرافعين لساري الليل نارهم ... حتى يؤم على ضوء من النار
والدافعين عن المحتاج خلته ... حتى يحوز الغنى من بعد إقتار وسويقة بني مسعود بالقرب من طرابلس تسكنها قبائل من هوارة تحت طاعة العرب، وبها سوق مشهورة وقصور كثيرة، وأهلها يحرثون الشعير على السقي.
السوس:
من كور الأهواز وهي مدينة الأهواز في القديم، وهي بالفارسية شوش أي جيد.
وفتحها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه سنة تسع عشرة فدل على جثة دانيال (1) ، فقام رجل إلى جنبه فكانت ركبة دانيال محاذية رأسه، وأخذ أبو موسى رضي الله عنه خاتمه وفصه حجر أحمر، نقشه دبان مختلفة أوساطه، ووجدت معه كتب صحف، فبيعت بأربعة وعشرين درهماً، فوقعت إلى الشام.
قالوا (2) : ولما نزل أبو موسى رضي الله عنه على السوس قاتل أهلها وحاصرهم حتى نفد ما عندهم من الطعام فضرعوا إلى الأمان وسأل مرزبانهم أن يؤمن ثمانون منهم على أن يفتح باب المدينة ويسلمها، فسمى الثمانين (3) وأخرج نفسه منهم، فأمر به أبو موسى رضي الله عنه فضربت عنقه ولم يعرض للثمانين وقتل من سواهم من المقاتلة، وأخذ الأموال وسبى الذرية، ورأى أبو موسى رضي الله عنه في قلعتهم بيتاً عليه ستر، فسأل عنه، فقيل إن فيه جثة دانيال، وأنهم كانوا قحطوا فسألوا أهل بابل دفعه إليهم يستسقون به ففعلوا، وكان بخت نصر سبى دانيال وأتى به بابل فقبض بها، فكتب أبو موسى رضي الله عنه بذلك إلى عمر رضي الله عنه، فكتب إليه عمر رضي الله عنه أن كفنه وادفنه، فسكر أبو موسى نهراً حتى إذا انقطع الماء عنه دفنه فيه ثم أجرى الماء عليه.
ومن طريف ما حكي في فتح السوس ما ذكره سيف، قال (4) : لما أحاط المسلمون بالسوس ناوشوهم مرات، كل ذلك يصيب أهل السوس في المسلمين (5) ، فأشرف عليهم الرهبان والقسيسون فقالوا: يا معشر العرب إن مما عهد إلينا علماؤنا وأوائلنا لا يفتح السوس إلا الدجال أو قوم فيهم الدجال، فإن كان الدجال فيكم فستفتحونها، وإن لم يكن فيكم فلا تعنوا بحصارنا، وصادف ابن صياد يومئذ في خيل المسلمين، فأتى باب السوس غضبان فدقه برجله وقال: انفتح، فتقطعت السلاسل وتكسرت الأغلاق، وتفتحت الأبواب ودخل المسلمون، فألقى المشركون بأيديهم ونادوا: الصلح، الصلح، فأجابهم المسلمون إلى ذلك بعدما دخلوها عنوة واقتسموا ما أصابوا قبل الصلح ثم افترقوا.
والسوس أيضاً في أقصى بلاد المغرب، وهي مدينة جليلة حاضرة جامعة لكل خير وفضل، وأهلها أخلاط، وهي بلاد السكر ويصنع بها منه كل شيء كثير ويتجهز منه إلى الآفاق ويصل فاضله إلى أقصى خراسان، ويصنع بها من الخز العتيق كل جليلة، وبها فواكه كثيرة.
وهذا السوس (6) الغربي قرى وعمارات كثيرة متصلة بعضها ببعض، وبها من الفواكه الجليلة أجناس مختلفة وأنواع كثيرة كالجوز والتين والعنب العذاري والسفرجل والرمان والأترج الكثير
__________
(1) قد مر في مادة ((تستر)) حديث عن اكتشاف أبي موسى لجثة دانيال وكيف أخفاها وسيعيد المؤلف هذا الحديث في ما يلي من هذه المادة.
(2) عن فتوح البلدان: 465 - 466.
(3) ص ع: فسلم الثمانون.
(4) الطبري 1: 2654.
(5) سقطت من: ص ع.
(6) الادريسي (د/ ب) : 61/ 39، وقارن بعض معلوماته بالبكري: 162، وابن حوقل: 90، وابن الوردي: 13.(1/329)
والمشمش والتفاح المنهد وقصب السكر الذي ليس في الأرض مثله طولاً وعرضاً وحلاوة وكثرة ماء، ويعمل منه ببلاد السوس من السكر ما يعم أكثر أهل الأرض ويشف على كل أنواع السكر في الطيب والصفاء، وتعمل بالسوس الأكسية الرقاق ومن الثياب ما لا يقدر أحد على عمله، وفي نسائهم جمال فائق وحسن بارع وحذق بصناعات أيديهن.
وهي بلاد حنطة وشعير وأرز ممكن بأيسر قيمة، والغالب على أسعارها الرخص وعلى أهلها الجفاء وغلظ الطبع، وهم أخلاط من البرابر والمصامدة، وزيهم لباس أكسية الصوف التفافاً، ولهم بشعورهم اهتمام يغسلونها بالحناء في كل جمعة مرتين برقيق البيض والطين الأندلسي، ولا يمشي الرجل منهم أبداً إلا وفي يده رمحان قصار العصي طوال الأسنان رقاقها، ويأكلون الجراد أكلاً لما مقلواً ومملوحاً، وهم فرقتان: مالكية وحشوية (1) ، وبينهم القتال والفتنة أبداً، غير أنهم أرفه الناس وأكثرهم خصباً، وشرابهم المسمى آنريز حلو ويسكر سكراً عظيماً ويفعل بشاربه ما لا تفعله الخمر لمتانته وغلظ مزاجه، وهم يرونه حلالاً ما لم يتعد به حد السكر، وبين السوس وأغمات ست مراحل.
ومن السوس الإمام المهدي محمد بن تومرت (2) ، كان يقال له الفقيه السوسي.
ويقال للسوس: السوس الأقصى (3) ، وهي مدن كثيرة وبلاد واسعة، يشقها نهر عظيم يصب في البحر المحيط يسمى وادي ماست، وجريه من القبلة إلى الجوف كجري نيل مصر، وعليه القرى المتصلة والعمارة الكثيرة، والبساتين والجنات بأنواع الفواكه والثمار والأعناب وقصب السكر، ولم يتخذ الساكنون على هذا الوادي قط رحى، فإذا سئلوا عن ذلك قالوا: كيف نتخذ هذا الماء المبارك في إدارة الأرحاء. وهم يتطيرون بها، وعلى هذا النهر قرية كبيرة جداً تعرف بتارودانت، وهي أكثر بلاد الدنيا قصب سكر، وفيها معاصر للسكر كثيرة. وهذه البلاد أخصب بلاد المغرب وأكثرها فواكه وخيرات، ومنها يجلب السكر إلى جميع بلاد المغرب والأندلس وإفريقية، وهو المشهور بالطبرزذ المعروف عند الأطباء، وعلى مصب هذا الوادي في البحر رباط مقصود له موسم عظيم ومجتمع جليل وهو مأوى للصالحين، ومن وادي السوس إلى مدينة نول ثلاث مراحل في عمارة متصلة تسكنها جزولة ولمطة، وهم أمم كثيرة، وقاعدة بلاد السوس ايكلي (4) ، وهي مدينة كبيرة قديمة في سهل من الأرض على النهر الكبير المذكور، وهي كثيرة البساتين والتمر وجميع الفواكه، وربما بيع فيها التمر. بما دون كراء الدابة من الجنات إلى السوق، ومعاصر قصب السكر بها كثيرة، وأكثر شرب أهلها إنما هو قصب السكر، ويعمل بها النحاس المسبوك ويتجهز به إلى بلاد السودان.
ووصل عقبة بن نافع إلى هذه المدينة عند دخول بلاد المغرب وافتتحها، فأخرج منها سبياً لم ير مثله حسناً، فكانت الجارية الواحدة منهن تباع بألف دينار وأكثر لحسنها وتمام خلقتها. ويعمل بهذه المدينة زيت الهرجان (5) ، وشجره يشبه الكمثرى إلا أنه لا يعلو كعلو شجر الكمثرى ولا يفوت اليد. وأغصانه نابتة من أصله لا ساق لشجرته، ولها شوك، فيجمع ويترك حتى يذبل ثم يوضع في مقلى فخار على النار فيستخرج دهنه، وطعمه يشبه طعم القمح المقلو، وهو حينئذ محمود الغذاء يسخن الكلى ويدر البول.
وبالسوس عسل يفوق عسل جميع الأمصار، ويلقي البلديون (6) على الكيل منه خمسة عشر كيلاً وحينئذ يتأتى نبيذاً، فإن كان الماء أقل من ذلك بقي حلواً ولا ينحل إلا بالماء الشديد الحرارة، ولونه أخضر في لون الزمرد.
ومن مدن السوس تامدلت (7) ونول لمطة، وغيرهما.
السويداء:
مدينة بقرب دمشق بينهما ستة فراسخ، وهي على رأس جبل، حصينة، وحواليها مزارع وأشجار الزيتون والكروم، وماؤها من عين تجتمع في بركة.
السويدية (8) :
مدينة هي فرضة أنطاكية على البحر، وبها يقع
__________
(1) هذا غير دقيق، والادريسي ينقل عن ابن حوقل، وهو يقسم أهل السوس في مالكية حشوية وموسوية شيعة يقطعون على موسى بن جعفر.
(2) ع: توتارت (ولعلها: تومارت) ص: نارت.
(3) الاستبصار: 211.
(4) تكتب في معظم المصادر ((ايجلي)) أي أنها تنطق جيماً مصرية.
(5) ص ع: البرجان، وقارن البكري: 162.
(6) الاستبصار والبكري: النبيذيون.
(7) ص ع: تادميت.
(8) نزهة المشتاق: 195.(1/330)
نهر أنطاكية المسمى العاصي، ويحتمل أن تكون هي السويداء المتقدمة الذكر (1) .
سوق الأهواز (2) :
ويقال لها سوق الأربعاء، بينها وبين عسكر مكرم مرحلة، وهي من عمل خوزستان، وهي مدينة حسنة بها سوق مشهورة في يوم معلوم، وبها فواكه ونعم كثيرة ومتاجر ودخل وخرج وجباية كثيرة.
قالوا (3) : ولما انهزم الهرمزان بالقادسية استمد عتبة بن غزوان سعد بن أبي وقاص فأمده بمدد فاقتتلوا، فهزم الهرمزان ومن كان معه، وأصاب منهم المسلمون ما شاءوا واتبعوهم حتى وقفوا على شواطئ دجيل وأخذوا ما دونه وعسكروا بجبال سوق الأهواز، وقد عبر الهرمزان جسر سوق الأهواز وأقام بها وصار دجيل بينه وبين المسلمين، فرأى الهرمزان ما لا طاقة له به، فطلب الصلح وكتب إلى عتبة فأجابه إلى ذلك على الأهواز كلها ومهرجان ما خلا نهر تيرى، ومناذر وما غلبوا عليه من سوق الأهواز، قال: فإنا لا نرد عليهم ما تنقذنا.
سوق ماكسن (4) :
مدينة على وادي شلف لصنهاجة عليها سوق وفيها عيون.
سوسة:
من بلاد إفريقية، وإليها تنسب الثياب الرقيقة السوسية، ويقال لها البيضاء، ومنها ركب أسد بن الفرات البحر غازياً إلى صقلية في الزمان الأول.
وهي مدينة (5) قديمة فيها آثار للأول، وهي على ساحل البحر، وفيها بنيان عظيم يسمى الملعب، وهو من أغرب البنيان، فيه أقباء معقودة بحجر النشف الذي يطفو فوق الماء المجلوب من بركان صقلية، وداخل المدينة هيكل عظيم يسميه البحريون الفنطاس، وهو أول ما يرون من البحر إذا قصدوا من صقلية وغيرها.
وسوسة في سند عال ترى دورها منه، وهي مخصوصة بكثرة الأمتعة وجودة حوك الثياب الرقاق وقصارتها، وجميع أشغال الثياب الرفيعة من طرز وكمد لا يصنع ببلد مثل صنعته بهذه المدينة، ويباع الغزل بها زنة المثقال بمثقالين، ولحم سوسة أطيب لحوم بلاد إفريقية لطيب مراعيها، وبالقرب منها محرس المنستير الذي جاء فيه الأثر الوارد، وهو حصن عالي البناء متقن العمل وفيه جماعة من الصالحين حبسوا أنفسهم فيه للعبادة، وأهل تلك البلاد يخرجون إليهم بالصدقات. وبقربه نحو خمسة محارس متقنة البناء معمورة بالصالحين.
وبين سوسه (6) وحصن اهرقلية ثمانية عشر ميلاً وسوسة عامرة بالناس كثيرة المساجد، والمسافرون إليها قاصدون وعنها صادرون وبها المتاع الذي لا يوجد في غيرها وأسواقها عامرة، ومياههم من المواجل، وعليها سور من حجر حصين.
وكان بين أهلها وبين أهل المهدية في القديم مشاحنة مشهورة، ومن المداعبات كان الأستاذ أبو عبيد الله (7) محمد بن عبد الجبار السوسي رحمه الله يسأل عن قول الشاعر:
لا (8) تلمني على الدناءة إني ... تونسي وجزت يوماً بسوسه فيقال (9) له: أي البلدين أعظم دناءة؟ والبيت المشهور إنما هو: وقد سكنت الجزيرة.
وبالصين أيضاً مدينة سوسة (10) ، وهي مشهورة مذكورة، كثيرة التجارات متصلة العمارات، وأموال أهلها كثيرة، وتجاراتهم موفورة، وعمال فراضهم مفترقون في الآفاق، وتتصل بكل الأمصار، ويصنع بها الغضار الصيني الذي لا يعدله شيء من فخار الصين جودة، وبها طرز كثيرة مشهورة بعمل الحرير الصيني الرفيع القيمة
__________
(1) هذا الاحتمال غير وارد، لأن السويداء في المادة السابقة مدينة داخلية (مركز جبل حوران) والثانية فرضة انطاكية.
(2) نزهة المشتاق: 124.
(3) انظر الطبري 1: 2533، والنص منقف مع ما ورد 2537 - 2538.
(4) البكري: 65، صع: ماكسين.
(5) الاستبصار: 119، وقارن بالبكري: 34 - 36.
(6) الادريسي (د/ ب) : 125/ 93.
(7) ص: أبو عبد الله.
(8) ع: تحلني.
(9) ص ع: فقال.
(10) نزهة المشتاق: 71 (OG: 210) .(1/331)
المحكم الصنعة الذي لا يقرن به غيره.
السواد (1) :
سواد الكوفة: كسكر إلى الزاب إلى عمل حلوان إلى القادسية، وسواد البصرة: الأهواز وفارس ودهستان، وهذه كلها من أرض العراق.
وعن الشعبي (2) : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بعث عثمان بن الأحنف، فمسح السواد فوجده ستة وثلاثين ألف ألف جريب، يعني موضع الغلة فيه، وأما على تكسير الذراع فمائتا ألف ألف وخمسة وعشرون ألف ألف جريب، فوضع منها بالتخمين آكاماً وآجاماً وسباخاً وطرقاً ومجاري أنهار ومواضع المدن والقرى الثلاث، ويبقى بعد ذلك مائة ألف ألف وخمسة وسبعون ألف ألف جريب، وكان قيمة ما يلزم كل جريب من الخراج على التخمين درهمين، وذلك أقل من العشر، وإذا أضيف ذلك إلى خراج أهل الذمة بلغ من الورق مائة ألف ألف وخمسين ألف ألف درهم، فقيل وضع عليه عمر رضي الله عنه درهماً واحداً وقفيزاً، فجبى عمر رضي الله عنه السواد من الورق مائة ألف ألف درهم وثمانية وعشرين ألف ألف درهم، وجباه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه مائة ألف ألف وأربعة وعشرين ألف ألف، وجباه الحجاج بظلمه وعسفه ثمانية عشر ألف ألف، ومنع أهل السواد ذبح البقر ليكثر الحرث والزرع، فقال الشاعر:
شكونا إليه خراب العراق ... فحرم فينا لحوم البقر
وكان كما قال من قبلنا ... أريها السهى وتريني القمر وقد كانت هيت وعانات أيام الفرس داخلة في حد السواد من طسوج الأنبار (3) إلى أن بلغ أنوشروان أن طائفة من العرب أغارت من ماء قريب من حد السواد إلى البادية فأمر بحفر خندق من هيت حتى يأتي كاظمة مما يلي البصرة وينفذ إلى البحر ليكون ذلك مانعاً لمن أراد السواد، والسواد اثنتا عشرة كورة.
سورا (4) :
مدينة بناحية السواد، حسنة متوسطة القدر ذات سور وأسواق، وبها عمارة كافية ونخيل وأشجار وبساتين وفواكه جمة وزراعات واسعة، ومنها ينصب الفرات فيما يحاذي قصر ابن هبيرة، وبها قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما، وله مشهد عظيم في أوقات من السنة.
سواكن (5) :
مدينة بقرب جزيرة عيذاب، وهي ذات مرسى، ومنها تسير السفن إلى مدينة سواكن، وهي مدينة عامرة في ساحل بلاد البجاة وبلاد الحبشة، وفيها متاجر، ويخرج منها رقيق البجاة والحبشة واللؤلؤ الجيد، وفيها قطاط برية في عظم الكلب الكبير تؤذي الناس، وهناك دابة من دواب البحر يقال له الطلوم (6) لها فرج كفرج المرأة وثديان كثدييها يقع عليها الملاحون، وتسير منها السفن إلى جزيرة باضع، وهي أيضاً في ساحل البجاة والحبشة وأهلها مسلمون.
سواق (7) :
مدينة بالهند على ساحل البحر بها أشجار الساج وغيره، ولهذه الأشجار أوراق عراض، كل ورقة تقطع للرجل سراويل، فإذا طلعت منها شجرة من الأرض استوت في السماء صاعدة لا يخرج لها شيء من الأغصان البتة مقدار مائة وعشرين ذراعاً، وورقها في رأسها، ويبلغ ثمن كل ساجة خمسمائة دينار إلى ستمائة.
وقال أبو خراسان مولى صالح بن الرشيد: كان مولاي صالح بن الرشيد على البصرة، فلما أحدث جبريل بن بختيشوع داره التي في الميدان ببغداد سأل صالح بن الرشيد أن يهدي له خمسمائة ساجة، فكانت الساجة بثلاثة عشر ديناراً، فاستعظم مولاي المال وقال: أما خمسمائة فلا، ولكنني أكتب في حمل مائتي ساجة إليك، فقال جبريل: ليست بي حاجة إليها، قال أبو خراسان: فقلت لسيدي: أرى جبريل سيدبر عليك تدبيراً بغيضاً، فقال سيدي: جبريل أهون علي من كل هين لأني لا أشرب له دواء ولا أقبل له علاجاً. ثم استزار مولاي صالح أمير المؤمنين المأمون فلما استوى المجلس بالمأمون، قال له جبريل: أرى وجهك
__________
(1) مثل هذا التحديد تجده عند ياقوت (السواد) .
(2) ابن رسته: 104 - 105، 107، وابن خرداذبه: 14 - 15، وقارن بياقوت.
(3) ص ع: بعد طرح الأنهار.
(4) قارن بالمقدسي: 117، والمؤلف ينقل عن نزهة المشتاق: 202.
(5) قارن بياقوت (سواكن) ، وتقويم البلدان: 370، ونخبة الدهر: 151.
(6) قارن بما في تخبة الدهر: 158، اللطم.
(7) كذا ورد هذا الاسم في ص ع، ولم أستطع التثبيت من صحته.(1/332)
متغيراً، ثم قام إليه فجس عرقه، ثم قال: يشرب أمير المؤمنين شربة سكنجبين ويؤخر الغداء حتى يفهم الخبر، ففعل المأمون ما أشار به، وأقبل يختبر عرقه في الوقت بعد الوقت، ثم لم يشعر بشيء حتى دخل غلمان جبريل ومعهم رغيف واحد وألوان من الحوت وقرع وماش وما أشبه ذلك، فقال: إني لأكره لأمير المؤمنين أن يأكل في يومه هذا شيئاً من لحوم الحيوان وليأكل من هذه الألوان، فأكل منها وقام، فلما انتبه من قائلته قال له: يا أمير المؤمنين رائحة النبيذ تزيد في الحرارة والرأي لك الانصراف، فانصرف وتلفت نفقة مولاي كلها، فقال لي مولاي: يا أبا خراسان التمييز بين مائتي ساجة واستزارة الخليفة لا يجتمعان.
سوف (1) :
مدينة بالقرب من درجين وبقرب نفطة (2) من البلاد الجريدية ولا يعرف عليها عمران إلا جبال ورمال يصاد بها الفنك الجيد الذي لا يوجد لجلده نظير في الدنيا، وأهل تلك البلاد يخبرون أن قوماً أرادوا المعرفة بما وراء بلاد قسطيلية، مثل توزر وغيرها فأعدوا الأزودة والمياه وتاهوا في تلك الصحراء والرمال أياماً فلم يروا أثراً لعمران وهلك أكثرهم في تلك الرمال.
سورية:
اسم الشام، وفي بعض كلام هرقل حين دخل المسلمون الشام وتغلبوا على أكثر مدنه، فهرب هرقل إلى انطاكية، وانتقل من بلد إلى بلد فراراً أمام المسلمين أنه التفت إلى بلاده فقال: السلام عليك يا سورية سلام من لا يراك أبداً، والقصة مشهورة نقلها أصحاب فتوح الشام (3) .
السيالة (4) :
قرية جامعة بينها وبين المدينة النبوية تسعة وعشرون ميلاً (5) على طريق مكة، وهي الروحاء (6) وفيها أهل وسوق صغير وماؤها من الآبار، وبينها وبين ملل تسعة أميال وملل أدنى إلى المدينة، ويباع بالسيالة شواهين وصقور، ومن السيالة إلى الرويثة أربعة وثلاثون ميلاً، ومن الرويثة إلى العرج أربعون ميلاً.
سيحان (7) :
وسيحون، نهر يحيط بأرض كوش وهو نهر أذنة من الثغر الشامي، ويصب في البحر الرومي، ومخرجه من نحو ثلاثة أيام من مدينة ملطية، ويجري في بلاد الروم، وليس للمسلمين عليه إلا مدينة أذنة بين طرسوس والمصيصة.
سيراف:
في بلاد فارس ومن مدن سابور منها أبو سعيد السيرافي شارح كتاب سيبويه، وهي (8) على ساحل البحر الفارسي كبيرة بها تجار مياسير، وأهلها مولعون بكسب المال واستجلابه على أي وجه أمكن، وهم أكثر عباد الله تعالى تغرباً ومخراً (9) إلى الآفاق حتى إن الواحد منهم يتجول عشرين عاماً لا يرجع إلى أهله ولا يكترث بمن خلفه.
وسيراف فرضة فارس ومبانيها بالساج، وأبنيتهم طبقات مشبكة، ولأهلها همم في نفقات الأبنية وضروب التحسين والتحصين وفواكههم ومياههم تصل إليهم من جبل مشرف عليهم يطل على البحر، وليس بها زرع ولا ضرع، وهي شديدة الحر جداً ولها منبران أحدهما نجيرم وهي مدينة على البحر، وسيراف مرفأ للسفن ومنها يتجهز التجار إلى عدن وعمان وديبل والصين وغيرها من النواحي.
السيارة (10) :
جزيرة في البحر الأعظم من عمل صاحب كاوران (11) التي في البحر الأعظم، والبحريون مجمعون على إثبات الجزيرة السيارة ومنهم من يزعم أنه رآها مراراً كثيرة لا يشكون فيها، وهي جزيرة فيها جبال وشجر وعمارة فإذا هبت الريح من المغرب صارت إلى الشرق، وإذا هبت من الشرق صارت إلى المغرب، هذا دأبها ويذكرون أن حجارتها شفافة خفيفة جداً تكون زنة الحجر الضخم الذي يقدر مثله بقناطير عشرة أرطال وأقل، ويحمل الإنسان القطعة الكبيرة من جبالها على عاتقه ولا يجد لذلك ثقلاً.
__________
(1) لم يذكرها إلا صاحب الاستبصار: 159 وعنه ينقل المؤلف، وقد ذكر البكري: 49 بعض المعلومات عن فقدان العمران وراء قسطيلية ولكنه لم بذكر بلداً باسم ((سوف)) .
(2) ص ع: نقزاوة.
(3) فتوح الأزدي: 213.
(4) معجم ما استعجم 3: 769، ويقول الإدريسي: 50 وهو - أي السيالة - منزل قليل العامر فيه آبار ماء مشروبة.
(5) عند الهمداني: 184، أن بين المدينة والسيالة 23 ميلاً.
(6) كذا في ص ع؛ والروحاء السيالة على طريق الذاهب من المدينة إلى مكة، وبينهما 24 ميلاً.
(7) انظر التنبيه والإشراف: 58، وابن رسته: 91، وياقوت (سيحان) ، والكرخي: 47 وأكثره عن البكري (مخ) : 41.
(8) عن نزهة المشتاق: 126، وانظر ابن حوقل: 248، والكرخي: 31.
(9) ص: تجرداً، ع: نخراً، نزهة المشتاق: نخوة.
(10) البكري (مخ) : 38، وانظر ابن الوردي: 77.
(11) كذا في ص ع؛ وعند البكري: طاوران.(1/333)
فراغ(1/334)
حرف الشين
الشام (1) :
مهموز الألف ولا يهمز، في الإقليم الخامس، قيل سمي شاماً لشامات هناك حمر وسود، ولم يدخلها سام بن نوح قط، فانه قال بعض الناس: إنه أول من اختطها فسميت به، واسمه سام بالسين، فعربت فقيل: شام، بالشين المعجمة، وكانت العرب تقول: من خرج إلى الشام نقص عمره وقتله نعيم الشام، وأنشد ثعلب:
يقولون إن الشام يقتل أهله ... فمن لي إن لم آته بخلود
تعرق آبائي فهلا صراهم ... عن الموت أن لم يشئموا وجدودي وقيل: إن الناس لما تفرقت لغاتهم ببابل تيامن بعضهم يمين الشمس وتشاءم بعضهم شمالها، فسميت بهذا الاسم.
والشام بلاد كثيرة وكور عظيمة وممالك، وقسمت الأوائل الشام خمسة أقسام: الأول فلسطين وفيها غزة والرملة، والشام الثانية مدينتها العظمى طبرية والغور واليرموك، والثالثة الغوطة ومدينتها العظمى دمشق، ومن سواحلها طرابلس الشام، والرابعة أرض حمص وقنسرين ومدينتها العظمى حلب وساحلها انطاكية، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر بلادها مفسراً على الأبواب، والشام اسم لجميع ذلك من البلاد والكور، وأول طول الشام من ملطية إلى رفح.
الشاش:
مدينة (2) جليلة من عمل سمرقند وقصبتها بنكث (3) ، وله مدن كثيرة، ويتصل ببلاد الشاش بلد ايلاق، وهما جميعاً لا فصل بينهما، عمارتهما متصلة متكاثفة لا تنقطع، فمقدار عرضهما مسيرة يومين في ثلاثة أيام، وليس بخراسان وما وراء النهر كورة ولا إقليم على مقدارها في المساحة أكثر منابر وقرى عامرة من هذه الناحية، وآخر حدودها انتهى إلى وادي الشاش الذي يقع في بحيرة خوارزم.
والشاش في أرض مستوية لا جبل فيها ولا أرض مرتفعة، وبساتينها ومتنزهاتها كثيرة، وهي من الثغور التي في ناحية الترك، ولأهلها سطوة ومنعة.
ومن الشاش أبو بكر محمد بن علي الشاشي القفال (4) ، كان إماماً، وله مصنفات، وعنه انتشر فقه الشافعي فيما وراء النهر.
وكان محمد بن أحمد الشاشي ورعاً، روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما ألقي إبراهيم الخليل عليه السلام في النار قال: حسبي الله ونعم الوكيل، فما احترق منه إلا موضع الكتاف ".
الشاشين (5) :
جزيرة من الجزائر التي في البحر المحيط الموازية
__________
(1) قارن بياقوت (الشام) .
(2) الشاش: اسم الكورة واسم لمدينة هي التي تسمى اليوم طشقند القديمة، كما أن هذه المدينة نفسها هي التي تسمى ((بنكث)) ؛ وانظر عن الشاش: ابن حوقل: 416، والكرخي: 184، والمقدسي: 276، وياقوت (الشاش) ، وآثار البلاد: 538.
(3) ص ع: نيكث.
(4) ابن خلكان 4: 200، وفي احاشية مصادر أخرى لترجمته.
(5) انظر آثار البلاد: 539.(1/335)
لخط الأندلس الأقصى، وهي مجاورة لبلد افرنجة والصقالبة، وطولها مسيرة عشرين يوماً، وهي كثيرة الخيل والماشية، وهي مخصبة من السلت والخرطال، وهي قليلة القمح والعسل وليس بها كرم، واللحم أكثر شيء عندهم يباع الكبش الكبير بثلاثة قناشير، والبقرة الجيدة بعشرين قنشاراً، وإذا استجادت المرأة منهم الصوف مشطت الشاة كل صباح ودهنت صوفها بشحم الخنزير فيلين الصوف ويأتي كالحرير فيتخذون منه الثياب الفيروزجية المستعملة في بلاد افرنجة، وأهلها وإن كانوا شجعاناً فليسوا بفرسان على كثرة خيلهم، وهم ينزلون عند اللقاء، ولباسهم ضيق مفرج كلباس الجليقيين، ولا بد لكل واحد منهم، شريفاً كان أو وضيعاً، من طوق يكون عرضه قدر أربع أصابع وطوله قدر ثلاثة أذرع، فإن كان شريفاً كان منسوجاً بالذهب وكذلك جميع تفاريج ثيابه، وليس لأكلهم حد ولا لنومهم وقت معلوم، ويقومون في الليل مرتين وثلاثاً فيأكلون ويشربون، وليس في الأرض أحد أحب في حلي الذهب من الشاشين، فإن الرجل منهم لا يكاد يخلو من سواري ذهب لا يفارقه فإن ضعف عنهما فواحد، فإن دار عليه غرم أو نابته نائبة أو مال باع داره وعقاره ورقيقه وماشيته ولم يبع سواريه ولا فارقهما.
ومن الغريب بجزيرة الشاشين (1) الطائر الذي يسمونه ماركروه، ومعناه في لسانهم المتخلق في البحر، وذلك أنه ينبت في هذه الجزيرة جنس من الشجر على شاطئ البحر، فإذا انهارت الأجراف هناك وسقط في البحر لم يزل يضطرب في الأمواج حتى يعلوه طخاً أبيض في خلق بيض الطائر، ثم لا يزال كذلك حتى ينفرج عن فرخ طائر وصورته ملصق الرجلين والمنقار في ذلك العود ثم يكتسي ريشاً وتنفصل رجلاه ومنقاره عن ذلك العود فيصير في الأحياء إلا أنه لا يفارق الماء، وطيرانه مع سطح الماء، فإن فارق الماء دقيقة مات، ولذلك لا يصاد حياً لأنه إنما ينصب له هنالك عند جزر الماء فيعاوده الماء في الشباك.
ويقال إن غليالم أتي إليه بعود قد تعلقت فيه جملة من هذا البيض فأمر بقبة كبيرة، فملئت بماء البحر، وطرح فيها العود ثم ترك على الصفة التي ذكرنا فتحولت الطير من العود وصارت في الماء داخل القبة فوقف على ذلك مشاهدة، وهو طائر أسود يشبه الطائر الذي تسميه العامة الغطاس.
شابل:
جزيرة في البحر الصنفي معمورة مجتمعة الأهل، فيها حنطة وأرز وموز كثير وقصب سكر، وبها سمك كثير لذيذ الطعم يغني أكله عن اللحم.
شاوة (2) :
جزيرة بقرب البحر الكبير المحيط بالجهة الغربية من كرة الأرض، يقال: إن ذا القرنين نزلها قبل أن تدخلها الظلمة وبات بها، وكانوا يرمون بالحجارة، وأوذي بذلك جماعة من أصحابه.
شارية (3) :
مدينة من مدن طبرستان، وهي المدينة العظمى هنالك التي كان ينزل بها الولاة، وبها نزل محمد بن طاهر وكذلك سليمان أخوه بعده، ولديها بناء حسن لم ير مثله، وهما مدينتان متقابلتان بينهما أربعة فراسخ، الواحدة في سفح الجبل والثانية مما يلي البحر.
الشاقة (4) :
بلدة بجزيرة صقلية على ساحل البحر مشرفة بها عمارات وأسواق ومتاجر وديار كثيرة، وهي أم الأقاليم التي تليها والأعمال التي حولها، ومرساها أبداً معمور، والسفر إليها من إفريقية وطرابلس أبداً كثير. وعملها هو عمل قلعة البلوط، وقلعة البلوط (5) حصن منيع عالي (6) الذرى شامخ صعب الارتقاء له بواد شريفة خصيبة وضياع طيبة وأصناف من الثمار غريبة. وبها عيون وأودية عليها كثير من الأرحاء، وكان بها خلق كثير فانتقلوا إلى الشاقة ولم يبق به إلا رجال قلائل يحرسونه عن من يريده، ومن هذه القلعة إلى البحر اثنا عشر ميلاً، ومنه إلى الشاقة سبعة أميال، ومن الشاقة إلى مازر (7) مرحلتان.
شامة:
بالميم، جبل على بريد من مكة، وهو الذي عناه بلال رضي الله عنه في قوله (8) :
__________
(1) ص ع: الشاشيين.
(2) نزهة المشتاق: 73 (ساوة) .
(3) هي ((سارية)) - بالسين المهملة عند ياقوت -، وهي إلى الشرق من آمل. وانظر المقدسي: 359، وهي كذلك عند سائر الجغرافيين مثل ابن حوقل والكرخي، ولم يثبتها أحد بالشين.
(4) الادريسي (م) : 32 (Sciacca) .
(5) Caltabellotta.
(6) ع: عال.
(7) ص ع: هارز، هازر.
(8) انظر معجم ما استعجم (هرشي) .(1/336)
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل
شانس:
مدينة في بلاد الإفرنج بالقرب من مدينة بلدينة، وهي مبنية بالصخر الجليل حصينة لها نهر، وكانت لها قنطرة مبنية بالصخر العظيم، فتغلب عليها المجوس وهدموا بعض المدينة والقنطرة فلم يبق منها إلا رجلها وبرجان اتخذا على جنبتي القنطرة للمنع منها، ونهرها كثير السمك ويخرج منه حوت مفرط الكبر يسمونه لوح وهو لطيف الغذاء مريه لا يضر بالمرضى، وأحواز مدينة شانس تنتهي في الجوف إلى البحر المحيط.
شابه:
بالباء، جبل معروف.
وشابه أيضاً من مدن زغاوة بأرض السودان، وهي صغيرة شبيهة بالقرية الجامعة، وأهلها قليلون، وقد انضوى أكثر أهلها إلى مدينة كوكو، وبينهما نحو ست عشرة مرحلة. وأهل شابة يشربون الألبان، ومياههم زعاق وعيشهم من اللحوم الطرية والمقددة، ويتصيدون الأحناش كثيراً ويطبخون بها بعد سلخها وقطع رؤوسها وأذنابها، والجرب لا يفارق أعناق هؤلاء الزغاويين وهم مشهورون به، وبه يعرف الزغاوي في جميع الأرض، ولولا أنهم يأكلون الأحناش لتقطعوا جذاماً، وهم عراة، يسترون عوراتهم فقط بالجلود المدبوغة من الإبل والمعز، ولهم في هذه الجلود التي يستترون بها ضروب من القطع معلومة وأنواع محكمة.
شاطبة:
بالأندلس، مدينة جليلة متقنة حصينة لها قصبتان ممتنعتان، وهي كريمة البقعة كثيرة الثمرة عظيمة الفائدة طيبة الهواء، وهي قريبة من جزيرة شقر، ويعمل بها كاغد لا نظير له بمعمور الأرض يعم المشرق والمغرب.
وفي شاطبة يقول الشاعر يذمها:
شاطبة الشرق شر دار ليس لسكانها فلاح
الكسب من شأنهم ولكن أكثر مكسوبهم سلاح
وفيها بنيان قديم من عمل الأول يقولون له الصنم، وفيه يقول شاعرهم:
بقية من بقايا الروم معجبة أبدى البناة لنا من أمرها حكما
لم ندر ما أضمروا فيها سوى أمم من الأوائل سموه لنا صنما
كالمبرد الفذ ما أخطا مشبهه حقاً لقد برد الأيام والأمما
وهي حاضرة آهلة بها جامع ومساجد وفنادق وأسواق، وقد أحاط بها الوادي.
الشاهجان:
من كور سابور، ويقال: مرو الشاهجان.
شالوس:
مدينة بين جرجان وطبرستان، فيها منبر وأسواق، وعلى فرسخ منها حد الديلم.
شبام:
بكسر أوله وقد يفتح، جبل لهمدان باليمن، قال ابن الكلبي: شبام قبيلة، منسوبون إلى جبل وليس بأب ولا أم.
ومن مأرب إلى مدينة شبام من بلاد حضرموت أربع مراحل.(1/337)
وشبام حصن منيع جامع آهل في قنة جبل شبام، وهو جبل منيع جداً لا يرتقى إلى أعلاه إلا بعد جهد، وفي أعلاه قرى كثيرة عامرة ومزارع ومياه جارية وغلات.
ولما وقع الزلزال باليمن سنة إحدى عشرة ومائتين، انهدمت شبام جميعاً إلا دار إبراهيم بن الصباح، وكان كثير الصدقة، فيقال إن ذلك من قبل الصدقة.
شبرو:
موضع على مقربة من تبسة من البلاد الإفريقية، به كانت وقيعة للشيخ أبي محمد عبد الواحد بن الشيخ أبي حفص ملك إفريقية على يحيى بن إسحاق المسوفي الميورقي في آخر ذي القعدة من سنة أربع وستمائة، وذلك أن صاحب المغرب محمد بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الملقب بالناصر لما طلع إلى مراكشه من حركة إفريقية، وقد طرد عنها يحيى بن إسحاق هذا، قدم على البلاد هذا الشيخ أبا محمد عبد الواحد وعلم أنه لا يسد ثغرها سواه، فبقي عبد الواحد يصلح أمر إفريقية ويذب عنها ويحيى بن إسحاق منزو عنه في أطراف إفريقية، فلما علم بانفصال الخليفة عنها طمع في العود إليها، فكاتب القبائل واستنفر الأعراب ووعدهم ومناهم، فاجتمعت له جموع كثيرة فبسطوا أيديهم في الأطراف، وعاثوا في البلاد، وبلغ ذلك صاحب إفريقية فخرج من تونس بأجناده وموحديه فنزل المحمدية، وكاتب من أطاعه من العرب، وجد به السير حتى وصل أحواز تبسة، ولم يصله من العرب إلا القليل، وعلم يحيى بن إسحاق بإقباله، فزحف إليه بجموعه، فالتقى الجمعان بشبرو ووقع بينهم قتال كثير، وحمل يحيى على قلب عسكر الموحدين فخلي له، وفي رجوعه طعنه رجل من عبيد المخزن بالرمح في فخذه، فأنفذ الرمح إلى بداد السرج، وكاد يسقط، فجاءوا أصحابه وخلصوه، وحملت أيضاً ميمنته على ميسرة الموحدين فأزالوها نحو العشرة أميال وكاد الخلل يظهر، ولما رجع يحيى بن إسحاق مطعوناً حملت ميسرة الموحدين على جمع الميورقي فهزموهم نحو العشرين ميلاً، وكان الشيخ أبو محمد عبد الواحد في القلب فحمل بأصحابه على من يليهم فتمت عليهم الهزيمة، ووقع في الموارقة القتل والنهب، وكان ذلك سبب الفتح بعد أن أتى القتل على جملة من أصحاب يحيى، وانساب يحيى في جملة من أصحابه طريداً جريحاً على إكاف لا يلوي على شيء، ورجع الشيخ أبو محمد مظفراً غانماً، وكانت الهزيمة من أول الزوال إلى غروب الشمس وحال بينهم الليل، وفقد من جموع الموارقة نحو الخمسمائة وأخذت لهم نحو مائة وخمسين فرساً ونحو ألفي جمل بحمولتها.
الشحر:
بكسر أوله وإسكان الحاء المهملة، هو شحر عمان، وهو ساحل اليمن، وهو ممتد بينها وبين عمان.
وأرض الشحر متصلة بأرض حضرموت، وفيها قبائل مهرة، وهي دار عاد الأولى، الذين أرسل الله تعالى إليهم نبيهم هوداً عليه السلام، وكانوا ثلاث عشرة قبيلة، وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وكان الملك بعد نوح عليه السلام تأثل في عاد الأولى قبل سائر الممالك، وذلك قوله تعالى: " واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله " قيل: كانوا في هيئة النخل طولاً، وكانوا في القوة واتصال الأعمار بحسب ذلك، وآثارهم بالشحر ومواضع مساكنهم تدل على عظم أجسامهم، وكان عاد جباراً بعيد العمر، وتزوج ألف امرأة، ورأى من صلبه أربعة آلاف ولد، وعاش ألف سنة ومائتي سنة، وابنه شداد هو الذي بنى إرم ذات العماد، وهذه عاد الثانية، إذ قال تعالى في الأولى: " أهلك عاداً الأولى "، وقال في هذه الثانية: " ألم تر كيف فعل ربك بعاد. إرم ذات العماد "، وبلاد عاد: الشحر وحضرموت والأحقاف، فلما سخط الله تعالى عليهم جعلها مفاوز، وكانت أخصب البلاد.(1/338)
والشحر مدينة كبيرة وليس بها زرع ولا ضرع، ويكون بها العنبر، وشجرها الكندر، ومنها يحمل إلى الآفاق، واللاك بها كثير.
والإبل المنتجة عند هؤلاء العرب لا يعدل بها شيء في سرعة جريها ومن غريب ما ينسب إليها أنها تفهم الكلام وتعلم ما يراد منها بأقل أدب تعلمه، ولها أسماء إذا دعيت بها أجابت بلا تأخر. وقصبة أرض مهرة تسمى الشحر، ولسان مهرة مستعجم جداً لا يكاد يفهم، وهو اللسان الحميري في القديم، وهم أكثر أهل الأرض رواحل، وجل مكاسبهم الإبل والمعز، والسمك يصاد في ذلك البحر وبلاد عمان، وعندهم حوت صغير جداً يصاد ويشمس وتعلف به الدواب والإبل. وأهل مهرة لا يعرفون الحنطة ولا خبزها إنما أكلهم السمك وشربهم الألبان وقليل الماء، قد اعتادوا ذلك وألفوه فلا يعدلون عنه، ومن تغرب منهم فأكل الحنطة تألم وربما مرض. وطول بلاد مهرة تسعمائة ميل، وهي كلها رمال سيالة والرياح تسفيها، ومن آخر بلاد الشحر إلى عدن ثلثمائة ميل.
وفي هذه المدينة أشجار اللاك والكندر، وهي أشجار مثل أشجار التوت إلا أنها لا تورق بل تحمل أغصانها كلها الكندر.
شجس:
قرية بالأندلس قريبة من بطرير وهي قرية جامعة مفيدة، وهي قريبة من شاطبة.
شذونة:
بالأندلس، وهي كورة متصلة بكورة مورور، وعمل شذونة خمسون ميلاً في مثلها، وهي من الكور المجندة، نزلها جند فلسطين من العرب.
وكورة شذونة كورة جليلة القدر، جامعة لخيرات البر والبحر، كريمة البقعة عذية التربة، تغيض مياهها فلا تذوي مع المحل ثمارها، وقد لجأ إليها عامة أهل الأندلس سنة ست وثلاثين
ومائة. وكانت الأندلس قد قحطت ستة أعوام.
ومن كور شذونة شريش وغيرها، وفيها كانت الهزيمة على لذريق حين افتتحت الأندلس سنة ست وتسعين، وبقرب شذونة موضع يعرف بالجبل الواسط، وهو جبل فيه آثار للأول، وفي شق صخرة داخل كهف فيه فأس حديد متعلق من الشق الذي في الصخرة تراه العين وتلمسه اليد، فمن رام إخراجه لم يطق ذلك، وإذا رفعته اليد ارتفع وغاب في شق الصخرة ثم يعود إلى حالته؛ ويذكر مشايخ كور شذونة أن النار أوقدت على الموضع ورش بالخل لينكسر ويوصل إلى استخراج الفأس فلم يقدر على ذلك وأعضلهم أمره، وقرنت الثيران في بعض الأزمنة وجعلت عجلتان وشد بهما طرفا حبل وثيق قد ربط في الفأس، وحملوا على الثيران لينقلع الفأس فلم يستطع ذلك. قالوا: وأطيب العنبر العربي إنما يوجد بساحلها، وبساحل شذونة يوجد الحوت التن لا في غيره من سواحل الأندلس، فيظهر في أول شهر مايه، لا يرى قبل هذا الشهر، فإنه يخرج من البحر المحيط فيدخل إلى البحر المتوسط الذي يسمى البحر الرومي، فيصاد مدة ظهوره أربعين يوماً، ثم لا يظهر إلى مثل ذلك الوقت من العام الآخر، وبساحل شذونة المقل الذي يعظم جماره حتى يكون قلبه مثل قلب النخل، وكانت ترد منه الغرائب على الخلفاء، وكانت جباية شذونة في أيام الأمير الحكم بن هشام خمسين ألفاً وستمائة.
شرمساح:
مدينة في ضفة النيل الشرقية من بلاد مصر، وهي مدينة جليلة لكنها ليست بالكبيرة ولها سوق جامعة.
الشرف:
ماء لبني كلاب، وقيل لباهلة.
والشرف أيضاً من سواد اشبيلة بالأندلس، وهو جبل شريف البقعة كريم التربة دائم الخضرة، فراسخ في فراسخ طولاً وعرضاً لا تكاد تشمس منه بقعة لالتفاف زيتونه واشتباك غصونه، وزيته من أطيب الزيوت، كثير الريع عند العصر لا يتغير على(1/339)
طول الدهر، ومن هناك يتجهز به إلى الآفاق براً وبحراً. وكل ما استودع أرض اشبيلية وغرس في تربتها نما وزكا وفضل وجل، ويقال: إن في الشرف ثمانية آلاف قرية عامرة وديارها حسنة، وبين الشرف واشبيلية ثلاثة أميال، وسمي بذلك لأنه مشرف من ناحية اشبيلية ممتد من الجنوب إلى الشمال، وهو كله تراب أحمر، وشجر الزيتون فيه من هذا المكان إلى قنطرة لبلة.
شريش:
من كور شذونة بالأندلس، بينها وبين قلشانة خمسة وعشرون ميلاً، وهي على مقربة من البحر، يجود زرعها ويكثر ريعها، وبين المغرب والقبلة من شريش حصن روطة على شاطئ البحر، بينهما ستة أميال، وهو موضع رباط ومقر للصالحين يقصد من الأقطار، وبروطة هذه بئر خصت بماء لا يعلم مثله في بقعة، وهي بئر أولية قديمة البنية، ينزل المرء فيستقي الماء بيده حيث انتهى من البئر، فكلما كثر البشر بحصن روطة واجتمعت إليه المرابطة طما الماء في البئر وزاد حتى يستقى من رأس البئر باليد دون معاناة ولا مشقة، فإذا قل الناس بها وتفرقوا نضب الماء حتى يكون بآخر درك.
وشريش متوسطة حصينة حسنة الجهات قد أطافت بها الكروم الكثيرة وشجر الزيتون والتين، والحنطة بها ممكنة.
شرشارة:
قلعة في الهند كانت مستقر ملك من ملوكهم، وهي من جملة ما فتحه محمود، سلطان خراسان، في غزاته المشهورة سنة ثمان وأربعمائة، فتحها بعد امتناعها من قبل على من رامها وغنم جماعة المسلمين جميع أموالها وسبوها وتركوها عبرة لمن أبصرها.
شرشال:
مدينة في المغرب في ناحية برشك بينهما عشرون ميلاً، وهي متحضرة بها مياه جارية وآبار عذبة وفواكه كثيرة وسفرجل عظيم الجرم ذو أعناق كأعناق القرع الصغار، وهو غريب في ذاته، وبها كروم، وما دار بها بادية لأهلها مواش وأغنام كثيرة، والنخل عندهم كثير والعسل ممكن، وأكثر أموالهم الماشية، ولهم من زراعة الحنطة والشعير ما يزيد على الحاجة، ومن شرشال إلى جزائر بني مزغنا سبعون ميلاً.
وبشرشال آثار للأول، وأظنها الآن غير مسكونة، وفيها بنيان عجيب يسمى محراب سليمان عليه السلام قد علا في الهواء، ويقابلها من الأندلس مرسى لقنت.
شريرة:
جزيرة في بحر الهند تسمى أرض الذهب طولها سبعمائة فرسخ، وشجرها البقم والكافور والعود، وفيها ثمر يسمى درنيك يأكلونه، وثمر آخر على صفة الرمان وليس به وهو ألذ منه وأطيب، وشجر الرمان فيها كثير، وفي هذه الجزيرة أكثر من عشرين جنساً من الموز.
شروان:
هي إحدى مدن ارمينية، قالوا: والصخرة في قول الله تعالى: " إذ أوينا إلى الصخرة " هي صخرة شروان والبحر بحر جيلان، ومجمع البحرين: من بحر فارس والروم، قاله قتادة، قال غيره: بحر إفريقية، وخرق الخضر السفينة في بحر رادس، والملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصباً الجلندى بن الجلندى، وقتل الغلام بطنبذة وهي المحمدية، ومن ذلك الموضع فارق موسى عليه السلام.
وكان الروس وهي أمة كبيرة لا تنقاد إلى ملك ولا إلى شريعة، وفيهم تجار يختلفون إلى ملك البرغز، فلما كان بعد الثلثمائة ورد لهم نحو من خمسمائة مركب، في كل مركب مائة نفس، فدخلوا خليج نيطس المتصل بنهر الخزر، وهنالك رجال لملك الخزر مرتبون بالعدد القوية، يصدون من يرد من ذلك البحر ومن يرد من ذلك الوجه من البر الذي يتشعب من بحر الخزر ويتصل ببحر نيطس، لأن بوادي الترك الغز ترد إلى ذلك البر فتشتي هنالك، فربما جمد هذا الماء المتصل من نهر الخزر إلى بحر نيطس فتعبر الغز عليه بخيولها وهو ماء عظيم فلا ينخسف من تحتهم لشدة استحجاره، فتغير على بلاد الخزر، فربما(1/340)
خرج إليهم ملك الخزر إذا عجز من هنالك من رجاله المرتبين عن دفعهم فمنعهم العبور على ذلك الجمد، ودفع عن مملكته، وأما في الصيف فلا سبيل للترك إلى العبور عليه، فلما أن وردت مراكب الروس إلى رجال الخزر المرتبين على فم الخليج، راسلوا ملك الخزر في أن يجتازوا بلاده وينحدروا في نهره فيدخلوا بحر جرجان وطبرستان وغيرهما من الأعاجم، على أن يعطوه النصف مما يغنمون من هنالك من الأمم على ذلك البحر، فأباحهم ذلك، فدخلوا الخليج واتصلوا بمصب النهر وصاروا مصعدين في تلك الشعبة من الماء حتى وصلوا نهر الخزر وانحدروا فيه إلى مدينة إثل واجتازوا بها وانتهوا إلى النهر ومصبه إلى بحر الخزر ومصب النهر إلى مدينة إثل، وهو نهر عظيم وماء كثير، فانتشرت مراكب الروس في هذا البحر وطرحت سراياها إلى الجبل والديلم وبلاد طبرستان وسواحل جرجان وبلاد النفاطة وبحر بلاد أذربيجان، فسفكت الروس الدماء واستباحت النسوان والولدان وغنمت أموالاً وشنت الغارات وأحرقت، فضج من حول هذا البحر من الأمم لأنهم لم يكونوا يعهدون في قديم الزمان عدواً يطرقهم فيه، وإنما تختلف فيه مراكب التجار والصيد، وكانت لهم حروب مع الجيل والديلم ومع قائد لابن أبي الساج وانتهوا إلى ساحل النفاطة من مملكة شروان، فكانت الروس تأوي عند رجوعها من سواحل البحر إلى جزائر تقرب من النفاطة وعلى أميال منها، وكان ملك شروان يومئذ علي بن الهيثم، فاستعد الناس وركبوا في قوارب ومراكب التجار وساروا نحو تلك الجزائر، فمالت عليهم الروس فقتل من المسلمين وممن غرق ألوف، وأقام الروس شهوراً كثيرة في هذا البحر على ما وصفنا، ولا سبيل لأحد ممن جاور هذا البحر من الأمم إليهم، والناس متأهبون لهم حذرون منهم، لأنه بحر غاص بمن حوله من الأمم، فلما غنموا وسئموا مما هم فيه ساروا إلى فم نهر الخزر ومصبه، فراسلوا ملك الخزر وحملوا إليه الأموال والمغانم على ما اشترطه عليهم وملك الخزر لا مراكب له ولا لرجاله بها عادة ولولا ذلك لكان على المسلمين منه آفة عظيمة وعلمت بشأنهم اللارسية ومن في بلاد الخزر من المسلمين فقالوا لملك الخزر: خلنا وهؤلاء القوم فقد أغاروا على بلاد إخواننا المسلمين وسفكوا الدماء وسبوا النساء، فلم يمكنه منعهم، وبعث إلى الروس فأعلمهم بما عزم عليه المسلمون من حربهم، وعسكر المسلمون وخرجوا يطلبونهم منحدرين مع الماء، فلما وقعت العين على العين خرجت الروس على مراكبها وصافوا المسلمين، وكان مع المسلمين من النصارى المقيمين بمدينة إثل، وكان المسلمون في نحو من خمسة عشر ألفاً بالخيول والعدد، وأقامت الحرب بينهم ثلاثة أيام، ونصر الله المسلمين فأخذهم السيف فمن قتيل وغريق، ونجا منهم نحو خمسة آلاف ركبوا في المراكب إلى ذلك الجانب مما يلي برطاس، فتركوا مراكبهم وتعلقوا بالبر، فمنهم من قتله أهل برطاس، ومنهم من وقع إلى بلاد البرغز من المسلمين فقتلوهم، وأحصي من قتلاهم على شاطئ نهر الخزر نحو من ثلاثين ألفاً، ولم يكن للروس من تلك السنة عودة إلى ما ذكرنا.
شراف:
مبني على الكسر مثل: حذام وقطام، موضع كانت فيه وقعة لطيء على بني ذبيان، وهي من أعمال المدينة.
ولما توجه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في الجنود إلى العراق، في خلافة عمر رضي الله عنه، نزل فيه، فأقام بها ثم كتب إليه عمر رضي الله عنه أن يرتفع إلى زرود فأقام بها شتوة، ثم كتب إليه أن انزل شراف واحذر على من معك من المسلمين، إلى أن كان من أمر القادسية ما كان.
شروسان:
مدينة بمقربة من مهران السند، بينها وبين المنصورية أربع مراحل، وهي مدينة جليلة المقدار كثيرة العيون والأنهار، وأسعارها رخيصة ونعمها كثيرة ولأهلها كفاف مال وتجاراتهم حسنة، والقاصد إليهم كثير، والبضائع إليهم نافقة.(1/341)
شكلة (1)
جزيرة في البحر الشامي، وهي قريبة من نابل (2) الساحلية، وهي جزيرة خصيبة تسمى ميور (3) ، ويقال للجزيرة شكلة ميور، وبينها وبين نابل ثلاثون ميلاً، وبالقرب من مرسى البوالص من جزيرة صقلية قلعة تسمى شكلة (4) أيضاً وهي من أجل القلاع وأفضل البقاع، وهي من البحر على ثلاثة أميال وهي بادية وحاضرة وبها أسواق وتجارات وخيرات وجنات، ويسافر إليها في البحر من بلاد قلورية ومن إفريقية ومالطة وغيرهما، وباديتها طيبة، وبها أنهار غزيرة عليها أرحاء، ومن الغرائب أن بها عيناً تعرف بعين الأوقات تجري في أوقات الصلوات وتجف في غير ذلك.
شلب (5)
من بلاد الأندلس، وهي قاعدة كورة اكشونبة، وهي بقبلي مدينة باجة، ولها بسائط فسيحة وبطائح عريضة، ولها جبل عظيم منيف كثير المسارح والمياه، وأكثر ما ينبت فيه شجر التفاح العجيب يتضوع منه روائح العود إذا أرسلت فيه النار.
وهي (6) في بسيط من الأرض عليها سور حصين، ولها جنات وغلات، وشرب أهلها من واديها الجاري إليها من جهة جنوبها وعليه أرحاء البلد، والبحر منها في الغرب على ثلاثة أميال ولها مرسى في الوادي وبها الإنشاء (7) ، والعود بجبالها كثير يحمل منها إلى كل الجهات.
والمدينة في ذاتها حسنة الهيئة بديعة البناء مرتبة الأسواق وأهلها وسكان قراها عرب من اليمن وغيرها وكلامهم بالعربية الصريحة، وهم فصحاء يقولون الشعر، وهم نبلاء خاصتهم وعامتهم، وأهل بوادي هذه البلدة في غاية من الكرم لا يجاريهم فيه أحد.
ومن شلب إلى بطليوس ثلاث مراحل، ومن شلب إلى مارتلة أربعة أيام.
وفي سنة خمس وثمانين وخمسمائة (8) في ربيع الآخر منها نازل ابن الرنق (9) صاحب قلمرية وما إليها من غرب الأندلس، مدينة شلب هذه، فلم يزل محاصراً لها إلى أن ضاق أهلها بالحصار وخافوا الغلبة عليهم فصالحوه على أن يخرجوا سالمين في أنفسهم ويتركوا البلد بجميع ما فيه من أموالهم وأثاثهم، فأجابهم إلى ذلك، ووفى لهم بما صالحهم عليه، ودخلها في الموفي عشرين من رجب هذه السنة. وبلغ أمر شلب إلى صاحب المغرب والأندلس المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن فامتعض لذلك وأنف منه وكبر عليه فاعترض جنوده، واستنفر وضم حشوده، واستعد الأسلحة وفرق الأموال، وخرج من مراكش قاصداً إلى الأندلس في وسط ذي الحجة من هذه السنة، واستمر سيره إلى أن وصل إلى رباط الفتح من مدينة سلا فأقام بها نحواً من ثلاثين يوماً إلى أن توافت الحشود وتكاملت القبائل، وورد عليه في أثناء مقامه برباط الفتح فتح فتح عليه في المغرب وهنئ به، وفيه يقول أبو بكر بن مجبر:
قلائد (10) فتح كان يذخرها الدهر ... فلما أردت الغزو أبرزها النصر القصيدة بطولها.
وتحرك المنصور من رباط الفتح في أخريات المحرم عام ستة وثمانين وخمسمائة، وركب البحر من قصر مصمودة في الثاني والعشرين من ربيع الأول، فأقام بطريف إلى أن تحرك منها في غرة ربيع الآخر، وسار إلى قرطبة وعقدت له الرايات بجامعها الأكبر، وفي ذلك يقول أبو بكر بن مجبر قصيدته المشهورة التي أولها (11) :
بشراي هذا لواء قل ما عقدا ... إلا ومد له الروح الأمين يدا
وأقبل النصر لا يعدو مناحيه ... فحيثما قصدت راياته قصدا
__________
(1) اسمها اللاتيني (Ischia) وتسمى اليوم (Ischia) ، الإدريسي (م) : 17، 30.
(2) هي المعروفة اليوم باسم نابلي (Napoli) .
(3) أي ما يقابل باللاتينية Iscla Major.
(4) هي Scicli عند كل من الأستاذين أماري ورتزيتانو.
(5) بروفنسال: 106، والترجمة: 129 (Silves) ، وقارن بآثار البلاد: 541.
(6) عن الإدريسي (د) : 179 - 180.
(7) سقط من ص ع.
(8) انظر البيان المغرب 3: 175 وما بعدها (تطوان) .
(9) ابن الرنق أو الرنك (ويأتي: الريق في بعض المصادر) هو سانشو (شانجه) الأول ملك البرتغال (ابن هنريكس) .
(10) ص ع: قلائل؛ البيان: دلائل.
(11) انظر البيان المغرب 3: 179.(1/342)
واستقبلته تباشير الفتوح وقد ... كادت تكون على أكتافه لبدا إلى آخر القصيدة وهي طويلة.
ثم تحرك من اشبيلية إلى قصر أبي دانس من غربي الأندلس فنزلوا على حكمه فاحتملوهم إلى مراكش، ورحل من قصر أبي دانس إلى حصن بلماله (1) ، فاستسلموا ورغبوا في الأمان على أن يتركوا الحصن ويسلموا في أنفسهم وينصرفوا إلى بلادهم، فأجيبوا إلى ذلك، وخلي سبيلهم فنهضوا إلى بلادهم، وانتهب جميع ما كان في الحصن ثم هدم، ثم قصد إلى حصن المعدن فافتتح وهدم، وبعد الفراغ من ذلك كان النهوض إلى شلب، فوصلها في ثاني جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وخمسمائة، فأحدقت الجيوش بها وأخذت بمخنقها ونصب عليها المجانيق وآلات الحرب، وجدوا في قتالها وبالغوا في نكاية أهلها، فطلبوا الأمان في أنفسهم على أن يسلموا المدينة ويخرجوا إلى بلادهم فأجيبوا إلى ذلك، وخرجوا منها في السادس والعشرين من جمادى الآخرة، وفي ذلك يقول أبو بكر بن مجبر قصيدته المشهورة التي أولها:
دعا الشوق قلبي والركائب والركبا ... فلبوا جميعاً وهو أول من لبى
وظلنا نشاوى للذي بقلوبنا ... نخال الهوى كأساً ويحسبنا شربا
إذا القضب هزتها الرياح تذكروا ... قدود الحسان البيض فاعتنقوا القضبا القصيدة. ثم أخذ المنصور في الرحيل إلى مراكش.
شلير (2) :
هو جبل الثلج المشهور بالأندلس، وهو جبل البيرة، وهو متصل بالبحر المتوسط، ينتظم بجبل ريه، ويذكر ساكنوه أنهم لا يزالون يرون الثلج نازلاً فيه شتاء وصيفاً، وهذا الجبل يرى من أكثر بلاد الأندلس ويرى من عدوة البحر ببلاد البربر.
وفي هذا الجبل أصناف الفواكه العجيبة، وفي قراه المتصلة به يكون أفضل الحرير والكتان الذي يفضل كتان الفيوم، وطوله يومان، وهو في غاية الارتفاع، والثلج به دائماً في الشتاء والصيف. ووادي آش وغرناطة في شمال هذا الجبل، ووجه الجبل الجنوبي مطل على البحر، يرى من البحر على مجرى ونحوه، وفيه يقول ابن صارة (3) واستغفر الله من كتب هذا الاستخفاف:
يحل لنا ترك الصلاة بأرضكم ... وشرب الحميا وهو شيء محرم
فراراً إلى نار الجحيم فإنها ... أمن علينا من شلير وأرحم
فإن كنت ربي مدخلي في جهنم ... ففي مثل هذا اليوم طابت جهنم
شلوبينية (4) :
قرية مسكونة على ضفة البحر بينها وبين المنكب عشرة أميال، ويجود فيها الموز وقصب السكر، ولعل الأستاذ أبا علي الشلوبيني (5) منسوب إليها. ويقال (6) شلوبينية تقابل من العدوة الأخرى مرسى مدينة مليلة، ويقطع البحر بينهما في مجريين.
شلف (7) :
نهر بالمغرب مشهور بقرب مليانة، وعليه مدينة قديمة أزلية فيها آثار أولية كانت تسمى شلف، وإليها ينسب هذا النهر وهي اليوم خراب.
شلطيش (8) :
بالأندلس، بقرب مدينة لبلة.
وهي جزيرة (9) لا سور لها ولا حظيرة، إنما هي بنيان متصل
__________
(1) ص ع: بلاله؛ وبلماله (Palmella) راجع بروفنسال، الترجمة: 131 الحاشية: 6.
(2) بروفنسال: 112، والترجمة: 137 (Sierra Nevada) واللفظ العربي للاسم مأخوذ من التسمية القديمة وهي (Solarius) أو (Solrius) .
(3) هو أبو محمد عبد الله بن صارة البكري، توفي سنة 507 بمدينة المرية (انظر ترجمته في ابن خلكان 3: 93 ومراجع أخرى في الحاشية) .
(4) بروفنسال: 111، والترجمة: 136 (Salobrena) وتقع في ولاية غرناطة على شاطئ المتوسط.
(5) عمر بن محمد بن عمر الأزدي الشلوبيني النحوي الأندلسي المشهور، توفي سنة 645 (انظر ابن خلكان 3: 498، وفي الحاشية ذكر لمصادر أخرى) .
(6) البكري: 99.
(7) عن الاستبصار: 171، وقارن بالبكري: 69 حيث يذكر أن مدينة (شلف) بها سوق عامرة.
(8) بروفنسال: 110، والترجمة: 135 (Saltes) .
(9) عن الإدريسي (د) : 178 - 179.(1/343)
بعضه ببعض، وبها دار صناعة الحديد الذي يعجز عن صنعته أهل البلاد لجفائه (1) ، وهي صنعة المراسي التي ترسي بها السفن وقد تغلب عليها المجوس مرات، ويحيط بجزيرة شلطيش البحر من كل ناحية إلا مقدار نصف رمية حجر، فمن هناك يجوزون لاستقاء الماء لشربهم، وطول الجزيرة نحو ميل وأزيد، والمدينة منها في جهة الجنوب، وهذه الجزيرة بازاء مدينة أونبة ومقدار المجاز بينهما أربعة أميال.
وفي صفة استدارة البحر بهذه الجزيرة يقول عبد الجليل بن وهبون من قصيدة يمدح بها المعتمد بن عباد:
ألم تر للجزيرة كيف أوفى ... عليها مثل ما انعطف السوار
أعد بها على شاطيه دستاً ... ومد يداً إليك بها يشار
فإن تقبل تحيته فأجدر ... فربما تواصلت البحار
تحيط كما يحيط بها ولكن ... لسمط الدر في العنق افتخار وكان بهذه الجزيرة بيع للأول واتخذت في الفتنة مدينة، ولها أرباض واسعة، وبها آبار عذبة قريبة الأرشية وبساتين حسنة وفيها أطيب الصنوبر، ولها مراع خصيبة لا تصوح وعيون ماء عذب تصلح بها الألبان والقطاني، ومن خاصتها الثريد النفيس.
ومدينة شلطيش مرفأ للسفن وركاب البحر، ومرساها يكن بكل ريح، وهي كثيرة السفن، وبها دار صناعة لإنشائها، ويسكنها جماعة من النصارى، ويكون طولها نحو أربعة أميال في عرض يسير.
شلم (2) :
بفتح أوله وثانيه وتشديده، اسم لبيت المقدس، وقال الهمداني: شلم: ايليا، وقد تعربها العرب فتقول: سلم، بالسين المهملة، قال الأعشى:
وقد طفت للمال آفاقه ... عمان فحمص فأوري شلم قال أبو عبيدة: أوري شلم: بيت المقدس، وروي شلم، بكسر الشين.
شلبطرة (3) :
بالأندلس، من بلاد الأذفونش، وهو حصن من حصون الأندلس من عمل قلعة رباح، كان الملك الناصر أبو عبد الله محمد بن المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ملك المغرب نزل عليها وحاصرها بالمجانيق الضخام والآلات الحربية حتى قهر أهلها وملكها، وذلك في أول سنة ثمان وستمائة، وكان نزل أولاً على حصن اللج فتملكه، ثم رجع الحصار كله على حصن شلبطرة، فنصب عليها المجانيق ورميت بالحجارة الصم الكبار، وطال حصارها إلى أن ضاق أهلها وأعياهم الأمر، فطلبوا أجلاً يستجلبون فيه ملكهم صاحب طليطلة وقشتيلة الأذفونش بن شانجه، فأعطوا ما طلبوا، فخرج قوم من ثقاتهم إلى طليطلة والتقوا مع ملكهم أذفونش بها أو بغيرها من بلاده وأعلموه. بما انتهوا إليه من الشدة وما بلغوا من الجهد والمشقة، وحملوا إليه بعض أحجار المجانيق التي يرمون بها، فعذرهم، ولم تكن عنده قدرة لدفع ما نزل بهم، ولا استطاع الدفاع عنهم، فأذن لهم في الخروج عنها، فرجعت ثقاتهم بذلك، فطلبوا الخروج مسلمين في أنفسهم فوفى لهم بذلك، ومكنوه من الحصن، وانفصل الناس عنها في صدر ربيع الأول من سنة ثمان وستمائة، وكان الحصار فيها إحدى وخمسين ليلة، ورغم الأذفونش وتنحى ولم يقدر في ذلك الوقت على شيء حتى استغاث بأهل ملته، وكاتب من قرب وبعد منهم وشكا إليهم ما دهاه من المسلمين، وحثهم على حماية دينهم ونصرة ملتهم، فاستجابوا له، وجاءوه من كل جهة وانثالوا عليه، فكان من وقيعة العقاب على الملك الناصر في عام تسعة وستمائة ما هو مذكور في موضعه.
ولما ملك الناصر حصن شلبطرة نفذت عنه المخاطبات بهذا الفتح، فمن فصل من ذلك خاطب به صاحب إفريقية حينئذ الشيخ المعظم أبا محمد عبد الواحد (4) ، وهذا كتابنا إليكم من منزل الموحدين
__________
(1) سقطت من ص ع.
(2) معجم ما استعجم 3: 807.
(3) بروفنسال: 108 والترجمة: 132 (Salvatierra) وراجع الخبر عن حصار شلبطرة (سنة 608) في البيان المغرب: 237 وما بعدها (تطوان) .
(4) ورد جانب هذه الرسالة في البيان: 238 - 239 وهي من انشاء ابن عياش.(1/344)
بمنزل أندوجر، ولما كان صاحب قشتالة أقرب من تعينت حربه داراً وأكثرهم مهما استطاع اضراراً (1) كان أولى من نوينا ووجب تقديم غزوه علينا، وكان المعقل المعروف بشلبطرة قد علقت به حبائل الصلبان، وضج من ناقوسه ما في جهاته الأربع من التكبير والأذان، مرقب الدو، وعقاب الجو، العلم المطل على الأعلام، والنكتة السوداء التي بقيت في بساط الإسلام، والخبأة الطلعة، الذي لا حال للمسلمين معه، قد جعلته النصرانية إلى كل غاية جناحاً، وأعدته إلى أبواب المعاقل والمدائن مفتاحاً، فاستخرنا الله تعالى على منازلته وقلنا هو يمين صاحب قشتالة إن قطعت قعد مقعد الذليل، ومظنة غيرة إن لم يتحرك لها، فقد قام على ضعفه أوضح دليل، ونحن في ذلك نبرأ من القوة والحول، ونتوكل على الله ذي الفضل والطول، فقبل النزول من السروج ووضع المهند والوشيج حباهم الله (2) بكل ضرب وجيع، وموت وحي سريع، وملكوا عليهم أرباضهم وكانت من الذروة إلى البطحاء، فأضرموها ناراً من جميع الأنحاء، ونسخوا فيها آية النهار بالظلماء، فألقوا يد الاستسلام، وذلوا لعزة الإسلام، ورغبوا في أمد يقيمون فيه الحجة على صاحبهم، فأذنا لرسلهم في التوجه إليه، لعلمنا أن ذلك أشد من وقع السيوف عليه، فحين إذ وافته رسلهم اعترف لهم بالصغار، وقلة القوة على الانتصار، وفارقوه على تسليم الدار، لمن له عقبى الدار، فنبذنا إليهم بأنفسهم احتقاراً، وساروا إلى قومهم يحملون هموماً طوالاً وآمالاً قصاراً، وعلى أثرهم طهر الله تعالى المعقل من الأدران، ورقيت أعاليه ألوية الإيمان، وبدل الله عز وجل فيه الناقوس بالأذان، وحولنا كنيسته مسجداً ومنبراً على تقوى من الله ورضوان.
شمنصير (3) :
وقيل شماصير بالألف بدل النون، جبل ململم من جبال تهامة لم يعله قط أحد ولا درى ما على ذروته، وبأعلاه القرود، والمياه حواليه ينابيع تنساب، وبطرفه قرية يقال لها رهاط، وبغربيه قرية يقال لها الحديبية ليست بالكبيرة، وهذه القريات لسعد ومسروح، وفي سعد هذه نشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الحديبية إلى المدينة تسع مراحل، وإلى مكة مرحلة، وأصحاب الحديث يقولون: الحديبية بئر، وهناك مسجد الشجرة.
شمشاط (4) :
مدينة في أرمينية، وهي أول حدود أرمينية، وهي على الفرات، ومنها إلى ملطية أحد وخمسون ميلاً.
وشمشاط مدينة رومية كبيرة بها يكون والي ثغور الجزيرة، ومنها تخرج جيوش المسلمين إلى بلاد الروم، وهي على تخوم أرمينية وفيها قبر صفوان بن المعطل السلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبين شمشاط (5) وحصن زياد شجرة لا يعرف أحد ما هي ولا يدرى لها نظير، لها حمل شبيه اللوز إلا أنه يؤكل بقشره، وهو أحلى من الشهد.
ولما جمع عثمان بن عفان لمعاوية رضي الله عنهما الشام والجزيرة وثغورها، أمره أن يغزو شمشاط، فوجه إليها حبيب بن مسلمة الفهري وصفوان بن المعطل، ففتحاها بعد أيام من نزولهما عليها صلحاً على مثل صلح الرها، فأقام بها صفوان وبها توفي في آخر خلافة معاوية رضي الله عنه، ويقال: إن معاوية غزاها بنفسه، ولم تزل شمشاط خراجية حتى صيرها المتوكل على الله عشرية أسوة غيرها من الثغور، ومبلغ مجبى شمشاط وما ينضاف إليها سبعمائة ألف وخمسة عشر ألف درهم.
وبشمشاط (6) قلعة حصينة تحتف بها جبال فيها الجوز والكروم وسائر الثمار.
الشماسية:
بالعراق، كان المعتصم (7) خرج من بغداد يرتاد موضعاً لمدينة يبنيها فمر بالشماسية، وهي خارج بغداد فضاقت عليه ولم يرضها حتى أتى موضع سر من رأى فأرضاه، فابتدأ بناءها.
وفي خبر أن مهدي بن علوان الشاري (8) كان خرج على المأمون أو على أبيه وانتهت خيله إلى الشماسية بالعراق، وأما البردان وقطربل ومسكن وما والاهما فكانت بها منازله، قال الفضل بن مروان: في سنة ست ومائتين أتى المأمون بمهدي الشاري أسيراً
__________
(1) ص ع: إصراراً.
(2) البيان: حياهم الناس.
(3) معجم ما استعجم 3: 810، ورسالة عرام: 26 - 28.
(4) قارن بياقوت (شمشاط) .
(5) ابن الفقيه: 287، وابن خرداذبه: 123.
(6) نزهة المشتاق: 197.
(7) مر هذا في مادة ((سامرا)) ، وانظر اليعقوبي: 256.
(8) خرج سنة 202 أو 203، وكان خروجه بزرجسابور، والحقيقة أنه خرج على إبراهيم بن المهدي لا على المأمون (الطبري 3: 1016 والعيون والحدائق: 354، وانظر تفصيلاً في أخباره في تاريخ الموصل 350 - 352) .(1/345)
ومعه ثلاثون رجلاً من أصحابه فوصفه بالعقل وقال: انتهت خيله إلى الشماسية.
قال: وكان فرات جلولاء في يد المعتصم، وهو أمير، فكتبت إليه عنه: لعبد الله مهدي أمير المؤمنين من أبي إسحاق ابن أمير المؤمنين يسأله الكف عن ضياعه ويبذل له عليها شيئاً من المال، ووجه بالكتاب معي، فصرت إليه وهو بجلواباذ عليه دراعة وسيف وعمامة هارونية، فقلت له: قد أتيتك بكتاب ما أتاك مثله، أعني مخاطبة أبي إسحاق إياه بالخلافة، قال: فدعا بكتب كثيرة من الهاشميين وغيرهم يخاطبونه بالخلافة، قال: فكتب لي بما أردت وأعطاني خاتمه فختمت به الكتاب، فكان أول خاتم باطل وقع في يدي ثم ردفه خاتم إبراهيم بن المهدي.
قال: ومرت بنا امرأة نصرانية فقال لي مهدي: هذه أمي وليس يحل لي أن أكرهها على الإسلام.
قال: وذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بسوء، فقال: هل لكم فيما هو خير من هذا كله؟ نكله إلى الله عز وجل.
وقال يحيى بن أكثم: كنت أساير المأمون فوق باب الشماسية وهو على بغل، فخرج من زرع كان بالقرب من الطريق رجل معه قصة، فنفر البغل ورمى بالمأمون، فقال المأمون: والله لأقتلنك، فلما استوى على بغلته قال له الرجل: يا أمير المؤمنين لأن تلقى الله حانثاً خير لك من أن تلقاه قاتلاً، قال: صدقت والله، وقضى حاجته ووقع في قصته ما أراد.
وقال أحمد بن أبي دواد: كنت أعيب الغناء وأطعن على أهله، فخرج المعتصم يوماً إلى الشماسية في حراقة يشرب ووجه في طلبي فصرت إليه، فلما قربت منه سمعت غناء حيرني وشغلني عن كل شيء، فسقط سوطي من يدي، فالتفت إلى غلامي أطلب منه سوطه فقال لي: قد والله سقط مني، قلت له: فأي شيء كان سبب سقوطه؟ قال: صوت سمعته شغلني عن كل شيء فسقط سوطي من يدي، فإذا قصته قصتي، قال: وكنت أنكر أمر الطرب على الغناء وما يستفز به الناس منه ويغلب على عقولهم، وأناظر المعتصم فيه، فلما دخلت عليه يومئذ أخبرته بالخبر، فضحك وقال: هذا عمي كان يغني:
إن هذا الطويل من آل حفص ... نشر المجد بعد ما كان ماتا فإن كنت تبت مما كنت تناظرنا عليه في ذم الغناء سألته أن يعيده، ففعلت وفعل، وبلغ الطرب مني أكثر مما كان يبلغني عن غيري فأنكره، ورجعت عن رأيي فيه منذ ذلك اليوم.
شنترين (1) :
بالأندلس مدينة معدودة في كور باجة، وهي مدينة على جبل عال كثير العلو جداً، ولها من جهة القبلة حافة عظيمة ولا سور لها، وبأسفلها ربض على طول النهر، وشرب أهلها من العيون ومن ماء النهر، ولها بساتين كثيرة وفواكه ومباقل، وبينها وبين بطليوس أربع مراحل.
وهي من أكرم الأرضين (2) ، ونهرها يفيض على بطحائها كفيض نيل مصر فيزدرع أهلها على ثراه عند انقطاع الزريعة في البلاد وذهاب أوانها فلا يقصر عن نمائه الطيب ولا يتأخر إناه وإدراكه.
ومن أقاليمها صقلب (3) ، وهي أطيب بقاع الأرض يرفع في أرضه عند توسط الرياع للحبة مائة، وعند كماله للحبة مائتان. ولشنترين جزائر في البحر مسكونة. وكانت جباية شنترين ألفين وتسعمائة دينار، وأحوازها متصلة بأحواز باجة.
وكان يوسف بن عبد المؤمن (4) ملك المغرب اجتاز عليها في حركته الأندلسية بعسكره وهو أربعون ألفاً من أنجاد العرب الفرسان، ومن الموحدين والجنود والمطوعة وفرسان الأندلس وأجنادها ما ينيف على مائة ألف فارس، وبرز أسطوله على الأشبونة وحاصرها عشرين يوماً ونزل على أعظم قواعد ابن الرنق عدو المغرب، وكان مؤذياً للمسلمين من قاعدته (5) ، وهي شنترين هذه، فبرز عليها في أمم لا تحصى، وهناك عرض له المرض الذي توفي فيه، أقام يرحل به على مطية مضطجعاً على فراشه وضعفه يتزايد إلى أن تفقد في بعض أميال فوجد ميتاً، وذلك في سنة ثمانين وخمسمائة، فتقدم
__________
(1) بروفنسال: 113، والترجمة: 139 (Santrem) ، وقارن بآثار البلاد: 542.
(2) من هنا عن الإدريسي (د) : 186.
(3) انظر ياقوت (صقلب) .
(4) انظر تفصيل غزوة أبي يعقوب هذه إلى الأندلس في البيان المغرب 3: 128 وما بعدها (تطوان) وخاصة الصفحة 133 - 134 في حصار شنترين.
(5) سقطت من ص ع.(1/346)
للأمر ولده يعقوب المنصور، فقفل بالناس إلى اشبيلية فبويع بها ورجع إلى مراكش.
شنتجالة (1) :
في طرف كورة تدمير بالأندلس مما يلي الجوف، ويقال لها أيضاً: جنجالة، وإليها ينسب الوطاء الجنجالي لعمله بها.
شنترة (2) :
من مدائن الأشبونة بالأندلس، على مقربة من البحر، ويغشاها ضباب دائم لا ينقطع، وهي صحيحة الهواء تطول أعمار أهلها، ولها حصنان في غاية المنعة، وبينها وبين البحر قدر ميل، وهناك نهر ماؤه يصب في البحر ومنه شرب جناتهم، وهي أكثر البلاد تفاحاً ويجل عندهم حتى يبلغ دورها أربعة أشبار، وكذلك الكمثرى، وبجبل شنترة ينبت البنفسج بطبعه ويخرج من شنترة عنبر جيد، ويخرج أيضاً في شذونة من بلاد الأندلس.
شندان (3) :
مدينة من بلاد السند بينها وبين البحر ميل ونصف، وهي مدينة متحضرة الأهل أهلها تجار مياسير متجولون، والمسافر إليها كثير والخارج عنها كثير.
شبوة (4) :
مدينة في أول مدائن حضرموت، يباع فيها حمل بدرهم.
شنتمرية (5) :
مدينة في الأندلس من مدن اكشونبة.
وهي أول الحصون التي تعد لبنبلونة (6) ، وهي أتقن حصون بنبلونة بنياناً وأعلاها سموكاً، مبتناة على نهر أرغون على مسافة ثلاثة أميال منه.
وبناحية شنتمرية أعجوبة عاينها كل من دخل تلك الناحية من المسلمين، وذلك عين تنفجر بماء كثير يبصر ذلك الناس عياناً، فإذا قربوا منها ووقفوا عليها انقطع جريانها فلا تبض بقطرة، فإذا تباعد الناس عنها عادت إلى حالها، وهذا مستفيض لا يجهله أحد ممن صاقب تلك الناحية.
وشنتمرية (7) على معظم البحر الأعظم، سورها يصعد ماء البحر فيه إذا كان فيه المد، وهي مدينة متوسطة القدر حسنة الترتيب بها مسجد جامع ومنبر وجماعة، وبها المراكب واردة وصادرة، وهي كثيرة الأعناب والتين، وبينها وبين شلب ثمانية وعشرون ميلاً.
وإليها ينسب الأستاذ أبو الحجاج يوسف بن سليمان الشنتمري (8) الأعلم ذو التصانيف المشهورة.
وهي مدينة أولية، وبها دار صناعة الأساطيل وبازائها جزائر في البحر تنبت شجر الصنوبر، ومن الغرائب ما ظهر بشنتمرية هذه في عشر الستين والخمسمائة، وذلك صبي يتواصف المحققون ممن عاين أمره أن سنه خمسة أعوام أو نحوها بلغ مبلغ الرجال وأشعر، وهذا مستفيض عندهم.
شنت ماركو (9) :
قلعة بصقلية عظيمة ذات آثار قديمة وعمارتها كثيرة، وبها أسواق وحمام وجمل من الفواكه والثمار، ولها بادية ومزارع واسعة ومياه ناشعة، وينبت بها من جميع جهاتها البنفسج الذكي الرائحة العطر، وساحلها حسن تنشأ به المراكب من خشب جبالها.
شنت زلايه (10) :
مدينة أو قرية بالأندلس على طريق قلشانة وهي عن يمين الطريق، وناقوسها ملقى في الأرض لا حارس له ولا رقبة عليه، ويزعم أهلها أنه معقود ممنوع من جميع الناس وأن من أخذه لا يمكنه الخروج به من القرية وإن خصيتي من أخذه تنتفخ ويشتد وجعها (11) حتى يصرفه إلى موضعه، هذا عندهم صحيح لا يشكون فيه.
__________
(1) بروفنسال: 112، والترجمة: 138، وقد مر التعريف بها في مادة ((جنجالة)) .
(2) بروفنسال: 112، والترجمة: 138 (Cintra) ، وقارن بآثار البلاد: 542.
(3) الإدريسي (ق) : 52 (سندان، بالسين المهملة) .
(4) ص ع: شنوة - بالنون - وهو وهم جعل المؤلف يدرجها في هذا الموضع، وانظر معجم ما استعجم 3: 780، وياقوت: (شوة) ، والهمداني: 87.
(5) بروفنسال: 114، والترجمة: 140 (Santa Maria de Aigarve) ، وتسمى اليوم ((فارو)) وهي ميناء جنوبي البرتغال في مقاطعة الغرب (Algarve) وقارن بما جاء في آثار البلاد: 542.
(6) هذا تعريف بموقع آخر لشنتمرية، غير التي في البرتغال الجنوبي.
(7) عن الإدريسي (د) : 179.
(8) ترجمته في ابن خلكان 7: 81، وفي الحاشية ذكر لمصادر أخرى.
(9) الإدريسي (م) : 25 (San Marco) .
(10) كذا في ص ع، وعند بروفنسال: سنترلاته، ولم يستطع تحديدها.
(11) كذا، بدلاً من استعمال المثنى.(1/347)
شنت ياقوب (1) :
كنيسة عظيمة عندهم، وهي في ثغور ماردة، وهذه الكنيسة مبنية على جسد يعقوب الحواري، يذكرون أنه قتل في بيت المقدس وأدخله تلامذته في مركب، فجرى به المركب في البحر الشامي إلى أن خرج به إلى البحر المحيط حتى انتهى به إلى موضع الكنيسة بساحل فيه فبنيت الكنيسة عليه وسميت باسمه فيقصد إليها من افرنجة ومن رومة والقسطنطينية ليوم معروف جعل عيداً لها.
وغزا شنت ياقوب عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر سنة سبع وثمانين وثلثمائة، وأوسع أهلها قتلاً وأسراً، وقراها وأسوارها هدماً وإحراقاً، ومن إنشاء القسطلي رسالة إلى الخليفة هشام بن الحكم بن عبد الرحمن يخبره بالفتح ويصف الكنيسة وأرضها وله فيها قصيدة مشهورة (2) .
شنفيره (3) :
حصن على أربع مراحل من مرسية بالأندلس في شرقيها مشهور بالمنعة، طرقه في الصلح محمد بن هود سنة أربع عشرة وستمائة ومعه خمسمائة من أجناد الرجال فغدر به، لأن أبا سعيد ابن الشيخ أبي حفص الهنتاتي لما طاف على حصون الأندلس يتفقدها في أيام الهدنة نظر إلى هذا المعقل وهو بارز إلى السماء مع وثاقة بنائه فأعجبه وقال: كيف أخذ الروم هذا الحصن من المسلمين؟ فقيل: غدروا به في زمان الصلح، فقال: أما في أجناد المسلمين من يجاريهم بفعلهم. فسمعه ابن هود فأسرها في نفسه إلى أن تمت له الحيلة، فطلع في سلم من حبال فذبح السامر الذي يحرس بالليل، ولم يزل يطلع رجاله واحداً بعد واحد إلى أن حصلوا بجملتهم في الحصن وفر الروم الذين خلصوا من القتل إلى برج مانع، فقال ابن هود: إن أصبح هؤلاء في هذا البرج جاءهم المدد من كل مكان، فالرأي أن نطلق النيران في بابه، فلما رأوا الدخان وأبصروا اشتعال النار (4) ، طلبوا الصلح على أن يخرجوا بأنفسهم، فكان ذلك، واستولى المسلمون على الحصن، وكان الروم قد أرسلوا في الليل شخصاً دلوه من البرج، فأصبحت الخيل والرجال على الحصن، وقد أحكم المسلمون أمره، فانصرفوا في خجلة وخيبة، وترددت في شأنه المخاطبات إلى مراكش فقال الوزير ابن جامع لابن الفخار (5) : أخذناه في الصلح كما أخذتموه في الصلح، ومن هذه الواقعة اشتهر ابن هود عند أهل شرق الأندلس، وصاروا يقولون: هو (6) الذي استرجع شنفيره.
شعب بوان (7) :
موضع في بلاد فارس منسوب إلى بوان بن إيران بن سام بن نوح، وبوان هذا هو الذي ينسب إليه شعب بوان، وهو أحد المواضع المشهورة في العالم بالحسن، وإياه عنى أبو الطيب في قوله:
مغاني الشعب طيباً في المغاني ... بمنزلة الربيع من الزمان
شفلودي (8) :
مدينة بجزيرة صقلية كثيرة الخصب واسعة المرافق منتظمة الأشجار والأعناب وغيرها، مرتبة الأسواق، وفيها جبل على قنته قلعة لم ير أمنع منها، اتخذوها عدة لأسطول يفجأهم من جهة المسلمين.
شقبنارية (9) :
مدينة في بلاد إفريقية بمقربة من مدينة الأربس، فيها آثار عظيمة، ويقال إنها كانت من أعظم مدن إفريقية، وكان بها ماء مجلوب، وبقي فيها اليوم مواجل عظيمة ما تغير منها شيء، وفيها عين عظيمة عذبة، ولها سرب كبير تحت الجبل يمشي فيه الفارس بأطول ما يكون من الرماح في يده فلا يلحق سمك ذلك السرب، ويقال إن فيه كنوزاً وأموالاً، ويقال إنه كان بمدينة شقبنارية كنيسة فيها مرآة قد صنعت من أخلاط عجيبة إذا اتهم الرجل أهله بأحد نظر في تلك المرآة فيرى وجه الرجل المتهم. ويقال إنه كان في تلك الناحية رجل بربري يدعي أنه من أهل الخير والصلاح، فاتهم ملك شقبنارية أهله بذلك البربري، فنظر في المرآة فرأى صورة البربري مع امرأته، فأوقف على ذلك الشهود
__________
(1) بروفنسال: 115، والترجمة: 141 (Santiago) ، والإدريسي (د) : 63.
(2) لعلها القصيدة التي مطلعها (ديوان ابن دراج: 371) :
لك البشرى ودمت قرير عين ... بشأوي كوكبيك الثاقبين (3) بروفنسال: 116، والترجمة: 142، ولم يستطع تحديد الموقع.
(4) سقطت من ع.
(5) هو إبراهيم بن الفخار الإسلامي وزير ملك قشتالة، وكان رسوله في عقد صلح بين الموحدين وقشتالة سنة 612 (البيان المغرب 3: 244) .
(6) زيادة من بروفنسال.
(7) قارن بياقوت (بوان) .
(8) رحلة ابن جبير: 328 ينقل المؤلف، وانظر الإدريسي (م) : 24 - 25، حيث تكتب جفلودي (Cefalu) ، وياقوت - جفلوذ) .
(9) الاستبصار: 164، وقارن بالبكري: 33.(1/348)
وأخذ البربري فقتله، فغضب لذلك أهل البربري ودخلوا تلك الكنيسة فكسروا تلك المرآة ونزعوها. وهذا الجبل حيث مدينة شقبنارية فيه مدينة خربة فيها آثار عظيمة، وهو كثير العمائر والقرى، وهو بلد الزرع والضرع.
وكان الكاتب أبو المطرف أحمد بن عبد الله بن عميرة المخزومي ولى قضاء مدينة الأربس وشقبنارية إلى نظر قاضي الأربس، فمن قوله في شقبنارية:
إن الشقاء برى بشقبنارية ... جسدي وأسلمني لأكبر داهيه
من بلدة عنا نأت خيراتها ... لكن قطوف الشر منها دانية
ملك العقارب والرتيلا أرضها ... والجو صاعقة وريح عاتيه
قال الذين تخيروها منزلاً ... فيها لنا عنب وعين جاريه
فأجبت بالشهوات حفت مثلما ... حفت بها نار الجحيم الحاميه
شقندة (1) :
قرية بعدوة نهر قرطبة قبالة قصرها، فيها اجتمع وجوه العجم يتشاورون في حرب العرب ويحذرونهم من القعود عنهم، ويحضون بعضهم بعضاً على أن يكونوا يداً واحدة، وقدموا على لذريق بقرطبة بسبب ذلك، فنزلوا أكناف شقندة هذه ولم يطمئنوا إلى الدخول على لذريق أخذاً بالحزم.
شقورة (2) :
مدينة من أعمال جيان بالأندلس، قالوا: وجبل شقورة ينبت الورد الذكي العطر والسنبل الرومي الطيب وفي غيران شنت مرتين من جبل شقورة اشقاقل كبير قوي الفعل يفوق غيره؟ وإذا نزل بتلك الغيران أحد كثر منه الاحتلام، وربما نزل المني منه بغير إرادة ولا تذكر، ويقال: إن في قرية هناك عين ماء تفعل مثل ذلك.
وفي جبل شقورة شجر الطخش الذي تتخذ منه القسي وعصير ورقه سم قتال وحي، وفي تلك الناحية عين ماء صغيرة في حجر قدر ما تدخل الدابة رأسها فيه فتشرب، ويتتابع على ذلك العدد الكثير من الدواب فتصدر رواء، فإذا استقي في إناء لم يكد يروي الرجل.
ولعلي بن أبي جعفر بن همشك وكتب على قبره بشقورة:
لعمرك ما أردت بقاء قبري ... وجسمي فيه ليس له بقاء
ولكني رجوت وقوف بر ... على قبري فينفعني الدعاء
" سبيل الموت غاية كل حي " (3) ... فكل سوف يلحقه الفناء ومن شقورة أبو بكر بن مجبر الشاعر المفلق المجيد شاعر دولة بني عبد المؤمن.
شقر (4) :
جزيرة بالأندلس، قريبة من شاطبة وبينها وبين بلنسية ثمانية عشر ميلاً.
وهي حسنة البقعة كثيرة الأشجار والثمار والأنهار وبها ناس وجلة، وبها جامع ومساجد وفنادق وأسواق، وقد أحاط بها الوادي، والمدخل إليها في الشتاء على المراكب، وفي الصيف على مخاضة. وفي إحاطة الوادي بها يقول ابن خفاجة في شعر يتشوق فيه إلى معاهده ويندب ماضي زمانه (5) :
بين شقر وملتقى نهريها ... حيث ألقت بنا الأماني عصاها
وتغنى المكاء في شاطئيها ... يستخف النهى فحلت حباها
__________
(1) بروفنسال: 104؛ والترجمة: 127 (Secunda) .
(2) بروفنسال: 105، والترجمة: 128 (Segura de la Sierra) ، وقارن بياقوت (شقورة) .
(3) مضمن من قول قطري:
سبيل الموت غاية كل حي ... فداعيه لأهل الرض داعي (4) بروفنسال: 102، والترجمة: 126 (Jucar) ومنه بعض يسير عن الإدريسي (د) : 193.
(5) هي في الديوان: 364 نقلاً عن الروض المعطار، حسب قراءة بروفنسال، وقد خالفنا هذه القراءة في مواضع تقيداً بالقراءة الصحيحة في الأصلين المعتمد عليهما.(1/349)
عيشة أقبلت شهي جناها ... وارف ظلها لذيذ كراها
لعبت بالعقول إلا قليلاً ... بين تأويلها وبين سراها
فانثنينا مع الغصون غصوناً ... مرحاً في بطاحها ورباها
ثم ولت كأنها لم تكد تل ... بث إلا عشية أو ضحاها
فاندب المرج فالكنيسة فالش ... ط وقل آه يا معاهد آها
آه من عبرة ترقرق بثاً ... آه من رحلة تطول نواها
آه من فرقة لغير تلاق ... آه من دار لا يجيب صداها
لست أدري ومدمع المزن رطب ... أبكاها صبابة أو سقاها
فتعالي يا عين نبك عليها ... من حياة إن كان يغني بكاها
وشباب قد فات الا تناسي ... هـ ونفس لم يبق إلا شجاها
خل عيني تبكي عليها وقلبي ... يتمنى سواده لو فداها وفي جزيرة شقر يقول الكاتب أبو المطرف بن عميرة:
كفى حزناً نأي عن الأهل بعدما ... نأينا عن الأوطان فهي بلاقع
نوى غربة حتى بمنزل غربة ... لقد صفع البين الذي هو صانع
وكيف بشقر أو بزرقة مائه ... وفيه لشقر أو لزرق شوارع وقال من قصيدة يمدح فيها صاحب إفريقية الأجل أبا زكريا:
وعاد قلبي من شوق أندلس ... عيد أسى فته وما فتر
فأين منا منازل عصفت ... ريح عليها من العدا صرصر
ودون شقر ودون رزقته ... أزرق يحكي قناه أو أشقر
؟ شقوبيه (1) :
بالأندلس، هذه ليست بمدينة إنما هي قرى كثرة متجاورة متقاربة متلاصقة متداخلة العمارات، فيها بشر كثير وجم غفير، وهم في نظر صاحب طليطلة، وهم أنجاد أجلاد، ومنها إلى طليطلة (2) مائة ميل.
؟ شهدروج (3) :
مدينة في وسط جزيرة كبيرة بأرض الترك يقال لها جزيرة شهدروج، وهذه المدينة جليلة عامرة بها أسواق وصناعات قائمة وغلات، وهي منيعة وعلى شفير الأرض المنتنة من جهة شرقيها، وهذه الأرض المنتنة ممتدة حرشاء سوداء، طولها عشرة أيام، وهي جرداء من النبات لا يوجد فيها ولا في جبالها شيء منه، وهي وحشية الأكناف بعيدة الأطراف ماؤها غائر ودليلها جائر وريحها منتنة، وليس فيها مأوى لعابر ولا مسلك لقاصد، وفي آخرها مما يلي شمالها مدينة سقمانية (4) .
شهرزور (5) :
في جهة حلوان وبقرب كوى من بابك هاروت وماروت، ومعنى شهرزور نصف الطريق، وكان منتصف طريقهم إلى بيت نار لهم، وكانت شهرزور مضمومة إلى الموصل حتى فرقت في آخر خلافة الرشيد.
ومن شهرزور ابن الصلاح، المحدث المؤلف المشهور أبو عمرو
__________
(1) بروفنسال: 104، والترجمة: 128 (Segovia) . والإدريسي (د) : 68.
(2) ص ع: تطيلة.
(3) نزهة المشتاق: 316.
(4) انظر مادة ((سقمانية)) في ما تقدم: 327.
(5) قارن بياقوت (شهرزور) ، والكرخي: 118.(1/350)
عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي نصر المعروف بابن الصلاح، له تصنيف في علوم الحديث مفيد جداً، توفي بدمشق سنة ثلاثين وستمائة.
وبشهرزور توفي الإسكندر بعد أن غزا الهند ومشارق الأرض وقتل ملوكها ودانت له عامة البلاد وانتهى إلى البحر المحيط، فهال ذلك ملوك غرب الأرض، فوفدت عليه رسلها بالانقياد والطاعة، وقيل سمه بعض خدمه بأرض بابل فحمل إلى الإسكندرية في تابوت من ذهب، وكان ملكه اثنتي عشرة سنة، وقيل أربع عشرة سنة، عاش منها بعد قتل دارا خمس سنين، وكان عمره ستاً وثلاثين سنة باتفاق، وعرض الإسكندر جنده بعد أن غلب على ملك الفرس فوجدهم ألف ألف وأربعمائة ألف مقاتل، ودخل الظلمات مما يلي القطب الشمالي في أربعمائة رجل من أصحابه يطلب عين الحياة، فسار فيها ثمانية عشر يوماً وبنى اثنتي عشرة مدينة منها هراة ومرو وسمرقند وأصبهان.
وشهرزور مشهورة بالعقارب، ولذلك قال ابن الرومي في قينة:
فقرطها بعقرب شهرزور ... إذا غنت وطوقها بأفعى
شهرستان (1) :
إحدى مدن اصبهان، وهي اثنتا عشرة مدينة، وهذه من مشاهيرها.
شوذر (2) :
بالأندلس من كور جيان، وهي قرية تعرف بغدير الزيت لكثرة زيتونها، وهي كثيرة المياه والبساتين، كثيرة السقي، بها جامع من ثلاث بلاطات على أعمدة رخام، وسوق حافلة يوم الثلاثاء.
شيروان:
قال اليعقوبي: هي مدينة عظيمة من كور الجبل قديمة بين جبال وشعاب، وهي أشبه المدن بمكة شرفها الله تعالى، وفيها عيون.
وقال غيره (3) : على القرب من مدينة الدينور مدينة الصيمرة والشيروان، وهما مدينتان نظيفتان جيدتا المباني، مبانيهما جص وآجر كمدينة الموصل، وهما كثيرتا المياه سائحة في دورهم مطردة في منازلهم، وكثيرتا الأشجار والزروع.
شيره:
جزيرة بقرب ساحل وادي القرى تضيق هناك الشعاب والجزائر، فيرصد أهل السفينة فتور الماء في أول المد وفي آخر الجزر وقبل طغيان الماء وشدته، ويدخلون موضعاً يسمى بالزنقة بين تلك الجبال والشعاب، تسير السفينة فيه نحو خمسين ميلاً، وهي أكثر من ثلاثمائة جزيرة، ولا يسلك هذا الموضع إلا من عرفه، وهذه الجزائر أكثر بلاد الله تعالى سمكاً وأطيبه، وفيها يكون الحوت المسمى السفن، فإذا انتهت السفينة آخر هذه الشعاب وصلت إلى مضيق كالذي دخلت منه، يسمى أيضاً بزنقة، فإن كانت السفينة كبيرة بقي أهلها هناك إلى فيض الماء وزيادته في رؤوس الأهلة فيجوزون ذلك الموضع حتى تخرج من هذا المضيق.
شيراز (4) :
مدينة بأرض فارس، وهي مدينتها العظمى ودار مملكة فارس، وينزلها الولاة والعمال، وبها الديوان والمجبى، وهي مدينة إسلامية بناها محمد بن القاسم بن أبي عقيل ابن عم الحجاج.
وتفسير شيراز: جوف الأسد، سميت بذلك لأنها تجلب إليها الميرة من سائر البلاد، ولا تخرج منها الميرة البتة. ولما وصل عسكر الإسلام إلى فارس عرس العسكر بمكانها وأقام به حتى افتتحت اصطخر وجميع كورها، فتبرك المسلمون بذلك وبنوا شيراز بذلك المكان.
وهي مدينة جليلة المقدار حسنة النواحي طولها نحو من ثلاثة أميال، وهي متصلة البناء لا سور لها ولا أسواق ولا عمارة، وهي قرارة الجيوش وأولي الحرب والدواوين والجبايات، وشرب أهلها من الآبار.
وليس فيها منزل إلا ولصاحبه فيه جميع الثمار والرياحين والبقول وكل ما يكون في البساتين، وقيل: كل شرب أهلها من عيون
__________
(1) راجع ياقوت (شهرستان) للتفرقة بين عدد من المواضع بهذا الاسم، وانظر آثار البلاد: 398.
(2) بروفنسال: 117، والترجمة: 143 (Jodar) على بعد 25 كيلومتراً إلى الجنوب من جيان.
(3) قارن بنزهة المشتاق: 204.
(4) نزهة المشتاق: 125.(1/351)
تجري في الأنهار، ولو لم يكن من فضلها إلا أن الإمام أبا إسحاق الشيرازي الفقيه المصنف المشهور منها (1) ، له سير وأخبار مشهورة.
شيزر:
مدينة بالشام من أعمال حمص، وإياها عنى امرؤ القيس بقوله:
تقطع أسباب اللبانة والهوى ... عشية جاوزنا حماة وشيزرا
الشيرجان (2) :
مدينة هي قاعدة كرمان من أرض فارس وخراسان وسجستان، وهي التي ينزلها الوالي، وبني سورها أيام الرشيد، ولها ثمانية أبواب، أحدها باب الميدان ويخرج منه إلى درب وسكك حتى ينتهي إلى مصلى حاجب إلى دار المرضى ثم إلى الدروب المعروفة بباب بيمند، وهو باب المغرب، وخارج هذا الدرب قصر خراب يعرف بقصر حاجب بن صالح، وكان سبب بنيانه أنه أول ما قدم كرمان والياً عليها، قصد دار عبد الله بن غسان فنزلها، وعبد الله بن غسان غائب، فصار إليه الأدهم بن ثعلبة المازني مع اثني عشر ابناً له كهولاً ومشايخ، فلما سلم عليه فاتحه بأن قال: أيها الأمير أما تستحي أن تنزل بنسوة أشراف وصاحبهن غائب؟! فأجابه حاجب وقال مغضباً: بأي شيء يأمرنا الشيخ أن ننزل؟ قال: بالعراء، قال حاجب لجلسائه: ليس العجب من هذا الشيخ الخرف ولكن العجب من هؤلاء المشايخ الذين يمشون معه، قالوا: أيها الأمير إنهم ولده، فرده وقال: أيها الشيخ حق لك أن تزهى، نعم وكرامة أنزل بالعراء، فأمر بضرب خبائه في مصلى وما زال نازلاً بالجبانة إلى أن بني له هذا القصر وفرغ منه ثم تحول إليه.
ويطل على مدينة الشيرجان جبل منقطع في الجبال طوله خمسة فراسخ وعرضه فرسخ.
وكان ولاة كرمان (3) من العرب ينزلون الشيرجان وبينها وبين زرند خمسون فرسخاً، ومرزبان زرند في صلحهم يؤدي الخراج إليهم، فورد أعرابي على جليلان المرزبان اسمه محمد بن قرة كما يخرج الأعراب من البادية في يده جراب وعصا، فاستأجره الجليلان ترجماناً ينفذ مع من يحمل الخراج إلى الشيرجان، فآنس منه رشداً، فأظهره وعرضه للمنافع حتى أنس به ووثق بناحيته، وكسب مالاً ودواب واستقدم من أهله قوماً، وجعل يحمل المال كل سنة ويؤديه عن المرزبان.
فلما كان في بعض السنين اتصل به على فرسخ من زرند موت عامل كرمان، وهو قد صدر بالمال ومبلغه ألف ألف ومائتا ألف درهم سوى الهدايا، فجمع هناك أهل بيته وغلمانه بموضع يقال له جفار طارق، وكان موضع متنزه مهرويه بن المرزبان، واتصل الخبر بالجليلان فأرسل رسولاً يدعوه، فزبر الرسول وطرده، فدعا الجليلان ولده وغاشيته وشاورهم، فمنهم من يقول: أنا أذهب فأحمله إليك مقيداً، ومنهم من يقول: نأخذ منه المال ونرسله كما جاء، فقال المرزبان: ليس الوجه هذا، فإن هذه دولة جديدة، وقد جمع لنفسه من لفيف أهل بيته وصار له حشم، فلأن نداريه ولا نخالفه أصلح، فغلب ابن قرة على أكثر ضياعهم وجعل المرزبان خولاً لنفسه وقوي أمره، إلا أنه ترك للمرزبان وأهل بيته ما يعيشون به ويكرمونهم، فهذا كان سبب ورود العرب هذه الناحية، ثم جعلوا الشيرجان مأواهم وبنوا بها القصور واعتقدوا بها وبرساتيقها الضياع.
__________
(1) راجع مقدمتي على كتاب ((طبقات الفقهاء للشيرازي)) (ط، بيروت 1970) .
(2) قارن بنزهة المشتاق: 132، وابن حوقل: 271 (السيرجان - بالسين المهملة) ، والكرخي: 99، وقال ياقوت (شيرجان) : وما أضظنها إلا سيرجان قصبة كرمان، وانظر عنده (سيرجان) .
(3) قد مر هذا في مادة ((زرنده) .(1/352)
حرف الصاد
الصافية 1:
موضع على يوم من النعمانية بشط دجلة، فيه قتل أبو الطيب المتنبي أحمد بن الحسين سنة أربع وخمسين وثلثمائة منصرفه من حضرة الأمير أبي شجاع، تولى قتله فاتك بن أبي الجهل الأسدي في نيف وثلاثين فارساً رامحين وناشبين، وذلك أن فاتكاً هذا له قرابة من ضبة بن يزيد الذي هجاه أبو الطيب بقوله:
ما أنصف القوم ضبه ... وهى من سخيف شعره، فكانت سبب قتله، وفي خبر أنه قيل له: أعطهم شيئاً فقال: أبذرق ومعي سيفي؟! وقاتل حتى قتل.
صاهك 2:
موضع في بلاد فارس، فيه كان التقى المهلب بن أبي صفرة والأزارقة، بعث الحجاج إلى المهلب سيفاً ليتقلده، فدفعه إلى ابنه المغيرة، فقاتل به في هذا اليوم، لأنه التقى يوم صاهك جمع المهلب والأزارقة وفيهم المهلب وقطري بن الفجاءة فقال المهلب لابنه المغيرة: يا أبا خراش إن الحجاج بعث إلي بهذا السيف الذي في عنقي، أحب أن أتقلده وعزم علي في ذلك فألقيت سيف سعد وكاد خيراً من سيف الحجاج، كما أن سعداً خير من الحجاج، فدونك فقاتل به اليوم ولا ترده إلي حتى تجربه، فأخذه المغيرة وجاءت الأزارقة يقودها ابن مخراق فلقيه المغيرة، فذكروا أن المغيرة ضرب ابن مخراق صالحاً على بيضته فقدها من خلفها حتى أسرع السيف في عنقه مما يلي وداجه، وصرع صالح وحماه فوارس من أهل الجزيرة من بني شيبان، فرجع المغيرة إلى المهلب بسيفه مدمى، فقال المهلب: أخذته بحقه وما أحب أن غيرك من ولدي فعل ذلك، أنا كاتب إلى الحجاج بأمرك، ولولا عزيمته علي لقلدتكه، وكان سيفاً مأثوراً بعث به محمد بن يوسف أخو الحجاج من اليمن، وكان عليها، وكان وجده مع حبى ولميس ابنتي تبع في قبرهما، وكان معهما لوح مكتوب فيه: أنا حبى وهذه لميس أختي متنا لا نشرك بالله شيئاً، فقال الحجاج: يا أهل الشام من أحق بهذا السيف؟ قالوا: أنت قال: لا، بل أحق به مني المهلب، فبعث به إليه وعزم عليه بأن يتقلده، فزعموا أن ابن مخراق كان يضع على قفاه بعد ذلك اليوم مصدغة محشوة قزاً مخافة ضربة المغيرة، فقال الجرمي في ذلك:
قل للمهلب قد وقيت نفوسنا ... ببنيك فعلة تبع ذي التاج
كانت إذا غشيت غياية مذحج ... أنساهم ببنيه كل عجاج
فلقد نصبت أبا خراش للعدا ... فحداهم بصفيحة الحجاج
صدر النهار يكر فيهم مهره ... حتى تضمنه البهيم الداجي
أخذ الحسام بكفه ومضى به ... وأبو خراش للزيادة راج(1/353)
ضرب ابن مخراق بصاهك ضربة ... بين العكيف ومجمع الأوداج
والخيل تعلم والفوارس أنه ... كبش الأزارق كل يوم هياج
الصالحة:
كان يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ملك المغرب الملقب بالمنصور أمر باختطاط المدينة الصالحة في بلاد المغرب، وشرع في بنائها وأجرى وسطها الماء العذب إلى أن كمل أمرها.
صبرة:
مدينة بناحية طرابلس إفريقية.
لما نزل (1) عمرو بن العاصي رضي الله عنه، طرابلس سنة اثنتين وعشرين، فحاصرها شهراً لا يقدر منها على شيء، ثم غاض البحر من ناحية المدينة، فوجدوا مسلكاً إليها من الموضع الذي حسر منه البحر فدخلوا حتى أتوا من ناحية الكنيسة وكبروا فلم يكن للروم مفزع إلا سفنهم، ثم أقبل عمرو رضي الله عنه بحاشية حتى دخل فلم يفلت الروم إلا بما خف لهم من مراكبهم، وغنم عمرو رضي الله عنه ما كان في المدينة، وكان من بصبرة متحصنين وهي المدينة العظمى، وسوقها السوق القديم (2) ، فلما بلغهم محاصرة عمرو رضي الله عنه بمدينة طرابلس جرد خيلاً كثيفة من ليلته وأمرهم بسرعة المسير، فصبحت خيله مدينة صبرة وهم غافلون، وقد فتحوا أبوابها لتسرح ماشيتهم، فدخلوها فلم ينج منهم أحد، واحتوى أصحاب عمرو رضي الله عنه على ما فيها ورجعوا إلى عمرو، وبعد ذلك كتب عمرو إلى عمر رضي الله عنه يستأذنه في دخول إفريقية فجاءه كتاب عمر رضي الله عنه ينهاه عن دخول إفريقية بالجيش وقال: ليست بإفريقية ولكنها المفرقة غادرة مغدور بها لا يغزوها أحد ما بقيت، فرجع عمرو رضي الله.
وصبرة (3) :
أيضاً مدينة بالقيروان كبيرة بناها إسماعيل العبيدي وسماها المنصورية سنة سبع وثلاثين وثلثمائة، وكان لها فائد كثير، يقال إنه كان يدخل أحد أبوابها كل يوم ستة وعشرون ألف درهم، وهي منزل الولاة إلى حين خرابها، وكان نقل إليها معد بن إسماعيل أسواق القيروان كلها وجميع الصناعات، ولها خمسة أبواب: الباب القبلي والباب الشرقي وباب زويلة وباب كتامة، وهو جوفي، وباب الفتوح ومنه تخرج الجيوش، وكان فيها في مدة عمارتها ثلثمائة حمام أكثرها للديار وباقيها مبرز للناس، وهي الآن (4) خراب لا ساكن بها، وعلى ثلاثة أميال منها قصور رقادة، وفيها يقول أبو علي بن رشيق (5) .
أصاب القيروان وساكنيها ... ودار الملك صبرة كل باس
فلا الدنيا التي بقيت بدنيا ... ولا الناس الذين بقوا بناس
؟ صبر (6) :
هو جبل باليمن ويقال لمدينته مدينة صبر، وهذا الجبل فيه ألف قرية والمرتقى إليه مسيرة يوم، وفي أعلاه الأنهار والطواحن، وعرض هذا الجبل أربعة وعشرون فرسخاً، وهو بقرب الوادي المعروف بسحول وبقرب مدينة الجند، وتدخل منه إلى صحراء ورمال حتى تنتهي إلى زبيد.
صحار (7) :
مدينة كبيرة بأرض عمان وهي قصبة عمان، وهي على ساحل البحر، مقدارها فرسخ في فرسخ، ومياهها من الآبار.
وهي أقدم (8) مدن عمان وأكثرها أموالاً قديماً وحديثاً، ويقصدها في كل سنة من تجار البلاد ما لا يحصى عددهم، وإليها تجلب جميع بضائع اليمن ويتجهز منها بأنواع التجارات، وأحوال أهلها واسعة، وبها النخيل والموز والرمان والسفرجل وكثير من الثمار الطيبة، وكان في قديم الزمان تسافر منها مراكب الصين
__________
(1) قارن بالكبري: 8 - 9، وفتوح ابن عبد الحكم: 171 - 172، وقد نقل ياقوت عن بعض أصول صحيحة من فتوح ابن عبد الحكم، (سيرت) ثم وجدها أيضاً (سبرة)) ، قال: وأنا أخشى أن يكون ذلك غلطاً من الناقل وإنما هي ((سبرت)) التي تقدم ذكرها، وأصل الاسم الإغريقي (Sabrata) ، ومؤلف الروض يكتبها بالصاد متبعاه الإدريسي (د) : 121.
(2) هذه العبارة تقابل في الفتوح: واسمها نبرة وسيرت السوق القديم.
(3) البكري: 25، وبعضه في الاستبصار: 115، وفي الإدريسي (د) : 110.
(4) يعني في وقت الإدريسي.
(5) لم يردا في ديوانه المجموع.
(6) البكري (مخ) : 68، وانظر صفحات متفرقة في صفة جزيرة العرب، وياقوت (صبر) .
(7) البكري (مخ) : 68.
(8) نزهة المشتاق: 55 (OG: 156) ، وقارن بالمقدسي وياقوت.(1/354)
فانقطع ذلك لأن عامل جزيرة كيش أنشأ أسطولاً، فغزا به بلاد اليمن الساحلية فأضر بالمسافرين والتجار ولم يترك لأحد مالاً وأضعف البلاد وانقطع السفر عن عمان، وعاد إلى عدن.
وكان بصحار مجتمع للتجار، ومنها يتجهز لكل بلدة وإلى بلاد الهند والصين.
الصخرة:
قيل هي بيت المقدس نفسه، وقيل موضع قبلته.
ولما جاء عمر رضي الله عنه الشام باستدعاء أبي عبيدة إياه لما امتنع أهل ايليا من مصالحته حتى يكون عمر رضي الله عنه هو الذي يتولى مصالحتهم، سخر أنباط أهل فلسطين في كنس بيت المقدس، وكانت فيه مزبلة عظيمة، وجاء عمر رضي الله عنه ومعه كعب الأحبار، فقال: يا أبا إسحاق أتعرف موضع الصخرة؟ فقال: اذرع من الحائط الذي يلي وادي جهنم كذا وكذا ذراعاً ثم احفر فإنك تجدها، قال: وهي يومئذ مزبلة، قال: فحفروا، فظهرت، فقال عمر رضي الله عنه لكعب: أين ترى قبلة المسجد؟ قال: اجعلها خلف الصخرة فتجمع القبلتين: قبلة موسى وقبلة محمد عليهما الصلاة والسلام، قال: ضاهيت اليهود يا أبا إسحاق، خير المساجد مقدمها، فبنى القبلة في مقدم المسجد ثم بنى عبد الملك بن مروان مسجد بيت المقدس سنة سبعين، وحمل إلى بنيانه خراج مصر سبع سنين، وبنى القبة على الصخرة.
الصخور (1) :
حصن صغير على نهر مرسية من الأندلس فيه دعا لنفسه محمد بن هود سنة خمس وعشرين وستمائة وأبو العلا ادريس المأمون في اشبيلية وقد صفت له، وكان عازماً على التحرك إلى بر العدوة، فبينا هو يروم ذلك إذ وصله الخبر بقيام ابن هود هذا وكان من الجند، ولم يكن إذ ذاك أحد من أكابر الأندلسيين يطمع في ثيارة ولا يحدث بها نفسه كبني مردنيش في بلنسية وبني عيسى في مرسية وبني صناديد في جيان وبني نصر في غرناطة وبني فارس في قرطبة وبني وزير في اشبيلية لانتظام البرين على طاعة الدولة الممهدة القواعد، ورجوع أمورهما إلى إمام واحد، حتى اتفقت ثيارة العادل بمرسية ثم ثيارة البياسي وفتنته ثم مبايعة أبي العلا بإشبيلية، ففتحوا على دولتهم باباً يدخل منه غيرهم، فأوقع الله تعالى في خاطر ابن هود هذا أنه يملك الأندلس، وتحدث بذلك مع من يثق به، وذكر أنه محمد بن يوسف بن محمد بن عبد العليم بن أحمد المستنصر بن هود، واحتقر السيد الذي كان في مرسية من قبل أبي العلا فجمع أصحابه وخرج بهم إلى الحصن المعروف بالصخور فدعا لنفسه، واجتمع له جمع من القطاع ودعار الشعاري والضياع وقال لهم: أنا صاحب الزمان، وأنا الذي أرد الخطبة عباسية وخاطب بذلك أبا الحسن القسطلي (2) قاضي مرسية يومئذ وأعلمه أنه إن تمكن من هذا الغرض فإن الدولة تكون في يده، فأصغى الشيخ إليه إصغاء أذهله عن حتفه الذي بحث عنه بظلفه، وواعده، ثم حضر القاضي القسطلي عند السيد الملقب بأبي الأمان وقد لاحت عليه دلائل الخذلان فقال: يا سيدنا هذا الرجل الذي كان في الصخور ما زال خديمكم يكتب له ويرغبه في الطاعة ويعده بما يكون من الخير في أثر ذلك حتى أذعن، وها هو قد وصل لتقبيل يدكم الكريمة، وسيدنا يرتب له ولأصحابه ما يكفهم عن الثيارة ويرجى أن ينتفع بهم في قطع الفساد عن جهات هذه البلاد، فابتهج السيد وأنفذ إليه بالمبادرة فلم يمر إلا القليل حتى دخل ابن هود وأصحابه مرسية على السيد في السلاح، فعندما مالوا لتقبيل يده قبضوا عليه ثم حبسوه وأجلسوا ابن هود في مكانه، وخطب في أول جمعة للمستنصر العباسي ثم لنفسه بالمتوكل على الله أمير المؤمنين، وعندما وصل الخبر بذلك إلى أبي العلا، وكان عزم على جواز البحر، تمثل:
إن الطبيب إذا تعارض عنده ... مرضان مختلفان داوى الأخطرا وصرف وجهته إلى مرسية، ففي أول منزلة نزل بها قام الأستاذ أبو علي الشلوبيني فابتدأ يخطب، وقال: ثلمك الله ونثرك، يريد: سلمك الله ونصرك، وكان يرد السين والصاد ثاء، وقام بعده أبو الحسن بن أبي الفضل فأنشده قصيدة أولها:
__________
(1) بروفنسال: 118، والترجمة: 144، وهو حصن يسميه لسان الدين بن الخطيب ((الصخرات)) أو ((الصخور)) (أعمال الأعلام: 278، 279) ، وهو ((الصخيرات)) أيضاً في البيان المغرب 3: 257 ويقع على 30 كيلومترااً إلى الشمال الغربي من مرسية.
(2) هو أبو الحسن علي بن أبي العافية اللخمي القسطلي، توفي سنة 626 (انظر التكملة رقم: 1899) .(1/355)
خدمتك السيوف والأقلام ... وأصاخت لأمرك الأيام وقام الكاتب البلوي فأنشد قصيدة منها:
إن تك مرسية قد عصت ... فما قد بقي طائعاً أكثر
منابرنا لك قد أصبحت ... فما ضر أن قد عصى منبر فكره أبو العلا ما أتوا به واسود وجهه وتطير الحاضرون بذلك، وامتنع أبو العلا بعد هذا المجلس من كلام الخطباء وإنشاد الشعراء في هذه القضية، وأقام محاصراً لمرسية حتى رحل في السنة الثانية إذ علم أهلها أنهم لا ينفعهم معه إلا التجريد عن ساعد الجد، وعلم هو أنه لا تجوز عليهم حيلة ولا تنفع فيهم موعظة، وكان الأمر على ما نطق به القدر على ألسنة أولئك.
صداء (1) :
ويقال صدى بالقصر، وصدءاء وصداء، ويروى صيداء بياء قبل الدال وهي ركية ليس عند العرب أعذب من مائها، ومن أمثال العرب " ماء ولا كصدى " كما قالوا: " مرعى ولا كالسعدان " ولبعض الشعراء:
يا وزراء السلطان ... أنتم وآل خاقان
كبعض ما روينا ... في سالف الأزمان
ماء ولا كصدى ... مرعى ولا كالسعدان
صدينة (2) :
في بلاد عمان، قرية ذات مياه سائحة.
وصدينة (3) أيضاً من كور شذونة بالأندلس أزلية قائمة الأسوار باقية الآثار تطرد المياه داخلها من عين ثرة تطحن على جداولها الأرحاء، وهي في غاية الحصانة لا ينفذ جيش إليها ولا يتوصل عسكر للنزول عليها، وهذه العين عنصر نهر بوصة (4) .
صرار:
موضع قريب من المدينة النبوية، وهو اسم أطم هنالك وبه سميت الناحية صراراً وهي لبني حارثة بن الحارث، وفيه يقول الشاعر:
لعل صراراً أن تجيش بئاره ... ويسمع بالريان تبنى مشاربه والريان كان لأصحاب صرار. وقيل: هو بئر على نحو ثلاثة أميال من المدينة تلقاء حرة واقم، وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في قدومه من بعض سفراته: " هل تزوجت؟ "، وقال له في أثناء كلامه: " لو جئنا صراراً أمرنا بجزور فنحرت وأقمنا عليها ذلك اليوم " إلى آخر الخبر.
وصرار (6) على ثلاثة أميال من المدينة وقال زيد بن أسلم: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى إذا كنا بحرة واقم إذا بنار تؤرث بصرار، فسرنا حتى أتيناها، فقال عمر رضي الله عنه السلام عليكم يا أهل الضوء، وكره أن يقول يا أهل النار، أندنو؟ فقيل له: ادن بخير أو دع، فإذا بهم ركب قد قصر بهم الليل والجوع، وإذا امرأة وصبيان، فنكص على عقبيه، وأدبر يهرول حتى أتى دار الدقيق فاستخرج عدل الدقيق وجعل فيه كبة من شحم، ثم حمله حتى أتاهم فقال: ذري وأنا أحر (7) لك يريد: أتخذ لك حريرة.
__________
(1) معجم ما استعجم 3: 828، وانظر فصل المقال: 169، والميداني 2: 153.
(2) هكذا ورد في المخطوطتين، ولم أجد لهذا الاسم ذكراً في ما لدي من مصادر، وعلى ساحل عمان مدينة تكتب على الخرائط الحديثة ((ضدنة)) - بضاد المعجمة - وهي أقرب صورة إلى هذا الاسم، وأظنها (ضدني) عند ياقوت، وإن لم يعين أين تقع، وقال ابن دريد في الجمهرة 2: 277، وضدني ممال مثال فعلى: موضع؛ وورد عن البكري (مخ) : 68 في ذكر عمان: ((عمان على ساحل البحر حصينة ومن الجانب الآخر جيل فيه مياه سائحة)) ؛ فهل وقع المؤلف في اضطراب لدى النقل؟
(3) وهذا الاسم أيضاً محير، توقف عنده الأستاذ بروفنسال (الترجمة: 146 والأصل: 120) وقال: اسم هذا الموضع لم يذكر على ما يبدو في أي مصدر آخر، ومسيل الماء المذكور في آخر يمكن أن يقابل نهير (Majacete) أحد روافد نهر (Gudalte) الذي يجري في المنطقة المحصورة بين شريش ورندة، وفي هذه الحالة يمكن أن أقترح أن تكون هذه القربة الموضع الذي يقع بمقربة من منبع هذا النهر واسمها (Grazalema) حيث كانت تقع مدينة ابن السليم ... الخ.
(4) ص ع: بوطه.
(6) معجم ما استعجم 3: 830.
(7) ص ع: أحرك.(1/356)
الصريف (1) :
هي جزيرة في بحر الصنف والذي في جزائره مملكة المهراج، وهو الذي يخرج رأسه من الظلمة الشمالية ويمر على بلاد الواق واق.
وفي هذه الجزيرة التي في هذا البحر مساكن ظاهرة وقباب بيض لائحة، كلما هم بالوصول إليها أحد وقرب منها تباعدت عنه، فلا يزال كذلك حتى ييأس منها وينصرف عنها، وهم يرون فيها شخوصاً وشجراً وعمارة ودواب، ولا يعلم أن أحداً وصل إليها.
صرصر (2) :
نهر يصب في دجلة تجري فيه السفن، وعليه مدينة بينها وبين بغداد سبعة أميال، وهي مدينة كبيرة عامرة كثيرة الأشجار والأسواق، وفيها فواكه وخير وافر، ولا سور لها، وبها جسر من مراكب يعبر عليه الناس.
صرواح (3) :
مدينة باليمن بقرب صنعاء، وهي خراب، كانت لعمرو بن عامر مزيقيا صاحب سد مأرب وبناؤها كلها من رخام، وباقية أهلها يزعمون أنها بنيت في عشية واحدة، وفي كلام لحمير: بنينا صرواح ومرواح.
وقيل (4) : إن سليمان عليه السلام كان أمر الجن أن تبنيه لبلقيس (5) وفيه كانت مملكة خولان.
الصرح (6) :
هو البناء الذي بناه نمرود بن قاش بأرض بابل، وكان ملك خمسمائة سنة، وهو ملك النبط، وفي زمانه فرق الله الألسنة، وبنى الصرح بعد البلبلة، وهو البناء الذي يسمى المجدل، وكان ارتفاعه خمسة آلاف باع ومائة وسبعين باعاً، وكان أسفله أوسع من أعلاه، وكانت فيه محاريب عجيبة من فائق الرخام مزينة بالذهب والجوهر وما لا يكاد سامعه يصدق الخبر عنه، ويقال إنه بناه بأرض فارس لأنه بعد البلبلة انتقل عن بابل إلى أرض فارس، وفرض على الناس عبادة النار.
قالوا: ولما ظن أنه أسند الصرح إلى السماء وارتقى فوقه ينظر بزعمه إلى إله إبراهيم، أتى الله بنيانه من القواعد: " فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون "، فيقال: عند ذلك تبلبلت الألسنة من الفزع فتكلموا بثلاثة وسبعين لساناً، فلذلك سميت بابل، وإنما كان اللسان سريانياً.
ونمرود هذا هو الذي جوع الأربعة أنسر وقرنهن بالتابوت فلم يزل يرفع اللحم حتى وقع في ظلمة لا يرى ما فوقها ولا ما تحتها، ففزع وألقى اللحم فانقضت النسور، وكان طيرانهن من بيت المقدس وسقوطهن بجبل الدجال، وذلك قوله تعالى: " وقد مكروا مكرهم "، ثم إنه بعد ذلك شرع في بناء الصرح.
الصراة (7) :
نهر ينشعب من الفرات ويجري إلى بغداد، ويقال: الصرا، بلا هاء أيضاً، لأنه صري عن الفرات، أي: قطع.
وقيل هو مجتمع دجلة والفرات وعليه دل قول أبي العلاء المعري يذم إبلاً له (8) :
تمنت قويقاً، والصراة حيالها ... تراب لها من أينق وجمال قويق: نهر حلب، وهو صغير، فدعا عليها حين آثرت قويقاً على الصراة جهلاً منها.
وقال إبراهيم بن المهدي (9) : كنت مع محمد الأمين في الحصار وقد اشتد علينا، فخرج من قصر الذهب ليلة وصار إلى قصر القرار بقرب الصراة، وأحضرني فقال: يا عم أما ترى طيب هذه الليلة وحسن القمر فيها ومكاننا على دجلة والصراة؟
__________
(1) البكري (مخ) : 37، وابن الوردي: 72، وأخبار الزمان: 43.
(2) نزهة المشتاق: 202، وقارن بياقوت (صرصر) .
(3) انظر الإكليل 8: 75، ونزهة المشتاق: 54.
(4) معجم ما استعجم 3: 831، وقارن بياقوت (صرواح) .
(5) ع: لليلتين؛ ص: في ليلتين.
(6) انظر قصة النمرود والصرح والأنسر في الصعلبي 95 - 97، وراجع الطبري 1: 321 - 323.
(7) معجم ما استعجم 3: 892.
(8) شروح السقط: 1165، والمؤلف ينقل شرح البطليوسي للبيت.
(9) انظر مروج الذهب 6: 426 - 430، والأغاني 5: 138، وشرح البسامة: 246، وراجع مادة ((الحجون)) .(1/357)
فهل لك في أن نشرب فيها من وقتنا ونخفف بها الهم عن قلوبنا. فقلت: من أعظم الميل، والمكان في غاية الحسن، فعلى اسم الله فاشرب، فشرب رطلاً وسقاني مثله، ثم قال: ما ترى في الغناء على ما نحن فيه؟ قلت: ما نستغني عنه، فدعا بجارية متقدمة يقال لها ضعفاء، فتطيرت من اسمها، فحضرت فقال: غني، فغنت بشعر النابغة الجعدي:
كليب لعمري كان أكثر ناصراً ... وأيسر جرماً منك ضرج بالدم فنظر إلي واشتد عليه وعلي، إلا أني لم أره ذلك، فقال لها: غني غير هذا، فغنت:
أبكى فراقهم عيني وأرقها ... إن التفرق للأحباب بكاء
ما زال يعدو عليهم صرف دهرهم ... حتى تفانوا وصرف الدهر عداء فصاح عليها: لعنك الله، أما تعرفين من الغناء غير هذا؟ فقالت: ما تغنيت إلا ما عهدتك تحبه، ثم غنت:
أما ورب السكون والحرك ... إن المنايا كثيرة الشرك
ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجوم السماء في فلك
إلا بنقل السلطان من ملك ... قد انقضى ملكه إلى ملك
وملك ذي العرش دائم أبداً ... ليس بفان ولا بمشترك فصاح بها: قومي، غضب الله عليك ولعنك، فقامت مذعورة وعثرت بقدح بلور حسن الصنعة جداً كان يختصه ويسميه: رب رباح، كان موضوعاً إلى ناحيته، فكسرته، فزاد عليه الأمر وقال: أما ترى يا عم ما قد منيت به الليلة؟ ما أرى السرور إلا قد قوض والأمر قد اقترب، فقلت: إنما هو اتفاق وقع، والله يطيل عمرك ويكبت عدوك، فسمعنا قائلاً يقول من الشط:
قضي الأمر الذي فيه تستفتيان، فوثب عن المجلس وقال: أما سمعت يا إبراهيم؟ فقلت: ما سعت شيئاً، وقد كنت سمعت، فقال: ما بعد الفأل دليل، فما عدت إلى المجالسة بعد ذلك، وقتل محمد بعد أيام.
صطفورة (1) :
بإفريقية، وهو عمل بنزرت.
فم الصلح (2) :
بكسر الصاد، نهر ميسان من أعمال واسط، وفي " مختصر العين " (3) الصلح: نهر ميسان.
قالوا: والصلح منزل القرن المبارك، والمبارك هو نهر خالد بن عبد الله القسري، وهو الذي أعرس بفمه المأمون إذ بنى على بوران بنت الحسن بن سهل وزيره (4) ، وهو من أرض السواد، ووصل الحسن بن سهل أباها بعشرة آلاف ألف درهم وأقطعه الصلح، فلما أن انصرف خرج مشيعاً، فقال له: يا أبا محمد سل حاجتك، فقال له: أسألك يا أمير المؤمنين أن تحفظ لي من قلبك ما لا أستطيع حفظه إلا بك، فتبسم المأمون ثم قال: شهدت جعفر بن يحيى وقد ودع الرشيد فقال: سل حاجتك يا أبا الفضل، فقال: تجعل بيني وبينك بيت كثير حيث يقول (5) :
وكوني على الواشين لداء شغبة ... كما أنا للواشي ألد شغوب وهذه الحاجة ما قدر أن تقضى. وكان المأمون خرج إلى البناء ببوران فعسكر بفم الصلح، فدخل بها في عقب رمضان، واسمها خديجة، وعاد إلى بغداد لست مضين من شوال، وكانت نفقة الحسن عليها عظيمة جداً، قال الحسن بن رجاء: كنا نجري على الملاحين مدة الأيام التي كان المأمون مقيماً فيها بفم الصلح، فكانوا ستة وثلاثين ألف ملاح، ولقد عز الحطب يوماً على عظم مقدار ما استعد منه مما أعد حولاً كريتاً فجعلنا نوقد تحت القدور
__________
(1) مرت في ((سطفورة)) .
(2) معجم ما استعجم 3: 893، وانظر ابن خلكان 1: 290.
(3) ع: وفي مختصر عين الصلح؛ ص: وفي منحصر عين الصلح.
(4) أخبار زولج المأمون ييوران مفصلة في مصادر كثيرة منها الطبري 3: 1081، وابن طيفور 113، وشرح البسامة: 270، وانظر ترجمة بوران في ابن خلكان: 1: 287.
(5) ديوان كثير: 523، وهو في الأغاني 4: 269، ونسبه ابن سلام في طبقاته: 590 ليزيد ابن الطثرية.(1/358)
بخيش كنا أعددناه للصيف بعد أن نغمسه في الزيت، وجليت بوران على المأمون وقد فرش لها حصير من ذهب، وجيء بمكتل من ذهب مرصع بجوهر فيه در كبار فنثر على من حضر من النساء وفيهن رشيدة وحمدونة بنت الرشيد وأشباههما، فما مس من حضر منهن شيئاً منه حتى قال المأمون لهن: شرفن أبا محمد وأكرمن عروسنا، فمدت كل واحدة منهن يدها فأخذت درة، وبقي سائر الدر يلوح على حصير الذهب، فقال المأمون: قاتل الله الحسن بن هانئ، كأنه رأى هذا المنظر حيث يقول:
كأن صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء در على أرض من الذهب قيل: وأنفق الحسن بن سهل حين أعرس المأمون ببوران بنته ثمانية وثلاثين ألف ألف درهم، قيل وأخذت شمعتا عنبر ودخل بهما ليلاً فأوقدتا بين يديه فكثر دخانهما وأفرط، فقال المأمون: ارفعوهما فقد آذانا الدخان وهاتوا الشمع. ودخل الحسن على ابنته بوران لما اجتلاها المأمون وأجلست إلى جنبه ومعه ست لآل عظيمة الخطر لم توجد لهن سابعة فنثرن عليها، فالتقط المأمون منهن اثنتين إعجاباً بهما وأخذ الأربع من حضر من الكبراء، وكانت وليمة المأمون هذه تدعى وليمة الإسلام إذ لم يكن في ولائم الإسلام قط مثلها.
صنف (1) :
جزيرة من جزر الهند، بها يوجد العود الصنفي وهو أفضل من القماري لأنه يغرق في الماء لجودته وثقله، وبها بقر وجواميس لا أذناب لها، وبها النارجيل والموز وقصب السكر، وأهلها لا يذبحون شيئاً من الحيوان ولا الهوام من الحشرات وإنما تؤكل عندهم إذا ماتت، بل يعافها أكثرهم ولا يأكلها، ومن قتل بقرة لزمه القتل وتقطع يده، وإذا وقفت البقرة عن الخدمة والتصرف وضعت في بيت وتركت حتى تموت موتها الطبيعي، ومياههم عذبة.
وبحر الصنف هو الذي بعده بحر الصين، وبعرضه الجبل الذي يتوقد ليلاً ونهاراً أو يسمع فيه مثل قواصف الرعد دوي الأصوات الهائلة التي تدل على هلاك ملكهم.
صنكان (2) :
بلد على ساحل بحر القلزم، أهله مقيمون لا يتجرون (3) والناس واردون عليهم وصادرون عنهم، وبضائع أهلها قليلة وأموالهم يسيرة وصنائعها نزرة وجملتها غير حسنة، لكن الله تعالى حبب الوطن لأهله.
صنعاء (4) :
مدينة عظيمة باليمن كان اسمها في القديم أزال فلما وافتها الحبشة ونظروا إلى مدينتها فرأوها مبنية بالحجارة قالوا: هذه صنعة وتفسيرها بلسانهم حصينة، فسميت صنعا. قالوا: والذي أسس غمدان وابتدأ بنيانه واحتفر بيده الذي هو اليوم سقاية بمسجد جامع صنعاء، سام بن نوح عليه السلام؛ لأنه سار يطلب حر البلاد وموضع اعتدال الحر والبرد فلم يجده إلا في جزيرة العرب، فنظر الحجاز فوجده مفرط الحر لمقام الشمس شهرين في مثل ثلاث درجات وكسر على سمته، فسار في الإقليم الأول حتى صار إلى حقل صنعاء فوجده أطيب باعتداله وصحة هوائه، ورآه أرجح إلى البرد منه إلى الحر، ورأى ميله وسطاً لا مثل ميل الحمل المتقارب تسير الشمس فيه طولاً درجة وعرضاً قريباً من نصفها، ولا مثل ميل الجوزاء الذي هو تسع طوله، ورأى الشمس تسامته في السنة كرتين في ثماني درجات من الثور وثلاث وعشرين من الأسد، فإذا كانت الشمس فيها ترى الشمس في أيار صنعاء انتصاف النهار.
وصنعاء (5) مدينة كثيرة الخيرات متصلة العمارات ليس في بلاد اليمن أقدم منها عهداً ولا أكبر قطراً ولا أكثر ناساً، وهي في صدر الإقليم الأول معتدلة الهواء طيبة الثرى، والزمان بها أبداً معتدل الحر والبرد، وكانت ملوك اليمن قاطبة تنزل بها، وهي ديار العرب، وكان لملوكها بها بناء كبير عظم الذكر وهو قصر غمدان، فهدم وصار كالتل العظيم، وأكثر بنيانها في هذا الوقت بالخشب، وبها دار لعمل (6) الثياب المنسوبة إليها، وهي قاعدة اليمن، وهي على نهر صغير يأتي إليها من جبل في شمالها فيمر بها
__________
(1) قارن بما في المروج 1: 341 - 342، والبكري (مخ) : 33، وآثار البلاد: 97، وتقويم البلدان: 369، وياقوت (صنف) .
(2) نزهة المشتاق: 50، وصوابه ((ضنكان)) بالضاد المعجمة؛ انظر ياقوت.
(3) نزهة المشتاق: لا يتحولون عنه إلى غيره.
(4) صبح الأعشى 5: 39، وقارن بالهمداني: 55، ومعجم ما استعجم 3: 843، وياقوت (صنعاء) ، وابن الفقيه: 34، وآثار البلاد: 50، وابن حوقل: 43، والكرخي: 26، وتقويم البلدان: 95، ويذكر المقدسي: 86 أنها كانت قد اختلت في زمانه.
(5) نزهة المشتاق: 20 (OG: 53) .
(6) زيادة من نزهة المشتاق.(1/359)
نازلاً إلى مدينة ذمار ويصب في البحر اليماني، ومن صنعاء إلى ذمار ثمانية وأربعون ميلاً.
وإلى صنعاء ينسب الوشي، ولبعض المتأخرين يذكر ممدوحاً له:
وشى نضار صلاته بلجينه ... أعجب بحسن الوشي من صنعاء وبصنعاء مات وهب بن منبه سنة عشر أو سنة أربع عشرة ومائة.
وذكر ابن إسحاق (1) في خبر سيف بن ذي يزن لما وفد على كسرى يستنصره على الحبشة المتغلبين على اليمن أن كسرى وجه معه ثمانمائة رجل واستعمل عليهم وهرز، وكان ذا سن فيهم، فخرج في ثماني سفائن غرقت منها سفينتان، ووصل إلى ساحل عدن ست سفائن، فجمع سيف إلى وهرز من استطاع من قومه وقال له: رجلي مع رجلك حتى نموت جميعاً أو نظفر جميعاً، فقال له وهرز: أنصفت، ثم إنهم صافوا مسروق بن أبرهة ملك اليمن وجميع جنده، فرماه وهرز فأصابه بنشابة فقتله، وانهزمت جموع الحبشة وهربوا في كل وجه، وأقبل وهرز ليدخل صنعاء حتى إذا أتى بابها قال: لا تدخل رايتي منكسة أبداً، اهدموا الباب، فهدموه، ثم دخلها ناصباً رايته، في خبر طويل.
وتعمل بصنعاء الحبرات من القطن التي لا يقدر في غيرها على اتخاذ مثلها ومنها تحمل إلى البلاد، وكذلك الأردية والعمائم العدنية والثياب السحولية والأدم الطائفي لا يوجد في قطر من الأقطار مثله، والبقر الملمعة فيها تواليع بين بياض وصفرة كأحسن الوشي.
وصنعاء لا تمطر إلا في حزيران وفي تموز وآب وبعض أيلول، ولا تمطر إلا بعد الزوال في أغلب الأمر، يلقى الرجل الرجل نصف النهار والسماء مصحية ليس فيها طخرية فيقول: عجل قبل أن تصب السماء، لأنهم قد علموا أنه لا بد من المطر في ذلك الوقت.
ولما ظهر أمر الأسود العنسي الكذاب (2) بصنعاء، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد أو من خزاعة في أمر الأسود، فدخل صنعاء مختفياً، فنزل على داذويه الابنائي فأخفاه عنده، وتواترت الأنباء في قتل الأسود، فتحرك في قتله نفر منهم قيس بن عبد يغوث المكشوح وفيروز الديلمي وداذويه، وكانت المرزبانة زوجه قد أبغضته، إذ كان تزوجها قسراً وكانت من عظماء فارس، فوعدتهم موعداً أتوا لميقاته وقد سقته الخمر حتى سكر، فسقط نائماً كالميت، فدخل عليه قيس وفيروز ونفر معهما، فوجدوه على فراش عظيم من ريش قد غاب فيه، وأشفق فيروز أن يتمادى عليه السيف إن ضربه به، فوضع ركبته على صدر الكذاب ثم فتل عنقه فحولها حتى حول وجهه من قبل ظهره، وأمر فيروز قيساً فاحتز رأسه، فرمى به إلى الناس، ففض الله تعالى الذين اتبعوه وألقى عليهم الخزي والذلة، وأتى الخبر بذلك إلى رسول صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه، فقال صلى الله عليه وسلم وذكر الأسود: قتله الرجل الصالح فيروز الديلي وداذويه، والأمر إلى قيس بن المكشوح فكان أمير صنعاء، وكان بها جماعة من أصحاب الأسود، فلما بلغتهم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثبت قيس والأبناء وأهل صنعاء على الإسلام إلا أصحاب الأسود، ثم ارتد قيس بن المكشوح وأخرج الأبناء من صنعاء فلم يبق بها أحد إلا في جوار، وبلع خالد بن سعيد بن العاصي رضي الله عنه ردة أهل صنعاء فسار يومها إلى أن كان من أمره وأمر قيس ثم إسلامه ما هو مذكور في مواضعه.
وصنعاء (3) أيضاً قرية بدمشق.
صنغانة (4) :
في بلاد السودان، وعندها تنتهي بلاد الإسلام، وهي مدينتان على ضفتي النيل متصلة إلى البحر المحيط، ولهاتين المدينتين نظر واسع وعمارات متصلة، يقال إن عمارتهما وقراهما تتصل بالبحر المحيط.
صعدة (5) :
مدينة باليمن أيضاً بينها وبين صنعاء ستون
__________
(1) السيرة 1: 62 وما بعدها.
(2) قارن بفتوح البلدان: 125 - 127، وتاريخ الطبري 1: 1851 - 1868.
(3) ياقوت (صنعاء) : وصنعاء أيضاً قرية على باب دمشق دون المزة ... خربت، وهي اليوم مزرعة وبساتين. قلت: يقال إن حنشاُ الصمعاني منسوباً إليها.
(4) البكري: 172، والاستبصار: 217، وانظر نخبة الدهر: 240؛ وفي ص ع: صنعانية.
(5) نزهة المشتاق: 20، وصبح الأعشى 5: 41، وقارن بالهمداني: 67، وياقوت (صعدة) ، وتقويم البلدان: 95.(1/360)
فرسخاً، والنسب إليها صاعدي على غير قياس، والذي يتجهز به من صعدة الأديم، لأن بها صناعة الأديم العديم المثال، وبها تجتمع التجار، وأهلها أهل أموال وافرة وبضائع وتجارات كثيرة.
؟ الصعيد:
هو أعالي بلاد مصر وكأنه الصاعد منها، ومنها الرجل الذي كان في الأقباط بأرض الصعيد الذي أرسل إليه أحمد بن طولون (1) صاحب مصر في سنة نيف وستين (2) ومائتين، وكان مولعاً بمعرفة الآثار القديمة، فذكر له أن رجلاً من الأقباط بأرض الصعيد له نحو مائة وثلاثين سنة، وهو ممن عني من لدن حداثته بالعلم والإشراف على الملل والآراء والنحل من مذاهب المتفلسفين وغيرها وأنه علامة بالممالك والملوك، ذو معرفة بهيئة الأفلاك والنجوم، وكان نصرانياً على مذهب اليعقوبية، فبعث ابن طولون إليه قائداً من قواده فحمله إليه في النيل مكرماً، وكان الشيخ قد انفرد عن الناس في مكان اتخذه وسكن في أعلاه، وقد رأى الرابع عشر من ولد ولده، فلما وصل إلى أحمد بن طولون أكرمه وبره وأسكنه بعض مقاصيره ومهد له في موضع جلوسه، وحمل إليه لذيذ المآكل والمشارب، فأبى الشيخ أن يغتذي إلا مما حمل مع نفسه من كعك وسويق وغيرهما، وقال: هذه بنية ما ترون من الغذاء فإن سمتموني النقلة عن العادة كان ذلك سبب انحلال البنية ويفوتكم مني ما تطلبونه، فتركه ابن طولون وما يريده، ثم أحضره مجلسه مع أهل الدراية من أصحابه وخواص مجلسه، وصرف إليه همته، فمما سأله عنه بحيرة تنيس ودمياط، فقال (3) : كان موضع البحيرة أرضاً لم يكن بديار مصر مثلها لطيب التربة وزكاء الريع، وكانت جناناً متصلة، ولم تكن بمصر كورة يقال إنها تشبه الفيوم إلا هي وحدها، وكانت أكثر فاكهة منها، وكان الماء ينحدر إلى قرى موضع البحيرة صيفاً وشتاء يسقون منه متى شاءوا، وفضلة الماء تصب في البحيرة، وكان بين العريش وقبرس طريق مسلوكة في تنيس، وبينهما اليوم سير طويل في البحر، فلما كان قبل استفتاح المسلمين بلاد مصر بمائة سنة طمى ماء البحر وزاد فأغرق القرى التي كانت في موضع البحيرة، وما كان منها في البقاع المرتفعة فهي باقية إلى الآن قد أحاط بها الماء. قال: وعند هذه الزيادة التي زادها البحر طمى الماء على القنطرة التي كانت بين بلاد الأندلس وبين ساحل طنجة من أرض المغرب، وكانت قنطرة عظيمة لا يعلم في معمور الأرض مثلها مبنية بالحجارة تمر عليها الإبل والدواب من ساحل المغرب إلى الأندلس، وكان طولها اثني عشر ميلاً في عرض واسع وسمو كثير، وربما بدت هذه القنطرة لأهل المراكب تحت الماء فعرفوها.
وسئل عن ممالك الأحابيش التي على النيل فقال: لقيت منهم ستين ملكاً كل ملك منهم ينازع من يليه، قال: وبسبب استحكام النارية في بلادهم تكون معادن الذهب كثيرة، فإن حرارة الشمس ويبسها يغير الفضة ذهباً، فإذا أطبخ ذلك الذهب بالملح والزاج والطوب خرج ما فيه من الفضة.
وسئل عن منتهى النيل في أعلاه فقال: أصله من البحيرة التي لا يدرك طولها ولا عرضها، وهي تحت خط الاستواء تحت قطر الفلك المستقيم، وهو الموضع الذي الليل والنهار فيه متساويان الدهر كله.
وسئل عن الأهرام فقال: إنها قبور الملوك، كان الملك إذا مات وضع في حوض من رخام ثم أطبق عليه وبني له هرم، ويصنع باب الهرم تحت الحوض (4) ثم يحفر له طريق في الأرض ويعقدونه آزاجاً. فقيل له: فكيف هذه الأهرام المملسة وكيف كانوا يصعدون لبنيانها؟ فقال: كانوا يبنون الهرم مدرجاً ذا مراقي يصعد فيها فإذا فرغوا من عمله نحتوه، قيل له: وكيف كانوا يصنعون بهذه الحجارة العظيمة التي لا يقدر مائة رجل أن يزحزح منها حجراً واحداً؟ قال: كانت لهم قراقل قد دبروها بأخلاط من المعادن وأنواع الحكمة فكانوا يضربون به الحجر الكبير فينقسم لهم على القدر الذي يريدونه ويتأتى لهم النحت، ومع هذا فانهم كان لهم صبر وجلد على أعمالهم ليس لمن بعدهم.
الصغانيان:
من مدن ما وراء النهر من خراسان مثل الترمذ وكش ونسف وبخارى وسمرقند وخجندة وأشروسنة والشاش وفرغانة وفارياب، وهي أكبر المدن التي عن يسار المشرق من مدينة بلخ.
__________
(1) كل خير حتى آخر المادة عن مروج الذهب 2: 372 - 392؛ والمؤلف ينقل بإجاز.
(2) ص ع: نيف وثمانين؛ وقد توفي ابن طولون سنة 270.
(3) انظر مادة ((تنيس)) في ما سبق، وخطط المقريزي 1: 177.
(4) المروج: تحت الهرم.(1/361)
وهي أكبر (1) من الترمذ ولها ربض وعليه سور تراب، وبها أسواق وتجار وقرى وعمارات وصنائع، ولها أحواز وقرى عامرة ومنافع وغلات، ولها ربض عليه سور حصين ومساكنها وشوارعها فساح وأهلها قليلون، والترمذ أكثر منها أهلاً وأعظم أموالاً، ولها مسجد جامع وخطبة، وفقهاء وطلاب العلم، ولها رستاق وبها مياه جارية (2) .
وفي ما وراء النهر من معادن الذهب والفضة والزئبق ما لا يقاربه معدن في سائر البلاد كثرة، وليس في الأقطار مثل النوشادر عندهم، وبصقلية نوشادر لا يعدل به ولا يدانيه، وإليهم يصل مسك التبت ومن عندهم يرفع، وهو يفوق كل مسك طيباً ويربي عليه ثمناً، ويرفع من الصغانيان من السمور والسنجاب وسائر الأوبار ما لا يرفع من سائر البلاد. وما وراء النهر أخصب الأقاليم خصباً وأكثرها متنزهاً، والصلاح على أهله غالب والخير فيهم فاش، ولهم الغنى والثروة والوفر والجدة، وليس بينهم في شيء من ذلك تنافس ولا يتخرقون فيه تخرق أهل زمانهم ممن همته دنيا ينالها ولذة يبلغها، بل يصرفونه إلى قرى الأضياف ومواساة الناس وسبل الجهاد وعمارة الطرق والمنازل وتعاهد المراحل والمناهل، فما ينزل بأحدهم ابن سبيل ولا يحل به إلا غمره ببره وأنساه وطنه.
الصغد (3) :
من بخارى إليها سبع مراحل، وهو قطر واسع له مدن جليلة متسعة حصينة منها: دبوسية وكشانية وكش وغيرها.
افتتحها قتيبة بن مسلم الباهلي أيام الوليد بن عبد الملك.
والصغد (4) بين بخارى وسمرقند، وهم رهط من الترك، وأهل بيت المملكة منهم بفرغانة، وفيهم كان الملك وهو خاقان الخواقين، وكان يجمع ملكه سائر الممالك، ثم انتثرت مملكتهم، وتسمى بهذا الاسم فريق منهم ببلاد التبت، وكان ممن ينقاد إلى خاقان، فلما انحل عقد نظامهم تسمى بهذا الاسم تشبهاً به.
ومن كش مدينة الصغد العظمى إلى سمرقند أربع مراحل.
والصغد (5) هم الهياطلة، وهم بين بخارى وسمرقند.
وحكوا أن مسلم بن عقبة لما خرج من المدينة بعد وقعة الحرة يريد مكة متوجهاً إلى حرب عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما فبلغ المشلل دون قديد مات هناك، أخزاه الله، فأخبرت بذلك أم ولد ليزيد بن عبد الله بن زمعة، وكانت تنزل قريباً من قديد فجاءته فنبشته فحرقته بالنار، وحرقت كفيه وبقرت بطنه وضربت بكبده أنفه، أخرجتها رطبة، وكانت خراسانية أو صغدية، فقالت قريش: لا تشتروا إلا الخراسانيات والصغديات فإنهن يطلبن بالثار، فذكر من رآه مصلوباً على المشلل أنه رآه يرمى بالحجارة كما يرمى قبر أبي رغال......
والصغد أكبر من الترمذ وبها ربض وعليه ... الخ (6)
الصفراء (7) :
قرية فوق ينبع، على ست مراحل من المدينة وهي كثيرة المزارع والنخل، ماؤها من عيون يجري فضلها من ينبع، وبين ينبع والمدينة ست مراحل ويسكن في الصفراء جهينة والأنصار ونهد.
وبالصفراء مات عبيدة بن الحارث بن المطلب وكانت قطعت رجله ببدر، فوصل إليها مرتثاً، وقالت امرأته ترثيه:
لقد ضمنوا الصفراء مجداً وسؤدداً ... وحلماً أصيلاً وافر اللب والعقل وفيها أو بقرب منها قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم النضر بن الحارث مرجعه من بدر بموضع يقال له الأثيل، وقد مر هذا (8) .
الصفا (9) :
في قوله تعالى " إن الصفا والمروة من شعائر الله "
__________
(1) نزهة المشتاق: 147، وقارن الكرخي: 167، 162، وابن حوقل: 394، 385، وياقوت (صغانيان) والمقدسي: 283.
(2) ما بين معقفين كان مدرجاً تحت ((مادة صغد)) وهي التالية، ولكن الصغد منطقة لا مدينة، فلا يقال فيها ((أكبر من الترمذ)) وقد راجعت نسختي نزهة المشتاق فوجدت العبارة فيهما تبدأ هكذا ((والصغانيان أكبر من الترمذ)) ثم يستمر الحديث عن الصغانيان لا عن الصغد.
(3) انظر في الصغد: المرخي: 177، والمقدسي: 266، وابن حوقل: 405، وياقوت (الصغد) .
(4) مروج الذهب 1: 287، والبكري (مخ) 46 - 47.
(5) مروج الذهب 2: 195.
(6) هنا كان موقع الفقرة التي نقلتها إلى المادة السابقة.
(7) معجم ما استعجم 3: 836.
(8) راجع مادة ((الأثيل)) .
(9) البكري (مخ) : 73.(1/362)
هو في أصل جبل أبي قبيس، والمروة أصل جبل قعيقعان.
الصفاح (1) :
موضع بالروحاء، ذكره ابن حلزة اليشكري في قصيدته (2) :
فالمحياة فالصفاح فأعنا ... ق فتاق فعاذب فالوفاء وفي كتاب الأطعمة من سنن أبي داود أن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما كان بالصفاح، وهو مكان بمكة، فجاءه رجل بأرنب قد صادها، فقال: يا عبد الله بن عمرو: ما تقول؟ قال رضي الله عنه قد جيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جالس فلم يأكلها ولم ينه عن أكلها، وزعم أنها
تحيض. وقال عمر بن أبي ربيعة (3)
قامت راءى بالصفاح كأنما ... كانت تريد لنا بذاك ضراراً وقيل: الصفاح ثنية من وراء بستان ابن معمر (4) ، قال الفرزدق (5) :
حلفت بأيدي البدن تدمى نحورها ... نهاراً وما ضم الصفاح وكبكب وبرقة الصفاح - بفتح الصاد - هكذا ذكرها صاعد قال البكري: أنا أراه برقة الصفاح منسوب إلى هذا الموضع.
صفورية (6) :
موضع في ثغور الشام معروف. ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل عقبة بن أبي معيط قال: أأقتل من بين قريش!! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " وهل أنت إلا يهودي من صفورية "؟ فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حن قدح ليس منها.
وذكر الكلبي أن أمية خرج إلى الشام فأقام بها عشر سنين فوقع على أمة يهودية للخم من أهل صفورية يقال لها ترنى فولدت ذكوان، فاستلحقه أمية وكناه أبا عمرو.
صفين (7) :
موضع بالعراق معروف على الفرات، ويقال فيه صفون أيضاً فهو يقال صفين في حال الرفع والنصب والجر، ومنهم من يقول صفون في الرفع، والأغلب على صفين التأنيث.
وقيل لأبي وائل شقيق بن سلمة: أشهدت صفين؟ قال:
نعم، وبئست صفون؛ وقال أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني:
كما بلغت أيام صفين نفسه ... تراقيه والشامتي شهود وهي صحراء ذات كدى وأكمات، وبها كانت الوقيعة العظيمة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وأهل العراق وأهل الشام، والتي جاء فيها الحديث المتفق على صحته: " لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان يكون بينهما مقتلة عظيمة دعواهما واحدة "، وكان ذلك في شهر ربيع الأول سنة سبع وثلاثين، وقيل في ربيع الآخر، وأقام علي ومعاوية رضي الله عنهما بصفين سبعة أشهر، وكان بينهم قبل القتال نحو من سبعين زحفاً، وقتل في ثلاثة أيام ثلاثة وسبعون ألفاً من الفريقين وقتل فيها من أصحاب معاوية رضي الله عنه خمسة وأربعون ألفاً على اختلاف في ذلك كله، وكان أهل الشام خمسة وثلاثين ألفاً ومائة ألف، وكان أهل العراق عشرين أو ثلاثين ألفاً ومائة ألف، وقتل في أصحاب علي رضي الله عنه خمسة وعشرون بدرياً، وكان معه منهم سبعون رجلاً وممن بايع تحت الشجرة سبعمائة، وعلي فيما لا يحصى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خيار التابعين، ومع علي رضي الله عنه رايات كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل بها، وقيل: بل لم يشهدها من أهل بدر غير خزيمة بن ثابت، وهو قول مرغوب عنه، فإن من البدرية عمار بن ياسر رضي الله عنه وقد قتل معه، وبه عرفت الفئة الباغية في قوله صلى الله عليه وسلم، فإنه قال لعمار حين جعل يحفر الخندق: " ويح ابن سمية تقتلك فئة باغية "، وجعل يمسح رأسه، أخرجه مسلم، قالوا: وهو خبر متواتر من أصح الحديث، وحين لم يقدر معاوية رضي الله عنه على إنكار هذا الحديث قال: إنما قتله من
__________
(1) معظمه عن معجم ما استعجم 3: 834، وسنن أبي داود 2: 133.
(2) شرح المعلقات للزوزني: 288.
(3) ديوان عمر: 149.
(4) ص ع: يعمر.
(5) ديوان الفرزدق 1: 80.
(6) معجم ما استعجم 3: 837.
(7) أول المادة عن معجم ما استعجم 3: 837.(1/363)
أخرجه، وقد أجاب علي رضي الله عنه عن قول معاوية رضي الله عنه بأن قال: فرسول الله صلى الله عليه وسلم إذاً قتل حمزة حين أخرجه.
قال الإمام عبد القاهر في كتاب " الإمامة " من تأليفه: أجمع فقهاء الحجاز والعراق من فريقي أهل الحديث والرأي، منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي والجمهور الأعظم من المتكلمين أن علياً رضي الله عنه مصيب في قتاله لأهل صفين، كما قالوا بإصابته في قتاله لأهل الجمل، وقالوا أيضاً: إن الذين قاتلوه بغاة ظالمون له، ولكن لا يجوز تكفيرهم ببغيهم.
قال إمام الحرمين: كان علي رضي الله عنه إماماً حقاً ومقاتلوه بغاة وحسن الظن بهم يقتضي أن يظن بهم قصد الخير وإن أخطأوه.
وكان علي رضي الله عنه ركب بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تعصب بعمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم السوداء ثم نادى: أيها الناس من يشتري نفسه من الله؟ من يبيع الله نفسه؟ فانتدب لها ما بين عشرة آلاف إلى اثني عشر ألفاً فحمل بهم حملة واحدة، فلم يبق لأهل الشام صف إلا أزالوه حتى أفضوا إلى معاوية رضي الله عنه فدعا بفرسه لينجو عليه، فلما وضع رجله في الركاب تمثل بقول عمرو بن الاطنابة:
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك حمدي أو تستريحي فأقام.
قال بشير الأنصاري: والله الذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم ما سمعنا برئيس قوم قط أصاب بيده في يوم واحد ما أصاب علي يومئذ بيده، أنه قتل فيما ذكر العادون زيادة على خمسمائة رجل من رجال العرب كان يخرج إليهم فيضرب فيهم ثم يجيء بسيفه منحنياً..
وسئل خبار: لم كان علي رضي الله عنه يحب ركوب البغال دون الخيل، قال: لأنه لم يكن ممن يفر فيطلب السوابق، ولا يطلب الهارب، فاقتصر على ما يحصل به فارساً دون ما يكون به فاراً أو طالباً. وكانت درعه صدراً بلا ظهر، فقيل له: لو أحرزت ظهرك، فقال: إذا وليت فلا وألت. وكان إذا استعلى الفارس قده وإذا استعرضه قطعه، والقد القطع طولاً والقطع القطع عرضاً.
ولما رأى معاوية رضي الله عنه ما لا قبل له به لأنه رأى أمر علي رضي الله عنه يقوى وأمره يضعف شاور عمراً رضي الله عنه فقال له: ما ترى. قال: مر الناس برفع المصاحف، فأمر برفع مائة مصحف، فرفعت، فلما رأى ذلك أصحاب علي رضي الله عنه كفوا عن القتال، فقال لهم علي رضي الله عنه: إن هذه لخديعة، فسلوهم ما شأن هذه المصاحف، فقال معاوية رضي الله عنه: نجعل القرآن حكماً بيننا ونثوب إلى السلم، فكان ذلك سبباً لتحكيم الحكمين: أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاصي رضي الله عنهما، وخروج الخوارج على علي رضي الله عنه، وافتراق الناس واختلاف أصحابه.
قال شقيق بن سلمة: والله لكأني أنظر يومئذ إلى رجل واقف على فرس على تل ومعه رمح طويل في رأسه مصحف يقول: بيننا وبينكم ما في هذا المصحف، ثم قرأ: " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون " ثم يقول: من لفارس، من للروم، فقال أناس من أصحاب علي رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين أنصف القوم، فقال علي رضي الله عنه: والله ما كتاب الله يريدون. فلم يزالوا به، قالوا له: ابعث حكماً منك وحكماً منهم. قال القاضي أبو بكر بن الطيب: ومعاذ الله أن يكون الحكمان حكما عليه بالخلع، وإنما حكم عليه بذلك عمرو وحده، وقد أنكر ذلك عليه أبو موسى وأغلظ له في القول، وعلى أنهما لو اتفقا جميعاً على خلعه لم ينخلع حتى يكون الكتاب والسنة المجتمع عليهما يوجبان خلعه أو واحداً منهما.
وذكر (1) صعصعة بن صوحان العبدي، قال: كان علي رضي الله عنه مصاف أهل الشام يوماً بصفين حتى برز رجل من حمير من آل ذي يزن اسمه كريب بن الصباح ليس في أهل الشام يومئذ أشهر بشدة البأس منه، برز بين الصفين ثم نادى: من يبارز، فبرز إليه شرحبيل بن طارق البكري، فقتل شرحبيل، ثم نادى كريب: من يبارز. فبرز إليه الحارث بن الجلاح، فاقتتلا، فقتل الحارث، ثم نادى: من يبارز فبرز إليه عائذ بن مسروق الهمداني فقتل عائذ، ثم رمى كريب بأجسادهم
__________
(1) كتاب صفين: 315 - 316.(1/364)
بعضها على بعض، ثم قام عليها بغياً وعدواناً، ثم قال: هل بقي لنا من مبارز. فخرج إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فناداه: ويحك يا كريب، إني أحذرك الله وأدعوك إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويلك لا يدخلك النار، فقال له كريب: ما أكثر ما سمعت منك هذه المقالة، لا حاجة لنا فيها، أقدم إن شئت، من يأخذ سيفي هذا وهذا أثره، فقال علي رضي الله عنه: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم مشى إليه علي رضي الله عنه فالتقيا هنيهة، ثم إن علياً رضي الله عنه ضربه فقتله، ثم نادى علي رضي الله عنه: من يبارز؟ فبرز إليه الحارث بن وداعة الحميري، فقتله علي رضي الله عنه، ثم نادى: من يبارز؟ فبرز إليه المطاع بن المطلب القيني فقتله، ثم نادى: يا معشر المسلمين: " الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله مع المتقين "، ثم نادى علي رضي الله عنه: ويحك يا معاوية، هلم فبارزني ولا تفنين العرب بيننا فقال عمرو رضي الله عنه: اغتنمه، فقد قتل أربعة من فرسان العرب، وأنا أطمع أن يظفرك الله به، فقال معاوية رضي الله عنه: والله إن تريد إلا قتلي فتصيب الخلافة، اذهب إليك، فليس مثلي يخدع، ما بارز ابن أبي طالب رجلاً إلا سقى الأرض من دمه.
وافترقوا (1) قبل التحكيم عن سبعين ألف قتيل على أصح الروايات بعد أن تراموا بالنبل حتى فنيت، وتطاعنوا بالرماح حتى اندقت، وتضاربوا بالسيوف حتى انقطعت، ثم نزل القوم يمشي بعضهم إلى بعض قد كسروا جفون سيوفهم واضطربوا. بما بقي من السيوف وعمد الحديد فلا تسمع إلا غمغمة القوم، فلما صارت السيوف كالمناجل تراموا بالحجارة، ثم جثوا على الركب فتحاثوا التراب في الوجوه ثم تكادموا بالأفواه، وكسفت الشمس وثار القتام وارتفع الغبار وضلت الألوية والرايات، ومرت مواقيت أربع صلوات لأن القتال كان بعد صلاتهم الصبح، فاقتتلوا إلى نصف الليل، وهي ليلة الهرير جعل بعضهم يهر على بعض، وهو الصوت يشبه النباح، وكبروا في أوقات الصلوات خاصة، وقاتلهم علي رضي الله عنه ولم يذفف على جريح ولا تبع منهزماً ولا أخذ أسيراً ولا سبى امرأة ولا كشف عورة ولا أخذ مالاً، إلا ما أجلبوا به عليه من سلاح أو كراع فإنه يرده إلى أهلهم.
قالوا: ولا خلاف بين أهل الحل والعقد أن علياً رضي الله عنه كان أحق بالخلافة والإمامة في ذلك الوقت من كل من على وجه الأرض عموماً، وأفضل من معاوية خصوصاً، لأنه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاً وأخوه نسباً وقسيمه حسباً، ومن الأولين السابقين والمهاجرين المذكورين في الكتاب، ومن العشرة المقطوع لهم بالجنة، وشهد بدراً، وقد غفر الله لكل من شهد بدراً من المسلمين، وقتل فيها يومئذ ثلث المقاتلين، وتحرك به جبل حراء وهو مع ابن عمه صلى الله عليه وسلم، وصلى القبلتين، وفداه صلى الله عليه وسلم ليلة الغار بنفسه، وشهد بيعة الرضوان، وبايع تحت الشجرة، وكتب كتاب المقاضاة بيده، وأعطاه صلى الله عليه وسلم لواءه في غير موقف، وزوجه البتول سيدة نساء أهل الجنة، وهو أبو سيدي شباب أهل الجنة، وخامس أصحاب العباءة، ويحب الله ويحبه الله، باتفاق من الصحيحين، وأنزله منه (2) صلى الله عليه وسلم بمنزلة هارون من موسى، وعهد إليه أنه لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق.
صفاقس (3) :
مدينة بإفريقية، بينها وبين قفصة ثلاثة أيام، وهي مدينة قديمة عامرة، لها أسواق كثيرة وعمارة شاملة وعليها سور حجارة وعلى أبوابها صفائح حديد منيعة، وعلى أسوارها محارس للرباط، وشرب أهلها من المواجل، ويجلب إليها من قابس نفيس الفواكه، ويصاد بها من السمك ما يعظم خطره - وأكثر صيدهم في الماء الميت بضروب حيل، وجل غلاته الزيتون، والزيت بها منه شيء كثير، ومرساها حسن ميت الماء، ولأهلها نخوة وفي أنفسهم عزة، وملكها طاغية صقلية سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، ثم استنقذت منه وعمرت، ومنها إلى المهدية مرحلتان.
ومن الناس من يكتب صفاقس بالسين، ومن قابس (4) إلى عين الزيتونة إلى منزل في طرف ساحل الزيتون (5) ، ومن هناك إلى غافق، وهو بلد معمور، ومن هناك إلى صفاقس، وبها أسواق
__________
(1) انظر كتاب صفين: 479.
(2) ص ع: وأنزله الله عز وجل منه.
(3) الإدريسي (د/ ب) : 107/ 77 (سفاقس) .
(4) البكري: 19.
(5) هذا المنزل اسمه ((تاورقي)) .(1/365)
كثيرة ومساجد ومسجد جامع، وسورها صخر وطوب، وبها حمامات وفنادق وبواد عظيمة وقصور جمة وحصون ورباطات على البحر، منها محرس فيه منار مفرط الارتفاع يرقى إليه في مائة وست وستين درجة.
وصفاقس في وسط غابة زيتون، ومن زيتها يمتار أهل مصر والمغرب وصقلية والروم، وربما بيع الزيت بها أربعين ربعاً بمثقال واحد، وهي محط لسفن الآفاق، وإذا جزر الماء بقيت السفن في الحمأة فإذا مد رجعت السفن وعامت، ولا بد من المد والجزر كل يوم.
وكان الأديب أبو عبد الله محمد بن الشيخ أبي تميم ولي في المدة المستنصرية اشرافها فلم توافقه فقال (1) :
صفاقس لا صفا عيش لساكنها ... ولا سقى أرضها غيث إذا انسكبا
ناهيك من بلدة من حل ساحتها ... عانى بها العاديين الروم والعربا
وليتها فتولتني الهموم وقد ... لقيت من سفري في أرضها نصبا
كم ظل في البر مسلوباً بضاعته ... وبات في البحر يشكو الأسر والعطبا
قد عاين البحر قبحاً في جوانبها ... فكلما هم أن يدنو لها هربا ويقصدونها (2) التجار من الآفاق بالأموال الجزيلة لابتياع المتاع والزيت وعمل أهلها في القصارة والكمد كعمل أهل الإسكندرية وأحسن، وتقابل صفاقس في البحر جزيرة قرقنة، وهذه الجزيرة في وسط القصير، بينها وبين مدينة صفاقس في ذلك البحر الميت القصير القعر نحو عشرة أميال، وليس للبحر هناك حركة، وحذاء هذا الموضع في البحر على رأس القصير بيت مشرف مبني بينه وبين البر الكبير نحو الأربعين ميلاً، فإذا رأى ذلك البيت ركاب السفن الواردة من الإسكندرية والشام وبرقة أداروها إلى مواضع معلومة.
صقلية:
جزيرة صقلية في قطعة من البحر الشامي بينها وبين أقرب بر من مالطة ثمانون ميلاً؟ افتتحها المسلمون في صدر الإسلام وغزاها أسد بن الفرات الفقيه أميراً وقاضياً سنة اثنتي عشرة ومائتين، ففزع فيمه (3) البطريق النصراني قائد صاحب صقلية إلى زيادة الله فعرض عليه أمر صقلية، والظفر بها، فولى زيادة الله أسد بن الفرات القاضي الفقيه على جيش إفريقية من قريش والعرب والبربر وغيرهم وأقره على القضاء مع القيادة، فخرج أسد في جيش عظيم وجمع كثير وعدة كاملة في شهر ربيع الأول من العام المذكور، وكان فصوله من مدينة سوسة في سبعين مركباً يوم السبت للنصف من ربيع الآخر ووصل إلى مرسى مازر يوم الثلاثاء بعده، وكانت طريقه من المرسى على قلعة بلوط ثم على قرى الريش ثم صار إلى قلعة الدب، وسميت بذلك لأنهم أصابوا فيها دباً أنيساً، ثم إلى قرية الطواويس، وسميت بذلك لأنهم أصابوا فيها طاووساً، ثم إلى معركة بلاطة (4) ، وهناك ظهر لهم جمع الروم فنازلهم فانهزم المشركون وأصيب لهم كراع وسلاح ولذلك سميت معركة بلاطة، وهو اسم ملك النصارى، ثم رحل إلى حصون الروم وقراهم يغير ويسبي، وبث السرايا في جميع الجزيرة وكثرت المغانم عند المسلمين وصاروا في رغد من العيش، وسارع الناس إلى إمدادهم من إفريقية والأندلس، وحاصر أسد مدينة سرقوسة وقاتلهم (5) براً وبحراً وأحرق مراكبهم وقتل جماعة من أهلها، ومات أسد سنة ثلاث عشرة ومائتين وهو محاصر لسرقوسة، ووقع الموتان في عسكر المسلمين.
واختلفت عليهم بعده الولاة، ثم كان فيها من العلماء والعباد والفقهاء والشعراء وأعيان الناس ما لا يأخذه عد ولا يأتي عليه إحصاء، إلى أن طال الأمد وقست القلوب واختلفت الأهواء ووقعت الفتن بين أهلها، وخلفت فيهم خلوف، ومضت الأعصار الطويلة فتغلب عليها النصارى في سنة أربعمائة وثلاث وخمسين، ومازال
__________
(1) رحلة التجاني: 69، وفيها معلومات هامة عن صفاقس، وانظر كذلك الاستبصار: 116.
(2) عادة إلى النقل عن البكري: 20 - 21.
(3) ص ع: قيمه؛ وفيه أو فيمي (Euphemius) هو الذي تذكر المصادر العربية أنه حث الأغالبة على فتح الجزير لنزاع بينه وبين صاحب القسطنطينية (نهاية الأرب 22: 238) ؛ وهذا النص يشبه ما عند البكري (ح) : 219 مع اختلاف في بعض التفصيلات.
(4) كذا ولعله ((منزلة)) ؛ وبلاطة: موضع المعركة، ولكن المصادر العربية تجعله أيضاً أسماً لحاكم صقلية.
(5) ص ع: وقابلهم.(1/366)
الطاغية رجار الفرنجي يفتحها قطراً قطراً ويأخذها كفراً كفراً إلى أن استولى على جميعها وذلك في مدة ثلاثين عاماً (1) إلا أنه أقر الناس بها على ديانتهم وشرائعهم وأمنهم في أنفسهم وأموالهم وأهلهم وذراريهم، وأقام على ذلك مدة حياته إلى أن مات سنة أربع وتسعين وأربعمائة، فخلفه ابنه رجار الثاني فحذا حذوه وسار بسيرته فركن إليه الناس ورضوا بتسليم الأمور له.
وصقلية اسم لإحدى مدنها فنسبت الجزيرة كلها إليها، وفيها مدن (2) كثيرة، وهي جزيرة عظيمة ضخمة حصينة خطيرة قيل إن فيها مائة بلد وثلاثين بلداً بين مدينة وقلعة غير ما بها من الضياع والمنازل.
