بسم الله الرحمن الرحيم وما توفيقي إلا بالله قال العبد الفقير إلى رحمة الله تعالى , سعد بن منصور بن الحسن بن هبة الله بن كمونة - عفا الله عنه , وأعفاه , على مراضيه - : أحمد الله تعالى حمدا يقرب إلى جنابه الكريم , ويوجب المزيد من فضله وإحسانه , واستغفره استغفارا يؤمن من عقابه الأليم , ويخلد في الفردوس الأعلى من جنانه , وأسأله الهداية من صراط المستقيم , بإلهام الحق , وإنارة برهانه , وأن يصلي على من بالملأ الأعلى , الحافين من حول العرش العظيم , وعلى المصطفين , لإظهار التوحيد إعلانة . وبعد : فقد اتفق أرباب العقائد العقلية , والديانات النقلية : أن الإيمان بالله , واليوم الآخر , وعمل الصالحات , هو غاية الكلمات الإنسانية . وبدونه لا يفوز الإنسان بالسعادة السرمدية , ولا ينجو من الشقاوة الأخروية . ومن الظاهر أن ذلك لا يتم تحصيله على الوجوه اليقينية لا الظنية , وبالطرق البرهانية لا التقليدية , إلا بعلم الحكمة الذي هو استكمال النفس الإنسانية بتحصيل التصورات والتصديقات , بالحقائق النظرية والعملية , وعلى حسب الطاقة البشرية .
____________________
(1/145)
وبالطرق البرهانية لا التقليدية , إلا بعلم الحكمة الذي هو استكمال النفس الإنسانية بتحصيل التصورات والتصديقات , بالحقائق النظرية والعلمية , وعلى حسب الطاقة البشرية . وبهذا انقطع عذر من لم يرغب في تحصيله , ولم يدأب في تمهيد قواعده وأصوله . فإن مكذب أهل الحكمة والتنزيل , مع عدم المستند والدليل , لا يعد من أهل العقل والتحصيل . ويجب على المتردد العمل بالأحوط , وعلى المصدق ألا يضل على علم عن سواء السبيل . ولما كان الأمير الكبير الفاضل العالم العادل , عز الدين فخر الإسلام والمسلمين , معتمد الدولة , فخر الملك , مفتخر العراقين , دولة شاه بن الأمير الكبير , سيف الدين سنجر الصاحبي , بلغهما الله مبتغاهما , وأدام أيامهما ) . ممن اطلع على شرف هذا العلم , بالمعيته الثاقبة , وآرائه الصائبة , التمس مني تصنيف كتاب فيه ترسمه , فعملت هذا الكتاب في أثناء ما قد الجئت إليه , من ملابسة الأمور الدنية , والشواغل الدنيوية , مشتملا - مع اختصاره - على مهمات المطالب , وأمهات المسائل , متضمنا - مع
____________________
(1/146)
الزيادات التي من قبلي - لخلاصة أفكار الأواخر , والباب حكمة الأوائل , خاليا عما يقصر عن إفادة اليقين , من الحجج والدلائل , عاريا عن تحقيق مالا يجدي تحقيقه بظائل . فلا تجد في هذا الكتاب , إلا ما ينتفع به , في العلم بالله تعالى , وتوحيده , وتنزيهه , وصفات جلاله , وعجائب مخلوقاته الدالة على : كبريائه وعظمته , وبيان جوده وعنايته . وفي إثبات الملائكة السماوية , والنفوس الأرضية , وإدراكاتها , وآثارها , وبقائها بعد خراب البدن , وأبديتها , وتزكيتها , وما يعصمهما من الخطأ والخذلان . ( وفي ) خصائص النبوة , والولاية , وحاد المعاد , والنشأة الثانية . وبالجملة هو مشتمل على ما يعصم من الضلال , ومزلة أقدام الجهال , ويسعد النفس في المال , بما تحلت به من الكمال . وأقول - مع اعترافي بتقصيري , وقلة بضاعتي من العلم - : أنه لا يعرف محل هذا الكتاب , إلا المحقق , الذي طال نظره في الكتب السابقة عليه . وقد جعلته سبعة أبواب , في كل باب منها سبعة فصول . ومن الله أستمد العصمة , وأصابة الصواب , والرحمة , وجزيل الثواب , إنه الغفور الوهاب .
____________________
(1/147)
فراغ
____________________
(1/148)
الباب الأول في آلة النظر المسماة بالمنطق
____________________
(1/149)
فراغ
____________________
(1/150)
الفصل الأول في ماهية المنطق , ومفعته , وأمور ينتفع بهاغ توطئة . المنطق : قانون يعلم به صحيح الفكر وفاسده . ونسبته إلى الرواية نسبة العروض إلى الشعر , والإيقاع إلى أزمنة الألحان . ويستغني عنهما بفطرته كثير من الناس . ولا يكاد يستغنى عن هذا القانون إلا المؤيدون بهداية ربانية , وقليل ما هم , لكن الذين لا يهتدون بهذا القانون , لبلادتهم , كثيرون . والمراد بالفكرة ههنا , توجه الذهن نحو مبادي المطالب , ليتأدى من تلك المبادئ إليها . فتلك المبادئ تجري من الفكر مجرى المادة , والهيئة الحاصة من ترتيبها تجري مجرى الصورة ولا بد في صلاح الفكر , أي في كونه مؤديا إلى المطلوب . من صلاحيهما معا , ويكفي في فساده فساد أحدهما .
____________________
(1/151)
والمبادىء : اما تصورية , أو تصديقية , فان حضور شيء ما عند الذهن يسمى تصورا , وهو نفس الادراك . وما يلحقه لحوقا يجعله محتملا للتصديق أو التكذيب , يسمى تصديقا , هو الحكم بمتصور على متصور . ولا يطلب في العلوم سواهما . ولما انحصر المعلوم في معلوم التصور , ومعلوم التصديق , فالمجهول منحصر في مجهولهما . ويسمى الفكر الموصل إلى التصور قولاً شارحاً , والفكر الموصل إلى التصديق حجة . فقصارى أمر المنطقي , أن ينظر في مبادىء كل من القولين , وكيفية تأليفه على الوجه الكلي القانوني , لا بالنظر إلى المواد المخصوصة بالمطالب الجزئية . ويجب عليه أن ينظر في الألفاظ , من حيث هو : معلم للمنطق , أو متعلم له , للعلاقة الوضعية بين اللفظ والمعنى , لا من حيث هو منطقي فقط . وعلم المنطق بعضه على سبيل التذكير والتنبيه , وبعضه على سبيل العلم المتسق , الذي لا يقع فيه غلط . وهو قانون للبعض الذي بخلافه , وإلا لافتقر المنطق فيما يستنبط منه بالفكر إلى منطق آخر , وليس كذا . ولا بد من انتهاء المبادىء إلى تصورات وتصديقات بديهيتين , وإلا لاكتسب المجهول بالمجهول , وهو محال , ولا تصديق إلا على تصورين فصاعداً .
____________________
(1/152)
ويكفي في ذلك التصور بوجه ما فقط , حتى ان تصورنا من المجهول مطلقا كونه مجهولا مطلقا , كاف في حكمنا عليه بامتناع الحكم عليه , أي في حال لا يكون متصورا منه إلا هذا القدر . ومدلول اللفظ الذي دلالته وضعية , ان كانت على المعنى الذي وضع له , لأجل وضعه له , فهي المطابقة , كدلالة البيت على مجموع الجدار والسقف , وإلا فمدلوله ان كان جزءاً مما وضع له فهي تضمن , كدلالة البيت على الجدار . وإن كان خارجاً عنه فهي التزام , كدلالة السقف على الحائط . واللفظ الواحد يدل على المعنى الواحد الحاصل في كثيرين بالسواء بالتواطؤ , كالحيوان على جزئياته , ولا على السواء بالتشكيك , كالموجود على الجوهر والعرض , ويدل على معانيه المختلفة بالاشتراك , كالعين على الباصرة وغيرها , وهذه قد يعمها الوضع , وقد يخص بعضها , ويلحق غيره به , لشبه , أو نقل . والألفاظ الكثيرة تدل على المعنى الواحد بالترادف , كالخمر والقمار , وعلى المعاني الكثيرة بالتباين , كالسماء والأرض . واللفظ إن لم يقصد بشيء من أجزائه المترتبة المسموعة الدلالة فيه على شيء من أجزاء معناه , فهو المفرد , كزيد وعبد الله , وإلا فهو المركب , ويسمى قولاً كالحيوان الناطق . واحترزنا بالمرتبة المسموعة عن مثل صيغة الفعل الدالة على زمانه , وجوهره الدال على الحدث , فإن كلاً منهما جزؤه , ولكن غير مترتب ولا مسموع . والمفرد إن استقل بالإخبار به أو عليه , فإن دل على معنى , وعلى زمانه المحصل من الثلاثة - احترازاً بالمحصل عن مثل الزمان في المتقدم المتصرف إلى تقدم ومتقدم - فهو الكلمة , ' كمشى ' وإلا فهو الاسم , ' كالإنسان ' وإن لم يستقل بذلك فهو الأداة ك ' في و ' هو ' كان ' الناقصة .
____________________
(1/153)
وما منح مفهومه من وقوع الشركة فيه فهو جزئي , ' كزيد ' , المشار إليه , وما لم يمنح مفهومه ذلك , فهو كلي وقعت الشركة فيه , ' كالإنسان ' , أو لم تقع لمانع غير نفس المفهوم , ' كالشمس ' , والموصوف وصفاته إذا حكم ببعضه على البعض , كيف كان , ' كالإنسان ضاحك ' أو ' الضاحك إنسان ' أو ' كاتب ' , فالمحكوم عليه موضوع , والمحكوم به محمول بالمواطأة , بخلاف ما مثل ' الضحك ' , و ' الكتابة ' لأنها لا تحمل إلا باشتقاق , ك ' الضاحك ' أو بأداة نسبية , ك ' ذي ضحك ' . والمحمول إن كان داخلاً في ماهية موضوعه , ك ' الحيوان ' في الإنسان , أو نفس ماهيته ك ' الإنسان ' ل ' زيد ' , إذ ' زيد ' عبارة عن إنسان متخصص بعوارض , لا عن المجموع من الإنسان وتلك العوارض , فهو ذاتي , وإن كان خارجاً عنها فهو عرضي , اما لازم وهو الدائم الصحبة لها مع العلم بوجه وجوب تلك الصحبة , كذي الزوايا الثلاث للمثلث , إن كان بينا , أو لمساوي الزوايا بالقائمتين له , ان كان غير بين , يلحق بتوسط غيره , وإما مفارق , وهو ما لا يكون كذلك . وإن جاز دوام صحبته لها , اما بمفارقة سريعة , ككون زيد قائماً , أو بطئيه ، ككونه شاباً . وما أخذ من العرضيات من حيث يختص بماهية واحدة , فهو خاصة , كالضحك للإنسان , سواء ساوته كهذه المثال , أو كانت لبعضه فقط , كالكاتب بالفعل له , وما أخذ منها حيث يشمل ماهية وغيرها , فهو عرض عام , كالماشي للإنسان , لا للحيوان , لاختصاصه به . والمسئول بما هو : ان كان حقيقة واحدة , كالإنسان , فالجواب مجموع
____________________
(1/154)
ذاتياتها , كالحيوان الناطق . وإن كان فوق واحدة , فإن اختلفت حقائقها كالإنسان والفرس والطير . فمجموع الذاتيات المشتركة بينها كالحيوان وحدة , وهو جنس كل واحد منهما , وهي الأنواع بالإضافة إليه , وإن اتفقت حقائقها كزيد وخالد , المختلفين بالعدد فقط , فبالحقيقة المشتركة حالتي الشركة والخصوصية , كالإنسان , وهو نوع حقيقي , لتلك الكثرة , ومعناه غير معنى النوع الإضافي وقد تصدقان على ماهية واحد , كهذا المثال , وقد يصدق كل منهما على ما لم يصدق عليه الآخر , كالبسائط التي هي أنواع حقيقية فقط . والأنواع المتوسطة التي هي إضافية فقط , إلا إذا اعتبرت بالنسبة إلى ما اشترك فيه ما تحتها دون المخصصات , وقد تتصاعد الأجناس إلى ما لا جنس فوقه , وهو العالي , وجنس الأجناس , وتتنازل الأنواع الإضافية إلى ما ليس تحته إلا الأصناف والأشخاص , وهو الأنواع . والمتوسطات أجناس لما تحتها , وأنواع لما فوقها ف وخصوصية كل نوع هو فصله المقوم , كالناطق للإنسان , ويقال في جواب أي ما هو في ذاته , وكل شيئين إن صدق أحدهما على كل ما صدق عليه الآخر . فأما مع العكس , وهو المساوي , كالإنسان / والضاحك , أولاً مع العكس , فالأول أعم مطلقاً , والآخر أخص مطلقاً , كالحيوان الأعم , والإنسان الأخص , وإن لم يصدق أحدهما على ما صدق عليه الآخر . فإن صدق على بعضه , فبينهما عموم وخصوص من وجه , كالإنسان والأبيض وإلا فهما متباينان , كالإنسان والفرس , والموجود والمعدوم .
____________________
(1/155)
ولا تزيد المحمولات المفردة على الخمسة التي هي : الجنس والنوع الحقيقي والفصل والخاصة والعرض العام , لأنها إما ذاتية أو عرضية . والذاتية إما صالحة لأن تقال في جواب ما هو , أو غير صالحة , والصالحة إما على مختلفات الحقائق , وهي الجنس أولاً على مختلفاتها , وهي النوع الحقيقي , وغير الصالحة لذلك إما غير مشتركة , أو ليست تمام المشتركة , بل جزؤه المساوي له , إذ الجزء في الجملة لا يكون أخص مطلقاً , ولا من وجه , ولا مبايناً , لأنه كلما صدق الكل صدق الجزء , فانتفت هذه الثلاث . وفي هذا الموضع لا يكون أعم مطلقاً وإلا لكان تمام مشترك بين ما هية ما وغيرها , وهو خلاف الغرض , فتعين أنه مساو , وعلى تقدير أنها ليست تمام المشترك , أو هي بعضه المساوي , فهي صالحة به , للتمييز , فيكون فصلاً . والعرضية إن اعتبر عروضها للماهية الواحدة فهي خاصة , وإلا فهي عرض عام . وكل واحد من هذه الخمسة إنما هو ذلك الواحد بالإضافة , فقد يصدق على واحد عدة منها , كاللون فإنه جنس للسواد والبياض , ونوع للكيف وخاصة للجسم , وعرض عام للإنسان , ومعروض كل واحد منها يسمى بالطبيعي , وعارضة بالمنطقى , ومجموعهما بالعقلى . فالحيوان جنس طبيعي , والجنسية العارضة له جنس منطقي , والحيوان مع الجنسية جنس عقلي , وكذا قياس باقيها .
____________________
(1/156)
الفصل الثاني في اكتساب التصورات التصور إما تام , وهو الإحاطة بكنه حقيقة المتصور , وإما ناقص , وهو تمييزه عما عداه , من غير تلك الإحاطة . والقول الشارح الموصل إلى التصور التام يسمى حداً تاماً , ولا بد وأن يشمل على ذاتيات المحدود أجمع , فيكون مركباً من جنسه وفصله , إن كان تركيبه منهما , إذ الجنس يتضمن جميع الذاتيات المشتركة , والفصل يتضمن جميع الذاتيات المميزة إن كان لذلك الجنس والفصل تركب , وكما أن اتحاد الشيء في الخارج لا يتم إلا باتحاد جميع أجزائه . فإيجاده في الذهن الذي هو تصوره , لا يتم إلا بإيجاد جميع ذاتياته فيه , ومتى لم يكن كل واحد من ذاتيات المحدود متصوراً بالتصور التام , لم يتم الحد , إذ لا يتصور به كنه حقيقة الشيء . وحد الحد هو أنه القول الدال بالمطابقة على ماهية الشيء . وظن أن جميع ذاتيات الشيء نفس ذلك الشيء , فيكون التعريف بها تعريف الشيء بنفسه , وليس كذا . فإن الأشياء التي كل واحد منها متقدم على شيء ، يمتنع كونها نفس ذلك الشيء المتأخر عنها , بل هي تصير عند الاجتماع ماهية هي المتأخرة , فتحصل معرفتها بها , فالعلم بالجنس وبالفصل بالتركيب التقييدي متقدم على العلم بالجنس المقيد بالفصل , والفرق بين مجموع الشيء وبين أجزائه بأسرها , أن المجموع هو اعتبار ما يقع فيه التأليف مع التأليف , والأجزاء بأسرها هي التأليف من غير التفات إلى التأليف .
____________________
(1/157)
ويجب تقديم الجنس على الفصل في الحد , لأن الجنس يدل على شيء مبهم يحصلة الفصل , وإذا عكس هذا الترتيب اختل الجزء الصوري من ذلك الحد , فلا يشتمل على جميع الأجزاء . والحد إما بحسب الماهية في نفس الأمر , وهو صعب لجواز الإخلال بذاتي لم يطلع عليه , ولوقوع كثير من الأغاليط الحدية فيه . وإما بحسب المفهوم فلا يتأتى فيه ذلك , إذ هو مجرى العناية . وإذا عنينا بالإنسان , الحيوان المنتصب القامة , الضاحك بالطبع , فكل واحد من هذه ذاتي بحسب المفهوم , ولا يسوغ الزيادة عليها , والنقصان منها , عند استعادة حد الإنسان مثلاً , وإلا لكان المحدود أولا لا غير المحدود ثانياً . ويجب ألا تغفل عن هذا القانون في الحد المفهومي . وأما الموصل إلى التصور الناقص , فمنه الحد الناقص , وهو ما أخل فيه ببعض الذاتيات , كتعريف الإنسان بأنه الجسم الناطق , فأخل بفصل جنسه الذي هو الحيوان , أو بأنه الناطق , فأخل بجنسه جملة . ومنه الرسم , أما التام , وهو ما يميز الشيء عن جميع ما عداه . وأما الناقص وهو ما يميزه عن بعض ما عداه . وأجود الرسوم ما يوضع فيه الجنس أولاً , ليقيد ذات الشيء , فإن الفصول والخواص واللوازم , لا تدل بالمطابقة إلا على شيء ما يستلزمها , أو يختص بها . فأما ذلك الشيء فلا يدل عليه إلا بالالتزام . ودلالة الالتزام غير مضبوطة , فقد ينقل العقل بالالتزام إلى الشيء وإلى جزئه , وإلى خاصة أخرى له , فإذا
____________________
(1/158)
وضع الجنس دل على أصل الذات المرسومة , ويتم التعريف بإيراد اللوازم والخواص , كما يقال للإنسان أنه حيوان مشاء على قدميه , عريض الأظفار , ضحاك بالطبع , ويقال للمثلث أنه الشكل الذي / له ثلاث زوايا . وإذا استقصى في ذكر الخواص واللوازم , فإن العقل حينئذ يطلب لها جامعاً , هو الذات , فيستغني عند ذلك عن ذكر الجنس ولا يتم قول شارح إلا بما يخص المعرف , إما بأن يكون كل واحد من أجزائه كذلك , كرسم الشيء بمجموع خواصه أو البعض كذلك دون البعض , كرسمه بالجنس والخاصة , أو يخص بالاجتماع كرسمه بمجموع كل فرد منه . والجنس عرض عام , وجملة تلك الأعراض خاصة , كالطائر الولود للخفاش . ويجب أن تكون الخواص والأعراض المعرفة للشيء مبينة له , وليس من شرط كونها معرفة أن يعلم اختصاصها بالشيء , لأن العلم بالإختصاص متوقف على العلم بالمختص والمختص به . فلو عرف بذلك الاختصاص لكان دوراً , بل من شرطه أن يكون بحيث ينتقل الذهن من تصوره إلى تصور المعرف به , والمعلوم مطلقاً , وكذا المجهول مطلقاً , لا يتصور طلب تصورهما , بل المعلوم من وجه والمجهول من آخر , كإدراك ناقص , يطلب تكميله أو زيادته وإن لم يكتمل . والخطأ في الأقوال الشارحة منه ما يختص بالحد , ومنه ما يعمه والرسم . أما الذي يختص بالحد فأن يوجد مكان الجنس أحد أمور سبعة : أما اللوازم العامة , كالوجود والعرضية , وأما الفصل كقولهم العشق إفراط المحبة , وإنما هو المحبة المفرطة , وأما النوع كقولهم : الشرير من يظلم الناس , والظلم نوع من الشر , وأما جنس آخر كما يقال : العفيف ذو قوة يتمكن بها من اجتناب الشهوات , فإن الفاجر أيضاً له هذه القوة , ولا يجتنب ,
____________________
(1/159)
فقد أخذت القوة مكان الملكة , وأما الموضوع كأخذ الخشب في حد الكرسي , فإنه يوجد قبل الهيئة السريرية وبعدها , ولا كذلك الجنس , فإن وجوده يتقدم بالفصل وجعلهما واحد , وأما المادة الفاسدة , كقولهم : الخمر عنب معتصر , والرماد خشب محترق , وأما الجزء كقولهم : الإنسان حيوان ناطق , وعنوا بالحيوان ما تخصص به , فإن التخصيص لا يقال على المختلفات فلا يكون جنساً , بل الحيوان الذي هو جنس يجب أن يؤخذ غير مشروط بقيد أنه ناطق , ولا يفيد أنه لا ناطق , إذ الأول هو الإنسان نفسه , الثاني مناف له , فلا تحمله عليه , وبأن توجد الانفعالات مكان الفضول , فإن الفضول لا تبطل الشيء , والانفعالات قد تبطله . وأما الذي يعم الحد والرسم فبأن يعرف الشيء بنفسه , كقولهم : العدد كثرة من الآحاد , والعدد والكثرة واحد , أو بما يساويه في المعرفة والجهالة , كقولهم : الأب هو الذي له ابن , أو بما هو أخفى منه , كقولهم المثلث شكل زواياه الثلاث مساوية لقائمتين , أو بما لا يعرف إلا به , كقولهم : الشمس كوكب يطلع نهاراً , والنهار هو زمان طلوع الشمس .
____________________
(1/160)
الفصل الثالث في القضايا وأقسامها القول إما تقييدي كالحيوان الناطق ، وهو في قوة مفرد ، كالإنسان ، أو جزئي ، وهو ما يعرض له لذاته أن يكون صادقا أو كاذبا . واحترزنا ب ' لذاته ' عن مثل تفضل بكذا ، فإنه أمر بالذات ، ويدل على الجزئية ، أي أريد تفضلك به ، أو خارج عنهما ، كالتمني والترجي والأمر والنهي والقسم والنداء والتعجب والاستفهام . فالتقييدي ينتفع به في الأقوال الشارحة ، وقد مضى ذلك . وما مثل التمني وما معه هو أخص بالمحاورات دون العلوم ، وينتفع به في الخطابة والشعر ، وما يجري مجراهما مما لا يتعلق بغرض هذا الكتاب . وأما الجزئي فهو الذي ينتفع به في تركيب الحجج ، وتسمى قضية ، ولا بد فيها من محكوم عليه ومحكوم به ، إيجابا أوسلبا . فإن لم يكونا جزأين قد أخرجا بالتركيب عن الجزئية ، كالإنسان ماش ، أو ليس ، أو كالحيوان الناطق ماش أو هو متنقل ينقل قدميه ، أو ليس ، فهي الحملية . وإن كانا كذلك فهي الشرطية . والارتباط بين الجزأين إن كان بلزوم أو بمصاحبة أو سلب أحدهما فهي المتصلة ، وإن كان بعناد أو عدم موافقة أو سلب أحدهما ، فهي المنفصلة .
____________________
(1/161)
فأما الحملية فهي التي حكم فيها بكون أحد جزأيها ، وهو المحمول مقولا على ما يقال عليه الآخر ، وهو الموضوع ، سواء كان ذاتا وحدها ، كالإنسان كاتب ، أو هو مع صفة كاضاحك كاتب . والموضوع والمحمول هما مادة القضية ، وما يربط أحدهما بالآخر هو صورتها ، وقد يحذف في بعض اللغات لفظاً ، لدلالة القرينة عليه معنى ، كما يقال : زيد ماش ، وحقه أن يقال : هو ماش . والموضوع أن لم يمكن تعدده ، إما لكونه جزئيا ، كزيد كاتب ، أو ليس ، أو باعتبار الحكم ، كالحيوان جنس ، فالحملية مخصوصة ، وإن أمكن تعدده ، فإن تبين أن الحكم على كل واحد من أفراده بإيجاب ككل إنسان حيوان ، وهي الموجبة الكلية ، أو بسلب ، كلا شيء ولا واحد من الناس بحجر ، وهي السالبة الكلية ، وعلى بعضها بإيجاب ، كبعض الناس كاتب ، وهي الموجبة الجزئية ، أو ليس بكاتب ، وهي السالبة الجزئية ، فعلى التقادير الأربع ، / الحملية محصورة . وإن لم يتبين ذلك كالإنسان في خسر ، أو ليس ، فالحملية مهملة ، وهي مساوية للجزئية ، وفي قوتها فإنه إذا صدق الحكم على كل الأفراد أو على بعضها فعلى التقديرين يصدق على بعضها يقينيا . ويتناول الحكم في المحصورة ، ما يدخل تحت الموضوع من الأجناس والأنواع والأصناف والأشخاص الموجودة ، والمفروض وجودها ، مما لا يمتنع اتصافهما به . وإذا قلنا كل ج ب فلا يعني مجموع الجيمات ، ولا كلية جيم المنطقية ولا العقلية ، بل يعني كل واحد من أفراد ج الشخصية ، أو غيرها . وبالجملة فيما يوصف ب ' ج ' وصفا مأخوذا من حيث هو بالفعل ، لا بالقوة ،
____________________
(1/162)
كما للنطفة التي هي بالقوة إنسان ، سواء كان موصوفا به كذلك في الغرض الذهني ، أو في الوجود الخارجي ، وسواء اتصف به دائما ، أو غير دائم ، بل كيف اتفق فهو ب على أحد جهات الحمل ، التي يأتي ذكرها . وإذا كان المحمول معدولا ، وهو الذي عبر عنه بأداة سلب مع لفظ محصل ، سميت الحملية معدولة ، كقولنا : الإنسان هو لافرس . وتشتبه الموجبة فيها بالسالبة المحصلة ، والفرق بينهما ، هو أن الموجبة المعدولة حكم فيها بارتباط السلب ، السالبة المحصلة ، حكم فيها بسلب الارتباط . فالسلب في أحداهما رافع للإيجاب ، وفي الأخرى بخلافه . والإيجاب لا يصح ولا يصدق إلا على محقق في الخارج ، أي في نفس الأمر أن حكم بثبوت المحمول للموضوع كذلك ، والا ففي العقل ، ولا كذلك السلب ، فأن المعدومين أو المعدوم أنهما كان قد يرفع الارتباط بينهما في الخارج ، فيصدق الحكم فيها على غير الثابت ، اذا اخذ من حيث هو غير ثابت . ولكل موضوع الى محمول نسبة مافي نفس الامر مخصوصة ، فان كان تخصصها بالوجوب ، كزيد انسان ، أو ليس ، فهي مادة واجبة ، وان كان بالامتناع فهي مادة ممتنعة ، كزيد حجر ، أو ليس ، وإن كان بالإمكان فهي مادة ممكنة ، كزيد كاتب ، أو ليس ، وما يتلفظ به من خصوصية النسبة ، أو يفهم - وإن لم يتلفظ به - فهو جهة القضية سواء طابقت المادة ، أو لم تطابق . وقد تكون الجهة متناولة لأزيد من مادة واحدة ، كحكمنا ، بالنسبة لغير الممتنعة ، فإنها تتناول مادتي الوجوب والإمكان ، وكذا قياس غيرها من الجهات العامة .
____________________
(1/163)
وإذا حكم بدوام النسبة أو سلبها ما دامت ذات الموضوع ثابتة ، فالقضية ضرورية ، إن قيدت بالوجوب ، كالإنسان بالضرورة حيوان ، أو ليس بحجر . ودائمة إن لم يقيد به ، وكان محتملا له ، كزيد أبيض البشرة دائما ، أو ليس وإذ ما لا يجب لا يوجد ، كما ستعلم ، فلا دائم إلا ضروري في نفس الأمر . ولكن مرادنا بالدوام ما لا يحكم بوجوبه ، فإن قيدناه بالاضرورة فالمراد أنا لا نعلم وجه وجوبه . وحينئذ لا يصدق الحكم به على كل واحد ، إذ جزئيات الكلي لا تتناهى ، فلا يطلع العقل على دوام الحكم عليها ، إلا إذا وجب ذلك لنفس طبيعة الكلى ، وعلى الموضوع الجزئي جاز ذلك للمشاهدة والوجدان ، كما يمثل به . وإن حكم بأن ثبوت المحمول أو سلبه دائم بدوام الوصف المعبر به عن الموضوع ككل كاتب متحرك الأصابع ، أو ليس بساكنها ما دام كاتبا ، مع جواز دوامه بدوام الذات ، أو لا دوامه ، فهي المشروطة ، إن قيد بوجوبه بحسب الوصف ، والعرفية إن لم يقيد به ، وإن حكم بذلك في بعض أوقات الوصف المذكور ، مع جواز صدق الحمل العرفي أو لا صدقه ، ككل مجنوب يسعل أو لا يسعل في بعض أوقات كونه مجنوبا ، فهي الحينية الضرورية ، إن قيد بالضرورة في ذلك الوقت ، والحينية المطلقة إن لم يقيد بها ، وإن حكم بذلك في بعض أوقات ثبوت ذات الموضوع ، مع جواز باقي الاحتمالات ، فهي العرفية الضرورية أن تعرض لقيد الضرورة ، والمطلقة إن لم يتعرض له ، وإن قيد الحكم فيما عدا الضرورية والدائمة باللادوام بدوام ذات الموضوع فالجهة مركبة من تلك الجهة ، ومن مطلقة تخالفها في الكيف ، أي في الإيجاب والسلب ، وقد توافقها في الكم ،
____________________
(1/164)
وقد تخالفها . وإن كان الحكم بسلب ضرورة العدم في الإيجاب ، أو بسلب ضرورة الوجود في السلب فهي الممكنة العامة ، وإن كان بسلب الضرورتين معا فيهما ، فهي الممكنة الخاصة ، وهي مركبة من ممكنتين عامتين مختلفتي الكيفية ، وقد تكون الضرورة المسلوبة في الممكنتين مقيدة بوصف أو وقت ، وجاز ألا يصدق الحكم في الممكنات بالفعل في وقت من الأوقات ، كزيد بالإمكان العام أو الخاص ككاتب ، وإن لم يكتب دائما . ولا تصدق هذه في نفس الأمر ، إذ لا دائم غير ضروري في نفسه ، بل صدقها إنما هو على الوجه الذي سبق في الدائمة . والموجهات لا نهاية لها ، إذ الأحكام وقيودها لا تقف عند حد لا يمكن الزيادة عليه ، وتقاس أحكام ما لم / يذكر في الموجهات على ما ذكر منا ، هذا ما يتعلق بالحملية . أما المتصلة فهي التي حكم فيها بصدق قضية تسمى التالي ، على تقدير صدق أخرى تسمى المقدم في الموجبة ، أو بلا صدق التالي على تقدير صدق المقدم في السالبة ، وهي إما لزومية أن حكم في الإيجاب بلزوم التالي للمقدم ، وفي السلب بسلب اللزوم ، مثل : إن كان زيد يكتب تتحرك يده ، وليس إن كان يكتب فهو ماش . والفرق بين لزومية السلب وسالبة اللزوم ، على قياس الفرق بين الموجبة المعدولة والسالبة البسيطة . فهي الحملية . وأما اتفاقية إذا حكم فيها في الإيجاب بتوافق جزأيها على الصدق ، من غير حكم باللزوم ، وإن لم يمنع ، وفي السلب بعدم ذلك التوافق ، مثل : إن كان الإنسان ناطقا فالحمار ناهق ، وليس إن كان ناطقا فهو صاهل .
____________________
(1/165)
وخصوص المتصلة بتخصيص حكمها بالأحوال أو بالاتفاقات المعنية ، كاليوم إن جئتني أكرمتك ، وحصرها الكلي بكون الحكم في جميع الأحوال والتقادير الممكن اجتماعها مع المقدم التي لا أثر لها في الاستصحاب ، وإنما قيدت بما يمكن اجتماعها بالمقدم ، واحترازا من تقدير عدم اللزوم ، ومن مثل لزوم الفردية للثلاثة ، على تقدير انقسامها بمتساويين . والقيد الثاني ، لئلا تكون تلك الأحوال والتقادير أجزاء من المقدم ، فتعود الكلية مهملة . وحصرها الجزئي يكون الحكم في بعضها ، وإهمالها بإهمال ذلك كله ، وسور الإيجاب الكلي ' كلما ودائما ' ، والجزئي ' قد يكون ' ، وسور السلب الكلي ' ليس البتة ودائما ليس ' ، والجزئي قد لا يكون ، وليس كلما كان ، وليس دائماً ، وما في معاني هذه . وإذا اعتبر تأليف المتصلة من حمليات وشرطيات وخلط منهما ، فهي على تسعة أقسام من حمليتين ، وقد تمثل : إن كان كلما كانت الشمس طالعة فالنهار موجود ، فكلما كان الليل موجود فالشمس غازبة ، ومنفصلتين مثل : إن كان هذا المرض إما صفراويا أو بلغميا ، فهو إما من حرارة أو من برودة ، وحملية مقدم ومتصلة تالي ، مثل : أن كان طلوع الشمس علة وجود النهار فكلما كانت الشمس طالعة ، كان النهار موجودا ، وعكسه كعكس هذا المثال . ومن حملية ومنفصلة على قسميها ، مثل إن كان هذا عددا فهو إما زوج أو فرد ، وعكسه ، ومن متصلة ومنفصلة على قسميها مثل : إن كان كلما كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا ، أو أما ألا تكون طالعة ، أو يوجد النهار ، وعكسه . وحكم كل واحد من الأجزاء في التقسيم هذا الحكم وهلم جرا . وإذا اعتبرنا يصدق ذلك الحكم .
____________________
(1/166)
تأليفها من الصادقات والكاذبات وخلطها ، فقد تتألف اللزوجية من صادقتين وقد سبق مثاله ، وكاذبتين مثل : إن كان الجمل يطير فله جناح وكاذبة مقدم ، وصادقة تال ، مثل : إن كان يطير فهو حيوان ، ولا يصدق عكسه ، إذ لا معنى للزوم إلا الحكم بلزوم صدق التالي ، على تقدير صدق المقدم ، فإذا لم يصدق لم يصدق ذلك الحكم . والإتفاقية لا تصدق إلا من صادقتين ، وهو ظاهر . وأما المنفصلة فعلى ثلاثة أقسام : حقيقية ، ومانعة الجمع ، ومانعة الخلو . فالحقيقية هي التي حكم فيها بالمعاندة أو عدم الموافقة بين قضيتين أو أكثر ، في الصدق والكذب معا ، في الموجبة ، أو بسالب ذلك العناد ، ولا موافقة في السالبة ، مثل ما حكم فيها بالمعاندة : أما هذا العدد زوج أو فرد ، من جزأين ، أو أما زائد أو مساو ، من أكثر ، وليس أما هذا العدد زوج أو أثنين من جزأين وبأضافة أو أربعة من أكثر . ومثال ما حكم فيها باللاموافقة وتسمى اتفاقية : أما زيد كاتب أو أسود ، إذا كان كاتبا أبيض ، وليس كذا إذا جعهما أو فقدهما . ومانعة الجمع هي التي حكم فيها بذلك في الصدق فقط ، من غير منع كونه في الكذب أيضاً ، مثل : أما هذا حجر أو شجر ، وليس ، أما حجر أو جماد في العنادية ، أما هذا كاتب أو أسود ، إذا لم يستجمعهما ، أو ليس كذا إذا استجمعهما في الإتفاقية . ومانعة الخلو ما حكم فيها بذلك في الكذب فقط ، ولا يمنع الصدق ، مثل أما زيد في الماء أو غير غريق ، وليس أما هذا حيوان أو نبات ، في العنادية . ويعرف مال الإتفاقية مما مر . وكل واحدة من مانعتي الجمع والخلوان أخذت بحيث لا تشمل الحقيقة فالحكم بها مركب من حكمين ، وخصوص
____________________
(1/167)
المنفصلة وحصرها وإهمالها على قياس ذلك في المتصلة ، من غير إهمال للقيود المتحرز بها . والسور الكلي منها دائما في الإيجاب ، وليس ألبتة ، ودائما ليس في السلب والجزئي قد يكون في الإيجاب ، وقد لا يكون ، وليس دائما في السلب وما في معانيها . وتنقسم المنفصلة من جهة تركيبها من الحمليات والشرطيات إلى ستة أقسام ، لسقوط ثلاثة عما في المتصلة ، بسبب عدم تمييز مقدم هذه عن تاليها . وتصرف أمثلتها من قياس ما سبق ، ومما نعرفه من تلازم الشرطيتين . وقد تحرف / القضية عن ( صياغتها ) المذكورة ، فتسمى محرفة ، والإعتبار بالمعنى لا بالعبارة . وصدق القضية وكذبها وإيجابها وسلبها إنما هو متعلق بالربط ، ولا يلتفت فيه إلى أحوال أجزائها .
____________________
(1/168)
الفصل الرابع في لوازم القضية عند انفرادها كل قضية ، فإنه يلزم من صدقها كذب نقيضها ، ومن كذبها صدقه . والتناقض بين القضيتين هو اختلافهما بالايجاب والسلب لا غير ، بمعنى اتحادهما في الجزأين . وما يتعلق بالارتباط من : جهة أو إضافة أو شرط ، أو زمان ، أو مكان ، أو كل وجزء ، أو غير ذلك ، الا أنه قد سلب في أحداهما غير ما أوجب في الأخرى ، مثل أنا إذا قلنا : كل ج هو ب في وقت كذا ، أو زمان كذا ، أو على جهة كذا : وغيره ، فنقيضه : ليس كل ج ب على ذلك الوجه ، فنقيض بالضرورة كذا ليس بالضرورة كذا ، وعلى هذا القياس . وإذا جعلت هذه الأمور متعللة بجزئي القضية لا بالارتباط بينهما ، كفى في التناقض مع الاختلاف بالكيفية اتحاد الجزأين لا غير ، بل كفى معه اتحاد النسبة ، إذ باختلاف المنتسبين تختلف . ويلزم من سلب كل واحد من الإيجاب الكلي السلب الجزئي الآخر ، وكذا من سلب كل واحد من السلب الكلي ، والايجاب الجزئي ، فنقيض كل ج ب ليس كل ج ب ، وهو سلب جزئي ، ونقيض : لا شيء من ج ب ، شيء من ج ب وهو إيجاب جزئي ، مع مراعاة باقي الشرائط . والتناقض إنما يكون من الجانبين معا ، ولازم النقيض يسمى نقيضا أيضا والمشهور في تعريف التناقض أنه اختلاف قضيتين بالايجاب والسلب على جهة
____________________
(1/169)
تقتضي لذاتها ، أن يكون أحدهما بعينه وبغير عينه صادقا ، والاخر كاذبا . واحترز بلفظة ' لذاته ' ، عن أقسام الصدق والكذب بخصوصية المادة ، مثل : زيد ناطق ، زيد ليس بحيوان ، لا لضروري النقيضين ، كزيد ناطق زيد ليس بناطق . ففي المثال الأول : لو لم يكن ما ليس بحيوان ليس بناطق لما حصل الاقتسام ، وهذا والتعريف السابق متساويان ، وباختلاف الكيفية التي هي الايجاب والسلب ، والكمية وهي الكلية والجزئية ، مع باقي شروط التناقض تقتسم القضيتان ، الصدق والكذب في المواد الثلاث ، والحمليات الموجهة نقائضها ما تشتمل على سلب جهاتها ، كما مر ، أو ما يقتضى ذلك على سبيل المساواة . وعلى هذا إذا اختلفت القضيتان بالكمية والكيفية ، مع اتخاذ ما يجب اتخاذه ، فالتناقض يجري بين الضرورية والممكنة العامة ، وبين الدائمة والمطلقة ، وبين المشروطة والممكنة ، بحسب حين من أحيان وصف الموضوع ، وبين العرفية والحينية المطلقة ، وبين الحينية ( و ) الضرورية ، وما تسلبه منها الضرورة في أوقات الوصف ، وبين الوقتية الضرورية ، والممكنة العامة مقيدة بذلك الوقت أن تعين ، بالدوام إن لم يتعين . والضابط في نقيض المركبات التردد بين نقيض جزأيها ، وذلك ظاهر أن كانت كلية . ولما كانت الجزئية لم يتعين فيها البعض الذي وقع عليه الحكم ، احتيج إلى تقييد الجزء الموافق في الكيف من جزئي انفصال النقيض ، بالمحمول في الموجبة ، وبسلبه في السالبة ، أو أن تكون أجزاء التردد أكثر من اثنين ، أو تقدم السور الكلي على أداتي الانفصال الترددي ، فتصدق ضرورة الطرفين على سبيل منع الخلو فقط في نقيض الممكنة الخاصة ، فيقال في نقيض كل ج ب بالإمكان الخاص ،
____________________
(1/170)
إما بالضرورة بعض ج ب او بالضرورة بعض ج ليس ب ، وعلى قياس نقيض لا شيء من ج ب كذلك ، وفي نقيض بعض ج ب به إما بالضرورة كل ج هو ب فهو ب ، وإما بالضرورة لا شيء من ج ب ، وإن شئت إما بالضرورة كل ج ب ، وأما بالضرورة لا شيء من ج ب ، وأما بالضرورة بعض ج ب ، وبالضرورة بعضه ليس ب ، وإن شئت كل ج أما بالضرورة ب ، أو بالضرورة ليس ب ، وعلى قياسه نقيض ليس بمعض ج ب بذلك الإمكان . إلا أنا في الوجه الأول نقول : إما بالضرورة لا شيء مما هو ج وليس ب ب ' ب ' ، وأما بالضرورة كل ج ب ، ليتبع مثل ذلك في نقيض كل جزئية مركبة الجهة ، وإن كان في الجهة مساويا لنقيض السالبة ، وكذا في كل مركبة متوافقة الجزأين في الجهة . ويصدق دوام الطرفين مانعا للخلو في نقيض المطلقة اللادائمة ، وتصدق الدائمة الموافقة في الكيف مع الحينية المخالفة فيه ، وكذلك في نقيض العرفية اللادامئة ، وتبدل الحينية بممكنة عامة في بعض أحيان الوصف في نقيض المشروطة اللدائمة . وأنت تعرف أمثلة ذلك كله في المحصورات الأربع على قياس أمثلة نقائض الممكنة الخاصة ، وقس على هذا سائر ما لم يذكر نقائضه من الموجهات البسيطة والمركبة . والمتصلة تناقضها المخالفة لها في الكيف والكم ، معتبراً ، السالبة سلب اللزوم في اللزومية / ، وسلب الإتفاق في الإتفاقية . والمنفصلة إن كانت حقيقية عنادية ، فتناقضها السالبة التي يصدق معها بالإمكان جميع أجزائها ، أو خلوها على سبيل منع الخلو ، دون الجمع . وإن كانت مانعة الجمع فالسالبة التي يصدق معها الجمع بالإمكان العام . وإن كانت مانعة الخلو ، فالتي يصدق معها الخلو كذلك والمركبة من مانعة الخلو هما المنافيتان للحقيقة يؤخذ في نقيضها ، إما ذلك الإمكان وإما المنع الآخر بمعنى منع الخلو دون الجمع أيضاً . فهذا ( هو ) حكم التناقض .
____________________
(1/171)
والقضيتان أن اختلفتا في الكيف دون الكم ، فكلتاهما متضادتان بجواز اجتماعهما على الكذب في مادة الإمكان دون الصدق ، وجزئياتها داخلتان تحت التضاد ، لجواز اجتماعهما على الصدق في تلك المادة دون الكذب . وحكم المهملتين حكمهما وإن اختلفتا في الكم دون الكيف ، فهما متداخلتان . ومن اللوازم ما يسمى بالعكس ، وهو أن يقام كل واحد من جزئي القضية مقام الآخر ، مع بقاء الكيفية والصدق بحالهما . وكل قضية لزمها هذا اللازم فهي منعكسة ، وإن خالفها في الكمية والجهة والكذب ، وصدق الأصل ، قد يكون محققاً وقد يكون مفروضا . والموجبات سواء كانت كلية أو جزئية فهي تنعكس جزئية حينية مطلقة ، إن صدق على الأصل الحيني المطلق ، ومطلقة أن صدق عليه الإطلاق ، وممكنة عامة ، إن صدق عليه الإمكان العام . وبيان ذلك أنا إذا قلنا ج هو ب فلفرض موضوع الأصل شيئاً معيلاً . وليكن د ، فذاك هو بعينه المقول عليه ب متصفا ب ' ج ' عند اتصافه ب ' ب ' في الحينية ، ومطلقا في المطلقة ، إذ لا يمتنع أن يكون د مما يقال عليه ب بالفعل ، فلا يمتنع أن يكون شيء مما يكون ب بالفعل هو ج فيصدق الإمكان العام في عكس الممكنة ، ويدل عليه أيضاً أن إمكان الملزوم يلزمه إمكان اللازم ، فإذا أمكن أن يصدق بعض ج ب فعليا ، وإن لم يقع ذلك أمكن أن يصدق بعض ب ج كذلك . وإنما لم تنعكس الموجبة الزلمية كلية ، لاحتمال أن يكون المحمول أعم بحسب المادة ، كما يصدق كل إنسان حيوان دون كل حيوان إنسان . والجهة في الكلية والجزئية لا يلزم انحفاظها في عكس الموجبة أيضاً . واعتبر كيف ( أن ) الإنسان ضروري للكاتب ، وليس الكاتب ضرورياً له ، وكيف ( أن ) تحرك اليد ضروري بحسب الوصف للكاتب ، وليس الكاتب ضرورياً لتحرك اليد كذلك .
____________________
(1/172)
والسوالب الكلية ، فالضرورية والدائمة والمشروطية والعرفية ينعكس كل واحد كنفسه كما وجهه ، بدليل أنه إن لم يصدق المدعي صدق نقيضه الموجب الجزئي ، وينعكس ذلك النقيض إلى ما لا يصدق مع الأصل ، ومثاله في الضرورية أنه إذا صدق لا شيء من ج ب بالضرورة ، فينعكس إلى لا شيء من ب ج بالضرورة . وإلا فبعض ب ج بالإمكان العام ، فبعض ج ب كذلك ، وهو يناقض الأصل ، فيلزم صدق النقيضين ، وهو محال ، ولم يلزم ذلك المحال إلا من نقيض المدعى ، وما يلزمه المحال فهو بمحال فالمدعى حق . ومنهم من جعل عكسها دائمة . وإذا كان الدوام في الكليات لا يصدق إلا مع الضرورة ، فقد لزم من كونها دائمة كونها ضرورية أيضاً . وقس أمثلة بيان الثلاثة الباقية على هذا . وإذا قيدت المشروطة والعرضية باللادوام ، فاعكس لازم القيد ، وهو جزئية موجبة مطلقة ، وضم لازم عكسه إلى عكسيهما خاليين عن القيد ، فيصير العكس مشروطاً ، أو عرفياً ، لا دائماً ، لبعض أفراد الموضوع ، فيكون عكس قولنا : لا شيء من ج ب ما دام ج لا دائماً هو لا شيء من ب وما دام ب لا دائماً لبعض أفراد ب ولا يعترض للبعض الآخر ، وكذا قياس المشروطة اللا دائمة . وباقي ما ذكر من الموجهات لا يعكس في السلب ، سواء كان كلياً أو جزئياً ، للتخلف في المواد . واعتبر كيف يسلب الكاتب عن الإنسان ، وعن متحرك اليد عند التحريك ، وامتناع عكسه . والأربع الدائمة بحسب الذات والوصف ، لا تنعكس في السلب الجزئي أيضاً ، لكن التي بحسب الوصف منها إذا كانت لا دائمة انعكست باعتبار الإيجاب اللازم للادوام . فإنه إذا قلنا : ليس بعض ج ب ما دام ج لا دائماً ، اقتضى ذلك أن يكون لشيء واحد وصفان متنافيان ، يوجد كل واحد منهما لذلك الشيء في وقت غير الوقت الذي وجد له الآخر فيه فكما تسلب عن ذلك الشيء أحدهما بل في كل وقت وجود الآخر ، كذلك الآخر يسلب عنه لا دائماً ، بل في كل وقت وجود الأول ، فيلزم ليس بعض ب ج ما دام ب لا دائماً .
____________________
(1/173)
والمتصلة تنعكس موجباتها الكلية والجزئية جزئية موافقة للأصل ، في في اللزوم والاتفاق ، وتنعكس سوالبها كنفسها مطلقا ، ولا عكس لسالبتها الجزئية . وبيان ذلك سهل مما سبق . ولا يتصور العكس في المنفصلة ، إذ لا ترتيب لجزأيها في الطبع ، بل في الوضع فقط / فيكون عكسا في العبارة دون المعنى . وللقضايا لوازم أخرى تسمى عكس النقيض ، وعكس القضية بهذا المعنى هي القضية التي أقيم فيها مقابل كل واحد من جزئي الأصل ، بالإيجاب والسلب مقام الآخر ، مع بقاء الكيفية والصدق ، أو ملازمة هذه المخالفة لها في الكيفية . وحكم الموجبات في العكس المستوى حكم السوالب ههنا ، وحكم السوالب هناك حكم الموجبات ههنا ، في الكمية والجهة ، والبيان هو باستلزام نقيض المدعى للمحال ، أما لانعكاسه بأحد العكسين إلى مالا يصدق مع الأصل ، أو لانتاجه مع الأصل المحال ، أو بالافتراض . فالموجبات الكلية الحملية إن كانت ضرورية أو دائمة أو عرفية أو مشروطة بسيطتين ومركبتين ، انعكست كنفسها في الكم والجهة ، لكن في المركبتين يكون قيد اللادوام في بعض أفراد الموضوع . وإن كانت ما عدا هذا مما ذكر من الموجهات فلا عكس نقيض لها ، ولا للموجبات الجزئية إلا في المشروطة والعرفية اللادائمين ، فإنه إذا صدق بالضرورة أو دائماً بعض ج ب ما دام ج لا دائما بغرض الموضوع ، وهو ج د في ' د ' ليس ب ' ب ' بالفعل للادوام ثبوت الباء له ، وليس ج ما دام ليس ب ، والا لكان ج حين هو ليس ب فليس ب حين هو ج وقد كان ب ما دام ج هذا خلف ، وجيم بالفعل ، فبعض ما ليس ب ليس ب لا دائماً . والسوالب الكلية والجزئية منها تنعكس جزئية ، على قياس ما عرفت في العكس المستوى .
____________________
(1/174)
واعتبر أمثلة الموجبات والسوالب الحملية وبياناتها من نفسك ، وكذا الشرطيات . وبين الشرطيات أيضاً تلازم . فالمتصلة تستلزم متصلة توافقها في المقدم والكم ، وتخالفها في الكيف ، وتناقضها في التالي ، وتستلزم منفصلة مانعة الجمع من عين مقدمها ونقيض تاليها ، إذ الشيء ونقيض لازمه لا يجتمعان . ومانعة الخلو من نقيض مقدمها وعين تاليها ، إذ الأمر لا يخلو أما الا يصدق المقدم ، أو أن يصدق التالي ، وكل واحدة من هاتين المنفصلتين تستلزم تلك المتصلة وتستلزمها أيضاً حقيقية من أحد جزأيها ونقيض الآخر كيف كان من غير عكس . وكل واحد من المنفصلة المانعة الجمع والمانعة الخلو يستلزم الآخر من مؤلفة من نقيض جزأيها . وأنت تتحقق ذلك كله باعتباراتك من الأمثلة . وقد طعن في تلازم المتصلتين بأن المقدم الممتنع جاز أن يستلزم النقيضين ، فلا يلزم السالبة الموجبة ، وبأن المقدم كيف كان ممتنعا وغير ممتنع جاز ألا يستلزم الشيء ولا نقيضه . وجوابه أن المستلزم للنقيضين معا لا يكون غير مستلزمهما ، بل ولا يكون غير مستلزم لأحدهما ، فيصدق السالبة مأخوذا في تاليها عدم اللزوم ، وكلما لا يستلزم شيئا فهو مستلزم لنقيضه بالضرورة ، والا كذب النقيضان ، بل جاز ألا يعلم ذلك الاستلزام لشيء منهما ، فإذا تحقق عدم استلزامها لواحد تحقق بواسطته استلزامه للآخر . ولوازم القضايا كثيرة لا تدخل تحت الحصر . وهذا القدر منها لا يحتاج بحسب عرض هذا الكتاب إلى أكثر منه .
____________________
(1/175)
فارغة
____________________
(1/176)
الفصل الخامس في القياس البسيط وللقضايا لوازم عند انضمام بعضها إلى بعض . والعمد منها هو القياس . والبسيط منه هو قول مؤلف من قضيتين تستلزم لذاتها ، أي لا لخصوصية المادة ، ولا لقضية ثالثة ، غير عكس أحدهما المستوى ، قولا مغايرا لهما له نسبة مخصوصة ، إلى أجزاء ذلك القول ، جعل أجزاؤه بالنسبة إليه هذه الأجزاء . واحترز بهذا الكلام الأخير عن مثل انتاج لا شيء من ج ب وبعض ب أ لبعض أ ليس في ج في الشكل الأول مع الحكم بعقمه ، إذ المطلوب فيه نسبة أ إلى ج حتى لو كان المطلوب نسبة ج إلى أ كان منتجا من الشكل الرابع ، مع اتحاد المقدمتين في الصورتين ، فلا يسمى قياسا الا ما استلزم قولا يوضع أولاً ، ثم يقاس به أجزاء القياس . ومثال ما يستلزم لا لذاته قولنا : كلما ليس ب هو ليس ج وكل ب أ المستلزم لكل ج أ بواسطة عكس نقيض القضية الأولى . ومثل أ مساو ل ' ب ' و ' ب ' مساو ل ' ج ' المسلتزم بواسطته أن المساوي للمساوي مساو ، وأن أ مساو ل ' ج ' . وينقسم القياس المذكور إلى : استثنائي ان ذكرت النتيجة ، أو نقيضها فيه بالفعل ، وإن كانت خارجة الخبرية .
____________________
(1/177)
وإلى اقتراني إن لم يكن كذلك ، وهو على ستة أقسام : من حمليتين ، متصلتين ، وحملية ومتصلة ، وحملية منفصلة ، ومتصلة منفصلة . فأما الذي من حمليتين فمقدمتاه تشتركان في حد يسمى أوسط ، لتوسطه بين طرفي المطلوب ، اللذين يسمى الموضوع فيهما الأصغر ، والمقدمة التي هو منها الصغرى ، والمحمول الأكبر ، والمقدمة التي هو منها الكبرى . وتسمى نسبة الأوسط إلى طرفي المطلوب بالمحمولية والموضوعية / شكلا ، واقتران الصغرى بالكبرى وضربا . فإن كان الأوسط محمولا في الصغرى ، موضوعا في الكبرى ، فهو الشكل الأول ، وهو قريب من الطبع ، وإن كان محمولا فيهما فهو الثاني ، وإن كان موضوعا فيهما فهو الثالث ، وإن كان موضوعا في الصغرى محمولا في الكبرى فهو الرابع ، وهو أبعدها عن الطبع . والقرائن في كل شكل بحسب تركبه من المحصورات الأربع فقط ، إذ غيرها يقاس عليها ستة عشر ، لكن المنتج منها في الأول بحسب بساطة المقدمات أربعة ، وتزيد بحسب تركها أربعة أخرى ، وفي الثاني كذلك ، وفي الثالث بحسب البساطة ستة ، وبحسب التركيب ستة أخرى ، وفي الرابع خمسة للبساطة ، وسبعة للتركيب . أما ضروب الشكل الأول : فالأول من موجبتين كليتين ككل ج ب وكل ب أ المنتج لكل ج أ . والثاني من كليتين كبراهما سالبة ككل ج ب ولا شيء من أ ب المنتج للاشيء من ج أ . والثالث من موجبة جزئية صغرى وموجبة كلية كبرى ، كبعض ج ب وكل ب أ المنتج لبعض ج أ . والرابع من موجبة جزئية صغرى وسالبة كلية كبرى ، كبعض ج ب ولا شيء من ب أ المنتج لليس كل ج أ .
____________________
(1/178)
والأربعة الزائدة بحسب التركيب هي التي كبرياتها ونتائجها هذه بعينها ، لكن صغرياتها سوالب ( مركبة ) تنتج بقوة الإيجاب . وأنه لما ثبت أن الأكبر ثابت لكل ما ثبت له الأوسط ، أو مسلوب عنه ، دخل الأصغر بثبوت الوسط له بحسب البساطة أو التركيب تحت ذلك الحكم ، فحكم عليه بالأكبر ، والصغرى التي ما عدا الممكنتين مع الكبرى التي لا يغير فيها الحكم ، بحسب وصف الموضوع جهته المتجه فيها كجهته الكبرى ، إذ الأصغر منها بعض جزئيات الأوسط ، فحكمه حكم تلك الجزئيات ، وكذلك في الصغرى الممكنة مع الكبرى ، الضرورية والدائمة والممكنة . فإن الصغرى إن كانت بالفعل فظاهر ، وإن كانت بالقوة فممكن أن يحكم بالأكبر على الأصغر ، كالكبرى . وما أمكن أن يكون ضروريا فهو ضروري في نفس الأمر ، إذ ما ليس بضروري في نفس الأمر فيمتنع أن يكون ضروريا ، فما لا يمتنع أن يكون ضروريا فهو ضروري في نفس الأمر ( كما ذكرنا ) بطريق عكس النقيض ، وكذا ما أمكن أن يكون ممكنا . والدائمة الكبرى لا يحكم بها إلا مع الضرورة ، فحكمها حكم الضرورية ، فإن قطعنا النظر عن ذلك فالنتيجة دائمة ، ومع باقي الكبريات التي يصدق عليها الإطلاق . فالتنيجة ممكنة : إما عامة إن كانت الكبرى محتملة للضرورة أو خاصة إن لم تحتملها ، لأن الممكنة إن كانت فعلية ، فالنتيجة مطلقة ، وإن كانت بالقوة ( فقد ) أمكن كون النتيجة مطلقة . ولا معنى لكون القضية ممكنة إلا أمكان الحكم الفعلي .
____________________
(1/179)
ولو أخذ الموضوع بحسب الخارج بحيث يخرج عنه الممتنع والممكن الذي لا يقع ، لكانت القرائن التي صغرها ممكنة عقيمة في هذا الشكل . فانه يصدق بالامكان كل فرس فيمكن أن يكون في المسجد في هذا الوقت وكلما هو في هذا الوقت في المسجد فهو بالضرورة إنسان يحسب الخارج ، ولا يصدق كل فرس إنسان ، وما في المسجد لا يقتضي أن يكون إنساناً ألا بخارج المفهوم ، حيث انحصر ما في المسجد بمقتضى الحال في الإنسان ، وإنما لم تنتج ، لأنا حكمنا في الكبرى بأن الأكبر محكوم به على ما هو الأوسط بالفعل . والأصغر جاز أن يكون هو الأوسط بالقوة ، لا بالفعل ، فلا يتحدى الحكم إليه . وإذا فرض وقوع هذا الممكن بالفعل جاز ألا يصدق الكبرى حينئذ لازدياد أفرادها ، وإذا أخذت الكلية بحسب الحمل والربط ، لا يحسب الوجود الخارجي فقط ، لم تزدد أفرادها بوقوع الممكن فأنتج . والصغرى الضرورية والدائمة . مع الكبرى المشروطة والعرفية ، تنتج إن كانت الضرورة في المقدمتين ضرورية ، وإلا فدائمة . ولا تصدق الكبرى فيهما ، مع فرض صدق الصغرى ، إلا دائمتين ، إذ لو قيدا باللادوام لنافيا الصغرى ، ولكانت نتيجتهما الحكم بالأكبر على الأصغر دائماً ولا دائماً ، وهذا لا يصدق البتة ، وإن كان مستنتجاً . والعرفيه المشروطة بسيطتين ومركبتين ، والإختلاط فيهما ينتج كالمقدمتين إن لم تختلفا ، وكأعميهما أن اختلفا ، والمقدمتان الحينيتان إن لم يعتبر فيهما الدوام بحسب الوصف ، أو اعتبر في الصغرى فقط تنتجان مطلقة ، وإن اعتبر في الكبرى فقط فعرفية . فإن اختصت الوصفية كيف كانت بإحدى المقدمتين سقط اعتبارها . وأما ضروب الشكل الثاني : فالأول كل ج ب و شيء من أ ب فلا شيء
____________________
(1/180)
من ج أ . والثاني لا شيء من ج ب وكل أ ب فلا شيء من ج أ والثالث بعض ج ب ولا شيء من أ ب فلا كل ج أ . والرابع ليس كل ج ب ، وكل أ ب فلا كل ج أ . والأربعة الزائدة بحسب التركيب هي هذه ، مبدلا فيها الموجبة بالسالبة مركبة ، والناتج كالنتائج / ، ولكن باعتبار جهة الإيجاب في المبدلة دون السلب ( وبالعكس ) والبيان بالرد إلى الأول . وأما بعكس الكبرى أو بعكس الصغرى وجعلها كبرى ، ثم عكس نتيجتهما أو بتعين البعض الذي ليس بأوسط فرضا وتسميته باسم ، وليكن مثلاً د فيكون لا شيء من د ب وكل أ ب فلا شيء من د أ وكان بعض ج د ينتجان لا كل ج أ وهو المطلوب . أو بالخلف بأن يقال إن لم يكن المدعي حقا ، فالحق نقيضه ، وإذا أضيف ذلك النقيض إلى الكبرى أنتج نقيض الصغرى ، فيكون باطلا ، وعليه وضع نقيض المدعي في المدعي حق وفي الفعليات متى لم يصدق الدوام على الصغرى . أو العرفي على الكبرى لم يكن منتجا ، إلا أن يتحد وقت الحكم في المقدمتين ، فينتج دائمة ، لحصول المنافاة ، التي باعتبارها كان هذا الشكل منتجا ، فإنا نعلم قطعا أنه دائما لا شيء مما صدق عليه الأوسط في وقت بعينه ، ما لم يصدق عليه في ذلك الوقت ، وكلما صدقت الضرورة على أحد مقدمتيه فالنتيجة ضرورية ، كلما صدق الدوام على أحدهما ، فالنتيجة دائمة ، والا فكالصغرى محذوفا عنها قيد اللادوام والنضرورة ، ( والضرورة ) ، أية ضرورة كانت . والممكنات الصرفة في المقدمتين لا تنتج . وإذا قترنت الممكنة بغير الضرورية أو المشروطتين : البيسطة والمركبة ، فإن ارتد إلى الأول بأحد الطرق أنتج ما ينتج هناك ، وإلا فانتاجه مشكوك عندي إلى الآن ، إذا لم تعتبر الضرورة اللازمة للدوام ، وينتج مع الضرورية ، ومع المشروطتين إذا كانتا كبريين فقط ممكنة
____________________
(1/181)
عامة ، وباقي الكلام ( في ) مختلطاته لا يليق بهذا المختصر . وأما ضروب الشكل الثالث : فالأول كل ب ج وكل ب أ فبعض ج أ ، والثاني كل ب ج ولا شيء من ب أ فليس بعض ج أ ، والثالث بعض ب ج وكل ب أ فبعض ج أ ، والرابع كل ب ج وبعض ب أ فبعض ج أ ، والخامس كل ب ج وليس بعض ب أ فبعض ج ليس أ ، والسادس بعض ب ج ولا شيء من ب أ فليس بعض ج أ . والستة التي تزيد باعتبار الجهة المركبة ما بدلت فيها موجبات هذه بسوالب مركبة ، ونتائجها كهذه النتائج ، إذا اعتبرت جهة الإيجاب في المبدلة لا السلب . وبيان النتائج هو بالرد إلى الأول . أما فيما كبراه كلية ، فبعكس الصغرى ، وأما فيما هي جزئية منعكسة فيجعل كل من المقدمتين مكان الآخر ، ثم عكس نتيجتيهما ، فإن كانت جزئية غير منعكسة فيسمى البعض من الأوسط الذي ليس بأكبر مثلا باسم هو ' د ' فيكون كل د ب و ب ج فكل د ج وكان لا شيء من د أ فليس بعض ج أ ، وهو مطلوبنا . والجميع يتبين بالخلف بضم نقيض النتيجة إلى الصغرى فينتج مالا يصدق مع الكبرى ، وهو محال لزم من نقيض المدعي ، فيكون كاذبا ، فيصدق المدعي وجهة النتيجة كبرى في الأول إن كانت الكبرى غير المشروطتين ، والعرفيتين ، وإلا فكعكس الصغرى محذوفاً عنه اللا دوام ، مع بساطة الكبرى ، ومضموما إليه اللادوام ، مع تركبها . وأما ضروب الشكل الرابع : كل ب ج وكل أ ب فبعض ج أ . والثاني كل ب ج وبعض أ ب فبعض ج أ ، والثالث لا شيء من ب ج ، وكل أ ب فلا شيء من ج أ ، والرابع كل ج أ ولا شيء من أ ب فليس كل ج أ . والخامس بعض ب ج ولا شيء من أ ب فليس كل ج أ . والسبعة المضافة إليها بحسب التركيب ، هي من موجبتين صغراهما فقط جزئية ، وموجبة كلية صغرى مع سالبة جزئية
____________________
(1/182)
كبرى وسالبتين كبراهما فقط جزئية ، وسالبتين على خلاف هذا الترتيب ، ولا يخفى عليك نتاجها مما مر . والبيان إما بالقلب ليرتد إلى الأول ، ثم عكس النتيجة أو بعض إحدى المقدمتين ، ليرتد إلى الثاني والثالث ، أو بالإفتراض أو الخلف على قياس ما تقدم . وجهة النتيجة هي أخص ما ينتج على أحد هذه الوجوه ، وما لم يمكن نثبيته بإحدها فهو إما عقيم أو غير معلوم الإنتاج . وما حكم بعقمة من الضروب ، وهو ماتخلف من القرائن الست عشرة من كل شكل ، فأنت يتبين لك عقمه إذا استعملت صورته في المواد مستقرئا لها ، فلا بد وأن يظهر لك في بعضها صدق الطرفين ، إيجاباً في مادة ، وسلباً في أخرى ، فلا يطرد لا الإيجاب ولا السلب . وهذا يسمى بالتخلف في المواد ، كقولنا : لا شيء من الإنسان بحجر بالضرورة ، وكل حجر جسم كذلك ، والحق كل إنسان جسم ، فإن قلت : وكل حجر جمادي ، كان الحق لا شيء من الإنسان بجماد . وعليه يقاس غيره من العقيم . وكذا الحال في الجهات التي حكم بعضها وإن استعملت في ضرب منتج في الجملة ، كالمطلقتين في قرائن الثاني . وما لم يذكر بيان انتاجه من الجهات فهو يعرف بالكمية إذا وقع التأمل له . والمذكور من أحوال الموجهات هو بحسب الجهات المذكورة في هذا الكتاب فقط ، لا بحسب كلها ، إذ لا نهاية / لها ، بل بحسب بعض ما ذكر فيه منها ، إذ لا حاجة إلى أزيد من ذلك . وأما القياس المركب من متصلتين ، فالأوسط فيه إما تمام مقدم ، أو تال في المقدمتين أو بعضه فيهما ، أو تمامه في واحدة ، وبعضه في أخرى . فالأول يتألف على هيئة الأشكال الحملية وينتج منها الضروب التسعة عشر المنتجة بحسب بساطة الجهات في اللزوميات الصرفية لزومية ، وفي
____________________
(1/183)
الإتفاقيات الصرفة اتفاقية ، وإن كان غير مقيد ، إذ النتيجة معلومة قبله . والبيان كما في الحمليات ، ولا ينتج المخلوطة من لزومية واتفاقية مع كون صغرى الشكل الأول لزومية ، وهو من موجبتين أو إتفاقية ، وهو من موجبة وسالبة . ولا إذا كانت سالبة الثاني لزومية ، وكبرى الثالث سالبة ، ولا إذا كانت كبرى الرابع لزومية في ضربية الأولين واتفاقية في ثالثة ولا رابعة وخامسة كيف كانا ، وباقي الأقسام تنتج اتفاقية . ومثاله من الشكل الأول : كلما كان أ ب ف ' ج ' د وكلما كان ج د ف ' هـر ' ينتج كلما كان أ ب ف ' هـر ' . أما في اللزوميتين والإتفاقيتين فظاهر ، وأما في المختلط من لزومية واتفاقية والكبرى لزومية ، فلان كلما يستصحب الملزوم يستصحب اللازم . ومثاله من أول الشكل الثاني : كلما كان أ ب ف ' ج د ' وليس أ البتة إذا كان هـر ف ' ج د ' ينتج فيس الستة إذا كان أ ب ف ' هـر ' وبالعكس والخلف . ويستعمل الإفتراض في رابعة ، بأن يعين الحال الذي يكون فيه أ ب وليس ج د وليكن هو عندما يكون ج ط فيصدق ليس البتة إذا كان ج ط ف ' ج د ' وقد يكون إذا كان أ ب ف ' ج ط ' ، يؤلف منهما قياسان كما مر . وعلى هذا فقس حال باقي الضروب . لكن يجب أن تعلم أن مقدم اللزومية إذا كان ممتنعا فالنتيجة لا يلزم أن تشترط في الأحوال والتقادير التي تقارن مقدمتها إن لم يكن اجتماعها معه ، ولا أن تكون ممكنة في نفسها . وهذا كما نقول : كلما كان الإثنان فردا فالإثنان عدد ، وكلما كان الإثنان عددا فهو زوج ، ينتج كلما كان الإثنان فردا فهو زوج . وهذا فلا يصدق إلا على تقدير أن يكون فردا وزوجا معا . وكذا إذا قلنا : كلما كان هذا أبيض وأسود فهو أبيض ، وكلما كان أبيض وأسود فهو أسود ، المنتج من الثالث قد يكون : إذا كان هذا أبيض فهو أسود ، وإنما يصدق على ألا يكون البياض مضادا للسواد ، وإذا لم يكن المقدم ممتنعا كانت النتيجة
____________________
(1/184)
صادفة في نفس الأمر ، وعلى التقادير التي يمكن اجتماعها مع المقدم . وإذا كان الأوسط غير تام في المقدمتين فهو مثل قولنا : إن كان أ ب ف ' ج د ' وكلما كان هـر فكل د ط المنتج أن كان أ ب فكلما كان هـر ف ' ج ' ط . وإذا كان تاما في أحداهما غير تام في الآخر فمثاله : ان كان أ ب ف ' ج د ' وكلما كان هـر فإن كان ج د ف ' ج ط ' ينتج أن كان هـر فكلما كان أ ب ف ' ح ط ' وكل هذه بعيدة عن الطبع ، وأقسامها كثيرة جداً ، لا يليق بهذا الكتاب استقصاء الكلام فيها . وأما المركب من منفصلتين فهو مثل قولنا دائما أما أ ب أو كل ج د وأما كل د ط أو هـر معتبر فيهما منع الخلو ، ينتج دائما إما أ ب أو كل ج ط أو هـر مانعة الخلو . فإن كانت إحدى المقدمتين جزئية فالنتيجة جزئية . والبيان أن الصادق من الأولى مع الثانية إن كان الجزء غير المشترك حصل المطلوب ، وإن كان المشترك فأي جزء صدق معه من الثانية حصل أيضاً . وأما المركبة من حملية ومتصلة ، فمثاله كلما كان هـر فكل ج ب وكل ب أ ينتج دائما أما ليس هـر أو كل ج أ مانعة الخلو بمثل ذلك البيان ، وينتج أيضا : كلما كان هـر فكل ج أ . لكن إذا كان مقدم المقدمة المتصلة ممتنعا أو غير ممتنع ، فالنتيجة على قياس النتيجة من متصلتين إذا كانا فيهما ما مقدمته كذلك . وأما المركب من حملية ومنفصلة ، فمثل قولنا كل ج ب ودائما أما كل ب أ أو هـر معتبرا فيهما منع الخلو ، ينتج دائما أما كل ج أ أو هـر مانعة الخلو . وأما المركب من متصلة ومنفصلة فقولنا : كلما كان أ ب ف ' ج د ' ودائما أما ج د أو هـر مانعة الجمع فدائما أما أ ب أو هـر كذلك ، لأن معاند لازم الشيء معاند لملزومه في الجمع ، ويقاس باقي أقسام الشرطيات وما يتألف منها ومن الحمليات على هذه الأمثلة . وتعتبر من نفسك العقيم والمنتج وبيانات الإنتاج إن تعسر ذلك عليك ، فاقتصر على ما تحقق انتاجه ونتيجته وعلى عما عداه مما لا يكاد ينحصر ، ولا هو قريب إلى طبعك ، إذ لا ضرورة داعية إليه .
____________________
(1/185)
هذا ما رأيت أن أذكره في حال القياس الاقتراني . وأما الاستثنائي فهو قريب إلى الطبع ، ويتألف إما من متصلة مع الاستثناء ، أو من منفصلة معه . أما الأول فالموجبة الكلية اللزومية إذا استثنى عين مقدمها أنتج عن تاليها ، أو نقيض تاليها ، أنتج نقيض مقدمها ، لأنه متى وضع الملزوم وضع اللازم ، ومتى رفع اللازم رفع الملزوم ، تحقيقاً للزوم ، مثل : إن كانت الشمس طالعة فالكواكب خفية ، لكن الشمس طالعة فالكواكب خفية ، أو لكن الكواكب ليست بخفية فالشمس ليست بطالعة . ولا ينتج نقيض المقدم ولا عين التالي شيئاً ، لاحتمال أن يكون التالي أعم من المقدم ، ولا يلزم من رفع الأخص رفع الأعم ، ولا وضعه ، ولا من الأعم وضع الاخص ولا رفعه . والسالبة الكلية منها فلا تنتج إلا بواسطة ردها إلى موجبة والجزئية الموجبة فيشترط في إنتاجها أن يكون الاستثناء الوضعي والرفعي دائما وعلى كل الأحوال والتقادير ، لاحتمال أن يكون الاستثناء غير حال اللزوم ، فلا يلزم منه شيء ، والجزئية السالبة فتنج بهذا الشرط إذا ردت إليها ، والاتفاقية لا تفيد باستثناء العين علما ، ولا يصدق رفع تاليها . وأما الثاني وهو الذي من منفصلة مع استثناء فالموجبة الكلية الحقيقية تنتج باستثناء عين ما يتفق منها نقيض ما سواء ، وباستثناء نقيض ما يتفق منها عين ما بقى واحدا كان أو كثيرا ، مثل : هذا العدد إما ناقص أو تام أو زائد ، لكنه تام فليس بناقص ولا زائد أو ليس بتام ، فهو إما زائد أو ناقص . ولو كان الاستثناء الأكثر من جزء بقى نقيض الآخر أو عينه . وأما الموجبة الكلية المانعة الخلو بالمعنى الاعم من الحقيقة ، فينتج باستثناء نقيض بعض الأجزاء لعين ما بقى ، ولا ينتج باستثناء عين بعضها شيئا ، مثل : اما أن يكون هذا في الماء أو لا يغرق ، لكنه ليس في الماء فهو لا يغرق ، أو لكنه غرق فهو في الماء ، لانه إذا تحقق أن لا بد من صدق أحد الجزأين ، فإذا علم انتفاء أحدهما تحقق صدق الآخر ، وإلا لكانا قد اجتمعا على الكذب ، ولو أخذت بالمعنى المنافي للحقيقة لتحقيق من استثناء عين أحدهما ثبوت عين الآخر ، وإن
____________________
(1/186)
كان غير مفيد لكونه معلوما قبل تأليف القياس . وأما الموجبة الكلية المانعة الجمع بالمعنى المتناول للحقيقة وغيرها ، فلا ينتج فيها الا استثناء العين لنقيض الباقي فقط ، مثل قولك : اما أن يكون هذا حيوانا أو شجرا . لكنه حيوان فليس بشجر ، أو لكنه شجر فليس بحيوان ، لأنه إذا حكم بعدم اجتماع قضيتين وعلم صدق النقيض من استثناء النقيض ، ولم يكن مقيدا لما مر . ولو كانت هذه المنفصلات الثلاث موجبة جزئية أو سالبة كيف كانت ، فلا تنتج إلا بشرائط لا حاجة إلى ذكرها . واستثناء الوضع والرفع يجري الحد الأوسط من الاقترانيات ، لتكرره تارة حال كونه جزءا من الشرطية ، وتارة كون حالة مستثنى .
____________________
(1/187)
فارغة
____________________
(1/188)
الفصل السادس في توابع الأقيسة ولواحقها قد تؤلف مقدمات ، ينتج بعضها نتيجة يلزم من تأليفها مع مقدمة أخرى نتيجة أخرى ، وهكذا إلى أن تنتهي إلى المطلوب ، وتسمى قياسا مركبا . وهو أما موصول النتائج أو مفصولها . أما الأول فمثل قولنا : كل أ ب وكل ب ج فكل أ ج وكل ج د فكل أ د وكل د هـفكل أ هـ. وأما الثاني وهو الذي فصلت عنه النتائج فلم تذكر ، فمثل قولنا : كل أ ب وكل ب ج وكل ج د وكل د هـفكل أ هـ. ومن الأقيسة المركبة قياس الخلف ، وهو إثبات المطلوب بإبطال لازم نقيضه المستلزم لإبطال نقيضه المستلزم لإثباته وتركيبة على أربعة وجوه : أحدهما من قياسين : اقتراني واستثنائي ، الإقتراني منهما من متصلة وحملية إن كان المطلوب حمليا أو من شرطين من جزء تام من إحدى المقدمتين ، وغير تام من الأخرى إن كان المطلوب شرطياً . ومثاله فيما يكون المطلوب حملياً ، وليكن ليس كل ج ب قولنا إن لم يكن ليس كل ج ب صادقا فكل ج ب صادق ، وهذه هي المتصلة ، ثم نضم إليها حماية هي : وكل ب أ على أنها بينة ولا شك فيها أو غير بينة ، لكنها تثبت بقياس آخر ، فينتج إن لم يكن قولنا ليس كل ج ب صادقاً فكل ج أ ثم نقول : لكن ليس كل ج أ على أنه بين البطلان أو بين بطلانه ، فينتج نقيض المقدم ، وهو ليس لم يكن قولنا ليس كل ج ب صادقاً ، فليس كل ج ب صادق ، وهو المطلوب .
____________________
(1/189)
وثانيها أما كل ج ب أو كل ب أ مانعة الجمع ، إذ لو جاز اجتماعهما على الصدق لصدقت نتيجتهما ، وهي كل ج أ لكن ليس كل ج أ على أنها كاذبة ، فلا يجتمعان على الصدق ، لكن كل ب أ على أنها صادقا ، فليس كل ج ب . وثالثها : أما ليس كل ج ب أو كل ج أ مانعة الخلو ، لكن ليس كل ج أ على أنها كاذبة ، فيصدق ليس كل ج ب ويتبين منع الخلو بأن كل ب أ صادق على ما فرض ، فأما أن يصدق معه كل ج ب أو ليس كل ج ب . فإن كان الأول انتج مع المقدمة الصادقة كل ج أ فامتنع الخلو ، وإن كان الثاني امتنع الخلو أيضاً . ورابعها - إن كان كل ج ب فكل ج أ لصدق كل ب أ على أنها قضية مسلمة ، ثم يقال : لكن ليس كل ج أ فينتج ليس كل ج ب . والفرق بين الخلف والمستقيم ، إن المستقيم يتوجه أولا إلى إثبات المطلوب ويتألف مما يناسبه ، وتكون مقدماته مسلمة أو ما في حكمها ، ولا يكون المطلوب موضوعاً فيه أولاً . والخلف يتوجه إلى أبطال نقيض المطلوب ، ويشتمل على ذلك النقيض ، ولا يشترط فيه تسليم المقدمات ، وما في حكمه ، ويوضع فيه المطلوب اولا ومنه ينتقل إلى نقيضه ، وربما لا يدل على نفس المطلوب ، بل على ما هو أعم منه أو أخص ، أو ' مساوي ' له إذا وضع شيء من ذلك وظن أنه المطلوب ، ولا يتأتى في ذلك صدق المطلوب وإن كان لا ينتجه . وإذا أخذ نقيض النتيجة المحالة في الخلف كليس كل ج أ ، وقرن مع المقدمة الصادقة ككل ب أ أنتج مطلوبنا على الإستقامة ، كليس كل ج ب . ومن المركبات المفصولة القياس ، وهو الذي صغراه منفصلة يشارك أجزاء الإنفصال منهما في الموضوع ، ويضم إليها حمليات فوق واحدة ، مثل قولنا : دائماً أما كل أ ب أو كل أ ج وكل ب د وكل ج هـينتج دائما أما
____________________
(1/190)
أ د أو كل أ هـ، لأن الصغرى مع الحملية الأولى تنتج دائماً إما كل أ د أو كل أ ج وهذه النتيجة مع الحملية الثانية ، تنتج دائماً إما كل أ د أو كل أ هـ. . وتكثير القياس عبارة عن مقدمات تنتج كل مقدمتين منها نفس المطلوب ، كقولنا كل أ ب وكل ب ج وكل أ د وكل د ج ، وكل أ هـوكل هـج والمطلوب كل أ ج . وقياس الضمير هو قياس حذفت كبراه ، أما لوضوحها كقولنا : هذان خطان خرجا من المركز إلى المحيط فهما متساويان . أو لإخفاء كذبها ، كقولنا : فلان يطوف بالليل فهو سارق . وتقدير الأول : وكل خطين هما هكذا فهما متساويان . وتقدير الثاني : وكل من يطوف بالليل فهو سارق . وعكس القياس : هو أن يؤخذ نقيض النتيجة ، ويضم إلى إحدى المقدمتين ، لينتج مقابل الأخرى ، مثل : كل ج ب وكل ب أ فكل ج أ فيقال : ليس بعض ب أ ، لأن كل ج ب وليس كل ج أ . ويقام عليه حجة ما ، فليس بعض ب أ ويسمى ذلك عصبا لنصب التعليل . وقياس الدور : هو أن يجعل نتيجة القياس وعكس إحدى المقدمتين منتجا للأخرى ، وذلك إنما يكون عند تعاكس الحدود ، كقولنا : كل إنسان ضاحك ، وكل ضاحك متفكر فكل إنسان متفكر . ثم نقول : كل إنسان متفكر ، وكل متفكر ضاحك ، فكل إنسان ضاحك . واستفزاز النتائج : هو يستنتج من القياس المنتج بالذات نتائج أخرى بالعرض . لازمة لنتيجته الذاتية ، وهي كذب نقيضها وعكسها وعكس نقيضها وجزئيات تحتها أو معها ، وسائر لوازم الحمليات والمتصلات والمنفصلات . وقد يستنتج من مقدمتين كاذبتين أو كاذبة وصادقة صادق ، كقولنا : كل إنسان حجر ، وكل حجر حيوان ، أو كل إنسان جسم وكل جسم حيوان ، المنتج : كل إنسان حيوان . وإذا كانت الكبرى في الضربين الأولين من الشكل الأول كاذبة بالكل ، بمعنى أنها لا تصدق جزئية أيضا ، لم يستنتج الصادق إلا من كاذبتين . وأما
____________________
(1/191)
من صادقة هي الصغرى وكاذبة هي الكبرى فلا ، لأن الكبرى يصدق ضدها ، وهو ينتج مع الصغرى الصادقة ضد تلك النتيجة ، فلو صدقت لصدق الضدان ، وهو محال . ومنال كل ج ب على أنه صادق ، وكل ب أ على أنه كاذب بالكل ، فلو كان كل ج أ صادقا لصدق معه لا شيء من ج أ لكون الكبرى الكاذبة يلزمها صدق لا شيء من ب أ . ويكتسب القياس من الحمليات الإقترانية بتحليل حدى المطلوب إلى ذاتياتها وعرضياتها ومعروضاتها اللازمة والمفارقة ، ثم محاولة وسط تقتضي تأليفا بينهما منتجا له إيجابا أو سلبا . والطريق إلى ذلك أن يطلب ما يحمل على كل واحد من الحدين وما يحملان عليه من الذاتيات بأسرها والعرضيات ، وذاتيات العرضيات وعرضياتها ، وعرضيات الذاتيات ، والأوساط متناهية لا بد ، فإن وجدت في محمولات موضوع المطلوب ما يصلح موضوعاً لمحموله ، صح قياسك من الشل الأول ، أو وجدت ما يصلح محمول الطرفين ، صح من الثاني ، أو موضوعهما صح من الثالث ، أو وجدت في موضوعات موضوع المطلوب ما يصلح محمولا على محموله ، صح من الرابع ، سواء كان الحمل أو الوضع في موجبة أو سالبة على حسب مطلوباتك . والشخصي لا يحمل ولا يطلب في العلوم . وعلى هذا فقس الحال إذا كان المطلوب متصلا أو منفصلا ، وعلى أن يجعل المقدم الطبعي ، وهو في المتصلة أو الوضعي ، وهو في المنفصلة في حكم الموضوع ، وبالتالي الطبعي في المتصلة ، والوضعي في المنفصلة ، في حكم المحمول ، واللزوم والعناد وما يشبههما في حكم الحمل السلبي ، ولا يخفي عليك اكتساب القياس إذا كان استثنائياً . وتحليل القياسات المركبة . هو بتخليص الحدود والمقدمات عن الزوائد ، والنظر في اشتراك بعض المقدمات ، مع بعض ، مع المطلوب ، ليطلع على تأليف كل قياس منها .
____________________
(1/192)
وإنما احتج إليه ، لأنه ليس كل نتيجة في العلوم ، تورد حجتها على نظم مستقيم ، أي على هيئة أحد الأشكال الإقترانية والإستثنائية ، بل قد تحرف بزيادة وحذف وتغير . فإذا وجدت ما يناسب المطلوب ، فإن ناسب كليته فالقياس شرطي ، فيستثنى للإنتاج ، وإن ناسب جزاه ، فليطلب ما يناسب الجزء الآخر ، ويجتهد في تلفيق المقدمات المتميزة على نسق الأشكال مشتركة في أمر منتهية إلى المطلوب . وإن لم يناسب المطلوب أصلا فليس بقياس ، وكثيراً ما تقع المناسبة بالمعنى دون اللفظ ، ويبدل اللفظ المركب بالمفرد ، وعلى الخلاف ، ويستعمل المشترك وكل هذه تمنع من التنبيه للمناسبة . فيجب أن يجرد النظر إلى المعنى ، من غير التفات إلى الألفاظ ، ويحترز من اشتباه كل واحدة من المعدولة ، والسالبة بالأخرى ، وإلا لم يتم التحليل . والكلام فيما يتبع الأقيسة طويل ، ولكنه غير لائق بغرض هذا المختصر .