وطول هذه الجزيرة سبعة أيام وعرضها خمسة أيام، وفتحت في سنة اثنتي عشرة ومائتين، فتحها زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب أمير القيروان، بعث إليها أسد بن الفرات، كما قدمناه، فمشى في مراكبه إلى سرقوسة، مدينة من مدن الجزيرة، فنزل بمرساها، وقاتل البطريق الذي كان بها حتى قتله.
قالوا: ومعنى صقلية باللسان القديم: تين وزيتون، وهو الذي أراد أبو علي حسن بن رشيق في مدح قاعدتها بلرم المدعوة باللسان العربي المدينة في قوله:
أخت المدينة في اسم لا يشاركها ... فيه سواها من البلدان والتمس
وعظم الله معنى ذكرها قسماً ... قلد إذا شئت أهل العلم أو فقس يشير إلى قوله تعالى: " والتين والزيتون ".
وقال البكري (3) : سميت صقلية باسم سيقلو أخو ايطال (4) الذي به سميت ايطالية وكانت تعرف قبل تري قريا، ومعناه باللسان الإغريقي: ثلاثة في أربعة (5) ، وإنما ذلك لثلاثة مواضع مشرفة فيها وهي: بلرم التي هي قاعدتها وباجنة ولياوم (6) ، وبين صقلية وبلد إيطالية خليج من البحر.
وقال ارشيوس عرض جزيرة صقلية مائة وسبعة وخمسون ميلاً وطولها مائة وسبعة وسبعون ميلاً، وقال غيره: دور صقلية الذي يحيط بها خمسمائة ميل وطول جزيرة صقلية من جبل بلرم إلى جل بحيتة، وعرضها من جبل باجنة إلى جبل انتسوا عند مرسى علي، ويذكر أنها مثلثة الشكل.
وقال بعضهم: لا أدري جزيرة في البحر أكثر منها بلاداً ولا عمارة أقطار، فالثلث الشرقي منها، من مسيني إلى جزيرة الأديب، مائتا ميل، ومن جزيرة الأديب إلى طرابنش أربعمائة ميل وخمسون ميلاً، وهو الوجه الجنوبي، والوجه الثالث من طرابنش إلى الحراش اثنان وخمسون ميلاً. وهي كثيرة الزرع والضرع والفواكه، وبلرم قاعدتها في شمال الجزيرة على سبع ليال من المجاز.
وبجزيرة صقلية البركان العظيم (7) الذي لا يعلم في العالم أشنع منظراً منه ولا أغرب خبراً، وهو في جزيرتين شمالاً من هذه الجزيرة، وإذا هبت الريح الجوفية سمع له دوي هائل كالرعد القاصف.
وقد كان بروفوريوس الفيلسوف شخص من مدينة صور إلى صقلية لينظر إلى البركان ويعاين فعل الطبيعة هناك ويخبر عنه وعن العلة فيه بقول واضح، فمات بها وقبره بها معروف، وقبر جالينوس أيضاً هناك معلوم، وكان قد شخص من مدينة رومة يريد الشام ليلقى أصحاب عيسى عليه السلام.
وبصقلية مياه حامضة، وبها معدن من الكبريت الأصفر الذي لا يوجد بموضع مثله، وهو بجزيرة البركان، وله قطاعون وعمالون عالمون بتناول ذلك قد تمرطت شعورهم وتصلبت (8) أظفارهم، ويذكرون أنهم يجدونه في بعض الأزمنة سيالاً متميعاً فيجدون له في الأرض مواضع يجتمع فيها، ثم يجدونه في غير ذلك الأوان قد تحجر وحمض فيقطعونه بالمعاول.
__________
(1) بعض هذه الفقرة ملخص عن الإدريسي (م) : 20 - 21 مع حذف حماسته لرجار وإشادته بذكره.
(2) عاد إلى التلخيص عن الإدريسي.
(3) البكري (ح) : 213، وبعضه عند ابن الشباط (المكتبة الصقلية: 210) .
(4) في الأصلين: انطال ... أنطالية.
(5) لعل ((في أربعة)) مصحفة عن ((مرابع)) وذلك قد يوافق قوله ((لثلاثة مواضع مشرفة)) .
(6) الأرجح أن تكون ((باجنة)) هي ((باشنو)) التي يذكرها الإدريسي: 56 كما اقترح الأستاذ رتزيتانو؛ أما لياووم فيرجح الأستاذ نفسه أنها محرفة، وأن مكانها في الزاوية الشمالية الشرقية هو الفارو ((il Faro)) .
(7) انظر مادة ((البركان)) في ما تقدم.
(8) البكر وابن الشباط: ونصلت؛ وهو أصوب.(1/367)
وبجزيرة صقلية آبار ثلاث عند قلعة مينا (1) من إقليم سرقوسة يخرج منها في وقت معلوم من السنة زيت النفط وذلك في شهر شباط وشهرين (2) بعده، وينزل من البر عليه على درك ويرقى على درك آخر، ويخمر الذي يدخل البئر رأسه ويسد مسام أنفه، وإن تنفس في أسفل البئر هلك من ساعته، وما أخرج منه وضع في قصار يعلو الدهن منه.
وفي بعض التواريخ أن جزيرة صقلية كان يسكنها في قديم الزمان أمة مهملة كانت تأكل الناس، ويقال إنه كان فيها جنس من المسوخ بعين واحدة (3) .
وفي السنة التي بويع فيها علي بن أبي طالب رضي الله عنه سار قسطنطين بن هرقل في ألفي (4) مركب يريد بلاد المسلمين، فسلط الله تعالى عليه عاصفاً من الريح فغرقها ونجا قسطنطين فلجأ إلى صقلية، فصنعوا له حماماً ودخله فقتلوه فيه. وبمدينة صقلية نهران مطردان من عين واحدة.
وكان بجزيرة صقلية ملوك وقواد وجيوش للمسلمين ورؤساء وعلماء وصالحون، فصنف ابن القطاع " الدرة الخطيرة في محاسن الجزيرة " ذكر فيها شعراءها وجملة من رجالها، وكان تغلب العدو عليها في سنة أربعين - أو ستين على الرواية الأخرى - وأربعمائة، وممن بكاها عبد الجبار بن حمديس الشاعر في قصيدته المشهورة التي أولها:
قضت في الصبا النفس أوطارها ... وأبلغها الشيب إنذارها
نعم وأجيلت قداح الهوى ... عليها فقسمن أعشارها يقول في آخرها:
ذكرت صقلية والأسى ... يهيج للنفس تذكارها
فإن كنت أخرجت من جنة ... فإني أحدث أخبارها
ولولا ملوحة ماء البكا ... حسبت دموعي أنهارها وزعموا أن في جزيرة صقلية، في ناحية منها، عينين تجريان: إحداهما أيما امرأة شربت منها حبلت، والأخرى أيما أنثى شربت منها حبلت وتوأمت (5) .
الصقالبة (6) :
في سنة ثمان وتسعين سار مسلمة بن عبد الملك إلى القسطنطينية في البر، وعمر بن هبيرة في البحر، فجازا الخليج ودارا ما بين الخليج وبينها، وفتحا مدينة الصقالبة.
الصهباء (7) :
بالحجاز، في طريق خيبر، وعلى اثني عشر ميلاً منها، وبها مر صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى خيبر وصلى بها العصر، وبها بنى بصفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها، وهي على طريق وادي القرى، وقد كان صلى الله عليه وسلم أراد أن يبتني بها بثبار (8) ، على ستة أميال من خيبر، فأبت عليه حتى وجد في نفسه، فلما بلغ الصهباء مال إلى دومة هناك فطاوعته، فقال لها صلى الله عليه وسلم: " ما حملك على ما صنعت حين أردنا النزول بثبار؟ "، فقالت: يا رسول الله خفت عليك يهود، فلما بعدت منهم أمنت، فزادها عنده خيراً وعرف أنها قد صدقته.
صهاب (9) :
قرية بفارس، بها كانت الوقيعة على المسلمين وأميرهم الحكم بن أبي العاصي بن بشير الثقفي أخو عثمان بن أبي العاصي، وقال الشاعر:
وأبي الذي ترك الملوك وجمعهم ... بصهاب هامدة كأمس الدابر
__________
(1) هي: (Mineo) .
(2) ع: وتشرين، وهو تصحيف.
(3) سمي البكري هذا الجنس باسم ((ققلوفس)) (Cyclops) . (وكتبها المحقق: حقولفس) .
(4) البكري: ألف.
(5) كذا والمشهور ((وأتأمت)) .
(6) انظر الطبري 2: 1317، وتاريخ اليعقوبي 2: 299، وأثبات هذه المادة وهم من المؤلف، تابع فيه ظاهر قول الطبري ((وفي هذه السنة (اي 98) فتحت مدينة الصقالبة)) ، والطبري يعني بها إحدى مدن برجان.
(7) طبقات ابن سعد 8: 121، وبعضه في معجم ما استعجم 3: 844.
(8) أثبته ياقوت في باب الثاء والباء، وفي طبقات ابن سعد (تبار) ، ص ع: ثبان.
(9) انظر معجم ما استعجم 3: 844.(1/368)
صورا (1) :
هي آخر بلاد النوبة، تسير من دمقلة في جبال وشعاب حتى تنتهي إلى صورا هذه، وهي مدينة كبيرة على شاطئ النيل.
صور (2) :
من بلاد الشام بحرية، بها دار الصنعة، ومنها تخرج مراكب السلطان، وهي حصينة جليلة، قريبة من عكا، ويضرب بها المثل في الحصانة، وهي أنظف من عكا سككاً وشوارع، ولها بابان: أحدهما في البر والآخر في البحر، وهو يحيط بها إلا من جهة واحدة، فالذي في البر يفضى إليه بعد ولوج ثلاثة أبواب أو أربعة، والذي في البحر هو مدخل بين برجين مقدرين (3) إلى ميناء ليس في البلاد البحرية أعجب وضعاً منها، يحيط بها سور المدينة من ثلاثة جوانب، ويحدق بها من الجانب الآخر جدار معقود بالجص، والسفن تدخل تحت السور وترسي فيها، وتعترض من البر بين البرجين المذكورين سلسلة عظيمة تمنع عند اعتراضها الداخل والخارج، فلا مجال للمراكب إلا عند إزالتها، وعلى ذلك الباب حراس وأمناء، لا يدخل الداخل ولا يخرج الخارج إلا على أعينهم، ولعكا مثلها في الوضع والصفة لكنها لا تحتمل السفن الكبار حمل تلك.
وأخذت الروم (4) صور من أيدي المسلمين سنة ثمان عشرة وخمسمائة في أيام الآمر بأحكام الله خليفة مصر الشيعي، وكان أهلها عزموا على أن يجمعوا أهاليهم وأبناءهم في المسجد الجامع ويحملوا عليهم سيوفهم غيرة من تملك النصارى لهم، ثم يخرجوا إلى عدوهم بعزمة نافذة، ويصدموهم حتى يموتوا على دم واحد ويقضي الله قضاءه لهم، فمنعهم من ذلك فقهاؤهم والمتورعون منهم، فأجمعوا على دفع البلد والخروج عنه بسلام، فكان ذلك، وتفرقوا في بلاد المسلمين، ومنهم من استهواه حب الوطن فأقام بها.
وصور وعكا (5) لا بساتين حولهما إنما هما في بسيط من الأرض متصل بسيف البحر، والفواكه تجلب إليهما من رساتيقهما التي بالقرب منهما. ولصور عند بابها البري عين معينة ينحدر إليها على أدراج، والآبار والجباب فيها كثيرة لا تخلو دار منها.
ومنها عبد المحسن الصوري الشاعر.
وهي الآن للروم وبينها وبين الإسكندرية خمسة عشر ميلاً، وهي مدينة (6) حسنة وبها للمراكب إقلاع وحط، وقد أحاط البحر بها من ثلاثة أركانها، ولها ربض كبير يعمل فيه جيد الزجاج والفخار، ويعمل بها من الثياب القمص المحمولة إلى كل الآفاق كل شيء حسن، ومن صور إلى دمشق خمسة أيام.
صور:
قرية كبيرة على فم الخليج الذي يتصل بشرقي أرض الواحات.
الصيمرة (7) :
مدينة في الجبل، وهي في مرج أفيح فيه عيون وأنهار، ومنها الصيمري صاحب " التبصرة " في النحو، وأجود الجبن الصيمري.
صيمور (8) :
مدينة في الهند واسعة حسنة جليلة المباني حسنة الجهات، بها نارجيل كثير وقنا هندية، وبجبالها كثير من نبات العطر المحمول إلى سائر الآفاق.
هي من بلاد الملك المسمى بلهرا، وملكه عظيم، وبلاده واسعة العمارات جامعة للخيرات، وجبايته وافرة وأمواله مقنطرة وفي بلاده أنواع من صنوف الأفاويه العطرية، وتفسير بلهرا: ملك الملوك، وهو اسم يتوارثه الملوك كما أن البغبوغ اسم يتوارثه ملوك الصين، وكذلك بلهرا في الهنود، والغالب على هذا البلد الكفرة، وفيه مسلمون لا يلي عليهم إلا مسلم من قبل البلهرا يستخلفه عليهم، وكذلك في كثير من البلدان التي في أطراف المسلمين، فيغلب
__________
(1) البكري (مخ) : 59، وقد مر ذكرها في مادة ((دمفلة)) .
(2) رحلة ابن جبير: 304 وما بعدها.
(3) الرحلة: مشيدين.
(4) الرحلة: 306.
(5) رحلة ابن جبير: 310.
(6) نزهة المشتاق: 115.
(7) قارن بابن حوقل: 314، والكرخي: 118، والمقدسي: 394، واليعقوبي: 269، وياقوت (الصيمرة) ، والحديث عن جودة الجبن فيها عن معجم ما استعجم 3: 849.
(8) الإدريسي (ق) : 53، أما المعلومات عن البلهرا فإنها منقولة عن البكري (مخ) : 45، وانظ كتاب (AGK) الصفحة: 69، حيث أورد ما قاله ثمانية من الجغرافيين العرب عن صيمور، وقارن المعلومات عن البلهرا بما قاله الإدريسي (ق) : 59، وما أورده المسعودي (المروج ج: 1) وما في أخبار الصين: 12.(1/369)
عليها ملوك الكفر، كالخزر واللان وغيرهم، لا يمضي على المسلمين هناك حكم لكافر، ولا يقيم عليهم شهادة إلا المسلمون، وإن قلوا.
وببلاد البلهرا مساجد تقام فيها الصلوات والجمع وتقام الجمعات بالأذان والأعلام، وهي مملكة عريضة، وزي المسلمين هناك واحد في اللبسة وإرسال الشعر، وزعموا أن الهند اسم نهر هناك وبه تسمى الهند.
وصيمور (1) أيضاً جزيرة من جزائر بحر الصين، بها من المسلمين نحو من عشرة آلاف، ومن مذاهب هؤلاء الصينيين أن ما ينالهم من النعيم في المستقبل مؤجلاً بقدر ما تعذب به أنفسها في هذه الدار معجلاً، قال المسعودي: رأيت منهم رجلاً ببلاد صيمور وهو يطوف في أسواقهم ومعه جماعة أهله وقد أضرمت له النار وقد وضع على رأسه الجمر والكبريت، فيسير وهامته تحترق، وروائح دماغه تتضوع فلما دنا من النار أخذ خنجراً فوضعه على فؤاده فشقه، ثم أدخل يده الشمال فقبض على كبده فجذب منها قطعة وهو يتكلم، فقطعها بالخنجر، ودفعها إلى بعض إخوانه تهاوناً بالموت ولذة بالنقلة ثم هوى بنفسه في النار.
صهيون (2) :
كنيسة عند بيت المقدس جليلة حصينة، فيها العلبة التي أكل فيها المسيح مع تلامذته.
الصين:
بلاد في مطلع الشمس، يقال إن فيها ثلثمائة مدينة ونيفاً عامرة كلها سوى القرى والرساتيق، ومن خرج إليها قطع سبعة أبحر، لكل بحر منها لون وريح وسهك ليس في غيره، أول بحورهم بحر فارس.
وفي الصين عجائب كثيرة، والأصل في ذلك أن قوماً من بني عامور بن يافث قطعوا إلى ناحية الصين، وكان عامور قد عمل فلكاً حكى به سفينة جده نوح صلى الله عليه وسلم، فركب فيها هو وولده وأهله، وقطع البحار إلى الصين، فبنى هو وولده المدائن وعملوا الحكم ودقائق الصناعات، وملكهم ثلثمائة سنة، وملك ابنه صاين مائتي سنة وبه سميت الصين، ومدينتهم العظمى يقال لها انموا (3) بينها وبين خانقو (4) التي تنزل فيها مراكب التجار ثلاثون يوماً، وأهل الصين بيض إلى الصفرة فطس، يبيحون الزنا ولا ينكرون شيئاً منه، ويورثون الأنثى أكثر من الذكور، ولهم عند دخول الشمس في الحمل عيد كبير يأكلون فيه ويشربون سبعة أيام.
وأشرف حليهم (5) من قرون الكركدن، لأنها متى قطعت قرونها ظهرت فيها صور عجيبة مختلفة، والكركدن دابة لها قرن واحد في الجبهة طوله ذراع، وغلظه قبضتان، فيه صور من أوله إلى آخره، وإذا شق رأيت الصورة بيضاء في سواد صورة إنسان أو دابة أو سمكة أو غير ذلك، فيتخذه أهل الصين مناطق تبلغ المنطقة منه مائتين وثلثمائة دينار إلى ثلاثة آلاف دينار إلى أربعة آلاف.
والذهب عندهم هين حتى يتخذون منه لجم دوابهم وسلاسل كلابهم، ووراءهم صين الصين وهم أمم عراة يلتفون في شعورهم، ومنهم أمم زعر لا شعر لهم، وأمم حمر الوجوه شقر الشعور.
وبحر الصين (6) بحر خبيث بارد، ريحه من قعره تغلي كغليان الماء على جاحم النار، ويخبر الثقات من ركابه أنه بحر مسكون له أهل في بطن الماء، وأنهم يرونهم إذا هاج البحر ليلاً كهيئة الزنج، ويطلعون المراكب. وفي بحر الصين سمكة مثل الحراقة يرمي بها الموج إلى الساحل، فإذا جزر الماء بقيت على الطين، فلا تزال تضطرب حتى تنسلخ في اضطرابها من إهابها، فيكون لها جناح تستقل به فتطير، وفيه سمكة تلتقم الناس، وربما مات الرجل من ركاب البحر فيرمى به في البحر فلا يخطئ فاهة السمكة، كأنما كانت له رصداً. وفي هذا البحر يرى وجه عظيم على صورة الإنسان إلا أنه مفرط الكبر مستدير يشبه لون القمر.
وفي تخوم (7) بحر الصين جزيرة النساء، ليس يسكنها أحد إلا النساء، وهن يلقحن من الريح ويلدن النساء، وقيل: إنهن
__________
(1) البكري (مخ) : 33، وقد كتبت عنده ((صيمون)) ، وأجاز ياقوت الوجهين.
(2) ص ع: صيهور؛ وانظر ياقوت (صيهون) ؛ والزيات للهروي: 27 قال: وكنيسة صيهون يقال إن المائدة نزلت على عيسى بن مريم والحواريين بها، وورد عند ياقوت ((صيهون)) وأنه اسم جبل، ولعله صورة أخرى من ((صيهون)) فيكونورود المادة هنا مقبولاً مع تغيير الراء فقط إلى نون.
(3) ص ع: انكو.
(4) وردت في هذه المادة بالقاف.
(5) قارن بما في أخبار الصين: 13 - 14، والبكري (مخ) : 33.
(6) البكري (مخ) : 37.
(7) البكري (مخ) : 39.(1/370)
يلقحن من شجر عندهن يأكلن منه. ويذكر أن الذهب عندهن عروق مثل الخيزران، وأنه وقع إليهن رجل فهممن بقتله فرحمته امرأة منهن وحملته على خشبة في البحر، فأدارته الأمواج حتى أتت به بعض بلاد الصين، فوصل إلى ملك الصين وعرفه حال الجزيرة، فجهز إليها المراكب، فأقاموا يطوفون في البحر ثلاثة أعوام يطلبونها فلم يقفوا لها على أثر.
وأهل الصين (1) شعوب وقبائل كقبائل العرب وأفخاذها وتشعبها في أنسابها، ولهم مراعاة لذلك وحفظ له، وينتسب الرجل منهم إلى خمسين أباً إلى أن يتصل بعامور، وأكثر من ذلك وأقل، ولا يتزوج أهل كل فخذ من فخذه، مثل أن يكون الرجل من مضر ويتزوج في ربيعة، ومن ربيعة فيتزوج من مضر، ومن كهلان فيتزوج في حمير، ومن حمير فيتزوج في كهلان، ويزعمون أن في ذلك صحة النسل وقوام البنية وان ذلك أصح للبقاء وأتم للعمر. ولم تزل أمور الصين مستقيمة في العدل، على حسب ما جرى، به الأمر فيما سلف من ملوكهم، إلى سنة أربع وستين ومائتين، فإنه حدث في الملك أمر زال به النظام وانتقضت به أحكام الشرائع، وهو أن نابغاً نبغ فيهم من غير بيت الملك كان في بعض مدن الصين، يقال له باشموا (2) ، اجتمع إليه أهل الدعارة والشر، ولحق الملك وأرباب التدبير غفلة عنه لخمول ذكره، وأنه ممن لا يبالى به، فاشتد أمره وكثر عتوه وقويت شوكته، وقطع أهل الشر المسافات نحوه، فعظم جيشه، فشن الغارات على العمائر حتى نزل مدينة خانقو (3) ، وهي مدينة عظيمة، وقد تقدم ذكرها وذكر هذا الثائر ونزوله على خانقو وأخذه لها واستباحته لحريمها في حرف الخاء.
وأبواب الصين اثنا عشر باباً، وهي جبال في البحر، بين كل جبل فرجة يسار منها إلى موضع تصيبه من مدائن الصين، وتصعد المراكب في مدائن الصين الشهر والأكثر والأقل، بين جنات وغياض وناس لهم أموال زاكية وأغنام ومياه، والمد والجزر يدخلانها من البحر كل يوم وليلة مرتين، وفي هذه المرافئ أسواق وتجار، ودخل وخرج ومراكب وبضائع تحمل وأخرى تجيء، وبها الأمن المتصل، وفي ملوكها العدل، وهي سنتهم وعليه يعولون، وبذلك اتصلت عمارتهم وحسنت في بلادهم، وقل جزعهم وعظم أمنهم، واتسعت أيديهم في الأموال.
وأهل الهند والصين يقتلون السارق، ويؤدون الأمانة، وينصفون من أنفسهم من غير احتياج إلى حاكم أو مصلح، طبعاً وسجية.
وفي بحر الصين دابة لها جناحان تنشرهما في الجو، تحمل على المراكب فتقلبها، يكون طول الدابة مائة ذراع ونحوها، وإذا رأى أهل المراكب هذه الدابة ضربوا الخشب بعضه ببعض فتنفر منها تلك الدابة وتخرج لهم عن الطريق، وقد قيض الله سبحانه وتعالى لهذه الدابة سمكة صغيرة إذا رأتها هذه الدابة الكبيرة نفرت منها، فمرت على وجهها فلا يستقر بها مكان من البحر ما دامت السمكة تتبعها.
ولملك الصين (4) أربعمائة ألف مرتزق، وهو لا يكاد يبدو لأحد، ولا يصل إليه إلا وزيره أو حاجبه أو رسول ملك يرد عليه، ووجوه عسكره ورؤساء أصحابه يصلون إليه في كل أسبوع، فإن تعذر ذلك عليهم أكثر من هذه المدة ضجوا وسألوا الوصول إليه كيلا يكون قد مات وأخفي ذلك عنهم. وإذا أراد الملك أن يركب ضرب بجرس فيدخل الناس منازلهم ويخلون الطرقات.
وسميت الصين (5) بأول من نزلها، وهو صائن بن عامور بن يافث، وهو الذي أثار المعادن من الذهب، وعمل الحكمة ودقائق الصناعات، وملكهم أزيد من مائتي سنة، فلما مات جعلوا جسده في تمثال ذهب، وأقاموا يطوفون به على سرير من ذهب، فصار ذلك رسماً لكل من ملك منهم، فالملك منهم إذا مات أدخلوه في تمثال ذهب، وأجلسوه على سرير ذهب مرصع بالجوهر، وبنوا له هيكلاً يكون فيه، فيسجدون له، واتخذ لهم بعض ملوكهم سياسة شرعية وفرائض عقلية، وجعلها رباطاً، ورتب لهم قصاصاً وحدوداً ومستحلات للمناكح، وصلوات تقرب إلى معبودهم، إنما لا سجود فيها، وأمرهم بقرابين للهياكل ودخن وأبخرة للكواكب، فهم باقون على ذلك، وملة الصين تدعى السمنية.
__________
(1) المروج 1: 301، والبكري (مخ) : 46.
(2) المروج والبكري: يانشو، والأرجح أنه: بانشوا.
(3) وردت في هذه المادة بالقاف.
(4) البكري (مخ) : 45.
(5) البكري (مخ) : 46، وهو مشابه - مع إيجاز - لما عند المسعودي، مروج 1: 290.(1/371)
ومملكة الصين أعظم ممالك تلك الناحية وأكثرها جنداً وأموالاً، وبلاد الصين واسعة، والغالب على أهلها استدارة الوجوه وفطس الأنوف، ولباس (1) رجالهم ونسائهم الديباج والحرير المرتفع، ولباس إمائهم وسفلتهم الحرير الدون، ودورهم واسعة مزوقة المجالس بالتماثيل، وهم يتباهون بنظافة الثياب ونبل الدور وكثرة الأواني، وإذا ورد على ملكهم رسول من بعض الملوك أدخل عليه في الوقت الذي يأذن له، فيقف أحد وزرائه عن يمينه والآخر عن يساره، ويقف الرسول بالبعد منه، على حسب مرتبة مرسله، ولا يرفع رأسه حتى يؤمر بذلك، ثم يتقدم إلى الحاجب أو الوزير فيخبره عما وجه إليه، فيأمر الملك له بتخت ديباج وجام فضة مذهبة، ويعاد به كل يوم إلى دار الملك ليتغدى هناك، وإذا أراد الملك النوم أو الدخول على بعض جواريه صعد منجموه سطح البيت الذي هو فيه ورصدوا له الكواكب، واختاروا له وقت مباشرته إياهن.
ومن سيرهم (2) أن المرأة إذا لم تكن محصنة وأرادت الفجور رفعت رقعة إلى الملك تذكر حالها وما ذهبت إليه، فيبعث إليها حلقاً من نحاس فتجعله في عنقها، ولبست المصبغات، وعملت ما شاءت علانية، فإذا ولدت الذكور خصوا واستعملهم الملك في داره وأعماله، وإن كان الذي ولدت أنثى كانت على رسم أمها، ومن سنتهم أن يورثوا الإناث أكثر من الذكور ولهم عند حلول الشمس بالحمل عيد معظم يأكلون فيه ويشربون سبعة أيام.
وبلاد الصين تجاور بلاد البرغز، فيها ملوك من ملوك الصين لهم أجناد وعدد وأموال طائلة، وحزم وجلادة على مكايدة الترك وغزوهم ومنعهم من أذية ديارهم. وأهل هذه الجهة من الصينيين زيهم زي الأتراك في اللباس والمركوب والآلات والحروب، وعندهم الفيلة يقدمون بها في صدور مراكبهم، والأتراك يهابون سطوتهم ويخافون شوكتهم، فيمسكون عن أذية بلادهم، ويحملون إلى الصين كثيراً مما عندهم من الصناعات والتمر والعسل وكثيراً من السلاح والشكة مثل الدروع والجواشن والأتراس والمقامع والنشاب والسكر ونحو ذلك مما يحتاجون إليه وأهل الصين يهادنونهم بسبب ذلك، ويترفعون عن غزوهم، ولكنهم غير متغافلين في جانبهم.
قالوا (3) : وفي أقاصي بلاد الصين هيكل مدور له سبعة أبواب، في داخله قبة عظيمة الشأن، في أعلاها جوهرة أكبر من رأس العجل، تضيء منها جميع أقطار ذلك المكان، وقد رام جماعة من الملوك أخذها فلم يدن أحد منها على عشرة أذرع إلا مات، وإن رام أخذها بشيء من الآلات الطوال إذا بلغ ذلك المقدار انعكس، فليس يتأتى تناولها بشيء ولا سبب، وإن تعرض أحد لهدم شيء من الهيكل مات مكانه بقوة دافعة منفرة قد عملت من أنواع الأحجار المغنيطسية. وفي هذا الهيكل بئر مسبعة الرأس متى أكب امرؤ على رأسها تهور، وصار في قرارها على رأسه، وعلى البئر شبه الطوق مكتوب عليه، بقلم قديم، قلم السندهند (4) : هذي البئر تؤدي إلى مخزن الكتب الأول من تاريخ الدنيا وعلوم السماء، وما كان فيما مضى وما يكون فيما يأتي، وتؤدي هذه البئر إلى خزائن وغرائب هذا العالم، لا يصل إلى الدخول إليها والاقتباس مما فيها إلا من وازت قدرته قدرتنا وساوى معلومه علمنا. وإن وقع البصر على هذا الهيكل وقع في قلب الرائي له جزع منه وحنين إليه مختلطان، وهو على جبل شامخ صلد لا يتأتى فيه نفوذ ولا حفر البتة.
والثمار كلها في الصين إلا النخل.
وهم من أحذق (5) عباد الله تعالى كسباً وصناعة ومما أعانهم على ذلك أن الملك إذا أوتي بمعجزة من الصناعات والرقوم والنقوش وضعه على باب دار مملكته حولاً، فإن ذكر أحد فيه عيباً يتبين وصل وحرم الصانع، وإلا أجزلت صلة الصانع، وإن رجلاً منهم صور سنبلة سقط عليها عصفور في ثوب حرير لا يشك الناظر أنها سنبلة سقط عليها عصفور، فبقي الثوب مدة حتى اجتاز به رجل أحدب فعابها، وأدخل على الملك وحضر صانعها، فسئل عن العيب فقال: إنه لا يقع عصفور على سنبلة إلا أمالها، وهذه منتصبة قائمة، فصدق ولم يثب الصانع شيئاً، وقصدهم في هذا وشبهه الرياضة.
وليس للجاني عندهم إلا القتل إلا جناية قذف، فإنه من قذف إنساناً ضرب بالخشبة ضرباً مبرحاً وخلي سبيله.
__________
(1) انظر عن ملابس أهل الصين، كتاب أخبار الصين 10 - 11.
(2) البكري (مخ) : 46.
(3) مروج الذهب 4: 69.
(4) مروج الذهب: قلم المسند.
(5) البكري (مخ) : 46، ومروج الذهب 1: 322.(1/372)
ويذكر قوم ممن سكن الصين أنهم سمعوا أن وراء الصين أمة شقر الألوان حمر الوجوه والشعور، يسكنون أسراباً قد اتخذوها لشدة حر الشمس عندهم، فإذا طلعت دخلوا الأسراب، إلى أن تزول وتغرب فيخرجون. ولا أحد من الصينيين إلا وهو يحفظ أيام عمره، كان شيخاً أو صبياً، وكلهم يكتب، واليتيم أمره إلى السلطان في تعليم الكتاب، ينفق عليه من بيت مال السلطان، فإذا أدرك أخذ منه الجزية، وإذا بلغ الشيخ سبعين إلى الثمانين أجري عليه من بيت المال، وإذا أذنب الشيخ ذنباً يجب عليه فيه القتل، وهو ابن ثمانين سنة، صفح عنه لكبر سنه.
صينية الصين (1) :
مدينة في أقصى الصين، لا تعدلها مدينة في الكبر وكثرة العامر وسعة التجارات وكثرة البضائع، واجتماع التجار بها من سائر الأقطار ومن بعض المدن الهندية المجاورة (2) للصين، وملكها من بيت الملك ولكنه تحت يد البغبوغ، وهو الملك الأعظم.
صيونة (3) :
مدينة متصلة بأرض سفالة، متوسطة القدر، وأهلها جماعات من أهل الهند والزنوج وغيرهم، وهم على ضفة النيل، وبها يسكن رئيس هذه المدن، وله عساكر رجالة ولا خيل عندهم، وهم على جون تدخله المراكب المسافرة إليها.
صيدا (4) :
بأرض الشام، بينها وبين بيروت يومان، وهي على ساحل البحر، وعليها سور حجارة، وتنسب إلى امرأة كانت في الجاهلية، وهي مدينة كبيرة عامرة الأسواق رخيصة الأسعار، محدقة بالبساتين والأشجار، غزيرة المياه، ولها أربعة أقاليم، وهي متصلة بجبل لبنان.
وهي المذكورة في شعر النابغة (5) .
وبصيدا سمك على طول الإصبع تصاد وقت سفادها ثم تجفف، فإذا احتيج إليها أخذت منها الواحدة فسحقت واستفت بالماء، فينعظ الذي يستفها إنعاظاً قوياً وجامع ما شاء لا يصيبه عجز ولا فتور، وهذه السمك صغار على هيئة الوزغ، لها أيد وأرجل صغار.
صيدون (6) :
جزيرة في البحر المحيط مسيرة شهر في مثله، وكان صيدون ملكاً بها، وكان بصيدون عجائب ومصانع كثيرة وأنهار وأشجار، وكان صيدون ساحراً، وكانت الجن تطيف به وتعمل له العجائب، وكان له في وسط الجزيرة مجلس من ذهب، على عمد من رفيع الجواهر تشرف على جميع الجزيرة، فدل بعض الجن سليمان عليه السلام عليه، فغزاه وخرب الجزيرة، وقتله وقتل أكثر أهلها لأنهم كانوا يعبدونه، وأسر منهم خلقاً فآمنوا، وأسر ابنة صيدون، ولم يكن على وجه الأرض أجمل منها وجهاً، ولا أكمل حسناً وظرفاً، فاصطفاها لنفسه فتزوجها، وكانت تديم البكاء لمفارقتها أباها، فقال لها سليمان عليه السلام: مالي أراك كئيبة، وأنا خير لك من أبيك، وملكي أجل من ملكه؟! قالت: أجل، ولكن إذا ذكرت كوني مع أبي وأنسي به هاج ذلك لي حزناً ووجداً، فلو أمرت الشياطين أن يصوروا لي صورته، لعلي إذا رأيتها سلوت عنه، فأمر الشياطين فعملوا لها صورة في مجلس مثل المجلس الذي كان فيه، وكان الشيطان يصحب أباها، وهو الذي أشار عليها بذلك، فكان ذلك المجلس والصورة في مقاصيرها التي صنع لها سليمان، وقد غرس لها فيها بدائع الأشجار، وفجر فيها الأنهار، في قني ذهب وفضة مطوقة بأصناف الجواهر، فعمدت إلى صورة أبيها فألبستها أصناف الحرير والثياب المنسوجة بالذهب، وجعلت على رأسه إكليلاً من الجوهر النفيس، وألبسته تاجاً منظوماً بالجوهر الفاخر الملون، وجعلت حوله مساند الديباج المذهب، ونثرت عليه سحيق المسك، وأوقدت بين يديه دخن العنبر وضروب الطيب، وفرشت بحذائه - على بعد منه - أصناف الأفاويه والرياحين، وكانت تدخل عليه بكرة وعشية، فتسجد له مع وصائفها وخدمها، كما كانت تصنع لأبيها، وكان قد دخل في هذا الصنم شيطان، فخاطب المرأة بلسان أبيها يقول: قد أحسنت فيما فعلت، وما فقدت بك شيئاً، فاتصل أمرها بآصف
__________
(1) نزهة المشتاق: 71 (OG: 211) .
(2) ع: المجاورين؛ ص: والمجاورين.
(3) نزهة المشتاق: 25 (OG: 68) ، وقارن بما ورد عند ابن سعيد في بسط الأرض: 15، وقد حاول الباحثون المحدثون تحديد موقعها، فمنهم من اعتبرها (sena) الواقعة على أحد روافد نهر زمبيري ومنهم من قدر أنها هي موزمبيق.
(4) نزهة المشتاق: 115، وصبح الأعشى: 111.
(5) يشير إلى قوله:
لأن كان للقبرين قبر بجلق ... وقبر بصيداء التي عند حارب وقال ياقوت: إن صيداء هذه موضع بحوران.
(6) البكري (مخ) : 38، وانظر الثعلبي: 322، والطبري 1: 586.(1/373)
بن برخيا، وكان كاتب سليمان ومن أهله، وهو الذي كان عنده علم الكتاب، وهو الذي أحضر عرش بلقيس، وكان علم موضع المرأة من قلب سليمان وحبه لها، فلم يدر كيف يتوصل لتعريفه بما أحدثت عنده، إلى أن اتجه له ذلك، فقال: يا نبي الله، إني قد كبرت ولا آمن الموت، وقد أردت أن أقوم مقاماً أذكر فيه الأنبياء وأثني عليهم، فتأمر بإحضار الناس ووجوه بني إسرائيل، فأجابه سليمان عليه السلام إلى ذلك، فقام آصف على المنبر فخطب، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وأقبل يذكر الأنبياء نبياً نبياً، ويثني عليه في صغره وفي كبره ومدة أيامه، إلى أن بلغ داود عليه السلام، فأثنى عليه واستغفر له، ثم ذكر سليمان، فأثنى عليه في صغره خاصة ولم يذكره في كبره، ولا ذكر شيئاً من أيامه بخير ولا شر، فأحفظ ذلك سليمان عليه السلام، فاستدعاه خالياً، ووقفه على ذلك، فقال: ذكرت ما علمت، فلما ألح عليه قال: وبم استحللت أن أثني عليك في أيامك، وغير الله يعبد في دارك منذ أربعين يوماً؟! ما هذا جزاء نعمته عندك ولا شكر تمليكه لك، فارتاع لذلك سليمان عليه السلام، وقام فعاقب المرأة، وكسر الصنم، وهرب شيطانه، فظفر به فسجنه، وفتن سليمان بذلك، وأخذت الجن خاتمه، وخرج من ملكه، وكان يطوف في بني إسرائيل فينكرونه، ثم رد الله تعالى عليه ملكه وخاتمه بعد أربعين يوماً، وهي مدة الأيام التي سجدت المرأة فيها للصنم، ثم إن المرأة تابت وصح إسلامها، وكان ولد سليمان علية السلام منها، وذكروا أن اسمها جرادة.(1/374)
حرف الضاد
ضارج (1) :
ماء لبني عبس، قال الطوسي: هو موضع باليمن، وأنشد قول امرئ القيس (2) :
قعدت له وصحبتي بين ضارج ... وروي أن ناساً من اليمن خرجوا يريدون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابهم ظمأ شديد كاد يقطع أعناقهم، فلما أتوا ضارجاً ذكر أحدهم قول امرئ القيس (3) :
ولما رأت أن الشريعة همها ... وأن البياض من فرائصها دامي
تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظل عرمضها طامي فقال أحدهم: والله ما وصف امرؤ القيس شيئاً إلا على حقيقة وعلم، فالتمسوا الماء فهذا ضارج، وكان ذلك وقت الظهر، فمشوا على فيء الجبل حتى عثروا على العين، فسقوا واستقوا، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، لولا بيت امرئ القيس لهلكنا، وأنشدوه إياهما، فقال: " ذلك نبيه الذكر في الدنيا خامله في الآخرة، كأني أنظر إليه يوم القيامة بيده لواء الشعراء يقودهم إلى النار ".
وفي طريق آخر أن قوماً أقبلوا من اليمن يريدون رسول الله صلى الله عليه وسلم فأضلوا الطريق، وفقدوا الماء ثلاثاً، فجعل الرجل منهم يأوي إلى فيء سمرة وطلحة آيساً من الحياة، فبينما هم كذلك أقبل راكب وهو ينشد:
ولما رأت أن الشريعة همها ... وان البياض من فرائصها دامي
تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظل عرمضها طامي قيل: يصف حمير وحش عطشت، وخافت من ورود الشريعة لأجل القناص، وقيل: يصف ناقته، وفي رواية: سمع رجلاً منا ينشد ذلك، فقال الراكب: من يقول هذا؟ قالوا: امرؤ القيس قال: ما كذب، وهذا ضارج عندكم، فانصرفوا إليه يزحفون نحو خمسين ذراعاً، فإذا ماء غدق عليه العرمض، وهو الطحلب، يفيء عليه الظل، كما قال، فشربوا وحملوا الماء حتى بلغوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أحيانا الله تعالى ببيتين من شعر امرئ القيس، قال: وكيف ذلك؟ فأخبروه فقال: " ذلك رجل مشهور في الدنيا خامل في الآخرة يجيء معه لواء الشعراء إلى النار ".
والفرائص جمع فريصة، وهي اللحمة التي ترعد عند الفزع.
وفي رواية (4) كانت جميلة المدنية واحدة في الأغاني يجتمع
__________
(1) معجم ما استعجم 3: 852.
(2) عاجز البيت عند البكري: وبين العذيب بعد ما متأمل؛ ورواية الديوان: 240 ((وبين حامر وبين إكام)) .
(3) لم يرد في ديوانه في المروي من شعره، وإنما أضافه المحقق (475) نقلاً عن الشعر والشعراء لابن قتيبة.
(4) قارن بالأغاني 8: 199.(1/375)
إليها أهل المدينة، فأتاها عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، فلما رأته قالت: مرحباً وأهلاً لم لا وجهت إلي يا سيدي، فأصير إليك؟ فقال رضي الله عنه: في بيته يؤتى الحكم يا جميلة، بلغني أنك تجيدين صوتاً أنقذ الله تعالى به نفراً من المسلمين من الهلكة، فقالت: ما هو؟ قال: قول امرئ القيس:
ولما رأت أن الشريعة همها ... فلما أن غنت به قالت له: يا ابن رسول الله، كيف نجى الله تعالى بهذا الشعر نفراً من المسلمين؟ فقال: إن قوماً من أهل اليمن خرجوا من بلدهم يريدون رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كانوا في بعض طريقهم أضلوا الطريق ونفد ماؤهم، وأيقنوا بالهلكة، فاستندوا: كل رجل منهم بشجرة (1) مسلمين للهلكة، فإذا رجل قد أقبل على بعير، وقد أنشد بعضهم البيتين، فقال لهم الراكب، هذا ضارج عندكم، وإذا العين إلى جنبهم، قد ستر عليها الشجر، فجثوا على الركب إليها فشربوا وارتووا وتزودوا، وسألوا الرجل عن الطريق فأرشدهم، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، خلصنا الله من الهلكة ببيتين لامرئ القيس، وأنشدوه البيتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ذاك رجل مذكور في الدنيا منسي في الآخرة " ... الخبر.
ضبا (2) :
من عمل المدينة النبوية، وهو مرفأ للسفن مأمون، وفيه آبار عذبة، وشجر المقل فيه كثير، وبين ضبا ومدين جبال شامخة متكائدة.
ضجنان (3) :
جبل بناحية مكة على طريق المدينة.
وفي حديث الإسراء (4) : أنه صلى الله عليه وسلم قال: " ثم أقبلت حتى إذا كنت بضجنان مررت بعير بني فلان، فوجدت القوم نياماً، ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء، فكشفت غطاءه وشربت ما فيه، ثم غطيت عليه كما كان، وآية ذلك أن عيرهم الآن تضرب (5) من البيضاء ثنية التنعيم يقدمها جمل أورق، عليه غرارتان: إحداهما سوداء والأخرى برقاء فابتدر القوم الثنية فلم يلقهم إلا الجمل الأورق كما وصف لهم، وسألوهم عن الإناء فأخبروهم أنهم وضعوه مملوءاً ثم غطوه، وأنهم هبوا فوجدوه مغطى، ولم يجدوا فيه ماء ... الحديث بطوله.
وعن ابن عباس (6) رضي الله عنهما، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه بسورة براءة، فلما بلغ أبو بكر رضي الله عنه ضجنان سمع بغام ناقة علي رضي الله عنه.
وفي حديث عمر رضي الله عنه أنه مر بضجنان فقال: لقد رأيتني بهذا الجبل أحتطب مرة وأختبط أخرى، على حمار للخطاب، وكان شيخاً غليظاً، وأصبحت والناس تحتي ليس فوقي أحد.
ضخم (7) :
من مدن عمان وهي في الجبال، وماؤها من العيون، وبها نخل كثير، وقصب السكر، وبها أشجار يقال لها الأطواق تشبه شجر المقل، تقطع منها عروق ثم توضع في الماء فيسيل منها ماء يسكر من ساعته، وعامتهم أصحاب شعور وجمم.
ضروان (8) :
موضع فيه كانت نار اليمن التي كانوا يعبدونها ويتحاكمون إليها، فإذا اختصم خصمان خرج إليهما منها لسان، فإن ثبتا أكلت الظالم، وهذه النار ظهرت في بعض قرانات مثلثات الحمل، فأقامت قراناً كاملاً، وبلغت حدود شبام أقيان، ورئام البيت الذي كانوا يعبدونه هناك أيضاً.
قال العلماء (9) : ضروان هي الجنة التي اقتص الله عز وجل خبرها في سورة نون.
__________
(1) ص ع: شجرة.
(2) البكري (مخ) : 77، وخلاصة الوفا: 389.
(3) معجم ما استعجم 3: 856، وقارن بياقوت (ضجنان) .
(4) السيرة 1: 402.
(5) السيرة: تصوب.
(6) عاد إلى نقل ما تبقى من هذه المادة عن معجم البكري.
(7) ع: ضجر؛ وسقط العنوان من ص؛ والمؤلف ينقل عن البكري (مخ) : 68، وقد أثبت البكري الكلمة ((ضخم)) وأظنها أيضاً مصحفة، وعلى ساحل الباطنة من عمان بلدة تكتب على الخرطية ((صحم)) - بالصاد والحاء المهملتين -، وأظن هذا هو الصواب.
(8) معجم ما استعجم 3: 859.
(9) متابع لمعجم البكري أيضاً؛ والإشارة إلى قوله تعالى في سورة القلم (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين. ولا يستثنون. فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون. فأصبحت كالصريم) .(1/376)
ضرية (1) :
نسبت إلى ضرية بنت ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، ويقال إنه منسوب إلى خندف أم مدركة وإخوته، وروي أنه خلق جؤجؤ آدم من كثيب ضرية.
وضرية مكان ينسب إليه الحمى، وهو أكبر الأحماء، وهو من ضرية إلى المدينة، وهو أرض مرب منبات كثيرة العشب، وهو سهل الموطئ كثير الحموض، تطول عنه الأوبار، وتتفتق الخواصر. وأول من أحمى هذا الحمى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لإبل الصدقة وظهر الغزاة، وكان حماه ستة أميال من كل ناحية من نواحي ضرية، وضرية أواسط الحمى، فكان على ذلك إلى صدر خلافة عثمان رضي الله عنه، إلى أن كثر النعم حتى بلغ نحواً من أربعين ألفاً، فأمر عثمان رضي الله عنه أن يزاد في الحمى ما يحمل إبل الصدقة، فزاد فيها زيادة لم تحدها الرواة، إلا أن عثمان رضي الله عنه اشترى ماء من مياه بني ضبينة، فدخل ذلك في حمى ضرية في أيام عثمان رضي الله عنه، ثم لم تزل الولاة بعد ذلك تزيد فيه، وكان أشدهم في ذلك انبساطاً إبراهيم بن هشام.
وفيه يقول نصيب:
ألا يا عقاب الوكر وكر ضرية ... سقيت الغوادي من عقاب ومن وكر وقال الأصمعي: لما صدر الرشيد من الحج، صدر على طريق البصرة، فلما نزل ضرية أتاني أعرابي من قيس، وبيده جويرية سوداء ومعه قطعة رق، فقال لي: يا هذا، اكتب لي عتق هذه الجارية عقلة (2) ، فقلت: أمل علي، قال: وما تكتب من تلقائك؟ قلت: لا، قال: فاكتب، هذا ما استشهدني به عبد الله بن قيس الكلابي، أشهد أنه أعتق جويريته لؤلؤة السوداء ابتغاء وجه الله وخوفاً من العقبة، الله أعتقك وله المنة عليك وعلي، ولا سبيل لي عليك إلا سبيل الولاء: قال فحدثت بهذا الحديث الرشيد، فأمر بمائة عبد أن يعتقوا هذا العتق.
ضل:
موضع بالحجاز، إليه نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم هيتاً المخنث
ضمير (3) :
بالشام، على خمسة عشر ميلاً من دمشق، فيه مات عبيد الله بن معمر التيمي، وكان سبب موته هناك أن ابن أخيه عمر بن موسى بن معمر خرج مع ابن الأشعث، فأخذه الحجاج، فبلغ ذلك عبيد الله وهو بالمدينة، فخرج يطلب فيه إلى عبد الملك، فلما بلغ ضميراً بلغه أن الحجاج ضرب عنقه، فمات كمداً هناك. وفي هذا الموضع يقول أبو الطيب:
لأن تركنا (4) ضميراً عن ميامننا ... ليحدثن لمن ودعتهم ندم
ضمار (5) :
حجر كان لبني سليم يعبدونه، وبينا عباس بن مرداس يوماً عند ضمار بعد أن جاء الله تعالى بالإسلام سمع من جوفه هاتفاً يقول:
قل للقبائل من سليم كلها ... أودى ضمار وفاز أهل المسجد فكان ذلك سبب إسلامه.
الضفر (6) :
بفتح أوله وكسر ثانية بعده راء مهملة، موضع قريب من المدينة النبوية، به كان قبر أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، وهو أحد الأجواد المطعمين. قالوا: ركب إبراهيم بن هشام والي المدينة إلى موضع له بملل فلما أراد الانصراف قال: اجعلوا طريقكم على أبي عبيدة، فنفجؤه (7) عسى أن نبخله، قال: فهجم عليه فرحب به واستنزله، فقال له إبراهيم: إن كان شيء عاجل، وإلا فإني لست أقيم، قال: وما عسى أن يكون عندي عاجلاً يكفيك ويكفي من معك!! ولكن نذبح لهم، فأبى إبراهيم إلا الانصراف فقال: انزل عندي على العاجل، فجاءه بتسعين كرشاً فيها الرؤوس مع كثير من بوارد الطعام، واستأنف الذبح لهم، فعجب ابن هشام وقال: تراه ذبح في ليلته من الغنم عدد هذه الرؤوس؟!
__________
(1) معجم ما استعجم 3: 859.
(2) قبلها بياض في ع بمقدار كلمتين.
(3) معجم ما استعجم 3: 882.
(4) رواية الديوان: لئن جعلن.
(5) معجم ما استعجم 3: 881.
(6) معجم ما استعجم 3: 878، وخلاصة الوفا: 389 وهو خطأ، صوابه ((صفر)) بالصاد المهملة.
(7) معجم البكري: فنتفجؤه؛ وفي ص ع: على.(1/377)
ضهر (1) :
بلد باليمن سمي بضهر بن سعد، وأهل اليمن يقولون: خرج من ضهر سبعة من الفراعنة، وفرعون من الإبل وهو عسكر، بعير عائشة يوم الجمل، بعث به يعلى بن منية. وضهر على ساعة من صنعاء وهو أطيب بلاد اليمن فاكهة، وبين ضهر وصنعاء جبل ينور، وبضهر قنة جبل عالية صلدة لا يرتقى إليها، وهم يضربون بجنها (2) المثل في الخبث.
ضواحي البصرة (3) :
أطرافها وما لا سواد فيه.
__________
(1) معجم ما استعجم 3: 883، والأكليل 2: 102.
(2) ع: بها؛ وسقطت من ص.
(3) معجم ما استعجم 3: 884.(1/378)
حرف الطاء
الطائف:
مخلاف من مخاليف مكة على مرحلتين من مكة وقيل بينهما ستون ميلاً، وهي إحدى القريتين المذكورتين في القرآن، وكان اسم الطائف وج سميت بوج بن عبد الحي من العمالقة، ثم سكنتها ثقيف، فبنوا عليها حائطاً مطيفاً بها فسموه الطائف.
وهو منازل (1) ثقيف وهي مدينة صغيرة متحضرة، مياهها عذبة وهواؤها معتدل وفواكهها كثيرة وضياعها متصلة وعنبها كثير جداً، وزبيبها معروف يتجهز به إلى جميع الجهات وأكثر فواكه مكة من الطائف، وبها تجار مياسير، وجل بضائعهم الأديم وهو غاية في الجودة رفيع القيمة والنعل الطائفي يضرب به المثل. والطائف على جبل غزوان وبه جملة من قبائل هذيل وهو جبل مشهور بالبرد وربما جمد الماء في الصيف لشدة برده.
وكانت ثقيف (2) كلها عاقدت هوازن يوم حنين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضى فلهم حين فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين فأغلقوا عليهم أبواب مدينتها ثم صنعوا الصنائع للقتال فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل عليهم فحاصرهم، وفي ذلك قال كعب بن مالك:
قضينا من تهامة كل ريب ... وخيبر ثم أجممن السيوفا
نخيرها فلو نطقت لقالت ... قواطعهن دوساً أو ثقيفا فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وعشرين ليلة أو بضع عشرة ليلة فقاتلهم قتالاً شديداً وتراموا بالنبل، ورماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنجنيق وهو أول من رمى به في الإسلام ودخل نفر من أصحابه تحت دبابة زحفوا بها إلى جدار الطائف فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار فخرجوا من تحتها فرمتهم بالنبل فقتلوا منهم رجالاً، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعناب ثقيف، فوقع الناس فيها يقطعون ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يؤذن في ثقيف فأذن الناس بالرحيل وأقام أهل الطائف على شركهم وامتناعهم في طائفهم، ثم أسلموا بعد ذلك.
وكانت لثقيف بالطائف اللات، فلما جاء الله بالإسلام هدمت، تولى ذلك خالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة.
وبالطائف توفي عبد الله بن عباس سنة ثمان وستين ودفن في مسجدها وكانت ثقيف بنته لما أسلمت في موضع مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بناه منهم عمرو بن أمية بن وهب، وكان في ذلك المسجد سارية فيما يزعمون، لا تطلع الشمس عليها يوماً من الأيام إلا سمع لها نقيض وهو الصوت.
والطائف أكثر بلاد الله عنباً.
ولما دخل (3) سليمان بن عبد الملك الطائف فنظر إلى بيادر الزبيب
__________
(1) نزهة المشتاق: 51 (OG: 145) ، وفي صبح الأعشى 4: 258 نقل عن الروض.
(2) السيرة 2: 478.
(3) ياقوت (الطائف) .(1/379)
فقال: ما تلك الحرار السود؟ فقيل له: ليست بحرار يا أمير المؤمنين، ولكنها بيادر الزبيب، فقال لله در قسي، علم في أي عش وضع أفرخه.
قال الأصمعي: دخلت الطائف فكأني كنت أبشر وكان قلبي يطفح بالسرور وما أجد لذلك إلا انفساح جوها وطيب نسيمها. وعسل الطائف من فائق العسل.
وزي ثقيف الأقبية المصبغة بالورس والعصفر، ويحزمون على أوساطهم ملاءات القطن الرقاق وعليها البرود العجيبة.
ويحكى (1) أن الوليد بن عبد الملك أفسد في أرض لعبد الله بن يزيد بن معاوية، فشكا ذلك أخوه خالد بن يزيد إلى عبد الملك؟ فقال له عبد الملك: " إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها " فقال له خالد: " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها " فقال عبد الملك أفي عبد الله تتكلم وبالأمس دخل إلي فعثر في لسانه ولحن في كلامه؟! قال: أفعلى الوليد تعول؟ قال: إن كان الوليد لحاناً فسليمان أخوه! قال خالد: وإن كان عبد الله لحاناً فأخوه خالد، فقال الوليد: أتتكلم ولست في العير ولا في النفير؟! فقال خالد: ألم تسمع ما يقول يا أمير المؤمنين؟ أنا والله ابن العير والنفير (2) ، ولكن لو قلت: حبيلات (3) وغنيمات والطائف ورحم الله عثمان قلنا صدقت. أراد بذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفى الحكم بن أبي العاص إلى الطائف فصار راعياً حتى رده عثمان رضي الله عنه.
طاوران (4) :
جزيرة في البحر الأعظم، وطاوران اسم ملكهم وله أربعة آلاف امرأة ومن لم يكن له ذلك فليس بملك ويتفاخرون بكثرة الأولاد، وعندهم أشجار إذا أكلوا منها قووا على الباءة قوة عجيبة.
طاب (5) :
نهر طاب يجري في جنوب خوزستان وهذا الحد المميز بين خوزستان وفارس، وجميع مياه خوزستان كلها تتألف وتصب في البحر وأرضها كلها رمل وسهول وليس فيها من الجبال إلا ما كان بنواحي تستر.
طابة:
اسم من أسماء المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام.
الطاقة (6) :
إحدى بلاد السودان أكثر شجرها يسمونه تادموت (7) ، وهو شجر الأراك، إلا أن ثمره كالبطيخ داخله شيء يشبه القند تشوب حلاوته حموضة نافع للمحمومين ومن هناك إلى خليج من النيل يقال له زوغوا (8) مسيرة يوم لا يعبره الناس إلا في القوارب.
الطاحونة (9) :
بينها، بين الإسكندرية ستة وثمانون (10) ميلاً.
الطالقان:
مدينة في خراسان من سرخس إلى الطالقان أربع مراحل وهي بين جبلين عظيمين.
وهي (11) مدينة كبيرة نحو مرو الروذ في الكبر ولها مياه وجباية وعمارات متصلة وبساتين قليلة وهي أصح هواء من مرو الروذ، ومن مرو الروذ إليها ثلاثة وسبعون ميلاً، وهي في سفح جبل ولها رساتيق في الجبل، وبها عمل اللبود الطالقانية.
والطالقان على جبل متصل بجبل الجوزجان ومرو الروذ، بينها وبين الجبل مما يلي المشرق فرسخان، وبينها وبين الجبل مما يلي المغرب ثلاثة فراسخ وبناؤها بالطين.
وكان فتح الطالقان (12) على يد الأحنف بن قيس حين وجهه عبد الله بن عامر في أربعة آلاف بعد صلح مرو الروذ إلى طخارستان وجمع أهل طخارستان والطالقان والجوزجان والفارياب، فكانوا ثلاثة زحوف ثلاثين ألفاً وأتى الأحنف خبرهم فاستشار
__________
(1) قارن بما أورده ابن خلكان 2: 225.
(2) يريد أنه ينتسب إلى أبي سفيان صاحب العير، وإلى عتبة بن ربيعة مقدم قريش حين نفروا إلى بدر.
(3) الحبيلة: الكرمة.
(4) البكري (مخ) : 38 - 39، وابن الوردي: 77 (طاوزاق) .
(5) نزهة المشتاق: 123.
(6) ص ع: الطاهرية، والتصويب عن البكري: 177، وعنه ينقل المؤلف.
(7) ع: تامدوت؛ ص: مدموت.
(8) ص ع: زرغوا.
(9) الإدريسي (د/ ب) : 137/ 103، ورحلة الناصري: 185.
(10) ص: وثلاثون.
(11) نزهة المشتاق: 144 وقارن بابن حوقل: 369، والكرخي: 152، وياقوت (طالقان) .
(12) الطبري 1: 2900 (حوادث سنة 32) ، وقارن بفتوح البلاذري: 503.(1/380)
الناس فاختلفوا فمن قائل يقول: نرجع إلى مرو، وقائل يقول: نرجع إلى أبرشهر وقائل يقول: نقيم ونستمد وقائل يقول: نلقاهم فنناجزهم فلما أمسى الأحنف خرج يمشي في العسكر يسمع حديث الناس فمر بأهل خباء ورجل يوقد تحت خزيرة أو يعجن، وهم يخوضون ويذكرون العدو فقال بعضهم: الرأي للأمير، إذا أصبح، أن يسير حتى نلقى القوم حيث لقيناهم فإنه أرعب لهم فنناجزهم، فقال صاحب الخزيرة أو العجين: إن فعل ذلك فقد أخطأ وأخطأتم أتأمرونه أن يلقى العدو مصحراً في بلاده، فيلقى جمعاً كثيراً بعدد قليل فإن جالوا جولة اصطلمونا؟! ولكن الرأي له أن ينزل بين المرغاب والجبل فيجعل المرغاب عن يمينه والجبل عن يساره فلا يلقى من عدوه وإن كثروا، إلا عداد أصحابه، فرجع الأحنف وقد اعتقد ما قال، فضرب عسكره وأقام فأرسل إليه أهل مرو يعرضون عليه أن يقاتلوا معه، فقال: إني أكره أن نستنصر بالمشركين فأقيموا على ما أعطيناكم، فإن ظفرنا فنحن على ما جعلنا لكم وإن ظفروا بنا وقاتلوكم فقاتلوا عن أنفسكم، قال: فوافق المسلمين صلاة العصر، فعاجلهم المشركون فناهضوهم وقاتلوا وصبروا الفريقان حتى أمسوا والأحنف يتمثل:
أحق من لم يكره المنيه ... حزور ليست له ذريه ... وقيل: قاتلهم حتى ذهب عامة الليل، فهزمهم الله تعالى فقتلهم المسلمون حتى انتهوا إلى دسكرة (1) وهي على اثني عشر فرسخاً من قصر الأحنف.
وفي سنة سبع عشرة وستمائة نزل خاقان الططر على الطالقان، وهي من معاقل خراسان، فترك عليها عسكراً وسار إلى هراة، فجرى فيها على عادتهم الذميمة من القتل والتخريب ثم عاد إلى الطالقان وهي محصورة، فلما كان بعد عشرة أشهر من يوم حصارها، وقد يئس أهلها من النصرة، ولم يجدوا إلى الصبر رغبوا في الشهادة وخرجوا يداً واحدة على عساكر الططر، فمنهم من تعلق بالجبال فسلم ومنهم من مات على سيفه، وبعدها شرع خاقان في أخذ قواعد خراسان فأناخ على بلخ، حسبما ذكر في حرف الباء.
طالقة (2) :
مدينة بالأندلس بقرب اشبيلية وهي من المدن القديمة وكانت دار مملكة الأفارقة بالأندلس، وكانت من مدن اشبيلية المتصلة بها في سالف الدهر وهي خراب، إذ كان اشبان بن طيطش غزا طالقة وحصر ملكهم بها حتى فتحها وتغلب على مملكتهم فهدم طالقة ونقل رخامها وآلاتها إلى اشبيلية، وبه سميت، واتخذها دار ملكه وكثرت جموعه فعلا في الأرض وغزا من اشبيلية ايليا بعد سنتين من ملكه، خرج إليها في السفن ففتحها وهدمها وقتل من اليهود مائة ألف، واسترق مائة ألف، وفرق في البلاد مائة ألف وانتقل رخام ايليا وآلاتها إلى الأندلس والغرائب التي أصيبت في مغانم الأندلس كمائدة سليمان التي ألفاها طارق بن زياد بكنيسة طليطلة وقليلة الدر التي ألفاها موسى بن نصير بكنيسة ماردة وغيرها من الذخائر، إنما كانت مما صار لصاحب الأندلس من غنيمة بيت المقدس إذ حضر فتحها مع بخت نصر.
وحكوا أن الخضر وقف باشبان هذا وهو يحرث الأرض في حداثته، فقال له: يا اشبان إنك لذو شان وسوف يحظيك زمان ويعليك سلطان، فإذا أنت غلبت على ايليا فارفق بذرية الأنبياء، فقال له اشبان: أساخر أنت، رحمك الله!! أنى يكون هذا وأنا ضعيف مهين؟! فقال: قدر ذلك من قدر في عصاك اليابسة ما تراه، فنظر اشبان إلى عصاه فرآها قد أورقت، فريع لما رأى، وذهب الخضر عنه وقد وقر ذلك الكلام في نفسه والثقة بكونه، فترك الامتهان، وداخل الناس وصحب أجل الناس وسما به جده فارتقى في طلب السلطان حتى نال منه عظيماً وكان ملكه عشرين سنة، واتصلت مملكة الاشبانيين إلى أن ملك منهم الأندلس خمسة وخمسون ملكاً.
وكانت بطالقة آثار عجيبة وعجائب غريبة، فمن ذلك صورة جارية من مرمر لم يسمع في الأخبار، ولا رئي في الآثار صورة أبدع منها في قالب جارية كاملة القد حسنة الجسم جميلة الوجه، قد صور كل عضو من أعضائها وكل جارحة من جوارحها على أتم ما يكون وأفضل ما يستحسن في جوارح المرأة، وفي حضنها صورة صبي على مثل ذلك من الحكمة والإتقان وقد صورت حية تصعد من قدمها كأنها تريد نهش الصبي، قسمت
__________
(1) الطبري: رسكن، وابن خرداذبه: أرسكن، وهي في بعض أصول الطبري ((دسكر)) .
(2) بروفنسال: 122، والترجمة: 149 (Italica) ، وكثير مما جاء هنا قد ذكر قبلاً في مادة ((الأندلس)) . وانظر النفح 1: 134، 158.(1/381)
الصورة نظرها بين مصعد الحية ومكان الطفل كالمشفقة الحذرة، يتبين ذلك في التفاتها، ولو وقف الناظر يتأملها عامة نهاره لم يسأم ذلك ولا مله لدقيق صنعتها وغريب حكمتها، وهذه الصورة موضوعة في بعض حمامات اشبيلية، وقد تعشقها جماعة من العوام، وشغف بها ناس من الطغام، فتعطلت أشغالهم وانقطعت متاجرهم بالنظر إليها.
طارق (1) :
جبل طارق، فيه خرج طارق بن زياد ومنه افتتح الأندلس، وهو عند الجزيرة الخضراء، وبجبل طارق مرسى يكن من كل ريح، وبه غريبة، وهو غار هناك يعرف بغار الأقدام، يرى من البطحاء التي تلي الغار أثر قدم أبداً وليس هناك طريق ولا منفذ إلى غير الغار (2) ، وقد مسحت تلك البطحاء وسويت، ثم أتوها من الغد فوجدوها فيها أثر القدم، جرب ذلك مراراً.
وكان أحد خلفاء بني عبد المؤمن (3) أمر ببناء مدينة على جبل طارق، فندب إليها البناة والنجارين وقطاع الحجر للبنيان والجيار من كل بلدة وخطت فيه المدينة وقدم إليها من المال ما يعجز كثرة واتخذ فيها الجامع وقصراً له وقصوراً تجاوره للسادة بنيه، وتوالى العمل في ذلك وأقطع أعيان وجوه البلاد فيه منازل نظروا في بنائها بعد أن حفروا في سفح الجبل مواضع نبع فيها الماء وجمع بعضها إلى بعض حتى سال منها جدول عم المدينة لأنفسهم وماشيتهم من أعذب الماء وأطيبه، يصب في صحن عظيم اتخذ له، وأجري إلى الجنات المغترسة بها عن أمره، فللحين ما جاءت مدينة تفوت المدن حسناً وحصانة، لا يدخل إليها إلا من موضع واحد قد حصن بسور منيع من البنيان الرفيع، وسميت بمدينة الفتح، وقالت الشعراء بها، ثم جاز إليها في سنة ست وخمسين وخمسمائة، وورد الوفود عليه هناك فتلقاهم بالتكرمة، وفت ذلك في عضد العدو.
طارنت (4) :
مدينة كبيرة قديمة على قطيعة من البحر الشامي بالقرب من الوادي المعوج في بلاد الروم، وهي حسنة المباني والديار، كثيرة التجار والسفار، توسق منها السفن وتقصدها الرفاق، وهي ذات متاجر وأموال طائلة، وبها مرسى فيه بحر حي، وفي شمالها بحيرة تدويرها من القنطرة إلى أن تعود إلى باب المدينة اثنا عشر ميلاً، وهذه القنطرة بين البحر الحي والبحيرة، وطول القنطرة من جهة ثلثمائة ذراع، وعرضها خمسة عشر ذراعاً، وفي هذه القنطرة منافس تفرغ من البحر إلى البحيرة في اليوم مرتين، وفي الليل مرتين، وتفرغ في هذه البحيرة ثلاثة أودية، وعمق هذه البحيرة من ثلاثين قامة إلى خمس عشرة قامة إلى عشر قيم، ويحيط بهذه المدينة البحر الحي والبحيرة من كل الجهات خلا الوجه الواحد مما (5) يلي الشمال.
الطاق (6) :
بخراسان بمقربة من طبرستان، كان خزانة لملوك الفرس اتخذه منوجهر، وهو نقر في جبل فيه خمسمائة بيت وأحواض للماء منقورة في صخرة صماء، وعلى الباب صخرة مهندسة مسواة يرسلها ألف رجل وكان صاحبها مزيد صالح أصبهبذ طبرستان وتفسيره بالفارسية حافظ الجيش، فلم يزل بعد ذلك يعطي الشيء اليسير فيقبل منه لصعوبة ذلك البلد وخشونته فإذا أحس من صاحب خراسان بضعف لم يعط شيئاً ولا أرى طاعة حتى ولي أبو جعفر الخلافة وقتل أبا مسلم فهابه الأصبهبذ فكتب إليه بالطاعة ووجه رسله فقبل أبو جعفر ذلك وبر رسوله ثم جعل يوجه إليه الهدايا والألطاف في كل نوروز ومهرجان، ثم إن الأصبهبذ استطال أيام أبي جعفر وأمسك عن البعثة إليه وأعان على ذلك خلاف عبد الجبار بن عبد الرحمن بخراسان، فلما وجه إليه أبو جعفر أبا عون القائد مع ابن الخصيب فأسراه بخراسان كتب أبو جعفر إلى ابن الخصيب بولايته على قومس وطبرستان وجرجان وأمره بدخول طبرستان فوجه إلية قائداً في عشرة آلاف وهو خزيمة بن خازم التميمي وروح بن حاتم المهلبي ومعهما مروان بن الخصيب وبلغ الأصبهبذ ذلك فنقل حرمه وخزائنه إلى الطاق وكان أعد فيه الطعام والآلة وما يحتاج إليه، وحمل جميع حرمه وخزائنه إليه وخلف عليهم ألف رجل مقاتلة، وأرسل الصخرة على الباب وخرج هو بنفسه وأصحابه إلى الديلم،
__________
(1) بروفنسال: 121، والترجمة: 148 (Gibraltar) .
(2) سقط من ع.
(3) هو عبد المؤمن نفسه، قال المراكشي: ((ونزل الجبل المعروف بجبل طارق وسماه هو جبل الفتح فأقام به أشهراً، وابتنى به قصوراً عظيمة وبنى هناك مدينة هي باقية إلى اليوم (المعجب: 282) .
(4) الإدريسي (م) : 62، والترجمة: 74 (Taranto) .
(5) ص ع: منها.
(6) ابن الفقيه: 309 - 311، وياقوت (الطاق) ، وانظر أيضاً فتوح البلاذري: 415.(1/382)
فعظمه أهل الديلم وانقادوا له وأفضل عليهم بالأموال ليستعين بهم على العرب، فنزل جند الخليفة أسفل الطاق، فعاينوا منه مؤيساً لهم، فكتب صاحب الجيش إلى الخليفة أنه لا يمكنه في الحرم والخزائن شيء، فكتب إليه يأمره بالمقام مع جميع الجند هناك حتى يفتحوا الطاق أو يكون محشرهم منه، فأقاموا عليه سنتين وسبعة أشهر وسووا المنازل ورسل الأصبهبذ تختلف من الديلم في السر يتحملون الأموال من دفائن الساحل وينصرفون إليه بالأخبار وكان المتخلفون (1) بالطاق يدورون كل ليلة دورة بالسلاح حيث يراهم جند العرب، فأرسل الله عز وجل عليهم الموت ووقع في الرجال الوبأ فمات منهم في يوم واحد ثلثمائة رجل، ففزع النساء والحرم، وتقززوا من الموتى وضاق بهم الحصن وكانت فيهم الحرة أرومندخت بنت الفرخان الأعظم، وكان للأصبهبذ هناك ثلاثة بنين وثلاث بنات سماهم الخليفة: عيسى وموسى وإبراهيم بني خرشيد الأصبهبذ، فطلب الحرم الأمان على أن يدلوا على موضع الباب والمصعد إليهم، فدلوا على الباب ففتحوه، وأعان من بقي من رجالهم من فوق، فدخلوا الطاق وأصيب فيه من الأموال والذخائر ما لم يقدروا على حمله كثرة ولا فرغ من استخراجه من الطاق إلا في سبعة أيام، وحملوا الحرم والأولاد مكرمين. وبلغ الأصبهبذ ما وقع في أصحابه من الموت وفتح الطاق، فأمسك عن محاربة العرب، وقد كان تهيأ له ما أراد، فقال: ما حاجتي بعد الحرم والأولاد، فكتب إلى نسائه قبل الخليفة في العمل له في الموادعة على أن يحمل الضعف مما كان يحمل كل سنة، فكلموا الخليفة في ذلك فأجاب، وأمر بكتب السجلات، ودفعت إلى رسوله، ووصل الخبر قبل وصولها بموت خرشيد الأصبهبذ بالديلم فاسترجعت السجلات.
طاووس:
موضع في بلاد فارس قريب من اصطخر كانت فيه وقعة للمسلمين على أهل فارس في خلافة عمر رضي الله عنه.
قالوا (2) : كان العلاء بن الحضرمي يباري (3) سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لصدع صدعه القضاء بينهما، وكان أبو بكر رضي الله عنه قد استعمله على البحرين، وأذن له في قتال أهل الردة، واستعمله أيضاً عمر رضي الله عنه ونهاه عن البحر اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم
وأبي بكر رضي الله عنه إذ لم يغزيا فيه أحداً فطال العلاء على سعد رضي الله عنه في الردة بالفضل، فلما ظفر سعد رضي الله عنه بالقادسية وأزاح الأكاسرة واستعلى بأعظم مما جاء فيه العلاء، أصر العلاء أن يصنع شيئاً في الأعاجم، ورجا أن يدال كما قد كان أديل، ولم يفكر العلاء فيما بين فضل الطاعة والمعصية، فندب أهل البحرين إلى فارس فتسرعوا إلى ذلك، وفرقهم أجناداً، وهو على خاصة الناس، فعبرت تلك الجنود من البحرين إلى فارس، فخرجوا إلى اصطخر وبازائهم أهل فارس، فحالوا بين المسلمين وبين سفنهم، فاقتتلوا بموضع يقال له طاووس، فقتل أهل فارس مقتلة عظيمة لم يقتلوا قبلها مثلها، وخرج المسلمون إلى البصرة إذ غرقت سفنهم، ولم يجدوا إلى الرجوع في البحر سبيلاً، فوجدوا سهرك (4) قد أخذ عليهم الطرق فبلغ عمر رضي الله عنه ما صنع العلاء من بعثه ذلك الجيش في البحر، فاشتد غضبه على العلاء وكتب يعزله وتوعده وأمره بأثقل الأشياء عليه، تأمير سعد عليه، وقال: الحق بسعد بن أبي وقاص في من قبلك، فخرج نحوه بمن معه، وكتب عمر رضي الله عنه: إن العلاء بن الحضرمي حمل جنداً من المسلمين فأقطعهم أهل فارس وعصاني، وأظنه لم يرد الله تعالى فخشيت عليهم ألا ينصروا ويثبتوا، كتب بذلك إلى عتبة بن غزوان في خبر طويل.
طبرستان:
من بلاد خراسان، بفتح أوله وثانيه، سميت بذلك لأن الشجر كان حولها شيئاً كثيراً فلم يصل إليها جنود كسرى حتى قطعوه بالفأس والطبر بالفارسية الفأس (5) واستان الشجر.
وطبرستان (6) بلد عظيم كثير الحصون والأعمال منيع بالأودية، وأهله أشراف العجم وأبناء ملوكهم، وهم أحسن الناس وجوهاً.
وطبرستان من الحصانة والمنعة بحيث لا يبلغه وصف، وكانت ملوك الفرس توليها رجلاً من أهل بيت المملكة وتسميه الأصبهبذ، وهو حافظ الجيش في لغتهم كما تقدم. وحد طبرستان مما يلي المشرق جرجان وقومس، ومما يلي المغرب الديلم، ومما يلي الشمال
__________
(1) ص ع: المختلفون.
(2) الطبري 1: 2546، وقارن بياقوت (طاووس) .
(3) ص ع: يناوي.
(4) الطبري: شهرك.
(5) كذلك تعني لفظة ((طبر)) باللهجة المحلية هنالك ((الجبل)) ، وانظر ابن الفقيه: 301 - 302.
(6) اليعقوبي: 277.(1/383)
البحر، ومما يلي الجنوب بعض قومس، وطول هذا الحد خمسون فرسخاً، وعرضه مما يلي قومس أربعون فرسخاً.
وبحر طبرستان (1) هو المسمى بحر الخزر، وما حوله من أقطار الخزر والغزية، وهذا البحر منقطع غير متصل بشيء من البحار، وطوله نحو ثمانمائة ميل، وعرضه ستمائة ميل، وفيه أربع جزائر، وهو بحر مظلم لا مدَّ فيه ولا جزر، وهو مظلم القعر بخلاف بحر القلزم وغيره لأن تراب قعره طين، وما قيل أن هذا البحر متصل ببحر نيطس من تحت الأرض وبينهما نحو ست مراحل فليس بصحيح.
وكان مزيد صالح (2) أصبهبذ طبرستان ثم لم يزل بعد ذلك يعطي الشيء اليسير فيقبل منه لصعوبة مسلك البلد وخشونته فإذا أحسَّ من صاحب خُراسان بضعف لم يعط شيئاً ولا أرى طاعة، حتى ولي أبو جعفر الخلافة وقتل أبا مسلم فهابه الاصبهبذ، فكتب إليه بالطاعة ووجَّه رسله، فقبل أبو جعفر ذلك وبرَّ رسوله، ثم جَعَل يوجّه بالهدايا والألطاف في كل نوروز ومهرجان، ثم إن الاصبهبذ استطال أيام إلى جعفر فأمسك عن البعثة إليه، وبقية الخبر في رسم الطاق فانظره هناك.
وافتتحت طبرستان سنة اثنتين وأربعين ومائة، وأكبر مدنها الجبل وبها مستقر الولاة، وكانوا من قبل يسكنون سارية.
وحكى البلاذري (3) أن المأمون كان ولى مايزديار أعمال طبرستان والرويان ودنباوند وسمّاه محمداً، وجعل له مرتبة الأصبهبذ، فلم يزل على ذلك أيام المأمون وصدراً من خلافة المعتصم بالله نحواً من ست سنين ثم إنه كفر وغدر، فكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر بن الحسين عامله على خُراسان وسجستان والري وقومس وجرجان يأمره بمحاربته، فوجّه عبد الله الحسنَ بن الحسين عمه في رجال خُراسان، ووجّه المعتصم بالله محمد بن إبراهيم بن مصعب في من ضم إليه من جند الحضرة، فلما توافت الجيوش في بلاده كاتب أخْ له يقال له قوهيان (4) بن قارن الحسن ومحمداً وأعلمهما أنه معهما عليه، وقد كان يحقد عليه أشياء يناله بها من الاستخفاف، وكان أهل عمله قد ملّوا سيرته لتجبره وعسفه، فكتب إلى الحسن يشير عليه بأن يكمن في موضع سماه له، وقال للمايزديار: إن الحسن قد أتاك وهو بموضع كذا وكذا، وذكر غير الموضع، وهو يدعوك إلى الأمان ويريد مشافهتك، فسار مايزديار يريد الحسن، فلما صار بقرب الموضع الذي كان الحسن كامناً فيه آذنه قوهيان بمجيئه، فخرج إليه في أصحابه، وكانوا منقطعين في الغياض فجعلوا ينثالون (5) إليه، فأراد مايزديار الهرب فأخذ قوهيان بمنطقته، وانطوى عليه أصحاب الحسن، فأخذوه بغير عهد ولا عقد، فحمل إلى سرّ من رأى في سنة خمس وعشرين ومائتين، وضرب بالسياط بين يدي المعتصم ضرباً مبرحاً، فلما وقعت السياط عليه مات، فصلب بسرّ من رأى مع بابك الخرّمي على العقبة التي بحضرة مجلس الشرطة، ووثب بقوهيان بعض خاصة أخيه، فقتل بطبرستان، وتولى طبرستان، سهلها وجبلها، عبد الله بن طاهر وطاهر ابنه بعده.
والذي ارتفع من خراج طبرستان وكورها سنة ست وثلاثين ومائتين سوى الضياع من المورّق (6) أربعة آلاف ألف ومائتا ألف وثلاثة وسبعون ألف درهم (7) ، وجميع المراحل ببلاد طبرستان أيام الطاهرية مائتان وثلاثون.
وليس (8) في بلاد الإسلام والكفر ناحية تقارب طبرستان في كثرة الابريسم، ومنها يرتفع الابريسم وأكسية الصوف والبرنكانات العجيبة، وليس في جميع الأرض أكسية تبلغ قيمة أكسيتهم، والغالب على أهلها وفور الشعر واقتران الحواجب وسرعة الكلام والعجلة والطيش، والغالب على طعامهم خبز الأرز وكذلك الديلم والجيل.
ومما يوصف من كثرة ذخائر خرشيد الاصبهبد أن رجلاً من أهل خُراسان أتى طبرستان فأهدى إليه ديكاً من ذهب، وفي عيني الديك ياقوتتان حمراوان لا يدرى ما قيمتهما، فأكرمه وقبل هديته، فكان ذلك الرجل يكثر أن يقول: حملت إلى الملك شيئاً ليس
__________
(1) نزهة المشتاق: 270.
(2) انظر مادة (الطاق) .
(3) فتوح البلدان: 416، وقارن بياقوت (طبرستان) .
(4) الفتوح: فوهيار.
(5) ع: ثلثاثون، وفي البلاذري: يتتامون.
(6) ص ع: المورن. وانظر ابن خرداذبه: 35.
(7) انظر الخراج: 250.
(8) قارن بابن حوقل: 323.(1/384)
عند أحد من الخلق هو، فانتهى الخبر إلى الاصبهبذ، فأمر من الغد بنصب سماطين، فأحضر أصحابه للشراب، وأحضر الرجل الخُراساني، وأمر ألا يخرج بيومه ذلك من الجامات إلا ديكة مكللة من الجواهر، ودفع إلى كل رجلين من السماطين ديكاً من الديكة التي أخرجت من الخزائن، فبهت الخُراساني مما رأى، وفطن أنه إنما عرّض به لما كان يكثر أن يقوله، فقام فقال: أيها الملك، أخطأت فأقلني، فأمر له بصِلة جزيلة وردّ ذلك الديك إليه ولم يقبله. وكانت خزائن الملوك كلها صارت إليه.
وطبرستان وجرجان وموقان وجيلان كلها وما والاها على ساحل الخزر ونزل الططر على طبرستان في سنة ست عشرة وستمائة واستولوا عليها قتلاً ونهباً وتخريباً وفعلوا العظائم، على عادتهم.
طبرمين (1) :
حصن بصقلية منيع، بينه وبين مسيني مرحلة، وهو بلد شامخ رفيع أزلي من أشرف البلاد، وهو على جبل مطل على البحر، وبه مرسى حسن، والسفر إليه من كل الجهات، ويحمل منه كثير من الغلات وفيه منازل وأسواق، وتجتمع فيه القوافل الواصلة من مسيني، وبه ضياع صالحة ومزارع طيبة، وبه معدن الذهب، وبه الجبل المشهور المسمى بالطور (2) ، وأنهار غزيرة عليها أرحاء كثيرة، وبها جنات قلائل، وبها واد عليه قنطرة عجيبة يدل بناؤها على قدرة بانيها وقوة سلطانه، وبها ملعب من ملاعب الروم القديمة تدل رسومه على شرف ملك وشماخة قدر.
وكانت طبرمين فتحت على يد إبراهيم بن أحمد بن الأغلب في سنة تسع وثمانين ومائتين، بعد أن حاصرها ووقف بنفسه يحرض المسلمين على القتال، ومس الفريقين ألم الجراح وهمَّ كل بالانحياز، فقرأ قارئ كان بين يدي إبراهيم " هذانِ خَصمانِ آخْتَصَمُوا في رَبِّهِمْ " إلى آخر الآية فحمل حينئذ جملة العسكر وأهل البصائر منهم بنيات صادقة، فانهزم الكفرة وولوا هاربين وقتلهم المسلمون أبرح قتل، واقتفوا آثارهم في بطون الأودية ورؤوس الجبال، ودخل إبراهيم ومن معه طبرمين بلا عهد ولا عقد، فقتل وسبى والتجأ بعضهم إلى بعض القلاع، وفي ذلك يقول شاعره:
قد فتح الله طبرمينا ... في عام سبع وثمانينا
وشهر شعبان فأعظم به ... شهراً يراه الله ميمونا
فأيَّد الله إمام الهدى ... وزاده عزاً وتمكينا ثم رحل طالباً لكل من بقلورية (3) من الروم بقتل وسبي فهربوا بين يديه، ومضى إلى كشنته (4) فحاصرها، فطلبوا الأمان وأداء الجزية، فأبى ولم يجبهم، وحلت به عليه علته التي مات منها وزادت العلة به فمات سنة تسع وثمانين، وحمل إلى بلرم فدفن بها وأدى أهل كشنته الجزية وهم لا يعلمون بموته وكان فتحه لمدينة طبرمين (5) سنة سبع وثمانين ومائتين، وقتل من أهلها بشراً عظيماً ثم عفا عنهم، وكان متولي حرب أهل بلرم ابنه أبو العباس (6) ، الذي كان جعله ولي عهده.
طبرية:
مدينة من بلاد الأردن بالشام، بينها وبين عكا يومان، وبنى هذه المدينة طيباريوس أحد ملوك الروم، وإلى اسمه أضيفت فعربتها العرب حين افتتحت البلاد فقالت: طبرية. وهو الذي لخمس عشرة سنة من ملكه كان تعميد يشوع الناصري في نهر الأردن، وزعموا أن المعمد له يحيى بن زكريا ابن خالة يشوع، وهو عندهم عيسى عليه الصلاة والسلام.
وطبرية (7) مدينة جليلة على جبل مطل، وهي طويلة في ذاتها قليلة العرض في طولها نحو ميلين. قال اليعقوبي (8) : وهي مدينة الأردن، وهي في أصل جبل على بحيرة جليلة عذبة يخرج منها نهر الأردن المشهور وتحمل فيها الغلات إلى المدينة، ويعمل بها من الحصر السامانيّة كل عجيبة وفيها حمّامات حامية من غير نار في الشتاء والصيف، وبها عيون حارة يأتيها أصحاب البلاء من المقعدين والمفلوجين وأصحاب القروح فيقيمون بها في الماء ثلاثة أيام فيخرجون بارئين بإذن الله سبحانه وتعالى.
وفي الخبر أن يأجوج ومأجوج يجتازون في خروجهم عليها
__________
(1) (Taormina) الإدريسي (م) : 27.
(2) لعله - حسب ترجيح أماري وسكياباريللي - المسمى (Monte Venereia) أو (Casteloma) .
(3) ص ع: قفلورية.
(4) ص ع: لشنته؛ وهو تصحيف كما سبقت الإشارة.
(5) ص ع: بلرم؛ وهو سهو.
(6) بياض في ص ع، وزدناه اعتماداً على ما حققه الأستاذ رتزيتانو.
(7) نزهة المشتاق: 115، وقارن بابن الوردي: 26.
(8) اليعقوبي: 327.(1/385)
فيشربها أولهم، ويجتاز آخرهم فيقول: قد كان هاهنا مرة ماء، أو هذا معناه.
وفي طبرية مياه تنبع حارة تفور في الصيف والشتاء لا تنقطع فتدخل المياه الحارة إلى حماماتهم فلا يحتاجون إلى وقود.
وإليها ينسب الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (1) صاحب التفسير والتاريخ والمصنفات الكثيرة، نزل بغداد ومات سنة عشر وثلثمائة.
وطولها نحو فرسخ مع طول الجبل، وعرضها أقل من نصف ميل، ولها بابان، وهي في المشرق من البحيرة، وطول البحيرة اثنا عشر فرسخاً في مثلها. وقال علي بن محمد الحلبي: يخرج من بحيرة طبرية قار من أعمق وسط البحيرة، ثم تقذفه الريح في حافتها فيجتمع هناك ويستعمله أهل انطاكية وطرسوس وما إلى تلك البلاد، يطلون به أصول الكروم والشجر فلا يصعد إليها دود ولا نمل ولا حيوان مؤذ. ومن غريب ما حكي أن لأهل طبرية قرية فيها شجر أترج، تخرج الأترجة على مثال النساء، الأترجة لها ثديان وما يشبه اليدين والرجلين، وموضع الفرج مفتوح، وأمر هذه القرية في الأترج مستفيض عندهم لا يُدفع، وهي قرية ناصرة حيث وُلِد المسيح عليه السلام ويزعم أهل طبرية أنه لا يولد لأهل ناصرة بكر إلى هذه الغاية لأنهم عيّروا مريم بنت عمران، وأهل بيت المقدس يدفعون ما يقول أهل طبرية من ولادة المسيح عندهم، ويزعمون أنها ببيت المقدس وأن آثار ذلك ظاهرة.
الطبران:
مدينة من مدن طوس بخراسان ومنها الطبراني المؤِّلف المشهور (2) .
طميسة (3) :
من عمل طبرستان، متاخمة لجرجان وعليها سوران وثيقان من آجر، وفي ربضها خانات وأسواق وبها ضرب من الخبز يسكر من أكله، وليس لأحد من أهل طبرستان أن يخرج
إلى جرجان ولا أن يدخل من طبرستان إلى جرجان إلا عليها لأنها درب الحائط الممدود من حرف البحر إلى الجبل، وهو الذي كان كسرى أنوشروان بناه ليحول بين الترك وبين الإغارة على طبرستان. وطميسة هذه في سفوح جباله.
وهي مدينة (4) على ساحل البحر نزل عليها سعيد بن العاصي أيام عثمان فقاتله أهلها حتى صلَّى يومئذ صلاة الخوف، وهم يقتتلون، وكان معه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، فسأله كيف صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضرب يومئذ سعيد بن العاص رضي الله عنه رجلاً من المشركين على حبل عاتقه فخرج السّيف من تحت مرفقه، وحاصرهم فطلبوا الأمان فأعطاهم على أن لا يقتل منهم رجلاً واحداً، ففتحوا الحصن فقتلهم جميعاً إلا رجلاً واحداً وحوى ما كان في الحصن.
الطبسان:
من كرمان، فتحها (5) عبد الله بن بُدَيْل بن ورقاء الخزاعي في خلافة عمر رضي الله عنه بعد فتحه لكرمان، كذا ذكر المدائني، ثم قدم على عمر رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين إني افتتحت الطبسين فأقطعنيها فأراد أن يفعل، فقيل لعمر رضي الله عنه: إنها رستاقان عظيمان فلم يعطهما إياه، وهما بابا خُراسان.
طبرقة (6) :
بين درنة وباجة من البلاد الإفريقية، وبينها وبين بنزرت سبعون ميلاً، وهي قديمة فيها آثار كثيرة للأُول، وهي على نهر كبير بقرب البحر تدخله السفن، وبالقرب منها مدينة مرسى الخزر، والبحر محيط بها من كل جهة إلا مسلكاً لطيفاً ربما قطعه البحر في زمن الشتاء، وعليها سور قديم، وبها كانت تنشأ السفن لغزو بلاد الروم، وفيها يخرج المرجان ومنها يُحْمَل إلى جميع بلاد الدنيا، وهناك قوم لهم مراكب وزوارق ليس لهم حرفة إلا إخراج المرجان من قعر البحر، وهو نبات شجر له أغصان. ويقال إنه في قعر البحر ليّن رطب، فإذا مسَّه الهواء اشتد ويخرج منه في ذلك البحر مئون من قناطير في كل سنة، وهو أنفس مرجان في الدنيا، وأنفقُ شيء بالهند والصين، ويكون في الزقاق بساحل بليونش
__________
(1) الطبري: نسبة إلى طبرستان، ومنها ابن جرير، لا كما قال المؤلف (انظر اللباب: الطبري) .
(2) قارن بياقوت (الطبران) حيث ذكر أن الطبراني الحافظ ينسب إلى طبرية الشام بإجماع من المحدثين.
(3) ص ع: طبيسة؛ وقارن بياقوت (طميس - طميسة) .
(4) الطبري 1: 2836.
(5) الطبري: 2704.
(6) الاستبصار: 126، وصبح الأعشى 3: 391، وقارن بالإدريسي (د) : 116.(1/386)
من قرى سبتة، وهو مثله في الطيب أو أجلّ، ويكون في بحر الأندلس وفي بعض جزائر البحر الأخضر، وهذا أنفسها. وبين طبرقة هذه ومدينة باجة بحيرة عظيمة دورها أربعون ميلاً تصب في البحر، ويصب البحر فيها، وماؤها لا حلو ولا ملح، فيها أنواع من الحوت، وبها البوري الذي لا نظير له في الدنيا، يكون في الكبير منه عشرة أرطال وأزيد، وأهل تلك النواحي يستخرجون دهنه ويستعملونه في مصالحهم (1) .
وطبرقة (2) حصن على ساحل البحر وفيها آثار للأول وبنيان عجيب، وهي عامرة لورود التجار إليها، وبها نهر كبير تدخله السفن حتى إلى باب المدينة، وهي قليلة العمارة، وحولها عرب لا خلاق لهم، وروي أن الكاهنة ملكة البربر في الجاهلية قتلت بطبرقة على يد أهل الإسلام، وخبرها مشهور.
طبنة (3) :
أعظم بلاد الزاب، بينها وبين المسيلة مرحلتان، وهي حسنة كثيرة المياه والبساتين والزروع والقطن والحنطة والشعير، وعليها سور تراب، وبها أخلاط من الناس، وبها صنائع وتجارات، ولأهلها تصرف في ضروب من التجارات والتمر وسائر الفواكه بها كثير.
وهي (4) مدينة كبيرة ولها حصن قديم عليه سور من حجر جليل ضخم متقن البناء من عمل الأول، ولها أرباض واسعة، وهي مما افتتح موسى بن نصير حين دخل بلاد إفريقية فبلغ سبيها عشرين ألف رأس، وتشق طبنة جداول الماء العذب، ولها بساتين كثيرة فيها النخل والثمار، ولها نهر يشق غابتها، وقد بني له صهريج كبير يقع فيه وتسقى منه جميع بساتينها وأرضها، ولم يكن من القيروان إلى سجلماسة مدينة أكبر منها.
ومنها أبو مروان عبد الملك بن زيادة الله الطبني (5) ، كانت له رحلتان إلى المشرق، وأخذ العلم عن جماعة من أهل مكة ومصر والقيروان وأخذ بالأندلس عن جماعة منهم القنازعي.
طبيرة:
لا أدري أهي طلبيرة بزيادة لام أو غيرها (6) فإن كانت هي فهي مذكورة بعد.
طنبدة (7) :
قرية بإفريقية على عشرة أميال من تونس تسمى المحمدية، يقال إن الخضر عليه السلام خرق السفينه ببحر رادس وقتل الغلام بطنبدة، وهناك فارق موسى الخضر عليهما السلام، وقد مرَّ ذلك في حرف الراء (8) .
طخارستان:
من بلاد خُراسان، يقال بالطاء وبالتاء، كان عبد الله بن عامر بعث الأحنف بن قيس لما صالح أهل مرو الروذ إلى طخارستان، فأقبل حتى نزل موضع قصر الأحنف ومرو الروذ وجمع أهل طخارستان وأهل الجوزجان والطالقان والفارياب وكانوا ثلاثة زحوف، ثلاثين ألفاً، فقاتلهم الأحنف من صلاة العصر إلى أن ذهب عامة الليل فهزمهم الله وقتلهم المسلمون، وقد مرَّ بسط ذلك في حرف الجيم في ذكر الجوزجان.
طزر (9) :
مدينة بين همذان والري وليس فيها ماء عذب في حفائر ولا سبخ، وإنما يشربون من حوض يجتمع فيه ماء الأمطار من قنوات قد اتخذت هناك، وإذا أعوزهم ذلك ولم يجدوا ماء ولهم مثالج (10) تحت الأرض فإذا كان زمان الربيع استخرجوها، ومن طزر إلى الأساورة أربعة فراسخ.
وفي الرشاطي طرز من مدن إفريقية ينسب إليها موسى بن عبد الله الطرزي، كان يؤدب أولاد السلاطين وكان شاعراً مجيداً، عفيفاً، ذكره الزبيدي (11) .
طرّة (12) :
من مدن نفزاوة، مسورة حصينة، لها غابة كبيرة كثيرة النخل والزيتون وجميع الفواكه.
__________
(1) الاستبصار: مصابيحهم.
(2) البكري: 57.
(3) الادريسي (د/ ب) : 93/ 65.
(4) الاستبصار: 172، وقارن بالبكري: 50.
(5) ترجم له ابن بسام في الذخيرة (1/ 2: 52) وأثنى على أدبه وشعره، وذكر أنه قتل بقرطبة سنة 457، قتله أحد أبنائه بنحريض من نسائه لأنه كان بخيلاً مقتراً على نفسه وعليهن في المعيشة؛ وانظر الجذوة: 265.
(6) هي غيرها، فإن طبيرة Tavira فيما ذكر الادريسي (د) : 179 قرية على مقربة من الساحل بالبرتغال.
(7) هي طنبد عند البكري: 38؛ وطنبذة بالذال المعجمة عند ياقوت.
(8) راجع مادة ((رادس)) .
(9) قارن بنزهة المشتاق:204 (طرزه) والمؤلف يتابعه بتقديم الراء ولهذا أثبتها هنا، وياقوت (طرز) والمقدسي: 393، والنص هنا مشابه لما عند ابن رسته: 167 إلا انه سمى المكان: طزره.
(10) ص ع: مشالج.
(11) طبقات الزبيدي: 260 واسم المكان عنده ((طرزة)) بتقديم الراء على الزاي.
(12) الاستبصار: 157، وقارن بتقويم البلدان: 146، ورحلة التجاني: 142.(1/387)
طرسوس (1) :
مدينة بالشام حصينة، عليها سوران بينهما فصيل وخندق، ويجري الماء حواليها. وفي سنة سبعين ومائة (2) بني سور طرسوس على يد أبي مُسْلِم فرج الخصي (3) التركي، وجّهه مولاه هارون الرشيد لذلك، وأنزلها الناس عام ولي الخلافة، في جيش كثيف وعسكر ضخم إلى الثغور، وأمره أن يبني مدينة طرسوس في المرج الذي في سفح الجبل، ولم يكن هناك بناء قط، وأن يجعل النهر يشق وسطها، فابتدأ بناءها في جمادى سنة سبعين ومائة، فخطَّ بها سبعة وثمانين برجاً مستديرة ومربعة، على كل برج عشرون شرفة، وبين كل برجين ست وخمسون شرفة، عرض الشرفة ذراعان ونصف في ارتفاع مثل ذلك، وحوالي سورها فصيل واسع متقن مرتفع السمك، وخلف الفصيل خندق عريض عميق مبني بالصخر من أعلاه وأسفله مفروش كله بالصخر، ولها خمسة أبواب: باب الجهاد، وهو الباب الذي يخرج منه إلى المرج الذي يعسكر فيه أمراء الطوائف، وباب الصفصاف، وبين هذين البابين مدخل النهر الأعظم، وعلى مدخله شباك حديد وثيق مفرط العظم، وباب الشام ومنه يدخل زقاق أذنة والمصيصة والشام، وباب كذا وباب البحر، وعنده مخرج النهر ومصبّه في البحر، وهناك أيضاً شباك حديد مثل الذي عند مدخله، وباب يعرف بالباب المسدود ولم يفتح قط وعلى النهر داخل المدينة قنطرتان عظيمتان إحداهما تعرف بباب الصفصاف، وأخرى تعرف بباب البحر، فكمل بناؤها في سنة اثنتين وسبعين ومائة، وسكنها المجاهدون والمرابطون واختطت بها الخطط والمنازل سنة ثلاث وسبعين ومائة، فلم تبن مدينة أعظم غناء عن الإسلام ولا أشد نكاية على الكفرة، ولا أجمع للمجاهدين ولا أبعد صوتاً، ولا أجل مرأى، ولا أتقن بناءً منها. فلما نزل الرشيد طرسوس أفرد الثغور من الجزيرة والشام، وسمى الثغور الشامية والثغور الجزرية، ونهرها يأتي من جبل الروم حتى يشق وسطها.
ولي قضاءها أبو عبيد القاسم بن سلام وفيها دفن المأمون بن الرشيد وكان خرج غازياً فمرض بعين البذندون فمات هناك، فحمل إلى طرسوس فدفن بها، وفي ذلك يقول أبو سعيد المخزومي (4) :
ما رأيت النجوم أغنت عن المأ ... مون شيئاً وملكه المأسوسِ
خلفوه بعرصتي طرسوس ... مثلما خلفوا أباه بطوس وذكر الحسين بن الضحاك قال: استحضر المأمون الجلساء والمغنين آخر جلسة جلسها بدمشق، وقد عزم على الخروج إلى البذندون، وقال لمخارق وعلويه: غنّيا، فسبق مخارق فغنى بشعر جرير:
لما تذكرت بالديرين أرقني ... صوتُ الدجاج وقرع بالنواقيس
فقلت للركب إذ جدّ المسير بنا ... يا بُعْدَ يبرين من بابِ الفراديس فغنى علويه في معنى شعر (5) :
ألحَيْنُ ساق إلى دمشق وما ... كانت دمشق لأَهلنا بلدا فضرب بالقدح الأرض وقال: مالك فض الله فاك، ودمعت عينه، وقال لأخيه أبي إسحاق: أَسمعت، لا أحسبني والله أرى بالعراق أبداً، وقال: خذوا بيد هذا الجاهل أو النذير، واعطوا مخارقاً ثلاثة آلاف درهم، وتقوض المجلس ولم يعد بعد. قال علويه: وكدت أحبس لولا كرم المأمون، وصار إلى البذندون على أثر ذلك فهلك في رجب سنة ثمان عشرة ومائتين.
وطرسوس (6) مدينة كبيرة كثيرة المتاجر، والعمارة والخصب الزائد وبينها وبين البحر اثنا عشر ميلاً.
وفي سنة اثنتين وخمسين (7) وثلثمائة تغلب الروم على طرسوس
__________
(1) صبح الأعشى 4: 133.
(2) قارن بالبلاذري: 200.
(3) فتوح البلاذري: فرج بن سليم الخادم.
(4) مروج الذهب 7: 101 - 102.
(5) ذكر أبو الفرج هذا الصوت في قصة أخرى بين المأمون وعلويه (الأغاني 11: 335) .
(6) نزهة المشتاق: 195، وقارن بياقوت (طرسوس) .
(7) تتفق المصادر (ابن الأثير، تجارب الأمم، ابن العديم، ابن العيري، ياقوت ((طرسوس)) ) على أن استيلاء نقفور على طرسوس تم سنة 354، ويشير كل من العديم (زبدة الحلب 1: 142) ومسكويه (تجارب الأمم 2: 201) إلى وجود غازٍ خراساني كان معه حسبما يقول مسكويه خمسة آلاف، ذهبوا لمعونة سيف الدولة ضد الروم سنة 353، ويقول المؤرخان إن جماعة تفرقت سنة 353 لشدة الغلاء، ويضيف مسكويه إن أكثرهم رجع إلى بغداد ومنها إلى خراسان.(1/388)
واحتلت ثغور الشام الأدنى إلا من رضي بأداء الجزية من المسلمين وعمرت طرسوس وما والاها بالروم فلما كان سنة سبع وخمسين وثلثمائة زحف ابن نوح صاحب خُراسان بعساكر جرارة إلى طرسوس وأوقع بالروم وهزمهم، وجاوز الدرب إلى أرض القسطنطينية فالتقى جيوش المشركين وعليهم ابن الشمشكي بطريق نقفور، فمنح الله تعالى المسلمين النصر عليهم، ولم ينج ابن الشمشكي إلا وحيداً، ثم جهز نقفور جيشاً آخر احتفل فيه لنصر ابن الشمشكي، فكان خلاف ما أمله، وصاروا بعد الطعن والضرب والمجالدة بالسيوف إلى المعانقة والمغافصة بالأيدي والتناصي بالشعور فما حجز بينهم إلا الليل، وثبت المسلمون في مصافهم، وباتوا على ظهور دوابهم، وناجزوهم بجد وحزم فإذا الأرض قد غصت بجثثهم، ولا أثر لمن بقي منهم ولا عين، قد تفرقوا في جنح الليل، وافتتح ابن نوح قلاعاً كثيرة مما كان تغلب عليها الطاغية، منها مرعش وغيرها.
طُرَيْثيث (1) :
بينها وبين نيسابور ثلاث مراحل، منها أحمد بن علي الطريثيثي، روى عن أَنَس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار يتجر بمال له ولغيره، ويضرب به الآفاق، وكان ناسكاً ورعاً فخرج مرة فلقيه لص مقنعاً في السلاح فقال له: ضع ما معك فإني قاتلك، قال: وما تريد إلى دمي؟ شأنك بالمال قال: إن المال لي فلست أريد إلا دمك، فقال: أما إذ أبيت فذرني أصلّي ركعتين، قال: صلَ ما بدا لك، فتوضأ ثم صلَى أربع ركعات، فكان من دعائه في آخر سجدة أن قال: يا ودود يا ودود يا ذا العرش المجيد يا فعّال لما يريد أسألك بعزك الذي لا يرام وملكك الذي لا يضام، وبنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفيني شرّ هذا اللص، يا مغيث أغثني، ثلاث مرّات، فإذا هو بفارس قد أقبل بيده حربة وضعها بين أذني فرسه، فلما بصر به اللص أقبل نحوه، فطعنه فقتله، ثم أقبل إليه فقال: قم، ثم قال: من أنت بأبي أنت وأمي، فقد أغاثني الله بك، قال: أنا ملك من السماء الرابعة، دعوت بدعائك الأول، فسمعت لأهل السماء قعقعة، ثم دعوت بدعائك الثاني فسمعت لأهل السماء ضجة، ثم دعوت بدعائك الثالث فقيل لي: دعاء مكروب، فسألت الله تعالى أن يوليني قتله، قال أنس رضي الله عنه: فاعلم أن من توضأ وصلَى أربع ركعات ودعا بهذا الدعاء استجيب له، مكروباً كان أو غير مكروب.
طرسونة (2) :
بالأندلس كانت مستقر العمال والقوّاد بالثغر، وكان أبو عثمان عبيد الله بن عثمان المعروف بصاحب الأرض اختارها محلاً وآثرها على مدن الثغور منزلاً، وكانت ترد عليه عشور مدينة أربونة وبرشلونة. ثم عادت طرسونة من بنات تطيلة عند تكاثر الناس بتطيلة وإيثارهم لها، لفضل بقعتها واتساع خطتها، وبينهما اثنا عشر ميلاً.
طرابلس:
من مدن إفريقية، وهي (4) مدينة كبيرة أزلية على ساحل البحر يضرب في سورها، وهو من حجر جليل من بناء الأول، قيل وتفسير طرابلس ثلاث مدن وقيل مدينة الناس (5) ، وبها أسواق حافلة وحمامات كثيرة، وفي شرقيها بساتين كثيرة فيها فواكه كثيرة وخيرات جمة، وأهلها تجار يسافرون براً وبحراً، وهم أحسن الناس معاملة بضدّ أهل سرت، وداخل سورها بئر تعرف ببئر أبي الكنود، يقال إنه من شرب من مائه حمق، فهم يعيرون به، فيقال للرجل منهم إذا أتى ما يلام عليه: لا عتب عليك لأنك شربت من بئر أبي الكنود. ومن طرابلس إلى جبل نفوسة ثلاثة أيام، وطرف هذا الجبل الخارج في البحر هو طرف أوثان ما بين طرابلس والاسكندرية، وهذا الطرف الخارج في البحر إذا عدّته المراكب استبشرت بالسلامة، ومن هذه المدينة تعد بلاد إفريقية.
وبينها وبين سرت عشر مراحل، وفيها رباطات كثيرة يأوي إليها الصالحون.
وذكر الليث بن سعد قال (6) : غزا عمرو بن العاصي رضي الله عنه مدينة طرابلس سنة ثلاث وعشرين حتى نزل القبة التي على الشرف من شرقها، فحاصرها أشهراً لا يقدر منهم على شيء،
__________
(1) قارن بياقوت (طُرَيْثيث) وانظر في ضبطها ابن خلكان 4: 244.
(2) بروفنسال: 123، والترجمة: 150 (Tarazona) ، وقارن بياقوت (طرسونة) .
(4) الاستبصار: 110، وقارن بالبكري: 6 - 9 (أطرابلس) ، والإدريسي (د/ ب) : 121/ 89.
(5) الاستبصار: إياس؛ البكري: أناس؛ ولعل الصواب: ((أُياس)) احتفاظاً بالشكل القديم للأسم (Oea) .
(6) البكري: 8، وقارن بابن عبد الحكم: 171، والكندي: 10، وياقوت (طرابلس) .(1/389)
فخرج رجل من بني مدلج ذات يوم من معسكر عمرو متصيداً في سبعة نفر، فمضوا بغرب المدينة، ولم يكن فيه بين البحر والمدينة سور، وكانت سفن البحر شارعة في مرساها إلى بيوتهم، فنظر المدلجي وأصحابه فإذا البحر غاض من ناحية المدينة، فدخلوا منه حتى أتوا من ناحية الكنيسة فكبروا، فلم يكن للروم مفزع إلا سفنهم، وأقبل عمرو بجيشه حتى دخل عليهم، فلم يفلت الروم إلا بما خف لهم في مراكبهم، وغنم عمرو ما كان في المدينة. وإنما بنى سور مدينة طرابلس هرثمة بن أعين في حين ولايته. ولمدينة طرابلس فحص يسمى سوفجين (1) ، وهم يقولون: فحص سوفجين يصيب سنة في سنين. ومن طرابلس إلى جبل نفوسة مسيرة ثلاثة أيام، وجبل نفوسة على ستة أيام من القيروان، وطول الجبل من المشرق إلى المغرب ستة أيام.
وكان طاغية صقلية (2) طرقها واستولى عليها في سنة أربعين وخمسمائة ثم استرجعها المسلمون، وحكم عليها أيضاً قراقش الغزي سنة ست وثمانين وخمسمائة، ثم دخل في طاعة المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن خليفة مراكش.
وطرابلس (3) أيضاً مدينة بالشام عظيمة، عليها سور صخر منيع، ولها رساتيق وأكوار وضياع جليلة، وبها من شجر الزيتون والكروم وقصب السكر وأنواع الفواكه وضروب الغلات الشيء الكثير، والوارد والصادر إليها كثير، والبحر محدق بها من ثلاثة أوجه، وهي معقل من معاقل الشام، وتقصد بضروب الغلات والأمتعة والتجارات، وتضاف إليها عدة قلاع وحصون داخلة في أعمالها وحوالي مدينتها أشجار الزيتون.
وهو كان أطيب بلاد الشام ثماراً فسكنه قوم أذنبوا وأسرفوا فأمطرهم الله النار والكبريت (4) ، فصار حينئذ رماداً، حتى الآن ترى فيها آثار النار في أرضها وأشجارها، وتنبت ثماراً تخالها طيبة فإذا عض عليها العاض ثار منها دخان وصارت رماداً.
طرابنش (5) :
آخرها شين معجمة، بجزيرة صقلية، والنصارى يسمونها أطرابنه، وبينها وبين مرسى علي ثلاثة وعشرون ميلاً، وهي مدينة قديمة مسورة بيضاء كالحمامة، وبينها وبين مدينة تونس مسيرة يوم وليلة، والسفن منها وإليها لا تتعطل شتاء ولا صيفاً، وبها السوق والحمّام وجميع ما يحتاج إليه من مرافق المدن، لكنها في لهوات البحر لاحاطته بها من جهاتها الثلاث، وأدنى البر منها من جهة واحدة ضيقة، والبحر فاغر فاه لها من سائر الجهات، وأهلها يرون أنه لا بد من التقامه لها، ومحرثها عظيم، وكان سكانها مسلمين ونصارى، وللفريقين فيها مساجد وكنائس، وبركنها من جهة المشرق جبل حامد، وهو جبل عظيم مفرط السمو متسع في أعلاه فيه معقل للروم، وبينه وبين الجبل قنطرة تتصل به، وفي الجبل بلد كبير يقال إن حريمه من أحسن حريم هذه الجزيرة، وبهذا الجبل الكروم، ويقال إن فيه نحواً من أربعمائة عين متفجرة، والصعود إليه هين من إحدى جهاته، وهم يرون أن منه يكون فتح هذه الجزيرة فلا يتركون مسلماً يصعد إليه، ولذلك أعدوا فيه ذلك المعقل، فلو أَحسّوا بحادثة جعلوا حريمهم فيه وقطعوا القنطرة. وطرابنش هذه في البسيط لا ماء لها إلا من بئر على البعد منها.
والبحر يحدق (6) بها من جميع جهاتها، وإنما يسلك إليها على قنطرة، ومرساها في الجانب الجنوبي منها، وهو مرسى ساكن غير متحرك تشتي فيه أكثر السفن آمنة من جميع الأنواء، موْجه هادٍ عند هيجان الرياح، ويصاد به السمك الكثير، ويؤخذ بها التن بشباك كبار، ويوجد ببحرها المرجان السنيّ، وعلى بابها سباخ الملح، ولها إقليم واسع الجهات، وأرضها من أكرم الأرضين في الزراعة، كثيرة الفوائد والغلات، وأسواق المدينة رحيبة، ومعايشها خصيبة، وبقربها جزيرة الراهب وجزيرة اليابسة وجزيرة مليطمة. وطرابنش يسافر إليها في أيام الشتاء لجودة مرساها واعتدال بحرها وهوائها، وبينها وبين جبل حامد نحو عشرة أميال.
طرنش (7) :
من أشرف مدائن افرنجة، ولها موسم عظيم في الخريف يتصل ثمانية أيام، وليس هناك موسم أعظم منه، ويجتمع
__________
(1) البكري: سوبجين.
(2) ينظر إلى ما جاء عند الإدريسي، وعن قراقش إلى ما ذكره صاحب الاستبصار.
(3) نزهة المشتاق: 117.
(4) ص: فأمطرهم الله النار في أرضها وأشجارها والكبريت.
(5) رحلة ابن جبير: 334 (أطرابنش) ؛ وراجع مادتي ((اطرابنش)) و ((حامد)) .
(6) الإدريسي (م) : 33.
(7) لعله من الممكن التعرف عليها في (Tours) حيث كنيسة شنت مرتين، وبذلك يمكن أن تكون: (طرش) .(1/390)
فيه التجار من الأقاليم، وطرنش على نهر هو أعظم أنهار افرنجة، وعليه حصن من خشب عظيم جداً، وأبوابه من خشب. وإنما عظموا مدينة طرنش للكنيسة التي بها، وهي كنيسة عظيمة في وسطها صنم من فضة على صورة شنت مرتين، وبها عظامه، وبهذه الكنيسة من صدقات قارلُهْ تاجه الذي كان يلبسه مرصعاً برفيع الجواهر، وعصاه مفرغة ذهباً وقميصه منسوج بالذهب منظوم باللؤلؤ وفيها مصاحف إنجيلهم ألواحاً من ذهب مكللة بالياقوت والزمرد، وقارلُه هذا أول ملوكهم. وفي الافرنج جمال، وأكثرهم بيض شقر وقد يوجد فيهم سمر وسود الشعور، ولهم عقول صحيحة، وفيهم كيد ودهاء وكبر وبأس شديد وقسوة، لا رأفة عندهم، يموت حميم الرجل فلا يبكيه، وهم أسخياء بطعامهم، ويأكلون في اليوم مرات، ويغتسلون ويتطيبون ويغسلون شعورهم بالصابون، ولهم حمامات يصنعونها لاستخراج فضول الأبدان بحجارة محماة يضعون عليها الكراسي ويصبون فوق تلك الحجارة الماء، فيرتفع لذلك بخار يسيل عرق الأبدان، وإذا اشتد الحر بافرنجة استحجرت الأرض وكثر الزلق، فلا يركب الفارس إلا على خطر لا سيما إذا نزل المطر على النهر، وإذا نزل الثلج على ذلك الجمد تسهلت الأرض وأمكن الركوب.
طرطوشة (1) :
من بلنسية إلى طرطوشة مائة ميل وعشرة أميال، مسيرة أربعة أيام، وهي في سفح جبل، ولها سور حصين، وبها أسواق وعمارات وضياع وفعلة، وإنشاء المراكب الكبار من خشب جبالها وبجبالها خشب الصنوبر الذي لا يوجد له نظير في الطول والغلظ، ومنه تتخذ الصواري والقرى، وهو خشب أحمر صافي البشرة بعيد التغير لا يفعل فيه السوس ما يفعله في غيره من الخشب، ومنها إلى طركونة خمسون ميلاً، وبينها وبين البحر الشامي عشرون ميلاً.
وقصبة طرطرشة على صخرة عظيمة سهلة الأعلى وفي الشرق من القصبة جبل الكمين (2) ، وهو جبل أجرد، والمصلى والمدينة في غربي القصبة وجوفيها، وعلى المدينة سور صخر من بناء بني أمية على رسم أولي قديم، ولها أربعة أبواب، وأبوابها كلها ملبسة بالحديد، ولها أرباض من جهة الجوف والقبلة، ودار الصناعة، قد أحدق على ذلك كله سور صخر حصين بناه عبد الرحمن بن النظام، وبها جامع من خمس بلاطات، وله رحبة واسعة، بني سنة خمس وأربعين وثلثمائة، وبها أربعة حمامات، وسوقها قي الربض القبلي جامعة لكل صناعة ومتجر، وهي باب من أبواب البحر ومرفأ من مرافئه يحلها التجار من كل ناحية، وهي كثيرة شجر البقس، ومنها تفترق إلى النواحي، وخشبها الصنوبر له خاصية في الجودة تفوق جميع خشب الأمصار. وقصبة طرطوشة من المنعة والسمو في حد لم يستوفه بالصفة إلا عبد الملك بن ادريس الكاتب المعروف بالجزيري (3) حين سجنه بها المنصور بن أبي عامر فقال يصف حاله هناك من قصيدة طويلة مشهورة:
في رأس أجردَ شاهقٍ عالي الذرى ... ما بعده لمؤملٍ من مبصر
يهوي إليه كل أجرد ناعب ... وتهب فيه كل ريح صرصر
ويكاد من يرقى إليه مرة ... من دهره يشكو انقطاع الأبهر وأول هذا الشعر:
ألوى بعزم تجلدي وتصبري ... نأي الأحبة واعتياد تذكري
شحط المزار ولا مزارَ ونافرت ... عيني الهجوعَ فلا خيال يعتري
وقصرت عنهم فاقتصرت على جوى ... لم يدع بالواني ولا بالمقصر ومن أهل طرطوشة الفقيه الإمام الزاهد أبو الوليد الطرطوشي الفهري (4) نزيل الاسكندرية، صاحب التعليقة في الخلاف وكتاب
__________
(1) بروفنسال: 124، والترجمة: 151 (Tortosa) ، والادريسي (د) : 190، وصبح الأعشى 3: 235.
(2) بروفنسال: الكهف.
(3) في ترجمة عبد الملك بن ادريس الجزيري انظر البغية رقم: 1158، والجذوة: 261، والمطمح: 13، واعتاب الكتاب: 193، والذخيرة 4: 31، وصفحات متفرقة من النفح. وقصيدته هذه مشهورة عند الاندلسيين، وقد كتبها غلى ابنه الأصغر، وضمنها نصائح كثرة.
(4) المشهور في كنيته ((أبو بكر)) وهو محمد بن الوليد، وانظر ابن خلكان 4: 262، وفي الحاشية منصادر أخرى لترجمته.(1/391)
" الحوادث والبدع " وغير ذلك، سكن بغداد وتفقه على أبي بكر الشاشي، وسمع بها الحديث، وهو مالكي المذهب، قالوا: وزهده أكثر من علمه، وانتفع به جماعة، وأنجب أكثر من مائتي فقيه مفت، ومن كبار أصحابه أبو الطاهر بن عوف وسند بن عنان الأزدي، وعاصر الغزالي، وله في إحيائه كلام، وكان منحرفاً عنه سيء الاعتقاد فيه، وكانت وفاته بعد العشر والخمسمائة.
طركونة (1) :
بالأندلس، بينها وبين لاردة خمسون ميلاً، وطركونة مدينة أزلية، قاعدة من قواعد العمالقة، وجعلها قسطنطين في القسم الثالث من الأندلس، وأضاف إليها مدن ذلك القسم.
وهي مبنية (2) على ساحل البحر الشامي ومعالمها باقية لم تتغير، وأكثر سورها باق لم يتهدم، وهي أكثر البلاد رخاماً محكماً، وسورها من رخام أسود وأبيض، وقليلاً ما يوجد مثله.
ومن الغرائب بطركونة أرحاء نصبها الأول تطحن عند هبوب الريح وتسكن بسكونها.
وذكر أهل العلم باللِّسان اللطيني أن معنى طركونة الأرض المشبهة بالمعجنة (3) ، وكانت في قديم الزمان خالية لأنها كانت فيما بين حد المسلمين والروم، والأحناش بها مؤذية كثيرة، ومياهها كثيرة، وبها أساطين رفيعة مما تضل الأوهام في حكمته، ويعجز المتكلفون اليوم عن صنعته. وذكر شيخ ثقة من أهل شبرانة يقال له ابن زيدان أنه كان يخرج في السرايا إلى تلك الناحية، فنزل في بعض خرجاته مع جماعة من أصحابه في البنيان الذي تحت مدينة طركونة، فأرادوا التحوّل منه فضلوا ولم يهتدوا منه لمخرج، وترددوا كذلك ثلاثة أيام حتى اهتدوا في آخر اليوم الثالث لما أراد الله تعالى من إبقائهم، وزعم قوم أنهم وجدوا هناك بيوتاً مملوة قمحاً وشعيراً من الأزمان السالفة قد اسودّ حبّه وتغير لونه، وفي هذه المدينة يكمن المسلمون عند طلب الفرصة في الغزو، وفيها يكمن العدو أيضاً للمسلمين.
طراقية (4) :
مدينة تلي من ناحية الشرق مدينة القسطنطينية، ومن ناحية الجوف إلى الأشبان، ومن ناحية الغرب بلاد مجدونية (5) ، سميت بطراقي بن يافث، وزعموا أن أهلها أول من عمل اللجم للخيل وأنهم الذين ابتدعوا رياضة الخيل والبيطرة.
طريف (6) :
جزيرة طريف على البحر الشامي في أول المجاز المسمى بالزقاق، ويتصل غربيها ببحر الظلمة، وهي مدينة صغيرة عليها سور تراب، ويشقها نهر صغير، وبها أسواق وفنادق وحمّامات، ومن جزيرة طريف إلى الخضراء ثمانية عشر ميلاً.
وكتب موسى بن نصير إلى الوليد يستأذنه في اقتحام الأندلس فراجعه: خضها بالسّرايا ولا تغرر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال، فراجعه: ليس ببحر زخار، إنما هو خليج يبين للناظر ما خلفه، فجاوبه: وإن كان، فلا تدعنّ (7) اختباره بالسرايا قبل اقتحامه، فبعث موسى رجلاً من مواليه من البربر اسمه طريف يكنى أبا زرعة في أربعمائة رجل معهم مائة فرس في أربعة مراكب، فنزل بالخضراء التي هي معبر سفائنهم، وهي التي يقال لها اليوم جزيرة طريف لنزوله بها فأغار عليها، فأصاب سبياً لم يرَ موسى ولا أصحابه مثله حسناً، ومالاً جسيماً وأمتعة وذلك سنة إحدى وتسعين.
الطران:
مدينة للمسلمين تلي بلاد الأتراك، وبينهم حصون منسوبة إليهم، ويليها من شمالها الترك الخرلخية، وبينهم في أكثر الأوقات حروب وغارات، وإذا كانت الهدنة كانت بينهم تجارات ومعاملات (8) بالأمتعة والسائمة والأبقار.
طَرْيانة (9) :
من كور اشبيلية بالأندلس، بها كان ألفنش بن فرذلند الطاغية، واعد قواد جيوشه للاجتماع فيها عام الزلاقة لمحاصرة
__________
(1) بروفنسال: 125، والترجمة: 153 (Tarragone) .
(2) الإدريسي (د) : 69.
(3) بروفنسال: بالمجنة.
(4) البكري (ح) : 230 (Thrace Thracia) .
(5) (Macedonia) (مقدونية) .
(6) بروفنسال: 137، والترجمة: 154.
(7) بروفنسال: فلابد من.
(8) إلى هنا تنتهي المادة في ص.
(9) بروفنسال: 126، والترجمة: 154 (Triana) .(1/392)
ابن عباد باشبيلية في سنة تسع وسبعين وأربعمائة، فأخلف الله ظنه وعكس عليه أمله، وكان ما كان في الزلاقة من نصر الله تعالى للمسلمين والفتح لهم فله الحمد، وقد مرَّ ذلك في رسم الزلاقة. ومن كلام عامة اشبيلية: " يفتك وطريانة تؤدي الجعل ".
طلمنكة (1) :
مدينة بثغر الأندلس، بناها الأمير محمد بن عبد الرحمن منها أحمد بن محمد بن عبد الله بن لب بن يحيى المعافري الطلمنكي المقرئ (2) ، وبينها وبين وادي الحجارة عشرون ميلاً.
طليطلة (3) :
بالأندلس بينها وبين البرج المعروف بوادي الحجارة خمسة وستون ميلاً، وهي مركز لجميع بلاد الأندلس لأن منها إلى قرطبة تسع مراحل، ومنها إلى بلنسية تسع مراحل أيضاً، ومنها إلى المرية في البحر الشامي تسع مراحل أيضاً.
وطليطلة (4) عظيمة القطر كثيرة البشر، وهي كانت دار الملك بالأندلس حين دخلها طارق، وهي حصينة لها أسوار حسنة وقصبة حصينة، وهي أزلية من بناء العمالقة، وهي على ضفة النهر الكبير، وقلما يرى مثلها إتقاناً وشماخة بنيان، وهي عالية القدر حسنة البقعة، ولها قنطرة من عجائب البنيان، وهي قوس واحدة، والماء يدخل تحتها بعنف وشدة جري، ومع آخر (5) النهر ناعورة ارتفاعها في الجو تسعون ذراعاً وهي تصعد الماء إلى أعلى القنطرة، ويجري الماء على ظهرها فيدخل المدينة.
وكانت طليطلة دار مملكة الروم، وكان بطليطلة بيت مغلق متحامى الفتح على الأيام، عليه عدة من الأقفال، يلزمه قوم من ثقات القوط قد وكلوا به لئلا يفتح، قد عهد الأول في ذلك إلى الآخر، فلما قعد لذريق ملكاً أتاه أولئك الموكلون بالبيت يسألونه أن يقفل على الباب فقال: لا أفعل حتى أعلم ما فيه ولا بد لي من فتحه، فقالوا: أيها الملك إنه لم يفعل هذا أحد قبلك، فلم يلتفت إليهم ومضى إلى البيت، فأعظمت ذلك العجم، وضرع له أكابرهم، فلم يفعل، وظن أنه بيت مال قد اختزنته الملوك، ففض الأقفال عنه ودخل، فأصابه فارغاً لا شيء فيه إلا تابوتاً عليه قفل، فأمر بفتحه فألفاه أيضاً فارغاً ليس فيه إلا شقة مدرجة صورت فيها صور العرب، عليهم العمائم وتحتهم الخيول العراب متقلدي السيوف متنكبي القسي رافعي الرايات على الرماح، وفي أعلاها أسطر مكتوبة بالعجمية، قرئت فإذا فيها: إذا كسرت الأقفال عن هذا البيت، وفتح هذا البيت فظهر ما فيه من هذه الصور، فإن هذه الأمة المصورة في هذه الشقة تدخل الأندلس فتغلب عليها وتملكها، فوجم لفريق وندم على ما فعل وعظم غمه وغم العجم لذلك، وأمر بردّ الأقفال وإقرار الحراس وأخذ في تدبير ملكه وذهل عما أنذر به، إلى أن كان من أمر يليان عامل لذريق على سبتة وأمر ابنته في الخبر المشهور ما سبب إثارة عزمه على إدخاله العرب إلى الأندلس، إلى أن كان ذلك وسبب الله فتحها بسبب ذلك، وما بعد ذلك يذكر في غير هذا المكان.
ووجد (6) أهل الإسلام فيها ذخائر عند افتتاح الأندلس كادت تفوت الوصف كثرة، فمنها مائة وسبعون تاجاً من الذهب مرصعة بالدر، وأصناف الحجارة الثمينة، ووجد فيها ألف سيف مجوهر ملوكي، ووجد بها من الدر والياقوت أكيال وأوساق، ومن آنية الذهب والفضة وأنواعها ما لا يحيط به وصف، ووجد بها مائدة سليمان بن داود عليهما السلام، وكانت فيما يذكر من زمردة وهذه المائدة اليوم بمدينة رومة.
وزعم رواة العجم أنها لم تكن لسليمان عليه السلام، قالوا: وإنما أصلها أن العجم في أيام ملكهم كان أهل الحسبة في دينهم إذا مات أحدهم أوصى بمال للكنائس، فإذا اجتمع عندهم ذلك المال صاغوا منه آلات من الموائد والكراسي وغيرها، من الذهب والفضة، يحمل الشمامسة والقسوس فوقها مصاحف الأناجيل إذا أبرزت في أيام المناسك، ويضعونها على المذابح في الأعياد للمباهاة بزينتها، فكانت تلك المائدة بطليطلة مما صنع في هذه السبيل، وبالغت الأملاك في تحسينها، يزيد الآخر منهم فيها على الأول، حتى برزت على جميع ما اتخذ من تلك الآلات وطار الذكر بها كل مطار، وكانت مصوغة من خالص الذهب
__________
(1) بروفنسال: 128، والترجمة: 155 (Talamanca) وهي قرية صغيرة في مقاطعة مدريد.
(2) أبو عمر الطلمنكي أستاذ ابن حزم، توفي سنة 428 (بغية الملتمس رقم 347 وغاية النهاية 1: 120) .
(3) بروفنسال: 130، والترجمة: 157 (Toledo، وابن الوردي: 18.
(4) الإدريسي (د) : 187.
(5) ع: النهار.
(6) عاد إلى النقل عن الإدريسي.(1/393)
مرصعة بفاخر الدر والياقوت والزبرجد، لم تر العين مثلها بولغ في تحسينها من أجل دار المملكة وأنه لا ينبغي أن يكون بموضع آلة جمال إلا ما يكون فيها وكانت توضع على مذبح كنيسة طليطلة فأصابها المسلمون هناك، وقصة إيصالها إلى سليمان بن عبد الملك، ومنازعة موسى بن نصير وطارق مولاه في رجلها مشهورة.
قال ابن حيان: مضى طارق خلف فرار أهل طليطلة فسلك إلى وادي الحجارة ثم استقبل الجبل فقطعه، فبلغ مدينة المائدة، والمائدة خضراء من زبرجد، حافاتها منها وأرجلها، وكان لها ثلثمائة وخمسة وستون رجلاً، فأحرزها عنده.
وبطليطلة (1) بساتين محدقة وأنهار مخترقة ودواليب دائرة وجنّات يانعة وفواكه عديمة المثال ولها من جميع جهاتها أقاليم وقلاع منيعة، وعلى بعد منها في جهة الشمال الجبل العظيم المعروف بالشارات، فيه من الغنم والبقر الشيء الكثير الذي يتجهز به الجلابون إلى سائر البلاد، ولا يوجد شيء من أبقاره وأغنامه إلا في غاية السمن، ولا يوجد مهزولاً البتة، ويضرب بها المثل في ذلك في جميع الأقطار بالأندلس، وعلى مقربة من طليطلة قرية تسمى بمغام في (2) جبالها وترابها الطين المأكول يتجهز به إلى مصر والشام والعراق، ليس على قرار الأرض مثله في لذة أكله وتنظيف غسل الشعر به، وفي جبال طليطلة معادن الحديد والنحاس.
وزعموا أن (3) معنى طليطلة باللطيني " تولاطو " - معناه " فرح ساكنها " يريدون لحصانتها ومنعتها، وفي كتب الحدثان كان يقال: طليطلة الأطلال، بنيت على الهرج والقتال، إذا وادعوا الشرك، لم يقم لهم سوقة ولا ملك، على يد أهلها يظهر الفساد، ويخرج الناس من تلك البلاد. ومدينة طليطلة قاعدة القوط ودار مملكتهم، ومنها كانوا يغزون عدوهم، وإليها كان يجتمع جيوشهم، وهي إحدى القواعد الأربع، إلا أنها أقدمهن، ألفتها القياصرة مبنية، وهي أول الإقليم الخامس من السبعة الأقاليم التي هي ربع معمور الأرض، وإليها انتهى حدّ الأندلس، ويبتدئ بعدها الذكر للأندلس الأقصى، أوفت على نهر تاجُه، وبها كانت القنطرة التي يعجز الواصفون عن وصفها، وكان خرابها في أيام الإمام محمد. ومن خواص طليطلة أن حنطتها لا تسوس على مَرِّ السنين، يتوارثها الخلف عن السلف، وزعفران طليطلة هو الذي يعم البلاد ويتجهز به إلى الآفاق، وكذلك الصمغ السماوي (4) .
وأول من نزل (5) طليطلة من ملوك الأندلس لوبيان وهو الذي بنى مدينة رقوبل (6) ، وهي على مقربة من طليطلة وسماها باسم ولده: ومنها ولى الأساقفة على الكور، وبها مجتمعهم للمشورة، وكان عددهم ثمانين أسقفاً لثمانين مدينة من حوز الأندلس كجليقية، وطركونة وقرطاجنة، وكانت قبل ولايته فرقاً، فائتلف أمر الناس وانقطع الاختلاف وأحبه الخاص والعام، وهو الذي بنى الكنائس الجليلة والمعالم الرفيعة، وبنى الكنيسة المعروفة بالمردقه (7) واسمه مزبور على بابها، وهي بين حاضرة البيرة ووادي آش.
وبطليطلة ألفيت ذخائر الملوك، وعلى مقربة من طليطلة قرية قنبرشه (8) وهي حارتان فيهما عينا ماء، إذا نضبت إحداهما جرت الأخرى، هذا دأبهما كل عام، ماؤهما متعاقب لا يجري في زمان واحد، وغربيها على نحو عشرين ميلاً منها تمثالان عظيمان على صورة ثورين قد نحتا من حجر صلد وذكر بعض المؤرخين أن طارقاً لما غزا طليطلة اعترض جنده وهو راكب أحدهما.
قالوا: لما مضى طارق بن زياد إلى طليطلة دار مملكة القوط، ألفاها خالية قد فرَّ أهلها عنها، فضمَّ إليها اليهود، وخلى بها رجالاً من أصحابه ومضى خلف فرَّار أهل طليطلة، فسلك إلى وادي الحجارة، ومنه اقتحم أرض جليقية فخرقها ودوخ الجهة ثم انصرف إلى طليطلة وذلك سنة ثلاث وتسعين من الهجرة.
وفي سنة خمسين وأربعمائة نتجت بغلة بطليطلة (9) فلواً في
__________
(1) عاد إلى النقل عن الإدريسي.
(2) سقط من ص ع: وأورده بروفنسال.
(3) البكري (ح) : 86.
(4) ص ع: اليماني.
(5) لا يزال النقل مستمراً عن البكري، ويبدو أنه يشمل كل هذه الفقرة إلا أن المطبوع من البكري توقف عن لفظة ((لوبيان)) .
(6) بروفنسال: رقابل.
(7) ص: بالروفه، وقد تقرأفي ع: بالمروقة.
(8) بروفنسال: قنبشرة.
(9) سقط من ع.(1/394)
صورة مهر، وكانت بغلة كميتاً لبعض السائقين، فتشاءم به النصارى، ولم يزالوا يختلونه حتى عقروه. وبقلعة الفهمن (1) من جوفي طليطلة على خمسة عشر ميلاً منها بئر لم يعرف فيها قط علق، فنبشت في بعض السنين ليكثر ماؤها، فكثر العلق فيها كثرة مفرطة فنظروا فيما استخرجوه من نبشها فإذا فيه علقة نحاس فردت في البئر فانقطع العلق منها، وقيل إنما ذلك في حصن وقش في عين بجوفي الحصن، وفي قرية على عشرة أميال من طليطلة في طريق مجريط بئر معروفة، إذا شرب من مائها المعلوق سقطت العلق، كان إنساناً أو دابة أو غير ذلك.
وكان أخذ النصارى لطليطلة في منتصف محرم سنة ثمان وسبعين وأربعمائة.
طلياطة (2) :
بالأندلس بينها وبين اشبيلية محلة من عشرين ميلاً، ومن طلياطة إلى لبلة محلة مثلها.
وفي جمادى الأولى من سنة اثنتين وعشرين وستمائة كانت الوقيعة على أهل اشبيلية بفحص طلياطة، فأغار الروم الغربيون على تلك الجهة فغنموا ما وجدوا واستاقوا ما أصابوا، والعادل صاحب المغرب يومئذ باشبيلية ووزيره أبو زيد بن يوجان (3) ، ومعهما أهل الدولة وأشياخ الأمر، ولا غناء لديهم ولا مدفع عندهم، إذ كان الأمر قد أدبر، ورونق الدولة قد تغير، ومن نزلت به من الناس مصيبة أو أغير له على سرح لم يرج مغيثاً ولا يجد نصيراً، وكان خبر هؤلاء الروم بلغ اشبيلية قبل ذلك بأيام، واجتمع جمع كثير من العامة في المسجد الجامع، فلما فرغ من صلاة الجمعة قاموا فصاحوا بالسلطان يحملونه على الخروج، فلما كان يوم السبت خرج المنادي ينادي الناس بالخروج إلى العدو، فأخذوا في ذلك وتجهزوا، وخرج بعضهم في ذلك اليوم، ولما كان يوم الأحد جد بالناس الخروج، فخرجوا على كل صعب وذلول، كبارهم وصغارهم، بسلاح وبغير سلاح، كما يخرجون إلى نزههم في البساتين والجنات، فتكامل جمعهم في جهة طلياطة يوم الأحد، ولم يخرج معهم من الخيل إلا دون المائة، والروم في عدد ضخم، عليهم الدروع وبأيديهم الأسلحة، وأكثر جمع (4) المسلمين بغير سلاح إلا ما لا قدر له، وإنما هم أهل الأسواق والباعة، وكان فيمن خرج من الجند أبو محمد عبد الله بن أبي بكر بن وزير (5) ، وهو أعلم بالحرب من هؤلاء الرعاع والغوغاء الذين لا يعقلون، فصاحوا به أن يصير بهم إلى لقاء العدو، فأبى عليهم ونهاهم وحذرهم، فأبوا عليه إلا اللقاء وسبوه وآذوه بالقول، فتركهم وانصرف عنهم هو ومن كان معه من الخيل، إذ رأوا ما لم يروه، وعاينوا ما لم يعاينوه، وأبصروا ما لا طاقة لهم به، فلما رأى الروم ذلك مالوا على أولئك العامة، فلما رأوهم مستقبلين لهم أخذوا في الفرار فوقع القتل بهم، فأفني منهم بالقتل كثير، وأسر منهم كثير، وأفلت كثير، وكان الناس بعد يختلفون في مقدار من أتى القتل عليه من أهل اشبيلية والأَسْرُ، فمقلل ومكثر، فالمكثر يقول بلغوا عشرين ألفاً، وقيل دون ذلك، فالله أعلم. وخرج العادل من اشبيلية متوجهاً إلى حضرة مراكش في ذي القعدة من هذه السنة، وهي سنة إحدى وعشرين وستمائة.
طلبيرة (6) :
بالأندلس أيضاً، بينها وبين وادي الرمل خمسة وثلاثون ميلاً.
وطلبيرة (7) أقصى ثغور المسلمين، وباب من الأبواب التي يدخل منها إلى أرض المشركين، وهي قديمة أزلية على نهر تاجه، وهي في الجزء الثالث من قسمة قسطنطين، وهي مبنية على جبل عظيمٍ، يخرج من تحته عين خرارة، يطحن على جريها عشرون رحى.
وهي مدينة (8) كبيرة وقلعتها أرفع القلاع حصناً، ومدينتها أشرف البلاد حسناً، وهو بلد واسع الساحة كثير المنافع به أسواق وديار حسنة، ولها على نهر تاجه أرحاء كثيرة، ولها عمل واسع ومزارعها زاكية وبينها وبين طليطلة سبعون ميلاً.
طنجة (9) :
مدينة بالمغرب قديمة على ساحل البحر، فيها آثار
__________
(1) بروفنسال: العهن، ص: الفهمين.
(2) بروفنسال: 128، والترجمة: 155 (Tejada) تقع على حوالي ثلاثين كيلومتراً إلى الشمال الغربي من إشبيلية.
(3) ص ع: وجان.
(4) ص ع: جميع.
(5) بروفنسال: يزيد.
(6) بروفنسال: 127، والترجمة: 155 (Talvera de Reina) .
(7) البكري؛ (ح) : 89، وبعض ما ورد هنا زيادة على ما في المطبوع من البكري.
(8) الإدريسي (د) : 187.
(9) الاستبصار: 138، وابن الوردي: 14.(1/395)
كثيرة للأول وقصور وأقباء، وكان فيها ماء مجلوب، وبخارجها عين ماء طيب يسمونه برقال، ويقال إنه يحدث الحمق لشاربه، فهم يعيرون بذلك فيقال لمن تهافت منهم: شربت ماء برقال، لا جناح عليك، وقال الشاعر:
بطنجة عين ماء وسط رمل ... لذيذ ماؤه كالسلسبيل
خفيف وزنه عذب ولكن ... يطير بشاربيه ألف ميل وبين طنجة (1) وسبتة ثلاثون ميلاً في البر، وفي البحر نصف مجرى وتعرف طنجة بالبربرية " وليلي " افتتحها عُقْبة بن نافع وقتل رجالها وسبى من فيها، وهي على شاطئ بحر الزقاق.
وكان (2) فيها رخام كثير وحجر منحوت جليل، ومنها كانت القنطرة على بحر الزقاق إلى ساحل الأندلس التي لم يكن في العالم مثلها، وكانت تمر عليها القوافل والعساكر من ساحل طنجة إلى ساحل الأندلس، فلما كان قبل الفتح الإسلامي (3) طغى ماء البحر وزاد وخرج من البحر المحيط إلى بحر الزقاق، وأغرق هذه القنطرة، وكان طولها اثني عشر ميلاً وسعة المجاز اليوم في موضعها ثلاثون ميلاً أو نحوها، وتبدو هذه القنطرة لأهل المراكب فيتحفظون منها، ويقال إنها ستنكشف في آخر الزمان ويجوز عليها الناس، والله أعلم.
قالوا: وطنجة آخر حدود إفريقية من المغرب ومسافة ما بين طنجة والقيروان ألفا (4) ميل، وهي طنجة البيضاء المذكورة في التواريخ وقيل أن عمل طنجة مسيرة شهر في مثله وأن ملوك المغرب من الروم وغيرهم من الأمم كانت دار مملكتهم مدينة طنجة، وإذا حفرت خرائب طنجة وجدت فيها (5) أصناف الجوهر وهو يدل على أنها كانت دار مملكة لأمم سالفة، ولطنجة نهر كبير تدخله السفن يصب في البحر، يأتي من جبال بغربي طنجة وتأتي منه سيول عظام تذهب ببعض دورها.
قالوا: عقد الوليد لموسى بن نصير على إفريقية وما خلفها سنة ثمان وثمانين، فخرج في نفر قليل، فلما ورد مصر أخرج من جندها بعثاً فأتى إفريقية فأخرج معه من أهلها ذوي القوة، وصير على مقدمته طارق بن زياد، فلم يزل يقاتل البربر ويفض جموعهم ويفتح بلادهم حتى بلغ طنجة، وهي قصبة بلاد البربر، فحصرها حتى افتتحها، واختلف: هل كانت فتحت قبله أو لا.
طفيل (6) :
جبل قريب من الجحفة، وهو وشامة جبلان مشرفان على مجنة، وهي على بريد من مكة، وأظنه الذيَ غنى به بلال رضي الله عنه بقوله:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً ... بوادٍ وحولي إِذخر وجليلُ
وهل أردن يوماً مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل
الطف (7) :
ساحل البطيحة، وهو بين البصرة والأهواز.
والطف أيضاً بالعراق على فرسخين من البصرة، وهناك الموضع المعروف بكربلاء الذي قتل فيه الحسين بن علي رضي الله عنهما، وقال الشاعر فيه:
وإن قتيل الطف من آل هاشم ... أذل رقاب المسلمين فذلَتِ وبالطف كان قصر أنس بن مالك رضي الله عنه، وفيه مات رحمه الله سنة ثلاث وتسعين، وهو ابن مائة عام وثلاثة أعوام.
وكان مقتل الحسين رضي الله عنه بالطف في محرم سنة إحدى وستين لعشر خلون من المحرم، وله ست وخمسون سنة وخمسة أشهر وثلاثة أيام، قتله شمر بن ذي الجوشن، وقيل سنان بن أبي أنس، وصاحب الجيش عمر بن سعد بن أبي وقاص، وحمل رأسه إلى
__________
(1) البكري: 108 - 109.
(2) عاد إلى النقل عن الاستصار.
(3) زاد في الاستبصار: بنحو مائتي سنة.
(4) الاستبصار: ألف.
(5) ص ع: وجد فيه.
(6) معجم ما استعجم 3: 892، وراجع مادة ((شامة)) .
(7) معجم ما استعجم 3: 891.(1/396)
يزيد بن معاوية، وهو أول رأس حمل على خشبة في الإسلام، وكان أهل الكوفة خاطبوه في الوصول إليهم، فأقبل يريدها، وبلغ ذلك عبيد الله بن زياد، فكتب إلى يزيد بن معاوية يعلمه بذلك فكتب إليه أن ضع عن أهل الكوفة خراجهم، ثم أتبعه بكتاب آخر: بلغني أن أهل الكوفة أصابتهم سنة فأعطهم عطاء ثانياً واستعطفهم، فلا رأي لي في حرب الحسين رضي الله عنه، فاعمل في صرفه إلى موضعه، ووجهه إلى حيث أحب واستعطفهم، فأنكروا ما نسب إليهم من البعث إلى الحسين رضي الله عنه وحلفوا على ذلك، وآل الأمر إلى ما قدر من مقتله، وخبر ذلك مشهور مطول.
وحدَّث رجُل من أهل الكوفة قال: اشتد الجهد بي وبعيالي، وجهدنا حتى والله نقضت منزلي، وبعت نقضه، فخرجت بهم إلى البصرة فنزلت في ناحية من نواحيها وكان لي حمار كأنه شاة أدب عليه فأصبحت يوماً من الأيام فقلت: أسرجوا لي الحمار فقالت: يا مولاي، والله ما أكل شعيراً منذ أيام وما أصبح لنا دقيق " فقلت: الله المستعان، اسرجي، فقالت: كيف يحملك؟ قلت: اسرجيه على كل حال، قال: فأسرجته فركبته، فخرجت في ظهر البصرة فإذا موكب مقبل من ناحية الطف، فلما دنوا دخلت بينهم، فدخلوا البصرة فدخلت معهم، وانتهى صاحب الموكب إلى داره، فإذا دهليز مفروش، فنزلوا فنزلت معهم، فدعا بغدائه فجاء أحسن طعام في الأرض، فتغدّوا فتغدّيت معهم، ثم وضئنا ثم غلفنا الغالية، ثم قال: يا غلمان، هاتوا سفطاً، فجاءوا بسفط أبيض عظيم فأدخلوه فحلوه فإذا ملؤه أكيسة فيها ألف درهم ألف درهم فأمرَّها على أصحابه ومر بي فأعطاني كيساً ثم أدارها الثانية فأعطاني كيساً ثم ثلث فأعطاني كيساً وبقي في السفط كيس فأخذه بيده ثم قال لي: هاك يا هذا الذي لا أعرفه، فخرجت من عنده بأربعة أكيسة فيها أربعة آلاف درهم فلما خرجت من الدار قلت لإنسان: من هذا؟ قال: عبيد الله بن أبي بكرة، وقال فيه بعض الشعراء:
لو شيت لم تشقَ ولم تنصَبِ ... عشت بأسباب أبي حاتمِ
عشت بأسباب الجواد الذي ... لا يختم الأموال بالخاتم
طشالية (1) :
أرض بين الروم والترك، فيها عينان تجريان ويكون عنهما نِهران، إن شربت الماشية من إحداهما اسودت ووضعت سوداً، والأخْرى إن شربت منها الماشية وضعت أولادها بُلْقاً.
طوى (2) :
ذو طوى، واد بمكَة، لما انتهى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح وقف على راحلته معتجراً بشقة برد حِبَرة حمراء، وأنه ليضع رأسه تواضعاً لله تعالى، حين رأى ما أكرمه الله عز وجل به من الفتح حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطةَ الرحل.
وطوى، بكسر أوله وبضمه مقصور منون: اسم واد في أصل الطور بالشام، وهو المذكور في التنزيل.
طوقين:
هي أول مرافئ الصين، وبها يعمل الغضار الصيني، ومنها يتجهز به إلى سائر البلاد التي تتصل بها وتبعد عنها وبها أرز وحبوب ونارجيل وقصب، وهم يجالسون التجار، ولهم همم عالية ونفوس أبية، ويستعملون الطيب أكثر من سائر بلاد الهند.
الطور:
قال بعض أهل اللغة: كل جبل طور وقال آخرون: الطور كل جبل أجرد لا ينبت شجراً ولا خلاف أن في الشام جبلاً يسمى الطور وهو طور سيناء، قيل إنه الذي أقسم الله به لفضله على الجبال، إذ روي أن الله تعالى أوحى إلى الجبال إني مهبط على أحدكم أمري يريد رسالة موسى عليه السلام، فتطاولت كلها إلا الطور فإنه استكان لأمر الله عز وجل وقال: حسبي الله، فأهبط الله الأمر عليه، ويقال إنه بمدين.
وفي حديث مُسْلِم في خبر الدجّال (3) : فبينا هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم عليهما السلام، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق واضعاً كفيه على أجنحة ملكين فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله، ثم يأتي عيسى عليه السلام قوم عصمهم الله تعالى فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو
__________
(1) طشالية (Thessalia) .
(2) معجم ما استعجم 3: 896، ورحلة الناصري: 235.
(3) صحيح مسلم 2: 376، وما هنا فيه اختصار.(1/397)
كذلك إذ أوحى الله تعالى إلى عيسى: إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم، فجوز عبادي إلى الطور ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون. . . الخبر بكماله.
ومن مدينة أيلة إلى بيت المقدس ست مراحل والطور الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام على يوم وليلة من أيلة، وإذا سرت من أيلة (1) لقيت عقبة لا يصعد لها راكب لصعوبتها ولا تقطع إلا في طول اليوم لطولها، ثم تسير مرحلتين في فحص التيه الذي تاه فيه بنو إسرائيل حتى توافي ساحل البحر بموضع يقال له بحر فاران وهو الذي غرق فيه فرعون، ومن هنا إلى بحر القلزم مرحلة واحدة، وإنما نسب هذا البحر إلى فاران وهي مدينة من مدن العماليق على تل بين جبلين، وفي هذين الجبلين ثقوب لا تحصى مملوءة أمواتاً، وفي سفح أحدهما بيعة للنصارى حصينة عليها سور من حجارة ذو شرفات وأبواب حديد داخله عين ماء عذب، وعلى العين درابزين من نُحاس لئلا يسقط فيه أحد وقد أجري ماؤها في قني رصاص إلى ما حوالي الدير من الكروم والأشجار، ويقال إن على هذه العين كان ثمر العليق الذي آنس موسى عليه السلام عنده النار، وعلى خطوات من هذا الدير أول العقبة التي يصعد منها الناس إلى طور سيناء وهي ستة آلاف وستمائة وستون مرقاة قد نحتت درجات في الصخر، فإذا قطعت نصف المرقاة صرت إلى مستوى من الأرض فيه أشجار وماء عذب وهناك كنيسة على اسم ايلياء النبي، وهناك مغارة يزعمون أن إيلياء استخفى فيها من أزقيل الملك، ثم تستمر في الارتقاء حتى تنتهي إلى قلة الجبل، وهناك كنيسة متقنة البناء تنسب إلى موسى عليه السلام بأساطين رخام وحيطانها مزخرفة بالفسيفساء، وأبوابها ملبسة بالصفر وسقفها من خشب الصنوبر وأعلاها أطباق رصاص قد أحكمت غاية الإحكام وليس فيها إلا إنسان واحد يقمها ويقوم عليها ويجمرها ويسرج قناديلها، قد اتخذ هذا الراهب لنفسه بيتاً صغيراً خارجاً عن الكنيسة يأوي إليه وينام فيه، ولا يمكن أحد أن ينام في الكنيسة ولا يدخل عينيه غمض. وهذه الكنيسة بنيت في المكان الذي كلم الله فيه موسى عليه السلام تكليماً.
قالوا: وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام إني متوفي هارون فأتِ به جبل كذا فانطلق موسى وهارون إلى ذلك الجبل فإذا فيه شجر وبيت مبني، وإذا فيه سرير وعليه فرش، فلما نظر هارون إليه أعجبه وقال: يا موسى، إني أحب أن أنام على هذا السرير فقال: نم عليه، فقال: إني أخاف ربَّ البيت، قال موسى: أنا أكفيك. فلما نام هارون قبض الله روحه، ثم رفع ذلك البيت وذلك السرير إلى السماء، فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل وليس معه هارون قالوا: إن موسى قتل هارون وحسده لحب بني إسرائيل له، وكان هارون أعطف عليهم. وقيل: بل هو مدفون في جبل من جبال الشراة مما يلي الطور، وقبره مشهور في مغارة عادية يسمع منها في بعض الليل دوي عظيم يجزع منه كل ذي روح وقيل: بل هو موضوع في المغارة غير مدفون.
طوخا (2) :
مدينة على نهر الصين عامرة بالناس فيها تجار وبضائع وبها تصنع الثياب الطوخيّة من الحرير ولها قيمة وافرة ويتجهز بها منها إلى البلاد وهي ثياب مطرقة كالعتابية، وفيها ثياب مريشة يعمر الثوب منها كثيراً.
طوارق (3) :
من قصور قفصة في البلاد الجريدية، وهي منتصف الطريق من قفصة إلى فج الحمار وأنت تريد القيروان، وكانت مدينة كبيرة آهلة فيها جامع وكانت القوافل إذا خطرت بين هذه القصور تكعم إبلها ودوابها لئلا ترعى ورق الشجر لكثرته على تلك الطريق، وهي اليوم خربة لا أنيس بها منذ دخلت العرب بلاد إفريقية وأفسدت بلاد القيروان وغيرها من البلاد والقرى والعمائر وكثير من المدن بإفريقية.
طوس (4) :
مدينة من نيسابور على مرحلتين، وقيل على ستة عشر فرسخاً. وطوس العظمى يقال لها نوقان، وهي مدينة كبيرة حسنة المباني كثيرة الأسواق شاملة الأرزاق عامرة الأمكنة رائقة الجهات ولها مدن بها منابر.
ولمّا فتح ابن عامر (5) مدينة نيسابور قيل صلحاً وقيل عنوة فتح ما حولها طوس وبيورد ونسا وحُمران وسرخس، وقيل
__________
(1) البكري (مخ) : 77، وانظر رحلة الناصري: 194، 199، 201 حيث ينقل عن الروض عند التعريف بالقلزم وفاران وأيلة، وكذلك صبح الأعشى 3: 387.
(2) نزهة المشتاق: 69 (OG: 206) ، وابن الوردي: 34.
(3) الاستبصار: 154، وهي ((طراق)) عند البكري: 47.
(4) نزهة المشتاق: 209.
(5) الطبري 1: 2884 وما بعدها.(1/398)
بعث إلى سرخس عبد الله بن خازم ففتحها.
وبطوس قبر الرشيد أمير المؤمنين وفيها توفي الرضا علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين.
وكان الرشيد (1) توجّه إلى خُراسان وبه علة هوّنها عليه الأطباء، فلما صار إلى طوس اشتدت به وزادت، واستراب بأطبائه، فبعث إلى متطبب فارسي يقال له الأسقف، فأشخصه إليه، وأمر بقوارير فيها أبوال مختلفة فعرضت عليه، فقال فيها حتى انتهى إلى قارورة الرشيد فقال: قولوا لصاحب هذا الماء فليدع الحمية وليوص، فإنه لا يقوم من مرضه، فبكى الرشيد بكاء شديداً وتململ (2) على فراشه وجعل يردد هذين البيتين:
إن الطبيب بطبَهِ ودوائِهِ ... لا يستطيع دفاع محذور أتى
ما للطبيب يموت بالداء الذي ... قد كان يبرئ مثله فيما مضى وضعف عندما سمع من الطبيب ضعفاً زائداً، وأرجف الناس بموته فلما بلغه ذلك دعا بحمار ليركبه، فلما صار عليه سقطت فخذاه فلم يقدر على الثبات على السرج، فقال: أنزلوني، صدق المرجفون، ثم دعا بأكفانه فنشرت بين يديه، فاختار منها ما رضيه وحفر له قبر فلما اطلع فيه قال: " مَا أَغْنىَ عنّي مالِيَهْ، هَلَكَ عَني سُلْطانِيَهْ ".
وذكر الفضل بن الربيع (3) أن الرشيد رأى بالرافقة سنة اثنتين وتسعين ومائة رؤيا أَفزعته فأصبح واجماً بذلك، لا يجسر أحد على سؤاله وكان بختيشوع طبيبه جسوراً عليه، وكان أول من يدخله عليه فسأله عما أحدث في ليلته، فسألناه أن يكلمه، فابتدأه وقال: يا أمير المؤمنين قد وجم أهل الدار ولا يدرون ما الخبر، فهل حدث شيء؟ قال: أعظمه، ويحك يا بختيشوع، إني رأيت في منامي كأن خادماً جاءني حاسراً عن ذراعيه وفي كمه تراب، والله لو رأيت الخادم أو الكف أو التراب في ألفٍ من أجناسه لعرفت كلاً منها، فجعل يقول لي: هذه تربتك، فأفزعني ذلك، وحق لي الفزعَ، فقال له: وما في هذا يا أمير المؤمنين، وللرؤيا شروط، ولا بد للإنسان من التراب، ولكن أنت إن شاء الله تعالى بعد العمر الطويل والأمد الواسع، وما زال يسليه (4) حتى طابت نفسه وسلا ودعا بالجلساء والمغنين، ثم خرج إلى خُراسان في سنة ثلاث وتسعين بعدها، وقد طوى بغداد، وصيرها منزلاً ووافى إلى طوس وقد زادت علته، فأقام بها وقال للخدم ليجئني أحدكم بقبضة من تراب هذا البستان، فجاء واحد منهم بتراب منه في كفه، فأدناه إليه، وقد حسر عنه ذراعيه، فلما رآه قال: يا بختيشوعَ، أتذكر رؤياي بالرافقة؟ هذا والله ذلك الخادم، وهذه الكف، وهذا التراب، وقد حضر الموت، فغالطه بختيشوع وقال: إنما أراك هذا ما وقر في نفسك، وأنت مع العلة إلى الفكر في غير هذا أحوج، فمات بعد أيام ودُفن في ذلك البستان.
وقال الفضل جيء إلى الرشيد بأخي رافع وبابن عم له مأسورين، وهو لما به فتحامل في الجلوس لعذابهما وهو لا يطيق القعود وقد خرق له في السرير خرق ينجو منه، وتحت فراشه جاورس، وقد قعد الخدم خلف السرير يمسكون أطراف جنبيه لئلا يسقط، ولولا مكانهم ما ثبت جالساً، فأقيم الرجلان بين يديه فقال: أظننتم يا آل رافع أنكم لو كنتم بعدد نجوم السماء وحصى الأرض فتّموني؟! بل اصطلمكم بيميني وشمالي، فجعلا يعتذران ويقولان: ما نحن ورافع؟! وإنما نحن قوم غزاة قد انقطعنا إلى الله تعالى ذكره، ما أكلنا له مالاً قط، ولا نحن صحبناه، ولا كنا في جملته، يعلم ذلك الناس. وأغلظ لهما وطال الخطاب، فأقبل أحدهما على صاحبه فقال: كم تعتذر إلى هذا الظالم والظلم هواه، ولا يملك لك إلا ما يملك لنفسه، فلما سمعهما غضب واستشاط وقال: ليجزر الكلبان الساعة، فصيرا إلى ناحية وبطحا وشدا ووضعت السواطر عليهما فقطعا آراباً، وجزع الناس وقد تناهى ضعف الرشيد بصياحه على الرجلين، وجرد فأغمي عليه بعقب ذلك وكأنه كان ذبالة طفئت، ولحق بهما من يومه فكان شأنه عجباً، وكان إذا اشتدّ به وجعه يقول: صبراً لأمر الله، وينشد:
وإني لمن قوم كرام يزيدهم ... رجاء وصبراً شدة الحدثان
__________
(1) قارن بما ورد في مروج الذهب 6: 356.
(2) المروج: وتمايل.
(3) قارن بالطبري 3: 735.
(4) ص ع: يسأله.(1/399)
وكانت وفاته بطوس في جمادى الأخرى سنة ثلاث وتسعين ومائة وله خمس وأربعون سنة، وكان مولده بالري، وقال للعباس بن موسى: في علمنا المدروس أني أموت بطوس. ولإبراهيم بن المهدي يرثيه:
ذكرت أخي هارون وهو ببلدةٍ ... تكلفها شهرٌ وأوبتها شهرُ
بطوس ومن تكتب بطوس وفاته ... يطلْ من أخلاء الصفاء له الهجر
كملت فلما صرت للأرض زينة ... أفلت عن الدنيا كما يأفل البدر
فما الخير بالمأمول ما هبت الصبا ... ولا الشر بالمأمون ما برق الفجر وفي الرشيد ودفنه بطوس يقول دعبل، وكان بذيء اللِّسان:
قبرانِ في طوس خير الناس كلهم ... وقبر شرّهم هذا من العِبرِ
لا ينفع الرجس من قرب الزكي ولا ... على الزكي بقرب الرجس من ضرر يعني علي بن موسى الرضا والرشيد، وقبراهما متجاوران بظاهر مدينة نوقان، وهي طوس العظمى، في مشهد حسن في قرية يقال لها مِلياناد، وفيها حصن حصين منيع وفيه قوم معتكفون.
وبنوقان (1) معدن قدور البرام يحمل منها إلى سائر بلاد خُراسان، وفيها معادن النُحاس والحديد والفضة والفيروزج والدهنج وغيرها.
ومن أهل طوس الإمام أبو حامد محمد بن محمد الغزالي رحمة الله عليه.
طواويس (2) :
من مدن بخارى، وهي مدينة عامرة لها سوق في وقت من السنة معلوم ويقصده الناس والتجار من جميع أرض خُراسان، ويجلب إليه كثير من الأمتعة، وتحمل منه الثياب المتخذة من القطن إلى بلاد العراق لكثرتها، وبها صناعات، وبها فواكه مختلفة الأجناس وبساتينها كثيرة، ومرافقها موجودة، والمياه تخترق جهاتها، وهي حصينة، وفيها قصبة وسور يدور بها، ومسجدها الجامع في المدينة، ومنها إلى بخارى مرحلة.
الطوانة:
قال البكري (3) : طوانة بضم أوله وبالنون، اسم موضع قسطنطينية قبل أن يبنيها قسطنطين.
والطوانة (4) مدينة ببلاد الروم على فم الدرب مما يلي طرسوس، وكان معاوية رضي الله عنه أغزى سفيان بن عوف وأمره أن يبلغ الطوانة، فأصيب معه خلق من الناس، فعم الناس الحزن بمن أصيب بأرض الروم، وبلغ معاوية أن ابنه يزيد لما بلغه خبرهم وهو على شرابه مع ندمائه قال:
أهونْ علي بما لاقت جموعهم ... يوم الطوانة من حمى ومن موُم
إذا اتكأت على الأنماط مرتفقاً ... بدير مران عندي أم كلثوم فحلف عليه ليغزون وأردف به سفيان، فسميت هذه الغزاة غزاة الرادفة، وبلغ الناس فيها إلى القسطنطينية، وفيها مات أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفن هناك على باب القسطنطينية؛ وحكي أنه خرج في الصائفة فمرض فأتاه يزيد بن معاوية فقال له: هل لك من حاجة؟ فقال: ما ازددت عنك وعن أبيك بعد إلا غنىً، إن شئت أن تجعل قبري مما يلي العدو في غير ما يشق على أحد من المسلمين، فلما قبض أبو أيوب رضي الله عنه قبر مع سور القسطنطينية، فلما أصبحوا أشرف عليهم الروم فقالوا: يا معشر العرب، قد كان لكم الليلة شأن، فقالوا: مات رجل من أكابر أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم ووالله لئن نبش لا ضرب ناقوس في أرض العرب. فكان الروم يتعاهدون قبره ويرقبونه ويستسقون به إذا قحطوا.
طولقة (5) :
من بلاد الجريد بجوفيّ بنطيوس، وهي ثلاث مدن
__________
(1) نزهة المشتاق: 209.
(2) نزهة المشتاق: 214، وقارن بياقوت (طواويس) .
(3) معجم ما استعجم 3: 897، وانظر ياقوت (طوانة) وراجع مادة (دير مران) .
(4) قارن بأنساب الاشراف 4/ 2: 3.
(5) البكري: 72.(1/400)
كلها عليها أسوار وخنادق وحولها أنهار، وهي كثيرة البساتين بالزيتون والأعناب والنخيل والشجر وجميع الثمار ثم من بنطيوس إلى بسكرة.
الطيب (1) :
مدينة بالعراق على مرحلة من قرقوب بين واسط والسوس، وليست بكبيرة إنما هي حسنة الذات جامعة لأشتات البركات، وتصنع بها تكك تشبه التكك الأربسية لا يوجد مثلها بعد تكك أرمينية، ويصنع بها كثير من الصنائع لا يجارى صناعها فيها، ولهم (2) كيس في الأمور وحذق.
الطينة:
مدينة عند تنيس.
طيلاقة (3) :
بينها وبين اشبيلية ميلان.
طيبة (4) :
وطابة، اسمان لمدينة النبي صلى الله عليه وسلم وتسمى أيضاً: المجبورة والعذراء والمحبة والمحبوبة والقاصمة وجابرة، وسماها الله عزّ وجلّ المدينة، وكذلك كان يسميها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال: " إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها "، وقال صلى الله عليه وسلم: " إن المدينة تنفي خبثها وتنصع طيبها "، وقال: " اللهم حبّب إلينا المدينة كحبنا لمكة أو أشد " وقال صلى الله عليه وسلم: " على أنقاب المدينة ملائكة تحرسها من الطاعون "، وقال صلى الله عليه وسلم: " المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ". وفي " الموطأ " أنه صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم إني أدعوك للمدينة بما دعاك بمثله إبراهيم لمكة ومثله معه واحتجوا بهذا على فضل المدينة على مكة لدعائه صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة بمثلي ما دعا به إبراهيم عليه السلام لأهل مكّة، وهو أن يرزقهم الله الثمرات وأن يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم، يعني يجلبون إليهم الأقوات. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة أن يبارك لهم في طعامهم المكيل بالصاع والمد الذي به قوام الأبدان المفترض عليها الطاعات بمثلي ما دعا به إبراهيم عليه السلام لأهل مكة. وسمى الله تعالى المدينة دار الإيمان في قوله تعالى " والَذِينَ تَبَوءوا الدار والإيمان " يعني الأنصار وسكان المدينة.
وقال صلى الله عليه وسلم: " المدينة قبة الإسلام ودار الإيمان وأرض الهجرة ومبتدأ الحلال والحرام "، اختار الله تعالى المدينة لرسوله صلى الله عليه وسلم لمحياه ومماته، وجعلها دار الهجرة، وهي محفوفة بالشهداء، وعلى أنقابها ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال، وبها روضة من رياض الجنة، ولو علم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقعة أفضل منها ما دعا الله تعالى أن يموت بها. وقال مالك رحمه الله افتتِحَتِ القرى بالسيف، واَفتتحتِ المدينة بالقرآن، وكانت بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول قدومه المدينة ألا يخرج أحد عنها فمن خرج كان عاصياً. وفي جبل أْحُد يقول صلى الله عليه وسلم: " هذا جبل يحبنا ونحبه " يعني أهله، وهم الأنصار؟ وقال صلى الله عليه وسلم: " ما بين لابتيها حرام، يعني الحرتين، إحداهما التي ينزل بها الحاج إذا رجعوا من مكة وهي بغربي المدينة، والأخْرى مما يليها من شرقي المدينة، فما بين هاتين الحرَتين حرام أن يصاد فيها حيوان ومن فعل ذلك أثم، ولم يجعل في صيد حرم المدينة جزاء على ما صيد فيه لعظم شأنه، كما لم يجعل في اليمين الغموس كفارة على من حلف بها لعظم إثمها ومن صاد في حرم المدينة صيداً لم يحل له ملكه. وسأل الله تعالى أن يحبّب إليهم المدينة كحبهم مكة وأشد وأن يصححها من الوباء وأن ينقل حماها إلى الجحفة، وكان أهل الجحفة يومئذ كفَاراً وكان السبب في ذلك حنين بلال رضي الله عنه إلى مكة وقوله:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي اذخر وجليل
وهل أردن يوماً مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل والإذخر والجليل نباتان طيبان، وشامة وطفيل جبلان من جبال مكة. وسميت في القرآن يثرب حكاية لقول الكفار: يا أهل يثرب، وإنما سميت بيثرب بن فائد بن مهليل بن ارم بن عبيل نزل المدينة هو وولده ومن معه فسميت به، وبنو عبيل ممن درج فلم يتبق لهم باقية.
وفي سنة ثلاث وستين ومائتين بنى إسحاق بن محمد تجعدي سور المدينة المعروف عليها اليوم، ولها أربعة أبواب: باب في المشرق وراء دار عثمان بن عفان رضي الله عنه يخرج منه إلى ببيع الغرد، وهناك مدافن أكثر أهلها وهناك قبر إبراهيم ابن النبي
__________
(1) نزهة المشتاق: 124.
(2) ص ع: ولها.
(3) ع ص: طيلانة؛ وعند برفنسال: 135 طيلاقة، وعدها هي ((طالقة)) التي مر القول فيها.
(4) في صبح الأعشى 4: 289 نقل عن الروض (المدينة، يثرب) .(1/401)
صلى الله عليه وسلم وقبر الحسن بن علي رضي الله عنهما، وباب في المغرب يخرج منه إلى العقيق وإلى قبة وبين يدي هذا الباب جدول مياه جارية وداخل هذا الباب في حوزة السور موضع المصلى الذي كان صلى الله عليه وسلم يصلِّي فيه يوم العيد، وباب ما بين الشمال إلى المغرب، وباب آخر يخرج منه إلى قبور الشهداء بأحُد. وحِمى المدينة اثنا عشر ميلاً.
وكانت أمة من العماليق (1) تسمى راسم نزلوا الحجاز، فكان ملكهم بتيماء يقال له الأرقم بن أبي الأرقم، فسكنوا مكة والمدينة والحجاز كله، وعتوا عتواً كبيراً، فلما أظهر الله تعالى موسى على فرعون وأهلك جنوده وطئ الشام وأهله، وبعث بعثاً من بني إسرائيل إلى الحجاز وأمرهم ألا يستبقوا منهم أحداً بلغ الحلم، فقتلوهم حتى انتهوا إلى ملكهم الأرقم بتيماء، فقتلوه إلا ابناً له صغيراً ليرى موسى فيه رأيه، فلما قفلوا به وجدوا موسى عليه السلام قد مات، فقال الناس لهم: عصيتم وخالفتم أمر نبيكم وحالوا بينهم وبين الشام، فقال بعضهم لبعض: خير من بلدكم البلد الذي خرجتم منه وكان الحجاز إذ ذاك أشجر بلاد الله تعالى وأظهره ماء، فكان هذا أول سكنى اليهود الحجاز، فنزل جمهورهم بمكان يقال له يثرب مجتمع السيول وما حول ذلك، واتخذوا الآطام والمنازل، ونزل معهم جماعة من أحياء العرب من بلي وجرْهم، وكانت يثرب
أم قُرى المدينة، وهي ما بين طرفي قبة إلى طرف الجرف؛ ثم لما كان من سيل العزم ما كان تفرق أهل مأرب فأتى الآس والخزرج يثرب فرأوا العدد والعدة الآطام ليهود وسألوهم أن يعقدوا بينهم جواراً وحلفاً يأمن به بعضهم من بعض ويمتنعون به ممن سواهم، فتعاقدوا وتحالفوا واشتركوا وتعاملوا، فلم يزالوا على ذلك زماناً طويلاً، ثم أن الآس والخزرج صارت لهم ثروة ومال وعز جانبهم فخافتهم يهود فقطعوا الحلف، وكانت القوة والعدد فيهم، وخافتهم الآس والخزرج فبعثوا إلى من لهم بالشام، فأذلوا يهود، وكانت يثرب تدعى في الجاهلية غلبة، غلب اليهود عليها العماليق، وغلب الآس والخزرج عليها اليهود، وغلب المهاجرون عليها الآس والخزرج (2) ، وغلبت الأعاجم عليها المهاجرين.
والمدينة (3) في مستو من الأرض سبخة كان عليها سور قديم، وبخارجها خندق محفور، وهي الآن (4) عليها سور حصين منيع من التراب بناه قسيم الدولة الغزي ونقل إليها جملة من الناس، ورتب (5) المير إليها وحولها نخل كثير، وتمرها حسن ومنه يتقوتون في معايشهم، وليس لهم زرع ولا ضرع وشرب أهلها من نهر صغير يأتي إليها من جهة المشرق، جلبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عين كبيرة إلى شمال المدينة وأجراه بالخندق المحتفر بها.
__________
(1) راجع مادة ((تيماء)) .
(2) سقط من ع.
(3) نزهة المشتاق: 51 (OG: 143) .
(4) يعني في زمن الادريسي، وقد ادخل ناسخ نزهة المشتاق في المتن قوله: ((وفي تاريخ نسخ هذا الكتاب جدد السلطان ابن عثمان السور المذكور فصار أحصن مما قبله وأوفق بناءً)) .
(5) ص ع: ورتبوا.(1/402)
حرف الظاء
ظفار (1) :
مدينة باليمن وهو اسم مبني على الكسر، قاله أبو عبيدة، وقيل سبيلها سبيل المؤنث لا ينصرف والحجة لهذا القول قول الفند الزماني:
إنما قحطان فينا حَطَب ... ونزار في بني قحطان نارُ
فارجعوا منا فُلولاً واهربوا ... عائذين ليس تنجيكم ظفار وهي قصبة (2) اليمن وقاعدة ملوك حِمْيَر في الزمن الأقدم، وبها كان نزولهم، ملكها من حِمْيَر سبعة وثلاثون ملكاً مدتهم ثلاثة آلاف سنة ومائة وسبعون سنة، وقيل أقل من ذلك، وآخر ملوكهم معدي كرب كان ملكه إلى أن قتلته حرابته من الحبشة أربع سنين فلما قتل بعث انوشروان وهرز في أربعة آلاف من الفُرس لإصلاح اليمن، وأمره أن لا يبقي على أحد من بقايا الحبشة، فلم يترك بها أحداً من السودان، وبقي وهرز بصنعاء إلى أن ملك ثم تداولت اليمن عمال الأكاسرة إلى أن أتى الله تعالى بالإسلام. وقد ذكر الناس من مضي سيف بن ذي يزن إلى قيصر ملك الروم ليستنصر به على الحبشة حين غلبوا على اليمن وعاثوا فيها، وإبايته من ذلك، ومسيره بعد ذلك إلى النعمان بن المنذر ووعده له أن يدخله على كسرى عند وفادته عليهم ثم اجتماعه به وشكايته له أمر الحبشة واشتغاله عنه بحرب الروم إلى أن هلك سيف، وإتيان ولده معدي كرب بن سيف يستنجز عدته لأبيه وتجهيز كسرى الجيوش معه إلى اليمن وقتالهم لمسروق بن أبرهة وقتلهم له، وملكهم لليمن ما هو مشهور يغني عن الإطالة به. على أن جمهور الناس على أن سيف بن ذي يزن هو الذي أباد الحبشة وملك اليمن لا ابنه معدي كرب، إنما انفرد بهذا القول الشاذ المسعودي.
قالوا (3) : وعلى باب ظفار مكتوب بالقلم الأول في حجر أسود:
يوم شيدت ظفار قيل لمن أن ... تِ فقالتْ لحِمير الأخيارِ
ثم سيلت ما بعد ذاك فقالت ... إن ملكي للأحبش الأشرار
ثم سيلت ما بعد ذاك فقالت ... إن ملكي لفارس الأحرار
ثم سيلت ما بعد ذاك فقالت ... إن ملكي إلى قريش التجار
ثم سيلت ما بعد ذاك فقالت ... إن ملكي لحمير سحار
وقليلاً ما يلبث القوم فيها ... عند تشييدها لحافي البوار
__________
(1) معجم ما استعجم 3: 904.
(2) قارن بالبكري (مخ) : 67، 63 وما بعدها وفي رحلة ابن بطوطة: 259 - 262 معلومات تفصيلية عن ظفار.
(3) مروج الذهب 3: 178.(1/403)
من أسود يلقيهم البحر فيها ... تشعل النار في أعالي الجدار وقد تقدَّم هذا في حرف الدال.
وهي الآن (1) خراب، قد تهدم بناؤها وقلَّ ساكنها، وإنما بها الآن بقايا من أهلها.
ومن كلام (2) بعض ملوكهم: مَن دخل ظفار حمَر، وسبب ذلك أن ذا جدن الحِمْيَري خرج يطوف في أحياء العرب، فنزل في بني تميم، فضُرِب له فسطاط، فجاءه زرارة بن عدس مصعداً إليه وكان على قارة مرتفعة، فقال له الملك: ثب، أي اقعد بلغته، فقال زرارة: ليعلمن الملك أني سامع مطيع، فوثب إلى الأرض فتقطع أعضاء، فقال الملك: ما شأنه؟ فقيل له: أبيت اللعن، إن الوثب بلغته القفز، فقال: ليس عربيتنا كعربيتكم، من دخل ظفار فليحمّر، أي فليتكلم بلغة حِمْيَر.