____________________
(1/193)
فارغة
____________________
(1/194)
الفصل السابع في الصنائع الخمس التي هي : البرهان والجدل والخطابة والشعر والمغالطة أما البرهان فهو قياس مؤلف من مقدمات يقينية ، لإنتاج نتيجة كذلك ، واليقين حكم على الحكم التصديقي بالصدق على وجه لا يمكن أن يزول . وهذه اليقينيات إن كانت مكتسبة فلا بد وأن تنتهي إلى مبادئ واجبة القبول ، غير مكتسبة ، وهي سبعة : والأوليات : وهي التي يكفي في الحكم بها مجرد تصور طرفيها ، مثل : إن الكل أعظم من جزئه ، وأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان . والمحسوسات : وهي التي يحكم بها العقل جزما ، بواسطة الحس الظاهر ، ككون الشمس مضيئة والنار حارة . وما ادركه الحس ولم يجزم به العقل فهو خارج عنه ، فإن الحس يدرك الشمس مقدارا ، ولا يجزم العقل بأن ذلك هو مقدارها في نفس الأمر . والوجدانيات : وهي ما تدركه النفس بذاتها ، أو بحس باطن بالوجدان ، كعلمنا بوجودنا ، وبأن لنا فكرة ولذة . والمجربات : وهي التي يحكم بها العقل ، لتكرر الإحساس التي يتأكد معه عقد جازم لا يشك فيه ، لمخالطة الإحساس قوة قياسية خفية ، هي أنه لو كان
____________________
(1/195)
ذلك إتفاقيا لما كان دائما ولا اكثريا . وربما كان ذلك الجزم مع قيود مخصوصة ، كحكمنا بأن السقمونيا مسهل ، ولكن تقيد أن إسهاله هو في بلادنا ، وعلى الأكثر فإنا لا نتيقن أنه مسهل مطلقا ، ولا في كل بلد ، وهو من الإستقراء الذي هو حكم على كلي بما وجد في جزئياته الكثيرة . والإستقراء قد يفيد اليقين لتحصيله ، لاستعداد النفس التام له ، كحكمك بأن كل إنسان قطع رأسه لا يعيش ، وهذا في متحد النوع ، وفي مختلفه فلا يفيد اليقين ، مثل : إن كل حيوان يحرك عند المضغ فكه الأسفل ، فربما كان ما لم يستقرئه بخلاف ما استقرأته كالتمساح في مثالنا هذا . والمتواترات : وهي ما تحكم بها النفس يقينا ، لكثرة الشهادات ، بأمر محسوس ، ويكون الشيء ممكنا في نفسه ، وتأمن النفس من التواطؤ على الكذب . وفيه أيضاً قوة قياسية . وقد يحصل اليقين من عدد ، ولا يحصل مما هو أكثر منه ، كعلمنا بوجود مكة في زماننا ، وجالينوس فيما تقدم . وفطريات القياس : وهي التي تصدق بها لأجل وسط لا يعزب عن الذهب ، بل يخطر مع خطور حدى المطلوب بالبال ، فلا يحوج إلى طلبه ، كالعلم بان الإثنين نصف الأربعة ، لقياس هو : أن الإثنين عدد انقسممت الأربعة إليه ، وإلى ما يساويه ، وكلما هو كذا فهو نصف الأربعة . والحدسيات : وهي ما حكمت النفس به يقينا لقرائن غير التي في المبادئ السابق ذكرها ، فحصل الإستعداد التام بحصول اليقين . وليس على المنطقي أن يطلب السبب فيه بعد ألا يسكت في وجوده . وليس شيء من هذه المبادئ حجة على الغير ، إذا لم يحصل له اليقين منها ، كما حصل لك ، كعلمك بأن نور القمر مسفتاد من الشمس ، وإنما يحدسه الناظر من اختلاف مشكلاته بحسب اختلاف أوضاعه . وليس من شرط ما يجب قبوله أن يكون قضية ضرورية ، بل قد يكون ضرورياً . وغيره من الجهات ، كالإمكان والإطلاق . إذ المراد بقبول كل قضية هو صدقها المتيقن . إن كانت
____________________
(1/196)
ضرورية فصدقها في ضرورتها ، أو كانت ممكنة فصدقها في إمكانها ، أو مطلقة ففي إطلاقها . والبرهان : منه برهان ' لم ' وهو الذي يعطي علة الوجود والتصديق معا ، كقولنا : هذه الخشبة مستها النار ، وكل كدر محترق ، فهذه الخشبة محترقة ، فالأوسط فيه مع كونه علة التصديق ، هو علة للحكم بالأكبر على الأصغر ، وإن لم يكن علة للأكبر في نفسه ، بل ربما معلولا لأحد الطرفين ، كحركة النار التي هي معلولة لها : وهي علة وصولها إلى الخشبة ، ومنه برهان ' إن ' وهو الذي يعطي علة التصديق فقط ، كقولنا : هذه الحمى تشتد غيا ، وكل حمى تشتد كذلك فهي محرقة . وربما كان الأوسط في هذا معلولا للحكم ، يسمى دليلاً ، مثل : هذه الخشبة محترقة ، وكل محترق فقد مسته النار . ومباحث البرهان كثيرة ، ولا حاجة في هذا الكتاب إلى أكثر من هذا . وأما الجدل فصناعة علمية ، يقتدر معها على إقامة الحجة من المقدمات المسلمة على أي مطلوب يراد ، وعلى محافظة أي وضع يتفق على وجه لا يتوجه إليها مناقصة بحسب الإمكان ، وناقض الوضع بإقامة الحجة يسمى سائلاً ، وغاية سعيه أن يلزم ، وحافظه يسمى مجيباً ، وغاية سعيه ألا يلتزم . ومبادئ الجدل هي المسلمات العامة أو الخاصة ، والتي بحسب شخص ، فعند السائل هي ما يتسلمه من المجيب ، وعند المجيب هي المشهورات . فمنها الواجب قبولها ، لا من حيث واجب قبولها ، بل من حيث عموم الإعتراف بها . ومنها الآراء المحمودة ، وهي التي لو خلى الإنسان وعقله المجرد وحسه ووهمه ، لم يؤدب بقبول قضاياها والإعتراف بها ، ولم يلم الإستقراء بظنه القوي إلى حكم ، ولم يستدع إليها ما في طبيعة الإنسان من الرحمة والخجل والأنفة والحمية ، وغير ذلك ، لم يقض بها الإنسان طاعة لعقله أو وهمه أو حسه ، مثل حكمنا أن أخذ مال الغير قبيح ، والكذب قبيح ، وكشف العورة قبيح . وهذه قد تكون صادقة ، وقد تكون كاذبة ، وقد تكون عامة ، يراها الجمهور ، كقولنا : العدل جميل ، وخاصة يراها أهل ملة أو صناعة دون غيرهم .
____________________
(1/197)
وربما كان المتقابلان مشهورين بحسب رأيين أو غرضين ، ولا يلزم الجدلي أن يستعمل الحجج التي تنتج حقيقة ، بل قد يستعمل ما ينتج بحسب الشهرة ، أو تسليم الخصم ، وإن كان عقيما في نفس الأمر . وفوائد الحجج الجدلية : إلزام المبطلين ، والذب عن الأوضاع ، فيقابل فاسد بفاسد لئلا يشرع مع كل مهارش في أسلوب التحقيق ، وإقناع أهل التحصيل من العوام والمتعلمين القاصرين عن البرهانيات ، أو غير الواصلين إلى موضعه بعد . وربما لاح من المجادلة على طرفي النقيض بين الخصمين برهان أحدهما ويحصل منه رياضة الخاطر وغير ذلك . وأما الخطابة فإنها صناعة علمية ، يمكن معها إقناع الجمهور ، فيما يراد تصديقهم به ، بقدر الإمكان . ومبادئها ثلاثة : المقبولات ممن يوثق بصدقه أو يظن صادقاً . والمشهورات في مبادئ الرأي ، وهي التي تذعن لها النفس في أول اطلاعها عليها ، فإن رجعت إلى ذاتها عاد ذلك الإذعان ، ظنا أو تكذيبا ، مثل : انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ، فإنه عند التأمل يظهر أن الظالم ينبغي ألا ينصر ، وإن كان أخا . والمظنونات : وهي التي تميل إليها النفس مع شعورها بإمكان مقابلتها ، فهي وإن كان المحتج يستعملها جزماً فإنه إنما يتبع فيها مع نفسه غالب الظن . وهي كما يقال : فلان يتكلم مع الأعداء جهاراً ، فهو متهم ، وربما يكون مقابله مظنونا باعتبار آخر ، كما يقال ذلك بعينه في نفي التهمة عنه . والحجج المستعملة فيها هي ما يظن منتجاً ( سواء ) كان منتجا في نفس الأمر ، أو لم يكن .
____________________
(1/198)
وينتفع بها في تقرير المصالح المدنية ، وفي أصولها الكلية ، كالعقائد الألهية والقوانين العلمية . وقد يكون بعضها منبها للنفس على تحصيل العلم اليقيني ، أو معدا لها لقبول ذلك من مبدئه . وهذه الفائدة ربما كان بحسب بعض الأشخاص دون غيرهم . وأما الشعر : فهو صناعة يقتدر معها على إيقاع تخيلات ، تصير مبادئ انفعالات نفسانية مطلوبة . فمبادؤها المخيلات ، وهي التي تؤثر في النفس انبساطا أو انقباضا ، أو تسهيل أمر أو تهويله أو تعظيمه أو تحقيره . كما يقال للعسل أنه مرة مقيء ، فينفر من أكله . وهذه قد تكون صادقة ، وقد تكون كاذبة ، وربما زاد تأثيرها على تأثير التصديق ، وإن لم يكن معه تصديق . والتخيل محاكاة معاً ، والمحاكاة تفيد التذاذا وتعحبا كالتصوير مثلا وإن كان لشيء قبيح ، ولهذا كانت النفوس العامية مطيعة له أكثر من طاعتها للإقتاع . ولا يشترط في تأليف الحجة الشعرية ، أن تكون منتجة في نفس الأمر ، بل بحسب الإقناع والتخيل فقط . واشتركت الشعريات والخطابيات في إفادة الترغيب والترهيب ، في الأمور الدينية والدنيوية . وهذه الصنائع الثلاث ، أعني : الجدلية والخطابية والشعرية فذكر في كل واحد منها كلام طويل ، يحتمل كتابا مفردا ، ولا يليق بغرض هذا الكتاب أكثر من الذي ذكرناه . وأما المغالطة فهي أن يؤتى بما يشبه برهانا أو جدلا وليس هو . ولا بد
____________________
(1/199)
فيهما من ترويج يقتضيه مشابهة ، أما في مادة أو صورة . وموادها هي المشبهات بغيرها ، والوهميات والاشتباه في المشبهات تنقسم إلى ما يتوسط اللفظ ، وإلى ما يتوسط المعنى . والذي يتوسط اللفظ قد يكون باعتبار انفراده : إما في جوهرة ، كالذي مدلولاته مختلفة ، وإما في أحواله الذاتية ، وهي ما لا تدخل عليه بعد تحصيله ، كاختلاف التصاريف ، أو في أحواله العرضية ، كاختلاف الإعراب والبناء والاعجام والشكل . وقد يكون باعتبار تركيبه : أما في نفس التركيب ، وهو الاشتراك التركيبي ، كما يقال : كل ما يتصوره العاقل فهو كما يتصوره ، فتارة هو يرجع إلى العاقل . وتارة يرجع إلى المعقول ، ( وكقولك ) ، بعتك هذا الثوب ، فإنه مشترك بين الخبر والإنشاء . وأما في وجود التركيب وعدمه ، كما قد يصدق القول مفردا فيتوهم مؤلفا . كما يقال : زيد شاعر جيد ، فيظن جودته في الشعراء ، ويصدق مؤلفا فيتوهم مفردا ، كما يقال : الخمسة زوج مفرد ، فيظن أنه زوج مفردا . والذي يتوسط المعنى ، فأما في أحد جزئي القضية ، أو فيهما معا ، وما في أحدهما إما بألا يورد ، فإن لم يورد بل أورد ما يشبهه من اللوازم والعوارض ، كمن رأى إنسانا أبيض يكتب ، فظن أن كل كاتب كذا ، فأخذ الأبيض بدل الكاتب ، سمى أخذ ما بالعرض مكان ما بالذات . وإن أورد لكن أخذ معه ما ليس منه ، أو حذف عنه ما هو منه ، مثل القيود والشروط وغيرها ، كمن يأخذ غير الموجود على وجه مخصوص غير موجود في نفسه سمى سوء اعتبار الحمل . وما في جزئي القضية معا ، فهو إيهام العكس ، كمن رأى الخمر أحمر مائعا ، فظن أن كل أحمر مائع هو الخمر . والوهميات : قضاءا كاذبة يحكم بها
____________________
(1/200)
الوهم الإنساني في المعقولات الصرفة حكمه في المحسوسات ، ويقضي بها قضاء شديد القوة ، بسبب أنه لا يقبل مقابلها ، إذ هو تابع للحس ، فما لا يوافق المحسوس لا يقبله ، ولهذا ينكر نفسه ، ويساعد العقل في مقدمات ناتجة لنقيض حكمه ، فإذا وصل إلى النتيجة رجع عما سلمه . ويكاد يشاكل القضايا الأولية ، ويشتبه بها . وذلك كالحكم بأن كل موجود فله وضع ، وأنه لا بد من خلأ ينتهي إليه الملأ . وأفعال المغالطين : إما في القول المطلوب به إنتاج الشيء ، وإما في أشياء خارجة عنه . والخارجة مثل تخجيل الخصم ، وترذيله ، والاستهزاء به ، والتشنيع عليه ، وقطع كلامه ، والاغراب عليه في اللغة ، وسوق كلامه إلى الكذب ، بتأويل ما ، واستعمال ما لا يدخل في مطلوبه ، وما يجري هذا المجرى ، وما في نفس القول الذي يطلب به الإنتاج . فما يتعلق بالقضية مفردة وأجزائها قد مضى . وما يتعلق بالتركيب : فأما في تركيب يدعى قياسيته ، أو في تركيب لا يدعى فيه ذلك . والثاني هو كجمع المسائل في مسألة ، مثل : الإنسان ، وحده : ضحاك ، فإنه قضيتان على صيغة قضية واحدة . والقضيتان هما : الإنسان ضحاك ، ولا شيء غير الإنسان بضحاك ، والتركيب الذي يدعي قياسيته ، فأما بالنسبة إلى النتيجة ، أولا بالنسبة إليها ، والذي ليس بالنسبة إليها ، فأما في صورته ، بأن يكون على هيئة غير منتجة ، أو مادته ، بأن يكون محرفا عن الإنتاج ، باغفال بعض شرائطه ، بحيث لو صار كما يجب لصار كاذبا ، أو صار بحيث يصدق صار غير قياس ، والذي بالنسبة إلى النتيجة ، فاما بأن تكون النتيجة نفسها مأخوذة فيه على أنها أحد مقدماته ، وهذا هو المصادرة على المطلوب ، وأما بألا يكون كذلك ، لكنه غير مناسب للنتيجة .
____________________
(1/201)
ويسمى أخذ ما ليس بعلة علة ، وأمثال هذه لا تتزوج إلا بسبب اشتباه لفظي ( أو ) معنوي . ولولا القصور ، وهو عدم التمييز بين ما هو الشيء ، وما هو غيره لما تم للمغالطة صناعة . وفائدة هذه الصناعة أنها تعصم صاحبها من أن يغلط في نفسه ، أو يغلطه غيره ، وأنه يقدر على أن يغالط المغالطين ، وأنه يستعملها : إما امتحاناً أو عناداً ، لغرض ما . ومن تصفح الحجة وأجزاءها ، فوجد على ما ينبغي مادة وصورة ، ولفظا ومعنى ، مركبة ومفردة - أمن من أن يقع له غلط . ويعين على هذا التصفح كثرة الإطلاع على المغالطات وحلها . وسيأتي في الأبواب المستقبلية ما يستعان به على حل كثرة منها . وأذكر في هذا الموضوع نكتا لطيفة ينتفع بها في التدريب ورياضة الخاطر ، وتكون كالأنموذج لما سواها ، مما يقصد بها التغليط . وهي خمسة : الأولى منها : يدعى أن الخلأ موجود . لأن وجود الخلأ لو لم يكن مستلزما لإرتفاع الواقع ، لكان واقعا ، لكن المقدم حق ، فالتالي مثله . بيان الشرطية : أنه لو لم يكن واقعاً ، لكان الوقع نقيضه ، فيكون وجوده مستلزماً الارتفاع الواقع ، ضرورة أن وجوده مستلزم لارتفاع نقيضه . وأما حقية المقدم فلأنه لو كان مستلزماً لارتفاع الواقع ، لكان منتفياً ، فلو ثبت لم يستلزم ( لوحة 259 ) ارتفاع الواقع . وإذا لم يستلزم ارتفاع الواقع على تقدير ثبوته ، لا يكون مستلزما لارتفاع الواقع . وحله : أنه عنى أن مقدم المتصلة معناه أن على تقدير أن يكون الخلأ موجوداً في نفس الأمر ، لم يكن وجوده مستلزماً لارتفاع الواقع ، فهو حق ، لأن وجوده إذ ذاك هو الواقع ، ولا يلزم منه أن وجود الخلأ واقع في نفسه .
____________________
(1/202)
وقوله في بيان اللزوم أن وجوده مستلزم لارتفاع نقيضه الواقع لو لم يكن هو واقعاً ، فلا منافاة بينه وبين صدق مقدم المتصلة ، التي هي متصلة أيضاً ، لأن المقدر في ذلك المقدم ، هو أن وجوده حاصل في نفس الأمر ، لا أنه حاصل في نفس الأمر ، مع كونه ليس بحاصل في نفس الأمر حقيقة . وإن عنى به أن فرض وجوده كيف كان لا يستلزم ارتفاع الواقع ، سلمنا اللزوم ومنعنا صدق المقدم . وقوله في بيانه إذا لم يستلزم وجوده ارتفاع الواقع على تقدير ثبوته ، لا يكون مستلزماً له فممنوع ، إذ جاز استلزامه له على تقدير عدم ثبوته . وفي تصور هذا وأمثاله دقة ، فيجب تأمله ، ليتضح . وإن عنى معنى آخر فيجب أن يبين ليتكلم عليه بحسبه . والثانية : قولنا : بعض الجسم ممتد في الجهات ، إلى غير النهاية ، لأنه لو لم يصدق لصدقه : لا شيء من الجسم بممتد في الجهات إلى غير النهاية ، وينعكس لا شيء من الممتد في الجهات إلى غير النهاية بجسم ، وهو كاذب ، لصدق قولنا : كل ممتد إلى غير النهاية جسم . وحله : أن موضوع الجزئية التي هي المدعى ، أن لم يقيد بالوجود الخارجي فهو صادق ، لأن بعض الأجسام في الذهن كذلك . وإن قيد به ، وجب أن يؤخذ القيد في نقيضه السالب ، وفي عكسه فلا ينافي صدق الموجبة الكلية التي محمولها غير مقيد بأنه في الخارج ، ولو قيد به لما صدقت ، لعدم موضوعها فيها . والثالثة : هي أن ثبوت الإمكان لا يلزم منه إمكان الثبوت ، فلا يلزم من صدق بعض ج ب بالإمكان العام إمكان صدق بعض ج ب بالفعل ، لأن الأول حكم بثبوت الإمكان ، ولثاني حكم بإمكان الثبوت .
____________________
(1/203)
ومستند المنع من اللزوم أن الحادث يثبت إمكان وجوده في الأزل ، ولا يمكن ثبوت وجود في الأزل . ففي هذه المادة قد ثبت الإمكان ، ولم يمكن الثبوت ، وهذا مما حكم به ، وادعى صدقه ، الامام نجم الدين الدويراني . رحمه الله ( تعالى ) . وحيث أورده على قلب في حلة ما هذا خلاصته : أن الإمكان لا يمكن تعقله إلا مضافا إلى شيء يكون إمكانا له . فالإمكان الثابت في القضية ليس إلا إمكان ثبوت المحمول للموضوع . فإذا حكمنا بثبوت ذلك الإمكان فقد حكمنا بإمكان ذلك الثبوت لا محالة . فكيف يصدق أحدهما بدون صدق الآخر . والمستند إنما كان يصح جعله مستندا ، لو صدق حكمنا بثبوت إمكان وجود الحادث في الأزل ، ولم يصدق ثبوت ذلك الوجود في الأزل ، وليس كذا ، فإنا أن جعلناه قيدا في الأزل ، متعلقا بوجود الحادث كانا كاذبين . وإن جعلناه متعلقا بالإمكان كانا صادقين . وإنما يصدق الأول ، ولا يصدق الثاني ، إذا جعل قيد في الأزل متعلقا تارة بالإمكان ، وتارة بوجود الحادث . وإذا عنى به ذلك لم يكن مطابقا لما ادعيناه . ولا يقال : إذا ثبت في الأزل إمكان وجود الحادث ، ولم يكن ثبوت وجود الحادث في الأزل . ففي الحالة المعبر عنها بالأزل قد يثبت الإمكان ، ولم يمكن الثبوت ، فجاز صدق الأول بدون الثاني في ذلك الحال ، فيظهر صحة المستند . لأني أقول المدعي أنه إذا صدق ثبوت الإمكان لشيء صدق إمكان ثبوت ذلك الشيء في الجملة ، وبرهنا عليه ، وهذا أعم من أنه إذا صدق ثبوت الإمكان لشيء في آخر ، سواء كان ذلك الآخر هو الأزل ، أو غيره ، صدق إمكان ثبوت ذلك الشيء في ذلك الآخر . ولا يلزم من دعوانا صدق الأعم أن يكون منه صادقا .
____________________
(1/204)
فظهر الفرق ، ولو لم يلزم من صدق بعض ج ب بالإمكان العام صدق أنه يمكن بالإمكان العام أن يصدق بعض ج ب بالفعل ، لصدق أنه ليس يمكن بالإمكان العام ذلك . ويلزمه أن تمنع بعض ج ب بالفعل ، فيصدق بالضرورة لا شيء من ج ب مع صدق بعض ج ب بالإمكان العام الذي هو نقيضه ، هذا خلف . وقال في دفع هذا ، أن اللازم من صدق قولنا تمتنع أن يصدق بعض ج ب بالفعل ، ليس هو بالضرورة لا شيء من ج ب ، بل هو وجوب صدق لا شيء من ج ب دائما . فأجبت عنه أنه الدوام لا ينفك عن الوجوب البتة ، لان كلما لم يجب وجوده عن علته لم يوجد ولم يستمر وجوده ، وما لم يجب عدمه لم يعدم ( لوحة 260 ) ، ولم يستمر عدمه . والعقل لما أمكنه أن يحكم بالدوام ، مع قطع النظر عن الوجود - لا جرم - كانت الدائمة في المفهوم أعم من الضرورة . لكن متى لاحظ العقل في الدوام وجوبه ، فقد لاحظه من حيث هو ضروري ، وصارت جهة الدوام ( هي ) جهة الضرورة . فقولنا : لا شيء من ج ب دائما أ يلاحظ وجوب صدقه ، هو بعينه بالضرورة : لا شيء من ج ب أ مساو له . والرابعة : نفرض شخصا دخل بيتنا ، ثم قال : كل كلامي في هذا البيت كاذب ، ثم خرج منه . فقوله هذا إن كان صادقا يلزم كونه كاذبا ، لأنه فرد من أفراد كلامه ، فيصدق ويكذب معا ، وإن كان كاذبا فبعض كلامه في هذا البيت صادق . فإن كان الصادق هذا الكلام فقد صدق وكذب معا . وإن كان الصادق غيره وهو كاذب في نفسه ، فيلزم صدقه وكذبه معا . وحله : أنه خبر عن نفسه ، فالخبر والمخبر عنه واحد . فلا يكون صادقا ، لأن مفهوم الصدق مطابقة
____________________
(1/205)
الخبر للمخبر ، ولمطابقة لا تصح إلا مع اثنينية ما ، وهي مفقودة ههنا . فهو إذن كاذب ، لعدم المطابقة المذكورة . ولا يلزم من كذبه بهذا المعنى كونه صادقا ، وإنما كان يلزم ذلك ، أن لو كانت الأثنينية ثابتة ، مع عدم هذه المطابقة . ومن تحقق الفرق بين السلب البسيط والعدول ، تحقق الفرق بين الكذبين ههنا . وأيضاً فإن صدق هذا الخبر هو اجتماع صدقه وكذبه . فكذبه هو عدم هذا الإجتماع ، فجاز أن يكون عدمه كاذبا فقط ، لا لكونه صادقا فقط . ثم موضوع هذا الخبر أن أخذ خارجيا فهو كاذب ، لعدم موضوعه ، ولا يلزم صدقه ، إلا ففي العقل أفراد كثيرة من ( كلامه ) غير هذا ، فلا يتعين من كذب كلام واحد منها صدقه . الخامسة : هي أن نقول : المتصلة الكلية لا تصدق البتة ، وحتى لو كان تاليها عين مقدمها ، لأنك إذا قلت : كلما كان أ ب ' ج د ' ، فنقول : ليس كذلك ، لأنه كلما كان أ ب وليس ج د ف ' أ ب ' ، وكلما كان أ ب وليس ج د ، فليس ج د . ينتج من الشكل الثالث ، وقد يكون إذا كان أ ب فليس ج د . فلا يصدق : كلما كان أ ب ف ' ج د ' وكذلك إذا قلت : ليس البتة إذا كان أ ب ف ' ج د ' فإنا نقول : كلما كان أ ب ، و : ج د ، ف ' أ ب ' . وكلما كان أ ب ، و : ج د ، ف ' ج د ' فقد يكون إذا كان أ ب ف ' ج د ' . وحله : أن تالي هذه المتصلة إن كان لازما في الموجبة ، أو غير لازم في السالبة ، على كل تقدير من التقادير مطلقاً ، من غير تقييد هذه التقادير بما يمكن اجتماعه مع المقدم فسلم أنها لا تصدق . وإن كان لزومه أو عدم لزومه على التقادير الممكنة الإجتماع مع المقدم ، جاز صدقها مع صدق الخبرية التي ليست كذلك ، لما عرفته في نتائج المتصلات الإقترانية إذا كان المقدم في مقدمات القياس ممتنعاً . وقد مر في الفصول السابقة ضوابط كثيرة ، يستعان بها على حل المغالطات . والإعتماد في ذلك
____________________
(1/206)
- بعد معرفة القوانين والتدريب باستعمالها - على الفطرة السليمة . ومباحث المنطق كثيرة جداً ، لكنني لم أر في الزيادة على هذا القدر فائدة يعتد بها ، بحسب غرض هذا الكتاب ، بل كثير مما ذكرته فيه من المباحث المنطقية إنما هو لرياضة الخاطر ( فحسب ) ، لا للحاجة إليه ، في إعتبار البراهين المستعملة فيه وتصحيحها ، فلهذا اقتصرت على هذا القدر منه . وما أوجزت الكلام في بيانه ، ولم أوضحه بالأمثلة ، فإنما ذلك منى ، اتكالاً على فهم المخاطب ، أو لأنه مستوفى في كتب أخرى مشهورة .
____________________
(1/207)
فارغة
____________________
(1/208)
الباب الثاني في الأمور العامة للمفهومات كلها
____________________
(1/209)
فارغة
____________________
(1/210)
الفصل الأول في الوجود والعدم وأحكامها وأقسامها الوجود لا يمكن تحديده ، لانه أولى التصور ، ولا شيء أعرف منه ، حتى يعرف به . ومن رام بيانه فقد أخطأ ، فإن القائل إذا قال مثلا : حقيقة الموجود أن يكون فاعلاً أو منفعلاً ، فقد أخذ الشيء في تعريف نفسه ، فإن الفاعل والمفعول يؤخذ في تعريفهما الموجود ، مع زيادة إفادة واستفادة . وكذلك من عرفه بأنه هو الذي ينقسم إلى حادث وقديم ، فإنهما لا يعرفان إلا بالموجود مأخوذاً مع سبق عدم ، أو لا سبقه . ومتى عرف فلا بد وأن يؤخذ في تعريفه ، وكذا في تعريف الشيئية ألفاظ تراد فهما ، مثل : الذي ، وما . كما يقال : هو الذي هو كذا ، أو هو ما ينقسم إلى كذا . والشيئية أعم من الوجود باعتبار أن المعقول الذي يمتنع أو يمكن ، لكنه معدوم ، هو شيء في العقل ، لأن له صورة عقلية ، وليس له وجود . وهذا الاعتبار إنما يصح ، إذا خصص الوجود بما في الأعيان ، وأما إذا أخذ أعم منه ومن الذهني ، فكما أنه شيء وباعتبار معقوليته هو موجود في الذهن بهذا الاعتبار ، وكما أنه ليس بموجود في الأعيان ليس بشيء في الأعيان . والشيئية باعتبار آخر ، أعم من الوجود من وجه ( لوحة 261 ) ، وأخص
____________________
(1/211)
من وجه : أما وجه عمومها ، فلأنها تقال عليه ، وعلى الماهية المفروضة له . وأما وجه خصوصها ، فلأن الوجود يقال على الماهية المخصصة ، وعلى اعتبار الشيئية اللاحقة بها ، لأن لها وجودا ، ولو في الذهن . وباعتبار ثالث ، هما - أعني - الشيئية والوجود لفظان مترادفان ، ينقسم معناهما إلى : عيني وذهني . وإذا أطلق الوجود ، ففي الغالب يراد به العيني . والوجود في الأعيان لا ما به يكون الشيء في الاعيان ، ولو كان الشيء في الأعيان بكونه في الأعيان ، لتسلسل إلى غير النهاية ، فمما كان يصح كون الشيء في الأعيان فإذن الوجود الذي هو الكون في الأعيان ، هو الموجود به . ولا يتبين من هذا المفهوم أنه كون في الأعيان لشيء ، بل هو قد يكون لشيء ما ، وقد لا يكون من حيث المفهوم ، وإلا أن يمنع من ذلك دليل منفصل . والوجود لا يحمل على ما تحته حمل المواطأة ، بل حمل التشكيك ، فإن وجود العلة أقوى من وجود المعلول ، وأقدم ، وكذا وجود الجوهر بالنسبة إلى وجود العرض ، ووجود العرض القار أقوى من وجود العرض الغير القار ، والإضافي أضعف من غير الإضافي . ولو لم يكن مفهوم الوجود مفهوما واحدا ، لما أمكننا أن نجزم بصدقه على كل موجود من الموجودات ، ولا أن نجزم بأنه متى كذب العدم على الشيء ، صدق الوجود عليه ، لاحتمال كذبهما معاً . وكون الوجود تصوره بديهي ، وكونه مفهوما واحداً ومقولا بالتشكيك ، ليس مما يحتاج فيه إلى إقامة برهان . والذي ذكر في بيانه إنما هو تنبيه لا برهان ، وعموميته اللازم ، لا عمومية الجنس ، ولا المقوم الذاتي ، كيف كان . وإذا كان عاما فيجب أن يكون وجوده في النفس ، فإن الوجود يوجد في النفس بوجود ، إذ هو كسائر المعاني المتصورة في الذهن .
____________________
(1/212)
والذي في الأعيان منه هو موجود ما ، وليس تعين كل وجود بموضوعه فقط ، كتعين الحمرة مثلا بموضوعها . وإنما يتتخصص كل وجود بما يجري مجرى الفصل ، ثم يقترن بالموضوع . فالوجودات معان مجهولة الأسامي ، يعبر عنها بوجود كذا ، ووجود كذا ، ويلزم الجميع في الذهن الوجود العام ، ولو تعرف أنواع الأعراض بأساميها ورسومها . كأن نقول مثلا : الكم هو عرض كذا ، والكيف هو عرض كذا ، ولو لم يكن الوجود من المحمولات العقلية الصرفة ، لكان أما مجرد الماهيات التي يقال عليها ، أو غيرها . فإن كان عبارة عن مجردها ما كان بمعنى واحد يقع على العرض والجوهر ، ( وقوعه ) على السواد والبياض ، ولكان قولنا : الجوهر موجود جارياً مجرى قولنا : الجوهر جوهر ، والموجود موجود . وأن أخذ معنى أعم من كل واحد من الماهيات : فإما أن يكون قائماً بنفسه ، أو حاصلاً في تلك الماهيات . فإن قام بنفسه فلا يوصف به الجوهر مثلا ، إذ نسبته إليه ، وإلى غيره سواء . وإن كان في الجوهر فهو حاصل له ، والحصول هو الوجود . فالوجود إذا كان حاصلاً فهو موجود . فإن أخذ كونه موجوداً ، أنه عبارة عن نفس الوجود ، لم يكن محمولاً بمعنى واحد ، إذ معناه في الأشياء أنه شيء له الوجود ، وفي نفس الوجود أنه هو الوجود . وأيضاً فإن الوجود إذا كان في الأعيان ، وليس بجوهر ، فهو عرض . فلا يحصل قبل محله قبلية بالذات ، وذلك ظاهر ، ولا معه بالذات ، فيلزم ألا يحصل محله بالوجدود ، ولا بعده بعدية بالذات أيضاً ، وإلا لكان محله موجوداً ، قبل أن
____________________
(1/213)
كان موجوداً ، هذا خلف . ثم يلزم من كونه في الأعيان مع عدم قيامه بذاته ، أن يكون العرض أعم منه من وجه ، فلا يكون أعم الأشياء مطلقاً . وأيضاً فالماهية إذا كانت معدومة فوجودها ، ليس بموجود . فإذا عقلنا الوجود ، وحكمنا بأنه ليس بموجود فمفهوم الوجود غير مفهوم وجود الوجود . فإذا وجدت الماهية بعد عدمها ، فقد وجد وجودها ، فللوجود وجود . ويعود الكلام إلى غير النهاية على كون كل وجود هو في الأعيان ، فليس للماهية العينية وجود منضم إليها ، بحث تكون الماهية ووجودها شيئين في الخارج . وهذه الماهية العينية نفسها من الفاعل ، لا أنه ينضم إليها أمر من الفاعل هو الوجود . فالوجود والشيء تبين أنهما من المعقولات الثواني المستندة إلى المعقولات الأولى ، فليس في الموجودات موجود هو وجود أو شيء ، بل الموجود أما إنسان أو ملك أو غيرهما . ثم يلزم معقولية ذلك أن يكون موجوداً أو شيئاً . وقد يقال الوجود على النسب إلى الأشياء ، كما يقال الشيء موجود : في البيت ، وفي السوق ، وفي الذهب ، وفي العين ، وفي ( لوحة 262 ) الزمان ، وفي المكان . فلفظة ' الوجود ' مع لفظة ' في ' في الكل بمعنى واحد . وتطلق بإزاء الروابط ، فيقال : زيد يوجد كاتباً . وقد تقال على الحقيقة والذات ، كما يقال : ذات الشيء وحقيقته ، ووجوده ، وعينه ، ونفسه . فتوجد اعتبارات عقلية ، وتنضاف إلى الماهيات الخارجة . والموجود ينقسم إلى ما هو موجود لذاته وبذاته ، وذلك هو الموجود الذي لا يقوم ( بغيره ) ، ولا سبب له . وهو الواجب لذاته ، وإلى ما هو موجود لذاته ، لا بذاته ، وهو الذي يقوم بذاته ، وله سبب يوجبه ، وهذا هو الجوهر ، وإلى ما هو موجود لا لذاته ، ولا بذاته ، وهو العرض ، فإنه من حيث أن لوجوده سبباً ليس موجوداً بذاته ، بل بسببه .
____________________
(1/214)
ومن حيث أن وجوده لما هو فيه ليس وجوده لذاته ، بل لغيره . والموجود بذاته لا لذاته ، وإن كانت القسمة العقلية محتملة له ، فهو غير ممكن ، لاحتياجه إلى ما يحل فيه . وقد ينقسم الموجود أيضا إلى : ما هو بالذات ، وإلى ما هو بالعرض أما الموجود بالذات ، فكل ما له حصول في الأعيان مستقل : جوهرا كان ، أو عرضا . فإن وجود العرض ليس هو بعينه وجود محله ، إذ قد يوجد المحل بدون عرض بعينه ، ثم يوجد ذلك العرض فيه كجسم لم يكن أسود ، ثم صار أسود . وأما الموجود بالعرض فكالسدميات : كالسكون ، والعجز ، والاعتبارات التي لا تتحقق في الأعيان ، ويقال أنها موجودة في الأعيان بالعرض . ويقال للشيء : أنه موجود في الكتابة ، وموجود في اللفظ ، وهما مجازان ، من حيث أن الكتابة في الأغلب تدل على اللفظ ، واللفظ يدل على الوجود الذهني الدال على الوجود العيني . ومما يدل على الوجود الذهني ، بعد ما سبق من حال الشيئية والوجود ، أنا نتصور أشياء : إما ممتنعة الوجود ، كاجتماع الضدين ، أو غير موجودة في الأعيان ، كالقمر المنخسف دائما ، والإنسان الكاتب دائما ، وكجيل من الياقوت ، وبحر من زئبق ، ونميز بين هذه المتصورات ، وكل مميز ثابت ، وإذ ليس في الخارج فهو في الذهن . فإن ادعى فما لم يتحقق وجوده من الممكنات في العقل أن له وجوداً غائبا عنا ، فالممتنعات لا سبيل إلى دعوى ذلك فيها . واجتماع الضدين في الذهن ليس ممتنعا ، إنما الممتنع اجتماعهما في الخارج . فليس بين الحرارة الذهنية والبرودة الذهنية تضاد ، بل التضاد بين الحرارة والبرودة الخارجيتين ، وكذا أمثالهما . وحصول السخونة والبرودة مثلا ، لا يلزم منه أن يكون الذهن متسخنا متبردا ، فإنه غير قابل لذلك ولأمثاله ، بل المتسخن ما اتصف بالسخونة في الخارج . وسنبين لك في الكلام في الإدراك
____________________
(1/215)
ما المراد بحصول الشيء في الذهن ، وللاعدام تعدد وتميز في الذهن . فإن عدم العلة يوجب عدم المعلول ، وعدم المعلول لا يوجب عدم العلة ، وكذا الشرط والمشروط ، والمعدوم المطلق ، والموجود في الذهن ، فإنه لا يصدق الشيء إما عدم مطلق أو موجود في الذهن ، بل يصدق الشيء إما عدم مطلق أو لا عدم مطلق . ويطلق الشيء إما موجود في الذهن أو لا موجود في الذهن . فمفهموم العدم المطلق يتمثل في الذهن ، ويصير صورة شخصية يعرض لتلك الصورة وجود ذهني مشخص ، ورفع الاثبات الخارجي اثبات ذهني منسوب إلى لا اثبات خارجي . وكونه في الذهن متصورا أو متميزا عن غيره ، ومتعينا في نفسه ، وثابتا في الذهن ، لا ينافي كون ما هو منسوب إليه ليس ثابتا في الخارج ، فلا يحكم على ما ليس بثابت في الخارج ، أنه غير متصور مطلقا . بل يحكم عليه بأنه متصور من حيث إنه ليس بثابت في الخارج غير متصور ، لا من حيث هذا الوصف . ورفع الثبوت الشامل للخارجي والذهني بتصور ما ، ليس بثابت ، ولا متصور أصلا ، فيصح الحكم عليه . من حيث هو ذلك المتصور ، ولا يصح من حيث ما هو ذلك المتصور ، ولا يصح من حيث هو ليس بثابت ، ولا يكون تناقضا لاختلاف الموضوعين . وإذا قلنا الموجود إما ثابت في الذهن ، أو غير ثابت فيه ، فاللاموجود قسيم الموجود ، من حيث أنه معدوم ، وقسم من الثابت في الذهن والامتياز ، لا يستدعي أن يكون للممتازين هويتان ، فإن الهوية واللاهوية ممتازان . وليس للاهوية هوية ، ولو فرضنا لها هوية . كانت لذلك الاعتبار داخلة في قسم الهوية . وباعتبار ما فرض أنها لا هوية قسيمة الهوية . والمسلوب عنه الوجود هو الموصوف فقط ، لا باعتبار كونه موصوفا بهذه الصفة ( لوحة 263 ) ، أو غيرها . وان كانت بحيث يلزمه ذلك .
____________________
(1/216)
ويشترط مطابقة الذهن الخارج في الحكم على الأمور الخارجية بأشياء خارجية ، ولا يشترط ذلك في المعقولات ، وفي الأحكام الذهنية على الأمور الذهنية . والمعدوم لا يعاد بعينه ، أي مع جميع عوارضه المشخصة له ، فإن بين المعاد والمستأنف وجوده فرقا . فالسواد الحاصل في محل بعد سواد ، بطل عنه قبل ذلك ، والسواد المعاد قبلا ، اشترطا في السوادية ، وفي تخلل عدم بينهما . ولا بد من فارق ، وليس هو المحل ، ولا السوادية ، ولا أمراً مغايراً لكون المعاد ، كان مشاراً إليه ، بأنه له وجود . والمستأنف لا يشار إليه بهذا ، وليس هذه الإشارة سوادا ما متعينا في نفسه ، كان موجوداً ، فإن المستأنف كذلك ، ولا أن سوادا يشابه ، أو يطابقه السواد الذهني ، كان موجوداً . فإن المستأنف هذه حاله ، بل لأن المفروض كونه معاداً كانت له هوية ، فورد عليها الوجود ، وإلا لا افتراق بين الصورتين . فلو جاز إعادة المعدوم لكان كل مستأنف معادا ، أو كان الشيء في حال عدمه هويته موجودة . والتالي بقسميه باطل ، فالمقدم مثله . وأيضاً فإن من الفارق بين عرضين متماثلين ، هو الزمان أو المحل ، فإذا اتحد المحل فالفارق هو الزمان ، والزمان لا يتصور إعادته ، فالمشخص بذلك الزمان لا يعاد ، بل الذي فرض كونه عائداً هو غيرن . وإنما حكمنا بامتناع عود الزمان ، لأنه لو أعيد لكان له في حالة العود ثبوت ، وقبله ثبوت . فإن كان معنى كونه ثابتاً ، هو ما هيته وذاته ، وماهيته وذاته الآن ثابتة ، فكونه قبل الآن ثابتاً ، هو كونه الآن ثابتاً ، فما انعدم وأعيد . وهو خلاف الفرض . وإن كان معنى ذلك غير هذا ، وهو كونه ثابتاً فيما قبل ، فالقبلية نفسها ما عادت ، فلم يكن الزمان هو المعاد ، بل غيره . وقد يحصل من هذا أنه لو أعيد الزمان ، لما كان زمانا ، هذا خلف .
____________________
(1/217)
وقولك للشيء أنه يجوز بعد عدمه أو وجوده ، إن كان إشارة إلى ما في الذهن فهو مستحيل الوقوع في الأعيان بعينه . أو إلى ما يماثل ما في الذهن بوجه ما ، فلا يلزم أن يكون هو المفهوم الذي فيه الكلام ، بل تماثله أشياء كثيرة ، أو إلى نفس ذلك ، وهو حالة العدم ، فتستحيل الإشارة إليه . فنفس القول ممتنع الصحة ، والإشارة باطلة . ثم الشيء بعد عدمه نفي محض ، وإعادته تكون بوجود عينه الذي هو المبتدأ بعينه في الحقيقة . وتحلل النفي بعد الشيء الواحد غير معقول . ومما يتبين به هذا المطلوب أيضاً أنه ما زال عنه الوجود ، فالوجود الثاني إما أن يكون نفس الوجود الأول ، أو غيره . فإن كان نفسه فلا يكون وجوداً ثابتاً ، فلا يكون المعاد معاداً . وإن كان غيره ، فإن لم يحصل لمادة ، إذ كل حادث ، كما ستعلم يتقدمه مادة استعداد وجوده الثاني ، كان اختصاصه به دون الأول ، تخصيصاً بلا مخصص . وإن حصل لمادته ذلك فقد عرض للمعاد عارض لم يكن حاصلاً للأول ، فلا يكون معادا بجميع عوارضه ، ونحن فلا نعني بإعادته بعينه إلا ذلك . وليس استمرار الشيء وبقاؤه ، هو وجودات متعاقبة ليلزم ( فيها ) مثل ذلك ، بل هو وجود واحد من زمان واحد متصل ، أو معه ، أن لم يكن وجوده زمانياً .
____________________
(1/218)
الفصل الثاني في الماهية وتشخصها وما تنقسم إليه لكل شيء حقيقة هو بها هو ، وهي مغايرة لجميع ما عداها ، لازماً كان ، أو مفارقاً . ومثال ذلك الإنسانية ، فإنها من حيث هي إنسانية ، لا تدخل في مفهومات الوجود والعدم ، والوحدة والكثرة والعموم والخصوص ، إلى غير ذلك من الإعتبارات ، فإنه لو دخل الوجود الخارجي في مفهومها مثلاً ، لما كانت الإنسانية الموجودة في الذهن فقط إنسانية ، ولو دخل العدم فيه ، لما كانت الإنسانية الموجودة إنسانية . ولو دخل العموم فيه لما زيد إنساناً . وعلى هذا قياس بواقي ما يغايرها ، بل الإنسانية من حيث هي إنسانية ليست الا الانسانية فقط ، فإذا انضم اليها الوجود صارت موجودة ، أو العدم في الاعتبار الذهني صارت معدومة . وهكذا حال : الوحدة والكثرة ، والكلية والجزئية ، وغير ذلك ، فلا يصدق عليها أحد هذه الأشياء إلا بأمر زائد عليها . وأما كونها إنسانية فبذاتها ، ولهذا لا يصح أن يقال : السواد مثلا أسود ، بل سواد . ولا الوجود موجود ، بمعنى أنه ذو وجود ، بل على معنى أنه موجود ، لأن السواد ليست سوادية بأمر زائد ، وكذا وجودية الوجود . ويقال للماهية من حيث هي الماهية لا يشترط شيء ، وللماهية المجردة عن
____________________
(1/219)
جميع اللواحق الماهية بشرط لا شيء . فالانسانية بالاعتبار الأول موجودة في الأعيان ، لأن هذا الإنسان موجود ، والانسانية ذاتية مقومة لهذه الانسانية ( لوحة 264 ) ، فتكون موجودة أيضا . وأما الانسانية بالاعتبار الثاني ، وهو لا شيء ، لا وجود لها في الأعيان ، ولا في الأذهان ، لأن كل واحد من الوجودين : الذهني والخارجي ، لاحق من اللواحق ، وقد فرضت مجردة عن جميعها ، لكن المجردة عن اللواحق الخارجية فقط هي موجودة في الذهن . وتشارك الانسانية المكنوفة باللواحق الخارجية ، في مفهوم الانسانية . وليست الانسانية الخارجية واحدة بعينها موجودة في كثيرين ، والا لكان الواحد المعين في الحالة الواحدة تصدق عليه الاشياء المتضادة ، كالأبيض والأسود والعالم والجاهل . بل انسانية زيد غير انسانية خالد ، ويشتركان في مفهوم الانسانية . والمشترك هو الكلي الطبيعي ، والصورة الذهنية ، مثال متساوي النسبة إلى جزئياتها الخارجية ، ومطابق لكل واحد منها ، وبهذا الاعتبار سميت كلية . وأما في الخارج فهي معروضة للتشخص أبدا ، فلا تطابق كل واحد من جزئياتها ، فلا تعرض لها الكلية . فالكلي العقلي والمنطقي لا وجود لهما في الأعيان . ولا يلزم من كون الانسانية لا تقتضي الوحدة ، أنها تقتضي اللاوحدة ، وهي الكثرة . فان نقيض اقتضاء الوحدة ، هو لا اقتضاء الوحدة لا اقتضاء اللاوحدة . وينبغي أن تعلم أن الطبيعة التي هي في الذهن ، لها أيضا هوية ، إذ هي من الموجودات ، ولها تخصص بأمور : كحصولها في الذهن ، وعدم الاشارة إليها ، وكونها لا تقبل الانقسام ، ولا وضع لها ، وليست كليتها باعتبار مطابقتها لكثيرين فقط ، والا لكانت الجزئيات كذا لمطابقة بعضها بعضا ، ولا لكونها مع ذلك غير متخصصة . فإنا قد بينا تخصصها بعدة أشياء ، بل بأنها ذات مثالية ، ليست متأصلة في الوجود ، لتكون ماهية بنفسها أصلية ، بل هي مثال ، ولا كل
____________________
(1/220)
مثال ، بل مثال إدراكي ، لما وقع ، أو سيقع . فمن حيث أنه مثال ادراكي لأمر خارجي ، أو لما هو بصدد الوجوب من كل الوجوه ، أو من وجه واحد ، وتصبح مطابقها الكثرة ، وتسمى كلية ، وذاتها انما حصلت للمثالية ولمطابقة كثرة . وأما الخارجي فليست ذاته مثالا لشيء آخر ، وليس من شرط مثال الشيء أن يكون مماثلا له من جميع وجوهه . ومن الكل ما يتقدم على جزئياته الواقعة في الأعيان ، كما إذا تصورنا صورة ، ثم أوجدنا في الخارج صوراً على مثالها ، ويسمى ذلك ما قبل الكثرة . ومنه ما يتأخر عنها ، كالصورة المستفادة من الجزئيات الخارجية ، ويسمى ما بعد الكثرة . فإنك إذا رأيت زيداً ، حصل منه في ذهنك معنى الصورة الإنسانية المبرأة عن اللواحق . وإذا أبصرت بعد ذلك خالداً ، والصورة باقية في ذهنك ، لم تقع منه صورة أخرى . ومثاله قابل رسم من طوابع جسمانية متماثلة ، تقبل رسما من الأول ، ولا تختلف بورود أشباهه عليه . ولا تتكثر الطبيعة الكلية في الأعيان ، ألا بمييز مثلاً : لا يصح أن يكون سوادان ألا بسبب جسمين تكثرا بهما ، أو يسبب حالين . فإنه إن كان لأنه أسود ، يقتضي أن يكون كثيراً ، كان كل واحد منها يقتضي ما تقتضيه طبيعة السواد . وإذا كان كل واحد من السوادين مثل الآخر لا يخالفه في شيء البتة فهو هو . وأيضاً ، فإن كان كونه سوادا يقتضي أن يكون هذا السواد ، وكان من شرطه أن يكون إياه ، وجب ألا يكون سواد غيره . فإذن كثرته وكثرة كل ما يتكثر به أشخاصه ، تكون بسبب ، فكل ما لا سبب له ، لا يصح التكثر على طبيعته الكلية ، لأنها لو تكثرت لكان لوجود تلك الكثرة سبب . وفرض ألا سبب لها ، هذا خلف ، ثم إذا أشير إلى عدد من نوع تلك الطبيعة إشارة : حسية أو وهمية أو عقلية ، فالمشير يشعر بأنه غير الآخر ، فقد عرف
____________________
(1/221)
فيه شيئاً ، يعرفه به ، ويميزه عن غيره ، وذلك زائد على الماهية المشتركة . ثم المشتركان في أمر واحد . وأحدهما من حيث الإثنينية مفترقان . وما به الإفتراق غير ما به الإشتراك . والمشترك إن كان جنساًُ ، فالإفتراق بالفصل ، وإن كان نوعاً فبالعرض الغير اللازم . إذ لو كان لازماً للماهية ، لما اختلفت به أشخاصه ، وإن كان عرضياً فبنفس الماهية . ومن المميزات الاتمية والأنقصية ، كالمقدار التام والناقص ، إذ لا يزيد أحدهما على الآخر ، إلا بنفس المقدارية . ولا يكون هذا قسماً رابعا ، إلا إذا لم يجعل ما يكون من جوهر ما يخصصه داخلا في جملة الفصول . ويجب أن تعلم أن المميز غير المشخص . وليس منع الشركة في الماهيات العينية بسبب المميز ، بل بهوياتها العينية ، وامتيازها بمخصصاتها . وتشخص الشيء إنما هو في نفسه ، وتمايزه لما هو بالقياس إلى المشاركات ، في معنى عام ، بحيث لو كان شيء عديم المشاركة ، لما احتاج إلى مميز زائد ، مع أنه متشخص . ويجوز امتياز كل واحد من الشيئين بصاحبه ، ولا يلزم من ذلك دور ، إذ كل واحد يمتاز بذات الآخر ، لا بامتيازه ( لوحة 265 ) . وهذا ، كما أن بنوة الابن موقوفة على ذات الأب ، وأبوة الأب موقوفة على ذات الابن ، وما لزم الدور . وإذا قلت ذات الشيء ، أو حقيقته ، أو ماهيته ، فمهومات هذه ، لا من حيث أنها هي إنسان ، أو فرس ، أو غير ذلك ، فهي اعتبارات ذهنية ، ومن ثواني المعقولات والطبيعة العامة ، التي لا وجود لها في الأعيان ، لا يقال فيها ، كما يقال للتي لها وجود في الأعيان ، من أنها أن وجب تخصصها بأحد الجزئيات ، فلا يوجد لغيره ، وإن أمكن أن فيلحق به لعلة . وهذا كالعدد المتخصص بأنواعه ، لا يمكن أنم يقال أن اقتضى التخصيص بأحدها ، كالأربعة لا توجد للثلاثة . وإن لم يقتض ذلك ، فلحوقه للثلاثة بعلة ، وذلك لأن العدد - كما ستعلم - من الأمور التي لا توجد في الأعيان ، من حيث هي عددية ، فلا يكون لحوقها واجباً ، أو ممكناً ، من حيث هي في الوجود العيني .
____________________
(1/222)
وكذا إمكان الوجود اللازم للجوهر والعرض ، وسائر الإعتبارات الذهنية ، والماهية ، إن لم تكن ملتئمة من أمور متخالفة بالحقيقة ، بل قيل لها : البسيطة ، وإلا فهي المركبة . ولا بد من وجود البسائط ، والا لم توجد المركبات ، وأجزاء المركبة لا يمكن أن يكون كل واحد منها محتاجا إلى الآخر في الحيثية ، التي احتاج إليه فيها ، لأنه دور ، ولا أن يكون كل واحد منها غنيا عن الآخر ، والا لما حصل منهما ماهية مركبة ، كما لا يحصل من الإنسان والحجر الموضوع إلى جنبه ماهية واحدة مركبة منهما ، بل لا بد ، وأن يكون بعضها محتاجا إلى الآخر ، من غير احتياج الآخر إليه ، كالهيئة الاجتماعية لأجزاء العشرة ، وأدوية المعجون ، أو مع احتياجه إليه ، لا من الجهة التي كان بها ذلك محتاجا إلى هذا ، كالمادة والصورة للجسم . وتركيب الماهية قد يكون اعتباريا ، كالحيوان الأبيض . وقد يكون حقيقيا . ولا يخلو إما أن تكون بعض أجزائها أعم من الآخر ، وتسمى متداخلة ، أو لا تكون ، وتسمى متباينة . والجزء من المتداخلة ، إن كان تمام المشترك بينها وبين نوع آخر ، فهوالجنس ، والا فهو الفصل . والمشتركان في شيء من الذاتيات ، اذا اختلفا في شيء من اللوازم لزم تركيبهما من الجنس والفصل ، لأنه الذي اختص بأحدهما ، لا يستند إلى المشترك ، والا لزم اشتراكهما فيه ، فهو مستند إلى غير المشترك ، وهو فصل . وتقييد الكلي العقلي ، بالكلي العقلي ، لا يوجب الجزئية ، فان الانسان الكلي في العقل إذا قيد بأنه ابن فلان ، الذي صناعته كذا ، وهو أسود طويل ، إلى غير ذلك من القيود الكلية ، ولو بلغت مهما بلغت ، فإنه لا يحصل منها في العقل الإنساني كلي متصف بتلك الصفات الكلية ، ولا يصير مانعا من الشركة ، وأجزاء الماهية قد تكون متميزة في الخارج كالنفس والبدن اللذين هما جزءا
____________________
(1/223)
الإنسان ، وقد لا يكون تميزها إلا في الذهب فقط ، كالسواد المركب من جنس ، هو اللون ، وفصل هو الذي باعتباره يكون جامعاً للبصر مثلاً . فإنه لو تميز أحدهما عن الآخر في الأعيان ، فإن كان كل واحد منهما محسوساً كان احساسنا بالسواد احساساً بمحسوسين . وإن كان أحدهما محسوساً فقط ، كان الجزء هو الكل ، وإن كان كل واحد منهما غير محسوس فعند اجتماعهما أن لم تحصل هيئة محسوسة لم يكن السواد محسوساً . وإن حصلت كانت خارجة عنهما ، لا محالة ، فلا يكون التركيب في نفس السواد ، لأنا لا نعني بالسواد سوى الهيئة ، وهما فغير مقومين لها . وأيضاً اللونية إن كان لها وجود مستقل ، فهي هيئة ، أما في السواد فيوجد السواد لا بها ، أو في محله ، فالسواد عرضان : لون وفصله ، لا واحد ، فجعله لونا هو بعينه جعله سوادا . واعتبر في هذا أيضاً بمثل البعد الذي هو ذراع مثلاً ، فليس في الخارج شيئان : أحدهما مطلق بعد ، والآخر كونه ذراعاً ، ولو كان للبعدية وجود ، ولخصوصية كونه ذراعاً وجود آخر ، جاز لحوق أي خصوصية اتفقت بها ، إذ ليس كل واحد منها بعينه للبعدية . والجنس - كالحيوان - غيرمتحصل الوجود بنفسه ، بل هو مبهم متحصل بالفعل ، محتمل لأن يقال على أشياء مختلفة الحقائق . ويصير هو بعينه أحد تلك الأشياء ، وذلك هو الحيوان لا بشرط أن يكون وحده ، بل مع تجويز أن يقارنه غيره ، وألا يقارنه ، فيكون معناه مقولا على المجموع ، حال المقارنة ، ولا وجود له إلا في العقل ، ويخالفه الحيوان ، بشرط أن يكون وحده ، فإنه يزيد عليه كلما يقارنه ، ولا يقال على المجموع منهما إذ هو جزء منه تتقدم عليه ، والجزء لا يحمل على الكل ، فلا يكون جنساً . والحيوان الذي هو الجنس ، وجود الإنسان باعتبار الخارج عليه متقدم ، لأن
____________________
(1/224)
الإنسان ما لم يوجد لم يعقل ( لوحة 266 ) له شيء يعمه وغيره ، وإن كان وجوده في العقل هو المتقدم بالطبع . وحمل الجنس والفصل على النوع ، وكونهما من مقوماته الذهنية ، لا يدل على تركيبه في الخارج ، فإن ما في الذهن لا يجب أن يكون مطابقاً ، لما في العين ، إلا إذا كان حكماً على الأمور الخارجية ، بأشياء خارجية . وليس كما يحمل على الشيء يحمل لأجل مطابقته الصورة العينية ، فإن الجزئية تحمل على زيد ، وكذا الحقيقة من حيث هي حقيقة ، وليستا بصورتين لذاته ولا لصفة من صفاته ، بل هما صفتاه اللتان لا توجدان في غير الذهن . وكذا حال الجنس والفصل . ومعنى كونهما جزئي الماهية هو كونهما جزئي حدها ، ولهذا يحملان على المحدود ، ولا يحملان على الحد ، إذ الجزء الحقيقي لشيء ، لا يحمل على ذلك الشيء .
____________________
(1/225)
فارغة
____________________
(1/226)
الفصل الثالث في الوحدة والكثرة ولواحقهما معنى الوحدة : هو تعقل العقل لعدم انقسام الهوية ، وهذا المعنى تصوره بديهي ، وهي مفهوم زائد ذهني لا وجود له في الأعيان ، وإلا لكانت شيئا واحدا من الأشياء ، فلها وحدة أيضا ، إذ يقال : وحدة واحدة ، ووحدات كثيرة . وإذا أخذت الماهية ووحدتها شيئان ، فهما اثنان ، فيكون للماهية دون الوحدة وحدة ، وللوحدة أخرى . ويعود الكلام ، فتجميع صفات موجودة معا ، مترتبة ، وهو - كما ستعلم - محال . وإذا كانت الوحدة كذا ، فالكثرة أيضا لا تكون إلا ذهنية فقط ، لأنها لا يحصل إلا منها . وأيضاً فإن الأربعية مثلا ، إذا كانت عرضا موجودا قائما بالانسان ، فإما أن يكون في كل واحد من الأشخاص الأربعية تامة ، وليس كذا ، أو في كل واحد شيء من الأربعية ، وليس إلا الوحدة ، أو ليس في كل واحد الأربعية . ولا شيء منهما بمجموع الأربعية ، على التقديرين لا محل له سوى العقل . وظاهر أن العقل إذا جمع واحدا في الشرق إلى واحد في الغرب ، لاحظ الاثنينية . وإذا رأى جماعة كثيرة أخذ منهم ثلاثة وأربعة وخمسة ، بحسب ما يقع النظر إليه وفيه بالاجتماع ويأخذ أيضا عشرة عشرات ، ومائة مئات ، ونحو ذلك . ومتى قيل الواحد على كثيرين ، كانت جهة وحدته ، غير جهة كثرته فإما أن تكون تلك الوحدة ، مقومة لتلك الكثرة أو لا تكون ، فإن لم تكن ، فإما أن تكون من عوارضها أو ليس . فالتي ليست من عوارضها ، هي كما يقال : حال النفس عند البدن ، كحال الملك عند المدنية ، والتي من عوارضها ، فإما محمولات لموضوع واحد شخصي ،
____________________
(1/227)
كالانسان هو الكاتب ، في كونه زيدا ، أو نوعي كالكاتب هو الضاحك ، في كونه إنسانا ، وأما موضوعات لمحمول واحد ، كالثلج هوالقطن ، في كونه أبيض . وإن كانت مقومة للكثرة ، فإن قيلت في جواب ما هو فإن اختلفت في شيء من الذاتيات فهي الواحد بالجنس وإلا فهي الواحد بالنوع . وإن قيلت في جواب أي شيء هو في ذاته ، فهو الواحد بالفصل . والشركة في الفصل هي الشركة في النوع ، لكن الاعتبار مختلف ، ومتى لم يقل الواحد على كثيرين ، فإن كان غير قابل للقسمة ، ولم يكن له مفهوم وراء أنه غير منقسم فهي الوحدة . وإن كان له مفهوم غيره ، فإن كان له وضع فهو النقطة ، وإلا فهو الواحد المطلق . وإن كان قابلا للقسمة ، فإن لم ينقسم بالفعل فهو الواحد بالاتصال . وان انقسم فإن لم تكن أجزاؤه متمايزة بالتشخص ، فهو المركب الحقيقي ، وإلا فهو الواحد بالاجماع ، ووحدته إما طبيعية ، كالبدن ، أو صناعية كالسرير ، الواحد ، أو وضعية ، كالدرهم الواحد . ويسمى الاتحاد في الجنس مجانسة ، وفي النوع مشاكلة ، وفي الكم مساواة ، وفي الكيف مشابهة ، وفي الوضع مطابقة ، وفي الاضافة مناسبة ، وفي اتحاد وضع الاجزاء موازاة . وكل شيئين هما وحدة من وجه ، فإنه يقال لهما هو هو ، لا بمعنى اتحاد الاثنين ، فإن ذلك محال ، لأنهما عند الاتحاد ان بقيا فهما اثنان ، لا واحد ، وإن بقي أحدهما ، أو لم يبق ولا واحد منهما ، فليس ذلك اتحادا ، لأن المعدوم لا يتحد بالموجود ، ولا بالمعدوم . والواحد مقول على ما تحته بالتشكيك ، لأن الواحد من كل وجه ، وهو الحقيقي الذي لا ينقسم بوجه من الوجوه ، لا إلى الأجزاء الكمية ولا الحدية ، ولا انقسام الكلي إلى جزئياته ، هو أولى من الواحد الذي هو واحد من وجه كثير من آخر ، والواحد يسمى بالغيرية .
____________________
(1/228)
وهي تنقسم إلى مماثلة وإلى مخالفة ، والمثلان هما المتشاركان في حقيقة واحدة ، من حيث هما كذلك . فالإنسان والفرس مختلفان ، وجسميتاهما متماثلتان . والطبيعة الجنسية إذا أخذت أعدادها ، مع قطع النظر عما اختلفت به من الفصول ، فهي نوعية ، وكذا الفصول ، فالمثلان هما المشتركان في نوع واحد ، ولا يشترط في ذلك تشاركهما في جميع الصفات ، وإلا كانا شيئاً واحداً ، لا شيئين . والمتقابلان هما الأمران المتصوران اللذان لا يصدقان على شيء واحد ، في حالة واحدة ، من جهة واحدة . واحترز بالأخير عن مثل التقابل بين الأب والابن ، فإنه إذا لم يشترط اتحاد الجهة ، جاز أن يكون الواحد أبا باعتبار ، وابنا بآخر . وكل أمرين كذلك ، إن كانا وجوديين . فإن كانت ماهية أحدهما معقولة بالقياس إلى الآخر فهما المضافان ، كالأبوة والبنوة ، وإلا فهما الضدان كالسواد والبياض . وإن كان أحدهما وجوديا والآخر عدمياً ، فأما أن ينظر إلى العدم والوجود بشرط عدم وجود موضوع مستعد لقبول ذلك الإيجاب ، بحسب شخصه أو نوعه أو جنسه القريب أو البعيد ، وهو العدم والملكة ، كالعمى والبصر . وأما ألا ينظر إليهما بذلك الشرط ، وهو الإيجاب والسلب ، كالفرسية واللافرسية ، وكزيد إنسان ، زيد ليس بإنسان ، وهما لا يجتمعان على الصدق ولا الكذب . وسائر المتقابلات جاز أن تكذبا ( معا ) . أما المضافان فكزيد أبو خالد ، وابن خالد ، إذا لم يكن كذلك ، وأما الضدان فلأنهما يكذبان عند عدم وجوده ، إذا لم يتصف بأحدهما . وأما الملكة والعدم ، فعند عدم موضوعهما والمقابل ، من حيث هو مقابل يصدق عليه أنه مضاف .
____________________
(1/229)
والمقابل أعم من المقابل ، من حيث هو مقابل ، لأنه يصدق عليه ، وعلى كل ما عرض له ، أنه مقابل ، فلا يلزم أن يكون التضايف أعم من التفاعل . ولا مانع أن يكون الخاص عارضاً لما له طبيعة العام ، عند اعتبار شرط يصير به العام أخص . ولا يخلو شيء عن عروض الإضافة له ، أما بحسب تقابل ، أو تضاد ، أو نسبة إلى محل ، أو مماثلة أو غير ذلك . ومن خاصية تقابل التضايف : اللزوم والإنعكاس ، وتقابل السلب والإيجاب هو أقوى من سائر التقابلات ، ولا يخرج عنه شيء . ألا ترى أن ما ليس بخير منه عقد أنه بخير ومنه عقد أنه شر وعقد أنه ليس بخير ، لا ينافيه عقد أنه شر ، ولا عقد أنه ليس بشر ، لأنه قد يصدق مع كل واحد منهما . فالمنافي له عقد أنه بخير ، والمنافاة متحققة من الجانبين ، فعقد أنه خير ، لا ينافيه إلا عقد أنه ليس بخير لا عقد أنه شر ، الذي هو ضده . وأيضاً فللخير أنه خير . وهو أمر ذاتي له ، وأنه ليس بشر ، وهو عرضي له . فاعتقاد أنه ليس بخير يرفع اعتقاد كونه خيراً ، وهو الذاتي . واعتقاد أنه شر يرفع اعتقاد أنه ليس بشر ، وهو العرضي . ورافع الذاتي أقوى معاندة من رافع العرضي ، وأيضاً فإن الشر لولا أنه ليس بخير ، لما كان اعتقاده رافعاً كونه خيراً . ولو كان بدل الشر شيء آخر ، مما ليس بخير ، لكان مع ذلك يمتنع اعتقاد أنه خير ، وليس بخير . وكل هذا يدل على أن التنافي بالذات ، ليس إلا بين السلب والإيجاب ، والواحد لا يقابل الكثير ، وإلا لكان التقابل بينهما على أحد الوجوه الأربعة ، لكنه ليس بالعدم والملكة ، ولا السلب والإيجاب ، لكون أحدهما مقوماً للآخر ، وليس الوجود والعدم والإيجاب والسلب كذلك . ولا بالتضايف ، لأن الواحد مقدم على
____________________
(1/230)
الكثير ، والمتضايفان لا يتقدم أحدهما على الآخر ، ولا بالتضاد ، لأنهما لا يتواردان على موضوع واحد . ومن الواحد ما هو تام ، وهو الذي لا امكان للزيادة فيه ، كخط الدائرة . ومنه ما هو ناقص ، وهو الذي يمكن ذلك فيه ، كالخط المستقيم . وقد يطلق الواحد التام على ما لا يفصل من نوعه ما يصح أن يكون شخصا آخر ، فيكون نوعه في شخصه . والناقص ما لا يكون كذا ، فالدائرة من قسم الناقص على هذا الاعتبار . وقد يطلق الضدان على معنى آخر غير ما سبق ، وهو أنهما موجودان في غاية التخالف ، بحسب جنس قريب ، يصح منهما أن يتعاقبا على موضوع ، أو يرتفعا عنه . فما مثل السواد والحمرة على هذا الاصطلاح ، ليسا بضدين ، إذ ليس بينهما غاية الاختلاف ، وأما البياض والسواد فهما ضدان بالعنيين . والضد بالمعنى الأخير أخص من الضد بالمعنى الأول ، والضدان بالمعنى الأخص ، إما أن يكون أحدهما بعينه لازما للموضوع مثل البياض للثلج ، وإما ألا يكون كذلك ولا يخلو إما أن يمتنع خلو المحل عنهما ، مثل : الصحة والمرض ، وإما ألا يكون ذلك . وهو منقسم إلى ما يكون موضوعا بالوسط ، سواء عبر عنه باسم محصل ، كالفاتر والأحمر ، أو بسلب الطرفين ، كقولنا : لا جائر ولا عادل ، وإلى ما لا يكون كذلك كالشفاف . وفي الملكة والعدم أيضا اصطلاح آخر : أما الملكة فهو أنها التي توجد في موضوع وقتا ما ، ويمكن أن تنعدم عنه ولا توجد بعده ( لوحة 268 ) . كالابصار . وأما العدم فهو انعدامها عنه في وقت امكانها ، كالعمى ، وهما بهذين المعنيين
____________________
(1/231)
أخص منهما بالمعنيين الأولين . فالزوجية والفردية غير متقابلين بالملكة والعدم ، على الاصطلاح الأخص . وبينهما ذلك التقابل بالمعنى الأعم . والعمى والمردوية التي هي قبل وجود ما هي عدمه ، وكذا انتشار الشعر بداء الثعلب الذي هو بعده ، كلها عدميات بالمعنى الأعم ، سواء كان الإمكان للشخص كالمردوية ، أو النوع كالعمى للأكمه ، أو للجنس كعمى الجلد . وقد ميز بين الاصطلاحات . لئلا يقع غلط بسبب اشتراك اللفظ .
____________________
(1/232)
الفصل الرابع في الوجوب والامكان والامتناع وما يتعلق بها هذه الثلاثة مفهوماتها بديهية ، فإن كل أحد يعلم أن الانسان يجب أن يكون حيوانا ، ويمكن أن يكون كاتبا ، ويمتنع أن يكون حجرا . وهذا العلم حاصل لمن لم يمارس شيئا من العلوم أصلا ، لا التصورية ، ولا التصديقية . ولو لم تكن تصورات هذه الثلاثة فطرية والا لما حصلت لمن لم يمارس علما . ومن رام تعريف هذه ، لا على سبيل التنبيه ، ولا على سبيل بيان يجري مجرى العلامة فقد أخطأ . وذلك مثل ما يقال : أن الممكن هو غير الضروري ، وإذا فرض موجودا لم يعرض منه محال . ثم نقول : الضروري هو الذي لا يمكن أن يفرض معدوما ، والذي إذا فرض بخلاف ما هو عليه ، كان محال . ثم نقول : المحال هو الضروري العدم ، والذي لا يمكن أن يوجد . والممتنع هو الذي لا يمكن أن يكون ، وهو الذي يجب ألا يكون ، والواجب هو الممتنع ألا يكون ، أو ليس بممكن ألا يكون ، والممكن هو الذي ليس بممتنع أن يكون ، وألا يكون . والذي ليس بواجب أن يكون أو لان يكون . وهذا كله دور ظاهر ، وأولى ما يتصور من ذلك أولا هو الوجوب ، لأن الوجوب تأكد الوجود ، والوجود أعرف من العدم ، لأن الوجود يعرف بذاته ، والعدم يعرف بوجه ما بالوجود . وربما نبه على مفهوم الوجوب بأنه استغناء الشيء بذاته عن غيره ، ويلزمه عدم التوقف على الغير ، وعلى مفهوم الإمكان ، بأنه كون الشيء بحالة لا تستحق
____________________
(1/233)
الوجود ولا العدم من ذاته . ويلزمه الاحتياج في وجوده . وفي عدمه إلى الغير . ووجوب الشيء وإمكانه وامتناعه أمور معقولة ، تحصل في العقل من اسناد المتصورات إلى الوجود الخارجي ، وليست بموجودات في الخارج ، وإن كانت زائدة في العقل على ما يتصف بها . ولو كان الوجوب ثابتا في الخارج . لكان صفة محتاجة في تقررها إلى ذات واجب الوجود ، فتكون ممكنة لذاتها ، فتحتاج قبل كل وجوب كذلك ، إلى ما لا يتناهى ، وهو محال . وأما بيان أن الإمكان ليس بثابت في الخارج ، وهو أن إمكان الشيء متقدم على وجوده في العقل ، فإن الممكنات تمكن فتوجد ، لا أنها توجد فتمكن . ويقع على المختلفات بمفهوم واحد ، وهو عرضي للماهية ، وهي موصوفة به ، فلا يقوم بنفسه ، ولا يكون نفس الماهية ، فال يكون واجب الوجود ، والا لما افتقر إلى أن يضاف إلى موضوع ، فيكون ممكنا . اذن فامكان تعقل قبل وجوده ، فليس امكانه هو . ويعود الكلام هكذا إلى امكان امكانه ، إلى غير النهاية ، فقضي الى السلسلة الممتنعة ، لاجتماع آحادها مترتبة . واذا قيل كذا هو ممتنع في الأعيان فليس معناه أن له امتناعا حاصلا في الأعيان ، بل هو أمر عقلي ، بضمه إلى ما في العين تارة ، وإلى ما في الذهن أخرى ، وكذا نحوه . وكل واحد من الإمكان والوجوب والامتناع ، إذا نظر في وجوده ، أو امكانه ، أو وجوبه ، أو جوهريته ، أو عرضيته ، لم يكن بذلك الاعتبار امكانا أو وجوبا أو امتناعا ، لشيء ، بل كان عرضا في محل هو العقل ، وممكنا في ذاته . ووجوده غير ماهيته . فالامكان وقسيماه من حيث هو ذلك ، لا يوصف بكونه موجودا ، أو غير موجود ، وممكنا أو غير ممكن ، فاذا وصف بشيء من ذلك لا يكون حينئذ
____________________
(1/234)
أحد الثلاثة ، بل يكون له امكان آخر ، أو وجوب آخر وامتناع اخر ، وكذا أمثاله . والممكن قد يكون ممكن الوجود في ذاته وقد يكون ممكن الوجود لشيء ، وكلما أمكن وجوده لشيء فهو ممكن الوجود في نفسه ، ولا ينعكس فإنه قد يكون ممكن الوجود في ذاته ، ولا يكون ممكن الوجود لشيء ، بل إما واجب الوجود لشيء كالزوجية للأربعة ، أو ممتنع الوجود لشيء ، كالمفارقات ، والامكان للممكنات واجب ، والا لامكن زواله ، فانقلت الممكن واجبا ، او ممتنعا ، هذا خلف . والامكان انما يعرض للماهية اذا أخذت ، مع قطع النظر عن وجودها وعدم علتها . أما إذا أخذت مع شيء من ذلك امتنع عروض الامكان لها . وكل واحد من الوجوب والامتناع مشترك بين ما هو بالذات ، وما هو ( لوحة 269 ) بالغير . وكل واجب بغيره أو ممتنع بغيره ، فهو ممكن في ذاته . ولا يلزم من كون الوجوب مشتركا بين الوجوب بالذات ، والوجوب بالغير ، كون الوجوب بالذات مركبا ، لأنه لا يفتقر إلى تعقل غير الذات ، بخلاف الوجوب بالغير المفتقر تعقله الى انضياف تعقل الغير الى تعقل الوجوب . وكان لا يلزم من كون الامتناع مشتركا بين الامتناع بالذات ، والامتناع بالغير ، تركيب في الممتنع بذاته الذي يكون منفيا صرفا ، والامكان محوج إلى السبب ، إذ كل ممكن ، فإن نسبة وجوده وعدمه إلى الماهية على السوية ، وما هذا شأنه فلا يتخصص أحد طرفيه على الآخر الا بمخصص ، والعلم به فطري . ولا يلزم من كونه فطريا ، الا يكون قضية أخرى أجلى منها عند العقل ، لجواز أن يكون ذلك لأمر عائد ، لا إلى التصديق بهما ، بل إلى أمر آخر ، كالتصورات اللازمة لذلك التصديق . وعدم الممكن المتساوي الطرفين ليس نفيا محضا . وتساوي طرفي وجوده وعدمه ، ولا يكون إلا في العقل . فالتخصص عقلي ، وعدم العلة ليس بنفي محض ، وهو يكفي في التخصيص العقلي ، ولكونه ممتازا عن عدم المعلول في العقل يجوز أن يعلل هذا العدم بذلك العدم في العقل . ويجب وجود الممكن عند وجود سببه المخصص ، لأنه لو لم يجب وجوده ، فإما أن يمتنع ، أو يمكن ، وكلاهما باطلان .
____________________
(1/235)
أما الأول فلأنه لو امتنع وجوده لما كان ذلك الوجود مترجحا على عدمه ، فلا يكون مرجحه حاصلا ، مع انه قد فرض حاصلا ، هذا خلف . وأما الثاني ، فلأنه لو كان ممكنا ، لأمكن وقوعه مع السبب تارة ، ولا وقوعه أخرى . فإن توقف وقوعه في إحدى الحالتين على مخصص ، لم يكن السبب المخصص حاصلا ، وقد فرضنا حصوله . وان لم يتوقف كان حصوله في احدى الحالتين دون الأخرى تخصيصا لأحد الطرفين المتساويين على الاخر ، من غير مخصص ، وبطلانه بديهي . ولو جاز صيرورة أحد طرفي الممكن أولى به لذاته من الآخر ، ولا ينتهي إلى حد وجود ذلك الطرف ، للزم من ذلك محال ، لأن تلك الأولوية ان حصلت لماهية الممكن ، من حيث هي هي ، فهو باطل ، لانها مقتضية للتساوي ، فلو اقتضت الاولوية لاجتمع النقيضان ، ولأنه لو حصلت الأولوية بالماهية ، فان أمكن زوالها بسبب ، كان حصولها متوقفا على عدم ذلك السبب ، فلا تكون الماهية من حيث هي هي ، مع قطع النظر عن ذلك السبب ، مقتضية لها . وان امتنع زوالها بسبب كانت حاصلة دائما ، فكانت الماهية واجبة الوجود دائما ، فاستحال ان تحصل الأولوية بالماهية ، ولا تنتهي إلى حد الوجوب ، وأن لم تحصل للماهية من حيث هي هي . بل كان حصولها لها بسبب من غير الانتهاء الى حد الوجوب ، أمكن وقوعه مع السبب ولا وقوعه . ولو أمكن ذلك للزم من فرض وقوع الممكن محال ، على ما مر . ثم إذا وقع التخصيص والترجيح عن سبب الممكن ، ولم يجب طرفي الممكن المخصص عن ذلك السبب ، بل كان ممكنا مع السبب ، كما هو ممكن في ذاته ، إذ لا وجه لامتناعه عنه ، لعاد الحال في سبب ترجحه وتخصصه ، فلا يكون الذي فرض سببا مخصصا بسبب مخصص ، وهو ظاهر الفساد . فظهر من هذا أن كل ممكن لم يجب عن علته ، لم يوجد عنها ، وكما يفتقر
____________________
(1/236)
الممكن في وجوده إلى السبب ، فكذلك هو مفتقر حالة بقائه إلى السبب ، لأنه ممكن في حالة بقائه ، والا لزم انقلابه من الامكان الذاتي ، الى الامتناع ، أو الوجوب الذاتيين ، وذلك بديهي البطلان . واذا كان حال بقائه ممكنا ، وكل ممكن يفتقر إلى سبب ، فالممكن حالة بقائه يفتقر إلى السبب . وتتمة البحث فيه يأتي عند الكلام في العلل ، ان شاء الله تعالى .
____________________
(1/237)
الفصل الخامس في القدم والحدوث بمعنييهما أعني الزماني والمكاني الحدوث عند الجمهور هو حصول الشيء بعد عدمه ، في زمان مضى . والقدم عندهم ما يقابله . وبهذا التفسير لا نتصور أن يكون الزمان حادثا . والا لكان وجوده مقارنا لعدمه . والخواص قد يطلقون لفظة الحدوث ، ويريدون بها احتياج الشيء إلى غيره ، دامت حاجته إليه أو لم تدم ، ويعبرون عن هذا الحدوث بالحدوث الذاتي . والقدم المقابل له ، لا يصدق إلا على واجب الوجود فقط . والذي يحقق الحدوث الذاتي ، ويدل على أن إطلاق لفظة الحدوث عليه أولى إطلاقها على الزماني ، هو أن كلا الحدوثين يعتبر فيهما تقدم اللا وجود على الوجود . والتقدم والتأخر يقالان بمعان كثيرة ، فإنهما قد يكونان بالزمان ، كالأب وابنه ، أو بالذات كحركة اليد ، وحركة المفتاح . أو بالطبع ، كالواحد والاثنين ، أو بالمرتبة كالصف الأول والثاني ، أو بالشرف كالمعلم والمتعلم ( منه ) ، وكذلك المنع . والفرق بين التقدم بالذات والتقدم بالطبع ، أن الذي بالذات يجب من وجود ( لوحة 270 ) المتقدم وجود المتأخر ، والذي بالطبع يلزم من عدم المتقدم عدم المتأخر ، ولا يلزم من وجوده وجوده ، بل ربما لزم مع وجوده ، لا منه ، كتقدم صورة الكرسي عليه . والذي بالمرتبة
____________________
(1/238)
فمنه رتبي طبيعي ، وهو كل ترتيب في سلاسل بحسب طبائعها ، لا بحسب الأوضاع ، كالموصوفات والصفات ، والعلل والمعلولات ، والأجناس والأنواع . ومنه رتبي وضعي ، كالإمام والمأموم . ومن خاصية ما بالمرتبة أن ينقلب متأخره متقدما ، لا في نفسه ، بل بحسب أخذ الآخذ . والتقدم الحقيقي من هذا ، هو ما بالذات وما بالطبع ، وكلاهما اشتركا في تقدم ذات شيء على ذات الآخر . والتقدم الزماني ، وان كان أشهر ، فانه يرجع اليهما ، اذ التقدم والتاخر في الأب والابن بالقصد الأول ، انما هو لزماني الشخصين . واما لذاتيهما فبالقصد الثاني . وتقدم الزمان على الزمان ليس بالزمان ، اذ لا زمان للزمان ، بل هو تقدم بالطبع كما سيأتي . والرتبي الوضعي يرجع إلى الزماني أيضا ، وله مدخل فيه ، فانا إذا قلنا : بلد كذا متقدم على بلد كذا ، معناه : أن زمان الوصول إلى ما أخذ متقدما قبل زمان الوصول الى ما اخذ متأخرا . والرتبي الطبيعي هو أيضا يتعلق بالزمان ، فإنه إذا وقع الابتداء من أحد الطرفين ، فليس ذلك الابتداء مكانيا ، بل انما هو بحسب شروع زماني . والذي بالشرف فمجازي ، فان الفضيلة لو لم تكن سببا لتقدمه في المجلس أو في الشروع في الأمور ، لما سمى متقدما ، فهو بالذات تقدم مكان أو زماني . والمكان يرجع إلى الزمان - كما سبق - والزمان يرجع إلى التقدم بالطبع . فالذي بالزمان وبالمرتبة وبالشرف ، كله يرجع إليه ، فلا تقدم وتأخر بالحقيقة الا الذي بالذات أو الطبع ، ويعمهما كون الشيء الذي يقال له متأخر محتاجا في تحققه إلى الذي يقال له متقدم ، ويسمى ذلك التقدم والتأخر ، بحسب استحقاق الوجود . وأما ' المع ' فليس كل شيئين ليس لهما تقدم وتأخر زماني ، هما معا ، في الزمان . فان الاشياء التي وجودها غير زماني ، وستعرفها ، ليس بينهما تقدم
____________________
(1/239)
وتأخر بالزمان ، ومع ذلك ، فليست معيتها زمانية ، بل اللذان هما بالحقيقة معا بالزمان ، ويجب أن يكونا زمانين ، كما أن اللذين هما معا بالمكان ، يجب أن يكونا مكانين ، على أنه لا يصح وجود شيئين هما معا في المكان ، من جميع الوجوه ، لكنه في الزمان جائز . واذا قد تبين ان التقدم والتأخر الحقيقيين ، هما اللذان بحسب استحقاق الوجود ، فالذي تقدم لا وجوده على وجوده ، تقدما بالذات ، أولى بمعنى الحدوث من الذي تقدم عليه تقدما بالزمان . لكن أنت تعلم أن حال الشيء الذي يكون للشيء ، باعتبار ذاته متخليا عن غيره ، قبل حاله من غيره ، قبلية بالذات ، لأن ارتفاع حال الشيء ، بحسب ذاته ، يستلزم ارتفاع ذاته ، وذلك يقتضي ارتفاع الحال التي تكون للذات ، بحسب الغير ، ولا يلزم عكسه . وكل موجود عن غيره ، فهو لا يستحق الوجود ، بحسب الخارج ، لو انفرد عن ذلك الغير . فكونه لا يكون له وجود ، قبله بالذات ، وذلك هو الحدوث الذاتي ، وهو أولى من الزماني ، الذي لا يمتنع أن يصير المتقدم فيه بالعرض متأخرا ، وهو هو بعينه ، بسبب أن المقتضي للتقدم والتأخر فيه أمر عارض ، بخلاف ما بالذات ، إذ المقتضي لذلك هو ذاته ، ولهذا كان باستحقاق الوجود ، والمحدث الزماني ، وان كان احتياجه إلى المؤثر ضروريا ، فليس العلة في احتياجه اليه ، وهو حدوثه الزماني ، ولهذا لو جاز أن يكون هذا المحدث واجب الوجود ، لاستغنى عن غيره ، بخلاف ما أخذ في مفهومه الوجوب بالغير ، فانه لا يستغني عن الغير . الا اذا لم تكن طبيعته هذه الطبيعة ، فلا يتصور فيه ذلك ، الا وقد تبدلت طبيعته بطبيعة أخرى كون ذلك داخلا في مفهومه ، وليس بداخل في مفهوم ما حدوثه زماني ، وان كان لازما له . والحادث بهذا المعنى لا تكون علته دائمة ، والا لكان وجوده عنها في بعض الأحوال ، دون بعض تخصيصا من غير مخصص ، فلا يكون الامكان اللازم لماهيته كافيا في فيضانه عن واجب الوجود ، بل لا بد من حصول شرط آخر .
____________________
(1/240)
فلهذا الحادث إمكانان : أحدهما الإمكان العائد إلى ماهيته , والآخر الاستعداد التام , وهو سابق عليه سبقاً زمانياً . فإذن لا بد لكل حادث زماني من سبق حادث آخر كذلك , ليكون كل سابق مقرباً للعلة الموجودة إلى المعلول , بعد بعدها عنه . ولا بد لتلك الحوادث , من محل , ليتخصص الاستعداد بوقت دون وقت , وحادث دون حادث . وذلك المحل هو المادة فكل حادث ( لوحة 271 ) زماني , فهو مسبوق بمادة وحركة . وهذا الاستعداد السابق على الحادث , يختلف بالقرب والبعد , فإنه ليس استعداد العناصر , لأن يكون إنساناً , كاستعداد النطفة لذلك . وإذا لم تستعد المادة لقبول الشيء , لم يكن للفاعل قدرة على فعله , كما ليس له قدرة على إيجاد الحياة في الحجر مثلاً , لعدم صلاحيته لها . والفرق بين هذا الاستعداد وبين الإمكان , أن الإمكان لا يقتضي من حيث هو هو رجحان أحد طرفي الممكن , وليس فيه قرب وبعد , ولا هو أمر موجود في الخارج . والاستعداد بخلاف ذلك كله . والحدوث بمعنييه : معنى مقبول هو صفة تحصل في العقل عند تعقل اللاوجود , والوجود المترتب عليه في العقل . فالمتصف به من الماهيات لا يكون موصوفاً بالوجود وحده , فلا يكون موجوداً في الخارج , من حيث هو كذلك , بل يكون وجوده في العقل . فإذا أطلق بعد هذا الموضوع في هذا الكتاب لفظة الحدوث , أو الحادث , فإنما يراد به الزماني , لا الذاتي .