__________
(1) هذا قول الإدريسي في نزهة المشتاق: 54 (OG: 152) وتتمة كلامه: ((ولهم فضول أموال وبضائع ولهم مزارع قليلة ونخل فيه كفاية لأهله)) .
(2) معجم ما استعجم 3: 904 - 905.(1/404)
حرف العين
عاص (1) :
منقوص مثل قاضٍ واد بين مكة والمدينة، قال عبد بن حبيب:
قتلناهم بقتلى أهل عاص ... وقتلى منهم مردٍ وشيبِ والعاصي (2) : أيضاً اسم نهر انطاكية وقيل نهر حماة بالشام من عمل حمص، وهو نهر عظيم عليه جسور يُعْبر عليها وعلى هذا النهر نواعير كثيرة تخرج الماء إلى ما على جانبيه من المدينة، وهو الذي يقول فيه صلاح الدين بن أيوب:
ولما جرى العاصي وطيع أدمعي ... مع الماء قال الناس أيهما النهر فقيل له:
ولمَا جرى جود ابن أيوب مقبلاً ... مع البحر قال الناس أيهما البحر
عاقول:
دير عاقول، مدينة النهروان الأوسط، وبها قوم دهاقين أشراف وبينها وبين المدائن مرحلة.
عاقل (3) :
ماء لبني أبان بن دارم، وقيل جبل كان يسكنه حجر أبو امرئ القيس، وفيه يقول (4) :
يا دار ماوية بالحائل ... فالسهب فالخبتين من عاقل
عاسورا (5) :
جزيرة في البحر الصيني قليلة العامر، وأرضها أرض حرشاء كثيرة العقارب والأفاعي، وجبالها متصلة.
عانات (6) :
كانت هي وهيت من طساسيج الأنبار، وكانت الخمر الطيبة تنسب إليها، فلما حفر أنوشروان الخندق من هيت حتى يأتي كاظمة مما يلي البصرة وينفذ إلى البحر وجعل عليه المناظر لعيث العرب في أطراف السواد وما يليه، فخربت عانات وهيت لذلك السبب.
قال اليعقوبي: في وسط الفرات مدينة يقال لها ألوسة ومدينة يقال لها الناووسة ومدينة يقال لها الحديثة ومدينة يقال لها عانات، فهذه المدائن في وسط الفرات.
وعانات (7) منها صغيرة فيها سوق وأعمال وبينها وبين الدالية أحد وعشرون ميلاً.
وفي سنة خمسين وأربعمائة (8) ثار على خليفة بغداد القائم بأمر الله أبو الحارث أرسلان التركي البساسيري القائم بدعوة
__________
(1) معجم ما استعجم 3: 912.
(2) قارن بياقوت (العاصي) ، وابن الوردي: 82، ص ع: والعاص.
(3) معجم ما استعجم 3: 913.
(4) ديوان امرئ القيس: 119.
(5) نزهة المشتاق: 30 (OG: 85 عاشورا) .
(6) معجم ما استعجم 3: 914.
(7) نزهة المشتاق: 198.
(8) قارن بابن الأثير (حوادث 450) ، والمنتظم 8: وما بعدها؛ وانظر ترجمة البساسيري في ابن خلكان 1: 192.(1/405)
صاحب مصر معد المستنصر بن الظاهر العبيدي، حتى ظفر بالخليفة القائم بأمر الله، والبساسيري هذا مملوك تركي سما بنفسه إلى أن صار مشاراً إليه بين قواد الدولة العباسية، ووقع بينه وبين الوزير رئيس الرؤساء ما أوجب خروجه عن الطاعة وانتماءه إلى المستنصر صاحب مصر، فخطب له في بلاد الرحبة من بلاد الفرات، ثم خطب له بالموصل، فأخرجه منها أبو طالب محمد بن ميكائيل المعروف بطغرلبك، ثم عاد إليها في هذه السنة مع قريش بن بدران أمير عقيل، فاستولوا عليها وأقاموا فيها الدعوة العبيدية، وتجهز طغرلبك السلجوقي إلى قتالهم، فجاءه خبر بأن أخاه إبراهيم خرج عليه وادعى السلطنة في همذان. وكان ذلك بدسيسة البساسيري وقريش، فإنهما أطمعاه في الاستبداد وضمنا له المعاضدة، فعدل طغرلبك عن البساسيري إلى أخيه واشتغل بحربه، فسار البساسيري وقريش إلى بغداد وخطب للمستنصر خليفة مصر العبيدي بجامع المنصور، وعقد الجسر ووقعت الحرب عليه، فغلب أصحاب البساسيري واستولوا على مدينة الرصافة، وخطبوا بجامعها للمستنصر، واتصلت الحرب في مدينة نهر معلى التي بها قصور الخلافة، وباتوا في دار الخلافة محاصرين، فركب القائم العباسي بنفسه لابساً السواد، وعلى كتفيه البردة النبوية، وبيده سيف مسلول، وعلى رأسه اللواء العباسي، والخدم بالسيوف المسلولة، فصاح البساسيري بأصحابه: لا تشغلنكم الهيبة والخديعة عن إدراك الغرض، احملوا وصيحوا بشعار ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحملوا وصاحوا بشعار المستنصر، فلما رأى القائم العباسي الخليفة الحقيقة جلس في منظرة مطلة مشاهداً للحروب، ومعه رئيس الرؤساء وزيره، ثم أْمر بتسكين الحرب، وطلب الصلح، والنهب يعمل عمله وصاح القائم من المنظرة: هل لك يا قريش في شرف الدهر وعز الأعقاب، أنزلُ على أمانك، فدمعت عيناه وقال: والله لا يصل إليك أحد وسيفي في يدي أبداً، ثم نزل فحمله معه والوزير رئيس الرؤساء وزيره يتضرع في الأمان وهو مع الخليفة، فوصل به إلى خيمته وأنزله مكرماً بها وأسلم الوزير رئيس الرؤساء للبساسيري وأجار القائم وسلمه لابن عمه مهارش العقيلي صاحب الحديثة وعانة، فحمله معه وأسكنه في جزيرة عانة بالفرات، فوجد على الدار التي كان محبوساً فيها:
أما ترى الدهر وتدبيره ... حكى لعمري فيه مجانه
يقطر ماء الظرف من هزله ... إذ أنزل القائم في عانه فنقل ذلك إلى القائم فتبسم وقال: لعمري لقد أبدع في تدبيره، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولم يدر قائل البيتين، ولما بلغ المستنصر خليفة مصر هذان البيتان أدركته شفقة فقال لوالدته: لقد هممت أن أرد ابن عمي إلى بغداد يكون نائباً وتبعاً ويكون ولده نواباً لولدنا، ويكون لنا في هذا أجر وفخر، فقالت له: بأي عقل تعتقه؟ هذا والله لو رددته يوماً واحداً ما نسي قديمه ولعاد الأمر كما كان وصار إليه من كان عليه، فإياك أن تخطر هذا بخاطرك. وأما الوزير رئيس الرؤساء أبو القاسم علي بن الحسن بن المسلمة فلما حصل في يد البساسيري بسط عليه العذاب واستخرج منه أموالاً كثيرة، فلما كان في يوم عيد النحر من هذه السنة ركب البساسيري وعبر إلى المصلى من الجانب الشرقي وعلى رأسه الألوية المستنصرية، فصلى وأنشده الشعراء، وكان فيهم أبو دلف الخزرجي الينبوعي المتشيع، فوقف تحت البنود البيض وأنشد:
دارَ السلام هنيئاً ... بدعوة ابن الرسول
جاء النهار وولى ... ظلام تلك الذحول
ما إن رأيت حصاناً ... حماله في النصول
نور من الله سامٍ ... هادٍ لكل خذول فأمر له بإحسان جزيل. ولمَا فرغ البساسيري من أيام العيد أخرج الوزير رئيس الرؤساء وعليه جبة صوف وطرطور من لبد أحمر وفي رقبته مخنقة من جلود، فشُهر على تلك الحال، ثم نُصِبتْ له خشبة وألبس جلد ثور، وجعل في فكيه كلابان وصُلب بهما، فبقي يضرب إلى آخر النهار حتى مات وكان قد بقي في الوزارة اثنتي عشرة سنة ثم إن طغرلبك قَدِم لنصرة القائم، فهرب البساسيري أمامه، ونهب البساسيري مدينة واسط وعاث في كل ما مر به من بلاد العراق، وسار مهارش العقيلي من جزيرة الحديثة بالخليفة القائم العباسي، فسر السلطان طغرلبك بقدومه، وكان قد وصل إلى بغداد وسكن أهلها وأمنهم، وخرج للقاء القائم، ونزل عن فرسه، وقبل الأرض بين يديه، واعتذر من تأخره باشتغاله بحرب أخيه إبراهيم حتى فرغ منه، فقلَّده القائم سيفاً بيده، ووصل القائم دار الخلافة وطغرلبك ممسك بلجام بغلته في سنة إحدى وخمسين وأربعمائة وصار طغرلبك خلف البساسيري(1/406)
فهزمه، وسقط عن فرسه فقتله تركي وحمل رأسه إلى بغداد على قناة، واتفق أن كان إخراج البساسيري للقائم يوم الثلاثاء ثامن عشر من كانون الثاني، وكان قتله في مثل هذا اليوم من السنة الثانية بعدها.
والبساسيري هذا هو أبو الحارث أرسلان مملوك تركي لتاجر يقال له ابن بساسير فنسب له، وقيل كان مولاه ينسب إلى بسا من أرض فارس.
وللخليفة القائم دعاء معروف يستغيث به ربَه مما حلَّ به من البساسيري استجيب له فيه، وهو (1) : إلى الله العظيم من عبده المسكين، اللهم إنك العالم بالسرائر، والمحيط بمكنونات الضمائر، اللهم إنك غني بعلمك واطلاعك على أمور خلقك عن إعلامي بما أنا فيه: عبد من عبيدك قد كفر نعمتك وما شكرها وألغى العواقب وما ذكرها، أطغاه حلمك وتجبر بأناتك حتى تعدى علينا بغياً وأساء إلينا عتوّاً وعدواناً، اللهم قَلَّ الناصرون لنا واغترّ الظالم، وأنت المُطلِع العالِم، والمُنْصِف الحاكم، بك نعتز عليه وإليك نهرب من يديه، فقد تعزز علينا بالمخلوقين، ونحن نعتز بك يا رب العالمين اللهم إنا حاكمناه إليك وتوكلنا في إنصافنا منه عليك وقد رفعت ظلامتي إلى حرمك، ووثقت في كشفها بكرمك، فاحكم بيني وبينه وأنت خير الحاكمين وأرنا ما نرتجيه فقد أخذته العزة بالإثم، اللهم فاسلبه عزه ومكِّنا بقدرتك من ناصيته يا أرحم الراحمين.
قالوا: ولما أخذ البساسيري الإمام القائم بأمر الله هذا وسجنه في الحديثة عمل هذا الدعاء وكتبه وسلمه إلى بدوي وأمره أن يعلقه على الكعبة، فحمله البدوي وعلّقه على الكعبة، فحسب ذلك اليوم فوجد أن البساسيري قتل وجيء برأسه بعد سبعة أيام من التاريخ.
عارم (2) :
حبس بمكة وهو مظلم، كان عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما حبس فيه الحسن بن محمد بن الحنفية (3) وأراد قتله فأعمل الحيلة حتى تخلص من هذا السجن واعتسف الطريق على الجبال حتى أتى منِى، وبها أبوه محمد بن الحنفية، ففي ذلك يقول كثيّر (4) :
تخبر من لاقيت أنك عائذ ... بل العائذ المظلوم في سجن عارم
ومن يرَ هذا الشيخ بالخيف من مِنى ... من الناس يعلم أنه غير ظالم
سمي رسول الله وابن وصيه ... وفكاك أغلال وقاضي مغارم
عبود (5) :
جبل من جبال مزينة، وهو الذي عناه الشاعر في قصيدة له يرثي بها، أولها:
كل حي لاقي الحِمام فَمُودِ ... ما لحي مؤمل من خلودِ يقول فيها:
يقدح الدهر في شماريخ رضوى ... ويحط الصخور من عبود
عبادان (6) :
بالعراق بقرب البصرة بينهما اثنا عشر فرسخاً، سمي بعباد بن الحصين بن مرثد بن عمرو وإليه تنسب الحُصُر العبادانية وحصن عبادان صغير عامر على شط البحر وإليه تصل جميع مياه دجلة، وهو محرس البحر، وعبادان في الضفة الغربية من الدجلة، وتتسع دجلة هناك على وجه الأرض كثيراً، ومن عبادان إلى الخشبات ستة أميال.
عبقر (7) :
موضع بالبادية كثير الجن، قاله الخليل، يقال في
__________
(1) أورد ابن الجوزي هذا الدعاء في المنتظم 8: 195 نقلاً عن محمود بن الفضل الأصبهاني.
(2) قارن بمعجم ما استعجم 3: 911.
(3) المشهور أنه حبس فيه محمداً نفسه.
(4) ديوانه: 224.
(5) قال ياقوت: عبود جبل بين المدينة والسيالة وقيل هو البريد الثاني من مكة في طريق بدر، وقيل جبل بالشام؛ والظاهر أن الشاعر - وهو محمد بن مناذر صاحب القصيدة المشار إليها التي يرثي فيها صديقه عبد المجيد الثقفي كان قال أولاً ((ويحط الصخور من هبود)) (الأغاني 18: 114 - 115) ، فلما قيل له ان هبوداً ليس سوى بئر غيره غلى عبود زاعماً أنه جبل بالشام.
(6) نزهة المشتاق: 121، وقارن بياقوت (عبادان) .
(7) معجم ما استعجم 3: 917.(1/407)
المثل: كأنهم جن عبقر وقال الشاعر (1) :
بخيلٍ عليها جنة عبقرية ... جديرون يوماً أن ينالوا فيستعلوا وقال غيره: عبقر بلد من بلاد اليمن، قال امرؤ القيس (2) :
كان صليل المرو حين تُشِذّه ... صليلُ زيوف ينتقدن بعبقرا وقيل: بل عبقر موضع توشى فيه الثياب. وهي أجود الثياب، وكلّما بالغوا في نعت شيء نسبوه إليه، وقال المفسِّرون: إن العبقري غاية كلّ شيء، قال تعالى " وعَبْقَرِيّ حِسَان " وأوضح معنى هذا المعري في قوله (3) :
وقد كان أرباب الفصاحة كلما ... رأوا حسناً عدوه من صنعة الجنَ
العتيقة:
من مدن المدائن بالعراق وفيها القصر الأبيض الذي لا يدرى من بناه.
العتيق (4) :
نهر يخرج من الفرات عليه كانت وقيعة للمسلمين مع رستم وهى وقعة القادسية، وهى مذكورة في حرف القاف.
العتابية (5) :
محلة من محلات دجلة، بها تصنع الثياب العتابية، وهي حرير وقطن مختلفات الألوان.
عتر (6) :
مدينة واسعة هي فرضة عُمان، وبناؤها بالخشب والحشيش، إلا حمّاماتها فإنها جيدة البناء وبها مسجد جامع على الساحل، وأكثر طعامهم الذرة ومبلغ منافع صاحبها سبعون ألف دينار.
عدولى (7) :
قرية بالبحرين تنسب إليها السفن، قال النابغة (8) :
عدولية اومن سفين ابن يامن ... يروح بها الملاح طوراً ويغتدي وقال ابن إسحاق في شرحبيل بن حسنة:: أمّه حسنة امرأة عدولية.
عدن (9) :
مدينة باليمن بينها وبين أبين اثنا عشر ميلاً، وهي (10) مدينة صغيرة، وإنما اشتهر اسمها لأنها مرسى البحرين، ومنها تسافر مراكب السند والهند والصين، وإليها يجلب متاع الصين مثل الحديد الفرند والكيمخت والمسك والعود والفلفل والدارفلفل والنارجيل والقاقلة والدار الصيني والخولنجان والبسباسة والهليلجات والأبنوس والذبل والكافور والجوزة والقرنفل والكبابة وأنياب الفيلة والرصاص القلعي والقنا والخيزران وأكثر السلع، ويحيط بعدن من جهة شمالها على بعد منها جبل دائر إلى البحر قد نقب فيه من طرفيه نقبان كالبابين يدخل منهما ويخرج عليهما، وبين الباب والباب على ظهر الجبل مسيرة أربعة أيام. وليس لأهل عدن دخول ولا خروج إلا على هذين النقبين أو على البحر وهي بلد تجارة.
وعدن هي ساحل صنعاء، وبها مرفأ مراكب الصين، وسميت بعدن بن سبأ وكان أول من نزل بها، وفي سجوع سطيح الكاهن في تفسير رؤيا ربيعة بن نصر ثم يليه ارم ذي يزن، يخرج عليهم من عدن فلا يترك أحداً منهم باليمن. وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: كنا نتذاكر الساعة، إذ أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ما تتذاكرون "؟ قلنا: نتذاكر الساعة قال صلى الله عليه وسلم: " إنها لا تكون حتى يكون قبلها عشر آيات: الدجَال ودابة الأرض وخسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب والدخان وطلوع الشمس من مغربها ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى ونار تخرج من عدن ".
__________
(1) هو زهير بن أبي سلمى، دبوانه: 103
(2) ديوان امرئ القيس: 64.
(3) شروح السقط: 917.
(4) في الطبري 1: 2229 ان القادسية بين الخندق والعتيق.
(5) رحلة ابن جبير: 226.
(6) أقرب الصور إليها ((عفر)) عند الإدريسي، ولم أجد لها هذا الوصف.
(7) معجم ما استعجم 3: 926.
(8) البيت لطرفة من معلقته وليس للنابغة.
(9) صبح الأعشى 5: 10.
(10) نزهة النمشتاق: 20 (OG: 54) ، وابن الوردي: 44.(1/408)
العذيب (1) :
بظاهر الكوفة، والعذيب أيضاً لبني تميم وكذلك بارق، وهما اللذان ذكرهما المتنبي في قوله:
تذكرت ما بين العذيب وبارق ... مجرَّ عوالينا ومجرى السوابق وفي الخبر أن عسكر المسلمين لما توجّهوا إلى عدوِّهم نزلوا العذيب.
العذراء (2) :
اسم لدمشق وقد مرَ ذكرها ومرج عذراء بالشام أيضاً بينه وبين دمشق اثنا عشر ميلاً.
ولما انتهى الواصلون من قبل زياد بن أبيه بحجر بن عدي وأصحابه إلى مرج عذراء توجه الواصلون بكتب زياد إلى معاوية، فإذا فيها ما يقتضي توريطهم والشهادة عليهم بمخالفة الطاعة، فتردد فيهم معاوية وشاور فيهم، فكتب إليه زياد: أما بعد فقد عجبت من اشتباه الأمر عليك فيهم فإن كانت لك حاجة بهذا المصر فلا تردنّ حجراً وأصحابه إليّ، فخلى معاوية منهم ستة وقتل ثمانية منهم حجر بن عدي، والقصة مشهورة وقد مرَت في حرف الجيم.
عرعر (3) :
واد بأرض غطفان من طريق خيبر، وعرعر أيضاً قبل قو، وهو الذي ذكره امرؤ القيس في قوله (4) :
وحلت سليمى بطنَ قوَ فعرعرا ...
العرج (5) :
قرية جامعة على طريق مكّة، بينها وبين المدينة تسعة وتسعون فرسخاً، وهو في الطريق الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر إلى المدينة وسمي العرج بتعريج السيول به، وإليها ينسب العرجي الشاعر، ووادي العرج فيه عين من يسار الطريق في شعب بين جبلين وعلى ثلاثة أميال منه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يدعى مسجد العرج، ومن العرج إلى السقيا سبعة عشر ميلاً. ورووا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل العرج فقال: " إن الجن اجتمعوا فأسكن المسلمين منهم بطن العرج ". ومن حديث محمد بن المنكدر أن عبد الله بن الزبير بينا هو يسير إلى الإثاية من العرج في جوف الليل إذ خرج إليه رجل من قبر في عنقه سلسلة، وهو يشتعل ناراً ويقول: أيا عبد الله أفرغ علي من الماء، ووراءه رجل آخر يقول: يا عبد الله لا تفعل فإنه كافر، حتى أخذ بسلسلته فأدخله قبره.
العروض (6) :
بفتح أوله، اسم لمكة والمدينة معروف، يقول: استعمل فلان على العراق وفلان على العروض. وقالوا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء فأمرهم أن يؤذنوا أهل العروض أن يتموا بقية يومهم.
والعروض أيضاً موضع بالبادية.
عرنة (7) :
بضم أوله وفتح ثانيه، وادي عرفة، والفقهاء يضمون الراء وهو خطأ.
عرفة:
موضع الحج قال صلى الله عليه وسلم: " الحج عرفة ". وقال كعب: أهبط الله تعالى أبانا آدم على جبل بالهند يدعى واسم وأهبط أْمّنا حواء بعرفة، وعدوّنا إبليس بجدة والحية بأصبهان فلما تاب الله تعالى على آدم وأمره بالحج إلى بيته الحرام فحج فكان حيث وضع قدميه تتفجر الأنهار وبنى المدائن والقرى حتى وصل إلى مكة، فلما حج آدم ومضى إلى عرفة لقي بها حواء، فتعارفا بها فسميت عرفة. وذكر الحافظ أن جبريل عليه السلام لما علم آدم عليه السلام المناسك قال له: أعرفت؟ قال: نعم.
عِرقة (8) :
بكسر أوله على لفظ تأنيث الواحد من عروق الإنسان والحيوان موضع من ثغور مرعش من بلاد الروم.
قال أحمد بن سليمان الزنبقي (9) كان بعرقة رجل كلما لقيني سبَّ معاوية رضي الله عنه، قال: فجاءني الرجل يوماً وأنا قاعد تحت المنبر وهو يقول: رحم الله معاوية، ولعن من يبغض معاوية،
__________
(1) معجم ما استعجم 3: 927.
(2) معجم ما استعجم 3: 926.
(3) بعضه في معجم ما استعجم 3: 932.
(4) صدر البيت: سما لك شوقي بعد ما كان أقصرا.
(5) أكثره عن معجم ما استعجم 3: 931.
(6) معجم ما استعجم 3: 937.
(7) معجم ما استعجم 3: 935، وانظر مادة ((محسر)) أيضاً.
(8) معجم ما استعجم 3: 934، وقارن بياقوت: (عرفة) ؛ قال: عرفة بلد من العواصم بين رفنية وطرابلس؛ وعنده عرفة - بفتح العين - وهي من نواحي الروم.
(9) انظر تبصير المتنبه: 666.(1/409)
فقلت في نفسي: قد جاء يؤذيني فقعد إلي فأراني حلقه فإذا هو أحمر، فقال لي: يا أبا بكر؟ ما زال معاوية يخنقني في النوم ويقول لي: لم تسبني؟ بيني وبينك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقول: ما أعود ما أعود فقال لي: عليك الله أنك لا تعود فقلت: نعم، لا أعود قال أبو بكر: وتاب الرجل ورجع عما كان عليه من سب معاوية رحمه الله. وقال أبو توبة: معاوية ستر بيننا وبين أصحاب النبي، فمن كف عنه فهو عن غيره أكفّ، ومن وقع فيه لم يؤمن أن يرتفع إلى من هو فوقه.
العروسان (1) :
قصر بقابس من إفريقية مشهور، بناه بنو رشيد ابن جامع (2) من العرب الذين وجههم العبيديون إلى إفريقية للإفساد على المعز بن باديس وكان لهم ذكر في صنهاجة، وهم من بني قرة بن هلال بن عامر.
العراق (3) :
قال الخليل: هو لغةً شاطئ البحر، وسمي العراق بذلك لأنه على شاطئ دجلة والفرات والعراق ما بين هيت إلى السند والصين، إلى الري وخراسان، إلى الديلم، وقيل سمي العراق لأنه مأخوذ من عراقي الدلو.
والكوفة والبصرة تسمى العراقان، فحد أرض العراق ما بين الخزر إلى السواد فسواد الكوفة كسكر إلى الزاب إلى عمل حلوان إلى القادسية وسواد البصرة الأهواز وفارس ودهستان، وهذه كلها من العراق، والعراق وسط الدنيا ومستقر الممالك الجاهلية والإسلامية، وعين الدنيا، وفيه الدجلة والفرات، وهما الرافدان وفيه القواعد العظيمة والأعمال الشريفة.
العريش (4) :
من ديار مصر في أسفل الأرض، وهي أول مسالح مصر وأعمالها، وهي من سواحل البحر ومن العريش تفترق الطريق فتصير طريقين: طريق الجفار وهو الرمل، وطريق الساحل على البحر فأما طريق الجفار فمن العريش إلى الواردة إلى العذيبة إلى البقارة إلى الفرما، وأما طريق الساحل فمن العريش إلى الدقهلة إلى القيس إلى الفرما، وكانت مدينة العريش ذات جامعين مفترقي المباني، والغالب على أرضها الرمال، ولها ثمار ونخل وفواكه. وروى ابن عطية في تفسيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (5) : " إن الله تعالى بارك فيما بين العريش إلى الفرات، وحصَّن فلسطين بالتقديس ".
عربة (6) :
مدينة كبيرة في فرضة الهند تتاخم مدينة كابل، وهي كبيرة حصينة عليها سور تراب وخندق وهي كثيرة الأعمال آهلة بها أسواق قائمة وجبايات.
عكَّا:
مدينة كبيرة، من ثغور الشام واسعة بينها وبين طبرية يومان.
وهي قاعدة (7) مدن الافرنج بالشام ومحطَ الجواري المنشآت في البحر كالأعلام، مرفأ كل سفينة، والمشبهة في عظمها واحتفالها بالقسطنطينية، مجمع السفن والرفاق وملتقى تجار المسلمين والنصارى من جميع الآفاق، سككها وشوارعها تغص بالزحام، وهي دفرة قذرة، مملوءة كلها رجساً وعذرة، أخذها الفرنج من أيدي المسلمين في العشر الأول من المائة السادسة فعادت مساجدها كنائس، وصوامعها مضارب للنواقس، وطهر الله من مسجدها الجامع بقعة بقيت بأيدي المسلمين مسجداً صغيراً يجتمع الغرباء فيه لإقامة فريضتهم، وعند محرابه قبر النبي صالح عليه السلام، وفي شرقي البلد العين المعروفة بعين البقر وهي التي أخرج الله منها البقر لآدم عليه السلام والمهبط إلى هذه العين على أدراج وطية وعليها مسجد بقي محرابه على حاله، ووضع الافرنج في شرقيه (8) ، محراباً لهم، فالمسلم والكافر يجتمعان فيه، فيستقبل هذا مصلاه، وهذا مُصَلاه، وهو بأيدي النصارى معظم محفوظ.
وهي كثيرة (9) الضياع ولها مرسى حسن مأمون وبها أخلاط من ناس شتى.
__________
(1) رحلة اتجاني: 95.
(2) ص ع: راشد بن جامع.
(3) بعضه عن معجم ما استعجم 3: 929، وانظر تحديد السواد ابن حرداذبه: 5 وما بعدها.
(4) صبح الأعشى 3: 382، وقارن بياقوت (عريش) .
(5) انظر معجم ما استعجم 3: 938.
(6) نزهة المشتاق: 141 (عدية/ عربة/ عرية ... ) وكلها مصحفة عن (غزنة) ، والمؤلف ينقل صورة رآها في بعض النسخ الخطية من نزهة المشتاق.
(7) رحلة ابن جبير: 303.
(8) سقط من ع.
(9) نزهة المشتاق: 115.(1/410)
وكانت قطراً معتبراً عند الإسلاميين وأهل الصليب متجاذباً أبداً مرغوباً فيه، وفي آخر الأمر استولى المسلمون عليه فهدموه ومحوا أثره على أيدي أحد الملوك المتأخرين من المصريين.
عكاظ (1) :
صحراء مستوية لا علم فيها ولا جبل إلا ما كان فيها من الأنصاب التي كانت بها في الجاهلية، وهي بأعلى نجد وقريب من عرفات، وقيل هي وراء قرن المنازل بمرحلة في طريق صنعاء، وهي من عمل الطائف وقيل هي على ثلاث مراحل من تبالة.
وسوق عُكاظ قرية كالمدينة جامعة لها مزارعَ ونخيل ومياه كثيرة، ولها سوق في يوم الجمعة يقصده الناس في ذلك اليوم بأنواع التجارات، فإذا أمسى المساء انصرف كل أحد إلى موضعه.
وكانت عُكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً لمكة في الجاهلية، وكانت عكاظ من أعظم أسواق العرب تنزلها قريش وهوازن وغطفان وأسلم والأحابيش وعقيل والمصطلق وطوائف العرب، وكانت تقوم في النصف من ذي القعدة إلى آخر الشهر، فإذا أهل هلال ذي الحجة أتوا ذا المجاز، وهو قريب من عكاظ، فيقوم سوقها إلى يوم التروية فيسيرون إلى مِنىً.
قال أبو عبيدة: أجمع العُكاظيون على أن فرسان العرب ثلاثة: فارس تميم عْيَيْنة بن الحارث بن شهاب أحد بني ثعلبة بن يربوع بن حنظلة صياد الفوارس وسُمَ الفرسان، وفارس بني قيس عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب وفارس ربيعة بسطام بن قيس بن مسعود بن قيس أحد بني شيبان بن ثعلبة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قَدِم وفد إياد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما فعل قس بن ساعدة "، قالوا: مات يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم: " كأني أنظر إليه بسوق عُكاظ يخطب الناس على جمل له أحمر وهو يقول: أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا، منَ عاش مات، ومَن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت، أما بعدُ فإنَّ في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، بُحُور تَمُور، ونجومْ تَغور، وسقف مرفوع وعِماد موضوع، أقسم بالله قس قسماً إن للهِ دِيناً أرضى من دِينٍ أنتم عليه، ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون أَرضوا فأقامُوا، أَمْ تركوا فناموا، وسبيل مؤتلف وعمل مختلف، وقال أشياء لا أحفظها "، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه له: أنا أحفظها يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: " هاتها "، فقال:
في الذاهبين الأولي ... ن من القرون لنا بصائرْ
لما رأيت موارداً ... للقوم ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها ... تمشي الأوائل والأواخر
لا يرجع الماضي ولا ... يبقى من الباقين غابر
أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رحم الله قَسَاً، إني لأرجو أن يبعثه الله تعالى أمة وحدة ".
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما بعثه الله تعالى يعرض نفسه في المواسم على القبائل يدعوهم إلى الله تعالى وإلى ما جاء به، فحدَث الواقديَ عن عامر بن سلمة الحنفي وكان قد أسلم في آخر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ثلاثة أعوام بعكاظ ومجنة وذي المجاز يدعونا إلى الله عز وجل، وأن نمنع له ظهره حتى يبلغ رسالات ربه ويشترط لنا قال: فما استجبنا له ولا رددنا جميلاً، لقد خشنَا عليه وحلم عنا قال عامر: فرجعت إلى حجر في أول عام، فقال لي هوذة بن علي: هل كان في موسمكم هذا خبر؟ فقلت: رجُل من قُريش يطوف على القبائل يدعوهم إلى الله وحده، وأن يمنعوا ظهره حتى يبلغ رسالات ربه، ولهم الجنة، فقال: من أي قُريشٍ هو قلت: من أوسطهم نسباً في بني عبد المطلب، قال: هوذة: أهو محمّد بن عبد المطلب؟ قلت: هو هو، قال: أما إنه سيظهر على ما هاهنا، فقلت: هاهنا فقط من بين البلدان، فقال: وغير ما هاهنا ثم وافيت في السنة الثانية فقدِمْتُ حجراً، فقال: ما فعل الرجل؟ فقلت: رأيته على حاله في العام الماضي، قال: ثم وافيت في السنة الثالثة، وهي آخر ما رأيته وإذا بأمره قد أَمِر، وإذا ذكره كثر في الناس، وأسمع أن الخزرج تبعته، فقدِمت حجراً فقال لي هوذة: ما فعل الرجل؟ فقلت: رأيت أمره قد أمر، ورأيت قومه عليه أشداء، فقال لي هوذة: هو الذي قلتُ لك، ولو أنا تبعناه كان خيراً لنا
__________
(1) معجم ما استعجم 3: 959.(1/411)
ولكنا نضن بملكنا وكان قومه توجوه وملَكوه، قال عامر: فمرَ بي سليط بن عمرو العامري حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هوذة، فضيفته وأكرمته، فأخبرني من خبر هوذة وأنه لم يسلم وأنه رد رداً دون ردّ، قال: وأخبرت سليطاً خبري بهوذة فأخبره سليط رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم عامر بن سلمة ومات هوذة بن علي سنة ثمان من الهجرة كافراً على نصرانيته.
وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني محارب بن خصفة بعكاظ، فوجدهم في محالهم فيهم شيخ منهم وهو جالس في أصحابه فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن راحلته، ودعا إلى الله تعالى وطلب المنعة حتى يبلغ رسالات ربه، فردَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبح الردّ وقال له: عجباً لك، يأبى قومك أن يتبعوك وتأتي إلى محارب تدعوهم إلى ترك ما كان عليه آباؤهم!! اذهب، فإنه غير متبعك رجل من محارب آخر الدهر، وأقبل إليه سفيه منهم فقال: يا محمد ما في بطن ناقتي هذه إن كنت صادقاً؟ فلعمري إنك لتدعي من العلم أعظم مما سألتك عنه، تزعم أن الله يوحي إليك ويكلمك، فاسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل إليه رجل منهم يقال له سلمة بن قيس وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً قريباً من بئرهم فأراد أن يطرحه في البئر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنحى عن البئر فجعل سلمة يقول: لو وقعت في البئر استراح منك أهل الموسم وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بزمام ناقته يقودها، وهم يرمونه بالحجارة حتى توارى عنهم وهو يقول: " اللهم إنك لو شئت لم يكونوا هكذا فإن قلوبهم بيدك، وأنت أعلم بهم فإن كان هذا من سخط بك عليَ فلك العتبى ولا حول ولا قوة إلا بك ".
وقال أبو فروة: وجد بعكاظ حجر مكتوب فيه:
اصبر أخي فحبذا الصبر ... لا تجزعن فإنه الدهر
فلربما صبر الفتى متجلداً ... ولربما جزع الفتى الحر وقال عقْبة بن رؤبة بن العجاج: مرَّ المستوغر بن ربيعة بن كعب بن سعد بعكاظ يقوده ابن ابنه خرِفاً فقال له رجل: أحسن إليه فقد طال ما أكرمك، فقال: من ظننته قال: أباك أو جدك؟ فال: فإن هذا ابن ابني، فقال له الرجل: لم أر كاليوم قط في الكذب، لو كنت المستوغر ما زدت، فقال: فإني المستوغر. وقال أبو عمرو بن العلاء: عاش المستوغر ثلثمائة وعشرين سنة.
عكبرا (1) :
بينها وبين بغداد في طريق الموصل سبعة فراسخ، وهي مدينة صغيرة على شرقي دجلة.
قال ابن ماكولا: ولِدْت بعكبرا عام أحد وعشرين وأربعمائة.
علقمة (2) :
بلدة بجزيرة صقلية كبيرة منيعة (3) فيها السوق والمساجد وسكانها مسلمون.
عم (4) :
قرية بالشام ما بين حلب وأنطاكية، وإليها ينسب عكاشة العمي (5) ، وقيل عم: مخلاف من مخاليف مكة.
عَمَّان (6) :
بفتح أوله وتشديد الميم، قرية من عمل دمشق سميت بعمان بن لوط عليه السلام.
وعمان أيضاً في مفازة سمرقند خربت في الزمن القديم وهي مفتوحة العين مشددة الميم، ولبعضهم:
أين عمان من قصور عمان
عمان (7) :
مضمومة الأول مخففة الميم، مدينة معروفة، سميت بعمان بن سنان بن إبراهيم، كان أول من اختطها، وقال الشاعر:
أين عمان من قصور عمان ... وهي فرضة البحر من العروض، وإليها ينسب العماني الشاعر (8) .
__________
(1) قارن بياقوت (عكبرا) .
(2) رحلة ابن جبير: 334.
(3) الرحلة: متسعة.
(4) معجم ما استعجم 3: 969، وانظر ياقوت (عم) وضبطها بكسر العين. وقال: وهي قرية غناء ذات عيون جارية وأشجار متدانية بين حلب وأنطاكية.
(5) نسة البكري في شرح الأمالي: 528 إلى بني العم من أهل البصرة.
(6) معجم ما استعجم 3: 970.
(7) معجم ما استعجم 3: 970.
(8) العمالي الراجز، لا الشاعر هو محمد بن ذؤيب الفقمي، ولم يكن من عُمان وإنما كان أصفر مطحولاً، فرآه دكين الراجز فقال: من هذا العماني (الشعر والشعراء: 641، وانظر مصادر أخرى لترجمته في الحاشية) .(1/412)
وكان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمان عباد وجيفر ابنا الجلندى.
وبلاد عُمان (1) متصلة بأرض مهرة، وهي مجاورة لها من جهة الشمال، وبلاد عمان مستقلة في ذاتها عامرة بأهلها وهي كثيرة النخل والفواكه والموز والرمان والتين والعنب، وهي بلاد حارة وببلاد عمان حية تسمى العربد وإليها ينسب السكران المعربد وهي حية تنفخ ولا تؤذي. ويحكى أنها أخذت ووضعت في آنية زجاج وتوثق من رأسها وأخرجت من بلاد عمان فتفقدت الآنية ولم توجد الحية فيها والأخبار بهذا شائعة. وبعمان أيضاً دويبة تسمى القراد إذا ظفرت بجارحة من الإنسان عضته، فلا تزال عضدتها تربو وتتزايد إلى أن تتقيح وتتدود ولا يزال ذلك الدود يسعى في جوف الإنسان حتى يموت. وبجبال عمان قردة كثيرة تضر بأهلها اضراراً كلياً، وربما اجتمع منها العدد حتى لا يطاق دفاعها إلا بالخروج إليها بالسهام والسلاح العام وحينئذ يقدر على دفاعها. ويتصل بأرض عمان من جهة المغرب ومع الشمال أرض اليمامة.
وبلاد عمان (2) ثمانون فرسخاً، فما والى (3) البحر منها سهول ورمال وما تباعد منه حزون وجبال ولها عدة مدن ومدينة عمان حصينة على ساحل البحر، ومن الجانب الآخر جبل فيه مياه سائحة قد أجريت إلى المدينة، وهي كثيرة النخل والبساتين وضروب الفواكه كما قلناه وطعامهم الحنطة والشعير والأرز والجاورس وكان الذي أجرى الماء من الجبل إلى المدينة رجل مجوسي يقال له أبو الفرج كان له من الصامت ثمانمائة كنجلة (4) دنانير (5) كل كنجلة تسعة أمناء (6) ، وهو الذي اتخذ بعمان خانات للتجار مفروشة مكان الآجر باللبن المتخذة من نحاس في كل لبنة من مائة إلى مائة وخمسين مناً (7) . وخراج أهل (8) عمان على المقاطعة ثمانون ألف دينار. وفي الأمثال: من تعذر عليه الرزق فعليه بعمان. وأهدى صاحب عمان إلى الكعبة بعد العشرين والأربعمائة محاريب، زنة المحراب أزيد من قنطار فضة، وقناديل فضة في نهاية الإحكام، وسمرت المحاريب في جوف الكعبة مما يقابل بابها وذلك إثر أخذ أمير مكة أبي الفتوح الحسن بن جعفر الحسيني لحلي الكعبة من المحاريب وغيرها.
وعمان بها أبواب حديد وبها مياه وأسواق وموز كثير ونهر جار ونخيل وسائر الفواكه، وهي فرضة الصين، وبها مرفأ الصين وتحمل من سيراف الأمتعة إليها والحمولة في قوارب ثم توقر السفينة العظيمة حتى تلجج في البحر العظيم فتسير بالريح الطيبة مقدار أربعين يوماً إلى خمسين يوماً حتى تنتهي إلى مدينة تسمى الشحر.
وحكي أن رجلاً عمانياً ورد مكة بلؤلؤتين لم ير مثلهما فباعهما بألفي دينار ذهباً من رجل سمرقندي وخرج من مكة في يومه، فلما كان بعد عدة أيام قدم من قبل صاحب عمان رسول يطلب الذي باع اللؤلؤتين ويذكر أنهما سرقتا من قصره، فطلب المشتري فعمي أثره وخفي خبره ووصل بهما إلى مدينة دمشق فأهدى إحداهما إلى صاحبها فأعطاه بها عشرة آلاف دينار ثم سار إلى سمرقند فأهدى الثانية إلى صاحبها فكافأه عليها بخمسة عشر ألف دينار فهاتان اللؤلؤتان من مغاص عمان وما والاها من هذه المواضع.
عمورية:
في بلاد الروم من ناحية بلاد باطوس (9) وتفسيره المشرق، وهي مدينة (10) كبيرة مشهورة في بلاد الروم وبلاد المسلمين أزلية، غير أن الفتوح تتوالى عليها من عهد المسلمين والروم، ولها سور حصين وهي على نهر كبير يصب في الفرات وعمورية رصيف إلى سائر البلاد المجاورة لها والمتباعدة عنها، ومنها الطريق إلى طرسوس، وبين عمورية والخليج مائة وخمسة وسبعون ميلاً وكانت منزلاً لبعض ملوك الروم.
وقال سعيد بن عبد العزيز: إن عثمان ائتم بأبي بكر وعمر رضي الله عنهم في إيثاره (11) المجاهدين وتقويتهم بالأموال ولقد زاد عثمان رضى الله عنه أهلَ العطاء مائة دينار وتابع إغزاءهم أرض الروم
__________
(1) نزهة المشتاق: 55 (OG: 155) ، وقارن بابن حوقل: 44، وابن الوردي: 46.
(2) البكري (مخ) : 68.
(3) ص ع والبكري: والاها.
(4) كذا في ص ع والبكري، وبهامش البكري: لعله ((كيجلة)) .
(5) دنانيرهما: كذا هو أيضاً في الأصول.
(6) البكري: تسعة ومائة من.
(7) وهو الذي اتخذ ... مناً: لم يرد هذا في البكري.
(8) البكري: عمل.
(9) نزهة المشتاق: 258 ماطوس.
(10) عن نزهة المشتاق: 260.
(11) ع: أثره؛ ص: أثر.(1/413)
حتى ذلت عمورية وما دونها من مدائن صاحبة الروم على أداء الجزية وإنزال جماعة من المسلمين مدينة عمورية يقاتلون من خلفها فلم يزل المسلمون بها حتى بلغ أهل عمورية قتل عثمان رضي الله عنه قبل أن يبلغ من كان بها من المسلمين فبيّتوا المسلمين فقتلوهم على فرشهم، وانتقض ذلك الصلح وغزاها المعتصم الخليفة العباسي وافتتحها في شهر رمضان سنة ثلاث وعشرين ومائتين بسبب أن الروم خرجت إلى زبطرة فقتلوا الرجال وسبوا النساء وأخربوها وأمر ببناء زبطرة وشحنها، وقد تقدم ذكر ذلك في حرف الزاي، وفي قصيدة حبيب المشهورة:
يا يوم وقعة عمورية انصرفت ... منك المنى حفلاً معسولة الشنب وفي بعض الأخبار أنه نصب على عمورية المجانيق، وأقام عليها حتى فتحها ودخلها فقتل فيها ثلاثين ألفاً وسبى مثلهم وكان في سلبه ستون بطريقاً، وطرح النار في عمورية من سائر نواحيها فأحرقها، وجاء ببابها إلى العراق فنصبه على أحد أبواب دار الخلافة قال سليمان بن يحيى: كنت أنا ويحيى بن أكثم نسير مع المعتصم وهو يريد بلاد الروم فمررنا براهب فوقفنا عليه، فقلنا: أيها الراهب أترى هذا الملك يدخل عمورية. قال: لا إنما يدخلها ملك أكثر أصحابه أولاد زنا فأتينا المعتصم فأخبرناه فقال: أنا والله صاحبها أكثر جندي أتراك وهم أولاد زنا.
عمرة (1) :
هي فحص بأحواز قفصة كانت فيه وقيعة عظيمة (2) في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة للموارقة والأغزاز على جند المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ملك المغرب وكان الظهور فيها للموارقة والأغزاز فتبدد جند المنصور في تلك الفحوص وانهزموا هزيمة شنيعة، وكان ذلك السبب في تحرك المنصور بنفسه إلى قفصة ونزوله عليها وسوء أثره فيها وذلك أن المنصور يعقوب كان وجه يعقوب ابن عمه أبي حفص بن عبد المؤمن في عسكر فخرج من تونس في جمع حفيل وصمد إلى الموارقة، ولما تراءى الجمعان وذلك يوم الجمعة منتصف ربيع الآخر من سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة بوطاة عمرة خارج قفصة، دفع علي بن الربرتير في أهل الحد من أصحابه فرشقوهم بالسهام، وأرجل علي وقبض عليه، وكثر الطعن والضرب في أصحابه واقتفى أثره أبو علي بن أبي زكريا بن مومور (3) ، فحصل بالعرب فنكلوا عنه وخلوا بينه وبين عدوه فقبض عليه بعد الإثخان (4) فيه، وكشفت الحرب عن ساقها واستحر القتل في الفئتين، وأصيب جملة من أعيان الموحدين وتخاذل باقيهم (5) ، وعظم الكرب وغشي الليل فتفرق الناس واستسلموا واشتغل عدوهم بالسلب وأكثر الرجال مثخنون في المعترك، وتحاملوا مع ذلك إلى قفصة مفلوين، فاستدعاهم ابن غانية موهماً لهم بالأمان فاجتمعوا إليه فاستأصلهم وجلس في خباء الساقة المأخوذ للسيد وجمع أثاث المنهزمين وأسبابهم وقسمها على أصحابه. وكان ابن الربرتير في أسر الأغزاز أصحاب قراقش فابتاعه منه ابن غانية بألفي دينار فعذبه حتى مات. ووصل أيضاً ابن مومور مثخناً فصلبوه بقفصة. وأصبح الفل من يوم الجمعة بأقطار تونس، وبادر إلى تونس سرعان المنهزمة، وكثر التحدت وفشت الأنباء، فضاق لذلك صدر المنصور، وأعلن بالصفح في المنهزمين، وسرح - أعيان الطلبة إلى المنهزمين بتهوين الخطب، ثم استبد بأمره ونكب عن المشورة، وتحرك بنفسه من تونس في صدر رجب هذه السنة، واستخلف على تونس أخاه السيد أبا إسحاق، ونزل على سبعة أميال متلوماً على الناس، وقد ظهر تكاملهم وتأخر إبراهيم الغزي بجماعته. وأمر باعتقاله ونادَى في الناس بمعاجلة العقاب لمن جن عليه الليل بالمدينة، فخرج الناس وانتهى المشي إلى القيروان، فاخترق سككها وأتى الجامع فصلى بمقصورته ركعتين، وقرأ في مصحف عبد الله بن عمر الذي بها، وتطوف على مقابر الأئمة بها، ونظر إلى ماجلها، فأمر القبائل برفع ترابه فصوب له أهل البلد تركه خوفاً من طلب العرب له عند يبس الهواء فتركه، ثم استقبل عدوه، فلما تراءىَ الجمعان على فرسخين من الحمة سرح سرية إلى مواضع العرب الموالين للموارقة فشنوا الغارة عليهم مع الصباح واكتسحوهم وساقوا أموالهم ثم قفلوا وبلغ العرب الذين مع الموارقة ما حل بأحيائهم فارفضّت جموعهم وتضعضعت محلة الموارقة بسبب ذلك ثم لبس لامته وناجز أعداءه وباشر الحرب بنفسه، والتحم القتال، فاستؤصلت الموارقة وأفلت قراقش وابن غانية واتبعهم السيف
__________
(1) ع: عميرة.
(2) انظر رحلة التجاني: 136، والبيان المغرب 3: 159 (تطوان) ، وراجع مادة ((حمة مطماطة)) في ما تقدم.
(3) البيان المغرب: يومور.
(4) ع ص: الانجاز.
(5) البيان: وتخاذلت جموع العوام.(1/414)
إلى الليل، ثم توجه في ثاني يوم الفتح إلى قابس فأحدق المقاتلون براً وبحراً ففتحوا أبوابهم مستسلمين، فقبل المنصور ذلك منهم وأسلموا أصحاب قراقش وشيعته وكان اتخذها حصناً وشحنها بشيعته وأصحابه، فبعث بهم إلى تونس في البحر وبعث إلى أهل قابس مَن وبخهم على اتباع كل ناعق، ثم انحفز إلى توزر فأعلنوا بالتوحيد، وفي فتح الحمة يقول أبو بكر بن مجبر من قصيدة له أولها:
أسائلكم لمن جيش لهام ... طلائعه الملائكة الكرامُ يقول فيها:
لقد برزت إلى هول المنايا ... وجوه كان يحجبها اللثام
وما أغنت قسي الغز عنها ... فليست تدفع القدر السهام
متى يك من ذوي الكفر اعتداء ... يكن من فرقة التقوى انتقام
عمواس:
قرية من قرى الشام بين الرملة وبيت المقدس، وإليها ينسب الطاعون (1) لأن منها بدأ فيقال طاعون عمواس، مات فيه خمسة وعشرون ألفاً، فيهم أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، واسمه عامر، وهو من عظماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال فيه: " لكل أمّة أمين، وأمين هذه الأمّة أبو عبيدة بن الجراح ". ومات فيه الحارث بن هشام وشرحبيل بن حسنة ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم، وكان هذا الطاعون سنة ثمان عشرة، وقيل سنة تسع عشرة، وكثر عدد من مات بعمواس حتى خرج عن الإحصاء، وعلّق عمرو بن العاصي رضي الله عنه بعمود خبائه سبعين سيفاً كلها ورثه عن كلالة عام طاعون عمواس، ولم يكن أحد يقول لأحد: كيف أصبحت وكيف أمسيت، حتى كثر فيهم الموت.
قالوا: سجن سليمان بن داود عليهما السلام شيطاناً بعمواس، فإذا أراد الله تعالى أن يأذن له بالخروج خرج فيقع على جارية ترعى الضأن لأهلها فتحمل منه، فإذا وضعت حملها طرحته في جزيرة من جزائر البحر، فيبعثه الله تعالى من قصبة فيها ستمائة ألف ملك مختلفين، فيشب في اليوم مثل ما يشب الغلام في الشهر، ويشب في الشهر مثل ما يشب الغلام في السنة، فإذا كبر اجتمعوا عليه فملَّكُوه، فهو الذي يسير بهم إلى الشام، وهو الذي يقبل من المغرب، وهو الذي يدعى ابن حمل الضأن.
العناطس:
موضع بينه وبين مدينة القلزم ثلاثة أميال، بالقرب منه عين يجري منها القار اللين الفوّاح كأجود الزفت أبداً.
عفص (2) :
بالأندلس بقرب مرسية، فيها كانت وقيعة الروم على أهل مرسية سنة 621 في رجبها، ذهب فيها من أهل مرسية بين قتيل وأسير نحو من أربعة آلاف رجُل، وكان الروم أغاروا على تلك الجهة فخرج إليهم أهل مرسية، وكانوا عابوا على أهل اشبيلية مثلها حين وقعت عليهم الهزيمة بفحص طلياطة، ونسبوهم إلى الضعف والخور وقلة الدربة بالحروب، فلم تمض الأيام حتى امتحنهم الله تعالى بهذه الوقيعة. وكان صاحب الجيش في هذا اليوم أبو علي ابن أشرقي، قال صاحب " الملتمس " (3) : كائنة عفص هي أخت كائنة طلياطة المتقدمة في سنة إحدى وعشرين وستمائة، كانت هذه في غرب الأندلس وهذه في شرقها، وكان عباد الصليب قد وصلوا إلى عفص من عمل مرسية فخرج عسكر مرسية ومعهم العامة، فقتل منهم كثير وأسر أكثر، وفيها يقول أحد المرسيين:
بوقعة عفص وطلياطة ... تكامل إقبال أيامنا
فبالغرب تلك وبالشرق ذي ... أناخا على شمِ أعلامنا
وفي وسط الأرض قيجاطة (4) ... ولوشة خفَّا بأحلامنا
وليس الصليب يرى مانعاً ... لغيرِ تواتر إعدامنا
__________
(1) قارن بما ورد في الطبري 1: 2516 وما بعدها عن طاعون عمواس، وكذلك ياقوت (عمواس) .
(2) بروفنسال: 136، واترجمة: 163.
(3) ع ص: المتلمس.
(4) ع ص: قطياجة.(1/415)
وسيدنا ناظر في الجواز ... يروم النجاة بإسلامنا
العقاب (1) :
بضم أوله، موضع بإزاء الصحصحان.
وثنية العقاب بدمشق سميت براية خالد العقاب حين نزلها المسلمون.
العِقاب (2) :
بكسر العين، بالأندلس بين جيان وقلعة رباح، كانت في هذا الموضع وقيعة عظيمة وهزيمة على المسلمين شنيعة في منتصف صفر من سنة تسع وستمائة، وذلك أن الملك الناصر أمير المؤمنين محمد بن المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ملك المغرب كان تحرك من مراكش إلى الأندلس، فاحتلَّ باشبيلية، ثم تحرَّك منها إلى قُرطُبة، ثم نزل على حصن شلبطرة واللج فحاصرهما وضيّق عليهما، فملك حصن اللج أولاً ثم حصن شلبطرة ونصب عليها المجانيق الضخام، ورميت بالحجارة الصم حتى ملكها على رغم الاذفونش صاحب طليطلة وقشتيلة. ولم يكن له يومئذ قدرة على دفاعه، وكان ذلك في سنة ثمان وستمائة حتى انتصف في العام الذي يليه في هذه الوقيعة، وكان الملك الناصر أعجب بفتح شلبطرة وكتب بذلك إلى الآفاق، وخفي عليه ما في طيّ الغيوب من خبر العقاب، ورجع إلى اشبيلية ظافراً غانماً ثم استغاث الاذفونش بأهل ملّته، وحثّهم على حماية دينهم، فاستجابوا وانثالوا عليه من كل مكان، وخرج عليه الناصر من اشبيلية في العشرين من محرم سنة تسع وستمائة بحشود لا غرض لهم في الغزو، وقد أمسكت أرزاقهم وقتر عليهم مع ما كان من قتله لابن قادس صاحب قلعة رباح، بسبب إسلامه القلعة للنصارى من غير أن يسمع حجته، وإخراجه من مجلسه الحشود الأندلسية غضباً عليهم، ومخادعة النصارى لباقي الأجناد بإشهار الصلح والعمل على ضده، حتى خالطوهم على غفلة فأخذ المسلمون في فرار ما سمع بمثله، وكان ذلك في العقاب بين جيان وقلعة رباح في منتصف صفر من سنة تسع وستمائة كما ذكرناه، وكانت شنيعة، ومرَّ الناصر لا يلوي على شيء حتى وصل اشبيلية، وتبعهم العدوَ حتى حال بينهم الليل، وأخذوا أجناد السّاقة وماتت تحتهم الخيل، فمشى وراءهم (3) بكل طريق سلكوه، ومنهل وردوه،
وأتى القتل على خلق كثير من المسلمين، وقتل فيها من الأعيان والطلبة جملة منهم علي بن الغازي الميورقي وابن عات الفقيه (4) وغيرهما، وكان فرس الملك الناصر بادناً فلم يطق الحركة، فنزل له بعض العرب عن فرسه وقال له: اركبه فهو خير لك من هذا، وكان أمر أبا بكر بن عبد الله بن أبي حفص بالوقوف تحت الراية، وحملت الروم فقصدت الراية ظناً منها أن الناصر عندها، فوضعت السيف في من واجهها، فقتلت خلقاً وقُتِل أبو بكر هذا وانهزم الناس، واستولى العدوّ على جميع المحلة وأكثر مضاربها ثم استولى الروم بعد ذلك على مدينة بسطة وباغو وما جاورهما من القرى والحصون، وقتلوا الرجال وسبوا الذرية وكانت هذه الوقيعة أول وهن دخل على الموحّدين، فلم يقم بعد ذلك لأهل المغرب قائمة. ولمّا انتهى الناصر إلى اشبيلية أنس البلاد بخطاب كتبه إليهم زخرفه الكاتب (5) ، ثم جاز البحر إلى مراكش فتوفي بها في صفر من سنة عشر وستمائة (6) قيل عضّه كلب في رِجْله، وقيل غير ذلك.
العقنقل (7) :
كثيب رمل ببدْر، وهو الذي عنى ابن الزبعرَى في قوله يرثي من قُتِل ببدْر من قُريش:
ماذا ببدر والعقن ... قل من مرازبة جحاجح
العقيق (8) :
هما عقيقان عقيق بني عقيل حيث قُتِل صخر بن عمرو بن الشريد أخو الخنساء وذلك في وادٍ منه يسمى بقو وهو على مقربة من عقيق المدينة.
وعقيق المدينة:
على ميلين منها، وقيل على عشرة أميال منها، وفيه نخل وقبائل من العرب.
ومات سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في قصره بالعقيق وحمل على رقاب الناس إلى المدينة.
__________
(1) معجم ما استعجم 3: 948.
(2) بروفنسال: 137، والترجمة: 164 (Las Navas de Tolosa) ، وانظر البيان المغرب 3: 240 (تطوان) .
(3) ص ع: ودافع.
(4) ع: العقبة.
(5) بروفنسال: بزخرفة الكاذب؛ وكانت الرسالة التي أرسل بها الناصر إثر هزيمة العقاب من إنشاء ابن عياش، البيان المغرب 3: 241.
(6) بروفنسال: فتوفي في قصره من مراكش سنة 610، وفي البيان المغرب أنه توفي في يوم الثلاثاء العاشر لشعبان.
(7) معجم ما استعجم 3: 950.
(8) معجم ما استعجم 3: 952.(1/416)
قال هشام بن عروة (1) : العقيق من قصر المراحل صاعداً إلى النقيع وما سفل عن ذلك فمن زعابة، وقال غيره: العقيق من العرصة إلى النقيع ما بين محجة يين (2) وتخوم الشام. وذكر أن تبعاً مرَّ بهذا الموضع لما قَدِم المدينة فقال: هذا عقيق الأرض، فسمي العقيق.
وعن عامر بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما قال: ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العقيق ثم رجع فقال: " يا عائشة جئنا من هذا العقيق فما ألين موطئه وأعذب ماءه "، قالت: يا رسول الله أفلا تنتقل إليه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " وكيف وقد ابتنى الناس ".
وقال عبد الله بن مطيع (3) : بات رجلان بالعقيق ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أين بتما "؟ فقالا: بالعقيق، فقال: " بتما بواد مبارك ".
وروى عامر بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نام في العقيق، فقام رجل من أصحابه يوقظه للصلاة، فحال بينه وبينه رجُل من أصحابه، فقال: لا توقظه فإن الصلاة لم تفته فتجاذبا حتى أصاب بعض أحدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فأيقظه، فقال:
" ما لكما لقد أيقظتماني وإني لأراني بالوادي المبارك ".
وقال (4) عمر رضي الله عنه: احصبوا (5) هذا المسجد، يعني مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الوادي المبارك، يعني وادي العقيق.
ولمّا أقطع عمر رضي الله عنه العقيق فدنا من موضع قصر عروة قال: أين المستقطعون منذ اليوم؟ فوالله ما مررت بقطيعة تشبه هذه القطيعة، فقام إليه خوات بن جبير الأنصاري فقال: أقطعنيها يا أمير المؤمنين، فأقطعه إياها، وكان يقال لموضعها خيف حرة لؤلؤة.
وقال ربيعة بن عبد الرحمن عن الحارث بن بلال بن الحارث: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث العقيق كله، فلما ولي عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعكه لتحجره فأقطعه الناس.
العقبة (6) :
المراد العقبة التي واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها النفر الذين بايعوه من الأوس والخزرج من أواسط أيام التشريق. قال كعب بن مالك: بتنا تلك الليلة مع قومنا ورحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل تسلل القطا مستخْفيِن حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً، ومعنا امرأتان من نسائنا، فاجتمعنا في شعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه عمه (7) : العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له، فلما جلسوا كان أول متكلم العباس رضي الله عنه فقال: يا معشر الخزرج - وكانت العرب يسمون (8) هذا الحيّ من الأنصار الخزرج، خزرجها وأوسها - إن محمداً منّا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فهو في عز من قومه ومنعة في بلده وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم؟ فإن كنتم ترون أنكم وافون بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم له من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده، قال، فقلنا له: قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله فخُذْ لنفسك ولربِّك ما أحببت، قال: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن، ودعا إلى الله تعالى، ورغّب في الإسلام، ثم قال: " أنا معكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم "، قال: فأخذ البراء بن معرور رضي الله عنه بيده، ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحقِّ، لنمنعنك مما نمنع أزرَنا، فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابراً عن كابر، فاعترض القولَ أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها، يعني اليهود، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله تعالى أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: " بل الدم الدم والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحاربُ من حاربتم وأُسالم من سالمتم ".
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أخرجوا إلي اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم "، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً: تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، فقال لهم: " أنتم على قومكم بما فيهم
__________
(1) البكري (مخ) : 76.
(2) ص ع: ما بين كذا.
(3) قارن بالمغانم المطابة: 269، 270.
(4) عاد إلى النقل عن البكري، وهو في المغانم أيضاً.
(5) البكري: حصنوا، وكذلك هو في ص ع.
(6) السيرة 1: 440 وما بعدها - (والمادة كلها) .
(7) ع ص: خمسة.
(8) ع ص: يقيمون.(1/417)
كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم عليهما السلام، وأنا كفيل على قومي "، قالوا: نعم.
وقال لهم العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري: يا معشر الخزرج هل تدرون على مَ تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلاً أسلمتموه، فمن الآن فهو والله إن فعلتم خزي في الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتلة الأشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة، قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال صلى الله عليه وسلم: " الجنة "، قالوا: ابسط يدك، فبسط صلى الله عليه وسلم يده، فبايعوه؟ وإنما قال ذلك العباس رضي الله عنه ليشد العقد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أعناقهم، وقال آخرون: إنما قال ذلك ليؤخر القوم تلك الليلة رجاء أن يحضرها عبد الله بن أبي بن سلول فيكون أقوى لأمر القوم.
قال: فلما بايعنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة، بأنفذ صوت سمعته قط: يا أهل المنازل، هل لكم في مذمم والصبَاء معه قد اجتْمعوا على حربكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا ازب العقبة، أي عدوّ الله، أما والله لأفرغن لك "، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ارفضّوا إلى رحالكم " فقال له العباس بن عبادة بن نضلة رضي الله عنه: والذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلن غداً على أهل مِنى بأسيافنا، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لم أؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم "، قال: فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا، فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاءونا في منازلنا فقالوا: يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا لتستخرجوه من بين أظهرنا، وتبايعوه على حربنا، والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينكم منكم، قال: فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون ما كان من هذا شيء، وما علمناه، قال: وصدقوا لم يعلموا، قال: وبعضنا ينظر إلى بعض، قال: ثم قام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي وعليه نعلان جديدان، قال: فقلت له، كلمة، كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا: يا أبا جابر أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟ قال: فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما إلي فقال: والله لتنتعلنهما، قال: يقول أبو جابر: مه أحفظت والله الفتى، فاردد إليه نعليه، قال، فقلت: والله لا أردّهما، فأل والله صالح، والله لئن صدق الفأل لأسلبنه.
قال: ونفر الناس من مِنىً فتنطس القوم الخبر، فوجدوه قد كان، فخرجوا في طلب القوم، فأدركوا سعدَ بن عبادة رضي الله عنه بأذاخر فأخذوه، فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه بجمته، وكان ذا شعر كثير. قال سعد رضي الله عنه: فوالله إني لفي أيديهم إذ طلع علي نفر من قُريش فيهم رجل وضيء أبيض شعشاع حلو من الرجال، قال، قلت في نفسي: إن يكن عند أحد من القوم خير فعند هذا، قال: فلما دنا مني رفع يديه فلطمني لطمة شديدة، قال، فقلت في نفسي: لا والله ما عندهم بعد هذا من خير، قال: فوالله إني لفي أيديهم يسحبونني إذ أوى إلي رجل منهم فقال: ويحك، أما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهد؟ قال، قلت: بلى والله لقد كنت أجير لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف تجاره وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي، وللحارث بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، قال: ويحك، فاهتف باسم الرجلين واذكر ما بينك وبينهما، قال: ففعلت، وخرج ذلك الرجل إليهما، فوجدهما في المسجد عند الكعبة، فقال لهما: أما أن رجُلاً من الخزرج الآن يضرب بالأبطح، وإنه ليهتف بكما، ويذكر أن بينه وبينكما جواراً، قالا: ومَنْ هو؟ قال: سعد بن عبادة، قالا: صدق والله إن كان ليجير تجارنا ويمنعهم أن يظلموا ببلده، فجاءا فخلصا سعداً من أيديهم، فانطلق.
العَقْر (1) :
بأرض بابل من ناحية الكوفة بالعراق بين واسط وبغداد، موضع كان التقاء مسلمة ين عبد الملك في ستة آلاف من أهل الشام بيزيد بن المهلب الخارج على يزيد بن عاتكة.
وكان (2) قد هرب من سجن عمر بن عبد العزيز سنة إحدى ومائة، وصار إلى البصرة، وعليها عدي بن أرطأة الفزاري، فأخذه يزيد بن المهلب فأوثقه: ثم خرج يريد الكوفة مخالفاً على
__________
(1) ميز ياقوت بين أمكنة متعددة بهذا الاسم، وانظر كذلك معجم ما استعجم 3: 949.
(2) حتى آخر المادة لمروج الذهب 5: 453 - 457.(1/418)
يزيد بن عبد الملك، وحشدت له الأزد أحلافها، وانحدر إليه أهله وخاصته، وعظم أمره واشتدت شوكته، فبعث إليه يزيد أخاه مسلمة بن عبد الملك وابن أخيه العباس بن الوليد بن عبد الملك في جيش عظيم، فلما شارفاه رأى يزيد بن المهلب في عسكره اضطراباً فقال: ما هذا الاضطراب أن قيل جاء مسلمة والعباس؟! فوالله ما مسلمة إلا جرادة صفراء، وما العباس إلا نسطوس بن نسطوس، وما أهل الشام إلا طغام قد حشدوا ما بين فلاح وزراع ودباغ وسفلة، فأعيروني (1) أكفكم ساعة تصفعون بها خراطيمهم، فما هي إلا روحة أو غدوة حتى يحكم الله بيننا وبين القوم الظالمين، علي بفرسي، قال: فأتي بفرس أبلق، فركب غير مسلح، فالتقى الجيشان فاقتتلوا قتالاً شديداً، وولى أكثر أصحاب يزيد عنه، فقتل يزيد في المعركة وصبر إخوته أنفسهم فقتلوا جميعاً، وفي ذلك يقول الشاعر:
كل القبائل بايعوك على التي ... تدعو إليها طائعين وساروا
حتى إذا حضر الوغى وجعلتهم ... نصب الأسنة أسلموك وطاروا
إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن ... (2) عاراً عليك وبعض قتل عار فلما ورد الخبر على يزيد بن عبد الملك بذلك استبشر، وتكلف الشعراء له بهجو آل المهلب فأكثر، وبعث يزيد هلال بن أحوز المازني في طلب آل المهلب، وأمره ألا يلقى منهم من بلغ الحلم إلا ضرب عنقه، فاتبعهم حتى أتى قندابيل من أرض السند، وأتي هلال بغلامين من آل المهلب فقال لأحدهما: أدركت؟ قال: نعم، ومدَّ عنقه، فكأن الآخر أشفق عليه فعض شفتيه، أي لا تظهر جزعاً، فضرب عنقه، وأْثخن هناك القتل في آل المهلب حتى كاد يفنيهم، فذكر أن آل المهلب مكثوا بعد إيقاع هلال بهم عشرين سنة، يولد فيهم الذكور ولا يموت منهم أحد.
وقتل مع يزيد أخواه حبيب ومحمد ابنا المهلب، وكان يزيد جواداً شجاعاً بليغاً فصيحاً.
عقرباء:
موضع بناحية اليمامة فيه نزل خالد بن الوليد رضي الله عنه والمسلمون حين لقوا مُسَيْلَمة الكذّاب وجمعه.
قالوا: لما أشرف خالد بن الوليد رضي الله عنه وأجمع أن ينزل بعقرباء قدم الطلائع أمامه، فرجعوا إليه فأخبروه أن مُسيلمة ومَن معه قد خرجوا فنزلوا عقرباء، وضرب عسكره، وقد قيل إن خالداً رضي الله عنه هو الذي سبق إلى عقرباء فضرب عسكره ثم جاء مسيلمة فضرب عسكره، ويقال توافيا إليها جميعاً. فلما فرغ خالد رضي الله عنه من ضرب عسكره وحنيفة تسوّي صفوفها نهض خالد رضي الله عنه إلى صفوفه فصفّها وقدّم رايته مع زيد بن الخطّاب رضي الله عنه ودفع راية الأنصار إلى ثابت بن قيس بن شماس، فتقدم بها، وجعل على ميمنته أبا حذيفة بن عُيينة بن ربيعة، وعلى ميسرته شجاع بن وهب، واستعمل على الخيل البراء بن مالك، ثم عزله واستعمل أسامة بن زيد، وأقبلت بنو حنيفة قد سلّتِ السيوف، فلم تزل مسللة وهم يسيرون نهاراً طويلاً، فقال خالد: يا معشر المسلمين، أبشروا فقد كفاكم الله عدوّكم، فما سلّوا السيوف من بعيد إلا ليرهبونا، وإن هذا منهم لجُبن وفشل، فقال له مجاعة (3) ، وكان أسيراً عنده: كلا والله يا أبا سليمان، ولكنها الهندوانية خشوا تحطمها، وهي غداة باردة فأبرزوها للشمس لأن تسخن متونها. فلما دنوا من المسلمين نادوا: إنا نعتذر من سلّنا سيوفنا، والله ما سلَلْناها ترهيباً لكم ولا جُبناً عنكم، ولكنها كانت الهندوانية، وكانت غداة باردة فخشينا تحطمها فأردنا أن تسخن متونها إلى أن نلقاكم فسترون، قال: فاقتتلوا قتالاً شديداً وتصبر الفريقان جميعاً صبراً طويلاً حتى كثرت القتلى والجراح في الفريقين، واستلحم من المسلمين حملة القرآن حتى فنوا إلا قليلاً، وهزم كِلا الفريقين حتى دخل المسلمون عسكر المشركين، والمشركون عسكر المسلمين مراراً، وحملت حنيفة أول مرة وخالد على سريره حتى خلص إليه، فجرد سيفه وجعل يسوق حنيفة سوقاً حتى ردَّهم وقتل منهم قتلى كثيرة، ثم كرَّتْ حنيفة حتى انتهوا إلى فسطاط خالد رضي الله عنه فجعلوا يضربون الفسطاط بالسيوف، ولما دخلوا الفسطاط أراد من حمل منهم قتل أم متمم امرأة خالد،
__________
(1) ع ص: فساعدوني.
(2) ورد هذا البيت منسوباً لحبيب بن خدرة الهلالي من قصيدة يرثي بها زيد بن علي (شعر الخوارج: 80) .
(3) كان مجاعة - وهو من بني حنيفة - قد أسر قبل بدء المعركة.(1/419)
ورفع السيف عليها، فاستجارت مجاعة فألقى عليها رداءه وقال: إني جار لها فنعمتِ الحرة، وعيّرهم وسبهم وقال: تركتم الرجال وجئتم إلى امرأة تقتلونها عليكم بالرجال، فانصرفوا.
قال وحشي: اقتتلنا قتالاً شديداً فهزموا المسلمين ثلاث مرات، وكرَّ المسلمون في الرابعة، وتاب الله عليهم وصبروا لوقع السيوف حتى رأيت شهب النار تخرج من خلالها، حتى سمعت لها أصواتاً كالأجراس، وأنزل الله تعالى نصره وهزم بني حنيفة وقُتِل مسيلمة. قال: ولقد ضربت يومئذ بسيفي حتى غرق قائمه في كفي من دمائهم، وأشرف عمار على صخرة يصيح: يا معشر المسلمين أَمِنَ الجنة تفرون، أنا عمار بن ياسر هَلُمّوا إليّ.
قال شريك الفزاري: لما التقينا والقوم، صبر الفريقان صبراً لم ير مثله قط ما تزل الأقدام فتراً، واختلفت السيوف بينهم، وجعل أهل السوابق والنيات يتقدمون فيقتتلون حتى فنوا، ولقد أحصيت لنا ثلاث انهزامات، وما أحصيت لحنيفة إلا انهزامة واحدة، التي ألجأناهم فيها إلى الحديقة، حديقة الموت، وجماعة الناس أربعة آلاف، وحنيفة مثل ذلك، فلما التقينا أذن الله للسيوف فينا وفيهم، فجعلت السيوف تختلي هام الرجال وأكفهم، وجراحاً لم أر جراحاً قط أبعد غوراً منها فينا وفيهم، ثم اقتحمنا الحديقة فضاربوا فيها وغلقنا الحديقة وأقاموا على بابها رجالاً لئلا يهرب منهم أحد، فلما رأوا ذلك عرفوا أنه الموت فجدوا في القتال، ودكت السيوف بيننا وبينهم، ما فيهم رمي بسهم ولا حجر ولا طعن برمح حتى قتلنا عدو الله مسيلمة، وهذا لباب الخبر ومقصوده، وإلا فالقصة أطول من هذا.
عسكر مكرم (1) :
مدينة بقرب الأهواز كبيرة عامرة على نهر المسرقان، وفيها التجار وأخلاط من الناس، وفيها أسواق وأرزاق وصناعات، ولها مزارع متصلة، وبها صنف من العقارب إذا لسبت قتلت لحينها، وبين عسكر مكرم وتستر مرحلة، وبينها وبين رامهرمز مرحلتان، وبينها وبين الأهواز مرحلة.
وكان الحجاج قد بعث مكرم بن جعونة فنزل موضع عسكر مكرم اليوم، فبه سمي الموضع (2) .
عسكر المهدي (3) :
هو في الجانب الشرقي من بغداد، وكان المنصور لما ابتنى بغداد نزل ابنه المهدي وهو ولي عهد بالجانب الشرقي من بغداد سنة ثلاث وأربعين ومائة، فاختط المهدي قصوره (4) بالرصافة وابتنى المسجد الجامع الذي بها وحفر نهراً يأخذ من النهروان سماه نهر المهدي يجري في هذا الجانب، وهذا الجانب يعرف بعسكر المهدي، وقسمت فيه القطائع وتنافس الناس فيه لمحبتهم للمهدي وتوسعته عليهم، ولأنه كان أوسع الجانبين أرضاً.
وكان الرشيد ولى أبا البختري وهب بن وهب (5) القضاء بعسكر المهدي ثم ولاه مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وجعل إليه حربها مع القضاء، وكان الرشيد أرسل إليه بنوقالة فيه ماء أو فقاع مبرد، فقال له الرسول: يقول لك أمير المؤمنين هذا بارد وقد آثرتك به، فقال أبو البختري لخادمه: هات الألفي الدينار اللذين عندك، فجاء بهما فوهبهما لخادم الرشيد، فقال له الرشيد: ما هذا السرف؟ أوجّه إليك بشربة باردة فتعطي الخادم ألفي دينار؟! قال: يا أمير المؤمنين، جاءني بما آثرتني به على نفسك وولدك أفأستكثر له ألفي دينار، والله لو ملكت أضعافها لدفعتها إليه، فأمر له الرشيد بعشرة آلاف دينار.
عسقلان (6) :
مدينة بالشام، بينها وبين فلسطين مرحلة، وهي الآن عامرة بأيدي الروم، وهي على ساحل البحر، فتحها معاوية على صلح سنة ثلاث وعشرين. وعسقلان بينها وبين الرملة ستة فراسخ، وأسواقها مفروشة بالرخام، وفيها عين ماء لإبراهيم عليه السلام، وبينها وبين غزة أربعة فراسخ.
وعسقلان (7) مدينة حسنة ذات سورين، وليس لها من خارجها بساتين ولا شجر بها، وتغلَّب عليها الروم سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وهي معدودة في أرض فلسطين.
__________
(1) نزهة المشتاق: 123.
(2) عند ياقوت: مكرم بن معزاز أحد بني جعونة بن الحارث، قال: وقيل بل مكرم مولى للحجاج.
(3) اليعقوبي: 251 وما بعدها، وقارن بياقوت (عسكر المهدي) ، وابن خلكان 4: 351 (ترجمة: محمد بن عمر الواقدي) .
(4) اليعقوبي: قصره.
(5) كان أبو البحتري فقيهاً إخبارياً جوّاداً يحب المديح ويثب عليه العطاء الجزيل، وقد عرف عنه الوضع في الحديث، توفي سنة 200 ببغداد (ابن خلكان 6: 37 وفي الحاشية مصادر أخرى لترجمته) .
(6) قارن بياقوت (عسقلان) ، وابن الوردي: 25.
(7) نزهة المشتاق: 113.(1/420)
عسْفَان (1) :
بلد بين مكّة والمدينة، بينها وبين مكة تسعة وأربعون ميلاً، وبينها وبين البحر عشرة أميال، وفيها آبار عذبة، وبين عسفان وقديد أربعة وعشرون ميلاً، وعسفان كثيرة الأهل خصيبة، ماؤها من الآبار، وقال كثيّر (2) :
قلن عسفان ثم رحن عشاء ... قاطعات ثنيّةً من غزالِ وكان تبع ملك اليمن أتاه نفر من هذيل، وهو بين عسفان وأمج فقالوا له: أيها الملك، ألا ندلك على بيت مال داثر أغفلته الملوك قبلك، فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة، يريدون الكعبة. . . إلى آخر القصة، ذكرها ابن إسحاق (3) .
وربما كان في عسفان غدران بين أراك وأم عيلان وبين الجحفة وعسفان غدير خم، وهو الذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنقل حماه إلى مهيعة لما استوبأ المهاجرون المدينة.
عسيب (4) :
جبل على قاع النقيع.
وكان امرؤ القيس لما مضى إلى قيصر فوشي به إليه في شيء نسب إليه، فوجه معه جيشاً يعينه على أخذه بثأره، وأرسل إليه بأثر ذلك بحلة مسمومة مع رجل وقال له: الملك يخصك بالسلام، وقد بعث إليك بحلة لتلبسها يكرمك بها، فأدخله الحمام وكساه إياها بعد خروجه، فلما لبسها تنفط جسمه فكان يحمل في محفة، وفي ذلك يقول (5) :
وبدلت قرحاً دائماً (6) بعد صحة ... لعل منايانا تحوَّلْنَ أبؤسا ثم نزل إلى جنب جبل وفي ناحية منه قبر، فسأل عنه فقيل له: هو قبر لابنة بعض ملوك الروم، قال: فما جاء بها إلى هاهنا؟
فقيل له: إنها ترهبت فماتت حيث يرى الملك ذلك، فعند ذلك جعل يقول (7) :
أجارتنا إن الخطوبَ تنوبُ ... وإني مقيم ما أقام عسيبُ
أجارتنا إنا غريبان هاهنا ... وكل غريب للغريب نسيب
فإن تصلينا فالمودَّة بيننا ... وإن تهجرينا فالغريب غريب
أجارتنا ما فات ليس يؤوب ... وما هو آت في الزمان قريب
وليس غريباً من تناءت دياره ... ولكنَّ من زار الترابَ غريب
عشقة:
جزيرة في بحر القلزم يسكنها قوم صيادون ينسبون إلى جهينة، وهم يدخرون الماء في هذه الجزيرة ويرثونه عن آبائهم ويجلبونه من البراري على مسافات بعيدة، وهم سمر الألوان من هذا البحر، شقر الشعور من مباشرة الشمس، ولهم جلبات يصطادون بها، وليس لهم طعام غير السمك والتمر، وسمكهم حوت أخضر واسع، زنة الحوت رطل ونحوه، وإذا ادخر الرجل منهم ألف حوت فذلك الغني، وإن كان عنده مع ذلك حمل تمر فذلك الذي لا فوقه أحد. وبهذا الحوت يتبايعون وبه يتناكحون، وإذا خطرت السفينة عليهم أتوها يستطعمون أهلها، وهم في السباحة والصبر عليها كبعض حيوان البحر. وفي جزيرة عشقة هذه وجدت اللؤلؤة المسماة باليتيمة، فحملها الذي وجدها منهم إلى مصر، وأهداها إلى صاحبها فسأل أهل الميز بالأحجار تقويمها، فلم يدر لها قيمة لارتفاع ثمنها وغرابة أمرها، قال لمهديها: ما أمنيتك؟ فسأله أن يعطيه جزيرته التي أصابها فيها ففعل، وملوك مصر يضعون هذه اللؤلؤة في عمائمهم إلى الآن.
العوراء:
موضع باليمامة. والعوراء أيضاً دجلة وقد تقدم القول فيها في حرف الدال.
__________
(1) قارن بنزهة المشتاق: 51. ورسالة عرام: 37. وياقوت (عسفان) ، وفي رحلة الناصري: 232 نقل عن الروض.
(2) ديوان كثير: 396.
(3) السيرة 1: 23 - 24.
(4) قارن بياقوت (عسيب) حيث يذكر أن عسيباً جبل بعالية نجد، وكذلك المغانم المطابة: 263.
(5) ديوان أمرئ القيس: 107.
(6) رواية الديوان: داميا.
(7) في الديوان: 357 منها بيتان فقط.(1/421)
ولبعض المتأخرين يهنئ السلطان المستنصر ملك إفريقية حين جلب العين الزغوانية إلى جنة أبي فهر (1) :
أجاب أمرك معنى كلِّ مملكة ... من عهد من جاب فيها الصخر بالوادي
وكان حرباً تعاصيهم قيادته ... فعاد سلماً كما قد كان في عاد
وجرية الماء تبدي صوغ سلسلة ... تنهي إليك بها اذعان منقاد
لا تقبلنَّ أمير المؤمنين بها ... فرات فارس أو عوراء بغداد
العوالي (2) :
على أربعة أميال أو ثلاثة من المدينة، وفي الحديث عن أنَس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي العصر والشمس مرتفعة حية، فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيها والشمس مرتفعة.
العواصم (3) :
كورة من كور الشام تلي عمل حلب، قال أحمد بن الحسين (4) :
تَنَفّس والعواصمُ منك عشر ... فتعرف طيب ذلك في الهواءِ واختزل الرشيد الثغور من الجزيرة وقنسرين وسماها العواصم.
العونيد (5) :
مدينة قريبة من نصف الطريق من جدة إلى القلزم، وهناك يطلب الملاحون البشارة من الحاج، ومدينة العونيد مسورة صغيرة أهلها أجهل خلق الله تعالى، والفواجر يتحاكمن إلى الوالي
فيحكم لهن، ولا يتمسكون من الإسلام إلا بالشهادة.
وهي قريبة من مرسى ضبا، ويبدو (6) عند الجزر أثر قدم من أوسط الأقدام بنسبة الكعب والأخمص والصدر والأصابع لم يعفها الزمان ولا محاها كرور الماء عليها.
عينونا (7) :
وعينونا في طريق مكة من مصر، فمن أراد أن يخرج من مدين إلى مكة أخذ على ساحل البحر الملح إلى موضع يُقال له عينونا فيه عمارة ونخل، وبه مطالب يطلب الناس فيها الذهب.
عينان (8) :
قرية بالبحرين، وأيضاً جبل بأحُد حيث خرج إبليس يوم أحد.
عين زربة (9) :
مدينة في الثغور الشامية بناها المهدي بن المنصور وأتقنها.
عين شمس (10) :
مدينة فرعون مما يلي جبل المقطم من البلاد المصرية، وهي مدينة خربة فيها صنمان من حجارة: أحدهما مما يلي المشرق والآخر مما يلي المغرب، طول كل صنم منهما ست أذرع، فإذا نظر الناظر إليهما خيّل إليه أن الشرقي منهما يضحك والغربي يبكي، وبين عين شمس ومصر أربعة فراسخ، وفيها آثار كثيرة وبنيان عجيب من أساطين رخام وتماثيل ونقوش، وفيها بركة عظيمة قد نقرت في حجر صلد، وحواليها كراس من رخام، فكان يجلس فرعون عليها ويملؤها بالخمر، وحواليها أنهار العسل وأنواع المشروبات، وبالقرب منها صورة من رخام يخيل للناظر أنها تتكلم، ذكر أنها كانت ماشطة فرعون. وهذه المدينة كانت طاعة لوالد زلخا زوجة العزيز. وبعين شمس مما يلي الفسطاط ينبت البلسان وهو النبات الذي يستخرج منه دهن البلسان ولا يعرف بمكان من الأرض إلا هناك.
__________
(1) أشار حازم في مقصورته: 73 إلى إجراء الماء من جبل زغوان إلى جنة أبي فهر بقوله:
وطود زعوان دعوت ماءه ... فلم يزغ عن طاعة ولا ونى
وأنساب في قصر أبي فهر الذي ... بكل قصر في الجمال قد زرى (2) انظر المغانم المطابة: 286، وياقوت (العوالي) .
(3) معجم ما استعجم 2: 979.
(4) ديوان المتنبي: 288.
(5) قارن بياقوت (عونيد) ، والمقدسي: 84.
(6) ع ص: وهذه.
(7) لا تزال معروفة بالقرب من مغاير شعيب، وهي عين ضعيفة فيها نخل (في شمال غرب الجزيرة: 603) ، وقارن بياقوت (عينون) . وانظر تحديداً دقيقاً لموقعها في ديوان كثير: 562.
(8) انظر تفصيلات أوفى عند ياقوت (عينان) .
(9) قارن بياقوت (عين زربي) .
(10) معظمه عن الاستبصار: 84، وقارن باليعقوبي: 337، وياقوت (عين شمس) . والخطط 1: 228، وابن الوردي: 22، والإدريسي (د) : 145.(1/422)
عين الوردة (1) :
موضع على مقربة من الكوفة إليها انتهى سليمان بن صرد وأصحابه التوابون الخارجون من الكوفة للطلب بدم الحسين رضي الله عنه وقالوا: لا توبة لنا إلا أن نقتل أنفسنا في الطلب بدمه، وكانوا في من كتب إلى الحسين يسألونه الوصول إلى الكوفة، وكان سليمان ممن له صحبة، وكان خيّراً فاضلاً شهد مع علي رضي الله عنه صفين، فأقبل إليهم أهل الشام مع عبيد الله بن زياد فقتلوا سليمان وأكثر أصحابه، وذاك سنة خمس وستين، وقصتهم طويلة.
وجاء في الحديث أن عين وردة هو التنور الذي فاض منه الطوفان.
عين تمر:
حصن بالعراق افتتحه خالد بن الوليد رضي الله عنه فإنه (2) لما فرغ من الأنبار استخلف عليها الزبرقان بن بدر، قصَدَ عين التمر وبها يومئذ مهران في جمع من العجم عظيم ومن النمر وتغلب وإياد ومن إليهم، فلما سمعوا بخالد رضي الله عنه قالوا: إن العرب أعلم بقتال العرب فصيروا إليهم، وعبى خالد رضي الله عنه جنده وقال لمجنبتيه: اكفونا ما عندكم فإني حامل، ووكل بنفسه حوامي، ثم حمل على صفوف تلك الأخلاط من العرب، فانهزموا من غير قتال، واتبعهم المسلمون فأكثروا فيهم القتل والأسر، ولمّا جاء الخبر مهران هرب في جنده وتركوا الحصن، فأتاه فلال العرب المنهزمين واعتصموا به، وأقبل خالد رضي الله عنه في الناس، فنزل عليه، فسألوه الأمان فأبى إلا على حكمه، فنزلوا، فضرب أعناق أهل الحصن أجمعين واستأصل من حوى حصنه وغنم ما فيه، ووجد في بيعتهم أربعين غلاماً يتعلمون الإنجيل، عليهم باب مغلق، فكسره عنهم وقال: ما أنتم؟ قالوا: رهن، فقسمهم على أهل البلاء، فمن أولئك الغلمان أبو زياد مولى ثقيف وحمران مولى عثمان ونصير أبو موسى بن نصير وسيرين والد محمد بن سيرين وأبو عمرة جد عبد الله بن عبد الأعلى الشاعر.
عين ولغر (3) :
بالأندلس بمقربة من جيان، وعين ولغر هذه كبيرة تجري سبعة أيام متوالية وتفيض سبعة أيام متوالية، كذلك دائماً.
العيرات (4) :
موضع بقرب رحرحان تنسب إليه برقة، ووقع في شعر امرئ القيس:
غشيت ديارَ الحيَّ بالبكرات ... فعاذمة فبرقة العيرات
عيساباذ:
بالعراق فيها مات الخليفة الهادي، ووثبت الشراة بعيساباذ بعقبة بن سلم الباهلي وهو بباب المهدي بعيساباذ فقتلته، وكان عُقبة هذا أحد العتاة الجفاة، وهو الذي قال - وقد قيل له وليت ناحية كذا وفيها رهط معن بن زائدة وقد كان أساء لأهله فقابله بفعله - فقال: والله لو كنت على حمار هزيل وهو على فرس رائع ثم سابقني إلى النار لسبقته، ثم قال: يا غلام، افرش على شفير جهنم.
عيذاب (5) :
مدينة في أعلى الصحراء المنسوبة إليها في ضفة البحر الملح، ومنها المجاز إلى جدة، وعرضه مجرى يوم وليلة.
ومرسى عيذاب جزيرة ليست بكبيرة ومساكنها من حجارة، والماء العذب يجلب إليها على مسيرة يوم، وهي محط السفن من جدة من التجّار وغيرها، وهي تقابل من الصعيد الأعلى مدينة قوص وقفط، وبينها وبين قفط في البر خمس مراحل لا ماء فيها إلا في موضعين.
ومرسى عيذاب مأوى لجماعة بني يونس، والفجور فيهم فاش لا ينكره منهم منكر، ولا يكترى منه بيت إلا يشترط نفقة صاحبة البيت وإجراء الخلوة بها، وهم يأخذون من التجار عُشُوراً، وفيها قبالة الكلب، وهو كلب كان هناك للأمير في القديم. ومن عيذاب تسير القوافل إلى مدينة سواكن.
وينزل عيذاب (6) والٍ من قبل رئيس البجة وعامل من قبل ملوك مصر يقتسمون جبايتها نصفين، وعلى عامل مصر القيام بجلب الأرزاق والمعيشة إلى عيذاب، وعلى رئيس البجة القيام بحمايتها من الحبشة. ورئيس البجة ينزل الصحاري ولا يدخل المدينة إلا غبّاً، وأهل عيذاب يتجولون في كل النواحي من أرض البجة ويشترون ويبيعون
__________
(1) قارن بياقوت.
(2) الطبري 1: 2062، وقارن بفتوح البلاذي: 302.
(3) بروفنسال: 194، والترجمة: 235 وعنده ((عين والغر)) ؛ ع: ولعر.
(4) معجم ما استعجم 3: 985، 1: 267.
(5) نزهة المشتاق: 49، وانظر ابن الوردي: 36.
(6) عاد إلى النقل عن نزهة المشتاق.(1/423)
ويجلبون ما هنالك من السمن والعسل واللبن، وبالمدينة سمك يصاد بها كثير، وهو كبير لذيذ شهي، وتؤخذ بها المكوس من حاج الإسلام القاصد من بلاد المغرب، ثمانية دنانير على كل رأس، ولا يعبر أحدٌ من حاج المغرب إلى جدة حتى يظهر الرجل البراءة مما يلزمه، فإذا جاز المركب وسهل الله عليه الدخول إلى جدة أرسى على بُعْدٍ، ودخل الثقات من ناحية والي جدة فاقتضوا منهم المكوس (1) اللازمة لهم (2) ، فيدفع (3) له ما لزمه من المكس، ويأخذ هذا المكس الهاشمي صاحب مكة فيدفعه في أرزاق أجناده إذ لا تفي جبايته بلوازمه، فان عثر على رجل لا مكس معه لزم الذي جوزه، وربما سجن الرجل الحاج حتى يفوته الحج، وربما قيض الله له من يدفع له ما لزمه من المكس، ويأخذ هذا المكس الهاشمي صاحب مكة برسم ما ذكر.
وأكثر (4) بيوتها الأخصاص، وهي من أحفل مراسي الدنيا، تختلف إليها مراكب الهند واليمن، تحط فيها وتقلع منها زائداً إلى مراكب الحجاج الصادرة والواردة، وهي في صحراء لا نبات
فيها، ولا يؤكل فيها شيء إلا مجلوب، ولكن أهلها بسبب الحجاج والتجار تحت مرفق كبير، وفي بحر عيذاب مغايص على اللؤلؤ في جزائر على مقربة منها في شهر يونيه العجمي والذي يليه، ويستخرج منه جوهر نفيس له قيمة سنية، يذهب الغائصون عليه إلى تلك الجزائر في الزوارق، ويقيمون أياماً، فيعودون بما قسم لكل أحد منهم حسب حظه من الرزق، ويستخرجونها في أصداف لها أرواح كأنها نوع من الحيتان أشبه شيء بالسلحفاة.
ولأهل عيذاب (5) في الحجاج ظلم الطواغيت فإنهم يشحنون مراكبهم حتى يجلس بعضهم على بعض وتعود بهم كأنها أقفاص الدجاج، يحمل أهلها على ذلك الحرص والرغبة في الكراء حتى يستوفي صاحب المركب حقه في طريق واحد، ولا يبالي بما يصنع البحر بهم ويقولون: علينا بالألواح وعلى الحجاج بالأرواح، وهذا مثل متعارف عندهم. قالوا: والأولى لمن يمكنه ألا يراها، وأن يكون طريقه على الشام إلى العراق.
__________
(1) ص ع: المكس.
(2) ص ع: واللازمة.
(3) ص ع: يدفع.
(4) رحلة ابن جبير: 69.
(5) رحلة ابن جبير: 71.(1/424)
حرفُ الغين
الغابة (1) :
من رسم خيبر وقيل موضع عند المدينة، وبها كانت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الغار (2) :
المذكور في القرآن في قوله تعالى " إِذْ هُمَا في الغَارِ "، وهو غار ثور، جبل بمكة، وذلك حين هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة اختفى فيه هو وأبو بكر رضي الله عنه، من قريش حين خرجوا في اتباعه، وأمر الله تعالى العنكبوت فنسجت على فم الغار، وأرسل حمامتين وحشيتين فوقعتا على وجه الغار، وكان ذلك مما صدّ المشركين عنه، فيقال إن حمام الحرم من نسل تينك الحمامتين. وتقدم لدخوله أبو بكر رضي الله عنه ليقيه بنفسه لئلا يخرج منه ما يؤذيه، وفيه قال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: " ما ظنك باثنين، الله ثالثهما "، وقصة الغار مشهورة.
غانة:
من بلاد السودان، بينها وبين سجلماسة مسيرة شهرين.
وهي (3) مدينتان على ضفتي البحر الحلو، وهي أكبر بلاد السودان قطراً وأكثرها خلقاً وأوسعها متجراً، وإليها يقصد المياسير من جميع البلاد المحيطة (4) بها من سائر بلاد المغرب الأقصى، وأهلها مسلمون وملكها، فيما يذكر، من ذرية صالح بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وهو يخطب لنفسه، لكنه تحت طاعة الخليفة العباسي، والذي يعلمه أهل المغرب الأقصى علماً يقينياً أن في قصره لبنة ذهب وزنها ثلاثون رطلاً نقرة (5) واحدة، خلقها الله تعالى خلقة تامة من غير أن تسبك في نار، وقد نقب فيها نقب، وهي مربط لفرس الملك (6) ، وهي من الأشياء الغريبة التي انفرد بها، وهو يفخر بها على سائر ملوك السودان، وهو أعدل الناس فيما يحكى عنه، ومن سيرته أن له جملة قواد يركبون إلى قصره كل صباح لكلّ قائد منهم طبل يضرب على رأسه، فإذا وصل إلى باب القصر سكت، فإذا اجتمع إليه قوّاده ركب وسار يقدمهم، ويمشي في أزقة المدينة، وداير البلد، فمن كانت له مظلمة أو نابه أمر تصدى له، فلا يزال حاضراً بين يديه حتى ينظر في مظلمته، ثم يرجع إلى قصره، فإذا كان بعد العصر وسكن حر الشمس ركب مرة ثانية وحوله جنوده، فلا يقدر أحد على قربه ولا الوصول إليه. ولباسه أزر حرير يتوشح بها أو بردة يلتفّ بها، وسراويل في وسطه، ونعل شركي في قدمه، وركوبه الخيل، وله حلية حسنة وزي كامل يقدمه أمامه في أعياده، وبنود كثيرة، وراية واحدة، وتمشي أمامه الفيلة والزراريف وضروب من الوحش التي في بلاد السودان. ولهم في النيل زوارق وثيقة الإنشاء يتصيدون فيها ويتصرفون بين المدينتين.
__________
(1) قال ياقوت: الغابة موضع قرب المدينة من ناحية الشام، وعند البكري في معجمه 2: 521 في وصف الطريق من المدينة إلى الخبير: ((تخرج من المدينة على الغابة العليا ثم تسلك الغابة السفلى.. الخ)) ، وقول المؤلف ((من رسم خيبر)) إنما هو نقل متعجل غير دقيق لما قاله البكري (الغابة) : وهما غابتان ... تقدم ذكرهما وتحديدهما في رسم خيبر.
(2) انظر مادة ((ثور)) في ما تقدم.
(3) الإدريسي (د/ ب) : 6/ 7 (OG: 23) ، وصبح الأعشى 5: 284، وقارن بالبكري: 174، وابن الوردي: 35.
(4) ص ع: المحيطين.
(5) الإدريسي: تبرة.
(6) جاء في صبح الأعشى 5: 284: ((وقد ذكر في الروض المعطار أن لصاحب غانة معلقين من ذهب يربط عليهما فرسان له أيام مقعده)) . وهذا غير دقيق بالمقارنة مع ما جاء في الأصل.(1/425)
قالوا (1) : وغانة سمة لملوكها، وهما مدينتان إحداهما يسكنها الملك والأخرى يسكنها الرعية والتجار والسوقة، والدور والمساكن نحو ستة أميال متصلة. وفي مدينة الرعية جامع كبير ومساجد كثيرة، وفيها الأئمة والمؤذنون والفقهاء والعلماء، وحواليها آبار عذبة منها يشربون وعليها يعملون الخضر والمقاثي. ومدينة الملك تسمى الغانة (2) ، وللملك بها قصر عظيم وقباب، قد أحاط بذلك كله حائط مثل السور، وعلى مقربة من مجلس حكم الملك وحول قصره قباب وغابات شعراء يسكنها أهل ديانته، وفيها قبور ملوكهم، ولها حرس فلا يمكن أحداً من الغرباء دخولها ولا معرفة ما فيها، وهناك سجون الملك، فإذا سجن أحداً انقطع خبره. وفي مدينة الملك مسجد يصلّي فيه من يفد عليه من تجار المسلمين، والملك يجلس للناس للحكم في قبة عظيمة، وأمام القبة عشرة أفراس من عتاق الخيل، عليها الجلال المذهبة من الحرير والديباج على قلتها في بلادهم. والملك يتحلى بحلي النساء في عنقه وذراعيه. ويحمل على رأسه طرطوراً مذهباً ويعمم عليه عمامة قطنية. وعن يمينه ويساره أبناء الملوك والوزراء وخاصته من أعيان بلده، قد ضفروا رؤوسهم بالذهب والجوهر، عليهم الثياب الرفيعة، ولا يلبس ثوباً مخيطاً من أهل دينه إلا هو وولي عهده، ومَنْ سواهما يلبسون ملاحف الحرير والديباج، وسائر أهل بلده يلبسون ملاحف القطن. والملك وسائر أهل بلده الذين على ديانته يحلقون لحاهم، ونساؤهم يحلقن رؤوسهن. ولا يولي الملك عهده إلا لابن أْخته، فإنه لا يشك فيه أنه ابن أخته، وهو يشك في ابنه، ولا يقطع بصحة اتصاله به. وإذا جلس الملك في قبته لمظالم الناس ينذرون لجلوسه بطبل عظيم يسمونه دَي (3) وهو خشبة طويلة منقورة قد جلدوها لها صوت هائل يجتمع الناس إليه، فإذا دنا منه أهل دينه جثوا على ركبهم وحثوا التراب على رؤوسهم، وأما المسلمون فتحيتهم عليه تصفيق باليدين،، وجلوس الوزراء أمامه إنما هو على الأرض تواضعاً للملك. وإذا مات الملك عملوا له قبة من خشب الساج عظيمة مذهبة، ووضعوها في موضع قبره ثم حملوه على سرير وأدخلوه في القبة، ووضعوا معه أوانيه التي كان يأكل فيها ويشرب، وأدخلوا معه الأطعمة والأشربة وكل من كان يخدم طعامه وشرابه، وأغلقوا عليهم باب القبة وجعلوا فوقها الحصر والأمتعة واجتمع الناس فردموا فوق القبة بالتراب حتى يأتي الموضع مثل الجبل الضخم ثم يحفرون حوله حفيراً عظيماً وعراً حتى لا يوصل إلى ذلك الكوم ولا إلى شيء منه إلا من موضع واحد.
ولملك غانة مملكة واسعة نحو الشهرين في مثلها، وفي بلاده يوجد الذهب الكثير، وهو يعم جميع بلاد الدنيا، وأفضل الذهب بمملكته ما كان ببلد غيارو (4) ، وبينها وبين غانة نحو عشرين يوماً في عمارة متصلة بقبائل من السودان لا يحصى لهم عدد، وإذا وجد في جميع بلاد هذا الملك الندرة (5) من الذهب استصفاها الملك لنفسه ولم يتركها تخرج من بلاده لغيره، والندرة تكون من أوقية إلى رطل وإنما يتركون أن يخرج من بلادهم من الذهب ما كان دقيقاً، ولو تركوا كل ما يوجد في المعادن يخرج من بلادهم لكثر الذهب بأيدي الناس ولهان، ويذكر أن عند ملك غانة ندرة ذهب كالصخرة، وقد ذكر أن عند بعض ملوك السودان من هذه الندرات حجر عظيم يجعل أمامه، فإذا ورد عليه رسل من غيره من الملوك أمر بفرسه فربطت إليه ليباهي بذلك.
وخيل غانة قصار جداً، وعندهم الأبنوس الجيد المجزع وهم يزدرعون مرتين في العام: مرة على النيل إذا خرج عندهم وأخرى على الثرى، وملك غانة إذا احتفل انتهى جيشه مائتي ألف، منها رماة أربعون ألفاً.
غاردة:
حصن عظيم بينه وبين مدينة برونه من مدن لنقبرده عشرون ميلاً، وهو معقل حصين إلى أبعد غاية، وفيه كانت أموال ملوك لنقبرده في الأزمان السالفة. حدَّث من رأى فيها جعاباً عظيمة مثل كبار التراس لا يقلّها إلا رجلان وأكثر. وحصن غارده هذا على بحيرة عذبة الماء طولها مجرى ثلاثة أيام وعرضها مجرى يوم، وهي كثيرة السمك جليلته.
غافق (6) :
بالأندلس بقرب حصن بِطْرَوش وهو حصن حصين ومعقل جليل، في أهله نجدة وحزم وجلادة وعزم، وكثيراً ما تسري
__________
(1) الاستبصار: 219.
(2) الاستبصار: الغابة.
(3) الاستبصار: دبا.
(4) الاستبصار: غياروا، وكذلك عند البكري: 177. البكري (مخ) : 31. وعند الإدريسي (د) : 905: غيارة، وسيأتي حديث المؤلف عنها بعد مادّتي ((غاردة)) و ((غافق)) .
(5) اضطربت كتابة هذه اللفظة في ص ع بين: النورة، الندرة، البدرة.
(6) بروفنسال: 139، والترجمة: 126، ومعظمه عن الإدريسي (د) : 213.(1/426)
إليهم سرايا الروم فيستنقذون منهم غنائمهم ويخرجونهم من أرضهم، والروم تعلم بأسهم وبسالتهم فيتجنبونهم.
غيارو (1) :
في بلاد السودان، بينها وبين غانة نحو عشرين يوماً في عمائر متصلة، وبين مدينة غيارو والنيل اثنا عشر ميلاً، وفيها كثير من المسلمين، وفي أهلها نجدة ومعرفة، وهم يغيرون على بلاد لملم ويسبونهم ويأتون بهم ويبيعونهم من تجار غانة، وبين غيارو ولملم ثلاث عشرة مرحلة، وبينها وبين غانة إحدى عشرة مرحلة، وهي طاعة لصاحب غانة، وإليه يؤدون لوازمهم.
الغدير (2) :
مدينة بقرب المسيلة من البلاد الزابية، وبينها وبين قلعة بني حماد ثمانية أميال، وهي مدينة حسنة أهلها بدو، ولهم مزارع وأرضون مباركة، والحرت بها قائم، والمسافة بينها وبين المسيلة ثمانية عشر ميلاً.
وهي مدينة (3) أولية بين جبال، فيها عين ثرة عذبة عليها الأرحاء، وعين أخرى وتحتها عين خرّارة، ومن هناك ينبعث نهر سهر، وبمدينة الغدير جامع وأسواق عامرة وفواكه كثيرة، وهي رخيصة الطعام واللحم وجميع الثمار، قنطار عنب فيها بدرهم، وسكانها هوارة يعتدون في ستين ألفاً، وهي ما بين سوق مهرة وطبنة، وهي على مرحلتين من طبنة.
غدامس:
في الصحراء على سبعة أيام من جبل نفوسة.
وهي (4) مدينة لطيفة قديمة أزلية إليها ينسب الجلد الغدامسي، وبها دواميس وكهوف كانت سجوناً للملكة الكاهنة التي كانت بإفريقية، وهذه الكهوف من بناء الأولين، وفيها غرائب من البناء والآزاج المعقودة تحت الأرض يحار الناظر فيها إذا تأملها، تبين أنها آثار ملوك سالفة وأمم دارسة، وأن تلك الأرض لم تكن صحراء وأنها كانت خصيبة عامرة. وأكثر طعامهم التمر والكمأة، وتعظم الكمأة في تلك البلاد حتى تتخذ فيها اليرابيع والأرانب أجحاراً. ومن غدامس يدخل إلى بلد تادمكة وغيرها من بلاد السودان.
وبينهما أربعون مرحلة، وأهلها بربر مسلمون وملثمون على عادة بربر الصحراء من لمتونة ومسوفة وغيرهم.
الغريّان (5) :
بالكوفة، يُقال إن النعمان بناهما على قبر عمرو بن مسعود وخالد بن نضلة لما قتلهما، قالت هند بنت معبد بن نضلة ترثيهما:
ألا بكر الناعي بخير بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
غرغة (6) :
اسم جبل في بلاد زغاوة من أرض السودان فيه نمل على قدر العصافير، هي أرزاق لحيات طوال غلاظ تكون في هذا الجبل، يقال إنها قليلة الضرر، والسودان يقصدون هذا الجبل يتصيدون فيه هذه الحيات ويأكلونها.
غرنتل (7) :
في بلاد السودان، بلد كبير ومملكة جليلة لا يسكنها مسلمون ولكنهم يكرمونهم ويخرجون لهم عن الطريق إذا دخلوا بلادهم، وعندهم الفيلة والزرافات ومن غرنتل إلى غيارو.
وهي على (8) ضفة النيل، وهي مدينة لطيفة القدر في سفح جبل وشرب أهلها من النيل، وأكلهم الذرة، ولباسهم الصوف، وعندهم الحوت والألبان، وهم يضربون في تلك البلاد بضروب التجارات التي تدور بين أيديهم.
الغربال:
أكمة كبيرة يجوز عليها ماء الحنية العادية المجلوب من جبل زغوان إلى معلقة قرطاجنة قبل الإسلام، أظنه سمي الغربال لأن فيه كان الماء يتصفى فيخرج عنه صافياً خالصاً، وهو موضع مشرف منفرج، وهو الذي عنى العابد محرز بن خلف في القصيدة المنسوبة إليه يقول فيها:
ومن بعده التدمير يا صاح قد بنى ... بها طيطراً (9) ثم القناة فأبدعا
__________
(1) الإدريسي (د/ ب) : 9/ 10 (OG: 26) .
(2) الإدريسي (د/ ب) : 92/ 64.
(3) البكري: 59، وقارن بالاستبصار: 166.
(4) الاستبصار: 145، وقارن بالبكري: 182.
(5) معجم ما استعجم 3: 995 - 996.
(6) الإدريسي (د/ ب) : 36/ 21 (OG: 112) .
(7) ص ع: غربيل، وكذلك عند الإدريسي (د) : 905، وأول المادة عن البكري: 177.
(8) الإدريسي (د/ ب) : 9/ 10 (OG: 26) .
(9) الطيطر او الطياطر: هو الملعب (المسرح: (Theatre) .(1/427)
وشيد مجراها سنين لعدة ... ثلاث مئين بعد ذاك وأربعا
وألفت من عين (1) بجقّار بعضها ... ومن لمنس (2) ؟ البعض حتى تجمعا
فلما انتهى الغربال دبر أمرها ... وأنزلها ما بين ذلك أذرعا
غزة (3) :
موضع بديار جذام من مشارف الشام على ساحل البحر، وبها قبر هاشم بن عبد مناف، وفيه يقول الشاعر يرثيه:
ميت بردمان وميت بسل ... مان وميت عند غزات
غزال (4) :
ثنية بين الجحفة وعسفان، قال كثيّر:
قلن عسفان ثم رحن سراعاً ... قاطعاتٍ ثنية من غزالِ
غزنة (5) :
مدينة من مدن خوارزم منها أبو الفضل محمد بن أبي يزيد طيفور السجاوندي الغزنوي مصنِّف كتاب " عين المعاني في تفسير القرآن العظيم ".
وفي سنة ست عشرة وأربعمائة وصل كتاب محمود بن سبكتكين سلطان خُراسان من مستقره بغزنة إلى خليفة بغداد أبي العباس أحمد القادر بالله أمير المؤمنين، يذكر فيه غزاة غزاها إلى بلاد الهند، ويصف ما سنّاه الله تعالى للإسلام من فتوحات وغنائم على يديه، أطال فيه القول، وكان المنشور في مائة طبق منصورية.
وعلى مقربة من غزنة موضع يقال له بلخشان تقدم في حرف الباء.
وفي سنة سبع عشرة وستمائة عاث الططر في بلاد غزنة والسند وما إلى تلك الجهات، وكان منهم فيها من القتل والنهب والإحراق والتخريب ما تصم عنه الأسماع.
قالوا: ولم يبتل العالم بمثل كائنة الططر في عصر من الأعصار، فإنهم خرجوا من حدود الصين وملكوا معظم الأرض في نحو سنة، ولم يبلغ الاسكندر ولا بخت نصّر هذا المبلغ في هذه المدة، وإنما استقام لهم هذا الأمر بسبب عدم المانع، لأن خوارزم شاه كان قد استولى على ممالك المشرق وقتل ملوكها، فلما كسره الططر لم يجدوا من يخلفه في كل مملكة، لينفذ قضاء الله وقدره. وكان بها، حين نزلها الططر، جلال الدين خوارزم شاه في ستين ألف فارس، فقاتلهم ثلاثة أيام فكانت العاقبة له، وتصايح الناس: أحيا الله دولة خوارزم شاه بكَ يا جلال الدين، وقتل من الططر خلق لعب الصبيان برؤوسهم، ثم جاءوا في جيش ثان فكسرهم جلال الدين أيضاً، ثم جرت بين المسلمين فتنة على الغنائم فتفرقوا واستهزءوا بالططر وظنوا أنهم قد فلوا حدهم، فلما بلغ ذلك جنكزخان سار بنفسه إلى جلال الدين، ومعه جمهور الططر، فوجدوا المسلمين متقاتلين ومتفرقين، وبلغ الخبر جلال الدين، فسار إلى بلاد الهند، فلما انتهى إلى مهران، وهو النهر العظيم الذي ينزل إلى السند، فلم يقدر على عبوره بعسكره، والططر في اتباعه، فاضطروه إلى المصافة، فأدركه جنكزخان في جموع عظيمة، فدامت الحرب بينهم ثلاثة أيام، وقتل من الفريقين ما لا يحصى، ودخل جلال الدين مع أصحابه السفن، ورجع الططر إلى غزنة فدخلوها، لا حامي دونها، فتركوها دكّاء بعدما قتلوا أهلها وفعلوا ما جرت به عادتهم، والمشهور على ألسنة العجم أنه كان فيها اثنا عشر ألف مدرسة، فقس على هذا من أمرها ما يطول تفسيره.
غلوة (6) :
مدينة في بلاد النوبة على ضفة النيل أسفل من مدينة دمقلة، بينهما مسيرة خمسة أيام في النيل، وماؤهم من النيل وشربهم منه، وعليه يزرعون الشعير والذرة، وعندهم من البقول السلجم والبصل والقثاء والبطيخ، وأهلها يسافرون إلى بلاد مصر.
__________
(1) ص ع: بحقار، وصوبناه من البكري: 44 حيث يذكر أن الماء يجلب إلى قرطاجة من عين جفار وسترد عند المؤلف ((جوقار)) .
(2) اللفظة غير معجمة في ص ع، ولم أهتد إلى تصويبها.
(3) معجم ما استعجم 3: 997.
(4) معجم ما استعجم 3: 996.
(5) قد تقدم ذكر هذه المدينة تحت اسم ((عربة)) . ولكن المؤلف هناك اعتمد مصدراً جغرافياً. وهنا ينقل عن مصدر تاريخي أو عن عدد من المصادر؛ وفي كشف الظنون: السبحاوندي.
(6) وضع هذه المادة هنا من أوهام المؤلف، لأنها ((علوة)) بالعين المهملة. كما هي في الإدريسي (د) : 19 وعنه ما نقل هنا، غير أن المؤلف معذور، لأنها وردت في كثير من أصول نزهة المشتاق بالغين المعجمة، وهي كذلك أيضاً في النسخة التي أعتمدها. وقارن بما ورد عند اليعقوبي: 335، وابن حوقل: 61.(1/428)
وطول بلاد النوبة على النيل مسيرة شهرين وأكثر.
غليانة (1) :
مدينة بجزيرة صقلية، كان نزل عليها المسلمون سنة خمس عشرة ومائتين في زمن زيادة الله بن الأغلب، ملك القيروان وعملها، وكان نائبه بها عثمان بن قرهب (2) ، وكان وصل إذ ذاك من الأندلس مراكب كثيرة، وأمير الأندلس إذ ذاك عبد الرحمن بن الحكم، كانوا فصلوا من طرطوشة يريدون بلاد الروم، فأخرجتهم الريح إلى صقلية، فنزلوا جزيرة طرابنش من صقلية، فأصاب الأندلسيون فيها كثيراً وفتحوا معاقل، وأثروا في الروم آثاراً كثيرة. ثم صار المسلمون بأجمعهم إلى غليانة فحصروها وتغلبوا على ربضها وغنموا ما فيه، ووقع الوبأ في المسلمين هناك، فمضوا بأجمعهم إلى ناحية طرابنش من صقلية، وصاحب أمر الروم يقتص آثارهم وينتهز الفرصة فيهم، لكثرة المرضى والضعفاء، فلما ألح عليهم صاحب الروم وأحرجهم كرّوا (3) عليه فقاتلوه، وأفرغ الله تعالى عليهم الصبر، فقتلوا عامة الروم وغنم المسلمون خيلهم وسلاحهم وقتلوا تدوطة (4) صاحب أمرهم، ثم اختلف الأمر بين صاحب الأندلسيين وصاحب الافريقيين، وصار مع كل واحد منهما طائفة، ثم رجع الناس بجزيرة صقلية إلى عثمان بن قرهب واستقاموا فضيقوا على أهل بلرم حتى سألوا الأمان، فأجابهم المسلمون إلى ذلك، وخرج بطريقها ومن معه، وغنم المسلمون ما فيها. وكان النصارى ببلرم يوم نزول المسلمين عليها سبعين ألفاً فلم يبق منهم عند خروجهم لطول الحصار وموالاة القتل عليهم ووقوع الموتان فيهم إلا نحو ثلاثة آلاف، واستوطن المسلمون مدينة بلرم واستولوا على ما جاورها، فكان فتحها سبباً لافتتاح الجزيرة، وبعث ابن قرهب إلى زيادة الله بن الأغلب بهدايا من الرقيق وغير ذلك، فاستقل ذلك وعزله وقدَم للجزيرة غيره.
غلمونة:
حصن غلمونة آخر ممالك الروم، وهو المجاور لروس إقليم الصقلب البلقارين والترك المادين مع خط الشمال، وعلى حصن غلمونة دخول الأتراك وخروجهم، وهو كالباب لبلادهم، وأهله نصارى يتكلمون بالعجمية.
ومن حصن غلمونة إلى حصن أنقولاية (5) خمسون ميلاً في فحص فيه سبعة أجبل في كل جبل حصن يسمى الطالع (6) ، وأهلها لا يحرثون ولا يزدرعون إلا يسيراً، ولا ينتشرون على بعد في حوائجهم إنما معاشهم من أشجار وكروم حوالي الحصون، والطريق من حصن غلمونة إلى أنقولاية (7) مخوف من أجل الأتراك لذلك بنيت هذه الطلائع.
غمدان (8) :
قصبة صنعاء باليمن، كان الضحّاك بناه على اسم الزهرة، وخربه عثمان بن عفّان رضي الله عنه، فصار تلاً عظيماً، وقد كان أسعد بن يعفر صاحب مخاليف اليمن في وقته أراد أن يبنيه فأشير عليه بأن لا يفعل، إذ كان بناؤه على يدي غلام يخرج من بلاد سبأ وأرض مأرب فيؤثر في صقع هذا العالم تأثيراً عظيماً. وحكى الجاحظ أنه كان أربع عشرة طبقة بعضها فوق بعض، وكان ملوك اليمن إذا قعدوا على أعلى هذا البنيان بالليل وأشعلت السرج رئي ذلك على مسيرة أيام كثيرة.
وقد ذكره جد أمية بن أبي الصلت إذ قال في مدحه لسيف بن ذي يزن في القصيدة المشهورة:
فاشرب هنيت عليك التاج مرتفعاً (9) ... في رأس غمدان داراً منك محلالا لأنه كان حلفَ ألا يشرب خمراً حتى يدرك ثأره من الحبشة.
وأنشد ابن إسحاق (10) لذي جدن الحميري:
دعيني لا أباً لكِ لن تطيقي ... لحاكِ الله قد أَنزفت ريقي
وغمدان الذي حدثت عنه ... بنوه مسمَّكاً في رأس نيقِ وفيه جلس سيف بن ذي يزن لما فرغ من أمر الحبشة، ووفدت
__________
(1) (Gagliano) .
(2) ع ص: موهب.
(3) ص ع: كبروا.
(4) ع ص: بروطة؛ واسمه (Teodoto) .
(5) ع: أبقولاية.
(6) ص ع: الطابع.
(7) ع: نقولاية.
(8) البكري (مخ) : 21، وصبح الأعشى 5: 40، وقارن بما في الإكليل 8: 12، وياقوت (غمدان) ، ومعجم ما استعجم 3: 1002.
(9) الرواية المشهورة: هنيئاً ... مرتفقاص.
(10) السيرة 1: 38.(1/429)
عليه وفود العرب يهنئونه، وجاء فيهم عبد المطلب بن هاشم وعرفه، وكان بينه وبينه من الخطاب والبشارة بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم ما هو مشهور في التواريخ. وقد ذكر المسعودي غمدان في البيوت المعظمة.
الغميصاء (1) :
موضع في ديار بني جذيمة من بني كنانة، وهناك أصاب منهم خالد بن الوليد ما أصاب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إليه عند فتح مكة ومعه بنو سُلَيْم، وكانت بنو كنانة قتلتْ في الجاهلية الفاكه بن المغيرة عمّ خالد وعوف بن عبد عوف والد عبد الرحمن، وهما صادران من اليمن، ثم عقلتهما وسكن الأمر بينهم وبين قريش، وكان لبني سُلَيم أيضاً في بني كنانة ذحول، فأسرعوا فيهم القتل بالغميصاء، وفي ذلك قيل:
فكم فيهمُ يومَ الغميصاء من فتىً ... أصيبَ ولم يُشْمَلْ له الرأْسُ واضحا
وكائن ترى يوم الغميصاء من فتى ... أصيب ولم يجرح وقد كان جارحا فبعضهم يرى أنهم كانوا مسلمين، وأن خالداً أوقع بهم ليدرك بثأر عمه، ولذلك قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم وداهم وقال: " اللهم إني أبرأ إليك ممّا صنعه خالد ".
غسان (2) :
ماء بسد مأرب، كان شرباً لولد مازن بن الأزد فسموا به، ويقال: هو ماء بالمشلل قريب من الجحفة والذين شربوا منه فسموا به قبائل من ولد مازن بن الأزد بن الغوث وقال حسّان (3) :
إما سألتِ فإنا معشر نجب ... الأزدُ نسبتنا والماءُ غسَّانُ
غوران:
مدينة في بلاد الترك صغيرة، يسكنها ملك صنف من الأتراك له جنود وقواد وعُمّال، وله حزم واجتهاد واحتراس من أعدائه المجاورين له، ويحيط بهذه المدينة مع مدن ثلاث غيرها جبل يستدير عليها استدارة النون، لا يدخل إليها إلا على فم ضيق يسعه القليل من الرجال، وهذا الفم عليه عقد من الجبل إلى الجبل جسور من الصخور، ويشق هذا الفم الذي يدخل منه إلى البلاد نهر كبير يأتي من داخل الجبل، ويخرج على فم هذا المضيق ويتصل جريه إلى بركة عظيمة خارج الجبل، وعلى هذه البركة قوم ظواعن ينتقلون في كل أرض.
الغوير:
نفق في حصن الزبا، وفيه قيل المثل: عسى الغوير أبؤساً، قالته الزبا. وذلك أن الزبا لما قتلت جذيمة قال قصير بن سعد لعمرو ابن أخت جذيمة: ألا تطلب بثأر خالك؟ قال: وكيف أقدر على الزبا وهي أمنع من عقاب لوح الجو، فأخرجها مثلاً، فقال قصير: اعمد إلى سرتي (4) فاصطلمها واجدع أنفي وأذني، واضرب ظهري ضرباً موجعاً، ودعني وإياها، ففعل ذلك، فلما سار إليها أعلمها سبب قصده إياها، وأن عمراً قد فعل ذلك به لما توهمه أنه أشار على جذيمة بالإقبال إليها حتى فعلت به ما فعلت، فصدقته وظنَّتِ الأمر كما وصف، ووعدته بالإحسان إليه، فأحسن خدمتها وأظهر النصيحة وحسنت منزلته عندها، وتحلى عندها بالتجارة وزينها لها، فبعثت معه مالاً وإبلاً إلى العراق، فصار قصير إلى عمرو في سرٍّ وأخذ منه مالاً وزاده على مالها واشترى طرفاً من طرف العراق ورجع إليها فأراها الأرباح، فسرَّتْ به، ثمّ جهَّزته مرة أخْرى فأضعف لها المال حتى عجبت من ذلكَ، وازدادت به سروراً وغبطة، فلما كانت المرة الثالثة أعدَّ لها جوالق وأدخل في الجوالق رجالاً بسلاحهم، وذلك بموافقة من عمرو، وقد سار معه، فكانا يسيران الليل ويكمنان بالنهار، ومع ذلك فإن الزبّا لما بعد خبره عنها سألت عنه فقيل لها: أخذ الغوير، فقالت: عسى الغوير أبؤساً، فأرسلتها مثلاً، ودخل قصير إلى الزبا والعير متأخرة عنه، فقال لها: قفي فانظري إلى العير، فرقت سطحاً لها، فجعلت تنظر إلى العير وهي تمشي قليلاً قليلاً فأنكرت مشيتها وقالت:
ما للجِمالِ مشيها وئيدا ... أجندلاً يحملن أمْ حديدا ... أم صرفاناً بارداً شديدا ... أمَ الرجال جثماً قعودا ... والصرفان: الرصاص، فانتهوا إلى الحصن الذي هي فيه وقد أظلم
__________
(1) معجم ما استعجم 3: 1006، وقازن بالسيرة 2: 428 - 436.
(2) عن السيرة 1: 9 - 10، وقارن بياقوت (غسان) .
(3) ينسب أيضاً إلى سعد بن الحصين جد النعمان بن بشير.
(4) ص ع: شرتي.(1/430)
الليل، وشغلت هي ولم ترتب بقصير، فلما دخلت العير المدينة تقدم قصير فوقف على الباب وعليه بوّابون من النبط وفيهم رجل بيده سفَود فطعن جولقاً منها فأصاب رجُلاً، وقال البوّاب: الشرّ الشرّ فانتضى قصير سيفه فضرب به البوّاب فقتله، وجاء عمرو على فرسه فدخل الحصن، وبركتِ الإبل، وحلَتِ الرجال الجوالق ومثلوا في المدينة بالسلاح، وكانت الزبا قد اتخذت سرباً أجرت به الماء من قصرها إلى قصر أختها، فقصده عمرو وقد كان وصفه له قصير، ووصف له الزبا، وكانت الزبا وصف لها عمرو بصورته على كل حالاته، تريد بذلك أن تعرفه لتأخذ حذرها منه، فلما رأت الزبا عمراً عرفته، فولت هاربة، فلحقها عمرو، فلما أيقنت بلحاقه إياها مصَّتْ خاتماً في يدها مسموماً وقالت: بيديَ لا بيدك يا عمرو، فماتت مكانها، وقيل إنه جللها بالسيف، ثم استباح بلادها واستولى على ملكها، وقيل: بل إنما أصل المثل: عسى الغوير أبؤساً أنه كان غار فيه ناس، فانهار عليهم وأتاهم فيه عدو فقتلهم فصار مثلاً لكل شيء يخاف عليه أن يأتي منه شيء ثم صغر الغار والأبؤس جمع البأس.
الغور:
غور تهامة. وهو أيضاً قرية عظيمة بينها وبين بلخ ثلاثة فراسخ. ومن بيسان إلى طبرية يسمى الغور لأنها بقعة بين جبلين وسائر مياه الشام تنحدر وتجتمع فتكون بحراً زخاراً أوله من بحيرة طبرية، وجميع الأنهار تنصب إليه مثل نهر اليرموك وأنهار بيسان وما ينصب من جبال بيت المقدس وجبل قبر إبراهيم عليه السلام، وجميع ما ينصب أيضاً من نابلس يجتمع الكل حتى يقع في بحيرة زغر وتسمى بحيرة سادوم وعامورا، وهما كانتا مدينتي قوم لوط عليه السلام فغرقهما الله تعالى، ومكانهما بحيرة ميتة لأنها ما فيها شيء له روح ولا حوت ولا دابة، وماؤها حارّ كريه الرائحة، وفيه سفن صغار تحمل الغلات وصنوف الثمر إلى أريحا وسائر أعمال الغور، وطول هذه البحيرة ستون ميلاً في عرض اثني عشر ميلاً، وهذه البحيرة الميتة تُرى من أعلى بيت المقدس، وإليها ينتهي ماء بحيرة طبرية، وهو الأردن، فإذا انتهى إلى البحيرة الميتة (1) ، خرقها وانتهى إلى وسطها، وهو نهر عظيم لا يدرى أين غوصه من غير أن يزيد في البحيرة الميتة.
ومن البحيرة الميتة تخرج الأحجار التي تستعمل لوضع الحصى، وهو نوعان ذكر وأنثى: فالذكر للرجال والأنثى للنساء، وأكثر نبات بلاد الغور النيل وأهلها سمر إلى السواد.
الغوطة (2) :
قيل هي قصبة دمشق، وقيل هو موضع متصل بدمشق من جهة باب الفراديس، جبال ومزارع.
وطول الغوطة (3) مرحلتان في عرض مرحلة، وبها ضياع كالمدن وجامع قريب الشبه بجامع دمشق والغوطة أشجار وأنهار ومياه محدقة تشق البساتين، وبها من أنواع الفواكه ما لا يحيط به تحصيل خصباً وطيباً.
وفي الخبر (4) أن معاوية رضي الله عنه لما رأى القتل في أهل الشام يوم صفين، وكلب أهل العراق عليهم، تجهم لنعمان بن جبلة التنوخي، وكان صاحب راية قومه من تنوخ وبهراء، وقال له: والله لقد هممت أن أولي قومك من هو خير منك مقاماً وأنصح جيباً، فقال له النعمان: إنا لو كنا ندعو إلى حيسٍ مجموع لكان في الرجال بعض الأناة، فكيف ونحن ندعوهم إلى سيوف قاطعة وردينية شارعة، وقوم ذوي بصائر نافذة، والله لقد نصحتك على نفسي، وآثرت ملكك على ديني، وتركت لهواك الرشد وأنا أعرفه، وحدتُ عن الحق وأنا أبصره، وما وفقت لرشدي حين أقاتل عن ملكك ابنَ عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوّلَ مؤمن به ومهاجر معه، لو أعطيناه ما أعطيناك لكان أرأف بالرعية، وأجزل في العطية، ولكن قد بذلنا لك أمراً لا بد من إتمامه، غياً كان أو رشداً، وحاشا أن يكون رشداً. وسنقاتل عن تين الغوطة وزيتونها إذ حرمنا ثمار الجنة وأنهارها، وخرج إلى قومه وصمد للحرب.
ويخرج (5) ماء الغوطة من عين تنحط من أعلى الجبل كالنهر العظيم لها صوت هائل ودوي عظيم يسمع على بعد.
غيطة (6) :
جزيرة للنصارى بإزاء نابل، بينهما مجرى على المجاز إلى صقلية، عرض المجاز ستة أميال.
__________
(1) سقط من ع.
(2) معجم ما استعجم 3: 1008.
(3) نزهة المشتاق: 116.
(4) مروج الذهب 4: 365.
(5) عاد إلى النقل عن نزهة المشتاق.
(6) ذكر الإدريسي (م) : 78 غيطة (Gaeta) وقال إنها مدينة القطر كثيرة الأهل، موضعها قرطيل منقطع عن البر ولها مرسى حسن مأمون مشتى ... ومنها غرليان (Garigliano) خمسة عشر ميلاً.(1/431)
فراغ(1/432)
حرف الفاء
فاراب (1) :
في بلاد الترك فيها مسلحة للمسلمين ومسلحة للأتراك، منها (2) أبو نصر محمد بن نصر الفارابي المتفلسف، كان معاصراً للمتنبي، ويُحْكى أن المتنبي لما قال (3) :
ومن أنفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر قال له الفارابي: خطبت يا أبا الطيب، فسرَّ المتنبي بذلك وأظهر الفرح.
فارس:
بلد معروف، أصله بالفارسية بارس بالباء، يضم عشر كور، منها: سابور واصطخر وازدشير وأرجان وغيرها.
فاضح (4) :
موضع بمكة، سمي بذلك لأن مضاض بن عمرو والسميدع التقيا به فتقاتلا فقتل السميدع، وفضحت قطورا، فسمي بذلك فاضحاً.
فاران:
جبال فاران بالحجاز، وقيل أن في التوراة ذكر جبال فاران، ومدينة فاران في قعر جون، وهي مدينة صغيرة يأوي إليها بعض عرب تلك الناحية. قالوا: وفي بحر فاران غرق فرعون.
فامية:
بالعراق، وفامية بالشام بين أنطاكية وحِمْص.
وحكى الأوزاعي قال: بلغني أن أبا هريرة رضي الله عنه نزل فامية فلم يضفه أحد، فلما رأى ذلك وضع سفرته، ثم دعا إليها فلم يجبه أحد، فلما رأى ذلك ارتحل، فقيل لهم: هذا أبو هريرة، فلحقوه فجعلوا يعتذرون إليه، فقالوا: ما عرفناك، فقال: أما تنزلون إلا من تعرفون؟ ما أنتم من الدين على مثل هذا، وأخذ هدبة من ثوبه.
فارع (5) :
أطم حسَّان بن ثابت رضي الله عنه بالمدينة، قال:
أرقت لتوماض البروق اللوامع ... ونحن نشاوى بين سلع وفارع
فاختة (6) :
مدينة من كور كرمان صالحة فيها منبر، ولها أسواق، وسمّاها المأمون مرو الكبيرة، وهي أنزه موضع، والغالب عليها أشجار اللوز والغبيراء والجوز والرمّان والسفرجل، وبالجملة ففواكهها تفضل على سائر فواكه البلدان. وحمل منها المعلى (7)
__________
(1) كانت فاراب (باراب) تعد عاصمة مقاطعة اسيبجاب، وقد ذكر المقدسي: 273 أن عدد سكانها كان يبلغ 70 ألفاً، وقارن بياقوت (فاراب) .
(2) يذكر ابن حوقل: 418 وسيج ويقول: ومنها أبو نصر البارابي صاحب كتب المنطق المفسر لكتب القدماء والمتقدم في ذلك على كل من كان في زماننا وعصرنا وأيامنا.
(3) ديوان المتنبي: 175.
(4) قارن بياقوت (فاضح) .
(5) معجم ما استعجم 3: 1013.
(6) هي باختة عند ابن حوقل: 273. وتصحفت في نزهة المشتاق: 132 فكتب ((ناجية)) وقال الإدريسي: وهي صغيرة حسنة صالحة العمارات ولها أسواق وبها صناعات؛ ومنها إلى السيرجان ثلاثمائة ميل ومنها إلى جيرفت جنوباً ستون ميلاً.. وناجية مدينة جليلة الزراعات والأشياء إليها جلب.
(7) ص ع: أبو المعلى.(1/433)
ابن طريف إلى الرشيد سفرجلاً ورماناً ففضلهما، ورمانها إمليسي، وحمل إليه منها آلة للَّهْوِ يُقال لها الزنج تشبه الصنج، له سبعة عشر وتراً (1) فلما استحضره قال: من لنا بمن يضرب به. فقال: لم أحمله إليك إلا وقد تعلمته، فدعا (2) به وأمره بالضرب وأحضر وصيفة تسقيهما، فضرب على الزنج ونظر إلى الوصيفة ثم غنى:
ممكورة الساقين صفر الحشا ... خلخالها يسقط من رجلها
لا والذي أصبحتُ عبداً له ... ما نظرتْ عيني إلى مِثْلها
ممشوقة كالغصن ميالة ... جارية أفرق من ظلها فقال له الرشيد: لا تفرق من ظلها يا معلى، هي لك، خذها وانصرف إلى عملك، ولست أعزلك عنه ما حييت (3) ، فرجع وبنى قصر المعلى واتخذ بها ضياعاً.
الفارياب (4) :
مدينة من الجوزجان أصغر من الطالقان قطراً، وهي أكثر خلقاً وأوفر عمارة وبساتين ومياهاً جارية، وفيها طرز وصنائع وتجار مياسير، وبها مسجد جامع.
وكان أهل الفارياب (5) قد جمعوا للأحنف بن قيس حين وجهه إليهم ابن عامر في أربعة آلاف فلقوه في ثلاثين ألفاً، ثلاثة زحوف فهزمهم الله تعالى ونصر المسلمين.
فاس (6) :
مدينة عظيمة، وهي قاعدة المغرب، وهما مدينتان مقترنتان يشق بينهما نهر كبير يسمى وادي فاس، يأتي من عيون تسمى عيون صنهاجة، وفي كل زقاق ساقية يجرونها متى شاءوا، وفي كل دار صغيرة كانت أو كبيرة ساقية ماء، وبين أهل المدينتين فتن ومصاولات، وفيهما معاً ضياع ومعايش ومبان سامية وقصور، ولأهلها اهتمام بحوائجهم، ونعمها كثيرة، والحنطة بها رخيصة، وفواكهها كثيرة، وخصبها زائد، وفي أهلها عزة ومنعة، ومنها إلى سجلماسة ثلاث عشرة مرحلة.
وبالجملة فمدينة فاس (7) قطب بلاد المغرب الأقصى ويسكن حولها قبائل من البربر، لكنهم يتكلمون بالعربية، فهي حضرة المغرب الكبرى وإليها تشد الركائب وتقصد القوافل، وتجلب إلى حضرتها كل غريبة من الثياب والبضائع والأمتعة، وأهلها مياسير ولها من كل شيء حسن أوفر حظ.
ويدور عليها سور عظيم، وبين المدينتين قناطر كثيرة، وتطَّرِد فيها جداول لا تحصى تخترق كلتا المدينتين، وفيها عيون كثيرة لا تحصى، وهي أبداً تتزيد في مواضع الانخفاض من المدينة، وفيها أرحاء للماء نحو ثلثمائة وستين رحىً يضمها السور، سوى الأرحاء التي خلف السور، وهي في التزيد، وربما وصلت أربعمائة، والنهر الذي يخترق مدينتي فاس ينبعث من عين عظيمة لها منظر عجيب، فيها نحو الستين فوارة في دائرة يجتمع منها هذا النهر الكبير، بينها وبين المدينة نحو عشرة أميال في بساط من الأرض لا يكاد يتبين جري الماء فيه لاستواء أرضه.
ومدينة فاس (8) محدثة، أسست عدوة الأندلسيين في سنة اثنتين وتسعين ومائة، وعدوة القرويين في سنة ثلاث وتسعين ومائة، في ولاية ادريس بن ادريس الفاطمي، ومن ذريته بقايا إلى اليوم (9) ، ومدينة فاس اليوم في نهاية العمارة والصلاح، قد بنيت أكثر جنانها الملاصقة لها دوراً وأضيفت إليها، وفيها اليوم ثلاثة جوامع بثلاث خطب، جامع عدوة الأندلس، وهو جامع كبير متقن البناء، يقال إن ابن أبي عامر زاد فيه، وجامع عدوة القرويين أكبر من جامع عدوة الأندلس، وزيد في العهد القريب في هذا الجامع باب كبير مشرف جميل المنظر من جهة الجوف، وسقاية متقنة البناء ملاصقة له، ماؤها من الوادي، وجلب لها ماء عين هو في أيام الحر في نهاية البرد، وفي أيام البرد فيه بعض
__________
(1) قال المسعودي (المروج 8: 90) وكان غناء أهل خراسان وما والاها بالزنج وعليه سبعة أوتار وإيقاعه يشبه إيقاع الصنج.
(2) ص ع: فهلا.
(3) ص ع: جيته.
(4) قارن بياقوت (فارياب) ، والمؤلف ينقل عن نزهة المشتاق: 144.
(5) انظر الطبري 1: 2897.
(6) الإدريسي (د/ ب) : 75/ 50، وقارن بالبكري: 115 وما بعدها، في كل المادة، وابن الوردي: 14، وفي صبح الأعشى 5: 154، نقل عن الروض.
(7) الإدريسي (د/ ب) : 79 53.
(8) الاستبصار: 180.
(9) يعني في عهد صاحب الاستبصار، وعلى وجه الدقة سنة 587.(1/434)
الحرارة، وكذلك صنع بجوفيّ جامع القرويين سقاية متقنة البناء ومياه جارية مع عتبة الباب الجوفي، وفوارة مرتفعة نصف قامة داخل الصحن، فعل كل ذلك في حدود سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وكذلك بقصبة السلطان جامع شريف معظم فيه الخطبة، أحدثها فيه خلفاء بني عبد المؤمن لأن القصبة منحازة عن البلد بسور، فوجب أن يكون فيها جامع وفي كل عدوة شريعة لخطبة العيد.
ومدينة فاس كثيرة الخصب والرخاء كثيرة البساتين والمزدرعات والفواكه وجميع الثمار، ولها أنظار واسعة متصلة العمائر، وعدوة القرويين من هذه المدينة أكثر بساتين وأشجاراً ومياهاً وعيوناً (1) من عدوة الأندلسيين، وكلاهما خصيبة عظيمة القدر، ويقال إن رجال عدوة الأندلس أشجع وأنجد من رجال عدوة القرويين ونساؤهم أجمل من نساء القرويين، ورجال القرويين أجمل من رجال الأندلسيين، ويقال أن بعدوة الأندلسيين تفاحاً حلواً (2) يعرف بالاطرابلسي جليل حسن الطعم والرائحة، يصلح بها ولا يصلح بعدوة القرويين، وكذلك بعدوة القرويين أترج جليل يجود بها ولا يجود بعدوة الأندلسيين، وكذلك سميد عدوة الأندلسيين أطيب من سميد عدوة القرويين، وهذه المدينة قصبة (3) بلاد المغرب، وكملت بهجتها في أيام بني عبد المؤمن، ومنها يتجهز إلى بلاد السودان وإلى بلاد المشرق، ومنها يحمل النحاس الأصفر إلى جميع الآفاق.
وموقع (4) وادي فاس بوادي سبو على نحو ثلاثة أميال من المدينة، ووادي سبو هذا نهر عظيم من أعظم أنهار بلاد المغرب منبعه من جبل بني وارتين ورأس العين في شعراء (5) غامضة يهاب الداخل الدخول فيها، وهي دهسة عظيمة لا يدرك لها قعر، وللبربر المجاورين لذلك الموضع فيها تجارب، منها أن المريض إذا أرادوا أن يعلموا هل يعيش أو يموت حملوه لرأس العين فيغطسونه في ذلك الموضع المهول حتى يقرب أن يهلك ثم يخرجونه، فإذا خرج على فيه دم استبشروا بحياته وإلا أيقنوا بهلاكه وهذا عندهم متعارف لا ينكر. ويتصيّد في هذا الوادي الشابل الكثير ويطلع إلى رأس العين أو قريب منه، ويدخل في ذلك الوادي الحوت الكثير.
وبين فاس وتلمسان عشرة أيام في عمائر متصلة، وكانت فاس دار مملكة بني ادريس العلويين وملكوا منها بلاد المغرب كلها إلى أقصى بلاد السوس طاعة في معصية، وكانت في أيامهم دولة برغواطة الذين تدينوا بديانة القدري صالح بن طريف البرغواطي، وملك العلويون بعض بلاد الأندلس، وتسمّوا بأمراء المؤمنين، وخطب لهم بالإمامة.
ومن فاس أبو عمران الفاسي الفقيه الإمام المشهور بالعلْم والصلاح وهو أبو عمران موسى بن عيسى بن أبي حجاج الغفجومي الفاسي (6) ، توفي بالقيروان في الثالث عشر من شهر رمضان سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وقال أبو عمر بن عبد البر: وُلِدْتُ مع أبي عمران في سنة واحدة، سنة ثمان وستين وثلثمائة.
فازار (7) :
هو من الجبال المشهورة في بلاد المغرب، وهو جبل كبير تسكنه أمم كثيرة من البربر، يطردهم الثلج عنه فينزلون إلى ريف البحر الغربي، وهم يكسبون من البقر والغنم والخيل، وخيل هذا الجبل من أعتق الخيول لصبرها وخدمتها، وهي مدورة القدود حسنة الخلق والأخلاق، ولحوم غنمه أطيب اللحوم، وفي هذا الجبل أنواع النبات من العقاقير التي تنصرف في العلاجات الرفيعة، وفيه خشب الأرز العتيق الغالي، وهو مأوى القردة، وهي تثب من أرْزة إلى أخرْى في الجو الأعلى، وفي هذا الجبل قلعة تنسب للمهدي بن توالا في نهاية المنعة، أقام عليها عسكر الملثمين سبعة أعوام وبناؤها بالألواح، وإليها كان تغريب المعتمد محمد بن عباد فقال متمثلاً: غرّبنا (8) بنقض العهود، لبلد أهله يهود، وبناؤه عود، وجيرانه قرود. وكان اليهود في ذلك التاريخ أكثر سكانه لأنهم سوقة فيلجؤون إلى الحصن تحوطاً على سلعهم.
فحص البلوط (9) :
بالأَندلس، بينه وبين قُرْطُبة مرحلتان أو ثلاث، ومن هذا الفحص جبل البرانس، وفيه معدن الزئبق ومن هناك يُحْمل إلى الآفاق، وبهذا الجبل الزيتون المتناهي في الجودة،
__________
(1) ص ع: أكثر بساتين وأشجار ومياه وعيون.
(2) ص ع: تفاح حلو.
(3) ص ع: قطر.
(4) النقل مستمر عن الاستبصار: 184 بعد الاستغناء عن تفصيلات كثيرة وردت فيه.
(5) الاستبصار: بئر.
(6) انظر الديباج المذهب: 344.
(7) ص ع: فاران؛ والمادة عن الاستبصار: 187.
(8) ع ص: غريباً وفي الاستبصار: حزيناً.
(9) بروفنسال: 142.(1/435)
وبموضع يقرب من معدن الزئبق جبل يعرف بجبل المعز، في شعراء هناك حجر يسمى حجر العابد، في وسطه قَلتْ، وهي حفرة على قدر الصفحة بمقدار ما يدخل الإنسان فيها يديه ويملؤهما من ماء هناك فيشرب أو يصنع به ما احتاج إليه فيأتي إليه النفر الكثير فيكفيهم ويرجع إلى حدّه لا يغيض ولا يغور. وذكر من رآه أنه جاءه في نيف وثلاثين رجُلاً أو نحو ذلك، وهذا معروف هناك.
وبهذا الفحص بلاد وأسواق، وجباية هذا الفحص في عهد الأمير محمّد ألفان اثنان، ويتصل بأحواز فحص البلوط أحواز فريش وتنتظم قراه بقراها.
وإلى فحص البلوط ينسب القاضي أبو الحكم منذر بن سعيد البلوطى، وقد مرّ ذكره في حرف الباء.
فحص تل:
من أحواز بونة بإفريقية، وهذا الفحص من أطيب أرض إفريقية مزدرعاً، منه الشيخ أبو مروان (1) الفحصيلي، أحد الصالحين الأبدال، له كرامات وأخبار رحمه الله، وهو مدفون بالمسجد الجامع ببونة، وبازائه كان قبر الأمير أبي زكريا رحمه الله.
فحص أبي صالح (2) :
بإفريقية أيضاً وبقرب جبل زغوان، كان أبو صالح مولى حسان بن النعمان نزله حين وجهه حسّان إلى محاصرة قلعة زغوان، فسمي الفحص به، وحاصرهم أبو صالح ثلاثة أيام فلم يقدر منهم على شيء، فرحل إليه حسّان في خيل مجردة ففتحها صلحاً، وقد مرَّ ذلك في حرف الزاي.
فحل (3) :
موضع أو مدينة بالشام، فيه كانت الوقيعة بين المسلمين والروم في إِمرة أبي عُبَيدة بن الجرّاح رضي الله عنه، وهي من مشاهير أيامهم، حضرها معاذ بن جبل وخالد بن الوليد، وأمير الناس أبو عبيدة بن الجرّاح، فقتلوا منهم في المعركة نحو خمسة آلاف، وقتلوا في عسكرهم حين دخلوه نحواً من ألفين، وخرجوا عباديد منهزمين، وخيْل المسلمين تتبعهم وتقتلهم، حتى اقتحموا في فحل، وفحل مطلّة على أهوية تحتها الماء فتحصنوا فيها، وأصاب المسلمون منهم نحواً من ألفي أسير فقتلهم المسلمون وأقبل أبو عبيدة رضي الله عنه حتى دخل عسكرهم وحوى ما فيه، وصار من بقي من العدو في الحصون وقد قتل الله منهم مقتلة عظيمة، وغلبوا على سواد الأردن وأرضها، وكتب أبو عبيدة إلى عمر رضي الله عنهما بالفتح، ولما رأى أهل فحل أن الأردن قد غلبوا عليها سألوا الصلح على أن يؤدوا الجزية، فصالحهم المسلمون وكتبوا لهم كتاباً.
فخ:
بالخاء المعجمة من فوق، من فجاج مكة، بينه وبين مكة ثلاثة أميال، وقيل ستة أميال، وفي الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل بفخ قبل دخوله مكة، وبفخ كانت وقعة الحسين وعقِبِه، قاله البكري (4) ، وذلك أن الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن (5) بن علي رضي الله عنهم كان قام بالمدينة أيام موسى الهادي، ثم خرج إلى مكة في ذي القعدة سنة تسع وستين ومائة، وخرج معه جماعة من بني عمه وإخوته منهم يحيى وإدريس ابنا عبد الله بن حسن، وبلغ الهادي خبره فخلا بنفسه ليلته جمعاء فجعل يكتب كتباً بخطه ونحى كل من كان بحضرته من غلام وغيره، فغمَّ خاصته خلوته، وكان لهم غلام صغير يقف على رأسه، فدسوه ليعرف خبره، فعلم ما يريد فقال وهم يسمعون متمثلاً:
رقد الأولى ليس السرى من شأنهم ... وكفاهم الادلاج من لم يرقدِ قال المسعودي (6) : وكان على الجيش الذي حاربه جماعة من بني هاشم منهم سليمان بن أبي جعفر ومحمد بن سليمان بن علي
__________
(1) ص: أبو هرون الفحصلي؛ وقد ورد ((أبو مروان)) في تاريخ الدولتين: 24، وقد كتبه محققاً الفارسية: 114 أبو مروان اليحصبي (وغيراه عما صورته: المحصيلي، وهو قريب من صورة الاسم هنا) ولعله الفحصيلي أو الفحصتلي؛ وقد مر ((أبو مروان الفحصلي)) واضحاً في ما تقدم (مادة ((بونة)) ) .
(2) ذكره ابن أبي دينار (المؤنس: 58) وقال: هو الفحص المعلوم في زماننا قريب من بلد زغوان؛ قلت: وقد نزل فيه أبو يزيد مخلد بن كيداد في بعض تنقلاته محارباً العبيديين.
(3) أورد الازدي: 109 - 126 خبر فحل مفصلاً، وقارن بفتوح البلاذري: 137.
(4) معجم ما استعجم 3: 1015، ويبدو أن هناك إشكالاً في قوله ((وعقبه)) ؛ ولعل صوابها ((وعصبته)) أي قومه من بني أبي طالب وأثبتها محقق البكري ((وعقبة)) ، وفي خبر صاحب فخ انظر مقاتل الطالبيين: 431 - 460.
(5) ع: الحسين.
(6) مروج الذهب 6: 266.(1/436)
وموسى بن عيسى بن موسى والعباس بن محمد بن علي في أربعة آلاف فقتل الحسين وأكثر من كان معه، وأقاموا ثلاثة أيام لم يواروا حتى أكلتهم السباع والطير، وكان معه سليمان بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهم، فأسر في هذا اليوم وضربت عنقه بمكة صبراً وقتل معه عبد الله بن الحسن بن (1) إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي، وأسر الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي فضربت عنقه صبراً، وأخذ لعبد الله بن الحسن بن علي (2) وللحسن (3) بن علي أمان، فحبسا عند جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك، وقتلا بعد ذلك، فسخط الهادي على موسى بن عيسى لقتله الحسين بن علي بن الحسن وترك المصير به إليه ليحكم فيه بما يرى، وقبض أموال موسى، وأظهر الذين أتوا بالرأس الاستبشار، فبكى الهادي وزجرهم وقال: أتيتموني مستبشرين كأنكم أتيتموني برأس رجل من الترك والديلم، إنه رأس رجل من عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا إن أقل جزائكم عندي ألا أثيبكم شيئاً، وفي الحسين بن علي صاحب فخ يقول بعض شعراء ذلك العصر من أبيات:
فلأبكينَّ على الحسي ... ن بعَوْلَةٍ وعلى الحسنْ
وعلى ابن عاتكةَ الذي ... أثووه ليس له كفن
تركوا بفخ غدوة ... في غير منزلة الوطن
كانوا كراماً قتّلوا ... لا طائشين ولا جُبُن
غسلوا المذلةَ عنهم ... غسل الثياب من الدرن
هُديَ العباد بجدهم ... فلهم على الناس المنن (4) وقال سلم الخاسر في ذلك:
إنَّ المَنايا وهي غدّارة ... صادت حسيناً ثانياً يوم فخْ
أوقد ناراً خابياً ضوءها ... لم يغن للإيقاد فيها بنفخ
كبيذق لم يحمه شاهه ... فشنجته ضربة شاه رخ وقال داود بن علي بن عبد الله في ذلك (5) :
يا عين بكى بدمع منك منحدر ... فقد رأيت الّذي لاقى بنو حسن
صرعى بفخ تجرُ (6) الريح فوقّهمو ... أذيالها وغوادي دلح المزن
حتى عفت أعظم لو كان شاهدها ... (7) محمّد ذب عنها ثم لم تهن
ماذا يقولون والماضون قبلهم ... على العداوة والشحناء والأحن
ماذا نقول إذا قال الرسول (8) لنا ... ماذا صنعتم بنا في سالف الزمن
لا الناس من مضر حاموا ولا غضبوا ... ولا ربيعة والأحياء من يمن
يا ويحهم كيف لم يرعوا لهم حرماً ... وقد رعى الفيل (9) حق البيت ذي الركن وهرب يحيى وادريس ابنا عبد الله بن حسن، فأما ادريس فوقع إلى بلاد المغرب، ويأتي خبره إن شاء الله تعالى في رسم مليلة من حرف الميم، وأما يحيى فاختفى ثم تجول في البلدان.
وبفخ أيضاً كانت مقابر المهاجرين، إذ (10) كل من جاور منهم بمكة فمات يدفن هناك.
فدك (11) :
معروفة (12) ، بينها وبين المدينة (13) يومان، وحصنها يقال له الشمروخ، بقرب خيبر، وكان أهل فدك قد صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) مروج الذهب: عبد الله بن إسحاق.
(2) زاد في ص ع: بن علي.
(3) مروج الذهب: وللحسين.
(4) إلى هنا ينتهي النقل عن مروج الذهب.
(5) وردت في مقاتل الطالبيين: 460، وبعضها في ياقوت (فخ) .
(6) ع ص: الرياح.
(7) ص ع: لم يهن.
(8) مقاتل الطالبيين: ماذا يقولون إن قال النبي لهم.
(9) ص ع: الليل.
(10) ص ع: من.
(11) معجم ما استعجم 3: 1015، وصبح الأعشى، وخلاصة الوفا: 396.
(12) ص ع: معرفة.
(13) معجم البكري: خيبر.(1/437)
على النصف من ثمارها في سنة ست، وكانت له خالصة لأنه لم يوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب، وكان معاوية وهبها لمروان ثم ارتجعها منه سنة ثمان وأربعين لموجدة وجدها عليه، ولما ولي عمر بن عبد العزيز ردَّ فدك إلى ما كانت عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت له خالصة في أيام إمرته (1) تغل له عشرة آلاف دينار فتجافى عنها.
الفدوين (2) :
مدينة في بلاد السودان، عندهم بركة عظيمة يجتمع فيها الماء، ينبت فيها نبات أصله أبلغ شيء في تقوية الجماع والمعونة عليه، وملك تلك المدينة لا يسمح بإخراجه من بلده، وله من النساء عشر إذا أراد أن يطوف عليهن أنذرهن قبل ذلك بيوم، ثم استعمل ذلك الدواء ولا يعجز عن الطواف عليهن كلهن، وأهدى له بعض الملوك المجاورين له هدية نفيسة واستهداه شيئاً منه، فعاوضه عن هديته وكتب له: إن المسلمين لا يحل لهم من النساء إلا القليل، وقد خفت عليك إن بعثت إليك بشيء من هذا الدواء ألا تقدر على إمساك نفسك، فتأتي ما لا يحل لك في شريعتك، ولكني بعثت إليك عوداً يأكله العقيم فيولد له. ويبدل في هذه المدينة الملح بالذهب لعدمه عندهم.
الفراض (3) :
هي تخوم الشام والعراق والجزيرة، ولما قصدها خالد بن الوليد رضي الله عنه أفطر فيها في رمضان في تلك السفرة التي اتصلت له فيها هذه الغزوات والأيام، ونظمن نظماً إلى ما كان قبل ذلك منه.
قالوا (4) : ولما اجتمع المسلمون بالفراض حميت الروم واغتاظت واستمدوا تَغْلِب وإياداً والنمر، فأمدوهم بأجمعهم، واجتمعوا كلهم على كلمة واحدة، ثم ناهدوا خالداً، حتى إذا صار الفرات بينه وبينهم قالوا: إما أن تعبروا إلينا وإمّا أن نعبر إليكم، قال: بل اعبروا إلينا، قالوا: فتنحَوا حتى نعبر، فقال خالد رضي الله عنه: لا نفعل، ولكن اعبروا أسفل منا، فقالت الروم وفارس بعضهم لبعض: احتسبوا ملككم، هذا رجُل يقاتل عن دِين، وله عقل وعلم، ووالله لينصرن ولتخذلنّ. ثم لم ينتفعوا بذلك، فعبروا أسفل من خالد رضي الله عنه، فلما تتاموا قالت الروم: امتازوا حتى نعرف اليوم (5) ما كان من حسن أو قبيح من أيّنا يجيء، ففعلوا، ثم اقتتلوا قتالاً شديداً طويلاً، ثم هزمهم الله تعالى. وقال خالد رضي الله عنه للمسلمين: ألحُوا عليهم، فجعل صاحب الخيل يحشر منهم الزمرة برماح أصحابه، فإذا جمعوهم قتلوهم، فقتل يوم الفراض في المعركة في الطلب مائة ألف، وأقام خالد رضي الله عنه على الفراض بعد الوقعة عشراً ثم أذن بالقفل إلى الحيرة، وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بهم، وأمر شجرة بن الأعز أن يسوقهم، وأظهر خالد رضي الله عنه أنه في الساقة. وخرج من الفراض حاجّاً لخمسٍ بقين من ذي القعدة متكتماً بحجه، ومعه عدة من أصحابه يعتسف البلاد حتى أتى مكة بالسمت، فقضى حجّه ثم أتى الحيرة، وقد تأتى له من ذلك ما لم يتأت لدليل ولا ريبال، وبقية الخبر في رسم قراقر من حرف القاف.
لفُرُع (6) :
بضم أوله وثانيه، من أعمال المدينة. قالوا: وهي أول قرية مارت إسماعيل عليه السلام التمر بمكة وكانت من ديار عاد. ورووا أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل في موضع المسجد بالبرود من مضيق الفرع، فصلَّى فيه، والفرع على الطريق من مكة إلى المدينة.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أحرم من الفُرُع، ومات عروة بن الزبير بالفُرُع ودُفِن هناك سَنَةَ أربع وتسعين.
والفرُع من أشرف ولايات المدينة لأن فيها مساجد للنبي صلى الله عليه وسلم نزلها مراراً وأقطع فيها لِغِفَار وأسلم قطائع وصاحبها يجبي اثني عشر منبراً، منبر منها بالفُرُع.
فرياب (7) :
في بلاد خُراسان من الجوزجان، وهي أصغر مساحة من الطالقان، إلا أنها أكثر بساتين ومياهاً، وهي مدينة صالحة تجمع ما يكون في المدن من الصناعات، وبناؤهم بالطين، وليس للمسجد الجامع فيها منارة، وبين الفرياب واليهودية من مدن
__________
(1) ص: إمارته.
(2) ص: الفدين؛ وقد وقعت مادة في ص بعد التالية لها.
(3) الطبري 1: 2073، وراجع مادة ((ديلمايا)) في ماتقدم.
(4) النقل مستمر عن الطبري.
(5) ع: الروم.
(6) المادة كلها عن معجم ما استعجم 3: 1020 - 1021.
(7) قال ياقوت إنها مخففة من فارياب، وقد مرت مادة ((فارياب)) في الروض، وقال فيها هنالك ((مدينة من الجوزجان أصغر من الطالقان قطراً)) . وهو عين ما قاله هنا. وقوله ((وليس للمسجد الجامع فيها منارة)) مما أورده الإدريسي في نزهة المشتاق: 144 عن الفارياب.(1/438)
الجوزجان مدينة يُقال لها موريان وإلى فرياب ينسب محمد بن يوسف الفريابي صاحب التفسير وشيخ البخاري.
الفَرَماء (1) :
وقد تقصر، مدينة تلقاء مِصْر.
وهي أول (2) مدن مصر من جهة الشمال، وبها أخلاط من الناس، وبينها وبين البحر الأخضر ثلاثة أميال.
وهي مدينة (3) كبيرة قديمة أزلية فيها آثار عجيبة تدل على أنها كانت دار مملكة، ويقال إن الذي بناها هو الفرما الملك. ووجه ابن المدبَر لما وصل مصر إلى الفرما لهدم أبواب رخام بها في شرقي الحصن احتاج أن يعمل منه فرشاً في داره، فمنعه من ذلك أهل الفرما، وخرجوا إلى رسله بالسلاح وقالوا: هذه الأبواب التي ذكرها الله تعالى في كتابه على لسان يعقوب عليه السلام " يا بَنِيَّ لا تدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أبْوابٍ مُتَفرَقَةٍ ".
ومن العجائب أن نخل الفَرَماء يثمر حين ينقطع البسر والرطب من جميع البلاد، فيكون رطب نخل الفَرَماء في كانون الأول، حين تلد النخل في كل مكان، فلا ينقطع أربعة أشهر، ولا يوجد هذا في بلد من البلاد سوى الفَرَماء، وهو تمر كبير، في وزن التمرة عشرون درهماً وطولها فتر.
الفُرات (4) :
أحد الأنهار الستة الكبار المشهورة وهي النيل ودجلة والفرات ومهران السند وجنجون (5) الهند وخمدان (6) الصين وجيحون خراسان.
ويخرج الفرات من داخل بلاد الروم ومن جبال متصلة بقالي قلا من ثغور ارمينية ثم يمر في بلاد الروم، ويمتد حتى يصير إلى ملطية حتى يكون منها على ميلين، ثم يمتد إلى سميساط فيحمل من هناك السفن إلى بغداد ثم يمتد من سميساط (7) ماراً في جهة الجنوب مائلاً مع الشرق إلى ساحل جرجان كذا ثم إلى الرافقة ويجتاز بالرقة إلى قرقيسيا، وهناك يصب في نهر الخابور إلى عانة إلى هيت إلى الأنبار، ومن هناك ينزل نهر عيسى إلى بغداد، ثم يصير خلجانَاً أربعة وتتفرق في البطائح.
وفي الخبر النبوي من حديث مسلمِ: " لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب يقتتل الناس عليه، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون، ويقول كل رجل منهم: لعلي أكون أنا الذي أنجو به ". وفي طريق آخر: " يوشك أن يحسر الفرات عن كنز من ذهب " الحديث.
وقد أحسن النابغة الذُبياني في وصف حال الفرات في قوله يذكر ممدوحه:
فما الفُراتُ إذا هب الرياح له ... ترمي غواربُهُ العبرينِ بالزبدِ
يمدّه كل وادٍ مترع لجب ... فيه رُكام من الينبوت والخضد
يظل من خوفه الملاحُ معتصماً ... بالخيزرانة بعد الأين والنجد
يوماً بأجود منه سيبَ نافلة ... ولا يحولُ عطاء اليوم دون غدِ وعَبَر المسلمون، في الفتح الأول، الفرات إلى المدائن لمحاصرتها، ويأتي ذلك إن شاء الله تعالى مشروحاً في ذكر المدائن.
وفي السنة التي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى، وذلك سنة سبع زاد الفرات ودجلة زيادة لم ير مثلها، واتسعت بثوق عظام حملت السكور والمسنيات وطلب الماء الوهاد، فجهد أبرويز أن يردها ويقيم شاذرواناتها، فغلب الماء وطمى على العمارات، فغرق الكور والسطوح. وشغلت الأعاجم بحرب العرب فطمى الماء وزاد فلما ولَّى معاوية عبد الله بن دراج مولاه العراق غلب الماء بالمسنيات والسكور، واستخرج به من الأرض ما بلغت عليه خمسة عشر ألف ألف، واستخرج الحجاج أيام الوليد ما غمر الماء من أرض البطيحة نحو خمسين فرسخاً في مثلها.
__________
(1) معجم ما استعجم 3: 1022.
(2) اليعقوبي: 330، والخطط 1: 211.
(3) الاستبصار: 89.
(4) في وصف الفرات انظر ابن رسته: 93، والتنبيه والإشراف: 51، وياقوت (الفرات) .
(5) ص ع: وجيحون؛ وهو جنجس (الكنج) .
(6) ص ع: ويعنون.
(7) ص: شمشاط.(1/439)
فرَبر (1) :
مدينة بينها وبين بخارى ثلاث مراحل، وهي من البلاد التي خلف النهر من بلاد خُراسان، وبينها وبين جيحون نحو ميل، وهي مدينة حسنة صغيرة كثيرة الجبايات كثيرة الخصب والخير، ولها قرى عامرة ورساتيق، وهي مضمومة بجملتها إلى بخارى.
ومن فَرَبْر محمد بن يوسف الفَربري (2) راوية كتاب البخاري، عنه، جاء عنه أنه كان يقول: سمع كتاب الصحيح لمحمد بن اسماعيل تسعون ألفاً فما بقي أحدٌ يرويه غيري.
فِرّيش (3) :
موضع بالأَندلس بين الجوف والغرب من قرطبة، فيها معدن رخام، والغالب على أشجارها القصطل، وبها معادن حديد، وتتصل أحواز فِرّيش بأحواز فحص البلوط، وبينها وبين قرطبة مرحلتان، وبها قرية تُعْرَف بقسطنطينة كانت مدينة عظيمة أولية، وفيها آثار كنائس ويقال إنها بنيت في أيام قسطنطين ملك الروم، وبينها وبين قرطبة أربعون ميلاً.
فرْنجولش (4) :
بالأَندلس بقرب حصن المدور. وهي مدينة جليلة كثيرة الكروم والأشجار، ولها بمقربة منها معادن الذهب والفضة بموضع يعرف بالمرج.
فروجة (5) :
مدينة بالمغرب، بينها وبين مراكش مرحلة، وهي في بطحاء كثيرة المياه والفواكه والخيرات.
فرغانة:
في خُراسان، بينها وبين سمرقند ثلاثة وخمسون فرسخاً، كان أنوشروان (6) بناها ونقل إليها من كل بيت قوماً، وفرغانة اسم الاقليم، وهو عريض موضوع على سبع مدائن، واسمها بالعجمية اخشيكث، وقيل أن فرغانة اسم الكورة، واسم قصبتها (7) اخشيكث، وهي على شط نهر الشاش على أرض مستوية، بينها وبين الجبل نحو نصف فرسخ، وهي على شمال النهر، ولها ربض كبير عليه سور، وقهندزها في المدينة، ودار الإمارة والحبس في القهندز، ومصلَّى العيد على النهر، ومقدارها في الكبر ثلاثة فراسخ، وفي مدينتها وربضها مياه جارية مقدار فرسخين، وأسواقها في ربضها ومدينتها جميعاً، وحذاء ما وراء النهر مروج ومزارع كثيرة، وبفرغانة معادن الذهب والفضة بناحية أخشيكث، ولها مدن كثيرة، وفي بعضها جبال بلق مؤلفة قطعةً سوداء حالكة، وأخرى حمراء قانية، وأخرى صفراء فاقعة، وفي جبال فرغانة شجر الطبرخون الذي يحمل بزرها إلى الآفاق، وهو ضرب من الترنجبين، ويحمل منها النوشادر.
فزان:
أظنه بين طرابلس وقابس (8) ، فيها قتل يحيى بن إسحاق الميورقي قراقشَ الأرمني مملوك تقي الدين أخي السلطان صلاح الدين بن أيوب، وكان دخل إفريقية من مصر في أخْريات المائة السادسة، فملك طرابلس وقابس وبعُد صيته وفض الجموع، ثم إنه اصطلح مع يحيى بن إسحاق الميورقي الطويل الفتنة ليعتضدا على ما كان بسبيله، وكان قراقش قد قتل جمعاً من أكابر دباب فغدروا به، وأمكنوا منه الميورقي، فضرب عنقه بفزان وصلبه هنالك.
فكان (9) :
مدينة على مرحلتين من أسلن (10) من أحواز تلمسان بالمغرب، وعلى فكان النزول، وهي مدينة كبيرة قديمة فيها آثار للأوَل، وكانت خربت فبعث إليها المنصور بن أبي عامر مَنْ بناها وعمرها، وهي قريبة من البحر. وكانت سوقاً قديمة من أسواق زناتة فمدنها يعلى بن محمد بن صالح اليفرني، فكان ابتداء تأسيسه لها سنة ثمان وثلاثين وثلثمائة، وارتحل إليها أهل العسكر
__________
(1) قارن بنزهة المشتاق: 213، والكرخي: 175، وابن حوقل: 403، والمقدسي: 291، والبكري (مخ) : 41، وياقوت واللباب (فربر) ، وانظر ضبط فرير في ابن خلكان (الحاشية التالية) .
(2) ابن خلكان 4: 290 (المصادر الأخرى مذكورة في الحاشية) . وقد توفي الفريري سنة 320.
(3) بروفنسال: 143، والترجمة: 171، وأكثر المادة عن الإدريسي (د) : 207، وانظر ياقوت (فريش) .
(4) بروفنسال: 143، والترجمة: 171 (Hornachuelos) وهي قرية صغيرة في مقاطعة قرطبة.
(5) الاستبصار: 210، وقال: يسمونها أفروجي ... وبالقرب منها مدينة تامروت.
(6) نزهة المشتاق: 217 والكلام عن أخشيكث: وتتمة الحديث عن أخشيكث، الورقة 218 وأكثر المادة عن ابن حوقل: 420 - 422.
(7) ص ع: كورتها.
(8) كان اسم ((فزان)) يطلق على المنطقة الواقعة بين طرابلس شمالاً وتبستي جنوباً، وهي منطقة تتناثر فيها الواحات التي تعد امتداداً لواحات القسم الأوسط من الصحراء الكبري. وقد ذكر الإدريسي (د) : 35 أن من مدن فزان: مدينة جرمة تساوة (التي تسمى جرمة الصغرى) .
(9) مزج بين ما أورده البكري: 79، والاستبصار: 135.
(10) ع ص: سلان.(1/440)
فعمرت وتمدنت وعظمت، وهي في سفح جبل وانشوبش (1) ، وهو بجوفيًها، وعلى فكان سورُ طوب، وبها جامع وحمّام وفنادق.
فلسطين:
في أول أحواز الشام، سميت بفلسطان بن فلان (2) ، من ولد كنعان بن حام بن نوح عليه السلام، وماؤها من الأمطار والسيول، وأشجارها قليلة وديارها حسنة، وهي أزكى بلاد الشام.
قال ابن عطية في تفسيره: يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى خصّ فلسطين بالتقديس، وقال الطبري: إن من فلسطين ظهر عيسى عليه السلام.
وفتحها معاوية سنة تسع عشرة، وفتح قيسارية، وقتل فيها ثمانون ألفاً.
وفلسطين عمل مشتمل على مدن كثيرة مثل ايليا وغزة ونابلس واللد وغيرها، ويقال إنها سميت باسم فلسطين بن فلان بن يونان بن يافث عليه السلام لنزوله بها.
وفلسطين (3) كانت ديار البربر في سالف الأزمان، وكان ملكهم جالوت، وهو سمة لسائر ملوكهم، إلى أن قتل داود جالوت، فساروا إلى ديار المغرب، فنزلت مزاتة ومغيلة وضريسة الجبال من تلك الديار، ونزلت لواتة أرض برقة، ونزلت هوارة بلاد طرابلس ونزلت نفوسة مدينة صبرة، وكانت هذه الديار للإفرنجة فأجلتها البرابر عنها، وتفرقت البرابر في بلاد إفريقية وطنجة إلى أقصى بلاد المغرب وانتهوا إلى موضع يعرف بقمونية على أكثر من ألفي ميل من بلد القيروان، ثم تراجعت الأفرنج إلى مدنهم وعمائرهم على موادعة وصلح من البربر، واختارت البربر سكنى الجبال والأودية والرمال في أطراف البراري والقفار، وصارت المدائن رومية، حتى فتحها المسلمون. والبربر قبائل كثيرة وشعوب جمة: هوارة وزناتة وضريسة ونفزة وكتامة ولواتة وغمارة ومصمودة ومزاتة وصدينة وصنهاجة، وللناس في البربر اختلاف كثير مشهور فلا نطوَل به.
فلج (4) :
حصن بينه وبين هجر ستة أيام، وبين هذا الحصن وبين مكة تسعة أيام. وقال قتادة: إن أصحاب الرس الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه كانوا أهل فلج، وقال الشاعر:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القومُ كل القوم يا أمّ خالدِ
فِنْيانة (5) :
قرية بقرب وادي آش من الأندلس، جامعة خطيرة كثيرة الكروم والتوت والبساتين وضروب الثمار، وكان بها طرز للديباج، والمياه تطَّرد في جميع جنباتها، وأهلها عجم ذوو يسار.
فندرينة (6) :
مدينة على الساحل من بلاد الهند، على جون تحط به مراكب التجار من جزائر الهند ومراكب السند أيضاً، ولأهلها أموال ياسرة ومتاجر ومكاسب، وعليها جبل كبير سامي العلو كثير الشجر عامر بالقرى والمواشي، وتنبت في حوافيه القاقلة، ومنها تحمل إلى سائر أقطار الأرض.
الفسطاط (7) :
اسم لمصر التي بناها مصرام بن حام بن نوح عليه السلام، سميت بفسطاط عمرو بن العاصي رضي الله عنه، وكان تركه هناك حين توجه للإسكندرية. قال اليعقوبي: لما فتح عمرو بن العاصي رضي الله عنه مصر اختط منازل العرب حول الفسطاط، فسمي الفسطاط لهذا، فمدينة مصر اليوم هي الفسطاط.
قالوا (8) : وسميت بذلك لأن عمرو بن العاصي رضي الله عنه حين دخل بلاد مصر ضرب فسطاطه بذلك الموضع، فلما أراد
__________
(1) البكري: أو شيلاس؛ ص: وانشريش.
(2) عند ياقوت: بفليشين بن كسلوخيم من بني يافث ... الخ.
(3) البكري (مخ) : 60، وقارن بالإدريسي (د) : 57، والاستبصار: 155، ورحلة التجاني: 160، ومروج الذهب 3: 241.
(4) يختلف تحديد فلج هنا عما ورد عند كل من ياقوت والبكري.
(5) بروفنسال: 143، والترجمة: 172 (Finana) تقع على بعد حوالي ثلاثين كيلومتراً إلى الجنوب الشرقي من وادي آش؛ وعند الإدريسي (د) : 201 حصن فنيانة.
(6) الإدريسي (ق) : 64 - 65، وفي نخبة الدهر: 173 فندارينه، ويقول: وغالب أهلها يهود وهنود ومسلمون، ونصاراها قليل؛ وانظر حسين نينار (AGK) : 34 - 35) ، وهو يرى أنها تقابل (Pantalayini Kollam) إحدى مدن ملبار؛ وقارن بما ذكره ابن بطوطة في رحلته: 563، 572، وفي صفحات متفرقة من كتاب ((تحققة المجاهدين)) معلومات عن فندرينة.
(7) انظر ياقوت (الفسطاط) ، وخطط المقريزي 1: 288 والمقدسي: 197، وابن الفقيه: 59، والمغرب (القسم الخاص بمصر) 1: 1 - 12، وابن عبد الحكم (صفحات مختلفة) وابن الوردي: 21.
(8) الاستبصار: 81.(1/441)
التوجه للإسكندرية لقتال من بها من الروم، أمر بنزع الفسطاط، فإذا فيه حمام قد أفرخ، فقال عمرو رضي الله عنه: لقد تحرم منا بحرم، فأمر بالفسطاط فأقر مكانه وأوصى عليه، فلما قفل المسلمون من الاسكندرية بعد فتحها قال الناس: أين ننزل؟ فقيل: الفسطاط، لفسطاط عمرو الذي تركه في المنزل بمصر. ثم بدأ عمرو بن العاصي رضي الله عنه فبنى المسجد، وبنى الناس مكان مصر الآن.
وهي مدينة (1) كبيرة في غاية من العمارة والخصب والطيب والحسن، فسيحة الطرقات قائمة الأسواق نافقة التجارات متصلة العمارات، لأهلها همم سامية، وطولها ثلاثة فراسخ، والنيل يأتيها من أعلى أرضها فيجتاز بها من ناحية جنوبها وينعطف مع غربيها، وبناء دُورها كلها وقصورها طبقات بعضها فوق بعض خَمْساً وستّاً وسبعاً، وربما سكن في الدار المائة من الناس، ومعظم بنائها بالطوب، وأكثر سفل ديارهم غير مسكون، ولها مسجدان جامعان للخطبة، أحدهما بناه عمرو بن العاصي رضي الله عنه في وسط السوق يحيط به من كل جهة، وكان في أوله كنيسة للروم فصيره عمرو جامعاً، والجامع الآخر بناه أحمد بن طولون وبنى أيضاً جامعاً آخر يسكنه العباد وناس من أهل الخير. وعلى الجملة فمصر عامرة بالناس، وفي أهلها رفاهية وظرف شامل وحلاوة، وفي جوانبها بساتين وجنات ونخل وقصب سكر، كل ذلك يسقى بماء النيل. وأرض مصر لا تمطر إنما هو ماء النيل، وليس في أرض مصر مما يلي النيل قفر، إنما هو كله معمور بالبساتين والأشجار والقرى والمدن والناس والأسواق والبيع والشراء، وبين طرفي النيل خمسة آلاف وستمائة وأربعة وثلاثون ميلاً، وقيل غير ذلك وعرضه في بلاد النوبة والحبشة ثلاثة أميال، وعرضه بمصر ثلثا ميل، وليس يشبه نهراً من الأنهار.