____________________
(1/241)
فارغة
____________________
(1/242)
الفصل السادس في العلة والمعلول ومباحثهما علة الشيء هي ما يتوقف وجود الشيء عليه , إن كانت علة لوجوده , أو عدمه إن كانت علة لعدمه . وهي قد تكون تامة , وقد تكون ناقصة , والتامة هي مجموع ما يتوقف عليه الشيء , ويجب بها وجوده . والناقصة , ما ليست كذلك , ويدخل في التامة الشرائط . وزوال المانع , فإن المانع التام إذا لم يزل يبقي الوجود , بالنسبة إلى ما يفرض عليه له ممكناً . وإذا كانت نسبته إليه إمكانية , دون ترجح فلا علية ولا معلولية . وليس هذا هو مصيراً إلى أن العدم يفعل شيئاً , بل معنى دخول العدم في العلية , أن العقل إذا لاحظ وجوب المعلول , لم يصادفه حاصلاً , دون عدم المانع . وتقدم هذه العلة على معلولها . هو تقدم ذاتي لا زماني . فإن المعلول حال بقائه , لو كان معللاً بعلة تامة , كانت موجودة قبله , بحيث تكون علية حال وجودها موجبة وجوده , بعد انقضائها وعدمها , للزم من ذلك أحد أمور , كلها باطلة , لأن إيجاب العلة للمعلول , إن كان عبارة عن وجوده بها ,
____________________
(1/243)
فاتصافها بالمؤثر به , لا يكون حال عدمها , وإلا لكان المعدوم علة تامة للموجود , وبطلانه ظاهر . ولا يكون حال وجودها أيضاً , لأن تأثيرها في المعلول حينئذ : أما في حال وجوده , أو حال عدمه , أو في حال ثالث لا يكون فيه موجوداً ولا معدوماً . أما الأول , فيقتضي مقارنة وجود العلة لوجود المعلول , وهو خلاف المفروض , ومع ذلك هو نفس مطلوبنا . وأما الثاني فيلزم منه الجمع بين وجود المعلول وعدمه , لأنا نتكلم على تقدير أن إيجاب العلة للمعلول , هو وجوده بها , فيتحقق الوجود لتحقق التأثير , ويتحقق العدم , لأنه هو المفروض . وأما الثالث فهو حصول واسطة بين كون الشيء موجوداً وكونه معدوماً , وهو بين البطلان . وإن لم يكن إيجاب العلة للمعلول عبارة عن ذلك , بل عن أمر آخر في الخارج يترتب عليه وجود المعلول , فذلك المغاير لا بد , وأن يصدق عليه أنه في هذا الزمان يوجب المعلول في الزمان الذي بعده , فيكون إيجابه لذلك المعلول زائداً على ذاته , فيقع الدور , أو التسلسل , في الإيجابيات , وستعلم بطلانهما . وإعطاء قوة العلة للمعلول في الزمان السابق , يبقى بها المعلول فيما بعده من الزمان , فباطل , لأن تلك القوة لها وجود ممكن , فيفتقر إلى مرجح . والكلام في بقائها مع انتفاء المرجح , كالكلام فيما عرضت له , ومما يدل على ذلك : أن الممكن الوجود , لا يخرجه وجوده عن الإمكان الذاتي , فلا يكون موجوداً إلا ووجوده مترجح بمرجح ما . وانتفى الترجيح إن بقي وجوده راجحاً لماهيته , فماهيته مقتضية لوجوب الوجود , فيستغني عن العلة في الحال , وفيما مضى , هذا خلف , وإن لم يبق وجوده مترجحاً بماهيته فوجوده بغيره , فمع انتفاء ذلك الغير ينتفي الترجيح والترجح به .
____________________
(1/244)
فلم يبق الوجود لذلك الممكن مترجحاً , فيترجح عدمه , لانتفاء مرجح الوجود , فلا يبقى موجوداً , وإذا لم يجب وجود الممكن لذاته , لا يستغنى عن المرجح , فلا بد له , ما دامت ذاته موجودة , من أن يكون مرجح وجوده موجوداً ولو لم يكن تأثير العلة في المعلول , حال وجود المعلول , لكان إما في حال عدمه , ويكون ذلك جمعاً بين وجوده وعدمه , أو لا في حال وجوده وعدمه . ويلزم من ذلك ثبوت الواسطة بينهما . ويجب أن تعلم أن الترجيح إن توقف على الزمان الثاني , لم يكن المرجح الذي هو العلة التامة , علة تامة . وإن لم يتوقف كان اختصاص الترجيح به دون الزمان الأول , تخصيصاً بلا مخصص . ثم لو تقدمت العلة التامة على معلة لها زماناً , لزم حصول المرجح , عند عدم الترجيح . والفطرة السليمة تأباه . والبناء إنما يبقى بعد وجود البناء مثلاً , لكون البناء إنما هو علة لحركة الأجزاء , وهو معلول ليس العنصر , لا للبناء . وذلك فلم يعدم مع بقاء التماسك المذكور . وعلى هذا قياس غيره من أمثلة ما يتوهم بقاؤه , بعد عدم ما يظن علة تامة له . والشيء قد يكون له علة للوجود , وعلة أخرى للثبات , كما في هذا المثال . وقد تكون علتهما واحدة , كالقالب المشكل للماء , المنقى الشكل بنقائه معه . وإذا عدمت علة الوجود فإن لم يبق علة الثبات , فلا تصور للوجود . وتأثير العلة في المعلول حال وجوده ليس معناه أنها تعطيه وجوداً ثانياً , بل معناه أن وجوده في حال اتصافه بالوجود , إنما هو بوجود علته . ولا يفتقر الموجود المعلول إلى علته , من حيث هو موجود , كيف كان , وإلا لكان الموجود الواجب الوجود مفتقراً إلى علة , بل من حيث هو موجود ممكن , كما سبق . ولا تجتمع على المعلول الواحد بالشخص علتان تامتان , وإلا لكان واجباً , بكل واحدة منهما . ووجوبه بكل واحدة منها تقتضي استغناءه عن الأخرى , فلو وجب بهما معاً , لاستغنى عنهما معاً , هذا خلف . ولأنه لو اجتمعا عليه , ووجب
____________________
(1/245)
بإحداهما , فإما أن يكون لغيرها مدخل في العلية , أو لا يكون , بأن كان مجموعهما هو العلة التامة , لا كل واحدة منهما . وإن لم يكن فلم تجتمع عليه العلتان المستقلتان . وأما المعلول النوعي , فلا مانع في العقل من اجتماعهما عليه , بمعنى أن يوجد بعض أفراده بعلة , وبعضها بعلة أخرى , كالحرارة , التي يعلل بعض جزئياتها بالنار , وبعضها بالحركة , وبعضها بالشعاع . وعلة عدم الشيء الممكن هي عدم علته التامة , إما بجملتها , أو ببعض أجزائها , ويدل عليه أنه لو كان عدمه لذاته , لكان ممتنع الوجود , لا ممكنة , فهو إذن لغيره . وذلك الغير إما وجودي , أو عدمي , فإن كان وجودياً , فإما أن يختل عند حصوله أمر من الأمور المعتبرة في العلية , أو لا يختل : فإن اختل فهو مطلوبنا , وإن لم يختل بقيت العلة التامة , مع عدم معلولها . وإن كان عدمياً , فإما أن يكون عدم العلة , وهو المطلوب , أو عدم ما عداها , وهو بديهي البطلان , عند التأمل . ومعلول الشيء لا يكون علة له من الوجه الذي به كان معلولاً له , على جهة الدور , سواء كان معلولاً قريباً أو بعيداً , لأن العلة متقدمة على المعلول بالوجود تقدماً ذاتياً , فلو كان المعلول علة لها , لكان متقدماً عليها بالوجود , والمقدم على المتقدم على الشيء متقدم عليه , فيكون الشيء متقدماً على نفسه . ولأن المعلول محتاج إلى العلة , فلو كان علة لعلته , لكانت محتاجة إليه , فيلزم احتياجه إلى نفسه , بمثل ما قلنا وذلك محال . وتسلسل العلل التامة إلى غير النهاية محال , وكذا كل أمور مترتبة موجودة معاً بالزمان . أما العلل فلأن المعلولات كلها وواحد واحد منها , لا تحصل موجودة إلا بموجد , وذلك الموجد لا يكون منها , وإلا لدخل في حكمها . ومن وجود كل واحد منها يعلم وجود ما قبله .
____________________
(1/246)
وكثرة الوسائط لا تقدم في العلم بوجود علة أولى , وآخر الموجودات التي يعلم العالم بوجودها يدل كذلك على أول العلل . وإذا كان حكم كل واحد من المعلولات , وحكم كل جملة منها حكما واحدا , في الاحتياج إلى الموجد . فجميع المعلولات محتاجة إلى علة غير معلولة , وإلا لكانت من الجملة , وفرضت خارجة عنها , هذا خلف . وبتلك العلة تنقطع السلسلة , وتتناهى . ومما يوضح ذلك إيضاحا . تبين من هذا أن كل سلسلة من علل ومعلولات فكل واحد منها علة , باعتبار ومعلول باعتبار , فكأنهما جملتان متطابقتان في الخارج . فإذا فرض تساويهما من جهة معلول واحد منها , فلا بد , وأن تكون جملة العلل زائدة على جملة المعلولات بواحد من العلل في الجانب الآخر , الذي فرض غير متناه , لأن كل علة لا تنطبق في مرتبتها على معلولها , بل إنما تنطبق على معلول علتها المتقدمة عليها بمرتبة . ولولا زيادة مراتب العلل بواحدة , لارتفع وجوب التقدم والتأخر اللازمين للعلية والمعلولية . ويلزم من ذلك انقطاع المعلولات قبل انقطاع العلل المقتضى لتناهيهما , مع فرضهما غير متناهيين . وكذلك الحكم في جانب التنازل إلى المعلولات , فإنها هناك تتزايد على العلل بواحد , بخلاف الجانب الأول , فلا يمكن وجود علل ومعلولات , لا نهاية لها . وهكذا حكم جميع الأشياء , التي تكون كلها موجودة , في زمان واحد , لها ترتيب طبيعي , كالموصوفات والصفات , وما يجري مجراها , وإذا فقد أحد الشرطين , أعني الوجود معاً والترتيب لا ( لوحة 273 ) يلزم الانطباق بحسب المراتب في نفس الأمر . فإن معنى التطبيق ( فيها ) أن يفرض من بعض المراتب إلى ما لا نهاية له , بحسب فرضنا له كذلك جملة . ومن المرتبة التي قبلها إلى ذلك الجانب أيضاً جملة أخرى . وتقابل الجزء
____________________
(1/247)
الأول من هذه بالجزء الأول من تلك . فالجملة الثانية أن صدق على أجزائها أنها بحالة لو أطبقت على أجزاء الجملة الأولى , انطبق كل جزء من أ أجزاء أحد الجملتين على جزء من أجزاء الجملة الأخرى , بحسب الترتيب , كان الناقص مساوياً للزائد , وإن لم يصدق عليها ذلك لزم انقطاع الجملة الثانية , من الجانب الآخر , ضرورة وزيادة الأولى عليها , بمرتبة واحدة فقط , فتكون أيضاً متناهية . وهذا فلا يتأتى في جملة ليس الحاضر في الخارج إلا بعضها , إذ تكون الجملة من الجملة هي غير موجودة في الخارج أصلاً , ولا في جملة , الارتباط لبعض أجزائها بالبعض , في نفس الأمر . وإن تصور فيها ارتباط بحسب الاعتبار الذهني , الذي لا يطابق أمراً خارجياً , لأنه في الأشياء المترتبة , إذا انطبق على جزء من الزائد شيء في درجته , استحال أن ينطبق عليه جزء آخر ينطبق على غيره . فلا جرم يفصل في الزائد جزء لا ينطبق عليه شيء . وغير المترتبة لا يتصور فيها هذا البرهان . والعلة الواحدة بالواحدة الحقيقية , التي هي من جميع الوجوه , لا يجوز أن يصدر عنها أكثر من واحد , إذ لو جاز صدور شيئين عنها لوجب اختلافهما بالحقيقة , أو بالشدة والضعف , أو بأمر عرضي . وإلا لم يتصور اثنينيتهما . والعرضي نفسه لا بد , وأن يكون حقيقة غير متفقة بين الاثنين . فما يصدران عنه يكون قد أفادهما , وأفاد العرضي الذي اختلفا فيه , فمفيدهما على كل تقدير , لا بد وأن يصدر عنه مختلفان , إما بالحقيقة , وإما بالكمال والنقص . وإذا ثبت اختلاف المقتضي , ثبت اختلاف الاقتضاء الدال على اختلاف جهته . فإنا نعلم بديهية أن المعلومات إذا تساوت نسبتها إلى مفيد وجودها , وجب تساويها في نواتها , وجميع أحوالها , إذ لا يكون لأحدها من العلة , ما ليس للآخر , فكان يكون ما هو أكثر من واحد واحداً , لما علمت من استحالة الاثنينية
____________________
(1/248)
من غير مميز يقع به الاختلاف . واعتبر كيف أنا مع اختلاف الجهات فينا , لا تتكثر أفعالنا , إلا لتكثر إراداتنا وأغراضنا , وبإرادة واحدة , واعتبار واحد , لا يحصل منها إلا شيء واحد . ولولا أن السلب يتوقف على ثبوت مسلوب ومسلوب عنه , وأن الاتصاف يتوقف على موصوف وصفة , والقبول على قابل ومقبول , لما أمكن أن يسلب عن الواحد أكثر من واحد , ولا يتصف موصوف بأكثر من صفة واحدة , ولا يقبل قابل أكثر من مقبول واحد . وإنما جاز ذلك , لأنه لا يكفي ثبوت المسلوب عنه , والموصوف والقابل , بخلاف صدور الشيء عن الشيء , فإنه يكفي في تحققه فرض شيء واحد , هو العلة , فإن معنى هذا الصدور غير معنى الصدور الإضافي العارض للعلة والمعلول من حيث يكونان , مقابل هذا هو كون العلة بحيث يصدر عنها المعلول , وهو متقدم على المعلول , وعلى الإضافة العارضة لهما , وهو أمر واحد , إن كان المعلول واحداً . أما ذات العلة إن كانت علة لذاتها أو حالة عارضة لها إن لم تكن لذاتها علة , وإذا تكثر المعلول كان ذلك الأمر مختلفاً , ولزمه تكثر ذات العلة كما مر . ويجوز صدور الأشياء الكثيرة عن الواحد الحقيقي , إذا كان بعضها صادراً عنه يتوسط صدور بعض , وباختلاف الآلات والقوابل والحيثيات والشرائط , لا يمتنع في العقل أن يصدر عن الواحد ما زاد على واحد , ولكن ذلك لا يكون على الحقيقة صدوراً إلا عما هو كثير لا عن واحد , من حيث أنه واحد . وكل علة مركبة فمعلولها مركب أيضاً , إذ لو صدر البسيط من حيث هو بسيط عن المركب , من حيث هو مركب , فأما أن يستقل واحد من أجزاء ذلك المركب بالعلية , أو لا يستقل . فإن استقل بها لم يكن المعلول مستنداً إلى الباقي , وإلا لاجتمع عليه علتان تامتان , وإن لم يستقل واحد منها بذلك : فإما أن يكون له تأثير في شيء من المعلول , أو لا يكون فإن كان له تأثير في شيء منه ,
____________________
(1/249)
لا في كله , لأن المفروض خلافه , كان المعلول مركباً لا بسيطاً , وإن لم يكن له تأثير في شيء منه , فالأجزاء بأسرها , إن حصل لها عند الاجتماع أمر زائد هو المؤثر , فذلك الزائد اما عدمي أو وجودي , فإن كان عدمياً لم يكن مستقلاً بالتأثير في وجود المعلول , وإن كان وجودياً : فهو إما بسيط أو مركب . والبسيطة يعود الكلام في صدوره عن الأجزاء بأسرها سواء كان هو نفسي الإجتماع , أو غيره , والمركب يعود الكلام في صدور المعلول الذي فرض أنه بسيط عنه ( لوحة 274 ) . وان لم يحصل عند الإجتماع أمر زائد , كان حالها مع اعتبار الإجتماع , كحالها مع اعتبار الإنفراد , فلا يكون المجموع المركب مؤثراً في البسيط . وفرض أنه مؤثر فيه , هذا خلف , ويلزم من هذا أن تكون علة كل حادث مركبة لوجوب حدوث تلك العلة أيضاً , وإلا لكان صدور الحادث عنها على تقدير قدمها في وقت دون ما قبله , ترجيحاً من غير مرجح . فلو كانت علة الحادث بسيطة للزم من حدوثها , أن تكون علتها حادثة , ومن بساطتها أن تكون علتها بسيطة . والعلة موجودة مع المعلول في الزمان , لما مر , فيلزم وجود سلسلة غير متناهية من علل ومعلولات , وقد سبق بطلانه . وأما إذا لم تكن علته بسيطة , فوجود هذه السلسلة غير لازم , لجواز أن يكون تركب علته من أمرين : قديم وحادث . ويكون الحادث منهما شرطا بعدمه بعد وجوده في وجود الحادث المعلول عن العلة القديمة , والشرط جاز أن يكون عدمياً , فيكون جزء العلة التامة للحادث أمراً عدمياً , والجزء الآخر دائم الوجود , فلا تجتمع أمور موجودة معاً , ولها ترتيب العلية والمعلولية إلى غير النهاية , لأن أحد جزئي علته شيء واحد مستمر الوجود .
____________________
(1/250)
فإن كان ذلك الشيء معلولاً , فينتهي إلى علة غير معلولة , والآخر الحادث , وإن لم يقف احتياجه إلى حوادث أخرى , عند حادث أول , فإن تلك الحوادث ليس لها جملة موجودة , بل كل حادث منها مسبوق بحادث آخر سبقاً زمانياً , فلا يمتنع عدم تناهيها , ولا كذلك لو كانت علة الحادث من حيث هو حادث حادثة وبسيطة , كما مر . ويجب من هذا ألا يكون شيء من الحوادث واحداً حقيقياً , بل لا بد , وأن يكون فيه اثنينية من وجه ما . وإن كانت ماهيته الأصلية واحدة , والعلة الفاعلة لشيء , لا يجوز أن تكون قابلة , لما فعلته من الجهة التي كانت بها فاعلة , لأن جهة الفعل غير جهة القول , ولو كانا واحداً لكان كل فاعل قابلاً لما فعل , وكل قابل فاعلا لما قبل بنفس الفعل والقبول . فلا بد في ذاته من جهتين , لتقتضيا بهما , بمثل ما مر , في أن الواجد الحقيقي لا يصدر عنه اثنان , والجهتان حيث تعددا في موضع , فلا يصيران واحداً أبداً , ولا في موضع من المواضع , لأن اتحاد الإثنين محال . ولا يصح أن العلة يتساوى وجودها , ووجود المعلول , أن العلة لها الوجود أولاً , وللمعلول ثانياً . والعلة لا تفتقر في الوجود إلى المعلول , بل تكون موجودة بذاتها , أو بعلة أخرى . والمعلول يفتقر إلى العلة , والمعلول في ذاته لا يجب له الوجود , وإنما يجب له بالعلة . فإلى وجود ذات العلة نظر لا يتناول ذات المعلول , وذات المعلول فإذا نظر إليها موجودة فإنما يلحظ مقيسه إلى العلة , والمعلول يتعلق بالعلة , من حيث هي على الجهات التي بها تكون علة , من إرادة أو معاون , أو أمر ينبغي , أو انتفاء أمر لا ينبغي . فإذا حصل الجميع فيجب , وإذا انتفى الجميع بانتفاء جميع الأجزاء , أو انتفاء البعض , فينتفي . ومتى دام المرجح دام الترجيح , فإن كل ما لا يتوقف على غير شيء ما إذا وجد الشيء ذلك الشيء , يجب وجوده وإلا توقف على غيره . وقد
____________________
(1/251)
وضع أنه ما توقف على غيره , هذا خلف . وتنقسم العلة الناقصة إلى ما يكون جزءاً من المعلول , وإلى ما لا يكون جزءاً منه . والجزء إما الذي به الشيء بالفعل , وهو الصورة كصورة الكرسي أو الذي هو به بالقوة , وهو المادة , كالخشب له . وما ليس بجزء منه أما ما به المعلول , أي أنه الذي يفيده الوجود , وهو الفاعل , كالنجار , أو ما لا حله المعلول , وهو الغاية كالجلوس عليه , أو ما فيه المعلول , وهو الموضوع والقابل كالجسم لهيئته , أو ما هو خارج عن هذه الأقسام , وهو الشرط , كالآلة وزوال المانع وغير ذلك , وبعض المعلولات قد يفتقر إلى كل هذه أو إلى عدة منها , وبعضها لا يفتقر إلا إلى العلة الفاعلية فقط , كما ستتحققه . وكل واحد من هذه العلل قد يكون قريباً , وقد يكون بعيداً , وقد يكون عاماً , وقد يكون خاصاً , وقد يكون كلياً , وقد يكون جزئياً , وقد يكون بالذات , وقد يكون بالعرض , وقد يكون بالقوة , وقد يكون بالفعل . ومثاله في الفاعلية مع تشاكل في الأمثلة , أن العفونة علة قريبة للحمى , والإحتقان مع اذمتلاء علة بعيدة , والصانع للبيت علة عامة , والبناء له علة خاصة , وهو كلي , وهذا البناء له جزئي . والطبيب يعالج علة بالذات , والكاتب يعالج , أو السقمونيا تبرد , لاستفراغه الصفراء الحارة , أو مزيل الدعامة عن الحائط , لسقوطه , وسائر العلل المعدة جميع هذه علل بالعرض , والبناء قبل شروعه في البناء , علة له بالقوة , وعند مباشرته له علة له بالفعل . والفاعل لا يعطي الوجود إلا بعد تشخصه , لأنه لا يوجد إلا وأن يكون شخصاً , ولا يصدر عنه الوجود إلا إذا كان موجوداً ( لوحة 275 ) . وتأدي السبب إلى المسبب , إما أن يكون دائماً , أو أكثرياً , أو متساوياً , أو
____________________
(1/252)
أقليا . والذي يتأدى السبب إليه على أحد الوجهين الأولين , هو الغاية الذاتية , وعلى أحد الآخرين هو الغاية الاتفاقية . كمن خرج إلى السوق , لابتياع سلعة فقط , فلقي غريمه , فابتياع السلعة ذاتية , وظفره بالغريم اتفاقية . والأمور الاتفاقية , إنما هي كذلك بالنسبة إلى من لا يعلم أسبابها . وأما إذا قيست إلى مسبب الأسباب , وإلى الأسباب المكتنفة كلها , فلا موجود بالاتفاق ألبتة . والعلة الغائبة هي علة فاعلية للعلة الفاعلية , وليست لوجود العلة الفاعلية , والعلة الفاعلية علة لوجود الغائبة , وليست علة لعلية الغائبة , بل هي علة لذاتها . والغائبة بالحقيقة ما هي متمثلة في نفس الفاعل , كتمثل فاعل البيت الاستكنان به , وهي العلة . وأما الواقع في الأعيان كالاستكنان به في الخارج , فهو معلول الفعل لا علته , إذ لا يوجد إلا بعد وجوده . وليس من شرط الغاية الروية , فإن الروية لا تجعل الفعل دائما به , بل تعين الفعل الذي تختار من بين أفعال جائز اختيارها لكل واحد منها غاية تخصه , فإن الغاية اللازمة للفعل , هي بالضرورة , لا بفعل فاعل . واعتبر بالكاتب الماهر لو روى في كتب حرف حرف , لكان يتبلد , وكذا الضارب بالعود , والزالق المعتصم بما يعصمه , والمبادرة إلى حك عضو من غير تفكر ولا ترو . وغاية الفاعل بالاختيار تسمى غرضا . وهو أخص من الغاية المطلقة . وكل من فعل لغرض فهو ناقص الذات , لأنه إن فعل لمصالح ذاته فظاهر , وإن كان بحسب شيء آخر , فإن كان صدور ذلك الشيء عنه إلى غيره , ولا صدور عنه بمنزلة واحدة عنده , فلا يترجح على نقيضه , وإن كان صدوره عنه أولى به , فسؤال اللم لا يزال يتكرر , حتى يبلغ ذات الفاعل , كما يقال لم فعلت كذا ؟ فيقال : ليفرح فلان . وإن قيل : ولم طلبت فرح فلان ؟ فيقال : إن الإحسان
____________________
(1/253)
حسن . فإذا قيل : ولم آثرت ما هو حسن ؟ فإذا أجابه بخير يعود إليه , أو بشر ينتفي عنه , وقف السؤال , وإلا لم يقف , فإن حصول الخير لكل شيء وزوال الشر عنه , هو المطلوب بذاته مطلقا , وعنده تنتهي الغايات لا محالة . ومبدأ الفعل إن كان تشوقا تخيليا وحده , فهو الجزاف , كالعبث باللحية , وإن كان مع مزاج أو طبيعة , فهو القصد الضروري , كالتنفس وحركة المريض . وإن كان تخيلا مع ملكة نفسانية داعية , غير محوجة إلى روية , فهو العادة . وإن كان المبدأ شوقا تخيليا , وروية , وتأدي إلى الغاية , فليس بعبث . فلا بد في هذه الأشياء كلها , من شوق وتخيل , حتى العبث باللحية . والساهي والنائم يفعل فعلا ما , ولا يخلو عن تخيل لذة , أو زوال حالة مملولة . والتخيل شيء , والشعور بأنه هو ذا , بتخيل شيء , وبقاء الشعور بالتخيل في الذكر شيء . فلا ينكر التخيل , لعدم انحفاظه في الذكر .
____________________
(1/254)
الفصل السابع في الجوهر والعرض وأحوالهما الكلية الذي قد اصطلح عليه في هذا الكتاب , هو أن الجوهر ما قام بذاته , والعرض ما عداه , وقد يسمى ماهية . وأما في اصطلاح الجمهور , فالجوهر ( هو ) ماهية , إذا وجدت في الأعيان , كان وجودها , لا في موضوع , والعرض هو ماهيه , إذا وجدت كذلك فوجودها , إنما هو في الموضوع . وعنوا بالموضوع المحل المستغني في قوامه , عما يحل فيه . والكائن في المحل هو الكائن في شيء , لا كجزء منه , شائعاً فيه بالكلية . ولا يصح مفارقته عنه , فالموضوع أخص من المحل . وعلى هذا فبعض الجواهر تكون في محل , ويسمى ذلك الجوهر صورة , ويسمى محله هيولي ومادة , فالموضوع والمادة داخلان تحت المحل , والصورة والعرض داخلان تحت الحال .
____________________
(1/255)
وقولنا : كذا فهو في كذا , هو لفظ مشترك , بين معان مختلفة , فإن كون الشيء في الزمان , وفي الخصب , وفي الراحة , وفي الحركة , وكون الجزء في الكل , والكل في الأجزاء , والخاص في العام , ليس لفظه في جميعها بمعنى واحد . فإن جمع ذلك الاضافة , أو الاشتمال , او الظرفية , فكل من هذه له عدة معان أيضا . فالشيوع والمجامعة بالكلية , وعدم جواز الانتقال , في شرح الكائن في المحل , هو قرينة , يفهم منها المقصود بلفظه في المستعملة فيه , ولا كجزء , احترز به عن مثل كون اللونية في السواد , والحيوان في الانسان . وقد تبين أن مثل هذه , ليست بأجزاء على الحقيقة , بل هي كالأجزاء . وقد خرج عن الجوهر بتفسيرهم , ما ليس له وراء الانية ماهية , فان قولنا اذا وجد كان لا في موضوع , لا يصدق الا على ما وجوده زائد على ماهيته . ودخل فيه كليات الجواهر المرتسمة في الذهن , فانها - وان كانت في الحال في موضوع الا أنه - يصدق عليها أنها وجدت خارج الذهن لم يكن وجودها في موضوع . على أن هذه في الحقيقة , لا تنتقل بأعيانها , من الذهن إلى الخارج , بل في ( لوحة 276 ) الخارج مماثلة . وليس من شرط المماثل أن يكون مماثلا من كل وجه . والعرض وجوده في تعينه هو وجوده لمحله , وليس أن يحصل له وجود , ثم يلحقه وجوده في محله , بخلاف كون الشمس , مثلا , في فلكها , فان كونها في الفلك ليس نفس وجودها , اذ لا مانع عن توهم الشمس كائنة في غيره .
____________________
(1/256)
ولما كان العرض بالإصطلاحين لا يتحقق وجوده الشخصي ، إلا بما يحل فيه ، لم يمكن انتقاله عنه إلى محل آخر ، ولا أن يوجد مفارقاً له ، كيف كان . ولهذا قيل في تعريفه : ولا تصح مفارقته عنه ، وذاك لأن المحتاج في وجوده المشخص إلى علة ، لا يمكن أن يحتاج إلى علة مبهمة ، لأن المبهم لا يكون - من حيث هو مبهم - موجوداً في الخارج . وما لا يكون كذا لا يفيد وجوداً خارجياً ، فالعرض إذن لا يتحقق وجوده إلا بمحل تعينه ، يتبدل بتبدله ذلك الوجود ، ولهذا يمتنع أن ينتقل عنه ، ويخالف حاله في هذا المعنى حال انتقال الجسم من حيز إلى حيز ، لأن احتياجه إلى الخير إنما هو في صفة غير الوجود . فإنه محتاج في تحيزه ، لا في وجوده ، إلى تحيز من حيث طبيعة الحيز ، فلا يمتنع أن ينتقل من حيز بعينه ، إلى حيز آخر يساوي الحيز الأول في معنى الخير . وهكذا إذا تعين حيز الواحد بالنوع ، كان الواحد بالشخص من جملة ذلك النوع محتاجاً إلى أحد أجزاء حيز ذلك النوع لا بعينه ، ولذلك أمكن انتقاله إلى حيز آخر . والهيئات لما كانت في المحل ففي نفسها الإفتقار إلى الشيوع فيه ، فيبقى الإفتقار ببقائها ، فلا يتصور أن تقوم بنفسها ، ولا أن تنتقل ، فإنها عند النقل تستقل بالوجود ، والحركة ، فهي جوهر لا هيئة . فإن الطبقة الواحدة من حيث هي تلك الواحدة بعينها ، لا تحتاج إلى محل تارة ، وتستغني عنه أخرى ، وذلك ظاهر . ويجب أن تعلم ، أن الإنتقال الذي حكم بامتناعه على الهيئات ، إنما هو الإنتقال المستلزم لاستقلالها بالوحدة ، أو بالجهات ، أو بالحركة المكانية ، أو بما يجري
____________________
(1/257)
مجرى هذه . وأما انتقالها بمعنى أن فاعلها يظهرها للحس ، أو لغيره في محل ، ثم يظهرها كذلك في محل غير ذلك المحل ، لا يمتنع من هذا الذي قد قيل . ولم أجد برهاناً على امتناعه . وإذا قيل : العرض ، أو الهيئة قد عدم فالمنعدم إذا كانت العلة الفاعلية ( له ) باقية ، هو تعلقه بمحل ما مظهر له . وأما تعلقه بفاعله فلم ينعدم ، ولهذا جاز أن يظهر بمحل آخر . وقيام العرض بالعرض جائز ، وهو كاستضاءة سطح الجسم ، وكون البطء في الحركة . ولكن لا بد من الإنتهاء إلى ما يقوم بالجوهر والعرض الحال في المحل المنقسم ، فإنه لا بد ، وأن ينقسم بانقسام محله ، لأن كل واحد من الأجزاء المفروضة في المحل أن لم يوجد فيها شيء من الحال ، لم يكن الحال حالا في ذلك المحل . وان وجد فيه شيء فأما أن يكون الحال بتمامه حاصلاً في كل واحد من أجزاء المحل ، فيكون العرض الواحد في الحالة الواحدة ، في أكثر من محل واحد ، وهو باطل بالبديهية . أو يحصل كل بعض منه في بعض من محله ، وهو يوجب الإنقسام . ويجوز قيام غير المنقسم بالمنقسم ، إذا لم يكن قيامه به ، من حيث هو منقسم ، بل من حيثية أخرى ، لا انقسام فيها ، وذلك كحلول النقطة في الخط ، فإنها تحل فيه لا من حيث هو خط ، بل من حيث هو متناه . وكذا حلول الخط في السطح ، والسطح في الجسم ، وكذا قيام الوحدة الغير الحقيقية ، بالموضوع المنقسم ، فإنها تقوم به من حيث هو مجموع . وكذلك الهيئة المسماة بالوضع ، إنما تحصل في الأجزاء بعد صيرورتها جملة
____________________
(1/258)
واحدة ، والزاوية والشكل كذلك أيضاً . وليس هو حلول عرض واحد في محال كثيرة ، إنما هو حلول عرض واحد ، في محل واحد ، ينقسم باعتبار غير اعتبار وحدته . ولا يمتنع هذا وأمثاله في الأمور الإعتبارية ، التي لا تحقق لها في الأعيان . وينقسم الجوهر الموجود بالمعنى المصطلح عليه ، في هذا الكتاب ، إلى أربعة أقسام ، والعرض إلى مثلها . أما أقسام الجوهر ، فهي أنه اما أن يجب وجوده لذاته ، وهو الواجب الوجود ، أو لا يكون كذلك وهو الممكن الوجود . لأن ما ليس بواجب هو إما ممكن أو ممتنع . وإذا كان ليس بممتنع ، لكون مورد القسمة ليس هو مطلق الجوهر ، بل الجوهر المقيد بكونه موجوداً ، فهو إذن ممكن ، وكل ممكن : فإما متحيز ، وهو الجسم ، لاستحالة الجوهر الفرد ، كما ستعلم . وإما غير متحيز ، ويسمى بالروحاني والمفارق . ولا يخلو إما أن يكون له تعلق بالجسم ، من طريق التدبير له ، والتصرف فيه ، والاسثكمال به ، وهو النفس والروح ، أو لا يكون له هذا التعلق ، وهو العقل . وربما يكون المفارق الواحد مفتقماً إلى العلاقة الجسمية ، في بعض أحواله ، ومستغنياً عنها في بعضها ، فيكون نفساً بالإعتبار الأول ، وعقلا بالإعتبار الثاني ، وستحقق صحة ذلك . وأما أقسام العرض ، فهي أنه إما أن يتصور ثباته لذاته ، أو لا يتصور ثباته لذاته ، فإن تصور ثباته لذاته ، فاما أن يعقل دون النسبة إلى غيره ، أو لا يعقل دونها .
____________________
(1/259)
( والذي يعقل دونها ) ، فأما أن يوجب لذاته المساواة والتفاوت والتجزؤ ( لوحة 277 ) . أو لا يوجب . فالذي يوجب ذلك لذاته ، هو الكم ، والذي لا يوجبه هو الكيف ، والذي ( لا ) يعقل دون النسبة إلى غيره هو الإضافة ، والذي لا يتصور ثباته لذاته هو الحركة . واحترز بلفظة لذاته في الحركة ، عن الزمان ، فإنه لا يتصور ثباته ، بسبب أنه مقدار الحركة ، كما ستعلم . واحترز بها في الكم ، عن الذي يكون كما بالعرض ، كالذي هو موجود في الكم ، كالزوجية ، والإستقامة ، والأطولية ، أو الكم موجود فيه ، كالمعدودات ، أو حال في محل الكم ، كالبياض ، أو متعلق بما يعرض له الكم ، كما يقال للقوة : إنها متناهية ، وغير متناهية ، بسبب كون المقوي ( علته ) كذلك في المدة ، أو في العدة . وقد يكون شيء واحد ، كما في الذات وبالعرض معاً ، كالزمان . أما كونه بالذات فظاهر ، وأما كونه كما بالعرض ، فلتعلقه بالحركة المتعلقة بالمسافة . وعلى اصطلاح الجمهور ، في معنى الجوهر ( والعرض ) ، يتغير هذا التقسيم ، لأن الجواب الوجود ، ليس بجوهر ، على تفسيرهم ، كما سبق . والصورة المقومة لما تحل فيه ، وكذا المادة التي هي محلها ، هما جوهران على ذلك التفسير .
____________________
(1/260)
ووجه تقسيم الجوهر عندهم ، ( أنه ) اما جسم ، أو أجزاؤه ، أو أمر غير ذلك . والقسمان الأولان يسمونهما بالمبادئ ، والقسم الثالث بالمفارق والروحاني . ويقسمون الأول إلى نفس المادة ، وإلى ما يقومها ، وإلى ما يتقوم بها . والأول هو الهيولي ، والثاني هو الصورة ، وهما جزءا الجسم ، والثالث هو الجسم . وأما المفارق ، فأما أن يتصرف في الماديان على الوجه الذي سبق ، وهو النفس ، أو لا تتصرف فيها كذلك ، وهو العقل . وتقسيم العرض على الإصطلاحين متساو . ويجب أن تعلم أن الكم : إما أن يمكن أن تفرض فيه أجزاء ، تتلاقى على حد مشترك ، وهو المتصل ، أو لا يمكن ، وهو المنفصل . والمتصل إن كان قار الذات ، أي يصح ثباته ، فهو المقدار ، وإلا فهو الزمان ، والمنفصل هو العدد . والأول يختص دون الأخيرين ، والأوسط يختص بأنه غير قار الذات ، دون الباقيين . وأن الكيف : إما أن يكون مختصا بالكميات : كالتربيع والزوجية ، أو غير مختص بها . وغير المختص : إما أن يعتبر من حيث هو استعداد لأمر ما ، أو لا يعتبر من حيث هو كذلك . والمعتبر فيه أنه استعداد ، هو القوة ، واللاقوة ، كالمصحاحية والصلابة ، وما يقابلهما . والذي لا يعتبر فيه أنه استعداد ، فإما محسوس بأحد الحواس الخمس الظاهرة ، كملوحة ماء البحر ، وحمرة الخجل ، أو غير محسوس بأحدها ،
____________________
(1/261)
لحصة المصحاح ، وغضب الحليم . ويعم الأولين كونهما لا يعتبر فيهما أنهما كمال جوهر ، بخلاف الثالث والرابع . وللاضافة والحركة أقسام ، الأليق بها أن تؤخر عن هذا الموضع ، وهذا الذي قد ذكرته هو تقسيم حاصر لجميع الموجودات الخارجية ، بل ولجميع المفهومات الذهنية . ومن ههنا إن شاء الله ( تعالى ) وبتوفيقه سبحانه ، أشرع في الكلام في كل واحد من هذه الأقسام ، وأحكامه ، مبتدئا بأخسها وأضعفها ، وهو أقسام الأعراض وجودتها واعتباراتها ، مترقيا عنها إلى الأشرف فالأشرف ، والأقوى فالأقوى ، من الموجودات الجوهرية ، واذكر بعد الأعراض الأجسام ، ثم النفوس ، ثم العقول ، ثم أختم الأبواب بالكلام في حال الغنى المطلق القيوم ، الواجب الوجود ، جل جلاله ، وعز سلطانه .
____________________
(1/262)
الباب الثالث في أقسام الأعراض الوجودية والاعتبارية
____________________
(1/263)
____________________
(1/264)
الفصل الأول في المقادير والأعداد التي يعمها جميعها كونها قارة الذات أقسام المقادير ثلاثة : خط وسطح وبعد تام ، وتسمى جسما تعليميا . فالخط هو طول وحده ، دون اعتبار عرض وعمق . والسطح هو طول وعرض ، فحسب ، دون اعتبار عمق . والبعد التام هو الطول والعرض والعمق . والفرق بين هذه المقادير وبين الجسم الطبيعي ، أن كل واحد منها قد يتبدل على جسم واحد ، مع أن ذلك الجسم بحالة لم تتبدل . والمتبدل غير ما ليس بمتبدل ، ألا ترى أن قطعة من الشمع مثلا إذا شكلت بأشكال مختلفة ، كيف يزداد طولها تارة ، وينقص أخرى ، وكذا عرضها وعمقها ، مع أن جسميتها هي هي ، في جميع الأحوال . فكل من الخط والسطح والعمق عرض في الجسم ، فمجموعها ، وهو البعد التام هو عرض أيضا ، إذ لا يتقوم جوهر بمجموع أعراض لا مقوم له غيرها . وليس لشيء من هذه الامتدادات وجود في الأعيان على الاستقلال . أما الخط ، فلأنه لو وجد عيبا ، لكان ما يلاقي منه جهة السطح . غير ما يلاقي الجهة الأخرى ، فينقسم في العرض ، والسطح ، لو وجد كذلك لكان الملاقى منه لجهة الجسم غير الملاقي منه للجهة الأخرى ، فينقسم في
____________________
(1/265)
العمق ، والبعد التام ، لو قام بنفسه ، دون مادة ، لكان هو الخلأ الذي سيتحقق امتناعه ، ونحن إذا تخيلنا الثخن من غير أن نلتفت إلى شيء من المواد ، كان ذلك بعدا تاما ، هو الجسم التعليمي . وإذا تخيلناه متناهيا ( لوحة 278 ) فقد تخيلنا سطحه . فإذا كان تخيلنا لسطحه ، من غير أن نلتفت إلى شيء مما يقارنه في المواد من اللون والضوء ، كان ذلك سطحا تعليميا . وعلى هذا القياس الخط التعليمي . والبعد التام يمكن أن يؤخذ لا بشرط شيء ، ويمكن أن يؤخذ بشرط لا بشيء . وأما السطح والخط التعليميان ، فلا يمكن أحدهما بشرط لا شيء بل كما لا يتحصلان في نفس الأمر على الاستقلال ، فكذا في التخيل ، لأنا إذا تخيلناهما ، لا بد وأن نفرض للسطح أعلى وأسفل ، وللخط يمينا ويسارا ، فيكون المأخوذ الأول مع الجسم ، والثاني مع السطح . ويدل على عرضية المقدار أنه لو وجد في الخارج مفارقا عن المادة ، لكان كونه لذلك إما لذاته أو للوازمها أو لأمر خارج عنهما . والأولان يقتضيان كون كل مقدار كذلك ، والثالث يقتضي كون الغني بذاته عن المحل ، يصير محتاجا إليه بأمر جائز المفارقة ، والمحتاج إليه بذاته يصير غنيا عنه ، بأمر هذا شأنه ، وذلك محال ، لأنه ما للشيء بذاته ، لا ينفك عنه بحال من الأحوال . والسطح ليس هو فناء الجسم فقط ، وإلا لم يكن قابلا للاشارة ( الحسية ) بل هناك أمور ثلاثة : فناء الجسم في جهة معينة ، وليس بعدم محض ، بل عدم أحد أبعاد الجسم ، وهو عمقه ، ومقدار ذو طول
____________________
(1/266)
وعرض فقط ، وإضافة تعرض للفناء ، فيقال لها بحسبها نهاية ذي نهاية . والاضافة عارضة لها متأخرة عنها . وكون الشيء نهاية لقابل الأبعاد الثلاثة المتقاطعة على زوايا قائمة ، يقتضي كونه قابلا لفرض بعدين منها فقط . وكميته إنما هي باعتبار كونه مقدارا لا غير . وكونه سطحا ، هو باعتبار ملاحظة البعدين اللذين هما : الطول والعرض ، مع عدم ملاحظة البعد الثالث ، وهو العمق . وإنما قيد التقاطع بكونه على زوايا قائمة ، ( لأنه ) لو لم يقيد بذلك ، لأمكن في السطح تقاطع أبعاد لا تنحصر ، فضلا عن الجسم . وأما كونه على الزوايا القوائم ، فلا يمكن أن يزيد في الجسم على ثلاثة ، ولا في السطح على بعدين ، إذ الزاوية القائمة هي التي تحدث من قيام خط مستقيم على خط مستقيم ، ولا ميل فيه إلى أحد الجانبين . فإن مال إلى أحدهما ، فالتي هي أصغر من قائمة حادة ، والتي هي أكبر منها منفرجة ، وذلك ظاهرة عند التأمل . وحال الخط في كونه يتناهى به السطح ، على قياس حال السطح ، في كونه يتناهي به الجسم . والخط يتناهى بنقطة ، وليست النقطة من المقادير ، ولا من الكمية . إذ ليس يمكن أن يفرض فيها شيء غير شيء ، وهو معنى قبول التجزؤ الذي هو من خواص الكم ، وإنما المقادير بأسرها تتناهى بها ، وتعرف بأنها شيء ذو وضع ، لا ينقسم . ويكون التقاطع المذكور على زوايا قوائم ، دليل على أن المقادير ،
____________________
(1/267)
لا تزيد على الثلاثة ، التي هي : الخط أو السطح والجسم التعليمي ، إذ لا يمكن الزيادة على امكان فرض أبعاد ثلاثة بهذا الشرط ، ولهذا عبرت عن الجسم التعليمي في هذا الكتاب بالبعد التام . والعدد هو الكم المنفصل ، إذ ليس لأجزائه امكان حد مشترك يتلاقى عنده ، ولو فرض في نوع من العدد كالسبعة آحاد مرتبة فيها واحد متوسط ، وعلى الجوانب آحاد بطلت نوعيته الواحدة الكائنة قبل هذا الترتيب . ثم إذا فرض منها واحد بين اثنين يكون له طرف إلى كل واحد فينقسم ، فتكون آحاده أمور منقسمة : إما أجسام أو سطوح صغار . وبالجملة تكون كميات متصلة في أنفسها ، وتعرض لها الوحدة والعددية . وكلامنا في الكم المنفصل بالذات لا فيما يعرض له الكم المنفصل ، فيكون كما منفصلا بالعرض ، فإن الذي يعرض له ذلك ، قد يكون جوهرا ، وقد يكون مقدارا ، أو غيرهما . فالعدد من حيث هو عدد ، لا حد مشترك فيه ، ولا إمكان لأن يفرض فيه ترتيب ووسط وطرف . ولا أولوية لبعض آحاد العدد بالوسطية ، ولا بالطرفية من بعض ، وليس ( غير ) العدد كما منفصلا ، لأن قوام المنفصل من المتفرقات ، ( التي هي مفردات ) ، والتي هي آحاد ، فإن أخذ الواحد ، من حيث هو واحد فقط ، لم يكن حاصل من اجتماع أمثاله إلا العدد . وإن أخذ من حيث أنه انسان أو حجر أو غير ذلك ، لم يمكن اعتبار كونها كميات منفصلة إلا عند اعتبار كونها معدودة بالآحاد التي فيها ، فهي إنما تكون كميات منفصلة بالحقيقة ، لكونها معدودة بالوحدات التي فيها
____________________
(1/268)
فأذن كمياتها المنفصلة ، ليس إلا لعدديتها لا غير . والبرهان على كون العدد عرضا ، هو أنه متقدم بالوحدات التي هي أعراض . ومجموع الأعراض لا يكون جوهرا ، وعرضية الوحدات يدل عليها أن وحدة الجوهر مساوية لوحدة العرض في مفهوم كونها وحدة ، فذلك المفهوم إن كان جوهرا ، استحال حصوله في العرض ، لأن الجوهر لا يوجد في العرض ، وإن كان عرضا لم يمتنع حصوله في الجوهر ، فوجب الجزم بكون الوحدة عرضا . وظاهر أن الوحدة ، وإن كانت مبدأ العدد ومقومة له ، فليست بعدد ولا كم ، إذ التعريف لهما لا يصدق عليها ، بل أقل العدد ( لوحة 279 ) اثنان ، وهو الزوج الأول . ونسبة الوحدة إلى العدد ، ليست كنسبة النقطة إلى الخط ، لأن الوحدة جزء العدد ، والنقطة نهاية الخط ، وليست بجزء منه ، وإلا لزم تركب الخط من النقطة ، والسطح من الخطوط ، وللجسم من السطوح . وهذا هو معنى تركب الجسم من الجواهر الأفراد ، وستعلم ذلك ، وامتناعه . وكل نوع من أنواع العدد له وحدة ما ، باعتبارها يكون له لوازم وخواص ، مثل الزوجية والفردية والمنطقية والأضمنية ، وغير ذلك مما يشتمل عليه علم الأرثماطيقي ، وهذه الخواص ممتنعة الزوال . وله اعتبار كثرة ، وخصوصية تلك الكثرة هي نوعيته التي هي بها ما هو ، فليس العدد مما لا حقيقة له مطلقا . وكيف يكون لما لا حقيقة له ، لا في الخارج ولا في الذهن خواص ولوازم ومناسبات عجيبة ، قد أفراد لها علم ، وفرع منه فروع . فهو مما له حقيقة في الاعتبار الذهني ، وإن لم يكن له حقيقة زائدة في الوجود الخارجي كما سبق .
____________________
(1/269)
وكل نوع من أنواع العدد ، فإنما يتقوم بالوحدات التي تبلغ جملتها ذلك النوع ، وتكون كل واحدة من تلك الوحدات جزءا من ماهيته . فأما الأعداد التي فيه ، فليست مقومة له ، مثلا : العشرة ليست متقومة بالخمستين ، فإنه ليس تقومها بذلك أولى من تقومها بستة وأربعة : أو سبعة وثلاثة ، أو ثمانية واثنين . ولو كان أحد هذه مقوما ( لها ) ، لكان كافيا في تقويمها ، ومن المحال أن يكون للشيء أمور كل واحد منها كاف في تقومه ، فتكون العشرة من تسعة وواحد ، أو من نوعين من العدد ، إنما هو من خواصها ولوازمها الخارجة عن ماهيتها . فإذا عرفت بأنها عدد مركب من عدد كذا ، وعدد كذا ، فهو رسم وتنبيه لاحد . وحال النوع من العدد في وحدته باعتبار ، وكثرته باعتبار آخر ، كحال المقدار في وحدته من جهة الاتصال ، وكثرته من جهة الأجزاء التي فيه بالقوة .
____________________
(1/270)
الفصل الثاني في الكمية غير القارة وهي الزمان إذا فرضنا ثلاثة أجسام متحركة ، على ثلاث مسافات معا ، كثلاث كرات متساوية ، ( و ) يحركها ثلاثة أشخاص إلى جهات مختلفة : ( و ) أحداها أسرع ، والأخرى أبطأ ، والثالثة متوسطة بينهما . وابتدأت بالحركة معا فتحركت السريعة مثلا دورتين ، والبطيئة دورة واحدة ، وانتهيا معا ، والمتوسطة كفت عن الحركة قبلهما ، ودارت دورة واحدة . فالسريعة والبطيئة ، اشتركتا في الابتداء والانتهاء معا ، وتخالفتا في المسافة . والمتوسطة شاركت البطيئة في المسافة ، ولم تشارك السريعة فيها ، فتكون السريعة خالفت البطيئة ، والمتوسطة في المسافة ، وشاركت البطيئة في شيء به خالفت المتوسطة ، وذلك الشيء هو المحرك ، ولا المتحرك ولا الحركة ، إلا ما يتعلق بها من المسافة والسرعة والبطء ، لأن محرك كل واحدة غير محرك الأخرى ، والمتحرك غير المتحرك الآخر ، ولا متعلقة بها . وبينها معية تتساوى في البعض منها ، وهي ما منه ، وما إليه . ويشترك الكل في شيء منها ، وهو المدة والزمان ، واشترك الثلاثة
____________________
(1/271)
في قطعة منه ، واثنان في الكل . فهذه المدة والزمان أدركت ملحوظة بالذهن ، ولا تساوي جزءها كلها كما في سائر المقدرات ، فإن الكرة السريعة لا يمكن أن تتحرك في تلك المدة ، بتلك السرعة ، أكثر من الدورتين ، ولا أقل ، ولا البطيئة في المدة المفروضة يمكن أن تتحرك مثل حركتها ، ولا أكثر . وانية الزمان ظاهرة بهذا التنبيه ، لكن ماهيته خفية . ومما ينبه على آنيته وماهيته أيضا ، أن القبلية التي لا تجتمع مع البعدية ، وهي السابقة على وجود الحادث ، ليست نفس العدم ، فإن العدم قد يكون بعد ، كما يكون قبل ، ولا هي ذات الفاعل ، فإنه قد يكون قبل ومع وبعد . فهي شيء آخر لا يزال فيه تحدد وتصرم ، على الاتصال ، فهو متصل في ذاته غير قار الذات . فإنا لو فرضنا متحركا يقطع مسافة ، يكون حدوث حادث ما مع انقطاع حركته ، فيكون ابتداء الحركة قبل هذا الحادث ، ويكون ابتداء الحركة وحدوث الحادث قبليات وبعديات متصرمة ومتحددة ، مطابقة لأجزاء المسافة والحركة ، فتكون هذه القبليات والبعديات متصلة اتصال المسافة والحركة . فالشيء الذي هو غير قار الذات السابق على الحادث المتصل اتصال المقادير ، هو الزمان ، وليس مفهوم غير اتصال الانقضاء والتحدد . وإذا لم يفرض الذهن في هذا الاتصال تجزؤا بالفعل ، فلا تقدم فيه ولا تأخر . والأجزاء المفروضة فيه لا يفرض لها تقدم وتأخر ، بل تصور عدم استقرارها المستلزم لتصور تقدم وتأخر هو حقيقة الزمان ، فالتقدم والتأخر لاحقان له لذاته ، ويلحقان غيره بسببه ، وذلك الغير هو كل ماله حقيقة ، غير عدم الاستقرار يقارنها عدم الاستقرار ، كالحركة وغيرها فلا نحتاج أن نقول : اليوم متأخر عن أمس ، لأن ( لوحة 280 ) نفس مفهوميهما يشتمل على معنى هذا التأخر ، بخلاف العدم والوجود وغيرهما .
____________________
(1/272)
ولو كان ما ذكرناه تعريفا حديا أو رسميا للزمان ، لكان قد أخذ الزمان في نفسه ، فإنه لا يصح تصور المعية والقبلية والبعدية ، إلا مع تصور الزمان ، فلا يؤخذان في تعريفه . وكذا الحركة السريعة والبطيئة المذكورتان في التنبيه المذكور أولا لا يؤخذ في تعريفه ، لأن السريعة هي التي تقطع مسافة أطول في زمان ( مساو أو ) أقصر ، وتقطع ( مسافة ) مساوية في زمان أقصر . والبطيئة على الخلاف من ذلك ، فالزمان مأخوذ في تعريفهما ، بل ما قيل ههنا يجري مجرى المنبهات على حقيقة الزمان . والقبلية والبعدية ، إذا أخذا من حيث يقعان في زمان معين ، كان حكمهما حكم غيرهما ، في لحوق قبلية وبعدية أخرى ، يعتبرهما الذهن به . ولا ينقطع ذلك إلا بانقطاع الاعتبار الذهني ، وهما إضافتان يجب وجود معروضيهما في العقل معا ، لا في الخارج كذلك ، وهما من الأمور الاعتبارية ، لا الخارجية . ولا يختصان بزمان دون زمان ، بل يصح تعلقهما في جميع الأزمنة . وإذ قد ثبت أن قبلا قد يكون أبعد من قبل وأقرب منه ، فالقبليات لها مقدار ، وهو غير ثابت ، كما عرفت . فلا يكون مقدار الجوهر ، أو هيئة يتصور ثباتهما ، فهو مقدار لهيئة ، لا يتصور ثباتهما ، وهي الحركة . فماهية الزمان أنه مقدار الحركة ، لا من جهة المسافة ، بل من جهة التقدم والتأخر ، اللذين لا يجتمعان . وأنت تعلم من تأخرك لأمر ،
____________________
(1/273)
إذا أدى إلى فوات ما يتضمن تقديمه ، أن أمرا ما قد فاتك ، وذلك الفائت هو الزمان . وتعلم أنه مقدار حركة بما يرى من التفاوت ، وعدم الثبات والفطرة السلمية ، يستغني بهذا في إثبات الزمان ، وبيان ماهيته عن جميع ما مر من التنبيهات عليهما . ومن لا يستغني فلا بد له من التنبيهات السابقة . وقد عبر عن الزمان أيضا بأنه اعتبار التقدم والتأخر والقبلية والبعدية في الأمور الموجودة والمقدرة في الوهم . وتعتبر القبلية والبعدية بالنسبة إلى الآن الوهمي الدفعي ، ( وهو ) الزمان الذي حواليه ، فالأقرب من أجزاء الماضي إليه بعد ، والأبعد قبل ، والمستقبل بخلاف هذا . ولا مبدأ زماني للزمان ، وإلا لكان له قبل لا يجتمع مع بعده ، وليس ذلك القبل نفس العدم ، ولا بأمر ثابت يجتمع مع بعده ، وليس أيضا قبلية زمانية ، فيكون قبل جميع الزمان زمان ، وهو محال . وبقريب من هذا يتبين ألا مقطع زماني له ، إذ يلزم أن يكون له بعد ، وبعده ليس عدمه ، إذ قد يكون العدم قبل ، ولا شيء ثابت ، كما سبق ، فيلزم أن يكون جميع الزمان شيء منه ، فلا ينقطع ما فرض أنه قد انقطع ، هذا خلف . ولا يلزم من هذا ، كون الزمان واجبا لذاته ، إنما كان يلزم ذلك . لو لزم من فرض عدم المحال ، كيف كان ، أما إذا لزم المحال من فرض عدمه قبل ثبوته ، أو بعد ثبوته ، لا مطلقا ، لم يلزم وجوبه بذاته .
____________________
(1/274)
والآن في الزمان كالنقطة في الخط ، وهو طرف موهوم بين الماضي والمستقبل ، به متصل أجزاء الزمان بعضها ببعض . وإذ ليس للزمان طرف فلا يوجد لهذا الآن ، إلا في الذهن . وكما أن النقطة ليست مقومة للخط ، كذلك الآن ليس مقوما للزمان ، وسيتحقق ذلك فيما بعد ، فهو عرض حال في الزمان ، هو حد مشترك بين ماضيه ومستقبله . والماضي ليس بمعدوم مطلقا ، بل معدوم في المستقبل ، والمستقبل معدوم في الماضي ، وكلاهما معدوم في الآن . وليست المسافة وحدها هي السبب في التقدم والتأخر ، اللذين في الزمان ، وإلا لما كانت المسافة الواحدة تقع فيها حركة متقدمة ومتأخرة ، بالتعاود ، بل للمسافة مدخل ما في ذلك ، وهو ظاهر . وقد قسم الزمان إلى أجزاء من السنين والشهور والأيام والساعات ، وغير ذلك . وأجزاء الزمان الدائم هي جزئيات الزمان المطلق ، ولا يتقدم جزء مفروض من الزمان على جزء آخر منه ، تقدما زمانيا ، بل يتقدم عليه بالطبع . والسابق منهما شرط معد للاحق ، لأنك ستعلم أن الحركات هي سبب ( حدوث ) الحادث ، والحركة حادثة وكل حادث له علة حدوث من الحركات ، فالحركة كذلك . فيقدم جزء من الحركة على جزء آخر طبيعي ، لا زماني . وليس بعض أجزائها أولى بالعلية من بعض ، بحسب ماهيتها ، بل الأولوية بحسب أمر خارج من فاعل محرك وقابل ، هو أجزاء المسافة . وتعين المراد بالتقدم الطبيعي ، بسبب الفاعل ، وجزء آخر من المسافة ، والوصول إلى ذلك الجزء أيضا ، بسبب المسافة ، والجزء الآخر ، ومعية ما هو في الزمان للزمان ، غير معية شيئين يقعان في زمان واحد ، لأن الأولى تقتضي نسبة واحدة ، لشيء غير الزمان إلى
____________________
(1/275)
الزمان ، هي متى ذلك الشيء . والأخرى تقتضي نسبتين تشتركان في منسوب إليه واحد بالعدد ، هو زمان ما . وكما تقدرا لحركات بالزمان ، كذلك يقدر الزمان بالحركة ، كما يدل المكيال على المكيل تارة ، والمكيل على المكيال أخرى . وكذا تدل المسافة على الحركة ( لوحة 281 ) ، والحركة على المسافة . ويكفي في تحقق الزمان حركة واحدة ، ولا أي حركة ، بل الحركة التي لا بداية لها ، ولا نهاية ، لتكون حافظة له . وكما أن المقدار الموجود في جسم يقدره ويقدر ما يحاذيه ويوازيه ، كمقدار مسطرة ، كذلك مقدار الحركة الواحدة ، وهي الحركة التي يقدر بها الزمان ، بقدر منها سائر الحركات . وكما ليس يجب أن يكون ذلك المقدار في المسطرة متعلقا بالمقدر والمقدر ، كذلك هذا المقدار يكفي في تقديره لسائر الحركات ، أن يكون مقدارا لحركة واحدة . ويكون الزمان غير قار الذات ، فلا يكون شيء منه حاضرا . وكل ما هو علة للزمان تامة كانت أو ناقصة ، فلا يكون في الزمان ، ولا معه ، اللهم إلا في التوهم ، حيث يقيس الوهم هذه الأشياء إلى الزمانيات . وإذا قيل السكون في الزمان ، أو مقدر به ، فهو تجوز . فمعنى أنه لو كان الساكن متحركا ، لكان مقدار حركته كذا ، والجسم إذا قيل في الزمان ، فإنما هو من جهة حركته . ونسبة الزمان إلى الحركات ، كنسبة الذراع إلى المذروعات . وكونه مقدار للحركة ليس بأمر زائد على الحركة في الأعيان قائم بها ، إنما هو زائد بحسب الاعتبار الذهني ، من حيث يلاحظ الذهن كون الحركات
____________________
(1/276)
متشاركة في كونها حركة ومختلفة في مقاديرها ، التي هي أزمنتها . وكما أن المقادير القارة الذات تشاركت في المقدارية ، وزاد بعضها على بعض ، ولم يلزم من ذلك أن تزيد بعض ، بأمر وراء المقدار ، فكذا الحال في الزمان بالقياس إلى الحركة . ولا ينتسب إلى الزمان شيء بأنه حاصل منه ، إلا إذا كان ذلك الشيء من الأشياء التي فيها تقدم وتأخر ( و ) ماض ومستقبل ، وابتداء وانتهاء . وذلك هو الحركة أو ذو الحركة ، فإن كل أمر زماني له متى ، ويصح عليه الانتقال في متناه ، وما هو خارج عن هذا ، فإنه يوجد مع الزمان لا فيه . وهذه المعية إن كانت بقياس ثابت إلى غير ثابت ، فهو الدهر ، وإن كانت بقياس ثابت إلى ثابت ، فأحق ما يسمى به السرمد . وهذا الكون أعني كون الثابت مع غير الثابت ، والثابت مع الثابت ، بإزاء كون الزمانيات في الزمان . وتلك المعية ، كأنها متى للأمور الثابتة . ولا يتوهم في الدهر ، ولا في السرمد امتداد ، وإلا لكان مقدار الحركة والزمان كمعول للدهر ، والدهر كمعول للسرمد ، فإنه لولا دوام نسبة علل الأجسام إلى مبادئها ، ما وجدت الأجسام ، فضلا عن حركاتها ولولا نسبة دوام الزمان إلى مبدأ الزمان ، ما تحقق الزمان . ودوام الوجود في الماضي هو الأزل ، ودوامه في المستقبل هو الأبد ، والدوام المطلق يعم الدهر والسرمد
____________________
(1/277)
فارغة
____________________
(1/278)
الفصل الثالث في ما لا يعتبر فيه من الكيفيات أنه كمال جوهر ، وهو ما يختص وما يعتبر فيه أنه استعداد فحسب أما الكيفيات المختصة بالكميات ، فهو التي لا يتصور عروضها لشيء ما إلا بواسطة كميته . ويدخل فيها ما يكون كذلك بكله كالاستقامة والانحناء ، أو ببعض أجزائه كالحلقة المركبة من : لون وشكل . وهي كذلك ، لما فيها من الشكل فقط . وينقسم هذا النوع إلى ما يكون مختصا بالكمية المتصلة ، وإلى ما يكون مختصا بالكمية المنفصلة . والمختص بالمتصلة إما شكل وحده أو غيره . وذلك الغير إما مركب مع الشكل كالحلقة ، أو غير مركب معه ، كالاستقامة . والذي يختص بالكميات المنفصلة ، هو كالزوجية والفردية . ومعنى الاستقامة في الخط كونه بحيث إذا فرض عليه نقط ، كانت في سمت واحد أي لا يكون بعضها أرفع ، وبعضها أخفض . وقد يعبر عن الخط المستقيم بأنه الذي تنطبق أجزاؤه بعضها على بعض ، على جميع الأوضاع ، بخلاف المنحني ، فإنه ربما انطبق قوسان إذا جعل مقعر إحداهما إلى محدب الأخرى . أما على غير هذا الوضع فلا ينطبق .
____________________
(1/279)
وقد يقال : هو أقصر خط يصل بين نقطتين ، أو هو الذي إذا أثبت نهايتاه ، وقبل لا يتغير وضعه ، أو أنه الذي يستر وسطه طرفيه ، واستواء السطح هو كون الخطوط المفروضة عليه في جميع الجهات مستقيمة ، واستدارة السطح المستوي ، هو أن يحيط به خط مستدير ، يفرض في داخله نقطة تتساوى جميع الخطوط المستقيمة الخارجة منها إليه . وكرية الجسم هو أن يحيط به سطح مستدير يتأتى أن يفرض في داخله نقطة ، تكون كل الخطوط المستقيمة الخارجة إليه منها متساوية . وتتصور الدائرة من توهمنا ثبات أحد طرفي الخط المستقيم ، مع إدارة الطرف الآخر ، إلى أن يعود إلى وضعه الأول . والنقطة الثانية هي مركز الدائرة . والخط المار بالمركز من المحيط إلى المحيط ، هو قطرها . والكرية تتصور من توهم ثبات قطر الدائرة ، مع إدارة نصفها ، إلى أن يعود إلى وضعه أولا . والخط الذي يمر بمركز الكرة من محيطها ( إلى محيطها ) يسمى قطر الكرة . وإذا توهمنا حركة الكرة مع ثبات قطر من أقطارها ، فذلك القطر محورها ، وطرفاه قطباها ، والدائرة التي بعدها من قطبي الكرة بعد واحد منطقة ( لوحة 282 ) الكرة . والمخروطية في الشكل نتصورها من كوننا نتوهم خطا قائما في السمك ، خارجا عن مركز الدائرة ، غير مائل إلى جانب من الجوانب ، مع أنا
____________________
(1/280)
نصل من محيط الدائرة خطين إلى طرفي الخط القائم ، حتى حدث مثلث ، وتوهمنا ثبات الخط القائم ، مع إدارة المثلث ( إلى أن يعود إلى وضعه الأول ) . واسطوانية الشكل نتصورها من توهم خطين قائمين في السمك ، خارجين : أحدهما من مركز الدائرة ، والآخر من محيطها ، مع كوننا نصل بين كل واحد من طرفيها بخط مستقيم ، حتى يحدث سطح ، ويتوهم ثبات الخط الخارج من المركز ، مع إدارة هذا السطح ، إلى أن يعود إلى وضعه الأول ، والشكل ليس نفس حد الجسم ، أو حدوده ، بل هو هيئة تلزم الجسم المحدود ، من حيث هو محدود ، وهو حاصل في جميع ذلك المحدود . وإن كان بشركة من الحد ، ومشروطا به ، وليست الدائرة في الخط ، ولا الكرة في السطح . وإن كانت الدائرة لا تتم إلا بانعطاف خط ، والكرة لا تتم إلا بتقبيب سطح ، ولو كانت الدائرة في مجرد الخط ، لكانت استدارة أو تقويسا . ولو كانت الكرة في السطح لكانت إما تقعيرا ، بحسب ما يلي جانب التجويف ، أو تقبيبا ، بحسب ما يلي الأمر الخارج . فالحق أن الكرة جسم لا سطح ، والدائرة سطح لا خط ، والزاوية هيئة تحصل للمقدار من حيث هو ذو حد أكثر من واحد ، ينتهي عند حد مشترك . والحلقة شكل من حيث أنه في جسم طبيعي ، أو صناعي ، مخصوصا ، بما يصح إبصاره في في حالة تحصل من اجتماع اللون والشكل ، وباعتبارها يوصف الشخص بالحسن والقبح . وما يتعلق من الكيفيات بالكم المنفصل ،
____________________
(1/281)
فموضعه على الأرثماطيقي ، وهو غير مناسب لغرض هذا الكتاب . وقد أهملت ذكر كثير مما يتعلق بالكم المتصل ، البعض منه لهذا السبب ، والبعض لوضوحه كالتربيع والتثليث وأشباههما . وما عرفته ههنا من الكميات فهو آت بالغرض ، والمقصود من ذكره بالذات ، إنما هو الكيفيات المتعلقة به ، لافتقار ما عرفتها به إليه . وأما الكيفيات الاستعدادية ، فمنها تهيؤ لقبول أثر ما بسهولة ، أو سرعة ، وهي طبيعي ، كالمراضية واللين ، وتسمى اللاقوة . ومنها تهيؤ للمقاومة وبطء الانفعال ، كالمصحاحية والصلابة ، وذلك هو الهيئة ، التي بها صار الجسم لا يقبل المرض ، ويتأتى عن الانغماز ، لا أنه لا يمرض ، ولا ينغمز ، ويسمى القوة ، ويشتمل أقسام هذين ، أعني القوة واللاقوة ، كونها استعدادات ، تتصور في النفس بالقياس ، إلى كمالات ، وهي إن كانت في أنفسها كمالات ، فليس المعتبر ههنا كماليتها ، بل كونها استعدادا لكمال غيرها ، ولا يراد بالكمال ههنا ما يكون فضيلة للشيء ، أو ملائما له ، بل معناه : كونه نهاية استعداد ما ، لا غير . ويدخل في هذا النوع من الكيفيات كثير من الكمالات المحسوسة وغير المحسوسة ، لا باعتبار كماليتها ، بل باعتبار اعدادها لكمال آخر . وقوة الانفعال قد يكون مقصور التهيؤ نحو شيء واحد ، كقوة الفلك على قبول الحركة ، دون السكون . وقد يكون التهيؤ نحو أشياء تزيد على واحد ، كقوة الحيوان على الحركة والسكون ، ولكن باعتبارين ، كما سبق . وقد يكون القابل قابلا للشيء ، دون حفظه ، كقوة قبول الماء للشكل ، وقد يكون قابلا وحافظا معا ، كقبول الحجر له ، والقوة الشديدة إذا اشتد تأثيرها . يشتد امتناعها عن التأثر . وكل متأثر يقصر من حيث تأثره عن قوة ما يؤثر فيه . والقوة قد تكون بحيث أي شخص اتفق مصادفتها له ، تبقى القوة بعده . وقد تكون
____________________
(1/282)
بحيث تستوي نسبتها إلى أي واحد كان من الأشخاص . أنها إذا صادفت واحدا من الجملة ، تخور ولا تبقى بعده . والقوة إذا أخذت متخصصة بشيء واحد ، لسبب يخصها به في الغرض أو في الأعيان . فإذا رفع ذلك الشخص بطلت القوة عليه ، لا أن القوة بطلت عن محلها ، بل عن كونها قوة على ذلك الشخص ، من حيث هو ذلك المعين ، وإن كانت باقية في نفسها .
____________________
(1/283)
الفصل الرابع في الكيفيات المحسوسة بالحواس الظاهرة المحسوس من الكيفيات بالحس الظاهر ، غني عن التعريف بالحد أو الرسم ، إذ لا أظهر من المحسوسات . لكن ربما احتيج إلى التنبيه على مفهوم اسم بعضها . وتنقسم على حسب انقسام الحواس ، التي يحس بها ، إلى خمسة أقسام : الأول - الملموسات ، وأذكر منها اثني عشر وهي : الحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، واللطافة والكثافة ، واللزوجة والهشاشة ، والجفاف والبلة ، والثقل والخفة . فالحرارة من شأنها تفريق المختلفات ، وجميع المتشاكلات ، لأنها تفيد الميل المصعد بواسطة التسخين فيما يتركب من أجسام مختلفة في اللطافة والكثافة ، فألطفه أقبل للخفة من الحرارة ، كالهواء الذي هو أسرع قبولا لذلك من الماء ، الذي هو أسرع قبولا له من الأرض . فإذا عملت الحرارة في المركب بادر الأقل لها ، إلى التصعيد قبل مبادرة الأبطأ ، والأبطأ دون المعاصي ( لوحة 283 ) ، فتفرق الأجسام المختلفة الطبائع التي حصل منها المركب ، ثم يحصل منها عند تفريق تلك الأجزاء ، اجتماع المتشاكلات ، بمتقضى طبائعها ، إذا لم تكن بسائط المركب شديدة الالتحام . أما إذا كان التحامها شديدا ، وكان اللطيف والكثيف قريبين من الاعتدال فقد يحث لقوة الحرارة حركة دورية ، كما في الذهب . فإن اللطيف إذا مال
____________________
(1/284)
صفحة فارغة
____________________
(1/285)
إلى التصعيد جذبه الكثيف إلى أسفل ، فاستدارت حركتها ، فإن كان مع شدة الالتحام اللطيف عاليا جدا ، صعد بالكلية ، واستصحب الكثيف ، وإلا أثرت النار في تسييله إن لم يغلب الكثيف جدا . وإن غلب جدا لم يقدر على تسييله ، هذا كله إذا لم تقترن بالمركب صورة ، تمنع من شيء من ذلك ، أو تقتضي خلافه . ودلت التجربة ، على أن من أسباب الحرارة الاستضاءة والحركة ، ومجاورة النار ، إذا كان القابل لشيء من ذلك قابلا للحرارة . أما إذا لم يكن قابلا لها ، فلا . والبرودة ليست عدم الحرارة ، لأنها محسوسة ، ولا شيء من العدم كذلك ، بل التقابل بينهما تقابل التضاد ، وتأثيرها على خلاف تأثير مقابلها . والرطوبة هي الكيفية التي يكون بها الجسم سهل التشكل بشكل الحاوي ، سهل الترك له . واليبوسة هي الكيفية التي بها يصير الجسم قابلا لذلك ( الشكل ) وتركه يعسر . واللطافة رقة القوام . والكثافة غلظة . واللزوجة هي سهول قبول الجسم للتشكل بأي شكل أريد مع عسر تفريقه . وإذا قصد تفريقه امتد متصلا . والهشاشة هي كونه بحيث يسهل تفريقه ، ويعسر تشكيله . والجفاف هو الاستحالة التي للجسم ، بسبب كونه لا تقتضي طبيعة نوعه الرطوبة ، ولا ملاصق لجسم رطب . والبلة هي الحالة التي للجسم بسبب أنه مع كونه غير مقتضي للرطوبة هو ملاصق لجسم رطب والثقل هو ما يتحرك به الجسم إلى جهة السفل ، وتوجبه البرودة . والخفة ما يتحرك به إلى جهة العلو ، وتوجبه الحرارة ، وكلاهما عرف بالتجربة . فإنا قد جربنا أن صعود الجسم ، يشتد باشتداد حرارته ،
____________________
(1/286)
ويضعف بضعفها ، وأن نزوله يشتد ويضعف بحسب حال برودته ، في الشدة والضعف . ولولا أن الحرارة تقتضي التصعيد ، والبرودة تقتضي خلافه ، لما كان الأمر كذلك . والقسم الثاني من الكيفيات المحسوسة هو المذوقات . والذي نعرفه من بسائطها تسعة هي : المرارة والحرافة والملوحة والعفوصة والحموضة والقبض ، والدسومة والحلاوة ، والنفاهة . وربما كان للشيء طعم في نفسه ، لكنه لشدة تكاثفه لا يتحلل منه شيء يخالط اللسان ، حتى يدركه ، ثم إذا احتيل في تلطيف أجزائه أحس منه بطعم ، كما في الحديد والنحاس . وقد يجتمع طعمان في جسم واحد ، كالمرارة والقبض في الحضض ، ويسمى بشاعة ، وكالملوحة والمرارة في السبخة ويسمى زعوقة . وربما اجتمع من الكيفية الطعمية والتأثير اللمسي أمر واحد لا يتميز في الحس ، كالطعم والتفريق مع الأسخان ، فإنه قد يحصل منها حرافة أولا مع الأسخان ، وقد يوجبان حموضة ، وكالطعم مع التكثيف اللذين ربما أوجبا عفوضة . وربما كان ذلك هو السبب ، لتكثير ما يحس به من الطعوم ، أو من جملة أسبابه . ولم أجد وجه حصر للطعوم في عدد ، لا في نفس الأمر ، ولا بحسب ما يمكن في حق اليسير الاحساس به . والقسم الثالث المشمومات ، وليس لها أسماء مخصوصة ، إلا من جهة الموافقة والمخالفة ، أن يقال لها رائحة طيبة أو منتنة . ويختلف ذلك باختلاف أحوال الذين يحسون بها ، فإن الموافق لشخص قد يكون مخالفا لآخر ، أو من جهة ما يقترن به بها ، كما يقال
____________________
(1/287)
رائحة حلوة أو حامضة ، ولا أعرف لها وجه حصر . والقسم الرابع المسموعات ، وهي الأصوات والحروف والسبب الذي نجده محدثا لهما هو تموج الجسم السيال الرطب ، كالماء والهواء . وليس المراد من التموج حركة انتقالية ، من ماء أو هواء واحد بعينه ، بل هو أمر يحدث بصرم بعد صرم ، وسكون بعد سكون . وسبب التموج امتساس عنيف ، هو القرع أو تفريق عنيف هو القلع . أما القرع فإنه يموج الماء والهواء ، إلى أن يتقلب من المسافة التي سلكها القارع ، إلى جنبيها بعنف شديد ، وكذا القلع . ويلزم منهما جميعا انقياد المتباعد منهما للتشكل والتموج الواقعين هناك . ويتوقف إحساسنا بالصوت ، فيما جربناه . وإن جاز ألا يكون شرط مطلقا على وصول الهواء الحامل له إلى الصماخ ، لأنه يميل من جانب إلى جانب ، عند هبوب الرياح . ومن أخذ أنبوبة طويلة ، ووضع أحد طرفيها على فمه ، وطرفها الآخر على صماخ إنسان ، وتكلم فيها بصوت عال ، سمعه ذلك الإنسان ، دون الحاضرين . وإذا رأينا إنسانا من البعد يضرب بالفأس على الخشبة ، رأينا الضربة قبل سماع الصوت . وليس الصوت نفس القرع أو القلع ، لأنهما في تقسيمهما مختلفان ، مع أنا نفهم الصوت ، دون الحاجة إلى تعقل قلع أو قرع ، أو أن لهما مدخلا فيه . ثم إنما يدركان بالبصر وغيره ، وهو لا ( لوحة 284 ) يدرك إلا بالسمع وأيضا فإنه يبقى بعد فواتهما . وليس عليك من هذه الفروق ، أنه غير الحركة والتموج . ولو كان الصوت أمرا لا يحصل إلا في الصماخ ، لما كنا إذا سمعناه عرفنا جهته ، وأنه من قريب أو بعيد ،
____________________
(1/288)
بمجرد السماع ، لا من أبصار التموج . أو الاستدلال بجهاريته وخفائيته ، على قربه وبعده ، فإذا هو حادث في جهته خارج الأذن . وأما الصدى فإنه يحصل من انعكاس الهواء المتموج ، من مصادم عال ، كجبل أو حائط ، محفوظا فيه مقطعات الحروف ، إن كانت فيه حاصلة . ولا يبعد أن يكون لكل صوت صدى عند كل مصادم ، ولكن في البيوت يجوز ألا يقع الشعور بالانعكاس ، لقرب المسافة فلا يحس بتفاوت زماني للصوت وعكسه ، ولهذا يكون صوت المغني في البيت أقوى مما في الصحراء . والموجب للصدى ، إن كان ذا ملامسة ، ثبت الصدى زمانا ، لتعاقب الانعكاس بتعاقب الاندفاع . والهواء إن كان يتشكل بمقاطع الحروف ، غائب عنا ، يوجب حفظ تلك التقطيعات . وكيف كان ، فإن الهواء لا يحفظ الشكل ، وهو سريع الالتئام والتشويش بأدنى سبب ، بل إن كان يتشكل بمقاطعها ، فإنما ذلك لسبب غائب عنا ، يوجب حفظ تلك التقطيعات . فإن لم يكن كذا ، لم يكن متشكلا بتلك المقاطع . ولا يكون تشكله بها شرطا في حدوث حرف أو صوت . ومن الجائز ألا يكون تموج السيال ولا توسطه ، شرطا في حصول الصوت والحرف ، على كل حال ، بل على وجه مخصوص ، كحال تعلق النفس بالبدن ، على الوجه الذي هي عليه الآن ، وإن جاز ألا يكون شرطا على وجه آخر ، أو وجوه أخرى . ويجوز أيضا أن تحصل بعض الأصوات بعلة ، وبعضها بعلة أخرى ، لما عرفت أن الواحد بالنوع ، جاز أن يكون له علل مختلفة .
____________________
(1/289)
والحرف هيئة عارضة للصوت ، يتميز بها عن صوت آخر مثله ، في الحدة والثقل تميزا في المسموع . والحرف إما مصوتة ، وهي التي لا يمكن الابتداء بها وأما صامتة وهي ما عداها ، وهي التي لا يمكن تحديده ، كالباء والتاء والطاء والدال . ونسبة عروضها للصوت ، نسبة عروض النقطة للخط ، إذ لا يتحقق إلا في أول زمان إرسال النفس ، أو آخر زمان حبسه . وحصر الحروف في عدد في نفس الأمر ، أو بحسب الوجدان ، مما لا أجد سبيلا إلى وجهه . والقسم الخامس المبصرات ، وهي الألوان والأضواء أما الألوان فيتعذر على حصرها في عدد ، والسواد والبياض منهما ، هما ضدان في غاية التباعد ، ولا يبعد أن يكون كل ما عداهما ، أو بعض ما عداهما ، من الألوان من تركيبهما على وجه مخصوصة . ولا شك أن السواد والبياض ، والحمرة ( والصفرة ) والخضر إذا سحقت جدا ، ثم خلطت ، فإنه يظهر منها بحسب اختلاف مقادير المختلطات ألوان مختلفة . فمن المحتمل أن يكون سائرها حاصلا على هذا الوجه ، أو يكون كل واحد منها أو بعضها ، ألوانا مفردة ، في الحقيقة لا عند الحس فقط . ومن الجائز أن تكون الألوان غير متناهية ، في نفس الأمر ، وإن لم يعتبر كون اختلافها بالشدة والضعف ، اختلافا نوعيا . أما إذا اعتبرناه كذلك ، فالأمر ظاهر ، لكن جاز مع ذلك ألا يحصل منها إلا المتناهي . ومن الألوان : ما هي مشرقة قريبة من طباع الضوء ، كالارجوانية . والفيروزجية ، والخضرة الناصعة ، والحمرة الصافية . ومنها ما هي مظلمة ، كالغبرة ، والكهنة ، والعوذية ، والسواد ، وأمثالها .
____________________
(1/290)
وانفعال البصر عن اللون إن لم يكن مانع ( إن ) ، أخذناه داخلا في مفهوم اللون ، مقوما له . ولا حصول لشيء من الألوان في الظلمة ، لأنا في الظلمة لا نراها ، وليس ذلك لأن الهواء المظلم عائق عن أبصارها ، إذ ليس فيه كيفية عائقة عن الابصار ، وإلا لما كان من قعد في غار مظلم ، وفي خارجه جسم مستنير ، يرى ذلك الجسم ، فهو إذن لعدم حصوله في الظلمة ، إن أخذ على ذلك التقدير . وأما إذا لم تأخذ ذلك الانفعال مقوما له ، وجزءا من مفهومه ، فلا يلزم من ذلك أكثر من أن الضوء شرط في صحة كونه قريبا ، لا في تحققه في نفسه ، بل ولا يلزم منه أيضا أن يكون الضوء شرطا على الاطلاق ، بل جاز أن يكون ( ذلك ) على مثل ما ذكرت ، في شرائط حدوث الصوت وعلل حصوله . وقد يتوهم في الألوان أنها جواهر ، وهو خطأ ، منشؤه تجويز مفارقتها عن محالها وقيامها بذاتها . وهي هي على الوجه الممتنع ، في انتقال الأعراض ، بسبب أن ذلك الانتقال ، لا يعلم امتناعه فيها بديهة . والذي يدل على عدم جوازه ، هو أن السواد مثلا ، إذا فارق المحل ، فلما يتأتى فيه أن يحس ، أو لا يتأتى فيه ذلك . فإن تأتى وفرض أنه أحس فاليه إشارة ، وهو مع مقدار . والمفهوم من المقدار غير المفهوم من السواد لتعقل المقدار دون السواد وإذا كان مع مقدار فهو في شيء متقدر وجسماني . وقد فرضت مجردة ، هذا خلف . وإن لم يتأت فيه أن يحس ، فليس في نفسه سوادا ، وهو محال . وأنت تعلم أن الشيء الأسود مثلا ، إذا ابيض وماهيته وشكله ووضعه وجميع أحواله بعد كما ( لوحة 285 ) كانت ، إلا السواد
____________________
(1/291)
فالسواد زائد ( لوحة 285 ) على الجميع ، وليس لا شيء محض ، فإن اللاشيء لا ينتقل عنه حاسة . وقد تتفق الأجسام في الأشكال ، وتختلف في الألوان . ولو كان اللون نفس الشكل لما كان كذا ، ولكان للهواء لون محسوس ، لكون له شكل . وبمثل هذا يظهر الفرق بين كثير من الأعراض . وأما الأضواء فحقيقتها الظهور للبصر ، ويقابله الخفاء المطلق ، وهو الظلمة . والضوء تختلف مراتبه بالشدة والضعف ، بحسب مراتب القرب والبعد من الطرفين . وقد يظن أن الأشعة أجسام شفافة ، منفصلة عن المضيء ، ومتصلة بالمستضيء ، وهو باطل ، وإلا لكان إذا سدت الكوة بغتة ، ما كان بقيت ولو توهم بقاء أجزاء صغار قد زال ضوؤها ، فبقيت مظلمة ، لوجب أن تكون جسميتها غير ضوئها . ولو كانت أجساما ، لما علقت الأجسام دونها ، ولاختلفت عند هبوب الرياح وركودها ، ولحرقت الأفلاك ، لنفوذها فيها ، ولتداخلت مع الهواء ، أو دافعته دفعا عظيما يظهر ، ولما تحركت بطبعها إلا إلى جهة واحدة ، ولتراكم أضواء سرج كبيرة ، حتى صارت ذا ثخن . والحدس يحكم بهذه وأمثالها ، على عدم كون الشعاع جسما ، وهو غير اللون أيضا ، لأن اللون إن أخذ عبارة عن نفس الظهور المبصر مطلقا ، بل بنور الشمس الظاهر المبصر ، وبالضوء إذا غلب على مثل الشبح ، فغاب لونه ، مع أن ظهوره متحقق بضوئه . وإن أخذ اللون على أن ظهور البصر ، على وجه مخصوص ، فإما أن تكون نسبة الظهور إلى السواد والبياض ، كنسبة اللونية إليهما في أن الظهور لا يزيد في الأعيان على نفس السواد ، كما لا تزيد اللونية عليه عينا . فالظهور محمول عقلي ، فظهور البياض في الخارج هو البياض ، فالأتم بياضا ينبغي أن يكون أتم ظهورا ، وكذا الأتم سوادا ، وليس كذا ، فانا
____________________
(1/292)
إذا وضعنا العاج في الشعاع ، والثلج في الظل ، ندرك بالمشاهدة أن بياض الثلج أشد من بياض العاج ، وأن العاج أضوأ وأنور حينئذ من الثلج ، فالأبيضية غير الأنورية ، واللون غير النور ، وكذا الأتم سوادا إذا وضعناه في الظل ، والأنقص في الشعاع ، كان الأشد سوادا ، أنقص نورية ، والأنقص نورا أشد سوادية . ولو نقلنا ما هو في الشعاع إلى الظل ، وما هو في الظل إلى الشعاع ، لصار الأتم أنور ، مع بقاء أشديته . فالظهور للبصر غير اللون ، وإن لم يتحقق اللون دونه . والضوء منه أول ، ومنه ثان ، فإن الضوء الحاصل من المضيء لذاته يسمى ضوءا أولا ، والحاصل منه في آخر يسمى ضوءا ثانيا . وإذا قيل أن الضوء نفذ في كذا ، وسرى في كذا ، وانتقل من كذا إلى كذا ، فذلك كله مجاز . وحقيقته حصول الضوء من المضيء إلى المستضيء دفعة ، من غير حركة ، لاستحالة استقلال العرض بالانتقال ، لما مر ، ولا انعدام من المضيء ، وهو هو ، بل على وجه أن حصوله في المضيء علة لحصوله فيما استضاء به ، والظلمة المقابلة للضوء ليست عبارة إلا عن عدم الضوء فحسب . فإن كل ما لم يكن له نور فهو مظلم ، سواء كان من شأنه أن يكون مستنيرا ، أو لم يكن ، فلا يحتاج ما انتفى عنه النور ، في كونه مظلما ، إلى شيء آخر . فالتقابل بين النور والظلمة على اصطلاح هذا الكتاب ، تقابل الايجاب والسلب . وفي أكثر الكتب غيره اصطلح على أن تقابلهما تقابل الملكة والعدم . بمعنى أن الظلمة عدم الضوء عما من شأنه أن يكون مضيئا . والضوء ، وإن كنا لا نشاهده عارضا ، إلا للسطح فنفس مفهومة لا يمنع من كونه سارياً في جميع الجسم باطنه وظاهره .