ويقابل مصر (2) جزيرة في النيل، فيها المباني والمتنزهات ودار المقياس، وهي دار كبيرة في وسطها فسقية كبيرة، وينزل إليها بدرج رخام، وفي وسط الفسقية عمود رخام قائم، فيه رسوم أعداد أذرع وأصابع بينها، والماء يصل إلى هذه الفسقية، ولا يدخلها الماء إلا عند زيادة النيل، ويكون في شهر أغشت، والوفاء من مائه ستة عشر ذراعاً، وهو الذي يروي أرض السلطان باعتدال، فإذا بلغ النيل ثمانية عشر ذراعاً أروى جميع الأرضين التي هناك، فإذا بلغ عشرين ذراعاً (3) فهو ضرر، وأقل زيادته اثنا عشر ذراعاً وهي أربع وعشرون اصبعاً والزائد على الثمانية عشر ذراعاً ضرر يقلع الشجر ويهدم، وما نقص عن اثني عشر ذراعاً فيه القحط والجدب وقلة الزراعة
فسّا:
بتشديد ثانيه (4) مقصور، مدينة من بلاد فارس، أنشد الأصمعي:
من أهل فسّا ودرابجرد ... والنسب إليها فسوي، وإليها ينسب أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي الفسوي (5) .
وبينها وبين (6) درابجرد أربعة وخمسون ميلاً، وفسا مدينة واسعة وأبنيتها أفسح وأتم من أبنية شيراز، والغالب عليها خشب الصنوبر والسرو، وهي عامرة بالناس والجلة والتجار والمياسير، وهي تقارب شيراز في كبر مقدارها وكثرة عمارتها، وهواؤها أصح من هواء شيراز، وعليها حصن حصين وأبواب خشب محددة، وحولها خندق واسع عميق، وبها ربض، وأكثر أسواقها في ربضها، وبها من غلات الرطب والبلح والجوز والاترج والسفرجل والقصب الحلو ما يقوت ويكفي ويزيد على الحاجة.
وكان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه بعث سارية بن زنيم إلى فسا ودرابجرد في جيش وأمره عليهم، وكان سارية في الجاهلية خليعاً وحسن إسلامه، ثم وقع في بال عمر رضي الله عنه وهو يخطب يوم الجمعة أنهم لاقوا العدوّ وهم في بطن واد، وقد هموا بالفشل، وبمقربة منهم جبل، فقال قي أثناء خطبته رافعاً صوته: يا سارية بن زنيم، الجبل الجبل، ظلم من استرعى الذئب، فحمل الله تعالى صوته وألقاه في سمع سارية، فانحاز بالناس إلى الجبل، وقاتلوا العدو من جنب واحد ففتح الله عليهم.
__________
(1) الإدريسي (د) : 142.
(2) النقل مستمر عن الإدريسي (د) : 144.
(3) زيادة من الإدريسي.
(4) لم أجد أحداً ضبط ((فسا)) بتشديد السين، وأصلها ((بسا)) وينسب إليها أيضاً: ((بساسيري)) .
(5) أبو علي الفارسي شيح ابن جني توفي سنة 377، انظر ابن خلكان 2: 90 وفي الحاشية ذكر لمصادر ترجمته.
(6) نزهة المشتاق: 126، وقارن بياقوت (فسا) ، والمقدسي: 423، والكرخي: 78.(1/442)
وفي خبر آخر (1) : قصد سارية بن زنيم فسا ودرابجرد حتى أفضى إلى عسكرهم فنزل عليهم وحاصرهم ما شاء الله، ثم استمدوا فتجمعت عليهم أكراد فارس، فدهم المسلمين أمرٌ عظيم وجمع كبير، ورأى عمر رضي الله عنه في تلك الليلة معتركهم وعدوّهم فنادى من الغد: الصلاةُ جامعة، حتى إذا كان في الساعة التي رأى فيها ما رأى خرج إليهم، وكان أريهم والمسلمون بصحراء إن أقاموا بها أحيط بهم، وإن أرزوا إلى جبل من خلفهم لم يؤتوا إلا من وجه واحد، ثم قام فقال: أيها الناس إني رأيت هذين الجمعين، وأخبر بحالهما، ثم قال: يا سارية، الجبل الجبل، ثم أقبل عليهم وقال: إن لله عزَّ وجلّ جُنوداً، ولعلّ بعضها أن يبلغهم، ولمّا كان تلك الساعة من ذلك اليوم أجمع سارية والمسلمون على الإسناد إلى الجبل، وقاتلوا القوم من وجه واحد فهزمهم الله تعالى، وكتبوا بذلك إلى عمر رضي الله عنه وباستيلائهم على البلاد.
وفي خبر آخر: أن عمر رضي الله عنه قال وهو يخطب يوم جمعة: يا سارية، الجبل الجبل، ثم دعا في خطبته، فعجب الناس لندائه سارية على بعده، وقضى الله سبحانه أن كان سارية وأصحابه في ذلك الوقت مواقفين للمشركين، وقد ضايقهم المشركون من كل جانب، وإلى جانب المسلمين جبل إن لجؤوا إليه لم يؤتوا إلا من وجه واحد، فسمعوا صوتاً يقول: يا سارية بن زنيم، الجبل الجبل، كما قال عمر رضي الله عنه في ذلك الوقت بعينه، فلجؤوا إلى الجبل فنجوا وهزموا العدوّ وأصابوا مغانم كثيرة، وأصاب (2) سارية في المغانم سفطاً فيه جوهر، فاستوهبه المسلمين لعمر رضي الله عنه، فوهبوه له، فبعث به وبالفتح رجلاً وقال له: استقرض ما تتبلغ به وما تخلفه في أهلك على جائزتك، وكان الرسل والوفد يجازون، فقدم الرجل البصرة، ثم خرج فقدم على عمر رضي الله عنه، فوجده يطعم الناس ومعه عصاه التي يزجر بها بعيره، فقصده، فأقبل عليه بها وقال: اجلس، فجلس، حتى إذا أكل انصرف عمر رضي الله عنه وقام الرجل فاتبعه، فظن عمر أنه لم يشبع، فقال حين انتهى إلى باب داره: ادخل، فلما جلس في البيت أتي بغدائه: خبز وزيت وملح جريش، فوضع له، ثم قال للرجل: ادنُ فكلْ، فأكلا حتى إذا فرغا قال له الرجل: رسول سارية بن زنيم، يا أمير المؤمنين، قال: مرحباً وأهلاً، ثم أدناه حتى مَسَّتْ ركبته ركبته، ثم سأله عن المسلمين وعن سارية، فأخبره، ثم أخبره بقصة الدرج، فنظر إليه ثم صاح به وقال: لا ولا كرامة حتى تقدم على ذلك الجيش فتقسمه بينهم، وطرده، فقال: يا أمير المؤمنين، إني أنضيت إبلي، واستقرضت جائزتي، فأعطني ما أتبلغ به، فما زال عنه حتى أبدله بعيره ببعير من إبل الصدقة، وأخذ بعيره فأدخله في إبل الصدقة، ورحل الرجل مغضوباً عليه محروماً حتى قدم البصرة، فنفذ لما أمر به عمر رضي الله عنه، وكان أهل المدينة سألوه عن سارية وعن الفتح، وهل سمعوا شيئاً يوم الوقعة، فقال: نعم سمعنا: يا سارية، الجبل الجبل، وقد كدنا نهلك، فلجأنا إليه ففتح الله تعالى علينا.
الفهمين (3) :
مدينة بالأندلس بالقرب من طليطلة، وكانت مدينة متحضرة حسنة الأسواق والمباني، وفيها بشر ومسجد جامع وخطبة قائمة، وملكها الروم لما ملكوا طليطلة.
فَيْد (4) :
مدينة في نصف الطريق بين مكة وبغداد، وأهلها طيء، وهي في أصل جبلهم المعروف بسلمى.
وفيها مات وكيع بن الجراح (5) منصرفاً من الحج سنة سبع وتسعين ومائة، قال مروان بن محمد الطاطري: ما وصف لي أحد إلا رأيته دون الصفة إلا وكيع بن الجراح، فإني رأيته فوق كل صفة، وما رأيت أحداً أخشع منه.
وبفَيْد نزل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما وجهه عمر رضي الله عنه بالجيوش لحرب العراق فأقام بها شهراً، وارتفع بالناس إلى زرود.
وفيد (6) هذه هي التي ينسب إليها حمى فيد، والغالب على فيد التأنيث، وقال لبيد:
__________
(1) تاريخ الطبري 1: 2700.
(2) الطبري 1: 2702.
(3) بروفنسال: 144، والترجمة: 172 (Alfamin) ، والمادة عن الإدريسي (د) : 188، وعند ياقوت (الفهمين) .
(4) قارن بياقوت (فيد) ، وابن حوقل: 40، والمناسك: 306، وقد كتب محققه حاشية هامة في التعريف بقيد ومت قاله الجغرافيون الأقدمون فيها، وانظر أيضاً ((أبو علي الهجري)) : 279 عن حنى فيد.
(5) لوكيع ترجمة في تاريخ بغداد 13: 468، وتهذيب التهذيب 11: 126.
(6) معجم ما استعجم 3: 1032.(1/443)
مرية حلت بفيد وجاورت ... أهل العراق فأين منك مرامها
فيروزاباد:
في بلاد فارس، منها الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزابادي الشيرازي الفقيه (1) ، لقيه أبو الوليد الباجي ببغداد، وأدخل كتبه إلى الأندلس: " التبصرة " في الفقه و " اللمع " في أصول الفقه و " المعرفة " في الجدل، وله تواليف كثيرة وكان إمام الشافعية، ودرس بالنظامية، شيخ أهل الدهر، وإمام أهل العصر، رحل الناس إليه من الأقطار، وقصدوه من كل الجهات، وكان يجري مجرى أبي العباس بن سريج، جاءته الدنيا صاغرة فأباها، واقتصر على خشونة العيش أيام حياته، وكان عامة المدرِّسين في العراق والجبال تلامذته وأتباعه، وصنَّف في الأصول والفروع والخلاف والمذهب، وكان زاهداً ورعاً متواضعاً كريماً سخيَاً حسن المجالسة مليح المحاورة، يضرب به المثل في الفصاحة حتى قال بعضهم:
لساني إذا عن الحوادثُ صارم ... ينيلني المأمولَ في الإثر والأثر
يقد فيفري في اللقاء كأنّه ... لسان أبي إسحاق في مجلس النظر وقال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ومعه صاحباه فقلت: يا رسول الله بلغني عنك أحاديث عن ناقلي الأخبار وأريد أن أسمع منك حتى أتشرف به في الدنيا وأجعله ذخيرة في الآخرة، فقال: يا شيخ، من أراد السلامة فليطلبها في سلامة غيره منه، فكان أبو إسحاق يفرح بهذا ويقول: سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم شيخاً.
وقال الشاشي: أبو إسحاق الشيرازي حجة على أئمة العصر، وكان إذا تكلم في مسئلة، وقال آخر سؤالاً غير متوجه، ينشد:
سارت مشرّقةً وسرتُ مغرباً ... شتان بين مشرق ومغرّبِ وقيل: أبو إسحاق أمير المؤمنين بين الفقهاء، ولما قدم الشيرازي رسولاً إلى نيسابور تلقاه الناس، وحمل إمام الحرمين أبو المعالي الجويني غاشيته ومشى بين يديه كالخديم، وكان ذلك بمشهد أكابر نيسابور، وقال: أنا أفتخر بهذا.
وعنه، قال الشافعي: حكمي على أصحاب الكلام أن يضربوا بالجرائد ويحملوا على الإبل ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويُقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسُنَّة وأخذ في الكلام.
وللشيرازي:
وما حبي لفاحشة ولكن ... رأيتُ الحبَّ أخلاقَ الكرامَ وله:
سألت الناس عن رجل وفي ... فقالوا ما إلى هذا سبيل
تمسك إن ظفرتَ بودِ حُر ... فإن الحر في الدنيا قليل ومات أبو إسحاق سنة ست وسبعين وأربعمائة وأول من صلى عليه الإمام المقتدي بأمر الله بداره في باب الفردوس.
الفيروج (2) :
هي جزيرة في البحر الأعظم، والفيروج بها صنم من زجاج أخضر يجري في عينيه دمع لا يزال يسيل على مرّ الأيام، زعموا أنه باك على قومه الذين كانوا يعبدونه، فغزاهم بعض الملوك واستباحهم وقتلهم، وأراد كسر الصنم، فكانوا إذا ضربوه بشيء لم يؤثر فيه، وعاد الضرب على ضاربه، فتركوه، وإذا دخلت الريح صفر صفيراً عجيباً.
فيرزكوه (3) :
هي قاعدة الغور في البلاد الخراسانية، كان
__________
(1) انظر في ترجمته ابن خلكان (الترجمة رقم: 5 من الجزء الأول) وتخريجاً بمصادر ترجمته في ملحقات الجزء السابع من ابن خلكان: 307، وراجع مقدمتي على طبقات الفقهاء (بيروت: 1970) .
(2) ع: الفيزج؛ ص: الفيرج؛ والنقل عن البكري (مخ) : 38، وقد تقرأ فيه ((الفيدوج)) ؛ وعند ابن الوردي: 72 الفندج.
(3) بعد سقوط أسرة محمود الغزنوي استقل الغوريون، وكانوا من قبل أعواناً للغزنويين واتخذوا مدينة فيرزكوه عاصمة لهم، وهي قلعة ضخمة في الجبال لا يعرف موقعها اليوم. وقد ظل الغوريون يحكمون حتى سنة 612 عندما تغلب عليهم خوارزمشاه وسقطت دولتهم التي كان سلطانها يمتد من دلهي حتى هرات، وانظر ياقوت (فيروزكوه) .(1/444)
تملكها خوارزم شاه وقتل غياث الدين بن غياث الدين بن سام صاحبها، ثم تملك الباميان وقتل صاحبها علي بن سام، وهو آخر ملوكهم ثم عطف في سنة اثنتي عشرة وستمائة (1) على غزنة التي كانت سرير السلطان محمود بن سبكتكين وولده من بعده بمعظم عساكره، وكانت حصلت في يد ألدز مولى شهاب الدين، فلما فرغ خوارزم شاه من تملك فيرزكوه قاعدة الغور عطف على غزنة، وتحيل عليها إلى أن خرج ألدز يوماً يتصيد، فأغلقها نائبه في وجهه على الذخائر العظيمة ورفع أعلام خوارزم شاه في قلعتها وطير بالخبر إلى خوارزم شاه، فوصل إلى غزنة واحتوى عليها، في خبر يطول.
الفيوم (2) :
في البلاد المصرية، وهو نظر كبير فيه قرى كثيرة، يقال إن فيه من القرى عدد ما في قطر مصر كلها من القرى فإن بوسف عليه السلام حين صنعه أنزل في كل قرية أهل بيت من قرى مصر، وصير لكل قرية من الماء بقدر ما يروي أرضها من غير زيادة ولا نقصان، ويقال أيضاً إن بالفيوم ثلثمائة قرية على عدد أيام السنة لا تقصر عن الري أبداً لحكمة شربها، فإذا نقص النيل في سنة من السنين وغلا السعر بمصر مارت كل قرية منها مصر يوماً.
وحجر اللهون بالفيوم من عجائب الدنيا، واللهون قرية كبيرة من قرى الفيوم، وهذا الحجر شاذروان بين طبقين من أحكم صنعة مدرج على ستين درجة، فيها فوارات في أعلاها وفي وسطها وفي أسفلها فتسقي العليا الأرض العليا والوسطى الأرض الوسطى، والسفلى الأرض السفلى بوزن وقدر لا ينقص لأحد دون حقه ولا يزيده فوق حقه، وهو من أحكم البنيان وأتقنه، قيل: ومن ذلك الوقت عرفت الهندسة.
وقد ذكر كثير من الناس أن يوسف عليه السلام عمله بالوحي، ولم يزل الملوك من الأمم يقصدون هذا الموضع ويتأملون حسن صنعته ويتعجبون من غرائب حكمته، ويقال إن الملك المعاصر ليوسف عليه السلام لما تأمله قال: هذا من ملكوت السموات، وهو من البناء الذي يبقى على غابر الزمان، ويقال إنه عمل من ثلاثة أشياء: من الفضة والنُحاس والرخام (3) ، وفي الضفة الغربية منه مسجد يقال له مسجد يوسف، والفيوم يشرب من ذراع اثني عشر وليس بأرض مصر موضع يشرب من ذراع اثني عشر غير الفيوم لحكمة بنيان هذا اللهون، وإنما ري أرض مصر يشرب من ذراع ستة عشر، فإذا زاد النيل على اثني عشر قطع الماء عن الفيوم، وإذا كان يوم سد حجر اللهون حضر ذلك شهود أهل تلك الجهة وأمراؤهم (4) بالطبول والبنود، والمهندسون من أهل تلك الجهة، فلم يكن لمن يدعي نقصاً من الماء عذر، وخرجت الأرسال عند ذلك بالبشائر إلى مصر، وهو عندهم يوم نوروز (5) ونزهة. وأهل الفيوم يزدرعون والماء باق على جميع أرض مصر، ويكون الحصاد عندهم وجميع من في أرض مصر لم يتم حرثه، فإذا كان حصاد أهل مصر كان ذلك أولَ السقية الثانية لأهل الفيوم، لأنهم يزدرعون في العام مرتين، ويزدرعون في السقية الثانية القمح والشعير والأرز فضلاً عن القطاني. والفيوم أخصب بلاد الله وأكثرها فاكهة. لا يعدم بها الرطب شتاء وصيفاً ولذلك غلتها أكثر جبايات مصر.
قيل وإنما سميت الفيوم لأن خراجها ألف دينار كل يوم، والفيوم في وسط بلاد مصر، فلا يؤتى إلى كورة الفيوم من ناحية من النواحي لا من صحراء ولا مفازة. ولمّا فتح عمرو بن العاصي بلاد مصر أقام سنة لا يعلم أين الفيوم ولا حيث مكانه، حتى بعث عمرو بنَ قيس إلى ناحية الصعيد، فأبطأ عليه خبره، فقال: من يأتينا بخبر ابن قيس؟ فقال ربيعة بن حبيب: أنا آتيك به، فركب ثم جاز النيل من الجهة الشرقية فلم ير شيئاً، فلما همَّ بالانصراف وسار قليلاً طلع سواد الفيوم فأتوا عمراً بخبره.
__________
(1) ص ع: وسبعمائة.
(2) المادة كلها عن الاستبصار: 90، وقارن بياقوت (الفيوم) ، والإدريسي (د) : 146 وخطط المقريزي 1: 245، وابن الوردي: 23، وعن اللاهون (اللهون) نقل في صبح الأعشى 3: 297 عن الروض.
(3) الاستبصار: والزجاج.
(4) الاستبصار: وأمروهم.
(5) الاستبصار: سرور.(1/445)
فراغ(1/446)
حرف القاف
قالي قلا (1) :
مدينة من مدن ارمينية مداخلة لبلاد الروم، وهي ثغر لأهل أذربيجان وارمينية، وهي مدينة حسنة جليلة عامرة، تغلب عليها الروم وعلى ما جاورها مرّات واستنقذها المسلمون من أيديهم، وبينها وبين تفليس أربع مراحل، ومنها ابتداء الأنهار العظام.
وإليها ينسب أبو علي إسماعيل بن القاسم بن عيذون القالي صاحب " النوادر ". قال الدينوري: سألت أبا علي لم قيل له القالي، فقال لي: انحدرت إلى بغداذ في رفقة فيها أهل قالي قلا، فانتسبت إلى قالي قلا، ورجوت أن أنتفع بذلك عند العلماء فمضى علي القالي.
قال الزبيدي (2) : وله تواليف كثيرة منها " النوادر " أملاه ظاهراً وارتجل تفسير ما فيه، وهو غاية في معناه، ومنها كتاب " الممدود والمقصور " وبناه على مخارج الحروف من الحلق ومنها كتاب " الإبل ونتاجها " ومنها " كتاب في خلق الإنسان " وكتابه في " فعلت وأفعلت " وكتابه في " مقاتل الفُرْسان " وكتابه " البارع في اللغة " بناه على حروف المعجم، توفي قبل أن ينقحه، سنة ست وخمسين وثلثمائة.
قاسان (3) :
مدينة في أقصى عمل فرغانة، صغيرة القطر عامرة بالناس، بها متاجر وصناعات، وبناؤها بالطين، وهي مدينة حسنة كثيرة الخصب والعمارات. وقاسان اسم للمدينة واسم للناحية أيضاً، ولها قرى كثيرة.
وأهل قاشان (4) حشوية جهال، والغالب على هذه النواحي الجبال الشاهقة إلا ما بين همذان إلى الري إلى قم فإن الجبال هناك قليلة، وإنما الجبال الصعبة فما بين حدود شهرزور إلى آمد، فيما بين حدود أذربيجان والجزيرة ونواحي الموصل، وأكثرها مسكونة بالأكراد.
وفي سنة إحدى وعشرين وستمائة نزل الططر على همذان بعدما عمرت فأهلكوا من وجدوا فيها واستولوا على قم وقاشان فأهلكوا الشيعة، وتتبعوا بلاد الجبال، واستأصلوا من تراجع بعد الخراب، وفعلوا ما جرت به عوائدهم الذميمة.
القادسية (5) :
عند الكوفة، وهي أول مرحلة لمن خرج من الكوفة إلى المدينة ومكة، وهي قرية كبيرة فيها حدائق نخل ومشارع من الماء الفرات، وسميت القادسية لأن قوماً من أهل قادس نزلوها، وقيل إن إبراهيم عليه السلام نزل القادسية فغسل بها رأسه ثم دعا لها أن يقدسها الله، فسميت القادسية، ثم أخذ فضل الماء فصبَّه يمنة ويسرة فحيث انتهى ذلك الماء انتهى العمران، ثم ارتحل إلى البيت الحرام. وقيل إنما سميت القادسية بقادس، رجل من أهل هراة قدم على كسرى فأنزله موضع القادسية.
__________
(1) نزهة المشتاق: 267، وقارن بياقوت (قالي قلا) .
(2) طبقات الزبيدي: 203.
(3) ص ع: قاشان؛ وكذلك وردت في نزهة المشتاق: 219، وهي كاسان عند الكرخي: 187، وابن حوقل: 421، وقارن بياقوت (قاسان) .
(4) هذه قاشان - بالشين المعجمة - هي مدينة أخرى بقرب أصبهان، وبينها وبين قم اثنا عشر فرسخاً، ولا علاقة لها بقاسان الواقعة في أقصى عمل فرغانة، من ثم فإن الحديث عن منطقة الجبال وعن مذهب أهل قاشان وعن غزو الططر لا علاقة له بصلب المادة.
(5) بعضه عن معجم ما استعجم 3: 1042، وقارن بياقوت (القادسية) .(1/447)
وهي من (1) بناء الأكاسرة، وهي مدينة صغيرة ذات نخيل ومياه عذبة ويتخذ بها القت علفاً للجمال الصادرة والواردة في طريق الحجاز، ومنه يتزودون علوفاتهم، وهي ثغر من ثغور العراق، وبينها وبين بغداد أحد وستون فرسخاً.
وقد تقدم قول الشاعر:
لمّا وردنا القادسي ... ة حيث مُجْتَمعُ الرفاقِ وكان فتح القادسيّة العظيم الكبير على يد جيوش المسلمين في أيام الفاروق، وأمير هذه الجيوش سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، سنة ست عشرة، وقتل رستم أمير جيش الفُرْس، وكان في مائة ألف من الفُرس، وأسر منهم نيف وخمسون ألفاً، واستشهد من المسلمين مائة رجل، ويقال مائتان، وجميع من شهد القادسيّة من المسلمين بضعة وثلاثون ألفاً، وكانت أيامها العظام أربعة أيام، واليوم الرابع هو المسمى بينها بالقادسية، وفيه قتل الله رستم وأتم الفتح على المسلمين، وفيها كانت ليلة الهرير والقتال بالليل بالمشاعل.
قادس (2) :
من أرض خُراسان.
وقادس (3) أيضاً جزيرة بالأندلس عند طالقة من مدن اشبيلية، وطول جزيرة قادس من القبلة إلى الجوف اثنا عشر ميلاً، وعرضها في أوسع المواضع ميل، وبها مزارع كثيرة الريع، وأكثر مواشيها المعز، وشَعْراؤها صنوبر ورتم، فإذا رعت معزهم خروّب ذلك المكان عند عقدها أسكر لبنها، وليس يكون ذلك في ألبان الضأن، وقال صاحب الفلاحة النبطية: بجزيرة قادس نبات (4) إذا رعته المعز أسكر لبنها إسكاراً عظيماً، وأهلها يحققون هذه الخاصية. وفي طرف الجزيرة الثاني حصن خرب أولي بيّنُ الآثار، وبه الكنيسة المعروفة بشنت بيطر، وشجر المثنان كثير بهذه الجزيرة، وبهذه الجزيرة شجيرة تشبه فسيل النخل لها صمغ إذا خلط بالزجاج صبغه (5) وصار حجراً تتخذ منه الفصوص.
وبها آثار للأول كثيرة، ومن أعجب الآثار بها الصنم المنسوب إلى هذه الجزيرة بناه أركلش (6) ، وهو هرقلش، أصله من الروم الإغريقيين، وكان من قواد الروم وكبرائهم على زمان موسى عليه السلام، وقيل إنه أول معدود لملوك اليونانيين، وملك أكثر الأرض، فحارب أهل المشرق وافتتح مدنهم إلى أن وصل إلى الهند، وانصرف صادراً مفتتحاً لبلاد أولاد يافث إلى أن انتهى إلى الأندلس، فلما بلغ البحر المحيط الغربي سأل عما وراءه، فقيل له إنه لا يجاوز إلا إلى برّ الأندلس، فعمد إلى جزيرة قادس فبنى بها مجدلاً عالياً منيفاً، وجعل صورة نفسه مفرغة من نحاس في أعلى المنارة، وقد قابلت المغرب كرجل متوشح برداء من منكبه إلى أنصاف ساقيه، وقد ضم عليه وشاحه، في يده اليمنى مفتاح من حديد، وهو مادُها نحو المغرب، وفي اليسرى صفيحة من رصاص منقوشة، فيها ذكر خبره، ومعنى المفتاح الذي بيده أنه افتتح ما وراءه من البلدان والمدن والصنم في وسط الجزيرة وبينه وبين الحصن المذكور ستة أميال، والصنم مربع ذرع أسفله من كل جانب أربعون ذراعاً، وارتفع على قدر هذا الذرع ثم ضاق، وارتفع على قدر ذلك الذرع الثاني ثم ضاق، وارتفع على قدر ذلك الذرع الثالث، ثم خرط البنيان من ابتداء الطبقة الرابعة إلى أن صارت قدما الصورة على صخرة واحدة قدر تربيعها في رأي العين أربعة أذرع، قد تقدمت رجله اليمنى وتأخرت اليسرى كالماشي، وارتفاعِ الصنم من الأرض إلى رأس الصورة مائة وأربعة وعشرون ذراعاً لطول الصورة من ذلك ثمانية أذرع، وقيل ستة، وقيل إن هذا الذرع بالذراع الكبير الذي هو ثلاثة أشبار ونصف، وقد خرج من بين رجليه عمود نحاس، وذهب صاعداً حتى علا فوق رأسه نحو ذراعين في رأي العين. وكان يقول أهل العلم بالحدثان في سالف الأزمان: يوشك أن يقع من يد هذه الصورة أحد المفتاحين فيكون بذلك بدء تحرك الفتن بالأندلس، ثم يقع الآخر بعد فيكون حينئذ خراب الأندلس، فذكر جماعة أهل قادس أن أحد المفتاحين سقط سنة أربعمائة، وهو في صورة المفتاح، فحمل إلى صاحب مدينة سبتة، فأمر به فوزن، فكانت زنته ثمانية أرطال. وقيل إن هذا الصنم بني لتاريخ ألفين وأربعمائة وإحدى وخمسين من وقت الطوفان، وقيل لتاريخ ألفين وأربعمائة وإحدى وخمسين من وقت آدم عليه السلام، والذي لا يشك فيه أنه بني على عهد موسى عليه السلام.
__________
(1) نزهة المشتاق: 120.
(2) لفظة ((قادس)) مكررة في ص ع؛ وفي معجم البكري: 1042 قادس رجل من أهل خراسان، وقال ياقوت (قادس) : قرية من قرى مرو.
(3) بروفنسال: 145، والترجمة: 173 (Cadiz) ، وقد ورد ذكر صنم قادس في مصادر مختلفة، ولكن قارن بتحفة الألباب: 69، والزهري: 90، وياقوت: (قادس) .
(4) بروفنسال: نبات رتم.
(5) بروفنسال: صمغه.
(6) بروفنسال: أركليش.(1/448)
وقال موسى بن شخيص يعني هذا الصنم:
ورجراجة الأرداف موارة الخطا ... (1) تهادى وليست من حسانِ الأوانس
إلى أن ترى الشخص الملفع موفياً ... على الصنم الموفي على بحر قادس
ولمّا نزلنا تحته قال صاحبي ... أعاجيبُ روم أو أعاجيبُ فارس
فقلنا له خفِّضْ سؤالك والتمس ... (2) نجاتك من هول البحار الطوامس وكانوا يتحدثون أن الموسطة من البحر الغربي ويسمونه ببلاية (3) لم تسلك قط إلى وقت سقوط ذلك المفتاح، فمن حينئذ سلك الناس في البحر إلى شلا (4) وإلى السوس وغيرهما، وكان هذا مستفيضاً عندهم.
وذكر بعض المؤلفين لغرائب الحدثان أن صنم قادس موضوع على بلاد الأندلس، فجعل رأسه لطليطلة، وصدره لقرطبة، وكذلك أعضاؤه قسمها عضواً عضواً على بلاد الأندلس، فمتى أصاب عضواً من هذه الأعضاء آفة حلت بذلك القطر الذي من قسمته آفة.
وفي بعض التصانيف: إذا هدم صنم قادس استولى النصارى على بلاد الأندلس، فنظروا فإذا الوقت الذي هدمه أبو الحسن علي بن عيسى بن ميمون (5) فيه دخل النصارى قرطبة وملكوها.
قال المخبر: وكنا باشبيلية تحت الذمة لأن رئيس (6) النصارى المعروف بالسليطين (7) لما استحوذ عليها أقر أبا زكريا يحيى بن علي رئيساً على ما كان بأيدي الملثمين منها ومن غيرها،
وكان حكم السليطين نافذاً فيها، ولقد وقع سنة أربعين تنازع بين رجلين من المرابطين في إنزال جنان بقرية من قرى اشبيلية، فادعاه أحدهما بإنزال ابن غانية له فيه، وأتى بظهير وادعاه الآخر بظهير السليطين، وحكم بينهما والي اشبيلية تحت نظر يحيى بن علي فأقره بيد الذي ادعاه بإنزال النصارى إياه واحتج بأن الأمر إنما هو للسليطين لا ليحيى بن علي، وكان هذا الملثم قد كتب له به السليطين بطليطلة حين سفر إليه رسولاً عن يحيى بن علي.
وكان هدم علي بن عيسى لهذا الصنم لأنه خيل إليه أنه على كنوز ضخمة وأن داخله محشوّ تبراً فدعا له الرجال والبناة وأخذوا في قطع حجر منه، وكلما قطعوا حجراً دعموا مكانه بدعامة من خشب، حتى وقف ذلك الجرم العظيم على الدعائم، ثم رموا إلى الخشب النار، بعدما ملأوا الخلل الذي بين الخشب حطباً، فسقط جميعه، وكانت له وجبة عظيمة، واستخرج الرصاص المعقود بالحجارة والنحاس الذي كان منه الصنم وكان مذهّباً، وبردت (8) في يديه من مطلبه الخيبة، وكان يقال إن الذي يهدم صنم قادس يموت مقتولاً وكذلك كان.
ويزعم أهل جزيرة قادس أنهم لم يزالوا يسمعون أن الراكب في هذا البحر إذا لجج فيه وغاب عنه صنم قادس، بدا له صنم ثان مثله، فإذا وصلوا إليه وجاوزوه حتى يغيب عليهم بدا لهم صنم ثالث، فإذا تجاوزوا سبعة أصنام صاروا في بلاد الهند، وهذا مستفيض عندهم معروف جار على ألسنتهم، لم يزل يأخذه آخرهم عن أولهم. قالوا: ولما أحكم أركلش هذه الآثار صمد إلى بلاد البربر فعبر إلى مدينة سبتة من الزقاق الخارج من البحر المحيط. ولم يزل يفتتح مدينة بعد مدينة حتى انتهى إلى لوبيا ومراقيا (9) ، فوجد هناك آلاماً وأوجاعاً في بدنه، فلما اشتد ذلك به أجج ناراً وألقى نفسه فيها فاحترق، وكان غرضه أن يحرق الأوجاع التي في بدنه، فدل هذا من فعله على أنه كان من عبدة النيران، وتفرقت جموعه، واتخذته المجوس وثناً يعبدونه.
القاطول (10) :
بين الجزيرة والموصل، فاعول من القطل، وهو القطع.
__________
(1) يريد السفينة.
(2) ص ع: مولى ... الطوايس.
(3) بلاية (Pelagos) ؛ وفي ص ع: لبلاية.
(4) هي سلا القديمة؛ وعند بروفنسال: سلا - بالسين المهملة.
(5) كان قائد أسطول المرابطين؛ قام بثورة عند موت تاشفين في قادس وعلن استقلاله فيها، ثم خضع للموحدين.
(6) بروفنسال: مرقيش (Marquis) .
(7) هو الفونسو السابع صاحب قشتالة، توج سنة 1126 (عن بروفنسال) والسلطين تصغير السلطان.
(8) بروفنسال: وبدت.
(9) بروفنسال: وتراقيا.
(10) معجم ما استعجم 3: 1044.(1/449)
وقد ذكره البحتري في قصيدته التي يرثي بها المتوكل فقال:
محلّ على القاطول أَخْلَقَ داثرُهْ ... وكان المعتصم (1) لما ارتاد موضعاً مرَّ بالقاطول فقال: هذا أصلح المواضع فصير الدير المعروف بالقاطول وسط المدينة، وجعل البناء على دجلة وعلى القاطول، وابتدأ البناء وأقطع القواد والكتّاب والناس، فبنوا حتى ارتفع البناء، واختطت الأسواق على القاطول وعلى دجلة وسكن هو في بعض ما بني له، ثم قال: أرض القاطول غير طائلة والبناء بها صعب، ثم ركب يتصيد فمرَّ في سيره إلى سرَّ من رأى، وهي صحراء لا عمارة بها ولا أنيس إلا ديراً للنصارى فبنى فيه مدينة سر من رأى على ما مرَّ في موضعه، والقاطول على خمسة فراسخ من سامرّا.
القاهرة (2) :
هي قاعدة الملوك المصريين ودار ملكهم في البلاد المصرية، وهي مدينة محدثة من بناء العبيديين الشيعة الذين كانوا بها وبينها وبين مصر ثلاثة أيام وهي مدينة كبيرة فيها من القصور والمباني ما يعجز الوصف عنه.
وكان الحاكم بأمر الله منهم بنى بين الفسطاط والقاهرة مسجداً عظيماً على ثلاثة مشاهد كانت هناك، وجعل فيه سدنة وخدمة يوقدون فيه السرج الليل كله وذكر أنه كان أراد أن ينقل إليه جسد النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان توجهت له الحيلة في ذلك، غير أن الله سبحانه دفع، وأظهر الله عز وجل أهل المدينة على ذلك وقاية لرسوله صلى الله عليه وسلم وكان بذل الأموال لرجال من شيعته فمشوا إلى المدينة فاشتروا بها داراً وأخذوا ذرع ما بين الدار والقبر واحتفروا سرباً عظيماً حتى كادوا يصلون إلى القبر المكرم فأطلع الله تعالى أهل المدينة على ذلك فقتلوا أولئك الفعلة ومثلوا بهم وردموا ذلك الحفير بالحجار وأفرغوا عليه الرصاص فلا يطمع أحد في الوصول إلى مثل ذلك.
قاشا (3) :
مدينة بالصين أهلها خوارج عن مذهب أهل الصين. وهم يحرقون موتاهم بالنار كما يفعله أهل الهند.
قاشان (4) :
من مدن هراة، وهي مدينة كبيرة كثيرة الأسواق والصنائع وأهلها مياسير ولهم همم في ملابسهم وزيهم، وهي قليلة الأشجار والمياه.
قابس (5) :
مدينة من بلاد إفريقية بينها وبين القيروان أربع مراحل، وتعد من البلاد الجريدية، وبينها وبين طرابلس ثمانية أيام وهي مدينة كبيرة قديمة عليها سور صخر جليل من بناء الأول، ولها حصن حصين وأرباض واسعة، وفيها فنادق وحمامات، وقد أحاط جميعها خندق كبير يجري إليه الماء إذا خافوا من نزول عدو عليهم، فيكون أمنع شيء، ولها واد يسقي بساتينها وأرضها ومزارعها، وأصل هذا الوادي من عين خرّارة في جبل بين القبلة والغرب، وهو يصب في البحر. وبين مدينة قابس وبين البحر نحو ثلاثة أميال وأكثر جناتها فيما بينها وبين البحر، وهي كثيرة الثمار والتمر والموز بها كثير وليس بإفريقية موز إلا فيها وفيها شجر التوت كثير، ويربى بها الحرير وحريرها أطيب الحرير وأرقه وليس يعمل بإفريقية حرير إلا بها.
وهي مدينة بحرية صحراوية لأن الصحراء منها قريبة، فيقال إنه ما اجتمع في مائدة رجل ثلاثة أشياء متضادة المواضع إلا في مائدة من سكن قابس: يجتمع فيها الحوت الطري، ولحم الغزال الطري والرطب الجني، فهي حاضرة هذا الإقليم وقطبه.
ومن كلام الناس: قابس دمشق المغرب.
وماء قابس (6) شروب يستسيغه أهلها، وبغابتها (7) أشجار وجنات وكروم وزيتون كثير، ويتجهز بزيته إلى النواحي وبها نخل ملتف ورطب لا يعدله شيء في طيبه، وأهلها يجنونه طريّاً ثم
__________
(1) عن اليعقوبي: 256 - 257.
(2) في صبح الأعشى 3: 344 نقل عن الروض.
(3) نزهة المشتاق: 71 (OG: 213) ويحددها بأن بينها وبين باجه عشر مراحل، وبينها وبين أبشيهار (أو: بشهيار) ثمان مراحل.
(4) كذلك هي في نزهة المشتاق: 142 وعنه ينقل مؤلف (وفي ع: قاسان) ، وليس لدى الجغرافيين الآخرين مثل هذه التسمية، ويقول الإدريسي أن هذه المدينة ((قدرها أصغر من مالين)) وذلك يقابل ((باشان)) - بالباء - عند ابن حوقل: 368 الذي يصف باشان أيضاً بأنها ((قليلة البساتين)) وهذا يماثل قول الإدريسي ((وهي قليلة الأشجار)) أما الإدريسي فيقول أيضاً إنها كانت قليل المياه، وابن حوقل يصفها بكثرة المياه؛ وما دام الحديث عن مدينة من مدن هراة فالأرجح أنها هي ((باشان)) ، وانظر ياقوت: (باشان) .
(5) الاستبصار: 112، وقارن بالبكري: 17، والإدريسي (د) : 106.
(6) الإدريسي (د/ ب) : 106 - 107/ 77.
(7) انظر وصف هذه الغابة في رحلة التجاني: 86.(1/450)
يودعونه دنانات فيخرج بعد مدة له عسلية لا يقدر على تناولها إلا بعد زوال تلك العسلية ثم لا يحاكيه شيء من التمر في طيب مذاقه وتعلكه، ومرساها لا يستر من ريح، إنما ترسي القوارب بواديها، وهو نهر صغير يدخله المد والجزر قالوا: وفي أهلها قلة ذمامة، ولهم زي ونظافة وفي باديتها عتوّ وفساد وقطع سبيل.
وقال أبو عبد الله الحنفي:
قَلوصي إلى الترحال طال نزوعها ... لها كل يوم أن تشد نسوعها
إلى أن أحلتني لحيني بقابس ... فصادفني ضنك الحجاز وجوعها
أُعاين فيها كلّ أسودَ كالح ... يلوح على الأسنان منه رجيعها
بمجلس قاض يدَعي علم شرعة ... ويعزب عنه أصلها وفروعها
ولولا بنو الإفضال من آل مسلم ... فإن لهم عندي يداً لا أضيعها
سللتُ حسامَ الهجو فيهم فإن لي ... به ضربات لا يفل صدوعها وبقابس قصر العروسين (1) وهو من البناءات المشهورة، وكان بناه بنو رشيد من العرب الذين وجههم العبيديون إلى إفريقية، منهم مدافع بن رشيد بن مدافع بن جامع أناب إلى عبد المؤمن بن علي لما طلع إلى إفريقية وأسكنه قابس، وكان هؤلاء العرب تأخروا عن طاعته، وواليهم يومئذ مدافع بن رشيد الدهماني، وهم من سليم فألطفهم (2) ورفق بهم واستدعاهم بأشعار خاطبهم بها، وتلوم (3) عليهم فلم يصل منهم جواب، فبعث إليهم بعسكر عليهم ابنه عبد الله، وأقام هو يحاصر المهدية، فلما انتهى ابنه إلى قابس جمع مدافع أهله وعشيرته ومن انحاش إليه وفر فتبعته شرذمة من العسكر فواقفهم ساعة، ثم انهزم وقتل جماعة من أهله وعشيرته، وملك الموحدون قابس وحكموا على أهله وطائفته، وهرب مدافع وتوغل في الصحراء، وتبعته الخيل واستولت على ما معه، وجاء هو بنفسه إلى أن استجار بعرب طرابلس، فأقام عندهم نحو العامين، وكان شاعراً أديباً حافظاً للسِير والأخبار، ثم رأى التوجه إلى المغرب، فسار واجتمع بعبد المؤمن بمدينة فاس (4) وأناب إليه، فأسكنه قابس، فأقام بها إلى أن توفي وقد ناهز التسعين.
وكان لبني رشيد ذكر مع صنهاجة ومنهم أبو شاكر (5) عامر بن محمد بن سكن (6) بن جامع، خرج يوم فرارهم من قابس وخلص إلى دمشق وأنشد له صاحب الخريدة (7) يتذكر أيامهم ببلدهم:
يا حار طرفي غيرُ هاجعْ ... والدمعُ من عينيَّ هامعْ
ولقد أرقت مسامراً ... نجماً بدا في الشرق طالع
متذكراً لصروف ده ... رٍ أصبحت فينا قواطع
إني من الشم الألى ... شادوا العلا أبناء جامع
أهل المراتب والكتا ... ئب والمواهب والصنائع
يتسابقون إلى المعا ... لي كلهم فيها مسارع
ولقد ملكنا قابساً ... بالمشرفيات القواطع
تسعين (8) عاماً لم يكن ... خلق لنا فيها منازع
__________
(1) قد مر الحديث في مادة ((العروسان)) .
(2) ناظر في مجمله إلى رحلة التجاني: 100 وما بعدها.
(3) ص ع: وتلزم.
(4) ص: قابس.
(5) رحلة التجاني: 102 أبو ساكن.
(6) الرحلة: مكي؛ الخريدة: عسكر.
(7) الخريدة (قسم المغرب والأندلس) 1: 164.
(8) ص ع: تسعون.(1/451)
وجنابنا للمعتفي ... ن بزهرة المعروف يانع
وإذا شهدنا مجمعاً ... يُومى إلينا بالأصابع
عبثت بنا أيدي الزما ... (1) ن وأجدبت منا المرابع وبين قابس ونفزاوة ثلاث مراحل، وبينها وبين قفصة مرحلتان، وهي على مرحلتين من قيطون بياضة.
ومن كلام (2) الكاتب أبي المطرف بن عميرة في وصف قابس، وكان ولي قضاءها في أوائل مدة الخليفة المستنصر رحمه الله: ووجدته غوطي البساتين، طوري الزيتون والتين، فأما النخل فجمع عظيم، وطلع هضيم وسكك مأبورة، ونواعم في الخدور مقصورة، وبالجملة فبقعته وارفة الظل، آمنة الحرم والحل، جنة لو نزع ما في صدور أهلها من الغل.
ومن رسالة أخرى: ووجدته بادي الحضارة، رائق النضارى جوانبه قد ملئت جناناً وأدواحه تروق ورقاً وأفناناً، جنة لو نزع ما في صدور أهلها لعادوا إخواناً.
ومن أخرى: وهذا البلد رائق الموضوع، مذكر بالأوطان والربوع، بل يزيد عليها في أشياء، والقاطن يتناول فيه ما يشاء.
ومن أخرى: وهذا البلد رائق المنظر رافل في ورق الحسن الأخضر ولكنه مرتدف (3) بالميرة منقطع عن الجيرة.
ومن أخرى (4) : وهذا البلد رائق الموضوع مذكر بالأوطان والربوع، وإنه لمدهامّ الغابة، تام الغرابة، مستأثر بسيد من سادة الصحابة ولا عيب بتربته إلا وخامة بهوائها وحميات قل ما يعرى من عدوائها وربما مطلت بالقوت قواربها ودجنت في البيوت عقاربها، وباتت تسري بالشرّ مراراً وتمنع النوم غراراً. ويخشى المؤمن أن يلدغ من جحرها مراراً ثم أقول: والسماء
والطارق، إن لها نظراء في الحي الناطق، تتبارى في العقوق، وتتوارى في الشقوق، وتتوازى في الأفعال، ولا تجازى بالنعال.
ومن أخرى (5) : وهذه البلدة الآن حدائقها في ظلال من شرخ الشباب، وأطلال من ثمرات النخيل والأعناب، فهي بحال يقر بجمالها الأندلسي، ويحار بين خلالها الدبسي، ولا عيب فيها إلا هواء وخامته تخاف، وماء غيّر من خالصه الماء المضاف ولبيوت المدينة دواجن سيئة الجوار، سريعة إلى القطان والزوّار، كراها تنفيه، وسراها تخفيه، وصلحها لا يطمع أحد فيه، فقبحت شائلة الأذناب، شاملة بالعذاب، كامنة بارزة، هامزة لامزة، تطرق بالبلية، وتحرق في الأذية، وتقسم شرها بين البرّ والفاجر بالسوية، دبت عندنا ليلة إلى من كان يرمق دبيبها وتحاول قبل أن تصيبه أن يصيبها، فأوقعت به لدغاً في القدم، وإلقاءً في أشد الألم، وبات وبتنا معه في ليلة أخي ذبيان وتعالى الله ما أطول ما كانت وأصعب ما كان.
قامهل (6) :
من مشاهير بلاد الهند وهي أول حدود الهند إلى صيمور، وبينها وبين المنصورة ثمان مراحل.
أبو قابوس (7) :
وأبو قبيس اسمان لجبل مكة، ويقال شيخ الجبال أبو قبيس وقيل ثبير.
قُباء (8) :
بضم أوله على وزن فُعال، من العرب من يذكِّره ويصرفه ومنهم من يؤنثه ولا يصرفه، وهما موضعان: موضع في طريق مكة من البصرة والآخر بالمدينة، بينها وبينه سبعة أميال، وقباء منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يسيرٍ إلى المدينة نزل على كلثوم بن الهدم.
وقد يقصر وقال ابن الزبعرى:
__________
(1) الخريدة والرحلة: وأحدثت فينا البدائع.
(2) رحلة التجاني: 90.
(3) ص: مرتزق.
(4) وردت هذه الرسالة ممتزجة بالرسالة الأولى، في رحلة التجاني: 90.
(5) رحلة التجاني: 90 - 91.
(6) كذلك كتبت في البكري (مخ) : 45 وعنه ينقل المؤلف؛ وهي كذلك في نسخة نزهة المشتاق: 61 - أعني بالقاف - وقال الإدريسي: وأما مدينة قامهل فقوم يحسبونها من الهند وقوم يحسبونها من السند ... الخ وقد أثبتها الأستاذ مقبول أحمد (الإدريسي/ ق: 27، 33.. الخ) و (170) OG: ما مهل - بالميم -.
(7) معجم ما استعجم 3: 1040.
(8) معجم ما استعجم 3: 1045، وقارن بما في امغانم المطابة: 323، ووفاء الوفا 2: 16، 357، والاستبصار: 42، وعنه نقل في صبح الأعشى 4: 290.(1/452)
حين حكت بقباءٍ برْكها ... واستحر القتلُ في عبد الأشلّ فصرفه، وقال الأحوص (1) :
ولها مربع ببرقة خاخ ... ومصيف بالقصر قصرِ قُباء قالوا: وسميت قباء بالبئر التي في دار توبة بن الحسين بن السائب بن أبي لبابة، كان يقال قباء (2) ، وكان بنو أنيف، حي من بلي، ويقال هم بقية من العماليق، ممن نزل قباء مع من نزلها من يهود فقال شاعر منهم:
ولو نطقت يوماً قباء لخبّرت ... بأنا نزلنا قبل عاد وتبَّع
وآطامها عادية مشمخرَة ... تلوح فتنفي من يعادي وتمنع ورويَ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء ماشياً. وبها المسجد الذي أسس على التقوى، بينه وبين مسجد المدينة ميلان ونصف ميل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي قُباء كل يوم سبت راكباً وماشياً، ومصلاه فيه معلوم. وطول المسجد ثماني وستون ذراعاً وعرضه كذلك، وطول منارته من سطحه إلى رأسها اثنتان (3) وعشرون (4) ذراعاً، وارتفاعه خمس عشرة ذراعاً وعدد أساطينه تسع وثلاثون.
وقبا (5) أيضاً من مدن فرغانة التي تلي اخسيكث في الكبر وهي من أنزهها وأجملها مرأى وهي أكثر مياهاً وبساتين من أخسيكث، وبينهما عشرة فراسخ ولها ربض عليه سور محيط بها وجامعها في قهندزها، إلا أن القهندز خراب، وأسواقها في ربضها، ودار الإمارة والحبس في الربض.
قَبْرَة (6) :
مدينة بالأندلس، بينها وبين قرطبة ثلاثون ميلاً ذات مياه سائحة من عيون شتى، منها العين التي عليها النهر الذي هناك مخرجه من ناحية جبل شيته (7) عليه أرحاء كثيرة، وهذا الجبل الشامخ (8) ينبت ضروب النواوير وأصناف الأزاهير، وأجناس الأفاويه والعقاقير، وتدوم غضارة نوره وتتصل بهجة نبته باعتدال هوائه، وكثرة أندائه، فيقطف النرجس فيه غضاً زمن الورد.
والمسجد الجامع بقَبْرَة ثلاث بلاطات. وبها سوق جامعة يوم الخميس، وتحسن بها ضروب الغراسات وأنواع الثمرات، وهي مخصوصة بكثرة الزيتون.
وعلى مقربة من مدينة قَبْرَة المغارة المعروفة بالعروب، لا يدرَك قعرها ولا يُسْبر غورها، وهي باب من أبواب الرياح، ويعرفونها ببئر الريح وكان بعض خلفاء بني أميَّة قد أمر عامل قبرة بردم تلك المغارة وأن يحشد لذلك أهل الناحية ويشرف عليه بنفسه، ففعل واعتمل الناس في ذلك مدة، وكان مما ردموها به التبن والحشيش إلى أن استوى الردم وجلس العامل على فم الغار ليخاطب الأمير بذلك، فرجف المكان وانهال الردم، ونجا العامل ولم يكد ينجو، وبقيت المغارة لا يدرك لها قعر كما كانت قبل الردم، ولا يعلم أين ذهب جميع ما قذف فيها، إلا أنه رئي من ذلك التبن في بعض ينابيع المياه بذلك الجبل، وفي هذه المغارة قذف جماعة من الصقالبة المأسورين في هزيمة كانت أحياء.
قبودية (9) :
حصن قريب من سلقطة، ويصاد به من السمك كل طريفة، وهو بها كثير رخيص.
قبرس (10) :
جزيرة على البحر الشامي كبيرة القطر مقدارها ستة عشر يوماً، وبها قرى ومزارع وجبال وأشجار وزروع ومواش، وبها معدن الزاج المنسوب إليها، ويتجهز به منها إلى سائر الأقطار. وبها ثلاث مدن. ومن قبرس إلى طرابلس
__________
(1) نسبه في المغنانم المطابة: 330 للسري عبد الرحمن بن عتبة الأنصاري.
(2) وفاء الوفاء: هبار، قبار، قتار.
(3) بياض في ص ع بمقدار سطر ونصف، والأرقام التي أثبتها هنا هي ما أورده ابن النجار: 380 (ملحق بكتاب شفاء الغرام) وعند السمهودي أرقام أخرى.
(4) ص ع: وثلاثون.
(5) مشبه لما عند الكرخي: 187 وخاصة الحاشية: 186، وابن حوقل: 420، وانظر المقدسي: 276.
(6) بروفنسال: 149، والترجمة: 178 (Cabra) .
(7) بروفنسال: شيبة.
(8) ص: شامخ.
(9) الإدريسي (د/ ب) : 126/ 94 (قبوذية) وهي بالدال المهملة عند البكري: 85.
(10) نزهة المشتاق: 194.(1/453)
الشام مجريان، وقبرس على ممرِّ الأيام رخاؤها شامل وخيراتها كاملة.
وكان معاوية (1) رضي الله عنه غزاها وصالح أهلها على جزية سبعة آلاف دينار، فانتقضوا عليه فغزاهم ثانية فقتل وسبى سبياً كثيراً. وروي أنه لما افتتحت مدائن قبرس وقع الناس في السبي يقتسمونه ويفرقونه بينهم، فتشكى بعضهم إلى بعض، فبكى أبو الدرداء رضي الله عنه ثم تنحى فجلس ثم احتبى بحمائل سيفه فقيل: أتبكي في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله وأذل الكفر وأهله؟! فضرب على منكبيه وقال: ويحك ما أهون الخلق على الله تعالى إذا تركوا أمره، بينما هي إمرة قاهرة ظاهرة على الناس إذ تركوا أمر الله عز وجل فصاروا إلى ما ترى.
ودور جزيرة قبرس يوم (2) ، وبينها وبين الأرض الكبيرة يوم، وبينها وبين ساحل مصر خمسة أيام، وبينها وبين رودس ميل، وإنما سميت (3) جزيرة قبرس بمدينة هناك تسمى قبرو، وكانت قبرس معظمة في القديم للوثن المسمى قابرس (4) .
وأهل مدينة قبرس موصوفون بالغنى والجِدَة وبها معادن الصفر، ويجمع في جزيرة قبرس اللاذن ولا يجمع في غيرها، والذي يجمع منه على الشجر خاصة يحمل إلى ملك القسطنطينية أفضله، لأنه يعادل الألنجوج القماري طيباً وسائر ما يجمع مما يسقط على وجه الأرض هو الذي يستعمله الناس.
وشهدت أم حرام بنت ملحان غزو قبرس فتوفيت بها، وأهل قبرس يتبركون بقبرها ويعرفونه قبر المرأة الصالحة، وكانت قد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدعوا لها الله عز وجل أن يجعلها من الذين يركبون ثبج البحر مجاهدين في سبيل الله تعالى، ففعل في حديث معروف.
وكان الأوزاعي يقول: إنا نرى أن هؤلاء القوم، يعني أهل قبرس أهل عهد، وأن صلحهم وقع على شيء فيه شرط لهم وشرط عليهم وأنه لا يسعهم نقضه إلا بأمر يعرف به عذرهم.
ورأى عبد الملك بن صالح (5) في حدث أحدثوه أن ذلك نقض لعهدهم فكتب إلى عدة من الفقهاء يشاورهم في أمرهم، منهم الليث بن سعد ومالك بن أنس وسفيان بن عُييْنة وموسى بن أعين وإسماعيل بن عياش ويحيى بن حمزة وأبو إسحاق الفزاري ومحمد بن حسن رحمة الله عليهم، فاختلفوا عليه، وأجاب كل واحد منهم بما ظهر له، مما ليس هذا موضع ذكره.
قالوا: وانتهى خراج أهل قبرس الذي يؤدونه إلى المسلمين بعد المائتين من الهجرة أربعة آلاف ألف وسبعمائة ألف وسبعة وأربعين ألفاً.
القَبْطيل (6) :
بالأندلس، هو مفرغ وادي طرطوشة في البحر ويعرف أيضاً بالعسكر لأنه موضع عسكر به المجوس واحتفروا حوله خندقاً أثره باق إلى الآن.
قبتور (7) :
قرية من قرى اشبيلية، وفي سنة ثلاث وعشرين وستمائة وصلت شياطي الروم الغربيين نهر اشبيلية فأسروا الناس وحرقوا القوارب، ثم وصلوا إلى قبتور هذه وغلبوا أهلها ودخلوا عليهم عنوة، ففرَّ منهم من فرَّ وأخذ جملة منهم ومن نسائهم، واستبيح جميع ما كان في الديار من الأثاث والمتاع.
قدس (8) :
من جبال تهامة وهو جبل العرج، وقد لا يصرف يجعل اسماً للجبل وما حوله.
قُدَيد (9) :
في الطريق بين مكة والمدينة، بينها وبين الجحفة - ميقات أهل الشام - سبعة وعشرون ميلاً وهو حصن صغير
__________
(1) قارن بفتوح البلاذري: 181.
(2) كذا؛ وفي آثار البلاد: 240 إن دورها ستة عشر يوماً.
(3) متابع للبكري (ح) : 210 وبعضه في آثار البلاد نقلاً عن العذري.
(4) البكري: يانوس.
(5) تجد تفصيلاً وافياً عن هذه الحادثة في فتوح البلاذري: 183، والأموال لأبي عبيد 1: 171.
(6) بروفنسال: 150، والترجمة: 179 ويبدو تحديد موقع القبطيل من قول العذري في وصف غارة المجوس على إشبيلية سنة 230، فبعد لقائهم عند طلياطة انهزموا ((وبقوا أياماً بين طلياطة وقبطيل ... حتى خرج المجوس من جهة النهر الذي يلي لبلة ... ثم هبط المجوس إلى قنب قوريش ... ثم دخل أعداء الله إلى قبطيل فصاروا بين أودية فنزل عليهم المسلمون من جنبي النهر ... الخ)) ، (العذري: 100) ، وكلمة ((قبطيل)) تعني ((القناة)) وتساوي Capital باللاتينية، وتعرف ب؟ Isla Menor (انظر الترجمة، الحاشية 2 صفحة 179) .
(7) بروفنسال: 149، والترجمة: 178، وهذه التسمية تقابل ما يدعى: Isla Menor (عن ترجمة بروفنسال) .
(8) معجم ما استعجم 3: 1050، وقارن بياقوت (قدس) .
(9) نقل عنه الناصري: 229، وقارن بما في المناسك: 459.(1/454)
فيه أخلاط من العرب لها نخيلات يعيشون منها، وبين قديد والبحر خمسة أميال، وبينه وبين الجحفة ستة وعشرون ميلاً، وبها كانت للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب مناة، فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب، ويقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فهدمها.
وبها مات مُسلْم بن عقبة المري صاحب وقعة الحرة مُنْصَرفه عن أهل المدينة بعد وقعة الحرة، فإنه لما عمل بأهل المدينة ما عمل، أخزاه الله تعالى، توجه بجنده إلى مكة قاصداً لحرب ابن الزبير، فمات بقُدَيد لأربعٍ بقينَ من محرَّم سنة أربع وستين، بعد أن عهد إلى الحصين بن نمير بالتوجه بالجيش إلى مكة لحرب ابن الزبير.
وقُدَيد كثيرة الماء والبساتين.
وروي (1) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم صام حتى أتى قُدَيداً فأفطر حتى أتى مكة، وفي خبر آخر: حتى بلغ الكَدِيد ثم أفطر، وهو أصح وأثبت. وسميت قديداً لتقدد السيول بها.
وبقديد كانت وقعة الخارجي الذي يقال له طالب الحق مع أهل المدينة، قالت امرأة ترثيهم:
يا ويلتا ويلاً ليه ... أفنت قُدَيد رجاليه وهناك مات القاسم بن محمد حتف أنفه. وفي الكتب القديمة أن قديداً هو الوادي الذي وقعت فيه الريح لسليمان عليه السلام، وأنه هو الذي أتي فيه بصاحبة سبأ.
قردى:
من بلاد الموصل وهي ديار بني حمدان، وقد تقدم لها ذكر في ذكر بازبدى.
قرسقة (2) :
جزيرة في قطعة من البحر الشامي، فيها مدينة حسنة متوسطة عامرة، وطولها ثمانية وخمسون ميلاً، وعرضها سبعة وعشرون ميلاً، وهي جزيرة خصيبة كثيرة العمارة، وأهلها يتجولون في أرض الروم، وهم أكثر الروم سفراً.
قرسقة (3) :
جزيرة للنصارى تقابل مدينة رومة. ويقال هي بالقرب من سردانية، وبينها وبين ساحل إفريقية نصف يوم، وبينها وبين ساحل تونس أربعة أيام، وكانت للرومانيين، خربها المسلمون قديماً، وقيل هي عامرة، ولها مراس مشاتي كثيرة، ومن مراسيها مرسى البوالص وآخر يعرف بمرسى الزيتونة، وبها زوايا كثيرة وجبال داخلة في البحر، وطولها مائة وستون ميلاً، وهي كثيرة الخير وافرة النعم، وقد غنمها المسلمون أيام عبد الرحمن بن الحكم، وآبارها قريبة الأرشية، وفي القبلة منها جزيرة سردانية، بينهما في البحر عشرون ميلاً.
قرْبَليان (4) :
بالأندلس، بينها وبين أوريولة عشرون ميلاً وهي كثيرة الزيتون، وبها سقي كثير.
قرقيسيا:
كورة من كور ديار ربيعة، بين الحيرة والشام (5) ، وفي الجانب الشرقي من الفرات، فتحها عنوة عمرو (6) بن مالك بن عتبة بن نوفل بن عبد مناف، أمر عمر بن الخطاب (7) سعد بن أبي وقاص أن يوجهه في جند فخرج يعارض الطريق حتى جاء قرقيسيا في غرة فأخذها عنوة، فأجاب أهلها إلى الجزية.
وإلى قرقيسيا (8) فرَّ زفر بن الحارث العامري ثم الكلابي بعد وقيعة مرج راهط، وكان مع الضحاك بن قيس الفهري، فلما قتل الضحاك ولى زفر، ومعه رجلان من بني سُلَيْم فقصر فرساهما فغشيتهما اليمانية من خيل مروان، فقال له صاحباه: انج بنفسك
__________
(1) معجم ما استعجم 3: 1054.
(2) ص ع: قرقسة، والقاف الثانية غير معجمة في ع، وقد ذهبت إلى الظن بسبب صورة الاسم بأنها هي التي يذكرها الإدريسي (م) : 64 باسم: قُرْفس (وهي دائماً قرقس في أصول نزهة المشتاق) وهي جزيرة (Corfu) انظر الترجمة: 77؛ غير أنني وجدت المؤلف ينقل هنا وصف ((قرسقة)) (Corsica) عن نزهة المشتاق: 175؛ ولا لبس إذن في أن هذه المادة عن الإدريسي هي وصف جزيرة ((كورسكا)) . ثم وجد المؤلف - ولعل ذلك عند البكري - وصفاً آخر للجزيرة، فجعلهما مادتين منفصلتين، لاختلاف صورتي الاسم في الأصول التي ينقل عنها.
(3) راجع الحاشية السابقة.
(4) بروفنسال: 151، والترجمة: 180 (Crevillente) قرية صغيرة بمقاطعة لقنت.
(5) نقل هذا التحديد عن معجم ما استعجم 3: 1066، وفي لفظة ((الحيرة)) خطأ واضح؛ وقارن بياقوت (قرقيسيا) .
(6) الطبري: عمر.
(7) الخبر في الطبري 1: 2479.
(8) مروج الذهب 5: 202.(1/455)
فإنا مقتولان فولى راكضاً، وقتل الرجلان، وفي ذلك يقول زفر من أبيات:
لعمري لقد أبقتْ وقيعةُ راهط ... لمروان صدعاً بيننا متنائيا
أريني سلاحي لا أبا لك إنني ... أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا
فقد ينبت المرعى على دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا
أتذهب كلبْ لم تنلها رماحنا ... وتترك قتلى راهط هي ما هي
فلم ترَ منّي نبوة قبل هذه ... فراري وتركي صاحبيَّ ورائيا
عشية أعدو في الفريقين لا أرى ... من القوم إلا من عليّ ولا ليا
أَيذهب يوم واحد إن أسأته ... بصالح أيامي وحسن بلائيا وانتهى زفر بن الحارث من هزيمته إلى قرقيسيا فغلب عليها، واستقام الشام لمروان.
قرميسين:
بلد جليل من كور الجبل بينه وبين آمد ثلاث مراحل، وإليها ينسب عبد السلام بن الحسين القرميسني البصري اللغوي (1) صاحب التأليف في الحماسة وغيرها، أصلها بالفارسية كرمان شاهان فعرب.
القِراصة (2) :
بكسر أوله وبالصاد المهملة، بالمدينة، بها كان حائط جابر بن عبد الله الذي عرض أصله وثمره على يهود فيما كان لهم عليه، فأبوا أن يقبلوها منه فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إذا حان جدادها فجدّها، ثم ائتني "، ففعل، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرك ودعا له أن يؤدي عن جابر ثم قال صلى الله عليه وسلم: " يا جابر اذهب إلى غرمائك فشاطرهم على سعر وائت بهم "، ففعل، فقال بعضهم لبعض: ألا تعجبون لهذا؟ عرض أصله وثمره فأبينا، ويزعم أنه يوفينا من ثمره؟ فجاء بهم حتى وفاهم حقوقهم، وفضل منها مثل ما كانوا يجدون في كل سنة.
قرَّة (3) :
في بلاد الروم، كان الرشيد أغزى ابنه القاسم بلاد الروم فأتى قرة فأقام على حصنها، فافتداها نقفور طاغية الروم بثلثمائة أسير من المسلمين، فأجابه إلى ذلك.
وفي سنة تسع وستمائة نزل عليها العدو في نيف على عشرين قطعة، وأهلها غافلون فاستولى عليها وأخذ الأبكار في الحمامات والديار وسبى جميع نسائها، وكانت قضية من الكوائن الشنيعة.
قُرْطُبة (4) :
قاعدة الأندلس وأم مدائنها ومستقر خلافة الأمويين بها وآثارهم بها ظاهرة، وفضائل قرطبة ومناقب خلفائها أشهر من أن تذكر، وهم أعلام البلاد وأعيان الناس، اشتهروا بصحة المذهب وطيب المكسب وحسن الزي وعلو الهمة وجميل الأخلاق، وكان فيها أعلام العلماء وسادات الفضلاء، وتجارها مياسير وأحوالهم واسعة، وهي في ذاتها مدن خمس يتلو بعضها بعضاً، وبين المدينة والمدينة سور حاجز، وفي كل مدينة ما يكفيها من الأسواق والفنادق والحمّامات وسائر الصناعات، وطولها من غربيها إلى شرقيها ثلاثة أميال، وعرضها من باب القنطرة إلى باب اليهود ميل واحد وهي في سفح جبل مطل عليها يسمى جبل العروس، ومدينتها الوسطى هي (5) التي فيها باب القنطرة.
وبها الجامع المشهور أمره الشائع ذكره من أجل مصانع الدنيا كبرَ مساحة وإحكامَ صنعة وجمالَ هيئة وإتقان بنية تهمم به الخلفاء المروانيون فزادوا فيه زيادة بعد زيادة، وتتميماً إثر تتميم، حتى بلغ الغاية في الإتقان، فصار يحار فيه الطرف ويعجز عن حسنه الوصف وليس في مساجد المسلمين مثله تنميقاً
__________
(1) هو خازن دار العلم ببغداد، الذي نشأت بينه وبين المعري صداقة أثناء إقامة المعري ببغداد، توفي سنة 405هـ؟ (انظر انباه الرواة 2: 175، وفي الحاشية ذكر لمصادر أخرى) .
(2) معجم ما استعجم 3: 1056، وخلاصة الوفا: 400.
(3) الطبري 3: 694.
(4) بروفنسال: 153، والترجمة: 182 (Cordaba) ، والنص من أول المادة حتى قوله: ((فهذا ما حكاه محمد بن محمد بن إدريس)) منقول في مجمله عن الإدريسي (د) : 208 - 212.
(5) ص ع: في مدينتها ... وهي.(1/456)
وطولاً وعرضاً، طوله مائة باع وثمانون باعاً ونصفه مسقف، ونصفه صحن بلا سقف، وعدد قسي مسقَّفه أربع عشرة قوساً، وسواري مسقفه بين أعمدته وسواري قببه صغاراً وكباراً مع سواري القبلة الكبرى وما يليها ألف سارية، وفيه مائة وثلاث عشرة ثريا للوقيد أكبر (1) واحدة منها تحمل ألف مصباح، وأقلها تحمل اثني عشر مصباحاً، وجميع خشبه من عيدان الصنوبر الطرطوشي (2) ، ارتفاع الجائزة منه شبر في عرض شبر إلا ثلاثة أصابع، في طول كل جائزة سبعة وثلاثون شبراً وبين الجائزة والجائزة غلظ الجائزة، وفي سقفه من ضروب الصنائع والنقوش ما لا يشبه بعضها بعضاً، قد أحكم ترتيبها وأبدع تلوينها بأنواع الحمرة والبياض والزرقة والخضرة والتكحيل، فهي تروق العيون وتستميل النفوس بإتقان ترسيمها ومختلفات ألوانها وسعة كل بلاط من بلاط سقفه ثلاثة وثلاثون شبراً وبين العمود والعمود خمسة عشر شبراً ولكل عمود منها رأس رخام وقاعدة رخام.
ولهذا الجامع قبلة يعجز الواصفون عن وصفها وفيها إتقان يبهر العقول (3) تنميقها،، وفيها من الفسيفساء المذهب والبلور (4) مما بعث به صاحب القسطنطينية العظمى إلى عبد الرحمن الناصر لدين الله، وعلى وجه المحراب سبع قسيّ قائمة على عمد طول كل قوس أشف من قامة، وكل هذه القسي مزججة (5) صنعة القوط، قد أعجزت المسلمين والروم بغريب أعمالها ودقيق وضعها، وعلى أعلى الكل كتابان منحوتان بين بحرين من الفسيفساء المذهب في أرض الزجاج اللازوردي، وعلى وجه المحراب أنواع كثيرة من التزيين والنقوش، وفي جهتي المحراب أربعة أعمدة: اثنان أخضران واثنان زرزوريان لا تقوم بمال، وعلى رأس المحراب خَصّة رخام قطعة واحدة مسبوكة (6) منمقة بأبدع التنميق من الذهب واللازورد وسائر الألوان واستدارت على المحراب حظيرة خشب بها من أنواع النقش كل غريبة، ومع يمين المحراب المنبر الذي ليس بمعمور الأرض مثله صنعة، خشبه أبنوس وبقس وعود المجمر، يقال إنه صنع في سبع سنين، وكان صناعة ستة رجال غير من يخدمهم تصرفاً، وعن شمال المحراب بيت فيه عدد وطسوت ذهب وفضة وحسك، وكلها لوقيد الشمع في كل ليلة سبع وعشرين من رمضان، وفي هذا المخزن مصحف يرفعه رجلان لثقله فيه أربع أوراق من مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي خطه بيمينه، وفيه نقطة من دمه، ويخرج هذا المصحف في صبيحة كل يوم، يتولى إخراجه قوم من قَوَمة الجامع، وللمصحف غشاء بديع الصنعة منقوش بأغرب ما يكون من النقش، وله كرسي يوضع عليه، فيتولى الإمام قراءة نصف حزب فيه، ثم يرفع إلى موضعه.
وعن يمين المحراب والمنبر باب يفضي إلى القصر، بين حائطي الجامع في ساباط متصل، وفي هذا الساباط ثمانية أبواب، منها أربعة تنغلق من جهة القصر وأربعة تنغلق من جهة الجامع. ولهذا الجامع عشرون باباً مصفحة بصفائح النحاس وكواكب النحاس، وفي كل باب منها حلقتان في غاية الإتقان، وعلى وجه كل باب منها في الحائط ضروب من الفصّ المتخذ من الآجر الأحمر المحكوك، أنواع شتى وأصناف مختلفة من الصناعات والتنميق.
وللجامع في الجهة الشمالية الصومعة الغريبة الصنعة، الجليلة الأعمال، الرائقة الشكل والمثال، ارتفاعها في الهواء مائة ذراع بالذراع الرشاشي، منها ثمانون ذراعاً إلى الموضع الذي يقف عليه المؤذن، ومن هناك إلى أعلاها عشرون ذراعاً، ويصعد إلى أعلى هذا المنار بدرجين (7) : أحدهما من الجانب الغربي، والثاني من الشرقي، إذا افترق الصاعدان أسفل الصومعة لم يجتمعا إلا إذا وصلا الأعلى. ووجه هذه الصومعة مبطن بالكذّان منقوش من وجه الأرض إلى أعلى الصومعة، بصنعة تحتوي على أنواع من التزويق والكتابة.
وبالأوجه الأربعة الدائرة من الصومعة صفان من قسيّ دائرة على عقد (8) الرخام، وبيت له أربعة أبواب مغلقة يبيت فيه في كل ليلة مؤذنان، وعلى أعلى الصومعة التي على البيت ثلاث تفاحات ذهباً واثنتان (9) من فضة وأوراق سوسنية، تسع الكبيرة من هذه التفاحات ستين رطلاً من الزيت، ويخدم الجامع كله ستون رجلاً،
__________
(1) ع ص: أكبرها.
(2) ع: الططرشي.
(3) سقط من ص ع.
(4) بروفنسال: والملون.
(5) بروفنسال: موجهة.
(6) بروفنسال: مشبوكة.
(7) ص ع: بدرجتين، بروفنسال: بمدرجين.
(8) بروفنسال ودوزي: عمد.
(9) ص ع وبروفنسال: واثنان.(1/457)
وعليهم قائم ينظر في أمورهم فهذا ما حكاه محمد بن محمد بن ادريس.
وقرطبة على نهر عظيم عليه قنطرة عظيمة من أجل البنيان قدراً وأعظمه خطراً، وهي من الجامع في قبلته، وبالقرب منه، فانتظم بها الشكل. قالوا: وبأمر عمر بن عبد العزيز قام على نهر قرطبة الجسر الأعظم الذي لا يعرف في الدنيا مثله، وحول الأندلس من عمل إفريقية وجرَّد لها عاملاً من قبله، ووقعت المغانم فيها عن أمره.
وذكر أن (1) تفسير قرطبة بلسان القوط - قرظبة بالظاء المعجمة - ومعنى ذلك بلسانهم: القلوب المختلفة وقيل إن معنى قرظبة آخر " فاسكنها ". ودور مدينة قرطبة في كمالها ثلاثون ألف ذراع، وبها من الأبواب باب القنطرة وهو بقبليها ومنه يعبر النهر على القنطرة والباب الجديد وهو بشرقيها وباب السّور بجوفيها، وباب عامر وهو بين الغربي والجوفي منها، وغيرها. وقصر مدينة قرطبة بغربيها متصل بسورها القبلي والغربي، وجامعها بإزاء القصر من جهة الشرق، وقد وصل بينهما بساباط يسلك الناس تحته من المحجة العظمى التي بين الجامع والقصر إلى باب القنطرة، وكان طول مسقف البلاطات من المسجد الجامع - وذلك من القبلة إلى الجوف، قبل الزيادة مائتين وخمساً وعشرين ذراعاً والعرض من الشرق إلى الغرب قبل الزيادة مائة ذراع وخمس أذرع، ثم زاد الحكم في طوله في القبلة مائة ذراع وخمس أذرع، فكمل الطول ثلثمائة ذراع وثلاثين ذراعاً، وزاد محمد بن أبي عامر بأمر هشام بن الحكم في عرضه من جهة المشرق ثمانين ذراعاً، فتم العرض مائتين وثلاثين ذراعاً، وكان عدد بلاطاته أحد عشر بلاطاً، عرض أوسطها ست عشرة ذراعاً وعرض كل واحد من اللذين يليانه شرقاً واللذين يليانه غرباً، أربعة عشر ذراعاً، وعرض كل واحدة من الستة الباقية أحد عشر ذراعاً. وزاد محمد بن أبي عامر فيها ثمانية عشر (2) عرض كل واحد عشر أذرع، وطول الصحن من المشرق إلى المغرب مائة وثمان وعشرون ذراعاً، وعرضه من القبلة إلى الجوف مائة واحدة وخمس أذرع، وعرض السقائف المستديرة بصحنه عشر أذرع، فتكسيره ثلاثة وثلاثون ألف ذراع ومائة وخمسون ذراعاً وعدد أبوابه تسعة: منا ثلاثة في صحنه غرباً وشرقاً وجوفاً وأربعة في بلاطاته: اثنان غربيان واثنان شرقيان، وفي مقاصير النساء من السقائف بابان، وجميع ما فيه من الأعمدة ألف عمود ومائتا عمود وثلاثة وتسعون عموداً أساطين رخام كلها. وقباب مقصورة الجامع مذهبة، وكذلك جدران المحراب وما يليه قد أجري فيه الذهب على الفسيفساء، وشرفات (3) المقصورة فضة محضة، وارتفاع الصومعة اليوم - وهي من بناء عبد الرحمن بن محمد ثلاث وسبعون ذراعاً إلى أصل القبة المفتحة (4) التي يستدير بها المؤذنون، وفي رأس هذه القبة تفاح ذهب وفضة، وارتفاعها إلى مكان الأذان أربع وخمسون ذراعاً، وطول كل حائط من حيطانها على الأرض ثمان عشرة ذراعاً. وعدد المساجد بقرطبة على ما أحصي وضبط أربعمائة وأحد وتسعون مسجداً.
وأحواز قرطبة تنتهي في الغرب إلى أحواز اشبيلية، وتأخذ في الجوف ستين ميلاً، وتختلط أحوازها في الشرق بأحواز جيان، وعلى الجملة فقد كانت أمَ البلاد وواسطة عقد الأندلس، وحَوَتْ من الأكابر من أهل الدنيا والآخرة من الملوك والعلماء والصالحين والمفتين وغيرهم خلقاً، ومتعوا فيها ما أراد الله عزّ وجلّ، وذلك حين كان جدها صاعداً.
وبعد ذلك طحنتها (5) النوائب واعتورتها المصائب، وتوالت عليها الشدايد والأحداث فلم يبق من أهلها إلا البشر اليسير على كبر اسمها وضخامة حالها. وقنطرتها التي لا نظير لها وعدد أقواسها تسع عشرة قوساً، بين القوس والقوس خمسون شبراً، ولها ستائر من كل جهة تستر القامة، وارتفاعها من موضع المشي إلى وجه الماء، في أيام جفوف الماء وقلته، ثلاثون ذراعاً. وتحت القنطرة يعترض الوادي رصيف مصنوع من الأحجار والعمد الجافية من الرخام، وعلى السد ثلاث بيوت أرحاء، في كل بيت أربع مطاحن. ومحاسن هذه المدينة وشماختها أكثر من أن يُحاط بها.
فلما عثر جدّها وخوى نجمها وضعف أمر الإسلام واختلت
__________
(1) عن البكري (ح) : 100 وما بعدها.
(2) بروفنسال: ثماني بلاطات.
(3) بروفنسال والبكري: وثريات.
(4) كذا هي في ص ع وبروفنسال والبكري، ولعل صوابها ((المنفحة)) ، أي المزينة بالنفافيح.
(5) عاد إلى النقل عن الإدريسي (د) : 212.(1/458)
بالجزيرة كلمته تغلب عليها النصارى وحكموا عليها، وذلك في أواخر شوّال من سنة ثلاث وثلاثين وستمائة.
قُراقر:
على وزن حلاحل، موضع في ديار كلب بجهة الشام، وفي الخبر (1) أن الروم لما استجاشوا على أبي عبيدة رضي الله عنه ومن معه من المسلمين، وبلغ ذلك أبا بكر رضي الله عنه قال: والله لأنسينَّ الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد، وكان إذ ذاك يلي حرب العراق، فكتب إليه أبو بكر رضي الله عنه (2) : أمّا بعد، فدع العراق وخلِّف فيه أهله الذين قدمت عليهم وهم فيه، وامض متخففاً في أهل القوة من أصحابك الذين قدموا معك العراق من اليمامة، وصحبوك في الطريق، وقدموا عليك من الحجاز حتى تأتي الشام فتلقى أبا عبيدة ومن معه من المسلمين، فإذا لقيتهم فأنت أمير الجماعة والسلام.
وفي الكتاب (3) : وإياك أن تعود لمثل ما فعلت فإنه لم يشج الجموعَ بعون الله تعالى اشجاءك، ولم ينزع الشجى أحد من الناس نزعك، فلتهنئك أبا سليمان النعمة والحظوة، فأتمم يتمم الله لك فلا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدلَّ بعمل فإن الله تعالى له المنّ، وهو وليَ الجزاء.
ووافى خالداً كتابُ أبي بكر رضي الله عنهما هذا وهو بالحيرة منصرفاً من حجّة حجّها متكتماً بها، فانه لما فرغ من إيقاعه بالروم ومن انضوى إليهم مغيثاً لهم من مسالح فارس بالفراض وهي تخوم الشام والعراق والجزيرة - أقام بالفراض (4) عشراً ثم أذن بالقفل إلى الحيرة لخمس بقين من ذي القعدة، وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بهم، وأمر شجرة بن الأعز أن يسوقهم، وأظهر خالد رضي الله عنه أنه في الساقة، وخرج من الحيرة ومعه عدة من أصحابه يعتسف ليلاً حتى أتى مكَّة بالسمت، فتأتى له من ذلك ما لم يتأت لدليل ولا ريبال، فسار طريقاً من طرق الجزيرة، ولم ير طريق أعجب منه، فكانت غيبته عن الجند يسيرة، ما توافى إلى الحيرة آخرهم حتى وافاهم مع صاحب الساقة الذي وضعه فقدما معاً، وخالد وأصحابه محلقون، ولم يعلم بحجه إلا من أفضى إليه بذلك من السّاقة، ولم يعلم أبو بكر رضي الله عنه بذلك إلا بعد، فهو الذي يعنيه بما تقدم في كتابه إليه من معاتبته إياه.
وقدم الرسول (5) بالكتاب على خالد رضي الله عنه، فقال له خالد قبل أن يقرأ الكتاب: ما وراءك؟ فقال له: خير، تسير إلى الشام، فشقّ ذلك عليه وقال: هذا عمل عمر رضي الله عنه، نفسَ علي أن يفتح الله عليّ العراق، وكانت الفرْس قد هابوه هيبة شديدة، وكان إذا نزل بقوم من المشركين كان عذاباً من عذاب الله عليهم، وليثاً من الليوث، فلما قرأ كتاب أبي بكر رضي الله عنه فرأى أنه قد ولاه على أبي عبيدة رضي الله عنه وعلى الشام كان ذلك منحى بنفسه وقال: إما إذ ولاني فإن في الشام من العراق خلفاً، وقال خالد: إن بالشام أهل الإسلام وقد تهيأت لهم الروم وتيسرت، فإنما أنا مغيث، وليس لهم مترك، فكونوا أنتم هاهنا على حالكم التي أنتم عليها، فإن نفرغ مما أشخصت إليه عاجلاً عجلنا إليكم، فإن أبطأت رجوت ألا تعجزوا ولا تهنوا وليس خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتارك إمدادكم بالرجال حتى يفتح الله عليكم هذه البلاد إن شاء الله تعالى.
وروي أن أبا بكر رضي الله عنه أمر خالداً بالخروج في شطر الناس وأن يخلف على الشطر الثاني المثنى بن حارثة وقال له: لا تأخذ نجداً إلا خلفت له نجداً، فإذا فتح الله عليكم فارددهم إلى العراق وأنت معهم، ثم أنت على عملك، فأحصى خالد رضي الله عنه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأثر بهم، وترك للمثنى أعدادهم من أهل الغَناء ممن لم تكن له صحبة ثم نظر فيمن بقي فاختلج من كان قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وافداً أو غير وافد، وترك للمثنى أعدادهم من أهل الغناء ثم قسم الجند نصفين، فقال المثنى: والله لا أقيم إلا على إنفاذ أمر أبي بكر رضي الله عنه في استصحاب نصف الصحابة رضي الله عنهم وإبقاء النصف أو بعض النصف، فوالله ما أرجو النصر إلا بهم فأنى تعريني منهم. فلما رأى ذلك خالد رضي الله عنه بعدما تلكأ عليه أعاضه منهم حتى رضي، وأنجد خالد رضي الله عنه ومعه المثنى، فشيعه إلى قراقر، فقال له خالد رضي الله عنه: انصرف إلى سلطانك غير مقصر ولا ملوم ولا وان.
__________
(1) الطبري 1: 2111.
(2) فتوح الأزدي: 57.
(3) الطبري 1: 2076، 2110.
(4) متابع للطبري 1: 2074.
(5) عاد إلى النص كما هو في فتوح الأزدي: 58.(1/459)
فدعا خالد (1) رضي الله عنه بالأدلة، فارتحل من الحيرة سائراً إلى دومة، ثم طعن في البر إلى قُراقر، ثم قال: كيف لي بطريق أخرج فيه من وراء جموع الروم، فإني إن استقبلتها حبستني عن غياث المسلمين، فكلهم قال: لا نعرف إلا طريقاً لا تحمل الجيوش، فإياك أن تغرر بالمسلمين، فعزم عليه، ولم يجبه إلى ذلك إلا رافع بن عميرة على تهيب شديد، فقام فيهم فقال: لا يختلفن هديكم ولا يضعفنَّ يقينكم، واعلموا أن المعونة تأتي على قدر النية، والأجر على قدر الحسبة، وأن المسلم لا ينبغي له أن يكترث بشيء يقع فيه مع معونة الله له، فقالوا له: أنت رجل قد جمع الله لك الخير فشأنك، فطابقوه وقووا واحتسبوا فلما أراد المسير قال له محرز بن حريش وكان يتجر بالحيرة ويسافر إلى الشام: اجعل كوكب الصبح على حاجبك الأيمن، ثم أمه حتى تصبح، فإنك لا تجور فجرب ذلك فوجده كذلك، ثم أخذ في السماوة حتى انتهى إلى قُراقر ففوز من قُراقر إلى سوى، وهما منزلتان بينهما خمس ليال، فلم يهتدوا للطريق، فقال له رافع بن عميرة الطائي: خفِّف الأثقال واسلك هذه المفازة إن كنت فاعلاً، فكره خالد رضي الله عنه أن يخفّف أحداً فقال: قد أتاني أمر لا بدّ من إنفاذه، وأن نكون جميعاً قال: فوالله إن الراكب المنفرد ليخافها على نفسه ما يسلكها إلا مغروراً فكيف أنت بمن معك؟ قال: إنه لا بد من ذلك، فقد أتتني عزمة، قال: فمن استطاع منهم أن يصرّ أذن راحلته على ماءٍ فليفعل فإنها المهالك إلا ما وقى الله تعالى. ثم قال لخالد رضي الله عنه: ابغني عشرين جزوراً عظاماً سماناً مسان، فأتاه بها فظمأهنّ حتى إذا أجهدت عطشاً سقاهن حتى أرواهن، ثم قطع مشافرهن، ثم كعمهنّ، ثم قال لخالد رضي الله عنه: سر بالخيول والأثقال، فكلما نزل منزلاً نحر من تلك الشرف أربعاً فانبط ماءهن فسقاه الخيول وشرب الناس مما تزودوا، حتى إذا كان آخر تلك قال خالد رضي الله عنه لرافع: ويحك، ما عندك يا رافع فقال: أدركك الري إن شاء الله، انظروا هل تجدون شجرة عوسج على ظهر الطريق، قالوا: لا قال: إنا لله إذاً والله هلكت وأهلكت، لا أبا لكم، انظروا، فنظروا فوجدوها فكبّروا وكبّر وقال: احفروا في أصلها، فاحتفروا فوجدوا عيناً فشربوا وارتووا فقال رافع: والله ما وردت هذا الماء قط إلا مرة مع أبي وأنا غلام، فقال راجز من المسلمين:
للهِ درّ رافع أنّى اهتدى ... فوز من قُراقر إلى سوى
أرضاً إذا ما جاءها الجيش بكى ... ما سارها من قبله إنس يرى
لكن بأسباب متينات القوى ... نكبها الله ثنيات الردى وكتب خالد رضي الله عنه وهو مُقْبِل إلى الشام إلى المسلمين: إن كتاب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني يأمرني بالمسير إليكم، وقد شمرت وانكمشت وكأنْ قد أظلّت عليكم خيلي ورحالي فأبشروا بإنجاز موعود الله تعالى وحسن ثواب الله عز وجل، عصمنا الله وإياكم باليقين وأثابنا بأحسن ثواب المجاهدين، والسلام.
القرافة:
مدفن مشهور في البلاد المصرية يسكنه الناس ويعمرونه.
وهي إحدى (2) عجائب الدنيا بما تحتويه عليه من مشاهد الأنبياء عليهم السلام وأهل البيت والصحابة والتابعين والعلماء والزهّاد والأولياء، ويذكر أن فيها قبر النبي صالح عليه السلام، وقبر روبيل بن يعقوب عليه السلام، ومشهد آسية امرأة فرعون، ومشاهد أهل البيت وفيها بناء حفيل، وفيها روضات بديعة عجيبة البنيان وكل بها قَوَمَة يسكنونها ويحفظونها، ومنظرها عجيب، والجرايات متصلة لقوامها في كل شهر، وكلها مساجد مبنية ومشاهد معمورة يأوي إليها الغرباء والصلحاء والفقراء، والأجراء على ذلك كله نيف على ألفي دينار في الشهر، وهي أربعة آلاف دينار مؤمنية.
وإليها ينسب أحمد بن ادريس القرافي الفقيه شهاب الدين من أهل العصر (3) ، له تعليق على محصول ابن الخطيب سماه " نفائس الأصول في شرح المحصول "، وله " تنقيح الفصول في
__________
(1) الطبري 1: 2112 ثم 2122.
(2) رحلة ابن جبير: 46، 50.
(3) نسب إلى القرافة دون أن يسكنها وهو صنهاجي الأصل، كان مالكياً إماماً في الفقه وأصول الدين عالماً بالتفسير، توفي 682 (وقال في كشف الظنون عند الحديث عن المحصول: سنة 684، وانظر المنهل الصافي 1: 215 - 217) ، وقوله: من أهل العصر إن كان من كلام مؤلف الروض المعطار، فهو ذو قيمة في تعيين الفترة التي عاش فيها المؤلف.(1/460)
علم الأصول " وغير ذلك من تصانيفه، وكان فاضلاً رحمة الله عليه.
ومن الغرائب ما حدَّث به الثقات عن بعض من حضرته صلاة الظهر أو العصر بالقرافة في بعض جماعاتها، قال: سمعت قائلاً يقول للجماعة الحاضرين: الصلاة على الجنازة، وهي الشيخ أبو علي حسن الزبيدي الغائب، فصلينا عليه وانصرفنا، قال: وثبت بعد ذلك أنه توفي ذلك اليوم بتونس، رحمه الله ونفع به آمين.
قرقنة (1) :
جزيرة في البحر وسطاً بين قصر زياد وصفاقص، وهي جزيرة حسنة عامرة بأهلها وليس بها مدينة، إنما يسكنها أهلها في أخصاص، وهي حصينة كثيرة الكروم والأعناب وغلات الكمون والأنيسون وتغلب عليها طاغية صقلية سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. وفي الطرف الغربي منها كهوف وغيران يتحصنون فيها ممن يريدهم، وطول هذه الجزيرة ستة عشر ميلاً وعرضها ستة أميال.
قَرمُونَة (2) :
مدينة بالأندلس في الشرق من اشبيلية، وبينها وبين استجة خمسة وأربعون ميلاً، وهي مدينة كبيرة قديمة وهي باللسان اللطيني: كارب مويه - وهي الكاف والألف والراء والباء المعجمة بواحدة، معناه " صديقي ".
وهي في سفح جبل عليها سور حجارة من بنيان الأول كان تثلم في الهدنة ثم بني في الفتنة، وجنباتها حصينة ممتنعة على المحاربين إلا من جهة الغرب، وارتفاع سورها هناك أربعون حجراً وبالذراع ثلاث وأربعون ذراعاً، وفي هذا السور الغربي برج يُعْرَف بالبرج الأجم، عليه تنصب العرادات عند القتال، وفي ركن هذا السور أيضاً مما يلي الجوف بنيان مرتفع على السور يسمى سمرملة، عليه برج للمحاربين، وتحته مرج نضير لا ينهشم ولا يصوّح كلأه، ويتصل بهذا السور خندق عميق جداً أولي، وترابه مستند إلى السور، وفي السور القبلي موضع فيه صخرة عظيمة منيعة منتصبة كالحائط يحسر عنها الطرف من علوها، والسور مبني فوقها، وقد بقي منها دونه قدْر ممشى الرجل، فيتدلى من هناك الرجال لاشتيار العسل واصطياد فراخ الطير من صدوع تلك الصخرة. وفي هذا السور القبلي باب يعرف بباب ترنى (3) نسب إلى قرية بإزائه تسمى ترنى، وباب قُرْطُبة شرقي (4) عليه قصبة وأبراج، وباب قلشانة بين الشرق والجوف ومنه الخروج إلى قُرطُبة لسهولته، وأما باب قُرطُبة فطريقه وعر ممتنع، وباب اشبيلية غربي، دونه إلى داخل المدينة باب ثان بينهما خمسون ذراعاً.
وبمدينة قرمونة جامع حسن البناء فيه سبع بلاطات على أعمدة رخام وأرجل صخر، وسوقها جامعة يوم الخميس، وبها حمّامات ودار صناعة بنيت بعد سنة المجوس مخزناً للسلاح وبداخل مدينة قرمونة آثار كثيرة للأول، ومقطع حجر وحواليها مقاطع كثيرة منها مقطع بجوفيها واشبيلية بغربي مدينة قرمونة بينهما عشرون ميلاً وبقبلي قرمونة فحص مدينة عريض حمّال للزرع، فيه قرى كثيرة ذات مياه غزيرة وعيون وآبار وافتتح عبد الرحمن بن محمد مدينة قرمونة سنة خمس وثلثمائة.
قَرْناطة (5) :
بالنون، مدينة بالأندلس في ناحية منتزحة عن العمران، وفي جبال شاهقة هناك غار فيه رجُل ميت لم تغيره الأزمنة ولا يُدْرى له أول شأن، ويكف من أعلى الغار ماء في وقبٍ لطيف بأسفله، فلا يفيض ذلك الوقب بدوام الماء، وإن شرب منه العدد الكثير لم ينقص ويذكر أن بعض المستهزئين أخذ من أكفان ذلك الميت فصعق لفوره.
قَرَباكة (6) :
بالباء، بالأندلس أيضاً من إقليم مولة، وهي قرية بها عين ماء تولد الحصى بطبعها، وإذا طال مكثه في الإناء من النحاس أو غيره تحجر بجنباته حتى تتضاعف زنة الإناء، وعين ماءٍ أخْرى تفتت الحصى بطبعها.
__________
(1) الإدريسي (د/ ب) : 126 - 127/ 94.
(2) بروفنسال: 158، والترجمة: 190 (Carmona) وتقع على بعد 30 كيلومتراً إلى الشمال الشرقي من إشبيلية.
(3) بروفنسال: يرني.
(4) بروفنسال: شرقيه.
(5) بروفنسال: 160، والترجمة: 191، ولم يستطع تعيين موقعها، ولكن ما ورد عنها ينطبق على ما أورده القزويني في آثار البلاد: 553 عن ((قسطلونة)) نقلاً عن العذري.
(6) بروفنسال: 150، والترجمة: 180 (Caravaca) وتقع في مقاطعة مرسية على مسافة 68 كيلومتراً إلى الشرق منها، ومولة (Mula) في منتصف المسافة بين مرسية وقرباكة، وفي ع ص: قرباطة.(1/461)
قرطاجنة:
هذا الاسم في ثلاثة مواضع، أحدها بالأندلس (1) عند جبل طارق، وهى مدينة للأول غير مسكونة وبها آثار كثيرة وتُعْرف بقرطاجنة الجزيرة وبمرساها نهر يريق في البحر يعرف بوادي الرمل.
والثانية قرطاجنة الخلفاء (2) بالأندلس أيضاً من كورة تدمير وهي فرضة مدينة مرسية، وهي مدينة قديمة أولية بها ميناء ترسي فيه المراكب الكبار والصغار، وهي كثيرة الخصب والرخاء المتتابع، ولها إقليم يسمى الفندون (3) وقليلاً ما يوجد مثله في طيب الأرض وعذوبة الماء، ويحكى أن السنبل يُحْصَد فيه عن مطرة واحدة، وإليه المنتهى في الجودة. ومن مدينة قرطاجنة إلى مرسية في البر أربعون ميلاً.
وبقرطاجنة هذه هزم عبد العزيز بن موسى بن نصير تدمير ابن غندرس (4) الذي سميت به تدمير هزمه وأصحابه ووضع المسلمون فيهم السيف يقتلونهم كيف شاءوا حتى نجا تدمير في شرذمة من فلال أصحابه إلى حصن أوريوله وكان مجرباً بصيراً داهية، فلما رأى قلة أصحابه أمر النساء فنشرت شعورهن وأمسكن القصب بأيديهن ووقفن على سور المدينة في من بقي من الرجال، وقصد بنفسه كهيئة الرسول واستأمن فأمّن، وانعقد له الصلح ولأهل بلده، وافتتحت تدمير صلحاً، فلما نفذ أمره عرَّفهم بنفسه وأدخلهم المدينة، فلم يروا بها إلا نفراً يسيراً من الرجال فندم المسلمون على ما كان منهم، وكان ما انعقد من صلح لتدمير مع عبد العزيز على إتاوة يؤديها وجزية عن يد يعطيها، وذلك على سبع مدائن منها: أوريوله ولقنت وألش وغيرها، وتاريخ فتحها رجب من سنة أربع وتسعين.
ومن الغرائب (5) ما حكي أن ديراً بقرطاجنة الخلفاء كان على مقربة منه قبر لامرأة شهيدة ولها قدر عندهم وعلى القبر قبة في أعلاها كوة لا يعلو تلك القبة طائر، فإن علاها اجتذبته قوة من تلك الكوة فيسقط في القبة، وقد أخبر رجل بهذه القصة وهو يتصيد بقرطاجنة فأنكر ذلك واعتمد وضع جوارح صيده على القبة فتساقطت داخلها، وكان بتلك القبة مشهد عظيم في يوم من العام يجتمع إليها الداني والقاصي من نصارى تلك النواحي وذلك في الرابع والعشرين من اغشت، فلما كانت سنة أربع عشرة وأربعمائة قصد جماعة من نصارى بلاد افرنجة في مركب حربي إلى تلك القبة فاستخرجوا منها الشهيدة واحتملوها، فلما وصلوا بها إلى جزيرة صقلية بذل لهم نصاراها مالاً عريضاً ليتركوا المرأة عندهم فيقبروها في كنائسهم، فأبوا عليهم ووصلوا بها إلى بلادهم.
والثالثة: قرطاجنة إفريقية وهي أجلّها وأشهرها، حتى قال المسعودي لما ذكر البيوت المعظمة عند أوائل الروم، قال (6) : كان بيت معظم قبل ظهور دين النصرانية ببلاد المغرب بقرطاجنة، وهي تونس وراء بلاد القيروان وهي من أرض الإفرنجة، وبني على اسم الزهرة بأنواع الرخام.
وبين قرطاجنة (7) وتونس عشرة أميال أو نحوها ومرساهما واحد وقرطاجنة من المدن المشهورة وفيها من الآثار وعجائب البنيان ما ليس في بلد شرقاً ولا غرباً ولو دخلها إنسان ومشى فيها عمره يتأمل آثارها لرأى كل يوم فيها أعجوبة لم يرها قبل ذلك.
وهي الآن خراب لأن المسلمين لما غزوها في صدر الإسلام هرب أهلها (8) من باب يقال له باب النساء، فمنهم من فرَّ إلى الأندلس، ومنهم من فرَّ إلى جزيرة صقلية، ويقال إن حسّان بن النعمان لما غزاها في سلطان عبد الملك أو غيره خربها وكسر قناتها.
وإنما الباقي (9) منها الآن قلعة تسمى المعلقة، كان يسكنها قوم من العرب يعرفون ببني زياد، لما طلع عبد المؤمن بن علي إلى إفريقية قبض على أميرهم محمد بن زياد وضرب عنقه، وكانت في وقت عمارتها من غرائب البلاد وفيها من عجائب البناء وظهور القدرة في ذلك ما لم يبلغه أحد.
__________
(1) بروفنسال: 151، والترجمة: 180.
(2) بروفنسال: 151، والترجمة: 181 (Cartagena) والأصوب أن يقال فيها قرطاجنة الحلفاء - بالحاء المهملة - والفقرة الأولى عن الإدريسي (د) : 194.
(3) ص ع: الهندور.
(4) غندريس عند العذري: 4 الذي تحدث عن هذه الأحداث نفسها، وكذلك ابن عذري 2: 11.
(5) انظر العذري: 6.
(6) مروج الذهب 4: 57.
(7) الاستبصار: 121.
(8) إن نسبة تخريب قرطاجنة إلى الفتوحات الإسلامية فيه نظر كثير، وما بعد تخريب الرومان لها ما يجعل أي تخريب مستأنف ذا قيمة، فقد امحت حضارة قرطاجنة وطويت صفحتها سنة 146 ق. م.
(9) الإدريس (د) : 112.(1/462)
ويقال (1) إن ملكها كان ملكاً جبّاراً عظيم الشأن، وكان ملك أكثر الأرض وكان يسمى أنبيل (2) فدخل بلاد الروم وقتل ملوكها وأخذ بلادهم، وبعث إلى قرطاجنة من خواتيم الملوك الذين قتلهم ثلاثة أمداد، ويقال إنه نازل مدينة رومة الكبرى التي هي دار مملكة الروم، فلما حاصرها وضيق على ملكها (3) وأفسد أنظارها أرسل ملك رومة قائداً من قواده، فحشد من كان ببلاده من الروم والجيوش، وأمره بالوصول إلى بلاد إفريقية والنزول على قرطاجنة وخرابها، وكان اسم هذا القائد شيبيون (4) ، فخربوا بلاد إفريقية، ونزلوا بلاد قرطاجنة فلم يكن فيها من يقاوم، فأرسلوا إلى ملكهم أنبيل يعلمونه بما حلّ ببلادهم من أهل رومة، ويسألونه الإسراع لإغاثتهم، فعجب من ذلك ملك قرطاجنة وقال: أردت قطع الرومانيين من الدنيا، وأظن إله السماء أراد غير ذلك، ثم رجعِ إلى بلاده فزعاً، فزحف إليه شيبيون قائد صاحب رومة فهزمه مراراً عدة حتى قتله واستأصل عسكره، ودخل قرطاجنة فهدمها، وأحرقها وخرب المسلمون عند فتح إفريقية بقيتها.
وكان بها (5) قصر من أغرب ما يكون من البناء، مفرط العظم والعلو، أقباء معقودة بعضها فوق بعض طبقات كثيرة، وهو مطل على البحر، وهو حصن عظيم يسميه الناس الطياطر، وهو بناء في استدارة عرض خمسين قوساً قائم في الهواء، سعة كل قوس منها تزيد عن ثلاثين شبراً، وبين كل قوس وأختها سارية سعتها أربعة أشبار ونصف، ويقوم على كل قوس من هذه الأقواس خمسة أقواس، قوس في حلق قوس، صنعة واحدة، وبناؤها من حجر الكذان، وقد صور في البحر الداير على الأقواس أنواع الصور وضروب من التماثيل العجيبة الثابتة في الصخر من صفات الناس والسباع والحيوانات والمراكب قد أتقن ذلك بأبدع صنعة، وسائر البناء الأعلى أملس لا شيء عليه، فيقال إنَ هذا البناء كان ملعباً ومجتمعاً في فصل ما من السنة.
ومن غريب (6) مباني قرطاجنة الدواميس التي عددها أربعة وعشرون في سطر واحد، طول كل داموس منها مائة وثلاثون خطوة في عرض ست وعشرين، في أعلاها أقباء، بين كل داموسين منها خوخات يصل منها الماء إلى جميعها بهندسة وحكمة، وكان الماء الواصل من عين جوقار التي بقرب القيروان إلى قرطاجنة يفرغ في هذه الدواميس على عدة قناطير لا تحصى على وزن معتدل على قسي مبنية بالصخر فما كان منها في نشز الأرض كان قصيراً وما كان في بطون الأرض وأخاديدها كان طويلاً في نهاية العلو، وهذه القناة من أغرب مباني الأرض، وانقطع الماء من هذه الدواميس لكسر القناة وخراب قرطاجنة، ومن حينئذ لم يزل الهدم فيها واستخراج الرخام الكثير منها إلى الآن، وأخبر من رأى ألواح رخام استخرجت منها طولها أربعون شبراً في عرض أربعة أشبار، والحفر في خراباتها دائم لا ينقطع وإخراج الرخام منها كذلك. قالوا: ويوجد بها من أعمدة الرخام ما يكون دوره أربعين شبراً ويحيط بقرطاجنة أوطية من سهول بها مزارع وغلات.
وبقرطاجنة (7) دار الطياطر وهو كله (8) أقباء معقودة على سواري رخام وعليها مثلها نحو أربع مرات قد أحاطت بالدار، والدار دائرة، من أغرب ما يكون من البناء، وبها أبواب كثيرة قد صوَر على كل باب منها صورة نوع من الحيوان، وقد صور في الحيطان صور جميع الصناع بأيديهم آلاتهم، وفي هذه الدار من الرخام ما لو أجمع أهل إفريقية على نقله ما قدروا عليه لكثرته، وكان فيها قصران يعرفان بالأختين ليس فيهما حجر سوى الرخام ورخام الواحد لا يشبه رخام الثاني، ويوجد فيها لوح رخام طوله ثلاثون شبراً وعرضه خمسة عشر شبراً، ويقال إنه وجد فيها غارب (9) بيت من لوح واحد والناس ينقلون من رخام هذين القصرين لحسنه على قدم الزمان، وما فرغ إلى الآن، وبهذين القصرين ماء مجلوب يأتي من ناحية الجوف لا يعرف من أين منبعه، وكان عليه نواعر وسواق تسقي بساتينهم، وكان بها قصر عظيم يطل على البحر يسمى قومش (10) وهو من أعجب ما فيها لأنه مبني على سواري رخام مفرطة الكبر والعظم، يجلس على رأس السارية منها اثنا عشر رجلاً بينهم سفرة طعام أو شراب، وهي مشطبة كالملح بياضاً والمها صفاء، يكون دور السارية منها نحو الثلاثين شبراً في علو مفرط، وعليها
__________
(1) عاد إلى النقل عن الاستبصار.
(2) (Hannibal) و ((يقال)) على التشكيك خلاف ما أورده البكري: 42 وما بعدها، حيث قال: وكان سبب خراب قرطاجنة أن انبيل.. ثم تحدث بوقائع التاريخ الدقيق.
(3) لا يستعمل البكري هذه اللفظة، لأن روما حينئذ لم يكن فيها ملوك.
(4) هو Scipio Africanus.
(5) بتصرف قليل عن الاستبصار: 122، وقارن بالبكري: 43، والنص أقرب إلى الإدريسي:112.
(6) متابع للإدريسي.
(7) الاستبصار: 122.
(8) ويادة ضرورية للتوضيح.
(9) الاستبصار: في غريبها.
(10) ع ص: ترمش، والتصحيح عن البكري: 44 وفيه النص.(1/463)
سوار أخر معترضة، وقد بني القصر عليها أقباء معقودة بعضها فوق بعض بأغرب صناعة وأعظم بناء، فكان هذا القصر حصناً عظيماً، وإنما هدم عن عهد قريب لأنه تحصن فيه قوم من القطاع فكانوا يقطعون بتلك الجهات ويلجأون إليه، فخرج إليهم أهل تونس فقتلوهم وهدموا القصر، وبقربه موضع فيه أقباء ودهاليز تحت الأرض يهاب الدخول فيها، وفيها جثث الموتى على حالها، فإذا مْسَّت تلاشت لقدمها.
وداخل (1) المدينة ميناء تدخله المراكب بشرعها وفيها مواجل كثيرة للماء، وبعضها يسمى بالجرير، وآخر فيها يعرف بمواجل الشياطين بسبب أن من يقرب منها يسمع لها دوياً والناس يتنافسون في الدخول فيها، فمن جسر على دخولها ليلاً علم أنه جريء القلب ثبت الجنان، وهي منظر عظيم هائل، من تكلم فيها بكلمة سمع فيها دوي عظيم يحكي تلك الكلمة، وذلك لإحكام سطوحها، وهي ثمانية عشر صهريجاً مقترن بعضها ببعض في ارتفاعها نحو مائتي ذراع في عرض كبير، والأظهر أنها كانت مخازن لماء عين الزغوانية المجلوب إليها على رأس الحنايا العادية التي لا نظير لها في الدنيا فهي من عجائب الدنيا، وكان هذا الماء يأتي إليها على مسافة خمسة أيام من عين جوقار (2) ، وهو ماء كثير يقوم بخمسة أرحاء أو أكثر، وعرض القناة نحو ثمانية أشبار، وارتفاعها نحو القامة ونصف أعني موضع جري الماء وهذه الحنايا تغيب مرة تحت الأرض في المواضع المرتفعة فإذا جازت على المواضع المنخفضة تكون على قناطر فوقها قناطر حتى تسامي السحاب علواً، فهي من أغرب بنيان في الأرض وفي وسط المدينة صهريج كبير حوله نحو ألف وسبعمائة حنية سوى ما تهدم منها كان يقع فيها الماء المجلوب في هذه القناة ويخرج من هذا الصهريج إلى بعض تلك المواجل، وفي بعض أرجل تلك القناطر كتابة في حجر قيل إن ترجمتها: هذا من عمل أهل سمرقند وقيل إن ذلك الماء جلب في أربعين سنة، ولو قيل في أربعمائة سنة لكان أعجب.
قالوا (3) : ولما افتتح موسى بن نصير جزيرة الأندلس قال لهم: دلوني على أَسنَ شيخ عندكم، فأتي بشيخ قد رفعت حاجباه عن عينيه بعصابة من الكبر، فقال له موسى: من أين أنت يا شيخ؟ قال: من إفريقية، من مدينة قرطاجنة، فقال له: فما الذي صيرك هاهنا، وكيف كان خبر قرطاجنة. فقال له: إن قرطاجنة بناها قوم من بقية العاديين (4) فسكنوها ما شاء الله ثم خربت ألف سنة فبناها ارمين الملك ابن لاوذ بن نمرود الجبار وجلب إليها الماء بالقناطر على الأودية، وشق الجبال حتى أوصله إلى قرطاجنة، فسكنها قومي ما شاء الله أن يسكنوها إلى أن حفر إنسان في أسس تلك القناطر، فوجد حجراً عليه كتابة فيها: إن هذه المدينة ستخرب إذا ظهر فيها الملح، قال: فبينا نحن في ندي قومنا جلوساً إذا ملح على حجر قد عقد عليه، قال: فتأملنا فإذا ذلك في جميع المدينة، فعند ذلك رحلنا إلى هنا.
وعن عبد الرحمن (5) بن زياد بن أنعم قال: كنت أمشي مع عمّي بقرطاجنة نتأمل آثارها ونعتبر عجائبها، فإذا بقبر عليه مكتوب بالحِمْيرية: أنا عبد الله رسول رسول الله صالح، بعثني إلى أهل هذه القرية أدعوهم إلى الله تعالى فقتلوني ظلماً فحسيبهم الله وهو نعم الوكيل، فهذا لا شك كان سبب خراب قرطاجنة (6) .
وذكر أورشيوش في كتابه: بنيت قرطاجنة قبل بنيان مدينة رومة باثنتين وسبعين سنة ولم تزل ذات هرج ومرج مذ كانت، إما لمحاربة الأباعد أهلها أو لمحاربة أهلها بعضهم بعضاً وكانوا في القديم إذا انتابهم الجوع والوبأ داووا ذلك بهرق دماء الناس، فكانوا يذبحون أمام آلهتهم وعلى مذبح أوثانهم الصبيان والأطفال الذين قد يرحم مثلهم ويحن عليهم العدو، وكانوا يرون هرق دمائهم قرباناً، قال: والعجب أن المعروف أن الشياطين إنما تخدع الناس فيما يشاكل شهواتهم ويوافق أهواءهم، فأما أن تزين لهم مداواة الوبأ بقتل الناس وهرق دماء الأطفال حتى يصير فعلهم أضر من الوبأ الذي يشتكونه فإن ذلك غريب من انقياد الناس للشياطين، وقالوا: إن آلهة أهل قرطاجنة في ذلك الزمان سخطت عليهم من سبب ذلك القربان، وكانوا إذ ذاك قد حاربوا بصقلية حروبَاً كثيرة فتكوا فيها ثم حاربوا سردانية فنكبوا، فإذ ذاك ردّوا عودهم على قائدهم الذي كان صاحب حربهم واسمه امروه، فنفوه ومن كان معه من
__________
(1) متابع للاستبصار: 123.
(2) البكري: جقار؛ الاستبصار: جفان.
(3) متابع للاستبصار: 124، وقارن بالبكري: 42.
(4) البكري: العديين.
(5) متابع للاستبصار والبكري: 45.
(6) إلى هنا ينتهي نص الاستبصار.(1/464)
أهل عسكره، فلما طلب أولئك المنفيون إليهم أن يردوهم من النفي فلم يفعلوا أقبلوا لمحاربتهم ومحاربة مدينتهم.
قزوين:
ببلاد الديلم، بينها وبين الري سبعة وعشرون فرسخاً، وهي ثغر الديلم.
قطربل (1) :
طسوج من طساسيج سواد العراق، فيه خمر جيدة ولهذا يقع ذكره في شعر أبي نواس.
وفي بعض أخبار يوم القادسية أن سعداً لما توجه بالعسكر وضعوا على دجلة العسكر والأثقال وطلبوا المخاضة، فلم يهتدوا إليها حتى أتى سعداً علج من أهل المدائن فقال: أدلَكم على طريق تدركونهم قبل أن تمنعوا، فخرج بهم على مخاضة بقطربل، فكان أول من خاضها هاشم بن عتبة واتبعه خيله ثم أجاز خالد بن عرفطة بخيله، ثم تتابع الناس فخاضوا حتى أجازوا، فزعموا أنهم لم يهتدوا لتلك المخاضة بعد.
قطانية (2) :
مدينة كبيرة في جزيرة صقلية، وهي مدينة أولية وعليها نهر يسقي أرضها، ويقال إن مدينة قطانية كانت في القديم سبع مدن بأسوارها، وذلك بين في آثارها، وإلى تلك المدن جلب الماء على آزاج معقودة من جبل النار، كان فيه بركان حمة، وتسمى مدينة قطانية بمدينة الفيل، وذلك أن في صفاة على سطح قصر عظيم من المدينة وهو القصر الذي يشرف على دار الملعب صورة فيل مجسد قائم قد نحتت من حجر صلد أسود يشبه حجر النشفة الذي يكون بالبركان، إلا أنه صلب شديد وكانت هذه الصورة قد انكبَّتْ على رأسها فلما كان بعد الخمسين والأربعمائة من الهجرة أتى القائد المعروف بابن الثمنة إلى تلك الصورة فأمر أن ترد إلى حيز الإستواء، وزعم أن من فعل ذلك يملك جزيرة صقلية.
وبمدينة قطانية موضع يسمى بحمام فتيلة، ويزعم أهلها أن ابنة ملكها في غابر الزمان اشترطت على ملك آخر خطبها أن يبني لها حمّاماً تسخنه فتيلة، فبناه وجرى على الموضع ذلك الاسم.
القطيف (3) :
من بلاد البحرين، من الأعمال اليمنية، فيها قام القرمطي بدعوته، وهناك دعا الناس إلى نحلته.
القطرية (4) :
هي جزيرة في الشمال من جزيرة القرود وبالقرب من جزيرة الزابج (5) ، وهي جزيرة عامرة يسكنها نصارى، لكن زيهم عربي، وهم يتكلمون بالعربية ويدعون أنهم عرب، وهم أهل غدر ومكايد، ويقطعون بالمراكب الآتية والمارة فيما بين البحرين والبصرة إلى قرب عُمان، وهم أخبث عدوّ يلقي في البحر، وفي هذه الجزيرة مغايص الجوهر، وكان أهل اليمن يقصدون إليها ويغوصون بها، لكن أهل الجزيرة أكلوا متاع الغواصين والتجار القاصدين إليهم حتى قطعوا الناس عن السفر إليهم، ويسمى بحرهم هذا بحر هر كند بلغة أهل الهند.
وفي هذا البحر عجائب كثيرة وصور شتى وحيتان ملوّنة منها ما يكون طول مائة ذراع ودون ذلك، ويسمى هذا السمك الوال (6) وهو أبيض، ويتبع هذا السمك الكبير المسمى بالوال سمك آخر، إذا طلعت السمكة الكبيرة فلا يفارقها حتى يقتلها، وفيه سمك ذاهب في العرض إذا شق بطنها وجدت فيه سمكة أخْرى، وإذا شقت تلك الأُخرى وجد في بطنها سمكة أخْرى، وكذلك إذا فعل بالثالثة مثل هذا وجد في بطنها سمكة أخْرى إلى أربع سمكات بعضها في جوف بعض، وفي هذا البحر سلاحف، طول السلحفاة عشرون ذراعاً، وفي بطنها نحو من ألف بيضة، وهي تلد وترضع، وظهورها الذبل الجيد، وفيه سمك على خلقة البقر تلد وترضع ويعمل من جلودها الدرق، وفيه سمك طوله مقدار الذراع، وله وجه كوجه البومة، تطير على الماء وقد قيض الله تعالى لها سمكة أخْرى ترعاها تحت الماء، فإذا سقطت في الماء ابتلعها. وفيه أيضاً أسماك طيارة يُقال لها: البطين (7) ، لها مرارات تكتب بها الكتب فإذا جفّت قرئت في الظلام كما تقرأ بالنهار في ضوء الشمس، وفيه سمكة من صدرها إلى رأسها مثل الترس، تطيف بها عيون تنظر
__________
(1) اسم قرية بين بغداد وعكبرا (ياقوت) .
(2) (Catania) ، وقارن بالإدريسي (م) : 28، والمؤلف ينقل عن مصدر آخر لعله البكري.
(3) قارن بياقوت (القطيف) .
(4) كل المادة عن نزهة المشتاق: 23 (OG: 64) ، وقارن بسط الأرض: 36 حيث يقول: طولها من المغرب إلى المشرق 160 ميلاً وعرضها نحو 60 ميلاً، وأهلها آفة على طريق الهند وطريق بحر فارس، لا يزالون يقطعون على المراكب، وبين البحر الذي بينها وبين جزيرة كلوة مجرى وثلث، وفي جنوبها جزيرة القرود ...
(5) OG وص ع: الرانج.
(6) (Whale) ويعرب بأشكال أخرى مثل ((الأوال)) وغيرها.
(7) OG: النطيق.(1/465)
منها وباقيها طويل مثل الحية في طول عشرين ذراعاً، ولها أرجل كثيرة كأمثال المنشار، وصدرها إلى آخر ذنبها لا يمر بشيء إلا أهلكه.
ومن هذا البحر يخرج العنبر الكثير الطيب الرائحة وقد توجد فيه العنبرة نحو قنطار، وأكثر وأقل، وهو شيء تقذف به عيون في قعر البحر مثل ما تقذف عيون هيت بالنفط، فإذا اشتد هيجان البحر بالريح رمى به إلى الساحل، وقد وهم من قال إنه رجيع دابة وإنما هو ما ذكرناه، وقد بعث الرشيد إلى البحر قوماً يبحثون عن العنبر ما هو، فأخبر أهل عدن وغيرها أنه شيء تقذف به عيون في البحر.
القطيعة:
في الشام، بينها وبين دمشق أربعة وعشرون ميلاً، وعابث علي بن عبيدة صديقاً له من أهل القطيعة فقال: واعجبا، أعانتك علي القطيعة، وأنت من أهل القطيعة. وفي بغداد قطائع كثيرة (1) .
قلشانة (2) :
في إفريقية وهي موضع المعرس لمن خرج من القيروان إلى قابس، وبينها وبين القيروان اثنا عشر ميَلاً وهي كبيرة آهلة بها جامع وحمّام ونحو عشرين فندقاً، وهي كثيرة البساتين وشجر التين، وأكثر تين القيروان الأخضر منها. وأسوارها قصار، وفعلوا ذلك خوفاً من نزول العمال والجباة.
وقلشانة (3) أيضاً بالسين والشين في الأندلس من كورة شذونة، وهي مدينة سهلية على وادي لكه وهو بقبليّها ويصب فيه على مقربة منها نهر بوطة، وموقعه في نهر لكه، ولها قصبة مشرفة بغربيها، ويفتح بابها إلى القبلة، وفي المدينة جامع حسن البناء فيه ست بلاطات، بناه الإمام عبد الرحمن بن محمد. وقلشانة متوسطة لمدن كور شذونة، وبها كان قرار العمال والقواد على شذونة، ومدينتها الأولية المذكورة في كتب القياصرة مدينة شذونة التي تعرف في عصرنا بمدينة ابن السليم (4) وبنو السُلَيم قد انضووا إليها عند خراب مدينة قلشانة، وصاروا فيها، وبين قلشانة ومدينة ابن السليم خمسة وعشرون ميلاً، وهي بين الغرب والقبلة من قلشانة. وتعمل في قلشانة ثياب تعرف بالقلشانيّة مخترعة الصنعة غريبة العمل.
القل (5) :
بينها وبين جيجل سبعون ميلاً، ومنها إلى قسنطينة مرحلتان، والقل مدينة عامرة صغيرة، وهي الآن مرسى وعليه عمارات، والجبال تكنفه من جهة البرّ.
القلزم (6) :
مدينة من أعمال مصر على ساحل البحر، وبها يعرف البحر فيقال بحر القلزم، وبها المراكب للتجار، وسمي القلزم لأنه في مضايق بين جبال، والقلازم: الدواهي والمضايق، وهي مدينة صغيرة متقنة البناء ليس فيها زرع ولا شجر، وإنما تمار من أرض مصر، ويضيق عندها البحر حتى يأتي كالنهر، ويمر كذلك دون مدينة القلزم إلى الشمال عشرة أميال وينقطع، وشرب أهل مدينة القلزم من جزيرة هناك ومن السويس يجلب على الظهر، وهي بئر بطريق مصر على ثلاثة أميال من مدينة القلزم ومن أمثالهم: أكلُ لحم التيس وشربُ ماء السويس، مع العقل ليس. ومن أعاجيبها أن معزها مرسلة في السكك لا مراعي لها ولا أكل إلا التراب، وهي سمان فائقة السمن، ومن أعاجيبها أن في ربض النصارى منها مسجداً في وسطه اسطوانة يأخذ الرقاصون منها زنة الحبة ونحوها ويُحْرز في جلد فلا تؤذيه دابة من دواب البحر، والرقاصون يراعون ذلك مراعاة شديدة ولا يشكون فيه ولا يخلون منه ويزعمون أن القرش إذا قابل في البحر تلك الاسطوانة انقلب على ظهره، وربما هلك فرماه البحر ميتاً، وطول هذا البحر من القلزم إلى الواقواق أربعة آلاف وخمسمائة فرسخ (7) ، وقد رام بعضهم فيما سلف أن يوصل بين بحر القلزم وبحر الروم حرصاً على عمارة الأرض وخصب البلاد ومنافع العباد فمنع من ذلك خشية تنوصل الروم بسبب ذلك إلى غزو الحجاز.
وفي بحر القلزم (8) جبال عالية فوق الماء وتروش طافية ومخفية
__________
(1) عد ياقوت عدة قطائع، مضافة، ولكنه لم يذكر قطيعة بالشام؛ وقد ذكر اليعقوبي: 325، والمسعودي في التنبيه: 306 القطيفة وقال الأول: وبها منازل هشام بن عبد الملك ومنها إلى دمشق؛ وقال الثاني: وهلك يزيد بحوارين من أرض دمشق مما يلي قارا والقطيفة (وكانت في أصول التنبيه القطيعة، وفغيرها المحقق) ؛ وأما علي بن عبيدة فلعله المشهور بالريحاني، ولا أدري له علاقة بدمشق.
(2) البكري: 29.
(3) بروفنسال: 162، والترجمة: 195 (Calsena) .
(4) مدينة ابن السليم Medinaceli.
(5) قارن بالإدريسي (د) 102 - 103، والاستبصار: 127.
(6) انظر خطط المقريزي 1: 213، وابن حوقل: 53، وابن الوردي: 24.
(7) انظر في طول بحر القلزم، ابن خرداذبه: 71.
(8) نزهة المشتاق: 111، وقارن باليعقوبي: 340، وياقوت (قلزم) .(1/466)
وطرق السفن منها معلومة لا يدخلها إلا المهرة من رؤساء البحر العالمون بطرقاته، والسير فيه أبداً بالنهار فقط، ولا يسير به في الليل أحد لصعوبة طرقه من تعاريج مسالكه. وكانت القلزم مدينتين وأكثرهما الآن خراب لتسلط العدوّ (1) عليهما وتضييقه الدائم على أهلهما حتى قلت العمارة وخاف القاصد إليهما وفني ما بأيدي أهلهما وضاقت معايشهم، وبين القلزم ومصر تسعون ميلاً، وبالقلزم تنشأ السفن المسافرة في هذا البحر، وتعمل بحبال الليف والدسر وتجلفط بالشحم المتخذ من دواب البحر ودقاق اللبان.
قلس (2) :
صنم كان لطيء ومن يليها بجبلي طيء: سلْمى وأجا فهدمها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فوجد فيها سيفين: أحدهما الرسوب والآخر المخذم، فأتى بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فوهبهما له، فهما سيفا علي رضي الله عنه.
القليس (3) :
بناء كان أبرهة الحبشي بناه بصنعاء إلى جنب غمدان، وكتب إلى النجاشي ملك الحبشة: إني قد بنيت لك بصنعاء بيتاً لم تبن العرب ولا العجم مثله، ولن أنتهي حتى أصرف حاج العرب إليه ويتركوا الحج إلى بيتهم. وقيل كتب إليه: قد بنيت لك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف حاج العرب إليها.
قالوا (4) : وكان بناؤه إياه بحجارة قصر بلقيس الذي بمأرب، وبلقيس صاحبة الصرح الذي ذكره الله تعالى في القرآن في قصة سليمان عليه السلام، وكان سليمان عليه السلام حين تزوجها ينزل عليها فيه إذا جاءها، فوضع أبرهة الرجال نسقاً يناول بعضهم بعضاً الحجارة والآلة حتى نقل ما كان قي قصر بلقيس مما احتاج إليه من حجر أو رخام أو آلة للبناء وجدَّ في بنائه، وإنه كان مربعاً مستوي التربيع، وجعل طوله في السماء ستين ذراعاً، وكبسه من داخله عشر أذرع في السماء فكان يصعد إليه بدرج الرخام، وحوله سور بينه وبين القليس مائتا ذراع يطيف به من كل جانب، وجعل بناء (5) ذلك كله بحجارة يسميها أهل اليمن الجروب، منقوشة مطابقة لا تدخل بين أطباقها الإبرة، مطيفة (6) به، وجعل طول ما بنى به من الجروب عشرين ذراعاً في السماء، ثم فصل ما بين حجارة الجروب بحجارة مثلثة تشبه الشرف مداخلة بعضها ببعض: حجر أخضر وحجر أحمر وحجر أبيض وحجر أصفر وحجر أسود، فيما بين كل ساقين خشب ساسم مدوّر الرأس، غلظ الخشبة خصر (7) الرجُل، ناتئة على البناء وكان مفصلاً بهذا البناء على هذه الصفة، ثم فصل بافريز من رخام منقوش طوله في السماء ذراعان، وكان الرخام ناتئَاً عن البناء ذراعاً، ثم فصل فوق الرخام بحجارة سود لها بريق من حجارة نُقُم جبل صنعاء المشرف عليها، ثم وضع فوقها حجارة صفر لها بريق ثم وضع فوقها حجارة بيض لها بريق، فكان هذا ظاهر حائط القليس وكان عرض حائط القليس ستة أذرع، وذكروا أنهم لا يحفظون ذرع طول القليس ولا عرضه، وكان له باب من نحاس عشر أذرع طولاً في أربع أذرع عرضاً، وكان المدخل منه إلى بيت في جوفه طوله ثمانون ذراعاً في أربعين ذراعاً، معلق العمل بالساج المنقوش ومسامير الفضة والذهب، ثم تدخل من البيت إلى إيوان طوله أربعون ذراعاً، عن يمينه وعن يساره عقود مضروبة بالفسيفساء مشجرة بين أضعافها كواكب الذهب ظاهرة، ثم تدخل من الإيوان إلى قبة ثلاثين ذراعاً في ثلاثين ذراعاً جدرها بالفسيفساء، وفيها صلب منقوشة بالفسيفساء والذهب والفضة، وفيها رخامة مما يلي مطلع الشمس من البلق مربعة عشرة أذرع في عشرة أذرع تعشي عين من نظر إليها من بطن القبة، تؤدي ضوء الشمس والقمر إلى داخل القبة، وكان تحت الرخامة منبر من خشب اللبخ، وهو عندهم الأبنوس، مفصل بالعاج الأبيض، ودرج المنبر من خشب الساج ملبسة ذهباً وفضة وكان في القبة سلاسل فضة، وكان في القبة أو في البيت خشبة ساج منقوشة طولها ستون ذراعاً يقال لها كعيب، وخشبة من ساج نحوها في الطول يقال لها امرأة كعيب، كانوا يتبركون بهما في الجاهلية، وكان يقال لكعيب الأحوزي، والأحوزي بلسانهم الحبر، وكان أبرهة عند بناء القليس قد أخذ العمال بالعمل، أخذاً شديداً، وقد آلى أن
__________
(1) نزهة المشتاق: العرب.
(2) أخطأ المؤلف في وضع هذه المادة هنا إذ صوباها ((الفلس)) - بالفاء -؛ انظر ياقوت (الفلس) والأصنام: 15.
(3) في مجمل الحديث عن القليس انظر السيرة 1: 43، والأصنام: 46، وياقوت: (القليس) .
(4) متابع للأزرقي 1: 89.
(5) الأزرقي: بين.
(6) الأزرقي: مطبقة.
(7) الأزرقي: حضن.(1/467)
لا تطلع الشمس على عامل لم يضع يده في عمله فيؤتى به إلا قطع يده، قال: فتخلف رجل ممن كان يعمل فيه حتى طلعت الشمس، وكانت له أمّ عجوز، فذهب بها معه لتستوهبه من أبرهة، فأتته به وهو بارز للناس، فذكرت له علة ابنها واستوهبته منه فقال: لا أكذب نفسي ولا أفسد عليّ عمالي، فأمر بقطع يده، فقالت له أمّه: ضرب بمعولك ساعي بهر، اليوم لك وغداً لغيرك، ليس كل الدهر لك، فقال: ادنوها، فقال لها: إن هذا المُلْك أيكون لغيري؟ قالت: نعم، وكان أبرهة قد أجمع أن يبني القليس حتى يظهر على ظهره فيرى منه بحر عدن، فقال: لا أبني حجراً على حجر بعد يومي هذا، فأعفى الناس من العمل، وتفسير قولها: ساعي بهر، تقول: اضرب بمعولك ما كان حديداً، فانتشر خبر بناء أبرهة هذا في العرب، فدعا رجُل (1) من النسأة من بني مالك بن كنانة فتيين منهم فأمرهما أن يذهبا إلى ذلك البيت الذي بناه أبرهة بصنعاء فيحدثا فيه، فذهبا ففعلا ذاك، فدخل أبرهة البيت فرأى آثارهما فيه فقال: من فعل هذا؟ فقيل: رجلان من العرب، فغضب من ذلك وقال: لا أنتهي حتى أهدم بيتهم الذي بمكة.
وقيل (2) : لما تحدثت العرب بكتاب أبرهة بذلك إلى النجاشي غضب رجل من النسأة أحد بني فقيم من بني كنانة، فخرج حتى أتى القليس، فقعد فيها، أي أحدث فيها، ثم خرج حتى لحق بأرضه، فأخبر بذلك أبرهة فقال: من صنع هذا؟ فقيل له: صنعه رجل من العرب من أهل هذا البيت الذي تحج العرب إليه بمكّة لما أن سمع بقولك: أصرف إليها حاج العرب، فغضب فقعد فيها، أي أنها ليست لذلك بأهل، فغضب عند ذلك أبرهة وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه.
قال (3) : فساق الفيل إلى البيت الحرام ليهدمه، فكان من أمر الفيل ما كان، فلم يزل القليس على ما كان عليه حتى ولى أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين العباسَ بن الربيع بن عبيد الله (4) الحارثي اليمن، فذكر للعباس ما في القليس من النقض والذهب والفضة وعظم ذلك عنده وقيل له إنك مصيب فيه مالاً كثيراً وكنزاً، فتاقت نفسه إلى هدمه وأخذِ ما فيه، فبعث إلى ابن لوهب بن منبه فاستشاره في هدمه وقال: إن غير واحد من أهل اليمن قد أشاروا علي أن لا أهدمه، وعظم علي أمر كعيب وذكر أن أهل الجاهلية كانوا يتبركون به، وأنه كان يكلمهم ويخبرهم بأشياء ممّا يحبون ويكرهون، قال ابن وهب: كل ما بلغك باطل، وإنما كعيب صنم من أصنام الجاهلية فتنوا به، فمر بالدهل - وهو الطبل - وبمزمار فليكونا قريباً، ثم اعله بالهدامين، ثم مرهم بالهدم، فإن الدهل والمزمار أنشط لهم وأطيب لأنفسهم، وأنت مصيب من نقضه مالاً مع أنك تثأر من الفسقة الذين حرقوا غمدان وتكون قد محوت عن قومك اسم بناء الحبش وقطعتَ ذكرهم. وكان بصنعاء يهودي عالم، قال: فجاء قبل ذلك إلى العباس بن الربيع يتقرب إليه، فقال له: إن ملكاً يهدم القليس يلي اليمن أربعين سنة، فلما اجتمع له قول اليهودي ومشورة ابن وهب أجمع على هدمه.
وفي الروض الأنف (5) أن أبرهة لما هلك ومزقت الحبشة كل ممزق، وأقفر ما حول هذه الكنيسة فلم يعمرها العدوَ، وكثرت حولها السباع والحيات، وكان من أراد أن يأخذ شيئاً منها أصابته الجن، فبقيت من ذلك العهد بما فيها من العدد والخشب المرصع بالذهب والآلات المفضضة التي تساوي قناطير من المال، لا يستطيع أحد أن يأخذ منها شيئاً إلى زمن أبي العباس فذكر له أمرها وما يتهيبُ من جنها وحيّاتها فلم يرعه ذلك، وبعث إليها العباس بن الربيع عامله على اليمن معه أهل الحزم والجلادة، فخربوها وحصلوا منها مالاً كثيراً، أبيع ما أمكن بيعه من رخامها وآلاتها، فعفا بعد ذلك رسمها وانقطع خبرها ودرست آثارها، وكان الذي يصيبهم من الجن ينسبونه إلى كعيب وامرأته، صنمين كانت الكنيسة بنيت عليهما، فلما كسر كعيب وامرأته أصيب الذي كسره بجذام، فافتتن بذلك رعاع اليمن وطغامه، وقالوا: أصابه كعيب.
وذكر أبو الوليد الأزرقي عن الثقة عنده قال (6) : شهدت العباس وهو يهدمه فأصاب منه مالاً عظيماً، ثم رأيته دعا بالسلاسل فعلقها في كعيب والخشبة التي معه، فاحتملها الرجال فلم يقربها أحد مخافة، لما كان أهل اليمن يقولون فيها، قال: فدعوا
__________
(1) ع: رجلان ... فأمراهما.
(2) هذه هي رواية ابن إسحاق في السيرة 1: 43، 45.
(3) عاد إلى نص الأزرقي.
(4) ص ع: عبد الله.
(5) الروض 1: 246.
(6) الأزرقي 1: 92.(1/468)
بالورديون، وهو العجل فأعلق فيها السّلاسل ثم جذبها الثيران وجذبتها الناس معه حتى أبرزوها من السور، فلما أن لم ير الناس شيئاً ممّا كانوا يخافون من مضرّتها، وثب رجل من أهل العراق، وكان تاجراً بصنعاء، فاشترى الخشبة وقطعها لدار له، فلم يلبث العراقي أن جُذِم، فقال رعاع الناس: هذا لشرائه كعيباً، قال: ثم رأيت أهل صنعاء بعد ذلك يطوفون بالقليس يلتقطون منه قطع الذهب والفضة.
قال السهيلي (1) : وسميت هذه الكنيسة بالقُلَّيْس لارتفاع بنائها وعلوها، ومنه القلانس لأنها في أعالي الرؤوس، ويقال تقلنس الرجُل وتقلس: إذا لبس القلنْسُوَة، وقلس طعاماً: أي ارتفع من معدته إلى فِيْه.
قلنبو (2) :
في بلاد السودان وهم على النيل، وأهلها مشركون، وهي مدينة كبيرة، والنيل يشقّ جميع تلك البلاد ويسقي أكثرها وفي تلك البلاد حيوان يشبه الفيل في عظم خلقته وخرطومه وأنيابه، يرعى في البر ويأوي إلى النيل، ويصطادونه فيأكلون لحمه ويصنعون من جلده الأسواط التي يسمونها السرياقات، ويقال لها بالأندلس ذنب الفار، ومن هناك تُحْمل تلك الأسواط إلى جميع الآفاق ولهم في صيده حيلة فإنهم يميزون في الليل المواضع التي يأوي إليها هذا الحيوان لتحرك الماء على ظهره وقلة استقراره، وعندهم مزارق حديد قصار في أسافلها حلَق قد شُدَّت فيها حبال مديدة، فيزرقونه بالعدَدِ الكثير منها، فيهرب منهم ويغوص في النيل فيرخون له في تلك الحبال فيضطرب حتى يموت، فإذا مات طفا على الماء، فيجرونه إلى البر ويأخذونه.
قلب (3) :
هي قاعدة مورور بالأندلس ودار الولاة (4) بها وهي مدينة كبيرة فيها مسجد جامع وسوق يَرِده الناس بضروب المتاجر وهي كثيرة الزيتون والثمار ولها بطائح سهلة وجبال شامخة وعرة منها جبل بقبليها منيع وعر حصين وعلى مقربة منه جبل القرود.
قلعة أيوب (5) :
بالأندلس بقرب مدينة سالم، وهي مدينة رائعة البقعة حصينة شديدة المنعة كثيرة الأشجار والثمار، كثيرة الخصب رخيصة الأسعار، وبها يصنع الغضار المذهب ويتجهز به إلى كل الجهات، وهي قريبة من مدينة دروقة، بينهما ثمانية عشر ميلاً.
قلعة رباح (6) :
بالأندلس أيضاً من عمل جيان، وهي بين قرطبة وطليطلة، وهي مدينة حسنة ولها حصن حصين على نهر آنه، وهي مدينة محدثة في أيام بني أميَّة، وإنما عمرت قلعة رباح بخراب أوريط. وفي سنة إحدى وأربعين ومائتين أمر الإمام محمد بتحصين مدينة قلعة رباح والزيادة في مبانيها، ونقل الناس إليها وإلى مدينة طلبيرة.
وبقرب قلعة رباح ماء حامض إذا مخض في سقاء حلا.
ثم ملكها النصارى ولم تزل في أيديهم إلى عام وقيعة الأرك (7) فجلت قبل الوصول إليها وكان لها في أيديهم إحدى وخمسون سنة وعشرة أشهر فأمر المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بتطهير جامعها، وصلى فيه، وقدم على قيادتها يوسف بن قادس.
قلعة بني حماد (8) :
وهي قلعة أبي طويل، وبينها وبين المسيلة اثنا عشر ميلاً، وهي من أكبر البلاد قطراً وأكثرها خلقاً وأغزرها خيراً، وأوسعها أموالاً، وأحسنها قصوراً ومساكن، وأعمها فواكه وخصباً، وحنطتها رخيصة ولحومها طيبة سمينة، وهي في سند جبل سام صعب المرتقى، وقد استدار سورها بجميع الجبل وأعلى الجبل بسيط من الأرض ومنه ملكت القلعة، وبهذه القلعة عقارب كثيرة سود تقتل في الحال، وأهل القلعة يتحرزون منها ويتحصنون من ضررها ويشربون لها نبات الفوليون، ويدعون أن من شرب وزن درهمين منه لعام كامل لا يصيب شاربه ألم تلك العقارب، وهذا مشهور عندهم، وهذه الحشيشة ببلاد القلعة كثيرة (9) ، وبين هذه القلعة وبين بجاية مسيرة أربعة أيام.
__________
(1) الروض 1: 244؛ والأصوب أنه من لفظ Ecclesia اللاتينية بمعنى كنيسة.
(2) عن الاستبصار: 217 - 218 (قلنبوا) ، وقارن بالبكري: 172 - 173.
(3) بروفنسال: 192، والترجمة: 194.
(4) بروفنسال: الولاية.
(5) بروفنسال: 163، والترجمة: 195 (Caltayud) ، ومعظمه عن الإدريسي (د) : 189.
(6) بروفنسال: 163، والترجمة: 196 (Caltarava) .
(7) كانت وقيعة الأرك عام 592.
(8) الإدريسي (د/ ب) : 86/ 59، وقارن بالاستبصار: 167.
(9) بعد هذه اللفظة وردت في ص ع عبارة نصها: ((وكان سبب بنائها أن العرب لما دخلوا أفريقية وأفسدوا القيروان وأكثر مدن أفريقية هرب المعز صاحب القيروان وتحصن بالمهدية، وكان صاحب القلعة المنصور بن بلكين بن حماد)) ، ثم ينقطع النص، والحق أن هذه العبارة وردت في مادة ((باجة)) لتعليل سبب بناء باجة نفسها، ويبدو أن المؤلف وقع في الوهم، فكرر بعض ما جاء هنالك وأتى به ناقصاً لا يوضح شيئاً.(1/469)
وهذه القلعة (1) منيعة وتحضرت (2) عند خراب القيروان انتقل إليها أكثر أهل إفريقية، وكانت مقصد التجار وبها تحل الرحال (3) من العراق والحجاز والشام ومصر وسائر بلاد المغرب. وذكر البكري (4) أن بها كان احتصن أبو يزيد مخلد بن كيداد النكار.
وخبر حماد صاحبها مع المرأة الوكعاء وكيف تداهت عليه حتى قتلها قد تقدم في رسم باغاية من حرف الباء.
وتصنع بمدينة قلعة حماد أكسية ليس لها مثل في الجودة والرقة إلا الوجدية التي تصنع بوجدة، ويساوي الكساء الذي يصنع بقلعة حماد ثلاثين ديناراً أو أزيد. ولمّا بنيت بجاية وعمرت انتقل الناس إليها ولم تزل القلعة تنقص إلى أن استولى عليها الخراب.
قلعة الفضة:
قالوا: في البحر الأسود الزفتي المتصل بالبحر المحيط وهو شديد النتن، وليس فيه غير قلعة الفضة، ويقال إنها معمولة وقالت طائفة إنها خلقة.
قلعة كيانة (5) :
يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى في حرف الكاف.
قلعة البلوط:
بجزيرة صقلية، تقدم ذكرها في رسم الشاقة في حرف الشين المعجمة.
قلعة مغيلة دلول (6) :
بينها وبين مدينة مستغانم مسيرة يومين، وهذه القلعة على جبل منيف شديد الحصانة بينها وبين البحر خمسة فراسخ، وبها عين ماء.
قلعة هوارة (7) :
بالمغرب بقرب تاهرت، وهي قلعة منيعة في جبل خصيب فيه بساتين وثمار وأشجار ومزارع وأعناب، وتحتها فحص طوله نحو أربعين ميلاً يشقّه نهر سيرات ويسقي أكثر أرضه فسمي ذلك الفحص " سيرات " باسم النهر، ونهر سيرات نهر كبير مشهور يقع في البحر عند مدينة أزواوا (8) .
ويسكن فحص سيرات قبائل كثيرة من البربر ومطغرة وغيرهم من قبائل زناتة، وزناتة تنشعب على قبائل كثيرة، وبلادهم واسعة، ويخالطهم من جهة إفريقية بنو زغبة من العرب من بني هلال بن عامر، ومن جهة المغرب بلاد مسوفة، وهمِ قبائل كثيرة من صنهاجة يسكنون تلك الصحراء لا يستوطنون بلداً وعيشهم من اللبن واللحم، وهم خلق كثير، وفي صحارى بلادهم جبل عظيم يعرف بقلقل كثير الخصب من العيون والأنهار، وفيه آثار عمائر كثيرة وبيوت محصنة وقرى واسعة لا أنيس بها ولا يسكنها خلق، ويقال إن الجن أخلت تلك العمائر والبلاد، ويُرى في تلك الصحارى بالليل نيران الجن ويسمع عزفهم وغناؤهم، وهم كثيراً ما يختطفون الأناسيّ ويحملونهم معهم، وربما يفلت الأنسي من بينهم فيرجع إلى أهله، فيحدث بما رأى عندهم، وهذا متعارف، ويقال إنهم يبدلون أولادهم بأولاد الإنس، ولذلك يقول أهل إفريقية: يا مبدول.
قلعة الحجار (9) :
بمقربة من المسيلة، نزلها المنصور إسماعيل حين كان يحارب أبا يزيد النكار.
قلعة أبي طويل (10) :
من القيروان إلى قلعة أبي طويل، وهي قلعة كبيرة ذات منعة وحصانة وتحضرت عند خراب القيروان، وانتقل إليها أكثر إفريقية، وكانت مقصداً للتجار وتحل بها الرحال من العراق والحجاز والشام ومصر وبلاد المغرب، وكانت مستقر مملكة صنهاجة، ونزلها أبو يزيد مخلد بن كيداد.
قلورية (11) :
مدينة بجزيرة صقلية كان إبراهيم بن أحمد بن الأغلب صاحب القيروان وأعمالها غزا صقلية بنفسه وفتح فيها مدناً
__________
(1) البكري: 49.
(2) البكري: وتمصرت.
(3) ص ع: ومهاجر الرجال.
(4) البكري: 49.
(5) افتتاح الدعوة: 279 كتابة (ومن صورها: كتابة، كيانة) وعند ابن خلدون 4: 44 قلعة كتامة، وسوردها المؤلف في موضعها بما يشير إلى أن الكاف متبوعة بياء.
(6) ص ع: قلعة دغنولة؛ والتصويب والنصن عن البكري: 69.
(7) الاستبصار: 178، والبكر: 69 - 70، وتسمى القلعة ((تاسفدالت)) ، وقارن بالإدريسي (د) : 58.
(8) كذا في ص ع والاستبصار؛ والبكري: أرزاو.
(9) ص: قلعة الحجارة.
(10) قد أورد المؤلف هذا عند الحديث - قبل قليل - عن ((قلعة بني حماد)) وهي نفسها ((قلعة أبي طويل)) - اعتماداً على البكري: 49 - ولم يكد ينسى ذلك كله.
(11) (Calabria) مقاطعة بإيطاليا، وليست مدينة بصقلية.(1/470)
منها طبرمين، وحاصر قلورية هذه فقتل وسبى، فهربوا منه ثم مضى إلى كشنته (1) ، فلم يزل يتعرف الفتح والنصر حتى عرض له المرض الذي مات منه، فحمل إلى مدينة بلرم فدفن بها.
قُلُمْرِيّة (2) :
بالميم، بالأندلس، من بلاد برتقال، مدينة بينها وبين قورية أربعة أيام.
وهي (3) على جبل مستدير، وعليها سور حصين ولها ثلاثة أبواب، وهي في نهاية من الحصانة.
وهي صغيرة متحضرة عامرة كثيرة الكروم والتفاح والقراصيا، ومكانها في رأس جبل تراب لا يمكن قتالها، وهي على نهر عليه أرحاء، وبين قُلُمْرِيّة وشنترين ثلاث مراحل، وبينها وبين البحر اثنا عشر ميلاً.
قمار (4) :
بلد أو جزيرة بالهند، إليها ينسب العود القماري، وهو جيد لكن العود الصنفي أجود منه، وبها الصندل والأرز، وأهلها يجالسون التجار ويعاملونهم، وفيهم عدالة ظاهرة وجودة مشهورة وإنصاف كامل، وعبادتهم الأصنام والبدود، وهم يحرقون موتاهم بالنار.
قالوا (5) : ومملكة قمار موازية لمملكة المهراجٍ صاحب الجزائر. يحكى أن ملكاً من ملوك قمار تذوكر عنده يوماً عظم مملكة المهراج صاحب الجزائر وجلالتها، فقال لوزيره: في نفسي شهوة أحب بلوغها وكان حدثاً سفيهاً فقال: ما هي؟ قال: كنت أحب أن أرى رأس المهراج بين يديّ، فعلم الوزير أن الحسد أثار ذلك الفكر في نفسه، فأنكر الوزير ما سمع منه وقال: إنه لم يتقدم بين من سلف منا ومنهم خلاف ولا ترة فينبغي ألا يعيد الملك في هذا قولاً ولا يأخذ في هذا مع أحد، وبين موضع مملكة المهراج وقمار نحو عشرة أيام في البحر، فلم يسمع منه وأشاع ذلك في قواده حتى اتصل بصاحب المهراج، وكان محنكاً جزلاً، فأمر بإعداد ألف مركب بآلاتها وتجهيزها من حَمَلة السّلاح وأهل الغناء بما تحمله وأشاع أنه يريد التنزه في جزائر مملكته، وكتب إلى ملوك الجزائر بما عزم عليه من زيارتهم وأمرهم بتلقيه مختلفين ليرهب على من والاه، فلما استتمت أموره أتى قاصداً إلى قمار، ويتصل بدار مملكة صاحبها نهر يصبّ في البحر فسيّر فيه رجاله فأتوه على حال غرة، وأخذ قواته واحتوى على مملكته، وأمر منادياً ينادي بالأمان في الناس، وقعد على سرير المملكة وقد أخذ صاحب السرير أسيراً فأحضره وأحضر وزيره وقرره على تمنيه فلم يحرْ جواباً، فقال له المهراج: أما أنك لو تمنيت مع الذي تمنيت إباحة أرض أو فسادها لأفسدت أرضك واستعملت ذلك كله فيك، ولكني لا أتعدى ما تمنيت لتكون عظة لمن بعدك، فضرب عنقه، وجعل رأسه في طست بين يديه، وقال للوزير: جزيت خيراً، فانظر من يصلح للملك بعد هذا الجاهل فأقمه مقامه، وانصرف من ساعته راجعاً إلى بلده من غير أن يمد هو أو أحد من أصحابه يداً إلى شيء من بلاد قمار ولا ماله، وحمل الرأس معه، فلما قعد في مملكته أخبرهم خبره ثم أمر بالرأس فغسل وطيِّب وردَّه إلى الملك القائم ببلاد قمار، وكتب إليه: إنما حملنا على ما فعلناه بصاحبك بغيه علينا، وقد بلغنا منه ما أردنا، ورأينا ردّ رأسه إليك إذ لا درك في حبسه والسلام. واتصل الخبر بالملوك فعظم المهراج في أعينهم وصارت بعد ذلك ملوك قمار تؤم بوجوهها كل صباح إلى بلاد الزابج فتسجد تعظيماً للمهراج.
والهنود يمنعون (6) من شرب الخمر المسكرة ويعيبون شاربها لا تديناً بل سياسة، وإذا صحّ عندهم ذلك في ملك من ملوكهم استحق الخلع، ولا يشربه من ملوكهم إلا صاحب جزيرِة سرنديب، فإنه يحمل إليه من بلاد المغرب، وأشدهم ملك قمار فإنه يعاقب في السكر والزنا بالقتل، والزنا عند سائر ملوكهم مباح إلا في المحصنين، وملك قمار أشدهم غيرة، وهم يعافون الخل فيحمضون ماء الأرز ويستعملونه، والمُلْك مقصور في أهل بيت وكذا القضاء والوزارة وسائر الرتب لا تغير ولا تبدل.
__________
(1) ص ع: لشنتة.
(2) بروفنسال: 164، والترجمة: 97 (Coimbra) .
(3) الإدريسي (د) : 183.
(4) نزهة المشتاق: 30 (OG: 83) وعدها جزيرة؛ وقارن بمعجم ما استعجم 3: 1094، ونخبة الدهر: 155، وتقويم البلدان: 369، والزهري: 20، وابن الوردي: 48، ويرى مينورسكي أن ((قمار)) Qimar هي Khmer وهي ما يعرف باسم كمبوديا على الميكنج.
(5) مروج الذهب 1: 170، والبكري (مخ) : 45.
(6) المروج 1: 168 - 169، والإدريسي (ق) : 11، وابن رسته: 132 - 133، وابن الفقيه: 15، وابن خرداذبه: 66 - 67، وانظر 172 - 179 (AGK) حيث رتب ما أورده الجغرافيون العرب عن ((قمار)) .(1/471)
قالوا (1) : وأصل كتب الهند وسننهم من قمار، وحكمهم أن من ذبح بقرة ذُبِح بها، وعباد قمار لا يقربون المسلمين ويقولون إنهم أنجاس لأنهم يأكلون البقر، وسمع رجل من المسلمين رجلاً من كبار عبادهم يقول: كشرايدمشوق (2) ، ومعنى ذلك بالهندية: يا من ليس كمثله شيء، قال: فعجبت من ذلك وقلت له: أتعرف ما تقول؟ قال: أتعرفون أنتم ما تقولون؟ قلت له: فلم تعبدون الأصنام من دونه؟ قال: هذه قبلتنا يا جاهل. ومن عقوبة ملك قمار على شرب الخمر أن يحمي مائة حلقة من حديد بالنار ثم توضع على يدي الفاعل، فربما أتلفت نفسه، ومن رأوه من المسلمين يشرب فهو خسيس لا يعبأون به. ويقال إن في بلاد قمار، مائة ألف عابد وهم أصحاب تسبيح ومعهم سبح لا تفارقهم، ولملك قمار ثمانون قاضياً ولو ورد عليهم ولد الملك لأنصفوا منه وأقعدوه مقعد الخصم ووجهوا عليه صريح الحكم، ولفراش ملك قمار أربعة آلاف امرأة.
قمُّ (3) :
مدينة من كور الجبل، من همذان إليها خمس مراحل، وهي مدينة كبيرة كثيرة الأهل عليها سور تراب، وبها فواكه وأشجار، وسورها حصين، ومياههم من الآبار ومياه بساتينهم تستخرج من الأرض بالسواني، وعليه زراعاتهم، وبها أشجار الفستق والبندق وليس يوجد الفستق والبندق فيما جاورها من البلاد ومنها يحمل إلى غيرها من البلدان والغالب على أهلها التشيع، وأكثر أهلها عرب.
وكان أهل قُمّ خالفوا على المأمون سنة عشر ومائتين، فتوجهت إليها جيوشه ففتحها رجَل يقال له الكنج وهدم سورها وجباها سبعة آلاف ألف درهم ونيفاً وإنما خرجوا إلى ما خرجوا إليه لأنهما كانوا يتظلمون من ألف ألف كانت وظيفتهم.
وحكي (4) أن مدينة قُمّ الكبرى يقال لها منيجان وهي جليلة المقدار يقال إن فيها ألف درب وداخل المدينة حصن قديم للعجم وإلى جانبها مدينة يقال لها كمندان ولها واد يجري فيه الماء
بين المدينتين، عليه قناطر معقودة بحجارة يعبر عليها من مدينه منيجان إلى مدينة كمندان وأهلها قوم من مذحج ثم من الأشعريين، وبها عجم وقوم من الموالي يذكرون أنهم موالٍ لعبد الله بن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما.
القَموص (5) :
حصن من حصون خيبر، وهو حصن أبي الحقيق، لما فتحه النبي صلى الله عليه وسلم أصاب منه سبايا منهن صفية بنت حيي بن أخطب، وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وبنتا عم لها، فاصطفى صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه بعد أن سأله إياها دحية بن خليفة الكلبي، فلما اصطفاها صلى الله عليه وسلم أعطاه ابنتي عمها، وكانت صفية رضي الله عنها قد رأت في المنام، وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، أن قمراً وقع في حجرها، فعرضت رؤياها على زوجها فقال: ما هذا إلا أنك تمنَّيْنَ ملكَ الحجاز محمداً، فلطم وجهها لطمة خضّر عينها، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها أثر منه، فسألها ما هو، فأخبرته هذا الخبر فأعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بها ببعض الطريق وبات بها في قبة له، وبات أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه متوشحاً بالسيف يحرسه يطيف بالقبة حتى أصبح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني ".
قمامة:
اسم للموضع الذي يزعم الزاعمون أن فيه مقبرة عيسى عليه السلام، وهي كنيسة معظمة تعرف بكنيسة قمامة بمدينة بيت المقدس، وهي الكنيسة المحجوج إليها من بلاد الروم في مشارق الأرض ومغاربها. وفي بعض المخاطبات عن صلاح الدين: ونازلنا قمامة ولها الغمامة عمامة.
قمودة (6) :
في قبلة القيروان على مسافة يومين منها قالوا: وهو قطر واسع فيه مدن وحصون، والمدينة القديمة العظمى هي التي يقال لها: سبيطلة فتحت في زمان عثمان وحضرها عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم وكان أمير الجيش عبد الله بن سعد بن أبي سرح سنة سبع وعشرين وقد تقدّم ذكرها في حرف السين.
__________
(1) متابع للبكري (مخ) : 44، ومعظمه عند ابن رسته: 133.
(2) صورتها في البكري: كشرامدشون.
(3) قارن بما في نزهة المشتاق: 204، والكرخي: 118، وابن حوقل: 315، وابن الفقيه: 263، وياقوت (قم) .
(4) العيقوبي: 273.
(5) معجم ما استعجم 3: 1095، وقارن بالسيرة 2: 326.
(6) اليعقوبي: 394.(1/472)
قمولة (1) :
قرية بأرض مصر كالمدينة جامعة متحضرة مكتفية بكل نعمة، وفيها أنواع من الفواكه وضروب من التمور والعنب، قال بعضهم: وزنت منه حبة فوجدت زنتها اثني عشر درهماً، وفيها من الدلاع وأنواع الموز ما يجل عن المقدار المعهود، وكذلك الرمان والسفرجل والأجاص وسائر الفواكه، وكل شيء من ذلك كثير يباع بأيسر الأثمان، وبشمال هذه المدينة جبل يقال إن فيه كنوزاً ومطالب وطلاباً إلى الآن.
قبا (2) :
مدينة من بلاد فرغانة، وهي من أنزه بلاد الله تعالى، وهي مدينة عالية الأسوار حسنة الأقطار، كثيرة التجار والعمار، والمتجولين (3) والسفار، كثيرة البركات، جامعة لأنواع الخيرات، ولها ربض عامر كبير، وأسواقها في ربضها، ويحيط بالربض والمدينة سور حسن، وبها مياه جارية، وعلى تلك المياه بساتين وجنات وحدائق وأبنية ومتنزهات، ولها رستاق عامر فيه قرى كثيرة يتصل بنهر الشاش قدر مرحلة، ومدينة قبا هذه بناها أنوشروان، ولها قصبة وجامع حسن، ولما بناها أنوشروان نقل إليها من أهل كل بلد بيتاً وعمرها بهم.
قنا (4) :
أيضاً (5) مدينة بصعيد مصر.
قنطرة السيف (6) :
بالأندلس، وهو حصن بينه وبين ماردة يومان، وهو حصن منيع على نهر القنطرة، وأهله متحصنون فيه، ولا يقدر لهم أحد على شيء، والقنطرة لا يأخذها القتال إلا من بابها فقط، والقنطرة هذه قنطرة عظيمة على قوس من عمل الأول في أعلاها سيف معلق لم تغيّره الأزمنة ولا يدري ما تأويله.
القنطرة (7) :
قرية بالعراق على طريق الحاج بمقربة من مرسى الحلة، وهي كثيرة الخصب كبيرة الساحة، متدفقة فيها جداول الماء، وارفة الظلال بشجرات الفواكه، من أحسن القرى وأجملها، وبها قنطرة على ترعة من ترع الفرات كبيرة يصعد إليها وينحدر عنها تعرف القرية بها، وتعرف أيضاً بحصن بشير.
قِنّسرين:
بالشام، وهي الجابية (8) ، وبينها وبين حلب اثنا عشر ميلاً وفيها كان قبر هشام بن عبد الملك بن مروان.
وحكى عمر بن هانئ الطائي قال (9) : خرجت مع عبد الله بن علي لنبش قبور بني أميَّة في أيام أبي العباس السفاح وانتهينا إلى قبر هشام واستخرجناه صحيحاً ما فقدنا منه إلا خورمة (10) أنفه، فضربه عبد الله بن علي ثمانين سوطاً ثم أحرقه لأن هشاماً كان صلب زيد بن علي وأحرقه بالنار، ولهذا قال:
صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة ... ولم أرَ مهدياً على الجذع يصلبُ وزيد هذا هو الذي ينسب إليه الزيدية من الشيعة. قال: واستخرجنا سليمان من أرض دابق فلم نجد منه شيئاً إلا صلبه وأضلاعه ورأسه فأحرقناه، وفعلنا ذلك بغيرهما من بني أمية، قال: وكانت قبورهم قنسرين، ثم انتهينا إلى دمشق فاستخرجنا الوليد بن عبد الملك فما وجدنا في قبره قليلاً ولا كثيراً، واحتفرنا عن عبد الملك فما وجدنا منه إلا شؤون رأسه، ثم احتفرنا عن يزيد بن معاوية فما وجدنا منه إلا عظماً واحداً ووجدنا مع لحده خطاً (11) أسود كأنما خط بالرماد بالطول في نحره، ثم تتبعنا قبورهم في سائر البلدان وأحرقنا ما وجدنا فيها.
قال الأصمعي: وجد في حجر في قنسرين مزبور بالعبرانية:
__________
(1) ص ع: قمنولة، وهي كذلك في بعض أصول النزهة، والمؤلف ينقل عن الإدريسي (د) : 49 (OG: 129) .
(2) واضح أن المؤلف حين أثبتها في هذا الموضع، وعطف عليها اسم مكان آخر مشابهاً كان يقدر أنها ((قنا)) بالنون، وكذلك ترد في نزهة المشتاق (النسخة الخطية المعتمدة) : 149 وعنه ينقل المؤلف، وهي ((قباء)) - بالباء - عند ياقوت، وابن حوقل: 420، والكرخي: 186 (احاشية) : 187، والمقدسي: 272، وقد مر ذكرها.
(3) ص ع: والمعجولين.
(4) ص ع: وقنا، وهي - بكسر القاف - كما عند ياقوت، مدينة لطيفة بالصعيد بينها وبين قرص يوم واحد، وربما كتب بعضهم ((إقنا)) .
(5) لا حاجة إلى لفظة أيضاً بعد أن ثبت أن لا علاقة بين هذه المادة والسابقة.
(6) بروفنسال: 164، والترجمة: 197 (Alkantra) وبعضه عن الإدريسي (د) : 183. وانظر ياقوت (قنطرة السيف) ، وابن الوردي: 18.
(7) رحلة ابن جبير: 215.
(8) قوله: وهي الجابية، وهمّ، إذ الجابية من الجيدور من عمل الجولان من مرج الصفر، وانظر في قنسرين: ياقوت وابن حوقل: 163، والكرخي: 46، وابن جبير: 254.
(9) مر جانب من هذا الخبر ف مادة دابق. وهو عن المروج 5: 471.
(10) ص ع: خدمة.
(11) ص ع: عظماً.(1/473)
إذا جار الأمير وحاجباه ... وقاضي الأرض داهن في القضاء
فويل ثم ويل ثم ويل ... لقاضي الأرض من قاضي السماء وكان على قنسرين (1) سور حصين فهدم في أيام قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما بأمر يزيد بن معاوية، وفيها الآن آثار من سورها، ولها حصن منيع وبها أسواق وفعلة وهي على نهر قويق، وهو نهر حلب يصل في جريته إلى قنسرين ثم يغوص في الأجمة، وقيل بين قنسرين وحلب عشرون ميلاً.
قنوج (2) :
أفخر بلاد الهند اسماً وشأناً، وأعظمها صيتاً وأقدمها بنياناً، وكان واليها بأجيال أكبر شياطين الكفر جاهاً ومقداراً وأتمهم قوة، وكان سلفه ملوك الهند من مستقرهم إلى منتهى الثغور، وكان ولاة قشمير لهم بمنزلة الحجاب، وكانوا قد أقروا لهم بالسمع والطاعة أذعنوا للانقياد والمتابعة، وكان بين آخر ثغور هذا الجانب وبين قنوج ممالك الهند متصلة الحدود بالحدود، تقطعها قوافل التجار في مدة سنة كاملة إذا واظبوا على السير، وكان ولاة كفارها لهم أمر نافذ وذكر سائر وناحية عظيمة وقلاع حصينة وعدة كاملة وقوة وافرة، وهم يعتقدون أن الأصنام آلهتهم ولا يتفكرون في خلق السموات والأرض.
وقصدها غازياً لها محمود بن سبكتكين سلطان خُراسان من مستقره بغزنة سنة عشر وأربعمائة، في خلافة الإمام القادر بالله أمير المؤمنين، وفي رسالته يخاطب القادر بالله بذلك: استخار العبد في النهوض إلى عرصة مقرّه وعقر داره، ابتداء بتحصين الممالك المعقودة بإقباله، فوثبَ (3) بنواحي غزنة العبد محمداً مع خمسة عشر ألف راجل وعشرة آلاف فارس من أولي الإخلاص في الوفاء وخواصّ الأولياء الموثوق بغنائهم، وأنهض العبد مسعوداً مع عشرة آلاف راجل وعشرة آلاف فارس من أولي الإخلاص في الوفاء والامحاض في الولاء إلى ملتان لتنظيفها من بقايا الباطنية، وتقرير أمورها على الطريقة السوية، وشحن بلخ وطخارستان بأرسلان مع اثني عشر ألف فارس وعشرة آلاف راجل من الأنجاد والشجعان، وضبط ولاة خوارزم بالترشاش الحاجب مع عشرين ألف فارس وعشرين ألف راجل المختارين للجلاد والطعان، بعدما هذب أحوال الأطراف والقلاع، وسد ثغورها بالأمناء والأنجاد عند المصاع، غير ساكن إلى حضورهم ولا واثق بقوة جمهورهم، بل اعتمد كتاب الله تعالى واتكل عليه في رعاية ما استرعي من الممالك والأمم، وانتخب ثلاثين ألف فارس وعشرة آلاف راجل لصحبة راية الإسلام، كلهم طلاب الشهادة، وتحت ظلل الحِمام، وانضمت إليهم جماهير المطوعة من النواحي المفترقة، وانتظمت أحوالهم بإطلاق ما يسر الله عزّ وجلّ من الصلة والنفقة.
القندهار (4) :
مدينة بالهند كبيرة النظر كثيرة الخلق، وهم قوم يمتازون بلحاهم من غيرهم، فإنهم يتركون لحاهم تطول حتى تصل إلى ركبهم ودونها، وهي عراض كثيرة الشعر، ووجوههم مدورة، والمثًل يُضْرَب بكبر لحاهم وطولها، وزيهم زي الأتراك، وعندهم حنطة وأرز وحبوب وأغنام وأبقار، وهم يأكلون الأغنام الميتة ولا يأكلون البقر الميتة، وهم يحاربون ملك كابل وكابل من مدن الهند المجاورة لبلاد طخارستان.
قال بعضهم: مدحت ملك القندهار والطاق فأعطاني ستين ألف درهم طاطرية، كل درهم مثقال (5) :
__________
(1) عن نزهة المشتاق: 196.
(2) ذكر المسعودي (المروج 1: 374) ملك القنوج وقال إن مسافة مملكته من عشرين ومائة فرسخ سندية، الفرسخ ثمانية أميال، وذكر أن له أربعة جيوش كل جيش سبعمائة ألف لمحاربة من حوله، وهو قليل الفيلة ورسمه لحربه ألفاً قبل حربية؛ وتحدث الإدريسي (ق) : 67، 69 عن المدينة والملك، وخالف المسعودي فقال إنه كثير الفيلة وليس في ملوك الهند البرية ملك عنده من الفيلة ما عنده منها؛ وقال صاحب حدود العالم: 89 ((قنوج مدينة كبيرة وهي مدينة القنوج الملك ومعظم ملوك الهند في طاعته، ويقال إن لديه 150 ألف قرش و 800 فيل معدة للحرب؛ وكانت مدينة قنوج في أيام ابن بطوطة (الرحلة: 539) مدينة كبيرة حسنة العمارة حصينة رخيصة كثيرة السكر، وعليها سور عظيم، ويذهب مينورسكي إلى أسرة Gujara - Parihara وأن إمبراطورية هذه الأسرة كانت تضم كل شمال الهند (ما عدا السند) وأجزاء غربية من البنجاب وقشمير ونيبال وأسام وأجزاء من البنغال والولايات الوسطى وأوريسا (حدود العالم: 238 - 239، 246) وانظر تقويم البلدان: 360، وقد وردت اللفظة عند البيروني (تحقيق ما للهند: 16) : كنوج.
(3) لعلها: ((فرتب)) .
(4) يعتمد المؤلف على الإدريسي (ق) : 71 (OG: 195) ، وقارن بما في تقويم البلدان: 356، وحدود العالم: 88، ورحلة ابن بطوطة: 392، 552، وقندهار (Ghandahar) تقع على الزاوية الشرقية من خليج كمبي (Cambay) (انظر حدود العالم: 245) .
(5) وردت ألفاظ في هذه الأبيات لم أوفق لوجه الصواب فيها.(1/474)
يا ملك القندهار والطاق ... ووارث الملك عن دراداق
ورثت آبائك الملوك علاً ... يسمو سمواً لعز شاساق
حاموا وحاميت عن حريمهم ... فحزت بالقصر حوزة الطاق
دانت ملوك الأنام للملك ال ... أبلج قسراً بكل آفاق وهذا الملك هو ملك الفيلة، يقال إن له عشرين ألف فيل بعضها ببعض، وليس ينزل المدائن لكثرة من معه إنما ينزل الفضاء في الخيام، وله سوق فيها من الفواجر ثلثمائة ألف فاجرة وأزيد بأحسن الثياب.
قالوا (1) : وملوك الهند كلهم يرون الزنا وهو عندهم مباح ما خلا ملك قمار. قال بعضهم: دخلت قمار وأقمت بها نحواً من ستين يوماً، فلم أرَ ملكاً أغير منه ولا أشد في الأشربة منه، يُعاقِب على الزنا والشُرب بالقتل، وليس أحد من ملوك الهند يشرب الشراب ما خلا ملك سرنديب فإنه يشربها، تُنْقل إليه من بلاد المغرب.
قصر ابن هبيرة (2) :
مدينة كبيرة على اثني عشر فرسخاً من بغداد لمن أخذ طريق الكوفة، وهي عامرة ذات أسواق وعمارات، وكانت أعمر البلاد التي في نواحي السواد وأوفرها أموالاً وأكثرها نفعاً وهي على غلوة من الفرات.
وكان يزيد (3) بن عمر بن هبيرة بناه في أيام مروان بن الحَكَم، وهو يومئذ عامل مروان على العراق، وأراد التبعد عن الكوفة. وهي مدينة عامرة جليلة ينزلها العمال والولاة، وأهلها أخلاط من الناس، وهي على نهر يأخذ من الفرات يقال له الصراة، وبين قصر ابن هبيرة وبين معظم الفرات مقدار ميلين.
وحكى المبرد (4) أن ابن هبيرة كان يوماً في أعلى قصره، فرأى أعرابياً يرقصه الآل، فقال لحاجبه: إن أرادني هذا الأعرابي فأدخله عليّ، فلما وصل أدخله الحاجب عليه فأنشده:
أصلحك الله قلَّ ما بيدي ... ولا أطيق العيال إذ كثروا
ألحّ دهر أنحى بكلكله ... فأرسلوني إليك وانتظروا قال: فأخذته الأريحية فقال: أرسلوك إليّ وانتظروا؟ إذاً والله لا تجلس حتى تعود إليهم غانماً، وأمر له بألف دينار وزوّده (5) على بعيره.
قصر أبي دانس (6) :
بغربي الأندلس، فيه كانت الوقيعة على المسلمين للروم في سنة أربع عشرة وستمائة، وأعانهم أهل الأشبونة وغيرها من مملكة ابن الرنق، فأخذوا في نقب الأرض تحت الحصن إلى أن أفضوا إلى السور (7) ، وأفضى الناس إلى الهلكة، وبلغ الأمر إلى الولاة الذين في غرب الأندلس: اشبيلية وقُرطُبة وجيان فتجهزوا لدفاع العدو، وجاء منهم جيش عظيم لكنهم تخاذلوا على عادتهم، فكانت الهزيمة عليهم وولوا منهزمين، ووقع القتل والأسر ولم يبرز للمسلمين من الروم إلا نحو سبعين فارساً، ورأى أهل الحصن ذلك فأيقنوا بالتغلب عليهم.
قصر الافريقي (8) :
مدينة عند تيفاش من إفريقية، وهي مدينة جامعة على شرف من الأرض ذات مسارح ومزارع كثيرة، وفيها الحنطة والشعير.
قصريانة (9) :
من أعظم مدائن الروم بصقلية وأكثرها جمعاً فتحها العباس بن يزيد بن الفضل بن يعقوب بن المضا العامل بصقلية لأبي إبراهيم أحمد بن محمد بن الأغلب صاحب القيروان، وكان العباس وجه سرية إلى بعض النواحي فغنموا وأخذوا أعلاجاً
__________
(1) قد مر في مادة ((قمار)) وهو عند ابن رستة.
(2) نزهة المشتاق: 202، وقارن بياقوت (قصر ابن هبيرة) ، والمقدسي: 121، وابن حوقل: 218، والكرخي: 59.
(3) عن اليعقوبي: 309.
(4) الكامل 1: 190.
(5) الكامل: ورده.
(6) بروفنسال: 161، والترجمة: 194 (Alcacer de Sal) .
(7) بروفنسال: إلى أن قنطوا.
(8) عن البكري: 53، وقارن بالإدريسي (د) : 120.
(9) (Castrogivanni) وانظر وصفها في الإدريسي (م) : 42 - 43.(1/475)
ثم قدموا واحداً منهم ليقتلوه فقال لهم: لا تقتلوني فإن لأميركم عندي نصيحة، فأرادوه على أن يعلمهم بها فلم يفعل، فأتوا به العباس فقال له: تعطيني الأمان على نفسي وأهلي وأدلك على موضع تفتح منه قصريانة، فأدخله العباس في بيت وأغلق عليه ثم نادى في أصحابه بالركوب ومضى وجعل العلج بين يديه في يوم مطير وثلج، والناس لا يعلمون أين يريد، فمضى حتى قرب من قصريانة فنزل، فلما غشيهم الليل نزل حتى صار إلى قرب المدينة، فوجه نائبه في رَجْلٍ كثير ووجه معه العلج، وأقام هو في خيله ورجله على باب المدينة، فمضى نائبه مع العلج حتى أتى به إلى قناة يخرج منها ماء المدينة فأدخل منها الرجال ودخل معهم، حتى أتى بهم العلج إلى باب الحصن، وأهله في غفلة، فوضعوا السيف على الحرس فقتلوهم، وسمع أهل المدينة الصياح فأتوا من كل ناحية إلى باب الحصن، فلم يزل المسلمون يضاربونهم على الباب حتى فتحوه وكبّر المسلمون خارج الباب ودخلوا المدينة، وهرب الروم، ودخل الناس فافترقوا في المدينة يقتلون ويغنمون حتى أخذوا كل ما فيها وأحرقوها، ولم يكن للروم في تلك النواحي أكبر منها ولا أوسع ولا أكثر قمحاً، وكان فتحها في شوال سنة أربع وأربعين ومائتين، وبعث أبو إبراهيم بالفتح رسولاً إلى المتوكل معه هدايا شريفة، وخيار ما سبى من وصيف ووصيفة.
قصر مصمودة (1) :
حصن كبير بينه وبين سبتة اثنا عشر ميلاً، وهو على ضفة البحر تنشأ به المراكب والحرارق التي يسافر بها إلى بلاد الأندلس وهو على رأس المجاز الأقرب إلى ديار الأندلس، وبين قصر مصمودة وطنجة عشرون ميلاً.
قصر ابن عبد الكريم (2) :
مدينة صغيرة بينها وبين مكناسة في جهة المغرب ثلاث مراحل، ويسكنه قوم من البربر وهو على نهر لكسّ (3) ، وبينه وبين البحر نحو أربعين ميلاً في أرض كلها رمل، ولها مزارع وخصب وصيود برَ وبحر وبه سوق عامرة وجمل صناعات، والرخاء شامل وبينه وبين طنجة يومان.
قصر الفلوس (4) :
مدينة كبيرة في المغرب الأوسط، هي مرسى للمراكب، فيها آثار للأول كثيرة تدل على أنها كانت دار مملكة، وهي اليوم خراب، وفيها ماء مجلوب على قناطر بأغرب ما يكون من البناء القديم.
القصر القديم (5) :
عند القيروان أسسه إبراهيم بن الأغلب سنة أربع وثمانين ومائتين، وصار دار أمراء بني الأغلب، وهو في قبلة القيروان وعلى ثلاثة أميال منها، وبه جامع له صومعة مستديرة مبنية بالآجر والعمد سبع طبقات، لم يبن أحكم منها ولا أحسن منظراً وبه حمّامات كثيرة وفنادق وأسواق جمة ومواجل الماء وإذا قحطت القيروان وفقد الماء في مواجلها انتقلوا الماء (6) من مدينة القصر. وكان لها من الأبواب: باب الرحبة قبلي، وباب الحديد قبلي، وباب غلبون شرقي، وباب الريح شرقي، وباب السعادة غربي يقابل المقبرة الكبيرة، وداخل المدينة رحبة كبيرة واسعة تعرف بالمدائن، وتجاور مدينة القصر بنية (7) تعرف بالرصافة، ولمّا بنى إبراهيم بن الأغلب مدينة القصر وانتقل إليها، خربت (8) دار الإمارة التي كانت بالقيروان بقبليّ الجامع منه.