____________________
(1/293)
كمثل سريان اللون فيه ، بحيث يظهر به الباطن ، كما يظهر به الظاهر ، وإن منع من ذلك مانع ، فهو أمر من خارج المفهوم ، ولهذا لم يكن من قبيل ما يختص بالكميات ، وإن كان بحسب المشاهدة والوجدان ، مختصا بها . ولا اعتبار بذلك ، بل الاعتبار في كون الكيفية مختصة بالكمية ، بكونها لا تتصور إلا كذلك ، كما سبق . وإذا كان معنى كون الشيء مضيئا كونه ظاهرا للبصر ، فكلما يتصور كونه ظاهرا للبصر يتصور كونه مضيئا ، كان سطحا أو جسما ، ماديا ، أو غيرهما ( فالضوء والنور والشعاع بأي عبارة شئت هو ) كمال محسوس لكل ما يستضيء به .
____________________
(1/294)
الفصل الخامس في ما ليس من شأنه أن يحس بالحس الظاهر من أنواع الكيف كل ما كان من الكيفيات الغير المحسوسة ، غير راسخ ، يسمى حالا ، كغضب الحليم . وكل ما كان منها راسخا ، يسمى ملكة ، كصحة المصحاح . وإذا قيل : لكذا ملكة على فعل كذا ، أو خلق كذا ، فليس المراد بذلك أن يصدر عنه ذلك الفعل ، أو ذلك الخلق مثلا ، بل أن يكون بحيث يصدر عنه ذلك ، من غير روية ، مثل : ملكة الصناعة ، فإن الضارب بالطنبور لا يتروى في نقرة نقرة . وكذلك ملكة العلم ، بأن يحضر الانسان المعلومات ، بل أن يكون مقتدرا على احضار معلوماته ، من غير أن يتروى ولا شك أن جميع ذلك تهيئات في النفس ، أو العقل . وكذا حال الصحة ، فإن معناها أن يصدر عن الانسان الأفعال التي تصدر عن ( لوحة 286 ) البدن بالاعتدال ، بغير تعب . ولا محالة أن تهيئة في البدن ، قد يكون شيء واحد في أول حدوثه حالا ، ثم يصير بعد ذلك هو بعينه ملكة . وكل ما يجده الانسان من
____________________
(1/295)
نفسه من هذه الكيفيات ، فهو غني عن التعريف بالحد أو الرسم ، بل قد يشار إليه إشارة عقلية ، على وجه التعيين له . وكيفية نسبته إلى ما يتعلق به ، كالادراك الذي يحتاج إلى تعيين القدر المشترك منه بين الأجناس . والتخيل والتوهم والتعقل فإن كل هذه تشترك في كونها إدراكا . وتمتاز كل واحدة منها عن باقيها بمميز ، وكذا اللذة والألم بالنسبة إلى ما يصدقان عليه من الحالات الملذة والمؤلمة . فإن هذا وأمثاله مما نجده من أنفسنا ، لا نجده إلا مخلوطا بما يختص بكل منها . فإذا نقصنا تلك المخصصات يحصل لنا القدر المشترك . فأمثال هذه تعريفها إنما هو من هذا القبيل . وإذا عرفت هذا ، فاعلم أن الكيفيات التي ليس من شأنها أن تحس بالحواس الظاهرة كثيرة ، لا يمكن حصرها ، أو يتعذر . والذي هو ذا أذكره هو أهمها ، وأهم ذلك هو الادراك . والذي يعم سائر الادراكات منه ، وتشترك كلها فيه ، هو أن تكون حقيقة شيء ما حاضرة بنفسها ، أو بمثالها عند الشيء الذي يقال أنه مدرك ، يشاهدها ما به يدرك . سواء كان ما به الادراك هو ذاته ، أو آلته ، وسواء كان المثال منتزعا من أمر خارجي أو حاضر ابتداء ، وسواء كان منطبعا في ذات المدرك أو آلته ، أو كان حاضرا من غير انطباع أو ارتسام في شيء . ولولا أن تكون بعض الادراكات بالانطباع ، لما أمكننا أن نحكم على معدوم ما في الأعيان بأحكام وجودية ، مثل كثير من المفروضات الهندسية وغيرها ، مما لا يقع ، ممكنا كان أو ممتنعا .
____________________
(1/296)
فإن كل ما يحكم عليه بذلك فله وجود ما ، وإذ ليس في الأعيان فهو في النفس . ولولا أن بعضها ليس بالانطباع ، لكان علم الباري بذاته وبالأشياء كلها ، وعلمنا ( به ) وبذواتنا يكون بالانطباع أيضا ، وهذا مما سيحقق بطلانه في موضعه . والضابط في الادراك الذي يجب أن يكون بحصول صورة المدرك في المدرك ، هو أن يكون ادراكا ، غير دائم للذات المدركة ، ما دامت موجودة ، أن يكون المدرك مع ذلك غائبا عن المدرك ، غير حاضر عنده حضور المبصرات عند البصر ، وما جرى هذا المجرى . ودليل ذلك ، هو أنه إذا حصل فينا علم بشيء غائب عنا ، بعد أن لم يكن ذلك العلم حاصلا لنا ، فإن لم يحصل فينا شيئ ، ولم يزل عنا شيء ، فسيان حالنا قبل أن نعلم ومعه ، وليس كذا . ولا جائز أن يزول عنا شيء ، لوجهتين : أحدهما - أنا نعلم بالبديهية أن العلم المتجدد تحصيل لا إزالة . وثانيهما - أن الزائل أن كان صورة إدراكية فهي حادثة ، لا محالة ، ضرورة أن النفس قد كانت في مبدأ فطرتها خالية عن العلوم ، ثم حصلت لها ، ويعود الكلام في تلك الصورة الادراكية . ولا بد من الانتهاء إلى إدراك لا يكون عبارة عن زوال صورة إدراكية . وإن لم يكن الزائل صورة إدراكية ففي قوتنا لا محالة إدراك ما ، لا نهاية له ، من المدركات : كالأعداد والأشكال الهندسية . وأنه لا بد ، وأن يكون الزائل عند إدراك كل واحد منها غير الزائل ، عند إدراك الآخر ، لئلا يتساوى حالنا ، عند الادراك وقبله ، فيكون ادراكنا لأحدهما ، هو إدراكنا للآخر .
____________________
(1/297)
وإذا كان كذلك وجب أن يكون فينا أمور غير متناهية ، بحسب ما في قوتنا إدراكه من المدركات ، وتكون موجودة معا ، إذ لا حال من الأحوال إلا ويمكننا إدراك أي واحد كان مما في قوتنا إدراكه ، من التي لا نهاية لها ، ولو أن الأمر الذي بزواله منا يدرك ذلك المدرك حاصلا فينا ، في تلك الحالة ، لما أمكننا إدراكه ، لأن مجرد عدم حصوله فينا ، لو كان كافيا في الادراك لما كان إدراكنا لذلك المدرك متجددا في ذلك الحال ، بل كان يكون قبله أيضا ، فإذن لا يكفي في الادراك إلا زواله ، بعد حصوله ، فواجب إذن أن يكون حاصلا في كل وقت ، يكون في قوتنا إدراك ذلك المدرك ، ليحصل إدراكه بزواله . وكذلك جميع الأمور التي بزوالها يكون إدراكنا ، لما لنا إدراكه ، فلا بد من وجودها فينا ، بجملتها ، في كل وقت يمكننا أن ندرك أي مدرك كان لنا أن ندركه وتلك الأمور لا بد وأن تكون مترتبة فينا ، ترتب ما يدرك بزوالها من الأعداد ، وما شاكلها ، مما له ترتيب طبيعي في ذاته . وقد علمت أن وجود ما لا نهاية له دفعة واحدة ، وهو مترتب محال ، فبطل أن يكون الادراك المذكور ، بزوال شيء عنا ، فهو إذن بحصول شيء فينا ، وذلك الشيء إن لم يكن مطابقا للمدرك لم يكن كونه إدراكا له ، أولى من كونه إدراكا لغيره ، فلا بد من المطابقة ، بمعنى أن يحصل لكل مدرك أثر في النفس يناسبه ، بحيث لا يكون الأثر الذي هو إدراك هذا ، هو بعينه الأثر الذي هو إدراك ذاك ، وكذلك غيرهما مما من شأن النفس ( لوحة 287 ) إدراكه ، وذلك هو المراد بحصول الصورة في المدرك . وبهذا يتبين أن الادراك ليس هو مجرد إضافة بين المدرك والمدرك ، فإن الإضافة تستدعي وجود المضافين . فالمدرك إن كان معدوما ، فلا إضافة إليه ، وإن كان موجودا في نفسه ، أو في شيء غائب عنا ، وجب أن يكون ادراكنا له ، قيل ادراكنا له ، اللهم إلا أن لا يحدث في نفسه ، أو
____________________
(1/298)
في ذلك الشيء لغائب إلا حالة الادراك ، باستعداد يحصل من التفات المدرك إلى القوى والآلات . ولا شك أن ذلك يكون استحضارا له ، بعد أن كان معدوما ، فلا يكون الادراك إلا بحضور المدرك ، وذلك مما نتحققه من أنفسنا بالوجدان ، فلا سبيل إلى انكاره ، بل إن وقع نزاع ففي الانطباع ، لا في مجرد الحضور عند المدرك . وإن كان موجودا فينا ، فقد تحقق الانطباع ، فضلا عن مجرد الحضور فعلى كل التقادير ، ليس الادراك مجرد الاضافة المذكورة ، وإن كانت ضرورية فيه . ولو استدعى الادراك وجود المدرك في الخارج ، لما كان بعض الادراكات جهلا ، لأن الجهل هو كون الصورة الذهنية للحقيقة الخارجية غير مطابقة إياها . وحصول الشيء للشيء يقال على معان متعددة ، فإن حصول الجوهر للجوهر غير حصوله للعرض ، وغير حصور العرض للعرض وللجوهر ، وكذا حصول كل واحد من الصورة والمادة والجسم لآخر ، دخول المثال للممثول وكذلك حصول كل من الحاضر والمحضور عنده لصاحبه . والحصول الادراكي معلوم لنا بالوجدان ، ومتحقق كونه حصولا لنا ، وإن عجزنا عن التعبير عن خصوصيته ، بغير كونه إدراكا أو علما أو سعورا بالشيء ، أو احاطة بكنهه ، أو ما يجري ( مجرى ) هذه العبارات في كل لغة . ولو كان المراد به مطلق الحصول كيف كان لكان كل من حصل له شيء مدركا له ، حتى الجدار ، لكونه ، ولكان متى علمنا حصول شيء لشيء جزمنا بأنه مدرك له ، وليس كذا .
____________________
(1/299)
وما من شرط المدرك أن يكون مغايرا للمدرك ، وإلا ما كنا ندرك ذواتنا ، وذلك على خلاف الايجاد ، فإن موجد الشيء يجب أن يكون مغايرا لذلك الشيء . وستتحقق ان علمنا بذاتنا هو ذاتنا ، وكذلك علمنا بعلمنا بذاتنا ، وهلم جرا . وإن وقعت المغايرة بنوع من الاعتبار ، وهو كاف في حصول الشيء للشيء ، أو إضافته إليه ، وليس الحصول الادراكي هو لآلة المدرك فقط من دون المدرك نفسه ، بل ما يدرك بآلة ، فصورة المدرك حاصلة له لحصولها لآليته . وكون الصورة مدركة غير كون ما هي صورته مدركا بها . فقد يعرض لما يكون إدراكا أن يكون مدركا باختلاف اعتبار ، والعلم يجب بغيره عند تغير المعلوم ، لأنه مطابق له . وكل ما طابق شيئا على وجه ، لا يمكن أن يطابق ما يخالفه . وبهذا يعلم بأن الشيء سيوجد ، غير العلم بوجوده إذا وجد . ونزيده بأنه لو كان كذلك ، لكان من علم أنه إذا جاء الغد دخل زيد الدار ، علم لا محالة دخوله الدار عند مجيء الغد ، علم مجيء الغد ، أو لم يعلم . ولأن العلم بأن الشيء سيوجد ، لا يتوقف كونه كذلك على وجود الشيء ، ويتوقف كونه علما بوجوده على وجوده والحاصل قبل حصول الشرط غير الموقوف على حصوله . وإذا كان الادراك بغير استثبات سمي : شعورا ، فإذا حصل الوقوف على تمام المعنى قيل له : التصور . وإذا بقي بحيث لو أراد استرجاعه بعد ذهابه ، قيل له : الحفظ ، ولذلك الطلب التذكر ، ولذلك الوجدان
____________________
(1/300)
الذكر . وإذا أدرك المدرك شيئا ، وانحفظ أثره في نفسه ، ثم أدركه ثانيا ، وأدرك معه أنه هو الذي أدركه أولا ، قيل : إنه معرفة . وإذا تصور المعنى من لفظ المخاطب ، فهو الفقه والفهم والافهام والبيان هو إيصال المعنى باللفظ إلى فهم السامع . والصدق هو أن يكون حكمك بشيء على شيء اثباتا أو نفيا مطابقا ، لا في نفس الأمر . والتصديق هو الاعتراف بهذه المطابقة . والعلم هو اعتقاد أن الشيء كذا ، وأنه لا يمكن ألا يكون كذا ، إذا كان ذلك الاعتقاد بواسطة موجبة له ، وكان الشيء في نفسه كذلك . وقد يقال لتصور الماهية بالتحديد التام ، وقد يقال للادراك كيف كان . والعقل هو اعتقاد بأن الشيء كذا ، مع اعتقاد أنه لا يمكن ألا يكون كذا طبعا ، بلا واسطة ، كاعتقاد المباديء الأول للبراهين . وقد يقال لقصور الماهية بذاتها من غير تحديد ، كتصور المباديء الأول للحد . ويقال على معان أخر ، لا حاجة إلى ذكرها ههنا ، وسيرد ذكر بعضها . والذهن قوة للنفس معدة لاكتساب الآراء . والذكاء شدة القوة الذهنية . وقد مضى في المنطق شرح أمور يتعلق شرحها بهذا الموضع أيضا ، كالفكر والحدس والظن وغيرها ، فلا حاجة إلى تكريرها في هذا الموضع . وتنقسم الادراكات ، بحسب مراتبها ، في التجريد عن المادة ، إلى أربعة أقسام : إحساس وتخيل وتوهم وتعقل : فالاحساس : هو أخذ الصورة عن المادة ، ولكن مع اللواحق المادية ، ومع وقوع نسبة بينها وبين المادة ، إذا زالت تلك ( لوحة 288 ) النسبة بطل الأخذ ، كابصارك
____________________
(1/301)
زيدا ، فإن الحس لا يناله إلا مغمورا بغواش غريبة ، عن ماهيته ، لو تعينه ، لو توهم بدله بغيره ، لكان ذلك الانسان . ولا يناله إلا بعلاقة وضعية بين حسه ومادته ، وكذلك لو زال لم يدركه ، فهو مشروط بحضور المادة ، واكتناف الهيئات ، وكون المدرك جزئيا . وأما التخيل فهو تبرئة الصورة المنتزعة عن المادة تبرئة أشد ، فإن الخيال يأخذها عن المادة ، بحيث لا تحتاج إلى وجود المادة . بل إذا بطلت المادة ، أو غابت ، فإن الصورة تكون ثابتة فيه . ولكن غير مجردة عن اللواحق المادية ، ولهذا كانت الصورة في الخيال على حسب الصور المحسوسة ، من تقدير ما ، وتكييف ما ، ووضع ما ، ولا فرق بينهما إلا عدم الاحتياج إلى حضور المادة لا غير ، ( وهذا ) كتمثلك صورة زيد الذي كنت أبصرته مثلا ، إذا غاب عنك . وأما التوهم ، فهو نيل المعاني ، التي ليست هي في ذواتها بمادية ، وإن عرض لها أن تكون في مادة ، كالخير والشر ، والموافق والمخالف ، وما أشبه ذلك . ولو كانت هذه في ذواتها مادية لما عرضت إلا لجسم . والوهم وإن أدرك هذه ، إلا أنه لا يدركها ، إلا مخصوصة بالشيء الجزئي الموجود في المادة ، وبالقياس إليها ، وبمشاركة الخيال فيها ، وهو كادراك الشاة عداوة الذئب ، وصداقة الولد .
____________________
(1/302)
وأما التعقل ، فهو أخذ الصور مبرأة عن المادة ، وعن جميع علائقها تبرئة من كل وجه . فإن كان المدرك متجردا بذاته عن المادة ، أخذته . كما هو عليه في نفسه . وإن كان موجودا للمادة ، لكون وجوده ماديا ، أو لأنه عرض له ذلك ، انتزعته عن المادة وعن لواحقها ، نزعا بالكلية ، كافرازها للصورة الانسانية ، مثلا عن كل كم وكيف وأين ووضع مادي ، بحيث تصير صالحا لأن يقال على جميع ماله شيء من ذلك . وإذا تعقلنا صورة وأوجدناها في الخارج ، فهو التعقل الفعلي . وإذا أخذنا الصورة من الموجودات الخارجية ، فهو التعقل الانفعالي . والعلم منه تفصيلي ومنه إجمالي : أما التفصيلي : فهو أن يعلم ( أن ) الأشياء متمايزة في العقل مفصلة بعضها عن البعض . وأما الاجمالي : فهو كمن علم مسألة ، ثم غفل عنها ، ثم سئل عنها ، فإنه يحضر الجواب عنها في ذهنه . وليس ذلك بالقوة المحضة ، فإنه قد حصل عنده حالة بسيطة ، هي مبدأ تفاصيل تلك المعلومات . فلم تكن علما بالقوة من كل وجه ، بل هي بالفعل من وجه ، وبالقوة من آخر ، وكأنها قوة ، هي أقرب إلى الفعل من القوة ، التي لا تكون معها تلك الحالة . ومن ينكر حقيقة قول ما ، أو عقد ما ، فسبيل مفاتحته أن يقال له : هل تعلم أن إنكارك حق أو باطل ، أو أنت شاك في ذلك ؟ فإن حكم بأنه يعلم أن إنكاره حق ، فقد اعترف بحقية علم ما ، وكذا أن اعترف بأن إنكاره باطل . وإن قال : أنا شاك ، فيقال له : هل تعلم أنك شاك وتنكر وتفهم من الأقاويل شيئا معينا ، أو لا تعلم ذلك ؟
____________________
(1/303)
فإن وافق أنه يعلم ، فقد اعترف بعلم ما ، وإن لم يوافق على ذلك ، وادعى أنه لا يفهم أبدا شيئا ، ولا يعلم أنه يشك وينكر ، ولا أنه موجود أو معدوم ، سقط الاحتجاج معه ، وأيس من استرشاده ، ما دام على هذه العزيمة . فليس إلا أن يؤلم بدخول نار ، أو ضرب ، أو غير ذلك ، مما يؤلم ، فإن النار واللانار عنده واحد ، والألم واللا ألم واحد . ومثل هذا إن كان شاكا في نفس الأمر ، كما يزعم . فربما اهتدى بهذا القول ، أو هذا الفعل . وإن كان معاندا ، فربما الجأه الألم إلى الاعتراف بالحق ، ولعله لا يوجد ، من هو على هذا الرأي إلا أن ينتحله على طريق العناد . ووقوع الادراك على أصناف الادراكات إنما هو بالتشكيك ، فإنه قابل للشدة والضعف . ألا ترى أن الادراك بالبصر أقوى من الادراك بالخيال ، وإن كنا ندرك تفاصيل المدرك بالخيال ، كادراكنا لها بالبصر . فإن في المشاهدة مزيل انكشاف ، ليس في التخيل ، ولهذا ليس تخيل المعشوق كابصاره . وبعض التخيل أقوى من بعض ، وكذا التعقل تتفاوت درجاته في قوته وضعفه ، وهو أقوى من الادراك الحسي ، لأن الادراك العقلي خالص من الشوب إلى الكنه ، فإنه يدرك الحقائق المكتنفة بالعوارض كما هي ، واصلا إلى كنه المعقول . والحسي شوب كله ، لأنه لا يدرك إلا كيفيات تقوم بسطوح الأجسام التي تحضره فقط . والعقلي أيضا أكثر كمية منه ، فإن عدد تفاصيل العقلي لا تكاد تتناهى . فإن أجناس الموجودات وأنواعها وأصنافها وما يقع بينها من المناسبات لا سبيل إلى حصرها . والحسية محصورة في عدد قليل ، وذلك العدد
____________________
(1/304)
فإن تكثر فبالأشد والأضعف لا غير ، كالحلاوتين اللتين احداهما أشد من الأخرى . والعلم يستحيل على الانقسام بذاته أو بغيره ، لأنه متعلق بالبسائط لا محالة ، وهو ظاهر . ولأنه لو لم يتعلق ( لوحة 289 ) بالبسائط ، لتعلق بالمركبات ، وإلا فلا معلوم أصلا . والعلم بالمركبات متوقف على العلم بأجزائها البسيطة ، فيكون قد تعلق بالبسائط . وفرض أنه غير متعلق بها ، هذا خلف . وإذ قد ثبت أنه لا بد من تعلقه ببسيط ، فلو انقسم لكان جزؤه ، إما أن يتعلق بكل ما تعلق به كله أو بعضه ، أو لا شيء منه . فإن تعلق بكله كان جزء العلم هو العلم ، فيساوي الجزء الكلي من الوجه الذي به الكل كلا ، والجزء جزاء ، هذا خلف . وإن تعلق ببعضه ، كان المعلوم البسيط مركبا ، وهو خلف أيضا . وإن لم يتعلق بشيء منه ، فهو ظاهر الفساد ، إذ لا يتصور تعلق الكل بشيء ، مع خلو كل واحد من أجزائه عن التعلق به ، أو ببعضه وعند ذلك ، يقال إنه حيث لم يكن لشيء من الأجزاء تعلق ، فالمجموع لا تعلق له . فليس المجموع هو العلم ، فإن لم يحصل العلم عند اجتماع الآخر ، لم يكن هناك علم ، وهو خلاف المفروض . وإن حصل عند اجتماعها علم ، فإن انقسم ذلك العلم الحاصل ، عاد الكلام فيه ، ولزم التسلسل المحال ، وإن لم ينقسم حاصل المطلوب . على أنه معلوم بالبديهة ، أن الصورة المساوية للشيء الواحد ، من حيث أنه واحد ، يمتنع انقسامها ، وإدراك الجزئيات المتغيرة ، قد
____________________
(1/305)
يكون على وجه لا يتغير ، وقد يكون على وجه يتغير بتغيرها . ويتمثل لك كيفية ذلك بهذا المثال ، وهو أنك إذا كنت حافظا لقصيدة من الشعر ، وهي حاضرة في ذهنك دفعة ، كما هي مكتوبة ، بيتا بيتا ، وكلمة كلمة ، هذا إدراك لها ، بجميع تفاصيلها على وجه لا يتغير . وإذا قرأتها كلمة بعد كلمة ، وبيتا بعد بيت ، من غير أن تتمثل لك بتفاصيلها كلماتها وأبياتها دفعة واحدة ، فهو إدراك لتلك التفاصيل المدركة بعينها أولا ، ولكن على وجه متغير بتغير المدركات . ومتى استند الشخص إلى شيء مشار إليه ، كما تقول : زيد هو الذي في مدينة كذا ، أو كسوف الشمس يكون من الآن الذي نحن فيه إلى شهر لم يمكن حمله على كثيرين ، فلم يكن معقولا ، بل محسوسا ويكون العلم به متغيرا وجزئيا . ومتى لم يستند إلى مشار إليه بوجه من الوجوه ، بل علم بواسطة أسبابه ، كما إذا علمت مقدار ما بين كسوفين بالأسباب ، لم يتغير العلم به ، سواء كان موجودا ، أو معدوما ، وكان إدراكه تعقلا كليا ، وفي الادراك مباحث غير هذه ، سيأتي بعضها في أثناء مباحث أخرى مستقبلة . ومن هذه الكيفيات : اللذة والألم فاللذة إدراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك كمال وخير ، من حيث هو كذلك . والألم هو الادراك ، والنيل أيضا ، ولكن لوصول ما عند المدرك ، وشر من حيث هو كذا . والنيل هو الاصابة والوجدان لذات الشيء لا لصورة تساويه فقط فإن إدراك اللذيذ لا يكون لذة ، إلا إدرك وصوله إلى الملتذ ، وحصوله
____________________
(1/306)
مع اعتقاد كماليته وخيريته ، سواء كان في نفس الأمر كمالا له وخيرا أو لم يكن . والكمال هو ما من شأنه أن يكون للشيء ، والخير ما يكون مؤثرا عنده . وقد يكون الشيء كمالا وخيرا ، باعتبار وغيرهما باعتبار آخر ، وكذا الآفة والشر . والالتذاذ بالكمال والخير يختص بالجهة التي هو منها كمال وخير . وبهذا تعرف فوائد القيود المذكورة في تعريف الألم . وهذان التعريفان إنما هما ، لتميز القدر المشترك بين كل حالة من الحالات الملذة والمؤلمة . وحذف ما ينضم إليها من المخصصات لا لتعريف ماهيتهما ، فإنهما مما نجدهما عند الحالات المذكورة من أنفسنا ، فهما مستغنيان عن التعريف . وإذا كانت اللذة والألم تابعين للشعور ، فإذا فقد فقدا ، وإذا ضعف ضعفا . ومن الكيفيات المذكورة : الحياة والارادة والقدرة . فالحياة : هي كون الذات بحيث لا يمتنع عليها أن تعلم وتعقل . والارادة : هي كون الفاعل عالما بفعله ، إذا كان ذلك العلم سببا لصدوره عنه ، مع كونه غير مغلوب ولا مستكره . والقدرة : هي كون الحي ، بحيث يصح منه الفعل والترك ، بحسب للدواعي المختلفة . وهذه هي القوة الاختيارية . وإذا انجزمت الارادة واقترن بها ما ينبغي أن يقترن بها في تحصيل الفعل ، وانتفاء ما لا ينبغي ، وجب حصول الشيء عنها .
____________________
(1/307)
ومن حيث المجموع تكون قوة على شيء واحد ، ولا يتقدم على الفعل زمان ، كما علمت . وإذا لم تحصل هذه الأشياء داخلة في مفهومها ، فهي متقدمة بالزمان على الفعل . فإن الذي له فطرة سليمة ، لا ينكر أنه في حالة القيام قادر على القعود . وقد تكون القدرة هي العلم بعينه ، وذلك إذا كان العلم بالشيء كافيا في صدوره عن العالم ، كما نتصور وجها نميل إليه ، فيتبعه حركة بعض الأعضاء ، أو تتصور أمرا يتبعه بغير وجهك ، من غير استعمال آلة ، أو يثير منك شهوة وشوقا . والأخلاق من جملة هذه الكيفيات أيضا . والخلق ملكة يصدر بها عن النفس أفعال بسهولة من غير تقدم روية . وأصول الفضائل الخلقية ثلاثة : الشجاعة والعفة والحكمة . ومجموعها هو العدالة ( لوحة 290 ) ولكل واحد من الثلاثة طرفا : إفراط ، وتفريط ، هما رذيلتان . فالشجاعة محتوشة بالتهور والجبن ، والعفة بالفجور والجمود ، والحكمة بالجزيزة والغباوة . ويتفرع من هذه فروع كثيرة ، ولها أحكام ، وذلك كله مستوفي في كتب الأخلاق ، ولا يليق ههنا أكثر من هذا القدر منها . والصحة والمرض ، من قبيل ما ليس بمحسوس من الكيفيات . والصحة عبارة عن الكيفية ، التي بها يكون [ بدن الحي ، بحيث تصدر عنه الأفعال اللائقة به سليمة ، والمرض ما يقابلها . ومن هذا لقبيل أيضا : الفرح والغم والغضب والفزع والحزن والهم والخجل والحقد . وهي ظاهرة ، لكونها وحدانية . والسبب المعد للفرح هو أن يكون حامله الذي هو الروح الحيواني المتولد في القلب ، على أفضل أحواله في الكم والكيف .
____________________
(1/308)
أما في الكم فلأن زيادة الجوهر في المقدار توجب زيادة القوة ، لأنه إذا كان كثيرا ، بقي قسط واف في المبدأ ، وقسط واف للانبساط الذي يكون عند الفرح ، لأن القليل تبخل به الطبيعة ، وتمسكه عند المبدأ ، فلا ينبسط ، وأما في الكيف فأن يكون معتدلا في اللطافة والغلظ ، وشدة الصفاء . ومن هذا ظهر أن المعد للغم : أما قلة الروح ، كما في الناقهين والمنهوكين بالأمراض والمشايخ . وأما غلظة كما للسوداويين واما سببه الفاعلي فالأصل فيه تخيل الكمال ، والكمال راجع إلى العلم ، والقدرة ، ويندرج فيها الاحساس بالمحسوسات الملائمة ، والتمكن من تحصيل المراد ، والاستيلاء على الغير والخروج عن المؤلم وتذكر اللذات . ومن هذا يعلم السبب الفاعل للغم . ويتبع الفرح أمران : أحدهما بقوى الطبيعة ، ويتبعه اعتدال مزاج الروح وحفظه عن التحلل ، وكثرة تولد بدل المتحلل . وكذا يتبعه تخلخل الروح ، فتستعد للانبساط للطف قوايه . والثاني انجذاب الغذاء إليه ، بحركته بالانبساط إلى غير جهة الغذاء والغم يتبعه أضداد ذلك . والغضب تصحبه حركة الروح إلى خارج دفعة . والفرح تصحبه حركتها إلى داخل دفعة أيضا . والحزن يندفع مع الروح إلى داخل تدريجا . والهم يندفع معه إلى جهتين في وقت واحد : كونه يوجد معه غضب وحزن . والخجل ينقبض به الروح أولا إلى الباطن ، ثم يخطر ببال صاحبه ، أنه ليس فيما خجل منه كثير ضرر ، فينبسط ثانيا . وما ذكر من أحوال الروح المتعلقة بهذه الأمور ، فإنما عرف من طريق التجربة والحدس . والحقد يعتبر في تحققه ' غضب ثابت ' . والألم يتقرر صورة المؤذي في الخيال ، فلا تشتاق النفس للانتقام
____________________
(1/309)
وألا يكون الانتقام في غاية السهولة ، وإلا كان كالحاصل ، فلا يشتد الشوق إلى تحصيله ، ولذلك لا يبقى الحقد مع الضعفاء . وألا يكون في غاية الصعوبة ، وإلا كان كالمتعذر ، فلا يشتاق إليه ، ولذلك لا يبقى مع الملوك . ولأقتصر على هذا القدر من الكلام في هذه الكيفيات ههنا ، وربما أتاك منها فيما يستأنف ما لم أذكره في هذا الموضع .
____________________
(1/310)
الفصل السادس في الاضافة معرفة المضاف البسيط من حيث هو مضاف بسيط ، هي معرفة فطرية لا تحتاج إلا إلى تذكير وتنبيه . والفرق بينه وبين المركب : أن المركب فيه جزء من جنس آخر ، كالأب فإنه جوهر في نفسه ، لحقته الأبوة ، وكالكيف الموافق ، فإنه فرق بين أن يقال : كيف موافق لكيف ، وبين أن يقال موافقة الكيف . فإن الأول أشير فيه إلى الكيف المركب ، مع إضافة هي الموافقة . والثاني أشير فيه إلى إضافة ، هي الموافقة متخصصة بالكيفية ، وهي المشابهة الممتازة بذلك التخصيص عن المساواة ، التي هي موافقة في الكمية . ولا يصح أن يرفع عن الموافقة في الكيفية مثلا تخصصها بها ، بحيث تبقى ذات الموافقة ، ويقرن بها التخصيص بالكمية أو غيرها ، وهي هي بعينها . فليس للاضافة جعل ، ولتخصصها بما تخصصت به ، جعل آخر . فبالتخصص بالموضوع تمتاز كل إضافة عن إضافة أخرى ، وليس معنى هذا التخصص أن تؤخذ الإضافة المخصوصة عبارة عن المجموع من
____________________
(1/311)
المفروض ولاحقه ، بحيث يكون نفس المفروض هو المميز لها ، بل المميز لها هو تخصصها به . ومعنى هذا التخصص على التحقيق ، هو إضافته إليها ، فمميز الإضافة إضافة أخرى . ولو أنها من الاعتبارات الذهنية للزم من هذا محال كما سبق . والإضافة إلى متشخص ، لا تقتضي تشخص الإضافة ، كقولك : أين زيد ، إذ لا تمنع من الحمل على كثيرين ، لنفس المفهوم . ومن المتضايفين ما ينعكسان رأساً برأس ، كالأخوة ، فإن كل واحد منهما أخ للآخر ، وليست أخوة واحدة هي قائمة بها جميعها ، بل لكل واحد أخوة أخرى . وليست الأبوة والبنوة كذا ، فإن أحدهما أب للآخر ، والآخر ليس أبا له ، بل ابنا . والمضاف الحقيقي ، لا بد له من انعكاس الطرفين بالتكافؤ ، وكذا المركب ، إذا أخذ الطرفان على التعادل ، فإن الأب أب الابن ، فالابن ابن ( لوحة 291 ) الأب . وإذا قيل : السكان سكان السفينة ، والرأس رأس الحيوان ، لا يصح أن يقال : السفينة سفينة السكان ، والحيوان حيوان الرأس . وإنما يتحقق التعادل إذا قيل الرأس لذي الرأس ، والسكان لذي السكان . ومما يخل بتعادلهما أن يؤخذ أحدهما بالفعل ، والآخر بالقوة . فإن العلم علم بشيء ، والشيء الذي هو معلومه إذا كان خارجيا ، قد يوجد دون العلم ، ولكن لا من حيث هو معلوم . وقد تكون الاضافة بين أمرين ذهنيين ، فيأخذهما الذهن حاضرين ، فتتحصل الاضافة بينهما في الذهن ، وهو كالمتقدم والمتأخر .
____________________
(1/312)
ومتى كان أحدهما فقط حاضرا في الخارج ، فلا بد من حصول صورته في الذهن ، حتى يصح الحكم بينهما ، والاضافة المطلقة بازائها اضافة مطلقة ، كالأبوة والبنوة المطلقين . وإذا حصلت فموازيها محصل أيضا . وبالإضافة أمر زائد على مفهوم المضافين ، وإن كان أمرا اعتباريا فإن الأبوة مثلا ، لو كانت نفس الانسانية ، أو نفس الشخص الذي يقال له أب ، لكان ذلك الشخص ما صح وجوده أصلا ألا وهو أب ، ولما صار أبا بعد أن لم يكن . فالأبوة ليست ذاته ولا إنسانيته كيف ، والأبوة لا تعقل إلا مع بنوة ، والانسانية ، والشخص الانساني تعقل دون القياس إلى بنوة أو ابن . وقد تتحدد محاذاة جسم لجسم ، وكانا من قبل غير متحاذيين . وليس اللامحاذاة بينهما أمرا محصلا ، حتى تكون المحاذاة سلبها وعدمها . والاضافة قد تعرض للجوهر ، كالأب والابن ، وللكم كالطويل والقصير ، والقليل والكثير ، وللكيف كالأحر والأبرد ، ولاضافات أخرى ، كالأقرب والأبعد ، والأعلى والأسفل ، والأقدم والأحدث ، والأشد انحناء وانتصابا ، والأعرى والأكسى ، وللحركة كالأقطع والأحرم ، والأشد تسخينا وتبريدا . ومن أقسام التضايف : القتالي والتشافع والتماس والتداخل والاتصال والالتصاق ، وأمور أخرى بعضها قد سبق ، وبعضها سيأتي ، ولا حاجة إلى استقصاء جميعها . فالمتتاليان هما أمران ، ليس بين أولهما وثانيهما شيء من جنسهما ، سواء كانا متفقين في تمام النوع ، كبيت وبيت ، أو مختلفين كصف من حجر وشجر . وربما خصص التتالي بالجسمين اللذين هما بهذه الصفة . والمتشافعان هما اللذان لا ينقسمان
____________________
(1/313)
وليس أولهما وثانيهما شيء من نوعهما ، كنقطة ونقطة . والمتماسان هما اللذان تختلف ذاتاهما في الوضع ، ويتحد طرفاهما فيه . وإذا اتحد ذاتاهما في الوضع ، مع ذلك كانا متداخلين والمتصلان هما اللذان يتلازم طرفاهما كالخطين المحيطين بالزواية . وقد يطلق الاتصال على معان أخر ، لا حاجة إلى ذكرها ههنا . والملتصقان هما اللذان يماس أحدهما الآخر ، بحيث ينتقل بانتقاله . ومن الاضافة ما يسمى : بالاين والمتى والوضع والجدة . فالأين هو كون الشيء في المكان ، وليس هو ككون العرض في محله ، كما عرفت . والحقيقي منه هو كون الشيء في مكانه الخاص ، الذي يصح أن يكون معه فيه غيره . وغير الحقيقي منه هو كون الشيء في السوق . والعام منه كالكون في المكان مطلقا ، والخاص كالكون في الهواء ، والشخصي كالكون في هذا المكان المشار إليه ، وفيه تضاد : كفوق وأسفل ، وفيه ، أشد وأضعف ، كالأتم فوقية من غيره . والمتى : هو كون الشيء في الزمان . وحاله في أقسامه حال ما قبله . ويقال أن للأمور دفعة متى ، ولكن إنما تقال ، لوقوعها في أمر له تعلق ما بزمان ، وذلك بالاشتراك . والوضع : هو كون الشيء بحيث يكون لأجزائه بعضها إلى بعض نسبة في الجهات المختلفة ، كالقيام والقعود . وهذا فقد يكون بالقوة ، كما قد يتوهم قرب دائرة قطب الرحى من القطب ، ونسبتها إلى الطوق .
____________________
(1/314)
ولا دائرة بالفعل ، ولا وضع إلا بالتوهم ، وقد تكون بالفعل : أما بالطبع ، كوضع الأرض من الفلك ، أو ليس بالطبع ، كحال ساكن البيت من البيت . وفيه أيضا تضاد كانسان قائم ، ورجلاه إلى الأرض ، ورأسه إلى السماء ، أو رأسه إلى الأرض ، ورجلاه إلى السماء . وكالاستلقاء والانبطاح ، وفيه شدة وضعف ، كالأتم استقامة وانحناء . والجدة ، وقد يعبر عنها بالملك وله ، هي كون الجسم في محيط بكله أو ببعضه ، بحيث ينتقل المحيط بانتقال المحاط به . وهو إما طبيعي كحال الحيوان بالنسبة إلى أهابه ، أو غير طبيعي كالتسلح والتقمص والتختم ، وما هو مثل كون القوي للنفس ، والفرس لزيد . وإن أطلق عليه هذه الأسماء فهو باصطلاح غير هذا . وقد تعد هذه الأربع أعني : الأين والثلاثة بعده ، أقساما خارجة عن الاضافة ، بأن تجعل أمورا غير النسبة يلزمها النسبة ، وهو خلاف لفظي . وتلك الأمور لم أجد برهانا على ثبوتها ، ولو ثبتت لكانت هيئات من أقسام الكيف . وإن عرضت لها اضافة ، فجعلها داخلة تحت الاضافة أولى وأحق .
____________________
(1/315)
فارغة
____________________
(1/316)
الفصل السابع في الحركة أجود ما عرفت به ماهية الحركة ، أنها خروج الشيء من القوة إلى الفعل ، لا دفعة . وأيضا : أنها هيئة يمتنع ثباتها لذاتها . واللادفعة ليس بزمان ، حتى ( لا ) يكون ( لوحة 292 ) تعريفها بالزمان المعرف بها ، فيكون دورا ، بل هو أمر يلزمه الزمان . وتصور الدفعة واللادفعة بديهي . ويلزم من أن لا خروج إلى الفعل دفعة ، ومن امتناع ثباتها أنها أبدا تكون كونا للمتحرك بين المبدأ الذي منه الحركة ، والمنتهي الذي إليه الحركة ، بحيث أي حد يفرض في ذلك الوسط ، لا يكون المتحرك قبله ولا بعده فيه . والتوسط بهذه القيود المذكورة هو صورة الحركة ، وليس كون المتحرك متوسطا ، لأنه في حد دون حد ، بل لأنه على الصفة المذكورة . ولا يجوز أن يورد هذا القول تعريفا للحركة ، لأنه قد أخذ فيه القبل والبعد المعرفين بالزمان ، وأخذ فيه الحركة والمتحرك ، واستعمل فيه اللفظ المشترك وهو المبتدأ والمنتهي . فإنه قد يكون بالقوة ، كما في الحركة المستديرة ، وبالفعل كما في المستقيمة ، ففيه وجوه من الخطأ الواقع في التعريفات . والحركة
____________________
(1/317)
أمر ممكن الحصول للجسم ، فهي كمال له ، لكنها تفارق غيرها من الكمالات ، بأنه لا حقيقة لها إلا التأدي إلى الغير ، ولو كانت مطلوبة ، لأنها حركة فقط ، لما اختلفت حركات الأجسام في الجهات وغيرها ، لأنه ترجيح من غير مرجح ، فهناك مطلوب ممكن الحصول ليتأدى إليه . وما دام ذلك التوجه فقد بقي شيء بالقوة ، فإن المتحرك إنما يكون متحركا إذا لم يصل إلى مقصوده . فالمتحرك إذا كان على حاله وتمكن له حالة أخرى ، ففيه امكانان : إمكان الحصول على تلك الحالة ، وإمكان التوجه إليها ، وهما كمالان . والتوجه منها مقدم على الوصول ، وإلا لكان الوصول دفعة لا تدريجا . فالحركة كمال أول لما بالقوة ، لا من كل وجه ، بل من الجهة التي هو باعتبارها بالقوة . ولا يراد بالكمال ههنا ما يلائم الشيء ، فإن الحركة قد تكون إلى غير ملائم ، بل ما يمكن للشيء كيف كان . والمراد بالكمال الثاني هو نفس التوجه ، ولو جعل هذا أيضا تعريفا لها ، للزم أن يكون تعريف الشيء بنفسه ، أو بما لا يعرف إلا به ، أو بما هو أخفى منه . وهو أيضا من قبيل إيضاح الواضحات ، إن كان التعريف تعريفا يراد به تمييزها عما سواها لا تصور ماهيتها . فإن كل عاقل يفرق بين كون الجسم ساكنا وبين كونه متحركا ، ولو لم يكن تمييز الحركة عما عداها معلوما له بالضرورة لما كان كذلك . والتنبيه على تصور ماهيتها بأحد الوجهين المذكورين أولا ، كاف . وتتعلق الحركة بستة أشياء : ما منه وهو مبدوءها ، وما إليه وهو منتهاها وما هي فيه ، والمحرك والمتحرك والزمان . وليس تعلق الحركة التي منها الزمان ، وهي التي هو تابع لها ،
____________________
(1/318)
ومعلولها ، كتعلق سائر الحركات به ، فإنها واقعة فيه ومقدرة به . وربما كانت من بعض الوجوه تابعة له ، لا متبوعة . وانقسام هذا الكون في الوسط إلى أكوان إنما هو انقسام بحسب فرض وتوهم ، وهو في نفسه شيء واحد متصل ، على قياس المسافة والزمان ، فيما يفرض فيهما من الحدود ، لئلا يلزم تركب الحركة من أجزاء لا تتجزأ ، وهو محال . ومما يدل على بطلانه أنه لو كان للحركة جزء لا يتجزأ لكانت السرعة والبطء ، إنما هي بتخلل السكنات ، والتالي باطل ، فالمقدم مثله . ووجه اللزوم أنه لو تحرك سريع وبطيء ، وقطع السريع جزءا ، فالبطيء ان قطع مثله هكذا دائما تساويا أو أكثر منه انقلب الابطاء أسرع ، أو أقل انقسم ( ما لا ينقسم ) ، فلم يبق إلا أن البطيء يسكن وهذا يوجب أن نسبة السكون إلى الحركة كنسبة البطء إلى السرعة . وأما بيان بطلان التالي ، فلأنه لو كان كذا ، لكان السكون في بعض المتحركات أضعاف الحركة فيها ، فيكون سكونها محسوسا ، مع أنا لا ندركه حسا ، هذا خلف . ثم السهم ، إذا لم يكن له مانع في أجزاء الهواء وميله متشابه ، فلم ينهب زمانا ، ويقف زمانا . ولو وقف في الهواء لما نزل بنفسه ، إذ وقوفه يكون لبطلان القاسر ، الموجب لحركته ، فيكون سكونه طبيعيا ، حيث هو ، فلا يفارقه إلا لقاسر . والجسم الثقيل إذا تحرك ، وفرض فيه تخلل سكنات ، فكلما كان أثقل ، كان تخللها أقل . ويزيد الثقل حتى يزول السكون ، فإذا أضيف ما زال سكونه إلى ما هو أثقل منه ، حصلت سرعة وبطء ، لا يتخلل سكنات ويتبع هذا التوسط حركة ، بمعنى القطع لجزء منه ، وهي الحركة المتصلة المعقولة ، من المبتدأ إلى المنتهي ، ولا حصول لها في
____________________
(1/319)
الأعيان ، لأن المتحرك ما دام ( لم ) يصل إلى المنتهي ، فالحركة لا توجد بتمامها ، وإذا وصل إليه فقد انقطعت . وأما هذا التوسط المستمر الذي لا يجتمع متقدمه مع متأخره ، له وقوع في نفس الأمر وإن كانت كليته المتصلة لا حصول لها إلا في العقل ، وبهذا هي مطابقة للزمان . وأما من حيث أنها بين القوة والفعل ، فليست مأخوذة مع مقدار واتصال ، ليطابقه الزمان ، بل إنما يطابقه من حيث أنه يلزمه اتصال أو قطع . وبوقوع هذا التوسط بالفعل ، لم يلزم من كون المقتضي واللاحق غير حاصلين ، كون الحركة غير حاصلة مطلقا ، ثم من نفس التقضي واللحوق يلزم حصول ما ، فإن المنقضي ما كان وفات ، واللاحق ما هو بصدد الكون . ومن ادعى أن الجسم الساكن في حيز مثلا ، يحصل في آخر ( لوحة 293 ) من غير حركة ، فقد أنكر النظريات . والحركة تنقسم إلى : ما تقتضيها قوة الجسم ، أو أمر خارج عن الجسم ، وقواه . والأولى : إما أن يشترط فيها كونها بالادراك والارادة ، وهي الارادية ، كحركة الحيوان . أو لا يشترط فيها ذلك ، وهي الطبيعة ، سواء اقتضتها القوة على وتيرة واحدة أبدا ، كحركة الحجر إلى أسفل ، أو اقتضتها على وتائر مختلفة ، كنمو النبات . والثانية هي القسرية ، إن لم يكن المتحرك كحيز من المحرك ، أو كان المحرك مكانا له ، كحركة المدرة إلى فوق ، وإلا فهي العرضية ، كحركة الجالس في السفينة بحركتها . والحركة قد تتصور في الاين ، كالانتقال من مكان إلى آخر ، وفي
____________________
(1/320)
الوضع كحركة جرم دائر على مركز نفسه ، لا على ما يخرج منه . فإن لكله حركة ، ولم يخرج الكل عن مكانه . ويجمع الأينية والوضعية ، أنهما بالنسبة إلى أمر خارج عن الجسم وهيئاته ، وفي الكم أما من مقدار إلى ما هو أكثر منه ، وهو النمو ، إن كان يورود مادة ( و ) التخلخل ، إن كان بدون ذلك ، وأما إلى ما هو أصغر منه ، وهو الذبول ، إن كان بانفصال مادة ، والتكاثف إن لم تكن . وفي الكيف كتحرك الجسم من السواد إلى البياض ، أو من الحموضة إلى الحلاوة ، شيئا فشيئا ، على وجه التدريج . والتغير في هذه قد يتصور من غير حركة ، كعلم أو ارادة ، تبدلا بغيرهما ، دفعة . والعقل وإن كان يتصور في الكم والكيف حركة ، ففي نفس الأمر لا حركة فيهما ، لأن المراتب فيها من ما منه وما إليه يمتاز كل واحد منها عن الآخر بالفعل ، بخلاف الأيون التي لا قسمة فيها ، ولا امتياز إلا بالقوة . والنسب إليها اعتبارية ، فلو كان فيهما الحركة ، لكان الوسط بين ما عنه الحركة فيهما ، وما إليه الحركة إما أن يكون واحدا أو كثيرا فإن كان واحدا فلا حركة ، وإن كان كثيرا فتلك الكثرة سواء كان اختلافها بالنوع أو بالعدد إما متناهية أو غير متناهية . فإن كانت متناهية لزم تركب الحركة من أمور لا تقبل القسمة إذ لو قبلت الانقسام ، لانقسمت إلى أمور متغايرة ، ويعود الكلام إلى كل واحد منها ، وهلم جرا . فيكون ما فرض متناهيا غير متناه ، هذا خلف . وتركها مما لا يقبل الانقسام باطل ، لما علمت . وإن لم تكن متناهية ، مع أنها محصورة بين حاصرين ، وممتازة بالفعل ، فهو باطل أيضا .
____________________
(1/321)
وكذا الكلام في الحركة في الجوهر ، وإن كانت الحركة فيه لا تكاد تتصور ، فاذن الجسم عندما تتبدل عليه الكميات . وعند استحالته من كيفية إلى أخرى ، فكل واحد من المراتب التي فيما بينهما ، توجد في زمان ، وإلا لزم تتالي الآنات ، فلزم في الجسم الأجزاء التي لا تتجزأ ، وستعلم بطلانه . وتنقسم الحركة أيضا إلى : مستديرة ، ومستقيمة ومركبة منها ، كحركة العجلة . وكل منهما إلى سريعة وبطيئة . وأيضا فمنها واحدة بالشخص . ويجب أن يكون موضوعها وزمانها ، وما هي فيه واحدا . أما وحدة الموضوع ، فلأنه لو تعدد لكانت الحركة التي لهذا مغايرة بالشخص التي لهذا . وأما وحدة الزمان فلاستحالة إعادة المعدوم بعينه . وأما وحدة ما هي فيه ، فلأنه يمكن أن يكون جسم ، ينتقل من مكان إلى مكان ، وهو مع ذلك يتحرك على مركز نفسه حركة وضعية ، بحيث يكون ابتداؤها بن الحركتين وانتهاؤها واحدا ، فيتحد الموضوع والزمان ، من غير اتحاد الحركة . ولا تعتبر وحدة المحرك ، لأنا لو قدرنا محركا حرك جسما ، وقبل انقضاء تحريكه أو معه ، يوجد محرك آخر ، كانت الحركة واحدة بالاتصال . وإن كانت كثيرة باعتبار تكثر النسب إلى المحركات ومن غير هذا الوجه ، ووحدة المبتدأ والمنتهي غير كافية ، لأن السلوك من أحدهما إلى الآخر قد يكون بطرق كثيرة ، بل وحدتهما لازمة لوحدة الأمور الثلاثة المذكورة . ومنها واحدة بالنوع ، ولا تتحقق إلا عند اتحاد ما منه وما ليه وما فيه .
____________________
(1/322)
أما اتحاد ما منه وما إليه ، فلأن الحركة من الأرض إلى السماء تخالف الحركة من السماء إلى الأرض بالنوع ، مع اتحاد ما فيه الحركة ، وأما اتحاد ما فيه ، فلأن الحركة من نقطة إلى أخرى بالاستقامة ، تخالف الحركة منها إليها بالاستدارة . مع اتحادهما فيما منه وما إليه . ولا شيء من الحركات تقتضيها مجرد الجسمية ، وإلا لدامت بدوامها . وما صح وجود جسم ساكن ، لأن ما بالذات يستحيل زواله بعارض . ولما كانت الحركات مختلفة بالسرعة والبطء . والاستقامة والاستدارة وتكونها من المركز وإليه وعليه ، لتساوي الأجسام في طبيعة الجسمية . وما كان مقتضاه غير مختلف فهو لا يختلف . وأيضا فالجسم من حيث هو جسم ، هو ثابت ولا شيء من مقتضى الحركة الغير الثابتة بثابت ، فلا شيء من الجسم من حيث هو جسم بمقتضى الحركة . ولأن الجسم من حيث جسميته متشابه الأحوال ، والذي هو مقتض للحركة فإنه يعطيها ويقتضيها شيئا فشيئا . ولو اقتضى الجسم الجزء الأول من الحركة ، لدام بدوام علته ، فما وجد الجزء الذي بعده . فكانت الحركة غير حركة . هذا خلف . وإذا كان مع الجسم جميع ما يلائمه ، فلا يتحرك ( لوحة 294 ) فإن الحركة لطلب الملائم ، وما لا يلائم فلا يترجح وجوده بالنسبة إلى اقتضاء الماهية الجسمية على عدمه ، فلا يتحرك طبعا إليه . فالحركة لا تقتضيها طبيعة الجسم من حيث هي تلك الطبيعة فكيف . والطبيعة ثابتة ، والحركة ليست بثابتة . وما سميت طبيعة ابتناؤها على مفارقة غير طبيعية . فالطبيعة توجب الحركة بشرط
____________________
(1/323)
زائد ، وذلك الشرط هو حالة غير طبيعية ، فلعلة الحركة التي تسمى طبيعية جزء ثابت هو الطبيعة ، وآخر غير ثابت هو الوصول إلى حيثيات وأينيات غير ملائمة ، على سبيل التبدل والتجدد . وإن كانت المسافة في نفسها موصولة فالحركة الطبيعية مبنية على القسرية ، ولا تصدر الحركة عن مجرد القوة الشعورية ، وإلا ما تخلفت عنها ، بل لا بد من مرجح جانب الحركة ، على جانب السكون ، ليصدر عنها التحريك ، وذلك هو الارادات والدواعي المختلفة . وما يحرك الجسم بحركة متوسطة يسمى ميلا . ووجه الافتقار إليه فيما يوجد فيه ، أن الحركة لا تخلو عن حد ما ، من السرعة والبطء ، وهما قابلان للشدة والضعف . والمحرك الواحد للجسم من حيث هو واحد ، كالطبيعة الواحدة ، لا يقبلهما ، فلا يكون صدور حركة منه معنية أولى من غيرها إلا بأمر آخر ، قابل للشدة والضعف قبول الحركة لهما في سرعتها وبطئها وذلك هو الميل . واشتداده وضعفه ، إنما هو بحسب اختلاف الجسم في كميته ، واندماج أجزائه ، وانقسامها ، ورقة قوام ما فيه الحركة وغلظه ، وغير ذلك . وهو محسوس في مثل الزق المنفوخ المسكن تحت الماء قسرا ، فإن فيه مدافعة صاعدة ، مع عدم الحركة . وهو قد يكون طبيعيا ، كالميل الذي للحجر المسكن قسرا في الجو ، وقد يكون نفسانيا ، كما يعتمد الحيوان على غيره ، وقد يكون قسريا ، كالسهم المرمي إلى فوق قسرا ، ولا ميل في الجسم حال كونه في الحيز الطبيعي ، لأنه إن مال إليه فهو طلب الحاصل ، وإن مال عنه كان المطلوب بالطبع متروكا بالطبع . ولا يجتمع الميل الطبيعي مع القسري إلى جهتين مختلفتين بالذات ، لأن أحدهما مدافعة إلى الحيز الطبيعي ، والآخر مدافعة عنه .
____________________
(1/324)
والمدافعة إلى الشيء مع المدافعة عنه ، لا تجتمعان . لكن جاز اجتماع مبدأيهما ، لأن الحجرين المرميين إلى فوق من يد واحدة بقوة واحدة ، قد يختلفان في السرعة والبطء ، عند اختلافهما في الحجم . ولو لم يكن مبدأ الميل الطبيعي المعاوق في الأعظم موجودا ، أو أقوى ، لما ثبت الاختلاف المذكور ، لكونه ترجيحا بلا مرجح . وقد يجتمع الميل الطبيعي ، مع الميل القسري ، إلى جهة واحدة . كما إذا دفعنا الحجر إلى أسفل بقوة شديدة ، فإن الحركة حينئذ تكون أسرع مما كان متحركا بطبعه فقط . وكما يجوز اجتماع حركتين إلى جهتين : احداهما بالذات ، والأخرى بالعرض ، فكذلك يجوز في المثلين ، كحجر يحمله إنسان يمشي ، وكما لا يجتمع في الماء حرارة وبرودة ، بل تكون فيه كيفية متوسطة بينهما : أما مع الميل إلى أحديهما ، أو مع التعادل بينهما ، كذلك الميل الطبيعي والقسري إلى جهتين . وكلما كان الميل الطبيعي أقوى ، كان أمنع لجسمه عن قبول الميل القسري . وكانت الحركة بالميل القسري أفتر وأبطأ ، وليس كلما كان أبعد عن قبول الميل القسري ، كان ميله الطبيعي أقوى ، فإن ذلك قد يكون ، لا للميل الطبيعي ، كالنبتة الصغيرة ، وما يجري مجراها ، فإنه ليس لها بنية مستعدة لقبول ذلك . وما لا مبدأ ميل طبيعي فيه ، فإنه لا يتحرك : لا طبعا ولا قسرا . أما إذا فرض تحركه طبعا ، فقد انفرض معه ميل طبيعي .
____________________
(1/325)
وإن فرض حركته عن قسر ، فالقاسر بارادة ، أو بغير ارادة : أما أن يطاوعه الجسم على التحريك المستقيم ، أو المستدير ، أو لا يطاوعه : فإن طاوع فلا شك أنه يختلف عليه تأثير الأقوى والأضعف ، مع المساوى في الأمور الخارجية ، ولولا أنه يعاوق الضعيف معاوقة ما ، وإلا لكان تأثير القوي فيه ، كتأثير ما هو أضعف ( منه ) من غير تفاوت . وليست المعاوقة للجسم بما هو جسم ، بل هي لأمر به ، يطلب البقاء على حاله ، من المكان الطبيعي والوضع . وهذا هو المبدأ الذي نحن في بيانه . وأن يطاوع القاسر ، ففيه مقاومة ما ، ففيه مبدأ ميل ، والحركة النفسانية ، فالنفس هي التي تحدد حالها من السرعة والبطء المتخيلين لها ، بحسب الملائمة ، واختلاف الدواعي . والحركة الطبيعية معاوقها المتفاوت أمر من خارج الجسم ، كرقة قوام ما تتحرك فيه وغلظه . ولا يمكن أن تكون من داخل ، لأنها لا تقتضي الشيء ، وتقتضي ما تعاوق عنه . ( وكلما اتفقت الخارجات تعينت المعاوقة الداخلية بالميل ) . وكلما اتفقت الأمور الداخلة ، تعينت المعاوقة من خارج ، ولا تستحق الحركة ، من حيث هي حركة زمانا معينا لذاتها ، فإنها لا توجد إلا على حد ما من السرعة والبطء ، فهي مفردة عنهما ، غير موجودة ، وما ليس بموجود لا يقتضي ما هو معين ، فليس التعين ، إلا بأمر غيرها ، هو الميل ( لوحة 295 ) إن كان داخليا ، أو غيره إن كان خارجيا . وإذا بطل الميل القسري فليس مبطله ذاته ، وإلا لما وجد ، ولا يبطله المقسور ، ولا كل هيئة قارة فيه ، وإلا لما استمر معها . ولا الحركة القسرية التي هي معلولة للقاسر ، فإنها معلولة الميل
____________________
(1/326)
والمعلول لا تبطل علته ، فالمبطل أمر من خارج . أما يبطله دفعة . كمصادم يلتقيه ، أو تدريجا كمعاوقات ما يتحرك منه . وتختلف المعاوقة برقة ذلك وغلظه ، وبحسب ذلك يقل زمان ثبات الميل ويكثر فلا يزال يعاوقه شيئا فشيئا وينقصه ، حتى تنتعش الطبيعة ، وتتمكن من مقتضاها . وإذا كان الميل يحس باقيا عند التسكين ، فليس نفس الحركة . وإذا لم يبق عند وصول الجسم إلى حيزه الطبيعي ، مع أن طبيعة الجسم حينئذ باقية ، فهو غير الطبيعي . ولا يتصور وقوع الحركة في الآن . وإذا أخذ السكون عبارة عن عدم الحركة ، عما من شأنه أن يكون متحركا ، فالجسم في الآن الواحد ، لا يكون متحركا ولا ساكنا ، ولا يلزم من ذلك الا يكون متحركا ، ولا ساكنا في نفسه ، كما أنه لا يلزم من كون زيد غير متحرك في السماء ، ولا ساكن فيها ، أن يخلو عن الحركة والسكون مطلقا . والاين المتحرك في جميع حركته أين واحد في الخارج ، ينقسم إلى أيون في الوهم متعددة ، وأول القسمة فيه لا ينتهي ، كما سيتحقق ذلك في الجسم ، ومقابل الحركة المطلقة سكون مطلق ، ومقابل الحركة الخاصة سكون خاص . وليس السكون هو لا وجود أي حركة كانت ، فما من متحرك إلا ويسلب عنه في حال حركته حركات أخرى كثيرة ، ولا يتصور وجود حركة لا يتأتى أن يتصور أسرع منها ، فإنها حينئذ تقع في زمان لا يتجزأ ، وإلا لكانت الواقعة في أقل من ذلك الزمان ، هي أسرع من التي فرض أنه النهاية في السرعة ، هذا خلف ، هذا بحسب التصور العقلي .
____________________
(1/327)
وأما في الأعيان فللسرعة والبطء حدان لا يمكن الزيادة عليهما في نفس الأمر ، وكل حركة طبيعية ، فهي هرب بالطبع هن الحال ، ولا شك أنها حال غير ملائمة . ولا بد وأن يكون ذلك على أقرب الطرق ، فيكون على خط مستقيم ، لأنه إن لم يكن كذلك ، كان الجسم في قصده إلى مكانه الطبيعي عادلا عنه ، من حيث هو طالب له ، فلا يكون القصد إليه ، إذن فكل حركة ليست مستقيمة ، فليست بطبيعية . والحركة المستديرة التي لا تكون عن قسر ، فليست عن الطبيعة . ويدل على ذلك أيضا ، أنه قد ثبت أن كل حركة بالطبيعة فإنها لهرب الطبيعة عن حالة غير طبيعية . والطبيعة قد بين أنه إنما نعني بها ما لا تفعل بالاختيار ، بل إنما تفعل بالتسخير ، فلا تتقنن حركاتها وأفاعيلها ، فلا تقتضي الكون في وضع والهرب عنه معا ، فلو فرضنا الحركة الوضعية بالطبيعة ، لكان سببها الهرب عن الوضع غير الطبيعي والمهروب عنه غير مطلوب . فإنه لو كان مطلوبا ، لما كان مهروبا عنه . لكن الحركة المستديرة متوجهة إلى حيث كان منه الهرب ، فهي إذن عن اختيار وارادة . وإن كانت غير مختلفة ، فإذا ذلك لعدم اختلاف الدواعي والارادات . ولو كان المقصود بالحركة المستديرة حصول وضع متعين فذلك الوضع : إما بالفعل أو لا بالفعل والذي ليس بالفعل بوجه لا يحدث عنه تأثير بالفعل ، ولا يتصور تعينه ، فهو إذن بالفعل . وذلك الفعل إما بحسب الوجود الخارجي أو الذهني ، ولو كان بحسب الخارجي
____________________
(1/328)
لوجد بالفعل تعينات لا نهاية لها ، لأنه ليس بعضها أولى بأن يخرج إلى الفعل من بعض ، فيما حركته مستديرة . ثم لو كانت تلك الأوضاع موجودة بالفعل ، لما كانت مطلوبة ، فبقي أن يكون متوهما بحسب الذهن . وذلك التوهم : إما مؤثر أو غير مؤثر ، فإن لم يكن مؤثرا ، فسواء كان أو لم يكن ، بل يكون سبيله سبيل المجاذبات المختلفة ، التي لا يجب لأجلها أن يصير الجسم ، منقسما بالفعل ، بل التوهم أضعف ( من ) ذلك ، فهو توهم مؤثر في الحركة ، فهو إذن توهم المتحرك ، وهو المطلوب . ويحتاج هذا الوجه إلى معاضدة حدس . وكيف يصح عند ذي فطرة سليمة أن تؤخذ حركة دورية ، مع أنه لا وضع أولى من وضع ، إذا لم يكن هناك سبب مرجح لوجود أحد الأوضاع ، من دون آخر مثله ، وليس إلا لتوهم أو تصور . والحركة المستقيمة ، وإن كان الجسم الذي يتحرك بها ، يقصد جزءا من المسافة ، ثم يهرب منه إلى آخر ، فليس توجهه إليه هو نفس توجهه عنه ، بخلاف الحال في المستديرة . وأيضا ، فإن المتحرك في الاستقامة تتغير ميوله إلى التشدد في الحركات الطبيعية ، وإلى الضعف في القسرية على الاتصال ، فيكون مقتضي كل منهما ، غير مقتضي الآخر ، وقد عرفت أن حال ميل هذه البطائع تختلف ( بتقدير ) المسافات .
____________________
(1/329)
وليس كذلك حال الحركة المستديرة ، فهذا ما رأيت أن أذكره من الأعراض ، ومن ( لوحة 296 ) ههنا أشرع في ذكر الجواهر ، وما يخص كل واحد منها ، من هذه الأعراض وغيرها ، إن شاء الله تعالى .
____________________
(1/330)
الباب الرابع في الأجسام الطبيعية ومقوماتها وأحكامها
____________________
(1/331)
فارغة
____________________
(1/332)
الفصل الأول في مقومات الجسم الطبيعي وأحكامه العامة دون ما يختص بجسم جسم وجود الجسم الطبيعي معلوم من جهة الحسن . وهو إما مركب من أجسام مختلفة الطبائع ، كبدن الانسان ، أو غير مركب ، كالهواء . وكيف كان ، فهو قابل للانقسام . والانقسامات الممكنة إما حاصلة بالفعل ، أو غير حاصلة كذلك . وعلى كلا التقديرين : إما متناهية أو غير متناهية . هذا بحسب القسمة العقلية . لكن كون الجسم في الخارج مركبا من أجزاء كل واحد منها لا يقبل الانقسام ، لا بالفعل ، ولا بالفرض هو محال ، سواء تناهت ، أو لم تتناه . وكذا كون الجسم المتناهي في الخارج مركبا من أجزاء غير متناهية بالفعل ، سواء قبل كل واحد منها الانقسام العقلي أو الفرضي ، أو لم يقبلهما . ويتبين بطلان الأول من وجوه كثيرة ، أذكر منها ثلاثة : أحدهما لو تألفت الأجسام ذوات المقادير منها فإما أن تتداخل أو لا تتداخل ، فإن تداخلت لم يتألف منها مقدار ، وإن لم تتداخل فكل وسط منها بين
____________________
(1/333)
اثنين ، يلقي بأحد طرفيه غير ما لقيه بطرفه الآخر ، فانقسم فرضا ، هذا خلف وكون المركز محاذيا لجملة أجزاء الدائرة ، ليس كالملاقتين المذكورتين ، لأن ما تتعلق به تلك المجاذبات المتكثرة واحد ، وما تتعلق به المتماسات غير واحد . فإن تماس ما يماسه من جهة لا يقع على موضع تماس ما يماسه من جهة أخرى . وثانيهما - الرحى إذا تحركت وكان فيها أجزاء لا تتجزأ ، فما لم يخرج جزء عن حيزه لا يقع في حيز مجاوره ، فإذا تحرك من دائرة الطوق جزء فاما ألا يتحرك من دائرة القطب شيء ، أو يتحرك أكثر منه أو مثله أو أقل من جزء . فإن لم يتحرك من القطبية شيء مع أن الطوقية قد تكون أضعافها مرارا كثيرة ، وجب أن يرى سكون دائرة القطب رؤية أتم من رؤية حركتها ، وليس كذا ، فإنا نراها مستمرة الحركة ، من غير أن نجد فيها سكونا أصلا . وإن تحرك منها أكثر منه أو مثله ، تمت القطبية قبل الطوقية . فلا بد وأن يتحرك من دائرة القطب أقل من جزء ، فينقسم ما لا ينقسم . وثالثها الشكل المربع ، يجب أن يكون قطره ، وهو الذي يقطعه بمثلثين متساويين . أطول من كل واحد من أضلاعه . فلو كان مركبا من أجزاء لا تتجزأ ، لوجب أن يكون القطر مساويا للضلع ، وهو ممتنع وتظهر صحة ذلك عند التأمل والاعتبار . وأما بطلان الثاني ، وهو تركيب الجسم المتناهي من أجزاء غير متناهية بالفعل ، فبيانه أنا إذا أخذنا من تلك الأجزاء عددا متناهيا
____________________
(1/334)
فإن لم يفد تألفه من كل الجهات مقدارا ، لم يتألف الجسم منه . وإن أفاد فقد حصل جسم له نسبة إلى الذي فرضت أجزاؤه . غير متناهية . ونسبة العدد إلى العدد ، كنسبة الحجم إلى الحجم ، إذ بازدياد العدد يزداد الحجم ، فهو مساو له . لكن نسبة الحجم إلى الحجم نسبة متناه إلى متناه ، فنسبة العدد إلى العدد كذلك . فالجسم الذي فرض أن أجزاءه غير متناهية بالفعل ، هي متناهية بالفعل ، وهو المطلوب ، ويتبين بهذا ( أيضا ) أن حركة الجسم ، وزمان حركته ، لا تتألف من أجزاء لا تتجزأ . ولا الذي يفرض منهما متناهيا ، يتألف من أجزاء غير متناهية بالفعل ، لمطابقتهما للمسافة . ولو قطع بما لا يتجزأ من الحركة قدرا من المسافة ، فإن لم يتجزأ ذلك القدر ، فقد تركبت المسافة ، مما لا يتجزأ . وإن تجزأ فما يقطع به نصفه ، هو نصف ما يقطع به كله ، فينقسم من الحركة ما فرض أنه غير منقسم . وكذا نسبة الزمان إلى الحركة ، فإن زمان نصفها نصف زمان كلها ، كما أن الحركة إلى نصف المسافة نصف الحركة إلى كلها . فكل واحد من الثلاثة ينقسم بحسب انقسام الباقين . وقد ظهر مما قيل أن الجسم إذا كان منقسما بالفعل ، فلا بد وأن تنتهي قسمته إلى جسم لا يكون منقسما بالفعل ، بل يكون قابلا للقسمة الفرضية أو الوهمية ، إلى غير النهاية بالقوة ، من غير أن تخرج تلك الانقسامات إلى الفعل البتة . فكل جسم فهو قابل للانفصال ، وذلك الانفصال إن أدى إلى الافتراق فهو الفك والقطع . وإن لم يؤد إليه ، فإن كان لامر
____________________
(1/335)
في الخارج ، فهو الذي باختلاف عرضين في الجسم ، وإلا فهو بالوهم أو الفرض . وكون الأجزاء غير متناهية بالقوة ، لا يمنع من كونها محصورة بين طرفي الجسم ، ولا من كونها يقطعها قاطع بالحركة . بل إنما ذلك ممتنعا ، لو كانت الأجزاء موجودة بالفعل . وكل جسم طبيعي ، فلا بد وأن يكون مركبا من : مادة وصورة ، وذاك لأنه لا يخلو من اتصال ( لوحة 297 ) في ذاته ، وأنه قابل للانفصال ، حال كونه متصلا ، فقوة قبوله حاصلة حال الاتصال . ونفس الاتصال لا يقبل الانفصال ، إذ ما يقال إنه قابل لشيء على الحقيقة ، لا بد وأن يكون باقيا عند حصول المقبول . لكن الهوية الاتصالية تعدم عند طريان الانفصال ، فلا تكون قابلة له . فأذن للجسم شيء غير الاتصال به ، يقوى على قبول الانفصال ، وهو الذي يتصل تارة ، وينفصل أخرى ، وذلك هو المسمى بالمادة والهيولي ، وهو ثابت للجسم ، وإن لم ينفصل بالفعل . لأن ثبوته له ، لا بواسطة الانفصال نفسه فقط ، بل وبواسطة القوة عليه . ولهذا كانت الهيولي ثابتة : حال الاتصال ، وقبله ، وبعده ، وليس لها في ذاتها اتصال ولا انفصال ولا وحدة ولا تعدد ، وألا لم تكن موضوعة لهذه الأشياء . وإذا كان كل ما هو جسم : فإما متصل ،
____________________
(1/336)
أو منفصل ، وأما واحد ، أو متعدد ، فلا شيء مما هو قابل لشيء من ذلك بجسم ، بل القابل لذلك هو الهيولي . والاتصال أو الواحدة هو الصورة . وإذا رجع كل عاقل إلى نفسه ، علم أن الهوية الاتصالية ، هي شيء مع متصل ، وليست شيئا قائما بذاتها ' 3 ' ، ولا تعقل ماهية الجسم بدونها ، فهي من مقوماته . فهو مركب منها ومن قابلها ، ومجموعهما جوهر . وان كان الاتصال على اصطلاح هذا الكتاب ، ليس بجوهر لقيامه بالهيولي ، لا بذاته . والمراد بالانفصال الذي أثبتت الهيولي بواسطة قبول الجسم له ، هو الانفصال الانفكاكي . وكل جسم فهو قابل له ، من حيث طبيعة الجسمية ، وإن امتنع قبول بعض الأجسام له فذلك لأمر خارج عن طبيعة الجسم ، من حيث هو جسم ، ودليل ذلك ، أن القسمة في الجسم ، وإن كانت غير انفكاكية فلا بد ، وأن تحدث في المقسوم اثنينية ما ، ويكون طباع كل واحد من الاثنين طباع الآخر ، وطباع الجملة ، وطباع الخارج الموافق في النوع . وما يصح بين كل اثنين منها يصح ( بين ) اثنين آخرين ، فيصح إذن بين المتباينين من الاتصال الرافع للاثنينية الانفكاكية ما يصح بين المتصلين ، ويصح بين المتصلين من الانفكاك الرافع للاتحاد الاتصالي ، وما يصح بين المتباينين . وهذا كله إنما هو باعتبار التشابه في طبائع تلك البسائط ، فإن الطبائع المتشابهة إنما تقتضي حيث كانت شيئا واحدا ، غير مختلف . فيجب في الجميع : أما امتناع قبول الاتصال والانفصال الانفكاكي أو
____________________
(1/337)
امكان قبولهما . ولما لم يكن الأول حقا ، تعين الثاني ، وهو امكان قبول الجميع للاتصال ، والانفكاك ، الرافع له من حيث طبيعة الامتداد الجسماني ، المقول على الامتدادات الفلكية والعنصرية ، على اختلاف أقسامها ، بمعنى واحد . وتشترك أعداده في أنها متصلة بذاتها ، قابلة للانفصال ، ولو بحسب الفرض ، وأنها لا تبقي هويتها الامتدادية عند وجود الانفصال ، لا في الخارج ، ولا في الذهن . وهذا القدر معلوم ومشترك فيه ، ومقتض للحكم بالاحتياج إلى القابل ، مع جميع ما عداه ، مما نعلمه . وهو غير مانع من الانفصال الانفكاكي ، من حيث طبيعته ، كما قد بين . وهيولي الجسم لا توجد مجردة عن صورته ، وإلا فإما أن تصح الاشارة إليها أو لا تصح ، فإن صحت فإما أن تقبل القسمة أو لا تقبلها ، فإن لم تقبلها فهي نقطة حالة في غيرها ، وإلا كانت جزءا لا يتجزأ ، فما منها إلى جهة غير ما منها إلى أخرى ، فانقسمت . وإذا كانت حالة في غيرها ، وهو لا محالة ذو وضع ، فهو إما خط أو سطح أو جسم . وكيف كان من ذلك لم تكن مجردة عن الصورة الجسمية ، إذ الخط والسطح ، لا بد من حلولهما في الجسم . وإن قبلت القسمة ، فأما في جهة واحدة فتكون خطا ، أو في جهتين ، فتكون سطحا ، أو في ثلاث جهات ، فتكون جسما وأي هذه كانت فهي مقارنة للصورة . وإن لم تصح الأشارة إليها ، وجب ألا تقارنها الصورة ، لأنها لو قارنتها ، فأما أن تقارنها في حيز ، أو لا ( تقارنها ) والأول محال وإلا لكانت الهيولي في حيز ، فتكون قابلة للاشارة إليها ، وقد فرض خلافه .
____________________
(1/338)
والثاني محال ، وألا لفارقتها الصورة الجسمية ، لا في حيز . فيحصل الجسم لا في حيز ، ثم ينتقل إلى الحيز ، وهو باطل ، ولأن الصورة الجسمية لو قارنتها : فاما ان تقارنها صورة أخرى نوعية ، أو لا تقارنها . فإن كان الأول كان ترجيحا بلا مرجح ، وإن كان الثاني فلا جائز ألا يحصل في حيز أصلا ، ولا أن يحصل في كل الأحياز ، في حالة واحدة وهما ظاهرا البطلان . فليس إلا أن يحصل في بعض الأحياز دون بعض ، وحينئذ يكون اختصاصه بذلك الحيز ، من غير مخصص ، لأنه لا يكفي في اختصاص الهيولي بحيز ، اتصافها بما لا يقتضي لها حيزا ، لأن نسبتها مع تلك الأوصاف إلى جميع الأحياز واحدة . وما يقتضي لها حيزا فقد فرضنا انتفاءه ، لكن التخصيص من غير مخصص باطل . وإذا بطلت الأقسام بأسرها ، على تقدير تجردها عن الصورة ، فتجردها عنها باطل . ولو تجرد ( لوحة 298 ) هيوليا جسمين عن الصورة ، إن تكثرا دون مميز ، فهو محال . وإن اتحدا باتصال وامتزاج وتركيب . انفرضت الصورة المنفية . والاتحاد على غير هذه الوجوه باطل ، وليس انعدام أحد الهيوليين أولى من الآخر ، فلا بد من عدمها معا . ثم خصص بعض الهيولي بصورة دون البعض ، لكانت منقسمة متمايزة الأجزاء دون
____________________
(1/339)
الصورة . والمحال لازم ، سواء أتصل البعض بالبعض ، أو انفصل عنه . وهذا وما قبله فلا يدلان ( على ) أن الهيولي لا تتجرد عن الصورة مطلقا ، وكيف كان . بل الأول منهما يدل على أن الهيولي المقترنة بالصورة ، لم تكن مجردة عن صورة أصلا . والثاني يدل على أنها لا تتجرد بعد حصول الصورة فيها ، ولا يبعد أن يحدث من ذلك عدم تجردها عنها مطلقا . والصورة أيضا ، لا تتجرد عن الهيولي ، لأن الاتصال من حيث هو اتصال ، لو كان غنيا بذاته ، عما يقوم فيه ، لبقى ذلك الاستغناء ببقاء ذاته ، وقد بين أنه ليس كذا . ولا تخلو الهيولي أيضا من صورة أخرى ، تختلف بها الأجسام أنواعا : كالصورة الأرضية والهوائية والفلكية . وذاك لأن الأجسام مختلفة في اللوازم ، فإنها إما أن تقبل الانفكاك والالتئام والتشكل بسهولة ، كالأجسام الرطبة ، أو بعسر ، كاليابسة ، أو لا تقبلهما أصلا ، كالمحدد ، على ما ستعلم . والاختلاف في اللوازم يقتضي الاختلاف في الملزومات فهذه الأمور لا تقتضيها الجزمية المتشاركة في جميع الأجسام ، إذ لو اقتضت شيئا منها لكان كل جسم كذلك ، وليس كذا ، ولا تقتضيها أيضا الهيولي ، لأنها قابلة لها ، والقابل لا يكون فاعلا لما يقبله ، فلها علة غيرهما . فإن لم تكن تلك العلة مقارنة للأجسام ، كانت نسبتها إلى جميع الأجسام القابلة عنها متساوية ، فتخصيص بعضها بصفة معينة ، دون
____________________
(1/340)
بعض ، من غير استحقاق ذلك البعض له ، يكون تخصيصا من غير مخصص ، وهو محال . ثم إن الفاعل لا يفيد الاستعداد للقبول ، وعدم القبول إلا بأفادة ما يقتضيهما . فإن الاستعداد لهما إنما هو للشيء المستعد لذاته ، لا يجعل جاعل . وإن كانت العلة المفيدة لذلك مقارنة للجسم ، كانت هي الصورة النوعية المذكورة . وإنما وجب تعلقها بالهيولي ، لوجوب تعلقها بالأمور الانفعالية . وكذلك الحال في كون الهيولي لا بد لها من استحقاق مكان خاص ، أو وضع خاص . وكون الجسم بحيث يستحق أينا ، أو كيفا ، أو غيرهما غير حصوله في ذلك الأين ، وعلى ذلك الكيف ، ولذلك قد يزول كونه على تلك الصفة ، ولا يزول استحقاقه لأن يكون عليها . وكل واحد من الهيولي والصورة ، لا يجوز أن يكون على مطلقة لوجود الأخرى ، ولا واسطة في وجودها ، وإلا لكان متقدما بوجوده وبشخصه عليه . ولا يجوز استغناء كل واحدة منهما عن الأخرى مطلقا ، وإلا امتنع التركيب بينهما ، بل تحتاج كل واحدة منهما إلى الأخرى ، من الوجه الذي لا تحتاجه الأخرى إليها فيه ، لئلا يلزم الدور . ويوجدان معا عن سبب غيرهما . وكون الهيولي في حد ذاتها ، لا مقدار ولا قبول قسمة لها ، لا ينافي حلول المقدار والصورة الجسمية فيها . وإنما كان يمتنع ذلك أن لو كانت توجد ، ولا حال فيها ، ثم توجد وقد حل فيها ذلك حلول السريان . فإنه لا يحل شيء ذو طول وعرض على الوجه المذكور ، في شيء لا طول له ولا عرض ، كما عرفت .
____________________
(1/341)
أما إذا كان محل يوجد مع حال يستفيد المحل من ذلك الحال صفة ، فإذا ميز المحل من الحال في العقل ، يوجد عاريا عن الصفة المستفادة في حد ذاته ، كالأسود إذا نظر في محل السواد ، فإنه يكون في حد ذاته ليس بأسود ، لا أنه ذو لون مضاد للسواد . وهكذا الهيولي ، فإنها تستفيد المقدار وقبول القسمة من الصورة . فإذا أخذت في العقل من حيث هي هيولي ، لا من حيث أنها متصورة بصورة ، أو غير متصورة ، لا يكون لها في حد ذاتها مقدار ، ولا قبول قسمة ، لأنها تستفيدهما من الصورة ، وهكذا الوحدة والكثرة وغيرهما . وهذا المعنى من الحلول مغاير لمعنى الحلول على الوجه المتقدم ، وكل جسم فإما بسيط ، وهو الذي ليس فيه تركيب قوي وطبائع ، بل طبيعة كله ، وطبيعة جزئه شيء واحد . واما مركب ، وهو على خلاف ذلك . وكلاهما اشتركا في أنه متى خلى أحدهما وطباعه ، من غير قاسر ، فلا بد له ، والحالة هذه ، من وضع وشكل ، ومقدار كل منها معين . والمقتضي لذلك : إما أمر خارج عن الجسم ، أو غير خارج عنه ، والخارج فرض نفيه ، فهو إذن غير خارج وهو إما مشترك فيه بين جميع الأجسام ، وهو باطل ، وإلا لاشترك الجميع في ذلك المعين من هذه الأمور ، وليس كذا ، أو غير مشترك ، بل هي أمور مختلفة يختص كل واحد منها بجسم من الأجسام وتلك هي طبيعة الجسم الذي اختصت به . وأيضا هذه ( لوحة 299 ) الطبائع ، لما تقتضيه من هذه الأمور المعنية : إما أن يكون اقتضاء يزيله مع وجودها قاسر ، أو لا يكون كذلك . والأول باطل ، لما نشاهده من إزالة القاسر لها ، وعود الجسم إلى ما تقتضيه طباعه منها ، عند زوال القسر ، فتعين الثاني ، وهو ألا
____________________
(1/342)
تكون موجبة لها ، بل مقتضية لاستيجابها . ولا يلزم من كون كل جسم له وضع ، أن يكون لكل جسم مكان ، فإنا نعني بالمكان السطح الباطن من الجسم ، الحاوي المحاس للسطح الظاهر من الجسم المحوي . وعلى هذا ، فالجسم الذي يفرض آخر الأجسام ، له وضع ، وليس له مكان . وكل جسم له مكان ، فمكانه واحد : اما إن كان بسيطا ، فلأن الطبيعة الواحدة تقتضي من كل مالا بد للجسم ، أن يلزمه ، واحدا غير مختلف بالأوقات والأحوال ، إلا إذا منعها مانع . فإذا فقد المانع ، فيقتضي من كل جنس مما سيلزمها من الأعراض شيئا واحدا ، على نهج واحد . وأما إن كان مركبا : فإن غلب أحد أجزائه فمكانه مكان الغالب ، وإن لم يغلب : فإن كان فيه أجزاء أكلفها في جهة واحدة هي الغالبة على الباقية ، فمكانه هو ما يقتضيه الغالب فيه ، بحسب ذلك ، إذ لا غالب فيه مطلقا . وإن لم يكن فيه أجزاء بهذه الصفة ، فمكانه هو الذي اتفق وجوده فيه ، عند تساوي المجاذبات ، فإنه لو مال إلى أحد الأمكنة المتساوية بالنسبة إليه ، لكان ذلك تخصيصا ، من غير مخصص ، ولا مكانان طبيعيان لجسم واحد ، وإلا فعند حصوله في واحد منهما : ان طلب الآخر فمطلوبه هو الطبيعي ، دون ما هو فيه ، وإن لم يطلبه فما هو فيه هو الطبيعي له . وعند مفارقته لهما ، إن لم يطلب واحد منهما ، فليس شيء منهما طبيعيا له . وإن طلبهما معا امتنع توجهه إليهما دفعة ، وامتنع توجهه إلى واحد منهما ، دون الآخر ، لأنه ترجيح من غير مرجح . وإن طلب واحدا فقط دون غيره فذلك هو الطبيعي لا غيره .
____________________
(1/343)
والبسيط تقتضي طبيعته الواحدة من الأشكال شكلا واحدا ، هو الكرة ، وإلا لاختلفت الهيئات عن قوة واحدة ، في مادة واحدة ، فيؤثر المؤثر الواحد ، من حيث هو واحد ، في القابل الواحد ، كذلك ، تأثيرا مختلفا ، وبطلانه ظاهر . ولا يمكن اسناد الشكل الكري للجسم البسيط إلى جسميته المشتركة ، لأن ذلك الشكل لا بد وأن يكون متعينا بالمقادير المختلفة ، فيتأخر من حيث تعينه عنها ، فيستند من حيث هو كذلك إلى غير القدر المشترك من الجسمية . وإذا لم يحصل للجسم أمر من الأمور ، مع قيام مستوجبه ، فذلك لأسباب لا نعلمها تفصيلا ، و هي اما راجعة إلى العلة الفاعلية ، او إلى العلة القابلية ، او اليهما معا . ووجود جسم غير متناه ، أو أجسام مجموعها لا نهاية له ، وإن كان كل واحد منها متناهيا - محال ، وإلا لكان لنا أن نفرض فيه أو فيها بعدين خرجا من مبدأ واحد ، كساقي مثلث ، لا يزال البعد بينهما يتزايد ، بحسب تزايدهما في نفسيهما . فلو كان البعدان المذكوران ممتدين إلى غير النهاية ، لكان ما بينهما أيضا إلى غير النهاية ، لأنا فرضنا تزايده مساويا لتزايدهما . فكان ما لا يتناهى محصورا بين حاصرين ، وهو محال . وهذا الفرض واقع في نفس الأمر . فإنا إذا قسمنا جسما ذا استدارة كالترس ، بأربعة مثلثات متساوية ، انقسمت سعة العالم الجسماني ، بحسب انقسامه . فإن كان ما بين كل ساقين متناهيا ، فالكل متناه ، أو غير متناه ، مع انحصاره بينهما ، فهو بين البطلان . وليس خارج الأجسام ولا بينها خلاء ، ونعني به بعد تام قائم
____________________
(1/344)
بذاته لا في مادة ، من شأنه أن يملأه الجسم . ولو أمكن خلو البعد المذكور من مادة ، لكان ذلك الفراغ له مقدار في جميع الأقطار ، وكان بعضه أصغر وأكبر من بعض ، فإن ما يسع جسما يفضل على ما هو أصغر منه ، ولا يسع أكبر ، فلا يكون ذلك الفراغ عدما محضا . إذ العدم المحض لا يقبل المساحة والتقدير . ولا يقال بعضه أكثر من بعض أو أقل منه ، وأبعاده ، إذا كان بين أجسام غير أبعاد ما هو بينها من الأجسام . فإن البعد الآخذ من الزاوية العليا ، إلى الزاوية السفلى مما يحاذيها ، ليس في أبعاد تلك الأجسام ما يساويه . وإذا لم يكن الخلاء معدوما فهو موجود ، اما قائم بذاته ، أو بغيره . فإن كان قائما بذاته فهو متصل ، لمطابقته الجسم المتصل . وكل ما يطابق المتصل فهو متصل ، وكل متصل فاتصاله في مادة ، فالخلاء بعد في مادة ولا شيء مما هو بعد في مادة بخلاء ، فلا شيء من الخلاء بخلاء . هذا خلف . وإن كان قيامه بغيره فهو في مادة أيضا ، ويعود الخلف ثم كيف يتصور حصول الجسم فيه ، بحيث يكون بعده وبعد الجسم الحاصل فيه متداخلين ، يلقى كل واحد منهما كل الآخر ، فلا يزيد الاثنان على الواحد ، ولا الكل على الجزء . وهل يمكن أن يكون المانع ( لوحة 300 ) من تداخل الجسمين ، بمعنى صيروة أحدهما في حيز الآخر ، إلا البعد الذي له اختصاص بالحيز بذاته ، دون ما لا اختصاص له بذاته بالحيز والوضع ، كالمادة ، وسائر ما يقوم بالجسم من أعراضه . على أنا لا نعني بالجسم إلا الجوهر ، الذي يمكن فيه فرض أبعاد
____________________
(1/345)
وذلك واضح له . وكونه شيئا من شأنه قبول تلك الأبعاد ، هو صورته . والأبعاد المذكورة عرض فيه ، هي الجسم التعليمي . وإذا نظرنا في الخلاء ، وجدنا ذلك كله صادقا عليه . فما فرض خلاء هو جسم ، اللهم إلا أن لا يكتفي بما ذكر في تعريف الجسم ، وحينئذ يصير الخلاف لفظيا . والخلاء الخارج عن كل الأجسام ، لو جاز وجوده ، لما أمكن عدم تناهيه ، بمثل ما مر ، في امتناع عدم تناهي الأجسام ، ولما أمكن أيضا كونه متناهيا ، وإلا لكان حصول العالم الجسماني في حيز منه ، دون ما عداه من أجزائه ، مع أنه في نفسه متشابه ( تشابها ) لا اختلاف فيه ، ترجيحا من غير مرجح ، إذ لا تبتني الأمور الدائمة على الاتفاقات . والفاعل المتساوي النسبة إلى شيء متشابه ، لا يخصص بعض أجزائه بشيء دون بعض . ثلاثة متقاطعة على زوايا قائمة . فجوهريته هي كونه قائما بذاته ، ووقوف الأجسام الثقال ذوات التجاويف على الماء ، وانجذاب البشرة في المحجر من الأمور المبنية على امتناع الخلاء . وقد ذكر في امتناع لا نهاية الأبعاد ، وفي استحالة وجود الخلاء وجوه كثيرة غير الذي ذكرته ، ولكنها غير ملائمة ، لقصد الاختصار . وقد ظهر مما تقرر أن لكل جسم مادة وصورة وطبيعة وأعراضا . فمادته هي المعنى الحامل لصورته ، وصورته هي ماهيته التي بها هو ما هو ، وطبيعته هي القوة التي يصدر عنها تغيره أو سكونه الذي يكون عن ذاته ، وأعراضه هي الأعراض التي إذا تصورت مادته بصورته وتمت نوعيته لزمته ، أو عرضت له من خارج .
____________________
(1/346)
الفصل الثاني في العناصر وأحوالها باعتبار الانفراد الجسم الذي من شأنه أن يتحرك حركة مستقيمة ، ينقسم إلى : كثيف ، وهو الذي يحجز أبصارنا عن ابصار النور بالكلية . والى لطيف ، وهو الذي لا يحجزها عن أبصاره ألبتة . وإلى مقتصد ، وهو الذي يحجز عن ذلك حجزا غير تام ، على اختلاف مراتبه في ذلك الحجز . وينقسم الجسم المذكور بوجه آخر إلى : حار خفيف ، وبارد ثقيل . وقد سبق بيان ذلك . وهذا الجسم إذا جاز انفصاله عن كلية نوعه ، فهو قابل للحرق ، وقبوله لذلك ولتركه إن كان بسهولة ، فهو الرطب ، وإن كان بصعوبة ، فهو اليابس ، ونحن إذا تأملنا بسائط الأجسام التي عندنا في عالم الكون والفساد ، لم نجدها خارجة عن أربعة : الأرض ، ويلزمها من التقسيم الأول الكثافة ، ومن الثاني البرودة والثقل ، ومن الثالث اليبوسة . والماء ، ويلزمه من التقاسيم الثلاثة : الاقتصاد والبرودة مع الثقل والرطوبة . والهواء ، ويلزمه من الثلاثة : اللطافة والحرارة مع الخفة والرطوبة . والنار ، ويلزمها منها اللطافة والحرارة ، مع الخفة ، وفي يبوستها أو رطوبتها شك . أما ما هو بحسب التقسيم الأول ، فظاهر لنا في : الأرض والماء والهواء وخفي عنا في النار . ويدل عليه فيها أنا نرى النار كلما كانت أقوى كان تلونها أقل ،
____________________
(1/347)
فإن كير الحدادين إذا قويت النار فيه ، ذهب لونها . ونجد أصول الشعل وحيث النار قوية متمكنة من الاحالة التامة للأجزاء الأرضية ، هي شفافة ، لا يقع لها ظل . والأجسام الدخانية إذا صعدت إلى قرب الفلك ، احترقت . ولو لم يكن هناك طبيعة محرقة هي النار ، وإلا لما كان ذلك دائما ، أو أكثريا . ولو لم تكن تلك النار التي عند الفلك لطيفة ، لوجب أن تكون ساترة للسماء والكواكب . فثبت أن النار عندنا ، إنما كانت ساترة لما وراءها ، لما يخالطها من الأجزاء الأرضية ، ولهذا كلما كثرت الأجزاء الأرضية فيها قوى لونها ، وكلما قلت تلك الأجزاء ضعفت النار ، ومالت إلى الشفافية ، فثبت أن النار بسيطة شفافة كالهواء . وأما ما هو بحسب التقسيم الثاني ، فهو قريب من الوضوح ، لكن حرارة الهواء إنما هي بالقياس إلى الماء ، لا إلى النار ، ولذلك يتشبه به الماء بصيرورته بخارا إذا سخن ولطف ، ولو لم يكن أسخن من الماء ، لم يكن أخف وألطف منه . وإذا أحسسنا في الهواء المجاور لأبداننا ببرودة ، فذلك لأنه ممتزج بأبخرة اختلطت من الماء المجاور له . ولولا أن الأرض تحمى بالشمس ، ويحمى بسببها الهواء المجاور لها ، لكان أبرد من هذا . ولكنه يحمى الهواء المجاور للأرض إلى حد ما ، فتقل البرودة ، فيكون ما فوقه أبرد إلى حد ما ، ثم يترقى إلى ما هو حار ولا كالنار . ويحقق برودة الأرض أنها إذا لم تتسخن بالرياح الحارة ، ولا بأشعة الشمس والكواكب ، ولا بغير ذلك ، ظهر منها برد محسوس .
____________________
(1/348)
وكونها أبرد من الماء ، والماء أبرد منها ، فمشكوك . ويؤكد ( لوحة 301 ) كونها أبرد من الماء ، أنها أثقل منه ، وليس بقطعي ، إذ جاز أن يكون لازدياد ثقلها سبب آخر غير شدة البرد . وكون الاحساس ببرودة الماء أكثر ، لا يدل على أنه في نفس الأمر كذلك ، لجواز كون ذلك لفرط وصوله إلى المسام ، فإن النار أسخن من النحاس المذاب ، مع أن الاحساس بسخونته أشد من الاحساس بسخونة النار . وأما الذي بحسب التقسيم الثالث ، فهو واضح ، في الثلاثة الأول ، وفي يبوسة النار ، أو رطوبتها تردد أما يبوستها فقد استدل عليها بأن الحرارة الشديدة ، تفني الرطوبة عن المادة ، وليس بدليل على الحقيقة ، فإن إزالة الرطوبة إنما هو للتلطيف والتصعيد ، لا بأنها يابسة في نفسها . ثم إنها تجعل الماء بتصييره بخارا أو هواء ، أرطب مما كان وأشد ميعانا . فعلى هذا كان يجب أن تكون رطبة ، وأما رطوبتها فاستدل بعضهم عليها بأنها سهلة القبول للشكل ، سهلة الترك له ، وهو ضعيف أيضا ، لأن التي نجدها كذلك هي النار التي عندنا . وجاز أن يكون ذلك لمخالطة أجزاء هوائية ، ويحتمل أن تكون النار البسيطة فيها يبس ما إذا قيست إلى الهواء والماء ، وإن لم تكن يابسة بقياسها إلى الأرض . والنار هي البالغة في الحرارة . والأرض يبسها أشد من برودها ، والماء برده أشد من رطوبته ، بل لو ترك وطبعه لجاز جموده إن لم يسيله جسم حار ، إلا أنه ليس جموده كجمود الأرض ، فهو رطب بالقياس إليها ، لا مطلقا . ولو كان برد الهواء هو الذي تجمد ، لكان الهواء أبرد من الماء ، وقد بين خلافه . ويدل على حصر العناصر في الأربع ، هو أنها إما خفيفة أو ثقيلة ، وكل واحد منهما إما مطلق ، أو غير مطلق . فالخفيف المطلق هو الذي في طباعه أن يتحرك إلى غاية البعد الذي يمكن أن تصل إليه هذه الأجسام مما يلي جهة السماء ، وهو النار . والخفيف الغير المطلق هو الذي في طباعه أن يتحرك في ذلك البعد إلى تلك الجهة ، ولكن لا إلى غايته ، وهو الهواء .
____________________
(1/349)
والثقيل المطلق ، هو الذي في طباعه أن يتحرك إلى غاية البعد ، الذي يمكن وصولها إليه ، مما يلي جهة السفل ، وهو الأرض . والثقيل الغير المطلق هو الذي في طباعه الحركة إلى تلك الجهة ، لا إلى غايتها ، وهو الماء ، وقد بان أن هذه الأجسام لم تخل عن الكيفيتين الفعليتين ، أعني الممهدتين للتأثير والتحريك ، وهما : الحرارة والبرودة . وعن الكيفيتين الانفعاليتين ، أعني الممهدتين للقبول والتأتي عنه ، وهما : الرطوبة واليبوسة ، ولا يوجد فيها ما هو حار فقط ، أو بارد فقط لأن التقسيم الأخير تثبت عليه رطوبة أو يبوسة ، وكذا لا يوجد فيها رطب فقط ، أو يابس فقط . واجتماع أربعة أو ثلاثة من هذه الكيفيات في بسيط واحد منها ظاهر الامتناع . والهيئات الغير العامة لجميع الأجسام التي عندنا : كاللون والطعم والرائحة ، يجوز أن تخلو عنها هذه الأجسام ، فإنا لا نجد للهواء لونا ولا طعما ولا رائحة ، إلا أن يخالطه غيره . وجاز أن يكون لهذه الأجسام بعض ذلك ، أو كله ، ولا نحس به ، لضعفه فيها ، أو لعدم شرط إحساسه . وحركات العناصر إلى أماكنها لو كان قسريا ، لما كان الأكبر من أجزائها يتحرك إلى مكان كليته أسرع مما يتحرك إليه الأصغر منهما . فإن فعل القاسر في الأصغر أقوى من فعله في الأكبر ، لكثرة الممانعة فيه . وهذه فيستحيل بعضها إلى كيفية بعض ، وينقلب بعض أجزائها إلى بعض أجزاء الآخر . أما الاستحالة فسببها فيما تعلم ، وإن احتمل غيره مما لا تعلمه ، وهو مجاورة أو مماسة أو مقابلة أو حركة . ( كما ) يتسخن الماء مثلا بمجاورة النار ، أو بمماستها ، أو بمقابلة الشمس . أو بتحريكه بالخضخضة ، وليس تسخينه ، لأن أجزاء نارية فشت فيه ، وإلا لكان تسخن ما في كون
____________________
(1/350)
خزف أسرع من تسخن ما في قمقمة نحاس ، على نسبة قبولهما ومسامهما . ثم إذا كان رأس الآنية مسدودا ، وهي مملوءة فأين للفاشي مكان المداخلة ، حتى داخل الماء بالكلية ، فلا يشاهد فيه إلا الحرارة ، وكيف لم يطف الماء تلك الأجزاء شيئا فشيئا . ولو خالط المتبرد أشياء جمدية لما برد الجمد ما فوقه ، إذ ليس من طبع الأجزاء الجمدية الصعود ، والمخضخض والمحكوم يتسخن بالحركة ولا نار هناك حتى تفشو فيه . ولا يمكن أن يقال كانت كامنة ، فأظهرها الحك والخضخضة ، فإن الماء يتسخن بالتحريك ، مع أن ظاهره وباطنه كانا باردين ، ثم صارا حارين . ولو كان هناك حرارة باطنة ، لأحس بها قبل تحريكه ، ثم كيف يصدق بأن النارية المنفصلة عن الخشب ، والباقية فيه بعد تحمره ، كانت كامنة ولم يحس بها عند الكسر والرض والسحق ، وكذا التي في الزجاج الذائب ، مع أنه لا يستر ما في باطنه ، وكان هذا ( مما ) لا يحتاج إلى إيضاح لوضوحه . وتستعد هذه الأجسام بمقابلة المضيء لقبول ( لوحة 302 ) التسخين من المبدأ المفيد له . وتشتد حرارتها بشدة المقابلة ، وتضعف بضعفها ، ولهذا كان الحر في الصيف أشد ، وليس أن الشمس تسخن بذاتها . وإلا لكان الهواء الأبعد عن الأرض أسخن ، لأنه أقرب إليها ، وليس كذا . فإن الجبال والأبخرة التي في الجو باردة في الصيف ، لبعدها عن مطرح الشعاع .
____________________
(1/351)
وإذا وضع في الشمس قارورة فيها ماء انعكس فيها من الضوء ما ربما أحرق قطنا أو نحوه ، إذا قرب منها ، ولو كانت خالية ، لما فعلت ذلك ، لأن الهواء لا يقبل النور ، وإلا لحجب بيننا وبين الأنوار السماوية ، كما يفعله السحاب وما جرى مجراه ، مع أن طبع الماء التبريد . لا التسخين . وكذا المرأة المحرقة ذات التقعير ، التي تنعكس الأشعة من سطوحها إلى وسطها ، فتحرق ، لاشتداد الأضواء بتعاكسها . وأما انقلاب بعض أجزاء عنصر إلى بعض آخر ، فيظهر لك من أن النار المنفصلة عن الشعل ، لو بقيت نارا لرؤيت أو لأحرقت ما قابلها ، على بعض الجوانب ، كما لو كانت في خيمة ، فإذن انقلبت هواء . ونحن نشاهد صيرورة الهواء نارا بالنفاخات ، والطامس المكبوب على الجمد ، يظهر عليه قطرات ماء ، مع أنه ليس من الرشح ، إذ ليس من طبع الماء الصعود ، ولو كان رشحا لكان من الماء الحار أولى ، ( و ) لا لأنه كان موجودا في الهواء فنزل ، لأن في الصيف لو حصلت الأجزاء المائية في الهواء ، لتصاعدت لفرط حرارة هوائه ، فلا تبقى مجاورة للإناء ، ولو بقيت للزم نفاذها ، بتواتر حصول الندى بعد تنحيته كل مرة ، فينقطع ، مع كون الاناء بحاله ، أو بتناقصها كل مرة عما قبلها ، أو تزايد تراخي أزمنة حصولها لتباعدها عن الإناء ، وهذا كله على خلاف الواقع . ولا يلزم أن يحمل ذلك الماء هواء آخر كذلك ، إلى أن يجري الماء جريانا ، لأن الماء للطفه يسرع انفعاله عن الهواء ، فتنكسر برودته ، ولا كذلك جرم الاناء الذي يعسر قبوله لكيفية غريبة ، ويشتد تكيفه بها ، وحفظه لها عند حصولها . ولو كان تركب القطرات على الاناء ، لكون الأجزاء المائية المتبددة في الهواء ، انجذبت إليه ، لكان انجذابها إلى أحياض عظيمة بقرب الاناء أولى ،
____________________
(1/352)
ولو كان ذلك ، لأن الأجزاء البخارية في الهواء عند الأحياض والمستنقعات أكثر ، لكان لا يتساوى الحال في ذلك عند قرب الأحياض ، وعند لا قربها . وقد يشاهد في قمم الجبال ، أن الهواء ، لشدة البرد ، يتجمد سحابا ، لم ينسق من موضع آخر ، ولا انعقد من بخار متصاعد ، ثم يرى ذلك السحاب يهبط ثلجا ، ثم يضحي ، ثم يعود . وإذا لم يحصل ذلك مع شدة البرد المحيل للهوائية ، فلو جود مانع أو فقدان شرط لم يطلع عليه . وصيرورة الماء هواء يشاهد من تخلل الأبخرة ، بحيث تتلطف بالكلية ، ويزول عنها الاقتصاد ، وكون الماء يصير أرضا شوهد عيانا في بعض المواضع ، وليس ذلك لأن الماء كانت معه أجزاء أرضية ، فتحجرت ، أو انفصل الماء وانعقدت ، فإنه قد يرى الماء صرفا ، ويتعقد في زمان سريع ، بحيث يعلم أن ليس فيه من الأجزاء الأرضية بقدر الحجر الحاصل منه ، وأنه لم تتبخر الأجزاء المائية في ذلك الزمان السريع ، ولو كانت الأجزاء من الأرض فيه على تلك الكثرة ، لشوهدت ، وليس كذلك . وهذه الانقلابات دالة على أن للعناصر هيولي مشتركة ، تخلع صورة وتلبس أخرى . ولولا ذلك لكان الانقلاب محالا ، فإن صيرورة الهوائية هوائية أخرى ، بين الامتناع ، وذلك كصيرورة السواد بياضا ، لا الأسود أبيص ، بأن يزول عن الشيء سواد ، ويحصل فيه بياض . وهذه العناصر تتخلخل بالحرارة ، وتتكاثف بالبرودة ، وذلك معلوم بالتجربة والتخلخل إما يتباعد أجزاء الجسم بعضها عن بعض ، مع أنه يتخللها أجسام أرق منها ، لا تكون مناسبة لها كل المناسبة . وأما زيادة مقدار الجسم لا بأنضياف مادة أخرى إليه ، بل لأن المادة لا مقدار لها في حد ذاتها ، فلا يلزم أن تكون وقفا على مقدار واحد ، بل من حيث هي هي ، نسبتها إلى المقدار الكبير والصغير سواء . والتكاثف ما يقابل التخلخل بأحد معنييه . والتخلخل قد يكون طبيعيا
____________________
(1/353)
كما يحصل عند انقلاب الماء هواء ، وقد يكون قسريا ، كما يفعل الحر بالماء . وينقسم التكاثف أيضا إلى طبيعي وقسري . وإذا زال قاسر كل واحد منهما ، عاد إلى ما يقتضيه طبعه . وهذه العناصر الأربعة هي على الترتيب : الأرض وفوقها الماء ، وهما بمنزلة كرة واحدة . وإذا ذكر قطر الأرض ، فإنما يراد به قطر مجموعهما ، وذلك لأن قوى الأجرام السماوية تنفذ منها ، فتحدث في البارد حرا يخالطه فتصير بذلك دخانية وبخارية ، وتخلط بها نارية وهوائية ، فتصعد إلى فوق أبخرة مائية ، وأدخنة أرضية ، فتخلطها به ، فتكاد تكون جميع المياه ، وما يجاورها من الأهوية مخلوطة ( لوحة 303 ) ممزوجة . ويشبه أن تكون الأرض ثلاث طبقات : طبقة مائلة إلى المحوضة ، وطبقة مختلطة من الأرضية والمائية ، وطبقة مكتشفة عن الماء تجفف وجهها الشمس وهي البر والجبل ، ومكان الماء الكلي هو البحر . وللهواء أيضا طبقات : فإن ما يلي الأرض منه يتسخن بمجاورته الأرض المتسخنة بالشعاع وما يبعد عنها يبرد ، فتكون طبقة الهواء السافلة بخارية حارة ، وتليها طبقة بخارية باردة ، ثم يليها هواء أقرب إلى المحوضة ، أو محض ، أو دخاني ، لأن الدخان أخف وأقوى نفوذا من البخار . وبعد طبقة الهواء طبقة النار ، ولولا وجودها هناك ، لما كانت الأجسام الدخانية إذا تصاعدت احترقت ، ولعلها تكون صرفة ، لسرعة إحالتها لما يخالطها إليها . وقد تبين في علم الهيئة أن غاية ما يمكن أن تكون الاسطقسات مرتفعة عن مركز الأرض ، هو إلى أقرب بعد القمر عنه ، وذلك بما به نصف قطر الأرض ، واحد هو ثلاث وثلاثون مرة وربع مرة بالتقريب .
____________________
(1/354)
وقد بين بعض فضلاء علم الهيئة ، أن منتهى الأبخرة الغليظة القابلة للضوء ومهب الرياح وارتفاع الغيوم وانعكاس الأشعة من الأرض ، يكون ارتفاعه عن سطح الأرض واحد وخمسين ميلا ، وخمس عشرة دقيقة تقريبا ، وسنعرف مقدار الميل . وهذه الكرة تسمى كرة البخار . وهذه الأربع هي اسطقسات المركبات لأنا إذا وضعنا المركب في القرع والأنبيق حصل منه جوهر أرضي ومائي وهوائي . والماء والأرض إذا اختلطا ، فلا بد من حرارة طابخة لهما . والجوهر الطابخ هو النار . وفائدة الرطب واليابس أن يتجمد الرطب باليابس ، فيحصل للمركب بواسطة الرطب قبول الأشكال ، وبواسطة اليابس حفظها . وفائدة الحار الانضاج ، وفائدة البارد التكاثف الحافظ للهيئة والتركيب ، وكأن النار المجاورة للفلك متحركة بحركته . ويؤكد ذلك حركة الشهب ، وذوات الأذناب على موافقة الفلك ، كما ستعلم . وكرة الهواء ليست صحيحة الاستدارة تقعيرا لمماسة الماء والأرض ، فتدخل في الوهاد والأغوار ، وتدخل في الجبال وغيرها من المرتفعات . ومجموع الماء والأرض قريب إلى الاستدارة ، وإن لم تكن استدارته حقيقية ، ولو لم يكن ( ذلك ) كذلك ، لكانت إما مستقيمة من المشرق إلى المغرب ، أو مقعرة أو محدبة . والأول باطل ، وإلا لكان طلوع الكواكب على جميع البلدان الموضوعة على ذلك السطح ( و ) غروبها عنها في زمان واحد ، فما كانت تختلف أوقات الخسوفات في شيء من البلدان . والثاني أيضا باطل ، وإلا لكان طلوعها على البلدان الغربية قبل الشرقية . فهي إذن محدبة من المشرق إلى المغرب ، وكذا من الشمال إلى الجنوب .
____________________
(1/355)
فإنها لو كانت مستقيمة فيها ، لما ظهر ازدياد ارتفاع الكواكب القريبة من أحد القطبين ، والبعيدة . وازدياد انخفاضها بحسب سكون السالك إلى الشمال أو ( إلى ) الجنوب . ولو كانت مقعرة فيها لازداد خفاء ما قرب من القطب الشمالي ، كلما ازداد التوغل في الشمال . فالمسكون من الأرض محدب من جميع الجوانب ، ونحدس منه أن كلها كذلك ، لا سيما عند اعتبار استدارة ظلها في الخسوفات كلها . فإن انخساف القمر مستدير ، وهو ظل الأرض ، ولولا كرية الماء ، لما كان السائر في البحر من أي النواحي ، وإلى أيها سار ، إذا قرب من البر يرى أولا مع وجه الماء رؤس الجبال أو النار ، ثم كلما قرب يرتفع له منها شيء فشيء ، كأنها كانت غارقة في البحر ، فظهرت قليلا قليلا ، ولو كان سطح الماء مستويا لرؤيت جميعها دفعة واحدة . والأرض في وسط السماء ، فإن الشمس وغيرها من الكواكب إذا غربت لم ترجع إلى مشرقها إلا بتمام حركة دورية ، ولو رجعت قبل تمامها لطلعت من مغربها ، وليس كذا . ولو جاوزت الأرض المركز إلى أي جانب فرض ، كانت قاصدة العلو ، وهو لا يلائمها . ولو كانت إلى موضع من السماء أقرب ، لكان من يسكن جبال ذلك الموضع يرى من السماء أقل من نصفها . ومن يسكن بالجبال البعيدة يرى أكثر منه . ولا قدر لها محسوس عند السماء ، وإلا لكان جميع من على الأرض لا يرون من السماء أبدا إلا أقل من نصفها ، بقدر تفاوت ما بين مركز الأرض ، ومحيطها .
____________________
(1/356)
ونحن الذي يظهر لنا من السماء هو نصفها ، لا يغادر ذلك شيئا محسوسا ولولا ذلك لما كان الكوكب من الثابتة يرى كالنقطة في السماء ، مع أن أرباب علم الهيئة بينوا أنه أكبر من الأرض بأضعاف كثيرة . والأرض ليست متحركة حركة دورية ، وإلا لكان من رمى إلى أي جهتين اتفقتا من مقام واحد بقوة واحدة ، حجارة أو سهاما ، يجد البعدين المستقيمين في مسافة المرمى مختلفين ، لكنهما ( لوحة 304 ) يوجدان متساويين . والتضاريس التي في سطح الجبال . والوهاد هي بمنزلة خشونات في ظاهر بعض الكرات التي نصنعها بأيدينا . فلا يقدح في أن يكون شكل جملتها كريا ، بحسب الحس ، وإن لم يكن كريا على الحقيقة . ودور الكرة التي هي مجموع الأرض والماء ، على ما امتحن بالسير في أرض مستوية ، حتى ظهر من جهة السير درجة من الفلك ، وخفى ( من ) مقابلها مثلها . فكان حصة الدرجة من الأرض ستة وستين ميلا وثلثي ميل ، هو أربعة وعشرون ألف ميل ، كل ميل أربعة آلاف ذراع ، كل ذراع أربعة وعشرون اصبعا ، كل أصبع ست شعيرات ، بطون بعضها إلى ظهور بعض . وذلك إنما هو على وجه التقريب . ومنه يعلم مقدار قطرها ومساحتها تقريبا .
____________________
(1/357)
فارغة
____________________
(1/358)
الفصل الثالث في حالة هذه العناصر امتزاجها وتركبها إذا اجتمعت العناصر الأربعة ، أو بعضها ، بحيث تتفاعل تلك الأجسام المجتمعة بكيفياتها المتضادة ، حتى يحصل منها كيفية متوسطة متشابهة ، في جميع الأجزاء ، فذلك هو امتزاجها ، وتلك الكيفية المتوسطة هي المزاج . والفرق بين المزاج والفساد ، أن الفساد يتبدل بالكلية ، والمزاج توسط المجتمعات . والأجسام وإن كان لها تأثير لا المماسة ، كتسخين الشمس بالمقابلة وكجذب المغناطيس للحديد ، ألا أن ما يفعل منها بالمماسة ، كلما كبرت فيه المماسة ، بسبب تكثر السطوح ، التي يوجب تكثرها تصغر أجزاء المتماسين ، كان فعله أقوى . ولهذا كلما كان يصغر أجزاء العناصر أكثر ، كان امتزاجها أتم . وإذا تفاعلت ، فكل واحد منها يفعل بصورته ، وينفعل بمادته ، إذ الفعل والانفعال مختلفان ، لا يتصوران من حيثية متشابهة . وهذا كحركة الحجر إلى أسفل ، فإن المتحرك مادته والمحرك صورته النوعية . وإذا لم ينته التفاعل بين المجتمعين ، إلى حد التشابه ، في جميع الأجزاء ، يسمى تركيبا ، لا امتزاجا .
____________________
(1/359)
والمركب أعم من الممتزج . وإذا اجتمع الحار والبارد لم يبق كل واحد من الحرارة والبرودة مكسورا بالآخر . ولا يحصل في كل واحد محال . بل تبطل كيفية كل منهما ، وتحصل له كيفية أخرى متوسطة هي غير الطرفين بالنوع ، من المبدأ الفياض لها عند استعداد القابل لذلك الاجتماع ، لحصولها له . ومعنى اشتداد الكيفيات وضعفها : أن تبطل كيفية ، ويحدث أشد منها ، أو أضعف من بابها . ولو كان اشتداد الكيفية انضمام أخرى مثلها إليها في المحل ، لاجتمع المثلان في محل واحد ، من غير فارق ، وهو محال . ولولا بقاء العناصر في الممتزج ، لما تميزت عند وضعها في القرع والانبيق . والممتزجات قد تؤثر بنفس المزاج ، كتبريد ما غلب عليه البرودة وتسخين ما غلب عليه الحر ، ويسمى ذلك التأثير بالكيفية . وقد يؤثر بقوة تتبع المزاج ، كتأثير السم في البدن ، فإن اليسير منه يؤثر مالا يؤثره الكثير التام الكيفية ، كما أن القليل من الأفيون يؤثر من التبريد ما لا يؤثره الكثير من الأرض والماء . ومما يتبع الامتزاج من الكيفيات هو : الألوان والطعوم والروائح والأشكال . ولو كانت هذه نفس المزاج ، لكانت ملموسة ، إذ المزاج توسط كيفيات ملموسة ، فيكون ملموسا ولا شيء من هذه بملموس . والممتزج إن كانت مقادير القوى المتضادة فيه متساوية ، فهو المعتدل الحقيقي ، وإلا فهو الخارج عن الاعتدال . والمعتدل بالحقيقة إن لم يوجد ما يمنعه من تفرق بسائطه ، لا يحصل ، لأن البسائط المجتمعة لو تساوت فيه مقادير قواها ، لكان إن مال إلى أحد أحياز تلك البسائط ، كان تخصيصا بلا مخصص .
____________________
(1/360)
وإن لم يمل كان الميل الذي لكل واحد منها إلى حيزه الطبيعي ، مما لا يعوقه عائق قسري ، فيعود كل واحد منها ، إلى حيزه الطبيعي ، وإلا لكان المطلوب بالطبع متروكا من غير قاسر ، وهو محال . فهو إن وجد فهناك ما يمسكه عن التفرق ، وإلا فلا يوجد زمانا ما البتة . هذا ، لو كان له مكان غير مكان أحد بسائطه أما إذا لم يكن له مكان خارج عن أمكنتها ، فلا يمكن وجوده أصلا ، لأنه لو كان موجودا لكان له ميل طبيعي إلى مكان ما ، إذ لا جرم عديم الميل ، ولا يتصور فيه ميل إلى مكان أحد بسطائه ، فإنه ترجيح من غير مرجح . ولا حد مشترك بين جميع البسائط ، حتى يكون مكانا له يميل إليه بالطبع . وإذا لم يكن له بد من ميل على تقدير وجوده ، ولا ميل له على ذلك التقدير ، فلا يمكن وجوده . فالموجود من الأمزجة خارج عن الاعتدال الحقيقي . وهو إما مفرد ، أعني الذي خرج عن الاعتدال في كيفية واحدة ، وهو الحار والبارد ، والرطب واليابس . وأما ( لوحة 305 ) مركب ، وهو الخارج عنه في الكيفيتين معا ، وهو الحار الرطب ، والحار اليابس ، والبارد الرطب ، والبارد اليابس . فالممتزج غير المعتدل ، لا يخرج عن أحد هذه الأقسام الثمانية . والممتزجات قد تجتمع ، فيحصل منها امتزاج ثان ، ولربما اجتمعت أيضا فحصل ثالث . وما زاد كالسكنجبين من السكر والعسل ، فإن لكل منهما مزاجا . وليس تساوي الأجزاء ولا عدم تساويها شرطا في المزاج . وقد تكون القوة فيما مقداره صغيرا أقوى من القوة فيما مقداره أكبر منه ، ويعرف ذلك من قوى الأدوية وغيرها .
____________________
(1/361)
والانفعالات الحاصلة بين الحار والبارد ، والرطب واليابس ، كثيرة : كالنضج والطبخ والاذابة والحل والعقد والتعفين والتكرير والانحصار والانعجان والانطراق والتلبد ، وغير ذلك ، مما هو مذكور في المطولات ، والمركب متى توفر عليه من العناصر بكمياتها وكيفياتها القسط الذي يليق به ، يسمى معتدل المزاج ، وإن كان في نفسه غير معتدل حقيقي . وأن لم يتوفر عليه ذلك يسم خارجا عن الاعتدال ولو كان في نفسه معتدلا حقيقيا . والمعتدل بهذا المعنى : إما نوعي أو صنفي أو شخصي أو عضوي . وكل واحد منها إما بالنسبة إلى الخارج عنه ، أو إلى الداخل فيه . والنسب المختلفة الواقعة في بسائط الممتزجات ، لا سبيل لنا إلى حصرها . ولولا كثرتها لما كان ما يحصل بسببها من أنواع الكائنات وأصنافها وأشخاصها ، على هذه الكثرة المشاهدة ، التي تفوت أحصانا كثيرة . وسببية المزاج لهذه المتكونات ، كما ستتحقق إنما هو من طريق تحصيل الاستعداد لوجودها ، لا من طريق أنها أسباب فاعلية لها .
____________________
(1/362)
الفصل الرابع في الكائنات التي حدوثها من العناصر بغير تركيب ما يتكون من العناصر من غير أن يكون أحدها جزءا منه ، ينقسم إلى : ما يحدث فوق الأرض ، وإلى ما يحدث فيها . وما يحدث فوق الأرض : فمنه ما سببه إشراق الشمس على المياه والأراضي الرطبة ، فإنها تحلل من الرطب بخارا ، ومن اليابس دخانا . فإذا صعد البخار فربما تلطف ، وصار هواء ، وربما بلغ ( إلى ) الطبقة الباردة من الهواء ، فتكاثف واجتمع سحابا وتقاطر مطرا . وقد يكون السحاب عند تكاثف الهواء بالبرد الشديد ، وربما كان البرد أقوى من ذلك ، فجمد السحاب قبل تشكله بشكل القطرات ، فنزل ثلجا ، أو جمده ، بعد تشكله بذلك ، فنزل بردا . وإن لم يبلغ إلى تلك الطبقة : فإن كان كثيرا صار ضبابا . وإن كان قليلا وتكثف ببرد الليل فإن لم يتجمد نزل طلا ، وإن انجمد نزل صقيعا . وإذا صعد الدخان مختلطا مع البخار ، وارتفعا معا إلى الهواء البارد ، وانعقد البخار سحابا ، واحتبس الدخان فيه : فإن بقي الدخان على حرارته قصد الصعود ، وإن برد قصد النزول . وكيف كان ، فإنه يمزق السحاب تمزيقا عنيفا ، فيحدث منه الرعد .
____________________
(1/363)
فإن اشتعلت ( منه ) النار ، لشدة المحاكة ، حدث منه البرق أو الصاعقة ، أو هما معا ، باختلاف شرائط نجهلها . وإذا وصل إلى كرة النار ، وانقطع اتصاله بالأرض ، واشتعل ، وسرى فيه الاشتعال ، رئي كأن كوكبا يقذف به . وإن لم يشتعل لكنه احترق ودام فيه الاحتراق ، كان على صورة ذؤابة ، أو ذنب أو حية أو حيوان له قرون . وقد تحدث فيه علامات هائلة : حمر وسود . وقد يقف تحت كوكب ، ويدور مع النار بدوران الفلك أياما ، وإذا لم ينقطع اتصال الدخان من الأرض إلى أن يصل إلى كرة النار ، فيشتعل وينزل اشتعاله إلى الأرض . وإذا انكسر حر الأدخنة ببرد الهواء ، ربما تكاثفت وقصدت النزول ، فيتموج بها الهواء ، فتحدث الريح . وربما كان حدوثها من كون الحركة الفلكية ، ترد الأدخنة عند وصولها إلى كرة النار . وربما حدثت من تخلخل الهواء ، وحركته ، من جانب إلى جانب . وقد تلتقي ريحان قويتان مختلفتا الجهة ، فتستديران ، فتحدث الزوابع . والبخار الصقيل يرى على مناسبات المرائي أشباح نور الشمس والقمر . وتلك المناسبات على التفصيل تعلم من المناظر والمرايا . فإذا حدث في الهواء بين الرائي والقمر غيم رطب رقيق لطيف ، لا يستر القمر عن الابصار ، انعكس ضوء البصر من أجزاء ذلك الغيم إلى القمر ، لأن الضوء إذا وقع على صقيل ، انعكس إلى الجسم
____________________
(1/364)
الذي وضعه من ذلك الصقيل ، كوضع المضي منه ، إذا لم تكن جهته مخالفة لجهة المضيء ، فيرى ضوء القمر ، ولا يرى شكله ، لأن المرآة ، إذا كانت صغيرة لا تؤدي شكل المرئي ، بل ضوءه ولونه إن كان ملونا ، فيؤدي كل واحد من تلك الأجزاء ضوء القمر ، فيرى دائرة مضيئة ، وهي الهالة التي تؤدي ( ضوء ) القمر وشبحه جميعا . ومؤدي الشبح يجب ألا يكون على الاستقامة بين الناظر والمنظور إليه ، فإن ذلك يؤدي نفس الشيء لا شبحه . وما سوى ( لوحة 306 ) المؤدي من أجزاء الغيم ، تحت القمر مظلما ، كما يجتاز غيم رقيق في وجه القمر ، فلا يرى . فإذا تجاوزه ظهر ، ( وقد تكون هالة تحت هالة ، وقد يكون للشمس أيضا هالة وهو أعلى الوقوع ) ومتى وجد في خلاف جهة الشمس أجزاء مائية شفافة صافية ، وكان وراءها جسم كثيف ، مثل جبل أو سحاب مظلم ، حتى يكون كحال البلور الذي وراءه شيء ملون ، لينعكس منه الشعاع ، وكانت الشمس قريبة من الأفق ، فإذا واجهنا تلك الأجزاء المائية ، ونظرنا إليها ، صارت الشمس في خلاف جهة النظر ، فانعكس شعاع البصر من تلك الأجزاء ، إلى الشمس ، لكونها صقيلة ، فأدى كل واحد منها لكونه صغيرا ضوء الشمس ، دون شكلها ، ويكون ذلك اللون مركبا ، بحسب تركيب الضوء مع لون المرآة ، مع السحاب ، يسمى ذلك قوس قزح . وسبب استدارة هذه القوس كون الشمس ، لو جعلت مركز دائرة لوجب أن يكون القدر الذي يقع من تلك الدائرة فوق الأرض ، يمر على تلك الأجزاء ، ولو تمت الدائرة ، لكان تمامها تحت الأرض .
____________________
(1/365)
وكلما كان ارتفاع الشمس أكثر ، كانت القوس أصغر ، ولهذا إذا كانت الشمس ( في ) وسط السماء لم تحدث القوس المذكورة . والشمسيات والنيازك ، هي من أشباح النيرين أيضا ، أو لأنه يحصل بقرب الشمس غيم كثيف صقيل ، فيقبل ضوء الشمس في ذاته ، كما يقبله القمر . والزرقة التي ترى كأنها لون السماء ، سببها أن الأجسام الفلكية شفافة ، فلا ترى ، وما لا يرى فهو مظلم . والهباءات والأبخرة الحاصلة في الجو مرئية ، فكأنه يرى شيء ولا يرى شيء ، فيتولد لون من السواد والبياض هو الزرقة ، وهو من أوفق الألوان للابصار ، وذلك هو فائدته . واستضاءة الجو إنما هي ، للهباء المبثوث في الهواء ، لا للهواء نفسه . وهذه الهباءات لصغرها ، لا تحرق الهواء فينزل . ولو كان ما ليس بملون قابلا للضوء ، لما رؤيت الكواكب في الليل ، لأن الأرض أصغر من الشمس بأضعاف متضاعفة ، كما شهدت به مباحث علم الهيئة ، فلا تكون حاجزة بين الشمس ، وبين ما نشاهده من السماء في الليل . وليس ذلك إلا لأن السماء لا تقبل الاضاءة ، لعدم تلونها . وكوننا لا نشاهد الكواكب في النهار ، هو أن حس البصر ، إذا اشتغل برؤية ضوء كثير ، فإنه لا يرى ما ضعف عنه كبيرا . كما إذا كنا بين مشاعل كثيرة في الليل ، فلا نرى الكواكب ومن
____________________
(1/366)
بعد عن تلك الأضواء يراها بهواء الجو ، لعدم تلونه على صرافته ، لا يستضيء إلا بمخالطة ماله لون . وقد تحدث من بقية مادة الشهب السموم ، مع أنه قد يكون أيضا من عبور الريح ، على أرض غلب عليها التسخن . وأما ما يحدث في الأرض فهو إما على وجهها أو تحتها . فمن ذلك ارتفاع الجبال والتلال . وسببه أن الحر العظيم إذا صادف طيفا كثيرا لزجا ، اما دفعه أو على مرور الأيام ، عقده حجرا عظيما . وذلك الطين بعد تحجره تختلف أجزاؤه في الصلابة والرخاوة . والمياه القوية الجري ، أو الرياح العاصفة ، تحفر الرخوة فتبقى الصلبة مرتفعة ، لكون الرياح والسيول لا تزال تغوص في تلك الحفر . وقد تتكون الجبال من تراكم عمارات تجزأت في أزمنة متطاولة ، ومن غير ذلك . ومنافع الجبال كثيرة ، فإن كثيرا من العيون والسحب والمعادن تتكون فيها ، أو فيما يقرب منها ، فإنها لصلابتها لا تنفصل الأبخرة عنها ، بل تحتقن فيها ، فتصير مبدأ للعيون ، كما ستعرف . ويشبه أن يكون مستقر الجبال مياها ، وقد شبهت الجبال بالأنابيق والأراضي التي تحتها بالقروع ، والعيون بالأذناب ، والبحار والأودية بالقوابل ، وفي باطن الجبال من النداوات ما ليس في سائر الأراضي ، وهي بسبب ارتفاعها أبرد ، فتبقى على ظواهرها من الأنداء والثلوج ، ما لا تبقى على غيرها . والأبخرة المتصاعدة تحتبس فيها ، فلا تتفرق ، ولا تتحلل . وكل ذلك ، مما يوجب تكون السحب ، ولكون مواد المعادن ، وهي الأبخرة الباقية مدة مديدة ، في موضع واحد ، يوجد فيها كثيرا ، كانت المعادن فيها كثيرة .
____________________
(1/367)
وسبب ارتفاع القدر المكشوف من الأرض ، هو ما يحصل في بعض جوانبها من الجبال والتلال ، وفي غيره من الأغوار والوهاد ، لأسباب لم يطلع عليها . فيسيل الماء بالطبع إلى المواضع العميقة ، وتنكشف المواضع المشرفة . وتختلف المواضع المسكونة من الأرض في : الحر والبرد ، والرطوبة واليبوسة ، وغير ذلك من أحوالها ، بسبب أوضاعها من السماويات ، وعلى حسب مسامته الشمس لها ، وقربها وبعدها من مسامتها وبسبب مجاورة البحار والجبال ، والبعد عنها ، وبأسباب أخرى لا تكاد تنضبط لنا كثيرة ، قد ذكر ما عرف منها في كتب الطب ، ولا يليق ذكره ههنا . وربما اختلف ذلك ، أو تبدل ، بحسب تبدل الأسباب الموجبة له من السماوية وغيرها . فلا يتشابه حال الموضع الواحد ، في جميع الأوقات والأدوار . والحركة التي تعرض لجزء من أجزاء الأرض ، وهي الزلزلة ، فسببه ما يتحرك تحتها ، فيحرك ما فوقه . فإنه إذا تولد تحت الأرض : ريح أو بخار أو دخان ( لوحة 307 ) أو ما يناسب ذلك ، وكان وجه الأرض متكاثفا عديم المسام ، أو ضيقها جدا ، وحاول ذلك الخروج ، ولم يتمكن لكثافة الأرض ، تحرك في ذاته ، وحركها . وربما شق الأرض ، لقوته . وقد تنفصل منه نار مخيفة أو أصوات هائلة . وقد يكون تحت الأرض ثقب واسعة ، ومواضع مثل العيدان فأنهدت ، وانهد ما قابلها من : الجبال والبلاد . وقد تحدث الزلزلة في موضع ، فهدت قلة جبل ، فتحدث من سقوطه الزلزلة ، في ناحية أخرى . وقلما تعرض الزلزلة في الصيف ، والكسوفات مما كانت سببا للزلازل ، لفقدان الحرارة الكائنة عن الشعاع دفعة .
____________________
(1/368)
وحصول البرد الحاقن في تجاويف الأرض بالتجفيف بغتة . والبرد الذي يعرض بغتة يفعل ما لا يفعله العارض بالتدريج . والأبخرة التي تحدث تحت الأرض إن كانت كثيرة ، وانقلبت مياها ، انشق منها الأرض . فإن كان لها مدد حدثت منها العيون الجارية . ( و ) تجري على الولاء ، لضرورة عدم الخلاء ، إذ ليس للهواء مدخل بين ما خرج وما يتبعه . فإنه كلما استحال ما في باطن الأرض من الأهوية والأبخرة المحتبسة ماء ، بسبب ما يعرض لها من شدة البرد ، جرت تلك المياه من الأعالي إلى الأسافل ، فانجذب إلى مواضعها هواء أو بخار آخر ، إذ لو لم ينجذب إليها ذلك ، لبقيت خالية . ثم تبرد ذلك الهواء أو البخار بالبرد الحاصل هناك ، فينقلب ماء أيضا . ثم يجري فيستمد هواء أو بخارا غيره . ولا يزال الأمر كذلك إلا أن يمنع منه مانع ، يحدث تدريجا أو دفعة ، ومتى لم يكن لتلك الأبخرة والأهوية مدد حدثت منها العيون الراكدة . وإن لم تكن الأبخرة كثيرة ، وأزيل عن وجهها ثقل التراب . صادفت منفذا ، واندفعت إليه . فإن كان لها مدد حدثت منها القنوات الجارية ، وإلا فلا . وقد يكون سبب العيون والقنوات ، وما يجري مجراها ، ما يسيل من الثلوج ومياه الأمطار ، لأنا نجدها تزيد بزيادتها ، وتنقص بنقصانها ، ولو كان سببها هو الأول فقط ، مع أن باطن الأرض في الصيف أشد بردا منه في الشتاء ، لوجب أن تكون هذه في الصيف أزيد ، وفي الشتاء أنقص ، والتجربة دلت على خلافه .
____________________
(1/369)
وهذه الأمور التي حكم بأنها أسباب لم يحدث من العناصر ، بغير تركيب ، منها ما يشهد بكونه سببا النجربة والحدس . وقد نجد أمثالها مشاهدة ، كما يرى في الحمام من تصاعد الأبخرة وانعقادها ، وتقاطرها ، وما نراه من تكاثف ما يخرج من الأنفاس في البرد الشديد ، كثلج وكروية شبه ألوان قوس قزح في قطعة كاغد ، أو ما يجري مجراها ، إذا كانت موضوعة على ماء راكد . وكانت الشمس على أحد الأفقين ، وغير ذلك من أحوال المرايا ، وما نرى فيها من الصور والألوان . وهذا كله وأمثاله من التجارب تحقق أنها أسباب ، وإنما يتم تحقق ذلك ، بما ينضم من القرائن والأحوال ، التي توجب الحدس المفيد لليقين . وقد يختلف ذلك بحسب اختلاف أحوال الناس ، فيحصل اليقين بذلك لبعضهم دون بعض . وما ذكر من الأسباب لهذه التي لا تحدث بتركيب ، لا مانع أن تكون في نفس الأمر لها أسباب غيرها ، لجواز أن توجد للواحد بالنوع علل متعددة ، وجاز أن يكون حدوث ذلك النوع عن بعضها أكثريا ، وعن بعضها أقليا . وقد يكون في جملة ما ذكر من الأسباب ، ما هو صالح للسببية فقط ، وإن لم يكن سببا في الواقع . ويجب أن نعلم أن من الأسباب المذكورة لهذه ما يحكم الحدس بأنه غير تام السببية ، بل يحتاج إلى انضمام قوى روحانية ، لولاها لما كانت كافية في إيجاب ما هي أسبابه .
____________________
(1/370)
فإن من الرياح والزوابع ، ما يقلع الأشجار العظام ، ويختطف المراكب من البحار . ومن الصواعق ما ينزل إلى قعر البحر ، فيحرق ما يمر به ، من الحيوانات التي فيه . وربما وقع على جبل فدكه ( دكا ) وقد يكون جرم الصاعقة دقيقا مثل حد السيف ، فيقطع ما يصادفه من الأشياء الصلبة بنصفين ، ولا يكون مقدار الانفراج إلا قليلا . هذا ، مع أن مادتها ، قد قيل : إنها تكون لطيفة جدا ، لشدة تسخنها . واللطافة توجب شدة الانفعال ، لا قوة الفعل ، لا سيما ، مثل هذه الأفعال العظيمة . وقد تنفذ في النبات والأشياء الرخوة ، وتنصدم بالأشياء الصلبة : كالحديد والذهب ، فتذيبها ، حتى تذيب الذهب في الكيس ، ولا تحرق الكيس ، وتذيب ذهب المراكب ، ولا تحرق السير . ومن الكواكب ذوات الأذناب ما يبقى شهورا عديدة ، وقد يعد فيها ماله حركتان : طويلة وعرضية . والأسباب المادية ( والفاعلية ) التي ذكرتها لا تكفي في هذه وأمثالها ، بل لا بد من القوى الروحانية ، حتى تتم هذه الأمور وما يجري مجراها . وليس في قوة من شاهدناه ، أو سمعنا به ، من البشر ، أن يعرف العلل التامة ، لكل واحد واحد ، من هذه المتكونات على ( لوحة 308 ) التفصيل ، بل ولا أن يحصرها ، فضلا عن أن يحيط بعلة كل واحد منها . وإذ لا سبيل لنا إلى استقصاء ذلك ، فالاقتصار على هذا القدر منها ، هو أحرى وأولى .
____________________
(1/371)
فارغة
____________________
(1/372)
الفصل الخامس في ما يتكون عن العناصر بتركيب منها وهو لمواليد الثلاثة : المعدن والحيوان والنبات كل مركب من العناصر ذي صورة ، فإما ألا يتحقق لنا كون صورته مبدأ للحس والحركة الارادية ، أو يتحقق لنا ذلك . والأول ، إن لم تتحقق في صورته مبدئية التغذية والنمو والتوليد ، فهي المركب المعدني . وإن تحقق لنا ذلك ، فهو المركب النباتي . والثاني هو المركب الحيواني . فهذا ( هو ) وجه الحصر في الثلاثة . وإنما قلت : إما ألا يتحقق لنا كذا ، أو يتحقق ، ولم أقل : إما ألا يكون كذا ، أو يكون لتجويز حس أو حركة إرادية للنبات ، أو تغذية ونمو توليد للمعدن ، فإنا لم نعلم ذلك ولا نتحققه . ومن المحتمل أن يكون لكل متكون من الأجسام شعور ما ، فإن الطبيعة لو لم تقتض لذاتها شيئا كائنا ما مثلا ، لما حركت الجسم إليه ، فمقتضاها أمر ثابت دال على وجود ذلك الشيء لها بالقوة ، قبل وجوده بالفعل . وجاز أن يكون ذلك كالوجود الذهني الذي لنا ، فيكون لها شعور بذلك الشيء ، ويكون ( هو ) العلة الغائبة لفعلها . وأذكر أنه قد شوهد بعض الاناث من النخل يتحرك إلى جهة بعض الذكور منها ، دون بعض في حال تكون الريح إلى خلاف تلك
____________________
(1/373)
الجهة ، وكذا ميل عروقها إلى الصوب الذي فيه الماء في النهر ، وانحرافها في صعودها عن الجدار المجاور لها . وهو مما يؤكد أن للنخيل من النبات شعورا ما ، وإدراكا ، وإن كان لا يوجب الجزم بذلك في المبدأ القريب له ، بل ( في ) المبدأ البعيد المدبر ، نفسا كان أو عقلا ، ممكنا كان أو واجبا . وسيأتيك تحققه . وكل واحد من المعادن والنبات والحيوان ، جنس لأنواع ، لا تنحصر لنا ، بعضها فوق بعض . ويشتمل كل نوع منها على أصناف ، وكل صنف على أشخاص ، لا سبيل لنا إلى حصرها . والمزاج المعد لكل جنس منها له غرض بين حدين لا يتجاوزهما . ويشتمل غرضه على أمزجة نوعية ، كل منها بين حدين ( لا ) يتجاوزهما النوع . وكذلك يشتمل المزاج النوعي على أمزجة صنفية ، والصنفية على أمزجة شخصية . ولكل واحد من المواليد صورة نوعية مقومة ، هي كماله الأول منها تنبعث كيفياته المحسوسة وغيرها من كمالاته الثواني . وتكون المعادن هو من امتزاج الأبخرة والأدخنة المحتسبة في باطن الجبال والأرضين ، امتزاجا على ضروب ، بحسب اختلاف الأمكنة وفصول السنة والمواد . فإن في بعض الأراضي قوى مولدة لمعادن مخصوصة ، ولهذا لا تتولد تلك في أي بقعة اتفقت . وكذلك حال الأزمنة ، بسبب مسامته الشمس وانحرافها عن المسامتة ، وأحوال أخرى لا يطلع عليها .
____________________
(1/374)
وما غلب فيه البخار على الدخان ، وانعقدا صافيين انعقادا تاما ، كان منه جواهر غير متطرقة ، عسرة الذوب ، أو ممتنعة ، كالبلور والياقوت ونحوهما . والكبريت يحصل من بخار امتزج مع دخان وهواء امتزاجا تاما ، حتى حصل فيه دهنية . والزئبق من بخار ممتزج مع دخان كبريتي امتزاجا محكما ، لم ينفصل عنه . وقد يشبه تكونه بقطرات الماء التي تغشاها أجزاء ترابية ، كالغلاف لها . فإذا لاقت قطرة منها قطرة انحرق الغلافان ، صائرين غلافا واحدا لهما ، لأنه من مائية خالطت أرضية لطيفة كبريتية مخالطة شديدة ، حتى إن كل جزء يتميز منها ، يغشاه شيء من تلك اليبوسة ، كأنها جلدة لذلك الجزء المتميز . وسبب بياض الزئبق هو صفاء مائيته ، وبياض أرضيته اللطيفة ، وممازجة هوائية له . وإذا امتزج البخار والدخان امتزاجا أقرب إلى الاعتدال ، كان منهما الأجساد المتطرقة الصابرة على النار ، الذائبة بها . وهذه هي كالذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص الأبيض والأسرب والخارصيني . ومن هذه ما يقبل الذوب بسهولة كالرصاص ، ومنها ما لا يقبله إلا بالحيلة كالحديد ، ولعل هذه السبعة مركبة من : الزئبق والكبريت ، ولهذا ما يرى الزئبق متعلقا بها ، ومتدحرجا فيما أذيب منها . وإذا عقد الزئبق برائحة الكبريت ، كان كالرصاص . ويشبه أن يكون اختلاف هذه ، بسبب أن الزئبق والكبريت إذا كانا صافيين ، وكان انطباخ الزئبق بالكبريت انطباخا تاما ، فإن كان الكبريت أحمر ، وفيه قوة صباغة لطيفة ، غير محرقة ، تولد الذهب ، وإن كان الكبريت أبيض تولد الفضة .
____________________
(1/375)
وإن كانا نقيين ، وكان في الكبريت قوة صباغة ، لكن قبل الأرضية فيه ، وقلة المائية والدهنية ، كالمرقشينيا والطلق . وما يتطرق استكمال النضج وصل إليه برد عاقد ، تولد الخارصيني . وإن كان الزئبق نقيا ، والكبريت رديئا ، فإن كان في الكبريت قوة احراقية تولد النحاس . وإن كان الزئبق غير جيد المخالطة للكبريت ، تولد الرصاص الأبيض . وإن كان الزئبق ( لوحة 309 ) والكبريت رديئين ، فإن كان الزئبق متخلخلا أرضيا ، وكان الكبريت مع رداءته محرقا تولد الحديد . وإن كانا مع رداءتهما ضعيفي التركيب ، تولد الرصاص الأسود ، وهو الأسرب ، وما يذوب من المعادن ولا يتطرق كالزجاج ، فلغلبة مائية وقلة دهنية وأرضية . وما لا يذوب ولا يتطرق ، ويصعب تحليله ، فلغلبة الأرضية فيه ، وقلة المائية والدهنية ، كالمرقشينا والطلق ، وما يتطرق ويذوب ، فللدهنية المحفوظة ، الغير التامة الانعقاد ، والمائية الخائرة ، وما يشتعل فيه النار ، ففيه غلبة هوائية أو نارية . وكل ما ينعقد بالحر ، يذيبه البرد كالملح ، وما ينعقد بالبرد يذيبه الحر كالشمع . والحجارة تتكون من طين تطبخه الحرارة ، وإذا غلب الدخان على البخار يولد جواهر غير متطرقة ولا ذائبة بالنار وحدها ، مثل النوشادر والملح ، ولهذا قد يتخذ النوشادر من سخام الأتون بالتصعيد ، والملح من الكلس والرماد ، بأن يطبخ في الماء ، ويصفى ، ويطبخ حتى ينعقد ملحا . والنوشادر يقرب تكونه من الملح ، إلا أن النار فيه أكثر ، ولذلك لا يبقى عند التصعيد شيء منه أسفل . وتفصيل هذا يستدعي تطويلا ، ويكتسب منه صناعات كثيرة .
____________________
(1/376)
وقد ظهر مما ذكر أن الجواهر المعدنية إما متطرقة ، كالأجسام السبعة ، أو غير متطرقة ، وهي إما أن يكون عدم قبولها للتطريق لغاية صلابتها كالبلور والياقوت ، أو لغاية لينها ، كالزئبق . والتي في غاية الصلابة : أما أن تنحل بالماء ، كالملح والنوشادر ، وأما ألا تنحل به ، كالكبريت والزرنيخ . وفي بعض المعدنيات نورية معرجة ، كالياقوت والذهب ، وأكثر أحكام هذه المعادن في تركيبها وغيره ، يحققه الحدس والتجربة ، على قياس ما مر في الآثار العلوية - والسفلية . وتكون النبات هو من امتزاج للعناصر ، أتم من الامتزاج الواقع في المعدنيات ، وأقرب إلى الاعتدال ، وأبعد عن بقاء التضاد في الكيفيات الممتزجة ، فلهذا يستعد لقبول صورة أشرف من صورها ، حتى يحصل فيه الآثار ، ما لا يحصل في تلك ، أو ما هو أقوى وأظهر مما فيها ، كالتغذية والنمو والتوليد ، التي يذكر أحكامها عند الكلام في النفس . وإنما احتاج إلى التغذية ، لينحفظ إذا كان كاملا ، واحتاج النمو ليكمله مع ذلك إن كان ناقصا . وكلاهما بحسب الشخص . واحتاج إلى التوليد بحسب النوع ليستبقي بحصول أمثاله . وينقسم النبات تقسيمات كثيرة ، وفيه آلات تجري مجرى آلات ، الحيوان ، كالعروق لتأدية الغذاء ، وكالقشور الجارية مجرى الجلد ، وكالشوك والسلي الجاري مجرى القرون والمخالب ، التي هي كالسلاح للحيوان ، يدفع به بعض الآفات الخارجية . وأصله الذي في الأرض يجري مجرى الرأس ، ولهذا إذا قطع بطلت قواه .
____________________
(1/377)
والكلام في النبات طويل ، وقد أفرد له كتب ذكر فيها ما وقف عليه من أحكامه . وفي علم الطب ذكر كثير من قواه وأفعاله في بدن الانسان ، ولا يلائم هذا الكتاب ذكر شيء من ذلك . وتكون الحيوان هو من مزاج أقرب إلى الاعتدال وأحسن وأتم من الأمزجة النباتية ، ولهذا استعد لقبول كمال هو أكمل من الكمال الثاني ، ولأجل ذلك ظهر عنه أفعال القوى النباتية ، وزيادة أفعال قوى أخر : كالحركة الارادية والادراكات التي ليس للنبات مثلها ألبتة ، وأن كان له شيء منها ، فهو أضعف بكثير مما للحيوان ، وأخفى ، بحيث هو من الخفاء إن كان حاصلا إلى حد الشك فيه ، كما مر . وإنما كان المزاج الأعدل أقبل للكمال للتجربة ، ولأن انكسار تضاد الكيفيات واستقرارها على كيفية متوسطة ووحدانية ، هو نسبة مالها إلى مبدئها الواحد ، ونسبتها تستحق ، لأن تفيض عليها صورة أو نفس تحفظها . فكلما كان الانكسار أتم كانت النسبة أكمل ، والنفس الفائضة بمبدئها أشبه . ولهذا كانت الأرواح التي تقرب الأجزاء الثقيلة والخفيفة فيها من التساوي ، هي أول شيء تتعلق النفس به ، وهي التي تقبل القوى النفسانية والحيوانية والطبيعية . ولأجله كان إذا وقعت شدة في موضع أمن البدن ، تمنع ( من ) نفوذ الروح المذكورة إلى عضو عدم ذلك العضو الحسي والحركة الارادية إلى أن تتمكن الروح من النفوذ إليه . وإطلاق لفظة الروح على هذه ، وعلى النفس الناطقة بالاشتراك . ومن وقف على هذا علم علما يقينيا بالحدس ، ان لاعتدال المزاج تأثيرا قويا ، في ازدياد الكمال الفائض على المواليد العنصرية ، من المبدأ الفاعل له .
____________________
(1/378)
وينقسم الحيوان إلى ناطق وأعجم : فالناطق ، ما يتحقق له إدراك كلي ، كالانسان ، والأعجم ما لا يتحقق له ذلك ، وإن جاز كونه له في نفس الأمر ، لكن لم يتحقق لنا ذلك . ونحن فلم نشاهد من الناطق إلا نوع الانسان ، لكنا سمعنا بأنواع أخرى ، كالجن وغيرهم . وأما الحيوانات العجم فأنواعها ( لوحة 310 ) كثيرة ، تفوت الاحصاء . وتحت الأنواع أصناف ، وتحتها أشخاص ، وقد تكلم في هذه الأقسام كلاما طويلا في الكتب المختصة به ، وكذلك في أعضائها ، ومنفعة عضو عضو منها ، لا سيما فيما يختص بالانسان ، في كتب الطب ، وغيرها . وسيرد في علم النفس ، وبيان حكمة الباري ، جل جلاله في مخلوقاته كلام يتعلق بهذا الموضع ، أخرته لكون ذكره هناك أنسب وأنفع .
____________________
(1/379)
فارغة
____________________
(1/380)
الفصل السادس في اثبات المحدد للجهات وذكر لوازمه وجود الأجسام السفلية المتحركة حركة مستقيمة ، دلت من حيث مسافة حركتها على ثبوت جهتين محدودتين مختلفتين بالطبع . ولولا اختلافها بالطبع ، لما كان كون بعض الأجسام متوجها إلى إحداهما ، وبعضها متوجها إلى الأخرى ، كالنار والأرض مثلا ، بأولى من العكس . ولو كان خلاء فقط ، أو أبعاد مفروضة ، أو جسم واحد فقط ، غير متناه ، لما أمكن أن يكون للجهات المختلفة بالنوع وجود ألبتة ، فلا يكون فوق وأسفل ، ويمين ويسار ، وخلف وقدام . ولا يمكن أن تكون الجهة ذاهبة إلى غير النهاية ، لأن كل جهة موجودة ، فإليها إشارة ، ولذاتها اختصاص وانفراد عن جهة أخرى . وذاتها لا تخلو : إما أن تكون متجزئة ، أو غير متجزئة ، فإن كانت متجزئة ، فالأبعد من جزئيها عن المشير ، هو الجهة ، فلا تكون الجهة بكليتها جهة ، بل بعضها هو الجهة . ويلزم أن يكون لها امتداد في جهة ، فلا تكون نفسها جهة . وإن كانت غير متجزئة ، فلها وضع لا محالة ، وإلا لم يكن إليها إشارة . وكل ماله وضع ، وهو غير منقسم ، فهو حد وغاية ، لا يكون ما وراءه منه .
____________________
(1/381)
فالجهات محدودة بأطراف ، وما لا يتناهى لا حد فيه بالطبع ، بل عسى أن يكون فيه ذلك ، أو له بالفرض . وكل حد يفرض فيه فلا يخالف الآخر ، إلا بالعدد ، لأن كل الحدود والأطراف المفروضة فيه هي في طبيعة واحدة ، فليس بعضها بالفوقية ، وبعضها بالسفلية ، أولى من العكس . وإذا فرضت الجهات المتقابلة في جسم واحد متناه ، على أنها مسطحة ، أو في عمقه ، فذلك غير جائز أيضا ، لأن سطحه إن كان كريا لم يكن ما يفرض فيه مختلفا بالنوع . وإن كان مضلعا فليس ذلك بطبيعي له ، فإنه قد بين قبل ، أن الشكل الطبيعي للبسيط ، هو الكرة . والجهات الطبيعية لا تلزم الأمور الخارجة ، عن الطبع ، وترد فيه زيادة بيان . ومع ذلك فإن اختلفت الجهات فيه ، بحسب تقابل السطوح ، أو أضلاعها ، فاختلافها بالعدد ، لا بالنوع . وإن اختلفت بحسب أن الذي على النقطة يخالف ما على الخط ، أو الذي على الخط يخالف ما على السطح ، فلا يقع بسببه غاية الاختلاف الواقع في مثل العلو والسفل . وكذا لو فرضت الحدود في عمقه . وإن كان حد في سطحه ، وآخر في عمقه ، فالذي في العمق يجب ألا يكون على أي نقطة اتفقت من العمق ، بل التي هي في غاية البعد عن السطح ، وتلك هي المركز ، لا سيما إن كان الشكل طبيعيا ، وهو المستدير ، فلا تتحدد جهتا العلو والسفل بالجسم الواحد ، ألا بالمحيط والمركز . فأما إذا كانت الأجسام كثيرة ، فإن اتفق نوعها لم يحصل بسببها الجهات المتضادة ، وإن اختلف نوعها ، وجب أن يكون على عدد الجهات بعددها ، اللهم إلا أن يكون علة ذلك ، لا الاختلاف المطلق ، لكن اختلاف معين .
____________________
(1/382)
ولا جائز أن يكون ذلك مقتصرا على اختلاف الطبيعتين من غير اختلاف الوضعين ، وإلا لم تكن علة ، لقضاء الجهات ، لأن إحدى الجهات إذا تعينت تعينت الأخرى ، وكانت على بعد محدود ، ولم يمكن أن تتوهم زائلة عن حدها . ولو لم يعرف اختلاف الوضع ، لكان التضاد يقع بين الجهتين ، كيف كان وضع أحدهما من الآخر ، وبعده منه ، فكانت الجهة تنتقل بانتقال أحد الجسمين ، وليس كذا ، بل إذا تعينت إحدى الجهتين تعينت الأخرى في حدها وبعدها ، ولم تنتقل البتة ، فلا بد مع اختلاف طبيعتي الجسمين من وضع محدود ، وبعد مقدر . ولا يمكن أن يكون هذا أيضا إلا على سبيل مركز ومحيط . وإلا فإذا فرض أحدهما بجانب من الآخر ، لم يكن اختصاصه بذلك الجانب لطبيعته ، وإلا لكان ذلك الجانب مباينا لسائر الجوانب ، لا بسبب هذا الجسم ، إذ لو كان لسببه ، لكان حيث يكون ، فحاله كحاله مع هذا الوضع بعينه . وإذا لم تكن طبيعته تقتضي ذلك الاختصاص ، بل اقتضت أي بعد كان ، مما مساو لهذا البعد : فإن كان ذلك الجسم محيطا ، كان هذا محاطا به ، ومكانه محاط ذلك الجرم ، وعلى قياس مركزه . إذ نعني بالمركز ههنا كل محاط ، لا نقطة بعينها ، وإن كان غير محيط ، فالبعد المساوي منه كيف كان هو متحدد لا محالة بمحيط بذلك الجسم فإن الخلاء لا يحدده . وقد فرض هذا غير محيط ، وعلم أن اختصاصه بذلك من جملة ماله أن يحصل فيه ، فهو عن سبب خارج ، وتجوز مفارقته لذلك الموضع بعينه ، فهو حاصل متميز ( لوحة 313 ) ، قبل حصول هذا الجسم فيه ، فلا يكون سبب تحدده ، وقد كان فرض أنه محدد له ، هذا محال .
____________________
(1/383)
ومتى كان الجسم المحدد محيطا كفى ، لتحديد الجهتين ، لأن الاحاطة تثبت المركز ، فتثبت غاية البعد منه ، وغاية القرب ، من غير حاجة إلى جسم آخر . ولو فرض المحدد محاطا تحدد به القرب ، ولم يحدد البعد ، فلم يكف لتحديد الجهتين ، وإلا لكانت جهة البعد تتحدد بالخلاء ، بل لا بد من جسم محيط ، لتحديد الجهة الأخرى . وإجمالي هذا الكلام هو أن يقال : أن التحديد إنما يكون بجسم مستدير ، أو أجسام مستديرة ، لأن المحدد يجب أن يكون جسما طبيعيا . ولو كان المحدد جسمين أو أكثر لزم أن يكون قد تحددت الجهة من قبل الجسمين أو الأجسام ، وأن تكون تلك الأجسام يصح عليها مفارقة أمكنتها . ومحدد الجهات ، - كما ستعرف - لا يصح عليه مفارقة مكانه ، ولو كان المحدد جسما واحدا مستديرا ، من حيث هو واحد ، وتحدد منه سطح القرب ، وسطح البعد ، لزم أن يكون شيء واحد مطلوبا مهروبا عنه ، فيجب أن يكون الجسم المستدير المحدد يحدد بمحيطه ومركزه . وههنا وجه آخر في إثبات محدد ( الجهات ) مبني على تناهي الأبعاد . وتقريره أن الاشارة الحسية لكون الأبعاد ، ولا بد وأن تكون متناهية ، كما مر ، غير ممكن ذهابها إلى ما لا نهاية له . وكذا المتحرك القاصد جهة ، والجهة المشار إليها ، والمقصودة بالحركة ، لا بد وأن تكون موجودة في نفسها ، وإلا لم تصح تلك الاشارة والقصد ، فإنه ليس حال ما يتحرك حركة مكانية كحال ما يتحرك من كيفية إلى كيفية مثلا ، فإن الكيفية المتحركة إليها متحصلة بنفس الحركة ، وليست الجهة للحركة الأينية كذلك .
____________________
(1/384)
أن تكون جسما ، لأنه لا شيء ، من الجهة يقابل للتجربة ، وكل جسم قابل لها ، فلا شيء من الجهة بجسم . منه ، إن وقف ، فما وصل إليه هو الجهة ، لا ما وراءه . وإن لم يقف : فإما أن يكون متحركا إلى الجهة ، أو عنها أو فيها . وبيان الصغرى أن وضع الجهة في امتداد مأخذ الاشارة والحركة ، ذلك الامتداد ، فالمتحرك الواصل إلى ما يفرض لها ، أقرب الجزأين ولكون الاشارة إليها حسية ، وجب أن تكون ذات وضع ، وكل ذي ولو كان وضعها خارجا عن ذلك ، لما كانتا إليها . فلو انقسمت في وضع : فإما جسم أو جسماني ، فالجهة إما جسم أو جسمانية ولا جائز . وهذا الثالث يرجع إلى الأولين ، فإن الحركة في المنقسم ، لا بد وأن تكون إما إلى جهة غير جهته ، وإلا لكانت المسافة المقطوعة بالحركة ، هي الجهة ، وهو ظاهر البطلان . وإذا كان متحركا إليها أو عنها ، فعلى التقديرين يكون جزء الجهة ، هو كلها ، وذلك ممتنع ، فالجهة جسمانية وهي في حد الامتداد المذكور غير منقسم لا بالفعل ، ولا بالقوة . وكل جهة تشتمل على مأخذين ضرورة . والجسم المحدد لها لا يجوز أن يتركب من أجزاء مختلفة ، لكون تلك الأجزاء يجب كونها حينئذ مختلفة الجهات ، وجهاتها متقدمة عليها لا محالة ، وهي متقدمة على الجسم المركب منها ، والمتقدم على المتقدم متقدم ، فتقدم الجهات على محددها ، هذا خلف . فإذن المحدد يكون بسيطا في نفسه ، ويكون شكله هو الكرة ، إذ هو الطبيعي لكل جسم بسيط ، كما عرفت ، وهو لم يكن كري الشكل ، لأمكن عوده إليه عند فرض زوال القاسر .
____________________
(1/385)
وتغير الشكل لا يخلو من حركة مكانية من جهة إلى جهة ، فتكون الجهة قبل محددها ، فيعود الخلف المذكور . وأيضا ، فلو لم يكن كريا ، لكان بعض أجزائه أعلى من بعض ، مع أنه لا أولوية في تعين بعض أجزائه للعلوية وبعضها للسفلية . ولا يقع التمييز فيما هو داخل فيه ، باعتبار الجهة ، لا بالمركز والمحيط . فتتحدد به جهتان هما مأخذا امتداد واحد ، لا غير . ومن تأمل ما قيل تأملا جيدا ، فلا يشك في وجود جسم هو منتهى الاشارات الجسمية ، محيط بكل الأجسام ، غير مركب ، وغير متحرك بالحركة المستقيمة ، وإلا لكان لحركته جهة مفتقرة إلى تحدد غيره . وسيأتي لذلك مزيد تقرير . والمحدد تتعين به أوضاع الأجسام ، وأماكنها ، ويتقدم على جميع الحركات والسكنات الطبيعية والقسرية بالطبع ، وإن كان وضعه يتعين بما تحته ، لا بمعنى أن يتعين وضع كل واحد منهما بتعين وضع الآخر ، وإلا لزم الدور ، بل بمعنى أن يتعين وضع الأجزاء ، ووضع كل واحد منهما بوجود الآخر وبذاته ، لا يتعين وضعه . والمحدد ليس بعض أجزائه المفروضة فيه ، إذ لا جزء له بالفعل ، كما سبق ، أولى بما هو عليه من الوضع والمحاذاة من غيرهما . فكل وضع معين له . فهو من الأحوال الممكنة اللحوق ( به ) ( لوحة 312 ) ، وكل ممكن اللحوق فممكن التبدل ، باعتبار ذاته ، وإن جاز أن يمنع من تبدله أمر خارجي . فوضع المحدود ممكن التبدل ولا يتأتى تبدله إلا بالحركة ، ولا تتصور حركته إلا بتبديل نسبته : أما إلى داخل فيه ، أو إلى خارج عنه .
____________________
(1/386)
وإذ لا خارج عنه - وإلا لكان متحدد الجهة بما فوقه - فلا يكون محددا لكل الجهات . وكلامنا إنما هو في المحدد لكلها ، فيصير تبدل النسبة إلى الداخل . وهذه النسبة لا تتبدل ، على تقدير أن يكون هو وجميع ما فيه متحركا ، لأنه يلزم ألا يتعين لتلك الحركة صوت . ولا يتصور تمام دوره ، إلا إذا وصل المفروض حرا إلى حيث فارق . ومتى لم يكن في داخله ما هو ساكن لم يكن ذلك الاستتمام وحركتاهما لو تساويتا ، لم يتصور تبدل النسبة ولو فضلت إحداهما على الأخرى . فالذي فضلت حركته متحرك ، والآخر في حكم الساكن . فإذا تحرك المحيط ، فيجب سكون شيء مما في حشوه ، فإن بحركته تتبدل نسبة كل واحد منهما ، إلى الآخر ، ولو كان الجسم الذي تختلف نسبة الأجزاء إليه متحركا ، جاز أن تختلف نسبة أجزاء الجسم الثاني ، إلى الجسم الأول ، مع سكون من الأول ، فليس يكون لأحدهما اختصاص باختلاف النسب ، من دون الآخر ، فلا يكون هناك حركة خاصة بأحد الجسمين . وأما الساكن فلا تختلف النسب فيه إلا إلى المتحرك ، فلا بد مع وجود الحركة الوضعية ، من وجود جسم ثابت . فإنه ما لم يكن وضع ، لم تكن حركة وضعية .
____________________
(1/387)
كما أنه إذا لم يكن أين ، لم تكن حركة في الأين ، ولا سكون فيه . وما لم ( يكن ) جسم ثابت ، لم يكن وضع يختلف معه نسب الحركات . وكما لا بد من وجود جسم مستدير ، حتى توجد الحركة المستقيمة ، فكذلك لا بد من وجود جسم ثابت ، حتى توجد الحركة المستديرة الوضعية . والحركة المستقيمة ممتنعة على محدد كل الجهات ، إذ لو تحرك كذلك ، لكان له حيز طبيعي ، من شأنه أن يفارقه ويعاوده . فيكون وضعه الطبيعي متحدد الجهة ، لأجله لا به ، لأنه قد يفارق موضعه ، ويرجع إليه ، وهو في الحالين ذو جهة . فتكون جهته متحددة عند وجوده فيه ، وعند لا وجوده ، فيكون محدد جهة موضعه الطبيعي جسما غيره . وما لم توجد الجهة ، لا تقع الحركة نحوها ، فتلك الجهة إما متقدمة عليه ، أو معه . وكيف كان ، لم يكن هو محددا لكل الجهات ، وفرض محددا ( لها ) ، هذا خلف . وأيضا ، فلو صح عليه الانتقال بالحركة المستقيمة ، لكان لا يخلو إما أن تقتضي طباعه الكون في تلك الجهة ، أو لا تقتضي . فإن لم تقتض ، فكيف تتحدد به الجهة ، مع جواز ألا يكون هناك . ؟ وإن اقتضت طباعه الكون فيها ، وهو جائز المفارقة لها ، وطالب لها بالطبع ، وجب أن تكون حاصلة ، حتى يطلبها بكليته وأجزائه ، فلا تكون الجهة متحددة الذات به ، بل بجسم آخر .
____________________
(1/388)
على أنك تعلم أنه لو تحرك حركة مستقيمة ، لوقعت الحركة إلى لا صوب ، وهو محال . وبهذا يظهر أيضا ، أنه لا ( يجوز أن ) تتركب من أجسام مختلفة الطبائع . وإن كان قد سبق بيان ذلك بوجه آخر ، فإنه لو تركب منها لكانت بسائطه قابلة للاجتماع ، فيصح عليها الانتقال من جهة إلى جهة . ويلزم من كونه لا يقبل الحركة المستقيمة ، ألا يقبل الحرق والالتئام ، فإنهما لا يتصوران إلا بها . ولا يقبل التخلخل والتكاثف لهذا بعينه ، وإذ هو لا يتحرك إلى فوق ، ولا إلى أسفل ، فهو لا ثقيل ، ولا خفيف ، ولا حار ولا بارد . وإذ لا يقبل الانفصال أصلا ( لا ) بسهولة ، ولا بعسر ، فهو لا رطب ، ولا يابس ، ولا يقبل الكون والفساد ، أي لا تخلع مادته صورته ، وتلبس صورة أخرى طالبة لحيز آخر . إذ لو كان قابلا لهما ، فالصورة الكائنة إن حدثت في حيزه القريب بحسبها ، ووقفت فيه كان حيزه القريب طبيعيا له ، وهذا محال . وإن كان يتحرك عنه بالطبع فهو بحركة مستقيمة ، وإن كان في حيزه الطبيعي بحسب الصورة المتكونة ، فإن تكون فيه ، وهو خال ، لم يكن الخلاء ممتنعا ، وقد أبطلناه . وأن تكون فيه ، وليس بحال ، فإن لم يدفع ذلك الجسم عن ذلك الحيز ، لزم تداخل جسمين ، وهو محال . وإن دفعه ، فالدافع والمدفوع ، كلاهما قابل للحركة المستقيمة
____________________
(1/389)
وأما كونه ، هل يخلع صورة ويلبس أخرى ، طالبة لنفس ذلك الجزء وهل يستحيل استحالة لا تؤثر في جوهره ، فذلك مما يتنبه على الحق فيه ، فيما يرد في المستأنف . وكذلك كونه هل صح عدمه ، أو لا يصح . والمحدد إن كان فيه ميل مستدير ، فهو ميل إرادي ، إذ ليس حركته بالطبيعية إلى بعض الجوانب ، أولى من حركته إلى غيره ، لتساوي أوضاعه . والجهات الغير الطبيعية لا نهاية لها ، ولكن بحسب حركة الحيوان تتمايز جهات . فإن الذي إليه أول حركة النشوء ، يسمى فوق ، وما يقابله تحت . وإذا عني ( لوحة 313 ) بالفوق ، ما يلي رأس الانسان ، وبالسفل ما يلي قدميه ، فهو مما يتبدل بتبدل الوضع . ثم إن الأرض كرة ، والجانب الذي يلي رأس الواقف على موضع منها ، يلي أخمص الواقف على الجانب الآخر منها ، في مقابلته ، وبالعكس . ولا كذلك الفوق ، بمعنى القرب من الفلك ، والسفل ، بمعنى البعد عنه ، فإن ذلك لا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة . وأما اليمين ، وهو الذي منه مبدأ الحركة ، واليسار وهو مقابله والقدام وهو الذي إليه الحركة الاختيارية طبعا . والخلف وهو المقابل له ، فظاهر ، أنها تختلف بحسب اختلاف الأوضاع . ولا يجوز وجود محددين ، لا يكون أحدهما محيطا بالآخر ، فإنهما لا يتراصان ، بل يكون بينهما فرجة ، فإن لم تملأ بجرم وقع الخلأ ، وهو محال . وإن ملئت بجرم ، فهو جرم مستقيم ، لا محالة ، وله طرفان ، فاستدعى محددا فوقهما ، فلم يكونا محددين لكل الجهات ، وهو على خلاف ما فرض .
____________________
(1/390)
الفصل السابع في سائر الأفلاك والكواكب وذكر جملة من أحوالها كل ما يتحرك من الأجرام السماوية ، على الاستدارة ، ففيه ميل مستدير ، لاستحالة وجود الحركة به ، دون الميل . وليس هو بقاسر ، وإلا لكانت حركاتها على موافقة القاسر ، فيلزم استواؤها في : السرعة والبطء ، وهو على خلاف الواقع . وليست حركاتها طبيعية ، لأن الحركة المستديرة ، لا تكون بالطبيعة ، كما عرفت ، فهي بالارادة . وبسائط هذا ، إذا كان في طباعها ميل مستدير ، امتنع أن يكون في طباعها أيضا ميل مستقيم ، لأن الطبيعة الواحدة ، لا تقتضي أمرين مختلفين ، فلا تقتضي توجها إلى شيء بأحد الميلين ، وصرفا عنه بالآخر وليس الحكم في ذلك ، كالحكم في اقتضاء الطبيعة الحركة والسكون ، فإنها إنما اقتضت استدعاء المكان الطبيعي فقط . فإذا خرج الجسم عنه بالقسر أعادته إليه بالحركة ، وإذا كان فيه حفظه بالسكون ، فاقتضاؤها في حالتي الحركة والسكون واحد ، ولا كذلك اقتضاء الميلين المذكورين .
____________________
(1/391)
فإن اقتضاء الحركة المستديرة مغاير لاستدعاء المكان الطبيعي ، ثم في الأمكنة مكان طبيعي ، يطلبه المتحرك على الاستقامة ، وليس في الأوضاع وضع طبيعي يطلبه ( المتحرك ) على الاستدارة ، ولذلك أسندت إحدى الحركتين إلى الطبيعة ، دون الأخرى . هذا حكم ما هو بسيط ( منها ) ، ويلزم منه ألا يتخرق ولا يتخلخل ولا يتكاثف ، وألا يكون ثقيلا ولا خفيفا ولا حارا ولا باردا ، ولا رطبا ولا يابسا ، ولا قابلا للكون والفساد ، على قياس ما عرفت في المحدد . وأما هل يجوز أن يكون في سائر الأفلاك مركب ، أو إن كان فيها ذلك فهل حكمه في امتناع اجتماع المثلين وغيره ، مما يلزمه هذا الحكم ، الذي هو لبسائطها ، ففيه نظر . والذي يجب أن تتحققه ههنا ، أنه لو كانت السماويات أو شيء منها ، غير دائم الوجود ، أو كان شيء من أعراضها القارة ، أو شيء من أحوالها غير ثابت ، لافتقرت إلى فلك أو أفلاك أخرى متحركة على الدوام حركة دورية ، لا تتغير في شيء من ذلك ، لما ستعلم الأحادث إلا وهو منفعل عن الحركة الدورية . وأما الأعراض الاضافية ، والتي ليست بقارة ، فيجوز اختلافها فيها . فإن حركاتها المختلفة يحصل بسببها لها اختلاف اضافات . كالتثليث والتربيع والتسديس والمقارنة والمقابلة ، وأصناف من الاختلافات ، في مطارح شعاعاتها ، وامتزاجات تقع بينها ، ليس في قوة البشر استيفاء جميعها .