قصر سعد (9) :
بجزيرة صقلية على فرسخ من المدينة، وهو على ساحل البحر وحوله قبور كثيرة للمسلمين، وهو موصوف بالفضل والبركة مقصود من كل مكان، وبإزائه عين وداخله مساكن وبيوت منتظمة، وهو كامل مرافق السكنى وفي أعلاه مسجد من أحسن مساجد الدنيا مفروش بحصر نظيفة (10) ، وقد علق فيه نحو الأربعين قنديلاً من أنواع الزجاج والصفْر، وفي أسفل القصر بئر عذبة وله إمام يصلي بهم الفريضة والتراويح في رمضان، وبمقربة من هذا القصر بنحو ميل إلى جهة المدينة قصر آخر على صفته يعرف بقصر جعفر، وداخله ساقية تفور بماء عذب.
القصر (11) :
مدينة بالأندلس بينها وبين شلب أربع مراحل،
__________
(1) عن الإدريسي (د/ ب) : 168/ 106، وقارن بالاستبصار: 138.
(2) عن الإدريسي (د/ ب) : 78/ 53 ويسميه عبد الكريم؛ وقارن بالاستبصار: 189. حيث يسميه مدينة قصر صنهاجة، وعند البكري: 110 قصر دنهاجة.
(3) البكري والإدريسي: أولكس.
(4) الاستبصار: 133، وقارن بالبكري: 81.
(5) البكري: 28.
(6) ص ع: انتقلوا لى الماء.
(7) ع: منية.
(8) البكري: خرب.
(9) رحلة ابن جبير: 329.
(10) ص ع: قطيفة.
(11) هو قصر أبي دانس الذي تقدم ذكره؛ بروفنسال: 161 ومعظم هذه المادة عن الإدريسي (د) : 181.(1/476)
وهي مدينة حسنة متوسطة وعلى ضفة النهر الكبير، وهو نهر تصعد منه السفن السفرية، وفيما استدار بها من الأرض كلها شجر الصنوبر وبها الإنشاء الكثير، وهي خصيبة كثيرة الألبان والسمن والعسل واللحم، وبين القصر والبحر عشرون ميلاً.
قصر هرمز (1) :
بمدينة من أعمال الشيرجان وهي مدينة كرمان، بها مسجد جامع من بناء يعقوب بن الليث متين البناء جداً بأساطين الساج، وهي قصبة عظيمة، وهي على البحر الأعظم، وبها أشجار النخيل والسدر والموز وشجر يقال له الانبجي يشبه شجر التفاح، وثمره يشبه ثمر الأجاص الأبيض، وله نوى في صورة نوى الخوخ، ورائحته ذكية عطرة، وإذا مصصته جذبت ما فيه وبقي الجلد والنوى، وبها شجر الصبار وهو التمر الهندي، والغالب على غياضها شجر القرظ وأم غيلان والقصب، وهو جنس من النخل لا يؤكل لأنه لا لحم له وله نوى مستدير صلب، يثقب وتتخذ منه السبح، ويتخذون من سعفه الحصر، وله ليف رقيق يشبه خيوط الابريسم، وبناؤهم كله بالساج وخشب يقال له الزنجي لا ينبت بها غير هذين الصنفين لأن الأرضة تأتي على سائر الخشب، وأبوابها كلها ساج، ولا يمكن أن يفرش على الأرض في شيء من المدينة فرش ولا حصير ولا غيرها، فإن الأرضة تخرج من تحتها في يومين فتأتي عليها، وقعودهم ومقامهم إنما هو على الأسرة المنسوجة بالشريط، فأما الأغنياء فأسرتهم من أبنوس وساج منسوج بالخيزران ولباس أهلها أزر وميازر من كتان، غنيهم وفقيرهم وخبزهم من الذرة ولهم حنطة وشعير يبيعونها ولا يأكلونها.
ذو القصة (2) :
على بريد من المدينة أخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه.
قعيقعان (3) :
جبل بأعلى مكّة نزل به مضاض بن عمرو ومن معه من جُرْهم، فكان يعشر من دخل مكة من أعلاها. قالوا: وسمي قعيقعان لأن مضاض بن عمرو لما سار إلى السميدع معه كتيبة فيها
عدتها من الرماح والدرق والسيوف تقعقع بذلك فسمي بذلك قعيقعان، والقصة طويلة.
القُفّ (4) :
واد من أودية المدينة، وكان رجل من الأنصار يصلي في حائط له بالقف في زمان التمر والنخل قد ذللت قطوفه بثمرها، فنظر فأعجبه ما رأى من ثمرها، ثم رجع إلى صلاته فإذا هو لا يدري كم صلّى، فقال: لقد أصابني في مالي هذا فتنة، فجاء إلى عثمان بن عفّان رضي الله عنه، وهو يومئذ خليفة، فذكر له ذلك وقال إنه صدقة فاجعله في سبيل الخير، فباعه عثمان رضي الله عنه بخمسين ألفاً، فسمي ذلك المال الخمسين.
قفط (5) :
مدينة بالديار المصرية متوسطة المقدار أولية، لها سور وبينها وبين قوص أربعة أميال، وبها بربى، وبقربها شَعْراء كثيفة، وهي متباعدة من النيل، وفيها مزارع كثيرة البقول، وصابونها معروف النظافة وأهلها شيعة، وهي مدينة جامعة متحضرة، وبها أخلاط من الناس، وفيها بعض بقايا الروم.
قفصة (6) :
مدينة من البلاد الجريدية، بينها وبين تقيوس مرحلة وهي كبيرة قديمة أزلية، كان عليها سور صخر جليل بأحكم صناعة جديد العمل في مرأى العين، يقال إن الذي بناه شيبان غلام النمرود بن كنعان، وكان اسمه منقوشاً على باب من أبوابها، وكان لها أربعة أبواب، وكان اسم قفصة مدينة الحنية، لأن فيها بنياناً قديماً مثل الحنية، فكانت تسمى بها، وهي متوسطة بين القيروان وقابس، وفي داخلها عيون كثيرة منها عينان كبيرتان معينتان، وليس لهما نظير في عذوبة مائهما وصفائه وكثرته، إحداهما عند باب الجامع تسمى بالراتب الكبير (7) ، وهي عين عظيمة مبنية بالصخر الجليل من بنيان الأول سعتها نحو أربعين ذراعاً في مثلها، وفوقها عين أصغر منها تسمى رأس العين، وبينهما قنطرة من بنيان الأول ولا شك أن ماءهما واحد، وماء هذه العين شديد الصفاء يرى قعر العين من أعلاها، وفيها الماء نحو سبع قيم،
__________
(1) كان من الممكن أن نعد ما جاء في هذه المادة وصفاً للشيرجان (خصوصاً وياقوت يذكر أنها كانت تسمى مدينة القصرين) ولكن هذا الوصف لا ينطبق على ما ذكره عن الشيرجان سائر الجغرافيين.
(2) معجم ما استعجم 3: 1076.
(3) السيرة 1: 112، وانظر معجم ما استعجم 3: 1086، وياقوت (قيقعان) .
(4) معجم ما استعجم 3: 1087.
(5) مزج بين ما جاء في الاستبصار: 87، والإدريسي (د) : 48، 49.
(6) أكثر المادة الجغرافية عن الاستبصار: 151 إلا حيث يجري التنبيه إلى النقل عن مصدر آخر، وقارن بالبكري: 47، والإدريسي (د) : 104، وياقوت (قفصة) ، وايعقوبي: 349.
(7) الاستبصار: بالوادي الكبير.(1/477)
والعين الأُخرى تحت قصر قفصة تسمى بالطرميد عليها بناء عجيب، وبإزائها مسجد يعرف بمسجد الحواريين، منبع هذه العين من حجر صلد من ثقب يسع فيه الإنسان، وينبعث منه بقوة عظيمة وقد بني له صهريج عليه دكاكين مبنية بالحجر الجليل، وعليه أقباء وقد بني فوقه مسجد عظيم، فإذا اجتمع ماء هذه العين الكبيرة والتي عند الجامع جاء منهما نهر كبير تطحن عليه أرحاء كثيرة، ويسقي نصف غابة قفصة ونصف أرضها ومزدرعاتها، والنصف الثاني من غابة قفصة يسقى من عين عظيمة خارج المدينة تسمى عين المنستير، وهي عين كبيرة معينة عذبة يخرج منها نهر كبير، وهذه العين من أحسن ما رئي من العيون، وهي في جانب النهر الكبير المسمى بوادي بايش (1) ، وهو يشق غابة قفصة ويسقي بعض بساتينها، وهو نهر كبير مشهور يأتي من جبال شرقي قفصة لكنه في أيام الصيف يقل جريانه ولا ينقطع، وأرض هذا الوادي كله تنشع ماء، وفيه تورد العرب إبلها تحفر فيه أحساء فيخرج ماء عذباً معينَاً.
ولأهل قفصة في سقي جناتهم هندسة عظيمة وبرسام شديد وتدقيق حساب، يقول أهل قفصة: إذا رأيت قوماً يتخاصمون وقد علا بينهم الكلام فاعلم أنهم في أمر الماء، وكان على أحد أبوابها كتابة منقوشة في حجر من عمل الأول ترجمت فإذا هي: هذا بلد تحقيق وتدقيق وتدنيق. وكذلك ليس بإفريقية حريم أجمل من حريم قفصة، مع ملاحة أخلاقهم ورخامة منطقهم. ويسمون الماء الذي يخرج من المدينة فيسقي نصف جنّاتهم: الماء الداخل، ويسمون الماء الذي خارج المدينة وهو عين المنستير وماء وادي بايش (2) : الماء الخارج، ولهم مياه غير هذه تسمى بالماء الصغير، وهي عيون كثيرة بقرب المدينة تسقي بعض جناتهم، وسقيهم بها بالساعات، فترى خدام تلك الجهة (3) والبساتين أعرف بأوقات النهار إذا سألت رجلاً منهم لا يفقه شيئاً عما مضى من ساعات النهار وقف ونظر إلى الشمس واكتال بقدميه في موضع ظله ويقول لك: مضى كذا وكذا ساعة وكذا وكذا سدس ساعة. وأهل قفصة يتنافسون في المياه كلها ويتبايعون سقيها بأعلى ثمن، وأكثرهم يتكلم باللسان اللطيني الإفريقي.
ومدينة (4) قفصة مركز البلاد الدائرة بها.
ولها غابة كبيرة، وقد أحاطت بها من كل ناحية مثل الإكليل في تكسير دائرتها نحو خمسة عشر ميلاً، فيها من المنازل التي تعرف بالقرى ثمانية عشر منزلاً، وعلى الغابة والمنازل والكل حائط يسمونه سور الغابة، وفي ذلك السور أبواب عظيمة عليها أبراج مسكونة، يسمون تلك الأبواب: الدروب، وغابة قفصة كثيرة النخل والزيتون وجميع الفواكه التي ليس في الدنيا مثلها، فيها تفاح عجيب جليل ذكي الرائحة يسمونه السوسي (4) لا يوجد في بلد مثله، وكذلك الرمان والاترج واللوز لا يوجد مثله في بلد، وفيها نوع من التمر يسمى الكسبا ليس في بلد مثله، وهو أكثر تمرهم، يكون في التمرة فتر، في جرم بيض الدجاج، تكاد تنفذها ببصرك لصفاء لونها ورقة بشرتها، وهم يجعلونه في ازيار، فإذا أخرجوه منها بقي في قعر الزير عسل ألذ من عسل النحل وأعظم وهم يصرفونه في طعامهم كما يصرف العسل، وتعمل منه الحلاوات. وقفصة أكثر البلاد فستقاً، وليس بافريقية فستق إلا فيها، ومنها يجلب إلى بلاد إفريقية وبلاد المغرب والأندلس ومصر، والذي يجلب من بلاد الشام صغير الجرم ليس مثل القفصي، فإن القفصي يكاد يكون في جرم اللوز، وهو إذا كان في شجرته أجمل شيء، فإنه يكون عناقيد مثل عناقيد العنب، وهو ذكي الرائحة لا يقدر أحد أن يسرق منه شيئاً لأنه تنم عليه رائحته.
وفي بساتين (6) قفصة من الرياحين كثير، مثل الآس والياسمين والنارنج والنرجس والسوسن والبنفسج وغير ذلك، ووردها أكثره أبيض، وماؤه أذكى ماء يكون للورد، يشبه الجوري الذي يجلب من بلاد مصر. وتصنع بقفصة أردية وطيالسة وعمائم من صوف في نهاية من الرقة تضاهي ثياب الشرب، وتصنع بها أواني للماء من خزف تعرف بالريحية شديدة البياض في نهاية من الرقة ليس يعلم لها نظير في جميع البلاد، ويصنع بها زجاج حسن وأواني حنتم عجيبة وأواني مذهبة غريبة، وهي حاضرة في جميع أمورها، وأهلها ذوو يسار، وفيهم خير كثير، ولهم صدقات، وهم يعظمون يوم عاشوراء تعظيماً كثيراً، وهو عندهم مثل الأعياد، ولهم فيه
__________
(1) ع ص: بالش.
(2) ع ص: بالش.
(3) الاستبصار: الجنات.
(4) هذه العبارة لم ترد في الاستبصار.
(4) هذه العبارة لم ترد في الاستبصار.
(6) النقل مستمر عن الاستبصار.(1/478)
صدقات وكسا للمساكين. وكانت مدينة قفصة أعظم بلاد إفريقية نظراً، كان حواليها نحو مائتي قصر آهلة عامرة فيها الأشجار والنخل والزيتون والفستق وجميع الأشجار، وفيها العيون والأنهار والآبار، تسمى قصور قفصة (1) .
وكان يوسف (2) بن عبد المؤمن ملك المغرب لما طلع إلى إفريقية نزل على قفصة فاستصعبت عليه، وذلك في سنة خمس وسبعين وخمسمائة، فحاصرها ونصب عليها آلة الحرب، وعمل للعجل الحاملة للآلات قلوعاً ضربتها الريح فمشتها، فرعب أهل قفصة واستأمنوه فأمنهم وقطع غابتها وزيتونها وأمر صاحبها علي بن الرند بالانتقال إلى مراكش، فانتقل إليها بجملته، فولاه على سلا إلى أن توفي.
ثم نزل عليها (3) ولده المنصور يعقوب بعد وقيعة عمرة، وذلك سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة فأخذت المحلات بمخنقها، وتمادى الحصار والقتال عليها، ورماها بأحجار المنجنيق حتى حكم عليها فهدم سورها وحرقها بالنار، وقتل الناس المحكوم عليهم فيها ذبحاً، وقطع شجرها وغير بهجتها ونزع الحسن عنها، وفي ذلك يقول أبو بكر بن مجبر الشاعر من قصيدة له غراء:
من لم يؤدبه تأديب الكتاب فما ... له بغير ذباب السيف تأديب
إن الخلافة لا تشكو بمعضلة ... والحافظ الله والمنصور يعقوب
مشمر البرد للحرب الزبون وقد ... ضفت عليه من التقوى جلابيب
فالبيض منهن مسلول ومدخر ... والخيل منهن مركوب ومجنوب
وليس يظفر بالغايات طالبها ... إلا إذا قرعت فيها الظنابيب
للحرب جل مساعيه وما تركت ... منه الحروب تهادته المحاريب
إذا كان عربد في الأعداء صارمه ... فإنه لِرَحيق الهام شرّيب
قد حصحص الحق إن النصر يتبعه ... فكان من أنفس الكفّار تكذيب
لقد عدتهم عن التوفيق شقوتهم ... إن الشقي على التوفيق مغلوب
ما غرَّ قفصة إلا أنها اجترمت ... فلم يكن عند أهل الحلم تثريب
ما بالها زار أمر الله حوزتها ... فلم يكن عندها أهل وترحيب
توهمت أن أهل البغي تمنعها ... وقلما حَمتِ الشَّهْد اليعاسيب
تلك البغيُّ التي خانت فحاق بها ... وبالزناة بها رجم وتعذيب
ترمى المجانيق بالأحجار فضلة من ... رمتهمُ منهم الجرد السراحيب
من كل ملمومة صماء حائمة ... على النفوس فتصعيد وتصويب
يقول مبصرها في الجو صاعدة ... هذا بلاء على الكُفّار مصبوب
تمهد الأمر في أكناف دولته ... حتى تألف فيها السخل والذيب وهي طويلة.
قسطلة درّاج (4) :
قرية في غرب الأندلس، منها أبو عمر أحمد بن محمد بن دراج القسطلي (5) ، ودرّاج هو الذي تُنْسَب إليه
__________
(1) إلى هنا ينتهي انقل عن المصدر المذكور.
(2) قد ألم صاحب الاستبصار: 151 بهذه الحادثة، وانظر البيان المغرب 3: 114 (تطوان) .
(3) انظر البيان المغرب 3: 165 - 169.
(4) بروفنسال: 160، والترجمة: 192 (Cacella) وانظر الإدريسي (د) : 179، وياقوت؛ والأرجح أن قسطة الواقعة في البرتغال ليست هي المنسوب إليها ابن دراج وإنما قسطلة أخرى من أعمال جيان.
(5) انظر دراسة عنه في كتابي ((تاريخ الأدب الأندلسي - عصر سيادة قرطبة)) : 237 (طبعة ثانية) والمصادر مذكورة هنالك.(1/479)
القرية فيقال: قسطلة درّاج، وكان أبو عمر هذا كاتباً من كتاب الإنشاء في أيام المنصور بن أبي عامر، وهو معدود في جملة العلماء والمقدمين من الشعراء، واختبر واقترح عليه فبرز وسبق، فمن قوله يصف السوسن ويمدح الحاجب المظفر سيف الدولة عبد الملك بن المنصور بن أبي عامر (1) :
إن كان وجه الربيع مبتسماً ... فالسوسن المجتلى ثناياه
يا حسنه بين ضاحك عبق ... بطيب ريح الحبيب رياه
خاف عليه العيون عاشقه ... فاشتقَّ من خدِّهِ فسمّاه
وهو إذا مغرم تنسَّمه ... خلى على الأنْفِ منه سيماه
يا حاجباً مُذْ براه خالقه ... تَوَّجه بالعلى وحلاه
إذا رآه الزمان مبتهجاً ... فقد رأى كلَّ ما تمنّاه
وإنْ رآه الهلالُ مطّلعاً ... يقول ربي وربك الله مات قريباً من العشرين والأربعمائة (2) :
قُس الناطف (3) :
موضع معروف بالعراق، والقاف مضمومة، وبقُس الناطف كانت أول وقعة بين المسلمين وبين فارس، وكان على المسلمين يومئذ أبو عبيد الثقفي أبو المختار، فقتل أبو عبيد في جماعة من المسلمين وخلق من الأنصار وأبنائهم وهو يوم الجسر وقد تقدّم ذكره في حرف الجيم، وفي ذلك يقول حسّان:
لقد عظمت فينا الرزية أننا ... جلاد على ريب الحوادث والدهرِ
على الجسر قتلى لهف نفسي عليهمُ ... فوا حزناً ماذا لقينا على الجسر فأمّا القَسّ (4) بفتح القاف، فموضع بمصر تُنْسَب إليه الثياب القسية.
قسطيلية (5) :
اسم لعمل البلاد الجريدية وهي بلاد واسعة ومدن عديدة بها النخل والزيتون، من مدنها: توزر والحمة وتقيوس، ومدينتها العظمى توزر، وبها ينزل العمال، وجباية قسطيلية مائتا ألف دينار وأهلها يستطيبون لحوم الكلاب ويسمنونها في بساتينهم ويطعمونها التمر ويأكلونها، وأضاف أحدهم ضيفاً فأطعمه لحماً استطابه واستحسنه، فسأله عنه فقال: هو لحم جرو مسمَّن. ولا يعرف وراء قسطيلية عمران ولا حيوان إلا الفنك، إنما هي رمال وأرضون سوّاخة، وهم يقولون إن قوماً أرادوا معرفة ما وراء بلادهم، فأعدوا الأزواد وذهبوا في تلك الرمال أياماً فلم يروا أثراً لعمران، وهلك أكثرهم في تلك الرمال.
قسنطينة (6) :
من مشاهير بلاد إفريقية، بين تيجس وميلة، وهي مدينة أولية كبيرة آهلة فيها آثار للأول، كثيرة الخصب رخيصة السعر، على نظر واسع وقرى عامرة، وكان لها ماء مجلوب يأتيها على بعد على قناطر بقرب من قناطر قرطاجنة، وفيها مواجل عظام مثل التي في قرطاجنة.
وبها أسواق وتجار، وأهلها مياسير ذوو أحوال وأموال ومعاملات للعرب، وأصحاب حنطة تقيم في مطاميرها مائة سنة لا تفسد والعسل بها والسمن كثير ويتجهز بها إلى سائر البلاد.
وقسنطينة حصينة في غاية المنعة والحصانة لا يعلم بإفريقية
__________
(1) ديوان ابن دراج: 41 - 42.
(2) كانت وفاته سنة 421هـ؟.
(3) معجم ما استعجم 3: 1073 - 1074.
(4) ذكر ياقوت (قسا) وقال إنهما فيما قيل قرية بمصر تنسب إليهما الثياب القسية، وذكر أيضاً قس وقال إنها ناحية من بلاد الساحل قريبة إلى مصر تنسب إليها الثياب القسية، وأضاف إن في بلاد الهند بلداً يقال له القس تجلي منه الثياب الملونة الفاخرة، وأن القس التي على مقربة من مصر ليست سوى تل، وربما كان هذا يرجح النسبة إلى البلدة الهندية، وفي معجم رمزي (1/ 96) أن موضع القس هذه اليوم باسم القلس على ساحل البحر الأبيض.
(5) البكري: 49، وقارن بالاستبصار: 159 - 160.
(6) قد راوح في هذه المادة عن الاستبصار: 165 - 166 وعن الإدريسي (د/ ب) 95 - 96/ 67 - 68 على اتوالي، حسب الفقرات امتوالية هنا، وقارن بالبكري: 63.(1/480)
أمنع منها، بل ليس لها نظير إلا مدينة رندة بالأندلس، فإنها تشبهها في وضعها والخندق المحيط بها والحافات المحدقة بها شبهاً كثيراً، لكن هذه القسنطينة أعظم وأكبر وأعلى، فإنها على جبل عظيم من حجر صلد، قد شقَّ الله تعالى ذلك الجبل فصار فيه خندق عظيم يدور بالمدينة من ثلاثة جوانب، ونهرها الكبير يدخل على ذلك الخندق ويدور بالمدينة فيسمع لجريانه في ذلك الخندق دوي عظيم هائل وصوت مفزع، وقد عقد الأولون على هذا الجبل قنطرة عظيمة طبقات بعضها فوق بعض، وعليها الدخول إلى باب المدينة، وهي متصلة بالباب، وقد بني على طرف القنطرة مما يلي باب المدينة بيت على أقباء يسميه أهل المدينة العبور يعنون الشعرى، لأنه معلق في جوّ السماء، فإذا كنت في وسط هذه القنطرة تعبر إلى الضفة الثانية تظن أنك تطير في الهواء، وترى ماء النهر الكبير في قعر ذلك الخندق البعيد المهوى مثل الجدول الصغير، وهذه المدينة من إحدى عجائب العالم، وهي على نظر واسع كما قلناه، ولها بساتين كثيرة الفواكه، لكنها شديدة البرد والثلوج كثيرة الرياح لعلوها وارتفاعها، وأقرب ما لها من مراسي البحر مرسى القل.
قالوا: وهي على قطعة جبل منقطع مربع، فيه بعض الاستدارة لا يوصل إليه من مكان إلا من جهة باب بغربيها ليس بكبير المنعة (1) ، وهناك مقابر أهلها، ومع المقابر بناء قديم من بناء الأول، وبه قصر تهدم أكثره، وهو دار ملعب من بناء الروم ويحيط بقسنطينة الوادي من جميع جهاتها كالعقد، وليس بها من داخلها سور يعلو أكثر من نصف قامة، ولها بابان: باب ميلة من المغرب، وباب القنطرة في الشرق، والقنطرة من أعجب البنيان لأن علوها يزيد على مائة ذراع، وهي من بناء الروم، قسيّ عليها قسي، عددها في سعة الوادي خمس، والماء يدخل على ثلاث منها مما يلي جانب المغرب، وهي كما قلناه قوس على قوس، فالقوس الأولى يجري فيها الماء أسفل الوادي، والقوس الأخرى فوقها وعلى ظَهرها المشي والجواز إلى البر الثاني، وباقي القوسين اللتين من جهة المدينة مفردتان على الجبل، وبين القوس والقوس أرجل تدفع مضرة الماء ومصادمته (2) عند حملة سيوله، وعلى رقاب الأرجل قسي فارغة صغار ربما زاد الماء في بعض الأوقات فعلا الأرجل ومرّ في تلك الفرجات، وهي من أعجب ما رئي من البناء وليس في المدينة كلها دار كبيرة ولا صغيرة إلا وعتبة (3) بابها حجر واحد، وكذلك عضادات جميع الأبواب، وبناؤها بالتراب وأرضها حجر صلد، وفي كل دار مطمورتان وثلاث وأربع نقراً في الحجر تبقى الحنطة فيها لبردها واعتدال هوائها، وواديها يأتي من جهة الجنوب ليحيط بها من غربيها ويمر شرقاً مع دائر المدينة ويستدير في جهة الشمال إلى أن يصب في البحر في غربي وادي سهر. والقسنطيية من أحصن بلاد الدنيا، وهي مطلة على فحوص ومزارع والحنطة والشعير ممتدة في جميع جهاتها، ولها في داخل المدينة ومع سورها مسقى يستقون منه ويتصرفون منه في أوقات حصارها متى طرقها عدوّ، وبين قسنطينة وبجاية ستة أيام، أربعة منها إلى جيجل، ومن جيجل إلى بجاية خمسون ميلاً.
القسطنطينية (4) :
كانت رومة في القديم دار مملكة الروم نزلها من ملوكهم تسعة وعشرون ملكاً، ثمِ ملك بها قسطنطين الأكبر ثم انتقل إلى بزنطية وبنى عليها سوراً وسماها القسطنطينية، وقد كان اسمها طوانة ثم نسبت إلى قسطنطين، وبينها وبين عمورية ستون ميلاً في قرى وعمارات.
وخليجها المشهور بها هو الداخل من بحر الشام الواقع في البحيرة التي تتصل بالقسطنطينية، وإلى ذلك الخليج يصل التجار المختلفون من العراق والشام وغيرهما إلى القسطنطينية ويعبرونه في السفن إلى العدوة الثانية، وهو الذي عبر فيه رسول معاوية بن أبي سفيان حين وجهه للاحتيال على البطريق الذي لطم وجه الرجل المسلم في الحكاية المشهورة.
ومدينة القسطنطينية (5) ثلاث نواحي: ناحيتان منها في البحر الأعظم مما يلي القبلة والمشرق والمغرب، والناحية الثالثة (6)
__________
(1) الإدريسي: السعة.
(2) الإدريسي: ومصادرته.
(3) ص ع: وعلى.
(4) في المصادر الجغرافية معلومات مختلفة عن القسطنطينية، انظر التنبيه والإشراف: 138 - 142، وابن خرداذبه: 109، وابن الفقيه: 145، وآثار البلاد: 603، وياقوت (القسطنطينية) ، وابن الوردي: 50، ورحلة ابن بطوطة، ولكن المؤلف يتابع أولاً البكري (ح) : 192 (راجع مادة: رومة) ثم يعيد بعض ما ذكره في مادة خليج القسطنطينية معتمداً في معلومات كثيرة على نزهة المشتاق، ثم يتكئ في أكثر معلوماته عن المدينة على ابن رسته 119 - 126، وفي صبح الأعشى 5: 377 نقل عن الروض.
(5) نزهة المشتاق: 256.
(6) ص ع: السابعة.(1/481)
مما يلي البر وفيه باب الذهب، وهي التي تلي الشمال، وطولها من الباب الشرقي إلى الباب الغربي ثمانية وعشرون ميلاً، ولها حيطان من حجارة، وبينهما فضاء تسعون ذراعاً، وعرض السور الداخل اثنتا عشرة ذراعاً، وسمكه اثنتان وسبعون ذراعاً، وعرض السور الخارج ثمان أذرع، وسمكه اثنتان وأربعون ذراعاً وفيما بين السورين نهر يسمى قسطنطيانوس، وهو مغطى ببلاط نحاس، طول كل بلاطة ست وأربعون ذراعاً وعدة ما فيه من البلاطات اثنتان وأربعون ألف بلاطة، وعمق النهر اثنتان وأربعون ذراعاً، وفيما بين باب الذهب، وهو باب مضبب بالحديد، أعمدة بالذهب، وطوله إحدى وعشرون ذراعاً، وبين باب الملك اثنا عشر ميلاً ولها من الأبواب نحو مائة باب أكبرها باب الذهب، وليس يدرى مثلها في الكبر قطر إلا قطر رومة.
وبها القصر (1) الشائع ذكره شماخة بناء واتساع قطر وحسن ترتيب، وفيه البذرون (2) الذي يتوصل منه إلى القصر، وهو من عجائب الدنيا فإنه ملعب وزقاق يمشى فيه بين سطرين من صور مفرغة من النحاس البديع الصناعات، منها على صور الأدميين وضروب الخيل والسباع إلى ما سوى ذلك من الأشكال، وبالقصر وبما دار به ضروب من العجائب المصنوعات، ودون الخليج من جهة بلاد الأرمن أحد عشر عملاً.
ودور قصر الملك فرسخ يحيط به سور منيف، وله ثلاثة أبواب، والذي يظهر يوم الشعانين من صلب الذهب أحد وعشرون ألف صليب، ومن صلب الحديد والنحاس المنقوشة المموهة بالذهب عشرة آلاف ومائتان، ومن المصاحف التي تقرأ في الكنيسة، رقومها من ذهب مكتوبة بالذهب والفضة، ستة آلاف وأربعمائة، وفيها من الشمامسة ومن تجري عليه الأرزاق ثمانية وأربعون ألفاً لا ينقص عددهم، كلما مات أحدهم أقاموا مكانه آخر، ووضع قسطنطين في أعلى هذه الكنيسة آلة مطلسمة، وهو زرزور من نحاس إذا كان وقت الزيتون حشر إليها كل زرزور هناك، فيأتيها الزرزور بثلاث زيتونات اثنتان في مخلبيه وثالثة في منقاره فيضعها عنده ثم ينصرف غادياً، ولا يزال ذلك دأبه طوال أمد الزيتون.
فإذا أراد (3) الملك الخروج إلى هذه الكنيسة العظمى فرش له في طريقه من باب القصر إلى الكنيسة حصر، من فوق الحصر ضروب الرياحين الطيبة، وتزين دور المدينة يمنة ويسرة بالديباج وضروب ثياب الحرير، ثم يخرج بين يديه عشرة آلاف شيخ مشاة، عليهم كلهم ديباج أبيض، ثم يخرج بعدهم عشرة آلاف خادم، عليهم ديباج لون السماء، في أيديهم الطبرزينات الملبسة بالذهب، ثم يخرج بعد ذلك خمسة آلاف من فتيان الصقالبة عليهم ملحم خُراساني أبيض، بأيديهم كلهم صلبان الذهب، ثم يخرج من بعدهم عشرة آلاف غلام أتراك وخزر، عليهم أقبية مذهبة، وبأيديهم رماح وأترسة ملبسة بالذهب، ثم يخرج بعدهم مائة بطريق، عليهم ثياب منسوجة بالذهب، في يد كل واحد منهم قضيب من ذهب ثم يخرج مائة غلام عليهم ثياب مشهورة مرصعة باللؤلؤ، يحملون تابوتاً من ذهب، فيه كسوة الملك لصلاته، ثم يخرج رجل بين يديه يسكت الناس، ثم يخرج شيخ بيده طشت وإبريق من ذهب مرصعان بالدر والياقوت، ثم يخرج الملك ماشياً وعليه ثياب من ابريسم منسوجة بالجوهر كلها، وخفه مرصع بالدر والياقوت، وفي يد الملك حقة من ذهب فيها تراب، فكلما خطا خطوتين يقول له الوزير بلسانهم كلاماً معناه: اذكر الموت والبلى، فإذا قال له ذلك وقف الملك وفتح الحق ونزل إلى التراب وقبَله وبكى، يسير كذلك حتى ينتهي إلى باب الكنيسة فيقدم الرجل الطشت والإبريق، فيغسل الملك يده ويقول للوزير: إني بريء من دماء الناس كلهم والله لا يسألني عن دمائهم وإني قد جعلتها في عنقك، ويخلع ثيابه التي عليه على وزيره ويقول له: دن بالحق، ويأمر فيدار به على أسواق القسطنطينية، ويقال له: دن بالحق، كما قال له الملك. ويلبس الملك الثياب التي يدخل بها الكنيسة ويأمر بإدخال أسارى المسلمين الكنيسة، فينظرون إلى تلك الزينة فينادون: أطال الله بقاء الملك سنين كثيرة، ويقولون ذلك ثلاث مرات. ويساق خلف الملك ثلاثة من الخيل تقاد، وقال بعضهم: إنها لا تكون إلا شهباً، ويقال إنها من نسل خيل كانت للإسكندر توارثها ملوك اليونانية وملوك الروم لما غلبوا على المملكة، عليها سروج قرابيسها من الزمرد الأخضر والياقوت الأحمر، وتلك السروج وألبابها وما اتصل بها مرصع من الحجارة وأجلتها من الديباج المرصع بالدر والياقوت، فيدخلونها الكنيسة
__________
(1) النقل مستمر عن نزهة المشتاق.
(2) ص ع: البذبدون (دون اعجام في ع) ، وفي نزهة المشتاق صورة الكلمة نفسها ((البدندون)) والبذرون كما هو عند ابن خرداذبه وابن رسته يقابل الهيودروم (Hippodrome) .
(3) متابع للبكري (ح) : 196 وأصله عند ابن رستة: 123.(1/482)
ولها بها لجام معلق، وهم يقولون إن دابة منها متى أخذت تلك اللجام في فمها ظفروا ببلاد الإسلام، تجيء الدابة منها فتشم اللجام ثم تقهقر ولا تقدم عليه، ويقال إنها من نسل دواب كانت لاوقنطاب (1) ويحملون بين يدي الملك سيوفاً عشرة تنسب إلى الإسكندر، طول كل سيف ثمانية أشبار، وهي مرصعة كلها بنفس الحجارة، فإذا انقضت نواميس شرعهم عاد الملك على الهيئة الأولى إلى قصره.
قالوا: ولما أكمل قسطنطين بناء هذه الكنيسة العظمى ورفع فيها الصلبان كتب بذلك إلى جميع البلدان، فبهذا السبب صار عيد الصليب، وهو لأربع عشرة ليلة تمضي من أيلول.
وبمدينة القسطنطينية (2) طلسمات كثيرة منها أنه إذا نزل القواد والحشم في قصر الملك على ظهر خيلهم بقيت الخيل ساكنة واقفة غير متحركة دون سائس ولا ممسك بأعنتها، ولا تنفح ولا ترمح بل تقف كذلك بحالها جامدة غير حية، فسئل بعض أهلها عن ذلك، فذهب بالسائل إلى ثلاثة تماثيل من صفر على صفة الأفراس، أحدها ناظر إلى باب الملك وهي من عمل بلونيوس الحكيم وعلى باب الملك أربع حيات من صفر أذنابها في أفواهها، طلسمات الحيات، فيعبث الصبي هناك بالحية، فلا تضره، ومما يلي باب الذهب من المدينة قناطير معقودة في وسط السوق فيها صنمان على صور الأناسي أحدها يشير كأنّه يقول: هات، والآخر يشير بيده كأنه يقول: اصبر ساعة فيؤتى بالأسارى فيقعدون بين يدي الصنمين ينتظر بهم الفرج، ويذهب رسول يعلم الملك ذلك، فإن رجع الرسول وهم وقوف ذهب بهم إلى السجن، وإن وافاهم الرسول وقد جوز بهم (3) الصنمين قُتِلوا ولم يبق عليهم.
وكان مسلمة بن عبد الملك غزا قسطنطينية، وفي حديث مسلم (4) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بأن القسطنطينية تفتح في آخر زمان، فبينا هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خالفكم في أهليكم فيخرجون، وذلك باطل. . . الحديث إلى آخره.
قشتالة (5) :
عمل من الأعمال الأندلسية قاعدته قشتالة، سمي العمل بها، وقالوا: ما خلف الجبل المسمى الشارات في جهة الجنوب يسمى اشبانيا، وما خلف الجبل من جهة الشمال يسمى قشتالة، ولبعضهم:
الروم تضرب في البلاد وتغنم ... والعرب تأخذ ما يفيء المغرمُ (6)
والمال يورد كله قشتالة ... فالله يلطف بالعباد ويرحم
قشمير (7) :
مدينة مشهورة في بلاد الهند أو السند في طاعة القنوج، ومنها إلى كارموت أربع مراحل: وهي كورة حسنة كثيرة التجارات، وهي على نهر كبير يمد نهر مسلي، ونهر مسلي هو النهر المسمى نهر الطيب، تنبت بضفتي هذا النهر أنواع الطيب وبذلك سمي. وأهلها يحاربون كافر ترك.
ومملكة صاحب (8) قشمير نحو من ستين ألفاً بين مدينة وقرية، وقد أحاط بها جبال شواهق لا يتسلق منها الوحش ولا شيء من الحيوان الدابّ، ولا يوصل إلى مملكته إلا على موضع واحد، وهو يغلق على جميعها باباً واحداً، وهو أحد عجائب الدنيا، وهو مشهور معروف، وقاعدته بوره، وهو ملك القنوج (9) ومملكته نحو من مائة وعشرين فرسخاً سندية، الفرسخ من ثمانية أميال، وله جيوش أربعة كل جيش من سبعمائة ألف على مهاب الرياح الأربع يحارب بالشمالي صاحب المولتان، وبالجنوبي البلهرى، وبالشرقي والغربي من يليه أيضاً، وله ألفا فيل مقاتلة.
__________
(1) ابن رسته: لأوسطاط.
(2) ابن رسته: 126.
(3) بياض في ع ص.
(4) صحيح مسلم 2: 365.
(5) بروفنسال: 161، والترجمة: 193 (Castilla) .
(6) ع ص: ما بقي والمغرم.
(7) الإدريسي (ق) : 67 - 68 (OG: 193) ، وقارن بياقوت (قشمير) ،ونخبة الدهر: 181، وهي ((كشمير)) عند البيروني، تحقيق ما للهند: 16.
(8) عن البكري (مخ) : 48، وأصله عند المسعودي، مروج الذهب 1: 373.
(9) مع أن النص متابع للبكري فإنه يبدو مناقضاً للأصل عند المسعودي، إذ جاء هنالك: ((فأنما مملكة بؤوره هو ملك القنوج)) وذلك يعني أن القنوج غير قشمير، وراجع مادة ((قنوج)) والتعليق عليها، ومينورسكي: 254.(1/483)
قو (1) :
واد بالعقيق، عقيق بني عقيل، وقال امرؤ القيس (2) :
قونيه (3) :
في طريق عمورية إلى انطالية، وبينها وبين اللاذقية يوم، وقونية مدينة حسنة: وبها تفترق الطرق إلى انطالية وغيرها.
وفي سنة (4) ست عشرة وستمائة خرج طاغية قونية بالجموع العظيمة إلى الشام، فعاد في الحال التي قتلته كمداً في هذه السنة، فدافعه الأشرف بن العادل، فانكسر العدو واتبعهم الأشرف بجنده وعرب الشام والجزيرة، فامتلأت أيديهم، وقويت قلوب أهل البلاد الإسلامية، فمنعوا منهم الميرة وصاروا الفلاحون يسبونهم ويسمعونهم القبائح، ووصل إلى العدو أصحابه الذين أسلموا القلاع التي كان جعلهم فيها حين أخذها فجمعهم في دار وأحرقها عليهم فهلكوا عن آخرهم ومات على اثر ذلك.
قوقانا (5) :
جبل في بلاد الأتراك، وهو الجبل الذي يلي يأجوج ومأجوج، وهو جبل قائم الجهات لا يصعد منه إلى شيء البتة، وان صعد لم يتوصل إلى قنته لكثرة الثلج المنعقد فيه وأنه لا ينحل منه أبداً، ولأن على هذا الجبل ضباباً (6) أبد الدهر كله لا ينجلي عنه ولا يزول، وهذا الجبل عليه من بلاد يأجوج ومأجوج مدن كثيرة، وفي هذا الجبل أفاع كثيرة وحيات عظام تأوي إلى مهاو فيه وجميعها مؤذ، يمنع أذاها من الصعود إلى أعلى الجبل، ولو رام أحد الصعود إلى أعلاه ما أمكنه ذلك في يومين، وربما تعلق بهذا الجبل النادر من الناس فيرقى ليرى ما في أعلاه وما خلفه فلا يرجع ولا يمكن رجوعه إما لعدوان الحيوان عليه أو لقبض الأمم التي خلف الجبل على من طرأ عليهم من سائر الأمم، وربما رجع الشاذ من الناس فيخبر أنه رأى في تلك الأرض التي خلف الجبل نيراناً كثيرة، وأما بالنهار فلا يرى شيئاً إلا ضباباً وسراباً مختلطاً متصلاً.
وهذا الجبل (7) في بلاد اذكش، وهم صنف من الأتراك عراض الوجوه كبار الرؤوس شعورهم كثيرة، وأعينهم براقة، وكلامهم منفرد بذاته، وعبادتهم النيران وسائر الأنوار، وفي شمال أرضهم جبل يسمى جبل مرعان، طوله من المغرب إلى المشرق نحو ثمان عشرة مرحلة. وفي وسط هذا الجبل موضع عال كالقبة مستدير في وسطه بركة ماء لا يعرف عمقها ولا يسقط فيها شيء إلا ابتلعته فلا يرى، ولا يقدر أحد من الناس على العوم فيها، ولا شيء من الحيوان وإن وضع فيها الخشب ابتلعته. وفي أسفله، مما يلي الجنوب ويقابل أسفل تلك البركة، مغارة يسمع فيها دوي هائل يعلو مرة ويقل أخرى لا يعلم ما هو ذلك الصوت، وإن تقدم إلى فم المغارة حيوان من قبالته فلا يرى، ويذكر أنه يخرج من تلك المغارة ريح تجتذب المعترض لذلك، وخبر هذه المغارة مشهور في تلك الأرض يتحدث به في سائر أرض الترك.
وفي جنوب (8) أرض الأذكش بحيرة تسمى بحيرة تهامة، دورها مائتان وخمسون ميلاً وماؤها شديد الخضرة ذكي النشر عذب الطعم جداً يوجد فيه سمك عريض مرقش بكل لون، يذكر الأتراك أنه أجل علاج يستعمل للباه وأنه أقوى من السقنقور والصيادون يعرفونه في هذه البحيرة، لأن الصائد إذا أرسل شبكته وأخذ هذا السمك وجد ذكره قائماً ولا يزال بتلك الحال ما دامت السمكة في شبكته وفي يده، فإذا أرسلها عن يده سكن ما يجده من الانعاظ وفي وسط هذه البحيرة أرض كالجزيرة وطية ثرية جيدة التربة كثيرة العشب أبداً، والأتراك يجوزون مواشيهم إلى هذه الجزيرة فيقيمون بها أيام الربيع كله، وفي هذه الجزيرة التي في وسط هذه البحيرة بئر محفورة لا يوجد لها قعر وليس بها ماء.
قوص (9) :
مدينة كبيرة في البلاد المصرية في الجهة الشرقية من النيل وهي كبيرة بها منبر وأسواق جامعة وتجارات ودخل وخرج، والمسافر إليها كثير، والبضاعات نافقة والمكاسب رائجة والبركات ظاهرة، وشرب أهلها من ماء النيل، وبها بقول طيبة وضروب من الفواكه ولحوم مسدفة (10) حسنة المنظر لذيذة المأكل، ولكثرة نعمها
__________
(1) معجم ما استعجم 3: 1103.
(2) ديوانه: 56، وصدر البيت: سما لك شوق بعد ما كان أقصرا.
(3) نزهة المشتاق: 261، وقارن بياقوت (قونية) .
(4) قارن بابن الأثير 12: 347.
(5) نزهة المشتاق: 278 قوقايا.
(6) ع ص: ضباب.
(7) نزهة المشتاق: 279.
(8) نزهة المشتاق: 277 - 278، وهو واقع قبل الوصف السابق.
(9) الإدريسي (د) : 49 (OG: 128) .
(10) الإدريسي: سدفة.(1/484)
كان هواؤها وبياً وأهلها مصفرة ألوانهم، وقل ما دخلها غريب فسلم من المرض إلا نادراً.
وهي أزلية (1) قديمة فيها آثار كثيرة للأوائل، وبينها وبين أسوان غيران منحوتة في جبال منها قبور الأموات لا يعلم لها عهد تستخرج منها المومياء الطبية، وهم يجدونها في رممهم وبين أكفانهم.
ويقال إن في تلك الصحراء التي بين قوص وأسوان معادن الذهب، غير أن البجاة وهم جنس من الحبشة تمنع منه، وبلادهم ما بين بحر القلزم وبين مصر، وتسكن عندهم جماعة من العرب من ربيعة بسبب هذا المعدن، ويتصل ببلادهم معدن الزمرد (2) الفائق الذي ليس له مثل بمعمور الأرض، وهو بموضع يعرف بالخربة في مغارة وجبال محمية بالبجاة، وإليهم يؤدي الخفارة من يرد لحفر الزمرد. وبين هذا الموضع والنيل أكثر من عشرين مرحلة، وبين هذا المعدن والعمران مسيرة تسعة (3) أيام، ولا يعرف معدن للزمرد غيره إلا ببلاد البلهرى من أرض الهند (4) ، ولا يلحق بهذا، والهندي هو الذي يعرف بالمكي لأنه يحمل إلى عدن فيؤتى به مكة، فاشتهر بهذا الاسم.
والزمرد الذي يقطع من الخربة أربعة أنواع: أعلاها المعروف بالمرو، وهو كثير المائية تشبه خضرته خضرة السلق إلا أنه يضرب إلى السواد، والثاني البحري، وهو في لون ورق الآس، وإنما غلب عليه اسم البحري لأن ملوك الهند والسند والصين يرغبون فيه ويفضلونه على غيره من الزمرد، والثالث يعرف بالمغربي، لأن ملوك المغرب والأفرنج والأندلس والجلالقة وغيرهم يتنافسون فيه، والصنف الرابع المسمى بالأصم وهو أدناها وأقلها غناء لقلة مائيته وخضرته وكثرة دكونته، وأكبر حجارة الزمرد الفائق يبلغ وزن العدسة منه عشرة دنانير، وهذا المعدن قد انهارت غيرانه وتهدمت لبعد العمارة عنه وانقطاع الناس. ولا خلاف عند جميع من يقرب من موضع ذلك المعدن أن الحيات والأفاعي وسائر أنواع الحيوان المسموم لا تقرب هذا المعدن ولا خدمته. وقيل إن هذه الحيوانات إذا أبصرت الزمرد الفائق سالت عيونها، وإن الملسوع إن سقي منه وزن دانقين برئ بإذن الله تعالى، وكانت ملوك اليونانيين أرباب الحكمة تفضله على جميع الأحجار، وأهل الحكمة يقولون إن شعاع الزمرد وخضرته تقوى بزيادة القمر، ولله سبحانه وتعالى في خلقه أسرار خفية.
قورية (5) :
بالأندلس، قريبة من ماردة، بينها وبين قنطرة السيف مرحلتان.
ولها سور منيع (6) ، وهي أولية البناء واسعة الفناء، من أحصن المعاقل وأحسن المنازل، ولها بواد شريفة خصيبة وضياع طيبة وأصناف من الفواكه كثيرة، وأكثرها العنب والتين.
قومس (7) :
عمل مفرد بين الري وخراسان، ومدنه: بسطام وسمنان والدامغان، وقومس بلد جليل القدر واسع، واسم المدينة الدامغان، وهي أول مدن خراسان، فتحها عبد الله بن عامر بن كريز في خلافة عثمان رضي الله عنه سنة ثلاثين، وأهلها قوم عجم، وهم أحذق قوم بعمل أكسية الصوف البيض القومسية الرفيعة.
وفي ثمان وعشرين ومائة غلب أبو مسلم صاحب الدعوة على ناحية قومس وجرجان.
وكان عمر (8) رضي الله عنه كتب إلى نعيم بن مقرن حين أعلمه بفتح الري: أن قدم سويد بن مقرن إلى قومس، ففصل إليه سويد من الري فلم يقم له أحد، فأخذها سلماً وعسكر بها، وكاتبه الذين لجأوا إلى طبرستان منهم والذين أخذوا المفاوز فدعاهم إلى الصلح وإلى الجزية، وكتب لهم بذلك كتاباً.
قوهستان (9) :
من كور نيسابور.
قوصرة (10) :
جزيرة تلي مدينة مازر من صقلية بينهما مجرى، وهي في شرقي جزيرة مليطمة، وهي من جزيرة الراهب بين جنوب
__________
(1) عن الاستبصار: 85 حتى آخر المادة.
(2) هذه المعلومات عن الزمرد مأخوذة عن المسعودي، المروج 3: 44، وأوردها صاحب الاستبصار، وانظر خطط المقريزي 1: 194، 197.
(3) الاستبصار: سبعة.
(4) ص ع: الصين.
(5) بروفنسال: 164، والترجمة: 198 (Coria) .
(6) عن الإدريسي (د) : 183.
(7) قارن بنزهة المشتاق: 207، وابن حوقل: 322، والكرخي: 124، وياقوت (قومس) ، وقد ذكر المؤلف هذه المادة في ((الدامغان)) .
(8) الطبري: 1: 2656.
(9) ص ع: قومسيان، ولم أجد لها ذكراً في الكتب الجغرافية، وقوهستان ليست من كور نيسابور وإنما هي منطقة وجبال ممتدة بين نيسابور وهراة.
(10) هي الجزيرة التي تسمى Pantelleria، وانظر الإدريسي (م) : 19، والبكري (ح) : 226.(1/485)
وشرق وتوازي الشاقة ومازر، وبينهما مجرى، وكذلك من قوصرة إلى بر إفريقية مجرى. وجزيرة قوصرة ترى من مدينة مازر، وترى أيضاً من اقليبيا من بر إفريقية، لأن هذه الجزيرة جبل مشرف عال جداً، ولها مرسى من جانب الشمال، وهي مقطع للخشب الجيد، ويحمل منه إلى صقلية، وفيها معز برية تصاد هناك كثيراً، وهي مكمن للغزاة من المسلمين والروم، وكانت فيها للمسلمين على الروم أيام صمصام الدولة وقيعة مجحفة ومقتلة عظيمة، وهي جزيرة صغيرة خصيبة فيها آثار وأشجار ولها من جهة الجنوب مرسى مأمون يكن من رياح كثيرة.
قويق (1) :
نهر حلب، وينبعث من قرية تدعى سنياب (2) على سبعة أميال من دابق، ثم يمر إلى حلب ثمانية عشر ميلاً. ثم يفيض في الأجمة ويدخل منه إلى البلد في قناة تجري في الشوارع والأسواق والديار، ومنه شرب أهل المدينة، ثم يمر إلى مدينة قنسرين عشرين ميلاً، فمن مخرجه إلى مغيضه اثنان وأربعون ميلاً.
وقويق هو المذكور في شعر المعري (3) في قوله يذم إبله حين اشتاقت إلى قويق حيث أوطانها على حقارته وأعرضت عن مجتمع المياه الكثيرة والأنهار الواسعة حين كونها ببغداد، فقال يعني إبله:
تمنت قويقاً والصراة حيالها ... تراب لها من أينق وجمال
قيسارية:
مدينة بالشام على ساحل البحر كبيرة عظيمة لها ربع عامر وحصن منيع، بينها وبين يافا ثلاثون ميلاً وكانت من أمنع مدن فلسطين، افتتحها معاوية في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيها الكروم والبساتين وماؤها من العيون، ومنها تسقى كرومهم.
وفي سنة سبع ومائة افتتح مسلمة بن عبد الملك مدينة قيسارية عنوة (5) .
وتخرج منها (6) فتسير في رمال مقدار ثمانية فراسخ حتى تنتهي إلى مدينة صور.
القيروان (7) :
هي قاعدة البلاد الإفريقية وأم مدائنها، وكانت أعظم مدن المغرب نظراً، وأكثرها بشراً، وأيسرها أموالاً، وأوسعها أحوالاً، وأربحها تجارة، وأكثرها جباية، والغالب على فضلائهم التمسك بالخير والوفاء بالعهد واجتناب المحارم والتفنن في العلوم، ثم سلط الله تعالى عليها العرب، وتوالت الجوائح عليها حتى لم يبق منها إلا أطلال دارسة وآثار طامسة، ولم يبق الآن منها سوى حيز قليل عليه سور تراب، واستولت العرب عليها، فهم يقبضون جبايتها، ويقال إنها ستعود إلى عمارتها. ومياهها قليلة، وشرب أهلها من الماجل الكبير الذي بها، وهو عجيب البناء على تربيع، وفي وسطه بناء قائم كالصومعة ذرع كل وجه منها مائتا ذراع. وكانت القيروان مدينتين: القيروان وصبرة.
ولما افتنحت (8) إفريقية في زمن معاوية رضي الله عنه على يد عقبة بن نافع القرشي رحمة الله عليه في سنة خمسين، وكان وجهه إليها في عشرة آلاف من المسلمين، فوضع السيف حتى أفنى من بها من النصارى وقال: إني أرى إفريقية إذا دخلها إمام تحرموا بالإسلام، وإذا خرج عنها رجع كل من أجاب منهم عن دين الله عز وجل، فهل لكم يا معشر المسلمين أن تتخذوا مدينة تكون لكم عزاً للأبد فأجابه الناس، واتفقوا على أن يكون أهلها مرابطين فيها وقالوا: نقربها من البحر ليتم الجهاد والرباط، فقال لهم عقبة: أخاف من ملك القسطنطينية فاتفق رأيهم على موضعها فقال: قربوها من السبخة، فإن أكثر دوابكم الإبل، تكون إبلكم على بابها في مراعيها آمنة من البربر، فدعا ما كان في الغيضة من الوحوش والهوام وقال: اخرجوا بإذن الله تعالى، فخرج كل ما كان فيها حتى
__________
(1) ابن رستة: 91، وابن خرداذبه: 177، وقارن بياقوت (قويق) .
(2) هكذا عند ابن رسته، وفي ياقوت: سبتات، وقال: سألت عنها بحلب فقالوا: لا نعرف هذا الاسم، إنما مخرجه من شاذر.
(3) راجع مادة ((الصراة)) .
(5) قيساوية هذه هي التي في آسيا الصغرى، قال صاحب العيون والحدائق: 89: وفي سنة 107 غزا مسلمة بن عبد الملك قيساوية بين ملطية وكماخ ففتحها.
(6) هنا عود إلى الحديث عن قيساوية فلسطين.
(7) الإدريسي (د/ ب) : 110/ 80، وقارن بالبكري: 24، واليعقوبي: 347، والمقدسي: 224، وياقوت (قيروان) .
(8) الاستبصار: 113.(1/486)
لم يبق من الحيوانات شيء، وهم ينظرون إليها، وبقيت القيروان أربعين سنة لم ير فيها خشاش ولا هوام، فكان عقبة بن نافع أول من اختط القيروان (1) ، وأقطع مساكنها ودورها للناس وبنى مسجدها، وتنازعوا في قبلة الجامع، فبات عقبة مغموماً، فرأى في المنام قائلاً يقول له: خذ اللواء بيدك فحيث ما سمعت التكبير فامش، فإذا انقطع التكبير فاركز اللواء فإنه موضع قبلتكم، ففعل عقبة ذلك، فهو موضع القبلة، وهو محراب جامع القيروان إلى اليوم. وقد هدم حسان بن النعمان جامع القيروان وبناه حاشا المحراب فإنه تركه، ويقال إنه هدم وبني نحو ثلاث مرات، كل وال يلي القيروان يريد أن يكون الجامع من بنيانه، وكانوا يتركون المحراب تبركاً ببناء عقبة، وكان مستجاب الدعوة ويقال له: عقبة المستجاب، وهو المقتول بتهودة على يدي البربر، ويقال إنه لما أراد معد بن إسماعيل الشيعي تحريف قبلة مسجد القيروان سنة خمس وأربعين وثلثمائة، بلغه أن أهل القيروان يقولون: إن الله عز وجل يمنعه بدعاء عقبة، فلما وصل ذلك إلى معد غضب، وأمر بنبش قبر عقبة بن نافع وإحراق رمته بالنار، وكان قبره بظاهر تهودة حيث استشهد، وبعث معد لذلك خمسمائة فارس وراجل، فلما دنوا من قبره وحاولوا ما أمرهم به هبت عليهم ريح عاصفة ولاحت بروق خاطفة وقعقعت رعود قاصفة كادت تهلكهم، فانصرفوا ولم يعرضوا له، فخافوا عقوبة معد فتاهوا في صحارى إفريقية حتى سمعوا أنه هلك، فحينئذ رجعوا إلى أوطانهم مستبصرين. وبازاء محراب جامع القيروان الساريتان المشهورتان الحمراوان المشوبتان بالصفرة اللتان لم ير الراءون أحسن منهما ولا مثلهما، كانتا في كنيسة من كنائس الروم فنقلهما إلى جامع القيروان حسان بن النعمان، وهما يقابلان المحراب، عليهما القبة المتصلة بالمحراب.
وروي أن صاحب القسطنطينية بذل له فيهما قبل نقلهما إلى الجامع زنتهما ذهباً فآثروا الجامع بهما.
وخارج (2) مدينة القيروان خمسة عشر ماجلاً للماء هي سقايات لأهل القيروان، منها ما بني في أيام هشام بن عبد الملك بن مروان وفي أيام غيره من الخلفاء، وأعظمها شأناً وأفخمها منصباً الماجل الذي بناه أحمد بن الأغلب بباب تونس من القيروان، وهو مستدير متناهي الكبر، وفي وسطه صومعة مثمنة، وفي أعلاها قبة مفتحة على أربعة أبواب، فإذا وقف الرامي على ضفته ورمى بأشد ما يكون من القسي لا يدرك الصومعة التي في وسطه، وكان على ذلك الماجل قصر عظيم فيه من البناء العجيب والغرف المشرفة على ذلك الماجل كل شيء غريب، وبجوفي هذا الماجل ماجل لطيف متصل به يقع فيه ماء الوادي إذا جرى، فتنكسر فيه حدة جريانه، ثم يدخل الماء الماجل الكبير، وهذا الوادي الذي يدخل الماجل إنما هو واد شتوي يجري في أيام الشتاء، فإذا امتلأ هذا الماجل وغيره من المواجل شرب منه أهل القيروان ومواشيهم، ويرفع ماء هذا الماجل الكبير إلى أيام الصيف فيكون ماؤه بارداً عذباً صافياً كثير الماء، وكان عبيد الله الشيعي يقول: رأيت بإفريقية شيئين ما رأيت مثلهما في المشرق، الحفير الذي بباب تونس من القيروان، يعني هذا الماجل الكبير، والقصر الذي برقادة المعروف بقصر البحر.
وكان يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن ملك المغرب لما طلع إلى إفريقية دخل القيروان ووصل لجامعها وطاف على مشاهدها ومزاراتها، ووقف على هذا الماجل معجباً به، وجمع القبائل والأجناد لإخراج ترابه، فرغب أهل القيروان إليه في تركه خيفة من ورود العرب عليه عند جفوف (3) الهواء فتركه، وفي هذا الماجل يقول الشاعر (4) :
وبالجملة فمدينة القيروان دار ملك المغرب، ورأت من الممالك والملوك والدول والفقهاء والعلماء والصالحين ما لم يكن مثله في قطر من الأرض ثم محنت بالعرب والفتن، وخلت من الناس وذهبت نضرتها ومحاسنها، وبسط أخبارها يطول فلنقتصر على هذا القدر.
__________
(1) سقط من ع.
(2) عاد إلى متابعة النقل عن الاستبصار: 115.
(3) في مادة (عمرة) : عند يبس الهواء.
(4) بياض بمقدار 3 أسطر.(1/487)
قيجاطة (1) :
مدينة بالأندلس من عمل جيان، كان عبد الله المعروف بالبياسي من بني عبد المؤمن لما نازعه العادل ونزل عليه في بياسة فلم يقدر عليه ورجع عنه خائباً، استدعى البياسي النصارى فسلم لهم بياسة وأخرج منها المسلمين، وسار مع الفنش ليأخذ معاقل الإسلام باسمه، فدخل قيجاطة هذه بالسيف وقتل العدو فيها خلقاً وأسر آخرين، وكان حديثها شنيعاً تنفر منه الأسماع والقلوب، ثم سار إلى لوشة من عمل غرناطة، فقاتل أهلها وقاتلوه وأسمعوه ما غاظه، فسلط عليهم النصارى ففتكوا فيهم أشد الفتك، ثم سار إلى بيغو من عمل غرناطة فدخلها بعد شدة، وذلك مذكور في حرف الباء، وكان ذلك في سنة اثنتين وعشرين وستمائة.
القيارة (2) :
موضع على مقربة من دجلة وبالجانب الشرقي منها وعن يمين الطريق إلى الموصل، فيه وهدة من الأرض سوداء كأنها السبخة، قد أنبط الله تعالى فيها عيوناً صغاراً وكباراً تنبع بالقار، وربما يقذف بعضها بحباب منه كأنه الغليان، وتصنع له أحواض يجتمع فيها، فتراه شبه الصلصال منبسطاً على الأرض أسود أملس صقيلاً رطباً عطر الرائحة شديد التعلك، يلتصق بالإصبع لأول مباشرة من اللمس، وحول تلك العيون بركة كبيرة سوداء يعلوها شبه الطحلب الرقيق تقذفه إلى جوانبها فيرسب قاراً، وبمقربة من هذه العيون على شط دجلة عين أخرى كبيرة تبصر على البعد منها دخاناً قيل إن النار تشعل فيه فتنشف النار رطوبته المائية وتعقده، فيقطعونه قطراناً ويحملونه وهم يعم جميع هذه البلاد إلى الشام، إلى عكا، إلى جميع البلاد البحرية.
قيشاطة (3) :
حصن بالأندلس كالمدينة، بينه وبين شوذر اثنا عشر ميلاً وفي قيشاطة أسواق وربض عامر وفنادق، وعليه جبل يقطع به من الخشب الذي تخرط منه القصاع والأطباق وغير ذلك مما يعم بلاد الأندلس وأكثر بلاد المغرب، وهذا الجبل يتصل ببسطة، وبين جيان وهذا الحصن مرحلتان.
القيس (4) :
مدينة بصعيد مصر تعمل بها الثياب القيسية وأكسية الصوف الجياد، وهي على ضفة النيل وبغربيه، وهي مدينة قديمة حسنة البناء جميلة الجهات فيها قصب السكر وأنواع التمور والخيرات الكثيرة، وبينها وبين منية ابن الخصيب مقدار نصف يوم.
قمنورية (5) :
أرض قمنورية متصلة بالبحر المظلم، ويتصل بشرقيها صحراء عليها طريق تجار أهل أغمات وسجلماسة ودرعة والنول الأقصى إلى بلاد غانة وما اتصل بها، وكانت بأرض قمنورية مدن للسودان مشهورة وقواعد مذكورة، فطلبها لمتونة الصحراء الساكنون من جهتي هذه الأرض حتى أفنوا أكثر أهلها وقطعوا دابرهم وبددوا شملهم على البلاد، وأهل بلاد قمنورية يذكر التجار أنهم يهود، وفي معتقدهم تشويش وليسوا بشيء ولا على شيء، ولا ملك لهم ولا ملك عليهم، بل هم ممحونون من جميع الطوائف المجاورة لهم، ولم يبق من أهل قمنورية إلا قوم قلائل معروفون (6) في تلك الصحارى وبمقربة من الساحل، عيشهم الألبان والحوت، وهم في نكد من نكد العيش وضيق الحال، فهم ينتقلون في تلك الأرض مع مهادنة من جاورهم، وبين قمنورية وسلى وتكرور مسيرة خمسة أيام.
قيطون بياضة (7)
على ثلاثة مراحل من قفصة، وبينها وبين نفطة مرحلة، وإلى توزر مرحلة، وإلى نفزاوة مرحلة.
__________
(1) بروفنسال: 165، والترجمة: 198 (Quesada) تقع على ثلاثين كيلومتراً إلى الجنوب الشرقي من أبدة.
(2) عن رحلة ابن جبير: 223، وقارن بابن بطاوطة: 234.
(3) هي قيجاطة السابقة؛ والنص عن الإدريسي (د) : 203، وقارن بياقوت.
(4) اليعقوبي: 331، والإدريسي (د) : 45 (OG: 124) وراجع مادة ((القس)) .
(5) ص ع: قيمورة؛ والنص عن الإدريسي (د/ ب) : 29/ 16 (OG: 105) ، وانظر ابن الوردي: 36.
(6) الإدريسي: متفرقون.
(7) عن البكري: 47، وقارن بالبكري: 74، والاستبصار: 175، قال: وقيطون بياضة قرية كبيرة كثيرة النخل فيها تجتمع الرفاق ومنها تخرج إلى جميع البلاد، وهي آخر بلاد الزاب.(1/488)
حرف الكاف
كابل (1) :
من ثغور خراسان، وقيل في بلاد الترك، وقيل من مدن الهند المجاورة لبلاد طخارستان، غزاها مجاشع بن مسعود فصالحه الأصبهبذ، فدخل مجاشع بيت أصنامهم فأخذ جوهرة كبيرة من أفضلها، فأصابه في منصرفه الثلج فماتوا إلا رجلين، فزعم الأصبهبذ أن الصنم فعل ذلك بهم، وقال جرير:
غلبت أمه أباه عليه ... فهو كالكابلي أشبه خاله يعني يزيد بن المهلب، وكانت أمه من سبي كابل فلذلك نسبه لكابل. وزعم قوم أن أهل كابل مخصوصون من بين سائر ولد آدم بأذناب تكون لهم، ولذلك قال الشاعر:
أذنابنا ترفع قمصاننا ... من خلفنا كالخشب الشائل وكابل (2) مدينة جليلة المقدار حسنة البنية، وبجبالها عود جليل، وبها النارجيل والإهليلج الكابلي المنسوب إليها، وينبت في جبالها ويزرع في أباطحها بصل الزعفران ويتجهز به منها إلى ما جاورها من البلاد، وهي من غر البلاد وأحسنها هواء، وبها حصن موصوف لا يوجد الصعود إليه إلا من طريق واحد وفيها مسلمون كثيرون، ولها ربض فيه اليهود، ولا يتم لأحد من ملوكهم ملك إلا بمدينة كابل، وان كان الوالي على بعد فلا بد من المسير إلى كابل حتى تعقد له الشاهية بالملك.
وتقع بها الثلوج. وكابل في نحر الهند، ولها أسوار ومنعة، ولها ربض عامر خارج المدينة.
والقصد إليها (3) من الآفاق القريبة والبعيدة ويزرع بسواد أرضها النيلج الذي لا يوجد نظيره في سائر البلاد كثرة وطيباً، ويحمل منها إلى كل الآفاق، ويتجهز أيضاً من كابل بثياب تصنع من القطن حسان تحمل إلى الصين وتخرج إلى بلاد خراسان، وقد يسافر بها إلى الهند وأعمالها ويتصرف بها كثيراً وفي جبال كابل معادن حديد، ولها قلاع وقرى وعمارات متصلة.
كاشغرا (4) :
مدينة من بلاد الصين عامرة كثيرة الخيرات فيها متاجر وبضائع، وهي على نهر صغير يأتي إليها من جهة شمالها من جبل قيطغورا (5) ، وفيه معادن فضة طيبة فائقة في الجودة سهلة التخليص من خبثها.
__________
(1) معجم ما استعجم 4: 1108.
(2) الإدريسي (ق) : 71، وقارن باليعقوبي: 291، والكرخي: 157، وابن حوقل: 375، والمقدسي: 304، والزهري: 30، وياقوت (كابل) ، وتقويم البلدان: 468، وابن بطوطة: 392، وحدود العالم: 11، 346.
(3) عاد إلى النقل عن الإدريسي.
(4) نزهة المشتاق: 68 - 69 (OG: 203) ، وقارن بياقوت (كاشغر) وأثبتها أيضاً في (كاجغر) ، وتقويم البلدان: 504 (وتكتب أيضاً: قاشغر) ، وحدود العالم: 96، 280، وابن الوردي: 34.
(5) ص ع: قاطيعورا.(1/489)
كازرون (1) :
من ديار فارس، وهي على البحر، بينها وبين فسا ستة وخمسون ميلاً وهي حسنة لها سور وحصن وأبواب خشب وحديد، ولها قلعة داخلها حصينة وربض عامر فيه أسواق ومتاجر وصناعات، وبها فواكه وخير كثير.
الكثيبة (2) :
حصن من حصون خيبر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما غزا خيبر حاز الأموال كلها: الشق ونطاة والكثيبة وجميع حصونهم إلا الوطيح والسلالم، فحاصرهما، حتى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيرهم وأن يحقن لهم دماءهم ففعل، فلما سمع أهل فدك بذلك بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يسيرهم وأن يحقن لهم دماءهم ويخلوا له الأموال ففعل، وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب، ثم سأله أهل خيبر أن يتركهم بها عمالاً يعملونها على النصف، وقالوا: نحن أعلم بها منكم ففعل، على أنا إن شئنا أن نخرجكم أخرجناكم، فكانت خيبر فيئاً بين المسلمين، وفدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
كحلان (3) :
قلعة من مخاليف اليمن كان أسعد بن أبي يعفر صاحبها فيما تقدم، وكان محتجباً عن أعين الناس إلا عن خواصه، وهو بقية من ملوك حمير، وحوله من الجنود نحو خمسين ألفاً، وكانت له مع القرامطة بعد سنة مائتين وتسعين (4) حروب معروفة (5) .
الكديد (6) :
بفتح أوله وكسر ثانيه، موضع بين مكة والمدينة بين منزلتي أمج وعسفان، وهو ماء عين جارية عليها نخل كثير، وفي الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام حتى إذا بلغ الكديد أفطر فأفطر الناس، وكانوا يأخذون بالأحداث فالأحداث من أمره صلى الله عليه وسلم. وبالكديد قتل نبيشة بن حبيب السلمي ربيعة بن مكدم.
كداء (7) :
بفتح أوله ممدود لا يصرف لأنه مؤنث، جبل بمكة، وهو عرفة بعينها وهي كلها موقف إلا عرنة فليست من الحرم، بينها وبين الحرم رمية حجر وقال حسان:
عدمنا خيلنا إن لم تروها ... تثير النقع موعدها كداء وفي البخاري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر خالد بن الوليد رضي الله عنه أن يدخل يوم الفتح من أعلى مكة من كداء، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من كدي، بضم أوله وتنوين ثانيه مقصور كأنه جمع كدية، وكدى بأسفل مكة بقرب شعب الشافعيين وشعب ابن الزبير عند قعيقعان. حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من ذي طوى إلى كداء، وحلق من كدى إلى المحصب، فكأنه ضرب دائرة في دخوله وخروجه، بات بذي طوى ثم نهض إلى أعلى مكة فدخل منها من كداء، وفي خروجه خرج من أسفل مكة ثم رجع إلى المحصب. وأما كدي مصغر فإنما هو لمن خرج من مكة إلى اليمن، وليس من هذين الطريقين في شيء وكان دخول النبي صلى الله عليه وسلم من كداء وخروجه من كدى في حجة الوداع. وقال الشاعر (8) :
أقفرت بعد عبد شمس كداء ... فكدي فالركن فالبطحاء
كربلاء (9) :
بفتح أوله وإسكان ثانيه ممدود، موضع بالعراق من ناحية الكوفة فيه قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما، قال كثير (10) :
فسبط سبط إيمان وبر ... وسبط غيبته كربلاء وهناك الطف أيضاً، وقد تقدم ذكره.
الكرخ (11) :
بتسكين الراء وبالخاء المعجمة من فوق، ببغداد،
__________
(1) نزهة المشتاق: 126، وعند ياقوت تفصيلات كثيرة منقولة عن أبي لف، وقارن الكرخي: 78، وابن حوقل: 247، والمقدسي: 433، وقد ميزها بصناعة ثياب الكتان، وبكثرة السماسرة الذين يمثلون الطبقة الغنية فيها، وهم أصحاب قصور، ولهم دار خاصة بهم بناها لهم عضد الدولة.
(2) السيرة 2: 337، وقارن بفتوح البلاذري: 27.
(3) عدو الهمذاتني: 101، حصناً في مخلاف ذي رعين، وانظر في أخبار أسعد بن أبي يعفر.
(4) تاريخ اليمن لعمارة: 38 - 39.
(5) ص ع: بعد مائتين وتسعين سنة.
(6) معجم ما استعجم 4: 1119.
(7) كله عن معجم ما استعجم 4: 1117 - 1118، وقارن بياقوت (كداء) .
(8) هو عبيد الله بن قيس الرقيات؛ ديوانه: 87.
(9) عن معجم ما استعجم 4: 1123.
(10) ديوان كثير: 521، وليست نسبته له بثابتة.
(11) أوله عن معجم ما استعجم 4: 1124، ثم عن اليعقوبي: 246، ونزهة المشتاق: 198.(1/490)
وهو اسم نبطي، وهو مدينة صغيرة عامرة بشرقي دجلة، وهي في الجانب الغربي من بغداد، ومعروف الكرخي الزاهد من هذا الموضع قالوا: الكرخ هو السوق العظمى مادة من قصر وضاح إلى سوق الثلاثاء طولاً مقدار فرسخين، ومن قطيعة الربيع إلى دجلة عرضها مقدار فرسخين (1) .
والكرخ (2) أيضاً بسر من رأى، ويمكن أن يكون سمي بكرخ بغداد، ولأحمد بن محمد بن الوكيل الكرخي:
كد كد العبد إن أحبب ... ت أن تحسب حرا
واقطع الآمال عن وص ... ل بني آدم طرا
لا تقل ذا مكسب يز ... ري ففضل الناس أزرى
أنت ما استغنيت عن مث ... لك أعلى الناس قدرا
الكرج (3) :
بفتح الكاف والراء المفتوحة وبالجيم المعجمة، أول حصن من معاقل الجبل فمن همذان إلى نهاوند مرحلتان ومن نهاوند إلى الكرج مرحلتان ولم تكن في أيام الأعاجم مدينة مشهورة، وإنما كانت في عداد القرى العظام، وهذا الحصن هو حصن أبي دلف القاسم بن عيسى العجلي (4) أحد أكابر قواد المأمون وهو الذي قال فيه مادحه (5) :
إنما الدنيا أبو دلف ... بين باديه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على اثره
كل من في الأرض من عرب ... بين باديه إلى حضره
مستعير منك مكرمة ... يكتسيها يوم مفتخره فقال له المأمون: قد جعلنا نستعير المكارم منك، فقال: يا أمير المؤمنين قول زور وكلام غرور، أصدق منه ابن أخت لي حيث يقول:
دعيني أجوب الأرض في طلب الغنى ... فما الكرج الدنيا ولا الناس قاسم
كرمان (6) :
أرض كرمان متصلة بأرض فارس وبأرض مكران. قالوا: وهي ثمانون فرسخاً في مثلها، وحدها في الشرق أرض مكران وفي الغرب أرض فارس، وفي الشمال مفازة خراسان وسجستان وفي الجنوب بحر فارس.
ومدينة كرمان (7) الشيرجان، وهي التي ينزلها الوالي، وبني سورها أيام الرشيد، ولها ثمانية أبواب، أحدها باب بهياباد وهو باب الميدان ويخرج منه إلى درب وسكك حتى ينتهي إلى مصلى حاجب إلى دار المرضى ثم إلى الدروب المعروفة بباب بيمند وهو باب المغرب، وخارج هذا الدرب قصر خراب يعرف بقصر حاجب بن صالح، وكان سبب بنيانه أنه أول ما قدم كرمان حاجب بن صالح على ولايتها قصد دار عبد الله بن غسان فنزلها، وعبد الله بن غسان غائب، فصار إليه الأدهم بن ثعلبة المازني مع اثني عشر ابناً له كهولاً ومشايخ، فلما سلم عليه فاتحه بأن قال: أيها الأمير أما تستحيي أن تنزل بنسوة أشراف وصاحبهن غائب؟ فأجابه حاجب وقال مغضباً بأي شيء يأمرنا الشيخ أن ننزل؟ قال: بالعراء، قال حاجب لجلسائه: ليس العجب من هذا الشيخ الخرف، ولكن العجب من هؤلاء المشايخ الذين يمشون معه، قالوا أيها الأمير إنهم ولده، فرده وقال: أيها الشيخ حق لك أن تزهى نعم وكرامة أنزل بالعراء، فأمر بضرب قبابه في مصلى حاجب، وما زال نازلاً بالجبانة إلى أن بني له هذا القصر وفرغ منه ثم تحول إليه.
وبالشيرجان (8) التي هي مدينة كرمان الدواوين، وبها أسواق
__________
(1) اليعقوبي: فرسخ.
(2) ذكر ياقوت سامرا يقال له كرخ فيروز وأنه أقدم من سامرا، فلما بنيت اتصل بها. ونسب معروفاً الكرخي إليه إلى كرخ بغداد.
(3) قارن بابن حوقل: 313 وفيه تفصيلات هامة، وياقوت (الكرج) ، والمقدسي: 394، وابن الوردي: 49، والمعلومات الأخبارية عن معجم ما استعجم 4: 1124؛ وانظر في ضبط اللفظة ابن خلكان 4: 79.
(4) انظر ترجمته في ابن خلكان 4: 73.
(5) هو علي بن جبلة المشهور بالعكوك، انظر الأغاني 19: 315 وما بعدها.
(6) انظر اليعقوبي: 286، وابن حوقل: 266، والكرخي: 97، والمقدسي: 459، وابن الفقيه: 205، وياقوت (كرمان) .
(7) تكرار لما ورد في مادة ((شيرجان)) .
(8) نزهة المشتاق: 132.(1/491)
كثيرة عامرة بالناس، وأهلها مياسير ذوو أموال كثيرة، وشرب أهلها من الآبار، وهي أكبر مدينة بكرمان، وفي أهلها عفة وخير ظاهر وفي تجارهم حسن معاملة وانقياد للحق، ولهم نزاهة عن كثير من أخلاق السوقة. وذكر أن السامري صاحب موسى عليه السلام من كرمان، وفي نساء كرمان جمال لا يبلغه شيء.
وكان فيها (1) أيام استعمال الحجاج سعيد بن سلم قاضياً عليها علجة يقال لها اردك (2) وكانت من أجمل النساء بغياً يبيت عندها الرجل بجملة من المال، فبلغ سعيداً خبرها فأرسل إليها فجيء بها، فلما رآها قال: يا عدوة الله، فتنت فتيان البلد وأفسدتهم، ثم قال: اكشفي عن رأسك، فكشفت عن شعر جثل يضرب إلى عجيزتها، ثم قال: ألقي درعك، فألقته وقامت عريانة في أزار، فرأى ما حيره وذهب بعقله، ثم لم يملك نفسه حتى جعل يطعن باصبعه في عكنها، ثم قال: يا عدوة الله أدبري، فأدبرت، فنظر إلى ظهر فيه كماء الجدول (3) ، على كفل كأريك خز حشوها قز ثم قال: أقبلي فأقبلت بصدر نقي وبطن ذي عكن وأحشاء لطيفة وكعثب كالقعب المكبوب يشرق بياضه وحسنه، فافتتن بها لما رأى من جمالها وكمالها، فوثب إليها فما بارحها حتى أولجه فيها، فقال عرفجة بن شريك في ذلك:
ما بال أردك إذ تمشي مؤزرة ... في البيت يا ابن قتيل العين ذا العلق
اجرية تبتغي منها (4) فتعجلها ... أو بعض ما يعتري الجاني من الشبق فلما بلغ الحجاج قول سعيد وقول الشاعر قال: بل بعض ما يعتري الجاني من الشبق وصرف سعيداً.
قال أصحاب المغازي (5) : قصد سهيل بن عدي إلى كرمان ولحقه عبد الله بن عبد الله (6) بن عتبان، وعلى مقدمة سهيل النسير بن عمرو العجلي، وقد حشد له أهل كرمان واستعانوا بالقفص، فاقتتلوا في أداني أرضهم، ففضهم الله تعالى، فأخذوا عليه بالطريق وقتل النسير مرزبانها، ودخل سهيل من قبل طريق القرى إلى جيرفت وعبد الله بن عبد الله من مفازة أخرى فأصابوا ما شاءوا من بعير وشاة، فقوموا الإبل والغنم فتحاصوها بالأثمان لعظم البخت على العراب وكرهوا أن يزيدوا، وكتبوا إلى عمر رض الله عنه فأجابهم: إن البعير العربي إنما قوم ببعير (7) اللحم وذلك مثله، فإذا رأيتم أن للبخت فضلاً فزيدوا.
وذكر المدائني أن الذي فتح كرمان عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم أتى الطبسين من كرمان، ثم قدم على عمر رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، إني افتتحت الطبسين فأقطعنيهما فأراد أن يفعل فقيل لعمر رضي الله عنه إنهما رستاقان عظيمان فلم يقطعه إياهما، وهما بابا خراسان.
وفي خبر البلاذري (8) أن عثمان بن أبي العاصي لقي مرزبانها في جزيرة ابركاوان وهو في خف فقتله، فوهن أمر كرمان ونخبت قلوبهم فلما صار ابن عامر بأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى فارس وجه مجاشع بن مسعود السلمي إلى كرمان في طلب يزدجرد، فأتى بيمند فهلك جيشه بها ثم لما توجه ابن عامر يريد خراسان ولى مجاشعاً كرمان ففتح بيمند عنوة فاستبقى أهلها وأعطاهم أماناً، وبها قصر يعرف بقصر مجاشع، وأتى مجاشع الشيرجان، وهي مدينة كرمان فأقام عليها أياماً يسيرة، وأهلها متحصنون وقد خرجت لهم خيل، فقاتلهم ففتحها عنوة وخلف بها رجلاً ثم إن كثيراً من أهلها جلوا عنها وقد كان أبو موسى الأشعري وجه الربيع بن زياد ففتح ما حول الشيرجان وصالح أهل بم، فكفر أهلها وغدروا، ففتحها مجاشع بن مسعود وفتح جيرفت عنوة، وسار في كرمان فدوخها وهرب كثير من أهل كرمان فركبوا البحر ولحق بعضهم بمكران وبسجستان، فأقطع العرب منازلهم وأرضهم فعمروها وولي قطن بن قبيصة بن مخارق فارس وكرمان، وهو الذي انتهى إلى نهر فلم يقدر أصحابه على إجازته فقال: من جازه فله ألف درهم، فجازوه فوفى لهم، فكان ذلك أول يوم سميت فيه الجائزة.
__________
(1) أورد ابن الجوزي هذه القصة في ذم الهوى: 168.
(2) ذم الهوى: أرذك.
(3) ص ع: كما مجدول.
(4) ع: فتعلمها.
(5) الطبري 1: 2703.
(6) ص ع: عبيد الله.
(7) الطبري: بتعبير.
(8) فتوح البلدان 482.(1/492)
وكان أبوه قبيصة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (1) .
وسميت (2) كرمان بكرمان بن فلوج من ولد لمطي (3) بن يافث بن نوح عليه السلام.
كرماله (4) :
حصن من حصون أوغة من بلاد الافرنج الساحلية مشرقاً، فيه أعجوبة وهي صورة امرأة من حجر قد نبتت في فيها كرمة مطعمة، من أكل من عنبها شيئاً لم يولد له أبداً ويزعمون أن شنت مرتين مر على هذا الحصن فخرجت عليه امرأة فاجرة زوجة رجل سلاب كان بها فجردته من ثيابه، وطاع لها بها حتى بلغت منه نزع السراويل فدعا عليها دعوة مسخت من حينها حجراً وأدخلت زرجونة في فمها على سبيل العبث بها فعلقت.
كركنت (5) :
مدينة بجزيرة صقلية، وهي متحضرة عامرة بالوارد والصادر ولها قلعة سامية حصينة، ومدينتها حسنة زاهية قديمة العمران وهي من أعظم الحصون مقصودة من سائر الآفاق وبها أسواق جامعة لأصناف الصنائع وضروب المتاجر، وبها حدائق وجنات وغلات والبحر منها على ثلاثة أميال وبينها وبين مدينة الشاقة مرحلة في البحر وهي خمسة وعشرون ميلاً، وهي في نشز من الأرض يحيط بها سور وفيها آثار للأول، وبها أصنام وهي أكثر بلاد صقلية طعاماً.
كرمينية (6) :
مدينة من أعمال بخارى كبيرة عامرة كثيرة الخلق خصيبة الأرض كثيرة الفواكه واللطف ولها مسجد جامع ومنبر، ولها قرى كثيرة، وهي طيبة الهواء.
الكرك (7) :
حصن مشهور بناحية الشام ومعقل مشهور.
وحكي (8) أن السلطان العادل سيف الدين أبا بكر محمد بن أيوب، أخا صلاح الدين، سمعه مسخرة له يقال له خضير يقول في وضوئه: اللهم حاسبني حساباً يسيراً ولا تحاسبني حساباً عسيراً، فقال: يا خوند على أي شيء يحاسبك حسابا يسيراً؟ لو قال لك أين أموال الخلق التي أخذتها؟ قل له: تراها بأمانتها في الكرك ما أخرجت منها شيئاً، وكان خزائن أمواله بهذا المعقل.
كرسب:
موضع بالهند منه يحمل البقم، وهو بيوت على ساحل البحر من طين وحشيش، وأهلها سمر الألوان، ولسانهم لسان الهند، ولهم أزر وأردية من إبريسم عليها نقوش، وهم عبدة أصنام، كل واحد منهم قد اتخذ صنماً لنفسه من طين في بيته، ويمنعون المسلمين من اتخاذ مساجد في مواضعهم وأن يدفنوا موتاهم في مواضعهم، يقولون أن المطر يحبس عنهم بذلك السبب، ومنها يجلب البقم الجيد.
كلواذا (9) :
مدينة بها مسجد جامع، تتصل عمارة بغداد بها شرقاً، وبين المدينتين جسران مربوطان بالسفن يجتاز عليهما الناس، وبينها وبين بغداد ثلاثة فراسخ.
وبها (10) مسجد جامع ومنبر وأسواق.
الكلاب (11) :
واد لبني عامر بين العراق واليمن، وكان يوم الكلاب الأول والثاني من مشاهير أيام العرب، فكان يوم الكلاب الأول لسلمة بن الحارث بن عمرو ومعه بنو تغلب والنمر بن قاسط بن سعد بن زيد مناة على أخيه شرحبيل بن الحارث بن عمرو ومعه بكر بن وائل وحنظلة بن مالك وبنو أسد وطوائف من بني عمرو بن تميم والرباب، وهذا اليوم هو الذي عنى امرؤ القيس في قوله:
كما لاقى أبي حجر وجدي ... ولا أنسى قتيلاً بالكلاب وكان يوم الكلاب الثاني لبني تميم وبني سعد والرباب ورئيسهم قيس بن عاصم على قبائل مذحج في اثني عشر ألفاً ورئيسهم يزيد
__________
(1) قبيصة بن مخارق بن عبد الله بن شداد الهلالي ابو بشر، نزل البصرة (الاستيعاب: 1273) .
(2) معجم ما استعجم 4: 1125.
(3) معجم البكري: لنطي.
(4) آثار البلاد: 607 نقلاً عن العدوي، ومما يلحق باليقين أن المؤلف هنا ينقل عن البكري.
(5) الإدريسي (م) : 31 (جرجنت)) (Girgenti) .
(6) قارن بنزهة المشتاق: 214، والكرخي: 175، وابن حوقل: 403، وياقوت (كرمينية) .
(7) قد مر الحديث عنها في مادة ((حصن الكرك)) .
(8) وردت هذهالحكاية في نفح الطيب 2: 298.
(9) نزهة المشتاق: 201، وقارن بياقوت (كلواذي) .
(10) اليعقوبي: 186.
(11) قارن بمعجم البكري: 4: 1132، وياقوت (الكلاب) ، وفي تحديد الموضع اختلاف.(1/493)
ابن المامور، وهم مذحج وهمدان وكندة، وفي هذا اليوم أسر عبد يغوث بن وقاص الحارثي وهتم فم سنان بن سنان بعد أن أسر رئيس كندة، هتمه قيس بن عاصم بقوسه وانتزع عبد يغوث من يد الأهتم.
الكلار (1) :
مدينة من مدن طبرستان، وهي الثغر مما يلي الترمذ، وبها أكراد الديلم وهم أهل فروسية ونجدة. وكان بالكلار جعفر ومحمد ابنا رستم وهما صاحبا ثغور طبرستان اللذان أقاما دولة الحسن بن زيد ودبرا أمره والديلم قبيلتان، وخلفهم قبيل يقال لهم الجيل، وقبيل يقال لهم الديلم والجيل، وهم أهل الجبال خاصة، وهم يزعمون أنهم من بني ضبة، ووجوههم تدل على أنهم عرب، وزيهم زي العرب، يلبسون السيوف بالحمائل ويعتمون على القلانس.
كلاباذ (2) :
محلة من محال بخارى، ينسب إليها أبو نصر (3) أحمد بن محمد بن الحسين بن علي الحافظ الكلاباذي، له كتاب " الهداية والارشاد، في معرفة أهل الفقه والسداد " الذين أخرجهم محمد بن إسماعيل البخاري في جامعه.
كله (4) :
جزيرة من جزر الهند كبيرة، بها معدن الرصاص القلعي، وهو بها كثير صافي الجوهر، والتجار يغشونه بعد خروجه منها، ومنها يتجهز به إلى جميع الأرض، وبهذه الجزيرة منابت الخيزران، وبها الكافور الجيد، وهو شجر كبير يشبه الصفصاف تظل الشجرة منه مائة رجل وأكثر، والكافور يستخرج من هذه الشجرة بأن يثقب في أعلاها ثقب فتسيل منه عدة جرار، وإذا انقطع الجري ثقب أسفل من ذلك في وسط الشجرة فتنساب منه قطع الكافور، وهو صمغ ذلك الشجر، غير أنه ينعقد في داخلها ثم تبطل تلك الشجرة فتنحى ويقصد غيرها. وخشب شجر الكافور أبيض خفيف.
ويقال لجزيرة كله المنصف، وهي بين أرض الصين وأرض العرب، وتكسيرها ثمانون فرسخاً، وبها يجتمع التجار من الصينيين والمسلمين، وإليها يتجهز من عمان فتجلب منها أصناف الطيب كله والرصاص القلعي والأبنوس والبقم وغير ذلك.
ومن طريف أخبارهم ما وقع في الفلاحة النبطية أن في ناحية المشرق جبلاً من جبال الصين على إحدى جنبتي الجبل نهر جار، ومن الجانب الآخر كالبحيرة الصغيرة، فيها ماء واقف، وإنه يسمع في تلك البحيرة في الربيع صياح أناس وضجيجهم كصياح الناس سواء، ويتقدم ذلك الضجيج صراخ كصراخ الناس سواء، ثم يسمعون بعقبه جلبة وضجة كضجة الناس حتى لا يشك السامع لذلك أنه ضحيج ناس وصياحهم، وإن ذلك حجارة مختلطة بطين أحمر خلوقي ناعم جداً، وإنه يتدحرج من ذلك الجبل ذلك التراب الحلو في مدرة بعد مدرة، فمتى فلق الإنسان تلك المدرة أو انفلقت بنفسها ظهر بين شقتي تلك المدرة صورة إنسان بجميع أعضاء الناس، لا تخالف ولا تنقص، وإنه إذا توسط الربيع يخرج من ذلك الجبل ناس لهم عظام ولحم وشعر وأيد وأرجل وأعين تامو الصورة إلا أنهم لا يتحركون ولا يتكلمون ولا يمشون كأنهم موتى، يقعون على جنبتي الجبل، ووقوعهم إلى ناحية البحيرة التي ماؤها واقف أكثر، فإنه يظهر في تلك البحيرة في آخر الربيع رؤوس ناس وأذرعهم وسوقهم كأنها مقطعة ملقاة هناك يراها الناس، وربما أخذ بعضها الآخذ فيجدها إذا جسها كأنها أعضاء الناس سواء عظام ولحم وعصب وعروق وكل ما يشاهد في أبدان الناس إلا أن هذه الأعضاء كأعضاء الموتى، وإن قوماً من أهل تلك البلاد يأخذون من تراب ذلك الجبل فينقعونه في موضع ندي مغموم فيتكون منه إنسان تام الصورة كسائر الناس، وهو مع ذلك حي يتحرك
__________
(1) انظر نزهة المشتاق: 207، وابن الفقيه: 303، وياقوت (كلار) ، وتقويم البلدان: 430.
(2) انظر ياقوت (كلاباذ) ؛ وترجمة الكلاباذي في تذكرة الحفاظ: 1027، توفي سنة 378.
(3) ص ع: أبو جعفر.
(4) ورد ذكرها عند أكثر الجغرافيين؛ والفقرة الأولى عن نزهة المشتاق: 29، وانظر ابن رسته: 88، والتنبيه والإشراف: 61، وابن خرداذبه: 66، 71، وياقوت (كلة) ، وبسط الأرض: 41، وآثار البلاد: 59، ونخبة الدهر: 155، وابن الوردي: 67، وحدود العالم: 57 وقال فيها: بينها وبين جالوس مسيرة يومين وفيها ينمو الخيزران وفيها معدن القصدير؛ وقد زارها أبو دلف (انظر ياقوت مادة: الصين) وقال فيها: فلما وصلت إلى كله رأيتها وهي عظيمة عالية السور كثيرة البساتين غزيرة المادة ووجدت بها معدن الرصاص القلعي (الكلهي عند ابن سعيد) لا يكون إلا في قلعتها في سائر الدنيا، وفي هذه القلعة تضرب السيوف القلعية، وهي الهندية العتيقة ... وحولها مدن ورساتيق وقرى، ولهم أحكام حبوس جنايات، وأكلهم البر والتمر، وبقولهم كلها تباع وزناً، وأرغفة خبزهم كلها تباع عدداً، وليس عندهم حمامات، بل عندهم عين جارية يغتسلون بها، ودرهمهم يزن ثلثي درهم ويعرف بالقاهري، ولهم فلوس يتعاملون بها. ويلبسون كأهل الصين الافرند الصيني المثمن. وقد اختلف الباحثون في تحديد ((كله)) فذهب دي خويه إلى أنها هي Keda (أو Kra) في شبه جزيرة الملايو. ورأى غيره أنها هي شبه جزيرة ملكه المقابلة لسومطرة ولكن ثالثاً يرى أن يحدها في Pointe - de - Galle عند شواطئ سيلان الجنوبية.(1/494)
إلا أنه لا يبقى بعد تحركه حياً إلا يوماً أو أكثر قليلاً أو أقل قليلاً ثم يطفأ سريعاً في لحظة. قال: وفي هذا دلالة على أن الناس قد يكونون بالتناسل المعهود المعروف، وقد يكونون على غير التناسل بالطبيعة في مواضع من الأرض توجب ذلك، وإن تلك المواضع كأرحام النساء لتكوين الولد، ولا فرق بين الحيوانات الكبار والصغار التي تتكون بتعفين بعض الأشياء على غير طريق التناسل كالذباب والدود والحناش والعقارب والفأر والزنابير والحيات، وكذلك يتكون ناس وخيل وحمير وجمال وفيلة وسباع، القياس واحد.
وكله مدينة عظيمة ويجمعها ملك ولها حصن وأسواق ومواضع نبيلة، وفيها مبيعات كثيرة، ومنها يجلب الكافور والرصاص، كما قلناه، والجوزة والقاقلة، وأهلها عبدة أوثان، ومياههم من مياه المطر، ومأكولهم الحنطة والماش.
كند:
مدينة من عمل فرغانة، وهو أيضاً ملك عظيم من ملوك الهند كان بينه وبين الاسكندر حكايات.
وكند (1) من خجندة على ثلاثة أميال، وهي حسنة جليلة فيها كروم وبساتين، وليس في عملها مدينة غير كند، وجامعها في المدينة، ودار الإمارة في الميدان بالربض، وينحدر إليها نهر الشاش، ومخرجه من أنهار تجتمع إليه من بلاد الترك، ويمتد كثيراً إلى أن يقع في بحيرة خوارزم.
الكناسة:
بالبصرة معروفة، وكان بنو أسد وبنو تميم يطرحون فيها كناستهم.
وكناسة الكوفة فيها صلب يوسف بن عمر عامل هشام بن عبد الملك على العراق زيد بن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم ثم حرق بالنار بعد سنتين وذري في الريح، وذلك سنة إحدى وعشرين ومائة أو سنة اثنتين وعشرين.
وكان زيد (2) بن علي شاور أخاه أبا جعفر محمد بن علي فأشار عليه بأن لا يركن إلى أهل الكوفة إذ كانوا أهل غدر ومكر، وقال له: بها قتل جدك علي وطعن عمك الحسن وقتل أبوك الحسين، وفيها وفي أعمالها شتمنا أهل البيت، وأخبره بما كان عنده من العلم في مدة ملك بني مروان وما يتعقبهم من الدولة العباسية، فأبى إلا ما عزم عليه من المطالبة بالحق، فقال له: إني أخاف عليك يا أخي أن تكون غداً المصلوب بكناسة الكوفة، وودعه أبو جعفر لعلمه أنهما لا يلتقيان، وقد كان زيد دخل على هشام بالرصافة، فلما مثل بين يديه لم ير موضعاً يجلس فيه، فجلس حيث انتهى به مجلسه وقال: يا أمير المؤمنين، ليس أحد يكبر عن تقوى الله، ولا يصغر دون تقوى الله عز وجل، فقال له هشام: اسكت لا أم لك، أنت الذي تنازعك نفسك في الخلافة وأنت ابن أمة، قال: يا أمير المؤمنين، إن لك جواباً إن أحببت أجبتك به، وإن أحببت أمسكته عنك، قال: أجب، قال: إن الأمهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات، وقد كانت أم إسماعيل أمة لأم إسحاق عليهم السلام، فلم يمنعه ذاك أن ابتعثه الله تعالى نبياً وجعله للعرب أباً وأخرج من صلبه خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم، أفتقول لي هذا وأنا ابن فاطمة وابن علي رضي الله عنهما، وقام وهو يقول:
شرده الخوف فأزرى به ... كذاك من يكره حر الجلاد
منخرق الخفين يشكو الوجى ... تنكبه أطراف مرو حداد
قد كان في الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد
أن يحدث الله له دولة ... يترك آثار العدا كالرماد فمضى عليها إلى الكوفة، وخرج عنها ومعه القراء والأشراف، فحاربه يوسف بن عمر الثقفي، فلما قامت الحرب انهزم أصحاب زيد وبقي جماعة يسيرة، فقاتلهم أشد قتال وهو يقول متمثلاً:
ذل الحياة وعز الممات ... كلاً أراه طعاماً وبيلا
فإن كان لا بد من واحد ... فسيري إلى الموت سيراً جميلا
__________
(1) نزهة المشتاق: 218، وانظر الكرخي: 187، والمقدسي: 272، وياقوت (كند) ، وآثار البلاد: 554.
(2) مروج الذهب 5: 467.(1/495)
وحال المساء بين الفريقين، فانصرف زيد مثخناً بالجراح، وقد أصابه سهم في جبهته فطلبوا من ينتزع النصل، فأتي بحجام من بعض القرى، فاستكتموه أمره فاستخرج النصل فمات من ساعته، فدفنوه في ساقية ماء وجعلوا على قبره التراب والحشيش، وأجري الماء على ذلك، وحضر الحجام مواراته، فعرف الموضع، فلما أصبح مضى إلى يوسف مستنصحاً فدله على موضع قبره، فاستخرجه يوسف وبعث برأسه إلى هشام، فكتب إليه هشام أن اصلبه عرياناً، فصلبه يوسف كذلك، ففي ذلك يقول بعض شعراء بني أمية يخاطب آل أبي طالب وشيعتهم من أبيات:
صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة ... ولم أر مهدياً على الجذع يصلب وكان زيد سمع يقول: اللهم إن هشاماً وأهل بيته قد طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد فصب عليهم سوط عذاب، إنك لهم بالمرصاد، وطهر منهم البلاد، واجعلهم نكالاً للحاضر والباد وإلى زيد هذا ينتسب الزيدية من الشيعة.
قال أبو بكر بن عياش (1) : كنت إذ كنت شاباً إذا أصابتني مصيبة تجلدت ودفعت البكاء بالصبر، فكان ذلك يؤذيني ويؤلمني، حتى رأيت أعرابياً بالكناسة واقفاً على نجيب وهو ينشد (2) :
خليلي عوجا من صدور الرواحل ... بجمهور حزوى فابكيا في المنازل
لعل انحدار الدمع يعقب راحة ... من الوجد أو يشفي نجي البلابل فسألت عنه فقيل ذو الرمة، فأصابتني بعد ذلك مصائب فكنت أبكي فأجد بعد ذلك راحة، فقلت: قاتل الله الأعرابي ما كان أبصره.
كنباية (3) :
مدينة بأرض الهند من مملكة بلهرى وهي على خليج من البحر أعرض من النيل، فيجزر الماء في هذا الخليج حتى يبدو الرمل وقعر الخليج ويبقى فيه اليسير من الماء، فيرى الكلب على هذا الرمل وقد نضب ماؤه وصار كالصحراء، فإذا أقبل المد وأحس به الكلب أقبل يحضر ما استطاع ليفوت دفع الماء فلا يفيده ذلك ويغرقه. ولهم في المد والجزر أقاويل يطول الكتاب بإيرادها، وأهل هذه البلدة عبدة أصنام.
كنك (4) :
من الأنهار المشهورة ببلاد الهند، يخرج من بلاد فوق قشمير ويجري إلى الجنوب حتى يصب في البحر الهندي.
كنعان (5) :
بلد بالشام فيه كان يعقوب بن إسحاق عليه السلام ومنه خرج إخوة يوسف بأخيهم يوسف إذ قالوا لأبيهم " أرسله معنا غداً يرتع ويلعب "، وكان من قصتهم معه ما قصه الله تعالى في كتابه، وبينها وبين مصر حيث كان يوسف عليه السلام مسافة ثمانية أيام وقيل عشرة وقيل ثمانون فرسخاً، وإليها فصلت العير من مصر بقميص يوسف عليه السلام فقال أبوه " إني لأجد ريح يوسف " وكان القميص من الجنة، جاء به جبريل إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ألقي في النار، فكساه إبراهيم ولده إسحاق، وكساه إسحاق ولده يعقوب وكساه يعقوب يوسف فجعله في قصبة من فضة وعلقها في عنقه فألقي في الجب والقميص في عنقه، فذلك قوله تعالى " اذهبوا بقميصي هذا فالقوه على وجه أبي يأت بصيرا "،
كنجة (6) :
هي أكبر مدن الران، وإليها تنسب الثياب الكنجية.
__________
(1) ترجمته والقصة في ابن خلكان 2: 353، وتوفي سنة 193.
(2) ديوان دي الرمة: 577.
(3) زارها المسعودي سنة 303 وملكها يومئذ بانيا من قبل البلهري، والمؤلف ينقل عنه، مروج: 253 - 245؛ وقد ذكرها عدد من الجغرافيين والرحالة، انظر البكري (مخ) : 45 والإدريسي (ق) : 50، والاصطخري: 56 (كنبايا) ، وابن حوقل: 276 وما بعدها، وابن بطوطة: 550، وحدود العالم: 88 وفي تعليقات مينورسكي: 244 - 245 أنها Cambay في منطقة كجرات، ونخبة الدهر: 152 وصفحات متفرقة من رحلة ابن بطوطة، وتقويم البلدان: 356.
(4) هو نهر Ganges وورد عند المسعودي 1: 214،والإدريسي (ق) : 68، 69 جنجس، وكتب ((كنك)) في نخبة الدهر: 100، وجاء في وصفه بتفصيلات هامة، وكذلك انظر البكري (مخ) : 41، وتقويم البلدان: 62 - 63، وما قاله المؤلف هنا مطايق لابن رسته: 89.
(5) واضح أن هذا التحديد ينظر إلى الناحية التاريخية، وقارن بياقوت (كنعان) .
(6) قال ياقوت: أهل الأدب يسمونها ((جنزة)) ، وانظر تقويم البلدان: 404، وعند الإدريسي (ق) : 66 كنجه، وهي مدينة من مدن الهند.(1/496)
ونزل الططر عليها سنة ثمان عشرة وستمائة، فاستعد لهم أهلها، وهم خلق مشهورون بالشجاعة واقتناء العدد، فهابهم الططر وراسلوا سلطان الران، فحمل لهم أموالاً وهدايا فعدلوا عنه.
الكعبة:
قال الله تعالى " جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس " وهو البيت الذي قال الله سبحانه وتعالى فيه " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً ".
قال وهب بن منبه (1) : لما أهبط الله تعالى آدم عليه السلام إلى الأرض حزن واشتد بكاؤه على الجنة، فعزاه الله تعالى بخيمة من خيام الجنة، فوضعها له بمكة في موضع الكعبة قبل أن تكون الكعبة، وكانت الخيمة ياقوتة حمراء من ياقوت الجنة، فيها قناديل من ذهب، ونزل معها الركن، وهو ياقوته بيضاء، وكان كرسياً لآدم عليه السلام يجلس عليه، فلما كان الغرق زمن نوح عليه السلام رفع ومكثت الكعبة خراباً ألفي سنة، حتى أمر الله إبراهيم عليه السلام أن يبني بيته فجاءته السكينة كأنها سحابة فيها رأس يتكلم له وجه كوجه الإنسان، فقالت: يا إبراهيم، خذ ظلي فابن عليه، فبنى هو وإسماعيل عليهما السلام البيت ولم يجعل له سقفاً، وحرس الله تعالى البيت بالملائكة، فالحرم مقام الملائكة يومئذ، ولم تزل خيمة آدم عليه السلام إلى أن قبض ثم رفعها الله إليه، وبنى بنو آدم بعده في موضعها بيتاً من الطين والحجارة ثم نسفه الغرق فعمي مكانه حتى بعث الله إبراهيم عليه السلام وحفر عن قواعده وبناه على ظل الغمامة، فهو أول بيت وضع للناس وبنته قريش قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين.
قال أبو عبيدة: مما أراد الله عز وجل به تكرمة قريش أن الكعبة كانت وقعت حين غرق قوم نوح عليه السلام فأمر الله تعالى إبراهيم خليله وإسماعيل نبيه عليهما الصلاة والسلام أن يعيدا بناء الكعبة على أسه الأول، فأعادا بناءها لما أراد الله تعالى من تكرمة قريش، كما أنزل الله تعالى في القرآن فقال عز وجل " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم "، ثم أمر الله سبحانه إبراهيم عليه السلام أن ينزل ابنه إسماعيل بالبيت لما أراد من كرامة قريش ففعل، فهو قوله " ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم " فكان إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام يبنيان البيت بعد عهد نوح عليه السلام، ومكة يومئذ بلاقع، كما قال تعالى " وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود "، فنكح إسماعيل امرأة من جرهم، وفي ذلك يقول عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي:
وصاهرنا من أكرم الناس والداً ... فأبناؤه منا ونحن الأصاهر فولي البيت بعد إبراهيم ابنه إسماعيل عليهما السلام، ثم وليه بعده ابنه نابت بن إسماعيل، أمه جرهمية، ثم وليه بعده مضاض بن عمرو، وفي ذلك قال:
وكنا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف بذاك البيت والخير ظاهر وجرهم وقطورا يومئذ أهل مكة، وهما أخوان، ورئيس قطورا السميدع، ورئيس جرهم مضاض، ومنزل جرهم بأعلى مكة بقعيقعان فما حاز، ومنزل قطورا أسفل مكة بأجياد فما حاز، فكان السميدع يعشر من دخل مكة من أسفلها، ومضاض يعشر من دخلها من أعلاها، ثم بغى بعضهما على بعض وتنافسا الملك، ومع مضاض بنو اسماعيل، وإليه ولاية البيت دون السميدع، ثم اقتتلوا قتالاً شديداً فقتل السميدع وفضحت قطورا، ثم اصطلحوا وأسلموا الأمر إلى مضاض، فبقيت جرهم ولاة البيت نحو ثلثمائة سنة، ثم أنهم بغوا بمكة واستحلوا حرمتها وظلموا من دخلها، وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى لها، ولم يتناهوا حتى جعل الرجل منهم إذا لم يجد مكاناً يزني فيه دخل الكعبة فزنى بها، فزعموا أن إسافاً بغى بنائلة في جوف الكعبة فمسخا حجرين، وهو اساف بن سهل (2) ونائلة بنت عمرو بن ذؤيب (3) . وكان ماء زمزم قد نضب لما أحدثت جرهم بمكة، حتى امحى مكان البئر ودرس، ثم جاء عمرو بن لحي فغير دين إبراهيم عليه السلام وبدله، وبعث العرب على عبادة التماثيل، وعمر خمساً وأربعين وثلثمائة سنة، وكان له من الولد وولد الولد ألف، ثم وليت البيت
__________
(1) قارن بالأزرقي 1: 8، وراجع مادة ((بكة)) في ما تقدم.
(2) الأزرقي: سهيل.
(3) الأزرقي: ذئب.(1/497)
عبشان من خزاعة، وقريش إذ ذاك حلول وصرم وبيوت متفرقة في قومهم من بني كنانة.
وانهدم البيت بعد بناء إبراهيم عليه السلام، فبنته العمالقة، ثم انهدم فبنته جرهم، ثم انهدم فبناه قصي وهدمه هو وبناه بناء لم يبن أحد ممن بناه مثله، وسقف الكعبة بخشب الروم الجيد وجريد النخل، وبناها على خمس وعشرين ذراعاً.
قالوا: ومما رجت به قريش أن الله عز وجل قد رضي ما كانوا أجمعوا عليه من هدم الكعبة أن حية كانت في بئر الكعبة التي كانت تطرح فيها ما كان يهدى إليها، فجاءت عقاب فاختطفتها.
ولما احترقت (1) الكعبة واحترق الركن الأسود فتصدع حتى شده ابن الزبير بالفضة، ضعفت جدران الكعبة، حتى إن الحمام ليقع عليها فتتناثر حجارتها، ففزع لذلك أهل مكة وأهل الشام جميعاً والحصين بن نمير معهم يحاصرها، فأرسل ابن الزبير رجالاً من أهل مكة إلى الحصين فكلموه وعظموا عليه ما أصاب الكعبة وقالوا: إنكم رميتموها بالنفط، فأنكر ذلك، وقالوا له: قد توفي يزيد بن معاوية فعلام تقاتل؟ ارجع إلى الشام حتى تنظر هل يجتمع الناس على صاحبك، يعنون معاوية بن يزيد، فلم يزالوا به حتى لان لهم ورجع إلى الشام، ثم دعا ابن الزبير وجوه الناس فاستشارهم في هدم الكعبة، فأشار عليه أقلهم بهدمها وأبى أكثرهم وكان أشدهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقال له: دعها على ما أقرها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها، ولا تزال تبنى وتهدم فيتهاون بحرمتها، ولكن ارفعها فقال ابن الزبير رضي الله عنهما: والله ما يرضى أحدكم أن يرفع بيت أبيه وأمه، فكيف أرفع بيت الله، وأنا أنظر إليه ينقض من أعلاه إلى أسفله حتى إن الحمام يقع عليه فتتناثر حجارته؟! وكان ممن أشار عليه بهدمها جابر بن عبد الله وغيره رضي الله عنهم، وأقام أياماً يشاور وينظر، ثم أجمع على هدمها، وكان يحب أن يكون هو الذي يردها، على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، على قواعد إبراهيم عليه السلام، وعلى ما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها، وأراد أن يبنيها بالورس، ويرسل إلى اليمن في ورس يشترى له، فقيل له: إن الورس يذهب (2) ولكن ابنها بالفضة، فأخبر أن فضة صنعاء أجود الفضة، فأرسل إلى صنعاء بأربعمائة دينار ليشترى له بها فضة ويكترى عليها، ثم سأل رجالاً من أهل العلم بمكة: من أين أخذت قريش حجارتها، فأخبروه بقلعتها فنقل له من الحجارة ما يحتاج إليه، فلما أراد هدمها خرج أهل مكة منها إلى منى فأقاموا بها ثلاثاً فرقاً أن ينزل عليهم عذاب، فأمر ابن الزبير بهدمها فما اجترأ على ذلك أحد، فلما رأى ذلك علاها بنفسه وأخذ المعول وجعل يهدمها ويرمي بحجارتها، فلما رأوا أنه لم يصب بشيء اجترءوا فصعدوا وهدموا، وأرقى ابن الزبير رضي الله عنهما عبيداً من الحبش يهدمون رجاء أن يكون فيهم صفة الحبشي الذي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يخرب الكعبة ذو السوبقتين من الحبشة.
وقال ابن الزبير (3) رضي الله عنهما: أشهد لقد سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن قومك استقصروا في بناء الكعبة وعجزت بهم النفقة فتركوا في الحجر أذرعاً، ولولا حداثة عهد قومك بالكفر لهدمت الكعبة وأعدت ما تركوا منها، ولجعلت لها بابين موضوعين بالأرض: باباً شرقياً يدخل منه الناس، وباباً غربياً يخرج منه الناس، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها "؟ قالت، قلت: لا، قال: " تعززاً لئلا يدخلها إلا من أرادوا، فكان الرجل إذا كرهوا أن يدخلها يدعوه يرتقي، حتى إذا كاد يدخل دفعوه فيسقط، فان بدا لقومك هدمها فهلمي لأريك ما تركوا من الحجر منها، فأراها قريباً من سبع أذرع ".
فلما هدمها (4) ابن الزبير وسواها بالأرض وكشف عن أساس إبراهيم عليه السلام وجد داخلاً إلى الحجر نحواً من ست أذرع وشبر كأنها أعناق الإبل آخذ بعضها ببعض، كتشبيك الأصابع، يحرك الحجر من القواعد فتتحرك الأركان كلها، فدعا ابن الزبير خمسين رجلاً من وجوه الناس وأشرافهم فأشهدهم على ذلك الأساس، وأدخل رجل من القوم كان يقال له عبد الله بن مطيع العدوي عتلة كانت في يده في ركن من أركان البيت، فتزعزعت الأركان كلها جميعاً، ويقال إن مكة رجفت رجفة شديدة حين تزعزع الأساس، وخاف الناس خوفاً شديداً حتى ندم كل من
__________
(1) الأزرقي: 1: 140.
(2) الأزرقي: يرفت ويذهب.
(3) الأزرقي 1: 142.
(4) متابع للنقل عن الأزرقي.(1/498)
أشار على ابن الزبير بهدمها وسقط في أيديهم، فقال لهم ابن الزبير: اشهدوا، ثم وضع البناء على ذلك الأساس، وكان البناة يبنون من وراء الستر، والناس يطوفون من خارج، فلما ارتفع البنيان إلى موضع الركن، وكان ابن الزبير حين هدم البيت جعل الركن في ديباجة في تابوت وأقفل عليه ووضعه عند دار الندوة، ووضع ما كان في الكعبة من حلية في خزانة الكعبة في دار شيبة بن عثمان، فلما بلغ البنيان موضع الركن أمر ابنه عباد بن عبد الله وجبير بن شيبة بن عثمان أن يجعلوا الركن في الثوب وقال: إني إذا دخلت في صلاة الظهر فاحملوه واجعلوه في موضعه، وأنا أطول الصلاة، فإذا فرغتم فكبروا حتى أخفف صلاتي، وذلك في حر شديد، فلما أقيمت الصلاة وصلى ابن الزبير ركعة خرج عباد بالركن من دار الندوة وهو يحمله، ومعه جبير بن شيبة، ودار الندوة يومئذ قريب من الكعبة، فخرقا به الصفوف حتى وضعه عباد في موضعه وأعانه عليه جبير بن شيبة، ثم كبرا، وخفف ابن الزبير صلاته، وتسامع الناس بذلك، وغضب رجال من قريش حين لم يحضرهم ابن الزبير لذلك وقالوا: والله لقد تنافست قريش في رفعه حين بنيت الكعبة حتى حكموا فيه أول من يدخل عليهم، فطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعله في ردائه ودعا من كل قبيلة من قريش رجلاً واحداً، فأخذوا بأركان الثوب ثم وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضعه، وكان الركن قد تصدع ثلاث فرق وتشظت منه شظية كانت عند بعض آل شيبة بعد ذلك دهراً طويلاً، فشده ابن الزبير بالفضة إلا تلك الشظية من أعلاه، فإن موضعها بين (1) في أعلى الركن، وطول الركن ذراع.
وكانت الكعبة (2) يوم هدمها ابن الزبير ثمان عشرة ذراعاً فجعلها سبعاً وعشرين ذراعاً ثم خلقها من داخلها وخارجها وأعلاها وأسفلها وكساها القباطي وقال: من كانت لي عليه طاعة فليخرج فليعتمر من التنعيم ومن قدر أن ينحر بدنة فليفعل، ومن لم يقدر على بدنة فليذبح شاة، وخرج الناس معه مشاة حتى اعتمروا من التنعيم شكراً لله عز وجل، قالوا: فلم ير يوم كان أكثر عتيقاً وعتيقة ولا أكثر بدنة منحورة ولا شاة مذبوحة ولا صدقة مبذولة من ذلك اليوم، ونحر ابن الزبير مائة بدنة، فلما طاف بالكعبة استلم الأركان الأربعة جميعاً وقال: إنما كان ترك استلام هذين الركنين الشامي والغربي لأن البيت لم يكن على قواعد إبراهيم، فلم يزل البيت على بناء ابن الزبير، إذا طاف الطائف استلم الأركان جميعاً، وأبواب البيت لاصقة بالأرض حتى قتل ابن الزبير ودخل الحجاج مكة، فكتب إليه عبد الملك بن مروان: إن ابن الزبير قد كان زاد في بيت الله تعالى ما ليس منه وأحدث باباً آخر، فكتب إليه الحجاج يستأذنه في أن يرده على ما كان عليه، فأمره بذلك، فهدم الحجاج منها ست أذرع وشبراً مما يلي الحجر، وبناها على أساس قريش، وسد الباب الذي في ظهرها، وترك سائرها فكل شيء فيها اليوم بناه ابن الزبير إلا الجدار الذي في الحجر فإنه بناه الحجاج. والمرتقى إلى الباب الشرقي الذي يدخل منه اليوم أربع أذرع وشبر والدرجة التي في جوف الكعبة اليوم والبابان اللذان عليها هما من عمل الحجاج أيضاً.
وآخر من زاد في الكعبة المهدي أمير المؤمنين سنة أربع وستين ومائة، فهو على ذلك إلى الآن.
كعبر (3) :
هي دار مملكة الحبشة، وسمة ملكهم النجاشي. وفيها الذي كان آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم من ولد حبشي بن كوش بن حام. وللحبشة مدن كثيرة وعمائر واسعة تتصل بالبحر الحبشي، وساحل الحبشة مقابل لبلاد اليمن، وهي من شاطئ البحر الغربي، وأقرب عرض البحر هناك ثلاثة أيام، وهو ساحل زبيد من أرض اليمن، ومن هذا الموضع عبرت الحبشة البحر في أيام ذي نواس، وهو صاحب الأخدود، وبين هذين الساحلين جزيرة يقال لها جزيرة العقل نذكرها في موضعها (4) .
كفور الشام:
أي قراه، وفي الحديث: " يخرجكم الروم من الشام كفراً كفراً "، مثل كفر مروان وكفر توثا وكفر طاب وكفر تعقاب (5) وغيرها، وإنما هي قرى تنسب إلى رجال.
كفر توثا (6) :
من كور نصيبين من ديار ربيعة، فتحها عياض بن غنم، ولها حصن قديم، وهي مدينة سورها لبن وبها منبر، وبها نهر خارج عن المدينة وآبار عذبة.
__________
(1) ص ع: بني.
(2) الأزرقي 1: 144 - 145.
(3) ذكرها المسعودي، المروج 2: 34 وعنه معظم ما أورده المؤلف، وكعبر هذه هي (Ankober) وانظر البكري (مخ) : 59، وابن الوردي 36 - 37.
(4) راجع ما ورد في ((جزيرة العقل)) .
(5) ص ع: معقاب؛ وقد ذكره البكري في معجمه 4: 1131، ولم يحدد موضعه.
(6) قارن بالكرخي: 53، وابن حوقل: 200، وياقوت (كفرتوثا) ، وتقويم البلدان: 284.(1/499)
وبكفر توثا كان الوليد بن طريف الشاري (1) حين قابله يزيد بن مزيد قال لأصحابه في الليلة التي عزم على مواقعة الوليد بن طريف في غدها وهو بنصيبين وكان الوليد بكفر توثا، وولد له في تلك الليلة خالد بن يزيد: أبشروا فإنه لم يولد لي غلام قط في حرب إلا رزقت الظفر. فلما التقيا كانت الحرب بينهما بالسواء إلى أن خرج رجل من أصحاب الوليد فدعا للبراز فبارزه يزيد فقتله، فكان ذلك سبباً للهزيمة، وانصرف أنس بن يزيد وقد ضربه حوقل الشاري في جبينه، وكان سيف حوقل لا يمر بشيء إلا هتكه، فقال له يزيد: من ضربك؟ قال: حوقل، قال: ما يسرني أنها في الحائط دونك، عد إلى الحرب وإلا والله ضربت عنقك، فلحقوا بالوليد حتى قتلوه، وفيه تقول أخته ترثيه:
أيا شجر الخابور مالك مورقاً ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
فتى لا يعد الزاد إلا من التقى ... ولا المال إلا من قنا وسيوف
كفر طاب (2) :
بالشام أيضاً، سميت بذلك لأن حواليها أرضاً كريمة وثماراً كثيرة من زيتون ورمان وكروم وأشجار، كذا ذكر، وهو مخالف لما تقدم من أنها منسوبة إلى رجل. وهي أرض صحيحة الهواء، ليس لها ماء إلا من الأمطار، ومن سكنها لا يكاد يمرض، ومن قلة مائها يتبايع فيها الماء ثلاث مرات، لأن أصحاب الحمامات يبتاعونه من السقائين، ويجمعون فضلات ما يخرج منه من الحمامات في صهاريج فيشتريه منهم الدباغون، ثم يجمع الدباغون فضلاته فيبيعونه من الذين يصنعون اللبن للبنيان.
كسكر:
من أعمال واسط (3) ، قالوا: تفسيرها أرض الشعير.
وبها كان (4) النعمان بن مقرن المزني والياً لعمر رضي الله عنه، فكتب إليه: يا أمير المؤمنين، إنما مثلي ومثل كسكر مثل شاب عند مومسة تلون (5) له كل يوم وتعطر، وأنا أذكرك الله تعالى ألا بعثتني في جيش إلى ثغر غازياً ولا تبعثني جابياً، فلما اجتمع الأعاجم بنهاوند عازمين على إخراج المسلمين مما في أيديهم من البلاد، وعلى غزو عمر في عقر داره، وندب عمر أهل البلاد إلى أعاجم نهاوند وسيرت إليهم الجيوش، كتب إلى النعمان أن سر إلى نهاوند فأنت على الناس، فسار وكان من وقعة نهاوند ما كان.
كسير وعوير (6) :
جبلان في بحر عمان، وهو بحر فارس، وهم يقولون: كسير وعوير وثالث ليس فيه خير، وهي جبال سود ذاهبة في الهواء لا نبات عليها ولا حيوان فيها، يحيط بها موج من البحر متلاطم تجزع منه النفوس، ولا بد للمراكب من الدخول في وسطها والاجتياز بها، فمخطئ ومصيب، وهي على طريق من قطع من عمان إلى سيراف، ولا تكاد تسلم عندها سفينة، وهما غائران تحت الماء لا يظهر منهما شيء، فانظر هل يناقض هذا ما تقدم من أنهما ذاهبان في الجو والماء يكسر على أعلاهما، وأهل البحر يعرفون مكانهما فيتجنبوهما.
كس (7) :
بالسين المهملة، بلد يقارب سمرقند، وبعضهم يكسر الكاف، وبينها وبين سمرقند مرحلتان، وكس مدينة جليلة كثيرة الأهل عامرة بالناس والتجار، ولها ربضان وعليها سور بها مسجد جامع وقصبة غير حصينة، وطولها نحو تسعة أميال في مثلها، وبناؤها بالطين والخشب، وبها فواكه كثيرة يحمل فاضلها إلى سمرقند وبخارى، وللمدينة أربعة أبواب خشب مصفحة بالحديد، ولها نهران كبيران، ويرتفع من كس الملح الدراني المعدني، ويحمل إلى سائر الآفاق، ويقع بجبالها الترنجبين كثيراً، ولكس مدن كثيرة.
__________
(1) كان خروجه سنة 178 في خلاقة الرشيد.
(2) قارن بياقوت (كفر طاب) ، وآثار البلاد: 248، وتقويم البلدان: 262، وفي صبخ الأعشى 4: 125 نقل عن الروض.
(3) معجم ما استعجم 4: 1128، وانظر مادة ((كسكر)) عند ياقوت.
(4) الطبري 1: 2615.
(5) ص ع: كلون.
(6) ذكرهما في مادة ((الدردور)) ، والبكري في معجمه 4: 1128 يقول إنهما جبلان في البحر، وكذلك قال ياقوت (كسير وعوير) ، بينما يقول صاحب نزهة المشتاق: 56 إنهما غائران تحت الماء.
(7) نزهة المشتاق: 215 (كش) وقد اختلط ما قاله عنها بما جاء في المادة التالية، وقارن بالكرخي: 181، وابن حوقل: 412، أما ياقوت فإنه فرق بين التي بالمهملة والتي بالشين المعجمة فقال في الأولى: مدينة تقارب سمرقند، وفي الثانية: قرية على ثلاثة فراسخ من جرجان ولم يأت لها بوسف موضع. ويبدو أن المادة في الحالتين - سوى تحديد الموقع - تنصرف إلى كش، بالشين، لأن المؤلف بعد قليل يذكر أن كش قريبة من سمرقند، وبذلك يفسد تحديده المذكور في أول المادة، إذ أين جرجان من سمرقند؟!(1/500)
كش:
بالشين المعجمة، قرية على الجبل على ثلاثة فراسخ من جرجان، ولها قهندز وحصن وربض، والمدينة الداخلة مع القهندز خراب، والخارجة عامرة، ودار الإمارة خارجة من المدينة، وجامعها في المدينة الداخلة الخراب، وأسواقها في ربضها، وهي حصينة جداً، وهي مقدار ثلاث فراسخ في مثله، وهي وبية، وللمدينة الداخلة أربعة أبواب وللخارجة بابان، ولها نهران كبيران: نهر القصارين (1) ونهر سرور، وفي عامة كورها مياه جارية وبساتين حسنة، ومسافة عملها مسيرة أربعة أيام في مثلها، وفي جبالها العقاقير الكثيرة وفيها يسقط الترنجبين، ومن سمرقند إليها يومان، وبينها وبين نسف ثلاث مراحل.
وكش (2) أهلها مسلمون وفيها التين والزرع والماشية، وبها غوص اللؤلؤ على أربعة فراسخ من شط فارس.
كشور (3) :
موضع باليمن منه عبيد (4) بن محمد بن إبراهيم الكشوري، روى بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوكتهم خلف آذانهم يستاكون بها لكل صلاة.
الكهف:
هو موضع في الجبل دخله أصحاب الكهف المذكورون في القرآن فراراً بدينهم وقد مر ذلك في حرف الراء وغيرها مشروحاً.
كوكب (5) :
جبل في بلاد الحارث بن كعب.
وكوكب: جبل بالشام.
وحش كوكب (6) :
موضع بالمدينة فيه دفن عثمان رضي الله عنه وهو مضموم الحاء مشدد الشين المعجمة، والحش: البستان، وكوكب الذي أضيف إليه رجل من الأنصار وقيل من اليهود، ولما ظهر معاوية (7) رضي الله عنه هدم حائطه وأفضى به إلى البقيع، وكان عثمان رضي الله عنه يمر بحش كوكب ويقول: يدفن هنا رجل صالح، وكان عثمان قد اشترى حش كوكب ووسع به البقيع فكان أول من دفن فيه وعمي (8) قبره.
كوم شريك (9) :
موضع من أسفل الأرض، وأسفل الأرض كور الإسكندرية والقلزم والطور وايلة وما صاقبها.
الكوفة:
المدينة الكبرى بالعراق والمصر الأعظم وقبة الإسلام، وهي أول مدينة اختطها المسلمون بالعراق في سنة أربع عشرة، وهي على معظم الفرات ومنه شرب أهلها، ومن بغداد إلى الكوفة ثلاثون فرسخاً، وهي ثلاث مراحل، والمسافات من بغداد إلى الكوفة في عمارات وقرى عظام متصلة عامرة فيها أخلاط من العجم ونفر من العرب سميت بجبل صغير في وسطها كان يقال له كوفان وعليه اختطت. ونزلها جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم علي بن أبي طالب وابنه الحسين رضي الله عنهما وغيرهما، ويقال لها كوفان أيضاً، ولها ضياع ومزارع ونخل كثير، وأهلها مياسير، ومياهها عذبة، وماؤها صحيح، وأهلها من صرح العرب لكنهم الآن متحضرون.
وعلى ستة أميال (10) من الكوفة قبة عظيمة مرتفعة الأركان من كل جانب لها باب مغلق، وهي مسورة من كل ناحية بفاخر الستور، وأرضها مفروشة بالحصر السامانية، يذكر أن بها قبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وما استدار بالعقبة مدفن لآل علي وآل أبي طالب، وبنى هذه القبة أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان في دولة بني العباس، وكان في دولة بني أمية مخفياً لا يؤبه له والكوفة والقادسية والحيرة في أقل من مرحلة.
وقال محمد بن جعفر عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كانت الكوفة منزل نوح عليه السلام، والكوف الاجتماع.
وكتب عمر (11) بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص رضي
__________
(1) ص ع: الصفارين.
(2) هذا تحديد آخر لا علاقة له بمادتي ((كس)) و ((كش)) وإنما ينصرف إلى جزيرة ((كيش)) ، فتنبه لذلك.
(3) انظر ياقوت (كشور) ؛ وعن الكشوري انظر أنساب السمعاني والتاج (كشر) .
(4) ع ص: عبد الله.
(5) معجم ما استعجم 4: 1142.
(6) معجم ما استعجم 2: 451.
(7) ص ع: عثمان.
(8) معجم البكري: وغبي.
(9) معجم ما استعجم 4: 1143.
(10) نزهة المشتاق: 120.
(11) تكرار لما أورده في مادة ((البصرة)) .(1/501)
الله عنهما: أنبئني ما الذي غير ألوان العرب ولحومهم، فكتب إليه: إن العرب غير ألوانها وخومة المدائن ودجلة، فأجابه: إن العرب لا يوافقها إلا ما يوافق إبلها من البلاد، فابعث بسلمان وحذيفة رضي الله عنهما، وكانا رائدي الجيش، فليرتادا منزلاً ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر، فبعث سعد حذيفة وسلمان رضي الله عنهم، فسار كل واحد منهما لا يرضى شيئاً حتى أتيا الكوفة فأكبا عليها، وفيها ديارات ثلاثة، فأعجبتهما البقعة فنزلا وصليا، ودعا كل واحد منهما: اللهم رب السموات وما أظلت، ورب الأرضين وما أقلت، ورب الرياح وما أذرت، والنجوم وما هوت، والبحار وما حوت، بارك لنا في هذه الكوفة، واجعله منزل ثبات. ثم رجعا إلى سعد رضي الله عنه بالخبر، وكتب عمر إلى سعد رضي الله عنهما يأمره بنزوله، فارتحل سعد رضي الله عنه بالناس من المدائن حتى عسكر بالكوفة في محرم سنة سبع عشرة.
قالوا (1) : وبصرت البصرة سنة أربع عشرة وكوفت الكوفة سنة سبع عشرة، ثم استأذنوا عمر رضي الله عنه في بنيان القصب، فقال: العسكر أجد لحربكم وأزكى لكم، وما أحب أن أخالفكم فشأنكم، فابتنى أهل المصرين بالقصب، ثم وقع الحريق بالكوفة والبصرة، وكان أشدهما حريقاً الكوفة، احترق فيها ثمانون عروساً ولم تبق فيها قصبة، فبعث سعد إلى عمر رضي الله عنهما نفراً يستأذنونه في البناء باللبن ويخبرونه عن الحريق، فأذن لهم وقال: لا يزيد أحدكم على ثلاثة أبيات، ولا تطاولوا في البنيان والزموا السنة تلزمكم الدولة، ولا ترفعوا بنياناً فوق القدر، قالوا: وما القدر؟ قال: ما لا يقربكم إلى السرف ولا يخرجكم عن القصد، وأن يكون الطريق أربعين ذراعاً، وما بين ذلك عشرين، والأزقة سبع أذرع.
وأول شيء خط بالكوفة المسجد، فوضع في موضع التمارين من السوق، ثم قام رجل في وسطه رام شديد النزع، فرمى عن يمينه وعن يساره وبين يديه ومن خلفه، وأمر من شاء أن يبني وراء موقع السهام، وترك المسجد في مربعة غلوتين في غلوتين وبني على أساطين رخام كانت للأكاسرة ولم يجعلوا في المسجد مجنبات ولا مواخير، وكذلك كانت المساجد ما خلا المسجد الحرام، فكانوا لا يشبهون به المساجد تعظيماً. ثم أمر سعد رضي الله عنه الناس بالنزول، وأظن أن أكثر هذا تقدم في ذكر البصرة.
وشأن هذين المصرين أعظم وأشهر من أن نطول ذكره فلنقتصر على هذا القدر.
وذكر بعضهم (2) أن الخراب استولى على أكثرها، ومن أسباب خرابها قبيلة خفاجة المجاورين لها، لا يزالون يضربون عليها. وبناء هذه المدينة بالآجر خاصة ولا سور لها، وجامعها العتيق كبير في الجانب القبلي منها خمسة أبلطة، ولهذا الجامع آثار كريمة منها بيت إزاء المحراب يقال إنه كان مصلى الخليل عليه السلام، وعلى مقربة منه مما يلي الجانب الأيمن من القبلة محراب محلق عليه بأعواد الساج، هو محراب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وفي ذلك الموضع ضربه عبد الرحمن بن ملجم الخارجي أخزاه الله تعالى، ويقال إن فيه موضعاً فيه فار التنور، وفيه موضع فيه كان متعبد إدريس عليه السلام، وفي شرقي هذا الجامع قبر مسلم بن عقيل.
كوار (3) :
مدينة ببلاد فارس يسرة مدينة فاختة، وهو رستاق عظيم فيه ثلثمائة وستون قرية وقروح كثيرة ومزارع، وبها منبر، ومنه إلى فاختة اثنا عشر فرسخاً، وإليها ينسب الورد الكواري، وينسب إليها القاضي أبو الحسن محمد بن إبراهيم الكواري صاحب الشيخ أبي حامد الاسفرايني، ولي قضاء الأهواز ودرس بها سنين.
كوكو (4) :
مدينة مشهورة الذكر في بلاد السودان كبيرة، على ضفة نهر يخرج من ناحية الشمال فيمر بها، ومنه شرب أهلها ويجري حتى يجوز كوكو بأيام كثيرة، ثم يغوص في الصحراء في رمال ودهاس مثل ما يغوص الفرات الذي في العراق في البطائح، وملك كوكو قائم بنفسه، وله حشم ودخلة كبيرة وقواد وأجناد وزي كامل وحلية حسنة، وهم يركبون الخيل والجمال، ولهم بأس وقهر لمن جاورهم من الأمم المحيطة بهم، ولباس عامة أهل كوكو الجلود يسترون بها عوراتهم، وتجارهم يلبسون القداوير والأكسية، وعلى رؤوسهم الكرازي، وحليهم الذهب، وخواصهم وجلتهم يلبسون الأزر، وهم يداخلون التجار ويخالطونهم ويبضعونهم بالبضائع على وجه القراض.
__________
(1) راجع مادة ((البصرة)) أيضاً.
(2) عن رحلة ابن جبير: 211.
(3) قارن بياقوت (كوار) ، والكرخي: 79.
(4) الإدريسي (د/ ب) : 11/ 11 OG: 28 وانظر بسط الأرض: 26، ورحلة ابن بطوطة: 695، وابن الوردي: 35 (وقد كتبت هناك: الكركر) ؛ وفي صبح الأعشى 5: 285 نقل عن الروض.(1/502)
وينبت في أرض كوكو العود المسمى بعود الحية، من خاصته أنه إذا وضع على جحر الحية خرجت إليه بسرعة، ثم إن ماسك هذا العود يأخذ من الحيات ما شاء بيده من غير جزع يدركه ويجد في نفسه قوة عند أخذها، والصحيح عند أهل المغرب الأقصى وأهل واركلان أن هذا العود إذا أمسكه ماسك بيده أو علقه في عنقه لم تقربه حية ألبتة كصفة العاقر قرحاً، لكنه أسود اللون. ومن كوكو إلى غانة شهر ونصف.
كوثا (1) :
مدينة بالعراق إلى جانب بابل، فيها ولد إبراهيم الخليل عليه السلام، وفيها المكان الذي فيه كان حبس إبراهيم الخليل عليه السلام والبيت الذي كان محبوساً فيه، ويقال إن بها طرح إبراهيم الخليل عليه السلام في النار، وبها تلول رماد عالية قد لزق بعضه ببعض يقال إنه رماد نار النمرود بن كنعان الذي طرح فيها إبراهيم عليه السلام.
ولما انقضى (2) أمر القادسية قدم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه زهرة بن حوية ثم اتبعه الجند، فلقي بأطراف كوثا جمعاً من جموع العجم مقدمهم شهريار، فخرج ينادي: ألا رجل ألا فارس منكم شديد عظيم يخرج إلي حتى أثكلكم (3) به، فقال له زهرة، وقد كايده، لقد أردت أن أبادرك، فإما اذ سمعت قولك فإني لا أخرج إليك إلا عبداً، فإن أقمت قتلك إن شاء الله، وإن فررت منه فإنما فررت من عبد، ثم أمر أبا نباتة نائلاً الأعوجي، وكان من شجعان بني تميم، فخرج إليه، مع كل واحد منهما الرمح، وكلاهما وثيق الخلق، إلا أن شهريار مثل الجمل، فلما رأى نائلاً ألقى الرمح ليعتنقه، وألقى نائل رمحه ليعتنقه، وانتضيا سيفيهما فاجتلدا بهما ثم اعتنقا فخرا عن دابتيهما فوقع شهريار على نائل كأنه بيت فضغطه بفخذه، وأخذ الخنجر وأراد حل أزرار درعه ليذبحه، فوقعت إبهامه في فم نائل، فمضغها فحطم عظمها، وأحس منه فتوراً فثاوره فجلد به الأرض، ثم قعد على صدره، وأخذ خنجره فكشف درعه عن بطنه فطعنه في بطنه وجنبه حتى مات، وأخذ فرسه وسواريه وسلبه، وانكشف أصحابه فذهبوا في البلاد، وأقام زهرة بكوثا حتى قدم سعد عليه، فغنم سعد نائلاً ذلك السلب كله وقال: عزمت عليك يا نائل إلا لبست سواريه وقباءه ودرعه وركبت دابته، وانطلق فتدرع سلبه ثم أتاه في سلاحه على دابته، فقال له سعد: اخلع سواريك إلا أن ترى حرباً فالبسهما، فكان أول رجل من المسلمين سور بالعراق. وأقام سعد بكوثا أياماً، وأتى المكان الذي حبس فيه إبراهيم عليه السلام بكوثا والبيت الذي كان فيه محبوساً فنظر إليه وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى إبراهيم وعلى أنبياء الله أجمعين. وقرأ " وتلك الأيام نداولها بين الناس "، وقد مر في ذكر افرندين أن المسلمين لما دخلوا المدائن وناداهم رسول كسرى: هل إلى الصلح من سبيل، أجابه رجل من المسلمين بلسانهم، وكان لا يعرف منه شيئاً: لا، حتى نأكل عسل افرندين بأترج كوثا، والقصة مشروحة هناك.
كويابة (4) :
مدينة لصنف من الترك يسمون الروس، ومبلغ تجار المسلمين من أرمينية إلى كويابة، وبينها وبين ارثان (5) ثمان مراحل، وأرثان لا يدخلها أحد من الغرباء لأنهم يقتلون كل غريب يصل إليهم، فلا يتجرأ أحد أن يدخل أرضهم، ويخرج من عندهم جلود الأنمار السود والثعالب السود والرصاص، ويخرجها من عندهم تجار كوباية. والروس يحرقون موتاهم ولا يتدافنون، وبعض الروس يحلقون لحاهم، وبعضهم يفتلها مثل أعراف الدواب ويضفرها ولباسهم القراطق الصغار، ولباس الروس غير لباس الخزر.
كوشة (6) :
بينها وبين مدينة نوابية في بلاد النوبة ستة أيام، وهي تبعد عن النيل يسيراً، وموضعها فوق خط الاستواء، وأهلها قليلون،
__________
(1) انظر معجم ما استعجم 4: 1138، وياقوت (كوثي) .
(2) الطبري 1: 2422.
(3) قد نقرأ ((أنكلكم)) كما في بعض أصول الطبر، وفي المتن: أنكل.
(4) كوكبانه في ص ع؛ وأصل المادة عن الاصطخري (الكرخي) : 132 حيث يسميها ((كويابة)) بينما يوردها ياقوت نقلاً عن الاصطخري: كوثابة؛ وعند البكري (ح) : 153: كودانية، كويانة، وقد رجعت إلى مخطوطة الرباط من المسالك والممالك للبكري (رقم 488 ق) فوجدتها وردت عنده في موضعين ((كوبانة)) - وهي كالتي أثبتها المؤلف باسقاط الكاف الثامية؛ ولعل الصواب ((كويابة)) وربما كانت تقابل لفظة (Kiev) . انظر مينورسكي: 434.
(5) الكرخي: أرثا؛ ياقوت: اربا، البكري (ح) : أوثان (وقال المحقق: يمكن أن نقرأ أرثان) ، وقد قدر فران (Frahn) أن تكون أرثا (أو أرثان) هي Erz'a وهي اسم لأحد القسمين الكبيرين في موردفا (Mordva) غير أن تحديدها على هذا النحو يتعارض مع قول الاصطخري: أن كويابه أقرب إلى البلغار؛ وقد جاءت أرثا في بعض المصادر على صورة ((ابارقه)) مما حدا بشفولسون إلى أن يقرأ ((أبارمه)) اي Perm (انظر مينورسكي 435 - 436 والحواشي) .
(6) النص عن الإدريسي (د) : 19 (OG: 37) ، وفي ص ع: كوسه - بالسين المهملة - وهي كذلك في بعض أصول نزهة المشتاق.(1/503)
وتجارتها قليلة وأرضها حارة جافة جداً، وشرب أهلها من عيون تمد السيل هناك، وهي في طاعة ملك النوبة ويسمى كاسل (1) ، وهو اسم يتوارثونه ملوك النوبة، ودار ملكهم دمقلة.
كوشان (2) :
مدينة الترك ومعظم مملكتهم بين الصين وبلاد خراسان، وأشدهم شوكة الطغزغز (3) ، وهم أصحاب كوشان هذه وما والاها، ومذاهبهم مذاهب المنانية وممالكهم كثيرة، وهي في جهة الشاش وفرغانة، وفيهم كان الملك، ومنهم خاقان الخواقين يجمع ملكه سائر ملوك الترك وتنقاد إليه ملوكها، ومن هؤلاء الخواقين كان فراسياب التركي الغالب على ملك فارس.
كوغة (4) :
مدينة بينها وبين غانة من بلاد السودان بالمغرب خمسة عشرة يوماً على ضفة النيل، وفي شماله، ومنه شرب أهلها، وهي من عمالة ونقارة، ومن السودان من يجعلها من كانم، وهي مدينة عامرة لا سور (5) لها، وبها تجارات وأعمال وصنائع يصرفونها فيها (6) ، ونساء هذه المدينة ينسب إليهن السحر وهن عارفات به، وبه مشهورات.
وأهل كوغة (7) مسلمون، وحواليها المشركون، وأكثر ما يتجهز إليهم بالودع والنحاس والفربيون، وهو أنفق شيء عندهم، وحواليها من معادن التبر كثير، وهم أكثر بلاد السودان ذهباً.
كيانة (8) :
جبل كيانة بمقربة من المسيلة في البلاد الإفريقية، وهي جبال شاهقة ضيقة المسالك لا يستطاع الوصول إلى من فيها، وفي قلعة كيانة تحصن أبو يزيد مخلد بن كيداد النكار الخارج على بني عبيد، وهي قلعة منيعة لا ترام، وهي أمنع قلاعهم. ولما حاربه المنصور إسماعيل بن القائم العبيدي فأوى أبو يزيد إلى هذه القلعة ليعتصم بها، سأل الأدلاء عن السلوك إليها فكلهم ذكر صعوبة المسالك ووعرها، وكان أبو يزيد هذا ثار على الخليفة العبيدي القائم بأمر الله واستفحل أمره وكثرت جيوشه وتغلب على أكثر البلاد الإفريقية وملك القيروان وعاث يميناً وعاث شمالاً، وكان يرى رأي النكارية، ويرى دم المسلمين وفروجهم وأموالهم له حلالاً، ويسب علياً ويكفر أهل القبلة وحاصر الأربس والقيروان وباجة وأكثر بلاد إفريقية وأذاق الناس شراً عظيماً وأتى أمراً شنيعاً، وخاف الناس فتنته وحذروا منه، فوجه إليه القائم العبيدي الجنود وكثرت وقائعه معهم، وانتهى إلى المهدية وذلك أقصى أثره ثم مات القائم وولي ابنه المنصور إسماعيل فهو الذي تولى حربه وصلي بناره وكابد منه محناً، ثم إن الله تعالى دفع شره فتحصن في قلعة كيانة وألح عليه المنصور بالقتال وشن الغارات، وحصره في هذه القلعة فنالته فيها جراحة وأثخن، وكان الموضع وعراً كثير الصخور فاحتمله أصحابه على أعناقهم لعجزه عن النهوض وأجهضهم عند القتال، فأمكن الله تعالى منه وقبض عليه وسيق إلى مضرب المنصور وهو لما به، فمات في يديه، وكان القائم صنع له قفصاً في حياته وقال لأصحابه: سأجعل مخلداً في هذا القفص وأحكم عليه، فكان كذلك، فلما مات أمر المنصور بسلخه وحشا جلده تبناً حتى تصور شكله، وصلب على سور المهدية، وكانت فتنته عظيمة وأمره شنيعاً، وخبره على التفصيل أطول من هذا.
وحكي أن عبيد الله الشيعي الملقب بالمهدي أول ملوكهم باني المهدية في سنة ست وثلثمائة لما وضع أول حجر أمر ناشباً كان بين يديه أن يوتر قوسه ويرمي بها سهماً من حد الحجر الذي في الأساس إلى ناحية المغرب فرمى بسهم، فانتهى إلى المصلى، ووقع السهم قائماً على نصله، فقال لمن معه: إلى هاهنا ينتهي صاحب الحمار ولا يجاوزه، يعني هذا الثائر أبا يزيد، فقدر أن يخرج بعد موت عبيد الله على ولده القائم، ومات القائم في مدة فتنته، وكابد حربه ولده اسماعيل المنصور، فهو الذي ظفر به بعد مكابدة عظيمة، وأمر عبيد الله باحتفار أهراء عظيمة داخل المهدية بنيت بالحجر ودمست واختزن فيها من الطعام ما لا يحصى كيله، وجعل في دورها وقصورها مصانع للماء، وختم عليها وأمر بحفظها، وكان الناس يشربون ما يصل إلى المهدية من الماء، فلم تفتح تلك المصانع إلا أيام حصار أبي يزيد، ولولا ذلك لم يوجد ما يؤكل ولا ما يشرب، وتوفي عبيد الله سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة وصارت المملكة لابنه أبي القاسم وهو الملقب بالقائم.
__________
(1) ص ع: كامل، تبعاً لما في بعض أصول الإدريسي.
(2) قارن بياقوت: (كوشان) ، وفيها يقول عن ملك التغزغز: وكانوا أشد الناس شوكة وملكهم أعظم ملوك الترك، وأما الآن فلا أدري كيف حالهم.
(3) عن الطغزغز (أو التغزغز) انظر مينورسكي 263 - 277.
(4) الإدريسي (د/ ب) : 11/ 10 (OG: 27) .
(5) ص ع: سوق.
(6) الإدريسي: يصرفونها فيما يحتاجون إليه.
(7) الاستبصار: 223، والبكري: 179.
(8) راجع ما كتبته تعليقاً على مادة ((قلعة كيانة)) .(1/504)
كيلان (1) :
موضع بالري ينسب إليه محمد بن صالح بن أبي بكر بن توبة (2) الكيلاني روى عن أبي كريب عن عبد الله بن ادريس عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رصي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب وأن أبا بكر رضي الله عنه ضرب وغرب، وأن عمر رضي الله عنه ضرب وغرب.
كيش (3) :
جزيرة في وسط البحر، بحر فارس، وهي جزيرة مربعة طولها اثنا عشر ميلاً في مثل ذلك عرضاً، وكان وليها عامل من اليمن فحصنها وأحسن إلى أهلها، وعمرها وأنشأ بها أسطولاً فغزا به بلاد اليمن الساحلية وأضر بالمسافرين والتجار، ولم يترك لأحد مالاً، وأضعف البلاد وانقطع بذلك السفر من عمان إلى عدن (4) ، وكان يغزو بهذا الأسطول مدينة الزابج (5) ، وأهل الهند يخافونه ويهابون شره ويواسونه بالمراكب التي يكون طول المركب منها طول الغراب الكامل من عود واحد يجذف فيه مائتا رجل، وكان عنده من هذه المراكب المنحوتة خمسون مركباً، كل واحد منها من قطعة واحدة، وعنده من سائر المراكب الملفقة جملة، وليس لأحد به طاقة. ولمدينة كيش زروع وأغنام وأبقار وكروم، وبها مغايص للؤلؤ الجيد.
كثه (6) :
مدينة بقرب اصطخر من بلاد فارس، جليلة عامرة كثيرة البشر والتجارات والعمارات، على طرف المفازة، وهي من أخصب البلاد وأكثرها أرزاقاً، ولها رستاق يشتمل على ربض وهي متحصنة بحصن، وجامعها في الربض، ومياهها من القنوات، وهي كثيرة الشجر طيبة الثمر.
__________
(1) هي كيلين (وقد وردت عند ياقوت) ، وقال في تاج العروس (كلن) كيلين: كسيرين قرية بالري، وذكر محمد بن صالح المنسوب إليها ثم قال: ويقال فيه الكيلاني أيضاً.
(2) ص ع: بويه، وأثبت ما في تاج العروس.
(3) نزهة المشتاق: 55 (OG: 156) ، وانظر ياقوت (كيش، قيس) ، واللباب (الكيشي) وتقويم البلدان: 372.
(4) OG: وعاد إلى عدن.
(5) OG: الرانج.
(6) وضعها هنا يدل على أن المؤلف ظنها ((كيه)) كما هي في نسخة نزهة المشتاق: 131 وعنه ينقل المؤلف، وهي بتخفيف الثاء، وانظر الكرخي: 77، وابن حوقل: 237، وياقوت (كثه) .(1/505)
فراغ(1/506)
حرف اللام
اللاذقية:
في آخر بلاد الشام الساحلية وبقرب أنطاكية ووراء القسطنطينية، والبحر منها غرباً.
وفي خبر المعتصم (1) أنه لما شرع في بناء سر من رأى أشخص له البناءون والنجارون والحدادون وغيرهم، وسيق إليه الساج وسائر الخشب والجذوع من البصرة وما والاها من بغداد وإنطاكية وسواحل الشام، وسيق إليه الرخام والعمد، وأقيمت باللاذقية دور صناعة الرخام.
والبيتان المنسوبان لبعض الفسقة (2) :
باللاذقية (3) فتنة ... ما بين أحمد والمسيح مشهوران عند الناس.
لاركان (4) :
مدينة على خمسة عشر فرسخاً من مدينة الروذان، وهي من عمل كرمان، ولها سور حصين ومسجد جامع، وفيها عامل لصاحب فارس وعامل لصاحب كرمان.
لاردة (5) :
في ثغر الأندلس الشرقي، وهي مدينة قديمة ابتنيت على نهر يخرج من أرض جليقية يعرف بشيقر، وهو النهر الذي تلقط منه برادة الذهب الخالص، وهي بشرقي مدينة وشقة،
وكانت مدينة لاردة قد خربت وأقفرت فجدد بنيانها إسماعيل بن موسى بن لب بن قسي سنة سبعين ومائتين، وحصنها منيع فلا ترام بقتال ولا يطمع فيها بطول حصار، وبأعلاه مسجد جامع متقن البنيان بني سنة ثمان وثمانين ومائتين، والحصن مشرف على فحص عريض يعرف بفحص مشكيجان - بتفخيم الجيم - ومدينة لاردة خصيبة على الجدوب، ولها بساتين كثيرة وفواكه غزيرة، وهي مخصوصة بكثرة الكتان وطيبه ومنها يتجهز بالكتان إلى جميع نواحي الثغر، وفحص مشكيجان كثير الضياع والمزارع والمراعي ولا تخلو ضيعة منها أن يكون بها برج أو سرداب يمتنع فيه العامرون لها من العدو، وأهل الثغور في عملها يخرجون الأموال من الوصايا والصدقات.
لاوان (6) :
مدينة في طريق الهند من البصرة، وهي فرسخان في فرسخ، وأهلها مسلمون، وهي من شط فارس على أربعة فراسخ وفيها النخيل والنبق البري والزرع، ومنها إلى أبرون (7) اثنا عشر فرسخاً.
لبلة (8) :
في غرب الأندلس مدينة قديمة بها ثلاث عيون، إحداها عين تهشر وهي أغزرها، والثانية عين تنبعث بالشب، والثالثة عين تنبعث بالزاج، ومن اشبيلية إلى طلياطة مرحلة من عشرين ميلاً، ومن طلياطة إلى لبلة مرحلة مثلها، وتعرف لبلة بالحمراء، وفيها آثار للأول كثيرة، وسور لبلة قد عقد على أربعة تماثيل: صنم تسميه العامة دردب وعليه صنم آخر، وصنم تسميه
__________
(1) راجع مادة ((سامرا)) .
(2) نسبهما ياقوت ((اللاذقية)) إلى المعري.
(3) ص ع: معشر.
(4) لا أستطيع أن أقطع بأنها هي نفسها لارجان التي ذكرها ياقوت، إذ هذه تقع بين الري وآمل طبرستان.
(5) بروفنسال: 168، والترجمة: 202 (Lerida) .
(6) ص ع: لان، وانظر ابن خرداذبه: 61.
(7) ص ع: أندرون.
(8) بروفنسال: 168، والترجمة: 203 (Niebla) .(1/507)
العامة مكبح (1) وعليه صنم آخر، فيخيل إلى الناظر أن ذلك البنيان موضوع على أعناقهم، وانفردت بهذه البنية من بين سائر المدن، ومن مدنها مدينة جبل العيون.
ولبلة (2) مدينة حسنة متوسطة القدر لها سور منيع، ونهرها يأتيها من ناحية الجبل ويجاز عليه في قنطرة إلى لبلة، وبها أسواق وتجارات وبينها وبين البحر المحيط ستة أميال.
وكور لبلة جامعة لفوائد الكور كثيرة الزيتون والشجر وضروب الثمر يكون فيها القرمز (3) الفاضل ويجود بها العصفر وهي سهلية جبلية، وكانت جباية كورة لبلة في أيام الأمير الحكم بن هشام خمسة عشر ألفاً وستمائة.
لبيدة (4) :
قرية في جهة القيروان، منها أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن الحضرمي القيرواني اللبيدي روى عن ابن أبي زيد وأبي حسن بن القابسي، وله كتاب " الجامع والشرح في التفصيل والتخليص (5) لمسائل المدونة " كتاب كبير، توفي قريباً من سنة ثلاثين وأربعمائة.
لبدة (6) :
مدينة قديمة بناحية طرابلس الغرب، كانت عظيمة الشأن مبنية بالرخام، وآثارها بادية حتى الآن تدل على أنها كانت دار مملكة عظمى وهي مشتملة على الخيرات وعلى بعد من البحر، فتسلطت عليها العرب وعلى أرضها فغيرت ما كان بها من النعم، وأجلت أهلها إلى غيرها، ولم يبق فيها إلا قصران كبيران، وسكانها قوم من هوارة البربر ولها على البحر الآن (7) قصر كبير فيه صناعات وسوق عامرة، وبلبدة نخل كثير وزيتون يستخرجون زيته في وقته.
لبنان (8) :
جبل بالشام قريب من تدمر، وهو سامي الارتفاع ممتد الطول يتصل من البحر إلى البحر، معروف بالزهاد والمنقطعين إلى الله تعالى. وعن قتادة أن البيت بني من خمسة أجبل: من طور سينا وطور زيتا ولبنان والجودي وحراء.
وذكر الهيثم بن عدي أنه وجد في جبل لبنان غار في زمن الوليد بن عبد الملك، فدخل فإذا فيه رجل مسجى على سرير من ذهب، عند رأسه لوح من ذهب مكتوب فيه بالرومية: أنا سيا بن نواس بن سيا خدمت عيصو بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرب الديان الأكبر، وعشت بعده دهراً طويلاً ورأيت عجباً كثيراً، ولم أر فيما رأيت أعجب من غافل عن الموت وهو يرى مصارع آبائه، ويعلم أنه صائر إليهم لا محالة فلا يتوب، والذي بعد الموت من حساب الديان الأعظم ورد حقوق المظلومين يومئذ أعظم وأفظع، حقاً أقول: لقد حضرت غاري هذا أغدو وأروح إليه أبكي على نفسي، وقد علمت أن الأجلاف الجفاة سينزلوني عن سريري هذا ويتمولونه ويخرجوني من غاري وهم يدينون بربوبية الديان الأعظم، وذلك حين يتغير الزمان ويتأمر الصبيان، فمن أدرك ذلك الزمان عاش قليلاً ومات ذليلاً.
وفي لبنان البرباريس وهو هناك أطيب ما يكون، وهناك التفاح الذي لا يعدل به وهو مثلوج أبداً.
وفي سفحه (9) حصون للملاحدة الإسماعيلية فرقة مرقت وادعت الإلهية في أحد الأنام، قيض لها شيطان من الأنس يعرف بسنان خذلهم بأباطيل وخيالات موه عليهم باستعمالها فاتخذوه إلهاً يعبدونه، وحصلوا من طاعته بحيث يأمر أحدهم بالتردي من شاهقة جبل فيتردى، ويستعجل في مرضاته الردى، نعوذ بالله من الضلال والفتنة.
وجبل لبنان حد بين بلاد الإسلام والافرنج لأن وراءه أنطاكية واللاذقية وطرابلس وسواها من بلادهم، وفي سفح الجبل المذكور حصن يعرف بحصن الأكراد هو للإفرنج ويغيرون منه على حماة وحمص، وهو بمرأى العين منهما.
__________
(1) ص: بكح.
(2) الإدريسي (د) : 178.
(3) بروفنسال: القرنفل.
(4) رحلة التجاني: 83 وعدها من منازب صفاقس، ورسمها عنده لبيدي، قال: كذا تحققها وسماها الرشاطي لبيدة، ثم ترجم لأبي القاسم اللبيدي وسمى كتابخ ((الشرح والتفصيل لمسائل المدونة)) .
(5) ص ع: والتلخيص.
(6) الإدريسي (د/ ب) : 129/ 97، وانظر البكري: 9، واليعقوبي: 346.
(7) يعني في زمن الإدريسي.
(8) معجم ما استعجم 4: 1150.
(9) رحلة ابن جبير: 255.(1/508)
اللبين (1) :
جبيل قريب من كبكب (2) .
ومن شعر ابن الجنان المتأخر من قصيدة:
قف المطايا بالرقمتين ... وحي بانات رامتين
وسائل الركب عن رباب ... (3) ومن بلبنان عن لبين
لبلابة (4) :
هو اسم عند أهل البحر والمسافرين فيه للبحر المحيط، بحر المغرب، وهو البحر الغربي المسمى بحر الظلمات، وهو البحر الذي لا يعلم أحد ما خلفه، وفيه الجزائر الخالدات، وهو الذي سافر فيه المغرورون (5) وأقلعوا من مدينة الأشبونة حسبما ذلك مذكور عند ذكرها، ولم يقف منه أحد على خبر صحيح لصعوبة عبوره وإظلامه وتعاظم موجه وكثرة أهواله وتسلط دوابه وهيجان رياحه، وفيه جزائر كثيرة معمورة وخالية، وليس يركبه أحد من الناس ملججاً، وإنما يمر عليه بطول الساحل ولا يفارقه، وأمواج هذا البحر تندفع مغلقة ولا ينكسر ماؤها، ولو انكسر موجه ما قدر أحد على سلوكه، وكان أهل المغرب الأقصى من الأمم السالفة يغيرون على أهل الأندلس فيضرون بهم كل الإضرار، وأهل الأندلس أيضاً يكايدونهم ويحاربونهم جهد الطاقة، إلى أن كان زمن الاسكندر، ووصل إلى أهل الأندلس فأعلموه بما هم عليه من التناكر مع أهل السوس فأحضر الفعلة والمهندسين، وقصد مكان الزقاق، وكان أرضاً جافة، فأمر المهندسين بوزن الأرض ووزن سطوح ماء البحرين، فوجدوا البحر الكبير يشف علوه على البحر الشامي بيسير فرفعوا البلاد التي على الساحل من بحر الشام، ونقلها من أخفض إلى أرفع ثم أمر أن تحفر الأرض التي بين طنجة وبلاد الأندلس، فحفرت حتى وصل الحفر إلى الجبال التي في أسفل الأرض، وبنى عليها رصيفاً بالحجر والجير إفراغاً وكان طول البناء اثني عشر ميلاً، وهو الذي كان بين البحرين من المسافة والبعد، وبنى رصيفاً آخر يقابله من ناحية أرض طنجة، وكان بين الرصيفين سعة سبعة أميال فقط، فلما أكمل الرصيفين ودخل البحر الشامي فاض ماؤه وهلكت مدن كثيرة كانت على الشطين معاً، وغرق أهلها، وطغى الماء على الرصيفين نحو إحدى عشرة قامة، فأما الرصيف الذي يلي بلاد الأندلس فإنه يظهر في أوقات صفاء البحر من جهة الموضع المسمى بالصفيحة ظهوراً بيناً طوله على خط مستقيم، وقد عاين المسافرون ذلك وجروا مع طوله بطول الزقاق، وأهل الموضع يسمونه القنطرة، وأما الرصيف الثاني الذي في بلاد طنجة فإن الماء حمله في صدره واحتفر ما خلفه من الأرض وما استقر ذلك منه حتى وصل إلى الجبال من كلتا الناحيتين، وطول هذا الزقاق اثنا عشر ميلاً، وعلى طرفه من جهة المشرق الجزيرة الخضراء وعلى طرفه من جهة المغرب جزيرة طريف، وعرض البحر بين سبتة والخضراء ثمانية عشر ميلاً، وهذا البحر في كل يوم وليلة يجزر مرتين ويمتلي مرتين دائماً بتقدير العزيز الحكيم وهذا البحر هو الذي يسمونه بحر اقيانس أو قيانوس.
قالوا: وعلى الحد الذي يخرج منه الخليج إلى البحر الرومي المنارة النحاس الذي بناه هرقل الملك الجبار، وعليه الكتابة والتماثيل مشيرة بأيديها ألا طريق ورائي، ولا مسلك في هذا البحر ولا تجري فيه جارية ولا فيه حيوان، وهذا كالمخالف لما قدمناه.
قالوا: ولا تدرك له غاية ولا يحاط بمقداره، وهو بحر الظلمات والأخضر والمحيط.
قالوا: وقد خاطر بنفسه خشخاش من أهل الأندلس، وكان من فتيان قرطبة في جماعة من أحداثها فركبوا مراكب استعدوها ودخلوا هذا البحر وغابوا مدة ثم أتى بغنائم واسعة وأخبار مشهورة. قال المسعودي: وإنما يركب من هذا البحر ما يلي المغرب والشمال، وذلك من أقاصي بلاد السودان إلى برطانية الجزيرة العظمى التي في أقصى الشمال، وفي هذا البحر ست جزائر مقابل بلاد السودان تسمى الخالدات، وفيه بقرب جزيرة برطانية إحدى عشرة جزيرة، ثم لا يعرف أحد ما بعد ذلك.
قالوا: وليس شيء من البحار كلها يتصل بالبحر الحبشي، وأما سائرها فمتصلة، وهي من بحر واحد، إلا أن بحر الخزر قد اختلف فيه: هل يتصل ببحر اقيانس أو لا قالوا: والصحيح أنه لا يتصل بشيء من هذه البحار.
__________
(1) معجم ما استعجم 4: 1150.
(2) ص ع: جبل ... كوكب.
(3) لبين هنا اسم امرأة.
(4) اكثر هذه المادة ورد في مادة ((الأندلس)) و ((الأشبونة)) و ((أقيانس)) و ((قادش)) ، وفي نخبة الدهر: 133، ولبلابة بالام المفخمة بلهجة الأندلسيين، وورد في مادة قابس ((بلايه)) .
(5) كذا هنا، وورد في مادة الأشبونة ((المغررون)) .(1/509)
لحمان (1) :
مدينة من مدن سمريني أو سمريقي (2) عند جبل شونبا الحاجز بينها وبين بلاد سيسان (3) التي بها البلاد الخراب التي أخربها يأجوج ومأجوج قبل بنيان السد وبقيت البلاد خراباً، ولحمان مدينة حسنة جليلة عامرة، وفيها صنائع ومعايش، وبين أهلها وبين الأغزاز حرب لاقحة، وقد يتهادنون (4) في بعض الأوقات ويصلحون أمورهم بينهم، وهم أهل شدة واحتراز (5) .
لد (6) :
من مدن فلسطين بالشام، وهو منزل جميل فيه ناس يعمرونه، وفيه تنزل الرفاق الواصلة من الشام إلى مصر والقافلة من مصر إلى الشام، وفيه كنيسة محكمة البناء واسعة الفناء عليها للنصارى أوقاف كثيرة.
وفي لد (7) عجائب، قال رجل، قلت لأهل لد: هذه بنتها الشياطين لسليمان فقال: أنتم إذا جل في صدوركم بنيان أو عمل أضفتموه إلى الشياطين (8) لقد بني هذا البنيان قبل مولد سليمان عليه السلام بمثل ما بيننا وبين سليمان.
وفي حديث مسلم (9) أن الله تعالى يبعث عيسى عليه السلام فيطلب الدجال حتى يدركه بباب لد فيقتله.
وفي الخبر (10) أن عمر رضي الله عنه قال لرجل يهودي: قد بلوت منك صدقاً فحدثني عن الدجال، فقال: يقتله ابن مريم بباب لد وقال ابن أبي ربيعة:
حلت بمكة والنوى قذف ... هيهات مكة من قرى لد وحكوا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما فتحت بيت المقدس وأنا مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، انحدر منها وهو يريد مدائن الساحل: غزة وميماس وعسقلان، حتى إذا نزلنا برملة لد قال حذيفة رضي الله عنه: ما اسم هذه البلدة؟ وعنده أساقفة بيت المقدس ولد، فقالوا: هذه لد، وهذه الرملة، فقال لهم حذيفة رضي الله عنه: أيكم أعلم أيها الأساقفة؟ قالوا له: ابن دروثا، ليس بالشام رجل أعلم منه، فقال حذيفة لعمر رضي الله عنهما: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا حذيفة إن الله تعالى سيفتح عليكم الشام من بعدي وشيكاً وسيسجد لكم أساقفة الروم به وبطارقتها، فإذ كنت من لد على ميل أو شبيهاً بذلك فإن جبريل عليه السلام ليلة أسري بي هبطه بي فركعت فيها ركعتين، وقال لي جبريل عليه السلام: هذا الموضع فيه قبر سبعين نبياً، وسيكون فيه مسجد له نور ساطع في السماء يسمى الأبيض، وسيعمر ما حوله حتى يتصل بناؤه بلد فإذا اتصل بلد يا حذيفة فالهرب الهرب، كأني أنظر إلى ابن حمل الضأن قد أقبل من المغرب في ألف سفينة وخمسمائة سفينة، ويحل بساحل الشام فيفتحها، ويضرب رواقه على تل يافا، وينظر إلى جنوده في البر والبحر فيقول: أليس هذه بلادكم تعرفونها وحدودها وتخومها؟ فيقولون: نعم، فيقبل متوجهاً إلى بيت المقدس بخيله ورجله، قال حذيفة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كأني أنظر إلى القبارطة عليهم تبابينهم ومعهم درقهم ونيازكهم يخترقون أزقة الرملة.
وفي لد مات مروان بن الحكم في أحد الأقوال في سنة خمس وستين، فإنه روي أنه لما بايع لابنيه عبد الملك وعبد العزيز بالعهد بعده، تكلم في ذلك خالد بن يزيد بن معاوية، وكانت أمه عند مروان، فقال له مروان: يا ابن الرطبة، فشكا ذلك إلى أمه، فقعدت على وجه مروان فقتلته، وهو يعد من قتلة النساء، وقيل بل كان ذلك بالجابية؟ وقيل بمرج راهط، وقيل بدمشق.
اللكام (11) :
قالوا: ليس بمعمور الأرض أطول من جبل اللكام فإنه يبتدي من بحر القلزم إلى نواحي الشام فيسمى هناك جبل لبنان ثم ينتهي إلى حمص ويجاوزها فيسمى هناك جبل بهراء وتنوخ، ثم يمر إلى أن يجاوز اللاذقية ويسمى هناك اللكام، ثم ينتهي إلى مرعش ثم إلى شمشاط، ثم ينقسم فتمر منه شعبة إلى الروم ثم إلى الباب والأبواب وتمر منه شقة إلى أحواز ميافارقين، ثم ينتهي إلى
__________
(1) نزهة المشتاق: 317، ووردت مرة ((لحمان)) وهرة بعد أسطر ((لحصان)) .
(2) تكتب سمريقي دائماً في نزهة المشتاق.
(3) ص: بنيان؛ ع: بيتيان.
(4) ص ع: يتهادون.
(5) نزهة المشتاق: واعتزاز.
(6) قارن باليعقوبي: 328، وياقوت (لد) .
(7) ابن الفقيه: 117.
(8) سقط من ع.
(9) صحيح مسلم 2: 376.
(10) معجم ما استعجم 4: 1135.
(11) قارن بابن حوقل: 154، والكرخي: 43، وابن خرداذبه: 232، وابن الفقيه: 25، وياقوت ((اللكام، لبنان) والمؤلف ينقل عن نزهة المشتاق: 112.(1/510)
أحواز حلوان والصيمرة وجنوب أصبهان، ثم ينتهي إلى جبال الديلم ويمر مع ساحل البحر الخزري إلى أن ينتهي إلى بحيرة خوارزم إلى جهة بلاد الشاش إلى أقصى بلاد فرغانة وعلى جنوب أشروسنة ومياه سمرقند فيكون على يمين القاصد من خراسان إلى العراق.
لكة (1) :
مدينة بالأندلس من كورة شذونة، قديمة من بنيان قيصر أكتبيان، وآثارها باقية، ولها حمة من أشرف حمات الأندلس، وعلى نهر لكه هذه التقى لذريق ملك الأندلس في جموعه من العجم، وطارق بن زياد فيمن معه من المسلمين، يوم الأحد لليلتين بقيتا من شهر رمضان سنة اثنتين وتسعين من الهجرة فاتصلت الحرب بينهم إلى يوم الأحد لخمس خلون من شوال بعده، ثم هزم الله المشركين فقتل منهم خلق عظيم أقامت عظامهم بتلك الأرض بعد ذلك دهراً طويلاً، وحاز المسلمون من عسكرهم ما يجل قدره، فكانوا يعرفون كبار العجم وملوكهم بخواتيم الذهب يجدونها في أصابعهم، ويعرفون من دونهم بخواتم الفضة، ويجدون (2) عبيدهم بخواتيم النحاس.
لماية (3) :
اقليم لماية من أقاليم كورة ريه بالأندلس، وبهذا الإقليم جبل يتصل بفحص قرطلت (4) ويعرف بوادي (5) لماية، وفي سند هذا الجبل تمثال صورة إنسان بموضع لا يصل إليه إلا من تدلى بالحبال، ويذكر أنه لا يزال يسقط من منخر ذلك التمثال الأيمن نقط ماء وأن العذراء من النساء تختبر به وذلك بأن تحاذي بيدها أنف التمثال، فإن كانت بكراً قطر الماء في يدها، وإلا لم توافق يدها ولو جهدت في ذلك جهدها، هذا عند أهل تلك الناحية مستفيض وأخبر به الثقات.
لملم (6) :
هي في الجنوب من بريسى (7) مع بلاد السودان بينهما نحو عشرة أيام، وأهل بريسى وسلى وتكرور وغانة يغيرون في بلاد لملم ويسبون أهلها، ويسوقونهم إلى بلادهم فيبيعونهم من التجار الواصلين إليهم، فيخرجهم التجار إلى سائر الأمصار، وليس في جميع أرض لملم إلا مدينتان صغيرتان بينهما مقدار أربعة أيام، وأهل تلك الناحية فيما يذكر يهود، الغالب عليهم الكفر والجهالة، وإذا بلغ أحدهم الحلم وسم وجهه وصدغاه بالنار، وبلادهم وجملة عماراتهم على واد يمد النيل، وليس بعد أرض لملم في جهة الجنوب عمارة تعرف.
لعلع (8) :
موضع أو جبل بظهر الكوفة قريب من العذيب، وقيل هو ببطن فلج، وقيل من الجزيرة، وقيل في ديار بني ضبة وقال (9) :
سيعلم مسروق وفائي ورهطه ... إذا وائل حل القطاط ولعلعا
لفت (10) :
بفتح اللام وكسرها، موضع بين مكة والمدينة.
وفي كتاب مسلم: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتينا على ثنية فقال: أي ثنية هذه؟ قالوا: هرشى أو لفت، فقال صلى الله عليه وسلم: " كأني أنظر إلى يونس على ناقة حمراء عليه جبة صوف، خطام ناقته ليف خلبة، ماراً بهذا الوادي ملبياً ".
اللفتان:
من الثغور الشامية على قرب من خرشنة.
لقنت (11) :
من بلاد الأندلس، وبينها وبين دانية على الساحل سبعون ميلاً.
وهي مدينة (12) صغيرة عامرة، وبها سوق ومسجد عامر ومنبر ويتجهز منها بالحلفاء إلى جميع بلاد البحر، وبها فواكه وبقل كثير وتين وأعناب، ولها قصبة منيعة جداً في أعلى جبل يصعد إليه بمشقة وتعب، وهي على صغرها تنشأ بها المراكب السفرية والحراريق، ومن لقنت إلى ألش في البر مرحلة.
__________
(1) بروفنسال: 169، والترجمة: 204.
(2) بروفنسال: ويميزون.
(3) بروفنسال: 170، والترجمة: 204، وانظر ياقوت حيث جعلها من أعمال المرية، وتقويم البلدان: 175 حيث عد ((حصن لماية)) من أعمال مالقة.
(4) بروفنسال: قرطبة.
(5) بروفنسال: ويعرف واديه بوادي.
(6) الإدريسي (د/ ب) : 4/ 5 (OG: 19) ، وقارن ببسط الأرض: 24 (كتبت خطأ: لمسلم) وتقويم البلدان: 157، ونخبة الدهر: 268، وابن الوردي: 34.
(7) ص ع: برسنى.
(8) بإيجاز عن معجم ما استعجم 4: 1156، وقارن بياقوت (لعلع) .
(9) نسبه البكري إلى قرواش بن حوط الضبي.
(10) معجم ما استعجم 4: 1158، وانظر ياقوت (لفت) .
(11) بروفنسال: 170، والترجمة: 205 (Alicante) .
(12) الإدريسي (د) : 193.(1/511)
لشنتة (1) :
مدينة بجزيرة صقلية كان نزل عليها إبراهيم بن أحمد الأغلبي ملك إفريقية لما توجه إلى صقلية غازياً، وذلك بعد أن فتح طبرمين فحاصر لشنته، فطلبوا منه الأمان وأداء الجزية له فأبى ولم يجبهم، وحلت به علته التي مات منها فاشتغل بنفسه، وزادت العلة فمات وأدى أهل لشنته الجزية وهم لا يعلمون بموته، وحمل إلى مدينة بلرم فدفن بها.
اللهون (2) :
قرية من قرى الفيوم في البلاد المصرية، وحجر اللهون هذه هو شاذروان بين قبتين مدرج على ستين درجة فيه فوارات للماء يدخل الماء إلى الفيوم بوزن، بقدر ما يكفيها سواء، وهو من أحكم البنيان، بالهندسة عمل وبالفلسفة أتقن، ومن الناس من يقول إن يوسف عليه السلام عمله بالوحي، ولم يزل الملوك من الأمم تقصد هذا الموضع وتتأمله لما قد نمي من أخباره وسار في الخلق من عجيب إتقانه، وهو من البناء الذي يبقى على غابر الدهر لا يتغير، ويقال أنه عمل من ثلاثة أشياء: الفضة والنحاس والزجاج، وفي أعلى الحجر بناء متقن، وفي الضفة الغربية منه مسجد يقال له مسجد يوسف عليه السلام.
لورقة (3) :
بالأندلس من بلاد تدمير، إحدى المعاقل السبعة التي عاهد عليها تدمير، وهي كثيرة الزروع والضرع والخمر.