____________________
(1/392)
وبتلك حصلت الاستعدادات المختلفة في عالمنا هذا . والكواكب المشاهدة في السماء نجد منها سبعة سيارة ، لا تثبت نسبة أوضاع بعضها من بعض . ونجد نسبة أوضاع بعضها إلى بعض محفوظة ، لم تتغير ، بحسب الحس في الأزمان المتطاولة ، ولا في شيء من التواريخ التي نقلت إلينا . ووجد لهذا الباقي حركة بطيئة يظهر منها القليل في السنين . وهو على ما وجده المتأخرون في كل مائة سنة قريب درجة ونصف ، من دور الفلك ، الذي مجموع دوره مقسوم بثلاثمائة وستين درجة . وسميت السبعة بالمتحيزة وهي : القمر وعطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل . والباقية سميت بالثوابت ، وهي كثيرة تفوت الاحصاء ، ويحتمل أن تكون المجرة منها . لكنها كواكب متقاربة الوضع فرؤيت كلطخة واحدة . وكل واحد من المتحيزة يسامت الثوابت ، ويتحرك منها نحو الشرق . أما الثوابت فلأن كوكبا من المتحيزة لما سامت كوكبا منها ، في ناحية من المغرب ، وعاد إليه ، في مدة معلومة ، ومضت عليه مدد متطاولة ، وجدت مسامتته له في الجانب الشرقي ، من ذلك الموضع ، فدل على أن الثوابت تتحرك نحو المشرق . ثم كل واحد من المتحيزة وأكثر الثوابت المشاهدة ، يتحرك من المشرق إلى المغرب ، في كل يوم بليلته ، دورة واحدة . وهو دال على وجود فلك محيط بكلها ، ويحركها ( لوحة 314 ) تلك الحركة .
____________________
(1/393)
ولو كانت الكواكب كلها مركزة في فلك واحد يتحرك بحركته إلى المغرب ، ويحركها الفلك المحيط به إلى المشرق ، لتساوت حركتها ، إلى جهة المغرب ، في السرعة والبطء . ولم نجد الأمر كذا ، فهي في عدة أفلاك يحيط بعضها ببعض . وقد وجد القمر كاسفا لعطارد وللشمس ووجد عطارد كاسفا للزهرة فعلم أن فلك القمر تحت فلك عطارد ، والشمس وفلك عطارد تحت فلك الزهرة . ولما كانت الزهرة كاسفة للمريخ ، والمريخ كاسفا للمشتري ، والمشتري كاسفا لزحل ، وزحل كاسفا لبعض الثوابت ، علم أن فلك الكاسف تحت فلك المكسوف ، واحتمل كون الثوابت في فلك واحد ، أو في أفلاك متعددة متساوية الحركة . والفلك المدير للكل تسمى منطقته معدل النهار ، ومحوره محور العالم ، وقطباه قطبي العالم ، وحركته بالنسبة إلى الآفاق ، أعني الدوائر المتوهمة التي تفصل في كل موضع بين الظاهر من الفلك والخفي منه . وتقطع معدل النهار على نقطتين متقابلتين ، تسمى إحداهما شرقية والأخرى غربية ، ( و ) هي على ثلاثة أقسام : إما دولابية وهي في خط الاستواء ، وإما رحوية ، وهي في المواضع المسامتة لقطب العالم ، وإما حمائلية ، وهي في غيرهما من المواضع . ووجدت الشمس في المساكن التي يدور الفلك فيها دولابيا مائلة إلى الشمال تارة ، وإلى الجنوب أخرى . ويبقى قريب نصف السنة في أحد الجانبين ، وقريب نصفها في الجانب الآخر .
____________________
(1/394)
فإذا توهمنا خطا يخرج من مركز الأرض ( و ) ينتهي إلى سطح الفلك الأعظم مارا بجرم الشمس ، ودارت الشمس بحركتها الخاصة بها ، دورة ( واحدة ) تامة ، فإنه ترتسم في سطح ذلك الفلك دائرة عظيمة ، مقاطعة لمعدل النهار ، وتسمى فلك البروج . ونقطة التقاطع بينهما التي إذا جاوزتها الشمس ، حصلت في الشمال ، هي نقطة الاعتدال الربيعي ، ونقطة التقاطع المقابلة لها التي إذا جاوزتها ، حصلت في الجنوب ، هي نقطة الاعتدال الخريفي ، ومنتصف ما بين نقطتي التقاطع في الجهة الشمالية ، هو نقطة الانقلاب الصيفي وفي الجهة الجنوبية هو نقطة الانقلاب الشتوي . وإذا توهم انقسام ما بين كل نقطتين من النقط الأربع ، بثلاثة أقسام متساوية ، وتوهمنا ست دوائر ، تمر ( و ) كل واحدة منها على نقطتين متقابلتين من النقط الاثني عشر ، انقسم سطح الفلك الأعظم اثني عشر قسما كل منها ، يسمى برجا . وإذا كانت الشمس فيما بين نقطتي الاعتدال الربيعي ، والانقلاب الصيفي ، كان الزمان ربيعا ، وإذا كانت في الربيع الذي يليه من الجهة الشمالية ، كان صيفا . وإذا كانت في الربع الثالث ، كان خريفا ، وإذا كانت في الربع الرابع ، كان شتاء .
____________________
(1/395)
والمساكن المتسامتة لمعدل النهار تصل الشمس إلى سمت رؤسهم في نقطتي الاعتدالين : الربيعي والخريفي . وكل واحد من الوقتين ، هو عندهم صيف ، وبعد كل صيف خريف وشتاء وربيع . فهناك ربيعان وصيفان وخريفان وشتاءان . وإن كانت كل هذه قريبة من التشابه عندهم ، بحسب مسامتة الشمس . وآفاق هذه المواضع تمر كلها على قطبي العالم ، وتقطع معدل النهار والدوائر الموازية لها من القطب إلى القطب ، بقسمين متساويين في زوايا قائمة ، فيكون لكل كوكب هناك طلوع وغروب . ويتساوى زمان المكث فوق الأرض وتحتها ، ويتساوى النهار والليل هناك أبدا . وتقطع الآفاق معدل النهار في المواضع الحائلة عنه ، لا على زوايا قائمة ، فيرتفع هناك أحد قطبي العالم عن الأفق ، وينحط الآخر عنه . ويكون بعض الكواكب أبدى الظهور ، وبعضها أبدى الخفاء ، ويكون الأفق قاطعا للدوائر الموازية لمعدل النهار بقسمين متفاوتين . وإذا كان القطب الشمالي ظاهرا ، كانت القوس الظاهرة من الدوائر الشمالية ، فوق الأرض ، أعظم من التي تحتها ، ومن الجنوبية بخلاف ذلك . ويكون النهار أطول من الليل ، إذا كانت الشمس هناك في البروج الشمالية ، وأقصر إذا كانت في الجنوبية . والمواضع التي فيما بين دائرة البروج ومعدل النهار تنتهي الشمس إلى سمت رؤسها ، في كل دورة شمسية دفعتين .
____________________
(1/396)
والتي في مسامتة الانقلاب الصيفي ، تنتهي إلى سمت رؤسها دفعة واحدة فقط . وما يجاوز ذلك ، فلا ينتهي إلى سمت الرأس والمواضع التي تكون مدار نقطة الانقلاب الصيفي فيها أبدى الظهور . فالشمس تبقى في الدورة الواحدة فوق الأرض ، عند وصولها ، إلى تلك النقطة . ويظهر لها بعد ذلك طلوع وغروب . وإذا انتهت إلى نقطة الانقلاب الشتوي تبقى في الدورة الواحدة تحت الأرض . والمواضع التي ينطبق فيها قطب فلك البروج على سمت الرأس ، ينطبق فيها فلك البروج على الأفق . فإذا مال القطب نحو الجنوب ، ارتفع نصف فلك البروج عن الأفق دفعة ، وانخفض النصف الآخر دفعة ( لوحة 315 ) والمواضع التي ينطبق فيها قطب العالم على سمت الرأس ، ينطبق الأفق على معدل النهار ، ويكون محور العالم قائما على سطح الأفق . وتدور الكرة حركة دورة رحوية ، ويبقى نصف فلك البروج ظاهرا أبدا ، ونصفه خفيا أبدا . وتكون السنة كلها يوما وليلة ، قريب نصفها يكون نهارا ، وقريب نصفها يكون ليلا . وإنما كان قريبا من النصف ، لا النصف حقيقة ، بسبب ما يظهر من بطء حركة الشمس في بعض الفلك ، وسرعتها في بعضه . وحركة الشمس ليست على محيط فلك مركزه مركز العالم ، وإلا لما اختلف بعدها عن جميع المواضع المسامتة لفلك البروج . فما كانت تختلف آثارها في تلك المواضع ، وما وجدت آثارها التي من مقتضيات شعاعها ، كتسخين الأرض ، وتوليد الأبخرة في ناحية الجنوب ، أكثر وأقوى من وجودها في ناحية الشمال . ودل ذلك من طريق الحدس ، مضافا إلى ما وجد بالرصد ، من اختلاف حركتها في
____________________
(1/397)
نصفي منطقة البروج بالسرعة والبطء ، ومن كون جرمها في الكسوفات ، في أواسط زمان البطء ، أصغر قليلا منه ، في أواسط زمان السرعة . على كونها في البطء أبعد من مركز العالم ، وفي السرعة أقرب إليه ، فتكون حركتها إذا لم تكن خارقة للفلك . أما على محيط كرة صغيرة ، غير شاملة للأرض ، متحركة على نفسها ، ويحركها فلك آخر مركزه مركز العالم . وتسمى تلك الكرة فلك التدوير . وأما على محيط كرة شاملة للأرض ، لكن مركزها خارج عن مركز الأرض ، فتقرب تارة من الأرض ، وتبعد أخرى . وأبعد بعدها يسمى ( الأوج ) ، وأقرب قربها يسمى الحضيض . ودلت المشاهدة على أن القمر في حركته من المغرب إلى المشرق يسرع تارة ويبطىء أخرى ، من غير أن يختص ذلك بموضع معين من الفلك ، بل يقع في جميع أوضاعه . وهذا إذا لم يعرض لحركاته البسيطة اختلاف ، ولا يخرق بحركته الفلك ، هو دليل على أنه يتحرك على فلك تدوير ، تحركه تارة إلى المغرب ، وتارة إلى المشرق فتعرض له السرعة والبطء . ولما صار تارة شماليا عن الشمس ، وأخرى جنوبيا ، علم على ذلك الأصل ، إن فلك تدويره لا يتحرك في مسامتة فلك البروج ، بل على محيط الدائرة مائلة عنه ، قاطعة للدائرة المرسومة على كرة القمر ، الموازية لفلك البروج على نقطتين متقابلتين ، يقال لاحداهما الرأس ، وهي التي إذا جاوزها القمر ، حصل في الشمال ، والأخرى الذنب ، وهي التي إذا جاوزها حصل في الجنوب . ولما وجدنا أنه إذا سامت القمر الشمس ، في إحدى النقطتين ، ووقع
____________________
(1/398)
هناك كسوف ، ثم عادت الشمس بحركتها الخاصة بها ، إلى تلك النقطة ووقع فيها كسوف آخر ، لم يكن الكسوف الثاني في ذلك الموضع من الفلك بعينه ، بل كان في موضع آخر مائل عنه إلى جهة المغرب ، استدللنا بذلك على أن فلكا آخر ينقل نقطتي الرأس والذنب ، إلى جهة المغرب ، ويسمى ذلك فلك الجوزهر . ثم القمر ، كلما قرب من تربيع الشمس ، وكان سريع السير ، فإن ازدياد سرعته تكون أشد من ازديادها في موضع آخر ، وهو دليل على أنه إذا قرب من التربيع ، كان أقرب من الأرض ، مما إذا كان في موضع آخر . وذلك يدل على أن فلك تدويره يتحرك على محيط فلك خارج المركز ، ليقرب من الأرض تارة ، ويبعد أخرى . وقد استدل على وجود فلك آخر ، يحرك بعده إلا بعد ، بسبب موافاته ، كل واحد من الأوج والحضيض ، في كل دورة مرتين . وكل ذلك على تقدير عدم الاختلاف في الحركة البسيطة وعدم انخراق الفلك . واختلاف هيئات تشكل النور في القمر ، بسبب اختلاف أوضاعه من الشمس ، دل على أنه لا نور في نفسه ، وإنما نوره من الشمس . فإذا قاربها كان وجهه المظلم مواجها لنا ، فلا يرى مضيئا . وإذا مال بحيث ينحرف وجهه المضيء إلينا ، نرى هلالا ، وإذا صار البعد بينه وبين الشمس بمقدار ربع دائرة ، نرى نصفه مضيئا . وإذا صار مقابلا لها كان وجهه المضيء ( كله ) إلينا ، فيرى
____________________
(1/399)
تام النور . وإذا انصرف عن المقابلة انتقض نوره ، وازدادت ظلمته ، إلى أن يجتمع بالشمس ، فلا يقابلنا من نوره شيء . وإذا حصل القمر على مقابلة الشمس ، ووقع في ظل الأرض ، انحجب نور الشمس عنه فيبقى على ظلامه الأصلي . فإن لم يكن له ميل عن مسامتة الشمس انخسف كله . وإن كان له ميل أقل من مجموع نصف قطر القمر والظل ، انخسف بعضه . أما إذا كان الميل مساويا لمجموع نصف القطرين ، أو أكثر ، لم يقع في الظل المذكور ، ولم ينخسف . وهذا دليل على أن جرم الشمس أعظم من جرم الأرض . ولولا ذلك لوجب انخساف القمر في الاستقبالات كلها . ونحن إذا توهمنا خطوطا تخرج من طرفي قطر الشمس ، إلى طرفي قطر الأرض ، خارجة كذلك بالاستقامة ، فإنها تتلاقى على نقطة . ولكون الأرض جرما كثيفا ، مانعا من نفوذ الشعاع ، وجب أن يقع لها ظل ( لوحة 316 ) محصور ، فيما بين تلك الخطوط ، على شكل مخروطي . ومتى ما صار القمر في نقطة التقاطع ، بين منطقة الفلك المائل ، وبين فلك البروج ، وكانت الشمس مسامتة لنقطة التقاطع أيضا ، ولم يكن للقمر ميل عن مسامتة الشمس ، فيصير حائلا بيننا وبينها ، فيرى وجهه كأنه سواد على صفحتها ، وذلك هو كسوف الشمس الكلي . وإن كان له ميل عن مسامتة الشمس ، وكان الميل أقل من مجموع نصف قطر الشمس والقمر ، انكسف بعض الشمس . وإن كان الميل أعظم أو مساويا لم ينكسف . والكواكب الخمسة من المتحيزة ، وهي التي غير الشمس والقمر قد يعرض لها إن تنزل صوب جهة المشرق ، وترجع إلى المغرب ، ثم تستقيم . ولا يختص ذلك بموضوع معين ، بل يقع في جميع أجزاء فلك البروج فحركتها إن لم يعرض للبسيط منها اختلاف ، ولم ينخرق بها الفلك ،
____________________
(1/400)
هي على محيط فلك تدوير . وما يرى حركته منها في بعض مواضع الفلك أسرع ، وفي بعضها أبطأ . ففلك تدويره يقرب من الأرض ، ويبعد عنها ، فلها فلك خارج المركز يحرك فلك التدوير . وكذا ما نرى بعده من الشمس مختلف القدر في مواضع الفلك ، فإن قربه يوجب رؤية للبعد أعظم ، وبعده يوجب رؤيته أصغر . والذي يرى بعده المذكور كذلك هو عطارد والزهرة ، وقد استدل على أن أوج عطارد وحضيضه يقرب من الأرض ويبعد ، وهو يحوج إلى خارج مركز آخر له ، ولجميع الكواكب حركات أخفى من المذكورة ، وتحتاج على الأصول السابقة ، إلى أفلاك أخر ، تستند إليها ، لم أتعرض لذكرها ، وقد ذكر بعضها في الكتب المبسوطة . وكل حركة قلت إنها محتاجة إلى فلك صفته كذا ، فإنما أعني بذلك احتياجها إليه ، أو إلى ما يقوم مقامه ، واحدا كان ذلك القائم أو أكثر وإذا قلت : فلك الثوابت ، فأريد بذلك فلكها ، أو أفلاكها ، فإنه لم يتحقق كونها في فلك واحد . وجملة ما قد يحصل من أحوال هذه الأجسام السماوية ، أن منها أفلاكا شفافة ، ومنها كواكب مضيئة . والأفلاك كثيرة : منها ما مركزه موافق لمركز الأرض ، تحقيقا أو تقريبا . ومنها ما مركزه خارج عن مركزها ، وهو إما محيط بها ، وهو المسمى بالخارج المركز ، أو غير محيط بها ، وهو فلك التدوير . وأما الكواكب فأكثر من أن تحصى . والذي عرف منها بالرصد سبع متحيزة ، وألف ونيف وعشرون كوكبا ثوابت . وهذه المباحث أكثرها مبني على أن السماويات لا يعرض لها اختلاف سرعة وبطء ، ولا انخراق والتئام ، ولا
____________________
(1/401)
تخلخل وتكاثف ، ولا رجوع وانعطاف ( ولا ) وقوف ، ولا خروج من حيز . ويلزم من ذلك أن الكواكب لا تنتقل حول الأرض ، بأن يخترق لها أجرام الأفلاك ، بل انتقالها بسبب حركة الأفلاك المركوزة فيها ، وأن تكون الحركات المختلفة في الرؤية مستندة إلى ما تقتضي تشابهها . وتلك المختلفة لا يمكن أن تكون حركة بسيطة ، بل يجب كونها من جملة بسائط كل واحد منها متساو . وكل حركة تختلف زواياها ، أو قسها في الأزمنة المتساوية ، فهي مركبة ، وليس كل مركبة كذلك . فإن كانت هذه الأصول واجبة في نفس الأمر ، فلا بد لكل كوكب من عدة أفلاك لحركاته المشاهدة . وإن لم تكن واجبة فالحدس يحكم بوقوعها في السمائيات في الأغلب ، وتتكثر أفلاك كل كوكب . ويصدق أكثر ما ذكرته ، ألا ترى كيف تحدس النفس من موافاة مركز تدوير القمر وعطارد ، أوجيهما في كل دورة مرتين ، وكذا حضيضهما ، أن فلك التدوير لهما ، لا يقطع الحامل بحركته وحده ، بل هو متحرك بحركة الفلك الحامل له ، وكيف تحدس من كون القمر كلما كان أكثر بعدا من الأرض ، كان خسوفه أقل مكنا ، على أن الظل يستدق كلما بعد عنها ، وعلى أن الشمس أكبر منها . وربما يختلف باختلاف الأشخاص الجزم بذلك ، على حسب ما ينظم من القرائن العلمية والاعتبارية ، من أحوال الحركات وغيرها . وأنت تعلم أن الجسم الواحد من هذه ، ومن غيرها ، لا يتحرك حركتين إلى جهتين ، من حيث هما حركتان ، بل تتحرك حركة واحدة ، تتركب منهما . وإذا تركبت الحركات ، وكانت إلى جهة واحدة ، أحدثت حركة
____________________
(1/402)
تساوي مجموعها . وإن كانت إلى جهتين متضادتين أحدثت حركة مساوية لفصل البعض على البعض ، أو سكونا إن لم يكن فصلا . وإن كانت في جهات مختلفة ، أحدثت حركة مركبة إلى جهة بتوسط تلك الجهات على نسبتها . والحركات المختلفة تكون بالقياس إلى متحركاتها الأول بالذات ، وإلى غيرها بالعرض . ولا يكون جميعها بالقياس إلى متحرك واحد بالذات . ولا يلزم من كون الجسم متحركا بحركتين ، حصوله دفعة في جهتين . وتحريك فلك فلكا يكون بملازمة المتحرك لمكانه من المحرك ، وكونه منه كالجزء من الكل ، فيتحرك مع قطبيه وسائر أجزائه بحركته ، مثل ساكن السفينة بحركة السفينة ، ثم إنه مع ذلك يتحرك بنفسه ( لوحة 317 ) حركته الخاصة به ، كساكن السفينة ، إذا تردد فيها إلى أي جهة شاء . فهكذا يجب أن يفهم الحال في حركات الأجرام السمائية المختلفة ، التي يتحركا كل جرم منها . والكلام في الأجرام العلوية ، وما تحويه السفلية ، من حيث كمياتها وكيفياتها وأوضاعها وحركاتها اللازمة لها طويل . والعلم المختص به ، هو علم الهيئة . ومباحثه كثيرة ومتشعبة . وهو من العلوم النفسية ، الدالة على عظمة المبدع جل وعلا . وقد حقق فيه الفاضل مؤيد الدين العرضي - رحمه الله - ما لم يحققه من قبله ، عمن سمعنا به ، وبين أن أصغر الكواكب التي ترى في السماء ، هو عطارد . ونسبة جرمه إلى جرم الأرض ، كنسبة الواحد إلى اثني عشر ألفا وثمانمائة وتسعة عشر ، وأن أكبرها هو أكبر ما يرى من الكواكب الثابتة . ونسبة جرمه إلى جرم الأرض ، كنسبة اثنين وثلاثين ألفا وثلاثمائة وتسعة وثلث إلى الواحد . وبين أن القمر قريب جزء من أربعين من الأرض ، وأن الشمس هي قريب من مائة وسبع وستين مرة ، كالأرض ، وأن الزهرة كجزء من
____________________
(1/403)
أربعة عشر من الأرض تقريبا ، وأن جرم المريخ مثل جرم الأرض سبع مرات وسدس مرة . وأن نسبة جرم المشتري إلى جرم الأرض كنسبة اثني عشر ألفا وثمانمائة وثلاثة عشر ، إلى الواحد بالتقريب . وأن نسبة زحل إليها كنسبة ستة عشر ألفا ومائتين وثمانية وخمسين وثلث ، إلى واحد . وأن أصغر الكواكب الثابتة هي كالأرض تسعة آلاف وخمسمائة وثلاث وسبعين مرة وتسع دقائق . وبين أن أقرب قرب القمر ، وهو غاية ما يمكن أن يكون ارتفاع الاسطقسات ، بما به نصف قطر الأرض واحد وثلاثة وثلاثون وربع . وأن أبعد البعد للشمس تقريبا بالمقدار الذي هو نصف قطر الأرض أيضا ألف ومائتان وأربع وستون مرة . وبين البعد الأقرب والأوسط والأبعد عن مركز الأرض ، لكل واحد من المتحيزة ، حتى انتهى إلى كرة الثوابت . وبين أن القدر الذي علم تحتها ، وهو نصف بعدها عن مركز الأرض ، ( و ) هو مائة وأربعون ألفا ومائة وسبع وأربعون مرة ، بما به قطر الأرض واحد ، وأن قطر الأرض بالتقريب ، هو سبعة آلاف وستمائة وستة وثلاثون ميلا ، واثنان وعشرون دقيقة ، كل ميل منها ثلاثة آلاف ذراع ، كل ذراع أربعة وعشرون أصبعا ، كل أصبع ثماني شعيرات ، يلصق بطون بعضها إلى بعض . والأشهر أن الاصبع يكون ست شعيرات ، بهذه الصفة . وعلى هذا يكون الميل أربعة آلاف ذراع . ولا تفاوت إلا في الاصطلاح فقط ، بل المقدار واحد . وأكثر ذلك بينة على أنه أقل ما يكون ، وقطع به من جانب القلة ، ولم يقطع به من جانب الكثرة . وعلى هذا ، فأبعد ما وقفنا عليه من فلك الثوابت ، يقطع من المسافة
____________________
(1/404)
في جزء من تسعمائة جزء من ساعة مستوية ، مائة وخمسة وخمسين ألف ميل ، وسبعمائة وثمانية عشر ميلا ، وربعا ، بالتقريب ، بموجب ما تقتضيه المساحة والحساب . والله أعلم بما فوق ذلك من الأفلاك وعجائبها . ومن أراد تحقيق ذلك على أصول علم الهيئة ، فعليه بمطالعة كتاب هذا الفاضل ، في هذا الفن . وإنما ذكرت هذا القدر منه لما فيه من الأمر العجيب الدال على عظمة هذه الأجرام ، وحكم صانعها ، وعظيم قدرته ، التي تبهر العقول ، وبعد أن تكلمت في الأجسام آخذ في الكلام عن المحركات وما يتعلق بها . ومن الله ( سبحانه ) الهداية ( والتوفيق ) .
____________________
(1/405)
فارغة
____________________
(1/406)
الباب الخامس في النفوس وصفائها وآثارها
____________________
(1/407)
فارغة
____________________
(1/408)
الفصل الأول في إثبات وجود النفس ، وبيان أن معقولاتها لا يمكن حصولها في آلة بدنية ، وأنها مستغنية في التعقل الذي هو كمالها الذاتي عن البدن قد سبق أن المراد بالنفس هو جوهر ليس بجسم ولا جزئه ، ولا حال فيه . وله تعلق بالجسم من جهة التدبير له ، والتصرف فيه ، والاستكمال به . فنحتاج الآن أن نبين وجود موجود ، هذا شأنه ، ونبين ذلك بما نجده صادرا عن الانسان ، من الادراك والتحريك . فإنه لو كان لجسميته ، لكان كل ما له الجسمية متحركا بالارادة ، ومدركا مثل تحركه وإدراكه ، فكانت العناصر والجمادات كذلك ، وهو على خلاف الوجدان . ولو كان ذلك لمزاج جسمه ، أو نسب عناصره ، أو مجموع بدنه ، مع أنا نجد المزاج دائم التبدل ، وبتبدله تتبدل نسب العناصر ، وجملة البدن ، لما كان الانسان يشعر بأنانيته شعورا مستمرا ، وهو متحقق أنه هو الذي كان منذ سبعين سنة ، أو أكثر ، والمتبدل غير ما ليس بمتبدل . فالمدرك منا غير هذه الأشياء .
____________________
(1/409)
ثم المزاج كيفية واحدة ، لا يصدر عنها أفاعيل مختلفة ، وأنانية الانسان ليست كذا . ونرى المزاج يمانع الانسان كثيرا ، حال حركته ، في جهة حركته كالصاعد ( لوحة 318 ) إلى موضع عال ، فإن مزاج بدنه ، لغلبة العنصرين الثقيلين فيه ، تقتضي حركته إلى أسفل . وقد يمانع في نفس الحركة ، كالماشي على الأرض ، فإن مزاجه يقتضي السكون عليها ، ولو كان مزاجه هو المحرك ، لما تحرك البتة إلا إلى أسفل ولو كان المدرك منه هو مزاجه ، لما أدرك باللمس ما يشبهه ، لأنه لا ينفعل عنه . ولا بد في الادراك من الانفعال ، ولا ما ضاده ، لأنه يستحيل عند لقاء ضده ، فلا يبقى موجودا ، فكيف يلمس به ، وهو معدوم . وكيف يلمس بالمزاج المتجدد ، ونحن نعلم أن اللامس أولا هو اللامس ثانيا ، والعناصر بطباعها متداعية إلى الانفكاك . والذي يجبرها على الالتئام والاجتماع ، هو غير ما يتبعهما ولا شك أن المزاج تابع لهما . وللانسان ما يعيد مزاجه السيء ، إلى حالته الملائمة ، عند التمكن من ذلك ، مع أن المزاج المعدوم لا يمكن أن يعيد نفسه أو مثله . وليس الجامع للعناصر ( مزاج ) الوالدين ، وإلا لما أمكن في بعض الحيوانات ، أن يتولد ويتوالد كالفأر . ولو كان مجموع العناصر في بدن الانسان ، أو مجموع الأعضاء هو النفس ، لما بقي الشاعر بذاته ، مع فقدان عضو .
____________________
(1/410)
ونحن نجد من أنفسنا أنا لو كنا قد خلقنا دفعة على كمال من عقولنا ، من غير أن نستعمل حواسنا في شيء منا ، وفي غيرنا ، وحصلنا كذلك لحظة ما في هواء غير ذي كيفية ، نشعر بها ، وأعضاؤنا منفرجة لئلا تتلامس ، لكنا في مثل هذه الحالة تغفل عن كل شيء ، سوى انيتنا . فنعلم أن الأجسام والأعراض التي لم نحصلها بعد ، لا مدخل لها في ذواتنا ، التي عقلناها ، دون تلك الأشياء . فالذات التي لم تغفل عنها ، مع هذا الغرض ، هي غير أعضائنا الظاهرة والباطنة ، وغير جميع الأجسام والحواس ، والقوى والأعراض الخارجة عنا . وأنت فمتى عقلت ذاتك في حال من الأحوال ، مع غفلتك عن هذه الأشياء ، كفاك ذلك في العلم ، بأن ذاتك مغايرة لها . ولهذا تشير إلى ذاتك بأنا ، وتشير إلى كل جرم وعرض فيه من بدنك وغيره ، بأنه هو مثبت لك وجود شيء ، يصدق عليه ما قيل في تعريف النفس ، إلا الجوهرية فإذا ثبت أنه جوهر فذاك هو النفس المعرفة ، فيثبت وجودها . ويدل على جوهريته أنه لو كان عرضا ، لكان موضوعه إما جسم ، أو غير جسم . فإن كان جسما كان الحال فيه منقسما بانقسامه ، لكن المدرك منا بسيط ، لا يقبل الانقسام ، وإلا لتوقف العلم به ، على العلم بجزئه ، لكن العالم بجزئه يتوقف على العلم به ، لأنا لا نعلم شيئا من الأشياء إلا ونعلم أنا عالمون به ، فتعلم ذاتنا مع العلم به بالضرورة فلو علم المركب ذاته ، للزم الدور . وإن كان غير جسم ، فهو إما جوهر أو غير جوهر . فإن كان جوهرا . فأما أن يكون له تصرف في البدن بذاته ، لا بعرض فيه ، أو لا يكون . فإن كان الأول فهو النفس ، وإن كان الثاني وهو أن يتصرف في البدن بعرض فيه ، فهو النفس أيضا .
____________________
(1/411)
فإن الأعراض التي تعرض لذواتنا ، فتوجب صدور أفعال عنها تحسها ، كالقدرة والارادة وسائر الدواعي ، لا تنسب الأفعال إليها ، بل هي منسوبة إلى ذواتنا التي تفعل بها . وإن كان غير جوهر ، فلا بد من انتهائه إلى الجوهر ، ويعود الكلام فيه . وهذا الجوهر هو محل الصور العقلية ( منا ) ، ولا شيء من تلك الصور بذي وضع ، وإلا لم تكن مشتركة بين ذوات الأوضاع المختلفة . وكل حال في جسم أو في ذي وضع فهو ذو وضع . فتبين من هذا أيضا ، أن المدرك منا ليس بجسم ، ولا حال فيه . ويدل على ذلك أيضا ، أنا ندرك الكليات المنطبقة على كل واحد من جزئياتها ، كما ندرك الحيوانية المطلقة التي تشترك فيها البقة والفيل . فلو كانت في جسم ، أو في شيء حال في جسم ، أو كان لها نسبة إلى أحدهما بالحضور عنده ، إن لم يصدق عليها الانطباع فيه ، للزمها على جميع هذه التقادير وضع خاص ، ومقدار خاص ، فلم تكن مطابقة للمختلفات في هذه . وإذ قد طابقت ذلك ، فمحلها ليس بمقتدر ، ولا بذي وضع ، كيف كان . وكذا إذا عقلنا مفهوم الواحد المطلق ، الذي عن خصوص مقدار ووضع . وكذلك مفهوم الشيئية ، فإنها لو انقسمت بانقسام محلها ، فكل جزء من أجزائها ، إن كان شيئية فحسب ، لم يكن فرق بين الكل والجزء ، وإن كان شيئية مع أزيد ، كخصوص مقدار وغيره ، فقد زاد الجزء على الكل . وإن كان : لا هذا ، ولا هذا ، فللشيئية جزء ، هو لا شيء ، وكل
____________________
(1/412)
هذا محال . ومن المعلوم أن محل المعقول الغير المنقسم ، هو محل سائر المعقولات ، وكذا الذي حضر عنده مدرك غير ذي وضع ، هو الذي يحضر عنده سائر المدركات . فالمدرك منا لذي وضع ، ولغير ذي وضع ، هو غير جسم ، ولا جسماني في ذاته . ومن تأمل الملكات التي لا تتجزأ بالتجربة الاتصالية كالشجاعة والجبن والتهور ( لوحة 319 ) وملكة الفطنة والعلم ، علم أنها لا تحصل للجسم ، ولا لعرض سار فيه ، وإلا انقسمت بالقسمة الاتصالية . ولا تحصل أيضا لجزء من الجسم ، ولو جاز كونه في ذاته جزءا لا يتجزأ ، وإلا لكانت هذه الأشياء بأسرها ذوات أوضاع . وإدراكنا لذاتنا لا يفضل على ذاتنا ، فإن الكل لا يقع الشعور به ، دون الشعور بأجزائه . وكما استمر شعور الانسان بذاته مع الغفلة عن أجزاء بدنه من القلب والدماغ وغيرهما . فكذلك استمر شعوره بذاته ، مع غفلته عما يفرض فضلا للنفس مجهولا ، ولو كان يشعر بذاته بصورة تحصل في ذاته من ذاته ، لكان مشارا إليها بهو ، لا بأنا ، فليس إدراكه لذاته بأمر زائد : صورة كان أو غيرها ، وجوديا أو غير وجودي . ونجد أنا عندما نشعر بذاتنا ، وعندما نشير إليها ، لا نجد في ذاتنا إلا أمرا يدرك ذاته . وما يفرض من سلب موضوع أو محل أو إضافة بدن ، أو أمر آخر ، أي شيء كان ، فهو عرض خارج عنها ، ولو كان لها فضل مجهول ، مع أنها مدركة لذاتها بغير صورة ، وذاتها كما هي غير غائبة عنها ، لكانت مدركة له ، فلم يكن مجهولا . هذا خلف . فلا نجد ضروريا في إدراك مفهوم ( أنا ) إلا الحياة ، التي هي وجود الشيء عند نفسه ، فهي مفهوم ( أنا ) ، دون ما وراءها ، وجوديا كان أو
____________________
(1/413)
عدميا ، لازما أو مفارقا ، ولا يلزم أن تكون الحياة حاصلة لشيء لا حياة له في حد ذاته ، كالأجسام . فإنه لو كان وجودها هو بعينه كونها بحيث تصدر عنها أفعال الحياة ، لكان مفهوم الجسم ، هو مفهوم الحياة الحاصلة له . فكان كل جسم حيا بتلك الحياة ، وإن كان لها ذلك ، لأنها أجسام ما فقد تخصصت بأمر ما ، وليس بجسم فلا يمتنع أن يكون وجوده بعينه كونه بهذه الصفة . والحياة ليست ما به يكون الشيء حيا ، بل حياة الشيء حيثيته ، على قياس ما قيل في الوجود . والنفس الانسانية ليس لها من الحياة إلا إدراك ذاتها . وأما إدراك غيرها وأفاعيلها ، فالقوى البدنية ، وبقوتها العقلية . فإذن حياتها من دون ذلك حياة ناقصة : يعرض لها الكمال تارة وتفتقده أخرى . وتختلف النفوس في مراتب الكمال والنقصان بحسب ذلك . ولو فرضت النفس آنية تدرك ذاتها ، بمعنى أن يكون إدراكها لذاتها صفة هي غيرها ، لتقدمت لذاتها على الادراك ، فكانت مجهولة ، وهو محال . وإذا لم يزد إدراكها لذاتها على ذاتها ، فلا يتصور أن تغفل عن ذاتها البتة . وإذ قد ثبت وجود النفس ، وثبت أيضا أنه لا يجوز أن تحل معقولاتها في جسم ، فهي غير متصلة بالبدن ، بل ولا بجملة العالم الجسماني ، ولا منفصلة عنه ، بمعنى الانفصال الذي يقابل الاتصال ، مقابلة العدم للملكة وكذلك معقولاتها لا يتصور عليها الاتصال بالأجسام والانفصال عنها ، بذلك المعنى . ولا يقدم في ذلك قول القائل مشيرا إلى نفسه : دخلت وخرجت وصعدت ونزلت ، مع أن الدخول والخروج والصعود والنزول ، من خواص الأجسام والجسمانيات ، فإن التمسك بمجرد الألفاظ لا حاصل له .
____________________
(1/414)
وسبب إطلاق هذه ، كون الأمور العقلية ، لا تكاد تتعرى عن المحاكيات : الخيالية والوهمية . والخيال والوهم لا يتصوران المجردات . فالاشارات القولية العرفية لا تقع على العقليات ، دون مصاحبة أمور خيالية . وإذا كانت مشوبة بذلك ، فلا بد وأن تقع إلى البدن أيضا ، فتضاف أمور إلى النفس ، وهي للبدن ، وأمور إلى البدن ، وهي للنفس ، للعلاقة المتأكدة بين النفس والبدن . والملكة الحاصلة للنفس من مشاهدة الموجودات مقارنة للمحسوسات والمتحيزات ، هي الموجبة لاستيلاء الوهم ، حتى حكم بحصر الوجود فيها . ومزاولة العلوم البرهانية ورجوع الانسان إلى تأمل حال نفسه ، هو الدافع لذلك الحكم ، والموجب للاعتراف بوجود المفارقات . وههنا ( أمور ) اقناعيات هي ، وإن لم تكن كل واحدة منها موجبة لليقين ، في تجرد ذواتنا ، واستغنائها في التعقل عن البدن ، فقد يكون مجموعها يوجب عند بعض الناس طمأنينة بذلك : منها أنها لو أدركت بالبدن ، لما أدركت ذاتها ، فإن سائر القوى البدنية لا تدرك ذاتها ، كالبصر لا يبصر نفسه ، والشم لا يشم نفسه ، والخيال لا يتخيل نفسه . فإن هذه لا آلات لها ، إلى آلاتها ، ولا إلى إدراكاتها . ولا فعل لها إلا بآلاتها ، ( والقوة العقلية بخلاف ذلك ، فإنها تدرك ذاتها وإدراكاتها ) ، وجميع ما يظن به أنه آلة لها . ومنها أن النفس لو كانت جسمانية في ذاتها ، أو في تعلقها ، لكانت تكل بتكرر الأفاعيل القوية ، لا سيما إذا لم يقع التراخي بين الأفعال ، دل على ذلك التجربة . وعلته أن الأفاعيل بالقوى القائمة لا بالأبدان تنفعل عنها موضوعات تلك القوى .
____________________
(1/415)
والانفعال لا يكون إلا عن قاهر يقهر طبيعة المنفعل ، ويمنعه عن المقاومة ، فيوهنه ( لوحة 320 ) ، فتتوهن القوة القائمة به معه . والقوة العقلية بإدراك المعقولات تزداد قوة . وإذا عرض للنفس ملال عند التفكر في المعقولات ، فإنما ذلك باعتبار القوى الجسمية ، ولو كان ذلك لكلال النفس لما كان موجب كللالها مشحذ قوتها . ومن تلك الحجج الاقناعية ، أنها لو كانت جسمانية ، لما أدركت الضعيف عقيب القوي ، كما لا تدرك الرائحة الضعيفة أثر القوية ، ولا النور الضعيف بعد القوي ، والقوة العقلية ربما قواها إدراك القوي على إدراك الضعيف ، فضلا عن أنه لا يضعفها عنه . ومما يحتج به أيضا ، أنه لو كانت النفس جسمانية لكلت بعد سن الوقوف عند الانحطاط ، ونجد ذلك في الأغلب بعد الاربعين . فكان يلزم اختلاف الشعور بذاتها ، وبمعقولاتها ، وليس كذا . ولو كان الهرم لكلال النفس لاطرد في كل شيخ ، ولما كانت الأفكار المؤدية إلى العلوم مضعفة للدماغ . ونحن نجد كثيرا من المشايخ تضعف جميع قواه إلا العقل ، فإنه يكون إما ثابتا ، وإما في طريق الازدياد . فحرف بعض المشايخ ، واختلال عقل بعض المرضى ، ليس إلا لأن الشيء قد يعرض له من غيره ما يشغله عن فعل نفسه ، لا لأنه لا فعل له في نفسه . وقد ذكر في بيان هذين المطلبين أدلة كثيرة ، لم أر التطويل بذكرها . على أن بعض ما ذكرته كاف في بيانهما ، فإن البرهان على أن المدرك منا ليس بجسماني ، يستغني عن بيان أنه ليس بمزاج البدن ،
____________________
(1/416)
ولا نسب العناصر ، وبعض ما يثبت به ذلك يغني عن كله . ولكن لما كان بعض النفوس تتضح له النتيجة من برهان ، وبعضها لا تتضح له من ذلك البرهان ، بل ربما اتضح له من غيره ، لاختلاف النفوس في الاستعداد لقبول اليقينات وغيرها ، لا جرم كان تكثر الأدلة على مطلوب واحد ظاهر الفائدة ، وله فائدة أخرى ، هي أنه إن لم تستعد النفس لقبول اليقين من دليل ، ربما استعدت لقبوله من مجموع أدلة ، كما ذكر في الاقناعيات ، ومن حصل له اليقين ببرهان واحد استغنى به عما سواه .
____________________
(1/417)
فارغة
____________________
(1/418)
الفصل الثاني في ما يظهر عن النفس من القوى النباتية وهي التي لا يشك في أنه يشترك فيها الانسان والحيوان الأعجم والنبات قد علمت أن أصول القوى النباتية : اثنان لأجل الشخص ، وهما : الغاذية والنامية ، وواحدة لأجل النوع وهي المولدة ، وهذه فلا شك في حصولها للنبات ، ولهذا سميت نباتية . بخلاف الادراك والحركة الارادية ، فإنها مشكوك في حصولها له . القوة الأولى الغاذية وهي التي تحيل الغذاء إلى مشابهة المغتذي ، ليخلف بدل ما يتحلل ، وتهيء مع ذلك للتربية والنمو والتوليد . ففعلها هو الاستحالة إلى مشابهة المغتذي . ومحل ذلك الفعل هو الغذاء ، وغايته هو أخلاف بدل المتحلل ، ( مهما يتبعه ) من التهيئة المذكورة وتخدم هذه قوى أربع منها : الجاذبة ، وهي التي تأتيها بالمدد ، وهي موجودة في كل عضو من الحيوان . أما في المعدة فلأن حركة الغذاء من الفم إليها ، ليست إرادية ، وإلا لكان الغذاء حيوانا ، ولا طبيعية ، وإلا لم يحصل الازدياد عند الانتكاس .
____________________
(1/419)
فهي إذن قسرية ، لا يدفع من فوق ، بل يجذب من العضو ، لما تجده من جذب المريء والمعدة للطعام من الفم ، عند الحاجة الشديدة ، من غير إرادة الحيوان . ولأن المعدة تجذب الطعام اللذيذ إلى مقرها ، ولهذا تخرج الحلواء بالقيء أخيرا ، وإن كان الانسان يتناولها بعد تناوله غيرها من الأغذية . وأما في الرحم ، فلأنه قد يحس جذبها للاحليل وقت الجماع ، إذا انقطع الطمث عنها ، وخلت من الفضول وأما في سائر الأعضاء ، فلأن الأخلاط الأربعة التي هي : الدم والصفراء والبلغم والسوداء ، تخلط في الكبد ، ويتميز كل واحد منها ، وينصب إلى عضو معين ، فلولا أن العضو جاذب لذلك الخلط بعينه ، لما اختص كل عضو بخلط خاص . ومنها الماسكة للمجذوب ، وفعلها في المعدة الاحتواء على الغذاء ، ولو كان رطبا ، فلا يندفع في الأغلب ، حتى يتم هضمه . وفعلها في الرحم الانضمام على المنى ، ومنعه من النزول ، وإن كان بطبعه ثقيلا ، وكذا ( قياس ) سائر الأعضاء . ومنها الهاضمة ، وهي التي تحيل الغذاء وتعده ، لقبول أثر الغاذية ، وهو إحالته إلى ما يليق بجوهر الحيوان ، أو النبات . وتظهر إحالتها في الانسان عند المضغ أولا ، ولهذا كانت الحنطة الممضوغة تفعل في إنضاج الدماميل ، فوق ما تفعله المطبوخة في المعدة ثانيا ، وهو أن يصير الغذاء كماء الكشك الثخين ، وهو الكيلوس ، ثم في الكبد ثالثا ، وهو أن يصير بحيث تحصل منه الأخلاط الأربعة ، ثم في العروق رابعا ، وهو صيرورته بحيث يصلح أن يكون جزءا من العضو .
____________________
(1/420)
ومنها الدافعة للثقل ، ولهذا نجد الأمعاء عند التبرز ( لوحة 321 ) كأنها تنتزع من موضعها ، بدفع ما فيها إلى أسفل ، وترى الأحشاء تتحرك إلى أسفل ، وقد يتهيأ الفضل لقبول فعلها فيه بقوة أخرى ، لعلها الهاضمة أيضا ، كتلطيف الغيظ وتكثيف الرقيق ، وأمثال ذلك . وأثر الغاذية الاحالة والتشبيه والالصاق . القوة الثانية النامية ، وهي قوة توجب الزيادة في أجزاء المغتذي على نسبة طبيعية محفوظة في الأقطار ، لتبلغ إلى تمام النشوء ، فبهذه القيود خرجت الزيادات الصناعية ، وما هو كالورم والسمن . وقد يوجد الأسمان مع سقوط القوة ، كما في حق الشيخ ، وقد يوجد الهزال مع النمو ، كما في الصبي . وقد تكون النامية هي الغاذية ، فإن كلتيهما تفعل تحصيل الغذاء والصاقه وتشبيهه . فإن كانت هذه الأفعال على قدر ما يتحلل ، فهو الاغتذاء وإن كان زائدا فهو النمو . إلا أنه في الابتداء يكون قويا جدا ، والمادة مطيعة ، فيكون وافيا بإيراد المثل ، والزيادة ، ( و ) بعد ذلك تضعف ، فلا تقوى إلا على إيراد المثل فقط . القوة الثالثة المولدة ، وهي قوة تفيد تخليق البروز بطبيعة ، وأفادة أجزائه هيئات تناسبها ، مما يصلح لمبدأية شخص آخر من نوعه ، أو من جنسه . وهي في الانسان وكثير من الحيوان تجذب الدم إلى الانثيين من الأعضاء ، فتتقبل الآثار المتعلقة بالتوليد ، فتغير تغيرا معدا لحصول صورة النطفة فيه ، ثم تلحقه عفونة تعد المادة التركيبية ، لخلع صورة
____________________
(1/421)
ولبس أخرى . وإذا تعلقت النفس بها تبعها مزاج غير الذي كان في المادة يعد لقبول آثار النفس . وتنقسم المولدة إلى نوعين : ما يفصل جزءا من الغذاء بعد الهضم التام ، ليصير مبدأ لشخص ( آخر ) من نوعه أو جنسه ، وما يفيد بعد استحالته الصور والقوى والأعراض الحاصلة للنوع الذي انفصل عنه البرز ، أو بجنس ذلك النوع والمادة التي تفعل فيها المولدة في الحيوانات التي نعرفها ، هو المنى ، وهو فضل الهضم الأخير . وذلك إنما تكون عند نضج الدم في العروق ، وصيرورته مستعدا استعدادا تاما ، لأن يصير جزءا من جوهر الأعضاء ، ولذلك فإن الضعف الذي يحصل من استفراغ المنى أقوى مما يحصل من استفراغ أمثاله من الدم ، لأن ذلك يورث الضعف في جواهر الأعضاء الأصلية . ومجموع القوى التي في النبات يقال لها القوى الطبيعية . وبالكيفيات الأربع يتم أمر هذه القوى ، فإن الحرارة تلطف ، وتحرك المواد ، والبرودة تسكن وتعقد ، والرطوبة توءاتي لقبول التشكل والتخلق ، واليبوسة تحفظ الشكل وغيره ، وتفيد التماسك . وخلقت الحرارة في الحيوانات ، أو في بعضها أكثر من الرطوبة ، لتتمكن بها القوى من تصليب الرطوبة وعمل العظام والغضاريف وما شاكلها منها . فإذا صلبت قلت الرطوبة ، وكانت الحرارة باقية على جملتها ، فتمعن في إفناء باقي الرطوبات ، إلى أن تأتي على جميعها ، فيموت ذلك الحيوان ، ولموته أسباب أخرى مذكورة في كتب الطب . والغاذية تخدم النامية ، وتخدمان جميعا المولدة ، وفي الانسان تبقى الغاذية بعد القوتين ، وتحدث المولدة بعد الغاضية والنامية ، وتبقى الغاذية والمولدة بعد النامية .
____________________
(1/422)
وقد تكون هذه القوى في الحيوانات والنباتات عبارة عن استعدادات تابعة لهيئاتها ، والباقي في أمور سماوية ، أو ما يجري مجراها . وربما كان مبدؤها أمرا واحدا ، في الحيوان والنبات ، تعاونه الأمور السماوية ، على حسب الهيئات والأسباب الخفية ، وتصرفه إلى فعل على ما يتم به نوعه أو شخصه . وبطلان التوليد والنمو ، ربما يعلل في بعض الأشخاص أو الأوقات ببطلان استعداد مزاجي ، يناسب ذلك الفعل . وقد تختلف أمزجة الانسان اختلافا يوجب الاستعداد لقوى مختلفة عن مبدأ واحد وتبطل تلك القوى أو بعضها ، والمبدأ باق ، ويكون البطلان راجعا إلى بطلان استعداد القابل وجاز أن يكون ذلك المبدأ هو النفس ، وجاز أن يكون غيرها ، لكن لا يحصل إلا عند تعلقها بالبدن ، كما أدت إليه التجربة في الانسان وغيره . وبهذا الاعتبار نسبت هذه القوى إلى النفس ، وجعلت من آثارها . ويدل على ارتباط هذه القوى بالنفس ، ما يعتري مستشعر الخوف من سقوط الشهوة ، وفساد الهضم ، والعجز عن كثير من الأفعال الطبيعية ولهذا إذا تصرفت النفس بالكلية إلى أمر يهمها ، أو عبادة ، أو التفات إلى معشوق ، وقعت الأفعال الطبيعية المذكورة ، أو ضعفت ، وكثير من هذه القوى أضيف إليها أفعال لا تصح إلا من ذي شعور وادراك . وكيف ينسب التركيب العجيب الذي في أبدان الحيوانات ، وخاصة الانسان ، إلى قوة عديمة الشعور والادراك ، حالة في الجسم ، متشابهة في الحس ، وهو المنى .
____________________
(1/423)
ولو كان المبدأ لحدوث ( لوحة 322 ) خلفة الأعضاء ، وصورها ، قوة مركزة في النطفة ، لكانت النطفة : إما متشابهة في الحقيقة ، كما هي متشابهة في الحس ، أو ليس . فإن كانت متشابهة في الحقيقة ، وجب أن يكون الشكل الحادث من تلك القوة ، في تلك المادة الكثرة ، لأن القوة التي تفعل بلا شعور ، إذا كانت سارية في المادة ، وكانت المادة متشابهة لم يكن الأثر إلا واحدا متشابها . وإن لم تكن النطفة متشابهة ، مع أنها سيالة رطبة رقيقة ، لزم ألا ينحفظ فيها ترتيب الأجزاء ، ولا نسبة بعضها إلى بعض . فكان ينبغي ألا يبقى ترتيب الأعضاء ورصفها ، على نسبة واحدة في الأكثر ، وليس الأمر كذا . ثم لا بد في النمو من ورود مادة وحدوث خلل في المورود عليه . وحركات الوارد ليست إلى جهة واحدة ، بل إلى جهات مختلفة ، بحسب الأعضاء ، وهي في كل عضو إلى أصواب في الطول والعرض والعمق ، فليست هذه الحركات مما يصح صدورها ، عن قوة واحدة متشابهة الحال . وكذا الحال في التغذية به ، عند سد ما يتحلل . والصاق الغذاء بالأجزاء المختلفة ، وبدون الادراك ، لا تصح هذه التحريكات المختلفة ، والالصاقات . ونحن نعلم قطعا أن هذا الادراك المذكور ليس للنفس الانسانية . فإن انفعال هذه القوى دائمة في البدن ، والنفس غافلة عنها . ونحدس حدسا موجبا للقين ، أن الحيوانات العجم أيضا ، لا تدرك أفعال هذه القوى في أبدانها . فإذن هو إدراك موجود آخر ، معين بهذه الأنواع في عالمنا . وتتمة البحث فيه سيأتي في المواضع الأليق به .
____________________
(1/424)
الفصل الثالث في قوى الحس والحركة الارادية ، وهي التي تصدر عن نفس الانسان ، ولا يشك ( في ) أنها حاصلة لباقي الحيوانات ما يصدر عن الارادة من الحركات له مبادىء أربعة مترتبة : أولها - الادراك ، وهو أبعدها عن الحركة ، فإنا إذا أحسسنا أو تخيلنا أو توهمنا أو تعقلنا في شيء من الأشياء أنه نافع أو ضار ، سواء كان ذلك مطابقا لما في نفس الأمر ، أو غير مطابق له ، انبعث من ذلك الادراك شوق : أما إلى طلبه ، إن كان إدراكه نافعا ، وأما إلى التهرب منه أو دفع ضرره ، أن كان أدراكه ضارا ، وهذا الشوق هو المرتبة الثانية . ويدل على مغايرته للادراك أنه قد يدرك ما لا يشتاق إليه ، ولا إلى دفعه والهرب منه . وقد يتفق الادراك في جماعة ، ويختلف الشوق منهم . والاشتياق إلى جلب ما يعتقد نافعا أو لذيذا ، يسمى قوة شهوانية وإلى دفع المكروه والمؤذي يسمى قوة غضبية . ويتبع هذا الشوق أجماع على الطلب أو الهرب ، وهو المرتبة الثالثة .
____________________
(1/425)
والدال على مغايرته للشوق كون الشرق قد يكون حاصلا ، ولا اجتماع ، وقد يريد تناول ما لا يشتهيه ويشتهي ما لا يريد تناوله ، وكأنه كمال للشوق وتأكيده . فإن الشوق قد يكون ضعيفا ، ثم يقوى ، حتى يصير إجماعا ، وهذه المراتب الثلاث هي الباعثة على الحركة . وأما الفاعلة المباشرة لها ، فهي المرتبة الرابعة ، وهي قوة تنبعث في الأعصاب والعضلات من شأنها أن تشنج العضلات ، بجذب الأوتار والرباطات وإرخائها وتمديدها . ودلت على مغايرتها لما قبلها من المبادىء كون المشتاق المجمع قد لا يقدر على التحريك ، وكون من لا يشتاق قد يقدر عليه . هذه هي المحركة على الحقيقة ، وغيرها يقال له محرك بالمجاز . وحكم الثلاثة الأول حكم الأمر المخدوم ، وحكم هذه حكم المأمور الخادم لتلك . والاحساس الموجود في الانسان وغيره من الحيوان : أما إحساس بالحواس الظاهرة ، وإما إحساس بالحواس الباطنة . والحواس الظاهرة على حسب ما وجدناه ، لا على وجه الجزم بأنه لا يمكن غيرها أو لم يوجد ، خمسة : الحاسة الأولى اللمس ، وهو أهمها للحيوان إذ لا يصح أن نفقده ، ويكون حيا فيما نجد ، وذاك لأن الحيوانات التي نشاهدها ، تركيبها الأول من ذوات الكيفيات الملموسة ، ومزاجه منها ، وفساده باختلافها .
____________________
(1/426)
والحس طليعة للنفس ، ويجب أن يكون للطليعة قوة تدل على ما يدفع به الفساد ، ويحفظ به الصلاح ، وذلك هو الحواس ، ويبعد أن يكون حيوان له حس اللمس ، ولا قوة محركة فيه ، لأنه إن أحس بالموافق طلبه ، وإن أحس بالمنافي هرب منه . ومدركاته هي : الحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، والملامسة والخشونة ، والخفة والثقل ، وما يتبع هذه كالصلابة واللين واللزوجة والهشاشة وغير ذلك . وجاز أن تكون قوى اللمس كثيرة ، فيدرك كل ضدين من هذه بقوة . وجاز أن يكون إدراك الثقيل والخشن والصلب وغيرهما ، بضرب من تفريق اتصال ، أو انعصار آلة . لكن إدراك الحرارة والبرودة ، لا يجوز أن يكون كذلك ، وإلا لما وقع ( لوحة 323 ) الاحساس بهما ، إحساسا يتشابه في جميع مواقع اللمس ، بل كان يقتصر على مواقع التفريق ، ولا يعم التفريق عضوا واحداً على التشابه . وهذه القوة موجودة في جميع جلد البدن ، لشدة الحاجة إليها . ولا يتم اللمس إلا بالمماسة ، والمؤدي له إلى الأعضاء هو العصب ، كما شهدت به المباحث الطبية . وليس متعلقا بالعصب دون اللحم ، وإلا لكان الحساس شيئا منتشرا كالليف ، بل قابل ومؤد . وما كان من أمزجة اللامسات أقرب إلى الاعتدال ، كان ألطف إحساسا . ولا يشعر بما كيفيته مثل كيفية العضو المدرك ، فإن الادراك لا يقع إلا عن انفعال ، والانفعال لا يقع إلا عن جديد ، إذ الشيء لا ينفعل عن ذاته أو عن مساويه .
____________________
(1/427)
الحاسة الثانية الذوق وآلته في الانسان ، وما نعرفه من الحيوان ، هو العصب المفروش على سطح اللسان ، وهو تال للمس في المنفعة ، ويشبهه في الاحتياج إلى الملامسة ، ويفارقه في أن نفس الملامسة لا تؤدي الطعم ، بل المؤدي له فيما نجده في الانسان ، هو رطوبة عذبة عادمة للطعم في نفسها ، تنبعث من الآلة المسماة الملعبة ، فتؤدي الطعوم بصحة لتكيفها بها ، إلا أن يخالطها طعم ، كما في بعض الأمراض . وأنت تعلم أنه قد يتركب من الطعم واللمس شيء واحد ، لا يتميز في الحس ، فيصير ذلك كطعم محض كالحرافة ، فإنها تفرق وتسخن وينفعل عنها سطح الفم انفعالا لمسيا ، ولها أثر ذوقي ، ولا يتميز إدراكها اللمسي والذوقي . الحاسة الثالثة : الشم ، وهي في الانسان ضعيفة وتشبه رسوم الروائح في نفس الانسان ، كإدراك ضعيف البصر ، شبحا من بعيد . وكثير من الحيوانات الأخرى ، هي أقوى إدراكا لذلك من الانسان . والانسان أبلغ حيلة منها ، في أثاره الروائح الكامنة . ونجد الاحساس الشمي محتاجا إلى انفعال الهواء . ولا يكفي تحلل البخار من ذي الرائحة ، فإن المسك اليسير استحال أن يتبخر تبخرا تحصل منه رائحة منتشرة انتشارا يمكن أن ينتشر منها في مواضع كثيرة روائح كل واحدة منها ، مثل التي أحس بها أولا . فالحق أن الهواء المتوسط يتكيف برائحة ذي الرائحة ، ويؤديها إلى الآلة الشامة . وحامل هذه القوى في الانسان هو الزائدتان النابتتان في مقدم الدماغ ، الشبيهتان بحلمتي الثدي ، وليست الرائحة في الهواء فقط
____________________
(1/428)
من دون أن تكون في الجسم الذي يضاف إليه فإن العقل السليم يشهد بأنه لو لم يكن في العنبر مثلا رائحة ما كانت تزداد بتبخره . ولما كان الانسان يحتال في صون البخار ، وضبطه عن التبرد ، ويقصد إلى تصريفه إلى العضو السام . وهذا فيدل على أن للتبخر مدخلا ما في إدراك الروائح ( الحساسة ) . الحاسة الرابعة : السمع ، وهي قوة مرتبة في الانسان ، وحيوانات أخر في العصب المتفرق في سطح الصماخ ، يدرك صورة ما يتأدى إليه بتموج الهواء المنضغط بين قارع ومقروع ، مقاوم له ، انضغاطا بعنف يحدث منه صوت وحرف ، فيتأدى متموجا إلى الهواء المحصور الراكد في تجويف الصماخ ، وتحركه بشكل حركته ، ويماسس أمواج تلك الحركة تلك القصبة . وقد سبق الكلام في كيفية إدراك الصوت والحرف . الحاسة الخامسة : البصر ، وهي قوة مرتبة في الانسان في العصبة المجوفة ، التي تتأدى إلى العين ، تدرك بها الأضواء والألوان ، بانطباع مثل صورة المدرك في الرطوبة الجيليدية من العين التي تشبه البرد والجمد ، فإنها مثل مرآة ، فإذا قابلها متلون مضيء ، أنطبع مثل صورته فيها ، كما تنطبع صورة الانسان في المرآة ، لا بأن ينفصل من المتلون شيء ، ويمتد إلى العين ، بل بأن يحصل مثل صورته في المرآة ، وفي عين الناظر . ويكون استعداد حصوله بالمقابلة المخصوصة ، مع توسط الشفاف : أما توسط ضروري في الرؤية ، وإما توسط اتفاقي ، لعدم الخلاء .
____________________
(1/429)
وليس المراد بحصول الصورة في العين ، وفي المرآة ، ولا بأنطباعها فيهما الحصول والانطباع الحقيقيان ، على أن يكون المنطبع على مقداره ، والا للزم انطباع العظيم في الصغير ، عند إبصارنا لنصف السماء ، وكذا في المرآة . بل الصقيل شرط في ظهور تلك الصور ، على وجه لا نعلم لميته . ولو كانت الصورة في المرآة ، لما اختلفت رؤيتك للشيء فيها ، إذا تبدل موضعك ، والمرآة والشيء بحالهما لم ينتقلا عن موضعيهما ، ولا تغيرا ونحن نجد الشجرة في الماء تختلف مواضعها باختلاف مقامات الناظرين ، ويحتمل أن يحصل الانطباع حقيقة ، لكن لا تنطبع صورة العظيم على مقداره ، بل على مقدار صغير ، تقتضي إدراك الشيء على عظمه ، وتكون على هيئة تفيد إدراك الابعاد ، بين الرائي والمرئي ، كما تنقش الصورة على السطوح ، على وجه يدرك الناظر فيها أعماق ( لوحة 324 ) تلك الأجسام ، وأبعاد ما بينها . ومن شأن الأضواء والألوان المشفة ، الانعكاس على مقابل ما هي له ، فإذا قابلته العين فلا بد من تكيفها بالضوء واللون ، ولهذا نجد الجدران تستضيء بضوء ما يقابلها ، وتتلون بلونه ، كاخضرار الجدار واحمراره من الثياب الخضر والحمر . ويعتبر في الابصار أيضا خروج شعاع من العين على شكل مخروطي ، قاعدته عند المبصر ، ورأسه عند العين . وعلى هذا يبتني علم المناظر ، ويدل عليه لون الحيوانات ، التي تنوء عينيها كثير ، وهي التي ترى أعينها في الظلمة لضوئها تبصر في الليل المدلهم . ومن قوى نور عينه قوى أبصاره ، ومتى قل قل .
____________________
(1/430)
ونور العين محسوس ، فبالضرورة يؤثر فيما يقابله استضاءة ، وليس المراد بخروج الشعاع من العين الخروج الحقيقي ، بل يقال له خروج بالمجاز كما يقال : الضوء يخرج من الشمس ، مع أنه قد تبين قبل أنه يمتنع أن يخرج منها شيء على تقدير ، كون الشعاع جسما . وإن كان ذلك باطلا ، وعلى تقدير كونه عرضا ، وهو الحق . ثم كيف يتصور أن يخرج من الحدقة ما ينبسط على نصف كرة العالم ، ويشغل ما بين السماء والأرض . والكلام في الابصار طويل ، والعلم المتكفل به ، هو علم المناظر والمرايا . وقد ظهر أن الانطباع وخروج الشعاع بالمعنيين المقدم ذكرهما ، كلاهما معتبران فيه ، مع شرائط أخر ، ككون المرائي ليس في غاية القرب ، ولا في غاية البعد ، ولا في غاية الصغر ، وأن يكون مقابلا ومضيئا ، أو في حكم المقابل ، كرؤية الوجه ، بسبب المرآة ، وألا يكون بينه وبين الآلة حجاب . وهذا كله جاز أن يكون شرطا في الابصار عند تعلق النفس بالبدن ، هذا التعلق المخصوص لا مطلقا . وجاز أن يكون ( لا ) مطلقا شرطا لذلك ، ويمكن أن يكون بعض هذه ليس هو شرطا بالذات ، بل بالعرض ، وذلك كالقرب المفرط ، فإنه من المحتمل بأن يكون منعه من الرؤية ، بسبب أن الاستنارة والنورية شرط للمرئي ، فيفتقر إلى نورين : نور باصر ، ونور مبصر . والجفن إذا غمض فلا يستنير بالأنوار الخارجية ، وليس لنور البصر
____________________
(1/431)
من القوة النورية ما ينوره ، فلا يرى لعدم الاستنارة ، لا لكونه قريبا ، وكذا كل مفرط القرب والبعد المفرط في حكم الحجاب ، لقلة المقابلة . ولعله كلما كان الشيء أقرب كان أولى بالمشاهدة ما بقي نورا ومستنيرا ، كالشمس ، لو كانت في القرب ، مثل الجفن ، وفي المرئيات ما هو مرئي بالعرض ، كالوضع والتشكل والتفرق والاتصال والعدد والبعد ، والملاسة والخشونة ، والحركة والسكون ، والشفيف والظلمة والكثافة ، والقبح والحسن ، والتشابه والاختلاف ، والضحك والبكاء ، والطلاقة والعبوس ، وغير ذلك . فإن كل ذلك إنما يدرك بأن يشارك البصر قوة أخرى ، أو قوى أخر ، أو لعدم الابصار ، كما في الظلمة ، فيكون مرئيا بالمجاز . والحواس الباطنة في الانسان على ما وجدناه ، وإن احتمل إمكان غيرها ، لم نجده من أنفسنا خمسة أيضا ، بعدد الظاهرة : أولها - الحس المشترك ، وآلتها التجويف الأول من الدماغ ، وهي تدرك جميع الصور التي تدركها الحواس الظاهرة متأدية إليها ، وإليها يرجع أثرها ، وفيها يجتمع ، وكأنه رواضع لهذه القوة ، ولولاها ما أمكن لنا أن نحكم أن هذا المشموم ، هو هذا الأبيض ( الحاضرين ) فإن الحس الظاهر منفرد بأحدهما ، والحاكم لا بد له من حضور الصورتين ، حتى يحكم بجمع أو تفريق بينهما . وثانيهما - المصورة ، وتسمى الخيال أيضا ، ويجتمع فيها مثل جميع المحسوسات ، بعد غيبتها عن الحواس الظاهرة ، وهي خزانة لتلك القوة ، وهي في ذلك التجويف أيضا ، وجاز كونها في موضع آخر منه . ويدل على تغايرهما أن القبول بقوة غير القوة ، التي بها الحفظ ، واعتبر ذلك من الماء ، فإن له قوة النقش ، وليس له قوة تحفظه .
____________________
(1/432)
وكما أن النفس لا تقدر على الحكم في الجميع ، إلا بقوة مدركة للجميع ، فكذلك لا يقدر عليه إلا بقوة حافظة للجميع ، وإلا فتنعدم صورة كل واحد من مدركات القوة عند إدراكها الآخر ، والتفاتها إليه . وبهاتين القوتين نبصر القطر النازل خطا مستقيما . والنقطة الدائرة بسرعة خطا مستديرا ، على سبيل المشاهدة ، لا على سبيل تخيل أو تذكر . والبصر لا يدرك إلا المقابل وهو قطرة أو نقطة ، ففي قوى الانسان قوة يؤدي إليها البصر ، فيشاهد ما أدى إليها ، وقبل غيبوبة تلك الصورة ، أدى إليها ذلك في موضع آخر ، وكذلك حتى حصل من مجموع تلك الادراكات خط أو دائرة . وكذلك النائم يرى في نومه أمورا يشاهدها ، لا على ما يكون عليه حال التخيل ، وكذا جماعة من المرضى وغيرهم يشاهدون ، مع تعطل حواسهم الظاهرة صورا ، لا يجدها الحاضرون معهم في الخارج . وربما كانت بحيث لم توجد في الأعيان سببها . والأمور التي يتخيلها الانسان في غاية أوقاته ، ليس فيها مشاهدة . وما ذاك إلا لأن الادراك ( لوحة 325 ) بهاتين القوتين ، قد يقوى ، فتكون مشاهدة ، ويكون ضعيفا في الأغلب ، فيكون تخيلا . وثالثها - القوة الوهمية ، وهي في التجويف الأوسط من دماغ الانسان ، تحكم بها النفس أحكاما جزئية . وتدرك في المحسوسات بالحواس الظاهرة معاني غير محسوسة بها ، مثل إدراك الشاه عداوة الذئب ، وإدراك الكلب معنى فيمن أنعم عليه موجبا للمتابعة والخضوع له ، وليس ذلك بالعين ، بل بقوة أخرى . وهذه لبعض الحيوان الأعجم كالعقل للانسان .
____________________
(1/433)
ورابعها المتخيلة : وهي في التجويف الأوسط أيضا . ويحتمل ألا يكون محلها ، ومحل التي قبلها منه واحدا . ومن شأنها أن تركب الصور بعضها مع بعض ، وكذا المعاني ، وتركب بعض الصور مع بعض المعاني ، وكذلك تفصل الصور عن الصور ، والمعاني عن المعاني وعن الصور ، فيتصور مثلا إنسانا يطير ، وشخصا نصفه شخص فرس ، ويتصور الصديق عدوا ، والعدو صديقا . وهي آلة الفكر في الانسان ، وكما هيأت الأسباب التي بها تحرك العين في المحجر إلى الجوانب ، حتى ينتشر بذلك الابصار والتفتيش عن الغوامض ، فكذلك هيأت الأسباب التي يتأدى بها التفتيش عن الصور والمعاني المحفوظة في خزانتيهما . وهذه تسمى عند استعمال العقل مفكرة ، وربما يستعين ( عليها ) بالوهم ، وتسمى عند استعمال الوهم دون تصريف عقلي متخيلة ، ولولا أنها موجودة في كثير من الحيوانات ، لما كان يرى فيها ما يرى من آثار وتركيبات وتفصيلات عجيبة . وخامسها - الذاكرة ، وهي قوة مرتبة في الانسان في التجويف الأخير من دماغه ، من شأنها أن تحفظ أحكام الوهم ، وجميع تصرفات المتخيلة . ونسبتها إلى الوهم كنسبة الجبال إلى الحس المشترك ، وهي سريعة الطاعة للنفس في التذكر ، وبها يتأتى أن يستخرج عن أمور معهودة أمورا منسية كانت تصحبها . وإنما سمى الحافظ للمدركات والمتصرف فيها مدركا ، لاعانته على الادراك .
____________________
(1/434)
ولأن المدرك الحافظ والمتصرف شيء واحد ، يصدر عنه كل فعل باعتبار آلة أو قوة متعلقة بها . وإنما هدي الناس إلى القضية بأن التجاويف المذكورة هي الآلات في الانسان ، أن الفساد إن اختص بتجويف أورث الآفة فيه ، كما دلت عليه التجارب الطبية ، ولا يتميز بهذا البيان موضع المدرك من موضع الحافظ . ولا تتبين به أيضا موضع القوة الوهمية ، فإن الأطباء لم يتعرضوا إلا للخيال الذي آلته البطن المقدم من الدماغ والفكر الذي آلته البطن الأوسط ، المسمى بالدودة ، وللذكر الذي آلته البطن الأخير ، وحامل جميع القوى النباتية والحيوانية ، ( و ) هو الروح ، وقد سبق ذكره ، وعلم أنه غير النفس الناطقة ، وإن سميت روحا أيضا . وهو جسم لطيف يتولد في القلب ، ويحصل من لطافة الاخلاط وبخاريتها فما يسري منه إلى الكبد ، تتم به الأفعال النباتية ، وما يصعد إلى الدماغ ويعتدل بتبريده يتم به أفعال الحس والحركة الارادية . وكما وصل إلى عضو هو آلة فعل ، اكتسبت من مزاج ذلك العضو مزاجا ، يستعد به لقبول قوة تؤثر ذلك الفعل . وإذا وقعت سدة تمنع من سريانه إلى عضو ، بطل فعل ذلك العضو . وإذا انحبس إلى باطن البدن ، كما في النوم ، تعطلت الحواس الظاهرة ، وقويت أفعال الباطنة ، وأفعال القوى الطبيعية ، ولولا لطافته لما صح سريانه في شباك الأعصاب والعظام ، وكل ذلك دلت التجارب الطبية عليه .
____________________
(1/435)
والكلام في كون هذه القوى استعدادات تتعلق بأعضائها أو غير ذلك وفي كونها تتم بأمور سماوية ، وفي كون مبدئها واحدا أو أكثر ، هو على قياس ما قيل في القوى النباتية ، وانطباع الصور المتخيلة على ما هي عليه من المقدار العظيم في جزء من الدماغ مستحيل ، بل إدراك تلك الصور ، هو على مثل ما قيل في الابصار والأمور الالهامية للأطفال ، لكثير من الحيوانات العجم ، كقصد الثدي وامتصاصه ، وتغميض العين عندما يقصد بالأصبع ، وكحضان الطائر للبيض ، وتغذية الفراخ بالرزق ، وكتجنب كثير من المؤذيات والاهتداء إلى كثير من النافعات ، دال على أن هذه الأشياء ، بمعاونة أمور غائبة عنا ، غير النفوس المتعلقة بهذه الأبدان ، فإنا نعلم قطعا أن الانسان الكامل العقل ، لو خلق دفعة على كمال عقله ، لما اهتدى بعقله في تلك الحالة إلى تناول الثدي ، ولا إلى كثير من أفعال العجم من الحيوانات . وإذا لم يكف العقل التام في الاهتداء إلى هذه وأمثالها ، فكيف ما هو دونه . ومما يدل على افتقار النفس في ملاحظتها للصور الحسية والخيالية ، إلى أن تكون مرتسمة في أمر مادي تلاحظ الصور فيه . وتكون آلة النفس في إدراك تلك الصور ، أو كالآلة لها في ذلك ، هو أنا نتخيل كبيرا وصغيرا ، من نوع واحد . وليس التفاوت للنوع ( لوحة 326 ) فإنه واحد ، ولا للمأخوذ عنه تلك الصورة ، فقد تكون مأخوذة لا عن أمر خارجي ، فليس إلا لمحل مقتدر ، ونحن إذا تخيلنا شكلا صليبيا على مقدار ما مثلا ، فإنا نفرق بين ما على اليمين واليسار . وليس التيامن والتياسر باعتبار ما منه ، فقد لا يكون ذلك الشكل مأخوذا عن أمر في الخارج ، ليكون يمينه ويساره على يمينه ويساره ، أو
____________________
(1/436)
لا لاختلاف النوع ، فإن نوعهما واحد ، ولا لشيء من الأعراض ، لأنا نفرض تساويهما فيها ، ولا مدخل لهما في التيامن والتياسر . وليس لوضع يمين ويسار كليين ، فإن المدرك الخيالي يدركه متشخصا ، فليس إلا لوضع حامله . ولو حصلت صورة الامتداد المعين الذي لا وجود له في الأعيان ، في مجرد عن المادة ، لما اجتمع ما يفرض أجزاء له في محل واحد ، إذ لا يبقى لتلك الأجزاء ترتيب وحجم ، فلا بد من تقدير ، وقد فرض مجرد هذا محال .
____________________
(1/437)
فارغة
____________________
(1/438)
الفصل الرابع في القوى التي لا نعلمها حاصلة لغير الانسان من الحيوانات الأخر النفس الناطقة الانسانية تنقسم قواها إلى قوة عملية وقوة نظرية . وكل واحد من القوتين تسمى عقلا بالاشتراك . فالعملية قوة هي مبدأ حركة بدن الانسان إلى الأفاعيل الجزئية الخاصة بالروية ، على مقتضى آراء تخصها صلاحية . ولها نسبة إلى القوة النزوعية ، ومنها يتولد الضحك والبكاء ونحوها . ونسبة إلى الحواس الباطنة ، وهي استعمالها في استخراج أمور مصلحية وصناعات وغيرها . ونسبة إلى القوة النظرية ، ومنها تحصل المقدمات المشهورة . وهذه القوة هي التي يجب أن تتسلط على سائر قوى البدن ، على حسب ما توجبه أحكام القوة الأخرى ، حتى لا تنفعل عنها البتة ، بل تنفعل هي عنه ، وتكون مقموعة دونه ، لئلا يحدث فيها عن البدن وهيئات انقيادية مستفادة من الأمور الطبيعية ، هي التي تسمى أخلاقا رذيلة . بل يجب أن تكون غير منفعلة البتة وغير منقادة ، بل متسلطة ، فيكون لها أخلاق فضيلة . والنفس وقوى البدن كل منهما ينفعل عن الآخر ، ولولا ذلك لما كان بعض الناس أشد غضبا ، ونحوه من الملكات من بعض ، ولما كان من يتفكر في عظمة الله تعالى وجبروته ينفعل بدنه عن ذلك . والنفس جوهر واحد ، وله نسبة وقياس إلى جنبتين : جنبة هي تحته ، وجنبة
____________________
(1/439)
هي فوقه . وله بحسب كل جنبة قوة بها تنظم العلاقة بينهما . فهذه القوة هي التي لها بالقياس إلى الجنبة التي دونها ، وهو البدن وسياسته . والقوة النظرية هي : القوة التي لها بالقياس إلى الجنبة التي فوقها : لتنفعل وتستفيد منه ، وتقبل عنه ، كما يتبين لك ذلك فيما بعد . ويجب . ولكون الصورة الوهمية لا تدرك إلا في صورة حسية أو خيالية ، افتقرت النفس في إدراكها أيضا إلى آلة جسمانية . ولا يقدم في ذلك كون الهيولي ، لا مقدار لها في حد ذاتها ، مع أن الجسمية والمقدار ينطبعان فيها ، فإن الهيولي لا تتحصل موجودة إلا بهما ، فلا توجد إلا ولها وضع ، وذلك بخلاف النفس ، وكل مجرد فإنه لا يجوز كونها ذات وضع البتة . ولهذه في إدراك النظريات من المعقولات مراتب أربع : وذلك لأن الشيء الذي من شأنه أن يقبل شيئا ، قد يكون بالقوة قابلا له . وقد يكون بالفعل ، والقوة قد تكون قريبة ، وقد تكون بعيدة ، فأول المراتب هو الاستعداد المطلق الذي لم يخرج إلى الفعل منه شيء ، ولا أيضا حصل ما به يخرج إلى الفعل ، كقوة الطفل على الكتابة . فإذا كان حال النفس بالنسبة إلى قبول المعقولات هذه الحال ، سميت بالعقل الهيولاني ، تشبيها له بالهيولي الأولى ، التي ليست بذات صورة ، وهي موضوعة لكل صورة . وثاني هذه المراتب ألا يحصل للشيء إلا ما يمكنه به أن يتوصل إلى اكتساب الفعل بلا واسطة ، كقوة الصبي الذي ترعرع وعرف القلم والدواة وبسائط الحروف على أن يكتب .
____________________
(1/440)
ونظير ذلك في النفس بالقياس إلى معقولاتها المكتسبة بالنظر ، أن يحصل فيها من المعقولات الأولية ما يمكنها أن تتوصل منها وبها إلى المعقولات الثانية ، وحينئذ تسمى عقلا بالملكة ، وإن كانت بالقياس إلى ما قبلها بالفعل . والانتقال من الأوائل إلى الثواني قد يكون بالفكر ، وقد يكون بالحدس ، بأن يتمثل الحد الأوسط في الذهن دفعة : أما عقيب طلب وشوق من غير حركة ، وأما من غير اشتياق وحركة ، ويتمثل معه المطلوب وما يلزمه . فلا فرق بين الفكر والحدس ، ألا وجود الحركة في الفكر وعدمها في الحدس . وكلاهما يختلف فيه الناس في قتله وكثرته ، وبطئه وسرعته . وكما تجد جانب النقصان ينتهي إلى عديم الحدس ، وغير منتفع بالفكر فأيقن أن الجانب الذي يلي الزيادة يمكن انتهاؤه إلى غنى في أكثر أحواله عن التعلم والتفكر ( لوحة 327 ) وثالث المراتب المذكورة ، هو أن يكون فقط ، كقوة الكاتب المستكمل للصناعة ، إذا كان غير كاتب بالفعل . ونظيره في النفس ، أن تحصل لها الصور المعقولة المكتسبة ، بعد المعقولة الأولية ، إلا أنه ليس يطالعها ويرجع إليها بالفعل . بل كأنها عنده مخزونة ، فمتى شاء طالعها ، فعقلها وعقل أنه عقلها . ويسمى عقلا بالفعل ، وإن كان بالقوة إذا قيس إلى ما بعده ، إلا أنه قوة قريبة إلى الفعل جدا . ورابع تلك المراتب ، هو أن يتحصل بالفعل ما كان الاستعداد له أن يفعل متى شاء من غير حاجة إلى اكتساب ، بل يكفيه أن يقصد استعدادا لها ، كالمستكمل لصناعة الكتابة ، في حال مباشرته لها ، وهذه هي الفعل المطلق .
____________________
(1/441)
ويحصل للنفس إذا كانت الصورة المعقولة حاضرة لها ، وهي مطابقة لها بالفعل وعاقلة بالفعل ، بأنها عاقلة لها كذلك . وتسمى حينئذ عقلا مستفادا ، ( وإنما سمى ) مستفادا لما سيتضح فيما بعد أنه إنما يخرج إلى الفعل ، بسبب يخرج إليه ، إذا اتصل به نوعا من الاتصال . فهذه هي مراتب العقل النظري . وإطلاق لفظة العقل عليها بالاشتراك أيضا . وعند العقل المستفاد يتم الجنس الحيواني ، والنوع الانساني ، وهو الرئيسي المطلق والغاية القصوى ، وكل القوى خادمة له . ألست ترى كيف يخدمه العقل بالفعل المخدوم للعقل بالملكة ، المخدوم للعقل الهيولاني ، المخدومات كلها للعقل العملي . إذ الغاية من العلاقة البدنية هي تكميل العقل النظري . والعقل العملي هو المدبر لتلك العلاقة . وهو مخدوم للوهم المخدوم لقوة بعده ، هي الحافظة ، وأخرى قبله هي المتخيلة وسائر القوة الحيوانية . ثم المتخيلة تخدمها قوتان مختلفتا المأخذين : فالقوة النزوعية تخدمها بالائتمار ، فإنها تبعثها على التحريك . والقوة الخيالية تخدمها بعرضها الصور المخزونة فيها المهيئات لقبول التركيب والتفصيل . ثم هذان رئيسان لطائفتين : أما القوة الخيالية فإنه يخدمها الحس المشترك المخدوم للحواس الظاهرة . وأما القوة النزوعية فتخدمها الشهوة والغضب ، وهما مخدومان للقوة المحركة في العضل .
____________________
(1/442)
وههنا تفنى القوة الحيوانية ، ثم القوة الحيوانية بالجملة تخدمها القوة النباتية ، وأولها وأرأسها المولدة ، ثم المربية تخدم المولدة ثم الغاذية تخدمها جميعا . ثم القوى الطبيعية الأربع ، تخدم هذه ، والهاضمة تخدمهما من جهة الماسكة ، ومن جهة الجاذبة والدافعة . وتخدم جميعها الكيفيات الأربع . لكن الحرارة تخدمها البرودة ، وتخدم كلاهما اليبوسة والرطوبة وجاز أن تكون النظرية والعملية مجرد اعتبارين للنفس لا غير . وجاز كونهما بسبب قوى ثابتة في النفس أو هيئات ولا مانع أن يكون كمال القوتين ونقصانهما ، بسبب استعدادات تلحق من القوى البدنية ، وأحوال المتخيلة وكثرة التفات النفس وقلته إلى أحد الجانبين ، أعني : العالي والسافل . ولأحوال المزاج فيه مدخل ، كما قد يكون بعض الناس مزاجه يناسب الغضب أكثر ، وبعضه الأمور الشهوانية ، وهكذا الخوف والغم وغيرها . ولا يعرض ذلك للنفس من حيث جوهرها ، بل بعضه يعرض للبدن من حيث هو ذو بدن ، كالشهوة والغضب . وللمباديء الغائبة عنا فيما يحدث في النفس مدخل عظيم ، قد سبق منه أنموذج . والنفس هي أصل القوى كلها ، وليس فينا نفس إنسانية وأخرى حيوانية وأخرى نباتية ، لا يرتبط فعل بعضها بفعل بعض ، فإن لك أن تقول : أحسست ، فغضبت ، وأدركت فحركت فمبدأ الجميع أنت ، وأنت نفس شاعرة ، كل القوى من لوازمها ، وهي بجملتها آلات لها ، إذ المحركة ليست إلا لجلب النافع ، أو دفع الضار . والمدركة ليست إلا كالجواسيس التي تنتقص الأخبار ، والمصورة والذاكرة ، هي لحفظها .
____________________
(1/443)
وعلى هذا حال جميع القوى ، إذا اعتبرتها ، وكذا كل عضو من البدن ، فإنه إنما أعد لغرض يرجح إلى النفس ولست أمنع بهذا القول أن يتعلق بالبدن الواحد نفسان ، أو نفوس تستكمل به استكمالا ما ، ونحن لا نعلم بها . وجاز أن تكون هذه النفوس متفاوتة في رتبة الاستكمال وينتهي الترتيب إلى نفس واحدة ، هي رئيسة الكل . ولعل هذه النفوس هي القوى المطيعة لهذه الرئيسة . إنما الذي لا يجوز هو أن تتعلق نفسان ببدن واحد تعلقا ، هو كهذا التعلق الذي نجده لنفسنا مع بدننا . فإنه لو أمكن ذلك ( اختلاف أحوال البدن ) لوجب بأن يحصل فيه المتقابلان معا : كالحركة والسكون والنوم واليقظة . والذي نجزم به ونتحققه ، هو أن جميع إدراكاتنا ، وتحريكاتنا الارادية الصادرة عن إدراكنا ، هي لنفس واحدة مدركة لجيمع أصناف الادراكات ، لجميع أصناف المدركات . ولولا ذلك لما حكمت ببعض المدركات على البعض ، فإن الحاكم على شيء بشيء ، يجب أن يكون مدركا لكل منهما ، وإن كان بعضه بآلة بدنية ، وبعضه بغير آلة بدنية ، وهي الموصوفة بالشهوة والنفرة واللذة والألم والارادة والقدرة والفعل . ولو لم يكن الأمر كذا ، لما لزم من إدراكها حصول هذه الأشياء ، ولا ارتبطت به هذا الارتباط ، الذي نجده من أنفسنا . وهذا عند التأمل له ، والتنبيه عليه ، أولى عند العقل ، لا حاجة إلى اكتسابه ببرهان .
____________________
(1/444)
الفصل الخامس في المنامات والوحي والالهام والمعجزات والكرامات والآثار الغريبة الصادرة عن النفس ودرجات العارفين ومقاماتهم وكيفية ارتياضهم دلت التجربة على أن للنفس الانسانية أن تطلع على بعض المغيبات ، في حالة النوم . فمن الناس من جرب ذلك من نفسه ، ومنهم من جربه من غيره ، فإن خلقا كثيرا يستحيل التواطوء في حقهم على الكذب ، يحكون عن أنفسهم رؤيا منامات يقع لنا عينها ، أو تفسيرها . وقد يتفق لجماعة من الممرورين والمجانين مثل ذلك ، في حال اليقظة . وأكثره يعرض لهم عند أحوال : كالصرع ، والغشى ، تفسد حركات قواهم الحسية . واطراد ذلك أفادنا ، أن لقلة الشواغل الحسية مدخلا عظيما ، في تلقي الغيب من مفيده .