وهي على (4) ظهر جبل، وبها أسواق وربض في أسفل المدينة وعلى الربض سور، وفي الربض السوق، وبها معدن تربة صفراء ومعادن مغرة تحمل إلى كثير من الأقطار، وبينها وبين مرسية أربعون ميلاً وفيها معدن لازورد.
ومن أغرب (5) الغرائب الزيتونة التي على مقربة من حصن سرنيط (6) وهو حصن من حصون لورقة البرانية منها، وهي زيتونة في حومة الجبل، فإذا كان وقت صلاة العصر من اليوم الذي يستقبل أول ليلة من شهر مايه نورت الزيتونة، فلا يجن عليها الليل إلا وقد عقدت، ولا يصبح إلا وقد اسود زيتونها وطاب، وقد عرف ذلك الخاصة والعامة ووقفوا عليه. وذكر إبراهيم بن يوسف الطرطوشي (7) أن ملك الروم قال له سنة خمس وثلثمائة: إني أريد أن أرسل إلى ملك الأندلس قومساً بهدية، وأن من أعظم حوائجي عنده وأكبر مطالبي لديه أن في القاعة الكريمة الكنيسة التي في الدار التي فيها الزيتونة المباركة التي تنور وتعقد ليلة الميلاد وتطعم من نهارها بها قبر شهيد له محل عظيم عند الله عز وجل، فأنا أسأله مداراة أهل تلك الكنيسة وملاطفتهم حتى يسمحوا لي بعظام ذلك الشهيد، فإن حصل لي فهو أجل عندي من كل نعمة في الأرض.
وبهذه الناحية (8) موضع معروف من أراد أن يتخذ فيه جناناً صرف إلى الموضع العناية بالتدمين والعمارة والسقي من النهر، فتنبت الأرض بطبعها هناك شجر التفاح والكمثرى والتين والرمان وضروب الفواكه حاشا شجر التوت من غير غراسة ولا اعتمال، وهذا الموضع يعرف بأشكوني.
وتفسير لورقة باللطيني " الدرع الحصين " (9) ، وهذا الاسم وافق معناه لأنها من المعاقل الحصينة، وهي على نهر مجراه إلى الشرق من هذا القطر، ولورقة في الجوف منه وتتصل بمدينة لورقة مزارع عريضة تجتزئ في العام بالسقية الواحدة من هذا النهر كما تجتزئ أرض مصر، ولهذا النهر هناك مجريان، أحدهما أعلى من الثاني، فإذا احتيج إلى السقي به عولي بالسداد حتى يرقى المجرى الأعلى فيسقى به، وعلى هذا النهر نواعر في مواضع مختلفة تسقى به البساتين، وتخرج منه الجداول العظيمة، يسقي الجدول عشرة فراسخ وأكثر، وطعام لورقة يبقى مطمراً تحت الأرض عشرين عاماً (10) لا يتغير.
وكثيراً (11) ما تجاح زروع لورقة بالجراد، ويزعم أهلها أنه كان
__________
(1) هي ((كشنته)) (Cosenza) وقد صوبناها حيثما وردت قبلاً، وتقع في قلورية لا في صقلية.
(2) قارن بالإدريسي (د) : 146 - 147 (اللاهون) ، وياقوت (لاهون) ، والخطط 1: 245 والنص كله ورد في ذكر ((الفيوم)) نقلاً عن الاستبصار: 90، وفي صبح الأعشى 3: 297، نقل عن الروض.
(3) بروفنسال: 171، والترجمة: 205 (Lorca) .
(4) الإدريسي (د) : 196.
(5) العذري: 7، وقارن بآثار البلاد: 547، 256.
(6) العذري: ميربيط؛ وكلا المكانين لم يمكن تحديده.
(7) العذري: إبراهيم بن يعقوب؛ القزويني: إبراهيم بن أحمد، وهو إبراهيم بم يعقوب الطرطوشي الإسرائيلي الذي كان يسفر في شؤون ملوك الروم إلى الأندلس، وعنه ينقل العذري مباشرة، وعنه قيد البكري معلومات عن جغرافية بعض المناطق الأوروبية وسكانها (انظر البكري/ ح - صفحات متفرقة) .
(8) متابع للعذري: 8، وقارن بآثار البلاد: 556.
(9) ص ع وبروفنسال: الزرع الخصيب؛ والتصويب عن العذري: 1.
(10) العذري: 2 خمسين عاماً.
(11) مشبه لما عند العذري: 2.(1/512)
فيها جرادة من ذهب طلباً لدفع مضار الجراد، فسرقت من هناك، فلم يزل الجراد من حينئذ ظاهراً عندهم فاشياً.
ويزعمون (1) أن البقر كانت لا تعتل عندهم ولا يقع فيها الموتان العام لها في بعض الأعوام حتى وجد في بعض الأسس من مباني الأول ثوران من صفر، أحدهما أمام صاحبه ينظر إليه، فلما انتزعت من ذلك الموضع وقع الموتان في البقر عندهم ذلك العام.
وللورقة الفحص الذي لا يعلم في الأرض مثله وهو المعروف بالفندون المتصل بفحص شنقنيرة (2) ومسافة ذلك خمسة وعشرون ميلاً وكان قدم (3) قرطبة أيام الأمير محمد قوم من وجوه المضرية واليمانية بتدمير فسألوهم عن هذا الفحص فذكروا فضله ونمو ما يزدرع فيه فأكثروا وقالوا: إن الحبة تتفرع من أصله ثلثمائة قصبة، فأنكر ذلك بعضهم فكذبه، فوجهوا رسولاً أمروه بإغذاذ السير وبحمل أصول من ذلك الزرع، فأحضرها، فأحصي في كل أصل ثلثمائة قصبة وأكثر في كل قصبة سنبلتها.
وبقرية تارة (4) من قرى لورقة عين تخرج من حجر صلد تجري في قناة منقورة في الحجر، عمقها أكثر من قامة نحو ميلين، ثم يتصل بنقب في الحجر الصلد ومناهر (5) مفتوحة إلى أعلى الجبل لتنفيس الهواء (6) ثم تفضي إلى بيت في داخل الجبل ظليم ممتلئ ماء، والجبل كله معتمد على أرجل، ومن دخل إليه لا يعلم ما وراء تلك الأرجل.
لوشة (7) :
بالأندلس من أقاليم البيرة، بينهما ثلاثون ميلاً وبها جبل فيه غار يصعد إليه، وعلى فمه شجرة، وهو في حجر صلد عمقه نحو قامتين، فيه أربعة نفر موتى لا يعلم أول أمرهم ولا وقت موتهم يذكر الأبناء عن الآباء أنهم ألفوهم هكذا إلا أن الملوك والولاة لم يزالوا يراعون أمورهم ويتعهدون تجديد أكفانهم ولا توضع عليهم إلا بعد أن تقطع فيها قطوع كثيرة لئلا يطمع الفسقة في الانتفاع بها فيخلعونها عنهم. وهو غار موحش مظلم مهيب لا يدخله إلا رابط الجأش جريء النفس.
وكان صاحب (8) بياسة عبد الله المعروف بالبياسي من بني عبد المؤمن لما ضايقه العادل في سنة اثنتين وعشرين وستمائة استعان بالنصارى وسلم لهم بياسة ودخل قيجاطة (9) بالسيف وسار بالعدد إلى لوشة هذه فقاتلهم أشد قتال وسلط عليهم عدو الدين فقتلوا فيهم أشد القتل، ثم سار إلى بيغو من عمل غرناطة فاحتوى عليها بعد شدة.
اللؤلؤة (10) :
موضع في بجاية، وهو أنف من الجبل قد خرج في البحر متصل بالمدينة، فيه قصور من بناء ملوك صنهاجة، مشرف نزيه، فيه طاقات مشرفة على البحر، عليها شبابيك حديد أبوابها مخرمة محلاة، ومجالسها مقرنصة وحيطانها بالرخام الأبيض من أعلاها إلى أسفلها، قد نقشت أحسن نقش ونزلت بالذهب واللازورد وكتبت فيها الكتابات المستحسنة، وصورت فيها الصور المليحة.
وحكي أنه وجد على قبر باللؤلؤة:
ركب المنية بالبرية يوجف ... فعلام أحذر أو لماذا آسف
عجباً للؤلؤة حوت بحر الندى ... عكس القضية ليس هذا يعرف
لونيا (11) :
جبل في أرض زغاوة من أرض السودان، عالي الذرى صعب المرتقى، ترابه أبيض رخو، وفي أعلاه كهف لا يقربه أحد إلا هلك، ويقال إنه فيه ثعبان يلتقم من اعترض مكانه على غير علم منه بذلك، وأهل تلك الناحية يتنحون عنه ويخافونه، ويقال إن بهذا الجبل حيات قصاراً، في رأس كل حية منها قرنان ويقال إن به حيات ذوات رأسين، ويقال إن نهر كوكو يخرج من جبال لونيا ويمر في جهة الجنوب حتى يمر بكوكو فيجوزها ويمر في
__________
(1) ناظر أيضاً إلى المصدر السابق.
(2) ع: شنقشرة؛ ص: سنقسرة، وانظر عنها آثار البلاد: 534.
(3) منابع في مجمله للعذري.
(4) بروفنسال: تازة، وما ورد في ص ع هو عين ما ورد عند العذري.
(5) ص ع وبروفنسال: ومناهد.
(6) العذري: لدخول الضوء.
(7) بروفنسال: 173، والترجمة: 208 (Loja) ، وانظر الزهري: 94 حيث فصل في ذكر هذا العار كثيراً؛ وآثار البلاد: 502، والغرناطي: 121.
(8) ورد هذا في مادة ((قيجاطة)) .
(9) ص ع: قيجاطة.
(10) الاستبصار: 130.
(11) الإدريسي (د/ ب) : 34، 38/ 21، 24 (OG: 111) .(1/513)
الصحراء، ومن الناس من قال: إن نهر كوكو يخرج من أصل جبل متصل رأسه بالنيل، وفي هذا الجبل أمم من قبائل زغاوة وظواعن رحالة، والإبل عندهم كثيرة اللقاح، وهم ينسجون المسوح من أوبارها والبيوت التي يعمرونها ويأوون إليها، وهم يتصرفون في ألبانها وأثمانها ويصيبون من لحومها، والبقول عندهم قليلة، وأكثر ما يزدرعون الذرة، وربما جلبت الحنطة إليهم من بلاد واركلان وغيرها.
لوبية (1) :
كورة من كور مصر الغربية، وهي متصلة بالإسكندرية، وقد قيل إن الاسكندر كان من أهل لوبية.
لوجارة (2) :
مدينة من بلاد الروم في البر الكبير، كان طاغية صقلية (3) نقل إليها من بقي بصقلية من المسلمين إذ كانوا له جنداً وعدة لأعدائه يجد نفعهم، فنقلهم إلى هذه المدينة تحوطاً عليهم لحاجته إليهم وتخوفاً منهم إذ كانوا أعداداً جمة، فعمروها ومدنوها وصارت لهم بها أحوال عظيمة، وكانوا أنجاداً وطال مقامهم بها أعصاراً، إلى أن اختلفوا وتحزبوا وافترقت كلمتهم، وآل أمرهم في هذا العهد القريب إلى أن أجلاهم عنها صاحب صقلية الآن (4) ، فتحكمت فيهم النوائب وتشتت أمرهم، فأخرجوا وأسروا وتفرقوا في البلاد فمنهم من ذهب إلى المشرق، ومنهم من صار إلى إفريقية، وافترقوا في بلادها، وصارت مدينة لوجارة رومية ولم يبق فيها منهم أحد.
لياج (5) :
بلدة في جزيرة صقلية على البحر، من البلاد القديمة العمران ذات أسواق وبادية ومزارع طيبة زاكية حارة المزاج يحصد بها الزرع قبل غيرها من بلاد الجزيرة، ويحمل منها الزفت والقطران والخشب، وفي الغرب منها جبل النار المشهور، وبينها وبين بلد قطانية ستة أميال.
لنبياذة (6) :
هو حصن بجزيرة صقلية في أعلى صخرة، يحدق به البحر والنهر ولا يدخل إليه إلا من باب واحد، وبه مرسى تسافر المراكب إليه وتحمل الأوساق، وبه عمارة وسوق، وله عمل واسع وأرضه زكية المزارع، ونهره يصب في البحر، ويسمى الوادي الملح، وبه سمك طيب كثير الشحم لذيذ المأكل، وبين لنبياذة وكركنت خمسة وعشرون ميلاً.
ليون (7) :
قاعدة من قواعد قشتالة عامرة، بها معاملات وتجارات ومكاسب ولأهلها همة ونفاسة.
__________
(1) صبح الأعشى 3: 386.
(2) (Lucera) وتقع في إقليم بوليا (Puglia) بإيطاليا الجنوبية، انظر تعليقات الأستاذ رتزيتانو على هذه المادة.
(3) يعني فردريك الثاني (الانبرور) ؛ وانظر مادة أنطالة، فإن ثورة ابن عباد كانت هي السبب في نقل هؤلاء المسلمين إلى لوجارة.
(4) هل هذا كلام المؤلف نفسه. إن ما أصاب أهل لوجاز حدث عام 700 على يد كارلو الثاني، فإن كان هذا كلامه وليس نقلاً، فمعنى ذلك أن أن المؤلف كان معاصراً لتلك الأحداث وقد نبه الأستاذ إلى ذلك في تعليقاته.
(5) (Aci) ؛ الإدريسي (م) : 28، وقد ذكرها المؤلف في ((الياج)) .
(6) (Licata) ؛ الإدريسي (م) : 31 واسمها بالعربية ينظر إلى الأصل اللاتيني (Lympiados) .
(7) بروفنسال: 174، والترجمة: 209 (Leon) .(1/514)
حرف الميم
مأرب (1) :
وقد تخفف وهو الأكثر، مدينة باليمن على ثلاثة أيام من صنعاء، وعلى ثلاثة مراحل من ظفار، قيل هي سمة للملك، وقيل هو مسكن سبأ، وهو بسكون الهمزة، قال الله تعالى " لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال " وقال الشاعر (2) :
من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما وكان السد من بناء سبأ بن يشجب، وكان ساق إليها سبعين وادياً ومات قبل أن يستتمه، فأتمته ملوك حمير بعده، وقيل بناه لقمان بن عاد وجعله فرسخاً في فرسخ، وجعل له ثلاثين شعباً.
والسد (3) بين جبلين وهما يسميان المأزمين وتمر منه بموضع كان يقسم عليه ماء هذا السد في الجاهلية في صحراء ورمال، وهي التي تسمى جنة اليسرى، قال الله تعالى " لقد كان لسبأ في مسكنهم " فيمر حتى ينتهي إلى مأرب وفيه معدن الملح الذي أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم أبيض بن حمال المأربي فجعله أبيض صدقة للمساكين، وعوضه النبي صلى الله عليه وسلم حائطاً يعرف بالجدرات على باب مأرب، فلا يخلو من ثمر صيفاً وشتاء وربيعاً وخريفاً لأن صلى الله عليه وسلم دعا له بالبركة. ومأرب مدينة سبأ، وبها عرش بلقيس، وكان العرش مبنياً على أساطين حجارة وكل اسطوانة منها فوق الأرض ثمان وعشرون ذراعاً، فاحتمل العرش وبقيت الأساطين على حالها، ويقال إن تحت الأرض من تلك الأساطين مثل ما فوقها، وغلظ كل أسطوانة لا يحتضنه أربعة نفر، وفيها سوق ومسجد والمنزل بها، ثم يخرج منها ويقطع عرض الوادي فيدخل جنة اليمنى التي ذكرها الله تعالى، وليس فيها من الأشجار إلا الأثل والأراك، وتبذر فيها الذرة.
وكانت مأرب في القديم مدينة كبيرة عامرة بالخلق مشهورة في بلاد العرب، وبها صرواح قصر سليمان عليه السلام، ولم يبق منه إلا طلل دارس، وبها قصر بلقيس كما قلناه، وبها كان السد المسمى بالعرم، وكان أكثر أهل مأرب سبأ من قبل العرب الحميرية، وكان لهم من الكبر والتيه والعجب على سائر الأمم ما هو مشهور، وكانوا مع ذلك يكفرون بأنعم الله سبحانه، وكان لهم بهذه المدينة سد عظيم البناء وثيق الصنعة قد أمنوا من خلله، وكان الماء يرتدع خلفه نحواً من عشرين قامة، فكان الماء محصوراً من جوانبه قد أمنوه وأوثقوا صناعته، وكانت مساكنهم عليه، ولكل قبيلة منهم شرب معلوم يسقون منه ويصرفونه في مزارعهم قسمة عدل، وكان السد يعلو هذه المدينة كالجبل المنيف، فلما أراد الله سبحانه انقطاع دولتهم وتشتيت جماعاتهم أرسل عليهم السيل، فجاءهم وهم نائمون، فدفع السد ومر بالمدينة وما جاورها من القرى والبهائم والأمم والنبات، وقتل الكل بالكل وفرقهم شذر مذر، وتفرقت العرب وتبلبلت الألسن، وساروا في المشارق والمغارب، وبقي بالمدينة آثار تراجع إليها أقوام من حضرموت فهم يعمرونها إلى الآن،
__________
(1) معجم ما استعجم 4: 1170.
(2) نسبه البكري في معجمه للأعشى وسيذكره المؤلف في هذه المادة منسوباً لأمية بن أبي الصلت.
(3) البكري (مخ) : 67.(1/515)
وقد ذكر الأعشى ميمون بن قيس سد مأرب في قوله من شعر له (1) :
وفي ذاك للمؤتسي أسوة ... ومأرب عفى عليها العرم
رخام بنته لهم حمير ... إذا جاء مواره لم يرم
فأروى الزروع وأعنابها ... على سعة ما بهم إذ قسم
سعى جرذ فيهم ليلة ... (2) فحان بهم جرفهم فانهدم
وطار القيول وقيلاتها ... بيهماء فيها سراب يطم
فصاروا أيادي ما يقدرون ... منه على شرب طفل فطم وقال أمية بن أبي الصلت في قصيدة له:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما وقد تقدم.
قال ابن إسحاق (3) : وكان سبب خروج عمرو بن عامر من اليمن أنه رأى جرذاً يحفر في سد مأرب الذي كان يحبس عليهم الماء فيصرفونه حيث شاءوا من أرضهم فعلم أنه لا بقاء للسد على ذلك، فاعتزم على النقلة من اليمن فكاد قومه، فأمر أصغر بنيه إذا أغلظ له ولطمه أن يقوم إليه فيلطمه، ففعل ابنه ما أمره به أبوه، فقال عمرو: لا أقيم ببلد لطم وجهي فيه أصغر ولدي؟ وعرض أمواله فقال أشراف اليمن: اغتنموا غضبة عمرو فاشتروا منه أمواله، وانتقل هو وولده وولد ولده فقالت الأزد: لا نتخلف عن عمرو بن عامر فباعوا أموالهم وخرجوا معه، فساروا حتى نزلوا ببلاد عك مجتازين يرتادون البلدان، فحاربتهم عك، فكان حربهم سجالاً، ثم ارتحلوا عنهم فتفرقوا في البلدان فنزل آل جفنة بن عمرو بن عامر الشام، ونزلت الأوس والخزرج يثرب، ونزلت خزاعة مراً، ونزلت أزد السراة السراة، ونزلت أزد عمان عمان، ثم أرسل الله عز وجل على السد السيل فهدمه، ففيه أنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم " لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور. فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم " إلى آخر الآية والعرم السد، واحدته عرمة.
وروي أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال لحاجبه: أدخل أرث من بالباب تراه، فخرج فوجد رجلاً ذا أطمار لا تكاد تواريه فقدمه، فلما مثل بين يديه قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فرد عليه معاوية رضي الله عنه وأمره بالقعود، ثم أقبل عليه فقال: من أين الرجل؟ قال: من مأرب، قال: وممن؟ قال: من سبأ، قال: أنت من الذين بدلوا نعمة الله كفراً فأبدلهم الله بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل، قال: إني لمن تلك البلدة ومن نسل أولئك القوم، ولكنك يا معاوية من الذين قالوا لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم " وإنا لأهل الجنة التي وصفها الله والعرش الذي عظمه الله، وإنكم أهل النجعة التي صغرها الله وذمها لجوعها فقال " لأيلاف قريش " ووثب، فأجلسه معاوية واعتذر إليه.
مانان (4) :
جبل في بلاد قمنورية (5) يتصل بالبحر المحيط، وهو منيع عالي الذروة أحمر التربة، وفيه أحجار لماعة تعشي البصر إذا طلعت عليها الشمس لا يكاد الناظر ينظر إليها لشعاعها وبريق حمرتها، وفي أسفله ينابيع الماء العذب يتزود منه ويحمل في الأوعية إلى كل جهة.
ومانان (6) : أيضاً مدينة من أرض كانم في بلاد السودان، وهي
__________
(1) ديوان الأعشى: 34.
(2) الديوان: فجار بهم جارف منهزم.
(3) السيرة 1: 13.
(4) الإدريسي (د/ ب) : 30/ 17 (OG: 106) وقد يقرأ ((ماتان)) .
(5) ص ع: قيمودية.
(6) الإدريسي (د/ ب) 12/ 12 (OG: 29) .(1/516)
صغيرة ليس بها شيء من الصناعات المستعملة، وتجارتهم قليلة، ولهم جمال ومعز، ومن مانان إلى مدينة أنجيمي ثمانية أيام، وهي أيضاً من كانم.
ماما (1) :
قرية بقرب تاهرت صغيرة لها سور تراب، وأكثرها طوب ولها بما استدار بها خندق محفور، ولها واد عذب عليه مزارعها وغلاتها وإصابتها في الحنطة كثيرة.
الماطرون (2) :
بلد، قال حمزة الشامي: قرأت على حائط بستان بالماطرون:
أرقت بدير الماطرون كأنني ... لساري النجوم آخر الليل حارس
وأعرضت الشعرى العبور كأنها ... معلق قنديل عليه الكنائس
ولاح سهيل عن يميني كأنه ... شهاب نحاه وجهة الريح قابس
المأزمان (3) :
بين عرفة والمزدلفة، والمأزم: المضيق، وقيل الطريق بين جبلين وفي مقصورة ابن دريد (4) :
ثمت راح في الملبين إلى ... حيث تحجى المأزمان ومنى
مآب (5) :
بالشام من أرض البلقاء.
قالوا (6) : لما خرج عمرو بن لحي من مكة إلى الشام في بعض أموره فقدم مآب من أرض البلقاء وبها يومئذ العماليق من ولد سام بن نوح رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدونها؟ فقالوا: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا فقال لهم: أفلا تعطوني منها صنماً فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه؟ فأعطوه منها صنماً
يقال له هبل، فقدم به مكة فنصبه، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه.
ولما خرج الناس من مؤتة في البعث الذي وجههم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتهوا إلى معان من أرض الشام بلغهم أن هرقل قد نزل مآب في أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليه أخلاط من العرب، فتهيب الناس، فقال عبد الله بن رواحة أحد أمراء هذا البعث من شعر له:
فلا وأبي مآب لنأتينها ... وإن كانت بها عرب وروم والقصة مشروحة في سير ابن إسحاق (7) .
ولما خرج (8) ، أبو عبيدة والمسلمون إلى الشام مروا بوادي القرى، ثم أخذوا على الحجر أرض صالح النبي عليه السلام، ثم ذات المنار، ثم على زيزاء، ثم ساروا إلى مآب بمعان (9) ، فخرج إليهم الروم، فلم يلبثهم المسلمون من أن هزموهم حتى دخلوا مدينتهم فحاصروهم فيها، وصالح أهل مآب عليها فكانت أول مدائن الشام صالح وسار إلى الجابية.
مالقة (10) :
بالأندلس، مدينة على شاطئ البحر، عليها سور صخر، والبحر في قبليها (11) .
وهي حسنة (12) عامرة آهلة كثيرة الديار، وفيما استدار بها من جميع جهاتها شجر التين المنسوب إليها، وهو يحمل إلى مصر والشام والعراق وربما وصل إلى الهند، وهو من أحسن التين طيباً وعذوبة، ولها ربضان كبيران، وشرب أهلها من الآبار، ولها واد يجري في زمان الشتاء وليس بدائم الجري.
وهي من تأسيس الأول، وأكثر المدينة على جسرين من بناء الأول. والجسر داخل في البحيرتين هناك، قد بني بصخر
__________
(1) الإدريسي (د/ ب) : 87/ 60.
(2) قال ياقوت (الماطرون) : موضع بالشام قرب دمشق.
(3) معجم ما استعجم 4: 1173، وقارن بياقوت (المأزمان) .
(4) شرح المقصورة: 93، وتحجى: أقام، وقيل حيث يزار ويقصد.
(5) معجم ما استعجم 4: 1169، وياقوت (مآب) .
(6) السيرة 1: 77.
(7) السيرة 2: 375.
(8) فتوح الأزدي: 23.
(9) ص ع وفتوح الأزدي: بعمان.
(10) بروفنسال: 177، والترجمة: 213 (Malaga) ، وانظر الزهري: 93، وياقوت (مالقة) ، ورحلة ابن بطوطة: 669.
(11) ص: قبلتها.
(12) الإدريسي (د) : 200.(1/517)
كأنوف الجبال، وقصبتها في شرقي مدينتها عليها سور صخر، وهي في غاية الحصانة والمنعة، وفي هذه القصبة مسجد بناه الفقيه المحدث معاوية بن صالح الحمصي، وكان ممن حضر وقعة مروان بن محمد ليلة بوصير فأنجاه الفرار ولجأ إلى الأندلس فرقاً من المسودة، ومات بها، وله روايات وتقدم في السنة والعلم. وجامع مدينة مالقة بالمدينة، وهو خمس بلاطات، ولها خمسة أبواب: بابان منها إلى البحر، وباب شرقي يعرف بباب القصبة، وباب غربي يعرف بباب الوادي، وباب جوفي يعرف بباب الخوخة. وبها مبان فخمة وحمامات حسنة وأسواق جامعة كثيرة في الربض والمدينة.
وذكرها الأول في كتبهم فقالوا: مدينة مالق، لا بأس عليها ولا فرق، آمنة من جوع وسبي ودم، مكتوب ذلك في العلم الذي يكتب، وقد قيل: إن هذه الكلمات وجدت في بعض حجارتها نقشاً بالقلم الاغريقي. قالوا: وجميع هذه الآثار التي أمنها منها وبقاؤها عنها قد لحقت بها وجمعت لها في سنة تسع وخمسين وأربعمائة بمحاصرة عباد بن عباد لها، واستطالة برابر قصبتها على أهلها، فشملهم الضر وعمم الفقر، ثم استحلت حرماتهم وسفكت مهجاتهم، فما نجا في البحر إلا الشريد ولا تخلص إلا السعيد، فخلت ديارهم وتغيرت آثارهم. وكذلك عندما نشأت الفتنة في آخر أيام الملثمين وصدراً من دولة الموحدين بقيام ابن حسون (1) فيها، وبعدما قتل فيها من قتل وغرب من غرب قتل نفسه عند قيام أهل البلد عليه، فسبيت حرمه ومزقوا في البلاد كل ممزق: وآسفت حاله، ولله الحكمة البالغة.
ومن مالقة إلى أرشذونة ثمانية وعشرون ميلاً، ومرسى مالقة صيفي يكن بالغربي وبإزائه مما يلي المدينة الجسر الذي ذكرناه، ينكسر عليه الموج.
ولما ولي القاضي المحدث الشهير أبو محمد عبد الله بن سليمان بن حوط الله الأنصاري (2) قضاء مالقة وقدم عليها، خرج طلبتها إلى لقائه فأنشدهم:
مالقة حييت يا تينها ... الفلك من أجلك يأتينها
نهى طبيبي عنك في علتي ... ما لطبيبي عن حياتي نها
ماردين (3) :
مدينة من ديار ربيعة بعمل الموصل، بينها وبين مدينة دارا نصف مرحلة، وهي في سفح جبل في قنته قلعة لها كبيرة، وهي من قلاع الدنيا الشهيرة.
ماردة (4) :
مدينة بجوفي قرطبة منحرفة إلى المغرب قليلاً، وكانت مدينة ينزلها الملوك الأوائل، فكثرت بها آثارهم والمياه المستجلبة إليها، واتصل ملكهم إلى أن ملك منهم سبعة وعشرون ملكاً، ويقال أن ذا القرنين كان منهم وكان يقال لهذه الأمة الشبونقات (5) ، ثم دخلت أمة القوط فغلبوا على الأندلس واقتطعوها من صاحب رومة، واتخذوا طليطلة دار ملكهم وأقروا فيها سرير ملكهم (6) ، إلى أن دخل عليهم الإسلام، وكان آخرهم لذريق، وكان قد أحدق بماردة سوراً عرضه اثنا عشر شبراً وارتفاعه ثمان عشرة ذراعاً، وكان على بابها مما يلي الغرب حنايات يكون طولها خمسين ذراعاً، متقنة البنيان، عددها ثلثمائة وستون حنية، وفي وسط قنطرتها برج محني يسلك تحته من سلك في القنطرة. وتفسير ماردة باللطيني: " مسكن الأشراف " وقيل بل كانت (7) دار مملكة ماردة بنت هرسوس الملك، وبها من البناء آثار ظاهرة تنطق عن ملك وقدرة، وتعرب عن نخوة وعز، وتفصح عن عظة وعبرة، ولها في قصبتها قصور خربة، وفيها دار يقال لها دار الطبيخ، وهي في ظهر القصر، وكان الماء يأتي في دار الطبيخ في ساقية هي الآن باقية الأثر، فتوضع صحاف الذهب والفضة بأنواع الطعام في تلك الساقية على الماء حتى تخرج بين يدي الملكة، فترفع على الموائد، ثم إذا فرغ من أكل ما فيها وضعت في الساقية، فتستدير إلى أن تصل إلى يد الطباخ بدار الطبيخ، فيرفعها بعد غسلها، ثم يمر
__________
(1) ابو الحكم الحسين بن الحسين بن حسون قاضي مالقة، ثار ببلده عند زوال سلطان الملثمين سنة 539.
(2) انظر ترجمته في التكملة: 883، وكانت وفاته سنة 612.
(3) انظر الكرخي: 53، ونزهة المشتاق: 199 - 200، وياقوت (ماردين) ، وآثار البلاد: 259.
(4) بروفنسال: 175، والترجمة: 210 (Merida) .
(5) ص ع: البشترلفات.
(6) سقط من ص.
(7) من هنا عن الإدريسي (د) : 181 - 183.(1/518)
بقية ذلك الماء في سروب القصر. ومن أغرب الغرائب جلب الماء الذي كان يأتي إلى القصر على عمد مبنية تسمى الارجالات (1) ، وهي أعداد كثيرة باقية إلى الآن، قائمة على قوائم لم تخل بها الأزمان، ولا غيرتها الدهور، فمنها قصار ومنها طوال، بحسب الأماكن التي كان فيها البناء، وأطولها يكون غلوة سهم، وهي على خط مستقيم، وكان الماء يأتي عليها في قني مصنوعة خربت وفنيت، وبقيت تلك الارجالات قائمة يخيل للناظر إليها أنها من حجر واحد لحكمة اتقانها وتجويد صنعتها. وفي الجنوب من سور هذه المدينة قصر آخر صغير، وفي برج منه مكان مرآة كانت الملكة ماردة تنظر إلى وجهها فيه، ومحيط دوره عشرون شبراً، وكان يدور على حرفه، وكان دورانه قائماً ومكانه إلى الآن باق، ويقال إنما صنعته ماردة لتحاكي به مرآة ذي القرنين التي وضعها في منارة الإسكندرية.
وقال هاشم بن عبد العزيز، وقد تذاكروا شرف ماردة وفضل ما فيها من الرخام، قال: كنت كلفاً بالرخام، فلما وليت ماردة تتبعته لأنتقل منه كل ما استحسنته، فبينا أنا أطوف في بعض الأيام بالمدينة إذ نظرت إلى لوح رخام في سورها، شديد الصفاء، كثيراً ما يخيل للناظر أنه جوهر مها، فأمرت باقتلاعه فقلع بعد معاناة، فلما أنزل إذا فيه كتاب عجمي فجمعت عليه من كان بماردة من النصارى، فزعموا أنه لا يقدر على ترجمته إلا عجمي ذكروه يعظمونه، فأنفذت فيه رسولاً، فأتيت بشيخ هرم كبير، فلما وضع اللوح بين يديه أجهش بالبكاء واستعبر ملياً، ثم قال لترجمته: براءة لأهل ايلياء ممن عمل في سورها خمس عشرة ذراعاً، وقد كان في افتتاح الأندلس وجد في كنائس ماردة ما وقع إليها من ذخائر بيت المقدس عند انتهاب بخت نصر لايلياء، وكان ممن حضره في جنوده اشبان (2) ملك الأندلس، فوقع ذلك وغيره في سهامه.
وقصر ماردة بناه عبد الملك بن كليب بن ثعلبة، وهو بديع طول كل شقة من سوره ثلثمائة ذراع، وعرض البناء اثنا عشر ذراعاً، وقنطرة ماردة عجيبة البنيان طولها ميل، بأبدع ما يكون من البنيان. ومن ماردة إلى بطليوس عشرون ميلاً.
المايد (3) :
جزيرة فيها عدة مدن، وهي على رأس البحر إلى جهة الصين، وأهلها أشبه بأهل الصين من غيرهم، ولملوكها عبيد وخصيان حسان وخدم بيض، وجزيرتهم تتصل بأرض الصين، وهم يراسلون ملك الصين ويهادونه، وبهذه الجزيرة تجتمع مراكب الصينيين الخارجة من جزائر الصين، وإليها تبلغ، ومنها تخرج إلى سائر النواحي.
ماسبذان (4) :
هي أحد فروج الكوفة، وهي بالقرب من هيت.
أغزاها (5) سعد بن أبي وقاص، بأمر عمر بن الخطاب (6) ، ضرار بن الخطاب فأخذها عنوة وتطاير أهلها إلى الجبال فدعاهم فاستجابوا له، وأقام بها حتى تحول سعد إلى الكوفة فأرسل إليه فخرج إليه، واستخلف على ماسبذان.
مارد (7) :
بتيماء، وهو حصن دومة الجندل، بضم دال دومة، وهي على عشر ليال من الكوفة، ومن أمثالهم: تمرد مارد وعز الأبلق.
الماه (8) :
الدينور، والماه بالفارسية قصبة البلدان، أي بلد كان، فكان يقال للدينور ماه الكوفة لأن مالها كان يحمل في أعطيات أهل الكوفة، ونهاوند ماه البصرة.
الماصر (9) :
ربض من أرباض بغداد، ومما حفظ من شعر محمد الأمين عند اشتداد الحصر عليه:
يا فضل قد حاصرني طاهر ... إني على ما نابني صابر
__________
(1) كأنه جمع ((رجل)) على ((أرجال)) ثم صاغ جمع الجمع ((أرجلات)) .
(2) ص ع: بريان.
(3) نزهة المشتاق: 32 (OG: 89) وقد ذكر اليعقوبي في تاريخه 1: 94 المايد من ممالك الهند المتاخمة للصين.
(4) انظر ياقوت (ماسبذان) ، وآثار البلاد: 260.
(5) الطبري 1: 2478.
(6) هو أحد بني محارب بن فهر.
(7) راجع مادة ((الأبلق)) و ((تيماه)) .
(8) معجم ما استعجم 4: 1176.
(9) هكذا هو بالصاد المهملة في ع ص؛ وقد ذكر المسعودي (المروج 6: 452) ((الماطر)) مما يلي كلواذا؛ قلت: والماصر هو الجبل الذي يوضع على النهر لتوقيف السفن واقتضاء الضريبة منها عند المرور، ولعل المكان سمي كذلك لهذا السبب.(1/519)
لم يبق من ملكي إلا الذي ... تراه والجسران والماصر
ماذران (1) :
بجهة نهاوند.
ماء الحياة (2) :
موضع على ضفة البحر قريب من سبتة، فيه عيون على ضفة البحر نابعة بين أحجار من تحت رمل، طيبة عذبة، يصل إليها الموج، وينبط الماء العذب في هذا الرمل بأيسر حفر، ويذكر أن بهذا الموضع نسي فتى موسى عليه السلام الحوت، ويوجد في هذا الموضع دون غيره حوت ينسب إلى موسى عليه السلام عرضه مقدار ثلثي شبر، وطوله أكثر من شبر، ولحمه طيب نافع من الحصى مقو للباه.
مالطة (3) :
جزيرة من الجزائر التي تلي جزيرة صقلية، وهي في القبلة من مسينة بينها وبين صقلية مجرى واحد، وكانت قبل هذا للمسلمين، وفيها مراس منشأة للسفن، وأشجارها الصنوبر والعرعر والزيتون، وطولها ثلاثون ميلاً، وفيها مدينة من بنيان الأول وكان يسكنها الروم.
وغزاها خلف الخادم مولى زيادة الله بن إبراهيم عند قيام أبي عبد الله محمد بن أحمد (4) ابن أخي زيادة الله على يد أحمد بن عمر بن عبد الله بن الأغلب، فهو الذي شقي في أمرها، وخلف هذا هو المعروف ببناء المساجد والقناطر والمواجل، فحاصرها ومات وهو محاصر لها، فكتبوا إلى أبي عبد الله بوفاته، فكتب أبو عبد الله إلى عامله بجزيرة صقلية، وهو محمد بن خفاجة، أن يبعث إليهم والياً، فبعث إليهم سوادة بن محمد، ففتحوا حصن مالطة، وظفروا بملكها عمروس أسيراً، فهدموا حصنها وغنموا وسبوا ما عجزوا عن حمله، وحمل لأحمد من كنائس مالطة ما بنى به قصره الذي بسوسة داخلاً في البحر، والمسلك إليه على قنطرة وكان ذلك سنة خمس وخمسين ومائتين (5) فبقيت بعد ذلك جزيرة مالطة خربة غير آهلة، وإنما كان يدخلها النشاءون للسفن، فإن العود فيها أمكن ما يكون، والصيادون للحوت لكثرته في سواحلها وطيبه، والشائرون للعسل فإنه أكثر شيء هناك.
فلما كان بعد الأربعين والأربعمائة من الهجرة عمرها المسلمون، وبنوا مدينتها، ثم عادت أتم مما كانت عليه، فغزاها الروم سنة خمس وأربعين وأربعمائة في مراكب كثيرة وعدد، فحصروا المسلمين في المدينة واشتد الحصار عليهم وطمعوا فيهم، وسألهم المسلمون الأمان فأبوا إلا على النساء والأموال، فأحصى المسلمون عدد المقاتلة من أنفسهم فوجدوهم نحو أربعمائة، ثم أحصوا عبيدهم فوجدوهم أكثر عدداً منهم، فجمعوهم وقالوا لهم: إنكم إن ناصحتمونا في قتال عدونا وبلغتم من ذلك مبلغاً (6) وانتهيتم حيث انتهينا، فأنتم أحرار، نلحقكم بأنفسنا وننكحكم بناتنا ونشارككم أموالنا، وإن أنتم توانيتم وخذلتمونا لحقكم من السباء والرق ما يلحقنا، وكنتم أشد حالاً منا، لأن أحدنا قد يفاديه حميمه، ويخلصه من الأسر وليه، ويتمالأ على استنقاذه جماعته، فوعد العبيد من أنفسهم بأكثر مما ظنوا بهم، ووجدوهم إلى مناجزة عدوهم أسرع منهم، فلما أصبح القوم من اليوم الثاني غاداهم الروم على عادتهم، وقد طمعوا ذلك اليوم في التغلب عليهم وأسرهم، والمسلمون قد استعدوا في أكمل عدة للقائهم، وأصبحوا على بصيرة في مناجزتهم، واستنصروا الله عز وجل عليهم، فزحفوا وثاروا نحوهم دعساً بالرماح وضرباً بالسيوف غير هائبين ولا معرجين، واثقين بإحدى الحسنيين من الظفر العاجل أو الفوز الآجل، فأمدهم الله تعالى بالنصر، وأفرغ عليهم الصبر، وقذف في قلوب أعدائهم الرعب، فولوا منهزمين لا يلوون، واستأصل القتل أكثرهم، واستولى المسلمون على مراكبهم فما أفلتهم منها غير واحد، ولحق عبيدهم بأحرارهم، ووفوا لهم بميعادهم، وهاب العدو بعد ذلك أمرهم، فلم يعترضهم أحد منهم إلى حين (7) .
__________
(1) لعل هذا وهم من المؤلف، فإن ماذران بجهة همذان، وقال البلاذري حين ذكر همذان وقرن بها ماذران (فتوح: 380) ((ثم إنه فتح همدان على مثل صلح نهاوند)) ثم قال: ونسبت القلعة التي تعرف بماذران إلى السري بن نسير، وماذران عند ياقوت بين سمنان والدامغان؛ وفي آثار البلاد (451) موضع بأرض قومس.
(2) البكري: 106.
(3) أول المادة عن البكري (ح) : 225، إلا أن نص البكري غير مستوفي، والمعتقد أيضاً أن أكثر المادة الباقية عن البكري نفسه، من موضع آخر في كتابه، وفي آثار البلاد: 557 خلاصة للأخبار التاريخية الواردة هنا، وانظر الإدريسي (م) : 19، ونخبة الدهر: 141، وعند ياقوت نقلاً عن السلفي أن مالطة من مدن الأندلس.
(4) هو المشهور بأبي الغرانيق، توفي سنة 261، وانظر نهاية الأرب 22: 81.
(5) هذه العبارة وقعت في آخر مادة ((مالطة)) ووقوعها هنالك لا ينسجم وسياق الأحداث، وتعيين هذا العام يتفق مع فحوى ما ورد في البيان المغرب 1: 115 حول أحداث العام 255، وانظر كتاب الأستاذ الطالبي: 475 وما بعدها في دراسة الغزو الأغلبي لمالطة.
(6) ص: مبلغنا.
(7) هذا أدق مما قاله القزويني: ((واشتدت شوكتهم فلم تعزهم الروم بعد ذلك أبداً)) وذلك لأن مقدرات مالطة تغيرت بعد سقوط صقلية في يد النرومان.(1/520)
مارتلة (1) :
على نهر بطليوس بجزيرة الأندلس، منها الزاهد موسى بن عمران المارتلي، اشتهر في اشبيلية بالصلاح، وله شعر مدون منقول منه قوله:
أوصيك لا ترد الشها ... دة والإمامة والأمانه
تسلم من التجريح وال ... حسد المبرح والخيانه ولما جاز منصور الموحدين البحر إلى الجهاد عام الأرك زاره، ثم وجه إليه بالأموال فقال للرسول: هو أحوج في مالي مني في ماله، قل له: هذه مائة دينار من حلال، خذها لنفقتك في هذه الغزوة فإني أرجو إذا لم تطعم إلا الحلال أن تنصر، فيقال إن المنصور قبل منها ما قاته في خاصته في تلك الحركة، فلم يزل يعرف بركتها حتى نصر الله تعالى، وتوفي سنة إحدى وتسعين وخمسمائة.
مازر (2) :
مدينة بجزيرة صقلية تلي قوصرة، بينهما مجرى؟ ومازر مدينة مشهورة على الساحل الموازي لافريقية، وهي من مدينة بلرم في الجنوب، وبها واد ترسي السفين فيه، وهي مدينة فاضلة شامخة لا شبه لها ولا مثال في شرف المحل، إليها الانتهاء في جمال الهيئة والبناء، وما اجتمع فيها من المحاسن لم يجتمع في غيرها، وأسوارها حصينة شاهقة، وديارها حسنة، وبها أزقة واسعة وشوارع وأسواق عامرة بالتجارات، وحمامات وخانات وبساتين وجنات طيبة المزدرعات؟ يسافر إليها من جميع الآفاق، وإقليمها كثير الاتساع، يشتمل على منازل كثيرة جليلة وضياع، وبأصل سورها الوادي المعروف بوادي المجنون، وبينها وبين مرسى علي ثمانية عشر ميلاً.
ومن مفاخرها أن منها الفقيه الإمام أبا عبد الله محمد بن علي بن إبراهيم التميمي المازري (3) صاحب " المعلم بفوائد مسلم " و " شرح التلقين " وغير ذلك، نزيل المهدية، لقي اللخمي (4) وعبد الحميد بن الصايغ، وبرع في العلم، وانتهت إليه رياسة العلم في وقته، ولا يسمى بالإمام أحد بإفريقية سواه، وسارت مقالاته وفتاويه في الأقطار وقصد الناس إليه، وتوفي بالمهدية سنة ست وثلاثين وخمسمائة. وكان، رحمه الله، على متانة علمه حسن الخلق مليح الدعابة، اجتاز عليه وهو مع أحد أصحابه نصراني في يده زجاجة خمر، فوضع صاحبه يده على أنفه، فاستهجن فعله ونسبه إلى الرياء وقال له: اشتهر في الناس أن ريحها طيب أو غير كريه، ولولا أن الشرع حرم شربها لم يكن بها عيب. واجتاز عليه وهو مع أصحابه بائع تفاح، فأخرج من جيبه خرقة حلها ودفع لصاحب التفاح جملة الذي كان فيها ثم نفض الخرقة وأنشد:
ما زلت أشربها خمراً مشعشعة ... حتى نفضت على مكيالها كيسي وصعد هو وصاحب له سطحاً لارتقاب هلال فإذا امرأة على سطح آخر تلتمس الهلال أيضاً، فقال الإمام أبو عبد الله:
طلعت للبدر تنظره ... فأرتنا البدر قد طلعا فقال صاحبه:
أنزلوا عنا فتاتكم ... لم تدع ديناً ولا ورعا فقال له: هذا من الرياء. وقبره في المنستير؛ وحكي عن من قال: كنت أرى ليلة كل جمعة نوراً هابطاً من السماء متصلاً بقبر الإمام أبي عبد الله المازري.
وبمازر توفي الأديب أبو علي حسن بن رشيق القيرواني مؤلف " العمدة " وغيرها سنة ست وخمسين وأربعمائة.
مازونة (5) :
بالمغرب بالقرب من مستغانم، وهي على ستة أميال من البحر، وهي مدينة بين أجبل، ولها مزارع وبساتين وأسواق عامرة، ولها يوم يجتمع فيه لسوقها أصناف البربر بضروب من
__________
(1) بروفنسال: 175، والترجمة: 210 (Mertola) ، وهي مدينة صغيرة في جنوب البرتغال وترجمته المارتلي في المغرب 1: 406، والغصون الينعة: 135، والتكملة: 687، وقد ذكر ابن الأبار أنه توفي سنة 604.
(2) (Mazara) الإدريسي (م) : 32، وانظر تقويم البلدان: 189، وياقوت (مازر) .
(3) كتب عنه الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب كتاباً (نشر بتونس) ؛ وانظر الديباج: 279.
(4) هو علي بن محمد الربعي القيرواني، توفي سنة 478.
(5) الإدريسي (د/ ب) : 100/ 72 وقد ذكرها ابن بطوطة في رحلته: 657 إذ وصلها بعد ارتحاله من تنس.(1/521)
الفواكه والألبان والسمن، والعسل بها كثير، وهي من أحسن البلاد صفة وأكثرها فواكه وخصباً.
ماست (1) :
نهر عظيم في بلاد السوس الأقصى بالمغرب يصب في البحر المحيط، جريه من القبلة إلى الجوف كجري نيل مصر، عليه قرى متصلة وعمارات كثيرة وبساتين وجنات وأنواع من الفواكه والثمار والأعناب وقصب السكر، ولم يتخذ الساكنون على هذا الوادي قط رحى فإذا سئلوا عن ذلك قالوا: نتخذ هذا الماء المبارك في إدارة الأرحاء!! وهم يتطيرون بها.
وعلى مصب (2) هذا الوادي في البحر رباط مقصود له موسم عظيم ومجتمع جليل، وهو مأوى للصالحين، وبين هذا الوادي ونول لمطة ثلاث مراحل في عمائر متصلة تسكنها جزولة ولمطة.
وإلى هذا الموضع ينسب الثائر الخارج على عبد المؤمن بن علي المعروف بمهدي ماست (3) وكان عبد المؤمن صير إليه الجيوش مرة بعد مرة فهزمهم وكثر شغبه وعظمت جموعه، فتوجه إليه بالعساكر الشيخ أبو حفص صاحب الإمام المهدي فواقعه، وكانت بينهم حروب صعبة، فانهزم هذا القائم وقتل أصحابه؛ وهذا فصل من الكتاب بالإعلام بذلك، وهو من إنشاء أبي جعفر بن عطية (4) :
كان أولائك الضالون المرتدون (5) من أهل ماست قد بطروا عدواناً وظلماً، وارتكبوا إفكاً وجرماً، وكان مقدمهم الشقي قد استمال النفوس بخزعبلاته، واستغوى القلوب بمهولاته، ونصب به
الشيطان ما شاء من حبالاته، فأتته المخاطبات من بعد وكثب، ونسل إليه الرسل من كل حدب، واعتقدته الخواطر الزائغة أعجب عجب، وكان للناس هناك موقف أخذت الحرب فيه حقوقها، ونهجت به طريقها، وعرفت به رجالها وفريقها، وكنا نحن بخاصتنا في الساقة فحملنا على من يلينا من الأعداء، وحملت كل قبيلة على من يليها على الولاء، فكانت هناك كرات شهيرة، وحملات كثيرة، وظهر لأعداء الله تجلد لم ير قط لأمثالهم، ولا تخيل من أفعالهم، وذلك أنهم كانوا يعاينون غويهم لا تنقله الحملات ولا تحركه، ولا تزيله المنية عنه ولا تتركه، فكانوا ينظرون إليه، ويظهرون الجلد والاجتهاد لديه، فلما عاينه الموحدون واقفاً بمكانه، مقبلاً على بهتانه، قصدوا بعون الله لإطفاء ناره وكف عنانه، فصرع لحينه، وأتته نوافذ الخطيات عن يساره ويمينه، وعاد لوقته طريحاً، تقلب منه المنايا قلباً قريحاً، فانهزم من كان له من الأحزاب، وتساقطوا على وجوههم تساقط الذباب، ولم تقطر كلومهم إلا على الأعقاب، ودعت الضرورة باقيهم إلى الترامي في الوادي، ودام الموحدون في الإصرار على قتلهم والتمادي، فمن كان منهم يؤمل الفرار ويرتجيه، وسبح طامعاً في الخروج إلى ما ينجيه، اختطفته الأسنة هناك اختطافاً، وأذاقته موتاً ذعافاً، ومن لج في الترامي على لججه، ورام البقاء بثبجه، قضى لحينه شرقه، ولوى بدينه غرقه، وكان دخولهم فيه في أول مده إلى حين ابتداء الوادي في جزره ونقصانه، وكفه عن حملاته وطغيانه، فدخل الموحدون إلى البقية الكائنة فيه ينالونهم طعناً وضرباً، ويلقونهم هولاً عظيماً وكرباً، حتى انبسطت مراقات الدماء، على صفحات الماء، فحكت حمرتها على زرقه حمرة الشفق في زرق السماء، فمن لم تدركه منيته بسنان، أدركه الغرق بشر مكان.
مادغوس (6) :
قبر مادغوس بقرب جبل أوراس، وهو قبر مثل الجبل الضخم مبني بآجر دقيق قد بني وعقد بالرصاص، وصورت فيه صور الحيوان من الأناسي وغيرهم، وهو مدرج النواحي، وفي أعلاه شجرة ثابتة (7) وقد اجتمع على هدمه من سلف فلم يقدروا على ذلك، وفي الشرق من هذا القبر بحيرة مادغوس وهي (8) مجتمع لكل طائر.
__________
(1) الاستبصار: 211 (وادي ماسة) ، وقد مر هذا في مادة ((السوس)) .
(2) البكري: 161.
(3) هو محمد بن عبد الله بن هود ثار سنة 541، وكان قصاراً على ضفة بحر سلا فادعى الهداية وسمى نفسه الهادي واستقر برباط ماسة واحتشدت إليه الأتباع (البيان المغرب 3: 26 - تطوان) .
(4) كان أبو جعفر ابن عطية كاتباً لإسحاق بن علي بن يوسف اللتموني، فلما ذهبت الحملة ضد الماستي خرج فيها مستخفياً في جملة الرماة، فلما انتصر الموحدون طلب الشيخ أبو حفص كاتباً يكتب عنه بخبر الفتح إلى عبد المؤمن، فعرف بابن عطية فكتب هذه الرسالة التي أعجبت عبد المؤمن والحاضرين في مجلسه، فقربه عبد المؤمن وجعله كاتبه ثم حدثت شؤون جعلته يقتله (انظر البيان المغرب 3: 26 - 27، 35، والمعجب: 267، والإحاطة 1: 271، واعتاب الكتاب: 225، وقد ورد في المصدرين الأخيرين مقتطفات من الرسالة المشار إليها، وفي بعض العبارات اختلاف عما أورده المؤلف) .
(5) ص ع: الظالمون والمرتدون.
(6) البكري: 50، والاستبصار: 164.
(7) البكري: نابتة.
(8) ص ع: وهو.(1/522)
متيجة (1) :
مدينة بالقرب من الجزائر، على نهر كبير عليه الأرحاء والبساتين ولها مزارع ومسارح، وهي أكثر تلك النواحي كتاناً، ومنها يحمل، وفيها عيون سائحة وطواحن ماء.
مثوب (2) :
موضع قريب من حضرموت، فيه نزل وهرز الذي أرسله كسرى أنوشروان مع سيف بن ذي يزن لغزو الحبش في الزمن السالف، كان وجه معه من أهل السجون جنداً وقال: إن فتحوا فلنا، وان هلكوا فلنا، فلما مضوا مع وهرز الديلمي وكان رامياً شجاعاً فركبوا البحر إلى ساحل حضرموت ثم نزلوا بمثوب هذا، وأمر وهرز بتحريق السفن لئلا يخطر لهم الفرار، وقال في ذلك رجل من حضرموت:
أصبح في مثوب ألف في الجنن ... من رهط ساسان ورهط وهرزن
ليخرجوا السودان من أرض اليمن ... دلهم قصد السبيل ذو يزن وفي القصة طول، وهي مشهورة.
مجنة (3) :
ماء بازاء عكاظ، ومجنة على ثلاثة أميال من مكة بناحية مر الظهران وكان في الجاهلية سوقاً من أسواق العرب مثل عكاظ وذي المجاز، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول مبعثه يأتي هذه الأسواق في مواسم يعرض نفسه على القبائل ويدعو إلى الله تعالى وإلى ما جاء به، وأقام على ذلك أعواماً، فمنهم من يحسن الرد ومنهم من يسيئه، إلى أن أظهر الله دينه ونصر نبيه، وفي ذكر عكاظ طرف من هذا.
مجريط (4) :
مدينة بالأندلس شريفة بناها الأمير محمد بن عبد الرحمن، ومن مجريط إلى قنطرة ياقوه (5) وهي آخر حيز الإسلام، أحد وثلاثون ميلاً. وفي مجريط تربة تصنع منها البرام وتستعمل على
النار عشرين سنة لا تنكسر، وما طبخ فيها لا يكاد يتغير في حر الهواء ولا برده، وحصن مجريط من الحصون الجليلة، وهو (6) من بناء الأمير محمد بن عبد الرحمن.
وذكر ابن حيان في تاريخه الخندق الذي خندق بخارج سور مجريط، قال: عثر فيه على قبر برمة عادية كان طولها إحدى وخمسين ذراعاً التي هي مائة شبر وشبران من قمحدوة رأسه إلى طرفي قدميه، وصح هذا بالثبت من مخاطبة قاضي مجريط ووقوفه عليه ومعاينته إياه ومعاينة شهوده ذلك، وأخبر أن مقدار ما وسعه تجويف قحف دماغه ما قدره ثمانية أرباع أو نحوها، فسبحان من له في كل شيء آية.
ومجريط (7) ، مدينة صغيرة وقلعة منيفة، وكان لها في زمن الإسلام مسجد جامع وخطبة قائمة. وهي بمقربة من طليطلة.
مجدونيه (8) :
مدينة مجدونية قاعدة الروم الإغريقيين، ومنها أرسطاطاليس فيلسوف الروم وعالمها وطبيبها وجهبذها وخطيبها، وهو معلم الاسكندر وله إليه رسائل.
ومن رسائله هذه الرسالة الفذة الصغيرة في حجمها الكبيرة في معناها، قالوا: اشتملت على مصالح الدنيا والآخرة، قال فيها علي بن رضوان المصري: وقد (9) وضع العارف أرسطاطاليس مقالة كتبها على طريق البلاغة جمع فيها ما إذا نصبه الإنسان غرضاً في مطلوب من مطالب السعادة الذاتية المسماة فلسفة، والعرضية المسماة بحثاً، وصل إلى مطلوبه، قال: وأنا أشير على كل من وقف عليها أن يعمل فيها ما عملناه وفرضناه على أنفسنا، وذلك أني أقرؤها في كل يوم مرة واحدة أتدبر معانيها وألزمها في مطلوباتي فأبلغ منها إلى ما ألتمسه، وهذا لفظ العارف:
قال (10) : أما بعد، فإن حقاً على العاقل أن ينظر إلى محاسن الناس ومساوئهم وموقعها منهم في منافعها ومضارها، ثم يلتمس المنافع لنفسه من مثل ما نفعهم، ويتقي المضار عنها من مثل ما
__________
(1) البكري: 65 - 66، وانظر الحديث عن فحص متيجه في الاستبصار: 132، وراجع مادة ((جزائر بني مزغنا)) .
(2) متابع لمروج الذهب 3: 164؛ ع ص: متوف.
(3) انظر معجم ما استعجم 4: 1187، وراجع مادة ((عكاظ)) ؛ وياقوت (مجنة) .
(4) بروفنسال: 179، والترجمة: 216 (Madrid) وانظر دراسة عن مدريد الإسلامية للدكتور محمود مكي (القاهرة: 1968) .
(5) ص ع: ماقوه، بروفنسال: ماقدة.
(6) ص ع: وهي.
(7) معظمه عن الإدريسي (د) : 188.
(8) البكري (ح) : 228 (Macedonia) .
(9) ع: رفع؛ ص: دفع.
(10) أوردها المبشر في مختار الحكم: 219.(1/523)
ضرهم، فيوظف الأمور وظائفها، ويجعل بين طبقاتها (1) حدوداً تزايل بينها، ثم يأخذ لنفسه آلة تأديبها في إحياء علم ما علم من الأمور بالعمل، واستجلاب ما جهل بالتعلم، ثم يكون تأديبه لنفسه في غير وقت واحد ولا معلوم، فإنه واجد في كل حين من أحايينه وطبقة من طبقات الدهر التي هو راكبها، أو في حال من حالات نفسه التي تتحرك إليها من ضروب الجد أو الهزل، أو الفرح أو الحزن، أو الإقامة أو الظعن، موضع تأديب لنفسه وتقويم لها حتى لا يكون لأهل طبقة من الطبقات، رفيعة كانت أو وضيعة، عليه في طبقتهم التي يشاركهم فيها فضل، فان امرءاً لا يلتمس أن يكون له فضل على أهل منزلة من المنازل إلا دعاه فضله عليهم إلى الرغبة عنهم، حتى ترقى به منزلته إلى مشاركة أهل المنزلة التي فوق منزلته، فإن التماس الراحة بالراحة يذهب الراحة ويورث النصب، لأن تأديب المرء نفسه داعية إلى نقله إلى الأرفعين إن كان ذا رفعة، ومن الأخسين إن كان ذا خساسة، وترك التأدب ضرر، وذو الضرر نصب عامل فقير، فمنهاج التأديب تيقيظ النفس بالأدب، ثم لا يمنعك عصيانها من إدامة تيقيظها، فإن إلحاحك عليها مع حبها الراحة سيحملها على طلب الراحة بتنقيص الطاعة، ولا يلبث الذي ينتقص، وإن كان كثيراً، أن يترك قليلاً، وإذا همت النفس ببعض الإجابة كان أولى ما تؤخذ به إعطاء الدين لحقه وإشعار النفس حظها ثم تعهد الإخوان بالملاطفة، فإن التارك متروك، ثم الاستكثار من فوائد الإخوان، فإن كثرتهم تقيل العثرة وتنشر المحمدة، ثم تأدية الفروض إلى أهل المكاسرة (2) المتشبهين بالإخوان، والصبر عليهم إما طمعاً في تحويل ذلك منهم صدقاً، وإما اتقاء كلمة فاجر وقعت في سمع مائق ذي دولة، ثم اعطاء إخوان الإخوان شعبة من الحفظ والتذكير، فإن إخوان الإخوان من الإخوان، وهم بمنزلة العلم المستدل به على الوفاء، ثم إن تقضى (3) محن الإخوان التي يمتحنون بها عند الناس: أما عند الموت فبحفظه في العقب، وأما عند الزمانة فبحفظه على حال الضعف، وأما عند الحاجة فبحفظه (4) عن المسكنة، ثم وزن ما نلت بما أنلت، ثم حسن التقاضي (5) إن ظن لك فضل بإسقاط المن وإحراز الفضل، والسخط على نفسك في التقصير، ثم تعهد الملوك بالتقريظ والملازمة فإن همتها في أنفسها الامتداح وفي الناس الاستغناء (6) ، ثم تعهد النصحاء بالممالأة (7) فإن نصيبهم منك واستفادتك منهم في الخلوة، ثم تعهد الصلحاء بالمصافاة لتعرف بمثل ما عرفوا به من الخير، ثم تعهد الأكفاء بالمكارمة (8) فإنها تحسم البخل وتجري الإخاء، ثم تعهد الخاصة (9) بتفتيش الداخلة، ثم تعهد ذوي الرحم بالرحمة وأقوياءهم بالتعليم، فإن رحمتك ذوي الرحم تورثك برهم وتعليمك ذوي القوة منهم تورثك نفعهم، ثم تعهد المعيشة بالإصلاح من غير تحبس للمستوجبات لما يجب لها، ثم تعهد الأعداء بالأذى، وذوي الاغتيال بالمناقضة (10) ، وذوي التنصل بالمغفرة، وذوي الاعتراف بالرأفة والرحمة، وذوي المواثبة بالوقار، وأهل المشاتمة بالمحقرة، وأهل المناقشة بالمكاثرة، وأهل الموادعة بالاحتراس، ثم الأخذ في الشبهات بالكف، وفي المجهولات بالإرجاء، وفي الواضحات بالعزيمة، وفي المستريبات بالبحث، ثم إحياء الحزم عند المكاره، والصبر عند النوائب، والتحمل عند الغيظ، والكظم عند الغضب، والوقار عند المستجهلات، ثم تعهد الجار بالرفق، والقرين (11) بالمواساة، والصاحب بالمطاوعة، والزائر بالتحفة، ثم صحبة الملوك بكتمان السر وإرشاد الأعمال وتقريظ الأفعال، ثم قس بين خيار إخوانك وشرارهم، ثم انظر أي الفريقين تستجمع به مودتهم، فإن كان تشبهك بخيارهم زادك عند شرارهم نفاقاً، وإن كان تشبهك بشرارهم زادك عند خيارهم كساداً، فإن أحق الأمرين يجمعهم جميعاً لك إن شاء الله تعالى والسلام.
مجدول:
موضع على نحو عشرين ميلاً من القيروان كانت فيه وقيعة بين يحيى بن إسحاق الميورقي وبين صاحب تونس يومئذ السيد أبي زيد بن أبي العلا ادريس من بني عبد المؤمن فانهزم يحيى ورجع السيد ظافراً، وفي ذلك يقول عثمان بن عتيق المهدوي:
__________
(1) المختار: وظائفها.
(2) ص والمختار: المكاشرة.
(3) المختار: ثم أن اقصى.
(4) ما بين معقفين في النص زيادة من المختار.
(5) المختار: التعاطي.
(6) المختار: الامتداح في الناس بالاستعباد.
(7) المختار: بالمخالاة.
(8) المختار: بالمكافأة.
(9) المختار: الحامة.
(10) ص ع: الاعتبار بالمناقصة.
(11) ص ع: والفريق.(1/524)
لقد أيد الله المقام المكرما ... وسنى له الصنعين فتحاً ومغنما
مجانة المطاحن (1) :
بإفريقية، مدينة قديمة، فيها مقطع حجار الأرحاء لا يعدلها شيء من الحجارة، وبينها وبين مرماجنة مرحلة كبيرة، وهي مدينة صغيرة عليها سور تراب، وكان يزرع بها قديماً بصل الزعفران، ولها واد غزير الماء يأتي من جبل بمقربة منها يزرعون عليه غلاتهم، وهو جبل شاهق ومنه تقطع أحجار المطاحن التي إليها تنتهي الجودة وحسن الطحن، حتى إن الحجر الواحد منها ربما مر عليه عمر الإنسان فلا يحتاج إلى نقاش لصلابته ودقته، والعرب متغلبة على أرضها، وبينها وبين القسنطينة ثلاث مراحل.
المحصب (2) :
بمكة معروف مأخوذ من الحصباء، وقال الشاعر:
ولم أر ليلى قبل موقف ساعة ... بخيف منى ترمي جمار المحصب
محسر (3) :
واد بالمزدلفة وهو جمع، وعن جابر رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة، وجمع كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسر ".
المختارة:
مدينة على الدجلة، وعلى مسيرة يوم من البصرة، وبالقرب من مدينة عبادان، سماها بذلك الدعي المتغلب على البصرة سنة ثمان وخمسين ومائتين، وهو المعروف بصاحب الزنج، وكان حاصرها وقتل من أهلها ثلثمائة ألف، وقتل بعد أن دخلها مائتي ألف، وحرق عامتها وهدم المسجد الجامع وحرقه بالنار، واسمه محمد بن علي بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب، وخرج في خلافة المعتمد والمهتدي بالله العباسي، وكان الذي طاوله في تلك الحروب طلحة بن جعفر المتوكل المعروف بالموفق إلى ثلاث سنين وثمانية أشهر إلى أن قتله، وسيق رأسه إلى بغداد وطيف به، وكان يوماً عظيماً، وكان هذا
الدعي سكن المختارة بسودانه الذين قاموا معه من عبيد أهل البصرة وغيرهم، وكانت مدته إلى أن قتل ست عشرة سنة، وكان موته بسهم أصابه في نحره بين الصفين وهو ينشد:
لميتة يلقها الإنسان واحدة ... خير له من لقاء الموت تارات وقصته مشهورة، وهي أطول من هذا.
مخيس (4) :
سجن بناه علي رضي الله عنه بالكوفة، قال الخليل: هو بفتح الياء، سجن الحجاج، لأنه موضع التخييس.
مدين (5) :
بالشام على ساحل بحر القلزم، وهي أكبر من تبوك، وبها البئر التي استقى منها موسى عليه السلام لسائمة شعيب عليه السلام قال الله تعالى " ولما ورد ماء مدين "، ويحكى أنها بئر معطلة (6) ، وسميت مدين بالقبيلة التي كان منها شعيب عليه السلام، وفيها معايش ضيقة وتجارات كاسدة، ومن مدين إلى أيلة خمس مراحل.
ومدين الذي سميت به البلدة هو مدين بن إبراهيم عليه السلام. وفي القرآن " وإلى مدين أخاهم شعيباً "، وقال بعضهم (7) : لم يكن شعيب عليه السلام من ذرية إبراهيم عليه السلام، وإنما هو من ذرية بعض من آمن به، وهم أصحاب الأيكة من ولد مدين بن إبراهيم، وسلط الله على قومه حراً شديداً أخذ بأنفاسهم، ثم بعث الله سحابة فوجدوا لها برداً، فلما صاروا تحتها أرسلها عليهم ناراً، فذلك قوله تعالى " فأخذهم عذاب يوم الظلة "، فاحترقوا كما يحترق الجراد في المقلى، وكانوا أهل كفر بالله وبخس في المكيال والميزان.
وزعم قوم أن أهل مدين بعث الله إليهم شعيباً من العرب العاربة والأمم الدائرة وليسوا من ولد مدين بن إبراهيم.
__________
(1) الإدريسي (د/ ب) : 118/ 87، وانظر الاستبصار: 161، والبكري: 49، 145.
(2) معجم ما استعجم 4: 1192.
(3) معجم ما استعجم 4: 1190.
(4) معجم ما استعجم 4: 1199.
(5) نزهة المشتاق: 112، وابن الوردي: 24، وصبح الأعشى 3: 188، وانظر ياقوت (مدين) وفي رحلة الناصري: 205 نقل عن الروض.
(6) ع ص: معظمة.
(7) الطبري 1: 365 وما بعدها.(1/525)
ومدين (1) في الطريق من مدينة النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصر، وهي بين جبال شامخة متكائدة (2) ، وبقرب مدين البئر التي استقى منها موسى عليه السلام، قد بني على أسها بيت من صخر فيه قناديل معلقة، وبها كهف شعيب كان يؤوي إليه غنمه، وفي الجبال التي هناك بيوت منقورة في صخر صم قد حفر في البيوت قبور، وفي تلك القبور عظام بالية كأمثال عظام الإبل، يكون مقدار كل بيت عشرين ذراعاً أو نحوها ولتلك البيوت روائح خبيثة لا يدخل الداخل فيها حتى يضع يده على أنفه من شدة النتن، يقال إنهم لما أخذهم عذاب يوم الظلة دخلوا فيه فهلكوا، وبقرب هذه البيوت تلال تراب عظيمة قيل إنها كانت مواضعهم (3) عامرة فخسف بها.
ومع (4) يهود مدين كتاب يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم كتبه لهم، وهم يظهرونه للناس حتى الآن، وهو في قطعة أديم قد اسودت لطول الزمن عليها، إلا أن خطها بين، وفي آخره: وكتب علي بن أبي طالب، غير معرب (5) ، وقال قوم: إنه بخط معاوية بن أبي سفيان، ولم يذكر علياً، وهو عند أهل قرية من ساحل مدين يقال لها مسي، ومن هناك لا تزال تسير والجبال تيامنك والبحر بيسارك حتى تفضي إلى أيلة.
المدائن (6) :
على سبعة فراسخ من بغداد على حافتي دجلة، فبهرسير هي المدينة الدنيا، وهي على أحد جانبيها مما يلي المشرق، وقصر كسرى وهو الإيوان هي المدينة القصوى، وهو القصر الأبيض الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وبها كان مقام الأكاسرة. وتلقاء مقعد الملك من سقف الإيوان حلقة من ذهب كان يعلق التاج منها بسلسلة من ذهب.
والمدائن (7) هي كانت دار مملكة الأكاسرة، والفرس اختاروها من مدن العراق، وكان أول من نزلها أنوشروان، وهي عدة مدن في جانبي دجلة الشرقي والغربي، منها المدينة التي يقال لها العتيقة، وفيها القصر الأبيض القديم الذي لا يدرى من بناه، وفي الجانب الشرقي أيضاً مدينة يقال لها أسبانبر، وفيها إيوان كسرى العظيم الذي ليس للفرس مثله، ارتفاع سمكه ثمانون ذراعاً، وبين المدينتين مقدار ميل، وفي هذه المدينة قبر سلمان الفارسي وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، ثم مدينة يقال لها الرومية، وبها كان أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين وبها قتل أبا مسلم داعية بني العباس، وفي الجانب الغربي من دجلة مدينة يقال لها بهرسير، ثم ساباط على فرسخ من بهرسير.
وهذه المدائن كلها هي المدائن وافتتحها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
وذكر أن الاسكندر، وهو كان أحد ملوك الأرض، وقيل إنه ذو القرنين المذكور في القرآن بلغ مشارق الأرض ومغاربها وله في كل إقليم أثر فبنى بالمغرب الإسكندرية، وبخراسان العليا سمرقند ومدينة الصغد، وبناحية الجبل جي وهي أصبهان، وبنى مدناً أخر في نواحي الأرض وأطرافها، وجال الدنيا كلها ووطئها فلم يختر منها منزلاً سوى المدائن، فنزلها وبنى بها مدينة عظيمة، وجعل عليها سوراً أثره باق، وهو المدينة التي تسمى الرومية في جانب دجلة الشرقي، وأقام الاسكندر بها راغباً عن بقاع الأرض كلها وعن بلاده ووطنه، ولم تزل مستقره مذ نزلها حتى مات بها، وحمل منها فدفن بالإسكندرية مكان أمه، فإنها كانت إذ ذاك باقية هناك، وكذلك ملوك الأكاسرة كلهم اختاروا المدائن وما جاورها منزلاً لصحة تربتها وطيب هوائها واجتماع مصب دجلة والفرات بها، فلم تزل دار مملكة الأكاسرة ومحل كبار الأساورة، ولهم بها آثار عظيمة وأبنية قديمة، منها الإيوان والقصر الأبيض المذكور جميع ذلك في سينية أبي عبادة.
ولما فرغ (8) سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من القادسية أمره عمر رضي الله عنه بالمسير إلى المدائن وأن يخلف النساء والعيال بالعتيق ويجعل معهم كنفاً (9) من الجند ففعل، وعهد إليه أن يشاركهم في كل مغنم ما داموا يخلفون المسلمين في عيالاتهم، فقدم سعد زهرة بن الحوية نحو اللسان، وهو لسان البر الذي
__________
(1) البكري (مخ) : 77.
(2) البكري: متكاثرة.
(3) البكري: مواضع.
(4) النقل عن البكري مستمر.
(5) لعل المقصود: وكتب علي بن أبو طالب.
(6) قد كرر المؤلف في هذه المادة ما ذكره في ((الأبيض)) و ((بهرسير)) ... الخ؛ وانظر ابن الوردي: 29، وياقوت (المدائن) ، وآثار البلاد: 453.
(7) معتمدة هنا اليعقوبي: 320 - 321.
(8) الطبري 1: 2419.
(9) الطبري: كثفاً.(1/526)
أدلعه في الريف، وعليه الكوفة اليوم وكانت عليه قبل اليوم الحيرة، وكان النخيرجان معسكراً به، فارفض ولم يثبت حين سمع بمسيرهم ولحق بأصحابه.
ثم قدم (1) سعد العساكر عليهم أمراؤه ثم ارتحل يتبعهم بعد الفراغ من أمر القادسية، وكل المسلمين فارس مؤد، قد نقل الله عز وجل إليهم ما كان في عسكر فارس من كراع وسلاح ومال، فسار زهرة حتى نزل الكوفة وهي حصباء ورملة حمراء، ومضى زهرة إلى المدائن، فلما أتى برس لقيه بصبهرى في جمع فناوشهم زهرة فهزمهم وهربوا إلى بابل، وبها فالة الفارسية وبقايا رؤسائهم، وكان زهرة قد طعن بصبهرى في يوم برس فمات من طعنته بعد ما لحق ببابل، وأقبل عند ذلك دهقان برس، وهو بسطام، فاعتقد من زهرة وعقد لهم الجسور وأتاه بخبر الذين اجتمعوا ببابل، فكتب بذلك زهرة إلى سعد، فأتاه الخبر وقد نزل بالكوفة على من بها مع هاشم بن عتبة، فقدمهم ثم اتبعهم، فنزلوا على الفيرزان ببابل، فاقتتلوا فهزموا المشركين في أسرع من لفت الرداء، فانطلقوا على وجوههم (2) ، ولم يكن لهم همة إلا الإفتراق، فخرج الهرمزان نحو الأهواز وخرج الفيرزان حتى طلع على نهاوند وبها كنوز كسرى فأخذها وأكل الماهين، وصمد النخيرجان ومهران الرازي للمدائن حتى عبرا بهرسير إلى جانب دجلة الآخر، ثم قطعا الجسر.
ونزل سعد (3) بالناس على بهرسير شهرين يرمونهم بالمجانيق ويدبون إليهم بالدبابات ويقاتلونهم بكل عدة، وكان سعد عندما نزلها وعليها خنادقها وحرسها وعدة الحرب استصنع شيرزاد المجانيق، وكان اعتقد منه بأداء الجزية، فنصب على أهلها عشرين منجنيقاً فشغلهم بها، وقاتلهم المسلمون، وكانت على زهرة بن الحوية يومئذ درع مفصومة، فقيل له: لو أمرت بهذا الفصم، فسرد فقال: ولم؟ فقالوا: إنا نخاف عليك منه، فقال: إني لكريم على الله تعالى ان ترك سهم فارس الجند كله ثم أتاني من هذا الفصم حتى يثبت في، فكان أول رجل من المسلمين أصيب يومئذ بنشابة نشبت فيه من ذلك الفصم، فأرادوا نزعها فقال: دعوني فإن نفسي معي ما دامت في، لعلي أن أصيب فيهم بطعنة أو ضربة أو خطوة، فمضى نحو العدو فضرب بسيفه شهربراز من أهل اصطخر فقتله، وأحيط به فقتل وانكشفوا، وقيل بل غيره صاحب القضية، لأن الصحيح أن موته كان بعد ذلك.
وأشرف (4) على الناس وهم يحاصرون بهرسير رجل من الفرس فقال: يقول لكم الملك هل لكم إلى المصالحة على أن لنا ما بيننا وبين دجلة وجبلنا، ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم؟ أما شبعتم لا أشبع الله بطونكم؟ فبدر الناس أبو مفزر (5) الأسود بن قطبة، فأنطقه الله عز وجل بما لا يدري ما هو ولا نحن، فأجابه بالفارسية ولا يعرف منها شيئاً هو ولا نحن، فرجع الرجل ورأيناهم يقطعون إلى المدائن فقلنا: يا أبا مفزر، ما قلت لهم؟ قال: لا والذي بعث محمداً بالحق ما أدري ما هو، إلا أني غلبتني سكينة، وأرجو أن أكون أنطقت بالذي هو خير، وانتابنا الناس يسألونه حتى سمع ذلك سعد فجاءنا فقال: يا أبا مفزر: ما قلت لهم، فوالله إنهم لهراب؟ فحدثه بمثل حديثه إيانا، فنادى في الناس ثم نهد بهم فما ظهر على المدينة أحد ولا خرج إلينا إلا رجل نادى بالأمان، فأمناه، فقال: ما بقي أحد فيها، فما يمنعكم، فتسورها الرجال وافتتحناها فما وجدنا فيها شيئاً ولا أحداً إلا أسارى أسرناهم خارجاً منها، فسألناهم وذلك الرجل: لأي شيء هربوا؟ فقال: بعث إليكم الملك يعرض عليكم الصلح فأجبتموه إنه لا يكون بيننا وبينكم صلح أبداً حتى نأكل عسل افريذين بأترج كوثا، فقال الملك: واويلاه، أرى ملائكة تكلم على ألسنتهم فترد علينا وتجيبنا عن العرب، ووالله لئن لم يكن كذلك ما هو إلا شيء ألقي على في هذا الرجل لننتهي، فأرزوا إلى المدينة القصوى. ثم دخل سعد بهرسير وأمر بها فثلمت وتحول العسكر إليها، ولاح لهم في جوف الليل القصر الأبيض، فقال ضرار بن الخطاب: الله أكبر أبيض كسرى هذا ما وعد الله ورسوله، وتابع التكبير حتى أصبحوا.
وقال القعقاع بن عمرو من شعر له:
فتحنا بهرسير بقول حق ... أتانا ليس من سجع القوافي
__________
(1) الطبري 1: 2420.
(2) ع ص: وجهين.
(3) الطبري 1: 2427.
(4) الطبري 1: 2429، وراجع ((افرندين)) .
(5) ع ص: مفوز.(1/527)
وقد طارت قلوب القوم منا ... وملوا الضرب بالبيض الخفاف ولما نزل (1) سعد بهرسير، وهي المدينة الدنيا من المدائن، طلب السفن ليعبر بالناس إلى المدينة القصوى منها، فلم يقدر على شيء، ووجدهم قد ضموا السفن، فأقاموا أياماً يريدونه على العبور فيمنعه الإبقاء على المسلمين، ودجلة قد طما ماؤها يندفق جانباها، فبينا سعد والمسلمون كذلك إذ سمعوا ليلاً قائلاً يقول: يا معشر المسلمين، هذه المدائن قد غلقت أبوابها وغيبت السفن وقطعت الجسور فما تنتظرون، فربكم الذي يحملكم في البر هو الذي يحملكم في البحر، فندب سعد الناس إلى العبور، وأتاه قوم من العجم لهم ذمة فدلوه على موضع أقل غمراً من موضعهم ذلك، ورأى سعد كأن خيول المسلمين اقتحمت دجلة فعبرتها وقد أقبلت من المد بأمر عظيم، فعزم لتأويل رؤياه على العبور، وفي سنة جود صيبها متتابع، فجمع الناس فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر فلا تخلصون إليه معه، وهم يخلصون إليكم إذا شاءوا، فيناوشونكم في سفنهم، وليس وراءكم شيء تخافونه، وقد رأيت من الرأي أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن تحصدكم الدنيا، إلا إني قد عزمت على قطع هذا البحر، فقالوا جميعاً: عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل، فقال: من يبدأ ويحمي لنا الفراض حتى تتلاحق به الناس لكيلا يمنعوهم الخروج، فانتدب له عاصم بن عمرو، وانتدب معه ستمائة من أهل النجدات، فاستعمل عليهم عاصماً فسار فيهم حتى وقف على شاطئ دجلة ثم قال: من ينتدب معي لنمنع الفراض من عدوكم حتى تعبروا فانتدب له ستون فجعلهم نصفين على خيول إناث وذكور ليكون أسلس لعوم الخيل، ثم اقتحموا دجلة واقتحم بقية الستمائة على أثرهم، وقد شدوا على حزمها وألبانها وقرطوها أعنتها وشدوا عليهم أسلحتهم، فلما رأتهم الأعاجم وما صنعوا أعدوا للخيل التي تقدمت خيلاً مثلها، فاقتحموا إليهم دجلة، فلقوا عاصماً في السرعان، وقد دنا من الفراض فقال: الرماح الرماح!! أشرعوها وتوخوا العيون، فالتقوا، فاطعنوا في الماء، وتوخى المسلمون عيونهم، فتولوا نحو البر والمسلمون يشمسون بهم خيولهم حتى ما يملكون منها شيئاً، فلحقوا بهم في البر فقتلوا عامتهم، ونجا باقيهم عوراناً، وتلاحق باقي الستمائة بأوائلهم الستين غير متعتعين وسميت كتيبة عاصم هذه كتيبة الأهوال لما رأى منهم في الماء والفراض.
ولما رأى (2) سعد عاصماً على الفراض وقد منعها أذن للناس في الاقتحام وقال: قولوا نستعين بالله ونتوكل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وتلاحق عظم الجند فركبوا اللجة، واعترضوا دجلة وإنها لمسودة تزخر، لها حدب تقذف بالزبد، فكان أول من اقتحم سعد بن أبي وقاص ثم أقحم الناس خيولهم، وقد قرنوا أنثى بكل حصان يتحدثون على ظهورها كما يتحدثون على الأرض، وطبقوا دجلة خيلاً ورجالاً حتى ما يرى الماء من الشاطئ أحد، وسلمان الفارسي يساير سعداً يحدثه، والماء يطفو بهم، والخيل تعوم، فإذا أعيا فرس استوى قائماً يستريح كأنه على الأرض، فقال قيس بن أبي حازم: إني لأسير في دجلة في أكثر مائها إذ نظرت إلى فارس وفرسه كأنه واقف ما يبلغ الماء حزامه، قال بعضهم: لم يكن بالمدائن أمر أعجب من ذلك، فقال سعد: ذلك تقدير العزيز العليم.
وفي رواية (3) ، أنه قال لسلمان وهو يسايره في الماء: والله لينصرن الله وليه، وليظهرن الله دينه، وليهزمن الله عدوه، إن لم يكن في الجيش بغي أو ذنوب تغلب الحسنات، فقال سلمان: يا أبا إسحاق الإسلام جديد، ذلل الله لكم البحر كما فرقه وذلله لبني إسرائيل والذي نفس سلمان بيده، لتخرجن منه أفواجاً كما دخلتموه أفواجاً، فخرجوا منه كما قال سلمان، ولم يفقدوا شيئاً ولم يغرق فيه أحد إلا رجلاً من بارق يدعى غرقدة زل عن ظهر فرس له شقراء كأني أنظر إليها عرياً تنفض عرفها، والغريق طاف، فثنى القعقاع بن عمرو عنان فرسه إليه، فجره حتى عبر، فقال البارقي، وكان من أشد الناس: أعجزت الأخوات أن يلدن مثلك يا قعقاع، وكانت للقعقاع فيهم خؤولة، ولم يذهب للمسلمين في الماء يومئذ شيء إلا قدح كانت علاقته رثة فانقطع فذهب به الماء فقال الرجل الذي كان يعاوم صاحب القدح معيراً له: أصابه القدر فطاح، فقال: إني أرجو والله ألا يسلبني الله قدحي من بين أهل العسكر، فإذا رجل من المسلمين ممن تقدم يحمي
__________
(1) الطبري 1: 2431.
(2) الطبري 1: 2434، 2438.
(3) الطبري: 2436.(1/528)
الفراض قد تناول القدح، وقد ضربته الرياح والأمواج حتى وقع إلى الشاطئ برمحه فجاء به إلى العسكر، فعرفه صاحبه فأخذه وقال لصاحبه الذي كان يعاومه: ألم أقل لك؟ فيروى أن عمر رضي الله عنه بلغه ما كان قال له صاحبه أولاً، فأنكره وأرسل إليه: أنت القائل أصابه القدر فطاح، تفجع مسلماً؟ وقال الأسود بن قطبة أبو مفرز يومئذ:
يا دجل إن الله قد أشجاك ... هذي جنود الله في قراك
فالشكر للذي بنا حاباك ... ولا تروعي مسلماً أتاك وفجأ المسلمون (1) أهل فارس من هذا العبور بأمر لم يكن في حسابهم فأجهضوهم وأعجلوهم عن جمهور أموالهم، وخرجوا هراباً، واستولى المسلمون على ما كان لهم من خزائن وثياب متاع وآنية وألطاف وما لا يدرى ما قيمته، وما كانوا أعدوا للحصار من البقر والغنم وكل الأطعمة والأشربة، فدخل المسلمون المدائن واستولوا على ذلك كله، ونزل سعد القصر الأبيض، ولما عبر المسلمون دجلة جعل أهل فارس ينظرون إليهم يعبرون ويقول بعضهم لبعض بالفارسية ما تفسيره بالعربية: والله إنكم ما تقاتلون الإنس وإنما تقاتلون الجن. وما زال حماة أهل فارس يقاتلون على ماء الفراض يمنعون المسلمين من العبور، حتى ناداهم مناد: على م تقتلون أنفسكم؟ فوالله ما في المدائن من أحد، فانهزموا واقتحمتها الخيول عليهم. وانتهى سعد إلى إيوان كسرى فقرأ " كم تركوا من جنات وعيون. وزروع ومقام كريم. ونعمة كانوا فيها فاكهين. كذلك وأورثناها قوماً آخرين " وصلى فيه صلاة الفتح، ولا تصلى جماعة، وتصلى ثمان ركعات لا يفصل بينهن، واتخذ الإيوان مسجداً وفيه تماثيل الجص رجال وخيل، فلم يمتنع هو ولا المسلمون من الصلاة فيه لأجلها، وتركوها على حالها، وأتم سعد الصلاة يوم دخلها لأنه أراد المقام بها. وبالمدائن كانت أول جمعة جمعت بالعراق في صفر سنة ست عشرة.
ولما جمعت الغنائم (2) ، قسم سعد بين الناس فيئهم بعدما خمسه، فأصاب الفارس اثني عشر ألفاً، وكلهم كان فارساً ليس فيهم راجل وقسم دور المدائن بين الناس فأوطنوها وبعث إلى العيالات فأنزلهم فيها وأقاموا بالمدائن حتى فرغوا من جلولاء وحلوان وتكريت والموصل، ثم تحولوا إلى الكوفة بعد وكتب سعد إلى عمر رضي الله عنهما بفتح المدائن وبهرب ابن كسرى.
والمدائن خربت منذ أزمان متقدمة، وعلى مقدار نصف فرسخ منها مشهد سلمان الفارسي رضي الله عنه.
المدينة:
هو اسم غلب على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل "، وقال تعالى: " وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق " وهي يثرب، قال عز وجل: " يا أهل يثرب لا مقام لكم " والدار، قال تعالى: " والذين تبوؤا الدار والإيمان "، وطيبة وطابة والعذراء وجابرة والمجبورة والمحبة والقاصمة وقد مر ذكرها في حرف الطاء.
وغلب على بلرم قاعدة مدن جزيرة صقلية اسم المدينة أيضاً، وفيها قال أبو علي بن رشيق يعنيها (3) :
أخت المدينة في اسم لا يشاركها ... فيه سواها من البلدان والتمس
وعظم الله معنى ذكرها قسماً ... قلد إذا شئت أهل العلم أو فقس
مدينة المنصور (4) :
بالعراق، بناها أبو جعفر المنصور وأضافها إلى نفسه، وهي مشرفة على دجلة، وهي بين دجلة والفرات ودجيل والصراة، وكان بنى على كل باب من أبواب المدينة مجلساً يشرف منه على ما يليه من البلاد من ذلك الوجه، وكانت أربعة أبواب، وهي: باب خراسان، وكان يسمى باب الدولة، وباب الشام، وباب الكوفة، وباب البصرة.
قالوا (5) : وبينما المنصور جالس في مجلس بهذه المدينة في أعلى باب خراسان مشرف على دجلة إذ جاء سهم عائر حتى سقط
__________
(1) انظر الطبري 1: 2440.
(2) الطبري 1: 2450.
(3) راجع مادة ((بلرم)) .
(4) ليست مدينة المنصور سوى بغداد؛ وقد مر ذكرها مفصلاً.
(5) مروج الذهب 6: 170 - 175.(1/529)
بين يديه، فذعر المنصور منه ذعراً شديداً، ثم أخذه فجعل يقلبه، فإذا مكتوب عليه بين الريشتين:
أتطمع في الحياة إلى التنادي ... وتحسب أن ما لك من معاد
ستسأل عن ذنوبك والخطايا ... وتسأل بعد ذاك عن العباد ثم قرأ عند الريشة الأخرى:
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وساعدتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر ثم قرأ عند الريشة الأخرى:
هي المقادير تجري في أعنتها ... فاصبر فليس لها صبر على حال
يوماً تريك خسيس القوم ترفعه ... إلى السماء ويوماً تخفض العالي قال: وإذا على جانب السهم مكتوب: همذان منها مظلوم في حبسك، فبعث من فوره بعدة من خاصته ففتشوا الحبوس والمطابق، فوجدوا شيخاً في بيت من الحبس فيه سراج يسرج، وعلى بابه جارية مسبلة (1) ، وإذا الشيخ موثوق بالحديد متوجه نحو القبلة يردد هذه الآية " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون "، فسئل عن بلده فقال: همذان، فحمل ووضع بين يدي المنصور، فسأله عن حاله، فأخبره أنه رجل من أبناء مدينة همذان وأرباب نعمتها، وأن واليك دخل إلى بلدنا، ولي ضيعة في بلدنا تساوي ألف ألف درهم، وأراد أخذها مني فامتنعت، فكبلني في الحديد وحملني، وكتب إني عاص، فطرحت في هذا المكان، فقال المنصور: مذ كم؟ قال: مذ أربعة أعوام، فأمر بفك الحديد عنه والإحسان إليه والإطلاق له وإنزاله أحسن منزل، وقال: يا شيخ، قد رددنا عليك ضيعتك بخراجها ما عشت وعشنا وأما مدينتك همذان فقد وليناك عليها، وأما الوالي فقد حكمناك فيه وجعلنا أمره إليك، فجزاه الشيخ خيراً ودعا له بالبقاء وقال: يا أمير المؤمنين، أما الضيعة فقد قبلتها، وأما الولاية فلا أصلح لها وأما واليك فقد عفوت عنه، فأمر له المنصور بمال جزيل وبر واسع، واستحله وحمله إلى بلده مكرماً بعد أن صرف الوالي وعاتبه على ما جنى من انحرافه عن سنة العدل، وسأل الشيخ مكاتبته في مهماته وأخبار بلده، وإعلامه بما يكون من ولاته على الحرب والخراج، ثم أنشأ المنصور يقول:
من يصحب الدهر لا يأمن تصرفه ... يوماً وللدهر إحلاء وإمرار
لكل شيء وإن دامت سلامته ... إذا انتهى فله لا بد إقصار
مدينة المائدة (2) :
في أحواز طليطلة، سميت بذلك لأنها وجد فيها المائدة المنسوبة إلى سليمان بن داود عليهما السلام وهي خضراء من زبرجد، حافاتها منها وأرجلها، وكان فيها ثلثمائة وخمسة وستون رجلاً، وانتهى إليها طارق حين مضى إلى طليطلة سنة ثلاث وتسعين.
المدان (3) :
بلد بالحجاز، به مات عيسى بن جعفر بن أبي جعفر سنة اثنتين وتسعين ومائة.
قال أبو العيناء: انصرف عيسى بن جعفر ليلة من عند الرشيد، وفي إصبعه خاتم فضة، فصه ياقوت أحمر قيمته عشرة آلاف دينار، فسقط فصه في الطريق، فطلب فلم يوجد، فقال: أطفئوا الشمع، فلما أظلم الطريق أضاء الفص فأخذه.
المذار (4) :
بالعراق، وهي مدينة ميسان، على ضفة دجلة،
__________
(1) مروج الذهب: ثوب مسبل.
(2) بروفنسال: 179، والترجمة: 216.
(3) ص ع: المدائن، ولا وجه لذكره هنا لو كان كذلك، فقد ذكرت المدائن من قبل، وعند ياقوت ((المدان)) بناحية الحرة الرجلاء في ديار قضاعة؛ والمدار - بالراء - موضع بالحجاز في ديار عدوان أو غدانة؛ ومن الصعب الاهتداء إلى حقيقة ما يريده المؤلف، إذ قرن الموضع بوفاة عيسى بن جعفر بن أبي جعفر، وعند ابن الأثير (6: 208) أنه توفي بالدسكرة؛ وعند ابن قتيبة (المعارف: 379) أنه مات بدير بين بغداد وحلوان، وهو شبيه بما قاله ابن الأثير.
(4) قارن بنزهة المشتاق: 121، وياقوت (المدار) ، واليعقوبي: 322.(1/530)
وهي عامرة بالأسواق والتجاريات، وهي صغيرة في قدرها، وبها مصانع، وأهلها متنافسون فيما بينهم، ولهم اهتمام بالأمور وصيانة لما بين أيديهم من أموالهم وشح مطاع، ولهم مزارع كثيرة وعمارات جليلة وغلاة رائجة، وهي ما بين واسط والبصرة.
وسميت (1) بالمذار لفساد تربتها، والمذار: الفساد في الرائحة.
وكانت وقعة (2) المذار في صفر سنة اثنتي عشرة على يد خالد بن الوليد، في خلافة الصديق رضي الله عنهما، خرج إليهم خالد في تعبئته، فاقتتلوا على حنق وحفيظة، ودعا قارن إلى البراز، فبرز له خالد وأبيض الركبان معقل بن الأعشى بن النباش، فابتدراه فسبقه إليه معقل فقتله، وقتلت فارس مقتلة عظيمة، وأقام خالد بالمذار وسلم الأسلاب لمن سلبها بالغة ما بلغت، وقسم الفيء ونفل من الأخماس ما نفل في أهل البلاد، وبعث بقيتها إلى أبي بكر رضي الله عنه، ودفع إلى أبيض الركبان سلب قارن وقيمته مائة ألف، وإلى عاصم وعدي سلب النوشجان وقباذ، وقتل ليلة المذار ثلاثون ألفاً سوى من غرق، ولولا المياه لأتي على آخرهم، ولم يفلت منهم من أفلت إلا عراة وأشباه العراة، ولم يلق خالد رضي الله عنه أحداً بعد هرمز إلا كانت الوقيعة الأخيرة أعظم من التي قبلها، ومن ذلك السبي كان يسار أبو الحسن البصري، وكان نصرانياً.
المروة (3) :
جبل بمكة معروف، والصفا جبل آخر بازائه، وبينهما قديد ينحرف عنهما شيئاً يسيراً، والمشلل هو الجبل الذي ينحدر منه إلى قديد، وعلى المشلل كانت مناة، فكان من أهل بها من المشركين، وهم الأوس والخزرج يتحرج أن يطوف بين الصفا والمروة، ثم استمروا على ذلك في الإسلام، فأنزل الله تعالى: " إن الصفا والمروة من شعائر الله " كذا روي عن عائشة رضي الله عنها. وقال أبو بكر بن عبد الرحمن: لما ذكر الله عز وجل الطواف بالبيت ولم يذكر الطواف بين الصفا والمروة قالوا: يا رسول الله، كنا نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله عز وجل الآية. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في طوافه بينهما يمشي حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى، وكان بدء هذا السعي أن إبراهيم عليه السلام لما أتى بهاجر إلى مكة وانتهى بها وابنها معها طفل صغير، وليس معهما إلا مزود تمر وقربة ماء، فأنزلهما هناك وانصرف عنهما، تبعته فقالت: يا إبراهيم آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا، فمكثت حتى فني الزاد والماء وانقطع لبنها، وجعل الصبي يتلمظ، فذهبت إلى الصفا فوقفت عليه، هل ترى من مغيث، فلم تر أحداً، فذهبت تريد المروة، فلما صارت في بطن الوادي سعت حتى خرجت منه، فأتت المروة فوقفت عليها، هل ترى أحداً، وترددت بينهما سبعة أشواط، فصارت سنة.
وذو المروة (4) من أعمال المدينة، قرى واسعة لجهينة.
مر الظهران (5) :
بفتح أوله وتشديد ثانيه وبالظاء المعجمة، موضع بينه وبين البيت ستة عشر ميلاً، ورد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي ترك طواف وداع البيت من مر الظهران، وكانت منازل عك مر الظهران، سميت مر لمرارة مياهها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل المسيل الذي من أدنى مر الظهران حتى يهبط من الصفراوات، وليس بين منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الطريق إلا مرمى حجر، وهناك نزل عند صلح قريش.
وبمر الظهران حصن كبير يسمى البوقة، وفيه كان مسكن أمير مكة شكر بن الحسن بن علي بن جعفر الحسني، وهناك ضياع كثيرة لأهل مكة ولبني جمح وبني مخزوم وغيرهم.
وببطن (6) مر تخزعت خزاعة عن إخوتها فبقيت بمكة وسارت إخوتها إلى الشام أيام سيل العرم، قال حسان بن ثابت رضي الله عنه (7) :
ولما نزلنا بطن مر تخزعت ... خزاعة عنا في الحلول الكراكر
__________
(1) معجم ما استعجم 4: 1203.
(2) الطبري 1: 2026.
(3) معجم ما استعجم 4: 1217.
(4) المصدر السابق: 1218.
(5) المصدر السابق: 1212، ونقل عن الروض صاحب صبح الأعشى 4: 260 وكذلك الناصري في رحلته، وتوقف عند قوله: ((وسمي مر لمرارة مائه)) فقال: ((ما رأينا به نحن إلا المياه العذبة الدافقة، فإن كان به غيرها من المياه فمسلم له قوله ... )) ، والمؤلف يتابع البكري الذي ينسب القول بمرارة الماء إلى كثير عزة، وهو محض تعليل للاسم لا غير.
(6) عاد إلى النقل عن معجم البكري.
(7) نسبه ياقوت (مر) لعون بن أيوب الأنصاري الخزرجي.(1/531)
ونزلت الأوس والخزرج يثرب، ونزل أزد عمان عمان، ونزلت خزاعة مراً كما قلناه، ونزلت أزد السراة السراة، وفيهم نزل: " لقد كان لسبأ في مسكنهم ".
وبطن مر (1) فيه عين ماء في مسيل رمل، وحوله نخيلات يأوي إليها قوم من العرب، ومن بطن مر إلى عسفان ثلاثة وثلاثون ميلاً.
المريسيع (2) :
قرية من قرى وادي القرى، وقال البخاري: هو ماء بنجد في ديار بني المصطلق من خزاعة، وقال ابن إسحاق: من ناحية قديد إلى الشام، غزاة رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ست فهي غزوة المريسيع وغزوة بني المصطلق وغزوة نجد، قال الزهري: وفيها كان حديث الإفك.
ثنية المرار (3) :
في حديث الحديبية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: " انزلوا "، فقيل: يا رسول الله ما بالوادي ماء ننزل عليه فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سهماً من كنانته فأعطاه رجلاً من أصحابه فنزل به قليباً من تلك القلب فغرز (4) في جوفه فجاش بالارواء حتى ضرب الناس فيه بعطن.
مداسة (5) :
مدينة من بلاد السودان، وهي متوسطة كثيرة العمارة، وفي أهلها معرفة، وهم على شمال النيل ومنه شربهم، وهي بلد أرز وذرة، وأكثر عيشهم من الحوت وتجارتهم بالتبر.
المربد:
موضع بالبصرة، قال جعفر بن سليمان: العراق عين الدنيا، والبصرة عين العراق، والمربد عين البصرة، وداري عين المربد، وفي مقصورة ابن دريد (6) :
فالمربد الأعلى الذي تلقى به ... مصارع الأسد بألحاظ المها
مركطة (7) :
مدينة بينها وبين بلاق مرحلة ببلاد السودان، وهي صغيرة لا سوق لها، مجتمعة الخلق متحضرة، وبها شعير يتعيشون منه، والسمك والألبان عندهم كثير، وإليها يدخل التجار في بحر القلزم.
مرو الشاهجان (8) :
من خراسان، وتسمى أم خراسان، والمرو بالفارسية المرح، والشاه الملك، وجان النفس، فمعناه " مرح نفس الملك "، وقال مسلم بن الوليد:
حنت بمرو الشاهجان تسومني ... أحداً أشطت لو تحس بذاكا وإذا أطلقوا مرو فإنما يعنون مرو الشاهجان، والنسبة إليها مروزي، وهو من شاذ النسب، ومن قصيدة زياد الأعجم التي رثى بها المغيرة بن المهلب:
إن السماحة والمروءة ضمنا ... قبراً بمرو على الطريق الواضح وفيها قتل يزدجرد آخر ملوك الفرس سنة إحدى وثلاثين، وهو ابن شهريار، وقتله الأعاجم، تولى قتله رجل ينقر الأرحاء، وسبيت له ابنتان فوجه بهما إلى العراق.
وبين مدينة (9) مرو وبلخ مائة وستة وعشرون فرسخاً، وتعرف بمرو الشاهجان الأولية البنيان، وقهندزها من بناء طهمورث، والمدينة القديمة من بناء ذي القرنين، ويقال إنه دعا لها بالبركة وقال: لا يصاب أهلها بسوء، وهي في أرض مستديرة بعيدة من الجبال وليس في شيء من حدودها جبل، وأرضها كثيرة الرمل وأبنيتها بالطين، وحدها من المشرق بشاطئ جيحون وفي الجنوب حدود الترمذ والبحر، وفي الشمال أوائل دروب خوارزم وفي المغرب أول حد سرخس، وهي سهلية رملية تحيط بها الرمال والمفاوز ويجري فيها نهر عظيم منه شربهم يقبل من ناحية الجنوب من مرو الروذ، وهو شرب مرو الروذ، وابتداؤه من حدود الباميان.
وفي مرو ثلاث مساجد للجمعات، لأن أول مسجد أقيم للجمعة ضاق عن الناس لما كثروا فبنى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه المسجد المعروف بالعتيق على باب المدينة حيث الجامع
__________
(1) نزهة المشتاق: 51.
(2) معجم ما استعجم 4: 1220.
(3) معجم ما استعجم 4: 1206، والسيرة 2: 310، ص ع: ثنية المراة، وهناك ثنية المرة (تخفيف مرأة) ، انظر معجم البكري: 1161، 1209.
(4) ع ص: فغرزها.
(5) ص ع: مراسة، ولهذا وردت في هذا الموضع، وكذلك هي في أصول نزهة المشتاق، والمؤلف ينقل عنه الإدريسي (د/ ب) : 8/ 9 (OG: 25) .
(6) شرح المقصورة: 146.
(7) الإدريسي (د) : 22 (OG: 41) ، ع ص: مركضة.
(8) معجم ما استعجم 4: 1216.
(9) قارن بالكرخي: 147، وابن حوقل: 298، 310، وياقوت.(1/532)
ومصلى العيد في رأس الميدان في مربعة أبي جهم، ويطوف به من جميع نواحيه البنيان والعمارات، وهو على نهر وعليه أبنية كثيرة من المدينة، وهو مما يلي ناحية سرخس. وللمدينة الداخلة أربعة أبواب: الباب الأول يلي المسجد الجامع، وباب يعرف بباب سنجان، وباب بالين وباب درمشكان (1) ، ومن هذا الباب يخرج إلى ما وراء النهر، وعلى هذا الباب عسكر المأمون أيام مقامه بها إلى أن انتهت إليه الخلافة ومرو أيضاً كانت معسكر الإسلام في أوله ومنها استقامت مملكة فارس للمسلمين لأن يزدجرد ملك فارس قتل بها في طاحونة، ومن مرو ظهرت دولة بني العباس لأن في دار أبي النجم المعيطي صنع أول سواد صنع ولبسته المسودة.
ومن صحة تربة مرو أن بطيخهم يقدد ويحمل إلى سائر البلاد، ولا يمكن في غيرها، وتكون البطيخة الواحدة بها من ربع قنطار وأكثر، ولا يكون موضع الزريعة منها إلا قدر موضع بيضة، وتضع منه شرائح وتجفف، ويؤكل جافاً أطيب منه رطباً وتصنع منه حلوى، ويجد الذي يأكله له رائحة عطرة لا تشبه بشيء، تبقى في يد المتناول أياماً وإن غسل بغاسول، وكان يجتلب منه للمأمون في كل عام بنحو عشرة آلاف دينار وأكثر، ومن معادنها يكون الاشبوعان الذي يحمل إلى سائر البلاد، ويرتفع من مرو الابريسم والقز الكثير والقطن الذي ينسب في سائر البلاد إليها، وهو غاية في اللين لا يعدل به ويتجهز به إلى الآفاق.
وحكوا ان امرأة من مرو كانت تلد البنات، فقيل لها: احمدي الله، فقالت: لا أحمد الله، فولدت قردة. قال المخبر: فرأيتها ترضعها في حجرها.
وبمرو كان سرير سلطنة خراسان من قديم الزمان، وفيها معظم العسكر، فأرسل الططر في الخفية إلى البلد: إن أنتم قاتلتمونا مثل أهل بلخ ونيسابور وهراة لم يبق منكم أحد، وفعلنا بكم كما فعلنا بهم ولا يغركم الجند فإنهم يفرون على خيولهم ويتركونكم في أيدينا، وأرسلوا إلى الجند: خلوا بيننا وبين الرعية والأموال وسيروا حيث تحبون، فتجادل الصنفان، وركن أهل البلد إلى تأمينهم، فلما ملكوا المدينة لم يبقوا على بلدي ولا جندي، ومن أفلت من الجند أدركته خيل الططر، وخرجت عليهم من كمائنهم التي وضعوها في البساتين والرساتيق، وجاءوا من كل حدب ينسلون، وانجلت الحال عن سبعمائة ألف قتيل من المسلمين وإنما عرف عددهم بأن وضعت عليهم (2) قطع القصب، وكان القتلى بنيسابور وبلخ وهراة أكثر مما كانوا بمرو، وهذه أمهات مدن خراسان التي كان المثل يضرب بعمارتها وعظمها، خربوها وقتلوا أهلها في بعض سنة، وفعلوا في مدارس هذه المدن وربضها ما تنبو عنه الأسماع، فسبحان من أرسلهم لطي الدنيا.
مرو الروذ:
بخراسان أيضاً، والمرو بالفارسية المرح كما قلناه والروذ الوادي، فمعناه: وادي المرح، لأن إضافتهم مقلوبة والنسبة إليها مرورودي، هذا هو المستعمل، وإن ينسب روذي.
وقالوا (3) : هذه أكبر من بوشنج وهي مدينة قديمة في مستو من الأرض بعيدة عن الجبال أرضها سبخة كثيرة الرمل وأبنيتها من الطين، وهي على غلوة سهم من النهر وفيها ثلاثة مساجد للجماعات ولها قصبة في نشز مرتفع، وماء المدينة يجلب إليها في قنوات كثيرة وللمدينة أربعة أبواب، وبمرو نهر عظيم تنبعث منه أنهار وتسقى بها الرساتيق وجملة ضياعهم، وفي هذه الضياع مبان متقنة ومتنزهات حسنة.
ومرو معتدلة الهواء حسنة الثرى ويقدد بها البطيخ ويحمل إلى كل الآفاق، ويرتفع من مرو الابريسم والقز الكثير ويتجهز منها بالقطن العجيب الذي ينسب في سائر الأقطار إليها، وهو الغاية في اللين وتعمل منه بها الثياب تحمل إلى كل الآفاق، ولها منابر مضافة إليها ومعدودة منها، وبين مرو الروذ ومرو (4) الشاهجان ست مراحل، ومرو الروذ ما بين مرو وبلخ وهي أقرب إلى مرو.
وافتتح مرو الروذ الأحنف بن قيس، وهو من قبل عبد الله بن عامر، في خلافة عثمان رضي الله عنه.
__________
(1) تصحفت أسماء الأبواب في ص ع فجاءت: بابن سنجار، وباب البر وباب دسيطا، وصوبته عن الكرخي.
(2) سقط من ع.
(3) نزهة المشتاق: 143، وقارن بابن حوقل: 369، والكرخي: 152، والمقدسي: 291، وياقوت، وتبدو بعض المعلومات مشتركة مع ما ذكر عن مرو الشاهجان، فهل خلط الإدريسي بين المدينتين أو أن النسخ مضطربة؟
(4) ص ع: وبين مرو.(1/533)
وفي سنة ثلاث ومائتين كانت بمرو ونواحيها من أرض خراسان زلازل كان أمرها غليظاً.
ولما بعث (1) ابن عامر الأحنف بن قيس إلى مرو الروذ حاصر أهلها وخرجوا إليه فقاتلوه فهزمهم المسلمون حتى اضطروهم إلى حصونهم، فأشرفوا عليهم فقالوا: يا معشر العرب: ما كنتم عندنا كما نرى، ولو علمنا أنكم كما نرى لكانت لنا ولكم حال غير هذه، فأمهلوا ننظر في أمرنا في يومنا، وارجعوا إلى عسكركم، فرجع الأحنف، فلما أصبح غاداهم وقد أعدوا له، فخرج من المدينة رجل من العجم معه كتاب فقال: إني رسول فأمنوني، فإذا هو ابن أخي مرزبان مرو، ومعه كتاب إلى الأحنف، وإذا فيه: إلى أمير الجيش، إنا نحمد الله الذي بيده الدول يغير ما يشاء من الملك، ويرفع من يشاء بعد الذلة، ويضع من يشاء بعد الرفعة، إنه دعاني إلى مصالحتك وموادعتك ما كان من إسلام جدي وما كان رأى من صاحبكم من الكرامة والمنزلة فمرحباً بكم وأبشروا، وأنا أدعوكم إلى الصلح على أن أؤدي إليكم خراجنا ستين ألف درهم، وأن تقروا بيدي ما كان ملك الملوك كسرى أقطع جد أبي حيث قتل الحية التي أكلت الناس وقطعت السبيل من الأرض والقرى بما فيها من الرجال، ولا تأخذوا من أحد من أهل بيتي شيئاً من الخراج ولا تخرجوا المرزبة من أهل بيتي إلى غيرهم، فإن جعلت ذلك لي خرجت إليك، وقد بعثت إليك ابن أخي ماهك ليستوثق بما سألت. فكتب إليه الأحنف: بسم الله الرحمن الرحيم، من صخر بن قيس أمير الجيش إلى باذان مرزبان مرو الروذ ومن معه من الأساورة والأعاجم، سلام على من اتبع الهدى، فإن ابن أخيك ماهك قدم علي فنصح لك جهده وأبلغ عنك، وقد عرضت ذلك على من معي من المسلمين، وأنا وهم فيما عليك سواء وقد أجبناك إلى ما سألت، وعرضت علي أن تؤدي عن أكرتك وفلاحيك والأرضين ستين ألف درهم إلي وإلى الوالي بعدي من أمراء المسلمين، إلا ما كان من الأرضين التي ذكرت أن كسرى الظالم لنفسه أقطعها جد أبيك، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده، وإن عليك نصرة المسلمين وقتال عدوهم بمن معك من الأساورة إن أحب المسلمون ذلك، وأن لك على ذلك نصر المسلمين على من يقاتل من ورائك من أهل ملتك، جار لك بذلك مني كتاب يكون لك بعدي، ولا خراج عليك ولا على أحد من أهل بيتك من ذوي الأرحام، وإن أنت أسلمت واتبعت الرسول، كان لك ما للمسلمين من العطاء والمنزلة والأرض وكنت أحدهم، ولك بذلك مني ذمتي وذمة أبي وذمة المسلمين وذمة آبائهم.
ثم إن (2) مرزبان الروذ تربص بحمل ما كان صالح عليه لاشتغال الأحنف والمسلمين بقتال أهل طخارستان وأهل الجوزجان والطالقان والفارياب، وكانوا أتوه في ثلاثين ألفاً في ثلاثة زحوف، فلما هزمهم الله تعالى ونصر المسلمين سرح الأحنف رجلين إلى المرزبان وأمرهما أن لا يكلماه حتى يقنعاه (3) ، ففعلا، فعلم أنهما لم يصنعا ذلك إلا وقد ظفروا، فحمل ما كان عليه.
مربلة (4) :
بالأندلس بقرب مرسى سهيل ومرسى مالقة، ومربلة مدينة صغيرة مسورة من بناء الأول محكمة العمل ممتنعة المرام، وهناك جبل منيف عال يزعم أهل تلك الناحية أن النجم المسمى سهيلاً يرى من أعلاه، ولذلك سمي أبو القاسم الأستاذ الحافظ مؤلف: " الروض الأنف " السهيلي (5) .
المرغاب:
نهر رزيق (6) ، قرية على سبعة فراسخ من مرو.
لما قتل يزدجرد آخر ملوك الفرس برزيق على يد طحان نزل عنده متنكراً، قيل شدخ رأسه بحجر، وقيل نذر بأنه مطلوب فهرب فنزل الماء وعليه ثيابه، فضرب طالبوه الطحان وقالوا: دلنا عليه، فقال: هاهنا تخلفته، وخرجوا يجولون في طلبه، فرآه رجل في الماء عليه ديباج، فأخذه، فقال: خلني وعم عني وأعطيك خاتمي ومنطقتي، فقال: أعطني أربعة دراهم، قال: الذي
__________
(1) الطبري 1: 2897.
(2) الطبري 1: 2902.
(3) الطبري: يقبضاه.
(4) بروفنسال: 180، والترجمة: 217 (Marbella) وهي على بعد ستين كيلومتراً إلى الغرب من مالقة.
(5) توفي السهيلي سنة 581، انظر ترجمته في التكملة رقم: 1613، والمطرب: 230، ونكت الهميان: 187، وقال الصفدي: وأصله من قرية بوادي سهيل من كورة مالقة، لا يرى سهيل في جميع المغرب إلا من جبل مطل على هذه القرية؛ قلت: وفي كلام صاحب الروض إيجاز يوهم ما يقوله الصفدي.
(6) ص ع: زرق، وانظر ياقوت (رزيق) - بفتح أوله وكسر ثانيه - قال: وذكره الحازمي بتقديم الزاي على الراء، وهو خطأ فإني رأيت أهل مرو يسمونه كما ذكرناه.(1/534)
أعطيك أعظم من الآلاف قيمة، قال: إنما أريد أربعة دراهم، فضحك وقال: قد كان قيل لي أنك ستحتاج إلى أربعة دراهم فلا تجدها، فهجموا عليه فقال لهم يزدجرد: لا تقتلوني فإنه من اجترأ على قتل الملوك عاقبه الله تعالى في الدنيا بالحرب وفي الآخرة بالنار، واحملوني إلى ملك العرب فأصالحه عليكم وتأمنون، فأبوا وأعطوا الطحان وتراً، فدنا منه كأنه يكلمه فرمى بالوتر في عنقه وخنقه، وأخذوا ثيابه فصيروها في جراب، وختموا الجراب وقتلوا الطحان، وأوثقوا يزدجرد في الماء وانصرفوا؛ وقال قوم: إن يزدجرد لما أوى إلى منزل الطحان فنام قتله الطحان وأخذ متاعه، وألقى جسده في المرغاب، وجاء الطالبون له فخفي عليهم أثره عند منزل الطحان، فأخذوه به فأنكر أن يكون رآه، فضربوه فأقر لهم بقتله، وأخرج متاعه، فقتلوه وأهل بيته، ثم أخرج يزدجرد من النهر، وصير في تابوت وحمل إلى الصحراء أول سنة إحدى وثلاثين، وكان قتله في رزيق.
المراغة (1) :
من أعمال الرقة التي هي واسطة ديار مضر، وبين الرصافة والمراغة أربعة وعشرون ميلاً، والمراغة في طرف البادية، وهو حصن عامر والعرب تسرح في أرضه.
والمراغة (2) مدينة حسنة كثيرة الخير والفواكه نزهة الأمطار لها بساتين وجنات وغلات، ويجلب إليها من بعض قراها بطيخ مستطيل أحمر الداخل أخضر الخارج طعمه يزيد على العسل في حلاوته.
وعلى ضفة (3) النيل بقرب أنصنا بلد صغير يسمى المراغة فيه نخل وقصب سكر وزراعات وبساتين، وهي بغربي النيل، وبينها وبين أنصنا نحو خمسة أميال.
ومن أهل المراغة الشريف المراغي صاحب التعليق في الخلاف وكتاب " الجدل ". وفي المراغة يقول الحافظ أبو طاهر السلفي:
سقى الله المراغة كل يوم ... وحياها المساء وفي الصباح
أقمنا بينهم زمناً وعشنا ... بأفضل عيشة بين الصباح
وكنا من كبار محدثيها ... بأخبار وآثار صحاح ورأيت من وجه آخر أن المراغة مدينة أذربيجان، ونزل عليها الططر سنة ثمان عشرة وستمائة، فحاصروها أياماً وقتلوا أهلها، وفتحوها عنوة ووضعوا السيف في أهلها، فقتلوا منهم ما يخرج عن الإحصاء، وسبوا وحرقوا وفعلوا من المنكرات ما يطول ذكره. ودخل رجل من الططر داراً بالمراغة فيها عدة من رجال ونساء يزيدون على مائة، فلم يزل يقتلهم واحداً بعد واحد حتى أفناهم، ولم يمد إليه أحد منهم يده بسوء، مما صب الله تعالى عليهم من الخذلان.
مرج الأمير (4) :
بالأندلس عند قرية مليس بقرب وادي آش، وبه عسكر الإمام عبد الرحمن بن محمد إذ كان محاصراً لحصن اشتبين.
مرج الصفر:
بالشام، به كانت وقيعة للمسلمين على نصارى الشام بعد وقعة أجنادين، وكان بين الوقيعتين عشرون يوماً، وكان ذلك قبل وفاة أبي بكر رضي الله عنه بأربعة أيام.
ولما كان (5) المسلمون على دمشق محيطين بها أتاهم آت فأخبرهم أن هذا جيش قد جاءكم من قبل ملك الروم، فنهض خالد بن الوليد بالناس، فقدم الأثقال والنساء مع يزيد بن أبي سفيان، ووقف خالد وأبو عبيدة رضي الله عنهما من وراء الناس، ثم أقبلوا نحو ذلك الجيش، فإذا هو الدرنجار بعثه ملك الروم في خمسة آلاف رجل من أهل القوة والشدة ليغيث أهل دمشق، فصمد المسلمون صمدهم، وخرج إليهم أهل القوة من دمشق وكثير من أهل حمص، فالقوم نحو خمسة عشر ألفاً، فلما نظر خالد
__________
(1) المؤلف ينقل عن نزهة المشتاق: 196، وصورة الكلمة عنده ((المراعة/ المزاغة/ المزاعة)) على التوالي، ولم أجد أحداً أشار إلى وجود بلد بهذا الاسم في منطقة الرقة، وأغلب الظن أن الصواب هو ((بزاعة)) ، وربما كان قلب الياء ميماً لهجة محلية.
(2) هذه المراغة هي الواقعة في بلاد أذربيجان، والنقل عن نزهة المشتاق: 205، وانظر الكرخي: 108، وابن حوقل: 288، وابن الفقيه: 284، وياقوت (المراغة) وآثار البلاد: 562، وتقويم البلدان: 398.
(3) الإدريسي (د) : 46 (OG: 125) ، وانظر التاج (مرغ) .
(4) بروفنسال: 181، والترجمة: 218.
(5) فتوح الأزدي: 82 - 84 مع بعض اختلاف.(1/535)
رضي الله عنه عبأ لهم أصحابه، فحملت خيلهم على خالد بن سعيد (1) وكان في الميمنة يقص على الناس، فقاتلهم حتى قتل رحمه الله، وحمل معاذ بن جبل رضي الله عنه من الميمنة فهزمهم، وحمل خالد بن الوليد رضي الله عنه من الميسرة فهزم من يليه، وحمل سعيد بن زيد بالخيل على عظم جمعهم فهزمهم الله تعالى وقتلهم واجتث عسكرهم، ورجع الناس وقد ظفروا وقتلوهم كل قتلة، وذهب المشركون على وجوههم، فمنهم من دخل دمشق مع أهلها، ومنهم من رجع إلى حمص، ومنهم من لحق بقيصر، فكانت قتلاهم في المعركة خمسمائة، وقتلوا وأسروا نحو خمسمائة أخرى، ثم إن الناس أقبلوا عودهم على بدئهم حتى نزلوا دمشق، فحاصروا أهلها وضيقوا عليهم، وكلما أصاب رجل نفلاً جاء به حتى يلقيه في القبض لا يستحل أن يأخذ منه قليلاً ولا كثيراً، إلى أن كان من أمر دمشق ما كان.
مرج عذراء:
بالشام بمقربة من دمشق بينهما اثنا عشر ميلاً.
وفي سنة (2) ثلاث وخمسين قتل معاوية بن أبي سفيان حجر بن عدي الكندي، وهو أول من قتل صبراً في الإسلام، حمله زياد بن أبيه من الكوفة ومعه تسعة (3) نفر من أصحابه من أهل الكوفة، وأربعة من غيرها، وكان زياد بن أبيه شكاهم إلى معاوية وأنهم ينكرون عليه، وخاف من خلافهم وإثارتهم الفتنة، فحملوا إلى دمشق، فلما صاروا على أميال من الكوفة يراد به دمشق أنشأت ابنة له تقول، ولا عقب له من غيرها:
ترفع أيها القمر المنير ... لعلك أن ترى حجراً يسير
يسير إلى معاوية بن صخر ... ليقتله كذا زعم الأمير
ويصلبه على بابي دمشق ... وتأكل من محاسنه النسور
تجبرت الجبابر بعد حجر ... وطاب لها الخورنق والسدير
ألا يا حجر حجر بني عدي ... تلقتك السلامة والسرور
أخاف عليك ما أردى عدياً ... وشيخاً في دمشق له زئير
ألا يا ليت حجراً مات موتاً ... ولم ينحر كما نحر البعير
فإن يهلك فكل عميد قوم ... إلى هلك من الدنيا يصير فلما صار إلى مرج عذراء تقدم البريد بأخبارهم إلى معاوية رضي الله عنه، فبعث برجل أعور، فلما أشرف على حجر وأصحابه قال رجل منهم: إن صدق الزجر فإنه سيقتل منا النصف وينجو الباقون، فقيل له: وكيف ذاك قال: أما ترون الرجل المقبل مصاباً بإحدى عينيه؟ فلما وصل إليهم قال لحجر: إن أمير المؤمنين قد أمرني بقتلك يا رأس الضلال ومعدن الكفر والطغيان والمتولي لأبي تراب، وقتل أصحابك، إلا أن ترجعوا عن كفركم (4) وتلعنوا صاحبكم وتتبرأوا منه، فقال حجر وجماعة ممن كان معه: إن الصبر على حد السيف لأيسر علينا مما دعوتنا إليه، ثم القدوم على الله تعالى وعلى نبيه صلى الله عليه وسلم وعلي وصيه أحب إلينا من دخول النار. وأجاب نصف ممن كان معه إلى البراءة من علي رضي الله عنه، فلما تقدم حجر ليقتل قال: دعوني حتى أصلي ركعتين، فخلوه، فطول في صلاته، فقيل له: أجزعاً من الموت؟ فقال: لا ولكني ما تطهرت للصلاة قط إلا صليت، وما صليت قط أخف من هذه، وكيف لا أجزع وإني لأرى قبراً محفوراً، وسيفاً مشهوراً، وكفناً منشوراً، ثم قدم فنحر، وألحق به من وافقه على قوله من أصحابه، والقصة مشهورة فلنقتصر على هذا.
مرج راهط:
بغوطة دمشق من الشام، فيه التقى مروان بن الحكم والضحاك بن قيس، وكان يدعو لابن الزبير.
وكان ابن الزبير (5) ، لما أطبق الناس على مبايعته، عزم مروان على مبايعته وأن ينضاف إلى جملته، فمنعه من ذلك عبيد الله
__________
(1) الأزدي: سعيد بن زياد.
(2) مروج الذهب 5: 15.
(3) ع ص: سبعة.
(4) ع ص: كفرك.
(5) عن مروج الذهب 2: 197 بإيجاز، وقد ورد بعضه في مادة ((قرقيسيا)) .(1/536)
ابن زياد وقال له: إنك شيخ بني عبد مناف فلا تفعل (1) ، فسار مروان إلى الجابية من أرض الجولان، بين دمشق والأردن، واستمال الضحاك بن قيس الفهري الناس ورأسهم وانحاز عن مروان (2) ، وأراد دمشق، فسبقه إليها الأشدق عمرو بن سعيد، فصار الضحاك إلى حوران والبثنية، ثم اتفقا على بيعة مروان على غير رضى من كثير من الناس، وكان يلقب خيط باطل، وفيه يقول عبد الرحمن بن الحكم:
لحى الله قوماً أمروا خيط باطل ... على الناس يعطي ما يشاء ويمنع وسار مروان نحو الضحاك بن قيس الفهري، وقد انحازت قيس وسائر مضر وغيرهم من نزار إلى الضحاك، ومعه ناس من قضاعة، فأظهر الضحاك ومن معه خلافة ابن الزبير، والتقيا بمرج راهط، فقتل الضحاك بن قيس، وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة، وكان زفر بن الحارث مع الضحاك، فلما أمعن السيف في قومه ولى ومعه رجلان من بني سليم قصر فرساهما، وغشيتهم اليمانية من خيل مروان، فقالا له: انج بنفسك فإنا مقتولان، فولى راكضاً، ولحق الرجلان فقتلا، وفي ذلك يقول زفر:
لعمري لقد أبقت وقيعة راهط ... لمروان صدعاً بيننا متنائيا
أريني سلاحي لا أبا لك إنني ... أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا
فقد ينبت المرعى على دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا
أتذهب كلب لم تنلها رماحنا ... وتترك قتلى راهط هي ما هيا
فلم ترى مني نبوة قبل هذه ... فراري وتركي صاحبي ورائيا
عشية أعدوا في الفريقين لا أرى ... من القوم إلا من عليا ولا ليا
أيذهب يوم واحد إن أسأته ... بصالح أيامي وحسن بلائيا
أبعد ابن عمرو وابن معن تتابعا ... ومقتل همام أرجي الأمانيا وانتهى زفر (3) إلى قرقيسيا فغلب عليها، واستقام الشام لمروان، وبث فيه رجاله وعماله، وسار في جنوده من أهل الشام إلى مصر فحاصرها، وكانوا زبيرية، وكان بينهم وبين مروان قتال يسير، وتوافقوا على الصلح، واستعمل ابنه عبد العزيز عليها فهلك مروان بدمشق في هذه السنة، وهي سنة خمس وستين، قيل مات مطعوناً، وقيل حتف أنفه، وقيل قتلته زوجته فاختة بنت أبي هاشم بن عتبة أم خالد بن يزيد بن معاوية، وكان قال له في جملة خطابه: يا ابن الرطبة، ليضع منه، فدخل على أمه فقبح عليها تزويجها مروان، وشكا لها ما نزل به منه، فقالت: لا يعيبك بعدها، فقيل: وضعت على نفسه وهو نائم وسادة وقعدت فوقها مع جواريها حتى مات، وقيل سقته لبناً مسموماً فوقع يجود بنفسه، وأسكت، فجعل يشير إلى أم خالد برأسه، يخبرهم أنها قتلته، وهي تقول: بأبي أنت وأمي، حتى عند النزع لم تشغل عني، إنه يوصيكم بي، حتى هلك، فكانت أيامه تسعة أشهر وأياماً، وقيل غير ذلك.
المرية (4) :
بالأندلس، مدينة محدثة أمر ببنائها أمير المؤمنين الناصر لدين الله عبد الرحمن بن محمد سنة أربع وأربعين وثلثمائة، وفيها يقول الشاعر:
قالوا المرية صفها ... فقلت مظ (5) وشيح
فقيل فيها معاش ... فقلت إن هب ريح وكان المجوس لما قدموا المرية وتطوفوا بساحل الأندلس والعدوة، فاتخذها العرب مرابطاً وابتنت بها محارس، وكان الناس ينتجعونها ويرابطون فيها، وهي اليوم أشهر مراسي الأندلس وأعمرها، ومن أجل أمصارها وأشهرها، وعليها سور حصين منيع بناه أمير المؤمنين
__________
(1) مروج الذهب: تعجل.
(2) زيادة من مروج الذهب.
(3) النقل مستمر عن مروج الذهب: 204.
(4) بروفنسال: 183، والترجمة: 221 (Almeria) ، وانظر الزهري: 101، وبعض ما أورده مؤلف الروض مشبه لما عند العذري: 86.
(5) ص ع: نظ؛ والمظ: الرمان البري.(1/537)
عبد الرحمن، وعلى ربضها المعروف بالمصلى سور تراب بناه خيران العامري، وكان قد أوصل إلى هذا الربض ماء العين التي هناك، وأجراه في سقاية، ثم أوصله محمد بن صمادح إلى سقاية عند جامعها داخل المدينة، واستطرد منه جدولاً يصب في أسفل القصبة ويرفع بالدواليب إلى أعلاه. ووادي بجانة يعم بالسقي بساتين المرية، والبحر بقبلي مدينة المرية، وقصبتها بجوفيها، وهو حصن منيع لا يرام، مديد من المشرق إلى المغرب، ولها باب قبلي يفضي إلى المدينة مسافة ما بين أول المصعد في الجبل وبينه مائتا ذراع وثمانون ذراعاً، ولها باب شرقي خارج عن أسوار المدينة، والربض متصل بجبالها، وهي أسهل مرتقى من الباب القبلي، وعرض ممشى السور الدائر بالقصبة خمسة أشبار، ومرسى المرية صيفي يكن شرقيه وغربيه.
وكانت المرية (1) في أيام الملثمين مدينة الإسلام، وبها من كل الصناعات كل غريبة، وكان بها من طرز الحرير ثمانمائة طراز، وتعمل بها الحلل والديباج والسقلاطون والأصبهاني والجرجاني والستور المكللة والثياب المعينة والعتابي والمعاجر وصنوف أنواع الحرير، وكانت فيما تقدم تصنع بها من صنوف آلات النحاس والحديد ما لا يحد، وكان بها من فواكه واديها الكثير الرخيص. وكانت المرية تقصدها مراكب التجار من الإسكندرية والشام، ولم يكن بالأندلس أكثر من أهلها مالاً؛ والمرية في ذاتها جبلان بينهما خندق معمور، وعلى الجبل الواحد قصبتها المشهورة بالحصانة، وفي الجبل الثاني ربضها، والسور يحيط بالمدينة والربض، ولها أبواب عدة، والمدينة كبيرة كثيرة الخيرات، وفيها ألف فندق إلا ثلاثين فندقاً، وكان الروم ملكوها فغيروا محاسنها وسبوا أهلها وخربوا ديارها.
المريس:
قالوا (2) البلد الذي يتصل من بلاد النوبة بأسوان يعرف بمريس، وإليها تضاف الريح المريسية.
ومن كلام ابن دأب (3) حين ذكر عيوب مصر عند الهادي قال: ومن عيوبها يا أمير المؤمنين الريح الجنوب التي يسمونها المريسية، فإذا هبت عليهم ودامت (4) اشترى أهل مصر الأكفان.
مراسيا:
مدينة بأرض الروم بالقرب من القسطنطينية، بها عينان إحداهما من شرب مائها أوتي عقله واستكمل أمره، والأخرى من شرب من مائها ركبه النسيان ورجف فؤاده.
مرسى الخرز (5) :
مدينة بشرقي مدينة بونة، وبينها وبين باجة مرحلة، وفي مدينة الخرز المرجان، وهو أجل مرجان يوجد بسائر الأقطار، ويقصدها التجار فيستخرجون منه الكثير، وهو ينبت كالشجر في البحر، يدار عليه القنب، فتلتف الخيوط على ما قاربها ويستخرجون منه الشيء الكثير مما يباع بالأموال الطائلة وعمدة أهلها على ذلك. وشرب أهلها من الآبار، وهي قليلة الزرع، إنما يجلب إليها قوتها من بوادي العرب المجاورة لها، وكذلك الفواكه ربما جلبت إليها من بونة وغيرها، وبين بونة ومرسى الخرز مرحلة خفيفة، وفي البحر أربعة وعشرون ميلاً.
ومدينة (6) مرسى الخرز قد أحاط بها البحر، إلا مسلك لطيف ربما قطعه البحر في الشتاء وعليها سور وبها سوق وعمارة، وفي هذه المدينة تنشأ السفن والمراكب البحرية، وإليها يقصد الغزاة من كل أفق، وبينها وبين سردانية مجريان في البحر. وبازاء مرسى الخرز بئر وبية الماء تعرف ببئر ابن راق (7) ، ويقول أهلها: طعنة مزراق خير من شربة من بئر ابن راق. وهذه المدينة (8) كثيرة الحيات، ويمتاز أهلها منهم بصفرة ألوانهم، ولا يكاد يخلو عنق الواحد منهم من تميمة، وجباية هذه المدينة عشرة آلاف.
مرسى علي (9) :
من جزيرة صقلية، وفيها أيضاً مرسى البوالص (10) ، ومرسى علي هذه كانت مدينة قديمة من أشرف بلاد صقلية، وكانت قد خربت ودثرت فعمرها القومس رجار الأول (11) وسور
__________
(1) عن الإدريسي (د) : 197.
(2) مروج الذهب 3: 32؛وقارن بآثار البلاد: 262 حيث ورد أن ((مريسة)) قرية بمصر من ناحية الصعيد.
(3) مروج الذهب 6: 273.
(4) مروج الذهب: ثلاثة عشر يوماً تباعاً.
(5) الإدريسي (د/ ب) : 116/ 85.
(6) البكري: 55، والاستبصار: 126.
(7) البكري أرزاق.
(8) ص ع: البئر.
(9) الإدريسي (م) : 33.
(10) لاحظ الأستاذ رتزيتانو أن مؤلف الروض ذكر هذا أيضاً عند الحديث عن ((شكلة)) وعن ((قرشقة)) .
(11) لقد عودنا المؤلف فيما سبق أن يتجاوز عن ذكر اسمه ويدعوه ((طاغية صقلية)) .(1/538)
عليها سوراً فصارت ذات عمارة وأسواق وجبايات، ولها إقليم واسع وسفر أهل بلاد إفريقية إليها كثير، وشرب أهلها من آبار عذبة في ديارها مع مياه العيون التي حولها، وبها فنادق وحمامات وبساتين ومزارع، وبينها وبين طرابنش ثلاثة وعشرون ميلاً.
مرسى الدجاج (1) :
بالقرب من آشير، وهي مدينة قد أحاط بها البحر من ثلاث نواح، وعليها السور من الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية، ومن هناك يدخل إليها، وأسواقها ومسجد جامعها داخل ذلك السور، له باب واحد، ولها مرفأ غير مأمون لضيقه وقرب قعره، وبها عيون طيبة، يسكنها الأندلسيون وقبائل من كتامة.
وهي مدينة (2) كبيرة القطر، ولها حصن دائر بها، وبشرها كثير (3) وربما فر عنها أكثر أهلها زمن الصيف خوفاً من قصد الأساطيل إليها، وأرضها ممتدة وزراعاتها متصلة وإصاباتهم واسعة وحنطتهم مباركه، وسائر الفواكه واللحوم بها كثير رخيص، وتينها يحمل منها شرائح طرياً ومنثوراً (4) إلى سائر الأقطار وأقاصي البلاد، وهي بذلك مشهورة، وبينها وبين تدلس أربعة وعشرون ميلاً.
مرسية (5) :
بالأندلس، وهي قاعدة تدمير، بناها الأمير عبد الرحمن بن الحكم، واتخذت دار العمال وقرار القواد، وكان الذي تولى بنيانها وخرج العهد إليه في اتخاذها جابر بن مالك بن لبيد، وكان تاريخ الكتاب يوم الأحد لأربع خلون من ربيع الأول سنة ست عشرة (6) ومائتين، فلما بناها ورد كتاب الأمير عبد الرحمن على عامر بن مالك بخراب مدينة أله (7) من المضرية واليمانية وكان السبب في ذلك أن رجلاً من اليمانية استقى من وادي لورقة قلة وأخذ ورقة من كرم لرجل من المضرية فغطى بها القلة، فأنكر ذلك المضري وقال: إنما فعلت ذلك استخفافاً بي إذ قطعت ورق كرمي، وتفاقم الأمر بينهما حنى تحارب الحيان، وعسكر بعضهم إلى بعض واقتتلا أشد قتال.
ومرسية (8) على نهر كبير يسقي جميعها كنيل مصر، ولها جامع جليل وحمامات وأسواق عامرة، وهي راخية أكثر الدهر رخيصة الفواكه كثيرة الشجر والأعناب وأصناف الثمر، وبها معادن فضة غزيرة متصلة المادة، وكانت تصنع بها البسط الرفيعة الشريفة ولأهلها حذق بصنعتها وتجويدها لا يبلغه عيرهم.
ومن مرسية أبو غالب تمام بن غالب المعروف بابن التياني اللغوي المرسي (9) صاحب " الموعب " وكان أبو الجيش مجاهد بن عبد الله صاحب دانية قد غلب على مرسية، وأبو غالب إذ ذاك بها، فأرسل إليه ألف دينار على أن يزيد في ترجمة الكتاب على أنه ألفه لأبي الجيش مجاهد، فرد الدنانير وأبى من ذلك وقال: والله لو بذلت لي الدنيا على ذلك ما فعلت ولا استجزت الكذب، فإني لم أجمعه لك خاصة، وإنما جمعته لكل طالب علم.
وعلى أربعين ميلاً من مرسية عين ماء عذب يقصدها من علق العلق بحلقه فيفتح فاه فيسقط العلق لحينه، وذلك بإقليم إيلش. وقال بعضهم: هذا طب تمام يوجد في كل ماء عذب بارد، إذا فتح فمه عليه من علق العلق به أسقطه في الأغلب، وذلك لأن العلق إنما ينشأ في الماء العذب، فيطرأ عليه من خلاف ذلك المزاج ما يستروح منه إلى الماء، وكثيراً ما يطب به الأطباء فيستغنون عن شجر أناغاليس الذي من شأنه قتل العلق (10) ، وعن العكوب (11) وعن الخل وأمثال هذه الأشياء.
ومرسية (12) في مستو من الأرض على النهر الأبيض، ولها ربض عامر آهل، وعليها وعلى ربضها أسوار وحظائر متقنة، والماء يشق ربضها، وهي على ضفة النهر، ويجاز إليها على قنطرة مصنوعة من المراكب تنتقل من موضع إلى موضع (13) ، وبها شجر التين كثير،
__________
(1) البكري: 65.
(2) الإدريسي (د/ ب) : 89.
(3) الإدريسي: قليل.
(4) لعل المقصود: مطوياً ومنشوراً.
(5) بروفنسال: 181، والترجمة: 218 (Murcia) ، والنص ناظر إلى العذري: 6.
(6) العذري: سنة عشر.
(7) العذري: أيه.
(8) قارن بالزهري: 100.
(9) ترجمته والقصة في الجذوة: 172.
(10) سقط من ع.
(11) ص ع: العكوف.
(12) الإدريسي (د) : 194.
(13) بروفنسال: ويجاز إليها على قنطرة مصنوعة من المراكب ولها أرحاء طاحنة في مراكب تنتقل ... الخ؛ والنص عند الإدريسي: ولها أرحاء طاحنة في الماكب مثل طواحن سرقسطة التي هي تركب في مراكب تنتقل من موضع ... الخ، وأغلب الظن أن النص مضطرب في الأصل.(1/539)
ولها حصون وقلاع وقواعد وأقاليم معدومة المثال، ومنها إلى بلنسية خمس مراحل، ومنها إلى قرطبة عشر مراحل.
ويخرج من نهر مرسية جدول على مقربة من قنطرة اشكابة قد نقر له الأول في الجبل، وهو حجر صلد، وجابوه نحو ميل، وهذا الجدول هو الذي يسقي قبلي مرسية، ونقبوا بازاء هذا النقب في الجبل المحاذي لهذا الجبل نقباً آخر مسافة نحو ميلين أخرجوا فيه جدولاً ثانياً، وهو الذي يسقي جوفي مرسية، ولهذين الجدولين منافس في أعلى الجبلين ومناهر (1) إلى الوادي تنقى الجدولان منه بفتحها وانحدار الماء مما اجتمع من الغثاء فيهما، ولا يسقى من نهر مرسية شيء بغير هذين الجدولين إلا بما رفع بالدواليب والسواني، وبين موضع هذين النقبين ومرسية ستة أميال.
مربيطر (2) :
حصن بالأندلس قريب من طرطوشة، وهو على جبل، والبحر بقبليه، ويظهر منه شرقاً وغرباً. وبمربيطر جامع ومساجد، وفيها آثار للأول: دار ملعب وأصنام وغير ذلك، وهي كثيرة الزيتون والشجر والأعناب وأصناف الثمار، ومن مربيطر إلى أول قرى بريانة تسعة عشر ميلاً ونصف ميل.
مرمجنة:
بإفريقية قريب من الأربس، وبينها وبين مجانة مرحلتان.
ولما دخل عبد الله بن سعد إفريقية غازياً في صدر الإسلام وقتل جرجيراً صاحب سبيطلة وانهزمت الروم وتفرقوا في القلاع وتبعهم المسلمون فبلغت خيلهم قصور قفصة وجاوزها إلى مرمجنة.
وكانت (3) مدينة كبيرة قديمة أولية وفيها آثار للأول وبها عيون سائحة، وهي على نظر واسع كثير الخيرات.
مراكش (4) :
شمال أغمات وعلى اثني عشر ميلاً منها بداخل المغرب، بناها يوسف بن تاشفين أمير المسلمين في صدر سنة سبعين وأربعمائة، وقيل سنة تسع وخمسين وأربعمائة، بعد أن اشترى أرضها من أهل أغمات بجملة أموال واختطها له ولبني عمه، وهي في وطاء من الأرض، وليس حولها من الجبال إلا جبل صغير يسمى ايجليز، ومنه قطع الحجر الذي بني منه قصر علي بن يوسف أمير المسلمين، وليس بموضع مراكش حجر إلا ما كان من هذا الجبل، وبناؤها بالطين والطوب والطوابي، ثم استخرجوا مياهها، فكثرت فيها البساتين والجنات، واتصلت عمارات مراكش وحسن قطرها، ثم بنى أسوارها علي بن يوسف بن تاشفين سنة أربع عشرة وخمسمائة، وعلى ثلاثة أميال منها وادي تانسيفت، ويصب فيه وادي وريكة ووادي نفيس وأودية كثيرة، ومياه مراكش قريبة من قامتين من وجه الأرض وبساتينها تسقى بالآبار ينفذ بعضها إلى بعض حتى تخرج على وجه الأرض، وبينها وبين درن نحو العشرين ميلاً، وهي كثيرة الزرع والضرع وبحائرها لا تحصى كثرة، وإنما بناها واضعها ليملك منها جبل درن لكثرة من يعمره.
وكان إسلام قبائل الصحراء في سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، ثم ملكها عبد المؤمن بن علي وانقرضت دولة بني تاشفين بعد أن كانت دار إمارة لمتونة وقاعدة مملكتهم، وكان بها قصور كثيرة لجملة من الأمراء والقواد وخدام الدولة، وكانت أزقتها واسعة وأرجاؤها فسيحة وأسواقها حفيلة وسلعها نافقة، وكان بها جامع بناه يوسف بن تاشفين، وهو صاحب الزلاقة، فلما ملكها عبد المؤمن بن علي تركوا ذلك الجامع معطلاً مغلق الأبواب لا يرون الصلاة فيه، وبنوا لأنفسهم مسجداً جامعاً يصلون فيه بعد أن نهبوا الأموال وسفكوا الدماء وباعوا الحرم، وكان ذلك لمذهب لهم يرون ذلك فيه حلالاً. وكان علي بن يوسف قد جلب ماء من عين بينها وبين المدينة أميال فلم يستتم ذلك، فلما تغلب عبد المؤمن على الملك وصار بيده تمموا جلب ذلك الماء إلى داخل المدينة وصنعوا منه سقايات بقرب دار الحجر، وهي الحظيرة التي فيها القصر منفرداً متحيزاً بذاته، والمدينة بخارج هذا القصر، وطول المدينة أشف من ميل وعرضها قريب ذلك، وعلى ثلاثة أميال من مراكش نهر تانسيفت، وليس بالكبير لكنه دائم الجري، ويحمل في زمن الشتاء بسيل كبير فلا يبقي ولا يذر. وكان أمير المسلمين علي بن يوسف بنى على هذا النهر قنطرة عجيبة متقنة البناء.
وعظمت مراكش في الدولتين، فكانت أكبر مدن المغرب الأقصى، وعظمت تجارتها وتنافس الناس في البناء فيها، وبنيت
__________
(1) ص ع: ومناهد.
(2) بروفنسال: 181، والترجمة: 217 (Murviedro) ، ويكتب أيضاً ((مرباطر)) وموقع مكانه على بعد 21 كيلومتراً إلى الشمال من بلنسية. وانظر العذري: 19.
(3) الاستبصار: 162، وقارن بالبكري: 145، والإدريسي (د) 119 (مرماجنة) .
(4) مزج في هذه المادة بين ما نقله عن الإدريسي (د/ ب) : 67/ 43، وما نقله عن الاستبصار: 208 واضاف إلى ذلك من مصدر آخر؛ وفي صبح الأعشى 5: 162 نقل عن الروض.(1/540)
فيها الفنادق والحمامات، وفيها قيسارية عظيمة البنيان، وهي أكثر بلاد المغرب جنات وبساتين وأعناباً وفواكه، وأكثر شجرها الزيتون، فيها منه ما تستغني به عن غيرها من البلاد، وتمير بلاداً كثيرة، وبها شجر أرقان (1) ، ودهنه عندهم مستعمل نافع، وزيتون مراكش أكثر من زيتون مكناسة، وزيتها أرخص وأطيب. وأجرى المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن في وسطها ساقية ظاهرة، يخرج ماؤها من قصره فيشق المدينة من القبلة إلى الجوف، فكانت أشرف مدن المغرب وأعدلها هواء، وجعل فيها مارستان للمرضى يدخله العليل فيعاين ما أعد فيه من المنازه والمياه والرياحين والأطعمة الشهية والأشربة المفوهة، فتنعشه من حينه، وكان ذلك سنة خمس وثمانين وخمسمائة، ثم استدعى العلماء ورواة الحديث وأهل الفنون المختلفة، فجلبوا إليه من الأقطار، فكثر فيها العلماء وامتلأت بوجوه أهل البلاد من كل صقع، وقصدها التجار من كل جهة، وصارت حاضرة المغرب وقاعدة البلاد، وتناهت ضخامتها وانقادت إلى طاعتها أقاليم المغرب وبلاد الأندلس وغيرها، إلى أن اختلت الأحوال ووقعت الفتن وفشا فيها الظلم والفجور وشرب الخمور والتحامل على الناس، وفي ذلك يقول قائلهم:
يطوف التجار بمراكش ... طواف الحجيج ببيت الحرام
تروم النزول فلا تستطيع ... لشرب الخمور وهتك الحرم وكان من ملوك بني عبد المؤمن ما كان، وانقرضت دولتهم بقتل يعقوب بن عبد الحق المشتهر بابن تامطوت المريني صاحب فاس آخر ملوكهم ادريس بن محمد بن عمر بن عبد المؤمن الملقب بأبي دبوس في سنة ست وستين وستمائة، وكان ناجزه مراراً في كلها يظهر عليه إلى أن ناجزه مرة بظاهر مراكش، فخامرت عليه عربه وأسلمته فقتل، وصارت الدولة مرينية، فسبحان من لا يزول ملكه.
ومع هذا كله ففي مراكش يقول أبو القاسم بن أبي عبد الله محمد بن أيوب بن نوح الغافقي من أهل بلنسية:
مراكش إن سألت عنها ... فإنها في البلاد عار
هواؤها في الشتاء ثلج ... وحرها في المصيف نار
وكل ما ثم وهو خير ... من أهلها عقرب وفار
فإن أكن قد مكثت فيها ... فإن مكثي بها اضطرار وأهل مراكش يأكلون الجراد، ويباع فيها كل يوم منه أحمال، وعليه قبالة، وكان أكثر الصنائع بمراكش متقبلة عليها مال لازم مثل سوق الدخان والصابون وغيرهما، وكانت القبالة على كل شيء يباع، فلما صار الأمر للموحدين قطعوا تلك القبالات وأراحوا منها، واستحلوا قتل المتقبلين لها، فلا ذكر لها في بلادهم.
مرعش:
من ثغور أرمينية، وبينها وبين زبطرة تسعة فراسخ، وهي مدينة حصينة عليها سور حجارة.
فتحها خالد بن الوليد رضي الله عنه، وجهه إليها أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وهو بمنبج، ففتح حصنها وجلا أهلها فأخربه فبناه معاوية وأسكنه جنداً. ثم سار إليها العباس بن الوليد بن عبد الملك فعمرها وحصنها ونقل إليها الناس، وبنى بها مسجداً جامعاً، ثم حصرها الروم أيام محاربة مروان لأهل حمص، حتى صالحهم (2) أهلها على الجلاء فخرجوا منها وأخربت، فلما فرغ مروان من حرب أهل حمص أعاد بناء مرعش ومدنها، ثم أخربها الروم في فتنة بني أمية فأعادها صالح بن علي في خلافة المنصور وشحنت بالرجال، ثم قصدها طاغية الروم فحصر أهلها، وبلغ الخبر ثمامة بن الوليد العبسي، وهو بدابق على الصائفة فوجه إليه خيلاً كثيفة فأصيبوا فأحفظ ذلك المهدي فاحتفل لإغزاء الجسور قحطبة في العام المقبل سنة اثنتين وستين ومائة.
قالوا: وجيحان مخرجه من عيون تعرف بعيون جيحان على
__________
(1) الاستبصار: الهرجان.
(2) ص ع: صالحه.(1/541)
ثلاثة أيام من مرعش، وليس عليه من المدن إلا المصيصة، وخرجت الروم سنة سبع وعشرين ومائة فافتتحت مرعش بعد أن أمنوا أهلها على دمائهم وأموالهم، وذلك في خلافة مروان بن محمد بن مروان.
مران (1) :
على ليلتين من مكة وعلى طريق البصرة، فيه مات الوليد بن عبد الملك، وزعم قوم أن قبر تميم بن مر بمران، وبمران أيضاً قبر عمرو بن عبيد بن باب (2) ، وكان أبوه يخلف (3) أصحاب الشرط بالبصرة فكان الناس إذا رأوا عمراً مع أبيه قالوا: خير الناس ابن (4) شر الناس، فيقول عبيد: صدقتم، هذا إبراهيم وأنا آزر، وكان يرى القدر ويدعو إليه، واعتزل وأصحابه فسموا المعتزلة، ورثاه أبو جعفر المنصور فقال:
صلى الإله عليك من متوسد ... قبراً مررت به على مران
قبراً تضمن مؤمناً متخشعاً ... صدق الإله ودان بالقرآن
وإذا الرجال تنازعوا في سنة ... فصل الحديث بحكمة وبيان
فلو أن هذا الدهر أبقى صالحاً ... أبقى لنا حياً أبا عثمان وفيه يقول أبو جعفر أيضاً:
كلكم يطلب صيد ... كلكم يمشي رويد ... غير عمرو بن عبيد ...
مرشانة (5) :
مدينة بكورة اشبيلية.
ومرشانة أيضاً من حصون المرية.
مزون (6) :
بفتح الميم، مدينة عمان، كانت الفرس تسمي عمان مزون، وقيل مزون قرية من قرى عمان سكنها اليهود، وكانت الخوارج تسمي المهلب بن أبي صفرة المزوني، ولذلك قال الكميت:
فأما الأزد أزد (7) أبي سعيد ... فأكره أن أسميها المزونا
المزدلفة (8) :
مسجد المزدلفة أسفل من المسجد الحرام عن يسارك إذا مضيت إلى عرفات، وفيه تجمع بين المغرب والعشاء إذا نفرت من عرفات، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " الصلاة أمامك "، وهو مبني بحجارة مطرورة دون سقف، إنما هو حائط من جميع جهاته الثلاث والوجه الرابع غير قائم، وليس لهم محراب، وفي القبلة منه حجر منقوش، وطول المسجد ثلاث وستون ذراعاً وعرضه خمسون ذراعاً وارتفاع حائطه عشرة أذرع (9) ، والمزدلفة كلها مشعر إلا بطن محسر ولا يترك التكبير والتهليل في النزول بالمزدلفة وفي الدفع منها إلى منى، ويقول: اللهم إني أسألك جوامع الخير كله. وتؤخذ حصى الجمرات من المزدلفة.
مزاق (10) :
هو اسم فحص القيروان، قيل إنما سمي بذلك لكثرة الرياح به التي تمزق السحاب فيتصل الصحو وتقل الأمطار.
وحكي (11) أن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم المعافري قاضي إفريقية، كان مسكنه بالقيروان وبها مات، رحل إلى المشرق ولقي أكابر العلماء وولاه أبو جعفر المنصور قضاء إفريقية، وقال له لما دخل عليه: كيف رأيت ما وراء بابنا؟ فقال: رأيت ظلماً فاشياً وأمراً قبيحاً، فقال: لعله فيما يبعد عن بابي، فقال: بل كلما قربت من بابك استفحل الأمر وغلظ، فقال له: أنت لا تهوى
__________
(1) انظر ياقوت (مران) ، وعرام: 76، وابن خلكان 3: 462.
(2) انظر ابن خلكان 3: 460، وفي الحاشية مصادر ترجمته.
(3) ص ع: يجلب؛ والتصويب عن ابن خلكان.
(4) ص ع: من.
(5) بروفنسال: 181، والترجمة: 218 (Marchena) انظر ياقوت (مرشانة) ، وقد ذكر الإدريسي (مرشانة) التي من عمل المرية، (د) : 175.
(6) معجم ما استعجم 4: 1222.
(7) ص ع: بني.
(8) الاستبصار: 33، وانظر الأزرقي 1: 411، وياقوت (المزدلفة) ، والمناسك: 506 - 508، وفي صبح الأعشى 4: 257 نقل عن الروض.
(9) تختلف هذه المقاييس عما قاله الأزرقي والحربي.
(10) انظر رياض النفوس 1: 99.
(11) علماء إفريقية: 30 - 31، ورياض النفوس: 98.(1/542)
الدخول في شيء من أمرنا، فقال: لي عجوز خلفتها بالقيروان وأنا أحب الرجوع إليها، فأذن له. ودخل يوماً على أبي جعفر فقال: يا ابن أنعم، ألا تحمد الله الذي أراحك مما كنت ترى بباب هشام وذوي هشام؟! فقال له عبد الرحمن: ما أمر كنت أراه بباب هشام إلا وأنا اليوم أرى منه طرفاً، فبكى أبو جعفر ثم قال له: فما منعك أن ترفع ذلك إلينا وأنت تعلم أن قولك عندنا مقبول؟ فقال: إني رأيت السلطان سوقاً، وإنما يرفع إلى السوق ما يجوز فيها، قال: كأنك كرهت صحبتنا، فقال عبد الرحمن (1) ما ينال المال والشرف إلا من صحبتك، ولكني تركت عجوزاً ولي أخت أحب مطالعتهما، فقال: اذهب فإنا قد أذنا لك، فلما توجه إلى إفريقية كتب إلى ولده وخاصته بهذه الأبيات:
ذكرت القيروان فهاج شوق ... وأين القيروان من العراق
مسيرة أشهر للعيس نصاً ... على الإبل المضمرة العتاق
فأبلغ أنعماً وبني أبيه ... ومن يرجى لنا وله التلاقي
بأن الله قد خلى سبيلي ... وجد بنا المسير إلى مزاق
المطيرة (2) :
قرية بقرب بغداد نزلها المعتصم حين خرج من بغداد مرتاداً إنشاء مدينة بسبب تضييق الأتراك على أهل بغداد، فبنى سر من رأى، وحين بناها أقطع الأفشين خيذر بن كاوس الأسروشني في آخر البناء مشرقاً على مقدار فرسخين، وسمى الموضع المطيرة.
المطالي (3) :
موضع لبني أبي بكر بن كلاب وقيل ماء عن يمين ضرية، وقيل هي روضات بالحمى وهي مذكورة في الأشعار، وذكرها الشريف الرضي.
المطابخ (4) :
موضع معروف بمكة سمي بذلك لأن تبعاً لما جاء ليهدم الكعبة سقم، فنذر إن شفاه الله أن ينحر ألف بدنة (5) شكراً لله تعالى، فشفي فنحر ما نذر (6) ، وجعلت المطابخ هناك ثم إطعم.
مطماطة أمسكور (7) :
مدينة بالقرب من مدينة فاس بالمغرب على نهر ملوية، وهي مدينة كبيرة كثيرة الزرع والضرع، ونهر ملوية نهر كبير مشهور في أنهار بلاد المغرب عليه نظر واسع وفيه قرى كثيرة وعمائر متصلة تسقى كلها من نهر ملوية، وبعده نظر سجلماسة.
المطوية:
قرية بإفريقية، بينها وبين مدينة قابس نحو خمسة أميال، في نخل وجنات ومياه جارية.
مطار (8) :
بضم أوله، واد بين البوباة وبين الطائف، قالوا: به أبداً نخل مرطب، ونخل يصرم، ونخل مبسر، ونخل تلقح.
مظلم ساباط:
هو مذكور في حرف السين فاطلبه هناك.
مكة:
هي أم القرى شرفها الله تعالى، وبكة بالباء والحاطمة والباسة وصلاح، وقد تقدم ذكرها في حرف الباء.
مكران:
من عمل السند، قصده الحكم بن عمرو التغلبي (9) وانتهى إليه، ولحق به شهاب بن مخارق بن شهاب وانضم إليه وأمده سهيل بن عدي وعبد الله (10) بن عتبان بأنفسهما فانتهوا إلى دوين النهر، وقد انفض أهل مكران إليه، حتى نزلوا على شاطئيه، فعسكروا وعبر إليهم راسل ملكهم، ملك السند، فازدلف بهم يستقبل المسلمين، فالتقوا بمكان من مكران من النهر على أيام، فهزم الله راسلاً وسلبه وأباح للمسلمين عسكره، وقتلوا في المعركة من المشركين مقتلة عظيمة، واتبعوهم يقتلونهم أياماً حتى انتهوا إلى النهر، ثم رجعوا فأقاموا بمكران، وكتب الحكم إلى عمر بالفتح، وبعث إليه بالأخماس مع صحار العبدي واستأمره في الفيلة فقدم
__________
(1) زيادة من المصدرين السابقين.
(2) اليعقوبي: 256، 259، وانظر ياقوت (مطيرة) .
(3) معجم ما استعجم 4: 1238.
(4) معجم ما استعجم 4: 1237.
(5) ع: ينحر العدنة؛ ص: ينحر البدينة، والتصويب عن معجم البكري.
(6) ع ص: قدر.
(7) الاستبصار: 193، وانظر البكري: 147 حيث ورد الاسم: مطماطة أمسكور.
(8) معجم ما استعجم 4: 1237.
(9) الطبري 1: 2706.
(10) ع: بن عبد الله.(1/543)
صحار على عمر رضي الله عنه، فسأله عن مكران، وكان لا يأتيه أحد إلا سأله عن الوجه الذي يجيء منه، فقال: يا أمير المؤمنين، أرض سهلها جبل، وماؤها وشل، وتمرها دقل، وعدوها بطل، وخيرها قليل، وشرها طويل، والكثير بها قليل، والقليل بها ضائع، وما وراءها شر منها، فقال عمر رضي الله عنه: أسجاع أنت أم مخبر، فقال: لا، بل مخبر، قال: لا والله لا يغزوها لي جيش ما أطعت، وكتب إلى الحكم وإلى سهيل ألا يجوزن (1) المكران أحد من جنودكما واقتصرا على ما دون النهر، وأمره ببيع الفيلة بأرض الإسلام وقسم أثمانها على من أفاءها الله تعالى عليه.
مكناسة الزيتون (2) :
مدينة في المغرب من نظر فاس إلى جهة المغرب، وهي أربع مدن وقرى كثيرة متصلة بالمدن والحصون، الممدن منها يسمى تاجرارات (3) ، وتفسيره المحلة، وهو محدث البناء يشرف على بطاح وبقاع مملوءة بغيضات (4) الثمار وأكثرها الزيتون ولذلك نسبت إليه، وعلى هذه المدينة سور كبير وأبراج عظيمة، وهي مدينة جليلة فيها الأسواق الحفيلة، وأنشأ فيها بعض ملوك بني عبد المؤمن بحاير (5) عظيمة في نهاية الاتساع، وجلب ماء نهرها وغرست زيتوناً وكروماً، وزيتها أكثر زيت في المغرب، وبعده زيت النظر المسمى ببني فسيل (6) ، وهي كريمة الأرض طيبة المدرة، بل هي من غر بلاد المغرب، أنظارها واسعة وقراها عامرة وعمائرها متصلة، تشقها الأنهار والمياه السائحة والعيون الكثيرة العذبة، وتطحن عليها الأرحاء، وتدخل الحمامات.
وبين مكناسة (7) وفاس أربعون ميلاً في جهة المغرب، ومكناسة مرتفعة على الأرض، يجري في شرقيها نهر صغير عليه الأرحاء، وتتصل بها عمارات وجنات وزروع، وأرضها طيبة للزراعات، ولها مكاسب وأحوال صالحة، وسميت باسم مكناس البربري لما نزلها مع بنيه عند حلولهم بالمغرب وإقطاعه لكل ابن من بنيه بقعة يعمرها مع ولده، فكل هذه المواضع التي أنزلهم فيها تتجاور وتتقارب أمكنتها بعضها من بعض، وبلاد مكناسة لها أسواق وحمامات وديار حسنة، والمياه تخترق أزقتها، وبين مكناسة وقصر ابن عبد الكريم ثلاث مراحل.
مكول (8) :
بلدة مشهورة بتامسنا منها عبد الرحمن بن إسحاق المكولي (9) كان نبيهاً جليلاً أكثر من قراءة الفلسفة مع معرفته بالأصول والفروع فاطلع منه السيد أبو العلا بن المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن صاحب الأندلس إذ ذاك في البحث، وهو عنده في منصب القضاء، على ما أباح دمه، فضرب عنقه بإشبيلية سنة خمس وعشرين وستمائة، وقيل إنه لما قدم للقتل قال: لا أقال الله عثرة من يباحث من يقدر على ضره، فكيف من يقدر على قتله، لأن المباحثة قتال بالألسن يؤدي إلى قتال بالأيدي، ومن شعره:
أحادي عيسهم إن جئت سلعاً ... فعرض واللبيب له اطراد
وقل أين الرباب وأين سلمى ... وهند بينهن هي المراد
ملندة (10) :
مدينة في بلاد الزنج على ضفة البحر (11) ، وهي كبيرة وأهلها متحرفون بالصيد براً وبحراً، فيصيدون في البر النموس والدباب (12) ، ويصيدون في البحر ضروباً من الحيتان فيملحونها ويتجرون بها، وعندهم معدن حديد يحتفرونه ويعملونه، وهو جل مكسبهم وتجاراتهم، وأهلها يزعمون أنهم يسحرون الحيوان الضار حتى لا يضر إلا لمن أرادوا ضرره والنقمة منه، وإن السباع والنمور لا تعدو عليهم لأجل سحرهم لها.
__________
(1) ع ص: يجزون.
(2) الاستبصار: 187.
(3) ص: تاجروت؛ وعند الإدريسي (د) 77: تاقررت؛ الاستبصار: تاقرارات.
(4) ع ص: بغيطات؛ الاستبصار: بغيضات.
(5) ع: محاير.
(6) ص: فسل؛ الاستبصار: بسيل.
(7) الإدريسي (د/ب) : 79، 80/ 51.
(8) انظر الإدريسي (د/ ب) : 72/ 47، وقد ذكر أنها كالحصن الكبير عامرة بالبربر ولها سوق نافقة وبها زروع كثيرة، وبينها وبين آنفال مرحلة.
(9) سماه في التكملة (رقم: 1657) عبد الرحمن بن محمد بن تميم بن المعز المكولي - ويكنى أبا زيد - دخل الأندلس وامتحن في الفتنة بها؛ وذكر أن قتله تم سنة 623؛ ولم يشر إلى علاقته بالفلسفة.
(10) نزهة المشتاق: 22 (OG: 59) ، وانظر بسط الأرض: 14، وتقويم البلدان: 152.
(11) ع ص: النيل.
(12) نزهة المشتاق: النمور والذئاب.(1/544)
ملطية (1) :
من الثغور الجزرية بالشام، وهي المدينة العظمى وكانت قديمة، فأخربتها الروم فبناها أبو جعفر المنصور سنة تسع وثلاثين ومائة وحصل عليها سوراً محكماً، وعلى نحو ثلاثة أيام من ملطية يخرج سيحان وهو نهر أذنة من الثغر الشامي ويجري في بلاد الروم وليس للمسلمين عليه إلا مدينة أذنة بين طرسوس والمصيصة. وكان فتح ملطية عنوة حبيب بن مسلمة الفهري، وجهه إليها عياض بن غنم من سميساط، ففتحها ورتب فيها رابطة من المسلمين، ثم شحنها معاوية، فكانت في طريق الصوائف، ثم انتقل عنها أهلها أيام ابن الزبير فقصدها الروم ثم تركتها فنزلها قوم من الأرمن والنبط ثم أناخ الروم عليها، فلما كانت سنة ثلاث وثلاثين ومائة (2) قصدها الطاغية، والجزيرة يومئذ مفتونة فأناخ عليها، فلما جهد أهلها سألوه الأمان فوثق لهم، فرحلوا وحملوا ما تيسر لهم وألقوا كثيراً مما ثقل عليهم في الآبار والمجاري، ثم خرجوا وشيعهم الروم حتى بلغوا مأمنهم، وتوجهوا نحو الجزيرة، وهدم الروم ملطية، فلم تزل كذلك حتى وجه أبو جعفر المنصور عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام على الجزيرة وثغورها، ومعه الحسن بن قحطبة، ومعهم سبعون ألفاً، فعسكروا على ملطية وأتموا بناءها، وكان للحسن في ذلك أثر جميل، وبنى مسجدها وبنى للجند الساكنين بها لكل عرافة بيتين سفليين وغرفتين فوقهما وإصطبلاً، والعرافة عشرة نفر إلى خمسة عشر رجلاً، وبناها مسلحة على ثلاثين ميلاً منها، ومسلحة على نهر يدعى ثاقب يدفع في الفرات، ورتب المنصور فيها أربعة آلاف مقاتل من أهل الجزيرة، وزاد في أعطياتهم عشرة دنانير لكل رجل ومعونة مائة دينار، وغزتها الروم أيام الرشيد فلم يقدروا عليها.
وفي سنة (3) ثلاث وثلاثين ومائة أقبل طاغية الروم قسطنطين بن الليون فنزل على ملطية فقاتلوه قتالاً شديداً، فألح عليهم حتى نزلوا على أمان، فهدم المدينة والمسجد الجامع ودار الإمارة، وغزتها الروم أيام الرشيد فلم يقدروا عليها.
ملاق (4) :
نهر عظيم بقرب مجانة من إفريقية، عليه آثار قديمة، وهو صعب كثير الدهس عسير المخايض.
ملكان (5) :
جزيرة في البحر الأخضر، وذكر بطليموس أن فيه سبعاً وعشرين ألف جزيرة عامرة وغامرة، وملكان دابة بحرية سميت الجزيرة به، وهذه الدابة قد استوطنت الجزيرة ولها رؤوس كثيرة ووجوه مختلفة، وقيل إنها مركب لبعض ملوك البحر لأن لها جناحين، إذا أقامتهما وجمعت بينهما صار كأنه رف عظيم مظل من الشمس، وهي مثل الجبل الضخم.
مليلة (6) :
من أرض طنجة، وهي قريبة من نهر ملوية بالمغرب، وهي مدينة مسورة بسور حجارة، وداخلها قصبة مانعة، وفيها مسجد جامع وحمام وأسواق، وهي مدينة قديمة، ويقال إن موسى ابن أبي العافية المكناسي جددها (7) وسكنها قوم (8) يقترعون على من يدخلها من التجار، فمن أصابته قرعة الرجل منهم كان تجره على يديه، ولم يصنع شيئاً إلا تحت نظره وإشرافه، فيحميه من من يريد ظلمه، ويأخذ منه على ذلك الأجر ويأخذ منه الهدية لنزوله عنده. وذكر أن عبد الرحمن الناصر لدين الله افتتحها سنة أربع عشرة وثلثمائة، وبنى سورها معقلاً لموسى بن أبي العافية.
وإلى هذه المدينة (9) وقع ادريس بن عبد الله بن الحسن (10) بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، فإن الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم كان قام بالمدينة أيام موسى الهادي، ثم خرج إلى مكة في ذي القعدة سنة تسع وستين ومائة، وخرج معه جماعة من بني عمه وإخوته منهم يحيى وإدريس ابنا عبد الله بن حسن، وبلغ الهادي خبره فولى حربه محمد بن سليمان بن علي فكانت الوقيعة بفخ فقتل الحسين بن علي وأكثر أصحابه، وأفلت ادريس بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي رضي الله عنهم، فوقع إلى مصر، وكان على بريدها واضح مولى صالح بن المنصور، وكان رافضياً، فحمله على بريد إلى أرض
__________
(1) انظر اليعقوبي: 362، وآثار البلاد: 564، والكرخي: 46، وابن حوقل: 166، وياقوت (ملطية) ، وفي صبح الأعشى 4: 132 نقل عن الروض.
(2) في العيون والحدائق: 224 أن قسطنطين ملك الروم استولى على ملطية عنوة وهدم سورها سنة 138، وما هنا موافق لما في تاريخ الموصل: 142.
(3) هذا مكرر، ولكنه يشير إلى نقل من مصدر آخر.
(4) البكري: 49، ثم الاستبصار: 162 - 163 وفيه كتب ((ملان)) .
(5) البكري (مخ) : 38.
(6) البكري: 88، والاستبصار: 135، وانظر الإدريسي (د) : 171، وابن حوقل: 79.
(7) البكري: ويقال إن بني البوري بن أبي العافية ... جدودها.
(8) سماهم البكري ((بني ورتدي)) .
(9) انظر البكري: 121.
(10) ص ع: الحسين.(1/545)
المغرب فوقع بمدينة مليلة هذه، فاستجاب له من بها وبأعراضها من البربر، فلما ولي الرشيد وبلغه أمره بعث إلى واضح فضرب عنقه، ودس إلى ادريس الشماخ الشامي مولى المهدي، وكتب له كتاباً إلى إبراهيم بن الأغلب، فخرج حتى وصل مليلة، وذكر أنه متطبب وأنه من شيعتهم، ودخل إلى ادريس فأنس به واطمأن به، ثم أنه شكا إليه علة في أسنانه فأعطاه سفوفاً مسموماً قاتلاً وأمره أن يستن به عند طلوع الفجر، فأخذ منه وهرب الشماخ من ليلته، فلما طلع الفجر استن ادريس وأكثر منه في فيه فسقطت أسنانه ومات من وقته، وطلب الشماخ فلم يظفر به، وقدم على إبراهيم بن الأغلب فأخبره بما كان منه، وجاءته بعد مقدمه الأخبار بموت ادريس، فكتب ابن الأغلب إلى الرشيد بذلك، فولى الشماخ بريد مصر وأجازه وأحسن إليه، وولد لإدريس من بعده ولد له من جارية له بربرية تسمى كنزة، سمي باسمه، فنشأ فيهم فعظموه، وعامة من بالمغرب من ذرية الحسن من ولده، وهم إلى الآن في تلك الناحية مالكين لها، وانقطعت عنهم البعوث.
ملاي (1) :
مدينة من جزيرة القمر من جزر الهند، وملكها لا يحجبه ولا يقوم بخدمته في طعامه وشرابه إلا المخنثون يلبسون الثياب النفيسة من الحرير الصيني والعراقي، وفي يمنى كل واحد منهم سوار ذهب، وهؤلاء المخنثون يتزوجون الرجال في عوض النساء، ويخدمون الملك بالنهار ويرجعون بالليل إلى أزواجهم؛ وفي هذه الجزيرة الزرع والنارجيل وقصب السكر، وبهذه الجزيرة من الخشب ما لا يوجد مثله في الأرض، وأهلها بيض قليلو اللحى يشبهون الأتراك، ويزعمون أن أصلهم من الترك.
وملاي (2) أيضاً جزيرة في البحر الصنفي كبيرة ممتدة من المغرب إلى المشرق ويسمى ملكها ملك الجزر (3) ودراهمه فضة تسمى الطاطرية (4) ، وله أجناد وفيلة ومراكب كثيرة، وفيها موز ونارجيل وقصب سكر، وهي في آخر الصين.
ملجمان (5) :
مدينة بالهند هي دار ملك الزابج، وهو أبداً يشتغل بحرب الزنج الذين هم في حدود واق (6) لأن بلاد الزابج متصلة ببادية الزنوج الواقواقية، وعرض الباديتين مسيرة خمسة أشهر.
الملتان (7) :
هي مدينة في آخر بلاد السند، وهي مجاورة لبلاد الهند، وهي نحو المنصورية في الكبر، وبعض الناس يجعلها من بلاد الهند، وبها صنم يعظمه أهل الهند ويحجون إليه من أقاصي بلدانهم ويتصدقون عليه بأموال جمة وحلي كثير وطيب تعظيماً له، وله خدام وعباد يأوون إليه وينفقون ويلبسون من ماله المتصدق به عليه، وسميت الملتان باسم الصنم، وهو على صورة الإنسان مربع على كرسي من جص وآجر، وقد ألبس جميع جسده جلداً أحمر فلا يتبين للإنسان من جسده شيء إلا عيناه، ولا يترك مكشوفاً، وعيناه جوهرتان، وعلى رأسه إكليل من ذهب مرصع، والصنم متربع وماد ذراعيه على ركبتيه، وهو معظم عندهم جداً، وبيت هذا الصنم في وسط الملتان، وبأعمر سور فيها، وهو قبة عظيمة مزخرفة قد أتقن بنيانها وشيدت عمدها ولونت صنعتها وأوثقت أبوابها، والصنم فيها، وحول القبة بيوت يسكنها خدام هذا الصنم، وليس بالسند ولا بالهند قوم يعبدون الأوثان إلا هؤلاء الذين في هذا القطر مع هذا الصنم.
والملتان مدينة كبيرة عامرة عليها حصن منيع، ولها أربعة أبواب، وبخارجها خندق، ونعمها كثيرة وأسعارها رخيصة، وإنما سميت الملتان لأن معناها فرج بيت الذهب، وكان محمد بن يوسف أخو الحجاج أصاب فيها أربعين بهاراً من الذهب، والبهار ثلثمائة وثلاثة وثلاثون مناً، وكلها في بيت، فسمي ذلك فرج الذهب، والفرج الثغر (8) ؛ وللملتان نهر صغير عليه أرحاء
__________
(1) نزهة المشتاق: 26 (OG: 71) ، انظر نخبة الدهر: 157.
(2) نزهة المشتاق: 30، 33 (OG: 85) .
(3) ع ص: الخزر؛ نزهة المشتاق: الحرز؛ والتصويب عن أخبار الهند: 12، 13.
(4) في أخبار الهند: 12 نسب هذه الدراهم إلى البلهرا.
(5) ع: ملحمان، وكذلك وردت في حدود العالم: 164؛ وملجان في اخبار الهند: 10 وهو يحدد موقعها بين سرنديب وكله، ووصف ((ملجان)) عنده يشبه ما ذكره الإدريسي عن جزيرة جالوس (راجع هذه المادة فيما تقدم وانظر نزهة المشتاق: 27) .
(6) أغلب الظن أن ((واق)) هنا تطابق ((مدغشقر)) .
(7) كل هذه المادة عن الإدريسي (ق) : 41 - 45 (OG: 175) والمادة عن الملتان وفيرة في المصادر، انظر المسعودي، مروج الذهب 1: 375، وابن خرداذبه: 56، وابن رسته: 135، وابن حوقل: 277 (والإدريسي يلخص ما جاء عنده) ، والكرخي: 103، وآثار البلاد: 121، وياقوت (الملتان) ، وتقويم البلدان: 351، وابن بطوطة: 403، وابن الوردي: 48، ونينار: 115 (AGK) ، ومينورسكي: 89، 246.
(8) ص ع وأصول نزهة المشتاق: والفرج البهار.(1/546)
ويصب في نهر مهران السند، والغالب على أهل الملتان أنهم مسلمون، والحكم فيهم لأهل الإسلام، ورئيسهم مسلم.
مليانة (1) :
مدينة في أحواز أشير من أرض المغرب بين تنس والمسيلة وبقرب نهر شلف، وهي مدينة رومية فيها آثار، وهي ذات أشجار وأنهار تطحن عليها الأرحاء، جددها زيري بن مناد وأسكنها ابنه بلكين، وهي عامرة ومشرفة على جميع ذلك الفحص الذي فيه بنو واريفن وغيرهم، وهي عامرة آهلة، ولها آبار عذبة وسوق جامعة.
وبقعتها كريمة (2) ومزارعها خصيبة، ونهرها يسقي أكثر مزارعها وجناتها، ولها أرحاء على نهرها، ولأقاليمها حظ من سقي شلف، وعلى ثلاثة أميال (3) منها جبل وانشريس (4) .
وعلى مليانة لقي أبو بكر ابن الصابوني الشاعر (5) السلطان أبا زكريا ملك إفريقية، كان هاجر إليه من الأندلس وركب البحر، وخرج في ساحل الغرب الأوسط، ولقي عسكر السلطان على مليانة فنظم قصيدة وتعرض بها في جهة خيام خدام السلطنة، فمن العجائب أن لحظه السلطان بعينه فقال للحاجب: إن صدق ظني فذاك الشخص الذي من صفته كذا الناظر إلى جهتنا هو ابن الصابوني الشاعر، فسر إليه برفق واسأله، فإن كان هو ومعه قصيدة فيحضر بها وينشدها، فكان الأمر على ما قدر السلطان، وحضر وأنشد قصيدة أولها:
الله جارك في حل ومرتحل ... يا معلياً ملة الإسلام في الملل
فسرت والسعد يدعوني وينشدني ... إن السعادة في مليانة فمل فلما أتمها أمر بإنزاله، وأنعم عليه بخمسمائة دينار، وصحب العسكر إلى حضرة تونس.
ملل (6) :
بينها وبين المدينة النبوية ثمانية عشر ميلاً، وهي بطريق مكة وفيها آثار، وهي قليلة الأهل، ماؤها من الآبار، وكان كثير عزة يقول: إنما سميت ملل لتملل الناس بها، وكان الناس لا يبلغونها حتى يملوا، وقال جعفر بن الزبير يرثي ابناً له مات بملل:
أهاجك بين من حبيب قد ارتحل ... نعم ففؤادي هائم القلب مختبل
أحزني على ماء العشيرة والهوى ... على ملل يا لهف نفسي على ملل
فتى السن كهل الحلم يهتز للندى ... أمر من الدفلى وأحلى من العسل
ممطور (7) :
جبل على مرحلة من القيروان نزله بعض الأمراء الداخلين لإفريقية فأصابه المطر فقال إن جبلنا هذا لممطور، فغلب عليه هذا الاسم.
منبج (8) :
بناحية قنسرين ومن كورها، وهي مدينة كبيرة، وبينها وبين الفرات مرحلة، وعليها سوران، وهي من بناء الروم الأول وفيها أسواق عامرة وتجارات دائرة وغلات وأرزاق.
ويحف (9) بغربيها وشرقيها بساتين ملتفة الأشجار مختلفة الثمار، والماء يطرد بها ويتخلل جميع نواحيها، وأرضها كريمة وأسواقها فسيحة، ودكاكينها وحوانيتها كأنها الخانات والمخازن اتساعاً وكبراً، وكانت من مدن الروم العتيقة، ولهم بها من البناء آثار تدل على عظيم اعتنائهم بها، ولها قلعة حصينة، وأهلها أهل خير وفضل، ومعاملاتهم صحيحة وأحوالهم مستقيمة.
ومنبج أيضاً بناحية عمان.
__________
(1) البكري: 69، وقارن بالاستبصار: 171، وياقوت (مليانة) ، وآثار البلاد: 273، ورحلة العبدري: 24.
(2) الإدريسي (د/ ب) : 84/ 85.
(3) الإدريسي: أيام.
(4) ص ع: وانشراس.
(5) اختصار القدح: 69، والمغرب 1: 23، والوافي 2: 9، والفوات 2: 209، وقد أورد ابن سعيد هذه القصة ملخصة.
(6) انظر معجم ما استعجم 4: 1256، وياقوت (ملل) ، والمغانم المطابة: 391.
(7) رحلة التجاني: 32، والقائل هو معاوية بن حديج.
(8) نزهة المشتاق: 197، وانظر ياقوت (منيج) ، وآثار البلاد: 274، والكرخي: 46، وابن حوقل: 166.
(9) رحلة ابن جبير: 248.(1/547)
منية نصر (1) :
قرية بالأندلس قريبة من قرطبة موفية على النهر، وهي في شرقيها وتعرف بأرحاء الحناء، وهي منية فسيحة ذات مبان رفيعة، والذي ابتنى منية نصر الإمام عبد الله بن محمد، وفي ذلك يقول عبيد الله بن يحيى (2) من قصيدة له:
لعل زماني يستجد بوصلها ... تجدد عهد الملك في منية النصر
فكم صدفت عنها الخطوب وأحرزت ... جنان المصلى دونها حلة الفخر
جفاها البلا إذ واصل الملك ربعها ... وتم بها قصر يضاهي سنا البدر
قريب المدى رحب المحل تحفه ... رياض ونهر تحت عقوته يجري والركن الشرقي مما يلي القبلة من هذه المنية يعرف بالركين، وهو على النهر وفيه ثمرات زيتون، وبين النهر وبين الركن موضع ينتابه النبيذيون وينتجعه الظرفاء فلا يكاد يخلو منهم، يتفيئون ظله ويعومون في نميره لاشتهاره وبرده، وفي ذلك يقول محمد بن شخيص (3) على لسان ابن الحمالة إذ كان غائباً في القسطنطينية في شعر له طويل:
اقر السلام على الركين وقل له ... مذ غبت لم أرتح لظل نسيم
سقياً لظلك بالعشي وبالضحى ... ولبرد مائك في احتدام سموم
لو كنت أملك منع مائك لم يقم ... في ظل ساحك منتم للئيم نقل في هذه الأبيات معنى شعر ابن المعتز وكثيراً من لفظه، وهو (4) :
اقرأ على الوشل السلام وقل له ... كل المشارب مذ هجرت ذميم
منية ابن الخصيب (5) :
بينها وبين مدينة القيس نصف يوم، وهي في الضفة الشرقية من النيل، وهي عامرة كثيرة الأسواق والحمامات وسائر مرافق المدن، وحولها جنات وأرض متصلة العمارات وقصب وأعناب كثيرة ومتنزهات ومبان حسان.
المنكب (6) :
بالأندلس، مرسى المنكب صيفي يكن بشرقيه، وله نهر يريق في البحر، وعليه حصن كبير لا يرام، به ربض وأسواق وجامع، وفيه آثار للأول كثيرة، وكانت لهم فيه مياه مجلوبة وآثار قنيها بها إلى اليوم، وبقرب الحصن من ناحية الشمال ديماس عظيم مبني من حجارة مربع الأسفل محدد الأعلى، ارتفاعه نحو مائة ذراع، في رأسه منفس للماء المجلوب إليها، وقد نحت في عرض جهة الديماس الجنوبية من أعلاه إلى أسفله مصب للماء، حتى وصل إلى الأرض فدل أن الماء كان مجلوباً من موضع هو أرفع من هذا الصنم، وبهذا المرسى خرج الإمام عبد الرحمن بن معاوية عند دخوله الأندلس وذلك في ربيع الأول من سنة ثمان وثلاثين ومائة. ويتلو مرسى المنكب في الشرق مرسى شلوبينية.
والمنكب (7) مدينة حسنة متوسطة كثيرة مصايد السمك وبها فواكه جمة.
قال بعض أهل الأخبار ما هو كالتفسير لما قدمناه: في وسط (8) المنكب بناء مربع كالصنم، أسفله واسع وأعلاه ضيق، به حفيران من جانبيه، متصلان من أسفله إلى أعلاه، وبازائه من الناحية الواحدة في الأرض حوض كبير يأتي إليه الماء من نحو ميل على ظهر قناطر كثيرة معقودة من الحجر الصلد، ينصب ماؤها في ذلك الحوض، ويذكر أهل المعرفة من أهل المنكب
__________
(1) بروفنسال: 187، والترجمة: 226.
(2) ترجمته في الجذوة: 250، والبغية رقم: 974، واليتيمة 2: 11، وابن الفرضي 1: 294 وانظر فهرست كتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس: 320.
(3) محمد بن مطرف بن شخيص، انظر الجذوة: 84، وبغية الملتمس رقم: 276، وفهرست كتاب التشبيهات: 331.
(4) هذا البيت وما بعده من أبيات ليست لابن المعتز إنما هي لأبي القمقام الأسدي كما ذكر ياقوت (الوشل) ؛ وحماسة أبي تمام، شرح المرزوقي، رقم: 567، وإلى ذلك أشار بروفنسال في هامش الروض (النص العربي) .
(5) ألإدريسي (د) : 45، وانظر رحلة ابن جبير: 57، وابن بطوطة: 48.
(6) بروفنسال: 186، والترجمة: 225 (Almunecar) وهي مدينة صغيرة في مقاطعة غرناطة على البحر المتوسط، على بعد 23 كيلومتراً إلى الغرب من مطريل (Matril) .
(7) الإدريسي (د) : 199.
(8) النقل مستمر عن المصدر السابق.(1/548)
أن ذلك الماء كان يصعد إلى أعلى المنار وينزل إلى الناحية الأخرى فيجري هناك إلى رحى صغيرة كانت وبقي أثرها الآن، على جبل مطل على البحر، ولا يعلم ما المراد بذلك، ومن المنكب إلى اغرناطة أربعون ميلاً.
مندوجر (1) :
بالأندلس بينه وبين المرية مرحلة، وهو حصن على تل تراب أحمر، والمنزل في القرية، ويباع بها للمسافرين الخبز والسمك وجميع الفواكه.
منرقة (2) :
هي جزيرة تقابل برشلونة، بينهما مجرى، وبينها وبين سردانية أربعة مجار، وهي إحدى بنتي (3) جزيرة ميورقة، وهما منرقة ويابسة، وما زالت في يد المسلمين تحت هدنة الطاغية البرشلوني ومصالحته بعد أن جرى على ميورقة ما جرى، وكان عامل ابن يحيى صاحب ميورقة الممتحن بعذاب البرشلوني بعد استيلائه على ميورقة حتى مات رحمه الله تعالى مقيماً بجزيرة منرقة هذه، وهو سعيد بن حكم (4) ، وقد ضبطها وأقام عليها أحسن قيام، وهادن الأعداء، وطالت مدته في ذلك، وحسنت سيرته إلى أن مات، فقصدها العدو، واغتنم فرصتها واستولى عليها.
المنصورة (5) :
في بلاد السند، وهي على معظم نهر مهران، يحيط بها ذراع منه من الجانب الغربي، ومقدارها في الطول نحو ميل في عرض ميل، وهي مدينة حارة بها نخل كثير وقصب سكر، وليس لهم شيء من الفواكه إلا نوع من الثمر على قدر التفاح شديد الحموضة، ولهم فاكهة أخرى تشبه الخوخ وتقاربه في الطعم. وهي محدثة بناها أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي في صدر ولايته فنسبت إليه.
ورأيت من وجه آخر (6) أن المنصورة منسوبة لمنصور بن جمهور عامل لبني أمية، وكان أصحابها من ولد هبار بن الأسود، وبها من ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه خلق كثير، ومملكتها تصاقب مملكة المولتان، ومسافة ما بين المملكتين خمسة وسبعون فرسخاً سندية، والفرسخ ثمانية أميال، وجميع ما للمنصورة من الأصقاع والقرى وما يضاف إليها ثلثمائة ألف قرية وزروع وأشجار وعمائر متصلة.
وقد بنى (7) أبو جعفر المنصور أربع مدن وقال إنها لا تخرب أبداً: إحداها بغداد بالعراق، وهذه المنصورة في السند، والمصيصة في آخر الشام، والرافقة بأرض الجزيرة. وفي المنصورة هذه بشر كثير وتجار مياسير وماشية وزروع وحدائق وبساتين، وبناؤها بالآجر، ولأهلها نزاهات وأيام راحات، والتجار بها كثيرون والأسواق بها قائمة والأرزاق دارة، وزيهم زي العراق، وملوكهم يتشبهون بملوك الهند في لباس القراطق وإسبال الشعور، وبهذه المدينة حوت كثير، واللحم رخيص والفواكه مجلوبة.
قال بعضهم (8) : رأيت لصاحب المنصورة فيلين عظيمين كانا موصوفين عند أهل الهند والسند، لهما أخبار عجيبة، وكان لهما في فل الجيوش تقدم، ومات بعض سواس أحدهما فبقي لا يطعم ولا يشرب، يبدي الحنين ويظهر الأنين وتسيل دموعه، لا يتماسك وخرج ذات يوم من دار الفيلة يتقدم ثمانين فيلاً فاستقبل امرأة، فلما رأته غشي عليها فسقطت وانكشف ثيابها، فاعترض في الطريق مانعاً لمن وراءه من الفيلة أن تمر، وأقبل يشير إليها بخرطومه بالقيام ويلاطفها ويجمع عليها أثوابها، حتى قامت وخلى سبيل الفيلة.
قالوا: والفيل إذا كان ممارساً شجاعاً وراكبه كذلك، وكان في خرطومه العرطل، وهو نوع من السيوف شنيع المنظر، وكان خرطومه مغشى بالزرد، وعليه تجافيف قد أحاطت به، ومن وراءه خمسمائة راجل أنجاد، كر على خمسة آلاف فارس وقام لهم ودخل وخرج وجال عليهم.
__________
(1) بروفنسال: 185، والترجمة: 224 (Mondujar) وأكثر المادة عن الإدريسي (د) : 201.
(2) بروفنسال: 185، والترجمة: 224 (Menorca) .
(3) تقرأ في ع: منيتي؛ ص: مراسي؛ بروفنسال: جزيرتي.
(4) انظر ترجمة سعيد بن حكم في الذيل والتكملة 4: 28، واختصار القدح: 28، وعنوان الدراية: 181، وبغية الوعاة: 255، وكانت وفاته سنة 680.
(5) عن الإدريسي (ق) : 30، وانظر الكرخي: 103، وابن حوقل: 277، والمقدسي: 479، وياقوت (المنصورة) ، وآثار البلاد: 125، وتقويم البلدان: 350، ونخبة الدهر: 175، وقد أثبتها مؤلف الروض: ((المنصورة)) و ((المنصورية)) ، فاخترت الرسم الأشهر في المادة كلها.
(6) ناظر إلى ما قاله المسعودي، المروج 1: 377 وما بعدها.
(7) عاد إلى النقل عن الإدريسي.
(8) هو المسعودي، المروج 1: 379.(1/549)
قالوا (1) : والفيلة ضربان: فيل وزندبيل، فهي كالبخت والعراب، والجواميس والبقر، والبراذين والخيل.
قالوا (2) : فإذا اغتلم الفيل قتل الفيلة والفيالين وكل من لقيه من سائر الناس، ولم يقم له شيء حتى لا يكون لسواسه إلا الهرب والاحتيال لأنفسهم، وتزعم الفرس أن فيلاً من فيلة كسرى اغتلم فأقبل نحو الناس، فلم يقم له شيء حتى دنا من مجلس كسرى، فأقشع عنه جنوده وأسلمه صنائعه، وقصد إلى كسرى ولم يبق معه إلا رجل واحد من فرسانه، كان أخصهم به حالاً، فلما رأى قربه من الملك شد عليه بطبرزين كان في يده فضرب جبهته به ضربة غاب جميع حديده بها في جبهته، فصدف عنه وارتدع، وأبى كسرى أن يزول من مكانه، فلما أيقن بالسلامة قال لذلك الرجل: ما أنا بما وهب الله تعالى لي من الحياة على يديك بأشد سروراً مني بما رأيت من هذا الجلد والوفاء والظفر (3) في رجل من صنائعي وحين لم تخطئ فراستي، فهل رأيت أحداً قط أشد منك؟ قال: نعم، قال: فحدثني عنه، قال: على أن تؤمنني، فأمنه، فحدثه عن بهرام جوبين بحديث شق على الملك إذ كان عدوه بتلك الصفة.
والمنصورة (4) أيضاً هي صبرة المتصلة - كانت - بالقيروان، بناها إسماعيل المنصور العبيدي سنة تسع وثلاثين وثلثمائة واستوطنها، وهي منزل الولاة إلى حين خرابها، ونقل إليها معد بن إسماعيل أسواق القيروان كلها وجميع الصناعات، ولها خمسة أبواب: الباب القبلي والباب الشرقي وباب زويلة وباب كتامة، وهو جوفي، وباب الفتوح، ومنه كانت الجيوش تخرج، ويذكر أنه كان يدخل أحد أبوابها كل يوم ستة وعشرون ألف درهم.
مناذر (5) :
قرية من كور الأهواز، وهما قريتان: مناذر الكبرى ومناذر الصغرى، وهما مدينتان كبيرتان عامرتان لا منبر بهما، وكورهما عامرة وأرزاقها دارة ونواحيها متسعة ومياهها كثيرة، وبها من حدائق النخل كثير، ومزارعهما كثيرة وافرة النفع، وكان ابن مناذر يغضب إذا قيل له ابن مناذر - بفتح الميم - ويقول: مناذر الكبرى أم مناذر الصغرى؟ ويقول: اسم أبي من ناذر، فهو مناذر.
وحكى البلاذري (6) أن أبا موسى بعد فتحه الأهواز، سار إلى مناذر فحاصر أهلها فاشتد قتالهم، وكان المهاجر بن زياد الحارثي وأخوه الربيع بن زياد مع أبي موسى، فقتل المهاجر ونصب بين شرفتين من قصرهم، فاستخلف أبو موسى أخاه الربيع على مناذر وسار إلى السوس ففتح الربيع مناذر عنوة، وصارت مناذر الكبرى والصغرى في أيدي المسلمين، فولاهما أبو موسى عاصم (7) ابن قيس بن الصلت السلمي؛ وكتب عمر إلى أبي موسى: إن مناذر كقرية من قرى السواد، فردوا عليهم ما أصبتم.
وفي مناذر (8) الصغرى كان انحياز عبيد الله بن بشير بن الماحوز رئيس الخوارج؛ قال المهلب بن أبي صفرة: حاصرنا مناذر فأصابوا سبياً، وكتبوا إلى عمر رضي الله عنه فكتب لهم: إن مناذر من قرى السواد، فردوا إليهم ما أصبتم.
المنحنى (9) :
موضع من ديار غطفان وبظهر خيبر، فيما بينها وبين نجد.
المندل (10) :
موضع من بلاد الهند ينسب إليه العود المندلي.
المنار (11) :
منارة الإسكندرية، وضعه الله تعالى على يد من سخره لذلك آية للمتوسمين وهداية للمسافرين، ولولاه ما اهتدوا في البحر إلى بر الإسكندرية، ويظهر على أزيد من سبعين ميلاً، ومبناه في نهاية من الوثاقة طولاً وعرضاً، قيس أحد جوانبه الأربع فوجد نيفاً على خمسين باعاً، ويذكر أن طوله أزيد من مائة وخمسين قامة، وداخله مرأى هائل، اتساع معارج ودواخل، وكثرة مساكن، حتى أن المتصرف فيها والوالج في مسالكها ربما ضل، وفي أعلاه مسجد موصوف بالبركة يتبرك الناس بالصلاة فيه.
__________
(1) الحيوان للجاحظ 7: 176.
(2) الحيوان 7: 178، وقارن بمروج الذهب 3: 58.
(3) الحيوان: والصبر.
(4) البكري: 25 (المنصورية) ، وانظر الاستبصار: 115، وياقوت (المنصورة) .
(5) معجم ما استعجم 4: 1263، وانظر ياقوت (مناذر) .
(6) فتوح البلدان: 464.
(7) كله سقط من ع؛ وبعضه من ص؛ واعتمدت فيه على فتوح البلاذري ليستقيم معنى النص.
(8) عاد إلى النقل عن معجم البكري.
(9) معجم ما استعجم 3: 981 (مادة: عوق) .
(10) معجم ما استعجم 4: 1269، وانظر آثار البلاد: 124.
(11) النقل عن رحلة ابن جبير: 41.(1/550)
والحكاية المشهورة في الاحتيال على هدمه ونبذ من أخباره قد تقدم في رسم الإسكندرية من باب الألف.
رأس منف (1) :
مدينة في البلاد المصرية قديمة، كانت دار مملكة ملوك درجوا مما يلي جبل المقطم، وأكثرها الآن خراب، وبها كان فرعون موسى، وكان اتخذ لها سبعين باباً، وفصل حيطان المدينة بالحديد والصفر، وبها كانت الأنهار تجري من تحت سريره، وهي أربعة. قال رجل: رأيت بمنف دار فرعون، وكنت أمشي في مجالسه وغرفه وجميع سقائفه وحجره، فإذا ذلك كله حجر واحد منقور، فإن كان بناء قد أحكم حتى صار في الاستواء كحجر واحد لا يستبين فيه جمع بين حجرين فذلك عجب، وإن كان جبلاً واحداً فنقرت الرجال فيه بالمناقر حتى تخرقت فيه تلك المخارق فهو أعجب وأعجب.
وقد تنازع الناس في أمر فرعون موسى، فمنهم من رأى أنه من العماليق، ومنهم من قال: هو من لخم من الشام، ومنهم من رأى أنه من الفرس من مدينة اصطخر، ومنهم من رأى أنه من القبط من ولد مصرام، والقبط تثبت ذلك، وزعم قوم أنه من الأعاجم من الأندلس من قرمونة، وذكروا أن اسمه الوليد بن مصعب، وكان سبب ملكه أنه دخل مدينة منف من البادية يحمل خمراً على أتان له، وكان أهل منف قد اختلفوا في تولية ملك، فأجمعوا أن يكون أول من يدخل ذلك اليوم على باب المدينة، فكان أول داخل فرعون، فولوه الملك. وكانت مدينة منف في ذلك الزمان قاعدة مصر ومدنها ودار مملكتها، فلما تمكن فرعون ببلاد مصر بذل الأموال وجمع الجيوش، وقتل من خالفه وناوأه، ومدن المدن، وخندق الخنادق، واستقر له الأمر، وكان جباراً معجباً يدعو الناس إلى عبادته ويقول: أنا ربكم الأعلى، واستعبد بني إسرائيل، فكان من أمره مع موسى عليه السلام ما نصه الله تعالى في كتابه، فلما هلك رجعت بلاد مصر لبني إسرائيل يتوارثونها ملكاً عن ملك (2) ، ومنهم كان داود وسليمان عليهما السلام، إلى أن بعث الله عيسى عليه السلام وظهر دين النصرانية، وملك النصارى أرض مصر يتوارثونها إلى أن جاء الله تعالى بالإسلام.
المنستير (3) :
محرس من محارس سوسة بإفريقية، مشهور الفضيلة، قيل إن الذي بنى القصر الكبير بالمنستير هرثمة بن أعين سنة ثمانين ومائة، وله في يوم عاشوراء موسم عظيم ومجمع كبير، وبالمنستير البيوت والحجر ومواجل الماء، وهو حصن عالي البناء متقن العمل، وفي الطبقة الثانية مسجد لا يخلو من شيخ فاضل يكون مدار القوم عليه، وفيه جماعة من الصالحين والمرابطين قد حبسوا أنفسهم منفردين دون الأهل والعشائر، وداخل قصر المنستير ربض واسع، في وسطه حصن ثان كثير المساكن والمساجد والقصاب العالية، طبقات بعضها فوق بعض، وفي القبلة منه صحن فيه قباب عالية متقنة حولها النساء المرابطات، ولها حمامات كثيرة. وكان أهل القيروان يخرجون له من الأموال والصدقات كثيراً. وبقرب المنستير ملاحة عظيمة تشحن منها السفن الملح إلى البلاد، وبقربه محارس خمسة متقنة البناء معمورة بالصالحين، والأعراب لا تضرهم في شيء من أسبابهم، وبه مدفن أهل المهدية، يحملون موتاهم في الزوارق إليها ثم يعودون إلى بلدهم.
وبقرب القيروان: منستير عثمان (4) بينهما ست مراحل، وهي قرية كبيرة آهلة بها جامع وفنادق كثيرة وأسواق وحمام وبئر لا تنزف، وقصر للأول مبني بالصخر، وأرباب المنستير قوم من قريش من ولد الربيع بن سليمان، وهو اختطها عند دخوله إفريقية، وهذا خلاف ما تقدم، إلا أن يكون هرثمة مجدداً له فيصح، أو يراد منستير عثمان (5) ، وبها عرب وبرابر وأفارق، ومنها إلى باجة ثلاث مراحل.
منى:
جبل بمكة شهير، يذكر ويؤنث، وفيه يقول الشاعر:
ولم أر ليلى قبل موقف ساعة ... بخيف منى ترمي جمار المحصب ومنى (6) شبه القرية، بنيت على ضفتي الوادي النازل من عرفات، وفي وسط ذلك الوادي الجمرتان: الأولى جمرة العقبة،
__________
(1) الاستبصار: 83، وصبح الأعشى 3: 316، وانظر ابن خرداذبه: 161، والإدريسي (د) : 145، وياقوت (منف) ، وآثار البلاد: 274، وخطط المقريزي 1: 134.
(2) هذا غير صحيح تاريخياً ولا أدري من أين نقله المؤلف.
(3) البكري: 36، ثم الإدريسي (د) : 108، وانظر الاستبصار: 120، ورحلة التجاني: 30، وفي صبح الأعشى 4: 244 نقل عن الروض.
(4) البكري: 55 - 56.
(5) المقصود ((منستير عثمان)) لا المنستير الذي هو محرس من محارس سوسة، والبكري واضح في التمييز بينهما.
(6) الاستبصار: 30.(1/551)
أول ما يلقى من منى في رأس العقبة عن يسار الداخل في منى في ناحية مكة، والحصاة قربان فما تقبل منه رفع، وما لم يتقبل بقي، وليس على الحاج بمنى صلاة العيد، وإنما صلاتهم في ذلك اليوم وقوفهم بالمشعر الحرام، وأيام منى أيام ذكر الله تعالى والأيام المعدود (1) ات أيام منى الثلاثة، ويرمى فيها بالجمار، وهي أيام التشريق، وليس يوم النحر منها، والأيام المعلومات: يوم النحر واليومان اللذان بعده، وفي سفح الجبل على جمرة العقبة مسجد في حائطه من ناحية الجنوب حجر مبسوط أدكن، فيه أثر قدم إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، حين أضجعه للذبح فركض برجله، فلان له الحجر فغرق رجله فيه، وفي هذا الموضع في عرض الجبل أثر مجر الكبش، ثم تدخل منى فتلقى الجمرة الثانية عن يسارك بينها وبين جمرة العقبة أربعمائة ذراع، ثم الجمرة الثالثة وهي وسط المحجة، بينها وبين الجمرة الوسطى ثلثمائة ذراع وخمسون ذراعاً.
منبسة (2) :
مدينة في بلاد الزنج على الساحل صغيرة، وأهلها متحرفون باستخراج الحديد من معدنه والصيد للنمور، وكلابهم حمر تغلب كل الذئاب وجملة السباع، وهي في نهاية من القهر لها، وهي على البحر وعلى ضفة جون (3) كبير تدخله المراكب مسيرة يومين، وليس عليه شيء من العمارة، والوحوش تستقر في غياض ضفتيه معاً، فهم يصيدونها هناك، وفي هذه المدينة سكنى ملك الزنج، وأجناده يمشون رجالة لأن الدواب ليست عندهم ولا تعيش بأرضهم.
مصر:
هي الفسطاط، وهي خاصة بلاد مصر. وفي سنة تسع عشرة فتح عمرو بن العاصي مصر والإسكندرية، وقيل سنة عشرين، في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وجاء في الأثر: من أخرب خزائن الله فعليه لعنة الله، وخزائن الأرض هي مصر، أما سمعتم قول يوسف " اجعلني على خزائن الأرض "، وقالوا: مكتوب في التوراة: مصر خزائن الله فمن أرادها بسوء قصمه الله. وفي السير أن هاجر أم إسماعيل عليهما السلام وأم العرب من قرية كانت أمام الفرما من مصر.
وبمصر من المنافع والمصانع والبساتين والغرف المشرفة على النيل والقصور ما يبهج العيون ويطرب المحزون، وبين مصر والقاهرة نحو ثلاثة أميال، والقاهرة محدثة من بناء العبيديين.
قالوا (4) : ولما كانت سنة ثمان عشرة في خلافة عمر رضي الله عنه، وقدم عمر رضي الله عنه الجابية، خلا به عمرو بن العاصي رضي الله عنه وقد كان دخل مصر في الجاهلية وجرى له فيها خبر الكرة، وكان عمرو بن العاصي رضي الله عنه يعرف أحوال مصر، فجعل عمرو يعظم عند عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أمرها، ويعرفه بكثرة جبايتها، ويهون عليه فتحها حتى ركن عمر رضي الله عنه إلى قوله، فعقد له على أربعة آلاف وجهزهم معه وقال له: سر وأنا أستخير الله تعالى، وسيأتيك كتابي سريعاً بما أرى إن شاء الله تعالى، فإن أدركك كتابي آمرك به بالانصراف قبل أن تدخل أرض مصر فانصرف، وإن أنت دخلتها قبل أن يأتيك كتابي فامض لوجهك واستعن بالله واستنصره. فسار عمرو بن العاصي رضي الله عنه في جوف الليل ولم يشعر به أحد، واستخار عمر رضي الله عنه، فكأنه تخوف على المسلمين، فكتب إلى عمرو يأمره بالانصراف بمن معه، فأدركه الرسول وهو برفح، وتخوف عمرو إن قرأ الكتاب أن يكون فيه أمر بالإنصراف، فلم يأخذ الكتاب من الرسول ودافعه حتى نزل قرية قريبة من العريش، فسأل عنها فقيل له إنها من أرض مصر، فدعا بالكتاب فقرأه على المسلمين، ثم قال: ألستم تعلمون أن هذه القرية من أرض مصر؟ فقالوا: بلى، قال لهم: فإن أمير المؤمنين عهد إلي أنه إن لحقني كتابه وأنا لم أدخل أرض مصر أن أرجع بمن معي، وإن كتابه لم يلحقني حتى دخلت أرض مصر، فسيروا على بركة الله تعالى، فساروا حتى توسطوا بلاد مصر، فنزل عمرو بموضع على النيل، وهو الفسطاط، ولم تكن فيه حينئذ مدينة، وإنما بنى الفسطاط عمرو، وكان ملك مصر في ذلك الزمان المقوقس، وهو الذي أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم مارية القبطية، فلما سمع المقوقس دخول المسلمين بلاده ونزولهم الفسطاط، ولم يكن لديه علم، راعه ذلك فنظر في توجيه الجنود إليهم. وكتب عمرو إلى عمر يستمده فأمده بأربعة آلاف. ويقال إن أسقفاً كان بالإسكندرية من أهل العلم بالكوائن لما بلغه قدوم عمرو بالمسلمين إلى بلاد مصر، كتب إلى القبط يعلمهم أن ملكهم قد انقطع ويأمرهم بتلقي عمرو
__________
(1) سقط من ع.
(2) نزهة المشتاق: 22 (OG: 59) ، وانظر بسط الأرض، وتقويم البلدان: 152.
(3) نزهة المشتاق: خور.
(4) فتوح مصر لابن الحكم: 56 وما بعدها.(1/552)
بالطاعة له، فأطاعه كثير من القبط، فاستعان بهم على من سواهم، ثم سار عمرو إلى البلد الذي كان فيه الملك المقوقس، وكان حصناً عظيماً، فاتقى بخندق حوله، واصطف المسلمون على أبواب الخندق وعليهم السلاح والدروع، ثم إن عمر رضي الله عنه بعث الزبير بن العوام رضي الله عنه في اثني عشر ألفاً فقوي المسلمون، فجعل عمرو يلح بالقتال ووضع المنجنيق، فلما أبطأ الفتح على المسلمين قال الزبير بن العوام رضي الله عنه: أنا أهب نفسي لله وأرجو أن يفتح الله على المسلمين، فوضع له سلم إلى باب الحصن، فرقي فيه ثم قال: إذا سمعتم تكبيري أجيبوني، فما شعر أهل الحصن إلا بالزبير رضي الله عنه على رأس الحصن يكبر، والسيف بيده منتضى، فتحامل المسلمون على السلم حتى نهاهم عمرو خوفاً أن ينكسر بهم، فهرب أهل الحصن جميعاً، وعمد الزبير إلى باب الحصن ففتحه، فاقتحم المسلمون فيه، فلجأ الروم والقبط إلى قصر منيع في الحصن، فحاربهم المسلمون نحو شهر وكان في ذلك القصر الملك المقوقس مع أكابر الروم، فخاف المقوقس على نفسه وعلى من معه، فخرج على باب من موضع خفي، وترك في القصر جماعة يقاتلون، وأمر بقطع الجسر، ثم أرسل المقوقس إلى عمرو: إنكم قوم قد دخلتم بلادنا وطال مقامكم بأرضنا، وإنما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلتكم الروم وجهزوا إليكم الجيوش، وقد أحاط بكم هذا النيل، فأنتم أسارى بأيدينا، فابعثوا إلينا رجلاً منكم نسمع كلامه، فعسى يأتي الأمر بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب، وينقطع عنا وعنكم هذا القتال قبل أن تغشاكم جيوش الروم فتندموا، فرد عمرو مع رسله: إنه ليس بيننا وبينكم إلا إحدى ثلاث خصال: إما أن تدخلوا في الإسلام فكنتم إخواننا وكان لنا ما لكم وعلينا ما عليكم، فإن أبيتم أعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون، أو جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين، فلما رجعت رسل المقوقس قال لهم: كيف رأيتموهم؟ قالوا: رأينا قوماً الموت إلى أحدهم أحب من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة، وإنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على الركب، وأميرهم كواحد منهم يغسلون أطرافهم بالماء، وإذا حضرت صلاتهم لم يتخلف أحد منهم،
ويخشعون في صلاتهم تخشعاً كثيراً، فقال المقوقس: والذي نحلف به لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لزلزلوها، وما يقوى على قتال هؤلاء أحد وإن لم نغتنم صلح هؤلاء القوم وهم محصورون بهذا النيل. لن يجيبوا إذا تمكنوا من الأرض، وكان ذلك وقت خروج النيل وفيضه، والمسلمون قد أحدقت بهم المياه من كل جانب، لا يقدرون على النفوذ إلى الصعيد ولا إلى غيره. ن في صلاتهم تخشعاً كثيراً، فقال المقوقس: والذي نحلف به لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لزلزلوها، وما يقوى على قتال هؤلاء أحد وإن لم نغتنم صلح هؤلاء القوم وهم محصورون بهذا النيل. لن يجيبوا إذا تمكنوا من الأرض، وكان ذلك وقت خروج النيل وفيضه، والمسلمون قد أحدقت بهم المياه من كل جانب، لا يقدرون على النفوذ إلى الصعيد ولا إلى غيره.
ثم بعث (1) إليهم عمرو بن العاصي رضي الله عنه عشرة رجال، أحدهم عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وكان أسود اللون من العرب وأمره أن يكون متكلم القوم فإنه كان فصيحاً، وأمره ألا يجيبهم إلا إلى إحدى ثلاث خصال، وهي المذكورة قبل، فركبوا السفن ودخلوا على المقوقس، فتقدم عبادة رضي الله عنه للكلام فهابه المقوقس لسواده وقال: نحوا عني هذا الأسود وقدموا غيره، فقالوا جميعاً: هذا الأسود سيدنا وأفضلنا رأيا وحكمة، فكلمه عبادة رضي الله عنه، وازداد المقوقس هيبة لسواده وقال: نحوا عني هذا الأسود، فقالوا جميعاً: هذا الأسود سيدنا وأفضلنا رأياً وعلماً، فكلمه عبادة رضي الله عنه مرة أخرى، فقال المقوقس لأصحابه: لقد هبت منظره وان قوله عندي لأهيب، وإن هذا وأصحابه إنما خرجوا لإخراب الأرض، وما أظن ملكهم إلا سيغلب على الأرض كلها، وقال: نعطي كل من في الجيش دينارين دينارين، ونعطى أميرهم مائة دينار، ونبعث إلى خليفتهم ألف دينار فلم يجبه عبادة رضي الله عنه إلا إلى إحدى الثلاث خصال، فقال المقوقس لأصحابه: ماذا ترون؟ فقالوا: أما ما أراد من دخولنا في دينهم، فهذا ما لا يمكن ولا نترك دين المسيح إلى دين لا نعرفه، وأما ما أراد أن يجعلونا عبيداً فالموت أيسر من ذلك، فإن رضوا منا أن نضعف لهم ما أعطيناهم وينصرفوا عنا كان ذلك أهون علينا.
فانصرف عنهم (2) عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأصحابه ولم ينعقد بينهم صلح على شيء، فألح عليهم المسلمون بالقتال حتى أذعن المقوقس لإعطاء الجزية عن القبط خاصة، وأما الروم فيخيرون في المقام على الجزية أو الخروج إلى أرض الروم، وتم ذلك بينهم وبين المسلمين، فأحصي يومئذ جميع من بمصر أعلاها وأسفلها من القبط فكانوا ستة آلاف ألف ممن بلغ الحلم، سوى الشيخ الفاني والصغير النامي والنساء، وفرض على كل واحد منهم دينارين دينارين في السنة، فكانت فريضتهم اثني عشر ألف ألف،
__________
(1) النقل مستمر عن ابن عبد الحكم.
(2) لا يزال اعتماده على ابن الحكم مستمراً.(1/553)
ورفع ذلك عرفاؤهم بالأيمان المؤكدة، ثم زادت بمن استقر بها من النصارى وغيرهم من النوبة ثلاثة آلاف دينار، فجعل عمرو يبحث عن الأموال ويضمها إلى بيت المال، فذكر له أن عند عظيم الصعيد مالاً كثيراً، فبعث إليه فيه، فقال له: ما عندي مال، فسجنه، وسأل عمرو رضي الله عنه من كان يدخل إليه: هل يسمعونه يذكر أحداً؟ فقالوا له: سمعناه يكثر ذكر راهب الطور، فبعث عمرو رضي الله عنه فأتى بخاتم المسجون، وكتب كتاباً على لسانه إلى ذلك الراهب، فأتي بقلة من نحاس مختومة برصاص، فإذا فيها كتاب فيه: يا بني إذا أردتم مالكم فاحفروا تحت الفسقية، وهي السقاية، فحفروا فاستخرجوا خمسين أردباً دنانير، والأردب نحو قنطار ونصف.
ثم أمر عمرو (1) رضي الله عنه المسلمين ببناء دور يسكنونها بالفسطاط، وهي مدينة مصر اليوم، وإنما سميت مدينة مصر الفسطاط لأن عمرو بن العاصي رضي الله عنه حين دخل مصر وضرب فسطاطه بذلك الموضع فلما أراد التوجه إلى الإسكندرية لقتال من بها من الروم، أمر بنزع الفسطاط، فإذا فيه حمام قد أفرخ، فقال عمرو رضي الله عنه: لقد تحرم هذا منا بمحرم، فأمر بالفسطاط فأقر مكانه وأوصى عليه، فلما قفل المسلمون من الإسكندرية بعد فتحها قال الناس: أين ننزل؟ فقيل: الفسطاط، لفسطاط عمرو الذي تركه في المنزل بمصر. ثم بدأ عمرو بن العاصي رضي الله عنه ببناء المسجد، وكان في موضعه حدائق وأعناب فقطعها، ووضعوا أيديهم في البناء فلم يزل عمرو ومن حضر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قياماً حتى وضعت القبلة، فلما أتمه اتخذ فيه منبراً، فكان يخطب عليه، فوصل ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتب إلى عمرو بن العاصي: أما بعد: فإنه بلغني أنك اتخذت منبراً ترقى فيه على رقاب المسلمين أوما يسعك أن تقوم قائماً والناس من تحتك، فعزمت عليك لما كسرته. ثم اختط عمرو داره التي هي اليوم عند باب المسجد، بينهما الطريق، وكذلك اختط جميع من أراد سكنى مصر من المسلمين داراً لنفسه، واختط الزبير رضي الله عنه داراً، وجعل فيها السلم الذي صعد عليه إلى الحصن المتقدم الذكر، فلما ولي عبد الملك بن مروان اغتصبها من آل الزبير واصطنعها لنفسه، فلما ولي أبو جعفر المنصور ردها على هشام بن عروة من بني الزبير.
وحكى ابن عساكر أن رجلاً ذكر أنه لقي الياس عليه السلام وسأله: كم الأبدال؟ فقال: ستون خمسون ما بين عريش مصر إلى شاطئ الفرات، ورجلان بالمصيصة، ورجل بإنطاكية، وسبعة في سائر أمصار العرب، بهم يسقون الغيث وبهم ينصرون على العدو، وبهم يقيم الله أمر الدنيا، فإذا أراد أن يهلكها أماتهم أجمعين.
المصيصة (2) :
من ثغور الشام بالقرب من أنطاكية، والمصيصة مدينتان بينهما نهر عظيم يقال له جيحان، وهما على ضفتيه وبينهما قنطرة من حجارة، واسم الواحدة المصيصة والأخرى كفربيا، ولها بساتين وزروع، وجيحان يخرج من بلاد الروم حتى يصل المصيصة، وبين المصيصة والبحر اثنا عشر ميلاً.
والمصيصة (3) مكسورة الميم، قال الأصمعي: ولا يقال غير ذلك.
وفي سنة (4) أربعين ومائة كتب أبو جعفر المنصور إلى صالح بن علي يأمره ببناء المصيصة، فوجه صالح جبريل بن يحيى فرابط بها حتى بناها وفرغ منها سنة إحدى وأربعين ومائة، وأنزلها الناس.
وذكروا أنه من أطال الصوم بالمصيصة هاجت به المرة السوداء، وقد يجن.
وباب المصيصة الذي يلي البحر لا يغير البحر صفاء حديده ولا يولد فيه صدأ وكأنه قد جلي بالأمس، وتعبر الجسر بالمصيصة فتسير في صحراء ملساء خمسة فراسخ إلى أذنة.
المضيق (5) :
بين بلاد الخانوقة وقرقيسيا، بها كان مسكن جذيمة في زمان ملوك الطوائف وهو الذي قتلته الزبا بنت عمرو في الخبر المشهور.
معتب (6) :
عند جزيرة سقطرة من اليمن وهو مغاص اللؤلؤ،
__________
(1) ابن عبد الحكم: 91.
(2) نزهة المشتاق: 195، وانظر الكرخي: 47، وابن حوقل: 167، وياقوت (المصيصة) وأثار البلاد: 564.
(3) انظر معجم ما استعجم 4: 1235.
(4) انظر تاريخ الموصل: 173.
(5) انظر ياقوت (المضيق) .
(6) البكري (مخ) : 68.(1/554)
والغواصون عليه أجراء للمسلمين والنصارى، أجر الغواص فيه من قيراط إلى نصف درهم، يغوصون إلى نصف النهار، ثم يأخذون في شق الصدف إلى آخر النهار، وإذا أراد الغواصون أن يغوص أحدهم عمد إلى آلة ذات شقتين قد اتخذت من القرون دقيقة جداً تضم المنخرين فتمنع الماء منه، ويشد في إحدى رجليه صخرة مقدار عشرين مناً، وشد معها وعاء أخذ من شماريخ النخل جعل فيه ما وصل إليه من الصدف، فإذا ملأه حرك الحبل فجذبوه.
معرة النعمان (1) :
بالشام مدينة قديمة فيها خراب، بينها وبين حلب خمسة أيام، وهي مدينة كبيرة كثيرة المباني والأسواق، ولا في شيء من نواحيها ماء جار ولا عين، والغالب على أرضها الرمل وشرب أهلها من ماء السماء، وهي كثيرة الزيتون والكروم والتين والفستق والجوز وغير ذلك، وأهلها تنوخ.
ولها سبعة أبواب: باب حلب. باب الكبير. باب شيث. باب الجنان. باب حمص. باب كذا. وعلى ميل منها دير سمعان، وفيه قبر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، ويذكر أن قبر شيث بن آدم عليهما السلام عند الباب المنسوب إليه منها، وداخل المعرة قبر يوشع بن نون، وله يوم حفل في كل عام يقصد إليه من الأقطار ومنها أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعري اللغوي الشاعر البليغ الفصيح، كانت تشد إليه الرحال وتضرب إليه أكباد الإبل من الآفاق، وزعموا أنه ينتحل مذهب البراهمة والله أعلم. والناس يقابلون بينه وبين ابن سيده ويقولون: أعميان إمامان حافظان أحدهما بالمشرق والآخر في المغرب ويخوضون في ذلك. والذي ذكر البلاذري (2) أنها تنسب إلى النعمان بن بشير الأنصاري.
وبلاد المعرة (3) سواد كلها بشجر الزيتون والتين والفستق وأنواع الفواكه، ويتصل التفاف بساتينها وانتظام قراها مسيرة يومين، وهي أخصب بلاد الله وأكثر أرزاقاً ووراءها جبل لبنان.
معان:
موضع في طريق الشام من المدينة؟ وقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه عند خروجه في المبعث الذي وجهه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع غيره من الأمراء إلى مؤتة، وكان بلغهم أن الروم قد جمعت لهم، فتردد الناس وكأنهم تهيبوا فقال (4) :
جلبنا الخيل من أجأ وفرع ... تغر من الجشيش لها العكوم
أقامت ليلتين على معان ... فأعقب بعد فترتها جموم
فلا وأبي مآب لنأتينها ... وإن كانت بها عرب وروم وفي شعر أبي العلاء المعري (5) :
معان من أحبتنا معان ... تجيب الصاهلات به القيان
بئر معونة:
ماء لبني عامر بن صعصعة، كانوا غدروا فيه ببعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر القصة بطولها ابن إسحاق في سيره (6) .
مغام (7) :
في جهة طليطلة، وفيها الطفل الذي لا يشبهه طفل، لجودته وكثرته.
المغمس (8) :
موضع في طرف الحرم فيه برك محمود فيل أبرهة حين توجه به إلى مكة لإخراب الكعبة بزعمه، جعلوا يوجهونه إلى كل جهة فيمضي، فإذا وجهوه إلى الكعبة برك، وجهدوا في ذلك فأعياهم، وكان قائل قال له في أذنه: ابرك محمود فإنك في حرم الله تعالى، وفي هؤلاء نزل " ألم تر كيف فعل ربك
__________
(1) نزهة المشتاق: 197 وبعضه في أول المادة وآخرها عن اليعقوبي: 324، وانظر الكرخي: 46، وابن حوقل: 164، وياقوت (معرة النعمان) ، وفي صبح الأعشى 4: 142 نقل عن الروض.
(2) فتوح البلدان: 156.
(3) رحلة ابن جبير: 254.
(4) السيرة 2: 357.
(5) شروح السقط: 172.
(6) السيرة 2: 183.
(7) أهملها بروفنسال، كأنه اعتمد على ما ورد عنها في مادة طليطلة، وانظر الإدريسي (د) : 188.
(8) انظر معجم ما استعجم 4: 1248، والسيرة 1: 52.(1/555)
بأصحاب الفيل "، والقصة مبسوطة في سير ابن إسحاق أيضاً، والميم الثانية في المغمس مكسورة وروي فتحها فأما الأولى فمضمومة، وقال أبو الصلت الثقفي:
حبس الفيل بالمغمس حتى ... ظل يحبو كأنه معقور
مغانجه (1) :
بقرب الدرب في بلاد افرنجة، وهي مدينة عظيمة جداً لا يسكن منها إلا بعضها لانخراقها واتساعها، وسائرها مزارع، وهي على نهر عظيم كان عليه في الزمان القديم قنطرة من صخر جليل على حنايا عالية، فكان لصوص الصقالبة وغيرهم قبل تبصرهم يعبرون عليها فيغيرون على نواحي مغانجة، فأمر صاحبها يومئذ بخراب القنطرة فخربت وهدمت أرجلها حتى ساوت الماء، وبقبلي مغانجة خارج منها كنيسة كبيرة يعظمها النصارى، وموضع مغانجة أشرف موضع في جميع بلاد النصارى، وهي من غر البلدان ولها أحواز واسعة، وهي كثيرة الحبوب والكروم والفواكه، ومنها تحمل الأطعمة والشراب إلى الأقاليم الموالية لها ويختلف إلى مدينة مغانجة أهل بردون واليهود بجهاز الأندلس وذلك غزل الحرير والخز والبياض والشقيق والزئبق والأحمر واللاذن والزعفران وغير ذلك من السلع والبضائع، وفي أحواز مغانجة الخيل العتاق.
مقور (2) :
جبل في شمال أرض كوار فيه عروق ترابية لينة تنفع من أوجاء العين الرمدة مثل ما ينفع رهج الغار الذي بعقر (3) مدينة طلبيرة من بلاد الأندلس من جرب العين ويأكل ما فيها وهو غبار يوجد هناك لونه أخضر ما هو وهذا الغبار مشهور المنفعة في جميع بلاد الأندلس مجرب. وتتصل هذه الأرض بأرض الواحات، وهي المعروفة بأرض سنترية، وسنترية محدثة قريبة العهد.
مقرة (4) :
بينها وبين المسيلة من بلاد الزاب مرحلة، وهي مدينة صغيرة وبها مزارع وحبوب، وأهلها يزرعون الكتان، وهو عندهم كثير، وبين مقرة وطبنة مرحلة، وبين طبنة وبجاية ست مراحل.
ومقرة هي المدينة العظمى وفيها منبر وعليها سور، وأهلها قوم من بني ضبة، وبها قوم من العجم، وحولها قوم من البربر، ولها حصون كثيرة.
المقدس:
بايليا، وكورة ايليا من فلسطين، والتقديس التطهير، والأرض المقدسة أربعون ميلاً في مثلها، وأول من بنى بيت المقدس وأري موضعه يعقوب، وقيل داود عليهما السلام، وكان من بناء داود عليه السلام له إلى وقت تخريب بخت نصر إياه وانقطاع دولة بني إسرائيل أربعمائة سنة وأربع وخمسون سنة، فلم يزل خراباً إلى أن بناه ملك من ملوك طوائف الفرس يقال له كوشك ثم تغلبت ملوك غسان على الشام بتمليك ملوك الروم لهم ودخولهم في نصرانيتهم، إلى أن جاء الله تعالى بالإسلام وملك الشام منهم جبلة بن الأيهم، ففتح الله الشام على المسلمين زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتولى أبو عبيدة رضي الله عنه على ايليا وحاصرها إلى أن صالحوه على أداء الجزية، على أن يكون عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو المتولي لعقد الصلح معهم، فكان ذلك سبب مسير عمر رضي الله عنه إلى الشام ومباشرته لعقد الصلح معهم، وهذا قد سبق فيما مضى من هذا الكتاب، وهو مذكور في فتوح الشام.
قالوا: وسخر عمر رضي الله عنه أنباط فلسطين في كنس بيت المقدس، وكانت فيه مزبلة عظيمة، وقد مر هذا أيضاً في ذكر ايليا.
ويوقد (5) في مسجد بيت المقدس كل ليلة جمعة وفي النصف من شعبان وفي الأعياد ألفا شمعة سوى القناديل، وفيه من القباب خمس عشرة قبة سوى قبة الصخرة، وعلى سطح المسجد مع القباب من شقق الرصاص حاشا قبة الصخرة سبعة آلاف شقة وسبعمائة
__________
(1) ذكرها القزويني في آثار البلاد: 608، والأصل فيما يبدو هو البكري اعتماداً على الطرطوشي، وذكر أنها تقع على نهر ((رين)) وقد رأى فيها الطرطوشي سنة 331 دراهم من ضرب سمرقند، ورأى في أسواقها كثيراً من المواد التي لا توجد إلا في أقصى الشرق كالفلفل والزنجبيل والقرنفل؛ ولعلها هي ميانصة عند الإدريسي (Mainz) وكان اسمها اللاتيني (Myence) .
(2) الإدريسي (د/ ب) : 40/ 26 (مقور أو مقون) (OG: 119) .
(3) الإدريسي: بقفر، والقراءة التي أثبتها محتلمة، فاللفظة في ع: بعفر، وفي ص: بصفر.
(4) الإدريسي (د/ ب) : 93/ 66، وقارن بالبكري: 51.
(5) عارضت هذه المادة بما في نزهة المشتاق: 113، والكرخي وابن حوقل والمقدسي وابن الفقيه.... والمؤلف ينقل عن مصدر آخر، لعله مسالك البكري، وفي صبح الأعشى 4: 101 عن الروض.(1/556)
شقة، وزن كل شقة سبعون رطلاً بالشامي، وفيه أربع صوامع للأذان، وكان له من المسلمين ثلثمائة خادم ومن النصارى عشرة يكنسون سطوحه وينظفون قنوات الماء ولا تؤخذ منهم جزية، ومن اليهود نيف وعشرون خادماً ولا تؤخذ منهم جزية، وكانوا يحجبون المسجد وينظفون الظاهر حول المسجد. ووظيفته من الزيت كل شهر سبعمائة قسط بالإبراهيمي، وزن القسط رطل ونصف رطل بالشامي الكبير.
وقبة الصخرة على أكمة في المسجد، والصخرة تحت القبة، وتحت القبة مغارة ينزل إليها بدرج مما يلي الباب القبلي من أبواب القبة، والصخرة مرتفعة من ناحية المغرب ذراعين، منخفضة من جهة المشرق، وحول الصخرة حظيرة من رخام ارتفاعها نحو ذراع ونصف، ولقبة الصخرة أربعة أبواب، وفي المسجد القبة التي يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم عرج به منها إلى السماء، ومنارة إبراهيم عليه السلام التي كان يتخلى فيها للعبادة، ومصلى جبريل عليه السلام، ومصلى الخضر، والسطح المسقف من بيت المقدس قد سوي وفرش على بنيان قديم نحت نحتاً، ينسب بناؤها إلى سليمان بن داود عليهما السلام، ولولا ذلك ما اعتدل سطح المسجد لأنه في سند، وفيما بين تلك الحنايات التي في المسجد والقباب التي في وسط المسجد أكمة مرتفعة من الأرض لها من كل ناحية نحو ست درجات وأكثر، وهناك مقامات للدعاء معروفة وشرف من المسجد على واد ينحط منه إلى عين يقال لها سرحان، يقال إنها العين التي كان المسيح عليه السلام يفتح فيها عيون العميان، وهناك كنيسة يقال لها الجسمانية وعلى فرسخ منها مما يلي قبلتها في مستو من الأرض بيت لحم، وبه ولد المسيح عليه السلام، وبه النخلة التي تساقطت على مريم رطباً جنيا والسري الذي جعل الله تحتها فشربت منه وتطهرت، والمهد الذي جعلت فيه المسيح حين ولدته، وهو حوض أبيض غسلته فيه، وهو قريب من العين، وعلى فرسخين من بيت لحم تجاه القبلة منه قبر إبراهيم الخليل عليه السلام، تصعد جبلاً ثم تنحط إليه، وإلى جانبه قبر إسحاق عليه السلام، وهناك مسجد إبراهيم عليه السلام، ومن بيت المقدس إلى مسجد إبراهيم عليه السلام ثلاثة عشر ميلاً مما يلي القبلة، وحول القرية التي فيها قبر إبراهيم عليه السلام غياض وأشجار تفاح أحمر، وهناك دير إلى جانبه جبل يصعد في قنته في قدر ثلثمائة مرقاة، يقال إن هذا الجبل صعد منه المسيح عليه السلام إلى السماء.
مقدونية:
اسم قديم لمصر قبل أن ينزلها مصر بن هرمس، وإليها ينسب الاسكندر، فيقال المقدوني (1) .
المقطم (2) :
جبل يتصل بمصر أوله من ديار مصر، فيمر في الصحراء إلى أن ينتهي إلى قرب أسوان، وهو جبل مشهور بالطول، وأما ارتفاعه فإنه يعلو من مكان وينخفض في مكان، وتنقطع منه مواضع، وتحفر منه المغرة والكلس، وفيه ذهب كثير، وكذلك تربته إذا دبرت استخرج منها ذهب صالح، ويتصل قطع بديار مصر الداخلة في البحر الملح في جهة القلزم، وهو بحر الحجاز، وفي هذا الجبل وما اتصل به كثير من الكنوز مما خبأته ملوك مصر في الزمن القديم، وفيه كثير من هياكل الكهنة وعجائبهم، ومما يلي البحر منه الجبل المتحرك المدور الذي لا يستطيع أحد أن يصعده ولا يجد السبيل إلى الطلوع إليه لإملاسه وارتفاعه، ويذكر أن فيه كنوزاً عظيمة لمقطم الكاهن، وإليه ينسب هذا الجبل بأسره، وفيه أيضاً كنوز كثيرة لبعض ملوك مصر من المال والجوهر وتراب الصنعة والتماثيل العجيبة وأصنام الكواكب، وقد كانوا رأوا في علومهم أن ملكاً من ملوك الإفرنجة يقصدهم لما كان اتصل به من كثرة أموالهم والصنعة التي كانوا يدبرونها لعمل الذهب، فكان ما خافوه من ذلك حقاً، وقصدهم الملك الإفرنجي، فغزا ديار مصر في ألف مركب، فهرب أكابرهم إلى هذا الجبل وتستروا في الأماكن الخفية فيه، وبعضهم أمعن في الهرب حتى لحق بالواحات فلم يوصل إليهم، ونجا أكثرهم بأموال. وعرض هذه الصحراء التي قدمنا ذكرها يقطعها السالك من قوص إلى عيذاب في عشرين يوماً، وبها جب ماؤه من أعجب العجب لا ينزل به من شربه من حيث تنزل المياه من الإنسان، ولا يقيم بالمعدة، بل إذا شربه الإنسان لم يلبث أن ينزل به من مقعدته مسرعاً من غير تأخير ولا إقامة، ولا تسلك هذه الصحراء في اشتداد الحر، فما يمر به السالكون إلا في آخر أيام الخريف، وأهل مصر يدفنون موتاهم في جبل المقطم.
وكان السبب (3) في جعله مقبرة ما روي أن عمرو بن العاصي رضي الله عنه لما فتح مصر قال له المقوقس: إنا نجد أن هذا
__________
(1) إن الحديث عن مقدونية التي ينسب إليها الاسكندر قد مر في رسم ((مجدونية)) ؛ وهذا التعريف بمقدونية نقله مؤلف الترجمانة: 481؛ وانظر ابن خرداذبه: 80.
(2) صبح الأعشى 3: 306.
(3) انظر ياقوت: (المقطم) .(1/557)
الجبل فيه غراس الجنة، فكتب إلى عمر رضي الله عنه بذلك فقال: لا أعرف غراس الجنة إلا موتى المسلمين وإلا شهداء المسلمين، فاجعله مقبرة لهم، فجعله مقبرة. وفي المقطم اغتيل الحاكم بأمر الله خليفة مصر العبيدي؛ وهو متصل بأرض الفسطاط.
قالوا (1) : وبه جمل من قبور الأنبياء عليهم السلام كيوسف ويعقوب والأسباط.
مقاصر:
جزيرة في البحر الهندي في مطلع الشمس فيها الصندل المقاصري وجوزة الطيب، وفي الشمال منها منتهى معمور الجزائر وتصرف السفن، فإن أخطأت السفينة ذات اليمين هلكت.
مسكيانة (2) :
قرية بقرب مجانة المطاحن عند نهر ملاق، وبقرب باغاية، وبينها وبين مجانة مرحلة، وهي مدينة عامرة قديمة أزلية بها زروع ومكاسب، وهي أكبر من مرماجنة.
مستغانم (3) :
مدينة بقرب نهر شلف، بينها وبين قلعة مغيلة دلول مسيرة يومين، وهي مدينة مسورة ذات عيون وبساتين وطواحن ماء، ويبذر في أرضها القطن فيجود، وهي بقرب مصب نهر شلف.
وهي (4) على البحر ولها أسواق وحمامات وجنات وبساتين ومياه كثيرة وسور على جبل مطل إلى ناحية المغرب، وهي صغيرة.
المسيلة (5) :
من بلاد الزاب بالمغرب بقرب قلعة أبي طويل، وهي مدينة جليلة على نهر يسمى نهر سهر في بساط من الأرض. ومنبع نهر سهر من مدينة الغدير، وأسس المسيلة أبو القاسم إسماعيل بن عبيد الله الشيعي سنة ثلاث عشرة وثلثمائة وكان المتولي لبنائها علي بن حمدون بن سماك الجذامي المعروف بابن الأندلسي، فلما أتمها أمره الشيعي عليها، فلم يزل بها أميراً حتى مات في فتنة أبي يزيد، وبقي ابنه جعفر أميراً فيها وولي بلاد الزاب كلها، وجعفر هذا هو ممدوح محمد بن هانئ الأندلسي الشاعر المشهور، له فيه أمداح حسان، وكان من أكثر أهل زمانه إحساناً والمسيلة كثيرة النخل والبساتين تشقها جداول المياه العذبة، وكانت مدينة عظيمة على نظر كبير، وحواليها قبائل كثيرة من البربر من عجيسة وهوارة وبني برزال.
وبها أسواق وحمامات، ويجود عندهم القطن وهي كثيرة اللحم رخيصة السعر، وبها عقارب مهلكة لا يخلص من لدغها والعياذ بالله.
وقيل إن المسيلة المستحدثة أحدثها علي بن الأندلسي في ولاية ادريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهم، وهي عامرة في بسيط من الأرض ولها مزارع ممتدة، ولأهلها سوائم وخيل وأغنام وأبقار وجنات وعيون وفواكه وبقول ولحم ومزارع قطن وقمح وشعير، وبها قوم من البربر والتجار، وبها ماء كثير منبسط على وجه الأرض عذب، وفيه سمك وفيه طرق حمر لم ير في الدنيا سمك على صفته، وأهل المسيلة يفتخرون به، قدره من الشبر فما دونه، وربما اصطيد منه الشيء الكثير واحتمل إلى قلعة بني حماد، وبينهما اثنا عشر ميلاً.
مسكن:
قرية من أرض العراق على دجلة فيها عسكر عبد الملك بن مروان حين خرج إلى مناجزة مصعب بن الزبير، وهي من أرض السواد.
قال ابن عباس (6) رضي الله عنهما: لما رجعنا من حرب الشراة صلى بنا أمير المؤمنين بمسكن صلاة الفجر ثم انفتل عن يمينه فنظر إلي فتبسم فقلت: ما يضحك أمير المؤمنين أضحك الله سنه؟ فقال: يا ابن عباس تبنى هاهنا مدينة عظيمة المقدار يسكنها خلق كثير من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، الحديث.
وفيها التقى الحسن ومعاوية رضي الله عنهما فاصطلحا وكتبا بينهما كتاباً، ورجع الحسن رضي الله عنه إلى المدينة، فعوتب فقال: كرهت الدنيا ورأيت أهل الكوفة لا يصلحون لخير، وهم أسرع البلاد خراباً، وكان ذلك في سنة إحدى وأربعين.
__________
(1) الإدريسي (د) : 145.
(2) الإدريسي (د/ ب) : 119/ 88، وانظر البكري: 50، 145.
(3) البكري: 69.
(4) الإدريسي (د/ ب) : 100/ 71.
(5) في هذه المادة ثلاث فقرات، الأولى عن الاستبصار: 171 - 172، والثانية عن البكري: 59، والثالثة عن الإدريسي (د/ ب) : 85/ 59، ومن ثم تعرضت هذه المادة إلى التكرار في مواضع.
(6) معجم ما استعجم 4: 1227.(1/558)
ومسكن (1) أيضاً متصلة بنواحي كرمان، وهي عامرة بالناس، وفي أهلها شدة ومنعة، وبها نخل وزروع وإبل وجمل من الفواكه. ولسان أهل كرمان فارسي، ولباس عامتهم القواطن، ولباس التجار والجلة القمص والأردية، ويتعممون بالفوط والمناديل المصفحة بالذهب على مثل زي تجار أهل العراق.
مسينا (2) :
هي مدينة في ركن جزيرة صقلية في شرقيها، والجبال من الناحية الغربية محيطة (3) بها، وهي إحدى قواعدها، ساحلها بهيج وأرضها طيبة المنابت، وبها جنات وبساتين ذات ثمار كثيرة، وعليها أنهار غزيرة عليها أرحاء كثيرة، وهي من أجل البلاد وأكثرها عمارة، والسفر منها وإليها قصداً، وهي دار إنشاء وبها حط وإقلاع وبها إرساء، من جميع بلاد الروم الساحلية، وبها تجتمع السفن الكبار والمسافرون والتجار من بلاد الروم والإسلام، وأسواقها رائقة وسلعها نافقة وقاصدوها كثير؛ وفي جبلها معدن الحديد الذي يتجهز به إلى جميع البلاد المجاورة لها، ومرساها عجيب مشهور ترسي به السفن العظام وتكون من الشاطئ بحيث يتناول ما فيها من البر بالأيدي، وبها المجاز الذي يعبر منه إلى بلد قلورية، وبحره صعب المجاز لا سيما إذا خالف الريح الماء وإذا التقت المياه الداخلة والخارجة في وقت واحد لا يكاد يسلم مركب إلا أن يشاء الله تعالى، ومسافة الواسع من هذا المجاز عشرة أميال، وسعة الضيق منه ثلاثة أميال، وبينها وبين طبرمين مرحلة.
هي مشهورة بالخمر الطيبة وفي مطلع قصيدة لابن قلاقس (4) :
من ذا يمسيني على مسيني ... وقال الأديب أبو عبد الله محمد بن الشيخ أبي تميم من أهل العصر:
يا سيدي قد جاء مسيني ... أرق من حالي ومن ديني
جاء به مرتين في دنه ... لا عطبت أجفان مرتين
وليس يدنيني من دنه ... إلا ندى موسى بن ياسين وهذه المدينة مسينة (5) رأس جزيرة صقلية وبها دار صنعة لإنشاء الأساطيل.
مسفهان (6) :
جزيرة من الجزائر الخالدات التي في الغرب الأقصى حيث بحر الظلمات الذي لا يعلم ما خلفه، وفي وسط هذه الجزيرة جبل مدور عليه صنم أحمر بناه أسعد أبو كرب الحميري، وهو ذو القرنين الذي ذكره تبع في شعره، وتسمى بهذا الاسم كل من بلغ طرفي الأرض، وإنما نصب أبو كرب الحميري ذلك الصنم هناك ليكون علامة لمن قصد تلك الناحية في البحر، ليعرفه ويعرف أنه ليس وراءه مسلك يسلك، وفي ساحل هذا البحر الذي فيه هذه الجزيرة يوجد العنبر الجيد، ويوجد أيضاً في ساحله حجر البهت، وهو حجر مشهور عند أهل المغرب الأقصى يباع الحجر منه بقيمة جيدة، ولا سيما في بلاد لمتونة، وهم يحكون أن هذا الحجر من أمسكه وسار في حاجة قضيت له بأوفى عناية، وهو عندهم جيد في عقد الألسنة، وعندهم حجر إذا علق على الثدي الموجوع برئ، وأحجار تسهل الولادة، وأحجار يشير (7) ماسكها إلى ما أراد من النساء والأطفال فتتبعه.
مسقط:
في طريق عمان على البحر، يمر عليها من أراد بلاد الهند والصين فيسير مع الشمال تلقاء الجنوب حتى يصير إلى مسقط هذه، وهي بين جبلين، وترفأ هناك السفن وتستقي من آبار هناك عذبة المياه وتحمل منها الحجارة لرمي العدو إذا خرج عليه ثم تسير منها مع الشمال، وجبال العرب ماثلة ظاهرة، حتى تمر مقدار تسعين فرسخاً إلى حدود الشحر وحضرموت.
__________
(1) لم أجد أحداً ذكر أن ((مسكن)) متصلة بنواحي كرمان، وأقرب ما هنالك إلى هذا الاسم هو ما ذكره ياقوت عن ((مسكي)) إذ قال أنها ناحية تتصل بنواحي كرمان، وأضاف: وفيها نخيل قليل وفيها شيء من فواكه الصرود ... الخ، والأرجح أن مؤلف الروض ظن ((الياء)) ((نوناً)) .
(2) (Messina) الإدريسي (م) : 26.
(3) الإدريسي: محدقة.
(4) أبو الفتح نصر الله بن عبد الله بن مخلوف الإسكندري المعروف بابن قلاقس (- 576) ، عن علاقته بصقلية دراسة في كتابي ((العرب في صقلية)) : 287 - 295، وليس هذا مطلع قصيدة، وصدر البيت ((وأظل أنشد حين أنشد صاحبي)) .
(5) اتبع هذا الرسم ابن جبير: 323 وقد تكتب أيضاً ((مسيني)) و ((مسين)) عند الزهري: 130.
(6) الإدريسي (د/ ب) : 28/ 15 (OG: 104) .
(7) ص ع: سعد؛ ولعلها ((يقصد)) .(1/559)
المشلل (1) :
في طريق مكة، وهي ثنية مشرفة على قديد، وفيه دفن مسلم بن عقبة صاحب وقعة الحرة ونبش وصلب.
ولما احتضر فيه (2) وهو متوجه إلى مكة لحرب ابن الزبير سنة أربع وستين دعا الحصين بن نمير فأوصى إليه بوصية يزيد بن معاوية إياه وقال: والله يا برذعة الحمار ما خلق الله تعالى خلقا أبغض إلي منك، ولولا أن أمير المؤمنين عهد إلي فيك ما عهدت إليك، لا تكرم قريشاً ولا تزدهم على الوقاف ثم الثقاف ثم الانصراف، ثم مات لعنه الله، فكان من موت يزيد بن معاوية وأمر الحصين وانصرافه عن ابن الزبير ما هو مشهور.
المشرقان (3) :
مدينة بقرب تستر، وهي عامرة بأهلها، والصادر عنها والوارد عليها كثير، ولهم معايش وأرزاق، وأكثر شجرها النخل، ورطبهم إذا أكله الإنسان وشرب عليه ماء المشرقان وجد عليه رائحة الخمر سواء، وعندهم من الحنطة والشعير شيء كثير، والأرز وسائر أنواع الحبوب، وهم يطبخون الأرز ويتخذون منه خبزاً يأكلونه ويفضلونه على الحنطة، وبالمشرقان من غلات القصب الشيء الكثير الذي يفوق ما بسائر البلاد والآفاق من ذلك.
وقد ذكر البكري (4) مشرقان، بضم أوله واسكان ثانيه وضم الراء المهملة بعدها قاف، وقال هي قرية من عمل البصرة، فانظر هل هي هذه أو غيرها.
مشقه (5) :
مدينة للصقالبة من أعمال براغة وتلي بلاد الأتراك، ومشقه بلد واسع كثير الطعام واللحم والعسل والحوت (6) ، وجبايته المثاقيل البرقطية (7) ، وهي أرزاق رجاله في كل شهر، كل واحد
عدد معروف منها، ولصاحبها ثلاث آلاف دارع (8) ، وهم أنجاد تعدل المائة منهم خمسمائة (9) من غيرهم، ويعطى الرجالة الملابس والخيل والسلاح وجميع ما يحتاجون إليه، وإذا ولد لأحدهم ولد أمر بإجراء الرزق عليه ساعة يولد، ذكراً كان أو أنثى، فإذا بلغ إن كان ذكراً زوجه ودفع عنه النحلة إلى والد الجارية، وإن كانت أنثى أنكحها ودفع النحلة إلى أبيها، والنحلة عند الصقالبة عظيمة، ومذهبههم فيها كمذهب البربر، وإذا ولد للمرء ابنتان أو ثلاث فهو سبب غناه، وان ولد له ولدان أو ثلاثة فهو سبب فقره. ويجاور مشقه من المشرق الروس.
المشقر (10) :
قصر بالبحرين وقيل هو مدينة هجر قال امرؤ القيس (11) :
دوين الصفا اللائي يلين المشقرا ... وقال ابن الأعرابي: هي مدينة عظيمة في وسطها قلعة.
مهزور (12) :
واد من أودية المدينة، الأولى منه زاي معجمة وآخره راء مهملة.
روى مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في سيل مهزور ومذينب: " يمسك الأعلى حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل الأعلى على الأسفل ". وقيل مهزور (13) موضع سوق المدينة، كان قد تصدق به رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، فأقطعه عثمان رضي الله عنه الحارث بن الحكم أخا مروان بن الحكم، وأقطع مروان فدك.
مهيعة:
تقدم ذكره في رسم الجحفة.
المهراس (14) :
ماء بأحد، قال ابن الزبعرى:
__________
(1) معجم ما استعجم 4: 1233.
(2) انظر الطبري 2: 424.
(3) المشرقان - بالشين - كما هي في نزهة المشتاق: 123 وعنه ينقل المؤلف، وكذلك وردت بالشين عند المقدسي: 405، 411، وبالسين المهملة عند ابن حوقل: 228، والكرخي: 63 وياقوت (مسرقان) .
(4) ذكر البكري (المعجم: 1225) مسرقان - بفتح أوله - وبالسين المهملة، وقوله من عمل البصرة تعريف اداري وإلا فإن المسرقان من منطقة خوزستان.
(5) البكري (ح) : 166، والبكري (مخ) : 61؛ ومشقه: اسم ملك الجوف من بلاد الصقالبة (Mieszko) وكان ملك بولنده؛ فالحديث هنا عن بلد الملك المسمى مشقه.
(6) البكري (مخ) : والحرث.
(7) كذا هنا؛ ومرت من قبل: ((المرقطية)) وفي البكري (مخ) المرنطية.
(8) ع ص: ذراع.
(9) البكري: عشر مائة (ولعله وهم من المحقق، إذ لو كان الأمر كذلك لقال: ألفاً) .
(10) معجم ما استعجم 4: 1232.
(11) صد البيت: أو المكرعات من نخيل ابن يا من.
(12) معجم ما استعجم 4: 1275، وانظر المغانم المطابة: 398.
(13) في المغانم المطابة: 398 والفائق للزمخشري إن موضع سوق المدينة هو ((مهروز)) .
(14) معجم ما استعجم 4: 1274، وانظر المغانم المطابة: 396.(1/560)
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
فاسأل المهراس من ساكنه ... بعد أبدان وهام كالحجل وقال شبل بن عبد الله مولى بني هاشم (1) :
واذكروا مصرع الحسين وزيد ... وقتيلاً بجانب المهراس يعني حمزة بن عبد المطلب، وإنما نسب قتله إلى بني أمية لأن أبا سفيان كان رئيس الناس يوم أحد.
مهورة (2) :
مدينة بالهند منيعة مشهورة لها في بلاد الكفر ذكر قديم واشتهار عظيم، ومن جهلهم يذكرون أن الجن رفعت قواعد بنيانها وبنت بيوت أوثانها، إذ لم يعرفوا أول بانيها، ولا أول من نصب الأصنام فيها، وذاك أنهم صادفوا مباني لا يهتدي لمثلها الإنس، ولا يهتدي لصنعتها أهل الدهر، ويوردون في أخبارهم أن الحكمة تقسمت ثلاثة أقسام، ففاز أهل مهورة وأصنامها بثلثيها، وبقي لسائر البرية ثلثها، وهي مدينة كبيرة لها سبعة أبواب، وبني سورها بالشيد والحجارة، وكان فيها زهاء ألف قصر مشيد، وألف بيت للأصنام، وكان في عرصتها دار ذات ارتفاع، ساحتها ألف ذراع، قد بنيت من صفائح الصخور، وبني عليها ثلاثة بيوت للأصنام، وكلها من حجر لا تعمل فيه المعاول، حتى كأنها من أسها إلى سمكها منحوتة من حجر واحد، وعلى رأس كل واحد من بيوتها شمسة عظيمة قد وشحت بالتذهيب التام، وأمام كل بيت سارية منصوبة من صخرة واحدة، طولها ثلاثون ذراعاً في نهاية الغرابة، على رأس كل واحدة منها تمثال خنزير أو ثور، قد تلطف في تصويرها بغاية الحذق، بحيث لو تصاب صخور مثل تلك الصخور المنحوتة وصناع يحسنون تلك الصنعة وبذل مائة ألف دينار على التقليل، لما تم في مدة مائتي سنة مثل ذلك البناء على التحقيق. وكانت فيها خمسة أصنام مصنوعة من الذهب طول صنم منها تسعة أذرع في عرض موافق لهذا الطول، وجوارح تشاكل هذا الجرم المحدود، وكان وجه كل صنم منها كوجه أسد، له نابا خنزير، قد ركب في رأس كل ناب منهما ياقوت متقارب الهيئة رماني اللون، في صفاء واحمرار رائق، كأنهما قد أفرغا في قالب واحد، بحيث لو أعطيا في سوم مبتاع لاسترخص كل واحد منهما بمائتي ألف دينار، ووجد في سائر جوارحه من الياقوت واللآلي الكبار عدد كثير بلغ وزن ياقوت أكهب منها وزن ستمائة مثقال، وبغور الفراغ وزن صنم منها بعد عناء شديد في تفريق أجزائه فبلغ ثمانية وتسعين ألف مثقال وثلثمائة مثقال، وكل واحد من هذه الأصنام غير ناقص عن هذا المقدار، وقلع من الأصنام المفصلة زيادة على ألف صنم من الكبار والصغار وملئت تلك البيوت بالحطب وأضرمت فيها النيران.
مهرة:
من بلاد اليمن، ذكر ابن وهب عن ابن لهيعة أن رجلاً من مهرة أتى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له: ممن أنت؟ قال: من مهرة، فقال علي رضي الله عنه " واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف ". قال ابن لهيعة: قبر هود عليه السلام بمهرة.
المهدية:
مدينة محدثة بساحل إفريقية، كان يقال لتلك الناحية: جمة، بناها عبيد الله الشيعي الخارج على بني الأغلب، وهو سماها المهدية نسبها إلى نفسه، وكان ابتداء بنيانها في سنة ثلثمائة، وهو عبيد الله بن سالم صاحب شرطة زياد ومن مواليه، وسالم جده قتله المهدي العباسي على الزندقة وكان عبيد الله يلقب بالمهدي، وللناس اختلاف في ثبوت نسبه وأكثرهم نفاه وما أثبته، والعبيديون منسوبون إليه، وانتقلوا إلى الإسكندرية وملكوها وملكوا البلاد المصرية، وكانت لهم دولة شامخة حتى كان آخرهم عبد الله العاضد، فهو الذي حجبه صلاح الدين، ثم تسبب في محو رسمهم وصير الدولة عباسية.
وبين المهدية (3) والقيروان ستون ميلاً، والبحر قد أحاط بها من جهاتها الثلاث، وإنما يدخل إليها من الجانب الغربي، وربضها يعرف بزويلة، فيه الأسواق والحمام، وقد مر ذكرها في حرف الجيم (4) .
__________
(1) كذا في معجم البكري والمشهور أن الشعر لسديف بن ميمون.
(2) ع: مهوبة؛ ص: مهوية، وصححتها ترجيحاً اعتماداً على ما عند البيروني في ((تحقيق ما للهند)) . فقد ذكر ((ماهورة)) (انظر مثلاً: 158، 466 ... ) وميزها بالشهرة الدينية والتعظيم عند البراهمة.
(3) الاستبصار: 117، والبكري: 29.
(4) انظر مادة ((جمة)) .(1/561)
ولم تزل (1) ذات إقلاع وحط، وهي مدينة حسنة، مقصد للسفن الواردة من المشرق والمغرب والأندلس وبلاد الروم وغيرها، وإليها تجلب البضائع الكثيرة بقناطير الأموال، وهي من القيروان على نحو مرحلتين، وهي نظيفة المنازل، وديارها حسنة وحماماتها جليلة، وبها خانات، وهي بهية المنظر داخلاً وخارجاً، وأهلها حسان الوجوه نظاف الثياب، وتعمل بها الثياب الرفيعة الجيدة ويتجهز بها إلى الآفاق، وشرب أهلها من المواجل، وآبارها غير عذبة، ويحيط بالمدينة سور مبني بالحجارة عليه بابا حديد لفق بعضه على بعض من غير خشب لا يدرى مثلهما في الصنعة والوثاقة، ولم يكن بها قبل جنات ولا بساتين ولا نخل ولا فاكهة إلا ما جلب إليها.
وبها قيل:
بنيت بأرجاء المغارب دار ... دانت لها الأقطار والأمصار
لاذت ببرد الماء لما أيقنت ... أن القلوب على الحسين حرار وكانت المهدية (2) مدينتين، المهدية يسكنها السلطان وجنوده، وزويلة يسكنها الناس. والمهدية كانت قاعدة البلاد الإفريقية وقطب مملكتها، وتغلب عليها طاغية صقلية سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وصاحبها يومئذ الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي، وانفصل عنها ومضى إلى بجاية ثم إلى قلعة بني حماد، فلم يجد عند صاحبها ابن عمه نصرة، فاستمر سيره حتى انتهى إلى صاحب المغرب حينئذ، عبد المؤمن بن علي، فحرضه على الطلوع إلى إفريقية، وحضه على استنقاذ المهدية من يد العدو، فهو كان سبب تحركه إلى إفريقية، فوصل إليها ونزل على المهدية بجموعه، وحصر العدو الذي بها إلى أن صالحه على الخروج عنها إلى صقلية فكان ذلك، وصارت المهدية للمسلمين من حينئذ وفي الخبر طول.
وقال أبو عبد الله الحنفي يعرض بأهل المهدية:
إذا حل بالمهدية الضيف نازلاً ... وسام القرى زفت إليه الكوامل
صحاف حكت من أم موسى فؤادها ... يغالط فيها حسه ويشاغل
إذا حسروا عنها المناديل أنشدت ... " وما السيف إلا غمده والحمائل "
مهران (3) :
هو نهر السند الأعظم يخرج من جبال شقنان، ويقال إنه يخرج من جبل يخرج منه بعض أنهار جيحون، وتمده أنهار كثيرة وعيون غزيرة فيقطع أرض الهند والسند، ويظهر على توافره بناحية المولتان، ثم يمر على المنصورة حتى يقع في البحر الشرقي. وقال الكندي: مهران تنشق منه أنهار الهند كلها.
وهو يأتي (4) من منبعه حتى إذا وصل إلى مدينة قالري (5) التي هي في غربي النهر وبينه وبين المنصورة مرحلة، انقسم قسمين، وصار معظمه إلى المنصورة، ومد الذراع الثاني منه آخذاً مع الشمال إلى ناحية شروشان (6) ، ثم يأخذ راجعاً في جهة المغرب إلى أن يتصل بصاحبه وهو القسم الثاني من النهر، وذلك أسفل مدينة المنصورة، وعلى نحو اثني عشر ميلاً منها، فيصيران واحداً، ويمر إلى البحر.
ومن الناس (7) من قال إن مخرج هذا النهر ومخرج النيل واحد.
وذكر لغسان بن عباد أن في هذا النهر سمكة تصاد ويطين رأسها وجميع بدنها إلى المواضع التي يخرج منها الثفل ثم يجعل ما لم يطين منها على الجمر، ويمسكها ممسك حتى ينشوي منها
__________
(1) الإدريسي (د/ ب) : 107/ 78.
(2) عاد إلى النقل عن الإدريسي؛ ولكنه استكمل المعلومات التاريخية من مصدر آخر.
(3) انظر ابن رسته: 89، وابن خرداذبه: 173، والتنبيه والإشراف: 54 - 56، والكرخي: 107، وابن حوقل: 282، وياقوت (مهران) ، وآثار البلاد: 95.
(4) عن الإدريسي (ق) : 30 (OG: 168) .
(5) ص ع: ماكري.
(6) ق: شروسان؛ OG: سدوسان.
(7) هذا القول ينسب غلى الجاحظ؛ وقد غمزه البيروني في ((تحقيق ما للهند)) فقال: ((حتى ظن الجاحظ بسلامة قلبه وبعده عن معرفة مجاري الأنهار وصور البحر أن نهر ((مهران)) شعبة من النيل.(1/562)
ما كان موضوعاً على الجمر وينضج، ثم يؤكل ما نضج أو يرمى به عنها، وتلقى السمكة في الماء ما لم ينكسر العظم الذي هو فقار السمكة، فتعيش السمكة وينبت على ظهرها اللحم، فأمر غسان بحفر بركة في داره وملأها ماء وأمر بامتحان ما بلغه، قال: فكنا نؤتى في كل يوم بعدة من لحم هذا السمك، فنشويه على الحكاية التي ذكرت لنا، ونكسر من بعضه عظم الصلب ونترك بعضه لا نكسره، فكان ما كسرنا عظمه يموت وما لم نكسرعظمه يسلم وينبت عليه اللحم ويسوى (1) الجلد، إلا أن جلد تلك السمكة يشبه جلد الجدي الأسود، وكان ما كسرناه من لحوم السمك التي شويناها ورددناها إلى الماء يكون على غير لون لجلد الأول لأنه يصير إلى البياض. ويعضد هذا ما حكي أن بقرب بلاد كشك نهراً عظيماً كالفرات يصب في بحر الروم، تأتيهم في كل سنة من هذا النهر سمكة عظيمة فيتناولون منها، ثم تعود في العام الثاني ذلك الوقت وقد عاد اللحم الذي أخذ منها، يعرفون ذلك لا يشكون فيه.
الموريان (2) :
قرية بالأهواز منها أبو أيوب سليمان بن مخلد، وقيل سليمان بن داود المورياني وزير أبي جعفر المنصور، وقيل إنه مولاه اشتراه بالجزيرة إذ كان يليها لأخيه أبي العباس، ولأبي جعفر المنصور والمورياني قصة عجيبة بسببها قتل المنصور المورياني (3) .
الموصل (4) :
في الجانب الغربي من دجلة وسميت بهذا الاسم لأنها وصلت بين الفرات ودجلة، وشرب أهلها من ماء الدجلة، وبساتينها قليلة، وضياعها ومزدرعاتها ممتدة، وأبنيتها بالجص والحجارة، ولها رساتيق عظيمة وكور كثيرة.
وهي مدينة (5) عتيقة ضخمة عليها سوران وثيقان، وباطن الداخل منهما بيوت بعضها على بعض مستديرة بجداره المطيف بالبلد كله، قد أمكن فتحها فيه لغلظ بنيته وسعة وضعه، فللمقاتلة في هذه البيوت حرز ووقاية، وهي من المرافق الحربية، وفي أعلى البلد قلعة عظيمة قد رص بناؤها رصاً، عليها سور وثيق البنية مشيد البروج، وتتصل بها دور السلطان، ويفصل بينها وبين البلد شارع متصل ممتد من أعلى البلد إلى أسفله، ودجلة شرقي البلد متصلة بالسور وأبراجه في مائها، وللبلد ربض كبير فيه المساجد والحمامات والخانات والأسواق، وأحدث فيها أحد أمراء البلد، كان يعرف بمجاهد الدين (6) ، جامعاً على شط دجلة ما رؤي أحفل منه، وأمامه مارستان حفيل، وبنى بداخل البلد قيسارية للتجار عليها أبواب حديد، وتطيف بها دكاكين وبيوت بعضها على بعض بأبدع بناء، وللمدينة جامعان: أحدهما جديد والآخر من عهد بني أمية، وفي وسط صحن هذا الجامع الجديد سارية رخام قائمة قد خلخل جيدها بخمسة خلاخل مفتولة فتل السوار من جرم رخامها، وفي أعلاها جامة رخام مثمنة يخرج عليها أنبوب من الماء خروج انزعاج وشدة، فيرتفع في الهواء أزيد من القامة كأنه (7) قضيب بلور معتدل، ثم ينعكس إلى أسفل القبة. ويجمع في هذين الجامعين القديم والحديث، ويجمع أيضاً في جامع الربض.
وفي المدينة مدارس للعلم نحو الست أو أزيد قد بنيت على دجلة فتلوح كأنها القصور ولها مارستان. وبهذه المدينة مشهد جرجيس.
وإذا عبرت دجلة نحو الميل ظهر لك تل التوبة، وهو التل الذي وقف عليه يونس عليه السلام بقومه، ودعا ودعوا حتى كشف الله عنهم العذاب، وبمقربة منه (8) ، على قدر الميل أيضاً، العين المباركة المنسوبة إليه عليه السلام ويقال إنه أمر قومه بالتطهر منها وإظهار التوبة ثم صعدوا إلى التل داعين، وفي هذا التل بناء عظيم هو رباط يشتمل على بيوت كثيرة ومقاصير، يضم الجميع باب واحد، وفي وسط ذلك البناء بيت ينسدل عليه ستر ويغلق عليه باب مرصع كله يقال إنه كان الموضع الذي وقف فيه يونس عليه السلام، ومحراب هذا البيت يقال إنه كان بيته الذي
__________
(1) ص ع: ويشوى؛ ولعل الصواب ((ويثوب)) .
(2) انظر ياقوت (موريان) .
(3) أورد ابن خلكان هذه القصة 2: 411 - 414 وهي من زيادات بعض النسخ التي اعتمدت عليها في هذه الطبعة المشار إليها، ولا توجد في الطبعات السابقة، ومصدر القصة كتاب ((الجليس والأنيس)) للمعافي بن زكريا.
(4) نزهة المشتاق: 199.
(5) رحلة ابن جبير: 234، والنص هنالك ينقصه قوله ((وعليها سوران وثيقان)) مما أخل بالسياق.
(6) هو مجاهد الدين قايماز الزيني كان يتولى أمور اربل نيابة عن زين الدين ابن بكتكين ثم تحول إلى الموصل سنة 571 وسكن قلعتها وتولى أمور تدبيرها، وبني بظاهرها جامعاً كبيراً ومدرسة وخانقاه، وتوفي سنة 595 (ابن خلكان 4: 82 - 84) .
(7) ص ع: كأنها.
(8) ربما قرئت في ص ع: وبقرية.(1/563)
كان يتعبد فيه، ويطيف بهذا كله شمع كأنه جذوع النخل عظماً، فيخرج الناس إلى هذا الرباط ليلة كل جمعة ويتعبدون، وقريب من هذا الرباط خراب عظيم يقال إنه كان مدينة نينوى، مدينة يونس عليه السلام، وأثر السور المحيط بهذه المدينة ظاهر، وفرج الأبواب فيه بينة، وأكوام أبراجه مشرفة. وأهل الموصل على طريقة حسنة ومروة (1) ، لا تلقى منهم إلا ذا وجه طلق، ولهم بر بالغرباء وإقبال عليهم، وعندهم اعتدال في جميع معاملاتهم.
وكان جرجيس (2) من الأنبياء الذين كانوا في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما أفضل الصلاة والسلام، من أهل فلسطين، بعثه الله تعالى إلى ملك الموصل يدعوه إلى الإسلام فقتله بالعذاب مرات وأحياه الله عز وجل آية لهم وعبرة، ونشره قطعاً ورماه إلى الأسد الضارية فخضعت الأسد برؤوسها، وظل يومه كذلك، فلما أدركه الليل جمع الله تعالى أوصاله ورد روحه، ثم أقبل عليهم اليوم الثاني يعظهم ويغلظ عليهم، فلما استمروا في عتوهم وكفرهم بعث الله تعالى عليهم ناراً فأحرقتهم عن آخرهم.
وصورة افتتاح الموصل فيما حكاه البلاذري (3) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولى عتبة بن فرقد السلمي الموصل في سنة عشرين، فسار إليها فقاتله أهل نينوى، فأخذ حصنها وهو الشرقي من دجلة عنوة، وعبر دجلة فصالحه أهل الحصن الآخر على الجزية والأذن لمن أراد الجلاء، ثم فتح بلاداً، ثم عزله عمر رضي الله عنه عن الموصل وولاها هرثمة بن عرفجة البارقي، وكان بها في الجانب الغربي حصن وبيع للنصارى ومنازل ومحلة لليهود، فمصرها هرثمة وأنزل العرب بها.
وقد روى الهيثم بن عدي أن عياض بن غنم أتى الموصل ففتح الحصن الغربي والله أعلم.
وكان عمر رضي الله عنه وجه هرثمة بن عرفجة البارقي إليها بعد عتبة بن فرقد السلمي فأنزل العرب بها منازلهم واختط لهم، ثم بنى المسجد الجامع.
وقالوا: كان الذي فرش الموصل بالحجارة ابن تليد صاحب شرطة محمد بن مروان بن الحكم، وكان محمد ولي الموصل والجزيرة وأرمينية وأذربيجان، ويقال إن عبد الملك بن مروان ولى ابنه سعيداً صاحب نهر الموصل فبنى سعيد سوق الموصل، فهدمه الرشيد حين خالفوا، وفرشها بالحجارة حين اجتاز بها. وللموصل كور وأنظار وأعمال كثيرة، والذي ارتفع (4) في خراج الموصل مع الإحسانات سوى الضياع من الرزق ستة آلاف ألف وثلثمائة ألف.
وإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق ينسبان إليها، وناهيك بهما نبلاً وعلماً ومعارف وشهرة.
المولتان (5) :
ثغر من ثغور المسلمين مما يلي بلاد السند، وهو أبداً يحارب صاحب قشمير ملكاً من ملوك السند، وكان صاحبها من ولد سامة بن لؤي، وهو ذو جيوش ومنعة، وأكثر ماله من الصنم المعروف بالمولتان، يقصده السند والهند من أقصى بلدانهم بنذور الأموال وأنواع الجواهر والطيب، ويحج إليه الألوف، ويحمل إليه من العود القماري الذي يؤثر فيه الختم كما يؤثر في الشمع، يبلغ ثمن المن منه مائتي دينار. وهو إذا عجز عن مقاومة من ناوأه منهم هدده بكسر الصنم فيكف عنه.
مورور (6) :
كور مورور متصلة بأحواز قرمونة من جزيرة الأندلس، وهي في الغرب والجوف من كورة شذونة، وأحوازها متصلة بأحوازها، وهي من قرطبة بين القبلة والمغرب. ومدينة قلب (7) قاعدة مورور ودار الولاة بها، وكانت جباية كورة مورور أيام الحكم بن هشام بن عبد الرحمن أحداً وعشرين ألف دينار.
موريقس (8) :
جبل معترض بقرب زالغ من أرض الحبش، وليس بكثير العلو ولكنه يعلو على وجه الماء مرة ويغيب في مواضع أخرى يستره الماء، ولكنه يتصل في ذاته، ولا يمر بهذا الجبل شيء من
__________
(1) ص: برده؛ ع: مردة؛ ولم ترد هذه اللفظة في رحلة ابن جبير.
(2) انظر الطبري 1: 795.
(3) فتوح البلدان: 407.
(4) انظر قطعة الخراج لقدامة الملحقة بابن خرداذبه: 246.
(5) المولتان هي الملتان نفسها، وقد مرت من قبل، وذكرنا ثبتاً بالمصادر عنها؛ والنص هنا عن مروج الذهب 1: 375 - 376.
(6) بروفنسال: 188، والترجمة: 228 (Moron de la Frontera) .
(7) راجع مادة ((قلب)) في ما تقدم.
(8) OG: 50؛ ص ع: مورقين.(1/564)
المراكب المسمرة بالحديد إلا اجتذبها إليه وأمسكه فلا يكاد يتخلص منه البتة.
مؤتة (1) :
قرية بالشام، بعث إليها رسول الله الجيش سنة ثمان، عليهم زيد بن حارثة وقال: " إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، وإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة. وخرجوا في ثلاثة آلاف، وودعهم المسلمون فقالوا لهم: صحبكم الله ودفع عنكم وردكم إلينا صالحين، فقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي ... أرشده الله من غاز وقد رشدا ومضوا حتى نزلوا معان من أرض الشام، فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من لخم وجذام والقين وبهراء وبلي مائة ألف منهم، فأقام الناس ليلتين على معان ينظرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمر فنمضي له، فشجع الناس عبد الله بن رواحة وقال: يا قوم والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون، الشهادة، وما يقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، وما نقابلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة، فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة، فمضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل والروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف، ثم دنا العدو وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة، فالتقى الناس عندها، فتعبى لهم المسلمون ثم التقوا فاقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة رضي الله عنه براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم، ثم أخذها جعفر رضي الله عنه فقاتل بها حتى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء، قال المخبر: والله كأني أنظر إليه حين اقتحم عنها ثم عقرها ثم قاتل القوم حتى قتل، وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وبارداً شرابها ... والروم روم قد دنا عذابها ... علي إذ لاقيتها ضرابها ... وكان جعفر رضي الله عنه أول من عقر في الإسلام، ووجد في مقدمه مائتا ضربة بسيف وطعنة برمح واثنتان وسبعون جراحة، ولما قتل جعفر رضي الله عنه أخذ الراية عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ثم تقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ويتردد، ثم قال:
أقسمت بالله لتنزلنه ... لتنزلن أو لتكرهنه ... أن اجلب الناس وشدوا الرنه ... مالي أراك تكرهين الجنه ... قد طال ما قد كنت مطمئنه ... هل أنت إلا نطفة في شنه ... وقال أيضا:
يا نفس إلا تقتلي تموتي ... هذا حمام الموت قد صليت ... وما تمنيت فقد أعطيت ... إن تفعلي فعلهما هديت ... يعني صاحبيه زيداً وجعفراً رضي الله عنهما، ثم نزل فأتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال: شد بهذا صلبك فإنك قد لقيت أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده فانتهش منه نهشة ثم سمع الحطمة في ناحية الناس فقال: وأنت في الدنيا، ثم ألقاه من يده وأخذ سيفه وتقدم فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الراية ثابت بن أرقم أحد بني العجلان، فقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم، فاصطلحوا على خالد بن الوليد رضي الله عنه، فلما أخذ الراية دافع القوم وحاشى بهم، ثم انحاز وانحيز عنه حتى انصرف بالناس،
__________
(1) السيرة 2: 373 وما بعدها.(1/565)
قال خالد رضي الله عنه: ندر في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف وصبرت في يدي صفيحة يمانية. وكان صلى الله عليه وسلم إذا وجه علياً رضي الله عنه بعد مؤتة في وجه قال: " اللهم إنك أثكلتني عبيدة يوم بدر، وحمزة يوم أحد، وجعفراً يوم مؤتة، وهذا علي، فلا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين ". ولما أصيب القوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيداً، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيداً "، ثم صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تغيرت وجوه الأنصار وظنوا أنه قد كان في عبد الله بن رواحة بعض ما يكرهون، ثم قال صلى الله عليه وسلم: " ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيداً "، ثم قال صلى الله عليه وسلم: " لقد رفعوا لي في الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازوراراً عن سريري صاحبيه، فقلت: عم هذا؟ فقيل لي: مضيا وتردد ثم مضى ".
وذكر ابن هشام (1) أن جعفراً أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه الله تعالى بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث يشاء. ويقال إن رجلاً من الروم ضربه يومئذ فقطعه بنصفين.
وذكر ابن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بالمدينة لما أصيبوا قبل أن يأتيه نعيهم: " مر علي جعفر بن أبي طالب في الملائكة يطير كما يطيرون وله جناحان ". قال: وقدم يعلى بن منية على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر أهل مؤتة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن شئت فأخبرني وإن شئت أخبرتك "، قال: فأخبرني يا رسول الله، فأخبره صلى الله عليه وسلم خبرهم كله ووصفه له، فقال: والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفاً واحداً لم تذكره، وأن أمرهم لكما ذكرت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى رفع لي الأرض حتى رأيت معترككم ".
وقالت عائشة رضي الله عنها: عرفت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحزن لما أتى نعيهم، ذكر القصة بطولها ابن إسحاق.
المؤتفكة:
مدينة قوم لوط، وهي المذكورة في القرآن في قوله تعالى " والموتفكة أهوى ".
قالوا: في قوله تعالى " ونجيناه ولوطاً " إن إبراهيم نزل بفلسطين ولوطاً بالمؤتفكة، وبينهما مسيرة يوم وليلة.
موقان (2) :
مدينة من خراسان من أعمال طوس، وهي من غر البلاد المذكورة، ولها سوق وسور حصين، وبها تجار مياسير وضياع وفعلة، وبها حصن منيع، وبها قبر علي بن موسى الرضا، وبجبل موقان معدن الفضة والنحاس والحديد، ويوجد فيها من أحجار الفيروزج كثير، وكانت موقان دار الإمارة بخراسان إلى أيام الطاهرية، فانتقل منها إلى نيسابور فخرب أكثرها وتغيرت محاسنها.
الموجه (3) :
في بحر دارلارومي (4) فيها عدة ملوك بيض يشبهون أهل الصين في الزي، لهم خيل يقاتلون عليها ملوكاً حولهم، وتتصل هذه الجزيرة بمشارق الشمس، وتوجد عندهم دابة المسك ودابة الزباد، ونساؤهم من أجمل نساء الأمم، ولهم شعور طوال، والنساء لا يستترن ويمشين مكشوفات الرؤوس، ويكللن رؤوسهن بعصائب فيها أنواع من الودع الملون والأصداف المجزعة.
موريدس (5) :
مدينة بالهند خصيبة عامرة بها تجارات وجيوش تحرس ثغر كابل، وهي في حضيض جبل عظيم صعب الصعود إلى أعلاه، وينبت فيه قنا وخيزران.
ميسان (6) :
بفتح أوله، موضع من أرض البصرة، استعمل عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه النعمان بن عدي فقال:
ألا هل أتى الحسناء أن خليلها ... بميسان يسقى في زجاج وحنتم
__________
(1) السيرة 2: 378.
(2) نزهة المشتاق: 209، وقارن بالكرخي: 146 - 147، وابن حوقل: 363، وياقوت (موقان) .
(3) نزهة المشتاق: 32 (OG: 87) ، وابن الوردي: 64، وانظر بسط الأرض: 20 (وكتبت هناك: الموحه، بالحاء المهملة) .
(4) ع ص: أرلاردي.
(5) الإدريسي (ق) : 70؛ ص ع: موريد؛ وهذه إحدى صور الكلمة في أصول نزهة المشتاق؛ قال: ومن مدينة موريدس إلى مدينة القندهار ثماني مراحل (راجع مادة: القندهار) .
(6) معجم ما استعجم 4: 1283، وانظر ياقوت (ميسان) .(1/566)
لعل أمير المؤمنين يسوءه ... تنادمنا في الجوسق المتهدم فبلغ شعره عمر رضي الله عنه فقال: نعم والله إن ذلك ليسوءني، فمن لقيه فليخبره أني قد عزلته.
ومن ميسان كان يسار والد الحسن بن أبي الحسن البصري، وولد الحسن مملوكاً، ومات سنة عشر ومائة، ولم يشهد ابن سيرين جنازته لشيء كان بينهما، وأمه خيرة مولاة أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت خيرة ربما غابت فيبكي، فتعطيه أم سلمة رضي الله عنها ثديها تعلله به إلى أن تجيء أمه، فدر عليه ثديها، فيرون أن تلك الحكمة والفصاحة من بركة ذلك.
ميافارقين (1) :
بلد معروف من أرض أرمينية، بين حدود الجزيرة وحدود أرمينية، وبعض الناس يعدها من أرمينية، وبعضهم يعدها من بلاد الجزيرة، وهو في شرقي دجلة على مرحلتين منها، والمعارف المصنوعة بميافارقين لا نظير لها ولا يعدلها مثلها صنعة.
وبينها وبين آمد خمسة فراسخ، وهي منيعة مسورة حصينة وليست بالكبيرة، وهي كثيرة الناس، والبساتين تسقى من الآبار ومن أعين غير غزار، وداخل مدينتها عين ماء.
وفتحها عياض بن غنم على مثل صلح الرها، وهي في حضيض من جبل، تصنع بها التكك والمناديل العراض والسبنيات، وقال أبو طالب العلوي:
ولما ابيض شعر الرأس مني ... ودعت وقلت مياً فارقينا
فمالي والتصابي بعد شيبي ... ولو أعطيت ميافارقينا وقال بعض الظرفاء: سميت ميافارقين لأن ذا الرمة أو غيره من العشاق، لو وصل إلى هذه المدينة بالاتفاق، وشاهد وجوه أهلها الملاح، والعيون السقيمة الصحاح، وعاين رشاقة القدود، ولباقة الخدود، وسواد الطرر، وبياض العرر، وسمرة الشفاه اللعس، وحمرة الوجنات والجباه الملس، لقال لصاحبته: مي فارقيني ولا ترافقيني، فلا يجوز التيمم مع وجود الماء، ولا حاجة إلى الدواء بعد البرء والشفاء.
ميورقة (2) :
هي جزيرة في البحر الزقاقي، تسامتها من القبلة بجاية من بر العدوة، بينهما ثلاثة مجار، ومن الجوف برشلونة من بلاد أرغون، وبينهما مجرى واحد، ومن الشرق إحدى جزيرتيها منرقة، وبينهما مجرى في البحر طوله أربعون ميلاً، وشرقي ميورقة هذه جزيرة سردانية، بينهما في البحر مجريان، وغربيها جزيرة يابسة، بينهما مجرى في البحر طوله سبعون ميلاً، وغربي يابسة مدينة دانية من بر الأندلس بينهما في البحر سبعون ميلاً. وميورقة أم هاتين الجزيرتين وهما بنتاها، وإليها مع الأيام خراجهما. وطول ميورقة من الغرب إلى الشرق سبعون ميلاً، وعرضها من القبلة إلى الجوف خمسون ميلاً.
فتحها المسلمون سنة تسعين ومائتين إلى أن تغلب عليها العدو البرشلوني وخربها سنة ثمان وخمسمائة، وهي المرة الأولى، ودخل المدينة فلم يجد سوى العيال والأطفال والشيخ الفاني، فلحسابهم أحالوا السيف عليهم، فلما قضى وطره من هذه الجزيرة أسرع الرجوع إلى بلاده. ثم اختلفت عليها ولاة ابن تاشفين، ثم وليها محمد بن علي بن غانية المسوفي، وهو أول ولاة بني غانية ثم تعاقبوا على ولايتها إلى أن كان آخرهم عبد الله بن إسحاق، فوجه إليه الملك الناصر محمد بن يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن السيد أبا العلا ادريس بن يوسف بن عبد المؤمن والشيخ أبا سعيد بن أبي حفص،، فاجتمعا بدانية فعرض كل واحد منهما من أسند إليه، فكان الفريقان ألفي فارس ومائتي فارس والرماة سبعمائة والرجالة خمسة عشر ألفاً، غير غزاة القطع، وكان الأسطول ثلثمائة جفن منها سبعون غراباً وثلاثون طريدة وخمسون مركباً كباراً وسائرها قوارب منوعة، وأما العدد والسلاح والمجانيق والسلالم والمساحي والفؤوس والمعاول والرقائق والحبال فشيء لا يأخذه عدد، وكذلك الدروع والسيوف والرماح والبيضات والأتراس والدرق والقسي وصناديق
__________
(1) نزهة المشتاق: 267، وذكرها الإدريسي عند الحديث عن مدن الجزيرة (الورقة: 200) فقال: وميافارقين من أرض أرمينية وقوم يعدونها من أعمال الجزيرة، وهي من شرقي دجلة على مرحلتين منها، وهي مدينة حصينة في حضيض جبل ويعمل بها من التكك كل حسنة تضاهب التكك التي تصنع بسلماس وربما كانت تفوقها في الجودة وتصنع بها المناديل العراض والسبنيات؛ وانظر ابن حوقل: 202، والمقدسي: 140، وياقوت (ميافارقين) ، وابن الوردي: 28.
(2) بروفنسال: 118، والترجمة: 228 (Mallorca) .(1/567)
النشاب، وجملة وافرة من الطعام، فصلوا الجمعة بيابسة وأقلعوا غدوة السبت الرابع والعشرين من ذي الحجة مكمل سنة تسع وتسعين وخمسمائة، فأتوا ميورقة ونزلوا وتقرب العسكر من المدينة ودار الأسطول بالمرسى مع السيد أبي العلا، وخرج إليهم عبد الله بجموعه، فنشبوا في القتال ودافعوا كل الدفاع، وآخر ذلك انهزم ثم صرع فقتل، وغلق باب المدينة فأحاطت بها الرماة وغزاة البحر، فتغلبوا عليها فدخلت ونهبت، ولم يسلم إلا قصبتها، ودخل السيد أبو العلا وأبو سعيد البلد ورأس عبد الله معهما على قناة بيد رجل غزي كان قطعه، فنهيا الناس عن النهب وأمرا بضرب عنق رجل فعل ذلك وخالف النهي، وطيف برأسه، وأمنا الناس ونودي بالأمن في الأزقة والقصبة، فخرج الناس وأمنوا، وكتبا إلى الملك الناصر بالفتح.
وكان السبب في التوجه إلى ميورقة أن المنصور يعقوب كان وجه إلى صاحب ميورقة علي بن إسحاق بن محمد بن غانية يستدعي بيعته، فأنف من ذلك وأساء الرد واحتال على الرسل حتى اعتقلهم وأودعهم في السجون، ثم تحرك من ميورقة علي المذكور إلى بجاية، فاحتال حتى استولى عليها وملكها، ولما تم له ذلك أتى الجزائر فدخلها، ثم مليانة ومازونة، ثم دخل أشير عنوة ثم أتى القلعة فملكها، وبعد ثلاث من دخولها كانت له في العرب الحطمة المشهورة، وبث في هذه البلاد عمالاً وحكاماً، ثم قصد قسنطينة فسار إليها وحاصرها أشهراً فلم يفلح، وهناك بلغه أن عسكراً برياً وأسطولاً بحرياً هائلين أتياه من المغرب، ووصل الأسطول والعسكر إلى بجاية، فأخرجا نائبه منها وهو أخوه يحيى، فتوجه إلى أخيه علي وهو على قسنطينة، وخلى للقوم بلدهم، ثم توجها معاً نحو القبلة، ومرا بالقلعة فاستأصلاها، ثم سار علي إلى قفصة فأخذها ثم توزر، ومع ذلك جاء عسكر المغرب فيه المنصور يعقوب فجهز إليه عسكراً فالتقوا بوطاة عمرة، فكانت الوقيعة المشهورة والهزيمة العظيمة على عسكر المنصور بعد الإثخان الكثير في أصحابه، وتبددوا في الصحراء.
وكان أول خروج ابن غانية من ميورقة لذلك في سنة ثمانين وخمسمائة وهي السنة التي مات فيها صاحب مراكش والمغرب يوسف بن عبد المؤمن ثم بقي علي بن إسحاق وأخوه يحيى يهيمان في تلك الجهات ولما بلغ المنصور خبر وقيعة عمرة وما جرى فيها على عسكره امتعض من ذلك واستبد برأيه، فتوجه بنفسه حتى نزل على قفصة فحاصرها حصاراً عظيماً إلى أن نزلوا على حكمه، فحكم فيهم بالسيف، وأثر فيهم الأثر الشنيع، وهدم سورها، ولابن مجبر في ذكر ذلك قصيدة مليحة جداً، منها:
ما غر قفصة إلا أنها اجترمت ... فلم يكن عند أهل الحلم تثريب
ما بالها زار أمر الله حوزتها ... فلم يكن عندها أهل وترحيب وقد ذكرنا ذلك في حرف العين عند ذكر عمرة.
وبعد ذلك كله مات علي بعد أن تفرق جمعه، قيل سهم أصابه وهو على توزر سنة خمس وثمانين وخمسمائة، وتمادت ميورقة على امتناعها إلى أن توفي المنصور في شهر ربيع الأول سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وولي ابنه الملك الناصر، فوجه إليها الجيوش وحكم عليها كما قلناه. ثم لم تزل ولاة الملك الناصر تختلف على ميورقة إلى أن كانت المصيبة العظمى والحادث الشنيع بهزيمة العقاب عليه سنة تسع وستمائة، ثم إن الطاغية البرشلوني تحرك إلى ميورقة عازماً عليها فنزل عليها أسطوله في شوال سنة ست وعشرين وستمائة، فأراها من القتال وشدة الحصار وأنواع المحن ما لم يجر مثله في زمان وحكم عليها عنوة بعد طول الحصار والقتل والسبي، ثم أخذ واليها ابن يحيى فعذبه أشد العذاب حتى مات، واستولى الشرك على الجزيرة في عام سبعة وعشرين وستمائة.
ميلة:
مدينة على أربع مراحل من قلعة حماد، وفي سنة ثمان وسبعين وثلثمائة، خرج المنصور العبيدي أو غيره (1) غازياً لكتامة، فلما قرب من ميلة زحف إليها عازماً على استئصال أهلها، فخرج إليه النساء والعجائز والأطفال بعد أن عبى جيوشه لمحاربتها، فلما رأى من خرج إليه منها بكى، وأمر ألا يقتل من أهلها أحد، وأمر بهدم سورها وتسيير من فيها إلى باغاية، فخرجوا بجماعتهم يريدونها وقد حملوا ما خف من أمتعتهم، فلقيهم ماكسين بن زيري بعسكره فأخذ جميع ما كان معهم، وبقيت ميلة خراباً ثم عمرت بعد
__________
(1) ليس هو المنصور العبيدي، دون ريب، وإنما هو أبو الفتح المنصور بن أبي الفتوح يوسف ابن زيري بن مناد الصنهاجي، وخبر غزوه لميلة في ابن عذري 1: 243، والمؤلف يعتمد في النقل على البكري: 64.(1/568)
ذلك، وعليها سور صخر، وحولها ربض وبها جامع وأسواق وحمامات، والمياه تطرد حولها، يسكنها العرب والجند والمولدون، وهي من غر مدن الزاب، ولها باب شرقي يعرف بباب الروس، وعلى مقربة منه جامعها، وهو ملاصق لدار الإمارة، وباب جوفي، ويليه داخل المدينة عين تعرف بعين أبي السباع مجلوبة تحت الأرض من جبل هناك يشق منها سوقها ساقية، فإذا قل الماء في الصيف أجريت يوم السبت والأحد لا غير، ولها حمامان في ربضها، وبها عين تعرف بعين الحمى يرش منها على المحموم فيبرأ ببركتها وشدة بردها، ومن مدينة ميلة إلى جبل جيجل، وهو جبل الرحمن.
وميلة (1) مدينة أزلية بها آثار للأول تدل على أنها كانت كبيرة، وهي الآن عامرة آهلة كثيرة الخصب رخيصة السعر على نظر واسع وقرى عامرة، وهي كثيرة الأسواق والمتاجر، وعليها سور جليل، وفي وسط مدينتها عين خرارة عذبة من بناء الأول لها سرب كبير يدخل فيه فلا يوجد له آخر ولا يعلم من أين يأتي ذلك الماء، ويقال إنه مجلوب من جبل بالقرب منها يسمى تامروت (2) ، وهي العين المعروفة بعين أبي السباع، وبالقرب من ميلة جبل العنصل، ويسمى اليوم جبل بني زلدوي، وهم قبيل كبير من البربر سكنوا ذلك الجبل، ولهم خلاف كثير على الولاة بسبب منعة جبلهم، وفيه مدن وعمائر وقرى كثيرة، وهو أخصب جبال إفريقية، فيه جميع الفواكه من التفاح والسفرجل والأعناب الكثيرة.
وميلة (3) مدينة حسنة كثيرة الأشجار، محاسنها ظاهرة ومياهها عذبة، وكانت في طاعة يحيى بن العزيز صاحب بجاية، وبينها وبين قسنطينة الهوا ثمانية عشر ميلاً.
ميلاص (4) :
حصن بجزيرة صقلية كبير القطر مليح الهيئة وثيق البنية، وقلعته منيعة من أحسن البلاد وأجلها تشبه الحواضر في العمارات والأسواق وما بها من المواد والأرفاق، وهي على ساحل البحر يحدق بها (5) البحر من جميع جهاتها إلا من جهة شمالها يدخل إليها منها (6) ، ويسافر إليها براً وبحراً، ويتجهز منها بالكتان الكثير ولها مزارع زاكية ومياه غزيرة، ويصاد بها التن، وبينها وبين مسينى مرحلة.
ميرتلة (7) :
مدينة بالأندلس شرقي مدينة باجة، بينهما أربعون ميلاً، وهي على آنة، وبمقربة من شاطئ البحر مرسى هاشم، وهو حصن أولي فيه آثار قديمة وبه كنيسة عظيمة بنيت في أيام قسليان قيصر الذي بنيت في أيامه كنيسة طليطلة المعروفة بكنيسة الملوك، وقيصر هذا هو أول من نسج في ثيابه وفرشه الذهب وهو الرابع والثلاثون من القياصرة.
__________
(1) الاستبصار: 166.
(2) ورد عند البكري باسم ((بني باروت)) .
(3) الإدريسي (د/ ب) : 94/ 66.
(4) (Milazzo) الإدريسي (م) : 26.
(5) ع: محدق بها يحدق بها ...
(6) ع ص: منه.
(7) بروفنسال: 191، والترجمة: 231 (Mertola) وقد تقدم الحديث عنها أيضاً في مادة ((مارتلة)) .(1/569)
فراغ(1/570)
حرف النون
نابل (1) :
مدينة قديمة على البحر من الجزيرة التي بقبلي مدينة تونس حيث كانت مدينة باشو، وكانت عامرة فخربت، وبقي الآن منها قصر صغير، وأرضها كثيرة الخيرات والمرافق.
ونابل (2) أيضاً عمل عظيم في البر الكبير من بلاد الروم، وبينها وبين مرسى مسينى من جزيرة صقلية اثنان وثلاثون ميلاً، ومدينة نابل هذه حسنة أولية عامرة ذات أسواق نافقة السلع وافرة البضائع والأمتعة، وبين نابل واسطابة (3) جبل نار لا يتوصل إلى بركانه لأنه دائم الدهر يرمي بالنار.
الناصرة (4) :
قرية بالشام على ثلاثة عشر ميلاً من طبرية، وذكر بعضهم أن فيها ولد المسيح عليه السلام، وأهل بيت المقدس ينكرون ذلك، وتقدم ذلك في حرف الباء.
ناردين (5) :
هو جبل بالقرب من نصيبين، من قرار الأرض إلى ذروته نحو ستة أميال، وعليه قلعة بناها حمدان بن الحسين تسمى بالبازي الأشهب لا يستطاع فتحها بوجه لحصانتها.
الناشيان (6) :
من كور الأهواز على مرحلتين من مدينة الدورق، وهي عامرة بأهلها وبها أخلاط من الناس، وهي متوسطة الكبر يشقها نهر صغير، وهي حسنة من داخلها وخارجها.
ناخبة (7) :
من مدن كرمان، وهي مدينة حسنة صالحة الأحوال بها أسواق وصناعات، ومنها إلى الشيرجان شمالاً مائة ميل، وبينها وبين جيرفت جنوباً ستون ميلاً.
ناعم (8) :
حصن من حصون خيبر، وهو أول حصون خيبر، افتتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده قتل محمود بن سلمة ألقيت عليه رحى منه فقتلته.
نابلس (9) :
من مدن الشام، وهي مدينة السامرية، وبها البئر التي حفرها يعقوب عليه السلام، وبها حبس عيسى عليه السلام وطلب من المرأة السامرية الماء ليشرب، وعليه الآن كنيسة حسنة، ويزعم أهل بيت المقدس أن السامرية لا يوجد أحدهم إلا بهذه المدينة.
__________
(1) الإدريسي (د/ ب) : 118/ 87، وقارن بياقوت (نابل) .
(2) (Napoli) الإدريسي (م) : 79.
(3) ص ع: اسطانة؛ وهي (Stabia) ؛ وقد ردت ((اسطانة)) في بعض أصول نزهة المشتاق.
(4) انظر ياقوت (الناصرة) ؛ وفي صبح الأعشى 4: 150 نقل عن الروض.
(5) الاسم في نزهة المشتاق: 200 - وعنه ينقل المؤلف - بالميم ((ماردين)) ، وكذلك هو في سائر المصادر، ولم أجد أحداً كتبه بالنون، وإن جاز أن يكون لغة، أو تصحيفاً.
(6) كذلك كتبت في نزهة المشتاق: 123 وعنه ينقل المؤلف؛ وهي عند الكرخي: 62، 65 وياقوت ((باسيان)) .
(7) ينقل المؤلف عن نزهة المشتاق: 132 ورسم الكلمة هناك ((ناجية)) ؛ وقد مرت هذه المادة في حرف الفاء ((فاختة)) ، وقلت هنالك إنها عند ابن حوقل: 273 باختة (أو ناجتة) ، وأزيد أنها عند ابن خرداذبه: بأختة (أو فاختة) ، ولعلها ((واجب)) ، عند المقديسي: 465، وهي في ص: ناجبة (في هذا الموضع) ؛ وهكذا تتعدد فيها صور التصحيف.
(8) السيرة 2: 330 - 331.
(9) نزهة المشتاق: 113.(1/571)
وقال المسعودي (1) : والأسامرة، في وقتنا هذا في قرى متفرقة ببلاد فلسطين والأردن إلى مدينة نابلس وأكثرهم في هذه المدينة وهم يقولون لا مساس.
نبقة (2) :
موضع في بلاد طيء، ذكر أبو عبيدة عن منصور بن يزيد الطائي أن قبر حاتم هناك حوله قدور حجارة عظيمة من بقايا قدوره التي كان يطعم فيها مكفأة، وعن يمين قبره أربع جوار من حجارة وعن شماله مثلهن محتجزات على قبره كالنائحات، لم ير مثل بياض أجسامهن وجمال وجوههن، وربما رآهن الرائي ففتن بهن ومال إليهن إعجاباً، فإذا دنا منهن رأى حجارة عظيمة يزعمون أنها من عمل الجن، فهن بالنهار كما وصفنا، فإذا هدأت العيون ارتفعت أصوات الجن بالنياحة عليهن، قال: ونحن في منازلنا نسمع ذلك إلى طلوع الفجر. وكان رجل يكنى أبا الخيبري مر في نفر من قومه بقبر حاتم فجعل يناديه: يا أبا الجعد أقرنا فقالوا له: أتنادي رمة بالية؟! قال: إن طيئاً تزعم أنه لم ينزل به قط أحد إلا قراه؟ وناموا فانتبه أبو الخيبري مذعوراً ينادي: واراحلتاه، فقال له أصحابه: ما بالك؟ قال: خرج حاتم بالسيف وأنا أنظر حتى نحر راحلتي، فنظروا إلى راحلته فإذا هي متجدلة لا تنبعث، فقالوا: قد والله قراك، فظلوا يأكلون لحمها شواء وطبيخاً ثم ارتدفوه وانطلقوا سائرين، وإذا راكب بعير يقود آخر قد لحقهم، فقال: أيكم أبو الخيبري؟ فقال الرجل: أنا، فقال الراكب: أنا عدي بن حاتم، وإن حاتماً جائني الليلة فذكر أنك استقريته واستنطيته وهو ينشدك:
أبا خيبري وأنت امرؤ ... ظلوم العشيرة شتامها
أتيت بصحبك تبغي القرى ... لدى حفرة صدحت هامها
أتبغي لي الذم عند المبيت ... وحولي طي وأنعامها
فإنا سنشبع أضيافنا ... ونأتي المطي فنعتامها قال: وقد أمرني أن أحملك على بعير مكان راحلتك فدونكه. وقال الشاعر يمدح عدي بن حاتم:
أبوك أبو سباقة الخير لم يزل ... لدن شب حتى مات في الخير راغبا
قرى قبره الأضياف إذ نزلوا به ... ولم يقر قبر قبله الدهر راكبا
النباج (3) :
هما نباجان، نباج ثيتل ونباج ابن عامر بالبصرة، وقال أبو عبيدة: النباج وثيتل موضعان متدانيان بينهما دوح، ينزلهما اللهازم من بني بكر.
وفي خبر عمارة قال: أغارت عكل على مال لبني حنظلة فذهبت به، فرحلت إلى إسحاق بن إبراهيم بن أبي حميصة (4) وهو بالنباج أشتكي إليه ما نزل بنا من عكل وأستنصره عليهم، فكتب لي إلى عامله كتاباً، فلما خرجت من عنده مزقت الكتاب وقلت:
جعلتم قراطيس العراق سيوفكم ... ولن يقطع القرطاس والسيف باتر
وقلتم خذوا البر التقي فإنه ... أقل امتناعا واتركوا كل فاجر
فرحت بقرطاس طويل وطينة ... وراحت بنو أعمامنا بالأباعر
نجد:
ما بين الحجاز إلى الشام إلى العذيب، فالطائف من نجد، والمدينة من نجد، وأرض اليمامة والبحرين إلى عمان إلى العروض، وقد أنجد الرجل إذا أتى نجداً كما يقال: أعرق وأشأم، والشيخ النجدي الذي حضر قريشاً بدار الندوة ليتشاوروا في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يراد به إبليس اللعين.
__________
(1) مروج الذهب 1: 114 - 115.
(2) ص: نيقة؛ وفي ديوان حاتم حيث وردت القصة: تبعة؛ ولم يذكره البكري أو ياقوت، ولا أدري ما صوابه؛ وانظر الأغاني 17: 287.
(3) معجم ما استعجم 4: 1291، وانظر ياقوت (النباج) .
(4) ع ص: جحفية؛ وانظر الطبري 3: 1350.(1/572)
النجاغة (1) :
من مدن الحبشة صغيرة على ضفة النهر، أهلها فلاحون يزرعون الذرة والشعير ومنه يعيشون ومتاجرها قليلة، والسمك عندهم كثير ممكن والألبان غزيرة، وبينها وبين مركطة ستة أيام انحداراً في النهر، وفي الصعود أزيد من عشرة أيام على قدر الإمكان وليس بعد هاتين المدينتين في جهة الجنوب شيء من العمارات ولا شيء يعول عليه.
نجران:
من بلاد اليمن، سميت بنجران بن زيد بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
وممن كان (2) في الفترة أصحاب الأخدود، وكانوا بنجران، وبلغ ذا نواس أن قوماً بنجران على دين المسيح، وكان هو يهودياً، فنهض إليهم بنفسه، وحفر لهم أخاديد وأضرمها ناراً ثم دعاهم إلى اليهودية فمن أبى قذفه في الأخاديد، فأتي بامرأة معها طفل ابن سبعة أشهر فأبت أن ترجع عن دينها، فأدنيت من النار فجزعت، فأنطق الله تعالى الطفل فقال: امضي على دينك فلا نار بعدها فألقيت في النار، فسلط الله تعالى عليهم الحبشة وغلبوهم على أرض اليمن إلى أن كان من أمر ابن ذي يزن واستجارته بكسرى أنوشروان ما كان.
وبنجران (3) كان عبد الله بن الثامر من أهل دين عيسى عليه السلام، وكان بها بقايا من أهل دينه على الإنجيل أهل فضل واستقامة، وعبد الله بن الثامر رأس لهم، وكان أصل ذلك الدين بنجران، مع أن العرب كانوا أصحاب أوثان، أن رجلاً من بقايا ذلك الدين يقال له فيميون وقع بين أظهرهم فحملهم عليه فدانوا به، وكان صالحاً مجتهداً زاهداً في الدنيا مجاب الدعوة، وكان سائحاً ينزل القرى ولا يعرف في قرية إلا خرج منها إلى قرية لا يعرف بها، وكان لا يأكل إلا من كسب يده وكان بناء يعمل الطين، وكان يعظم الأحد فلا يعمل فيه شيئاً، فخرج إلى فلاة من الأرض يصلي بها حتى يمسي، وكان في قرية من قرى الشام، ففطن لشأنه رجل من أهلها يقال له صالح، فأحبه حباً شديداً وكان يتبعه حيث ذهب فلا يفطن له فيميون حتى خرج في يوم أحد إلى فلاة من الأرض كما كان يصنع، فاتبعه صالح وهو لا يدري بمكانه، وقام فيميون يصلي فأقبل نحوه التنين، الحية ذات الرؤوس السبعة، فلما رآها فيميون دعا عليها فماتت، فرآها صالح ولم يدر ما أصابها، فخافها عليه، فعيل صبره فصرخ: يا فيميون، التنين قد أقبل نحوك، فلم يلتفت إليه وأقبل على صلاته حتى فرغ منها وأمسى وانصرف، وعرف أنه قد عرف، وعرف صالح أنه قد رأى مكانه فقال له: يا فيميون، اعلم أني ما أحببت شيئاً قط حبك، وقد أردت صحبتك والكينونة معك حيث كنت، قال: إما شئت، أمري كما ترى، فإن علمت أنك تقوى عليه فنعم، فلزمه صالح. وكان إذا جاءه أحد به الضر دعا له فشفي، وإذا دعي إلى أحد به ضر لم يأته، وكان لرجل من أهل القرية ابن ضرير، فسأل عن شأن فيميون، فقيل له إنه لا يأتي أحداً دعاه ولكنه رجل يعمل للناس البنيان بالأجرة، فعمد الرجل إلى ابنه ذلك فوضعه في حجرته وألقى عليه ثوباً، ثم جاءه فقال: يا فيميون إني أردت أن أعمل في بيتي عملاً فانطلق معي إليه حتى تنظر إليه، فأشارطك عليه (4) ، فانطلق معه حتى دخل حجرته ثم قال: ما تريد أن تعمل في بيتك هذا. قال كذا وكذا، ثم أزال الرجل الثوب عن الصبي وقال: يا فيميون عبد من عباد الله أصابه ما ترى فادع الله له، فدعا له فيميون فقام الصبي ليس به بأس وعرف فيميون أنه قد عرف فخرج من القرية واتبعه صالح، فبينما هو يمشي في بعض الشام إذ مر بشجرة عظيمة، فناداه منها رجل فقال: أفيميون؟ قال: نعم قال: ما زلت أنتظرك وأقول: متى هو جاء، حتى سمعت صوتك فعرفت أنك هو، لا تبرح حتى تقوم علي فإني ميت الآن، قال: فمات وقام عليه حتى واراه ثم انصرف، وتبعه صالح حتى وطئا بعض أرض العرب، فعدوا عليهما فاختطفتهما سيارة من بعض العرب فخرجوا بهما حتى باعوهما بنجران، وأهل نجران يومئذ على دين العرب يعبدون نخلة طويلة بين أظهرهم لها عيد في كل سنة، فإذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وجدوه وحلي النساء، ثم خرجوا إليها وعكفوا عليها يوماً، فابتاع فيميون رجل من أشرافهم، وابتاع صالحاً آخر، فكان فيميون إذا قام الليل في بيت له أسكنه إياه سيده يصلي استسرج له البيت نوراً حتى يصبح من غير مصباح، فرأى ذلك سيده فأعجبه ما يرى منه، فسأله عن دينه فأخبره به، وقال له فيميون: إنما أنتم في باطل، إن هذة النخلة لا تضر ولا تنفع ولو
__________
(1) ع: النجاعة، وكذلك هي في أصول نزهة المشتاق، الإدريسي (د) : 24 (OG: 43) .
(2) البكري (مخ) : 21.
(3) السيرة 1: 31 وما بعدها؛ والطبري 1: 920.
(4) ص ع: فأشار عليه.(1/573)
دعوت عليها إلاهي الذي أعبد أهلكها، وهو الله وحده لا شريك له، فقال له سيده: فافعل فإنك إن فعلت دخلنا في دينك وتركنا ما نحن عليه، فقام فيميون فتطهر وصلى ركعتين، ثم دعا الله تعالى عليها، فأرسل الله عز وجل عليها ريحاً فجعفتها من أصلها فألقتها، فاتبعه عند ذلك أهل نجران على دينه، فحملهم على الشريعة من دين عيسى بن مريم عليه السلام، ثم دخلت عليهم الأحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض، فمن هناك كانت النصرانية بنجران في أرض العرب.
قالوا (1) : وكان في قرية من قرى نجران ساحر يعلم أهل نجران السحر، فلما نزلها، فيميون ابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية، فجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر، فبعث الثامر ابنه عبد الله بن الثامر مع غلمان أهل نجران، فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من صلاته وعبادته، فجعل يجلس إليه ويسمع منه حتى أسلم فوحد الله تعالى وعبده، وجعل يسأله عن شرائع الإسلام، حتى إذا تعلم جعل يسأله عن الاسم الأعظم، وكان يعلمه، فكتمه إياه وقال له: يا ابن أخي إنك لن تحمله، أخشى ضعفك عنه، والثامر أبو عبد الله لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان، فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن به عنه عمد إلى قداح، ثم لم يبق لله اسماً يعلمه إلا كتبه في قدح، لكل اسم قدح، حتى إذا أحصاها أوقد لها ناراً ثم جعل يقذفها فيها قدحاً قدحاً حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذف فيها بقدحه، فوثب القدح حتى خرج منها لم تضره شيئاً، فأخذه ثم أتى صاحبه فأخبره أنه قد علم الاسم الذي كتمه، فقال: وما هو؟ قال له: كذا، قال: وكيف علمته؟ فأخبره بما صنع، قال: أي ابن أخي قد أصبته فأمسك على نفسك، وما أظن أن تفعل، فجعل عبد الله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحداً به ضر إلا قال له: يا عبد الله أتوحد الله وتدخل في ديني وأدعو الله فيعافيك مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول: نعم، فيوحد الله ويسلم ويدعو له فيشفى، حتى لم يبق بنجران أحد به ضر إلا أتاه فاتبعه على أمره ودعا له فعوفي، حتى رفع شأنه إلى ملك نجران، فدعاه فقال له: أفسدت علي أهل قريتي وخالفت ديني ودين آبائي، لأمثلن بك، قال: لا تقدر على ذلك، فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح على رأسه فيقع إلى الأرض ليس به بأس، وجعل يبعث به إلى مياه بنجران، بحور لا يقع فيها شيء إلا هلك، فيخرج ليس به بأس، فلما غلبه قال له عبد الله بن الثامر: إنك والله لا تقدر على قتلي حتى توحد الله تعالى فتؤمن بما آمنت به، فإنك إن فعلت ذلك سلطت علي فقتلتني، قال: فوحد الله تعالى ذلك الملك وشهد بشهادة عبد الله بن الثامر ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله، وهلك الملك مكانه، واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر، ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث.
وحدثوا (2) أن رجلاً من أهل نجران في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حفر خربة من خرب نجران لبعض حاجته، فوجدوا عبد الله بن الثامر تحت دفن منها قاعداً واضعاً يده على ضربة في رأسه ممسكاً عليها بيده، فإذا أخرت يده عنها تنبعث (3) دماً، وإذا أرسلت يده ردها عليها، فأمسك دمها، وفي يده خاتم مكتوب فيه: ربي، فكتب فيه إلى عمر رضي الله عنه فكتب إليهم عمر رضي الله عنه: أن أقروه على حاله وردوا عليه الدفن الذي كان عليه، ففعلوا.
وكان الأسود بن كعب العنسي قد ادعى النبوة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم واتبع على ذلك، وسمعت به بنو الحارث بن كعب من أهل نجران، وهم يومئذ مسلمون، فأرسلوا إليه يدعونه أن يأتيهم في بلادهم، فجاءهم فاتبعوه وارتدوا عن الإسلام، ويقال: دخلها يوم دخلها في خمسة آلاف من حمير يدعي النبوة ويشهدون له بها، فنزل همدان فلم يتبعه من النخع ولا من جعفي أحد، وتبعه ناس من بني أسد ومذحج وعنس وأود وحكم، وأقام الأسود بنجران، ثم رأى أن صنعاء خير له من نجران فسار إليها في ستمائة راكب من بني الحارث فنزلها، فأبت الأبناء أن يصدقوه، فغلب على صنعاء واستذل الأبناء بها وقهرهم وأساء جوارهم لتكذيبهم إياه، إلى أن كان من أمره ما نذكره عند الوصول إلى ذكر صنعاء إن شاء الله تعالى.
وإلى أفعى نجران مضى أولاد معد بن عدنان وهم مضر وإياد
__________
(1) النقل مستمر من رواية ابن إسحاق.
(2) الطبري 1: 926.
(3) الطبري: انثعبت.(1/574)
وأنمار وربيعة ليحكم بينهم في قسمة ميراث أبيهم، وهي قصة مشهورة.
النجف:
بالعراق بظهر الكوفة، وهو البساتين والمتنزهات التي يشرف الخورنق عليها، وذكر صاحب المنطق أن موضع البر قد يكون بحراً وموضع البحر قد يكون براً، قال: وللمواضع شباب وهرم وحياة وموت كما في الحيوان، وقد كان البحر فيما سلف في الموضع المعروف بالنجف، وهو بالحيرة، وكانت ترفأ هناك سفن الهند والصين، ترد على ملوك الحيرة فصار بين الحيرة وبين البحر الآن مسيرة أيام كثيرة، ومن رأى النجف وأشرف عليه تبين ما وصفنا.
وبالنجف (1) نزل خالد بن الوليد في سلطان أبي بكر رضي الله عنهما بعد أن فتح الله اليمامة، وقتل كذابها يريد الحيرة، فتحصن منه أهلها في القصر الأبيض، فلما نزل خالد رضي الله عنه بالنجف بعث إليهم أن ابعثوا إلي رجلاً من عقلائكم، فبعثوا إليه عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة الغساني وبقيلة هو الذي بنى القصر الأبيض، ودعي بقيلة لأنه خرج يوماً وعليه ثياب خضر، فقال له قومه: ما هذا إلا بقيلة، وعبد المسيح هذا هو الذي رأى سطيحاً وسأله عن رؤيا الموبذان وارتجاج الأبوان فأتى عبد المسيح خالداً وله يومئذ ثلثمائة سنة وخمسون، فتجاهل عبد المسيح وأحب أن يريه من نفسه ما يعرف به عمله، فقال له: من أين أقصى أثرك؟ قال: من صلب أبي، قال: فمن أين جئت؟ قال: من بطن أمي، قال: فعلام أنت ويحك؟ قال: على الأرض، قال: أتعقل؟ قال: أي والله وأقيد، ... الخبر بطوله، وقد مر في حرف الحاء. وكان خالد قال لعبد المسيح: ما أدركت؟ قال: أدركت سفن البحر ترفأ إلينا في هذا النجف بمتاع الهند والصين، وأمواج البحر تضرب ما تحت قدمك، وقال: رأيت المرأة من أهل الحيرة تأخذ مكتلها فتضعه على رأسها لا تزود إلا رغيفاً، فلا تزال في قرى عامرة وعمائر متصلة وأشجار مثمرة ومياه عذبة حتى ترد الشام، ونراها اليوم قد أصبحت يباباً، وذلك دأب الله تعالى في العباد والبلاد.
وحكي أن أبا جعفر المنصور وجه في إشخاص جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي رضى الله عنهم من المدينة إلى العراق، فلما سار إلى النجف توضأ للصلاة ثم قال: اللهم بك أستفتح وبك أستنجح، سهل لي حزونته ولين لي عريكته، وأعطني من الخير ما أرجو، وادرأ عنى من الشر ما أخاف وأحذر، فلما دخل عليه قام إليه وأكرمه وبره وغلفه بيده وأصرفه إلى منزله وإنما كان أشخصه ليقتله رضي الله عنه.
نجيرم (2) :
بلد من بلاد سيراف منها أبو يعقوب النجيرمي وبينهما ثلاثة عشر فرسخاً.
النجير (3) :
هي حضرموت وأنشدوا للأعشى:
وأبتذل العيس المراقيل تغتلي ... مسافة ما بين النجير فصرخدا وقيل هو حصن في اليمن، فيه تحصن الأشعث بن قيس بن معدي كرب ومن ارتد معه، فقال له من نصحه (4) : أنشدك الله يا أشعث ووفادتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامه أن تنقضه اليوم، والله ليقومن بهذا الأمر من يقتل من خالفه، وإياك إياك، أبق على نفسك، فإنك إن تقدمت تقدم الناس، وإن تأخرت افترقوا واختلفوا، فأبى الأشعث وقال: قد رجعت العرب إلى ما كانت الآباء تعبد، ونحن أقصى العرب داراً من أبي بكر، فكيف يبعث إلينا الجيوش، قال: أي والله وأحرى ألا يدعك عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجع إلى الكفر، يعني زياد بن لبيد الأنصاري، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إليهم فتضاحك ثم قال: أما يرضى زياد أن أجيره، فقال له: سترى، ثم قام الأشعث فخرج من المسجد إلى منزله وقد أظهر ما أظهر من الكلام القبيح من غير أن يكون نطق بالردة، ووقف (5) يتربص وانحاز بأصحابه إلى حصن النجير فأغلقوه، فحاصره المسلمون لا يفارقونه ليلاً ولا نهاراً، وقذف الله الرعب في قلوبهم، فلما اشتد عليهم الحصار بعث إلى زياد بن
__________
(1) راجع مادة الحيرة.
(2) انظر ياقوت (نجيرم) ، والنجيرمي المذكور هو أبو يعقوب يوسف بن يعقوب اللغوي البصري نزيل مصر (- 423) ؛ انظر ترجمته في ابن خلكان 7: 75 ومصادر أخرى مذكورة في الحاشية.
(3) أول المادة عن معجم ما استعجم 4: 1299 ثم تجيء المادة التاريخية، انظر الطبري 1: 2006 وما بعدها.
(4) عن الاكتفاء (تاريخ الردة) : 161.
(5) انتقل إلى النقل عن الصفحة: 166 - 169.(1/575)
لبيد أن تنح عنا حتى نخرج ونخليك والحصن، قال: لا أبرح شبراً واحداً حتى نموت عن آخرنا أو تنزلوا على حكمنا ورأينا، وجعل يكابدهم لما يرى من جزعهم، وكتب على لسان أبي بكر رضي الله عنه كتاباً إليه فيه: احصرهم ولا تقبل منهم إلا ما خرجوا منه أو السيف، وقد بعثت إليك بعشرة آلاف رجل عليهم فلان وخمسة آلاف عليهم فلان، فإن أظفرك الله تعالى بهم فإياك والبقيا في أهل النجير، حرق حصنهم بالنار واقطع معايشهم واقتل المقاتلة واسب الذرية وابعث بهم إلي إن شاء الله، وإنما كتب هذا مكايدة لعدوه، فلما قرئ عليهم الكتاب أيقنوا بالهلكة واشتد عليهم الحصار، وندموا، فقال الأشعث: إلى متى هذا الحصر؟ قد غرثنا وغرث عيالنا، وهذه البعوث تقدم علينا بما لا قبل لنا به، قد ضعفنا عمن معنا، فكيف بمن يأتينا من هذه الأمداد، والله للموت بالسيف أحسن من الموت بالجوع، قالوا: وهل لنا قوة بالقوم. فما ترى لنا فأنت سيدنا. قال: أنزل فآخذ لكم أماناً قبل أن تدخل هذه الأمداد بما لا قبل لنا به، فجعل أهل الحصن يقولون: يا أشعث افعل وخذ لنا أماناً، قال: فأنا أنزل، فأرسل إلى زياد: أنزل فأكلمك وأنا آمن؟ قال: نعم، فنزل الأشعث من النجير فخلا بزياد فقال: يا ابن عم، قد كان هذا الأمر ولم يبارك لنا فيه، وإن لي قرابة ورحماً وإن أبا بكر يكره قتل مثلي، وقد جاءك كتابه ينهاك عن قتل الملوك من كندة، فأنا أحدهم، وإنما أطلب منك الأمان على أهلي ومالي، فقال زياد: لا أؤمنك أبداً على دمك، وأنت كنت رأس الردة، فقال: أيها الرجل دع ما مضى واستقبل الأمور إذا أقبلت، قال: وماذا؟ قال: أفتح لك النجير، فأمنه على أهله وماله على أن يقدم به على أبي بكر رضي الله عنه فيرى فيه رأيه، وفتح له النجير فأخرجوا المقاتلة، فعمد زياد إلى سبعمائة من أشرافهم فضرب أعناقهم على دم واحد، ولام القوم الأشعث وقالوا لزياد: غدر بنا فأخذ الأمان لنفسه وأهله، وإنما نزل على أن يأخذه لجميعنا، وجاء كتاب أبي بكر رضي الله عنه: إن ظفرت بأهل النجير فاستبقهم، فقدم عليه ليلاً وقد قتل منهم في أول النهار سبعمائة في صعيد واحد، وأبى زياد أن يواري جثثهم وتركوا للسباع، فكان هذا أشد على من بقي من القتل.
نخلة (1) :
موضع على ليلة من مكة.
وكان بها (2) لقريش وبني كنانة بعض الطواغيت التي كانت تعظمها مع الكعبة لأنهم قالوا " اجعل الآلهة إلهاً واحداً " الآية، فكانت لهم بيوت تعظمها وتطوف بها كطوافها بالكعبة، بعضها الذي بنخلة وكان سدنتها وحجابها من بني شيبان، وبها كانت العزى، فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه فلما سمع صاحبها ذلك علق عليها سيفه وأسند في الجبل الذي هو فيه، وانتهى إليها خالد رضي الله عنه فهدمها، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نخل (3) :
غير مصروف، قرية لفزارة، وفي شعر زهير (4) :
تربص فإن تقو المرورات منهم ... وداراتها لا تقو منهم إذاً نخل
النخيلة (5) :
موضع بالكوفة على لفظ التصغير، وهي التي كان علي رضي الله عنه يخرج إليها إذا أراد أن يخطب الناس.
وفي سنة تسع وثلاثين أوقع علي رضي الله عنه بالخوارج بالنخيلة وحروراء.
ندرومة (6) :
مدينة في طرف جبل تاجرا بأرض المغرب، وهي مدينة حسنة كثيرة الزرع والفواكه رخيصة الأسعار، ولها بسائط خصيبة ومزارع كثيرة، وبينها وبين البحر نحو عشرة أميال، ولها مرسى مأمون مقصود وعليه رباط حسن يتبرك به، ويقال أنه من أتى فيه منكراً لم تتأخر عقوبته، قد عرف ذلك من بركته ومن صنع الله فيه.
نكور:
مدينة بالمغرب بقرب مدينة مليلة، وهي مدينة كبيرة بينها وبين البحر نحو عشرة أميال وقيل خمسة، وهي بين رواب وجبال منها جبل يقابل المدينة يعرف بالمصلى. وبها جامع على
__________
(1) معجم ما استعجم 4: 1304.
(2) انظر السيرة 2: 436.
(3) انظر معجم ما استعجم 4: 1303.
(4) ديوان زهير: 100.
(5) معجم ما استعجم 4: 1305.
(6) الاستبصار: 135، والبكري: 80، وانظر الإدريسي (د) : 172.(1/576)
أعمدة من خشب العرعر، وهو والأرز أكثر خشبها، ولها أربعة أبواب في القبلة باب سليمان وبين القبلة والجوف باب بني ورياغل، وفي المغرب باب المصلى، وفي الجوف باب اليهود وسورها من اللبن، وحماماتها كثيرة، وأسواقها عامرة وغزا (1) المجوس مدينة نكور سنة أربع وأربعين ومائتين فتغلبوا عليها وانتهبوها وسبوا من فيها إلا من خلصه الفرار فأقاموا بها ثمانية أيام.
وبها نهران (2) أحدهما يسمى نكور، وبه سميت، يخرج من جبل هناك ومن هذا الجبل ينبعث النهر المعروف بورغة وهو نهر كبير مشهور من أنهار المغرب وعلى نهرها الأرحاء.
ومدينة نكور (3) كثيرة البساتين طيبة الفواكه لا سيما الكمثرى والرمان فليس يوجد مثلهما في بلد، وهي قديمة أزلية افتتحها سعيد بن ادريس بن صالح الحميري أو بناها وهو المعروف بالعبد الصالح وذلك في أيام الوليد بن عبد الملك بن مروان وكان دخل أرض المغرب في الافتتاح الأول قبل موسى بن نصير، وعلى يديه أسلم البربر المجاورون لهذه المدينة وهم صنهاجة وغمارة ثم ارتد منهم بشر كثير لما ثقلت عليهم شرائع الإسلام.
ولإبراهيم (4) بن أيوب النكوري:
أيا أملي الذي أبغي وسولي ... ودنياي الذي أرجو وديني
أأحرم من يمينك ري نفسي ... ورزق الخلق في تلك اليمين
ويحجب عن جبينك لحظ طرفي ... ونور الأرض من ذاك الجبين
وقد جبت المهامه من نكور ... إليك بكل ناجية أمون وبين مدينة نكور ومرسى تمسامان عشرون ميلاً.
نمرة (5) :
موضع بعرفة معلوم.
نصيبين (6) :
مدينة في ديار ربيعة العظمى وهي من بلاد الجزيرة بين دجلة والفرات، وهي قديمة عظيمة كثيرة الأنهار والجنات والبساتين، ولها نهر عظيم يقال له الهرماس عليه قناطر حجارة، وأهلها قوم من ربيعة من بني تغلب.
وهي في مستو من الأرض ذات سور حصين وأسواق عامرة وتجارات وبها فعلة وصناع، وبها مياه كثيرة وعقارب قتالة.
وافتتحها عياض بن غنم الفهري في خلافة عمر رضي الله عنه سنة ثمان عشرة وكانت مدينة رومية، فلما افتتحها غياض أسكنها المسلمين، وهي كبيرة، ونهرها الهرماس عليه بساتين وكروم، وبها مستقر الولاة، ومنها إلى دارا خمسة فراسخ.
ويمتد أمام نصيبين وخلفها بسيط أخضر مد البصر أجرى الله تعالى فيه مذانب من الماء تسقيه وتطرد في نواحيه، وتحف بها عن يمين وشمال بساتين ملتفة الأشجار يانعة الثمار، وفيها قال أبو نواس:
طابت نصيبين بي يوماً فطبت بها ... يا ليت حظي من الدنيا نصيبين وفيه مدرستان ومارستان واحد.
نصراباذ (7) :
بنيسابور ونصراباذ بالري.
نعمان (8) :
بفتح أوله وادي عرفة دونها إلى منى، وهو كثير
__________
(1) عن البكري: 92.
(2) عن البكري: 90.
(3) الاستبصار: 136.
(4) البكري: 91.
(5) معجم ما استعجم 4: 1334.
(6) اعتمد المؤلف في هذه المادة على اليعقوبي: 326، ثم نزهة المشتاق: 199، ثم اليعقوبي على الأرجح، ثم رحلة ابن جبير: 329، وانظر الكرخي: 52، وابن حوقل: 193 - 194، والمقدسي: 140، وآثار البلاد: 467، وياقوت: (نصيبين) ، وابن الوردي: 28.
(7) انظر ياقوت: (نصراباذ) ، وفي معجم البكري: 1309 أن نصراباذ قرية من قرى العراق.
(8) معجم ما استعجم 4: 1316، وفي رحلة الناصري: 234 نقل عن الروض واستدراك عليه، إذ أن نعمان الاراك ((وراء عرفة لناحية الطائف)) عكس ما حدده في الروض.(1/577)
الأراك، قال الشاعر (1) :
تضوع مسكاً بطن نعمان إذ مشت به زينب في نسوة خفرات
وهو أيضاً موضع بالشام.
نفطة (2) :
في قصطيلية من بلاد الجريد في إقليم إفريقية، بينها وبين قيطون بياضة مرحلة، ومنها إلى توزر مرحلة، ونفطة مبنية بالصخر، عامرة آهلة، بها جامع ومساجد وحمامات كثيرة وتجارات ونخيل وغلات ومياه جارية كثيرة سائحة، وشرب جميع بلاد قصطيلية بوزن إلا نفطة فإن شربها جزاف، وجميع أهلها شيعة، وتسمى الكوفة الصغرى.
وهي قديمة (3) عليها سور من بناء الأول، ولها غابة كبيرة كثيرة النخل والبساتين وجميع الفواكه، وهي كثيرة الخصب، ولها نهر يسقي بساتينها، وأهلها ذوو يسار، وهم من بقايا الروم.
نفزاوة (4) :
بينها وبين القيروان ستة أيام، ولها سور صخر وطوب، ولها ستة أبواب، وبها جامع وحمام وأسواق حافلة، وهي على نهر كثيرة النخل والثمار، وحواليها عيون كثيرة، وبينها وبين قابس ثلاث مراحل، ومن نفزاوة تسير إلى بلاد قصطيلية.
وبها أرض (5) سواخة وسباخ وملاحات لا يهتدى للطريق لها إلا بخشب قد نصبت في دهس يشبه الصابون في الرطوبة، فمن أخطأ طريق تلك الخشب المنصوبة على الطريق هلك في تلك السباخ، وقد هلكت العساكر والجماعات في قديم الزمان ممن دخلها ولم يعرف أمرها، وتلك السباخ لا يعلم لها آخر ولا يسلك منها إلا الطريق إلى توزر وإلى بلاد قصطيلية، ويقال إنها متصلة ببلاد غدامس، وهذه السباخ كلها ملائح، وفيها موضع بين نفطة والحمة يعرف بالسبع سباخ.
وفي وسط طريق المار من توزر إلى نفزاوة جزيرة صغيرة فيها عين عذبة يشرب منها من يسير على تلك الطريق، وإذا دخل المسافر هذا الطريق في أيام الصيف يكاد يهلك من حرارة الملح ويرجع ما في الزقاق من الماء العذب ملحاً لا يقدر على شربه إلا أن يمزج بالسكر أو العسل. ولما هزم المنصور يعقوب ملك المغرب علي بن إسحاق على حمة مطماطة فر منهزماً على هذه السباخ فتبعه الموحدون سالكين سبيله حتى شارفوا توزر فألفوه قد توغل في صحرائها.
نفوسة (6) :
جبل نفوسة، من قفصة إليه نحو ستة أيام، وهو جبل عال نحو من ثلاثة أيام طولاً، وفيه كروم ومياه جارية وأعناب وتين، وأكثر زرعهم الشعير المتناهي طيباً ولأهله في خبزه صنعة وحذق وتمييز فاقوا فيه كل الناس، ويكون أطيب من سائر الطعام في سائر الأقاليم، ويقال إنه متصل بجبل درن.
نفيس (7) :
مدينة من بلاد المغرب عند أغمات تعرف بالبلد النفيس، وهو مدينة قديمة صغيرة حولها عمارات وطوائف من قبائل البربر، وبها من الحنطة والفواكه واللحوم ما لا يكون في كثير من البلاد، وبها جامع وسوق نافقة وأنواع عجيبة من الزبيب المتناهي طيباً وكثرة.
وغزاها (8) عقبة بن نافع رحمه الله وحاصر بها الروم فافتتحها وأصاب المسلمون فيها أموالاً كثيرة ومغانم واسعة، وبنى فيها عقبة مسجداً وهر معروف به إلى اليوم، وليس في جميع تلك البلاد أطيب هواء منها ولا أجل منظراً ولا أكثر أنهاراً وأشجاراً وثماراً، ويشق بلد نفيس نهر كبير ينبعث من جبل درن حيث تربة الإمام المهدي وخليفته عبد المؤمن، ومراكش بين أغمات ونفيس.
وكان الفقيه (9) قاضي القضاة أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن
__________
(1) هو محمد بن عبد الله النميري شاعر غزل من شعراء الدولة الأموية، وكان يهوى زينب أخت الحجاج، وله أشعار يشبب بها فيها (انظر الأغاني 6: 180 وما بعدها) .
(2) ليس عند البكري: 48 أو الإدريسي (د) : 237 حديث مفصل عن نفطة. وانظر ياقوت (نفطة) .
(3) هذه الفقرة عن الاستبصار: 156.
(4) البكري: 47 - 48.
(5) الاستبصار: 158 وبعضه عند البكري.
(6) الإدريسي (د/ ب) : 105/ 76 وأكثر ما نقله المؤلف هنا ينطبق على مدينة شروس، الواقعة في ذلك الجبل.
(7) الإدريسي (د/ ب) : 63/ 40.
(8) عن الاستبصار: 208، وانظر البكري: 160.
(9) لا علاقة لهذه القصة بالمادة ((نفيس)) .(1/578)
ابن مضاء اللخمي تبع الخليفة المنصور يعقوب في حركته إلى إفريقية، فلما انتهى إلى القيروان اعتل ابن مضاء واشتاق إلى وطنه قرطبة، وكان من كبار نبهائها، فمما قاله ببلاد العدوة وقد اشتاق إلى وطنه:
يا ليت شعري وليت غير نافعة ... من الصبابة هل في العمر تنفيس
حتى أرى ناظراً في جفن قرطبة ... وقد تغيب عن عيني تنيس
نقيع (1) :
بالقاف المنقوطة من فوق، موضع تلقاء المدينة النبوية شرفها الله تعالى، وبينه وبين مكة ثلاث مراحل، وكان عمر رضي الله عنه حماه.
نقاوس (2) :
من بلاد الزاب، وهي مدينة صغيرة كثيرة الأنهار والثمار والمزارع كثيرة شجر الجوز، منها يحمل إلى قلعة حماد وبجاية وإلى أكثر تلك البلاد، ويتجهز بفواكهها إلى ما جاورها من الأقطار، ولها سوق ومعايش كثيرة، ومنها إلى المسيلة أربع مراحل، وقيل ثلاث، ومنها إلى بسكرة مرحلتان.
نقمودية (3) :
مدينة في البحر الرومي، وهي القسطنطينية الأولى، بإزائها مدينة في جوف البحر يحسر البحر عنها يوماً في السنة، فيحجون إليها ويقيمون عليها ويتقربون ويهدون إليها، فإذا كان العصر أخذ الماء في الزيادة، وتبادروا بالانصراف، فلا تزال كذلك حتى يغمرها الماء فلا يظهر منها شيء، وبقيت كذلك إلى رأس السنة.
نسا:
بفتح أوله، هي كورة من كور نيسابور، وقال المسعودي: هي من أرض فارس، وقيل هو موضع بخراسان، وينسب إلها نسائي ونسوي وهو القياس.
وهي مدينة (4) حصينة كثيرة المياه والبساتين، وهي في المساحة مثل سرخس، ومياههم مطردة في دورهم وسككهم، ولها رساتيق واسعة ونواح خصيبة.
ومنها زهير بن حرب (5) أحد شيوخ مسلم بن الحجاج، وأبو عبد الرحمن النسائي صاحب التصنيف في الحديث المشهور، له قصة عجيبة في ابتداء أمره، ذكرها ابن عساكر تقتضي الرغبة في العلم والحض على طلبه (6) .
نسف (7) :
من سمرقند إلى كش يومان، ومن كش إلى نسف ثلاث مراحل، ونسف مدينة على مدرج طريق بخارى وبلخ، وهي في مستو من الأرض والجبل منها على نحو مرحلتين مما يلي كش، وبينها وبين جيحون مفازة لا جبل فيها، فينصب منها هذا النهر ويشرع إلى القرى، ودار الإمارة على شط هذا النهر بمكان يعرف برأس القنطرة، ولها ربض واسع وقهندز خراب، والمسجد الجامع فيه، والأسواق مجتمعة ما بين دار الإمارة والجامع، ولها منبران سوى منبرها، وليس لنسف ورساتيقها ماء يسيح إلا هذا النهر، وربما انقطع في بعض السنة.
ولنسف (8) سور وربض عامر كبير يحيط به السور، ولها أربعة أبواب، وفي المدينة قهندز ليس بالحصين، وفي ربضها مسجد جامع، وأسواقها في الربض مجتمعة بين دار الإمارة والمسجد الجامع ويتصل نهرها بها من كش، فإذا خرج عن المدينة سقى المزارع وقد ينقطع جريه في بعض السنين الممحلة، ولهم مياه نابعة تسقي الكثير من مزارعهم، والغالب عليها الخصب والسعة والدعة، وبها تجتمع طريق سمرقند.
نهاوند:
بفتح أوله، من كور الجبل، وهي آخر كور الجبل، من همذان إلى نهاوند مرحلتان، ومنها إلى الكرج مرحلتان. قالوا: ونهاوند ماه البصرة، ومعنى نهاوند صاحب الأساس، وقيل
__________
(1) معجم ما استعجم 4: 1323، وانظر ياقوت (النقيع) .
(2) أوله عن الاستبصار: 172، والبكري: 50 (وفيه نقص يخل بالسياق) ، ثم عن الإدريسي (د) : 94.
(3) ص ع: نعمولية، ولعلها قمودية في النزهة: 257.
(4) نزهة المشتاق: 209، وقارن بالمقديسي: 320، وياقوت (نسا) ، وآثار البلاد: 465.
(5) زهير بن حرب أبو خيثمة محدث بغداد توفي سنة 234 (تذكرة الحفاظ: 443) .
(6) أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي صاحب السنن، توفي سنة 303 (انظر ترجمته في ابن خلكان 1: 77، وطبقات الببكي 2: 83، وتذكرة الحفاظ: 698، وتهذيب التهذيب 1: 36، وطبقات الاسنوي 2: 480) .
(7) انظر ابن حوقل: 314، والمقدسي: 282، وياقوت (نسف) .
(8) نزهة المشتاق: 148 وفيه تكرار لما تقدم.(1/579)
ترجمة نهاوند " وجدت كما هي " سميت بذلك لأنها لم توجد بعد الطوفان قرية فيها بقية سواها.
ونهاوند (1) مدينة جليلة على جبل ذات سور طين، ولها بساتين وجنات وفواكه ومتنزهات ومياهها كثيرة وفواكهها تحمل إلى العراق لطيبها وكبرها وبها جامعان أحدهما قديم والآخر محدث، وهي كثيرة الرساتيق والعمارات.
وفيها كان اجتماع الفرس لما لقيهم النعمان بن مقرن المزني سنة ثلاث وعشرين.
قال الهمداني: لم يوجد مما كان تحت الماء وقت الغرق من القرى قرية فيها بقية سوى نهاوند.
وكان عمر رضي الله عنه قال للهرمزان (2) : أما إذ فتني بنفسك فأشر علي، أبفارس أبدأ أو بالجبال: أذربيجان وأصبهان؟ قال: فارس الرأس، والجبال جناحان، فاقطع الجناحين فلا يتحرك الرأس، قال عمر رضي الله عنه: بل أقطع الرأس فلا يقوم جسد ولا جناح ولا رجل.
وكتب ابن كسرى إلى أهل الجبال: أصبهان وهمذان وقومس: إن العرب قد ألحوا علي. فاجتمعوا بنهاوند وتعاقدوا على غزو أمير العرب يعنون عمر رضي الله عنه، في بلاده، فكتب أهل الكوفة بذلك إلى عمر رضي الله عنه: فقام على المنبر فقال: أين المسلمون أين المهاجرون والأنصار فاجتمع الناس. فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال: إن عظماء أهل الري وأهل أصبهان وأهل همذان وأهل نهاوند وأهل قومس وأهل حلوان، أمم مختلفة ألوانها وألسنتها وأديانها ومللها، وقد تعاقدوا على أن يخرجوا إخوانكم من بلادهم، وأن يغزوكم في بلادكم فأشيروا علي وأوجزوا ولا تطنبوا، فمنهم من صرف الأمر إليه وولاه ما تولى، ليمن نقيبته وخبرته، ومنهم من أشار بأن يتوجه إليهم بأهل الحرمين وأهل اليمن والشام حتى يلتقي الجمع الجمع، ومنهم من أشار بأن يكتب إلى أهل البصرة فليفترقوا ثلاث فرق: فرقة في ديارهم، وفرقة في أهل عهدهم، وتسير فرقة إلى إخوانهم بالكوفة، قال: هذا رأيي وكنت أحب أن أتابع عليه، لعمري لئن سرت بأهل الحرمين ونظر إلي الأعاجم لتنقضن الأرض وليمدنهم من لم يمدهم، وليقولن: أمير العرب إن قطعناه قطعنا أصل العرب.
فكتب (3) إلى النعمان بن مقرن وكان بكسكر، وكان قد كتب إلى عمر رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين إنما مثلي ومثل كسكر مثل شاب عند مومسة تلون له كل يوم وتعطر، وأنا أذكرك الله تعالى إلا بعثتني في جيش إلى ثغر غازياً ولا تبعثي جابياً، فندب عمر رضي الله عنه أهل المدينة، فانتدب منهم جمع فوجههم إلى الكوفة وكتب إلى عمار بن ياسر رضي الله عنه أن يستنفر ثلث أهل الكوفة فيسيروا إلى العجم بنهاوند فقد وليت عليهم النعمان بن مقرن، وكتب إلى أبي موسى رضي الله عنه يستنفر ثلث أهل البصرة إلى نهاوند، وكتب إلى النعمان: إني وجهت جيشاً من أهل المدينة وأهل البصرة وأهل الكوفة إلى نهاوند، وأنت على الناس ومعك في الجيش طليحة بن خويلد وعمرو بن معدي كرب فأحضرهما الناس وشاورهما في الحرب فإن حدث بك حدث فأمير الناس حذيفة، فإن قتل فجرير فإن قتل فالمغيرة بن شعبة.
وبعث عمر (4) رضي الله عنه بالكتاب مع السائب بن الأقرع بن عوف وقال له: إن سلم الله تعالى ذلك الجند فقد وليتك مغانمهم ومقاسمهم، فلا ترفعوا لي باطلاً ولا تمنعن أحداً حقه وإن هلك ذلك الجند فاذهب في الأرض فلا أرينك أبداً.
فسار جميعهم إلى نهاوند وسار النعمان فتوافوا بنهاوند وبها من الأعاجم ستون ألفاً عليهم ذو الفروة، وهو ذو الحاجب، وقد خندقوا وهالوا في الخندق تراباً قد نخلوه وبعث النعمان طليحة بن خويلد ليعلم علم القوم، فأبطأ حتى ساء ظن الناس به، فعلم علمهم ثم رجع، فلم يمر بجماعة إلا كبروا، فأنكر ذلك منهم، وقال: ما لكم تكبرون إذا رأيتموني؟ قالوا: ظننا أنك فعلت كفعلتك قال: لو لم يكن دين لحميت أن أجزر العرب هذه الأعاجم الطماطم وأخبر الناس بعدة القوم وكثرتهم فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وأقام النعمان أياماً حتى يستجم الناس أنفسهم وظهرهم، ثم
__________
(1) نزهة المشتاق: 204، وانظر ياقوت (نهاوند) ، وابن رسته: 166، والمقدسي: 393.
(2) الطبري 1: 2600 - 2634 مع إيجاز واختيار.
(3) انظر الطبري 1: 2596.
(4) انظر الطبري 1: 2598.(1/580)
دنا من معسكر الأعاجم فاقتتلوا ثم تحاجزوا عن قتلى وجرحى، وتقاتلوا من الغد حتى صبغت الدماء متن الخيل، وتحاجزوا عند المساء، فبات المسلمون يوقدون النيران ويعصبون بالخرق، لهم أنين بالجراح ودوي بالقرآن، وبات المشركون في المعازف والخمور وبهم من الجراح مثل ما بالمسلمين، وأصبحوا يوم الجمعة، فأقبل النعمان معلماً ببياض على برذون قصير، عليه قباء أبيض مصقول وقلنسوة بيضاء مصقولة فوقف على الرايات فحضهم وقال: يا معشر المسلمين، إن هؤلاء قد أخطروا لكم أخطاراً وأخطرتم لهم أخطاراً، أخطروا لنا دنياً (1) وأخطرتم لهم الإسلام، فالله الله في الإسلام أن تخذلوه، فإنكم أصبحتم باباً بين المسلمين والمشركين فإن كسر الباب دخل على الإسلام، ليشغل كل امرئ منكم قرنه ولا يجعله على صاحبه فإنه لؤم وخذلان ووهل وفشل، وإني هاز الراية، فإذا هززتها فلتأخذ الرجال أهبتها، وليتعهد أصحاب الخيل أعنتها وحزمها، فإذا هززتها الثانية فليعرف كل امرئ منكم مصوب رمحه وموضع سلاحه ووجه مقاتله، فإذا هززتها الثالثة وكبرت فكبروا واستنصروا الله تعالى واذكروه، وإذا حملت فاحملوا، فقال رجل من أهل العراق: قد سمعنا مقالتك أيها الأمير، ونحن واقفون عند قولك، منتهون إلى رأيك، فأول النهار أحب إليك أو آخره؟ قال: آخره، حين تهب الرياح وتحل الصلاة وينزل النصر لمواقيت الصلاة، فأمهل الناس حتى إذا زالت الشمس هز الراية، فقضى الناس حوائجهم وشدت الرجال مناطقها ونزع أصحاب الخيل المخالي عن خيلهم وقرطوها أعنتها وشدوا حزمها وتأهبوا للحرب، ثم أمهل حتى إذا كان في آخر الوقت هزها وصلى الناس ركعتين، وجال أصحاب الخيل في متونها وصوبوا رماحهم فوضعوها بين آذان خيولهم، وأقبلت الأعاجم على براذينهم عليهم الرايات المدبجة والمناطق المذهبة، ووقف ذو الحاجب على بغلته، فإنه زي الأعاجم وهم في حربهم، وإن لأقدامهم في ركبهم لزلزلة، وإن الأسوار ليأخذ النشابة فما يسدد الفوق للوتر وما يتمالك أن يضعها على قوسه، فقال النعمان: يا معشر المسلمين، إني هاز الراية الثالثة، وحاملاً فاحملوا ولا يلو أحد على أحد، وإن قيل قتل النعمان فلا يلوين أحد على أحد، وإني داع بدعوة، فعزمت على كل رجل منكم إلا قال: اللهم أعط النعمان اليوم الشهادة في نصر المسلمين وافتح عليهم. ثم نثل درعه وهز الراية وكبر فكبر الأدنى فالأدنى ممن حوله حتى عشيهم التكبير من السماء، وصوب رايته كأنها جناح طائر وحمل وحمل الناس، فكان أول صريع، ومر به معقل بن يسار فذكر دعوته ألا يلوي أحد على أحد، فجعل علماً عنده، ومر أخوه سويد بن مقرن أو نعيم فألقى عليه ثوباً كيلا يعرف ونصب الراية وهي تقطر دماً قد قتل بها قبل أن يصرع وسقط ذو الحاجب عن بغلته فانشق بطنه، وانهزم المشركون فاتبعوهم يقتلونهم كيف شاءوا.
قال بعض من حضر ذلك اليوم: إني لفي الثقل فثارت بيننا وبين القوم عجاجة قسطلانية، فجعلت أسمع وقع السيوف على الهام، ثم كشطت فإذا المسلمون كالذئاب تتبع الغنم. واتبعتهم طائفة من المسلمين حتى دخلوا مدينتهم، ثم رجعوا وحوى المسلمون عسكرهم، ورجع معقل بن يسار فسار إلى النعمان بعد انهزام المشركين، ومعه إداوة فيها ماء، فغسل التراب عن وجهه، فقال: من أنت؟ قال: معقل بن يسار، قال: ما فعل الناس؟ قال: فتح الله عليهم قال: الحمد لله اكتبوا بذلك إلى عمر رضي الله عنه، وفاضت نفسه، فاجتمع الناس وفيهم ابن الزبير وابن عمر رضي الله عنهم، فأرسلوا إلى أم ولده فقالوا: عهد إليك عهداً؟ فقالت: هاهنا سفط فيه كتاب، فأخذوه فإذا كتاب عمر رضي الله عنه إلى النعمان: إن حدث بك حدث فالأمير حذيفة، فإن قتل ففلان، فإن قتل ففلان، فتولى أمر الناس حذيفة رضي الله عنه، فأمر بالغنائم فجمعت ثم سار إلى مدينة نهاوند، وحملت تلك الغنائم إلى عسكرهم، وحضر أهل المدينة فقاتلوهم، فبينا هم يطاردونهم إذ لحق سماك بن عبيد عظيماً من عظمائهم يقال له دينار، فسأله الأمان فأمنه فأدخله على حذيفة رضي الله عنه، فصالحه عن البلد على ثمانمائة ألف وشيء من العسل والسمن، وقال: إن لكم الوفاء بالعهد، وأخاف عليكم خمسة أشياء: الخب والبخل والغدر والخيلاء والفجور من قبل القبط والروم وفارس ومن قبل أهل الأهواز.
وأتى (2) السائب بن الأقرع دهقان وقد جمعت الغنائم فقال: أتؤمنني على دمي ودماء قرابتي وأدلك على كنز النخيرجان، لم تجلبوا عليه في الحرب فيقسم وتجري عليه السهام، ولم تحرزوه بجزية أقاموا عليها، وإنما هو دفين دفنوه وفروا عنه فتأخذه لصاحبكم، يعني عمر رضي الله عنه، تخصه به؟ فقال: أنت
__________
(1) لعلها وينة؛ إذ جاء في الطبري: 2623 الرئة.
(2) الطبري: 2599، 2627.(1/581)
آمن إن كنت صادقاً، قال: فانهض معي، فنهض معه فانتهى إلى قلعة، فرفع صخرة ودخل غاراً فاستخرج سفطين، فإذا قلائد منظومة بالدر والياقوت وقرطة وخواتيم وتيجان مكللة بالجوهر، فأمنه ثم أتى به حذيفة رضي الله عنه فأخبره، فقال: اكتمه فكتمه حتى قسم الغنائم بين الناس، وعزل الخمس.
ثم خرج السائب مسرعاً فقدم على عمر رضي الله عنه، فقال له ما وراءك؟ فوالله ما نمت هذه الليلة إلا تغريراً، إذ ما أتت علي ليلة بعد الليلة التي أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ميتاً أعظم من هذه الليلة قال: أبشر بفتح الله ونصره وحسن قضائه لك في جنودك، ثم اقتص الخبر حتى انتهى إلى قتل النعمان فقال: إنا لله، يرحم الله النعمان، ثم مه؟ قال: ثم والله ما أصيب بعده رجل يعرف وجهه، فقال: لا أم لك ولا أب، قتل الضعفاء الذين لا يعرفهم عمر ابن أم عمر، وأكب طويلاً يبكي ثم قال: أصيبوا لضيعة؟ قال: لا ولكن أكرمهم الله بالشهادة وساقها إليهم، قال: ويحك، أغلبتم على أجساد إخوانكم أم دفنتموهم. قال: دفناهم، قال: فأعطيت الناس حقوقهم؟ قال: نعم، فنهض عمر رضي الله عنه، فأخذ السائب بثوبه وقال: حاجة، قال: ما حاجتك إذا أعطيت الناس حقوقهم؟ قال: حاجة لك وإليك، فجلس، وأخذ السائب الغرارة فأخرج السفطين ففتحهما فنظر إلى ما فيهما كأنه النيران يشب بعضه بعضاً، فقال عمر رضي الله عنه: ما هذا؟ فأخبره، فدعا علياً وعبد الله بن أرقم وغيرهما فختموا على السفطين وقال له: اختم معهم، فختمه، وقال لعبد الله بن أرقم: ارفعه، ورجع السائب.
فرأى عمر رضي الله عنه ليالي كالحيات يردن نهشه، فسرح رجلاً وكتب إلى السائب: إن صادفك رسولي في الطريق فلا تصلن إلى أهلك حتى تأتيني، وإن وصلت إلى أهلك فعزمة مني إليك، إذا قرأت كتابي هذا أن تشد على راحلتك وتقبل إلي. وكتب إلى عمار رضي الله عنهما: لا تضعن كتابي هذا حتى يرحل السائب إلي، وأمر الرسول أن يعجله، فقدم الرسول فقال له السائب: أبلغه عني شيء أم به علي سخطة؟ قال: ما رأيت ذلك، ولا أعلمه بلغه عنك خير ولا شر، وركب فقدم على عمر رضي الله عنه فقال له: يا ابن أبي مليكة، يا ابن الحميرية، ما لي ولك، أم ما لك ولي، ثكلتك أمك، ما الذي جئتني به؟ فلقد بت مما جئتني به مروعاً أظن الحيات تنهشني، أخبرني عن السفطين، قال: والله لئن أعدت عليك الحديث، فزدت حرفاً أو نقصت، لأكذبن، قال: إنك لما انصرفت فأخذت مضجعي لمنامي أتتني ملائكة فأوقدوا علي سفطيك جمراً ودفعوهما في نحري، وأنا أنكص وأعاهدهم أن أردهما فأقسمهما على من أفاءهما الله عليه، فكاد ابن الخطاب يحترق، ثم لم أزل مروعاً أظن الحيات ينهشنني، فاردد هذين السفطين فبعهما بعطاء الذرية والمقاتلة أو نصف ذلك، واقسم منهما على من أفاءهما الله عز وجل عليه، وقيل، قال له: بعهما واجعل ثمنهما في أعطية المسلمين بالبصرة والكوفة، فإن خرج كفافاً فذلك، فإن فضل فاجعله في بيت مال المسلمين (1) ، فقدم السائب بهما فاشتراهما عمرو بن حريث بعطاء الذرية والمقاتلة، وقيل اشتراهما بأعطية أهل المصرين، فباع أحدهما من أهل الحيرة بما أخذهما به واستفضل الآخر. وقال بعضهم: استفضل مائة ألف دينار، فكان أول مال اعتقده.
ولما انهزم أهل نهاوند جعلوا يسقطون في ذلك الخندق الذي هالوا فيه التراب المنخول فيغرقون في ذلك، وكان يقال لفتح نهاوند فتح الفتوح، قال موسى بن عقبة عن أخيه: قدمت البصرة فرأيت بها شيخاً أصم، فقلت: ما أصابك. قال: أنا من أهل نهاوند، لما نزل المسلمون عندما نزلوا عليها كبروا تكبيرة ذهب سمعي منها. وفي الروايات عن فتح نهاوند اختلاف كثير، فلنقتصر منه على هذا.
النهروان (2) :
بالعراق، مدينة صغيرة من بغداد إليها مشرقاً أربعة فراسخ، ويقال بضم الراء وفتحها وكسرها مع النون، ويقال بضم النون والراء معاً أربع لغات، ولها نهر جليل تجري فيه المراكب العظام ينبعث من جبال أرمينية ويستمد من القواطل، فإذا صار بباب كسرى سمي النهروان، وفي الجانب الغربي منها أسواق ومسجد جامع ونواعر تسقي أرضها، وفي الجانب الشرقي مسجد جامع أيضاً وأسواق، وحول المسجد خانات ينزلها الحاج والميارة.
وعليها كانت الوقيعة بين علي رضي الله عنه وبين الخوارج
__________
(1) سقط من ع.
(2) انظر ابن رسته: 90، 163، ومعجم البكري 4: 1336، ونزهة المشتاق: 202، والمقسي: 121، وياقوت (النهروان) .(1/582)
إذ خرجوا عليه وقالوا له: حكمت الرجال في دين الله تعالى، ما كان لك ذلك، يعنون أنه رضي ببعث الحكمين أبي موسى وعمرو بن العاصي رضي الله عنهما، ففارقوه، والخبر مشهور.
نهر تيرى (1) :
من كور الأهواز، مدينة صالحة القدر عامرة بالديار والأسواق، كثيرة الخيرات، وبها طرز تتخذ منها ثياب حسنة، قالوا: وبها دار لا تعمر، وكل من يسكنها لا يلبث فيها أكثر من يوم واحد ولا يجاوز الليلة إلى الغد.