____________________
(1/445)
وبهذا علم أن التفات النفس إلى جانب البدن ، مانع لها عن تلقي المغيبات ، وأنها متلقية للغيب من الجانب الأعلى ، ولهذا قد يستعين بعضهم في تلقي الغيب بأقوال مجبرة للحس الظاهر موقفة للخيال ، فيستعدون بذلك لتلقي ما يتلقونه منه ، بحسب الاستعداد المخصص له . والمدركات التي تدركها النفس في حالة النوم ، وما يجري مجراه ، من الأحوال التي نبهت عليها : إما أن يكون إدراكها بسبب اتصال النفس بعالم الغيب ، عندما يحصل لها فراغ عن شغل البدن ، أو لا يكون إدراكها لها ، كذلك فإن كان الأول فذلك الادراك إما أن يكون عند كون الانسان نائما ، أو عند كونه يقظان . فأما الذي عند النوم فسببه ركود الحواس ، بسبب انحباس الروح الحاملة لقوة الحس عنها ، لأن النفس لا تزال مشغولة بالتفكير فيما تورد الحواس عليها . فإذا وجدت فرصة الفراغ ، وارتفع عنها المانع ، استعدت للاتصال بالجواهر الروحانية ، فانطبع فيها ما في تلك الجواهر من صور الأشياء لا سيما ما هو أليق بتلك النفس من أحوالها ، وأحوال ما يقرب منها من الأهل ، والولد ، والبلد .
____________________
(1/446)
ويكون انطباع تلك الصور في النفس منها ، عند الاتصال ، كانطباع صورة مرآة أخرى تقابلها عند ارتفاع الحجاب بينهما . وقد عرفت ما المراد بالانطباع ههنا ، وأنه يطلق مجازا ، لا حقيقة . وهذا دليل على أن تلك الجواهر غير محتجبة عن أنفسنا بحجاب ألبتة من جهتها ، إنما الحجاب هو في قوانا : إما لضعفها ، وإما لاشتغالها بغير الجهة التي عندها يكون الوصول إليها . وإذا لم يكن أحد المعنيين ، فإن الاتصال بها مبذول ، وليست مما تحتاج أنفسنا في إدراكها إلى شيء غير الاتصال بها ومطالعتها . ثم أن تلك الصور إما أن تكون كلية أو جزئية : فإن كانت كلية ، فأما إن تثبت أو تنطوي سريعا . فإن ثبتت فالمتخيلة ، لما فيها من الغريزة المحاكية ، والمنتقلة ، من شيء إلى غيره ، بترك ما أخذت ، وتورد شبهة أو ضده أو مناسبة ، كما يعرض لليقظان من أنه يشاهد شيئا ، فينعطف عليه التخيل إلى أشياء أخرى ، يحضرها مما يتصل به بوجه ، حتى ينسبه الشيء الذي أدركه أولا ، فيعود على سبيل التحليل ، بالتخمين إليه . بأن يأخذ الحاضر مما قد يؤدي إليه الخيال ، فينظر أنه حضر في الخيال تابعا لأي صورة تقدمته ، وتلك لأي صورة أخرى ، وكذلك حتى ينتهي إليه ، ويتذكر ما نسبه كذلك . وهو تحليل بالعكس لفعل التخيل بذلك العالم ، فأخذت المتخيلة تنتقل عنه إلى أشياء أخرى .
____________________
(1/447)
فإذا حاكت المتخيلة تلك المعاني الكلية التي أدركتها النفس بصور جزئية ، ثم انطبعت تلك الصور في الخيال ، وانتقلت إلى الحس المشترك فصارت مشاهدة : فإن كان المشاهد شديد المناسبة لما أدركته النفس من المعنى الكلي ، حتى لا تفاوت بينهما إلا بالكلية والجزئية ، كانت الرؤيا غنية عن التعبير ، وإن لم يكن كذلك فإن ( كانت ) هناك مناسبة يمكن الوقوف عليها ، والتنبيه لها ، كما إذا صور المعنى بصورة لازمة ، أو ضده ، احتيج حينئذ إلى التعبير . وفائدة التعبير هو التحليل بالعكس على الوجه المذكور ، حتى ترجع من الصور ( لوحة 329 ) الخيالية إلى المعاني النفسانية . وإن لم تكن هناك مناسبة ، فتلك الرؤيا مما يعد في أضغاث الأحلام . وإن كانت الصور التي أدركتها النفس من تلك المباديء جزئية ، فقد تثبت تلك الصورة ، وقد لا تثبت . والتي تثبت أن حفظتها الحافظة على وجهها ، ولم تتصرف القوة المتخيلة المحاكية للأشياء بتمثيلها ، فتصدق هذه الرؤيا ، ولا تحتاج إلى تعبير . وإن كانت المتخيلة غالبة ، أو إدراك النفس للصور ضعيفا ، سارعت المتخيلة بطبعها ، إلى تبديل ما رأته النفس بمثال ، وربما بدلت ذلك المثال بآخر ، وهكذا إلى حين اليقظة .
____________________
(1/448)
فإن انتهى إلى ما يمكن أن يعاد إليه ، بضرب من التحليل ، فهو رؤيا تفتقر إلى التعبير ، وإلا فهو من أضغاث الأحلام أيضا . هذا حال ما تتلقاه النفس من تلك المباديء عند النوم ، وأما ما تتلقاه عند اليقظة فعلى وجهين : أحدهما أن تكون النفس قوية وافية بالجوانب المتجاذبة ، لا يشغلها البدن عن الاتصال بالمباديء المذكورة ، وتكون المتخيلة قوية ، بحيث تقوى على استخلاص الحس المشترك عن الحواس الظاهرة ، فلا يبعد أن يقع لمثل هذه النفس في اليقظة ما يقع للنائمين من غير تفاوت . فمنه ما هو وحي صريح ، لا يفتقر إلى تأويل ، ومنه ما ليس كذلك فيفتقر إليه ، أو يكون شبيها بالمنامات الي هي أضغاث أحلام ، إن أمعنت المتخيلة في الانتقال والمحاكاة . وسبب مشاهدة المتخيلات هو أن القوة المتخيلة كالموضوعة بين قوتين مستعملتين لها : سافلة وعالية . فالسافلة هي الحس ، فإنه يورد عليها صورا محسوسة ، يشغلها بها يوردها الحس عليها ، ولا يستعملها العقل فيها . واجتماع هاتين القوتين على استعمالها ، يحول بينها وبين التمكن
____________________
(1/449)
من إصدار أفعالها الخاصة بها على التمام ، حتى تكون الصور التي تحدثها بحيث يحس بها بالحس المشترك مشاهدة . فإذا أعرض عنها إحدى القوتين ، لم تبعد أن تقاوم الأخرى ، في كثير من الأحوال ، فلم تمنع عن فعلها تلك المنعة . فتارة تتخلص عن مجاذبة الحس ، فتقوى على مقاومة العقل ، وتمعن فيما هو فعلها الخاص ، غير ملتفتة إلى معاندة العقل ، وهذا في حال النوم عند إحضارها الصورة كالمشاهدة . وتارة تتخلص عن سياسة العقل ، عند فساد الآلة التي يستعملها العقل في تدبير البدن ، فيستعلى على الحس ، ولا يمكنه من شغلها ، بل يمعن في إثبات أفاعيلها ، حتى يصير ما ينطبع فيها من الصور ، يمعن في إثبات أفاعيلها ، حتى يصير ما ينطبع فيها من الصور ، كالمشاهد لانطباعه في الحواس ، على الوجه الذي يفهم منه الانطباع ، وقد عرفته ، وهذا في حال الجنون والمرض . وقد يعرض مثله عند الخوف لما يعرض من ضعف النفس ، وانخذالها ، واستيلاء الظن والوهم المعينين للتخيل ، على العقل . وثانيهما : ألا تكون النفس قوية على الوجه المقدم ذكره ، فتحتاج إلى الاستعانة حال اليقظة ، بما يدهش الحس ، ويجبر الخيال ، كما سبق . وفي الأكثر إنما يكون ذلك في ضعفاء العقول ، ومن هو في أصل والوهم المعينين للتخيل ، على العقل . وقد يستعين بعض من يستنطق بالغيب بالعدد المشرع ، فلا يزال يلهث فيه ، حتى يكاد يغشى عليه ، ويضبط ما يتكلم به . وربما استعان بعضهم بتأمل شيء شفاف مرعش للبصر ، أو مدهش إياه بشفيفة ، أو بتأمل لطخ من سواد براق ، أو بشيء يتلألأ أو يتموج . ويعين على ذلك أيضا إيهام مسيس الجن ، والاسهاب في الكلام
____________________
(1/450)
المخلط ، وتركيب أصباغ مفرجة وتنجيزات . وهذا كله نقص وإخلال بالقوى وإفسادها وتعطيلها ، وليس بمحمود عند العلماء . وقد يجتمع ضعف العائق ، وقوة النفس بالترطيب ، كما لكثير من المرتاضين من أولى الكد ( والرقص ) والتصفيق وتدوير الرؤس ، وما شاكل ذلك ، مما يفعله بعض المتكهنة . وإن كان الثاني ، وهو ألا يكون إدراك النفس للمدركات المذكورة بسبب اتصالها بذلك العالم ، لما يحصل لها من الفراغ عن البدن . فهذا إن كان في حالة النوم فهو الذي يقال له : أضغاث أحلام ، وهو المنام الكاذب . وقد ذكر له أسباب ثلاثة : السبب الأول : أن ما يدركه الانسان في حال اليقظة من المحسوسات تبقى صورته في الخيال ، فعند النوم تنتقل من الخيال إلى الحس المشترك فيشاهد : ما هو بعينه إن لم تتصرف فيه المتخيلة ، أو ما يناسبه إن تصرفت فيه . ( و ) السبب الثاني : أن المفكرة إذا ألفت صورة انتقلت تلك الصورة منها عند النوم إلى الخيال ، ثم منه إلى الحس المشترك . السبب الثالث : إذا تغير مزاج الروح ، الحامل للقوة المتخيلة ( لوحة 330 ) تغيرت أفعالها ، بحسب تلك المتغيرات . فمن غلب على مزاجه الصفراء ، حاكته بالأشياء الصفر ، وإن كانت فيه الحرارة حاكته بالنار والحمام الحار ، وإن غلبت البرودة ، حاكته بالثلج والشتاء . وإن غلبت السوداء حاكته بالأشياء السود ، والأمور الهائلة المفزعة . وإنما حصلت هذه وأمثالها في المتخيلة ، عند غلبة ما يوجبها ، لأن الكيفية التي في موضع ، ربما تعدت إلى المجاور له ، أو المناسب ، كما
____________________
(1/451)
يتعدى نور الشمس إلى الأجسام ، بمعنى أن يكون سببا لحدوثه ، إذ خلقت الأشياء موجودة وجودا فائضا بأمثاله على غيره . والقوة المتخيلة متعلقة بالجسم المتكيف بتلك الكيفية ، فتتأثر به تأثرا يليق بطبعها ، وهي ليست بجسم ، حتى تقبل نفس الكيفية المختصة بالأجسام ، فتقبل منها ما في طبعها قبوله ، على الوجه المذكور . وإن كان أمثال هذه الأشياء حاصلا في حال اليقظة ، فربما سميت ' أمور شيطانية كاذبة ' . وما يرى من الغول والجن والشياطين ، فقد يكون من أسباب باطنة تخيلية ، وكونها كذلك لا ينافي وجودها الخارجي ، لأن الخيال ربما أظهرها ، وإن لم تكن منطبعة فيه ، كما تظهر للمرآة صورها ، وإن كانت غير منطبعة فيها لما مر . وما يتلقى من المغيبات في حالتي النوم واليقظة ، قد يرد على وجوه . فإنه قد يرد بسماع صوب : أما لذيذ وإما هائل . وقد يرد مكتوبا ، أو مخاطبا به من إنسان أو ملك أو جني أو حيوان أو تمثال صناعي أو هاتف غائب أو غير ذلك . وقد يكون ضربا من الظن القوي والنفث في الروع . وقد يشاهد صورة الكائن بعينه . وقد يكون على وجوه أخرى . وما يراه النائم في خياله ، هو مثل ما يراه المستيقظ ، لكن المستيقظ لوقوفه على أحكام اليقظة يحكم بأن أحد مرائيه واقع ، والآخر غير واقع . والنائم لغفوله عن الاحساس ، يحسب أن الواقع هو الذي يراه في خياله ، وهو غلط للنفس من عدم التمييز بين الشيء ومثاله ، حال الذهول عن الشيء ، وحكم من به سرسام ، أو ما يجري مجراه ، حكم النائم في ذلك .
____________________
(1/452)
وقد تكون النفس قوية ، فتؤثر في أجسام عالم الكون والفساد ، غير بدنها ، كما تؤثر في بدنها ، وإن لم تكن منطبعة فيه . فجاز أن يحتل الهواء إلى الغيم ، فتحدث مطرا : إما بقدر الحاجة ، أو أزيد ، كالطوفان . وجاز أن تؤثر في أحداث الزلازل ، وإزالة أمراض ، ودفع مؤذيات ، وأمثال ذلك مما لا يأخذ في طريق الممتنع الصريح . وسبب ذلك ، ما علمته من أن الأجسام مطيعة للنفوس ، وأن نفس الانسان ، من جوهر المباديء العالية الروحانية . والبون الحاصل بينهما ، وإن كان كبون ما بين السراج والشمس ، أو أبعد من ذلك ، ( فهي ) غير مانع من المشابهة . والبون هو عالم النفس ، وطبيعته هي من عنصر العالم ، فكما تؤثر تلك المباديء في العالم ، كذلك تؤثر النفس التي قويت ، حتى جاوز تأثيرها بدنها فيه . وكما أنه يحدث في بدنها ، بما تتمثله من صورة المعشوق في الخيال ، مزاج ، يحدث ريحا عن المادة الرطبة في البدن ، وتحدره إلى العضو المعد له ، فيحصل به الأنعاظ ، ومن الصورة الغضبية مزاح آخر ، مما كان ، من غير مختل ظاهر ، كذلك يحدث عنها في عالم العناصر تحريك وتسكين وتكثيف وتخلخل ، يتبع ذلك سحب ورياح وصواعق وزلازل ونبوع مياه وعيون ، وما أشبه ذلك . وكذلك قد تؤثر في القوى الجسمانية التي لحيوانات أخرى ، أو لانسان آخر . ولولا العلاقة الطبيعية بين النفس وبدنها الخاص بها ، لكان تأثيرها فيه ، كتأثيرها في غيره ، إذ ليست منطبعة فيه ، ليكون تأثيرها فيه بسبب الانطباع ، وإنما هي عاشقة له بالطبع . وهذه العلاقة العشقية ، هي التي يقصر تأثيرها عليه في الأغلب .
____________________
(1/453)
وإذا قويت النفس ، وصارت كأنها نفس ما للعالم ، أو لبعض أقسامه ، لا سيما إذا كان ذلك الجسم أولى به ، لمناسبة تخصه مع بدنه : كملاقاته إياه ، أو إشفاقه عليه ، أو لضرب آخر من الأولوية . وليس من شرط المسخن أن يكون حارا ، ولا المبرد أن يكون باردا ، ولا ما يقتضي شيئا أن يكون مثل ذلك الشيء موجودا فيه ، وإنما يلزم ذلك في العلل التي هي مقيدة للوجود ، كما علمت . والنفس الشريفة إذا طلبت خيرا ، ودعت الله عز وجل ، استحقت بهيئتها واستعدادها ترجيحا لوجود ذلك الممكن ، فيوجد . والتضرع والانابة فقد يكونان كاسبين للنفس - ولو لم تكن شريفة - استعدادا كاملا ، لقبول الهداية إلى وجه الصواب ، كالمفكرة في إفادتها الاستعداد لقبول الفيض الفاعل للمعرفة . ومن آثار النفوس الاصابة بالعين ، والمبدأ فيها ( لوحة 331 ) حالة نفسانية معجبة ، تؤثر في المتعجب منه ، أذى ظاهر ، بخاصية فيها . وأمثال هذه الأشياء ، إن كنت تتحققها من نفسك ، أو بالتسامع التواتري ، فالذي ذكر يعرفك أسبابها . وإن كنت لم تتحقق وقوعها ، فما ذكر - مع كونه يعطي السبب فيها - هو يزيل استبعادك لها . ومن غرائب آثار النفوس
____________________
(1/454)
السحر : وهو من التأثيرات النفسانية ، إذا كانت النفس شريرة ، واستعملت هذه التأثيرات في الشر . وإذا كانت الغرائب لا بمجرد تأثير النفوس : فإن كانت على سبيل الاستعانة بالفلكيات ، فهي دعوة الكواكب . وإن كانت على سبيل تمزيج القوى السماوية بالأرضية فهي الطلسمات . وإن كانت على سبيل الاستعانة بالخواص السفلية ، فهي علم الخواص . وإن كانت باعتبار النسب الرياضية فهي الحيل الهندسية . وإن كانت على سبيل الاستعانة بالأرواح الساذجة فهي العزائم . وقد يتركب من هذه ما يحدث منه غرائب أخرى ، كحجر الأثقال ونقل المياه والآلات الرقاصة والزمارة ، فإن هذه يستعان عليها بمجموع الخواص الطبيعية والرياضية وغرائب النفوس كثيرة ، ولعلها كلها ترجع إلى ما قيل . وقد يظهر عن العارفين أحوال خارقة للعادات ، عند من لم يقف على أسبابها . وهذه الخوارق إذا اقترن بها التحدي ، مع عدم المعارضة ، سميت معجزات .
____________________
(1/455)
وإذا لم يقترن بها ذلك ، سميت كرامات . فالمعجزات : هي كما يفعله الأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - عند تحديهم ، ودعواهم النبوة ، والكرامات : هي كما يظهر عن أولياء الله الأبرار . والذي يدل على أن النبي يجب دخوله في الوجود ، هو أن الانسان لا يحسن معيشته لو أنفرد ، بل يفتقر إلى آخر من نوعه ، يكون مكفيا به ، وذلك الآخر مكفيا بهذا ، أو بغيره . حتى إذا اجتمعوا كان أمرهم منتظما ، فيكون هذا مثلا ينقل إلى ذاك . وذاك يخبر لهذا ، وهذا يخيط لآخر ، والآخر يتخذ ( الابرة ) لهذا ، ولذلك احتيج إلى الاجتماعات ، وعقد المدن ، فلا بد من المشاركة التي لا تتم إلا بمعاملة ، لا بد لها من سنة وعدل يوجبهما سان ومعدل ، إذ لو تركوا وآراءهم ، لاختلفوا عندما يريد كل واحد ما يحتاج إليه
____________________
(1/456)
ويغضب على من يزاحمه عليه ( جبل الانسان على الغضب على من يزاحمه ) ، فلا ينتظم التعاون بينهم . ولا بد للسنة من ضوابط وقوانين كلية ، تندرج جزئياتها تحتها ، فينتفع بها الجميع . ولا بد أن يكون هذا السان المقنن لتلك القوانين إنسانا ، ليخاطب الناس ، ويلزمهم السنة ، ولا بد من كونه متميزا بخصوصية ليست لسائر الناس ، حتى يستشعر الناس فيه أمرا لا يوجد لهم ، لئلا يقع في وضع السنة منازع ، فيقع المحذور والمذكور . وإنما يكون ذلك ، لاختصاصه بآيات تدل على أن السنة من عند ربه ، وتلك الآيات هي معجزاته : فمنها قولية ، يكون لها الخواص أطوع ، ومنها فعلية يكون لها العوام أطوع ، وهي لا تتم بدون القولية لضرورة الدعوة إلى الخير حينئذ وجب أن يعدهم بالثواب على الطاعة ، ويتوعدهم بالعقاب على المعصية ، من عند ربهم القدير ، على مجازاتهم الخير مما يخفونه ويبدونه . ولولا الجزاء الأخروي لحملهم استحقارهم اختلال العدل النافع في
____________________
(1/457)
أمور معاشهم ، بحسب النوع عند استيلاء الشوق عليهم ، إلى ما يحتاجون إليه ، بحسب الشخص على مخالفة الشرع . فمعرفة المجازي والشارع ضروري ، ولا تنحفظ هذه المعرفة بدون الحافظ ، الذي هو التذكار المقرون بالتكرار . ولهذا فرضت العبادة المذكورة للمعبود ، وكررت عليهم ، ليستحفظ التذكير بالتكرير ، فواجب في حكم العناية دخول السنة والنبي في الوجود إذ لولاهما لفاتت المصالح المذكورة . ومن المعلوم أن الحاجة إليهما أشد من الحاجة إلى إنبات الشعر على العينين والحاجبين ، وتقعر الأخمص من القدمين ، وأشباه أخرى لا ضرورة إليها في البقاء ، بل هي نافعة فيه نفعا ما ، ولا يجوز أن تكون العناية تقتضي تلك المنافع ، ولا تقتضي هذه التي هي أهم منها وأنفع . والعقل السليم يحكم بذلك على طريق الحدس . وإذا بلغك أن عارفا أمسك عن القوت مدة ، غير معتادة ، فلا تستنكر ذلك ، فقد يقع مثله في مثل الأمراض الحادة التي تشتغل بها القوى الطبيعية عن تحريك المواد المحمودة ، بهضم المواد الرديئة ، فتتحفظ المحمودة ويقل تحللها .
____________________
(1/458)
والعارف إذا توجهت نفسه إلى العالم القدسي استتبعت القوى الجسمانية ، فوقفت الأفعال النباتية ، فلم يقع من التحلل إلا دون ما يقع في حال المرض ، إذ في المرض حرارة غريبة محللة ، ومضاد مسقط للقوة وعدم ( لوحة 332 ) السكون البدني ، الذي يقتضيه ترك القوى البدنية أفاعيلها عند مشايعتها للنفس . وكذلك إذا بلغك أن عارفا أطاق بقوته ما خرج عن وسع مثله فإن الغضب ، والانتشاء المعتدل والفرح المطرب ، يزيد في القوة زيادة كثيرة ، والحزن والخوف ينقصها نقصانا كثيرا ، فلا عجب لو ارتاح العارف ارتياحا ، يولي قوته سلاطة أو غشيته عزة تشعل قواه حمية ، ويكون ذلك أعظم مما يكون عند طرب أو غضب لغير ذلك . وأول درجات حركات العارفين هي الارادة ، وهي أول حركة النفس إلى الاستكمال بالفضائل . وقبلها التوبة ، وليست بحركة ، إنما هي عبارة عن عن تألم النفس على ما ارتكبت من الرذائل ، مع جزم القصد إلى تركها ، وتدارك الفائت ، بحسب الطاقة . ثم يحتاج في نيل الكمال الحقيقى إلى الرياضة ، وهي : منع النفس عن الالتفات إلى ما سوى الحق ، وإجبارها على التوجه نحوه ، ليصير الانقطاع عما دونه ، والاقبال عليه ملكه لها ، وذلك إنما يتم بإزالة الموانع الخارجية بتنحيه ما دون حق عن سنن الايثار . والداخلية بصرف قوى التخيل والتوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي عن التوهمات المناسبة للأمر السفلي ، وبتهيئة ( الشر ) لأن تتمثل فيه الصور العقلية بسرعة .
____________________
(1/459)
وإذا بلغت الارادة والرياضة بالعارف حدا ما ، ربما عنت له خلسات من اطلاع لنور الحق عليه لذيذة ، كأنها بروق تومض إليه ، ثم تخمد عنه . وقد تكثر عليه هذه الغواشي ، إذا أمعن في الارتياض ، وربما غشيته في غير حال الرياضة . وربما صار المخطوف مألوفا ، والوميض شهابا بينا . ولعله يتدرج إلى أن يكون له ذلك متى شاء وربما انتهى به ذلك إلى أن يغيب عن نفسه ، فيلحظ جناب القدس فقط . وأن لحظة نفسه : فمن حيث هي لا خطة ، لا حيث هي بزينتها ، وهذه آخر درجات السلوك إلى الحق . وما يليها هو درجات السلوك فيه . وهناك درجات ليست أقل من درجات ما قبله ، وهي مما لا يفهمها الحديث ، ولا تشرحها العبارة ، ومن أحب أن يعرفها فليتدرج إلى أن يصير من أهل المشاهدة لها ، دون المشافهة بها . والمراد بالمشاهدة ههنا ، هو الادراك بلا منازعة من قوة أخرى ، بخلاف اليقين . ومن طلاب هذه الطريقة ، من يكون مائلا إلى الجناب الأعلى بأصل فطرته ، من غير تعلم علم . ومنهم من يميل إليه بما اكتسبه من العلوم الحقيقية ، أو من مجرد السماع والتقليد . وإذا لم يكن المريد عالما ، فلا بد له من شيخ محقق محق ، سالك ، ليرشده إلى سواء السبيل . ويحتاج إلى ألا يتفق له من الخطأ والأحوال البدنية والنفسانية ، ألا ما ينفره عن العالم الأدنى ، ويرغبه في العالم الأعلى . ومن ضرورياته ترك الفضول ، وإصلاح الضروريات . ومن الفضول العلوم التي لا يستعان بها على القرب إلى الله تعالى . ومن الضروريات الغذاء ، فيجب إصلاحه ، بأن يكون قليل الكمية ، لئلا يقع الاشتغال بهضمه ، عن التوجه إلى المطلوب كثير الكيفية ، ليستدرك بذلك خلل قلبه . ومنها المبصرات . أما الألوان ، فالمشرقة منها : تمد الروح ،
____________________
(1/460)
وتفرح القلب ، وتبسط النفس ، لما أن النور محبوب الروح ومعشوقه ، والظلمة بالضد . ولا يجوز له النظر إلى النفوس الدقيقة المختلفة ، لئلا تشتغل النفس بتأملها . ولا إلى الدور والقصور والولدان والغلمان ، فإن النظر إلى ذلك مما يثير الشهوة ، ويقطع المريد عن مطلوبه . بل يجب أن ينظر إلى السماء والأرض ، والجبال ، والبحار ، والمفاوز ، فإن الاعتبار بهذه ، مما يميل النفس إلى ذلك الجناب . ومنها المسموعات ، والألحان المقترنة بكلام مشعر بغرض الطالب ، مدخل عظيم في الغرض . وليجتهد المريد في تقليل الكلام وأستماعه . وأن يكون مسكنه في ظل الجبال ، والمواضع الخالية ، فإن ذلك يخلصه من كثير من القواطع . ومنها المشمومات . والروائح الطيبة تمد الأعضاء الرئيسية ، فيجب تعاهدها ، مع مراعاة حال الأهوية ، فإنها من أقوى الأمور الضرورية . ومنها الملبوسات . ويجب أن يقتصر من الملبوس على ما يدفع به ضرر البرد والحر ، لا غير . وأن يطرح الجماع إن أمكن ، وإلا فليقلله وليستعن على ذلك بالصوم ، وقلة الأكل . واشتغال المريدين بالذكر الدائم ، وترك الاحساس والحركات ، وقطع الخواطر التي تجر إلى هذا العالم ، هو من أقوى المعينات على حصول الغرض المقصود . وإذا لم يعاضده التوفيق من الله تعالى ، لم ينجح شيء من ذلك . على أنه لا منع من ذلك الجناب ولا حجاب ( لوحة 333 ) وإنما
____________________
(1/461)
الاحتجاب متخصص بجانبنا ، والنفحات الإلهية دائمة مستمرة . وكل من وفق للتوصل إليها وصل . ومن لم يكن الله له نورا فما له من نور .
____________________
(1/462)
الفصل السادس في أبدية النفس وأحوالها بعد خراب البدن ليس تعلق النفس بالبدن تعلقا ، يقتضي فسادها بفساده ، لأن ذلك التعلق : إما أن يكون تعلق المتأخر عنه في الوجود ، أو المكافيء له في الوجود ، أو التقدم له في الوجود . وأعني بالتقدم والتأخر ههنا : ما هو بالذات ، لا بالزمان . والأول محال ، وإلا لكان البدن علة النفس ، وليس هو علة فاعلية لها ، لما سنبين . ولا علة قابلية ، لما بين أنها غير منطبعة فيه ، ولا علة صورية ولا غائية ، فإن الأولى أن يكون الأمر بالعكس . وذلك ظاهر . ولا شرطا وسنبين بطلانه ، فبطلت أقسام العلية . والثاني وهو أن يتعلق بالبدن تعلق مكافيء له في الوجود ، محال أيضا ، فإن التعلق على الوجه المذكور ، وإن كان أمرا ذاتيا لا عارضا ، فكل واحد منهما مضاف الذات إلى صاحبه ، فليسا بجوهرين ، لكنهما جوهران ، هذا خلف . وإن كان ذلك أمرا عرضيا لا ذاتيا ، فمتى فسد أحدهما بطل العارض الآخر من الاضافة ، ولم تفسد الذات بفساده . ثم الاضافة أضعف الأعراض ، فإنه ينتقل ما على يمينك إلى يسارك وتتبدل إضافتك إليه ، دون تغير في ذاتك ، وكيف ( ويكون ) أضعف الأعراض مقوما لوجود الجوهر ، هذا مما لا يقبله العقل السليم . والثالث وهو : أن يكون تعلق النفس بالبدن تعلق المتقدم في
____________________
(1/463)
الوجود ، هو غير موجب أن يعدم بعدمه ، إذ لا يعدم المتقدم بالذات عند فرض عدم المتأخر ، بل يجب أن ( يعرض ) السبب المعدوم في جوهر النفس ، فيفسر معه البدن ، وألا يفسد البدن بسبب يخصه . لكن فساد البدن يكون بسبب يخصه ، من تغير المزاج أو التركيب . فيتبين أن خراب البدن لا يعدم النفس ، فلو جاز عدمها ، لكان بسبب آخر ، لكنك قد علمت أنها بسيطة وقائمة بذاتها ، وكل ما هو كذا ، فلا يكون بعد وجوده بالفعل قابلا للعدم ، مع وجود علته الفاعلية . فإن كل ما هو بالفعل وقابل للعدم فقوة وجوده وعدمه في غيره . فإن الشيء من حيث هو بالفعل ، لا تكون نفسه بالقوة لنفسه ، وإن كان يجوز أن يكون بالقوة ، لحصول أمر آخر ، لا أن فيه قوة وجود نفسه وعدمها . وإذا تأملت علمت أن البدن ليس بحامل لقوة وجود النفس وعدمها ، بل إنما فيه قوة تعلقها به وعدم تعلقها به . فإن معنى كون الشيء محلا لا مكان وجود شيء آخر ، هو تهيوءه لوجوده فيه ، حتى يكون حال وجوده مقترنا به . وكذلك في إمكان فساد شيء ، ولهذا يمتنع أن يكون الشيء محلا لفساد نفسه ، بل البدن إنما كان مع هيئة مخصوصة محلا ، لامكان وتهيؤ لحدوث صور تقاربه وتجعله محصلا ، والنفس هي المبدأ القريب تلك الصورة . ولا يصح وجود الشيء دون وجود مبدئه ، ويزول ذلك الاستعداد والتهيؤ بحدوث تلك الصورة ، لزوال ما كان البدن معه محلا ، لامكان
____________________
(1/464)
ذلك ، وهو الهيئة المخصوصة . وبقي بعد ذلك محلا لامكان فساد الصورة المقارنة له ، وزوال الارتباط الذي حصل للنفس به . فليس البدن مع هيئته المخصوصة شرطا في وجود النفس ، من حيث هي جوهر مجرد ، بل من حيث هي مبدأ صورة منوعة . فالنفس إذ هي بسيطة فليست بمركبة من قوة قابلة للفساد ، مقارنة لقوة النبات ، فإنهما لا يجتمعان في الذات إلا لأمرين مختلفين فيها . والمراد بالقوة هو الاستعداد التام ، لا الامكان اللازم ( للماهيات ) فإن ذلك ( لا ) يقتضي التركيب ، لكونه ليس أمرا وجوديا ، كما عرفت . ولو اقتضى ذلك لكان كل بسيط من الممكنات مركبا ، وإذ لا قابل لها ، فقوة بطلانها لا تكون في غيرها ، فإذن قوة بطلانها لو كانت مما تبطل لكان إما في ذاتها ، أو في شيء آخر ، لاستحالة قيامه بذاته . وإذ ليس هو في أحد الأمرين ، وليست بباطلة البتة . وكل ما يقبل الفساد ، ولا حامل له ففيه شيء يقبل الفساد ، ويجري منه مجرى مادة الجسم له ، وشيء يفسد بالفعل ، ويجري مجرى صورة الجسم له ، فالنفس لو قبلت الفساد ، لكانت بهذه المثابة ، لكنها مجردة ، فتكون مادتها أيضا مجردة ، فلو قبلت الفساد لعاد الكلام فيها . وتلك المادة تكون هي العاقلة المدركة لا محالة ، إذ هي التي وجودها لذاتها ، دون الصورة ، أو ما هو كالصورة . فيكون ما هو
____________________
(1/465)
كالمادة للنفس ، هو النفس ، هذا خلف . وبتقدير ألا يكون خلفا ، فالمطلوب ( لوحة 334 ) وهو بقاء النفس حاصل أيضا . وكل مركب لا يكون حالا في شيء فلا بد وأن يكون بعض بسائطه غير حاله إن لم يكن كل واحد منها كذلك . وحينئذ يكون ذلك الجزء لكونه مجردا وقائما بذاته ، هو النفس ، ولا مدخل للجزء الأخير في ذلك . وهذا كله إنما يدل على امتناع عدم النفس إذ لو كانت علتها الفاعلية المعطية لها الوجود لا تنعدم ، أما لو جاز عدمها فلا يتصور بقاء النفس ، على تقدير وقوعه . فإن الوجود والبقاء لا يستفادان في ممكنات الوجود ، إلا من العلل التي تستند إليها . فالنفس لا يتصور عدمها عن الخارج إلا بارتفاع علتها الفاعلية عنه . وإذ هي بسيطة وقائمة بنفسها فعلتها الفاعلية - كما علمت - لا بد وأن تكون كذلك ، فيمتنع عدمها إلا بعدم علتها التي هي كذلك . وهكذا حتى ينتهي الأمر إلى واجب الوجود ، وهو ممتنع العدم ، فالنفس ممتنعة العدم ، فهي أبدية الوجود ، وهو المطلوب . ومن البراهين على أبدية النفس : أنه لو بطلت لافتقر بطلانها إلى سبب هو غيرها ، إذ الشيء لو اقتضى عدم نفسه ، لما وجد أصلا ، بل كان ممتنعا . وذلك الغير يمتنع أن يقارن وجوده وجود النفس ، وإلا لم يكن علة تامة ، لعدمها ، فإن العلة التامة لا ينفك عنها المعلول . وكل ما هذا شأنه فلارتفاعه مدخل في وجودها ، فهو ضدها إن كان
____________________
(1/466)
أمرا موجودا ، وشرطها إن كان معدوما . لكن النفس لا محل لها ليعدمها ضد بممانعتها عليه ومزاحمتها فيه . وإذا كانت العلة المعطية لوجودها باقية - كما علمت - ، ولا محل لها ليزاحمها شيء عليه - وجب بقاؤها ببقاء ما هي مستفيدة الوجود منه . ولا يمنع من بقائها به ووجود شيء آخر البتة ، وهو ظاهر من أصول سبق تقريرها . والشرط الذي فرض أن عدمه معدم لها : إن كان مباينا لها فظاهر أن مع بقاء العلة التي تقتضي إفاضة الوجود لذاتها ، لا تأثير لعدم ذلك المباين في ارتفاع الوجود الفائض منها . وإن لم يكن مباينا للنفس ، فيجب أن يكون كمالا لها ، إذ أولى الأعراض بأن يكون عدمه معدما لها ، هو الأعراض التي هي كمالات لها . ولو كان عدم هذه معدما لها ، لكانت النفس العديمة الكمال لا تبقى مع البدن ، ولكانت الأعراض المضادة ( لكما ) لها جديرة بأن تبطلها ، كالانفعالات عن البدن والجهل المركب . فكأن كل نفس شريرة لا تثبت في حال تعلقها بالبدن ولا في حال عدم تعلقها به ، فإنه لا تأثير للعلاقة الاضافية لها مع البدن في ذلك ، لما مر . ونحن نجد النفس التي قد تبين أن ماهيتها ليست شيئا مغايرا لادراكها ذاتها ، لا تتغير ولا تنتقص في إدراكها ذاتها ، تتغير أعراضها
____________________
(1/467)
واختلافها يكون كمالا لها أو نقصا ، فهي إذن لا تنعدم ألبتة . وأنت تعلم أن النفس إذا فارقت البدن ، ولم تتعلق ببدن آخر ، فإنه يزول عنها الاشتغال بقوى البدن ، فيخلص لها اشتغالها بذاتها ، فتشاهد ذاتها مشاهدة تامة . وقد عرفت معنى هذه المشاهدة ، ولا شك أن الشعور بالوجود سعادة ، وإذا فارقنا البدن ، كان شعورنا بذواتنا أتم ، لأنا لا نشعر بذواتنا ، مع العلاقة البدنية ، إلا مخلوطا بالشعور بالبدن . وكذلك تكون معقولاتنا أتم تجردا ، وذلك لأنا لا نعقل سببا ونحن بدنيون ألا ويقترن به خيال ، أو ما يشبه الخيال . فإذا انقطعت العلاقة بين النفس والبدن ، وزال هذا الشوب ، صارت المعقولات العقلية ، والشعور بالذات مشاهدة ، فكان التذاذ النفس بحياتها أتم وأفضل . وللنفس باعتبار كل قوة نفسانية لذة وخير وأذى وشر ، يختص بتلك القوة . فلذة الشهوة الكيفية الملائمة ، ولذة الغضب الظفر ، ولذة الوهم الرجاء ، ولذة الحفظ تذكر الأمور الماضية . وأذى كل واحد منها ما يضاده ، وكل ما كماله أفضل وأتم وأدوم وأكثر وأوصل إليه ، فاللذة له أبلغ وكذا الذي هو في نفسه أكمل فعلا ، وأفضل وأشد إدراكا . والكمال الخاص بالنفس الناطقة ، من جهة القوة العقلية ، أن يصير عالما عقليا مرتسما فيه صورة الكل ، والنظام المعقول فيه ، والخير الفائض إليه ، فيكون حينئذ موازيا للعالم الموجود كله ، مشاهدا
____________________
(1/468)
لما هو الحسن والخير المطلقين . وهذا أتم وأفضل من كمالات القوى الأخرى ، بل هو في مرتبة يقبح معها أن يقال : إنه أفضل وأتم ، إذ لا نسبة له إليه فضيلة وتماما وكثرة ، وسائر ما يتم به التذاذ المدركات ، مما ذكر . ثم كيف يقاس دوام الأبدي بدوام الفاسد المتغير ، وكيف يكون حال ما وصوله بملاقاة السطوح ، إلى ما هو متغلغل في كنه المدرك ، وكيف يقاس كمال الادراك إلى الادراك ، والمدرك إلى المدرك . فإن العقل أكثر عدد مدركات من الحس ، وأشد تقصيا ( لوحة 335 ) للمدرك وتجريدا له عن الزوائد ، وخوضا في باطنه وظاهره . وشواغل البدن وعوائقه تمنع من الاشتياق إلى ذلك الكمال اشتياقا يناسب مبلغه . فإن اشتغال النفس بالمحسوسات يمنعها من الالتفات إلى المعقولات فلا تجد منها ذوقا ، فلم يحصل لها إليها شوق كالعنين الذي لا يشتاق إلى الجماع ، والأصم الذي لا يشتاق إلى سماع الألحان . واستمرار وجود ما هو أضداد كمالات النفس ، وكونها مشتغلة بغيرها يمنعها عن إدراك ما ينافيها ، من حيث هو مناف لها ، فلا تتألم بحصوله لها ، كالمرور الذي ربما لم يحس بمرارة فمه ، إلى أن يصلح مزاجه . والذي هو كريم النفس إذا تأمل عويصا يهمه ، وعرض عليه شهوة ، وخير بين الطرفين استخف بالشهوة . والأنفس العامية أيضا قد تؤثر الغرامات والآلام ، الفادحة ، بسبب افتضاح أو شوق إلى أمر عقلي . وإذا انفصلنا عن البدن ، وكانت النفس منا تنبهت فيه ، لكمالها الذي هو معشوقها ، ولم تحصله . وهي بطبعها نازعة إليه ، إلا أن اشتغالها بالبدن أنساها إياه ، كما ينسى المريض الاستلذاذ بالحلو ، ويميل إلى المكروهات بالحقيقة ، تألمت بفقده تألما كبيرا ، وكان مثلها
____________________
(1/469)
الخدر الذي لم يحس بمؤلمه ، فلما زال عائقه أحس به . وإذا كانت القوة العقلية بلغت من النفس حدا من الكمال يمكنها به عند مفارقة البدن أن تستكمل الاستكمال الذي لها أن تبلغه وتصل إليه ، وجدت لنيل ما كانت أدركته وتنبهت له ، لذة عظيمة ، هي أجل من كل لذة ، وأشرف . وهذه هي السعادة الحقيقية . وأما النفوس الساذجة التي لم تكتسب الشوق إلى هذا الكمال ، ولم تكتسب أيضا هيئات ردئية من البدن ، لم يحصل لها التألم لفقد الكمال ، لعدم تنبهها له . وإن كانت مكتسبة للهيئات البدنية الردئية ، فربما اشتاقت إلى مقتضى تلك الهيئات ، فتعذبت عذابا شديدا بفقد البدن ومقتضياته ، من غير أن يحصل المشتاق إليه ، لأن آلة ذلك قد بطلت ، وخلق التعلق بالبدن قد نفى . والتعذب الذي يكون بسبب هذه الهيئات لا يبقى دائما لزوال هذه الهيئات ، بعد الموت شيئا فشيئا ، لانقطاع أسبابها التي حصلت منها كذلك ، ومنافاة اللذات لها . وهذه تختلف في شدة الرداءة وضعفها ، وفي سرعة الزوال وبطئه . ويختلف ما يكون منها من التعذب ، بحسب الاختلافين . ويجب أن تعلم أن السعادة الحقيقية ، لا تتم إلا بإصلاح القوة العملية من النفس ، بأن تستعمل المتوسط بين الخلقين الضدين ، فيحصل للنفس الهيئة الاستعلائية على البدن ، فلا تنفعل عن قواة ( لأنا لا نفعل ) أفعال التوسط ، دون أن تحصل ملكة التوسط ، التي هي تبرئة النفس الناطقة عن الهيئات الانقيادية ، وتبقيتها على جبلتها . فإن التوسط
____________________
(1/470)
غير مضاد لجوهر النفس ، ولا مائل به إلى جهة البدن ، بل عن جهته لأنه يسلب عنه الطرفين دائما . والوساطة المذكورة هي العدالة ، وقد عرفت أنها عفة وشجاعة وحكمة ، وأن هذه هي أصول الفضائل الخلقية . ومجموعها العدالة ، فالعفة منسوبة إلى القوة الشهوانية ، والشجاعة إلى القوة الغضبية ، والحكمة إلى القوة العقلية . وأعني بالحكمة ههنا ، الملكة التي تصدر عنها الأفعال المتوسطة بين الجزيرة والغباوة ، أعني ملكة توسط استعمال القوة العملية ، فيما يدبر به الحياة ، وما لا يدبر . كما أن الشجاعة ملكة التوسط بين التهور والجبن . والعفة ملكة التوسط بين الجحود والفجور . وهذه الأطراف كلها رذائل ، يجب اجتنابها . وبالجملة فكمال النفس الناطقة من جهة علاقة البدن أن تستولي على القوة البدنية ولا تستولي هي عليها ، وأن تكون شهوة الانسان وغضبه وفكره في تدبير الحياة وغيرها على الاعتدال ، وعلى ما يقتضيه الرأي الصحيح . ومن تفاريع الحكمة بهذا المعنى : الفطنة والبيان وإصابة الرأي والحزم والصدق والوفاء والرحمة والحياء وعظيم الهمة وحسن العهد والتواضع . فهذه إحدى عشرة فضيلة ، تختص بالحكمة . ومقابل كل واحدة منها هو رذيلة . ومن تفاريع الشهوانية : القناعة والسخاء ، وهما فضيلتان يكتنف كل واحدة منهما رذيلتان . ومن تفاريع الغضبية : الصبر والحلم وسعة الصدر وكتمان السر والأمانة . ومقابلات هذه الخمس رذائل . وقد كان من مجموع ما ذكر ، أن كمال النفس النطقية ، أن
____________________
(1/471)
تبقى مجردة عن المادة ، من جميع الوجوه ، منتقشة بهيئة الوجود . ولا يتم التجرد بالكلية ، إلا عند ترك البدن ، والانقطاع عنه انقطاعا كليا . وعلاقة البدن ( لوحة 336 ) هي التي تعقل النفس عن الشوق الذي يخصها ، ( و ) عن طلب الكمال ، الذي لها ، وعن الشعور بلذة الكمال ، إن حصل لها ، والشعور بألم القصور عنه . وليس ذلك لأن النفس منطبعة في البدن ، ( أ ) ومنغمسة فيه . ولكن العلاقة بينهما ، وهي الشوق الجبلي إلى تدبيره ، والاشتغال بآثاره ، وما يورده عليها من عوارضه ، وبما يتقرر فيها من ملكات ، هو مبدؤها . فإذا فارقت وفيها الملكة الحاصلة بسبب التعلق به ، كانت قريبة الشبه من حالها وهي متعلقة به . ثم إن الهيئة البدنية مضادة لجوهر النفس ، مؤذية له . وإنما كان يلهيها عن ذلك البدن ، وتمام انغماسها فيه . فإذا فارقت النفس البدن أحست بتلك المضادة ، وتأذت بها . وتلك الهيئة تبطل قليلا قليلا ، مع ترك الأفعال المبقية لها بتكررها ، حتى تزكو النفس ، وتبلغ السعادة التي تخصها . وهذا كله على تقدير أن تتجرد النفس عن التعلق بالجسم مطلقا . أما إذا تعلقت بعد الموت بشيء من الأجسام ، فذلك غير مانع من أن تحصل لها لذات وآلام عقلية ، مع اللذات والآلام الحسية الحاصلة ، بسبب التعلق بالجسم . وهذا التعلق ممكن وقوعه على وجوه منها : -
____________________
(1/472)
ما هو مقبول من الشرع ولا سبيل لنا إلى إثباته ، إلا من طريق الشريعة ، وتصديق خبر النبوة ، وذلك هو الذي للبدن عند البعث ، وهو المعاد البدني . وخيرات البدن وشروره معلومة ، ولا يعتد بها في جنب الخيرات والشرور العقلية . ومنها أن تتعلق النفس بعد مفارقة البدن ببعض الأجسام السماوية ، أو ما يجري مجراها . وتكون تلك الأجسام آلة لتخيلات النفس ، فتشاهد بها الخيرات تزداد عليها تأثيرا وصفاء ، كما يشاهد في المنام . فربما كان المحكوم به أعظم شأنا في بابه من المحسوس . ولعل ذلك آخر الأمر يقضي بهم إلى التجرد بالكلية ، والاستعداد للوصول إلى غاية الكمالات النفسية ولا يستبعد أن يكون لكثير من النفوس جرم واحد ، يشاهد كل منها فيه الصور ، وليس لها تحريك ذلك الجرم ، ليتمانع باختلاف إرادات . ولا يبعد أن يكون للأشقياء جرم آخر ، أو أجرام أخرى كذلك ، يتخيلون بها صور المؤذيات ، التي توعدوا بها وغيرها . وحكمنا بذلك إنما هو من طريق الاحتمال والتجويز ، لا من طريق القطع واليقين . ومنها التناسخ في ابدان من جنس ما كانت فيه : إما بدن إنساني أو حيواني أو نباتي أو معدني ، ومتى كان تكون الأشخاص البدنية التي تصلح لتعلق النفس بها ، أزليا ، وكانت النفس الانسانية قديمة ، كان هذا واجبا ، لاستحالة وجود ما لا نهاية له من النفوس ، لوجوب وتناهي العلل ، وتناهي الحيثيات ، التي باعتبارها يتكثر وجود المعلومات . وإذا تناهت ولم يتناه تكون الأشخاص ، فلا بد من تكرر حصول
____________________
(1/473)
الأنفس في الأبدان ، ومتى كان واحد من الأمرين غير حاصل في نفس الأمر ، لم يجب ذلك ، اللهم إلا من جهة أو جهات لم نعلمها إلى الآن . ونفس الانسان من حيث وحدتها وبساطتها ، يجب ألا تكون حادثة لما عرفت في مباحث العلل ومعلولاتها ، بل إنما تكون حادثة من حيث تعتبر فيها أثنينية ما ، كانضياف إضافة أو غيرها إليها . فإن العلة القديمة إذا اقتضت لذاتها صدور أمر عنها ، فلا تنفك البتة عن تعلق ذلك الأمر بها ، ولا يتوقف ذلك التعلق بها على شرط فلا ينعدم تعلق المعلول بعلته الفاعلية أصلا . وإن جاز انعدام تعلقه بعلته القابلية ، إن كان له قابل ، كما في الأعراض ، وقد سبق تقرير ذلك . ويحتاج إلى فضل تأمل وذهن ثاقب . ومن هذا يظهر أيضا أن النفس لا يعدم جوهرها الوجداني ، فإنه لو عدم لكان سبب عدمه ، أما وجود أمر أو عدم أمر . فإن كان وجود أمر ، فلا بد وأن يتبعه عدم علتها التي يجب قدمها لاستحالة صدور القديم عن الحادث . ويعود الكلام في عدمها كذلك إلى أن يلزم عدم الواجب ، كما سنعلم ، وهو محال . وإن كان عدم أمر ، فذلك الأمر المعدوم : أما قديم ويعود المحال وإما حادث وحينئذ يلزم من عدمه السابق عليه عدم النفس قبل وجودها ، كما يلزم من عدمه المتأخر عن وجوده عدم النفس ، بعد وجودها ، فتكون النفس من حيث وحدتها وبساطتها حادثة ، لسبق عدمها على وحدتها ، وفرضت غير حادثة . من هذه الحيثية ، هذا خلف .
____________________
(1/474)
الفصل السابع إثبات النفوس السمائية وكيفية تصوراتها وتحريكاتها قد عرفت وجود الحركات الدورية للأجرام السماوية ، وعرفت اختلاف الأفلاك والكواكب ، في جهات تلك الحركات ، وفي ( لوحة 337 ) سرعتها وبطئها وفي أن بعضها بالذات ، وبعضها بالعرض ، وإن ما بالعرض لا بد وأن يكون تابعا لما بالذات . وقد عرفت أيضا أن الحركة التي بالذات : إما قسرية أو طبيعية أو إرادية . فالحركات المستديرة للسمائيات ، لا تخرج عن أحد هذه ، والأولان باطلان ، فتعين الثالث ، وهو كونها إرادية . أما بطلان كونها قسرية ، فلان حركات الأفلاك لو كانت قسرية ، لكانت على موافقة حركة القاسر ، فإن التحريك القسري لا يكون إلا بالاستصحاب ، فكان يجب ألا يختلف في الأقطاب وقد علمت ( أن ) اختلافها فيها . ثم أعلى ما يتحرك من الأفلاك ليس فوقه ما يحركه ، وما تحته أن دافعه أو زاحمه ، ليكون قاسرا ، فتلك المزاحمة والمدافعة حركة أيضا . فإن كانت قسرية فلا بد وأن تنتهي إلى إرادة أو طبيعة تصدر عنها بعض الحركات السمائية . إذ يعلم قطعا أن العالم العنصري غير قاسر في الحركة للعالم السماوي . فالسماويات إن كانت فيها ما حركته قسرية فليس كلها كذلك . فنجعل كلامنا فيما ليس بقسري الحركة . وأما بطلان كونها طبيعية ، فلما علمت في مباحث الحركة أن الحركة
____________________
(1/475)
فإنه يسبقه تصور ، فهذه الحركة يسبقها تصور . فللسماويات حياة وإدراك ، فمحركاتها إما عقول أو نفوس ، لكن العقول لا تحرك الجسم مباشرة ، لكون ذلك ينافي كونها عقولا . فإنا نعني بالعقل الذات المجردة عن المادة وعلائقها وتدابيراتها ، فهي إذن نفوس ، وتصوراتها يجب أن تكون جزئية وكلية معا ، لأنها لو لم يكن لها من التصورات إلا التصور الكلي فقط ، لامتنع تحريكها للجسم السمائي ، لأن التصور الكلي لا يصدر عنه حركة جزئية ، وإلا لافتقرت إلى سبب مخصص تقترن به ، ولا يكون هو وحده موجب تلك الحركة المعنية . ألا ترى أنا إذا حكمنا بأن البلد الفلاني ينبغي أن يقصد ، لا يكفي فيه مجرد حكمنا بأنه ينبغي قصد بلد مطلقا ، بل لا بد معه من الشعور بالبلد المخصوص . والحركات الفلكية جزئية ، فإذن تصدر عن تصور متجدد جزئي ، ليخرج بها المتصور من القوة إلى الفعل في أمر ما ، هو غير الحركة . فإن الحركة لا تطلب لذاتها ، بل إنما تطلب لغيرها ، كما سبق وليس غرضها من الحركة أمرا شخصيا تقف عنده ، لأنها لو وجدت أو قنطت لوقعت على التقديرين ، فما دامت حركاتها . وسنبرهن على دوام حركاتها ، فلها إرادة كلية ، وتصور كلي أيضا . كونها عن إرادة : فقط وجب إذن أن تكون الحركة الفلكية إرادية . فلها الوضعية إذا لم تكن عن قسر ، فيمتنع أن تكون عن طبيعة ، بل يتعين له إرادة كلية ثابتة كحركة كلية تلك الارادة الكلية ، مع الوصول إلى نقطة توجب إرادة جزئية للحركة من تلك النقطة إلى نقطة أخرى . ثم الحركة المتقدمة ليست علة مطلقة لحركة متأخرة ، بل كل فلك محرك مريد ، وكل محرك مريد ، فإنه يسبق تحريكه شوق ، وكل شوق
____________________
(1/476)
وهكذا دائما يكون الوصول إلى كل نقطة مع الارادة الكلية علة لارادة وحركة جزئيتين ، فلولا الارادة الكلية ، ما وجب تحدد الارادات والحركات الجزئية على الدوام . والارادة لكون الجسم في حد ما من المسافة ما لم توجد لم يجب تحريك الجسم إليه ، وإذا وجدت امتنع أن يكون الجسم في حال وجود الارادة في ذلك الحد الذي يريده ، لأن إرادة الايجاد لا تتعلق بالموجود ، بل كان في حد آخر قبله ، وامتنع أن يحصل في الحد الذي يريده حال كونه في الحد الذي قبله . فإذن تأخر كونه في الحد الذي يريده عن وجود الارادة لأمر يرجع إلى الجسم ، الذي هو القابل ، لا إلى الارادة ، التي هي الفاعلة . ومع وصوله إلى الحد الذي يريده تفني تلك الارادة ، ويتجدد غيرها ، فيصير كل وصول إلى حد سببا لوجود إرادة تتجدد مع ذلك الوصول . ووجود كل إرادة سببا لوصول يتأخر عنها ، فتستمر الحركات والارادات ، استمرار شيء غير قار ، بل على سبيل تصرم وتجدد . والسابق لا يكون بانفراد علة لللاحق ، بل هو شرط ما تتم العلة بانضيافه إليها . ولو طلب الفلك بحركته وضعا معينا موجودا ، لكان ذلك تحصيلا للحاصل . بل يطلب وضعا فرضيا يفرضه ويتجه إليه بالحركة ، وليس هو فرضيا يقف عنده ، وإلا لوقفت الحركة ، وهو محال ، لما سيأتي . فلا بد وأن تطلب وضعا معينا فرضيا كليا ، ولا منافاة بين كونه معينا وبين كونه كليا . فإن الكلي له مع كليته تعين يمتاز به عن سائر الكليات ، وتقييده بالجسم الجزئي الواحد ، لا يضر كليته ، وقد عرفت ذلك فيما مر ، فلا بد للفلك ( لوحة 338 ) من إرادة كلية عقلية . فله نفس ناطقة ، كما لنا ، وإن كانت في جوهرها ، وفي مرتبتها من الوجود أفضل مما لا يمكننا الاطلاع على قدر التفاوت فيه . بل
____________________
(1/477)
الأشبه أن نسبة نفوسها إلى نفوسنا ، في الشرف ، كنسبة أبدانها إلى أبداننا في ذلك . وليس حال الفلك كحالنا في الحركة ، فإن لنا خطوات ، وما يجري مجراها ، تتعين إرادتنا الجزئية للحركة من حد إلى حد بها . والفلك فأوضاعه متشابهة ، وما يفرض فيه منتهى حركة جزئية من النقط ، ليس بأولى من نقطة أخرى . وإنما تختلف حدود حركته بقياسه إلى غيره ، كمقابلته وتربيعه وتسديسه ، وغير ذلك من المناسبات الكوكبية ، وهذا القدر ، فيكفي في اختلاف إرادته الجزئية ، وتعين حدود حركاته . وليست حركاتها لمجرد إخراج الأوضاع من القوة إلى الفعل ، فإنه لو كان كذا ، ما دام دورانها على قطبين ثابتين ، فإنه مع ثبات حركاتها على القطبين أوضاع من قبل ثبات القطبين بالقوة أبدا . بل الحدس يحكم بأنها مثال لذات روحانية ، تنبعث عنها الحركات . والحركات معدة لحصول تلك اللذات ، وكثيرا ما تنفعل أبداننا بالحركة عن هيئات تحصل في نفوسنا ، كما يتحرك البدن بالرقص والتصفيق وما يشبههما ، عن طرب وارتياح يحصل للنفس ، فهكذا تنبعث حركات الأفلاك ، عما يأتيها من الأفق الأعلى .
____________________
(1/478)
الباب السادس في العقول وآثارها في العالمين الجسماني والروحاني
____________________
(1/479)
فارغة
____________________
(1/480)
الفصل الأول في أن العقل هو مصدر وجود النفوس كلها إذا نظرت في خواص الواجب والممكن ، من حيث هو واجب وممكن فلا تشك في أن النفوس الأرضية والسمائية ممكنة الوجود ، لا واجبة الوجود سواء كانت قديمة أو حادثة . وكل ممكن الوجود فيستدعي علة . وعلة النفس القريبة : إما واجب الوجود ، أو غيره . لا جائز أن تكون هي الواجب الوجود ، لأن النفوس كثيرة ، وواجب الوجود واحد حقيقي ، لا يصدر عنه - كما عرفت - بلا واسطة ، أكثر من معلول واحد ، فلا بد وأن يكون لبعضها علة قريبة ، غير الواجب . ولأن النفس ، من حيث هي نفس ، لا توجد إلا متعلقة بجسم ، فلا يتقدم وجودها على وجوده . وما لا يصدر عنه إلا واحد ، لا تصدر النفس والجسم عنه ( ألا ) معا . فالنفس ، من حيث هي نفس ، علتها القريبة غير واجب الوجود لذاته ، وذلك الغير الممكن ، لا يخلو : إما أن يكون جسما أو غير جسم ، أما جوهر أو عرض . والعرض إنما يفعل بواسطة الجوهر ، فإنه كما لا يستقل بفاعليته فإن الفاعل ما لم يتعين في ذاته ، ويتشخص بالفعل ، لا يوجد غيره ، مما لا يتشخص إلا بالحامل ، فلا يفعل إلا به ، بل على الحقيقة ليس الفعل إلا للجوهر .
____________________
(1/481)
وإن كان يفعل باعتبار ما فيه من العرض ، فالفعل منسوب إليه ، لا إلى العرض الذي فيه . ثم هذا العرض ، إن كان محله جسما ، فقوامه به ، فما يصدر عنه يعد قوامه ، إنما يصدر بواسطة الجسم ، فيكون بمشاركة من الوضع . فإن الشيء إذا صار قوامه يتوسط المادة ، صار ما يصدر عن . قوامه مخصوصا بتوسطها ، وإنما يتوسط بما تقتضيه الخاصة المادية في الوضع . وأوضاع الجسم من أجسام أخرى غير متشابهة ، ولذلك يختلف تأثير الأجسام بحسب : القرب والبعد ، ومتوسط الموضوع بين القوة وبين ما لا وضع له ، التوسط الخاص بالموضوع ، محال ، إذ لا زيادة معنى له ، على وجود القوة ، أن رفعنا لوازم الوضع . وليس المحوج إلى أن يكون للمنفعل وضع ، هو النسبة مطلقا . بل نسبة ما يفعل بتوسط موضوعه المادي . وهذه النسبة لا توجد بين القوة وبين ما لا وضع له ، وإن وجدت نسب أخرى . والشيء الذي ليس بجسم ، إذا فعل في الجسم ، فليس لا نسبة له ، إلى الجسم ، بل له نسبة إليه . إلا أنها ليست تختلف ، ولا تحتاج إلى تخصص حال له ، حتى يفعل به ، بل يكفيه وجود ذاته ، في أن يفعل في المستعدات . فلذلك إذا حصلت المستعدات ، لم تفتقر إلى غير النسبة التي بينه وبينها ، ولا تحتاج الأجسام ، في انفعالاتها ، إلى توسط من موادها ، لأن المادة هي المنفعلة ، لا المتوسطة بين المنفعل ، وبين غيره . ولوجود توسط الموضوع في أفعال القوى الجسمانية ، وجب ألا تسخن النار مثلا أي شيء اتفق ، بل ما كان ملاقيا لجرمها ، أو ما كان
____________________
(1/482)
من جرمها بحال ما . ولا يستغنى بالشمس إلا ما كان مقابلا لها . وما لا يفعل إلا بمشاركة الوضع ، لا يمكن أن يكون فاعلا لما ( لوحة 339 ) لا وضع له ، وإلا لم يكن فعله بمشاركة الوضع والنفس ، لا وضع لها ، فلا يكون فاعلها أمرا جسمانيا . وإذا رجعت إلى نفسك ، علمت قطعا أن الأعراض والصور القائمة بالمواد ، يستحيل أن تفعل وجود ذات قائمة بذاتها ، لا في مادة ، ووجود جوهر مطلق كيف كان . فإن العلة يجب أن تكون في ذاتها أقوى من المعلول وأشرف . والعرض أضعف وجودا من الجوهر ، وكيف يكون ما ليس له من الوجود حظ القوام بنفسه ، ينال غيره منه ذلك ؟ فإن المعلول يجب ألا يكون آكد وجودا من العلة ، بل لا يصح أن يساويها . وإذ قد ثبت أن الوجود اعتباري ، فالماهية نفسها من الفاعل ، وهي كظل له ، ولا يمكن أن يكون الظل أكمل وأتم ، من ذي الظل ، فالعرض سواء كان محله جسما أو غير جسم ، لا يجوز أن يكون علة فاعلية للنفس بسبب أن وجوده أضعف من وجودها . فأذن العلة الفاعلية لوجودها جوهر : أما جسم أو نفس أخرى ، أو عقل ومحال أن يكون جسما ، لأنه إن كان فاعلا لها ، لأنه جسم وجب أن يكون كل جسم فاعلا لنفس وجوب اشتراك الأجسام في الطبيعة الجسمية ، وإن كان كذلك ، لأنه جسم ما متخصص بخصوصية ، فتلك الخصوصية هي المؤثرة في وجود النفس ، لا الجسم وحده ، لما مر . ولا المجموع الحاصل من الجسم والخصوصية ، فإن النفس بسيطة ، فلا تكون علتها الفاعلية مركبة ، لما عرفت ، ولأن الجسم لا يوجد بالفعل إلا مركبا من : مادة وصورة ، فلا يفعل البسيط ، ولا يمكن أن يفعل بمادته فقط ، لأنه يكون بها موجودا بالقوة ومن حيث هو كذلك فلا يصدر عنه فعل ، ولا بصورته فقط ، إذ ليس لها حظ القوام بنفسها .
____________________
(1/483)
وأيضا فالنفس أشرف من الجسم ، والشيء لا يوجد ما هو أشرف منه . ومع هذا فالتجربة دلت على أنه لا يفعل إلا بمشاركة الوضع ، فلا يؤثر في النفس التي لا وضع لها . ومحال أيضا أن يكون فاعل النفس نفسا أخرى غيرها لأنهما إن تساويا أعني النفس التي هي علة والنفس التي هي معلولة لها في الطبيعة النوعية ، من غير أن تكون إحداهما أقوى في ذاتها من الأخرى ، لم يكن كون هذه موجدة لتلك بأولى من أن تكون تلك موجودة لهذه . فإن اقترن بأحدهما مخصص كان ذلك المخصص إما هو علة الأخرى فيكون القائم بذاته معلولا لما لا قوام له بذاته . وأما هو جزء من علتها ، فتكون علة البسيط مركبة ، وكلاهما قد سبق إبطاله . وإن لم يتساويا في الكمال والنقص الذاتيين ، فيمتنع أيضا أن تفعل إحداهما الأخرى من حيث أن الفاعلة نفس ، لأن النفس وإن كان قوامها بذاتها ، لا بمواد الأجسام ، فهي من حيث هي نفوس إنما تفعل بواسطة الجسمية ، فإنها إنما جعلت خاصة بجسم ، بسبب أن فعلها من حيث اختصاصها بذلك الجسم ، لا يتم إلا به وفيه ، وإلا لكانت من هذه الحيثية مفارقة الذات والفعل جميعا له ، فلم تكن نفسا بالقياس إليه . وهي من حيث تفعل لا بمشاركته هي عقل لا نفس ، ولو فعلت النفس نفسا كيف كان فلا بد من الانتهاء إلى نفس لا تكون علتها القريبة نفسا ، ولا غير نفس ، مما سبق إبطال كونه علة فاعلية لها . فلم يبق أن تكون علتها الفاعلية من غير واسطة ، إلا العقل .
____________________
(1/484)
فكل النفوس تستند في وجود ذاتها إلى عقل : إما بغير واسطة بينها وبينه ، وأما بواسطة هي نفس ، ولكن لا من حيث تأثيرها في وجود النفس المعلولة لها ، فإنها من تلك الحيثية عقل ، لاستغنائها في ذلك الفعل في ذاتها وفي فاعليتها عن الجسم ، وقد مر تقريره . وليس بمتنع أن يكون شيء واحد باعتبار وعقلا باعتبار ، ( و ) نفسا في زمان ، وعقلا في زمان آخر ، فإن المجرد الذي يفعل فعلا باعتبار تعلقه ببعض الأجسام ، ويفعل فعلا آخر باعتبار تجرده عن تلك العلاقة في وقت آخر ، هو بهذه المثابة . والنفوس الناطقة بعد موت البدن إن لم تتعلق حينئذ بجسم البتة ، فهي عقول في تلك الحال ، لا نفوس . وقد كانت قبل ذلك نفوسا لا عقولا ، فهذا مما لا يمنعه صريح العقل بغريزته . بل إن كان ممتنعا فنحتاج في بيان امتناعه إلى دليل منفصل . فقد يحصل من جميع هذا ، إن النفس ليس علتها الفاعلية القريبة هي الواجب الوجود ، ولا عرض ، ولا جسم ، ولا أحد جزئيه ، أعني : المادة والصورة ، ولا نفس أخرى ، من حيث هي نفس . فهو إذن عقل : إما مطلقا أو ببعض الاعتبارات . ولا بد وأن ينتهي إلى ما هو عقل مطلق ، فتستند كل النفوس إليه ، وهو المطلوب .
____________________
(1/485)
فارغة
____________________
(1/486)
الفصل الثاني في أنه لولا العقل لما خرجت النفوس في تعقلاتها ( لوحة 340 من القوة إلى الفعل وأن إليه يستند كمالها الذاتي لا شيء من الأشياء تخرج ذاته من القوة إلى الفعل ، في أمر من الأمور . فإن ذاته لو اقتضت الخروج إلى الفعل ، لما كانت بالقوة أصلا . وكل من تخرج ذاته من القوة إلى الفعل ، فاعتبار كونه بالفعل أشرف من اعتبار كونه بالقوة . فيجب أن تكون ذاته لو قبلت عن نفسها الكمال أشرف من ذاته ، وهو محال . ثم البسيط الواحد من حيث هو بسيط وواحد ، لا يصح أن يفعل ما كان قابلا له ، وإلا لكان فعله بجهة ، وقبوله بأخرى . فكان فيه تركيب ما ، هذا خلف . وإذ قد ثبت هذا ، فالنفس التي كانت عاقلة بالقوة ، ثم صارت عاقلة بالفعل ، لا بد لها من مخرج في ذلك إلى الفعل ، هو أما عقل أو مستند إلى عقل . وبرهانه أن النفس إذا غابت عنها صورة معقولة ، فتارة تفتقر في استعادتها إلى كسب جديد ، وتارة لا تفتقر في استعادتها إلى ذلك . والصورة المدركة إذا كانت حاضرة عند القوة المدركة ، لم تغب عنها القوة ما كانت مدركة لها بالفعل . أرأيت أن القوة إن غابت عنها ، ثم عاودتها ، والتفتت إليها ، هل يكون قد حدث هناك غير تمثلها لها ؟ فيجب إذن أن تكون الصورة المغيب عنها ، قد زالت عن القوة المدركة زوالا ما .
____________________
(1/487)
فإن زالت ولم تتحفظ في قوة أخرى ، تكون لتلك القوة المدركة كالخزانة ، افتقرت القوة المدركة في استعادتها إلى تجشم كسب ، مثل تجشم الكسب الذي كان في إدراك تلك الصورة أولا . وإن انحفظت في قوة أخرى كالخزانة لم تفتقر القوة المدركة في استعادتها إلى أكثر من مطالعة الخزانة ، والالتفات إليها ، من غير احتياج إلى أن يكتسب ، كما اكتسبت في أول الأمر . ولو افتقرت إلى تجشم كسب جديد لكان الذهول والنسيان واحدا . والصورة العقلية إذا غابت ولم يفتقر استرجاعها إلى كسب جديد ، لا بد وأن تكون محفوظة في شيء ، وإلا لم تستغن عن تجشم الكسب المذكور . وذلك الشيء لا يجوز أن يكون جسما ولا جسمانيا ، لاستحالة حصول المعقولات المجردة فيهما . فهو إذن مجرد ، وهذا المجرد : إما النفس المدركة لتلك الصورة أو غيرها ، لا جائز أن يكون هو النفس ، وإلا لم تكن غائبة عن تلك الصورة لما مر . ولا جائز أن يكون هو جزءها ، إذ لا جزء للنفس ، كما عرفت ، فلا بد وأن يكون جوهرا عقليا أو ينتهي إلى جوهر عقلي . أما إنه جوهر فلأنه لو كان عرضا لكان محله مجردا ، وإلا لكان العرض جسمانيا ، وهو باطل . وذلك المجرد هو الجوهر الذي كلامنا فيه . وأما إنه عقلي أو ينتهي إليه ، فلأنه لو كان نفسا وكانت المعقولات فيها بالقوة ، وخرجت إلى الفعل ، افتقرت إلى مكمل ومفيد آخر . ولا بد من الانتهاء دفعا للتسلسل أو الدور ، المحالين إلى ما لا تكون المعقولات فيه بالقوة ، بل تكون فيه بالفعل ، وليس ذلك هو الواجب
____________________
(1/488)
الوجود ، فإنه سيتبين لك امتناع كونه محلا للهيئات ، فهو إذن عقل مطلقا ، أو ينتهي إلى ما هو كذلك . وأعني بقولي مطلقا : إنه عقل من جميع الاعتبارات ، ليس عقلا باعتبار ونفسا باعتبار غيره . فهذا الجوهر المجرد هو الذي يعطي النفوس كمالها ، ونسبته إلى النفوس البشرية ، كنسبة الشمس إلى الابصار ، بل أتم ، وهو كالخزانة للمعقولات ، إذا أقبلنا عليه عنه . وإذا اشتغلنا عنه بجانب الحس انمحت الصورة العقلية عنا . فالاتصال الذي يقع بين نفوسنا وبينه ، هو الذي يرسم فيها الصور العقلية ، التي تتخصص بسبب استعدادات خاصة ، تخصصها أحكام خاصة من الادراكات الجزئية السابقة المعدة لادراك الكليات أو الادراكات الكلية المناسبة ، المتأدية إلى المدرك الكلي . ولولا تلك المخصصات لكان إدراك النفس لبعض الصور دون سائرها ، تخصيصا من غير مخصص ، وهو باطل بالبديهة ، ومتى انقطعت الوصلة بين النفس وبين ذلك الجوهر العقلي بأعراضها عنه إلى ما يلي العالم الجسداني أو التفتت النفس إلى صورة أخرى ، انمحى ما كان متمثلا في النفس أولا . ونظير النفس في ذلك من الجسمانيات المرآة ، فإنه إذا حوذي بها صورة ، تمثلت فيها . فإذا أعرض بها عنها زال ذلك التمثل ، وربما تمثل فيها غير تلك الصورة ، على حسب ما يحاذي بها ، وكذلك حال النفس ، إذا عرض بها عن جانب القدس ، إلى جانب الحس ، أو إلى شيء آخر من أمور القدس ، وهذا أيضا ، فلا يكون للنفس ، إلا إذا اكتسبت ملكة الاتصال بذلك الجوهر العقلي ، والنسيان ، في ( لوحة 341 ) الصور الخيالية ، إنما كان لزوالها عن الخزانة ، وهذا الجوهر لو زال عنه شيء ، لاحتاج
____________________
(1/489)
إلى مخرج آخر ، يخرجه من القوة إلى الفعل ، ويعود الكلام فيه . وإذا كانت النفس ذات هيئة ، تتمكن بها من الاتصال بالجوهر العقلي ، فذهولها عن الصور المعقولة لا يحوجها إلى استئناف اكتساب وتلك الهيئة هي ملكة الاتصال به . وإذا زالت تلك الملكة عنها ، فذلك الزوال هو نسيان ما اختص بتلك الملكة ، من المعقولات الحاصلة للنفس . وتصرف النفس في الصور الخيالية والمعاني والأحكام ، التي في الحافظة ، بتوسط القوة الفكرية ، يفيدها استعداد الاتصال بالفعل المفارق ، وحصول صور تناسب ذلك الاستعداد . وتخصص التصرفات الفكرية بصورة صورة ، ويخصص استعداد النفس لصورة صورة ، من العقليات . وقد يحصل استعداد صورة عقلية ، من صورة عقلية . على أن الصورة العقلية لا تخلو عن محاكيات لها ، من قبيل التخيل ، ما يليق بالقوة الجسمانية . ألست ترى أن التفكر في الأشخاص الجزئية ، يعد النفس لقبول الصورة الكلية ، المتناولة لتلك الجزئيات ، كالصورة الانسانية المكتسبة من التصرف في خيال جزئياته . وكصورة الصداقة المجردة عن العوارض المادية ، من التصرف في هذه الصداقة . وتلك الصداقة ، وهي التصرفات في الجزئيات ، هي المخصصات للاستعداد التام ، لصورة صورة من الكليات . وقد يفيد هذا التخصص ' معنى عقلي ' لمعنى عقلي ، كصور المحدود من الحد ، والمرسوم من الرسم ، واللازم من الملزوم ، والنتيجة من القياس .
____________________
(1/490)
ولا يظن أن المقدمتين محصلتان للنتيجة ، بأن يفيدا وجودها ، بل هما معدان للنفس باستعداد قريب لحصول صورة النتيجة فيها من المبدأ المفارق . وكما أن الأوليات لا يتوقف الحكم بها على غير تصور الطرفين ، ولا يجاب فيها عن لمية طالبة للتصديق ، فكذلك إذا لاحت المقدمات ، والتفتت النفس إليها حق الالتفات ، تحصل النتيجة بينه . وإذا طلب لمية التصديق ، لم يمكن ان يجاب بشيء . وكم من شخص يعرض عليه امر ، فلا يفيده علما البتة ، ويفيد غيره علما يقينا ، وطمأنينة روحانية . فكل هذه وسائط للعلم ، وأما واهبة فغيرها . ونحن نجد جوهر النفس في الأطفال خالياُ عن كل صورة عقلية . ثم تحصل له المعقولات البديهية ، من غير تعلم ولا روية ، وليس حصولها فيه بمجرد الحس والتجربة ، إذ لا يفيد أن بمجردهما حكما كليا ، إذ لا يؤمن وجود شيء مخالف لما أدركته ، فحكمنا أن الكل أعظم من جزئه مثلا ليس لانا أحسسنا كل جزء ، هذا حاله . وكذلك القول في تصديقنا بالبراهين ، أذا صحت ، فأن أعتقادنا صحتها لا يصح بتعلم ، وألا فذلك يتمادى إلى ما لا يتناهى ، ولا ذلك مستفاد من الحس . إذ لا يفيد الحكم الكلي . فهذه الأشياء أذن من فيض الهي يتصل بالنفس النطقية ، وتتصل به ، فيحصل فيها هذه الصور العقلية . والذي فاض منه ذلك ، لا بد وأن تكون هذه المعقولات حاصلة فيه ، لما مر ، من وجود كونه كالخزانة لها . وأذا كان كذلك لم يكن جسما ولا جسمانيا ، أذ المعقولات لا تحصل في جسم ، ولا جسماني . ولا بد وألا يكون فيه بالقوة ، وألا لاحتاج إلى مكمل آخر ، ومخرج له فيها إلى فعل ، فلا يكون مستكملا فيها بآلة بدنية . فهو من هذه
____________________
(1/491)
الحيثية ليس بنفس ، وليس هو الواجب الوجود ، لما ستعلم أنه لا يكون محلا لشيء ، فهو أذن جوهر عقلي ، يقوم للنفس الناطقة مقام الضوء للبصر ، ألا أن الضوء يفيد القوة على الادراك فقط ، لا الصورة المدركة . وهذا الجوهر يفيد بأنفراد ذاته للقوة الناطقة على الأدراك ويحصل لها الصور المدركة أيضا ، والأشغال البدنية تعوق النفس عن الاتصال به ، فلا تتصل به إلا برفض القوى البدنية ، وتخليتها أما رفضا بالكلية ، وكأنه غير ممكن ، وللنفس تعلق بالبدن أو رفضا ، دون ذلك . وليس شيء يمنعها عن دوام الأتصال به الا البدن . والتجربة والحدس يدلان على ذلك ، فإذا فارقت البدن ، ولم يبق فيها شيء من الهيئات المكتسبة منه ، التي تجعلها عند مفارقته ، كأنها لم تفارفه ، لم تزل متصلة بمكملها ومتعلقة به . وقد عرفت أن اللذة الحقيقية هي اللذة العقلية ، وهي الكمال الحقيقي للنفس . فالعقل هو المكمل للنفس ، ومن علل الأتصال به قوة تفيده ، هي العقل الهيولاني ، ومتوسطة ، هي : العقل بالملكة ، وقريبة هي العقل بالفعل . ألا أن العقل الهيولاني يعد النفس للاتصال ، وحصول الاوائل بتوسط قصد فكري من النفس ، والقوتين الأخريتين ، تعدان مع قصد ما .
____________________
(1/492)
الفصل الثالث في بيان إسناد ما لا يتناهى من الحركات والحوادث إلى العقل القوة : إذا كانت غير متناهية ، من جهة إعطاء المدة ، لا يمكن أن تكون قابلة للتجزؤ بوجه من الوجوه ، ولا بالعرض ، لان كل قوة تجزأت ، فإن كل واحد من أجزائها يقوى على شيء ، والجملة تقوى على مجموع تلك الأشياء . وإذا كان كذلك كل جزء أضعف وأقل مقويا عليه من الجملة ، فإن قوى كل واحد من هذه الأشياء ، أو بعضها ما لا يتناهى من وقت معين ، فمقوي الجملة أزيد منه ، فبقى أن كل واحد منها يقوى من ذلك الوقت المعين على متناه ، فتكون الجملة أيضاً متناهية ، و ( قد ) فرضت غير متناهية ، هذا خلف . وكذلك إذا كانت القوة متناهية من جهة العدة ، فإن العدة إذا كانت متعاقبة لزم أن تكون المدة التي وقع فيها العدد الغير المتناهي غير متناهية ، ويعود الخلف المذكور . وإن لم يكن العدد متعاقباً ، فبطلان عدم تناهيه أظهر . وتبين أيضاً امتناع عدم تناهي القوة ، باعتبار العدة ، على كل واحد من التقديرين ، فإنها لو احتملت التجزؤ فكل واحد من تلك العدة : أما ألا يقبل الشدة والضعف ، مثل تعقلنا أن الواحد نصف الاثنين ، أو
____________________
(1/493)
يقبلهما ، ككل واحد من عدد الحركات فإن كان الأول فلا بد وأن ويقوى البعض على شيء من ذلك . ومحال أن يقوى على أحاد مثل أحاد ما يقوى عليه الكل ، وهي غير متناهية ، وإلا لم يبق فرق بين الكل وجزئه . ومحال أيضا أن يقوى على أحاد كذلك ، وهي غير متناهية ، وإلا لكانت الجملة أيضاً تقوى على متناه ، فلم يبق إلا أن يقوى البعض على أحاد كل واحد منها أقل من أحاد الكل : أما متناهية ، أو غير متناهية . وكيف كان فهو يوجب أن تكون الأحاد قابلة للأقل والأزيد ، وهو خلاف الفرض . وإن كان الثاني ، فالبعض من القوة أن لم يقو على تحريك ما حركة الكل ، فلا شك أنه يقوى على تحريك ما هو أصغر منه . ثم الكل يمكنه تحريك ذلك الأصغر حركات أسرع ، فيحرك في مثل زمان تحريك الجزء تحريكا أكثر عددا ، فيكون العدد المبتدأ من وقت معين ، أن صدر عن الجزء حركات أقل منه هو صدر عن الكل ، إذ هو أبطأ ، فيكون هو بعض الصادر عن الكل ، وابتداؤهما واحد ، فيجب أن ينقص المقوي عليه ، لا من جهة المبتدأ ، وما نقص من جهة فهو متناه منها . فالصادر عن الجزء ' متناهي ' من الجهات ، ويرجع المحال المذكور وبهذا تظهر استحالة اشتراكهما في الفعل ، ويكون الخلاف في . أن فعل الكل أشد من فعل الجزء . وكل قوة في جسم فإنها تحتمل التجزؤ ، فليس شيء من القوى غير المتناهية موجودا في الجسم ، ولا قوة من القوى الجسمانية غير متناهية التحريك ، سواء كان تعلقها بالجسم تعلق الحلول ، أو تعلقا على وجه آخر ، لأن القوة الغير متناهية ، لو حركت جسما مسافة ما ، بكل
____________________
(1/494)
قوتها لا ببعضها ، حتى لا تكون الارادية منها تمسك عن شديد الحركة ، ليتصرف كمالها إلى دوام التحريك ، وحركة ذلك الجسم بعينه في تلك المسافة ( في تلك المنافذ ) بعينها أخرى متناهية ، فكل منهما تحرك في زمان لا محالة ، لزمانيهما بالضرورة نسبة ، وكذا لسرعة حركتيهما وبطئيهما . ولا شك أن قطع الجسم لتلك المسافة بالقوة الغير المتناهية ، إنما هو في زمان أقصر من الزمان الذي يقطعها بالقوة المتناهية ، وإلا لم يظهر التفاوت بين القوتين ، والتي زمانها أقصر هي أسرع من التي زمانها أطول . ونسبة القوة إلى القوة ، كنسبة الزمان إلى الزمان ، لكن نسبة الزمان إلى الزمان نسبة متناه إلى متناه ، فنسبة القوة إلى القوة هي كذلك أيضا . فالقوة التي فرضت غير متناهية هي متناهية . هذا خلف . ولا يتصور قوة تحرك تحريكات غير متناهية في الشدة ، وإلا لكان تحريكها لا في زمان ، إذ لو كان في زمان ، مع أن كل زمان فهو قابل للقسمة ، كما عرفت ، لكان كونها في بعض ذلك الزمان يقتضي كونها أشد من التي في كله ، فلا تكون الحركة في كله ، لا نهاية لها في الشدة ، وهو على خلاف ما فرض ، وإذ قد تقرر أن كل قوة حالة في الجسم أو متعلقة به كيف كان ، لا يجوز أن تكون غير متناهية في ذاتها ، أي لا تكون بحيث يصدر عنها ما لا يتناهى في المدة أو في العدة أو في الشدة . فمن الواجب أنه إن كانت حركات غير متناهية أو حركة واحدة كذلك ، فلا بد من استنادها إلى عقل واحد ، فما زاد . لكن المقدم حق فالتالي مثله . أما بيان صدق المتصلة ، فلأن ما عدا العقل إما جسم أو متعلق به أو لا جسم ولا متعلق به ، لكن الجسم
____________________
(1/495)
وما يتعلق به ، لا يصدر عنهما ما لا يتناهى ، فالصادر عنه ذلك هو ما ليس بجسم ولا متعلق ( لوحة 344 ) به . وهذا إن كان هو واجب الوجود فيمتنع ألا يكون بينه وبين المحرك الجسماني واسطة ، كما ستعلم . سواء كان ذلك المحرك نفسا أو غير نفس . ونعيد الكلام في الواسطة . وإن كان عرضا فحله هو العقل ، لا غير ، وإلا لم يكن بريئا عن التعلق بالجسم . وإن كان جوهرا فذلك هو العقل إذ لا نعني بالعقل إلا الجوهر الذي هو بهذه المثابة . وأما بين حقية المقدم فلأنه لولا وجود حركة غير منقطعة لما حدث حادث ، إذ الحادث لا يوجد بعلة دائمة ، إلا إذا توقف إيجابها له على حادث آخر ، وإلا لكان وجوده في بعض الأحوال دون بعض ترجيحا من غير مرجح ، فلا بد من توقفه على حادث ، وذلك الحادث يتوقف على آخر ، وهكذا إلى غير النهاية . وهذه الحوادث لا يجوز اجتماعها في الوجود ، لاستحالة وجود أمور مترتبة بالطبع إلى غير النهاية معا ، فكل حادث يسبقه آخر لا إلى أول ، والسابق لا يجوز أن يكون علة تامة لوجود اللاحق ، لأنه غير موجود حالة وجوده . فلا بد وأن تكون العلة التامة لوجوده مركبة من موجود دائم الوجود ، ومن سبق حادث آخر ثم الحادث إذا حصل وله علة ثبات فنسبته إليها ليست دائمة ، وإلا لدامت ، ولكنها حادثة . فللنسبة على حدوث وثبات ، ثم يعود الكلام إلى نسبة النسبة ، في نسبتها إلى علة الثبات ، وتتسلسل العلل الثابتة إلى غير النهاية ، فلا بد من وجود شيء ثباته على سبيل التغير والحدوث ، بمعنى أن ماهيته هي التغير والتجدد ، ولا مفهوم له وراء ذلك .