نهر معقل:
بالبصرة ينسب إلى معقل بن يسار، وكان ابن زياد بن أبيه حفره وأمر معقلاً ففتحه تيمناً بصحبته، فنسب إليه.
نهروارة (2) :
مدينة في بلاد الهند ملكها عظيم يسمى بلهرا له جيوش وفيلة، عبادته صنم البد، وهو يحمل تاج الذهب على رأسه ويلبس الحلل المنسوجة بالذهب، ويركب الخيل في سائر الأيام، ويركب في كل جمعة مرة، ويركب حوله نحو مائة امرأة، ولا يمشي معه أحد سواهن، وقد لبسن القراطق المذهبة وتحلين بأحسن الحلية واحتملن الأساور من الذهب والفضة في أيديهن وأرجلهن، وأسبلن شعورهن على أردافهن وهن يتدافعن ويتلاعبن والملك يقدمهن، فأما جملة وزرائه وعظماء رجاله فلا يركبون معه إلا إذا خرج محارباً لمن قام عليه أو اهتضم شيئاً من عمالاته، أو إلى من قصده من الملوك المجاورين له، وله الفيلة الكثيرة، وهي عمدة حربه.
ويصل نهروارة كثير من تجار المسلمين، وللمسافرين بها إكرام من ملوكهم وضبط لما بأيديهم، وبسط العدل في أهل الهند طبيعة لا يعولون على شيء سواه، ولفضل عدلهم وحسن سيرتهم ذكروا هم وأهل تلك البلاد بخير، وكثر القاصد إليهم، فبلادهم عامرة وأحوالهم ناجحة وادعة، ومن انقياد عوامها للحق واتباعهم له وكراهيتهم للباطل أن الرجل منهم يكون له عند آخر حق فيلقاه حيث لقيه فيخط له خطاً في الأرض كالحلقة، يدخله الطالب في تلك الحلقة فيدخلها المطلوب طائعاً ولا يبرح منها إلا بإنصاف خصمه، أو يعفو عنه الذي له الحق، فيخرج من الحلقة.
وطعام أهل نهروارة الأرز والحمص والباقلا واللوبيا والعدس والماش والسمك والحيوانات التي تموت موتاً طبيعياً، ولا يذبحون طائراً ولا حيواناً، فأما البقر فإنها محرمة عليهم، فإذا ماتت دفنت دون سائر البهائم.
وأهل الهند يحرقون موتاهم ولا قبور لهم، فإذا مات الملك قطعت له عجلة عريضة ارتفاعها على الأرض مقدار شبرين وتوضع على العجلة قبة مكللة، ويوضع الملك عليها ويطاف به في المدينة كلها تجره عبيده، ورأسه مكشوف لمن يراه وشعره ينجر على تراب الأرض، وينادي عليه مناد بلسان الهند: أيها الناس هذا ملككم فلان ابن فلان، عاش في ملكه فارحاً قادراً كذا وكذا سنة، وها هو ذا قد مات وفتح يده بما معه، لا يملك من ملكه شيئاً ولا يدفع عن جسمه أذى، ففكروا فيما أنتم إليه صائرون وإليه راجعون، كل هذا باللغة الهندية، فإذا فرغ من التطواف به أخرج إلى مكان النار التي من عادتهم أن يحرقوا بها الموتى، موتى ملوكهم، فيلقونه في النار حتى يحترق.
وأهل الهند لا يحزنون كثيراً ولا يقومون بالهموم جملة، وجملة البلاد الهندية المجاورة للسند الذين قد مازجهم المسلمون يدفنون موتاهم في بيوتهم بالليل تستراً، ويسوون التراب عليهم ولا يبكون ميتاً ولا يحزنون عليه كثيراً. والزنا في جميع بلاد البلهرا مباح إلا في المزوجات، والرجل إن ارتضى نكاح ابنته أو أخته أو خالته أو عمته، ما لم يكن مزوجات فعل.
النوشجان (3) :
من بلاد فارس وفيها شعب بوان، فيه شجر الجوز والزيتون والكروم وغير ذلك من الفواكه، وهو أحد المواضع المشهورة بالحسن، وفيه يقول المتنبي:
مغاني الشعب طيباً في المغاني ... بمنزلة الربيع من الزمان
ولكن الفتى العربي فيها ... غريب الوجه واليد واللسان
__________
(1) عن نزهة المشتاق: 124، وانظر ياقوت.
(2) ص ع: نهراوة، والتصويب عن الإدريسي (ق) : 59 (OG: 188) وعنه ينقل المؤلف المادة كلها، وترد عند ابن بطوطة: 453، 497 باسم ((مهروالة)) .
(3) انظر ياقوت (النوشجان) وقد ذكر موضعين آخرين بهذا الاسم.(1/583)
نول لمطة (1) :
من بلاد السوس الأقصى بالمغرب، بينها وبين وادي السوس الأقصى ثلاث مراحل، ومنها إلى البحر ثلاثة أيام، وبينها وبين سجلماسة ثلاث عشرة مرحلة وفيها جزولة ولمطة. ومدينة نول إحدى مدن الإسلام، وهي مدينة كبيرة في أول الصحراء على نهر كبير يصب في البحر المحيط، وعليه قبائل لمطة ولمتونة، ومن مدينة نول إلى وادي درعة نحو ثلاث مراحل، وإنما سميت نول لمطة لأن قبيل لمطة يسكنونها، وماؤها جار، وهي آخر بلاد السوس، ومن أراد الدخول من وادي درعة إلى بلاد السودان، غانة وغيرها، فيمشي من وادي درعة نحو خمس مراحل إلى وادي تركى (2) ، وهو أول الصحراء ثم يسير في جبال وعرة في طريق قد فتحت في حجر صلد بالنار والخل من عمل الأول ويزعم قوم أن ملوك بني أمية فتحوها، وهذه الطريق من إحدى عجائب العالم ومنها إلى جبل يسمى جبل الحديد ومن هذا الجبل يدخل إلى بلاد لمتونة، وأكثر لمتونة إنما هم رحالة لا يستقر بهم موضع، ولا يعرفون الحرث ولا الزرع ولا الخبز، وإنما لهم الأنعام الكثيرة فعيشهم من لبنها ولحمها، فهم يجففون اللحم ويطبخونه ويصبون عليه الشحم المذاب أو السمن ويأكلونه ويشربون عليه اللبن قد غنوا به عن الماء، فيبقى الرجل منهم الأشهر لا يشرب ماء ولا يأكل خبزاً، وربما نفذ عمره ولا يأكل خبزاً ولا يعرفه، وصحتهم مع ذلك متمكنة، وربما مرت بهم القوافل فيتحفون ملوكهم ورؤساءهم بالخبز والدقيق.
وببلادهم (3) يكون اللمط الذي تعمل من جلوده الدرق فلا شيء أبدع منها ولا أصلب ظهراً، وبها يقاتل أهل المغرب لحصانتها وخفة محملها، وتصنع بهذه المدينة السروج وأقتاب الإبل، وتباع بها الأكسية السفسارية والبرانس التي يباع الواحد منها بخمسين ديناراً، والبقر والغنم عندهم كثيرة، والألبان والسمن، وإليها يلجأ أهل تلك الجهات في مهم حوائجهم.
وهذا الحيوان (4) المسمى باللمط دابة دون البقر لها قرون رقاق حادة تكون لذكرانها وإناثها، وكلما كبر هذا الحيوان طال قرنه حتى يكون أزيد من أربعة أشبار، وأجود الدرق وأغلاها ثمناً ما عمل من جلود الإناث المسنات التي قد طالت قرونها لكبر سنها حتى منعت الفحل أن يعلوها. وببلادهم أيضاً الفنك كثير، ومن عندهم تحمل جلودها إلى جميع البلاد، وعندهم الكباش الدمانية، وهي على خلقة الضأن إلا أنها أعظم وشعرها كشعر المعز لا صوف عليها، وهي من أحسن الغنم خلقاً وألواناً. والريحان في بلاد الصحراء وفي بلاد السوس عزيز لأن بلادهم لا تنبته، وهو عندهم من أطيب الطيب.
ومن عجائب (5) هذه الصحراء أن بها معدن ملح تحفر عنه الأرض كما تحفر عن سائر المعادن، ويوجد الملح تحت قامتين أو دونهما من وجه الأرض فيقطع كما تقطع الحجارة وعلى هذا المعدن حصن مبني بالحجارة المخرجة من المعدن وجميع ما فيه من بيوت وغرف ومساكن إنما هو مبني بحجارة الملح، وبهذا الملح يتجهز إلى بلاد السودان، غانة وغيرها، وله غلة عظيمة، وبإزاء معدن الملح الماء العذب الطيب أخبر بذلك من عاينه.
ومن مدينة نول إلى وليلي وهو موضع على شاطئ البحر المحيط بالقرب منه جزيرة في البحر لا يوصل إليها إذا مد البحر إلا في المراكب، وعند الجزر يوصل إليها على القدم، ويوجد فيها العنبر كثيراً، وأكثر معاش أهلها من لحوم السلاحف، وهي أكثر شيء في ذلك الموضع وهي مفرطة العظم وربما دخل الرجل في محار ظهورها يصيد في البحر كالقارب، وفي هذه الجزيرة أغنام كثيرة ومواش، وهي منتهى المراكب وآخر مراسي المغرب، ومن مدينة نول إلى هذه الجزيرة على البر لا يفارق الساحل مسيرة شهرين في أرض محجرة تنبو عنها المعاول ويكل فيها الحديد، وإنما يشرب من يمر على ذلك الطريق من حفر يحفرونها عند جزر البحر فتنبع ماء عذباً، وهو من العجائب، وإذا مات للمارين بهذا الطريق ميت لم يمكنهم مواراته بالتراب لصلابة الأرض وامتناعها عن الحفر فيسترونه بالحطام والحشيش ويقذفونه في البحر.
النوبهار (6) :
هو بيت نار بناه منوشهر الهندي بمدينة بلخ من خراسان على اسم القمر وكان من يلي سدانته تعظمه الملوك وتنقاد إليه وتحمل إليه الأموال، وسمة المتولي بسدانته برمك، وسميت
__________
(1) بدأ المادة بالنقل عن البكري: 161، ثم عن الاستبصار: 213، ثم الإدريسي (د) : 59.
(2) البكري 163: تارجا.
(3) عن الاستبصار ثم عن البكري.
(4) عاد إلى النقل عن الاستبصار.
(5) لا يزال النقل عن الاستبصار مستمراً.
(6) قارن بياقوت (النوبهار) .(1/584)
البرامكة لأن خالداً كان من ولد من ولي هذا البيت، وكان بنيانه من أعلى المباني تشييداً، تنصب في أعلاه شقق الحرير الأخضر، طول الشقة مائة ذراع لتدفع عنه قوة الريح، فيذكر أن الريح خطفت يوماً بعض تلك الشقق فرمت به على مسافة خمسين فرسخاً، وهذا يدل على ذهابه في الجو. وعلى باب النوبهار كتاب بالفارسية: قال بيوراسف: أبواب الملوك تحتاج إلى خصال: عقل وصبر ومال، وتحت هذه الكتابة مكتوب بالعربية: كذب بيوراسف، الواجب على الحر إذا كان معه واحدة من هذه الخصال ألا يلزم باب السلطان.
نوابية (1) :
إليها ينسب النوبة وبها عرفوا، وهي مدينة صغيرة وأهلها مياسير، ولباسهم الجلود المدبوغة وأزر الصوف ومنها إلى النيل أربعة أيام، وشرب أهلها من الآبار، وطعامهم الذرة والشعير، ويجلب إليهم التمر، والألبان عندهم كثيرة، وفي نسائهم جمال فائق ولهن أعراق طيبة ليست من أعراق السودان في شيء. وجميع بلاد النوبة في نسائهم جمال وكمال وشفاههم (2) رقاق وأفواههم صغار ومباسمهم بيض وشعورهم سبطة، وليس في جميع السودان والزنوج والحبشة والبجاة وغيرهم من شعور نسائهم كشعور نساء النوبة فإنها سبطة مرسلة، ولا أحسن للجماع منهن ويبلغ ثمن الجارية منهن ثلثمائة دينار، ولهذه الخلال التي فيهن يرغب فيهن ملوك مصر، فيتنافسون في أثمانهن ويتخذونهن أمهات أولاد لحسنهن وطيب مباضعتهن.
نيكث (3) :
مدينة من عمل الشاش جليلة المقدار كثيرة العمار والتجارات الواسعة والخيرات، وعليها سور حصين، ولها مياه جارية ومتنزهات، وبخارجها ربض عليه سور حصين وأكثر أسواقها العامرة في الربض.
نيطس (4) :
بحر نيطس متصل من جهة جنوبه ببلاد اللازقة إلى أن يتصل بالقسطنطينية، وطوله ألف ميل وثلثمائة ميل، وعرضه ثلثمائة ميل، وأعرض موضع فيه يكون أربعمائة.
وبحر نيطس هو بحر أمم من الترك والبرغز والروس وغيرهم، وهو يمر من الشمال من ناحية اللازقة ثلثمائة ميل، وهي وراء القسطنطينية، ويتصل هذا البحر من بعض جهاته ببحر الخزر.
وفي بحر (5) نيطس جزيرتان عامرتان: إحداهما يصاد بها الحوت المسمى شهربا (6) ، وهو نوع من السقنقور يصاد عند هيجان البحر في مرسى بغربي الجزيرة يفعل مثل الذي يفعله السقنقور في الباه بل هو أجود وأفضل، فإن الصائد إذا رمى شبكته وتعلق بها هذا الحوت أنعظ إنعاظاً شديداً خارجاً عن العادة فيعلم به الصائد من قبل أن يراه، وهو قليل الوجود، ومقدار هذا الحوت من ذراع إلى شبر بلا زائد، يملح بعد التشريح بالملح والزنجبيل ويلف في أوراق الأترج ويهدى إلى الملوك الساكنين بتلك الأرض فيجيزون عليه، ومقدار ما يمسك منه الآخذ تحت لسانه وزن قيراط لا غير، وهذا عندهم صحيح معلوم.
نينوى (7) :
كورة من كور الموصل من عمل الجزيرة، وهي مقابلة للموصل بينهما دجلة، وإلى أهلها بعث يونس بن متى عليه السلام، وكان قومه يعبدون الأصنام فكان من أمره وأمر قومه ما نصه الله تعالى في كتابه " فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا "، وهي مدينة أيوب عليه السلام، وهي عامرة وفيها عين ثرة وهي التي استحم فيها أيوب عليه السلام وتطهر وغسل نفسه من البلاء الذي كان به ينزل إليها في درج وليس بهذه المدينة أشجار، وهناك عين تعرف بعين يونس، ويأوي إلى المسجد النساك.
وأول من بنى هذه المدينة ملك يقال له بسوس كان ملكه من
__________
(1) الإدريسي (د/ ب) : 13/ 13 (OG: 30 نوابة) ، وانظر ابن الوردي: 36.
(2) وردت العبارة على التأنيث في (د/ ب) والتذكير في (OG) .
(3) كذا هي صورة هذا الاسم عند الإدريسي في نزهة المشتاق: 217 وعنه ينقل المؤلف، ولكن ترتيب الإدريسي لمدن الشاش متابع لابن حوقل: 416، والكرخي: 185 واللفظة عندهما بنكث (Binkath) . وانظر ياقوت (بنكث) ، والمقدسي: 276، وقد تصحفت اللفظة على المؤلف؛ ويقول ياقوت: إنه وجدها ((بيكث)) بخط البشاري (المقدسي) .
(4) هو كذلك في أكثر المصادر، ويبدو أنه تصحف قديم للفظة بنطس (Pontus) ، قارن بمروج الذهب 1: 260 - 262، والتنبيه والإشراف: 66، وابن رسته: 85، وابن خرداذبه: 103، وقد ذكر ياقوت (بنطس) : أنه وجده كذلك بخط البيروني.
(5) عن نزهة المشتاق: 310.
(6) نزهة المشتاق: شهرباو.
(7) أكثر المادة عن مروج الذهب 2: 92 - 95، وانظر ابن حوقل: 196، والزيارات للهروي: 70، ورحلة ابن جبير: 236، وآثاتر البلاد: 477، وياقوت: (نينوى) ، وابن الوردي: 29، ورحلة ابن بطوطة: 235.(1/585)
شاطئ دجلة إلى أرمينية إلى بلاد أذربيجان إلى حد الجزيرة والجودي، وكان ملك الموصل محارباً لملك نينوى، ثم غلب ملك الموصل على نينوى، ورجعت جميع هذه الممالك إلى ملوك فارس، حتى أتى الله بالإسلام، وقد خربت وآثار سورها بينة وأصنام من حجارة مكبوبة على وجوهها.
ومن متأخري علماء نينوى محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف النواوي صاحب كتاب " الأذكار المسبحة في الليل والنهار (1) " و " شرح كتاب مسلم " و " شرح المهذب " توفي بنينوى سنة ست وسبعين وستمائة.
وذكر ابن عساكر أن الحسين بن علي رضي الله عنهما قتل بنينوى، وحكي عن بعضهم أنه كان مع علي رضي الله عنه وهو ذاهب إلى صفين، فسمعه لما حاذى نينوى يقول: صبراً أبا محمد صبراً أبا محمد، فقلت: من أبو محمد يا أمير المؤمنين؟ فقال: الحسين، يقتل هاهنا.
النيل:
مدينة بين الكوفة وواسط.
ونيل مصر من سادات الأنهار وأشراف البحار فإنه يخرج من الجنة على ما في الخبر: إن النيل وسيحان يخرجان من الجنة، وهو من عجائب العالم إذ لا يعرف له منبع.
ومن الناس من يقول (2) : أنه ينبع من تحت جبل القمر وراء خط الاستواء بسبع درجات ونصف درجة، يخرج من اثنتي عشرة عيناً هناك، فيجتمع في بحيرتين هنالك كالبطائح، ثم يتشعب من كل بطيحة ثلاثة أنهار تجتمع جميعها إلى بطيحة من الإقليم الأول، فيخرج من هذه البطيحة نيل مصر وغيره من الأنهار الكبار، وذلك في البلاد المحترقة الجنوبية التي لا يكون فيها نبات ولا حيوان لقرب الشمس من ذلك الموضع قيل فينبعث نيل مصر في رمال وجبال، ثم يخترق أرض السودان ما يلي بلاد الزنج، ثم ينبعث منه خليج يشق بلاد الزنج ويصب في بحر الزنج وتظهر في هذا الخليج الزيادة التي تظهر في نيل مصر. وفيه التمساح الكائن في نيل مصر، والحيوان الذي (3) يسمى الورل الذي يكون في الصحراء والبراري إنما أصله من التمساح، وذلك أن التمساح يخرج من النيل ليسرح على الساحل، فربما جزر عنه الماء فيبقى في البر فيتناسل فيكون منه الورل المشهور، والتمساح لا يوجد إلا في نيل مصر أو في نهر أصله من ماء واحد مع نيل مصر.
وفي نيل مصر السمك الرعاد، من صاده لم تزل يده ترعد ما دام في شبكته، وعلى النيل جبل يراه أهل تلك الجهة وفيه صدع من انتضى سيفه ثم أولجه فيه وقبض على مقبضه بيده جميعاً اضطرب السيف في يديه فارتعد فلا يقدر على إمساكه ولو كان أشد الناس، وإذا حد بحجارة هذا الجبل سكين أو سيف لا يؤثر فيه حديد أبداً وجذب الإبر والمسال أشد جذباً من المغنيطس، ولا يبطل الثوم عمله كما يبطل المغنيطس، وحجر الجبل نفسه لا يجذب الحديد وإن حد عليه حديد جذب ذلك الحديد وهذا من العجب. ويقال إن نيل مصر يجري على وجه الأرض سبعمائة فرسخ أو تسعمائة ويخرج في غير عمران مسيرة أربعة أشهر، وفي بلاد السودان مسيرة شهرين، وفي بلاد مصر مسيرة شهر، من أسوان إلى أن يصب في البحر بحلق رشيد بشرقي الإسكندرية.
وذكر هروشيوش الرومي في تاريخه أن من منبعثه إلى موقعه ثلثمائة ألف وتسعين ألفاً وتسعمائة وثلاثين ميلاً. والنيل مخالف لكل نهر من أنهار الأرض لأن كل نهر يستقبل الجنوب والنيل يستقبل الشمال، فهو مخالف لجميع أنهار الأرض كلها وعلة ذلك أن منبعثه من الجنوب، قال الشاعر:
مصر ومصر شأنها عجيب
ونيلها تجري به الجنوب
قيل: وليس في الدنيا نهر يسمى بحراً ويماً غير النيل، قال تعالى " فإذا خفت عليه فألقيه في اليم " والعرب تسميه البحر، وليس في الدنيا نهر يفيض على الأرض فيزرع عليه ويغني عن المطر غير نيل مصر. وقيل: بلاد مصر ثلاثة أشهر درة
__________
(1) سماه صاجحب كشف الظنون: حلية الأبراروشعار الأخبار في تلخيص الدعوات والأذكار، ولم يقل أحد إن الشرف النواري ينسب إلى نينوي، وإنما نسبته إلى نوى، وهي بلدة بالشام، وقال ياقوت: بحوران (والتعريف متقاربان) ؛ والنسبة إليها نواوي ونوائي ونووي - انظر: التاج (موى) ، وطبقات السبكي 5: 165، ونوى أيضاً قرية بسمرقند، ولكن لا صلة لأبي زكريا بها.
(2) عن الاستبصار: 45، وانظر ياقوت: (النيل) ، وابن الوردي: 29.
(3) زيادة توضيحية ليست في الاستبصار.(1/586)
بيضاء، وثلاثة أشهر مسكة سوداء وثلاثة أشهر زمردة خضراء وثلاثة أشهر سبيكة حمراء، وتفسير ذلك أن النيل إذا استوى عم جميع الأرض من بلاد مصر فتبقى قراها وضياعها في رواب وتلال كأنها الكواكب ويتصرف الناس بينها في الزواريق، فتكون الأرض كدرة بيضاء ويمكث عليها ثلاثة أشهر فإذا نضب عنها الماء أخذ الحراثون في بذر الزرع فتمكث الأرض سوداء إلى أن ينبت الزرع وتظهر خضرته ثلاثة أشهر فكأن الأرض مسكة سوداء وأيضاً فإنه تفوح فيها روائح طيبة عطرة، فإذا كبر الزرع وظهرت خضرته كانت الأرض كأنها زبرجدة خضراء، وبقيت كذلك ثلاثة أشهر إلى أن يصفر الزرع (1) ، وييبس ويتناهى فتكون الأرض عند ذلك كأنها سبيكة ذهب حمراء وبقيت كذلك ثلاثة أشهر حتى يتم الحصاد. وذكر أن مصر في كتب الأوائل مصورة، وسائر البلاد مادة إليها أيديها تستطعمها، يريد أنها أكثر بلاد الله زرعاً.
وليلة الغطاس (2) بمصر أعجب شيء وهي لعشر يمضين من كانون الآخر، وهو شهر ينير، وحينئذ ينتهي مد النيل ويأخذ في الانحطاط. وأصفى ما يكون ماء النيل في ذلك الوقت، ولهذه الليلة بمصر شأن عظيم، يخرج الناس أجمعون بتلك الليلة لمشاهدتها، ويعدون ما قدروا عليه من الأطعمة والأشربة، ويلبسون أحسن ملابسهم، ويظهرون ما أمكنهم من الجواهر وأواني الذهب والفضة، وأحضروا جميع الملاهي، ويدخل الناس في الزواريق وبعضهم في الدور المشرفة على النيل، يستعملون المشاعل والشمع الكثير، فيحرق بمصر تلك الليلة من الشمع ما لا يحصى، والناس على شطوط النيل في الزواريق وفي الدور المشرفة على النيل بالطبول والأبواق وجميع الملاهي، وهي أحسن ليلة تكون بمصر وأكملها سروراً، ويغطس أكثر الناس في النيل، ومن لم يغطس يرش عليه من الماء، ويزعمون أن ذلك أمان من المرض.
وذكر محمد بن محمد بن ادريس (3) أن النيل على قسمين: القسم الأول نيل مصر يشق أرضها من الجنوب إلى الشمال وأكثر مدن مصر على ضفتيه معاً، والقسم الثاني من النيل يمر من جهة المشرق إلى أقصى المغرب، وعلى هذا القسم من النيل جميع بلاد السودان أو أكثرها، وهذان القسمان مخرجهما من جبل القمر فوق خط الاستواء بست عشرة درجة، وان مبدأ النيل من هذا الجبل من عشر عيون فأما الخمسة الأنهار منها فإنها تصب وتجتمع في بطيحة كبيرة، والخمسة الأنهار الأخر تنزل أيضاً من الجبل إلى بطيحة أخرى كبيرة، ويخرج من كل واحدة من هاتين البطيحتين ثلاثة أنهار فتمر بأجمعها إلى أن تصب في بطيحة كبيرة جداً (4) وتفترق منها الأنهار فيخرج ذراع من النيل واحد فيمر في جهة المغرب وهو قبلي بلاد السودان الذي عليه أكثر بلادها، ويخرج منه ذراع آخر فيمر إلى جهة الشمال، ويشق في بلاد النوبة وبلاد أرض مصر وينقسم في أسفل أرض مصر على أربعة أقسام فثلاثة منها تصب في البحر الشامي، وقسم واحد يصب في البحيرة الملحة التي تنتهي إلى قرب الاسكندرية، وبين هذه البحيرة والإسكندرية ستة أميال وهي لا تتصل بالبحر بل هي من فيض النيل ومع الساحل قليلاً.
وذكر قدامة (5) أن جرية النيل من مبدأه إلى مصبه في البحر الشامي خمسة آلاف ميل وستمائة ميل وأربعة وثلاثون ميلاً، وعرض النيل في بلاد النوبة ميل واحد، وعرضه قبالة مصر ثلث ميل. وفي البطيحات الصغار وما بعدها من النيل التمساح وفيها الحوت المسمى بالخنزير، وهو ذو خرطوم أكبر من الجاموس ويخرج إلى الجهة المجاورة للنيل فيرعى الزرع بها ويرجع إلى النيل، وفي النيل سمكة مدورة حمراء الذنب يقال لها اللاش لا تظهر فيه إلا بذرة، وهي كثيرة اللحم طيبة الطعم، وفيه أيضاً سمك يسمى الابرميس (6) ، وهو حوت أبيض مدور أحمر الذنب يقال إنه ملك السمك وهو طيب الطعم لذيذ يؤكل طرياً ومملوحاً إلا أنه لطيف، وفيه أيضاً الراي (7) وهو سمك كبير لونه أحمر فيه كبير وصغير، وفيه سمك يقال له البني كبير عجيب الطعم في الواحد منه خمسة أرطال وعشرة أرطال، وفيه سمك في صورة الحيات، وفيه السمك الرعادة إذا مسها الإنسان ارتعدت يده حتى تسقط منها، وفيه كلاب الماء وفرس الماء وفيه خلقة الفرس، وحوافره مثل أرجل البط تنضم إذا
__________
(1) سقط من ع.
(2) الاستبصار: 49.
(3) يعني الإدريسي صاحب نزهة المشتاق، انظر (د) : 14.
(4) زيادة من الإدريسي، كان في موضعها ((فيصيب في أرض مصر وينقسم في أسفل أرض مصر على أربعة أقسام، فثلاثة منها تصب في بطاح)) وهو سيجيء بعد أسطر.
(5) لا يزال النقل مستمراً عن الإدريسي (د) : 16.
(6) ص ع: الأبريمس.
(7) الإدريسي: الري.(1/587)
رفعتها وتنتفخ إذا وضعتها، وله ذنب طويل، وفيه السقنقور وهو صنف من التمساح يشاكل السمك من جهة يديه ورجليه ولا يشاكل التمساح وشحمه يتعالج به للجماع وكذلك ملحه الذي يملح به، والسقنقور لا يكون في النيل إلا بمكان من حد أسوان، والتمساح لا يكون إلا في نيل مصر، وهو مستطيل الرأس وطول رأسه نحو طول نصف جسده، وهو بري وبحري لأنه يخرج إلى البر ويقيم به اليوم والليلة يدب على يديه ورجليه ويضر في البر وأكثر ضرره في الماء ثم إن الله سبحانه وتعالى سلط عليه دابة من دواب النيل يقال لها اللشك ترتقبه وترصده حتى يفتح فاه فإذا فتحه وثبت فيه فتمر في حلقه ولا تزال تأكل كبده وأمعاءه حتى تفنيه فيموت، وفي النيل أيضاً البوري والشابل.
نيق العقاب (1) :
بين مكة والمدينة، فيه لقي أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن أمية بن المغيرة أخو أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عام فتح مكة فحجبهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى من لقائهما، فقالت أم سلمه: يا رسول الله ابن عمك وابن عمتك وصهرك، فقال صلى الله عليه وسلم: " أما ابن عمي فقد هتك عرضي وأما ابن عمتي فهو الذي قال بمكة ما قال " ثم أذن لهما فأسلما، والقصة أطول من هذا.
نيسابور (2) :
سميت بذلك لأن سابور مر بها فلما نظر إليها قال: هذه تصلح لأن تكون مدينة فأمر بها فقطع قصبها ثم كبس ثم بنيت فقيل لها نيسابور وهي من بلاد خراسان، وهو بلد واسع افتتحه عبد الله بن عامر بن كريز في خلافة عثمان رضي الله عنه سنة ثلاثين وهي أرض سهلة ليس بها ماء جار إلا نهر يخرج إليهم فضله في السنة ولا يدوم ماؤه وهو فضل ماء هراة، وهي مدينة يكون قدرها قدر نصف مرو.
ومن نيسابور جماعة من أكابر الفضلاء، ولو لم يكن إلا الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري صاحب " المسند الصحيح " ويقال أيضاً: ما أخرجت خراسان بعد ابن المبارك مثل يحيى بن يحيى النيسابوري (3) .
ونيسابور (4) مدينة جميلة في مستو من الأرض وأبنيتها من طين، وهي قديمة البناء، وقدر مساحتها ثلاثة أميال في مثلها ولها ربض كبير آهل دائر بها، ومسجد جامعها في ربضها، ولها قصبة منيعة، ولها أربعة أبواب: باب القنطرة، وباب سكة معقل، وباب القصبة، وباب قنطرة دومكين، ولها نهر يشربون منه ويسقون رساتيقهم، وبينها وبين سرخس ست مراحل، ورساتيقها عامرة وفيها مدن كثيرة، ونيسابور قلب لما حولها من البلاد والأقطار.
وهي في أرض (5) سهلة مقدارها فرسخ في مثله، وقهندزها متصل بمدينتها خارج عنها ويحف بهما جميعاً ربض، وجامعها بموضع يعرف بالعسكر، ودار الإمارة بمكان يعرف بميدان الحسين، وبين المسجد الجامع ودار الإمارة ربع فرسخ، ودار الإمارة من بناء عمرو بن الليث، وأسواقها خارجة عن المدينة في الربض، ومعظمها سوقان: المربعة الكبيرة والمربعة الصغيرة، فإذا أخذت من المربعة نحو المغرب فالسوق ممتدة إلى مقابر الحسن، وفي خلال هذه الأسواق خانات يسكنها التجار للبيع فيها، يضاهي كل فندق منها سوقاً من أسواق بعض البلدان. وليس بخراسان مدينة أصح هواء ولا أرحب فناء ولا أشد عمارة ولا أمكن تجارة ولا أكثر سابلة ولا أغزر فائدة من نيسابور، ويرتفع منها من أصناف البز وفاخر الثياب القطن والقز ما يعم البلاد وتؤثره الملوك ويتنافس فيه الرؤساء، ولها حدود واسعة ورساتيق عامرة ومدن معروفة. وكانت دار الإمارة في القديم بخراسان مرو وبلخ إلى أيام الطاهرية فإنهم نقلوها إلى نيسابور فعمرت وعظمت أحوالها وشهر بالعلم رجالها.
وفي سنة (6) ثمان عشرة وستمائة نزل الططر على نيسابور وهي حينئذ عروس خراسان، ومحط التجار من سائر البلدان، وبها الطراز الأعظم، وفيها من الأئمة والعلماء والسادة والكبراء خلق لم يجتمع في سواها وقد طابت غلاتها فراموا فيها مكراً بتأمين أو خديعة، فقال أهلها: الكلب خير من صاحب أمرهم فإنه يحفظ العهد وهو ما له عهد ولا يفي بقول قد غدر بأهل بخارى وأهل سمرقند وغيرهما، فكيف ننخدع بعدما سمعنا، وفينا من يرغب في
__________
(1) معجم ما استعجم 4: 1341، وانظر ياقوت.
(2) قارن بياقوت (نيسابور) .
(3) انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ: 415، وكانت وفاته سنة 226.
(4) عن نزهة المشتاق: 208.
(5) انظر ابن حوقل: 362، والكرخي: 145، والمقدسي: 314، وآثار البلاد: 473.
(6) قارن بياقوت (نيسابور) .(1/588)
الشهادة وما برحوا يقاتلون حتى دخل الططر عليهما محلة فمحلة، ولم يبقوا على أحد حتى انهم قتلوا الأطفال وكثيراً من النساء، إذ كان فيهن من يرمي عليهم الحجارة من السطوح، وخربوا المدينة وتركوها موحشة وساروا إلى أختها مرو.
نيقية (1) :
قديمة أزلية كبيرة من عمل القسطنطينية، لها بحيرة عذبة طولها اثنا عشر ميلاً، وهي قديمة لا يعرف بانيها، وفي بحيرتها المذكورة ثلاثة أجبل، ومن البحيرة إلى المدينة باب صغير فإذا طرقهم خوف أو فاجأهم أمر أخرجوا الذراري من الحصن إلى الزوارق ثم ساروا إلى تلك الجبال معتصمين بها. وهي مدينة جليلة كبيرة.
وفي بحيرتها حوت طوله متر، لونه إلى الخضرة دقيق الشوك إذا طبخ مع النخالة واعتصرت وشرب عصارتها نفعت في السعال المزمن مرة واحدة، ويوجد بها على ضفتها أحجار خاوية خفاف صفراء إذا علق الحجر منها على فخذ المرأة التي في الطلق أسرعت ولادتها بلا تأخير، قد جرب ذلك فصح. ومن نيقية إلى عمورية ثمانية أيام.
__________
(1) عن نزهة المشتاق: 257، وانظر ياقوت (نيقية) ، وآثار البلاد: 608، ونخبة الدهر: 228.(1/589)
فراغ(1/590)
حرف الهاء
الهاشمية:
مدينة بالعراق.
قالوا (1) : لما جاء السفاح أمير المؤمنين نزل الكوفة أول أمره ثم انتقل إلى الأنبار فبنى على شاطئ الفرات الهاشمية، وتوفي قبل أن تستتم المدينة.
وقيل لما ولي أبو جعفر الخلافة بنى مدينة بين الكوفة والجزيرة سماها الهاشمية، فأقام بها مدة إلى أن عزم على توجيه ابنه محمد المهدي لغزو الصائفة في سنة أربعين ومائة، فسار إلى بغداد وشرع في بنيانها.
قالوا (2) : ودخل معن بن زائدة على أبي جعفر المنصور، فلما نظر إليه قال: هيه يا معن تعطي ابن أبي حفصة مائة ألف درهم على قوله:
معن بن زائدة الذي زادت به ... شرفاً إلى شرف بنو شيبان قال: كلا يا أمير المؤمنين، إنما أعطيته على قوله:
ما زلت يوم الهاشمية معلناً ... بالسيف دون خليفة الرحمان
فحميت حوزته وكنت وقاءه ... من وقع كل مهند وسنان فقال: أحسنت يا معن، وكان معن من أصحاب يزيد بن هبيرة، وكان مستتراً حتى كان يوم الهاشمية، وكان قد شغب فيه عدة من أهل خراسان، فإنه حضر وهو معتم متلثم، فلما نظر إلى القوم قد وثبوا على المنصور تقدم، ثم جعل يضربهم بالسيف قدامه، فلما أفرجوا وانصرفوا قال: من أنت ويحك؟ فحسر عن وجهه وقال: أنا طلبتك يا أمير المؤمنين، معن بن زائدة، فلما انصرف المنصور أمنه وحباه وأكرمه وكساه ورتبه.
هلبك (3) :
من بلاد الختل (4) ، مدينة حسنة البقعة رائقة الرقعة كثيرة البساتين والمتنزهات وبناؤها بالطين والآجر والجيار، وبها أسواق كثيرة وقوم مياسير والسلطان ينزل بها.
الهاروني (5) :
قصر على دجلة بناه هارون الواثق بن المعتصم، وكان نزله جعفر المتوكل بن المعتصم وآثره على جميع قصور المعتصم.
الهباءة (6) :
ممدود، موضع بقرب الربذة كانت فيه وقعة لعبس على ذبيان، وقتل فيها حذيفة بن بدر وأخوه حمل، قال قيس بن زهير يرثيه:
__________
(1) اليعقوبي: 237، وانظر ياقوت.
(2) مروج الذهب 6: 108.
(3) سقطت من ع وهي ((هالك)) في ص، والنقل عن نزهة المشتاق: 147 ورسمها ((هاتك)) ؛ وما أثبته عن ابن حوقل: 393، والكرخي: 167، وحدود العالم: 71، 359.
(4) ص ع: الجبل.
(5) اليعقوبي: 264، 265، وانظر ياقوت.
(6) معجم ما استعجم 4: 1344، وانظر ياقوت.(1/591)
تعلم أن خير الناس ميت ... على جفر الهباءة ما يريم وفي القصيدة المشهورة للتطيلي الأعمى التي أولها (1) :
ألا حدثاني عن فل وفلان ... لعلي أرى باق على الحدثان يقول فيها:
وعوجا على جفر الهباءة واعجبا ... لضيعة أعلاق هناك ثمان
هجر (2) :
بفتح الجيم قصر من قصور مأرب.
وهجر (3) ، بفتح أوله وثانيه، مدينة البحرين، وهي معرفة (4) لا تدخلها الألف واللام سميت بهجر بنت مكنف من العماليق.
وفي سنة (5) سبع وثمانين ومائتين دخل أبو سعيد القرمطي هجر بعد حصار أربع سنين فدخل إلى قوم هلكى ضعفاً وهزلاً وبعد أن كان الوبأ قد وقع فيهم فمات منهم خلق كثير قتل منهم القرمطي ثلثمائة ألف وطرحهم أحياء في النار، ونجا منهم قوم قليل إلى جزيرة أوال ولم يبق من أهل هجر يومئذ إلا عشرون رجلاً، وكانت محنتهم عظيمة.
وهجر مشهورة بالتمر وكثرته، فيها قيل: كمهدي التمر إلى هجر.
وهجر (6) مدينة ملك البجاة، وهم أصحاب إبل، ولهم حراب يحاربون بها على إبلهم وهم عبدة أوثان، ولهم صنم من حجارة في صورة الصيني يسجدون له وأحكامهم أحكام التوراة.
ولم يكن (7) لهم عهد ولا صلح، وأول من صالحهم عبيد الله بن الحبحاب ويقول بعض الشيوخ إنه قرأ كتاب ابن الحبحاب فإذا فيه ثلثمائة بكر في كل عام، حتى ينزلوا الريف مجتازين، تجاراً غير مقيمين، على أن لا يقتلوا مسلماً ولا ذمياً وإن قتلوا فلا عهد لهم، ولا يؤوا عبيد المسلمين، وأن يردوا أباقهم.
هرشى (8) :
بفتح أوله وإسكان ثانية مقصور على وزن فعلى جبل من بلاد تهامة، وهو على ملتقى طريق الشام والمدينة في أرض مستوية لا تنبت شيئاً وهي قريبة من الجحفة يرى منها البحر، وقال الشاعر:
خذا بطن هرشى أو قفاها فإنه ... كلا جانبي هرشى لهن طريق وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خالد بن الوليد رضي الله عنه متدلياً من عقبة هرشى فقال: " نعم الرجل خالد بن الوليد ".
وفي كتاب مسلم أنه صلى الله عليه وسلم أتى على ثنية هرشى فقال: " أي ثنية هذه "؟ قالوا: ثنية هرشى، قال صلى الله عليه وسلم: " كأني أنظر إلى يونس بن متى عليه السلام على ناقة حمراء جعدة عليه جبة من صوف خطام ناقته خلبة وهو يلبي ".
هرقلة (9) :
بالشام في بلاد الروم، كان الرشيد نزل عليها وحصرها سنة تسعين ومائة، وكان طاغية الروم نقفور بن استبراق (10) قد هادنه، ثم نكث، وكان الرشيد مريضاً فكرهوا تعريفه بذلك لمرضه فدخل عليه من أنشده:
نقض الذي أعطاكه نقفور ... وعليه دائرة البوار تدور
أبشر أمير المؤمنين فإنه ... فتح أتاك به الإله كبير في أبيات غير هذه فقال الرشيد: أو قد فعل؟ ثم جهز وغزاه
__________
(1) ديوان الأعمى التطيلي: 224، 225.
(2) انظر الإكليل 8: 45.
(3) معجم ما استعجم 4: 1346.
(4) ص ع: معروفة؛ وفي معجم البكري: معروفة؛ وهي معرفة.
(5) مر هذا في مادّتي ((جنايا)) و ((الزرادة)) ؛ وهو عن البكري (مخ) : 68.
(6) مشبه لما عند اليعقوبي: 336، ومروج الذهب 3: 32، وانظر ابن حوقل: 55 وما بعدها.
(7) عن ابن عبد الحكم: 189.
(8) معجم ما استعجم 4: 1350، وقارن بياقوت: (هرشى) ، ورسالة عرام: 30 - 31.
(9) عن مروج الذهب 2: 337 وما بعدها.
(10) المروج: استبرق.(1/592)
فنزل على هرقلة هذه، وكان معه أهل الثغور، وفيهم شيخا الثغور الشامية: مخلد بن الحسين وأبو إسحاق الفزاري صاحب كتاب السير، فخلا الرشيد بمخلد بن الحسين فقال: أيش تقول في نزولنا على هذا الحصن؟ فقال: هذا أول حصن لقيته من حصون الروم، وهو في نهاية المنعة والقوة، فإن نزلت عليه وسهل فتحه لم يتعذر عليك فتح حصن بعده، فأمره بالانصراف ودعا بأبي إسحاق الفزاري فقال له مثل ما قال لمخلد، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا حصن بنته الروم في نحر الدروب، وجعلته لها ثغراً من الثغور، وليس بالآهل، فإن فتحته لم يكن فيه ما يعم المسلمين من الغنائم، وإن تعذر فتحه كان ذلك نقصاً في التدبير، والرأي عندي أن يسير أمير المؤمنين إلى مدينة عظيمة من مدن الروم، فإذا فتحت عمت غنائمها المسلمين، وإن تعذر ذلك قام العذر، فقال الرشيد: القول قول مخلد، ونزل على هرقلة ونصب حواليها الحرب سبعة عشر يوماً فأصيب خلق من المسلمين، وفنيت الأزودة والعلوفات، وضاق صدر الرشيد من ذلك، فأحضر أبا إسحاق الفزاري فقال: يا إبراهيم قد ترى ما نزل بالمسلمين، فما الرأي الآن عندك؟ قال: يا أمير المؤمنين، قد أشفقت من هذا وقدمت القول فيه، ورأيت أن يكون الحرب والجد من المسلمين على غير هذا الحصن، والآن فلا سبيل إلى الرحيل عنه من بعد المباشرة، فيكون ذلك نقصاً في الملك ووهناً على الدين، وإطماعاً لغيره من الحصون في الامتناع على المسلمين والمصابرة لهم، ولكن يا أمير المؤمنين تأمر بالنداء في الجيش: أن أمير المؤمنين مقيم على هذا الحصن حتى يفتحه الله على المسلمين، وتأمر بقطع الحجارة وجمع الخشب وبناء مدينة بإزاء هذا الحصن إلى أن يفتحه الله تعالى، ولا يكون هذا الخبر ينمي إلى من في الحصن (1) إلا على المقام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الحرب خدعة "، وهذه حرب حيلة لا حرب سيف.
فأمر الرشيد بالنداء من ساعته، فحملت الحجارة وقطع الشجر، وأخذ الناس في البناء، فلما رأى أهل الحصن ذلك جعلوا يتسللون في الليل ويدلون أنفسهم في الحبال (2) إلى أن أسلموها وتركوها وهي الآن خراب تعرف بهرقلة.
وقال سهل (3) الترجمان: كنت مع الرشيد حين نزل على هرقلة ففتحها، فرأيت فيها حجراً مكتوباً عليه باليونانية، فجعلت أترجمه والرشيد ينظر إلي وأنا لا أعلم، وكانت ترجمته: بسم الله الرحمن الرحيم يا ابن آدم غافص الفرصة عند إمكانها، وكل الأمور إلى وليها، ولا يحملنك إفراط السرور على المآثم، ولا تحمل نفسك هم يوم لم يأت فإنه إن يكن من أجلك يأت الله فيه برزقك، ولا تكن من المغرورين من جمع المال، فكم قد رأينا جامعاً لبعل حليلته ومقتراً على نفسه توفيراً لخزانة غيره، وكان تاريخ الكتاب في ذلك اليوم زائداً على ألفي سنة.
وباب هرقلة (4) مطل على واد وخندق يطيف بها. وذكر جماعة من أهل الثغور أن أهل هرقلة لما اشتد بهم الحصار وعضتهم الحرب بالحجارة والنار والسهام، فتح الباب فاستشرف المسلمون لذلك، فإذا رجل من أهلها كأجمل الرجال قد خرج في أكمل السلاح فنادى: يا معشر العرب قد طالت مواقفتكم إيانا، فليخرج إلي منكم الرجل والعشرة إلى العشرين مبارزة، فلم يخرج إليه من الناس أحد ينتظرون إذن الرشيد، وكان الرشيد نائماً، فعاد الرومي إلى حصنه، فلما هب الرشيد أخبر بذلك، فتأسف ولام خدمه على تركهم إيقاظه، فقيل يا أمير المؤمنين: إن امتناع الناس منه اليوم سيطمعه ويطغيه، وأحر به أن يخرج في غد فيعود لمثل قوله، فطالت على الرشيد ليلته، وأصبح كالمنتظر له، إذ فتح الباب فإذا بالفارس قد خرج وعاد إلى كلامه، فقال الرشيد: من له؟ فابتدره جلة القواد فعزم على إخراج بعضهم، فضج أهل الثغور والمطوعة بباب المضرب، فأذن لبعضهم، وفي مجلسه مخلد بن الحسين وإبراهيم الفزاري، فدخلوا فقالوا: يا أمير المؤمنين، قوادك مشهورون بالبأس والنجدة وعلو الصيت ومباشرة الحرب، ومتى خرج واحد منهم فقتل هذا العلج لم يكبر ذلك، وإن قتله العلج كانت وصمة على العسكر وثلمة لا تسد، ونحن عامة لا يرتفع لأحد منا صوت (5) ، فإن رأى أمير المؤمنين أن يختار منا رجلاً يخرجه إليه فعل، فاستصوب الرشيد رأيهم، قال مخلد وإبراهيم: صدقوا يا أمير المؤمنين، فأوموا إلى رجل منهم يعرف بابن الجزري مشهور في الثغور معروف بالنجدة، فقال له الرشيد: تخرج؟
__________
(1) المروج: الجيش.
(2) المروج: بالحبال.
(3) المروج: شبل.
(4) النقل مستمر عن المروج.
(5) المروج: صيت.(1/593)
قال: نعم وأستعين بالله عليه، فقال: أعطوه فرساً ورمحاً وسيفاً وترساً فقال: يا أمير المؤمنين أنا بقوسي أوثق، ورمحي في يدي أسد (1) ، ولكن قد قبلت السيف والترس، فلبس السلاح، واستدناه الرشيد فودعه وأتبعه الدعاء، وخرج معه عشرون من المطوعة.
فلما انقض (2) في الوادي قال لهم العلج وهو يعدهم واحداً واحداً: إنما كان في الشرط عشرون وقد ازددتم رجلاً، ولكن لا بأس، فنادوه: ليس يخرج إليك منا إلا رجل واحد، فلما فصل منهم ابن الجزري تأمله العلج وقد أشرف أكثر الروم من الحصن يتأملون صاحبهم، فقال له الرومي: أتصدقني عما أسألك عنه؟ قال: نعم، قال: أنت ابن الجزري بالله؟ قال: اللهم نعم، ثم أخذا في شأنهما، فاطعنا حتى طال الأمر بينهما، وكاد الفرسان يقومان تحتهما، وليس منهما واحد خدش صاحبه، ثم رميا برمحيهما، هذا نحو أصحابه وهذا نحو حصنه، وانتضيا سيفيهما وقد اشتد الحر عليهما وتبلد جواداهما فجعل ابن الجزري يضرب الرومي الضربة التي يظن أنه بالغ فيها، فيتقيها الرومي، وكانت درقته حديداً، فيسمع بذلك صوت منكر، ويضربه الرومي فينغرز سيفه (3) لأن ترس ابن الجزري كان درقة ثبتية، وكان العلج يخاف أن يعض السيف (4) فيعطب، فلما يئس كل واحد منهما من صاحبه انهزم ابن الجزري، فدخلت الرشيد والمسلمين كآبة لم يصبهم مثلها، وفرح المشركون، وإنما كانت حيلة من ابن الجزري، فاتبعه العلج وعلا عليه، فلما تمكن منه ابن الجزري رماه بوهق، فاختطفه من سرجه، ثم عطف عليه، فما وصل إلى الأرض حتى فارقه رأسه، فكبر المسلمون وانكسر المشركون وبادروا الباب ليغلقوه.
واتصل الخبر بالرشيد فصاح بالقواد أن يجعلوا في حجارة المنجنيق النار، فليس عند القوم دفع بعد هذا، وعاجلهم المسلمون إلى الباب فدخلوها بالسيف، وقيل إنهم بادروا بالأمان، وافتتاحها عنوة أشهر من قول من قال فتحت صلحاً، قال الشاعر في ذلك (5) :
هوت هرقلة لما أن رأت عجباً ... حوائماً (6) ترتمي بالنفط والنار
كأن نيرانها في جنب قلعتهم ... معلقات (7) على أرسان قصار وصبت الأموال على ابن الجزري وقود وخلع عليه، فلم يقبل شيئاً من ذلك، وسأل أن يعفى ويترك على ما هو عليه، وفي ذلك يقول أبو العتاهية:
ألا نادت هرقلة بالخراب ... من الملك الموفق للصواب
غدا هارون يوعد بالمنايا ... ويبرق بالمذكرة القضاب
ورايات يحل النصر فيها ... تمر كأنها مر السحاب
أمير المؤمنين ظفرت فاسلم ... وابشر بالغنيمة والإياب
هرقلية (8) :
بلد قديم قريب من المهدية على طريقها من تونس.
هراة (9) :
بلد في خراسان بقرب بوشنج، وهي مدينة عامرة لها ربض محيط بها من جوانبها، وداخلها مياه، والنهر جار على باب المدينة وعليه قنطرة، وعلى سائر أبوابها مياه جارية وبساتين، إلا أن الباب الذي عليه القنطرة لا ترى بعد عبورك لها جرية ماء ولا اخضرار نبات وماء هراة (10) يخرج من قرب مخرج ماء مرو، ويجري في
__________
(1) المروج: أشد.
(2) ص ع: انغمص.
(3) زيادة من المروج.
(4) ص ع: السيوف.
(5) نسبه المسعودي إلى أبي نواس.
(6) ص ع والمسعودي: جواثماً.
(7) المروج: كمشعلات؛ والرواية المشهورة ((مصبغات)) .
(8) انظر الإدريسي (د) : 125، والبكري: 84 (هرقلة) .
(9) انظر الكرخي: 149، وابن حوقل: 366، واليعقوبي: 280، والمقدسي: 306.
(10) وياقوت: (هراة) ، وآثار البلاد: 481.(1/594)
الجبال إلى أن يخرج في أعلى هراة حتى يشق بلاد هراة فيصير إلى بوشنج ثم ينحدر منها إلى سرخس ورساتيقها وتنبعث منه أنهار تعرف بخشكرود، وعلى الخشكرود قنطرة عظيمة، وفي هراة قهندز ومسجد جامع، ودار الإمارة خارج الحصن بمكان يعرف بخراسان اباد منقطع عن المدينة، بينه وبين المدينة ثلاثة فراسخ، وهي على طريق بوشنج غربي هراة، وهراة مقدار نصف فرسخ في مثله، ولها أربعة أبواب، منها باب من ناحية الشمال يخرج منه إلى بلخ يعرف بباب سراي (1) ، والمسجد الجامع في المدينة وحوله الأسواق، وعلى رأس الجبل الذي يلي هراة بيت نار يدعى سرشك وهو معمور، ولهراة أربعمائة قرية فيما بينها سبع وأربعون دسكرة، كل واحدة تشتمل على عشرة نفر إلى عشرين، ولهراة من الأرحاء ثلثمائة وأربع وعشرون، وهذا الجبل الذي هراة في سفحه هو من آخر حدود باذغيس (2) مما يلي سرخس مشرقاً حتى يتصل بجبل الفضة ورستاق كنج ومرو الروذ والطالقان والجوزجان، حتى يتصل بالباميان، وعن يمين هذا الجبل اسفرايين وسجستان وبست والرخج (3) ، وعن يساره مرو الروذ وغيرها، وهو مستقبل بوشنج وهراة، فهو حاجز بين الحدود، وفي الجبل نفسه أمم وفيه أكثر من ثلثمائة قرية.
وافتتح هراة الأحنف بن قيس في خلافة عثمان رضي الله عنه، وإليها ينسب الهروي صاحب الغريبين (4) .
وهي مدينة (5) كبيرة عامرة لها ربض، وفي مدينتها قصبة، ولها أبواب كثيرة كلها خشب مصفحة بحديد إلا باب سراي فإنه كله حديد، والمسجد الجامع في المدينة، والأسواق محيطة به، والسجن في قبلته، وبها من فقهاء المسلمين وعلمائهم خلق كثير، وهي فرضة خراسان وسجستان وفارس.
وفي سنة (6) ثمان عشرة وستمائة نزل الططر على هراة، وهي إحدى أمهات خراسان، فاستولوا عليها وقتلوا منها خلقاً عظيماً، وجرى الططر على عادتهم المذمومة من قتل الأطفال والعيث، وقتلوا في جامعها المشهور بالخير من العلماء والصالحين والمنقطعين عدداً كثيراً ثم مضوا منها إلى الطالقان.
الهرماس (7) :
نهر نصيبين المسمى بالخابور، وعليه قنطرة حجارة، ويصب فيه ماء الثرثار إلى دجلة.
الهرم (8) :
أحد أهرام مصر، وخبر الأهرام مشهور، وعلى ستة أميال من مصر الهرمان، وهما بناءان في مستو من الأرض، طول كل واحد منهما ارتفاعاً في الجو نحو أربعمائة ذراع، وعرضه في الدائر كارتفاع الكل مبني بحجارة الرخام، وارتفاع كل حجر خمسة أشبار، وطوله خمس عشرة ذراعاً إلى العشرين (9) وأزيد وأنقص، وكلما ارتفع بناؤه على وجه الأرض ضاق حتى يصير أعلاه نحو مبرك جمل، وبين الهرم والهرم نحو خمسة أميال، وفي بعض حيطانه كتابة درس أكثرها.
هرمز (10) :
مدينة بمقربة من جيرفت من عمل كرمان، وتسمى قرية الجوز (11) وهي كانت مدينة هرمز، وفيها كانت مملكته إلى أن هلك، وانفصل الملك عنها إلى الشيرجان، وساكنوها من أهلها وأخلاط من الناس، وهي مدينة حسنة، الداخل والخارج إليها كثير، وهي كثيرة المياه، وبها أسواق وتجارات، وبينها وبين جيرفت غرباً مرحلة.
هكر (12) :
مدينة باليمن، وفي شعر امرئ القيس: أو كبعض دمي هكر.
__________
(1) ع ص: سيراي.
(2) ع ص: مادغيس.
(3) ص ع: والزنج.
(4) هو أبو عبيد الله أحمد بن محمد بن محمد الهروي (- 401) ؛ انظر ابن خلكان 1: 95، ومعجم الأدباء 4: 260، وطبقات السبكي 3: 34، وطبقات الاسنوي 2: 518.
(5) نزهة المشتاق: 142.
(6) قارن بياقوت والقزويني.
(7) انظر ياقوت، وابن رسته: 90، واليعقوبي: 362.
(8) عن الإدريسي (د) : 145 - 146.
(9) الإدريسي: العشرة.
(10) يتحدث الإدريسي في نزهة المشتاق عن هرمز الواقعة بين الفهرج وجيرفت: 132 ثم عن هرمز الساحلية: 133 مفرقاص بذلك بين مدينتين كل منهما تسمى هرمز؛ وتعرف الأولى منهما باسم ((هرمز الملك)) ، وهذا النص هو الذي ينقله مؤلف الروض، مهملاً ما جاء عن هرمز الساحلية، التي تعد فرضة كرمان أيضاً؛ وقد جاء ذكر هرمز (هرموز) الأولى عند ذكر المسافات بين مدن كرمان لدى الحوقلي والكرخي والمقدسي، ولكن لم يعرف بها أحد؛ أما هرمز الساحلية فانظر في الحديث عنها الكرخي: 99، وابن حوقل: 269، والمقدسي: 466، وياقوت (هرمز) ؛ وتعرف هرمز هذه اليوم باسم بندر عباس، وتقابلها جزيرة هرمز وفيها الجديدة، وكانت هرمز القديمة في أيام ابن بطوطة (273) تسمى موغ استان.
(11) نزهة المشتاق: الجون.
(12) انظر ياقوت (هكر) ؛ وبيت امرئ القيس:
كناعمتين من ظباء تبالة ... لدى جؤذرين أو كبعض دمى هكر(1/595)
همذان (1) :
بالذال المعجمة، مدينة من عراق العجم من كور الجبل، كبيرة جداً فرسخ في مثله، محدثة إسلامية، ولها أربعة أبواب، وهي كثيرة المياه والبساتين والزروع.
وقيل (2) : بل هي قديمة البناء، ولذلك قالوا: بهمذان باب يعرف بباب الأسد لأن أسداً من حجارة كان على قرب من هذا الباب على الطريق المؤدية إلى الري، وكان هذا الأسد كأعظم ما يكون من الخلقة، قد صور أحكم تصوير وأتقن أتم إتقان، وكان أهل همذان يتوارثون في أخبارهم عن أسلافهم مستفيضاً فيهم، أن الإسكندر لما أتى همذان منصرفاً عن بلاد خراسان وصادراً من مطافه بالهند والصين وغيرهما، جعل ذلك الأسد طلسماً للمدينة وسورها، فكانوا يرون أن خراب البلد وفناء أهله يكون عند كسر ذلك الأسد أو قلعه، فكان أهل همذان يمنعون من يجتاز بهم من العساكر والسابلة أن يمسوا ذلك الأسد ويكسروا منه شيئاً، ولم يقلب لعظمه وصلابة حجره إلا بالخلق الكثير من الناس، فبقي كذلك حتى كان من أمر مرداويج الجيلي ما كان، فكسرت جيوشه ذلك الأسد وقلبوه، فكانت الدبرة لأهل همذان عليهم فقتلوهم كيف شاءوا، ثم عاودهم مرداويج بنفسه في نحو سنة عشرين وثلثمائة فغلب على همذان واستأصل أهلها ونساءها وذريتها سبياً، وديارها تخريباً وإحراقاً.
وفتح مدينة همذان بديل بن عبد الله بن ورقاء سنة ثلاث وعشرين، وفتح الري وأصبهان.
وهمذان شديدة البرد، وقال الشاعر:
همذان متلفة النفوس ببردها ... والزمهرير، وحرها مأمون
غلب الشتاء بصيفها وخريفها ... فكأنما تموزها كانون ونزل الططر على همذان سنة ثمان عشرة وستمائة فلم يزل أهلها يقاتلونهم حتى فنيت الأقوات فضعفوا، وكان رئيس همذان عز الدين بن علاء الدين الحسيني، فتقدم بين أيدي الناس للقتال: معه الفقهاء والصالحون، فقتلوا من الططر خلقاً، ثم إن الرئيس المذكور أيقن بالغلبة، فدخل من سرداب كان قد أعده، فنفذ إلى خارج المدينة في واد غامض وشعاب مضلة، فخرج منه إلى قلعة له في الجبل جعل فيها ذخائره وأهله، فلم يستطع أحد عليه، وبقي أهل همذان بعده في حيرة، إلا أنهم أجمعوا على القتال والشهادة، إلى أن دخلها الططر عنوة بعد أشهر، في رجب من السنة المذكورة، فقاتلهم أهلها داخل المدينة قتال من باع نفسه من الله تعالى، حتى بطل حكم السلاح من الزحمة، فاقتتلوا بالسكاكين، فقتل من الفريقين ما لا يحصيه إلا الله تعالى، وتكاثر الططر واشتدوا بالأمداد المستريحة الواصلة إليهم في كل يوم، فأفنوا أهلها قتلاً، ثم ألقوا النار في المدينة وساروا إلى قلعة الرئيس، فرأوا أن مرامها يصعب، فراسلوه فاتفق معهم على أن يعمر البلد بمن بقي في أطراف الجبال والقلاع، ويكون واليهم على تلك الجهة، ويحمل لهم الأموال، فقنعوا بذلك.
وخبر الهمذاني مع أبي جعفر المنصور، وسقوط السهم العائر بين يديه قد تقدم في رسم مدينة المنصور من حرف الميم.
الهند (3) :
أرض الهند فتحها محمد بن القاسم الثقفي سنة أربع وتسعين، وكان السبب في ذلك أن امرأة مسلمة ممن سباها أهل الهند أرادوها على نفسها، فصرخت: وا حجاجاه، فجهز الجنود إلى أرض الهند مع محمد بن القاسم، وكان معسكره بشيراز، فاتخذه الولاة منزلاً إلى الآن.
وفي بحر الهند (4) والصين جبال ومضايق، وربما تطاير من البحر صبيان صغار مثل صبيان الزنج سود طوال يدورون في المراكب ولا يؤذون أحداً ثم يعودون إلى البحر وهذا عندهم مشهور، فإذا رأى أهل المركب هذا فهي عندهم علامة لهبوب الريح التي تسمى ريح الخب، وهي ريح خبيثة مخوفة، فيستعدون لذلك ويأخذون أهبتهم لهبوبها، فيخففون الأمتعة عن المراكب ويلقونها في البحر، ويلقون أيضاً ما معهم من السمك والملح حتى لا يتركوا منه شيئاً، ويقطعون من طول الصواري ذراعين
__________
(1) انظر ابن حوقل: 308، والكرخي 117، واليعقوبي: 272، ونزهة المشتاق: 203، وياقوت (همذان) .
(2) قارن بما ورد في آثار البلاد: 485.
(3) قارن بما جاء في فتوح البلدان: 534.
(4) نزهة المشتاق: 34 (OG: 94) .(1/596)
وأكثر مخافة أن تنكسر، فتهب الريح المذكورة فيصيرون بقدرة الله تعالى حتى تنجو أو تتلف، كيف ما شاء الله عز وجل، وعندهم علامة للخلاص إذا قضى الله تعالى بذلك، وهي أن يرى أهل المراكب على صاريهم طائراً ذهبي اللون كأنه شعلة نار، فإذا رأوه علموا أنه من علامات النجاة، تواترت الأخبار بذلك، وهي من العجائب.
وملوك الهند (1) والصين ترغب في ارتفاع ظهور الفيلة وتزيد في أثمانها الذهب الكثير، وأرفعها تسع أذرع، وقد يوجد في موضع معلوم عندهم عشر أذرع وإحدى عشرة ذراعاً.
ومملكة الهند (2) عند جميع ملوك الكفار، بإجماع منهم، مملكة الحكمة، والحكمة من الهند مبدؤها. وزعموا أنهم أول من ضم المملكة ونصبوا لها ملكاً، وأولهم البرهمن الأكبر، وهو الذي أظهر الحكمة وطبع السيوف وآلات الحرب وصور الأفلاك والبروج، وجعل ذلك كتابة قريبة للعقول وأثبته في الأفهام، وأشار إلى المبدأ الأول، وذلك هو كتاب " السند هند " أي دهر الدهور، ومنه فرعت الكتب، المجسطي وغيره.
وأعظم (3) ملوك الهند البلهرا ومعناه ملك الملوك. والهند سبعة أجناس أحدها الساكهرية (4) ، وهم الأشراف منهم، والملك فيهم لا يكون في غيرهم، وجميع أجناسهم يسجدون له عند اللقاء وهم لا يسجدون لأحد، ثم البراهمة، وهم عباد الهند ولباسهم جلود النمور، وهم يعبدون الأصنام توسلاً إلى الله تعالى.
ولأهل الهند (5) اثنتان وأربعون ملة، فمنهم من يثبت الخالق وينفي الرسل، ومنهم من ينفي الكل، ومنهم من يعبد النار ويحرق نفسه، ومنهم من يعبد الشمس ويسجد لها ويعتقد أنها الخالقة المدبرة لهذا العالم، ومنهم من يعبد الشجر، ومنهم من يعبد الثعابين يحظرونها بحظائر ويطعمونها أرزاقاً، وهم يتوسلون بها، ومنهم من لا يتعب نفسه بعبادة شيء وينكر الكل.
هنين (6) :
مدينة بالمغرب جليلة على البحر، وشمالها تلمسان، وهي بقرب ندرومة.
الهولاة:
جزيرة في البحر من جزر قمار، سكانها الهند، وليس بها متجر ولا سوق.
هيت (7) :
مدينة بين الرحبة وبغداد، وهي على شاطئ الفرات، والهيت الهوة، وسميت هيت لأنها في هوة، وهي الأرض المنخفضة، وقيل سميت باسم بانيها هيت بن البلندى ملك من ولد مدين بن إبراهيم عليه السلام.
وهي (8) في غربي الفرات، وعليها حصن، وهي من أعمر البلاد. وبأرض هيت عيون تسيل بالقار.
وفي مطلع قصيدة للمعري:
هات الحديث عن الزوراء أو هيتا ... ومن مدينة هيت محمد بن أبي العز بن جميل محيي الدين، ولاه الخليفة الناصر صدقة المخزن، بيته مشهور بهيت، توفي سنة عشر وستمائة له في فرس أحمر محجل الأربع:
ومحجل للحسن منه حلة ... من أجلها فتنت به الأبصار
لما أتى والبرق يعثر خلفه ... خلعت عليه ثيابها الأنوار
إن قلت نار فالدخان بعرفه ... يقضي بما حكمت به النظار
أو قلت فيه جنة فانظر له ... قد فجرت من تحته الأنهار وكان فتح (10) هيت على يد عمر بن مالك بن عتبة بن نوفل،
__________
(1) عن ابن خرداذبه: 67 وعنه نزهة المشتاق: 34.
(2) مروج الذهب 1: 148 وما بعدها، وقارن بطبقات صاعد: 11، وقد نقل مؤلف الترجمانة: 482 بعض هذه المادة.
(3) الإدريسي (ق) : 22، 23 (OG: 95) .
(4) ص ع: الشاكهرية.
(5) الإدريسي (ق) : 34 (OG: 96) .
(6) انظر الإدريسي (د/ ب) : 172/ 112، والبكري: 80 وياقوت.
(7) معجم ما استعجم 4: 1357، وقارن بياقوت.
(8) نزهة المشتاق: 198.
(10) الطبري 1: 2479.(1/597)
وجهه إليها سعد بن أبي وقاص بأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنهما في جند رسم له صاحب مقدمته ومجنبتين وساقة، فخرج نحو هيت، وقدم الحارث بن يزيد العامري، وهو المعين لمقدمته، حتى نزل بهيت وقد خندقوا عليهم، فلما رأى عمر بن مالك امتناع القوم بخندقهم استطال أمرهم، فترك الأخبية على حالها وخلف عليهم الحارث، فحاصرهم، وخرج في نصف الناس يعارض الطريق حتى جاء قرقيسيا في غرة، فأخذها عنوة، فأجاب أهلها إلى الجزية، وكتب إلى الحارث بن يزيد: إن هم استجابوا فخل عنهم، وإلا فخندق على خندقهم خندقاً أبوابه مما يليك حتى أرى من رأيي، فسمحوا بالإستجابة، وانضم الجند إلى عمر رضي الله عنه والأعاجم إلى أهل بلدتهم.
الهيبل (1) :
نهر كبير عذب، يقال إن فيه تماسيح كتماسيح النيل، وهو مثله في الكبر، وجريه بالأمطار الصيفية كجريه، وينتشر على وجه الأرض ثم ينضب، فيزرع عليه حسبما يزرع بأرض مصر.
هيرت:
قلعة بالهند، كان محمود بن سبكتكين سلطان خراسان حين غزا بلاد الهند فتحها وخربها بعد ما صابر سكانها قليلاً فأخذوا وقتلوا تقتيلاً.
__________
(1) ينقل المؤلف عن البكري (مخ) : 41 حيث ورد اسم النهر ((الديبل)) بعد عده أنهار الهند مثل الكنك ومهران، ولا أدري أيث الصورتين هي الصواب؛ فإن الديبل مدينة والنهر الذي يمر عندها هو نهر مهران؛ وفي ص: الهيبل.(1/598)
حرف الواو
واسط (1) :
مدينتان على جانبي دجلة، والمدينة القديمة في الجانب الشرقي، وابتنى الحجاج مدينة في الجانب الغربي، وجعل بينهما جسراً بالسفين.
قيل (2) : سميت بواسط لتوسطها بين المصرين: البصرة والكوفة، والمدائن، بينها وبين كل واحدة منها أربعون فرسخاً، وكان بناء الحجاج واسط في سنة ثلاث وثمانين، وبها مات سنة خمس وتسعين.
وفي كل (3) واحدة من المدينتين جامع يخطب فيه، وفي التي بناها الحجاج نخل ومزارع وبساتين وعمارات متصلة، والمدينة الأخرى التي في الضفة الشرقية تسمى واسط العراق، وهي مثل أختها، حسنة فسيحة الأرجاء مبانيها سامية وبساتينها وأسواقها كبيرة وناسها حسان الزي ملابسهم البياض والعمائم الكبار، وأهلها أخلاط من أهل العراق وغيرها؟ وهواؤها صحيح أصح من هواء البصرة، وهي من أعمر بلاد العراق، وعليها معول ولاة بغداد، ونواحي واسط عمل مفرد من أعمال العراق، وأموالها كانت ترتفع إلى مدينة السلام، وبينهما ثمان مراحل.
وقال البكري: إنما سميت واسط بموضع يقرب منها كان يقال له واسط القصب، وقيل إن الحجاج رأى راهباً قد أقبل على أتان له وعبر دجلة، فلما كان بموضع واسط تفاجت الأتان
فبالت، فنزل الراهب فاحتفر موضع ذلك البول وحمله حتى رماه في دجلة، وذلك بعين الحجاج، فقال: علي بالراهب، فلما أتاه قال: ما حملك على ما صنعت. قال: إنا نجد في كتبنا أنه يبنى في هذا الموضع مسجد يعبد فيه الله تعالى، ما دام في الأرض أحد، فاختط الحجاج مدينة واسط، وبنى المسجد في ذلك الموضع، وهو على جانبي الدجلة. وفي الجانبين مسجدان جامعان يعرف أحدهما بمسجد الحجاج، وخراج واسط ثلاثة وثلاثون ألف درهم.
وكتب الحجاج لما فرغ من بناء واسط إلى عبد الملك إني اتخذت مدينة في كرش من الأرض بين الجبل والمصرين وسميتها واسط. وكان الحجاج قد عمل على الخضراء، وهي قبته، طلسماً من نحاس كهيئة الفرس، عليه رجل راكب، للبق والجرجيس، فلم يكن بمدينة واسط بق ولا جرجيس أصلاً، فلما ولي واسط أحد عمال المتوكل قلع ذلك الطلسم وحمله إلى بلده بخراسان ونصبه هناك، فلم ينتفع به، وعمل بالأبلة طلسم نحاس مثل ذلك الفرس والراكب عليه، وحمل إلى واسط، ونصب على القبة الخضراء، فهو عليه إلى هذا الوقت، فلم ينتفع به، وكثر بها البق والذباب والجرجيس والهوام.
وواسط أيضاً بحمى ضرية.
الواقوصة (4) :
أهوية بالشام في أرض اليرموك؟ لما انهزم الروم في وقيعة اليرموك تبعهم المسلمون فانتهوا إلى مكان مشرف على أهوية
__________
(1) اليعقوبي: 322.
(2) معجم ما استعجم 4: 1363.
(3) نزهة المشتاق: 120، وانظر الكرخي: 58، وابن حوقل: 214، وعند ياقوت تفصيلات كثيرة.
(4) عن فتوح الأزدي: 207، وقارن بياقوت (الواقوصة) .(1/599)
تحتهم فجعلوا يتساقطون فيها ولا يبصرون في يوم ذي ضباب، فهم يرتكسون فيها لا يعلم آخرهم ما لقي أولهم حتى سقط فيها نحو من مائة ألف رجل ما أحصوا إلا بالقصب، وبعث أبو عبيدة من الغد في عدهم فوجدوا أكثر من ثمانين ألفاً، فسميت تلك الأهوية الواقوصة لأنهم وقصوا فيها وما فطنوا لتساقطهم، حتى انكشف الضباب فأخذوا في وجه آخر، والخبر مبسوط في وقيعة اليرموك، ذكره أصحاب فتوح الشام.
وانيامة:
من بلاد رومية، عين جارية من شرب منها ممن في عينيه غشاوة أو ضرر أو بياض جلا بصره وأذهب ما كان يجد فيها من ضر.
واسم (1) :
قيل إنه مهبط آدم عليه السلام، ونزلت حواء بالهند، قاله ابن إسحاق.
وانشريس (2) :
جبل وانشريس في قبلة فكان، وبه شعراء غامضة، وتسكنه قبائل من البربر مكناسة وأوربة وكتامة ومطماطة وزواوة وغيرهم، وطول هذا الجبل أربعة أيام وينتهي طرفه إلى قرب تاهرت.
وانسيفن (3) :
بالمغرب عند قلعة مهدي ببلاد فازاز، وواديها هو المعروف بوادي أم ربيع، وسيأتي له ذكر إن شاء الله تعالى.
واركلان (4) :
في طرف الصحراء مما يلي إفريقية، وهو بلد خصيب كثير النخل والبساتين، وفيه سبع مدائن مسورة حصينة بعضها قريب من بعض، وهي كثيرة الزرع والضرع والبساتين والمياه، والعجب أن الرجل منهم يحفر فيها بئراً بأزيد من مائة دينار، فإن أرضهم صلبة والماء بعيد يدرك على أزيد من مائة (5) قامة، فيجد على الماء طبقاً من حجر صلد فيستبشر عند وجوده، ويطعم أصحابه فرحاً به، وينزل إليه من يعرف كيف ينقره مربوطاً في حبال وثيقة، وينقره فيفور الماء، فإن أبطأ الرجال في رفعه حتى يدركه الماء هلك لحينه، ويبقى الماء على مر الدهور يفور، وهكذا جميع آبارهم، وبها يسقون جناتهم وزرعهم ونخلهم. وتضرب ببلد واركلان دنانير على نوع المرابطية، وهي مشهورة، وبين واركلان والجريد أربعة وعشرون (6) يوماً، ومن بلاد الجريد إلى القيروان سبعة أيام، وأهل واركلان بربر، وفيهم جمال، ونساؤهم موصوفات بالحسن، وبينها وبين غدامس نحو عشرين يوماً في صحراء قليلة الماء، في هذه الصحراء معدن حجارة يشبه العقيق، وربما كان في الحجر الواحد منها ألوان من الحمرة والصفرة والبياض، وهو أنفق (7) شيء ببلاد السودان عامة وغيرها، وهو عندهم أجل (8) من الياقوت، وهو كالياقوت لا يعمل فيه الحديد، إنما يثقب بحجر آخر، ولا يظهر معدن هذا الحجر حتى تذبح الإبل فينضح الموضع بدمها، وفي هذه الصحراء معدن الشب الطيب.
الواحات (9) :
هي بلاد كثيرة في الصحراء ما بين إفريقية وبلاد مصر، ولولا قلة الماء في هذه الصحراء لكان الطريق من إفريقية إلى مصر على الواحات أقرب، وبلاد الواحات كثيرة التمر والنخل، وفيها مدن كثيرة مسورة وغير مسورة، وكل مدينة منها لها اسم يعود إلى الواح، وأهلها مسلمون، وهي آخر بلاد الإسلام، بينها وبين بلاد النوبة ست مراحل، وفي بعض مدن الواحات قبائل من لواتة، وإنما أهلها أقباط (10) .
وفي هذه (11) الأرض أرض شبية وزاجية، وعيون حامضة الطعوم تستعمل كاستعمال الخل، وعيون مختلفة الطعوم من المر والحامض والحريف والملح، ولكل نوع منها منفعة وخاصية.
وزعموا (12) أن في أقصى بلاد الواحات بلداً يقال له واح صبرو لا يقع عليها إلا من ضل في الصحراء في النادر من الزمان، وأنه بلد عظيم كثير الخيرات من النخل والزرع وجميع الفواكه ومعادن
__________
(1) معجم ما استعجم 4: 1364 (واشم) وبالسين عند ياقوت.
(2) انظر الإدريسي (د) : 85، والبكري: 89 (واشيلاس) ، وياقوت (وانشريش) بشينين معجمتين.
(3) الاستبصار: 185؛ ص ع: وانسفين.
(4) عن الاستبصار: 224 (وارجلان) ، وانظر البكري: 182، والإدريسي (د) 120.
(5) الاستبصار: ستين.
(6) الاستبصار: أربعة عشر.
(7) الاستبصار: أنفس.
(8) الاستبصار: أجمل.
(9) الاستبصار: 147، وصبح الأعشى 3: 390.
(10) ص ع: أنباط.
(11) البكري: 15.
(12) عن الاستبصار والبكري معاً.(1/600)
الذهب، وانه أخصب بلاد الدنيا، وأن الواقع عندهم يكون في أخصب عيش، وإذا أرادوا خروجه من بلادهم أروه صورة بلاده فتاقت نفسه إليها فلم يلبث عندهم ورحل كيف ما استطاع، وقد وقع في هذا البلد رجل من عرب بني قرة وبقي فيه مدة ورجع إلى بلاده، فأخبر بما رأى فيه من الخصب والخيرات، ومما في أيدي أربابه من الأموال. وليس لهم مدافعة ولا بصر بالحرب ولا سلاح، لأنهم لم يعهدوا الحروب، فبلغ ذلك أمير بني قرة، وكان اسمه مقرب بن ماض، فعزم على النهوض إليهم فأعد أزودة كثيرة وظهراً مطيقاً وماء كثيراً، وذهب في الصحراء يطلب واح صبرو ودله الرجل الذي دخل البلد فوصل إلى مدينة الواح خارج، فسأل عن واح صبرو، فقالوا كلهم: ما نعرف له طريقاً ولا يجده إلا من ضل في الصحراء في النادر من الزمان، وهو كما ذكر وأكثر فخرج من الواح خارج يطلب واح صبرو، فبقي يجول في الصحراء مدة فلم يجده ولا قدر على الوصول إليه، فخاف نفاد الزاد فكر راجعاً، فنزل في رجوعه ذات ليلة ربوة من الأرض في تلك الصحراء فوجد بعض أصحابه في نواحي تلك الربوة بيتاً للأول، فبحثوا عنه فإذا هو لبن من نحاس أحمر، فزادوا في البحث، فوجدوا أساس سور من نحاس للأول، فأوقروا جميع ما عندهم من تلك اللبن وساروا حتى أتوا مدينة الواح الخارج، فباعوا ذلك النحاس بأموال كثيرة ثم أرادوا أن يرجعوا إلى تلك الربوة التي وجدوا فيها النحاس فلم يقدروا عليها وضلوا طريقها، ولو وجدوها لكان فيها غناهم طول الدهر.
قالوا (1) : وأتى رجل من أهل الواح خارج إلى مقرب بن ماض فأخبره أنه دخل حائط نخل كان له، فوجد أكثر تمره قد أكل، ووجد فيه أثر قدم إنسان لا يشبه هذا الخلق في العظم، قال: فاحترسه هو وأهله ليالي حتى طرقهم ذلك الشخص، فرأوا خلقاً عظيماً لم يعهد مثله، فجعل يأكل التمر فلما هموا به فاتهم فلم يعلموا له أمراً، قالوا: فذهب معهم مقرب حتى وقف على أثر ذلك الشخص فاستعظمه وأمرهم أن يحفروا زبية في الموضع الذي كان يدخل فيه ويغطوا أعلاه بالحشيش ويرقبوه، ففعلوا ذلك ورقبوه ليالي كثيرة، فلما كان ذات ليلة أقبل ذلك الشخص على عادته فتردى في الزبية، فبادروا إليه بجمعهم وغلبوا عليه بكثرتهم حتى أخذوه، فإذا بامرأة سوداء عظيمة الخلق مفرطة الطول والعرض لا تفقه منها كلمة، فرآها مقرب بن ماض فهاله أمرها، فكلموها بكل لغة علموها من لغات السودان فلم تجاوب بواحدة منها، وتكلمت بكلام لا يفهم، وبقيت عندهم أياماً يأتمرون في أمرها، فقال لهم مقرب: أرى أن ترسل وتركب الخيل السوابق والنجب العتاق في أثرها إلى أن يوقف على موضعها وتعلم حقيقة أمرها فلما أرسلت فاتت الخيل والنجب، وبارت الرياح فلم يقعوا منها على حقيقة خبر.
ويذكر (2) أن بين بلاد الواح وبلاد الجريد من إفريقية رمالاً عريضة فيها بقاع تعرف بالجزائر وهي كثيرة النخل والعيون، ولا عمران فيها ولا أنيس. ويقال إنه يسمع فيها عزيف الجن، ولا شك أنها كانت بلاداً عامرة، ويتكدس هناك من التمر تحت النخيل أكوام لا يقع عليه أحد إلا الطير والوحوش، وربما انتجعه الناس عند السنين الجدبة للضرورة.
قالوا (3) : وكثر جري الرياح على أرض الواحات الخارجة فعدا عليها وغير ما فيها من الآبار، فبلاد الواحات الخارجة الآن صحراء لا أنيس بها ولا عامر، والمياه بها موجودة، وكانت قديماً معمورة متصلة الثمار والعمارات، ومنها كان الدخول إلى مدينة غانة في طريق مسلوكة ومناهل معلومة، لكنها انقطعت ودرست، وبالواحات الخارجة أغنام وأبقار متوحشة، وبين الواحات وحد النوبة مسيرة ثلاثة أيام في مفاوز غير عامرة، وفي أرض الواحات الخارجة جبل معترض فيها سامي الذروة، فيه معدن يستخرج منه حجر اللازورد ويحمل إلى أرض مصر فيصرف، وفي أرض الواحات يكون الثعبان ولا يكون البتة في غيرها من الأرض، والثعبان على ما يحكيه أهل تلك النواحي يرى كالتل العظيم يلتقم العجل والكبش والإنسان، وهو حيوان على صورة الحية ينساب على بطنه، له أذنان بارزتان وأنياب وأسنان، وحركته بطيئة، ويأوي إلى الكهوف والدهاس، فمن قصده أو اعترضه التقمه، وإذا خرج عن هذه الأرض مات، وهذا مشهور عندهم. وأما الواحات الداخلة فإن بها قوماً من البربر وغيرهم متحضرين يزرعون هناك حيث المياه النيلج، والنيلج الواحي معروف بالطيب والجودة ويفوق غيره، وينتج بهذه الأرض مع ما اتصل بها من أعلى أرض أسوان حمير صغار المقادير في مقدار الكباش ملمعة بسواد وبياض لا تحمل
__________
(1) النقل مستمر عن المصدرين السابقين.
(2) عن الاستبصار، وقارن بالبكري: 16.
(3) الإدريسي (د/ ب) : 42 - 43/ 28 - 30 حتى آخر المادة.(1/601)
الركوب عليها، وأن أخرجت عن أرضها هلكت، وبأعلى صعيد مصر حمير ليست بكثيرة اللحم ولكنها في غاية السير وسرعة المشي، وبرمال الواحات وما اتصل بها حيات كثيرة تستتر في الرمل فإذا مرت بها الجمال ثارت من الرمل ورمت بأنفسها حتى تقع في المحامل، فتنهش هناك من وافقته فيموت في الحال.
والمو (1) :
بالأندلس من أقاليم قونكة، وهو على نهر شقر، وبإقليم والمو قرية فيها غريبة، وذلك عين راكدة قد علاها الطحلب، فإذا فاجأها إنسان وصاح عليها بشدة صياحه درت بالماء وغلت غلي البرام على النار وينقطع طحلبها بشدة غليان الماء ثم تعود إلى حالها.
الواق واق (2) :
أرض الواق واق متصلة بأرض سفالة، وفيها مدينتان حقيرتان، وساكنها قليل لضيق عيشها وتكدر رزقها، وبينهما قرية كبيرة تسمى دغرغة، وهم سودان قباح الوجوه مشوهو الخلقة، وكلامهم نوع من الصفير، وهم عراة لا يستترون بشيء، والداخل إليهم قليل، وأكلهم الحوت والصدف ولحوم السلاحف، وتتصل بهم جزائر الواق واق، وكل واحدة من هذه البلاد على خور كبير، ولا يخرج عن هؤلاء تجارة، ولا مراكب لهم ولا دواب، وجزائر الواق واق لا تعرف ما بعدها، وربما وصل أهل الصين إليها في الندرة، وهي جزائر عدة لا عامر بها.
ورأيت (3) في موضع آخر أن في عرض البحر المحيط بلاد الواق واق ومنابت القنا، وأمة الواق واق جمل شجر عظام معلقة بشعورها ولها ثدي وفروج كفروج، النساء وأبدان حسان، ولا يزلن يصحن واق واق، وإذا قطعت من الأشجار التي تحملها أقامت يوماً وبعض يوم ثم تهلك، وربما نكحهن الناس في أطيب رائحة وألذ مباضعة.
وبلاد الواق واق لا يسكنها بشر إنما يسقط إليها أهل المراكب الندرة، وهي أكثر الأرض طيباً، وبها تمر وفواكه لا تعرف في غيرها ولا يعلم ما هي، ألذ مأكول وأطيب مشموم، ويليهم أمة بحرية على شبه النساء الحسان، سبط الشعور نواهد الصدور، ويقال لها بنات الماء، لهم قهقهة وضحك وكلام لا يفهم، وقد أولد بعض البحريين واحدة منهن غلاماً وهو مستوثق منها، ثم ظن بعد ولادتها أنها ستألف ابنها ولا تفارقه وأرسلها من وثاقها فتغفلته وتردت في البحر وذهبت سابحة، ثم ظهرت له بعد يوم وألقت إليه صدفاً فيه در نفيس، ثم ولت ذاهبة، فكان ذلك الغلام يعرف بابن البحرية.
وفي جزائر (4) الواق واق الأبنوس الذي لا يفوقه شيء في الجودة.
وادي الخراطين (5) :
هو جزيرة بناحية جزيرة صقلية، وبقربها جزيرة أخرى يقال لها ولهذه جزيرتا البركان، وإنما سميت بوادي الخراطين لأن كل خرط بصقلية هناك يخرط بأرحاء الماء.
وادي القرى (6) :
من أعمال المدينة، وهي مدينة عامرة كثيرة النخل والبساتين والعيون، وبها ناس من ولد جعفر بن أبي طالب، وهم الغالبون عليها ويعرفون بالواديين.
قالوا (7) : ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر انصرف إلى وادي القرى فحاصر أهلها ليالي ثم انصرف راجعاً إلى المدينة. قال أبو هريرة رضي الله عنه: نزلناها أصلاً مع مغرب الشمس، فبينما غلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم يضع رحله أتاه سهم غرب فقتله، فقال الناس: هنيئاً له الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كلا والذي نفس محمد بيده، إن الشملة الآن لتحترق عليه في النار كان غلها من فيء خيبر ". فأتاه رجل بشراكين فقال: أخذتهما لنعلي، فقال: " يقد لك مثلهما من النار ".
__________
(1) بروفنسال: 194، والترجمة: 235 (Huelamo) .
(2) نزهة المشتاق: 29، 33 (OG: 80) .
(3) البكري (مخ) : 36 وأصله عند المسعودي في أخبار الزمان: 16 - 17، ولم يورد في المروج 3: 6 شيئاً من المعلومات الاسطورية التي تتردد في المصادر الأخرى، انظر الزهري: 11 - 12، ونخبة الدهر: 149 وبسط الأرض: 21، وحدود العالم: 84، وابن الوردي: 63، وآثار البلاد: 33، وقد تنبه الباحثون المحدثون إلى أن في المعلومات التي أوردها الجغرافيون العرب عن هذه الجزر اضطراباً وأن الاسم يطلق على منطقتين مختلفتين وذهب فراند إلى أن في بلاد الزنج واق واق (وهي مدغشقر) وأخرى تتبع الصين (وهي سومطرة) ورفض رأي دي خويه الذي تعرف إلى واق واق في اليابان (انظر تعليقات مينورسكي: 228 ومقالة فراند في دائرة المعارف الإسلامية) ز
(4) نزهة المشتاق: 33.
(5) لم يستطع الأستاذ رتزيتانو تعيين هذا الموقع.
(6) صبح الأعشى 4: 292، ورحلة الناصري: 310، وانظر ياقوت (القرى، وادي القرى) ، والمغانم المطابة: 423.
(7) السيرة 2: 338 - 339.(1/602)
ومن شعر ليزيد بن معاوية يخاطب به عبد الله بن الزبير حين وجه مسرف بن عقبة إلى المدينة:
أبلغ أبا بكر إذا الأمر انبرى ... وهبط القوم على وادي القرى ... عشرون ألفا بين كهل وفتى ... أجمع سكران من القوم ترى ... ياعجباً من ملحد يا عجبا ... أبو بكر هو عبد الله بن الزبير، وكان يزيد يسمى السكير.
وادي السباع:
بالبصرة على طريق المدينة، سمي بذلك لأن أسماء بنت عمران بن الحاف بن قضاعة (1) كانت تنزله ويقال لها أم الأسبع، لأن ولدها أسد وكلب والذئب والدب والفهد والسرحان. وأقبل وائل بن قاسط فلما نظر إليها رأى امرأة ذات جمال فطمع فيها، ففطنت له فقالت: لو هممت بك لأتاك أسبعي، فقال: ما أرى حولك أسبعاً، فدعت بنيها فأتوا بالسيوف من كل ناحية، فقال: والله ما هذا إلا وادي السباع، فسمي به. وبهذا الموضع قتل الزبير بن العوام رضي الله عنه لما رجع عن يوم الجمل، قتله عمرو بن جرموز.
قالوا (2) : خرج علي رضي الله عنه حاسراً على بغلة رسول الله يوم الجمل فنادى: يا زبير اخرج إلي، فخرج إليه الزبير شاكاً سلاحه، فقيل ذلك لعائشة رضي الله عنها فقالت: واحزنك (3) يا أسماء، فقيل لها إن علياً حاسر فاطمأنت، واعتنق كل واحد منهما صاحبه، فقال له علي رضي الله عنك: ويحك يا زبير، ما الذي أخرجك؟ قال: دم عثمان رضي الله عنه، قال: قتل الله تعالى أولانا بدم عثمان، أوما تذكر يوم لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راكب حماره، فضحك إلي وضحكت إليه وأنت معه، فقلت أنت: يا رسول الله ما يدع علي زهوه، فقال: " ليس به زهو، أتحبه يا زبير "؟ قلت: والله إني لأحبه، فقال: " إنك ستقاتله وأنت له ظالم ولينصرن عليك "، فقال الزبير: أستغفر الله لو ذكرته ما خرجت، فكيف أرجع الآن وقد التقت حلقتا البطان؟ هذا والله العار الذي لا يغسل أبداً، فقال: يا زبير ارجع بالعار قبل أن ترجع بالعار والنار، فرجع الزبير وهو يقول:
اخترت عاراً على نار مؤججة ... أنى يقوم لها خلق من الطين
نادى علي بأمر لست أجهله ... عار لعمرك في الدنيا وفي الدين
فقلت حسبك من عذل أبا حسن ... فبعض هذا الذي قد قلت يكفيني ورجع الزبير إلى عائشة رضي الله عنها فقال: ما كنت في موطن منذ عقلت إلا وأنا أعرف فيه أمري غير موطني هذا، قالت: فما تريد أن تصنع؟ قال: أريد أن أدعهم وأذهب، فقال له ابنه عبد الله: جمعت هذين حتى إذا حدد بعضهم إلى بعض أردت أن تتركهم وتذهب؟! قال: ذكرني يا بني أمراً كنت أنسيته، فقال: لا والله ولكن فررت من سيوف بني عبد المطلب فإنها طوال حداد تحملها فتية أنجاد، فقال: لا والله ولكن ذكرني ما أنسانيه الدهر فاخترت العار على النار، أفبالجبن تعيرني لا أبا لك!؟ ثم قلع سنانه وشد على ميمنة علي رضي الله عنه فقال: افرجوا له فقد هاجوه، وشد في الميسرة، ثم مضى منصرفاً حتى أتى وادي السباع، والأحنف بن قيس معتزل في قومه من بني تميم، فقال له رجل: هذا الزبير ماراً، فقال الأحنف: ما أصنع بالزبير وقد جمع بين فئتين عظيمتين من الناس فقتل بعضهم بعضاً، وهو مار إلى منزله سالماً، ما رأيت مثل هذا، أتى بحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوقها فهتك عنها حجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وستر حرمته في بيته، ألا رجل يأخذ لله منه؟ فلحقه نفر من بني تميم سبقهم إليه عمرو بن جرموز، وقد نزل للصلاة، فقتله وهو ابن خمس وسبعين سنة، وأتى عمرو بن جرموز بسيف الزبير وخاتمه إلى علي رضي الله عنه، فقال علي: هذا سيف طال ما جلى الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الحين ومصارع السوء، وقاتل ابن صفية في النار، ففي ذلك يقول عمرو بن جرموز:
أتيت علياً برأس الزبير ... وقد كنت أرجو به الزلفه
__________
(1) عند ياقوت: أسماء بنت دريم بن القين، وولدها بنو وبرة بن تغلب.
(2) مروج الذهب 4: 317، وفي ما هنا بعض زيادة.
(3) مروج الذهب: وأثكلك.(1/603)
فبشر بالنار قبل العيان ... فبئست بشارة ذي التحفه
لسيان عندي قتل الزبير ... وضرطة عير بذي الجحفة وفي ذلك تقول زوجه عاتكة بنت عمرو بن زيد بن نفيل أخت سعيد بن زيد:
غدر ابن جرموز بفارس بهمة ... يوم اللقاء وكان غير معرد
يا عمرو لو نبهته لوجدته ... لا طائشاً رعش البنان ولا اليد
ثكلتك أمك إن قتلت لمسلماً ... حلت عليك عقوبة المتعمد
إن الزبير لذو بلاء صادق ... سمع سجيته كريم المشهد
فاذهب فما ظفرت يداك بمثله ... فيما مضى فيما تروح وتغتدي
وادي الأزرق (1) :
موضع خلف أمج إلى مكة بميل. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على واد فقال: " أي واد هذا "؟ قالوا: وادي الأزرق، فقال: " كأني أنظر إلى موسى عليه السلام وهو هابط هذه الثنية، له جؤار بالتلبية "، ثم أتى على ثنية فقال: " أي ثنية هذه "؟ قالوا: ثنية هرشى، فقال عليه السلام: " كأني أنظر إلى يونس بن متى على ناقة حمراء جعدة خطامها خلبة، وهو يلبي على هذه الثنية ".
وادي أبي موسى:
موضع بمقربة من جبل نفوسة من البلاد الإفريقية بسفح هذا الجبل كانت الوقيعة (2) بين أبي محمد عبد الواحد بن الشيخ أبي حفص ملك إفريقية وبين يحيى بن إسحاق الميورقي، وذلك في الرابع والعشرين من ربيع الآخر سنة خمس وستمائة، وحضر تلك الوقيعة جملة من رؤساء العرب وأعيانهم ومن الرياحيين وغيرهم، وحضرها محمد بن مسعود وولده عبد الله وبنو عمه، وذلك أن يحيى بن إسحاق لما انهزم في وقيعة شبرو، وجرى عليه وعلى جموعه بها ما جرى من القتل والنهب والهزيمة، لم يقر له قرار، فاستمال الأعراب ووعدهم وأطعمهم، فاجتمعت له منهم جموع من رياح وزعب والشريد وعوف ونفات ودباب ومن لافهم، ثم رجع بهم إلى إفريقية، وصاحب إفريقية المذكور يراعي أخباره، فلما بلغه ما عزم عليه قال: إن تركنا هنا الفاسق حتى يدخل البلاد أفسدها، فخرج من تونس فنزل المحمدية، ثم جد به السير حتى خرج من حدود إفريقية وتركها خلفه، وتراءى الجمعان بوادي أبي موسى فاقتتلوا قتالاً شديداً، ودخلت الميمنة في الميسرة، والميسرة في الميمنة والقلب على القلب، فأجلت الحرب عن موت محمد بن الغازي، وهو ابن عم يحيى، وحركات ابن أبي الشيخ ومحمد بن مسعود وجمع من أعيان العرب الرياحيين وزعب وشداد، ورأى يحيى ما حل بأصحابه فنكص على عقبيه، واستولى الموحدون على أكثر مضاربه وخزائنه وأسبابه، وفني في هذه الوقيعة مشاهير العرب وأنجادها وأمراؤها، وفر يحيى لا يعرج على شيء، وتفرق جمعه مفلولين مهزومين.
وادي سهر (3) :
بالزاب من أرض المغرب.
وادي آش (4) :
مدينة بالأندلس قريبة من غرناطة كبيرة خطيرة تطرد حولها المياه والأنهار، ينحط نهرها من جبل شلير، وهو في شرقيها، وهي على ضفته، ولها عليه أرحاء لاصقة بسورها، وهي كثيرة التوت والأعناب وأصناف الثمار والزيتون، والقطن بها كثير، وكان بها حمامات، ولها بابان: شرقي على النهر وغربي على خندق، وقصبتها مشرفة عليها، وعليها سور حجارة، وهو في ركنها الذي بين المغرب والقبلة. وبقرب وادي آش قرية بها عين تجري سبعة أعوام وتغور سبعة أعوام، قالوا: وهذا معروف على قديم الزمان تسكن بجريان عينها وتخلو بغؤورها.
منها عبد البر بن فرسان الوادياشي المتصل بعلي بن غانية
__________
(1) معجم ما استعجم 1: 146، وصحيح مسلم 1: 61.
(2) انظر أخبارها عند ابن خلدون 6: 196، والبيان المغرب3: 231 (تطوان) .
(3) انظر البكري: 52، 59، والاستبصار: 167 وهو نهر المسيلة.
(4) بروفنسال: 192، والترجمة: 233 (Guadix) .(1/604)
الميورقي، ثم استوزره بعده أخوه يحيى الطويل الفتنة بإفريقية وجهاتها، وكان صاحب رياسة السيف والقلم، وإليه تنسب الأبيات المشهورة:
أجبناً ورمحي ناصري وحسامي ... وعجزاً وعزمي قائدي وزمامي
ولي فتك بطاش اليدين غضنفر ... يضارب عن أشباله ويحامي
ألا غنياني بالصهيل فإنه ... سماعي ورقراق الدماء مدامي
وحطا على الرمضاء رحلي فإنها ... مهادي وخفاق البنود خيامي وأكثر شعره فيما يكنى به طول مدة الميورقي من الحروب كقوله:
أديروا مداماً للدماء فإنني ... بها أنتشي طيباً وبالنوح أطرب
معيشة ليث ليس يأوي لراحة ... يخال إذا ما جدت الحرب يلعب ذكره ابن سعيد وابن نخيل، ومات بفزان سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وهو القائل:
بين الحجاز وبين الغرب قاطعة (1) .......
وادي أم ربيع (2) :
هو وادي وانسيفن، عند قلعة مهدي ببلد فازاز من أرض المغرب.
وأم ربيع (3) قرية هناك كبيرة جامعة فيها أخلاط من البربر وهم أصحاب حرث ومواش وجمال، والغالب عليهم الفروسية. وأم ربيع على هذا الوادي وهو كبير خرار يجاز بالمراكب سريع الجري كثير الانحدار والصخور والجنادل وبهذه القرية ألبان وأسمان ونعم كثيرة وحنطة في نهاية الرخص وبها بقول ومزارع القطاني والقطن والكمون، وهي في جنوب الوادي ويجاز هذا الوادي (4) ، إلى غيضة كبيرة من الطرفاء والانشام والعليق، وهي غابة كبيرة ملتفة والأسد بها كثيرة، وربما أضرت بالمارة، غير أن أهل تلك النواحي لا يهابونها، وقد مهروا في مقابلتها بأنفسهم من غير سلاح، إنما يلقونها بأنفسهم عراة يلقون أكسيتهم على أذرعهم ويمسكون معهما قتات من شوك السدر وسكاكينهم بأيديهم لا غير فتلقى الأسد منهم هناك نكايات وترجع خائبة.
وينحدر (5) هذا الوادي في سعة بلاط قدره عشرون شبراً أو نحوها وعليه قنطرة محدثة وعليها لوح كثير.
وبوادي أم ربيع هذا مات صاحب المغرب أبو العلا ادريس بن المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، وهو القتال السفاك، وذلك في رابع المحرم سنة ثلاثين وستمائة، فإنه لما نازل سبتة وحاصرها ولم يقدر عليها، وأدركته وجموعه المجاعة الشديدة فبلغ مد الشعير عندهم سبعة دراهم، وبلغه أن مراكش تملكها ابن أخيه يحيى فلم يجد بداً من الارتحال عن سبتة، فرحل مضطراً قاصداً إلى مراكش، فلما وصل إلى وادي أم ربيع أدركه حمامه، فمات هناك. فاحتمل ميتاً إلى مراكش، وقام بالأمر بعده عبد الواحد المسمى بالرشيد، فخلف أباه في جده وحزمه، وعند انصرافه إلى مراكش بتابوت أبيه لقي يحيى ابن عمه محمد الناصر مقبلاً إليه بجموع من البربر وغيرهم، فهزمه عبد الواحد واستبد بالأمر، فكان يحيى تارة يصعد إلى الجبل، وتارة ينحدر إلى مراكش، فلم يتأت له شيء، وآخر أمره قتلته المعقلة.
وادي لكه (6) :
موضع من أرض الجزيرة الخضراء من ساحل الأندلس القبلي، فيه التقى طارق بن زياد مولى موسى بن نصير وجموعه الداخلون الأندلس مع لذريق طاغية الأندلس آخر ملوك القوط الذين عدة ملوكهم بالأندلس ستة وثلاثون ملكاً، وكانت مدة ملكهم الأندلس ثلثمائة سنة واثنتين وأربعين سنة، ولم يكن لذريق هذا من أبناء الملوك، ولا صحيح النسب في القوط، إنما اغتصب الملك وتسور عليه عند موت الملك الذي كان قبله، استصغر أولاده واستمال طائفة من الرجال مالوا معه، فانتزع الملك
__________
(1) سقطت الشطرة الثانية وبعدها في ع فراغ بمقدار سطرين.
(2) الاستبصار: 185.
(3) الإدريسي (د/ ب) : 70 - 71/ 46.
(4) زيادة من الإدريسي.
(5) الاستبصار: 185.
(6) بروفنسال: 193، والترجمة: 235، وانظر مادة ((لكه)) .(1/605)
من أولاده. وكانت الوقيعة سنة اثنتين وتسعين من الهجرة فانهزم القوط أعظم هزيمة وقتل لذريق وغلبت العرب على الأندلس.
وادي الحجارة (1) :
وهي مدينة تعرف بمدينة الفرج بالأندلس، وهي بين الجوف والشرق من قرطبة، وبينها وبين طليطلة خمسة وستون ميلاً.
وهي (2) مدينة حسنة كثيرة الأرزاق جامعة لأشتات المنافع والغلات، ولها أسوار حصينة ومياه معينة وبغربيها نهر صغير لها عليه بساتين وجنات وكروم وزراعات وبها من غلات الزعفران الشيء الكثير، يتجهز به منها إلى سائر البلاد، وبينها وبين مدينة سالم خمسون ميلاً.
وادي العلاقي (3) :
في أرض الحبشة، إليه يختلف أهل الصعيد وهو واد فيه خلق كثير وجمع غزير، والعلاقي في ذاته كالقرية الجامعة والماء بها من آبار عذبة، ومعدن النوبة المشهور متوسط في أرضها في صحراء لا جبل حولها وإنما هي رمال لينة وسباسب سائلة، فإذا كان أول ليالي الشهر العربي وآخره خاض الطلاب في تلك الرمال بالليل، وكل واحد منهم ينظر فيما يليه من الأرض، فإذا أبصر التبر يضيء بالليل جعل على موضعه علامة يعرفها وبات هناك، فإذا أصبح عمد كل واحد إلى علامته فيأخذ ما يجد فيه ويحمله معه فمضى به إلى آبار هناك، ثم يقبل على غسله بالماء في جفنة عود، فيستخرج الكثير منه، ثم يؤلفه بالزئبق ويسبكه بعد ذلك، فما اجتمع لهم تبايعوه فيما بينهم واشتراه بعضهم من بعض، ثم يحمله التجار إلى سائر الأمصار، فهذا شغلهم دأباً لا يفترون عنه، ومن ذلك معايشهم ومبادي مكاسبهم وعليه يعولون.
وادي درعة (4) :
بالمغرب، بينه وبين سجلماسة خمسة أيام، وعليه الطريق في الصحراء إلى بلاد السودان.
وادي سبو (5) :
على نحو ثلاثة أيام من فاس، وفيه يصب وادي فاس وهو نهر عظيم من أعظم أنهار بلاد المغرب، منبعه من جبل في بلاد بني واريتن، ويتصيد فيه الشابل الكبير ويدخل فيه الحوت الكبير، يجلب إلى فاس ومكناسة وتصنع منه ألوان كثيرة.
وادي زاقه:
في البلاد الإفريقية بين باجة والأربس، تقدم ذكره في حرف الزاي.
وبار (6) :
مبني على الكسر، بالدهناء، وبها إبل حوشية، قال الخليل: كانت محلة عاد وهي بين اليمن ورمال يبرين، وقد يعرب بوجوه الإعراب، وقال الشاعر:
ومر دهر على وبار ... فهلكت جهرة وبار ويقال إن وبار بن أميم بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح صارت إلى رمل عالج وهي الأرض المعروفة بأرض وبار، فأهلكهم الله لما كان من بغيهم في الأرض وانقرضوا. والعرب تزعم أن ديار وبار سكنتها الجن وحمتها من كل من أرادها، وكانت أخصب بلاد الله تعالى وأكثرها شجراً وأطيبها ثمراً، وإذا دنا أحد من تلك البلاد ساهياً أو متعمداً أسفت الجن عليه سوافي الرمل وأثارت عليه الزوابع، فيزعمون أنه ليس بهذه الأرض إلا الجن والجمال الوحشية، وهذا عند كثير من العقلاء مردود.
قال أبو عمرو (7) : وبار بالدهناء، بلاد بها إبل حوشية ونخل كثير لا أحد يأبره ولا يجده وزعم أن رجلاً وقع إلى تلك الأرض فإذا بتلك الإبل ترد عيناً وتأكل من ذلك التمر فركب فحلاً منها ووجهه قبل أهله، فاتبعته تلك الإبل الحوشية فذهب بها إلى أهله، وقال الخليل: وبار كانت محلة عاد بين اليمن ورمال يبرين فلما أهلك الله تعالى عاداً أورث محلتهم الجن فلا يقربها أحد من الناس، وهي الأرض التي ذكرها الله تعالى في قوله عز وجل " واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون. أمدكم بأنعام وبنين. وجنات وعيون ".
ويذار (8) :
من مدن خراسان، وهي مدينة حسنة متوسطة المقدار
__________
(1) بروفنسال: 193، والترجمة: 234 (Guadalojara) .
(2) الإدريسي (د) : 189.
(3) الإدريسي (د) : 26 (OG: 40) .
(4) البكري: 149، وراجع مادة ((درعة)) .
(5) الاستبصار: 184، وانظر البكري (سبوا) ، والإديسي (د) : 79؛ ص ع: شفو.
(6) معجم ما استعجم 4: 1366.
(7) عاد إلى النقل عن معجم البكري.
(8) ص ع: وبدار، ولهذا أوردها المؤلف في هذا الموضع، والتصويب عن ياقوت.(1/606)
تعمل بها الثياب الويذارية المنسوبة إليها، وهي قطن في قطن، حسنة الصنعة غريبة المثال تلبس خاماً غير مقصورة، وليس بُخراسان أمير ولا وزير ولا قاض إلا وهو يلبسها ظاهراً على ما يكتسيه في الشتاء، وجمالهم بها ظاهر وزينتهم بها فاشية لأنها ثياب تميل إلى صفرة الزعفران لينة الملمس، ويعمر الثوب منها كثيراً ويستخدم المدة الطويلة، ويبلغ ثمن الثوب في بلادهم من ثلاثين ديناراً إلى عشرين ديناراً على قدر جودته ورداءته.
وَبْذة (1) :
مدينة بالأندلس، وهي حصن على واد بقرب أقليش، وعلى وادي وبذة عدة كثيرة من الأرحاء، ويجري هذا النهر على عدة كثيرة من القرى فيسقيها، وبقرب وبذة قرية يقال لها بنتيج أهلها نصارى ينعقد ماؤها في الإناء فيصير حجراً أصفر، وكذلك أين ما جرى، وينعقد على أسنان أهلها، وتشملهم علة الحصى.
الوتير (2) :
ماء في أرض خزاعة، عليه كانت الوقيعة بين بني الديل وبني بكر بن عبد مناة بن كنانة وبني خزاعة، وكان الذي هاج ما بينهم أن حليفاً للأسود بن رزن الديلي خرج تاجراً، فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه وأخذوا ماله، فعدت بنو بكر على رجل من خزاعة فقتلوه، فعدت خزاعة، قبيل الإسلام، على بني الأسود بن رزن: سلمي وكلثوم وذؤيب، وهم منخر بني كنانة وأشرافهما، كانوا في الجاهلية يؤدون ديتين ديتين لفضلهم في قومهم، فقتلتهم خزاعة بعرفة عند أنصاب الحرم، ثم حجز بينهم الإسلام وتشاغل الناس به، فلما كان صلح الحُدَيْبية دخلتْ خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلتْ بنو بكر في عقد قريش فلما كانت الهدنة اغتنمتها بنو الديل فخرجوا حتى بيتوا خزاعة على الوتير، ماء لهم، وأصابوا منهم رجلاً، وتحاوزوا (3) واقتتلوا، ورفدت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفياً، فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق. مما استحلوا منهم، وكانوا في عقده وعهده، خرج عمرو بن سالم الخزاعي الكعي حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظهري الناس فقال:
يا ربِّ أني ناشدٌ محمّدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا ... قد كنتم ولداً وكنا والدا ... ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا ... فانصر هداك الله نصراً أعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا ... فيهم رسول الله قد تجردا ... أبيض مثل البدر يسمو صعدا ... في فيلق كالبحر يجري مزبدا ... إن قريشاً أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا ... وجعلوا لي في كداء رصدا ... وزعموا أن لست أدعو أحدا ... وهم أذل وأقل عددا ... هم بيتونا بالوتير هجدا ... وقتلونا ركّعاً وسجَّدا ... يقول: قتلنا وقد أسلمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نصرت يا عمرو بن سالم "، ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء فقال: " إن هذه السحابة لتسهل بنصر بني كعب ".
وجدة (4) :
بالدال المهملة، حصن من حصون خيبر.
ووجدة (5) :
أيضاً بالمغرب، بينها وبين تلمسان ثلاث مراحل، وهي مدينة كبيرة مشهورة قديمة كثيرة البساتين والجنات والمزدرعات والمياه والعيون، طيبة الهواء جيدة الغذاء (6) ، يمتاز أهلها من غيرهم بنضارة ألوانهم وتنعم أجسامهم، ومراعيها أنجع المراعي وأصلحها للسائمة، يذكر أنه يوجد في شاة من شياههم مائتا أوقية من شحم، ويصنعون من صوفها أكسية ليس لها نظير
__________
(1) بروفنسال: 194، والترجمة: 236 (Huete) .
(2) انظر معجم ما استعجم 4: 1368، وانظر عنده مادتي ((ادام)) و ((فاثور)) ، والنقل عن السيرة 2: 389.
(3) ص ع: وتحاجزوا.
(4) معجم ما استعجم 4: 1370.
(5) الاستبصار: 177، وانظر البكري: 78 - 88.
(6) الاستبصار: جيدة التربة.(1/607)
في الجودة، يساوي الكساء الجيد فها خمسين ديناراً وأزيد، وعلى وجدة طريق المار والصادر من بلاد المشرق إلى بلاد المغرب وإلى سجلماسة وغيرها.
وجرة (1) :
بالراء المهملة، على ثلاث مراحل من مكّة في طريق البصرة، وطولها أربعون ميلاً: ليس فيها منزل، قال الطوسي: وجرة في طريق (2) السي، وهي فلاة بين مران وذات عرق، وهي ثلاثون (3) ميلاً يجتمع فيها الوحش، لا ماء فيها، وقال النابغة:
من وحشِ وجرةَ موشّىً أكارعُه ... طاوي المصير كسيف الصَّيقَل الفردِ
وج (4) :
هو الطائف، وقيل هو وادي الطائف. في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لثقيف: " وثقيف أحق الناس بوج ". وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ان آخر وطأة وطئها الله عز وجل بوج "، يريد أن آخر ما أوقع الله عزّ وجل المشركين بوج، وهي الطائف، لأن آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف وحنين؛ وهو كقوله صلى الله عليه وسلم: " اللهم اشدد وطأتك على مضر "، وحنين وادي الطائف. وقيل سميت بوج بن عبد الحي من العمالقة، وهو أول من نزلها.
وفي الخبر ان الحَكَم بن العاصي طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بسبب أنه كان يفشي سره، لعنه وسيره إلى وجّ، فلم يزل طريداً حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي خلافة أبى بكر وعمر رضي الله عنهما ثم أدخله عثمان رضي الله عنه وأعطاه مائة ألف درهم.
وفي الخبر: لمّا مات ابن عباس رضي الله عنهما وخرجوا بنعشه جاء طير عظيم أبيض من قبل وج حتى خالط أركانه ثم لم يروه.
ودان (5) :
قرية من أمهات القرى بالحجاز، وهو فعلان من الود.
وفي سير ابن إسحاق (6) : غزوة الابواء وهي غزوة ودّان.
وقال (7) يعقوب بن حميد: أقبلت من مكة، فلما صرت بودان لقيت صفراء من مولداتها فقلت: يا جارية ما فعلت نعم؟ فقالت: سل النصيب، تريد قوله:
ألا تسأل الخيماتِ من بطن أرثدٍ ... إلى النخل من ودّان ما فعلتْ نعمُ
أسائل عنها كل ركب لقيتهم ... ومالي بها من بعد أن فارقت علم قال: فعجبنا من ظرفها.
وقال البكري: من ودان إلى مدينة الجار، وهو بئر تنزل عليه القوافل، بينهما خمسة وثلاثون ميلاً.
وودّان (8) :
أيضاً في بلاد البربر في حيّز برقة، بينها وبين قصر ابن ميمون ستة أيام، وقصر ابن ميمون آخر عمل طرابلس.
قالوا: وكانت ودّان فيما سلف أكثر الأرض عمارة، وكان الملك في أهلها متوارثاً إلى أن جاء دين الإسلام فخافوا من المسلمين فتوغلوا في بلاد الصحراء وتفرقوا ولم يبق منهم إلا بقايا قوم من السودان، معايشهم كدرة وأمورهم نكدة، وهم في سفح جبل طنطنة، وإبلهم قليلة وجلتهم يأكلون لحوم الجمال المقددة ويشربون ألبان الإبل، والحطب عندهم قليل، وأكثر نيرانهم من بعر الجمال وبعض الشوك.
؟؟ ورزيغة (9) :
مدينة بين فاس واغمات، كثيرة المياه والثمار، وهي آهلة كثيرة الخيرات تباع فها ألف حبة إجاص بربع درهم، قتل ميسور الفتى أهلها وسبى نساءها بعد زواله عن مدينة فاس سنة أربع وعشرين وثلثمائة.
__________
(1) معجم ما استعجم 4: 1370.
(2) معجم البكري: طرف.
(3) معجم البكري: ستون.
(4) معجم ما استعجم 4: 1369.
(5) معجم ما استعجم 4: 1375.
(6) السيرة 2: 608.
(7) عود للنقل عن معجم البكري.
(8) معجم ما استعجم 4: 1375، وانظر البكري: 11، 12، واليعقوبي: 345، والإدريسي (د) : 133، وياقوت (ودّان) .
(9) البكري: 155، ص ع: ورزيقة.(1/608)
عين وردة:
موضع على مقربة من الكوفة وقد تقدم قي حرف العين المهملة.
الوردانية (1) :
حصن الوردانية بالمغرب بينه وبين حصن القرويين ميلان، وهو على جبل بساحل البحر، ومن الوردانية إلى هنين أربعة أميال، وهو على مرسى جيد مقصود، وهو أكثر الحصون بساتين وضروب ثمر، تسكنه كومية، وبين هذا الحصن ومدينة ندرومة ثلاثة عشر ميَلاً.
ورام:
بالهند، وفي الكتاب الذي وجه به محمود بن سبكتكين سلطان خُراسان إلى الإمام القادر بالله أمير المؤمنين: ووردت رسلُ مَلِكي كفرة ورام، باذلين عنها حسن الطاعة وذاكرين أن كل واحد منهما ينهض ابناً له إلى خدمة الراية، فأجاب العبد أنهما إن أسلما سلما في الدنيا والآخرة من أشد العذاب، وإن أصرَا على كفرهما لم ينتفعا بانفاذ الهدايا والأولاد شيئاً " إِنَّ الَّذينَ كَفَرُوا لَنْ تغنِيَ عَنهمْ أَمْوَالهمْ وَلا أَوْلَادهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأولئِك هُمْ وَقُود النَّارِ " آل عمران: 10 ".
ورزازات (2) :
بالمغرب، قريب من وادي درعة، وهو بلد هسكورة.
الوطيح (3) :
حصن من حصون خيبر وكان آخر ما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم الوطيح والسُلالم، حاصرهم فيها رسول الّله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة، وخرج مرحب اليهودي ونادىَ مَن يبارز، وارتجز:
فأجابه كعب بن مالك:
قد علمت خيبر اني كعب ... مفرج الغما جريء صعب ... معي حسام كالعقيق عضب ... نطؤكم حتى يذل الصعب ... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ لهذا؟ " فقال محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله، أنا والله الموتور الثائر، قتل أخي بالأمس، قال: " فقم إليه، اللهم أعنه عليه "، فلما دنا أحدهما من صاحبه دخلت بينهما شجرة من شجر العشر، فجعل أحدهما يلوذ بها من صاحبه، كلما لاذ بها اقتطع صاحبه بسيفه ما دونه، حتى برز كل واحد منهما لصاحبه، وصارت بينهما كالرجل القائم ما فيها فنن، ثم حمل مرحب على محمد بن مسلمة فاتّقاه بدرقته فوقع سيفه فها فعضت به فأمسكته، وضربه محمد بن مسلمة حتى قتله ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر يقول: مَنْ يُبارز؟ فخرج إليه الزبير بن العوام رضي الله عنه، فقالت أمّه صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها: يقتل ابني يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " بل ابنك يقتله إن شاء الله "، فخرج الزبير رضي الله عنه فالتقيا فقتله الزبير.
وليلي (4) :
مدينة بالمغرب بطرف جبل زرهون، مدينة رومية قديمة، ذكروا أن فيها نزل إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن. ابن علي بن أب طالب رضي الله عنهم بعد أن انهزم من وقيعة فخ سنة تسع وستين ومائة فاستتر مدة، وألح السلطان في طلبه، فضاقت عليه المذاهب ورغب في الخروج من بلاد المشرق، فخرج معه راشد، وكان من موالي العلوية وأصله لمن البربر، ليثور به في قومه ويأمن من عدوه " وكان راشد عاقلاً شجاعاً أيّداً ذا فهم ولطف وحزم فخرج به في غمار الحاج وغيَّر زيه وألبسه مدرعة وعمامة من خشن الثياب، وصيره كالغلام يخدمه " إذا أمر أو نهى أسرع، فسار به مستخفياً من موضع إلى موضع حتى قربا من بلاد إفريقية فتركها، وسار به إلى بلاد البربر حتى انتهى إلى بلد فاس وطنجة، فنزل به مدينة وليلي هذه على إسحاق بن محمد ابن عبد الحميد الأوربي، وكانت اوربة إذ ذاك أعظم قبائل بلاد المغرب، وكانت فيها مدن كثيرة أعظمها حينئذ مدينة سقوما (5) ، وكان إسحاق هذا معتزلي المذهب، فوافقه ادريس على مذهبه
__________
(1) البكري: 80، وانظر الاستبصار: 135، والإدريسي (د) : 172.
(2) البكري: 152.
(3) انظر معجم ما استعجم 4: 1380، والمؤلف ينقل عن السيرة 2: 332 وما بعدها.
(4) متابع للاستبصار: 194، والبكري: 118، ويقول صاحب الاستبصار أن وليلي كانت تسمى في زمنه تيسرة، وقد ذكر البكري أن طنجة تسمى بالبربرية وليلي، ثم عقب على ذلك بأن وليلي التي نزلها إدريس لا بد أن تكون مدينة أخرى.
(5) الاستبصار: سكوما.(1/609)
وأقام عنده، وأمر إسحاق قبيلته بطاعته وتعظيمه وكان ذلك في خلافة الرشيد، فوصله خبره فغمه ذلك، فقال له يحيى بن خالد: أنا أكفيك أمره فأرسل إلى سليمان بن جرير وكان من ربيعة يرى رأي الزيدية متعصباً لآل أبي طالب، وكان جلداً شجاعاً، وهو الذي جمع الرشيد بينه وبين هشام بن الحَكَم حين ناظره في أمر الإمامة في قصة طويلة، فرغبه يحيى بن خالد في المال، ووعده عن نفسه وعن الرشيد بمواعيد عظيمة، ودعاه إلى قتل ادريس والتلطف في أمره، فأجابه إلى ذلك، وأعطاه مالاً جزيلاً ودفع إليه قارورة فيها غالية مسمومة، ووجه معه رجلاً من ثقاته فتوغلا في البلاد حتى وصلا إلى ادريس، وكان ادريس عالماً برياسة سليمان في الزيدية، فلما وصل إليه قال له: إنما جئت بنفسي وحملتها على ما حملتها عليه لمذهبي فيكم أهلَ البيت. فجئتك لا من حاجة إليك إلا لأنصرك بنفسي فسر ادريس بقوله وقبله أحسن قبول، فأحسن نزله وأكرم مثواه وأنس به، فكان سليمان يجلس في مجالس من البربر ويظهر الدعاء إلى ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحتج لأهل البيت كاحتجاجه بالعراق وكان من شياطين الانس، فاعجب ذلك ادريس منه، ومكث عنده مدة وهو يطلب الغرة ويترصد الفرصة في أمره، حتى غاب راشد في بعض أمره، فدخل عليه سليمان ومعه القارورة، فلما انبسط إليه ادريس وأخلى له وجهه قال له سليمان: جعلني الله فداك، هذه القارورة فيها غالية رفيعة أوصلتها معي، وأعلم أنه ليس ببلدك طيب فجئتك بها، ووضعها بين يديه، ففتحها ادريس وشمها وتغلف بها، وقيل أخرج سكينة وقطع به تفاحة وأعطاه النصف الذي يلي الجهة المسمومة من السكين، ثم انصرف سليمان إلى صاحبه وقال: قد تمَّ مرادنا، وقد كانا أعدا فرسين مضمرين، فركباهما وخرجا يركضان يطلبان النجاة، فلما وصل السم إلى خياشم ادريس وتغلغل في دماغه سقط مغشياً عليه لا يعقل، ولا يدري من يختص به من أهله وحاشيته ما شأنه، فبعثوا إلى راشد فجاء مسرعاً، وتشاغل في معالجته، وقطع سليمان وصاحبه بلاداً في تلك المدة. قيل: فبقي إدريس في غشيته عامة نهاره وليلته تضرب عروقه حتى مات، فتبين لهم أمر سليمان بن جرير، فركب راشد في طلبه مع جماعة من أصحابه، فجد السير في طلبهما حتى لحقهما وحده، لأن فرسه كان ضمر أكثر من خيل أصحابه، فأدركهما فشد عليهما راشد، ففر صاحب سليمان، وضرب سليمان بالسيف ثلاث ضربات على وجهه ورأسه، كل ذلك لا يصيب مقتلاً، مع دفع سليمان عن
نفسه، وعجز فرس راشد عن ادراكه، فلما رجع عنه راشد نزل فعصب جراحه فسار حتى لحق بالمشرق فكان في المشرق مكتع اليد، ومات إدريس بوليلي سنة خمس وسبعين ومائة فكانت مدته ثلاثة أعوام وستة أشهر، فهذا كان السبب في دخول العلويين بلاد المغرب فيما زعموا.
الولجة (1) :
بالعراق مما يلي كسكر من البر، وكان فتحها على يد خالد بن الوليد رضي الله عنه سنة اثنتي عشرة.
قالوا (2) : لمّا وقع الخبر إلى ازدشير بمصاب قارن وأهل المذار أرسل الأندرزغر، وكان فارسياً من مولدي السواد وتنّائهم، ولم يكن ممن وُلِد في المدائن ولا نشأ بها، وأرسل بهمن جاذويه في أثره في جيش، وأمره بغير طريق الاندرزغر، فقال أهل فارس ومولدو أهل المدائن هجاء للاندرزغر بالفارسية، وتفسير ذلك: لا يعود الخل عسلاً ولا السوادي فارساً، فأجابهم بالفارسية: لا يلفى الفارسي إلا صلفاً. وكان الأندرزغر قبل ذلك على خرج (3) خراسان، الأندرزغر سائراً من المدائن حتى أتى كسكر ثم جازها إلى الولجة، وخرج بهمن جاذويه في أثره وأخذ غير طريقه، فسلك وسط السواد، وقد حشر إلى الأندرزغر من بين الحيرة وكسكر من عرب الضاحية والدهاقين فعسكروا إلى جنب عسكره بالولجة، فلما اجتمع له ما أراد واستتم له أعجبه ما هو فيه، فأجمع السير إلى خالد، ولمّا بلغ خالداً وهو بالثني خبر الاْندرزغر ونزوله الولجة نادى بالرحيل، وخلّف سويد بن مقرن وأمره بلزوم الحفير، وتقدم إلى من خلف على أسفل دجلة وأمرهم بالحذر وقلة الغفلة وترْك الاغترار، وخرج سائراً في الجنود نحو الولجة حتى ينزل على الأندرزغر وجنوده ومن تأشب إليه، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى ظن الفريقان أن الصبر قد فرغ (4) ورفع النصر، واستبطا خالد كمينه وكان قد وضع لهم كميناً في ناحيتين عليهم بسر بن أبي رهم وسعيد ابن مرة العجلي، فخرج الكمين من وجهين، فانهزمت صفوف الأعاجم وولوا، وأخذهم خالد من بين أيديهم، والكمين من خلفهم، فم يرَ رجل منهم مقتل صاحبه، ومضى الأندرزغر
__________
(1) انظر ياقوت: (الولجة) .
(2) الطبري 1: 2029 مع بعض زيادات في النص هنا.
(3) الطبري: فرج (وهو الثغر) .
(4) الطبري: أفرغ.(1/610)
في هزيمته فمات عطشاً، وقام خالد في الناس خطيباً يرغبهم في بلاد العجم ويزهدهم في بلاد العرب، وقال: ألا ترون إلى الطعام كرفع التراب، وبالله لو لم يلزمنا الجهاد في الله عزّ وجلّ والدعاء إليه ولم يكن إلا المعاش، لكان الرأي أن نقارع على هذا الريف حتى نكون أولى به، ونولي الجوعَ والإقلالَ من تولاه ممن اثاقل عما أنتم عليه.
وسار خالد رضي الله عنه في الفلاحين بسيرة (1) فلم يقتلهم، وسبى عيالات المقاتلة ومن أعانهم، ودعا أهل الأرض إلى الجزي والذمة، فتراجعوا، وبارز خالداً يوم الولجة رجل من أهل فارس يعدل بألف رجل، فقتله خالد، فلما فرغ اتكأ عليه ودعا بغدائه؛ وقال خالد في يوم الولجة:
نهكناهم بها حتى استجاروا ... ولولا الله لم يرزوا قبالا
فولوا الله نعمته وقولوا ... ألا بالله نحتضر القتالا
ألا بالله قوتنا ونبرا ... من الحول المقدرة البسالا ونقارة (2) : في أرض السودان قريبة من غانة، وهي جزيرة طولها ثلثمائة ميل وعرضها مائة وخمسون ميلاً، والنيل يحيط بها من كل جهة في سائر السنة، فإذا كان شهر أغشت وحمي القيظ وخرج النبل وفاض، غطى هذه الجزيرة أو أكثرها وأقام عليها المدة التي عادته أن يقيم ثم يأخذ في الرجوع، فإذا انحدر رجع كل من في بلاد السودان المنحشرين إلى تلك الجهة يبحثون طول أيام رجوع النيل، فيجد كل إنسان منهم في بحثه هناك ما أعطاه الله تعالى قليلاً أو كثيراً من التبر، وما يخيب منهم أحد، فإذا عاد النيل إلى حدّه باع الناس ما حصل بأيديهم من التبر، وتاجر بعضهم بعضاً، واشترى أكثره أهل وارقلان وأهل المغرب الأقصى، فأخرجوه إلى دور السبك في بلادهم، فيضربونه دنانير ويتصرفون به في التجارات والبضائع وهكذا في كل سنة، وهو أكبر غلة عند السودان وعليها يعولون.
وفي أرض ونقارة بلاد معمورة ومعاقل مشهورة، وأهلها أغنياء، والتبر عندهم وبأيديهم كثير، والخيرات مجلوبة إليهم من أطراف الأرض وأقاصيها وهم سود جداً، ويزرعون الذرة، وبقربها غابات وحولها شجر التوت كثير وتين ونخل كثير.
الوعساء (3) :
أرض بحضرموت، قال الشاعر (4) :
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقا آأنت أم أم سالم
وقش (5) :
قرية بثغر الأندلس، ينسب إليها أبو الوليد هشام ابن أحمد بن هشام بن خالد الكناني الوقشي (6) من أهل طليطلة، ولي قضاء طلبيرة وعني بالهندسة والمنطق، مليح النادرة ذكر أنه اختصم إليه رجلان فقال أحدهما: يا فقيه اشتريت من هذا اثتي عشر تيساً حاشاك فقال له: قل أحد عشر، توفي بدانية سنة تسع وثمانين وأربعمائة.
وقعة الحمار (7) :
موضع من عمل اشبيلية كانت فيه وقعة للمسلمين على النصارى، وذلك في سنة عشر وستمائة، اتفق الفنش صاحب قشتالة، وصاحب بلاد الجوف، على أن يخرجا بعسكريهما على بلاد الإسلام التي لا دافع عنها بجزيرة الأندلس بعد وقيعة العقاب، فأما صاحب بلاد الجوف فجاء في الشمال إلى عمل اشبيلية فاصطلم كل ما مرَّ عليه إلى أن انتهى إلى مرج الحمار، فخرج السيد أبو زكريا بن أبي حفص بن عبد المؤمن صاحب اشبيلية بعسكر الأندلس الوافر الذين لم تلحقهم معرّة العقاب في السنة الماضية فوعدهم ومناهم وأثار حفائظهم وزحف بهم إلى العدو فأعطاه الله تعالى النصر، فيقال إنهم قتلوا منهم نيفاً على عشرة آلاف، وامتلأت أيديهما مما كان في عسكرهم، وكانت وقيعة
__________
(1) الطبري: بسيرته.
(2) الإدريسي (د/ ب) : 8/ 8 (OG: 24) .
(3) قال ياقوت: موضع بين الثعلبية والخزيمية؛ وهذا أقرب إلى الصواب.
(4) هو ذو الرمة، ديوانه: 700.
(5) بروفنسال: 196، والترجمة: 327 (Huecas) ، وهي اليوم في مقاطعة طليطلة.
(6) له ترجمة في الصلة: 617، وبغية الملتمس رقم: 1426، والمطرب: 233، وطبقات صاعد: 74، والنفح 3: 376، 4: 137، 162.
(7) بروفنسال: 196، والترجمة: 238.(1/611)
تحُدِثَ بها زماناً وما زال أهل اشبيلية يعتزون مما اتفق فيها فيخرجون متى ألم عدو بجهاتهم فيرجعون إلى أنحس حالة وأكثرهم أسير أو قتيل.
واسللت (1) :
جبل عظيم طوله يومان، وبينه وبين القيروان خمسة عشر ميلاً، وفيه عمارات ومياه جارية وفيه حصون كثيرة عامرة لأهلها مواش وأبقار وأغنام، ورجال العرب متغلبون على سهول هذه الأرض.
وشقة (2) :
مدينة حصينة بالأندلس لها سوران من حجر بينها وبين سرقسطة خمسون ميَلاً، ووشقة مدينة حسنة متحضرة ذات متاجر وأسواق عامرة وصنائع قائمة، وأحوازها تتصل بأحواز بربطانية، ومشقة بشرقي مدينة سرقسطة، وهي مدينة كبيرة أولية قديمة رائقة البنيان، قد اتقن سورها أتم اتقان، وبها أزيد من ستين مسجداً، وهي على نهر يشق مدينتها ويجري في حمّامين من حمّاماتها وتسقى بفضلة مائه بساتين، وهي كريمة التربة، ويحيط بها من جنباتها جنات مغروسة وحدائق من الثمار ملتفة، وهي مخصوصة بطيب الكمثرى والزعرور، وحاصر المسلمون مدينة وشقة منذ فتح الأندلس حصاراً طويلاً حتى بنوا عليها المساكن وغرسها الغروس وحرثوا لمعايشهم، واتصل ذلك من فعلهم سبعة أعوام، والنصارى في القصبة القديمة محصورون، فلما طال عليهم الحصار استأمنوا لأنفسهم وذراريهم، فمن دخل في الإسلام ملك نفسه وماله وحرمته، ومن أقام على النصرانية أدى الجزية فليس بوشقة من أهلها المتأصلين رجل ينتهي في أصل صحيح من العرب
وشكة (3) :
مدينة بثغر سرقسطة، منها أبو عبد الله محمد بن أحمد الوشكي سكن مرسية وعاشر صفوان صاحب " زاد المسافر (4) " وبينهما مراسلات ومن شعره:
لست أهوى الخد إلا ... مثل ماء دون طحلب
والذي تلقاه يهوى ... ذاك كالهائم يطلب وله:
إن عضَّك الدهر بأنيابه ... فاصبر عسى ينزع عن عضه
ودار من تبصره مبغضاً ... فربما يضجر من بغضه
وهران (5) :
بالمغرب على ساحل البحر، قيل إنها أسست في سنة تسعين ومائتين، وبناها جماعة من الاْندلسيين البحريين بسبب المرسى، للفتنة مع قبائل البربر المجاورين لها، فسكنوها مع قبيل من البربر نحو سبعة أعوام، ثم زحف إليهم قبائل كثيرة من البربر الطالبين للثأر الذي بينهم وبين القبيل الذين مكثوا معهم من البربر، ونصبوا الحرب، فهرب البربر الساكنون بها، وتغلب البربر المحاصرون عليها وأخرجوا من كان فيها وأضرموها ناراً، فخربت وهران عند ذلك وبقيت سنين خربة، ثم تراجع الناس إليها وبنوها فعادت إلى أحسن مما كانت عليه. وهي مدينة كثيرة البساتين والثمار، ولها ماء سائح من عيون وأنهار وأرحاء كثيرة، وهي من غرّ البلاد، ولها نظر كبير فيه قرى كثيرة وآثار قديمة، وأهلها موصوفون بعظم الخلق وكمال القامة والأيد والشدّة، يكون الرجل الكامل من غيرهم إلى منكب الرجل منهم، واقتطع رجل منهم ألف طلحة (6) وحملها على ظهره يقيم بها بيتاً يسكنه، ولوهران مرسى كبير للسفن يكنّ من كل ريح لأنه في جون جبل مطل على وهران مرتفع.
وعلى وهران (7) سور تراب متقن، وبها أسواق وصنائع كثيرة
__________
(1) الإدريسي (د/ ب) : 119/ 87؛ ص ع: وسلات، وفي بعض أصول نزهة المشتاق: واسلات، وكذلك أثبته بيريس.
(2) بروفنسال: 194، والترجمة: 236 (Huesca) .
(3) بروفنسال: 195، والترجمة: 237 (Huesca) ، ولا فرق بين هذه والسابقة.
(4) أبو البحر صفوان بن إدريس التجيبي المرسي (- 598) ؛ انظر ترجمته في مقدمة ((زاد المسافر)) ، تحقيق عبد القادر محداد (بيروت 1939، 197) .
(5) متابع للاستبصار: 133، وهو تلخيص لما أورده البكري: 70 - 71.
(6) الاستبصار والبكري: كلخة.
(7) الإدريسي (د/ ب) : 84.(1/612)
وتجارات نافقة، وهي تقابل مدينة المرية في ساحل برّ الأندلس، وسعة البحر بينهما مجريان، ومنها أكثر ميرة ساحل الأندلس، ولها على بابها مرسى صغير لا يستر شيئاً، ولها على ميلين منها المرسى الكبير، به ترسي السفن الكبار وهو يستر من كل ريح، لا مثال له في المراسي، وشرب أهلها من واد يجري إليها من البّر، وعليه بساتين وجنات، وبها فواكه ممكنة، وأهلها في خصب، والعسل بها والسمن والزبد كثير، والبقر والغنم رخيصة، والمراكب مختلفة إليها، وفي أهلها غرة أنفس ونخوة.
ويطونان (1) :
موضمع بين مدينة تامدلت ومدينة اودغست، فيه بئر يُسْهل ماؤها مَن شَربَ منه من الناس والبهائم، وماؤها كثيره لا ينزف.
__________
(1) البكري: 157؛ ص ع: ويطرنان.(1/613)
فراغ(1/614)
حرف الياء
يابه (1) :
قرية من قُرى بخارى.
وياب (2) :
مدينة من مدن فرغانة.
يافه (3) :
هي فرضة بيت المقدس، بينهما مرحلتان خفيفتان، وقد تقدَّم في ذكر لدّ قصة ابن حمل الضأن الذي يفتح الشام، ويضرب برواقه على تل يافا، وقد تقدم الخبر بطوله.
يازور (4) :
قرية من أعمال الرملة بفلسطين، بنسب إليها أبو محمد الحسن بن علي اليازوري وزير المستنصر بن الظاهر خليفة مصر الشيعي، وسِير هذا الوزير وأخباره مصنفة لبعد آثاره وتمكنه من الاستيلاء على الدولة العبيديّة، وهو الذي وجه عرب الصعيد إلى إفريقية لما خلع المعز بن باديس الصنهاجي دعوة العبيدية، مات سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة.
يان (5) :
قرية من قُرى بلخ، منها أبو جعفر محمد بن رميح الياني، حدَث بسَنده قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تصلّوا عند طلوع الشمس، ولا عند غروبها، ولا نصف النهار حتى تزول الشمس، ولا يوم الجمعة والإمام يخطب ".
يَابُرَة (6) :
مدينة من كور باجة الاندلس، وهي قديمة، وتنتهي أحواز باجة فيما حواليها مائة ميل، وينسب إليها ابن عبدون اليابري الشاعر (7) .
وفي قصيدة (8) عيسى بن الوكيل المشهورة التي مدح بها علي ابن القاسم بن محمد بن عشرة قاضي سلا التي أولها:
سَل البرقَ إذ يلتاح من جانب البرقا ... أَقرطَيْ سليمى أم فؤادي حكى خفقا
ولمْ أسبلت تلك الغمامةُ دمعها ... أَريعتْ لوشكِ البين أم ذاقتِ العشقا يقول فيها:
غريب باْرض الغرب فرق قلبه ... فآوت سلا فرقا ويابرة فرقا
إذا ما بكى أو ناح لم يلف مسعداً ... على شجوه إلا الغمائم والورقا
__________
(1) كذا هو، وقد تصحف على المؤلف، فقد جاء في اللباب 1: 81 في نسبة البابي (بباءين موحدتين) ، إنها نسبة إلى قرية من قرى بخارى يقال لها بابة، وقال ياقوت: باب من قرى بخارى ثم أورد قول السمعاني بأنها بابة بالهاء.
(2) وهذا أيضاً مما نقله المؤلف مصحفاً؛ جاء عند ابن خرداذبه: 207 الباب: وهي مدينة عظيمة من مدائن فرغانة.
(3) نزهة المشتاق: 113 (يافا) ، وقارن بياقوت (يافا) ، والنسبة إليها ((اليافوني)) .
(4) انظر ياقوت (يازور) ؛ وفي ترجمة الوزير اليازوري انظر الإشارة إلى من نال الوزارة: 40.
(5) لم أعثر على هذا الاسم، وأغلب الظن أنه نصحف أيضاً.
(6) بروفنسال: 197، والترجمة: 239 (Evora) .
(7) هو عبد المجيد بن عبدون شاعر بني الأفطس (- 529) .
(8) يعتمد المؤلف هنا على إعتاب الكتاب: 224، وعن بني عشرة انظر بحثاً للصديق العالم محمد بنشريفة بمجلة البحث العلمي المغربية، 1968.(1/615)
ومنها في المدح:
حياء يغض الطرْف إلا على العلى ... وعرض كماء المزن في المزن بل أنقى
وفضل نمير الماء قد خضَّر الربى ... وعدل منير النجم قد نوَّر الأفقا
بلغنا بنعماك الأمانيَّ كلها ... فما بقيت أمنيّة غير أن تبقى وسبب مدحه له بهذه القصيدة أنه كان مستعملاً بغرناطة في الدولة اللمتونية، فحكي أنه انكسر عليه مال جليل يبلغ عشرة آلاف دينار، فقبض عليه وأشخص منكوباً إلى مراكش، فلما بلغ الموكلون به مدينة سلا وبها يومئذ بنو القاسم المعروفون ببني عشرة، رباب السماح وأرباب الأمداح، قال هذه القصيدة يمدح القاضي أبا الحسن منهم ويستجير به، وسأل إيصالها إليه، فبادر عند الوقوف عليها إلى المخاطبة بتضمن المال وتحمّله وسؤال الصفح عنه والابقاء عليه باعادته على عمله، فصدر جوابه الاسعاف والاسعاد، وعاد ابن الوكيل إلى غرناطة أنبه معاد.
الياسرية (1) :
موضع من متفرجات بغداد على نهر عيسى، كان رضوان الياسري ملازماً سكنى الياسرية، وكان كثير القول في المياه والرياض، له:
بالياسرية موقف العُشّاق ... وتراسل الأحداق بالأحداقِ
ورياض كل أخي انفساح مبهج ... ومآلف الزفرات والاحراق وكان طاهر بن الحسين حين ضيق على المخلوع نزل الياسرية فاجتهد في حصاره، ثم نزل باب الأنبار وحاصر أهل بغداد، وتمادى القتال حتى كان من قتل المخلوع ما كان.
يابسة (2) :
جزيرة تلي جزيرة ميورقة، ويقال لهذه الجزيرة ولمنورقة - بالنون - بنتا جزيرة ميورقة.
وهي جزيرة (3) حسنة كثيرة الكروم والأعناب، وبها مدينة حسنة صغيرة خضرة، وأقرب بر إليها مدينة دانية، بينهما مجرى، والمجرى مائة ميل، وفي شرقي يابسة جزيرة ميورقة بينهما مجرى.
وبجزيرة يابسة عشرة مراس، وبها أنهار جارية. وقرى كثيرة وعمائر متصلة، وأرضها تنبت الصنوبر الجيد العود للانشاء وعدد المراكب، وبها ملّاحة لا ينفد ملحها، ويتصل بها في القبلة جزيرتان بينهما وبينها مجازات تسمى الأبواب.
ياجميرى (4) :
من أرض الموصل، إليها كان ينتهي مصعب عند خروجه للقاء عبد الملك، وكانت أقصى مملكته، ولذلك قال أبو الجهم الكناني:
أبيت يا مصعب إلّا سيرا ... في كلّ عام لد يا جميرا
يبورة (5) :
مدينة بالأندلس، بينها وبين مدينة القصرين (6) مرحلتان، وهي كبيرة عامرة بالناس لها أسواق وقصبة، ومسجد جامع، وبها الخصب الكثير الذي لا يوجد لغيرها من كثرة الحنطة واللحم وسائر البقول والفواكه، وهي أحسن البلاد بقعة وأكثرها فائداً، والتجارات إليها داخلة خارجة، وبينها وبين بطليوس مرحلتان.
يتَرب (7) :
ثانيه تاء مثناة مفتوحة الراء، قرية بين اليمامة والوشم، يقال يترب أو أترب، بالهمز وأنشد (8) :
وقلن لحا الله رب العباد ... جنوب السخال إلى يتربِ
__________
(1) انظر ياقوت (الياسرية) .
(2) بروفنسال: 198، والترجمة: 240 (Ibiza) .
(3) عن الإدريسي (د) : 214.
(4) هذا مصحف، فقد أوردها ياقوت في حرف الياء ياجميري، وكذلك هي سائر المصادر، انظر الطبري 2: 59، 60، ومروج الذهب 5: 240.
(5) بروفنسال: 198، والترجمة: 241 (Evora) ، وقد جاءت ناقصة كثيراً في طبعة بروفنسال.
(6) يقترح بروفنسال أن نقرأ: مدينة القصر.
(7) معجم ما استعجم 4: 1388.
(8) البيت للنابغة الجعدي، ديوانه: 32.(1/616)
يثرب (1) :
بالثاء المثلثة، اسم جاهلي لمدينة النبي صلى الله عليه وسلم سميت بيثرب بن قانية بن مهليل بن ارم بن سام بن نوح، لأنه أول من نزلها.
ولمّا هلك هؤلاء ببعض غوائل الدهر وأقصدتهم سهامه قال بعض ولده ممن رثاهم:
عين جودي على عبيل وهل يُر ... جع ما فات فيضُها بانسجام
عمروا يثرباً وليس بها شف ... ر ولا صارخ ولا ذو سنام
غرسوا لينها بمجرى معين ... ثمّ حفوا الفسيل بالآجام وقال اله تعالى حاكياً " وَإذ قَالَت طَائِفَة مِنهم يَا أهلَ يَثرِب لَا مُقَامَ لَكم " " الأحزاب: 13 "، وقال صلى الله عليه وسلم: " تسمونها يثرب ألا وهي طيبة "، كأنه كره أن تسمى يثرب لما فيه من لفظ التثريب.
ولمّا خرج عمرو بن عامر من اليمن بسبب أنه رأى جرذاً يحفر في سدّ مأرب الذي كان يحبس عليهم الماء فيصرفونه حيث شاءوا من أرضهم، علم أنه لا بقاء للسدّ على ذلك، فعزم على النقلة من اليمن، فكاد قومه، فأمر أصغر بنيه أن يلطمه في القصة المشهورة، فتفرقوا في البلاد، فنزلت الأوس والخزرج يثرب، والخبر طويل.
قالوا: وكانت يثرب تدعى في الجاهلية غلبة، غلب عليها اليهود العماليق، وغلب الأوس الخزرج علها اليهود، وغلب المهاجرون عليها الأوس والخزرج، وغلب الأعاجم عليها المهاجرين.
يجاجين (2) :
بمقربة من سبتة، وهي مدينة جليلة مفيدة، على نهر عذب، وبها جامع وأسواق وحمّام، وهي لمصمودة.
اليحموم (3) :
جبل بالجزيرة قريب من الثرثار.
يدوغ (4) :
جبل يدوغ على مدينة بونة، وهو عالي الذروة، وفيه معادن الحديد.
اليرموك:
موضع بالشام فيه كانت الوقيعة العظمى المشهورة للمسلمين على الروم في الصدر الأول.
قالوا (5) : إن أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه لمّا بلغه كتاب عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يأمره بنزول حمص ويحذره من المتنصرة، انثنى أبو عبيدة رضي الله عنه إلى حمص فنزل بها يوم الجمعة من شوّال سنة أربع عشرة، فصالحه أهلها على أداء الجزية بعد أن قاتلهم، وبها مات عكرمة بن أبي جهل، وبعث خالداً رضي الله عنه إلى المعرّات وبلد العواصم، فصالحه أهلها على أداء الجزية، فلما بلغ هرقل افتتاح العرب لهذه البلاد، جيش الجيوش من كل ناحية، وأرسل إلى أهل رومية وأهل قسطنطينية وأهل أرمينية ومن كان على دينه من أهل الجزيرة، وبعث إلى عماله أن يحشدوا كلَّ من بلغ الحلم فما فوقه من أهل مملكته إلا الشيخ الفاني، فاجتمعوا، ووجَّه معهم من الملوك ابن قاطر وجرجير الأرمني والدرنجار وقورين ابن اخته، ومعهم الشمامسة والقسيسون والرهبان والأساقفة والبطارقة، ولم يبق في الصوامع راهب إلا نزل غضباً لدينهم، فرفعوا مائة ستين صليباً تحت كل صليب عشرة آلاف، وأمر عليهم ماهان الأرمني، وكان من أشرافهم وعظمائهم ليس فيهم أشجع منه.
فلما (6) بلغ المسلمين اجتماع جموع الروم استشار أبو عبيدة رضي الله عنه أهل الرأي، فكلهم أشار عليه بالخروج عن الشام إلا خالد بن الوليد رضي الله عنه، وتبعه على ذلك قيس بن هبيرة بن مكشوح، وكان مثله في الشدة والاقدام والشجاعة، فقال خالد لأبي عبيدة: ولِّني ما وراء بابك ودعني والأمر، فولاه أبو عبيدة أمرهم.
__________
(1) معجم ما استعجم 4: 1389.
(2) البكري: 114.
(3) ذكر ياقوت في مادة ((اليحموم)) ثلاثة مواضع بهذا الاسم ولم يذكر أن يقرب الثرثار جبلاً يقال له اليحموم والظاهر أن المؤلف هنا قاس اليحموم على الحشاك في قول الأخطل:
أمست إلى جانب الحشاة جيفته ... ورأسه دونه اليحموم والصدر (4) الإدريسي (د/ ب) : 117/ 86؛ ص ع: يدرع؛ وعند البكري: 55 أن الجبل المطل على بونه يسمى ((زعوغ)) .
(5) انظر فتوح البلدان للبلاذري: 160، والطبري 1: 2090، وفتوح الأزدي: 134.
(6) فتوح الأزدي: 168.(1/617)
فصار خالد إلى اليرموك، واجتمع به جموع المسلمين، ونزل الروم بالواقوصة على ضفّة اليرموك - وهو واد - وصار الوادي خندقَاً بينهم، وهو لِهْبٌ لا يدرك، وزحفت الروم في يوم في ضباب، وفيهم ثمانون ألف مقيد، وأربعون ألفاً في السلاسل، عشرة في سلسلة، وأربعون ألفاً مربوطون بالعمائم، وأقبلوا لهم دويّ كدويّ الرعد، فأزالوا المسلمين على الميمنة إلى ناحية القلب، وكان خالد رضي الله عنه في نحو ألف فارس، وقيل في نحو ستة آلاف، فلما رأى انكسار المسلمين واضطراب فرسان العرب، وكان إلى جنبه أكثر من مائة ألف من الروم، فاعترضهم وحمل عليهم، فما بلغتهم الحملة حتى فضَّ الله جمعهم واتبعهم من يليهم، فانكشفوا بين أيديهم كما تولي الغنم بين يدي الأسد.
وحمل عليهم (1) المسلمون من كل ناحية، فمنحهم الله تعالى أكتافهم فقتلوهم كيف شاءوا لا يمتنعون من أحد، وركب الروم بعضهم بعضاً في الضباب إلى مكان شرف على أهوية تحتهم، فأخذوا يتساقطون فيها لا يعلم آخرهم ما لقي أولهم من أجل الضباب، فكان من صبر للقتال من المقرنين يهوي به من خشعت نفسه، فيهوي الواحد بالعشرة فلا يطيقونه، فسقط فيها خلق كثير، فبعث أبو عبيدة رضي الله عنه من الغد شداد بن اوس بن ثابت ابن أخي حسَان يعدهم فلم يقدر، فقطعت القصب من الوادي وجعل على كل ألف قتيل قصبة، فإذا القتلى مائة ألف وعشرون ألفاً، فسميت تلك الأهوية حينئذ الواقوصة لأنهم وقصوا فيها، وما فطنوا بتساقطهم حتى انكشف الضباب، فأخذوا في وجه آخر، وقتل المسلمون منهم في المعركة مائة ألف وخمسة آلاف فيهم صناديدهم وفيهم أخو هرقل والتدارق والصقلار خصي هرقل، وذلك يوم الاثنين لخمس خلون من رجب سنة خمس عشرة.
وفر ماهان في من بقي من الروم إلى دمشق، فاتبعه خالد رضي الله عنه في جيشه فهزمهم وقتل منهم مقتلة عظيمة، وترجل ماهان فقتله النعمان بن علقمة الازدي، وقيل بل عاصم بن حوال اليربوعي، فقومت عدته التي خرج بها للحرب بستين ألفاً لأنها كانت مرصعة بالدر والياقوت. ولم يزل خالد رضي الله عنه يتبعهم فيقتلهم في كل واد وكل شعب وكل جبل. وكتب عمر بن الخطّاب إلى أبي عبيدة رضي الله عنهما أن يقسم الغنائم على المسلمين، فقسمها بدمشق، فأصاب الفارس أربعة وعشرون ألف مثقال من الذهب الأحمر ومثلها من الفضة، وأصاب الراجل ثمانية آلاف من كل نوع، وأعطى الفَرَس الهجين سهماً والفَرَس العربي سهمين، وألحق البراذين بالعربيات، وكانت أيام اليرموك من أشد أيام القتال، وأشدها يوم التغوير، وهو اليوم الذي أمر فيه ماهان مائة ألف رام من الأرمن أن يرموا فيه كلهم عن قوس واحدة، فرموا فغارت من المسلمين سبعمائة عين، منهم عين أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه.
وفي طريق آخر أنه لمّا تصافوا للقتال برز من صفّ العدو رجل منهم عظم الشأن عندهم، فقال أبو عبيدة رضي الله عنه: مَن يبرز إليه؟ فبرز إليه قيس بن هبيرة بن المكشوح، فطعنه فأرداه عن فرسه، فنادى أبو عبيدة رضي الله عنه في الناس: والله مما بعدها إلا النصر فاحملوا، فحمل المسلمون فكانت الدبرة على الروم، فقتل منهم سبعون ألفاً لأنهم كانوا تقيّدوا للثبوت فلم ينج منهم إلا الأقل من الثلث، ولم يقتل في وقيعة من أهل الدهر إلى وقتنا هذا أكثر من قتلى اليرموك، وقال قيس بن المكشوح:
جلبنا الخيل من صنعاء ... بكل مدجج كالليث حامي
إلى وادي القرى فديار كلب ... إلى اليرموك بالبلد الشآمي واليرموك نهر بذلك الموضع وبه سمي.
وفي التفسير أن لقمان لما وعظ ابنه بقوله عزّ وجلّ " يَا بُنيَّ إِنَّها إلا تَك مِثقَالَ حبةٍ مِن خَرْدَلٍ " الآية " لقمان: 16 " أخذ حبّة من خردل فأتى بها إلى اليرموك وألقاها في عرضه، ثم مكث ما شاء الله تعالى، ثم ذكرها فبسط يده، فأقبل ذباب فألقاها في ناحيته.
ومن امداح حسان بن ثابت لآل جفنة في الجاهلية قوله:
لمن الدار أقفرت بمعانِ ... بين أصل اليرموك فالخمان
ذاك مغنى لآل جفنة في الده ... ر محلاً لحادث الأزمان
__________
(1) فتوح الأزدي: 207، وراجع مادة ((الواقوصة)) .(1/618)
وقد تقدم في ذكر جلق قصة جبلة بن الأيهم، وذكر هذا الشعر هناك.
يلملم (1) :
جبل أو قرية على ليلتين من مكَّة من جبال تهامة، وأهله كنانة، تنحدر أوديته إلى البحر، وهو في طريق اليمن إلى مكَّة، وهو ميقات من حجَّ من هناك، وماؤها من آبار وعيون.
يلاق (2) :
من مدن النوبة، وهو بين ذراعين من النيل، وأهلها متحضرة ومعايشهم حسنة، وربما وصلت إليهم الحنطة مجلوبة، والشعير والذرة عندهم ممكنة موجوعة، وبها يجتمع تجار النوبة والحبشة، ويسافر تجار مصر إليها إذا كانوا معهم في صلح وهدنة، وأرضها تسقى بالنيل وبالنهر الذي يأتي من بلاد الحبشة، وهو نهر كبير جداً يمدّ النيل، وموقعة بمقربة من مدينة يلاق وفي الذراع المحيط بها، وعليه مزارع أهل الحبشة وكثير من مدنها، وليس في مدينة يلاق مطر ولا يقع بها غيث البتة، وكذلك في ساذر بلاد السودان من النوبة والحبشة والكانميين وغيرهم من الأمم لا يمطرون وما لهم إلا فيض النيل.
يلمقة (3) :
من مصانع اليمن التي بنتها الجن على عهد سليمان عليه السلام مثل سلحين وغمدان، لم ير الناس مثلها، هدمتها الحبشة حين غلبت على اليمن، وير هذا المصنع يلمقة باسم بلقيس بنت هداد صاحبة سليمان عليه السلام ملكة سبأ، وكان اسمها يلمقة.
يَمَن (4) :
بفتح أوله وثانيه، موضع قريب من مكة، قال ابن أبي ربيعة:
نظرت عيني إليها نظرةً ... مَهْبطَ البطحاء من بطن يَمَنْ فأمّا اليمن البلد المعروف الذي كان لسبأ فسمي يمنَاً لأنه عن يمين الكعبة، كما سمي الشام شاماً لأنه عن شمال الكعبة، والحجاز حجازاً لأنه حاجز بينهما، وقيل سمي اليمن ليمنه والشام لشؤمه، وقيل سمي اليمن يمنًا بتيمن بن قحطان.
وهذا الأخير هو مراد سديف الشاعر (5) فيما أحسب بقوله لبعض الطالبيين:
لا عز ركنا نزار يومَ نائبةٍ ... إن أسلموك ولا ركنا ذوي يمن
قوموا بدعوته ننهض بطاعتنا ... إن الخلافة فينا يا بني حسن
يمويمن (6) :
هي مدينة دكالة بين مراكش وبين البحر المحيط، حدَّث بعضهم قال: دخلت مدينة يمويمن في أيام العادل خليفة مراكش، وهي في نهاية من العمارة، والخبز ستة عشر رغيفاً بدرهم، والعلفة بنصف درهم، والدجاجة مع عشرين بيضة بنصف درهم، وكنت أتعجب من قبائل دكالة إذا وصلوا بالضيافات وعرضوا أنفسهم، ولهم الخيول الحسنة والملابس الرائقة والعُدَد المستحسنة، فما هو إلا أن رجعنا لمراكش فصار جميع ذلك للضّد باستيلاء عرب الخلط على بلادهم حتى تركوها خراباً، وافتضوا الأبكار وهتكوا الأستار وعظمت الشناعة، فانتقى العادل عسكراً ثانياً كان زيادة في السلب، فخرج العسكر إلى محاربة العرب وهسكورة، عليه أبو إسحاق ابن إسماعيل بن أبي حفص، وهو الذي تقدمت ولايته على إفريقية، وعندما التقى الفريقان انهزم العسكر المراكشي وقتل أميره أبو إسحاق وأكابر فرسانه ولم يخلص إلا القليل ممن كان على فرس سابق.
اليمامة (7) :
مدينة متصلة بأرض عُمان من جهة المغرب مع الشمال، كان اسمها جوّاً، وسميت اليمامة بامرأة، وهي الزرقاء، زرقاء اليمامة، وهي المشهورة في الجاهلية بجودة النظر وصحة إدراك البصر، وهي التي يقول فيها النابغة (8) :
__________
(1) معجم ما استعجم 4: 1398، وانظر البكري (مخ) : 70.
(2) الإدريسي (د/ ب) : 20/ 13 (OG: 38) يلاق - بالياء الموحدة -، وابن الوردي: 36 وكتب الياء) وذكرها في الترجمانة: 481 يلاق - بالياء الثناة -، وهو في الأغلب يتابع الروض المعطار.
(3) معجم ما استعجم 4: 1398.
(4) معجم ما استعجم 4: 1401.
(5) سديف بن ميمون مولى بني هاشم شاعر مقل من شعراء الحجاز ومن مخضرمي الدولتين، كان شديد التعصب لبني هاشم، وله في التحريض على بني أمية أشعار (الأغاني 16: 86) .
(6) لم أجد لها ذكراً في المصادر، ولا أقطع بصحة رسمها.
(7) انظر البكري (مخ) : 70.
(8) ديوانه: 14.(1/619)
احكم كحكم فتاة الحيِّ إذ نظرت ... إلى حمامً شراعً واردِ الثمد الأبيات، وفيها يقول الأعشى (1) :
قالت أرى رجلاً في كفه كتف ... أو يخصف النعل لهفي أيَّةً صنعا
فكذبوها بما قالت فصبحهم ... ذو آل حسان يزجي الموت والشرعا ومدينتهم المشهورة الخضرمة (2) وهي مدينة عامرة فيها مزارع ونخل كثير أكثر من بلاد الحجاز.
قالوا (3) : وبأرض اليمامة نوع من الحيات سمي العربد لا يوجد في غيرها وقد جهد حنين بن إسحاق أن يجلبه إلى المتوكل بسرّ من رأى حين كلف مثل هذا من الأعاجيب فلم يستطع، وذلك لأنه إذا خرج به عن اليمامة إلى موضع معروف المسافة عدم من الوعاء، أهل اليمامة ينتفعون به لمنع الحيات والعقارب وسائر الهوام كانتفاع أهل سجستان بالقنافذ، وفي عهد سجستان بالقنافذ ألا تقتل قنفذة ببلدهم لأنه بلد كثير الرمل بناه ذو القرنين في مطافه وهو كثير الأفاعي والحيات، ولولا كثرة القنافذ لتلف مَن هناك. وقد جلب حنين إلى المتوكل اثنين من النسناس، إلى سائر المستغربات، ولم يقدر على الحيات.
وذكر الجاحظ أن اليمامة كانت من بنات لقمان بن عاد.
وفتحت اليمامة صلحاً في سنة اثنتي عشرة في خلافة الصديق رضي الله عنه، على يد خالد بن الوليد رضي الله عنه، بعد أن قتل مسيلمة الكذَّاب ودجّال بني حنيفة.
قالوا (4) : لمّا قدمت وفود العرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقدم وفدٌ أسوأ قلوباً ولا أحرى أن يكون الإسلام لم يقر فيهم من بني حنيفة، وذكر مسيلمة لرسول الله: فقال: " اما أنه ليس بشرَكم مكاناً "، لما كانوا أخبروه من أنهم تركوه في رحالهم حافظاً لها، وكان قال عندما قدم في قومه: لو جعل لي محمد الخلافة من بعده لاتبعته، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: " لئن أقبلت ليفعلنَّ الله بك، ولئن أدبرت ليقطعنَّ الله دابرك، وما أراك إلا الذي رأيت فيه ما رأيت "؟ وكان صلى الله عليه وسلم قال: " بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب فنفختهما فطارا، فوقع أحدهما باليمامة والآخر باليمن "، قيل: ما أولتهما يا رسول الله؟ قال: " أولتهما كذّابين يخرجان من بعدي ".
فلما انصرف في قومه إلى اليمامة ارتدّ عدوّ الله وادعى الشركة في النبوّة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقال للوفد الذين كانوا معه: ألم يقل لكم حين ذكرتموني: أما إنه ليس بشركم مكاناً، ما ذاك إلا لما علم أني أشركت في الأمر معه؟ وجدَّ له ضلاله بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصفقت معه بنو حنيفة على ذلك، إلا أفذاذاً (5) من ذوي عقولهم.
فوجَّه (6) الصدّيق رضي الله عنه إليه خالداً رضي الله عنه، وكتب إليه: أمّا بعد، فقد جاءني كتابك مع رسولك تذكر ما أظفرك الله بأهل بزاخة وما فعلت بأسد وغطفان، وإنك سائر إلى اليمامة، وذلك عهدي إليك، فاتق الله وحده لا شريك له، وعليك بالرفق بمن معك من المسلمين، كن لهم كالوالد، وإياك يا خالد بن الوليد ونخوة بني المغيرة فاني عصيت فيك من لم أعصه في شيء قط، فانظر بني حنيفة إذا لقيتهم إن شاء الله، فإنك لم تلق قوماً يشبهون بني حنيفة، كلهم عليك ولهم بلاد واسعة، فإذا قدمتَ فباشر الأمر بنفسك، واجعل على ميمنتك رجلاً، وعلى ميسرتك رجلاً، واجعل على خيلك رجلاً، واستشر مَن معك من أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، واعرف لهم فضلهم، فإذا لقيت القوم وهم على صفوفهم فالقهم إن شاء الله وقد أعددت للأمور أقرانها، فالسهم للسهم، والرمح للرمح، والسيف للسيف، فإذا صرت إلى السيف فهو الثكل، فإن أظفرك الله بهم فاياك والابقاء عليهم، أجهز على جريحهم واطلب مُدْبرهم، واحمل أسيرهم على السيف، وهوّل فيهم القتل (7) وأحرقهم بالنار، وإياك أن تخالف أمري، والسلام.
__________
(1) ديوان الأعشى: 83.
(2) انظر ياقوت: (الخضرمة) .
(3) نزهة المشتاق: 55، وقد مر هذا في مادة (عمان) .
(4) هذه المادة المتعلقة بردة أهل اليمامة جميعها عن الاكتفاء (تاريخ الردة) : 56 وما بعدها.
(5) الاكتفاء: أفراداً.
(6) المصدر السابق: 64.
(7) الاكتفاء: وهولهم، وهو تغيير للأصل المطابق لما هنا.(1/620)
ومضى خالد (1) رضي الله عنه حتى نزل منزله باليمامة في بعض أوديتها، وخرج الناس مع مسيلمة، ورتب خالد صفوفه، ثم وضع فسطاطه واضطجع عليه، وسلَّتْ بنو حنيفة السيوف فقال خالد رضي الله عنه: يا معشر المسلمين أبشروا فقد كفاكم الله عدوّكم، ما سلوا السيوف من بعيد إلا ليرهِبونا، وان هذا منهم لجبنٌ وفشل، فقال له مجاعة - وكان أسيراً عنده -: كلا والله يا أبا سليمان، ولكنها الهندوانية خشوا من تحطمها، وهي غداة باردة، فابرزوها للشمس لأن تسخن متونها، فلما دنوا من المسلمين نادوا: إنا نعتذر من سلّنا سيوفنا حين سللناها، والله ما سللناها ترهيباً لكم ولا جُبْناً عنكم، ولكها الهندوانيّة، وكانت غداة باردة فخشينا تحطمها، فأردنا أن تسخن متونها إلى أن نلقاكم، فسترون. قال: فاقتتلوا قتالاً شديداً، وصبر الفريقان جميعاً صبراً طويلاً حتى كثرت القتلى والجراح في الفريقين، واستلحم من المسلمين حملة القرآن حتى فنوا إلا قليلاً، وهزم كِلا الفريقين حتى دخل المسلمون عسكر المشركين والمشركون عسكر المسلمين مراراً، وقُتِل أصحاب الرايات، ومكثتِ الراية ساعة لا يرفعها أحد، فحملها يزيد بن قيس، وكان بدرياً، حتى قُتِل وهُزم المسلمون ثلاث مرات، وفي الرابعة تاب الله عليهم وثبَّت أقدامهم وصبروا لوقع السيوف، واختلف بينهم وبين بني حنيفة السيوف حتى رئيت شهب النار تخرج من خلالها، وسمع لها أصوات كالأجراس، وأنزل الله نصره وهزم بني حنيفة، وقتل الله مسيلمة، والقصة أطول من هذا (2) .
وكانت طسم وجديس نزلوا البحرين واليمامة، فمكثوا برهة وبلادهم أفضل البلاد وأكثرها خيراً وحدائق ملتفة وقصور مصطفّة، إلى أن غمصوا الحقَّ وانتهكوا الحرمة، فبدَّل الله نعمتهم وتقاتلوا ففنوا.
وقيل إن تبعاً الأخير خرج بجيش عظيم فعدموا الماء، وعطش الجيش، فحفر كل أحد منهم قبره وهو حي من شدة العطش، فمرَّت بهم يمامة فقال لهم تبع: اتبعوها فإنها إنما ترد الماء، فاتبعوها فأصابوها نازلة على نهر، وهو الفرات، فنزلوا عليه فشربوا واستقوا.
الينبع (3) :
على تسعة برد من المدينة في طريق مكة.
قالوا: ومِنَ الجار إلى الينبع، وهو الوادي الذي فيه ضياع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أربعون ميلاً.
ومنها أبو دلف الخزرجي الينبعي، ذكره الثعابي في " اليتيمة " (4) وكان شاعراً متشيعاً، وهو القائل:
دارَ السلام هنيئا ... بدعوة ابن الرسولِ
جاء النهار ووَّلى ... ظلام تلك الذحول
ما إنْ رأيتُ حصاناً ... حماله في النصول قال ذلك للبساسيري القائُم بدعوة المستنصر العبيدي خليفة مصر، وذلك سنة خمسين وأربعمائة.
ينبوان (5) :
هو جبل قريب من البحر المحيط، وهو من أعلى جبال الأرض، أجرد أبيض التربة، لا ينبت فيه إلا الشيح والغاسول، وهو الحرض، ومن علو هذا الجبل في الهواء أن السحاب تمطر المطر دونه ولا يصيب رأسه.
ويلي هذه الأرض التي عندها هذا الجبل، الصحراء (6) التي يدخل المسافرون منها إلى أودغست وغانة وغيرهما من البلاد، وهذه الصحراء قليلة الإنس لا عامر بها، وبها الماء القليل، ويتزودونه من مجابات معلومة. وفي هذه الصحراء حيات كثيرة طويلة القدود غليظة الأجسام، والسودان يصيدونها ويقطعون رؤوسها ويرمون بها ويطبخونها بالماء والملح والشيح ويأكلونها، وهي عندهم أطيب طعام يأكلونه، وهذه الصحراء يسلكها المسافرون في زمن الخريف، فيوقرون أجمالهم في السَّحَر الأخير، ويمشون إلى أن تطلع الشمس فيحطون أحمالهم (7) ويقيدّونها، ويفرشون أمتعتهم ويخيمون على أنفسهم ظلالاً تكنّهم من حرّ الهجير وحموم القائلة، ويقيمون كذلك إلى أول وقت العصر وحين تأخذ الشمس في الميل والانحطاط في جهة المغرب، فيرحلون من هنالك ويمشون بقية
__________
(1) باختصار عن الاكتفاء: 75، 77، 79 - 80.
(2) إلى هنا انتهى النقل عن الاكتفاء.
(3) رحلة الناصري: 216 (الينبوع) .
(4) اليتيمة 3: 356 وهو مسعر بن مهلهل صاحب القصيدة الساسانية، وله رسالة في الجغرافيا والمعادن، وراجع مادة ((عانات)) .
(5) الإدريسي (د/ ب) : 30/ 18 بنيوان (بالياء الموحدة) وقد تصحف عند المؤلف لأنه ورد في بعض أصول الإدريسي بالياء؛ وانظر OG: 106.
(6) ص ع: في الصحراء؛ وهي تسمى ((نيسر)) .
(7) زيادة من الإدريسي.(1/621)
يومهم ويصلون المشي إلى وقت العتمة، ويبيتون بقية ليلتهم إلى وقت الفجر الأخير، ثم يرحلون، وهكذا سير (1) التجار الداخلين إلى بلاد السودان، لأن الشمس تقتل بحرّها من يعرض للمشي في القائلة عند شدة القيظ وحرارة الأرض.
ينشته (2)
حصن من حصون الملح على مرحلتين من جنجالة التي تعمل فيها البُسُط، منها أبو العباس الينشتي (3) صاحب سبتة، كان قيامه فيها سنة ثلاثين وستمائة وتلقب بالموفق، وما زال أمره مستقيما برّاً وبحراً يخاف ويرجى ويمدح ويقصد وتخاطبه الملوك من البلاد، إلى أن اغتر بصحبة إبراهيم بن مسعود الكومي من جهة الزهد واطراح الدنيا، فكان إذا ورد سبتة يكرمه وينزله معه، ويصنع له السّماع، ويتبرك به ويستريح إليه، وهو في أثناء ذلك يعلم القلوب المائلة عنه ويبحث عن النفوس المتغيرة عليه ويتأمل الأماكن التي يدخل منها إلى إفساد دولته وإعادة دولة بني عبد المؤمن، حتى اطلع من ذلك على المطلب وظفر بالغرض، ولم يشعر الينشتي المغتر بزهده، ومهلهل ودّه، حتى نثر عليه سلكه، وابتزَّ منه ملكه فصبّحه مثل راغية البكر، وجاء مع جيش من قبل صاحب مراكش الرشيد عبد الواحد، فخرج جنده القليل ورجاله وعامة أهل سبتة، فحمل عليهم الجيش المراكشي حملة فقد فيها من السبتيين نحو ستمائة وتخاذل الباقون، فملك عليهم البلد، واستخفى الأهل والولد، وألقى الينشتي بيده، فخلع نفسه، وقيّد مع جماعة من أهل سبتة خيف من كل واحد منهم الوثوب على مثل ما وثب عليه الينشتي، وكان له ولدان، فاختفى الأكبر محمد وجرت عليه خطوب في خلوصه إلى البحر ثم حبسه ببجاية ووصوله إلى الاسكندريّة ولحوقه باليمن، والولد الأصغر حين سار مع أبيه، فيقال إن وبأ جارفاً كان بحضرة مراكش أهلك الجميع من الغرباء المذكورين، وقيل إن الوالد والولد هلكا بشربة لبن، واستمرت بسبتة دولة الرشيد عبد الواحد، وتردَّدتْ عليها ولاته إلى آخر أيامه. وكان أبو العباس هذا سلك مسلك الأدباء وتغرب ووصل إلى بغداد، وكان موصوفاً في أيامه بحسن المجالسة وإكرام الوافدين والاصغاء للمادحين، وكان بذله على مقدار ما يحتمله بلده، أخبر من حضر مجلسه أن أديباً من الأندلس أخذ يحكي من حكايات البرامكة وأمثالها ما استقله، فقال: يا أهل الأندلس لا تحكوا لنا من الحكايات إلا ما يسعه بلدنا. وجيء إليه بشخص من أهل مراكش، سمع وهو يقول - وقد رآه على فرس عتيق وعليه ثياب ملوكية وغفارة كحلاء، وبين يديه العبيد بالرماح، وبجانبه الحُجّاب: ذا العار ابن العار يريد أن يحكي بني عبد المؤمن، فما زاده على أن قال له: العار ابن العار من لا يحكي بني عبد المؤمن، ثم خلى سبيله، فلم يصبح المراكشي إلا في طريق مراكش خوف أن يُتَعَقَّبَ في رأيه. وكان من جهة أخرى في نهاية من الغيرة على الملك، بلغه أن طلحة بن الشرقي من أكابر دولة بني عبد المؤمن قد قال: لو كان في سبتة رجل ما ملكها هذا، وأشار إليه، فاحضره وقال: زعمت أن ما في سبتة رجل، وأنا أكذبك، احملوه وغرقوه في اللجة، فحمل في زورق وغرق.
اليهودية (4)
إحدى مدن أصبهان، وهي اثنتا عشرة مدينة بعضها قريب من بعض، والمتميزة منها بالسمة المشهورة جيّ وشهرستانة (5) واليهودية.
وفي سنة تسع عشرة وستمائة (6) نزل الططر على أصبهان، وقاسوا عليها زحوفاً لم يقاسوها على غيرها من بلاد الإسلام، إلى أن نشأ بين رئيس الشفعوية فيها وبين رئيس الحنفية فتنة، فقتل الشفعويّ الحنفي، وسما ابن الحنفي لطلب الثأر، فسار إلى الططر، وضمن لهم أن الحنفية معه، فأرسلوا معه جمعاً عظيماً، فكان ذلك سبباً لأن غلبوا عليها.
__________
(1) الادريسي: سفر.
(2) بروفنسال: 198، والترجمة: 241 (Iniesta) ، وهذه المادة شديدة الاضطراب عنده، لوجود تقطيع في الأصل الذي ينقل عنه.
(3) قد مر التعريف بالينشتي في مادة (بليونش) .
(4) انظر نزهة المشتاق: 204، وياقوت (اليهودية) .
(5) ياقوت: شهرستان.
(6) راجع مادة " أصبهان ".(1/622)
آخر الكتاب المسمى بالروض المعطار في خبر الأقطار للشيخ الفقيه العدل أبي عبد الله محمد بن أبي عبد الله محمد بن أبي عبد الله بن عبد المنعم بن عبد النور الحِميري رحمه الله.
تم هذا الكتاب المبارك على يد الفقير المحتاج إلى عفو اللطيف الخبير محمد ابن محمد بن زين الدين الجيزي الشافعي القباني غفر الله له ولوالديه ولمشايخه ولجميع المسلمين آمين.
وكان الفراغ من تعليقه في عصر اليوم الثاني من ثاني الثاني من ثامن أول تاسع العاشر من الهجرة النبوية، المطهرة السنية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وأزكى التحية.(1/623)