____________________
(1/496)
فدوام هذه الماهية وثباتها ، هو دوام التغير وثباته ، وذلك الشيء هو الحركة الدائمة . ولو فرض انقطاعها في حال لاستحال بعدها حدوث حادث ، فإنه إذا لم يحدث في حالة فما الموجب لحدوثه بعدها ، فيفتقر إلى حادث . وذلك الحادث يفتقر أيضا إلى مثله ، فلم يتصور الحدوث . ومهما فرضت حركة دائمة انقطع الاستفهام بلم . ولا بد وأن تكون هذه الحركة دورية ، وإلا للزم انقطاعها ، بدليل أن الحركة المستقيمة لا تذهب في جهة إلى غير النهاية ، لوجوب تناهي الجهات ، وبالتعاود لا بد من الانقطاع ، لوجوب السكون ، بين كل حركتين مستقيمتين متضادتين أو مختلفتين ، كيف كانتا ، إذا الحركات المستقيمة لا بد وأن تكون نحو جهة ، ولا بد وأن يكون لتلك الجهة حد تنتهي إليه . والمحرك الموصل للجسم إلى ذلك الحد ، سواء كان هو الميل أو الطبيعة أو أي شيء كان يجب أن يكون مغايرا للمحرك له من ذلك الحد إلى جهة أخرى تخالفها . ولا شك أن الموصل إلى حد يكون موجودا حال الوصول إليه ، ضرورة كونه علة الوصول ، والوصول اني الوجود . والسبب المقتضي للحركة من ذلك الحد إلى آخر يخالفه في الجهة ، ( و ) لا يجامع وجوده وجود السبب الموصل إلى الحد الأول ، فهو حادث بعد أن الموصلية بعدية ، لا يجامع القبلية ، لا كالبعدية الذاتية . وهذا الحادث هو اني الوجود أيضا فيبين أن الموصلية إلى الحد الأول وأن اللاموصلية إليه ، وهو الآن الذي وجد فيه سبب الحركة من ذلك الحد إلى ما انتهت إليه الحركة إلى الجهة المخالفة ، إما أن يكون زمان أو لا يكون . فإن لم يكن لزم تتالي الأنات ، وإن كان فذلك هو
____________________
(1/497)
زمان ( السكون ) ، فتنقطع الحركة ، فلا يحفظ الزمان ، فالتي تحفظه هي المستديرة . ثم إن حدوث المحرك من ذلك الحد يستدعي وجود حركة متصلة مستمرة ، فلو كانت مستقيمة لعاد الكلام ، فوجب كونها مستديرة ، سواء كان بين الحركتين المستقيمتين زمان سكون ، أو لم يكن ، فلا حادث إلا وهو منفعل عن الحركات الدورية السمائية . ولهذا لو كانت السماويات أو شيء منها حادثا ، لافتقرت إلى سماويات أخرى متحركة على الدوام حركة دورية ، فتكون هي التي كلامنا فيها . فالسماويات ثابتة دائمة على حالة واحدة في ذواتها وأغراضها القارة لكن يحصل بحركاتها المختلفة اختلاف إضافات ، كما مر . ولا تفتقر هذه الحركة الدورية إلى علة حادثة ، لكونها ليس لها ابتداء زماني ، وهي دائمة باعتبار ، وبه استغنت عن العلة الحادثة ، وحادثة باعتبار ، وبه كانت تستند الحادثات . فإن المراد بالحادث الذي هو موضوع قولنا : كل حادث فله علة حادثة هو الماهية التي عرض لها الحدوث والتجدد ، من حيث هي معروضة له . والحركة ليست كذا ، بل هي حادثة لذاتها ، بمعنى أن ماهيتها هي الحدوث الذي نعني به ههنا نفس التغير واللاثبات . فإذا كان ذلك الحدوث أو التجدد أو التغير ، بأي عبارة شئت أن تعبر عنه دائما ، لم يكن مفتقرا إلى أن تكون علته حادثة ، إلا إذا عرض له تجدد وتغير زائدان عليه ، كالحركة الحادثة ، بعد أن لم تكن ،
____________________
(1/498)
بخلاف المتصلة الدائمة التي ( لوحة 345 ) قد عرفت كيفية تعلقها بالارادات الكلية والجزئية وحدوث العلة الذي يفتقر إليه المعلول الحادث ، لا يلزم أن يكون حدوثا زائدا ، وإلا لم يصح إسناد الحوادث إلى الحركة الدائمة . فالحاصل أن كل واحد من المتغيرات ينتهي إلى ماهية دائمة ، هي نفس التغير ، وهي الحركة المعرفة بأنها هيئة يمتنع ثباتها لذاتها ، فلدوامها لم تكن علتها حادثة ، ولكونها نفس التغير صح أن تكون علة للمتغيرات ولولاها للزم من دوام تأثير الواجب لذاته في معلوله الأول ، على ما ستعلم دوام معلول معلوله . وكذلك حتى لا ينتهي الأمر إلى الحوادث العنصرية ألبتة ، وللزم من وجوب حدوث علة كل حادث عنصري تسلسل علل ومعلولات حادثة موجودة معا لا نهاية لها ، وللزم من عدم أي شيء كان بعد وجوده عدم علته وعدم علة علته كذلك ، إلى أن ينتهي الأمر إلى واجب الوجود لذاته ، فيعدم ما يمتنع عدمه ، وهذه اللوازم باطلة ، ووجه لزومها قد عرفته من أصول سبق تقريرها . ولوجود الحركة المستمرة لا يلزم شيء من هذه الممتنعات . فلولا وجود عقل أو أكثر موجب لهذه الحركة ، لما وجدت . ولا يجوز أن يكون العقل مباشرا لهذه الحركة ، وإلا لكان له تعلق بالجسم من طريق التصرف فيه ، فلم يكن عقلا ، بل معنى استناد هذه الحركة إلى العقل هو أنه لا يزال دائم الفيض على النفس المحركة هذه الحركة ، ممدا لها بقوته التي لا تتناهى ، وهي تقبل منه ذلك الفيض ، وتؤثر تأثيرا غير متناه ، على سبيل الوساطة ، لا على سبيل المبدئية التي بين امتناعها . فيما يتعلق بالجسم لا يصدر عنه ما لا يتناهى لو انفرد ، لكن يجوز ذلك إذا لم يزل مستمدا من مبدأ عقلي ، وليس يمتنع على الأجسام الانفعال الغير المتناهي ، بل الممتنع عليها هو الفعل الذي هو كذلك على وجه الاستبداد ، من غير أن يستمد أمرا من غيره .
____________________
(1/499)
فارغة
____________________
(1/500)
الفصل الرابع في كيفية كون العقل مصدرا للأجسام لا بد من افتراق الأجسام بالهيئات ، والهيئات التي تقترن بها يمتنع أن تكون معلولة لنفس الجسمية ، بما هي جسمية ، وإلا لاتفقت الأجسام في الهيئات والمقادير والأشكال ، لاتفاقها في الجسمية . وإذا لم تقتضها مجرد الجسمية ، مع أن الأجسام لا قيام لها ، إلا بها لاستحالة وجود الأشياء المتكثرة دون مخصصاتها ، وجب من ذلك ألا تقوم الأجساد ، ألا بما هو غير جسم . فأن بعض الأجسام إذا لم يوجب تلك المخصصات من حيث هو جسم لم يوجبها جسم غيره ، لاشتراك كل الأجسام . في الطبيعة الجسمية ، وغير الجسم أن كان عرضا فلا يوجد الجسم الذي هو جوهر ، لما عرفت من امتناع أفادة ما لا قوام له بنفسه ، وجود ماله قوام بنفسه . وأن لم يكن عرضاً فليس هو الواجب الوجود ، إذ لا يصدر عنه بغير واسطة ماله تركيب ، ألا إذا أوجد أحد جزئيه أولاً ، وأوجد الباقي بواسطته ثانيا . لكن الجسم لا يصح إيجاده له كذلك ، لأن أحد جزأيه هو المادة ، والآخر هو الصورة ، وقد سبق بيان استحالة أن يكون أحدهما علة الآخر ، أو واسطة مطلقة في وجود الآخر . وليس هو أيضاً جوهرا نفسيا ، وألا لكان متعلقاً بالجسم ، وكانت فاعليته من حيث هو كذلك بواسطة الجسم الذي تعلق به . ونحن فنجعل كلامنا فيما صدر عنه ذلك الجسم ، ولا بد من الإنتهاء
____________________
(1/501)
آخر الأمر إلى عقل ، هو المصدر ، بعد واجب الوجود ، لوجود الأجسام . وكيفية هذه المصدرية هي : أن المبدأ المفارق يفيض عنه وجود الهيولي ، بأعانة الصورة ، من حيث هي صورة ما ، لا من حيث هي هذه الصورة المعينة . إذ لو كان من حيث تعينها ، لما بقيت الهيولي ، بعد مفارقة تلك بعينها ، فما كان يصح تعاقب الصور على هيولي واحدة ، وكونها صورة ما ليس أمرا واحدا بالعدد ، فلا يكفي في وجود الهيولي التي هي واحدة بالعدد . ولهذا أفتقرت في وجودها إلى واحد بالعدد ، دائم الوجود ، هو غير الصورة المفتقرة إلى الهيولي بوجه ما ، سواء جاز عليها مفارقتها ، أو لم يجز وينضاف إلى ذلك الواحد ، الصورة من حيث طبيعتها النوعية فيجمع منها علة تامة للهيولي مستمرة الوجود معها ، فيكون ذلك المبدأ نظير شخص استبقى سقفا بدعامات متعاقبة ، يزيل واحدة ويقيم أخرى بدلها . وتلك الدعامات هي نظير الصور المتعاقبة ، التي بها كان ذلك المبدأ المفارق مستبقيا وجود الهيولي . فبأجتماعها ثم وجود الهيولي ودخلت الصور العاقبة ، من حيث هي تلك بعينها في العلية بالعرض . وعند تمام وجود الهيولي تشخصت بها الصورة ، من حيث أنها هذه الهيولي ( لوحة 346 ) المعينة ، لكونها قابلة للتناهي والتشكل اللذين بهما تتشخص الصورة ، وتشخصت هي أيضاً بالصورة ، من حيث هي صورة مطلقة ، وموجبة لذلك التشخص . فلا يعقل وجود الصور المعينة ألا في مادة معينة ، ولا كذلك المادة
____________________
(1/502)
مع الصورة ، فهكذا يجب أن نتصور كيفية صدور الجسم عن الفعل . ويدلك أيضاً على كونه علة للجسم كون الجسم لو فعل شيئا ، لكان إنما يفعل بصورته ، لأنه إنما يوجد بالفعل بها ، ولا يكون فاعلا ، إلا إذا كان موجودا بالفعل ، ولا يمكن أن يفعل بمادته ، لأنه يكون بها موجودا بالقوة من حيث هو كذلك ، فلا يصدر عنه فعل . والصورة النوعية والجسمية ، إنما يصدر عنها أفعالا ، يتوسط ما فيه قوامها ، كما عرفت . ولا توسط للجسم بين هذه الصور بين ما ليس بجسم ، سواء كان هيولي أو صورة أو غيرهما . فلو أوجد جسم بصورته جسما آخر لوجب أن يوجد أولا جزئية اللذين هما : المادة والصورة ، حتى يوجد بوجودهما الجسم . وإذا امتنع إيجاد جزئية بصورة جسمية ، لعدم النسبة الوضعية بين الجسم ، وبين كل واحد منهما ، وجب من ذلك أن يمتنع إيجاده بها . فلا يوجد الجسم بجسم ، ولا بنفس أيضا ، من حيث هي نفس ، فإنها من هذه الحيثية لا تفعل إلا بواسطة الجسم ، كما مر . فهو إذن بعقل : إما عقل مطلق ، أو عقل ببعض الاعتبارات ومن الوجوه الدالة على أن الجسم لا يفسد وجود جسم آخر ، هو أنه لو كان كذلك ، لتقدم هيولي الجسم الذي هو العلة ، على جسميته . وهيولي المعلول مشاركة في النوع لهيولي العلة ، ( إذ ) وقوع الهيولوية عليها إنما هو التوظيف لا بالتشكيك وغيره . فيلزم أن تكون هيولي المعلول متقدمة على جسمية العلة ، فيتقدم المعلول على العلة ، وهو محال . ولو أوجد فلك من الأفلاك ، أو عنصر فلكا آخر ، أو عنصرا
____________________
(1/503)
لكان : أما الحاوي يوجد المحوي ، أو المحوي يوجد الحاوي ، وكلا القسمين باطل . أما الأول فلأن الجسم لا يصدر عنه فعل ، إلا إذا صار شخصا معينا ، إذ الطبيعة النوعية ما لم تكن كذلك لم تكن موجودة في الخارج فلا تكون علة ، لوجود غيرها . وحال المعلول مع وجود العلة ، هي الامكان ، إذ لا يكون للمعلول وجود ووجوب ، إلا بعد وجود العلة ، ووجوبها ، لا معهما . ووجود المحوي وعدم الخلاء في الحاوي ، هما معا ، لا معية ، المصاحبة الاتفاقية ، بل معية مانعة من انفكاك أحدهما عن الآخر ، فإنهما لا يتخالفان في الوجوب والامكان ، بحيث يمكن انفكاكهما ، فلا يتصور أحدهما إلا مع تصور الآخر ، وتشخص الحاوي العلة ، وكذا وجوده ووجوبه متقدم على تشخص المحوي المعلول ووجوده ووجوبه . فعدم الخلاء إن كان واجبا مع وجوبه ، كان الملأ المحوي كذلك ، لعدم تخالفهما في الوجوب والامكان المؤدي إلى جواز الانفكاك . لكن المحوي لا بد وأن يكون ممكنا مع وجوب الحاوي ، هذا خلف . وإن كان عدم الخلاء ممكنا مع وجوبه ، فهو ممكن في نفسه ، واجب بغيره ، فلا يكون الخلاء ممتنعا لذاته ، بل بسبب ، وقد بين بطلان ذلك . ويلزم من امتناع الخلاء لذاته ، أن يكون المحوي واجبا لذاته ، لا ممكنا . وإذا كان هذا اللازم باطلا ، فيكون الحاوي علة موجدة للمحوي ، باطل أيضا .
____________________
(1/504)
ويمكن اختصار هذا ، بأن الحاوي لا يمكن أن يوجد المحوي أو وهو متشخص ، ولا يتصور تشخصه إلا وأن يكون المحوي موجودا ، لامتناع الخلاء فلو أوجد المحوي لكان المحوي متقدما على نفسه تقدما بالذات وذلك محال . وكون الحاوي والمحوي ممكنين لا يوجب إمكان الخلاء إذا لم يكن الحاوي علة محوية ، لأن إمكان خلو مكانيهما ليس هو إمكان الخلاء الممتنع ، فإن الخلاء لا يتعرض بارتفاع الحاوي والمحوي معا . بل إنما ينفرض فيما نحن فيه بفرض محيط لا حشوله ، لتفرض الأبعاد التي هي الخلاء . وأما العدم المحض فليس بخلاء كما سبق . وأما الثاني ، وهو أن يكون المحوي علة للحاوي فبطلانه ظاهر ، إذ لا يتصور أن يوجد الشيء ما هو أعظم منه وأكمل . وهذا القوي المبرهن به على امتناع كون الحاوي والمحوي أحدهما علة الآخر ، يمكن أن يبرهن به على أن النفس المتعلقة بأحدهما ، لا يمكن أن تكون علة ظاهرة للجسم الآخر . وظاهر أنها لا تكون علة للجسم الذي هي متعلقة به ، فإن من له رتبة الابداع لجسم ، لا تقهره علاقة ذلك الجسم ، حتى يصير بحيث تتوقف أفعاله كلها أو بعضها على توسطه . وإذا لم يمكن أن تكون النفس علة لبعض الأجسام ، فلا يمكن كونها علة لشيء من الأجسام ، إذ الأجسام من حيث هي أجسام ، لا اختلاف ( لوحة 347 ) بينها في الطبيعة ، وإن وجب الاختلاف فيها بأمور أخرى .
____________________
(1/505)
وواجب الوجود فلا يبدع الأجسام بغير واسطة ، بالتقرير الذي مر ، فلا بد إذن من توسط عقل في إيجادها . والأجسام وإن لم تكن علة موجدة للجسم ولا لأحد جزأيه ، فإنها تجعل مادة جسم آخر في بعض الأحيان مستعدة لقبول صور أو أعراض تفيض عليها من واهب الصور ، الذي هو العقل ، أو ما يستند إليه ، وذلك كالنار التي تجعل مادة ما جاورها بتسخينها إياه ، مستعدا لقبول الصورة الهوائية من واهبها ، وكالشمس المعدة بمقابلتها لقبول التسخين من واهية ، ولهذا تبقى السخونة موجودة بعد زوالها عن المقابلة ، ولأجله أيضا يبقى كثير من الأعراض موجودا بعد انعدام ما يظن أنه علة موجوده له ولو كانت هذه وأمثالها عللا موجدة للصور أو الأعراض ، لما كان يبقى شيء من تلك المعلولات ، بعد زوال ما فرض أنه موجد له . فموجدها أمر آخر من الروحانيات ، لا من الجسمانيات .
____________________
(1/506)
الفصل الخامس في أن التشبه بالعقل هو غاية الحركات السماوية قد تبين لك مما سلف ، أن للسمائيات نفسا محركة على الدوام . وتبين لك أيضا أن الحركة لا تطلب ، لأنها حركة فقط ، بل لأنها وسيلة إلى غيرها . ففرض نفوس الأفلاك من التحريك المذكور : إما أن يكون غرضا مظنونا ، كالثناء والمدح ، أو لا يكون . فإن لم يكن فإما أنه لأجل ما تحت الأفلاك ، أو لا لأجل ما تحتها . وما ليس لما تحتها ، فإما لأمر غير معشوق للمحرك ، أو معشوق له ، وذلك المعشوق إما ذات أو صفة . وعلى التقديرين : فإما أن ينال أو لا ينال : فإن لم ينل فإما ألا ينال ما يشبهه أيضا ، أو ينال ما يشبهه ، ونيل التشبيه : إما دفعة أو لا دفعة . وإذا لم يكن دفعة فالمتشبه به ، إما ممكن الوجود ، أو واجب الوجود . وممكن الوجود إما جوهر أو عرض ، وكل واحد منهما ، حيث لم يكن تحت الأفلاك ، ولا متعلقا بذلك ، فهو إما جرم فلكي أو نفس فلكي أو عقل أو عرض متعلق بأحد هذه الثلاثة . والأقسام كلها باطلة ما عدا العقل ، فتعين أن يكون هو الذي تطلب المحركات السمائية التشبه به بالحركة . فتحتاج إلى إبطال قسم قسم ، ليتعين هذا الذي هو الحق في نفس الأمر .
____________________
(1/507)
أما كون غرضها مظنونا فيدل على بطلانه ، أن حركاتها واجبة الدوام ، فيجب ابتناؤها على أمر واجب الدوام والمظنون من الكمالات ، فالحدس يحكم أنه لا يجب دوامه . فإن ما ليس بكمال في ذاته ، لا بد وأن يظهر للطالب في المدد الغير المتناهية أنه كذلك ، فحينئذ يترك الطلب ، وتنقطع الحركة . وأما كونها متحركة لأجل ما تحتها وهذا هو عالم الكون والفساد فالحدس الصحيح يحكم بأنه أحقر بالنسبة إلى أجرامها الشريفة ، ( من ) أن يتحرك لأجله . فإنه قد تبين أنه ليس لمجموعة بالنسبة إلى الأجرام النيرة قدر يعتد به ، بل ولا إلى واحد من الأفلاك ، فضلا عن مجموعها . وهو خسيس بالنسبة إلى تلك الأجرام النيرة السماوية الآمنة من الفساد . ثم لو كان غرضها نفع السافل ، لما اندرست الفضائل في الأزمنة المتطاولة ، ولما انغرست الملل الكافرة ، والأمم الجاهلية ، ولما نبعت الاعتقادات الفاسدة والأمور الخارجة عن السياسات الواجبة . هذا مع أن نفعها للسائل لا بد وأن ترجع منه أولوية عائدة إليها ، كما علمت وكيف تستكمل العلة بمعلولها ، ويخرج كمال الشيء من القوة إلى الفعل بما به خرج منها إليه . ( و ) أما كون تحريكها لأمر غير معشوق ، فهو أمر لا يتصور في التحريك الارادي ، فإنه لا بد وأن يكون لشيء يطلبه المريد ، ويختار
____________________
(1/508)
حصوله على لا حصوله ، وكل مطلوب ومختار فهو محبوب . ودوام الحركة يدل على فرط الطلب الدال على فرط المحبة ، والمحبة المفرطة هي العشق . فالتحريك الذي لها هو لأجل معشوق ومختار . وأما كون المعشوق ذاتا تنال ، فامتناعه بسبب أن ذلك النيل لا يمكن ( أن يكون ) إلا دفعة ولو كان كذا لكان إذا نيلت الذات وقفت الحركة ، لكنها لا تقف ، فلا تنال الذات بها . وأما كون المعشوق صفة تنال ، فلا يتصور نيلها بذاتها إلا إذا انتقلت من محلها إلى ذات العاشق الطالب لها بالحركة ، وقد عرفت كيفية الحال في امتناع انتقال الأعراض المتشخصة بمحالها . وإذا لم تنتقل هي بعينها ، بل حصل ما يماثلها فما نيلت هي ، بل شبيهها هو الذي نيل . وأما كون المعشوق لا ينال هو ولا شبيهه ، فيمنع جوازه دوام حركتها فإنه لو كان كذلك ، لكان المتحرك بالارادة حركة دائمة ، طالبا للمحال ( لوحة 347 ) أبدا والعقل السليم لا يتصور ذلك في المريد بإرادة كلية ، يتصور بها جوهر مجرد عن الغواشي المادية . وأما كون المحرك ينال شبيه معشوقه دفعة ، فيبطله وجوب انقطاع الحركة عند نيله ، وكان على ما سبق من الوقفة . وأما كون المتشبه به جرما فلكيا ، فيظهر لك فساده من أن الجرم الفلكي ، لو تشبه بجرم آخر فلكي ، للزم أن تكون حركات الأفلاك كلها متفقة الجهة ، ولا يكون بعضها إلى جهة والبعض إلى خلافها ، لكنها ليست بمتفقة في جهة
____________________
(1/509)
الحركة ، وليس ذلك لعدم مطاوعة الطبيعة ، فإن الأوضاع للجرم الكري متساوية ، من حيث اقتضاء الطبيعة . والميل المستدير والجسم من حيث هو جسم ، لا يقتضي حركة إلى جهة معينة ، ولا وضعا معينا . وليس للأفلاك طبائع تقتضي وضعا معينا ، وإلا لكان النقل عنه بالقسر ، ولا جهة معينة ، بل وجود كل جزء من أجزاء الفلك المفروضة ، على كل نسبة محتمل في طبيعة الفلك ، المقتضية لتشابه أحواله وتشابه ما يفرض له من الأجزاء . واختلاف حركاتها ليس منسوبا إلى اختلاف هيولاتها بالماهية ، إذ القابل لا يكون فاعلا لما قبله . ولأنه لو كان لهذا السبب ، لكانت حركات الأفلاك طبيعية ، وقد مر فساده . ولأنه لو كان لهذا السبب ، لكانت حركات الأفلاك طبيعية ، وقد مر فساده . ولا يجوز أن تكون نفوس الأفلاك ، يقتضي طبعها أن تريد جهة معينة ، أو وضعا معينا ، إلا أن يكون لها غرض في الحركة ، وتخصص بذلك . فإن الارادة تتبع الغرض ، لا إن الغرض يتبع الارادة ، فلا تختلف إذن جهات الحركة فيما نحن فيه ، إلا باختلاف أغراض المتحرك ، أو المتحركات . وأما كون المتشبه به نفسا فلكيا ، فبهذا بعينه يظهر بطلانه ، فإن النفس التي للفلك لو تشبهت بنفس أخرى فلكية ، لوجب أن تشابهها في المنهاج الذي للحركة ، فكانت توافقها في جهاتها وأقطابها . وإن وجب قصور ( ذلك ) ، فإنما يوجبه ضعف المتشبه عن التشبه التام ، لا مخالفته . ونحن فلا نجد الاتفاق في ذلك في جميع السمائيات . وأما كونه عرضا في جرم فلكي أو نفسي فلكي ، فحاول على بطلانه أن يكون التشبه بجوهريهما هو بعينه دال على بطلانه .
____________________
(1/510)
وأما كون ذلك المتشبه به هو واجب الوجود ، فيعلم امتناعه من هذا أيضا ، فإن واجب الوجود ، كما يتحقق هو واحد ، من كل وجه ، والمطلب متى كان واحدا ، كان الطلب لا محالة واحدا . فلم يبق من الأقسام إلا أن يكون تشبه الأفلاك في حركاتها الارادية الدائمة الدورية بعقل أو بعرض فيه . وإذا كان بعرض فيه فالتشبه به أيضا فيما فيه من صفة أو صفات . فعلى كلا التقديرين ، ليس تشبهها إلا بالعقل . وذلك بالتشبه هو تحصيل كمال واحد ، وكمالات كثيرة تستفاد منه ، ولكن لا بالتمام . وإلا لكان متى حصل أو حصلت انقطعت الحركة ، بل لا يمكن حصولها ، إلا بتحصيل أجزائها على التعاقب . ومثل هذا الطلب لا يمتنع أن يبقى دائما ، بل هو فيما نحن فيه واجب الدوام ، على ما تحققت قبل . ويجب أن تعلم أن خروج الكمالات إلى الفعل أمر كلي ، لا يمكن أن يصير غاية لحركات جزئية . بل يجب أن تكون غايات الحركات الجزئية أمورا جزئية ، يلزمها هذا المعنى الكلي . وتلك الأمور ، وإن دلنا عليها اختلاف الحركات ، لكن ليس لنا إلى معرفة ماهياتها المتخالفة سبيل . وليس تلك الكمالات ، هي أن تخرج أوضاع الفلك بالحركة ، من القوة إلى الفعل ، فإن الأوضاع الخارجة إلى الفعل إنما هي كمالات ما ، بالقياس إلى الجسم ، لا إلى محركه . إنما الكمال اللائق بمحركة هو تشبهه بمبدئه المفارق ، في صيرورته عن القوة . لكن الكمال والتشبه يقعان بالتشكك على أمور مختلفة الحقائق ، وقوع اللوازم ، فإذن ههنا شيء ما يحصل لمحرك كل فلك بالتحريك ، هو كمال بالقياس إلى المحرك وتشبه بالقياس إلى المبدأ المفارق .
____________________
(1/511)
فارغة
____________________
(1/512)
الفصل السادس في بيان أن العقل يجب أن يكون حيا مدركا لذاته ولغيره ( لوحة 348 ) ، وفي كيفية ذلك الادراك قد تحققت أن إدراك الشيء هو نفس حصول مثاله عند المدرك لا أمر تابع له ، فإنه لو كان غيره ، لكان إدراك الشيء غير تحصيل ماهيته ومعناه ، وهو على خلاف ما سبق تقريره . وليس الملاحظ للشيء وجودا له في المدرك أو عنده ثانيا ، بل نفس حصوله مرة واحدة فقط . وإلا للزم التسلسل المحال ، فوجود المدرك لمدرك نفس إدراكيته له . والسواد القائم بالجسم لو كان قائما بذاته ، لكان سوادا لذاته لا لغيره ، وكذا النور القائم بالجسم ، الذي هو ظهور للجسم ، لو قام بنفسه ، لكان نورا لنفسه ، أي ظهورا لنفسه . وهكذا حال الصور العقلية المجردة ، فأنه لما كان حصولها لما يتعقلها هو نفس تعقله لها ، فلو قامت بذاتها لكانت تعقلا لذاتها لا لغيرها فكانت مدركة لذاتها . وقد اتضح بهذا أن ما يكون وجوده لغيره ، لا يدرك ذاته ، فإن مدرك ذاته يجب أن يكون نفس وجوده إدراكه لذاته . ولهذا لا نجد ضروريا في إدراك مفهوم أنا إلا الحياة ، التي هي وجود الشيء عند نفسه .
____________________
(1/513)
وتعلم أن جميع ما وراء ذلك خارج عنا : وجوديا كان أو عدميا لازما للنفس أو مفارقا . وعلى هذا ، فكل ( ما هو ) في المادة فهو محجوب عن ذاته ، لكون وجوده لغيره ، لا لنفسه . وكل ما لا يحصل بنفسه ، لا يمكن أن يحصل له شيء ، إذ الحاصل لا يكون بالحقيقة له ، بل يكون لما هو حاصل له ، ومتحصل به . ومن هذا يظهر أن الهيولي الجسمية ، والصورة الحالية فيها ، وجميع المركبات والأغراض ، ليس شيء منها بعاقل ولا حي على الاطلاق . والعقل لما كان مجردا قائما بذاته ، وجب أن يدرك ذاته ، وأن يكون إدراكه لذاته نفس ذاته ، لا زائدا عليها ، كما قرر في النفس ، بدليل أن صورته المطابقة له ، لو حصلت لما من شأنه أن يدرك لكان مدركا لها ، ولكان نفس حصولها له ، هو إدراكه لها . فإذا قامت بذاتها ، فمن الواجب أن يكون إدراكها لذاتها ، إذ قيامها بذاتها ، هو حصولها لذاتها ، ككل واحد من الأعراض لو قام بذاته . وكل ما يدرك ذاته فمن شأنه أن يدرك غيره ، فإن العلم بالملزوم يقتضي العلم بلازمه ، إذا كان ذلك اللزوم لذاته . وجميع الماهيات لها لوازم . ولو لم تكن إلا لوازمها العامة ، كالوجود والوحدة وغيرهما ، فتعقل الذات وتعقل الغير متعاكسان ، فإن كل ما يعقل غيره يعقل ذاته ، وكل ما يعقل ذاته يعقل غيره . وكل ما صح أن يكون معقولا للغير ، فإنه إذا قام بذاته كان عاقلا لذاته معقولا لذاته . وتلخيص بيان هذه الدعاوي ، بعد استعانته بما مر ، هو أن كل شيء يعقل شيئا ، فله أن يعقل أنه يعقل .
____________________
(1/514)
وكل ما له ذلك ، فله أن يعقل ذاته ، فكل ما يعقل شيئا فله أن يعقل ذاته ، وكل معقول قائم بذاته ، فيمكن أن يعقل مع غيره ومعنى كونه معقولا مع غيره ، هو مقارنته للغير في القوة العاقلة لهما ، فهو مقارن للغير وللقوة العاقلة أيضا ، فلا يمتنع ( عليه ) إذ هو قائم بذاته أن يقارن المعنى المعقول . وإن امتنع عليه ذلك فلمانع غير ذاته ، فيمكن له من حيث ذاته أن يكون عاقلا ، وإذا أمكن عليه ذلك فهو مدرك لذاته وللوازمها دائما . فإن إدراك ذاته ليس أمرا غير ذاته ، حتى يصح عليه أن يكون تارة يتصف فيه فيدرك ذاته ، وتارة لا يتصف ( به ) فلا يدركها . والصورة المجردة في العقل ، وإن فارقت الصورة المعقولة فيه غيرها ، فليست مرتسمة بتلك الصور ، بل المرتسم بها هو القابل لهما جميعا ، وليس أحدهما أولى بأن يكون مرتسما بالآخر من الآخر به . فإنهما وإن اختلفا بالماهية فنسبتهما إلى محلهما غير مختلفة ، بل متساوية ، كنسبة الحركة والسواد إلى محلهما ، الذي هو الجسم ، لا كالحركة ، والبطء الذي هو هيئة فيها . فإن الصورتين المذكورتين قد توجد كل واحد منهما بحسب ماهيته وبحسب كونه معقولا بدون الآخر ، فلا يكون كونه هيئة فيه أولى من كون الآخر كذلك . فلو قبل كل منهما الآخر ، لقبل كل منهما نفسه ، وهو محال ، فلا يحصل شيء منهما للآخر ، فلا يعقله . فمقارنتها إذن في العاقل غير مقارنة الصورة والمتصور . واستعداد الصورة للمقارنة ، إن كان لازما لماهيتها النوعية ، فهو غير منفك عنها ، حالتي القيام بالذات والقيام بالقوة العاقلة .
____________________
(1/515)
وإن لم يحصل إلا عند الحصول في العقل ، فيكون استعداد المقارنة لم يحصل إلا مع المقارنة أو بعدها ، وهو ظاهر الاستحالة . ولولا ما قرر أولا ، لما لزم من مقارنة الصورة المعقولة لما تعقلها ، كونها إذا كانت قائمة بذاتها ، وجب أن تكون عاقلة . ومع هذا فالحدس ( لوحة 349 ) والذوق السليم ، هو الذي يؤيد هذا البرهان . وإذا أردت مأخذا أسهل من هذا ، فيجب أن تأخذه من علم النفس بذاتها وبغيرها ، فإن ذلك نجده من أنفسنا ، وهو متحقق في الأنفس السماوية ، بما سلف من الأدلة . وإذا كانت النفوس بأسرها تستند إلى عقل يكون علة فاعلية لها إما بتوسط شيء من النفوس أو لا بتوسطها ، فلا يمكن أن يكون ذلك العقل أنقص في مرتبة الوجود منها . والعلم والحياة هما من الكمالات الغير الزائدة على الذات ، بل هما كمال للذات من حيث هي . والعلة الفاعلية لما له هذا الكمال الذاتي يمتنع أن تكون قاصرة عنه فيه ، فإن تلك الذات على ما هي عليه من الكمال الغير الزائد عليها ، هي مستفادة من تلك العلة وتابعة لها في ذلك الكمال ، فلا يصح أن تساويها فيه ، فضلا عن أن تكون أشرف منها . وقد عرفت أن الذي من الفاعل هو نفس الماهية الخارجية ، فهي كظل له ، فلا تكون أتم وأكمل منه . وكمالية العلم والحياة كمال في نفس الذات ، لا تابع لها ، بحيث يحتمل أن يكون مكتسبا من غير فاعلها . والفاعل البعيد في هذا أبلغ من القريب .
____________________
(1/516)
وهذه الطريقة فلا تتمشى إلا في العقل الذي تستند إليه النفوس في العلية ، أو العقول التي هي كذلك ، ولا يستمر استعمالها في كل عقل ، بخلاف الطريقة الأولى ، لكن الحدس بعد الوقوف على القواعد السالفة يحكم أن العقل في الجملة أفضل من النفس ، سواء انتسبت إليه بالمعلولية ، أو لم تنتسب ، وذلك لتمامه واستغنائه عن العلاقة الجسمانية ، فإنها لنقص في جوهر النفس . وإذا كان أتم منها في ذاته ، فهو أتم منها في العلم ، الذي هو نفس ذاتها ، وهو علمها بذاتها ، وفي العلم المغاير لذاتها ، اللازم لها ، وهو علمها بغيرها . وكذلك القول في الحياة ، وإنما يقال ذات وعلم وحياة ، مع كون الكل شيئا واحدا ، للاختلاف بينهما بنوع من الاعتبار . وربما يتحقق لك فيما يستأنف ، أن العقول بأسرها إنما تختلف في ذواتها بالكمال والنقص ، وحينئذ يتبين لك أن كمالاتها الذاتية ، لا تختلف إلا كذلك ، فيجب أن تكون كلها عالمة ، وإن كان علم بعضها أنقص من علم بعض ، والعقل فلا يجوز أن يتغير علمه ، فإنه لو تغير لافتقر في تغيره إلى حركة دائمة ( و ) دورية ، كما عرفت ، فيكون العقل حينئذ من الأمور الداخلة تحت الحركات ، ومستكملا بالأجرام المتحركة . فيكون - والحالة هذه - نفسا ، لا عقلا ، وهو خلف . فيجب أن يكون علمه بالجزئيات على وجه كلي ، لا يتغير فيه ، ولا يفتقر فيه إلى آلة جسمانية .
____________________
(1/517)
وليس ما يتبع حركات السمائيات من نفع العالم السفلي يقادح في أن الغاية من حركاتها ، ليست هي نفعة ، فإن ما هو من ضرورة الغاية غير نفس الغاية الحقيقية ، بل ربما كان غاية بالعرض ، وهي على أقسام : فمنه ما يكون أمرا لا بد من وجوده ، حتى توجد الغاية على أنه علة لها ، مثل صلابة الحديد ، ليتم القطع . ومنه ما هو كذلك على أنه لازم للعلة ، كالدكنة للحديد . ومنه أمر لازم للغاية ، كحب الولد اللازم للغاية في التزوج ، وهو التناسل ، وحدوث الحادثات العنصرية عن حركة الأفلاك التي غايتها هو استفادة الكمال مما فوقها ، هو من هذا القبيل .
____________________
(1/518)
الفصل السابع في بيان كثرة العقول ، وجملة من الأحكام المتعلقة بها من وقف على ما سلف من الأصول ، تحقق أن العقول في الوجود كثيرة ، وأنه لا يمكن أن يكون عقل واحد فقط ، هو العلة الفاعلة لموجودات العالمين ، أعني : الجسماني والنفساني . ويكون هو الذي تتشبه ( به ) النفوس المحركة للأجرام السماوية بأسرها . وهو بعينه الذي يخرج نفوسنا في تعقلاتها من القوة إلى الفعل . ولو جاز أن يكون المؤثر لهذه الآثار كلها عقلا واحدا ، لوجب أن يكون : إما مركبا ، وإما متصفا بصفات كثيرة ، أو له اعتبارات مختلفة . وهذه التوالي الثلاثة باطلة ، فكذا المقدم . وتتبين الشرطية بما سبق بيانه ، من أن الواحد ، من حيث هو واحد ، لا يؤثر إلا أثرا وحدانيا . وإذ هذه الآثار كثيرة فلا بد لها من كثرة تستند إليها : إما في ذات العقل بأن يكون مركبا ، وأما في صفاته واعتباراته . وأما بطلان هذه الأقسام فيتبين بأن تركيب العقل يقتضي ألا يكون مدركا لذاته ، لما علمت : أن كل مدرك لذاته فهو غير مركب ، لكن العقل قد بين أنه يدرك ذاته ، فليس بمركب . ويقتضي تركيبه أيضا ، ألا يكون هو الصادر الأول عن واجب
____________________
(1/519)
الوجود ، لما ستعلم أنه واحد حقيقي ، لا شريك له ، فلا يصدر عنه من غير واسطة أكثر من واحد بسيط . ولا يمكن أن تكثر صفات أو اعتبارات إلا بقياسه إلى ما قبله وهو الواجب ، أو إلى ما بعده ، وهو معلولاته . أما قياسه إلى الواجب فلا يمكن أن يتحصل منه من الصفات والاعتبارات ما يفي بهذه الكثرة كلها ، وذلك ظاهر عند التأمل . وأما قياسه إلى معلولاته فهو متأخر عن معلولاته ، فلا يتأتى أن يحصل منه ، ما يكون شرطا في تكثر تلك المعلولات ، لأن الشرط متقدم على المشروط . وإذا كان كذلك فهذه الكثرة لا تحصل إلا من عقول كثيرة العدد جدا . والذوق السليم يشهد بعد الاطلاع على القواعد التي يبتني هذا البحث عليها . وكيف يتصور في تلك الثوابت ، أو أفلاكها مع ما فيه أو فيها ( لوحة 350 ) من الكواكب التي لا تنحصر لنا كثرة ، سواء كانت متفقة الأنواع مختلفة اللواحق المميزة بعضها من بعض ، أو مختلفتها ، أن يكون بجميع ما يشتمل عليه صادرا عن عقل واحد ، بجهة واحدة ، أو جهات قليلة ، حصلت منه ، ومن نسبته إلى الواجب ، ونسبة الواجب إليه ثم اختصاص كل كوكب بموضع من الجسم البسيط ، ليس هو لذاته ، ولا لذات الجسم ، فإنه تخصيص من غير مخصص ، بل لاختلاف هيئات في علته الفاعلية ، ليحصل من المجموع المجموع . وتلك الهيئات يجب كونها متكثرة ، على حسب ما حصل باعتبارها ويمتنع حصول مثلها في المعلول الأول لواجب الوجود . وكل فلك من أفلاك الكواكب المتميزة في عدة أفلاك ، بعضها محيط بالأرض ، وبعضها غير محيط بها ، كما عرفت . فهذه ( و )
____________________
(1/520)
أمثالها لا تتحصل ألا من عقول كثيرة ، أو ( هيئات ) من هيئات كثيرة في عقل واحد ، لا يحصل في ذلك العقل الواحد ، ألا بمقايسته إلى عقول كثيرة أيضاً . وكيف كان فلا بد من تكثر العقول في صدور هذه الأشياء المتكثرة ، التي قد بين أنه لا يمكن أستنادها من أقسام الموجودات إلى غير العقل . وعلى مثل هذا تدل كثرة المتشبهات في النفوس الفلكية المختلفة التحريكات . فإنها إن كانت لاختلاف العقول فهو المطلوب ، وإن كانت لاختلاف هيئات في عقل واحد ، فيلزم منه أيضاً وجود عقول متعددة . فلا تصدر هذه الأفلاك وكواكبها ونفوسها المحركة لها ، ألا بعد وجود كثرة وافرة من العقول ، ولا تأخذ الأفلاك في الترتيب في أول ما تأخذ العقول في ذلك ، بل العقول يحصل منها مبلغ على الترتيب العلي والمعلولي . وينفعل البعض عن البعض بهيئات كثيرة ، حتى يمكن وجود ما قد وجد . وما تحصل منه النفوس أشرف مما تحصل منه الأجسام ، وما يتحصل منه الأشرف من كل جملة أشرف مما يتحصل منه الأدون فيها ، فيحصل من الأشرف الأشرف ، ومن النازل النازل ، ومن المتوسط المتوسط ، مع احتمال أن يكون ذلك الشرف وما يقابله في ذوات العقول أو في هيئاتها التي باعتبارها كانت مبادئ أمور متكثرة . وهذه العقول هي أشرف الموجودات ، وبينها من النسب العددية عجائب تحصل منها في النفوس . وللأجسام عجائب أيضاً . ولا يبعد وجود عقول متكافئة تكافؤ النفوس الإنسانية . وربما يمكنك أن تستدل على كثرة العقول بما عرفت من افتقار التحريكات المنسوبة إلى القوى النباتية والحيوانية ، إلى موجود له عناية بأنواع
____________________
(1/521)
النبات والحيوان ، هو غير النفس الناطقة وما يجري مجراها ، لغفول الإنسان عن نموه وتغذيته وتولد ما يتولد منه . وإذا تنبه لشيء من ذلك في الحجلة ، فلا يعلم كيفيته ولا سببه ولا ما فيه من التدبير المتقن والنظام . ولو كان المعتني بالنوع نفسا متعلقا به تعلق نفوسنا بذاتنا ، لكان يتألم بتضرر الأبدان ، فما كان يزال في الألم ، لأن عنايته بجميع أبدان نوعه ، لا ببدن واحد فقط . وليست هذه العناية عناية تعلق ، بحيث يحصل منه ومن البدن الذي يتصرف فيه حيوان واحد ، هو نوع واحد . والحدس يحكم من هذا وما يجري مجراه ، أن للأنواع الجسمانية ذواتا روحانية فيها هيئات روحانية ، تكون النسب الجسمانية في النوع الجسماني ، كظل لها . ولما لم ينحفظ ذلك النوع في شخص معين لضرورة الوقوع تحت الكون والفساد ، حفظ بشخص منتشر . فتلك الذوات هي التي تمد الأنواع بكمالاتها ، وتحفظها بتعاقب أشخاصها ، مع كونها غير متعلقة بها . فإن من له رتبة الإبداع لجسم ، لا تقهره علاقة ذلك الجسم ، حتى يصير بحيث يفتقر في صدور الفعل عنه إلى توسطه . وليس من شرط المتصرف في جسم أن يكون مبدعا له ، ولا من شرط المبدع لجسم أن يتصرف فيه . ولا يستنكر كون الهيئات الجرمانية مماثلة أو مناسبة للهيئات الروحانية ، فإن الإنسانية الكلية هي في الذهن مجردة غير مقدرة ، مع أن التي في الأعيان ليست كذلك . ولا يستنكر كون الهيئات الجرمانية مماثلة أو مناسبة للهيئات القالب والمثال للأنواع ، فإن المبدع للأشياء لا يحتاج في أبداعه لها إلى مثل ، ليكون دستور الصنعة . ولو أحتاج إلى ذلك ، لاحتاج المثل إلى
____________________
(1/522)
مثل آخر ( و ) كذلك ، إلى غير النهاية . وما يتخذ له القالب والمثال يجب أن يكون أشرف منهما ، لأنه الغاية ، فيلزم أن تكون الجسمانيات أفضل من الروحانيات . ولا يصح هذا في العقول السليمة . ومن له رتبة أيجاد هذه الأنواع الجوهرية ، فلا بد وأن تكون ذاته أشرف من ذواتنا ، التي هي أنفسنا الناطقة ، بتفاوت غير يسير ، لأنها ( لوحة 351 ) تقصر عن أيجاد جرم ، فضلا عن إيجاد ما هو أشرف منه . وما هو بهذه المثابة فلا يفعل من حيث هو متعلق بالجسم تعلق الإستكمال به . فأذن هذه الذوات أنما تفعل ما تفعله من الأنواع من حيث هي عقول ، لا من حيث هي نفوس ، لو كان لها تعلق بالأجسام باعتبار ما . ولما علم من إدراك العقول لذواتها أنها بسيطة ، وجب من ذلك أن يكون كل واحد منها ، من حيث هو كذلك أزليا أبديا ، تعين ما بين به ذلك في النفس من حيث ذاتها البسيطة ، والمجردات التي هي عقول على الإطلاق ، لا يجوز أن يكون شيء من كمالاتها اللائقة بها بالقوة ، بل يجب أن تكون كل كمالاتها ، وكل أمر ممكن الحصول لها حاصلا بالفعل ، لأنه أن لم يحصل لها أزلا وأبدا ، فهو ممتنع الحصول لا ممكنه ، فإن استمرار عدمه لها دال على امتناعه عليها : أما لذاتها أو لغيرها . وإن حصل بعد عدمه أو عدم بعد حصوله ، افتقر ذلك الأمر المتجدد كما علمت ، سواء كان هو الوجود أو العدم ، إلى حركة دورية مستمرة . فإن كان شيء من الحركة أو المتحرك بها ، أو النفس المؤثرة لها ، معلولا لذلك العقل ، لزم المجال من وجهين : أحدهما - استكمال العلة بمعلولها ، من حيث هو معلول لها ، وهي علة له . وثانيهما - أن يكون العقل مستكملاً بالجسم ، فلا يكون عقلا ،
____________________
(1/523)
وهذا خلف . وأن لم يكن شيء من ذلك معلولاً للعقل ، فالمحال الثاني لازم ، لا محالة ، دون الأول . وأما المجردات التي هي عقول باعتبار ، ونفوس باعتبار آخر ، فيجب أن تكون كذلك من الوجه الذي هو به عقول ، دون الوجه الآخر .
____________________
(1/524)
الباب السابع في واجب الوجود ووحدانيته ونعوت جلاله وكيفية فعله وعنايته
____________________
(1/525)
فارغة
____________________
(1/526)
الفصل الأول في إثبات واجب الوجود لذاته الطرق التي يستدل بها على وجود الواجب لذاته كثيرة . والذي أذكر منها ههنا عشرة : الطريق الأول : هو أنه لو لم يكن في الوجود موجود واجب الوجود ، لكانت الحقائق والماهيات الموجودة كلها ممكنة الوجود ، وكل موجود ممكن الوجود يفتقر إلى وجود علة موجودة معه ، ترجح جانب وجوده على جانب عدمه . فمجموع الموجودات الممكنة تفتقر إلى موجود هذا شأنه ، وذلك الموجود أما نفس ذلك المجموع ، أو داخل فيه أو خارج عنه . فإن كان نفس المجموع ، فأما أن يعني به الآحاد بأسرها ، مع عدم الإلتفات إلى التأليف ، أو لا مع عدم الإلتفات إليه . فإن عني به ما لا يلتفت فيه إلى التأليف ، فنجعل كلامنا في الآحاد بأسرها ، فإنها ليست علة لنفسها ، إذ المعلول يجب أن تكون علته مغايرة له ، وإلا لكان متقدما بالذات على نفسه ، ومفتقرا لها ومستفيد الوجود منها ، وهو بديهي البطلان . ولا علتها بعض تلك الأفراد ، لامتناع كونه علة لنفسه ولعلله ، لأن العلة التامة للشيء يجب ألا يفتقر ذلك الشيء إلى ما هو خارج عنها . لكن لو كان ذلك الشيء مركبا من ممكنات ، وأفتقر بعض تلك الممكنات إلى أمر خارج عن الشيء ، لزم أن يفتقر الشيء إلى ذلك الخارج أيضاً ، لأنه مفتقر إلى جزئه المفتقر إلى الخارج ، والمفتقر إلى
____________________
(1/527)
المفتقر أيضاً إلى ما افتقر إليه ، فلا تكون علته التامة تامة ، هذا خلف . فبعض أفراد الجملة لو كان علة تامة للجملة ، لما أفتقر بعض آخر منها إلى ما يخرج عنها . فكان يلزم أن تكون عللها معلولة لها ، وأن تكون هي نفسها معلولة لنفسها . وهذا مع كونه بين الإمتناع ، فهو يوجب أن يصدر عن الواحد أكثر من واحد ، وقد علمت أنه ممتنع أيضاً . وليس علتها أمرا خارجا عنها ، لأن تلك الآحاد أن كانت غير متناهية ، فهو باطل ، لما مر . ولأن كل واحد ، وكل جملة منها مستندان إلى علة تامة غير خارجة عن السلسلة ، التي هي غير متناهية ، متقدمة على ذلك الواحد ، وعلى تلك الجملة ، فلو كانت العلة التي للآحاد بأسرها حينئذ خارجة عنها ، لاجتمع على بعضها علة مع العلة التامة ، وقد عرفت استحالته . وأن لم تكن تلك الآحاد غير متناهية ، وجب انتهاؤها ، إلى علة غير معلولة ، وتلك هي واجب الوجود . وإذا كانت الآحاد بأسرها معلولة ، وعلتها على تقدير ألا يكون فيها واجب الوجود ، يمتنع أن يكون نفسها أو داخلا فيها ، أو خارجا عنها ، فهي ممتنعة على ذلك التقدير . وأن عني بالمجموع اعتبار ما يقع فيه التأليف مع التأليف ، فذلك كون الشيء علة لنفسه ، وبطلانه ظاهر . وأن كان ما هو علة مجموع الممكنات داخلا في المجموع ، فكونه علة ذلك : أما بانفراده أو مع سائر الآحاد . لا جائز أن يكون بانفراده ، وألا لكان ( لوحة 352 ) علة لنفسه ولعلله بالتقرير السابق ، ولا جائز أن يكون علة مع باقي الأجزاء ، إذ المفهوم من ذلك أن تكون العلة هي المجموع بأحد العنايتين المذكورتين .
____________________
(1/528)
وقد عرفت أن ذلك محال ، فبقي أن تكون العلة لجملة الممكنات الموجودة ، هو الخارج عنها . والخارج عن مجموع الممكنات لو كان ممكنا ، لكان من تلك الجملة ، لا خارجا عنها ، فهو إذن واجب الوجود ( و ) لا بد . الطريق الثاني : لو كان كل موجود ممكنا مع أنه لا بد لكل ممكن من علة موجودة معه ، فإن كانت تلك العلة ممكنة أيضا افتقرت إلى علة أخرى ممكنة ، وهلم جرا . فإن كان في تلك المعلولات ما هو علة لعلته القريبة أو البعيدة ، فذلك هو الدور ، وإن لم يكن فيها ما هو كذلك ، فهو التسلسل ، وكلاهما محالان ، كما مر . الطريق الثالث : كل جملة كل واحد منها معلول ، سواء كانت تلك الجملة متناهية ، أو غير متناهية ، فإنها تقتضي علة خارجة عن آحادها موجودة معها ، لأنها إن لم تقتض علة أصلا ، فهي واجبة غير معلولة . وهذا وإن كان نفس مطلوبنا ، فهو في مثل هذه الصورة محال . لأن كل مجموع يتركب من آحاد ، فهو واجب بآحاده ، لا بذاته . وأعني بالجملة ههنا : ما هو كالعشرة الحاصلة من آحادها ، التي لم يحصل عند اجتماع أجزائها شيء ، غير الاجتماع ، مثل : هيئة أو وضع أو مزاج معد لقبول ما صار به المجتمع نوعا . فإن كانت هذه الجملة معلولة الآحاد بأسرها ، لزم أن يكون الشيء علة لنفسه . وإن كانت معلولة بعض الآحاد ، فليس بعض الآحاد أولى بذلك من بعض . بل أي بعض فرض أنه علة الجملة ، فعلته أولى منه بذلك ، بخلاف ما لو فرضنا الجملة مركبة من واجب وممكن ، فإن الأولوية للواجب ظاهرة حينئذ ، فلا بد وأن تكون معلولة لما هو خارج عن الآحاد كلها . والخارج عن كل الممكنات جملة وآحادا ، هو بالضرورة واجب الوجود . الطريق الرابع : مجموع الممكنات الموجودة ممكن ، فله علة تامة
____________________
(1/529)
موجودة وهي لا يجوز أن تكون نفس ذلك المجموع ، لما مر ، ولا داخلة فيه ، لتوقفه على كل واحد من أجزائه ، فلا يكون شيء منها علة تامة له . فهي موجود خارج عنها ، سواء كانت متناهية الآحاد ، أو غير متناهيتها ، والموجود الخارج عن جميع الممكنات الموجودة واجب لذاته . الطريق الخامس : ( و ) متى فرضنا مجموع الموجودات ممكنا بجملته وآحاده ، فلا بد من وجود سلسلة غير متناهية . فعلة تلك السلسلة إن لم تكن هي آحادها بأسرها ، فهي إما بعضها أو خارج عنها . وكلاهما على تقدير أن لا واجب محال ، لما مضى . وإن كانت هي آحادها بأسرها فتلك الآحاد مفتقرة أيضا إلى علة ، وليست هي نفسها ، ولا بعض آحادها ، ولا الخارج عنها . وجميع ذلك قد سبق تقريره . وإذا بطلت هذه الأقسام كلها ، لم توجد السلسلة المذكورة ، لوجود استنادها إلى علة ، مع امتناع استنادها إلى علة ، فوجب انتهاء السلسلة إلى الواجب ضرورة . الطريق السادس : الموجودات حاصلة ، فإن فرضت واجبة فقد وقع الاعتراف بالواجب ، وإن كانت ممكنة ، فتحتاج إلى مرجح . ومجموع الممكنات ممكن ، فالمجموع ممكن ، لا لأن الحكم على كل واحد يلزم أن يكون على الكل ، بل لأن المجموع معلول الآحاد . وإذا كانت العلة ممكنة ، فالمعلول أولى بالامكان ، وإذا كان الجميع ممكنا محتاجا إلى مرجح ، فليس مرجحه بممكن ، وإلا لكان من تلك الجملة المفتقرة إلى ذلك المرجح ، فيفتقر إلى نفسه ، فيجب أن يكون غير ممكن ، بل : أما واجب أو ممتنع . وإذا كان كذا فهو منتهى العلل ، إذ لو كان له علة ، لكان ممكنا ، وهو خلاف الفرض . وإذ هو موجود فليس بممتنع ، فتعين كونه واجبا ، وهو مطلوبنا .
____________________
(1/530)
الطريق السابع : لو تسلسلت الممكنات إلى غير النهاية ، فالجملة المركبة من تلك السلسلة لا بد لها من علة ، بها يجب المجموع أو بها وبما يلزمها ، لأنها ممكنة ، وكل ممكن يحتاج إلى علة هذا شأنها ، والعلم به ضروري ، وتلك العلة لا يجوز أن تكون داخلة في المجموع ، لأن العلة بهذا التفسير لا يمكن أن تكون مسبوقة بعلة أخرى ، وإلا لكان المجموع مفتقرا إلى العلة السابقة عليها ، فلا يكون الذي فرضناه علة بهذا المعنى ، هو علة بهذا المعنى . وإذ كل داخل في السلسلة المركبة من آحاد إمكانية تسبقه علة أخرى ، فلا شيء من الداخل فيها علة لها بهذا التفسير ، وليست علتها هي نفس المجموع ، لاستحالة تقدمه على نفسه ، فهي خارجة عنه ، والخارج عن المجموع واجب لذاته ، فينقطع به التسلسل على تقدير وجوده . الطريق الثامن ( لوحة 353 ) : كل ممكن فأنه محتاج إلى مرجح به يجب وجوده ، على ما مر . وذلك المرجح إما ممكن أو واجب ، لكنه ليس بممكن ، لأنه لو كان ممكنا لذاته ، لكان محتاجا إلى علة ، فيكون الأمر المحتاج إليه محتاجا إلى علته ، لأن المحتاج إلى الشيء يحتاج إلى ذلك الشيء ، والمحتاج إلى علة الشيء لا يكون واجبا به فقط ، فتعين أن يكون واجبا لذاته . فكل ممكن فهو واجب بموجود واجب لذاته ، وعلى هذا فلا شيء من الممكنات يجب به وجود شيء ، بل الذي يجب في وجود كل ممكن هو الواجب . بل الممكن المؤثر هو الذي يجب وجود معلول الواجب بعد وجوده . وجاز أن يكون الممكن واجبا بواجب الوجود لذاته بعد وجود ممكن آخر ، ولا يكون الثاني واجبا بالأول . ولا يلزم من هذا أن يكون كل ممكن أزليا لدوام علته الموجبة لوجوب وجوده .
____________________
(1/531)
وإنما يلزم ذلك أن لو لم يكن له شرط بعد ، يجب بعده بالعلة الموجبة ، وهي الواجب لذاته ، كما في كل حادث ، ولا يجب من وجوب كل ممكن بواجب الوجود ، أن تكون الحركات ثابتة ، لثبات علتها . فإن ثباتها غير ممكن ، من حيث هي حركة ، فإن مفهومها هو المفهوم من الاثبات ، ولهذا جاز انعدام الممكن القابل للثبات ، كالمركبات العنصرية على الوجه الذي عرفته . وذلك لأن وجوب ما هذا شأنه إنما هو بواجب الوجود ، ولكن بشرط عدمي مؤثر في المركب المعلول له تأثيرا يناسبه . فإذا ارتفع الشرط ارتفع المعلول المركب بارتفاع ما أثره الشرط العدمي . الطريق التاسع : أنا نعلم أن في الوجود موجودا له ثبات كالجرم الذي هو حامل للحركة ، والنفس المحركة للأفلاك والهيولي ، والجوهر المدرك لذاته في الانسان وغيره ، وكذا كل حادث مما وراء الحركة ، فإن آن حدوثه غير آن بطلانه ، وبين الآنين زمان ( هو زمان ) ثباته ، وعلل الثبات مجتمعة ، إذ لا يثبت الشيء مع زوال مثبته . ومجموع الممكنات الثابتة ممكن ، فيجب ثباته بغيره ، وإلا لكان ثباته بذاته ، فيكون واجبا لذاته ، مع كونه ممكنا لذاته ، وهذا محال . وهذا الغير لا بد وأن يكون واجبا لذاته ، إذ لو كان ممكنا لذاته لكان ثباته بعلة ما ، فيكون ثبات مجموع الممكنات واجبا به ، وبعلته ، فلا يكون ثباته واجبا به فقط ، وفرض أنه كذلك ، هذا خلف . الطريق العاشر : مجموع الممكنات أمر ممكن لاحتياجه إلى أفراده ، فيجب ثباته بغيره ، وإلا لزم المحال السابق ذكره . وذلك الغير ، لا بد وأن يكون داخلا في المجموع ، لأنه موجود في
____________________
(1/532)
نفسه ، وما يكون موجودا فلا يتصور كونه خارجا عن جملة الموجودات ولا محالة يكون واجبا لذاته ، فإنه لو كان ممكنا لكان ثباته يجب بعلته ، فلا يكون ثبات المجموع واجبا به ، وقد فرض واجبا به ، هذا خلف ، فتعين أن يكون في الموجودات موجود واجب لذاته ، وهو المطلوب . وبعض هذه الطرق قريب من بعض ، لمشاركته له في أكثر مقدماته .
____________________
(1/533)
فارغة
____________________
(1/534)
الفصل الثاني في إن واجب الوجود واحد لا يقال على كثرة بوجه كل ما هو واجب الوجود لذاته ، فإن نوعه لا بد وأن ينحصر في شخصه ، لوجوه ستة : أحدها : أنه لو حصل اثنان من نوع الواجب لاشتركا في الماهية ، وامتازا بالهوية ، فكان كل واحد منهما أو الواحد منهما مركبا مما به الاشتراك ، ومما به الامتياز . وكل مركب فهو مفتقر إلى جزئه ، وجزؤه غيره ، فيكون الواجب مفتقرا إلى غيره ، فلا يكون واجبا ، وليس يحتمل التقدير المذكور أن يكون المميز لكل واحد منهما أمرا عدميا ، لأن المميز لا يوصف به الآخر ، فلكل منهما مقابل ذلك التميز ، فيتصف كل منهما بمميز وجودي ، وقد فرض الامتياز بالأمور العدمية ، هذا خلف . وثانيها : لو وجد شخصان من النوع الواجبي ، فإما أن يكون الامتياز بينهما بالفصول أو بالعوارض . لا جائز أن يكون بالفصول ، لأن الفصل مقوم لوجود حصة النوع من الجنس ، فإنه لا يوجد الجنس مطلقا ، غير مقترن بفصل ، لكن الجنس فيما نحن فيه هو الواجب لذاته ، إذ هو المشترك فيه بين الاثنين فكان يلزم أن يكون وجوده معللا بغيره ، فلا يكون وجوده بذاته . ولا جائز أيضا أن يكون بالعوارض ، لأنها إن كانت لازمة كانت متفقة بينهما ، فلا يقع بها الامتياز . وإن كانت مفارقة فليست من اقتضاء ذات الواحد منهما ، وإلا
____________________
(1/535)
لكان المفارق لازما ، هذا خلف . فهو بسبب منفصل ، فالواجب لذاته محتاج إلى غيره ، وهو محال . وثالثها : أن ماهية واجب الوجود المتعين ، إن كان تعينها ذلك لأنها واجبة الوجود ، فليس في الوجود واجب لذاته إلا ذلك المعين . وإن كان لأمر آخر ، فالواجب لذاته يحتاج إلى غيره ، وأن ( لوحة 354 ) كان لا لذاته ولا لآخر ، كان غير معلل ألبتة ، فكان اختصاص كل واحد منها بتعينه الخاص تخصيصا من غير مخصص ، وهو محال . ورابعها : أن الذي به واجب الوجود المعين هو هو ، يجب ألا يكون زائدا على ماهيته الخارجة ، بل هو نفسها . وكل ما هو كذلك فنوعه منحصر في شخصه . أما بين الصغرى فلأن هويته لو لم تكن نفس ماهيته ، لكانت زائدة عليها ، ومحتاجة إليها ، فكانت ممكنة لذاتها ، فلها مؤثر . فذلك المؤثر إن كان نفس ماهيته ، كانت ماهيته متشخصة قبلها ، وهذا محال . وإن كان غيره لزم احتياج واجب الوجود ، في هويته إلى غيره ، وهو محال أيضا . وأما الكبرى فظاهرة . وخامسها : هو أنه لو حصل واجبا الوجود من نوع واحد ، فهوية واجب الوجود المتعين : إن كانت علة لماهيته في الخارج ، فالواجب لذاته معلول للغير ، فيكون ممكنا . وإن كانا معلولي علة واحدة فكذلك أيضا . وإن كان الواجب لذاته علة لهويته فنوعه في شخصه ، وقد فرضنا الاثنينية ، هذا خلف . لما مر . وإذا كان كذلك فإما أن تكون واجبة لذاتها أو ممكنة لذاتها . فإن كان الأول كان الواجب صفة عارضة للنوع مفتقرة إليه ، وهو ظاهر البطلان . وإن كان الثاني افتقرت : أما إلى ماهية الواجب فقط ، بمعنى أن تكون سببا تاما لها ، وحينئذ يكون نوعه في شخصه . وأما إلى غيره فقط
____________________
(1/536)
أو إليه وإلى غيره معا ، وكيف كان من القسمين ، لزم احتياج الواجب في هويته إلى غيره ، فلا يكون الواجب واجبا ، هذا خلف . وإذ قد ثبت أن نوع الواجب لا يدخل تحته شخصان فصاعدا ، فنقول الآن أنه يمتنع وجود شخصين هما واجبا الوجود ، سواء كانا من نوع واحد أو من أكثر . أما إن كان نوعهما واحدا ، فلما مر . وأما إن كان نوع كل واحد منهما مغايرا لنوع الآخر ، فوجوب الوجود يجب - إذ ذاك - ألا يكون نفس حقيقتهما ، وإلا لكان نوعهما واحدا . فإن مفهوم وجوب الوجود لا يختلف ، وألا يكون داخلا في حقيقتهما ، وإلا لكان الواجب مركبا : أما من أمرين وجوديين إن كان وجوب الوجود وجوديا ، أو من وجودي وعدمي ، إن كان هو أو الجزء الآخر عدميا ، أو من عدميين . والكل يقتضي ألا يكون الواجب واجبا ، فإن ما يقتصر إلى جزئه الذي هو غيره فليس بواجب ، والذي يتقوم بأمر عدمي ، فليس بموجود فضلا عن أن يكون واجب الوجود ، لا سيما إذا لم يكن في أجزائه ما هو وجودي البتة . فلو صح وجود واجبين من نوعين ، لكان وجوب الوجود عرضيا لازما لكل واحد منهما ، فيكون كل واحد منهما يشارك الآخر في وجوب الوجود ، ويمتاز عنه بتمام ماهيته . وحينئذ لا يكون معروض وجوب الوجود في ذاته واجبا ، لا بمعنى انفكاكه عن الوجود الواجبي . بل بمعنى أن العقل يمكن أن يلاحظه وحده ، من غير ملاحظة ذلك الوجود ، فلا تكون ماهية المعروض هي المؤثرة فيه ، إذ الشيء لا يؤثر إلا إذا كان في الأعيان ، فيلزم أن يتقدم وجوده على وجوده تقدما بالذات .
____________________
(1/537)
وليس ذلك العارض المشترك بينهما واجباً في نفسه ، لأنه لا يوجد في الخارج من غير تخصيص يزيل اشتراكه ، وإذا لم يكن واجباً فهو ممكن ، فيفتقر إلى علة ، هي غير معروضة ، فيفتقر الواجب الوجود في وجوده إلى علة خارجة عنه ، فلا يكون الواجب واجباً ، هذا خلف . وأيضاً لو كان في الوجود واجبان لكان كل واحد منهما هو الوجود الواجبي المجرد ، إذ لو كان غيره ، لوجب أن يكون مقتضياً له ، وإلا لم يكن واجباً ، فهو ممكن ، فيفتقر إلى علة ، هي غير معروضة ، فيفتقر الواجب الوجود في وجوده إلى علة خارجة عنه ، فلا يكون الواجب واجباً هذا خلف . وأيضاً لو كان في الوجود واجبان لكان كل واحد منهما هو الوجود الواجبي المجرد ، إذ لو كان غيره ، لوجب أن يكون مقتضياً له ، وإلا لم يكن واجباً ، وكل ما يقتضي الوجود فيجب أن يكون موجوداً في نفسه ، فيتقدم الواجب بوجوده على وجوده . هذا خلف . وكون الماهية من حيث هي هي علة لوجود الوجود فمحال بالبديهية ، ولا كذلك كونها قابلة للوجود ، فإن قابل الوجود يستحيل أن يكون موجوداً ، وإلا فيحصل له ما هو حاصل له . وإنما يمكن أن تكون الماهية من حيث هي علة لصفة معقولة لها ، كما أن ماهية الاثنين علة لزوجتها . والماهية إذا لم تنفك عن التأثير حالة الوجود ، فلا يتصور تأثيرها ، في الوجود ، فهو غير زائد عليها . والوجودان المجردان إن افترقا بالكمال والنقص ، فالناقص منهما لا يكون واجباً ، فإن الكمال إذا لم يكن لعلة ، فالنقص في النوع لمرجح ولمرتبة العلية والمعلولية ، فيكون الناقص معلولاً ، وقد كنا فرضنا هما واجبين . هذا خلف . وإن لم يفترقا بذلك ، فيستحيل اشتراكهما من كل الوجوه ، إذ
____________________
(1/538)
لا ( بد ) ( لوحة 355 ) مما يسير أحدهما عن الآخر ، لاستحالة الاثنينية ، من غير مميز . ويستحيل افتراقهما من كل الوجوه ، بعد اشتراكهما في الوجود المجرد الواجبي . ويستحيل اشتراكهما من وجه وافتراقهما من آخر ، لأن ما به الامتياز يكون حينئذ عرضياً للوجود المجرد ، الذي هو تمام ماهية الواجب ، فيكون ممكناً . وما به الاشتراك كذلك أيضاً ، لافتقاره في كل واحد منهما ، أو في الواحد منهما فقط إلى هيئة مميزة . وههنا برهان آخر على المطلوب ، وهو أن ( ما ) ماهيته هي الوجود المجرد ، فلا يكون مادياً في ذاته ، وإلا لكانت له ماهية وراء الوجود ، ولا عرضاً وإلا لكان مفتقراً إلى محله ، فكان ممكناً لا واجباً ، فهو جوهر مفارق عن المادة . ووجوده لذاته فيكون مدركاً لذاته ، ولا يكون إدراكه لذاته زائداً على ذاته ، كما قرر قبل . فلو وجد واجبان لكانا من نوع واحد ، إذ الحقائق الإدراكية لا تختلف إلا بالكمال والنقص ، وبأمور خارجية ، فلا تختلف بالأنواع مع اشتراكها في الحقيقة الإدراكية ، وإلا لكانت مركبة . فإن كان كل واحد من أجزائها أو جزئيها حقيقة إدراكية ، فلا اختلاف بينها بالنوع . وإن كان كل واحد منهما غير حقيقة إدراكية في نفسه ، فالمجموع كذلك . وإن كان أحدهما حقيقة إدراكية والآخر ليس كذلك ، فلا مدخل للآخر في الحقيقية الإدراكية . وإذا كانت الحقائق الإدراكية لا تختلف بالأنواع فما يجب على شيء منها يجب على مشاركة في النوع . وعلى هذا فلا يختلف الواجبان في الحقيقة ، لما مضى ، ولا يمتاز أحدهما عن الآخر بنفس ما اشتركا فيه ، ولا يأمر لازم للحقيقة ، إذ
____________________
(1/539)
يشتركان فيه أيضاً ، ولا بعارض غريب ، فإن المخصص بذلك العارض : أما الواجب المتخصص به ، أو الواجب الآخر ، أو غيرهما . والأول باطل ، وإلا لكان متعيناً قبل التخصيص ، لا بالمخصص ، مع أنه لا يتصور التعين والاثنينية إلا بمخصص . والثاني باطل أيضا ، لهذا بعينه ، فإن الشيء لا يخصص غيره ، إلا إذا تخصص هو في نفسه ، فلو خصص كل واحد منهما الآخر ، للزم أن يكون كل واحد منهما متخصصا ، قيل إن كان متخصصا ، هذا خلف . والثالث بين البطلان ، فإنهما لكونهما واجبين ، لا يكون وراءهما ما يخصصهما ، وإذ لا بد من المخصص على تقدير الاثنينية ، مع أنه يمتنع أن يكون هناك مخصص ، فوجود واجبين فصاعدا ممتنع . وقد يتأتى أن يستدل من وحدة العالم على وحدة صانعه الواجب ، وربما اكتفى به العقل اكتفاء شديدا ، فإنه لو كان واجبان لوجب ألا يقع بينهما اختلاف في الحقيقة ، لما مر . فيلزم أن كل ما يصدر عن أحدهما يصدر عن الآخر . فإن كان هذا العالم صادرا عن واحد منهما فقط ، من غير مشاركة الآخر ، وجب أن يصدر عنه الآخر عالم آخر مثل هذا العالم ، وقد بين بطلانه . وأن صدر هذا العالم عن الواجبين معا فهو محال أيضا ، لأنا نجد أجزاء العالم مرتبطا بعضها بالبعض ارتباطا شديدا ، فهو كشخص واحد مركب من تلك الأجزاء . وأما أنت فتتحقق هذا الارتباط ، بما علمته من كون هذا العالم مركبا من جواهر وأعراض ، وأن الجواهر منها متحيزة ، ومنها مجردة ، وأن المتحيزة منها بسائط ومنها مركبات ، والبسائط منها عنصريات ، ومنها فلكيات ، والمركبات منها حيوان ومنها نبات وجماد ، وأن أعراضه مفتقرة إلى جواهر باعتبار ، وأن جواهره مفتقرة إلى أعراضه باعتبار آخر
____________________
(1/540)
وأن متحيزاته ومجرداته في الافتقار كذلك أيضا ، وكذا عنصرياته وفلكياته . ولا شك في افتقار الحيوان إلى النبات ، والنبات إلى الحيوان ، وافتقارهما معا إلى العناصر في تركبهما . والعنصريات يحتاج بعضها إلى بعض ، في تكوين هذه المركبات . وأنواع الحيوانات وأشخاصها يحتاج البعض منها إلى البعض كذلك ، وكذا أعضاء الشخص الواحد منها ، على ما تشهد به المباحث الطبية . ولا سبيل لنا إلى استقصاء جميع وجوه الارتباط ، في أجزاء هذا العالم ، وظاهر أن الأجزاء التي بينها مثل هذا الارتباط ، وهو كونها بحيث يستبقى بعضها ببعض ، وينتفع بعضها ببعض انتفاعا بعضه مشاهد ، وبعضه معقول ، لا بد وأن يكون مجموعها شخصا واحدا مركبا منها ، كما هو الحال في بدن الانسان المركب من أجزاء متشابهة وغير متشابهة ، ذوات قوى وأفعال مختلفة وغير مختلفة . وإذا ثبت هذا ، فالعالم الذي هو بهذه المثابة لو اجتمع على التأثير فيه وتدبيره : واجبان ، فصاعدا ، لكان لا يخلو الأمر من أقسام كلها باطلة ، لأنه إن استبد أحد الواجبين بإيجاد العالم وتدبيره ، وامتنع أن يكون للآخر تأثير فيه ، لاستحالة اجتماع ( لوحة 356 ) العلتين التامتين على معلول واحد بالشخص ، كما علمت . وإن لم يستبد بذلك : فأما ألا يستبد بشيء منه أو يستبد بعضه . فإن لم يستبد بشيء منه كانت حقيقته مخالفة لحقيقة الآخر ، أما بالكمال والنقص ، أو بغيرهما ، إن كان الآخر مستبدا ، بشيء منه . لأن الاختلاف في الاقتضاء يقتضي الاختلاف في المقتضي . أو كان العالم غير موجود أصلا ، إن لم يستبد الآخر أيضا بشيء منه ، وكلا الأمرين محال . وإن استبد أحدهما ببعضه : فإن لم يستبد الآخر بشيء منه عاد
____________________
(1/541)
المحال ، وإن استبد ببعض آخر ، وجب أن يتساوى البعضان ، لتساوي المؤثرين ، وحينئذ لا يتصور الارتباط والتعاون بين البعضين ، إذ الوجه الذي باعتباره احتاج هذا إلى ذلك غير الوجه الذي باعتباره احتاج ذاك إلى هذا . والمتساويان فمثل هذا تعذر منهما ، ثم الذي يفعل شيئا ، فيتبع وجوده وجود آخر ، أو ينتفع به آخر ، فلا محالة له تأثير في الشيئين ، فلا يكون الواجب الثاني مستبدا بتدبير الشيء الذي فرض استبداده به . وكان الذهن السليم يتنبه من شدة ارتباط العالم بعضه ببعض ، على وحدة خالقة ، إذ لو لم يكن واحدا ، لميز كل واحد صنعه عن صنع غيره . فكان ينقطع الارتباط والتعاون بين أجزاء العالم ، فيفسر ويختل النظام . على أنه لما ثبت أن الواجب الوجود هو الوجود المجرد ، الذي لا أكمل منه ، حصل الاستغناء في وحدانية الواجب عن جميع هذا ، بل ثبت من مجرد وجوب كون نوعه منحصرا في شخصه ، أنه لا واجبان في الوجود ، كيف كانا .
____________________
(1/542)
الفصل الثالث في تنزيه واجب الوجود عما يجب تنزيهه عنه يجب ألا تساوي حقيقة واجب الوجود ، حقيقة شيء من الممكنات ، لأن المتساويات في الحقيقة متساوية في لوازم تلك الحقيقة . فلو ساوت حقيقته حقيقة ممكنة للزم استواؤهما في الوجوب والامكان ، حتى يكون كل واحد منهما واجبا ممكنا معا ، وهو محال . ولا يقدح في ذلك كون ماهية الواجب هي الوجود المحض الواجبي ، مع كون الوجود مشتركا بين جميع الموجودات بالاشتراك المعنوي . فإن الوجود الذي تشترك فيه الموجودات أشتراكا في المعنى ، هو الوجود العام الذهني ، وذلك ليس بماهية لشيء ممكن ، ولا جزءاً من ماهية ممكنة ، كما مضى . فإن وجود الأشياء هو كونها في الخارج ، فهو أمر عارض ، من حيث هي معلولة . فواجب الوجود لا يشارك شيئا من الأشياء ، في معنى جنسي ولا نوعي ، فلا يحتاج إذن إلى أن ينفصل عنه ، بمعنى فصلي أو عرضي ، بل هو منفصل بذاته . وليس هو مركبا ، وإلا لاحتاج إلى جزئه ، وجزؤه غيره ، فيكون ممكنا . ولأن أجزاءه إن كان كل واحد منها واجبا ، كان واجب الوجود أكثر من واحد ، وقد سبق بطلانه . وإن كانت كلها ممكنة ، فما افتقر إلى الممكن أولى أن يكون ممكنا ، وإن كان بعضها واجبا والبعض الآخر ممكنا ، فالبعض الواجب إن كان
____________________
(1/543)
أزيد من الواحد ، فقد عرفت امتناعه . وإن كان واحدا فقط فالباقي ممكن معلول ، مع احتياج المركب الذي فرض واجبا إليه ، وذلك محال . ثم إن تلك الأجزاء إن لم يكن بينها ملازمة اشتغل كل واحد منها بنفسه ، فلم تكن أجزاء لشيء واحد . وإن كان بينها ملازمة ، كان البعض معلولا للبعض ، فعاد المحال في افتقار الواجب إلى الممكن . ويلزم من كون الواجب ليس بمركب كونه ليس بجسم ، لأن كل جسم طبيعي ففيه تكثر بالقسمة الكمية ، وبالقسمة المعنوية ، إلى هيولي وصورة ، كما عرفت . والجسم التعليمي فمحتاج إلى الجسم الطبيعي ، فأولى ألا يكون واجبا ، ثم أنه مركب من مجموع أعراض ، فيكون عرضا مركبا . وأيضا فلو كان الواجب جسما ، لكان نوع الجسم منحصرا في شخصه ، وليس كذا . وليس هو مثل الصورة ، ولا مثل الهيولي ، لاحتياج كل واحد منهما إلى الآخر ، وإذا لم يكن الواجب جسما ، لم يكن متحيزا ، ولا في جهة ، فإن المتحيزان انقسم ، فهو جسم ، وإن لم ينقسم فهو أما حال في الجسم أو جزء لا يتجزأ ، وكل ذلك محال . وإذا عني بالجوهر الماهية التي متى وجدت في الأعيان ، كانت لا في موضوع . فالواجب ليس بجوهر بهذا المعنى ، لأنه إنما يتناول ما وجوده غير حقيقته ، وواجب الوجود فليس كذلك . وعلم من عدم تركبه أيضا تنزيهه عن أن يكون له ولد ، لأن التوليد منه عبارة عن أن ينفصل عنه بعض أبعاضه ، ثم يتربى ، فيصير مساويا له في الذات والحقيقة . وهذا فلا يتصور في الذات التي هي غير متركبة ، ولا يجوز على الواجب أن يحل في شيء ، لأن الحلول لا يتصور ، إلا إذا كان الحال ، بحيث لا يتعين إلا بتوسط ( لوحة 357 ) المحل .
____________________
(1/544)
ولا يمكن أن يتعين واجب الوجود بغيره ، ولا أن يفتقر إلى غيره ، وإذ لا موضوع للواجب فلا ضد له ، على اصطلاح الخاصة . وإذ لا مساوي له في القوة ممانع ، فلا ضد له على اصطلاح العامة ، وإذ لا واجب غيره ، فلا ند له ، ولا يتعلق ببدن ، كما تتعلق النفس التي تتخصص أفعالها ببدنها . فإن قدرته تعالى أوسع ، وأفعاله أعم وأكثر ، من أن تتخصص ببدن يصدر عنه ، وواجب الوجود ، لا يجوز أن ينعدم ، لأنه لو انعدم لصدق عليه الامكان الخاص ، فلم يكن واجبا . على أنه لا حاجة إلى هذا ، فإن واجب الوجود لذاته ممتنع العدم . وأنت تعلم أن الشيء لا يقتضي عدم نفسه ، وإلا لما تحقق . وواجب الوجود وحداني لا شرط له في ذاته ، وما سواه تابع له . وإذ لا شرط له ولا مضاد له ، فلا مبطل له . ويمتنع أن يكون للواجب صفة متقررة في ذاته ، فإنها إن كانت واجبة الوجود ، لزم وجود واجبين ، ولزم أن يكون الواجب الذي هو الصفة ، مفتقرا إلى ما يقوم به . وإن كانت ممكنة الوجود فوجودها : إما منه أو مما هو منه ، وعلى التقديرين فهو الفاعل لها ، فلو قامت بذاته لكان هو القابل لما فعله . والجهة الفاعلية بالضرورة غير الجهة القابلية ، وقد بين ذلك قبل ونزيده ههنا : أن الفعل للفاعل ، قد يكون في غيره ، والقبول للقابل يمتنع أن يكون في غيره . والجهة القابلية لا تقتضي التحصيل بالفعل ، والجهة الفاعلية هي المخرجة إلى التحصيل . ولو كان الجهة الفاعلية هي بعينها القابلية لفعل كل ما يقبل ، وقبول كل ما يفعل ، وليس كذا . والاثنان فلا يصيران واحدا أبدا ، إلا بما يفرض من اتصال
____________________
(1/545)
وامتزاج ، فإنه إن بقي كلاهما ، فلا اتحاد ، وكذا إن بطلا أو بطل أحدهما ، على ما مر . والواحد فلا يصير اثنين إلا بتفصيل مركب ، أو تفريق أجزائه ، فإنه في حال الاثنينية إن بقي هو بعينه ، فما صار اثنين ، بل حصل معه آخر ، وإن لم يبق بعينه فقد بطل وحدث غيره . وإذا كانت جهة القبول غير جهة الفعل ، لم يتصور في الواجب الذي هو واحد من جميع الوجوه ، أن يكون مقتضيا لهما . ولا يصح أن يكون الواجب محلا للحوادث ، سواء كانت متناهية ، أو غير متناهية ، وسواء جوزنا تقرر صفة في ذاته أو لم نجوز . فإن ذاته لو كانت محلا لهذه الحوادث ، لوجب مع ما يلزم أن يكون في ذاته جهة فاعلية ، وقابلية المبرهن على امتناعهما فيه ، وأن يكون له مغير ومحرك إلى الأشياء ، وألا يثبت فيه حادث زمانا ، فإنه إذا كان ثابتا ، فبطل ، فلحدوثه علة ، لا تتخلى عن الحدوث ولبطلانه علة لا تتخلى عن البطلان . ولا بد لحدوث العلتين من حدوث علتين أخريين مقترنتين بهما ، فلا ينقطع تجدد الحوادث عن ذاته زمانا أصلا . وكل حادث يفرض ثباته في ذاته ، فيجب أن يكون في ذاته حوادث أخرى متجددة ، مع ثباته ، وإلا لم يتصور تأدي ذلك الثابت إلى البطلان . ويلزم من ذلك أحد أمرين محالين : أحدهما : أن يكون الواجب لذاته حركة وضعية على الدوام ، فيكون جسما ، وقد بين أن ذلك ممتنع في حقه . وثانيهما : أن يكون منفعلا عن حركات الأفلاك التي هي معلولاته انفعالا دائما ، فيلزم تقدم معلوله عليه بوجه ما ، وأن يكون فيه معنى ما بالقوة .
____________________
(1/546)
ولو عرض فيه عارض من غيره لصار ذا علاقة مع الغير ، فإن وجوده على تلك الصفة يتعلق بوجود ذلك الغير ، ووجوده خاليا عن تلك الصفة يتعلق بعدم ذلك الغير . وهو إما أن يكون متصفا بها أو خاليا عنها ، ويكون في كلتا حالتيه متعلقا ، والمتعلق وجوده بعدم غيره معلول ، كما أن المتعلق بوجود غيره كذلك ، لأنه لا تستغني ذاته عن ذلك العدم ، حتى لو قدر تبدله بالوجود لبطل ذاته ، فتكون ذاته متعلقة بالغير . وواجب الوجود فليس كذا ، ووجوب وجود الواجب لا يقتضي تركبه من وجود ووجوب ، فإن الوجوب هو تأكد الوجود وكماليته ، والكمالية ليست بزائدة على الشيء في الأعيان . ولو كان الوجود الذي يقال عليه وعلى غيره ذاتا محصلة في الخارج ، لكان إن اقتضت التخصيص به ، فما كان غيره يوصف بالوجود ، ولزم أن يكون كل موجود واجبا ، وإن لم يقتض التخصيص به ، فتخصصه به ممكن ، فيفتقر إلى علة ، وتخصص الوجود العام ( فيه ) ، بأنه لا علة له ، كما أن الوجودات المعلولة تتخصص بموضوعاتها وعللها ، ولو كانت له ماهية ، لكان تعلقه بها ، فكانت سببا لوجوده ، وأيضا لو كان الوجود الواجب بذاته من لوازم ماهيته ، لكان معلولا ( لوحة 358 ) لها ، وهذا خلف .
____________________
(1/547)
فارغة
____________________
(1/548)
الفصل الرابع في ما ينعت به واجب الوجود من نعوت الجلال والاكرام انتهاء العلل إلى واجب الوجود ، وكونه واحدا ، لا يشاركه شيء آخر في وجوب الوجود في يوجبان أن جميع ما سواه من الموجودات ترتقي إليه ، وأنها بأسرها محدثة بالحدوث الذاتي ، إذ لا وجود لها في ذاتها ، بل وجود ذاتها كلها مستفادة منه . فنسبته إليها نسبة ضوء الشمس إلى ما سواه ، الذي بسببه يضيء غيره ، وهو مستغن عن ذلك الغير ، لو كان للضوء قوام بذاته ، ولكنه يغاير وجود الواجب ، بأن الضوء يحتاج إلى موضوع . والوجود الواجبي ليس له موضوع ، وقد عرفت أن الوجود المجرد عن المادة غير محتجب عن ذاته ، فنفس وجوده إذن معقوليته لذاته ، وعقليته لذاته ، فوجوده إذن عقل وعاقل ومعقول . وإذا كان يعقل ذاته فيعقل أيضا لوازم ذاته ، وإلا ليس يعقل ذاته بالتمام ، فإن العلم التام بالعلة التامة ، يقتضي العلم بالمعلول . ولما كانت ذاته علة تامة لمعلوله الأول ، وهو يعلم ذاته علما تاما ، وجب أن يكون علمه التام بذاته علة تامة للعلم التام بمعلولة القريب . لأنك قد علمت أن علم كل ما يعلم ذاته ، هو نفس ذاته ، فيكون علما تاما بالذات .
____________________
(1/549)
والعلم بالعلة التامة لا يتم من غير العلم بوجه استلزامها لجميع ما يلزمها لذاتها ، وهذا فيستدعي العلم بلوازمها القريبة بالضرورة ، فهو إذن يعلم جميع ما بعد المعلول الأول ، من حيث وجوبه به ، وانتهاؤه إليه في سلسلة المعلولات المترتبة ، ويدخل في ذلك سلسلة الحوادث ، التي لا أول لها ، من جهة كونها جميعا ممكنة ومحتاجة إليه احتياجا ، تتساوى إليه في جميع آحادها . وكما أنه يدرك ذاته بذاته ، من غير افتقار إلى صورة زائدة ، فكذلك ادراكه لما يصدر عن ذاته ، هو نفش صورة ذلك الصادر عنه ، التي هي حاضر له ، من غير انطباع . و على مثل هذا يدرك سائر معلولاته . و قد علمت انه ليس من شرط التعقل ، انطباع صورة المتعقل في ذات العاقل على الاطلاق . وإنما يتشرط فيه ذلك ، إذا لم يكن التعقل متجددا ، ولا المدرك حاضرا عند المدرك . فإن البرهان على وجوب حصول صورة المدرك في المدرك ، لم تقم إلا فيما هو كذلك ، لا غير . بل شرط التعقل مطلقا هو مجرد الحصول ، لا الحصول على نعت الانطباع . وفاعل الشيء فقد حصل له ذلك الشيء ، لا محالة ، وليس حصوله له بأدون من حصوله لما هو قابل له ، فالواجب يعقل ذاته ، ويعقل ما سواه ، لحصوله له ، ضرورة كونه فاعلا له . وإذا عقلت الجواهر المجردة ما هو غير معلول لها ، بحصول صورة فيها ، وجب أن يكون الواجب تعقل تلك الجواهر ، مع ما فيها من الصور إذ الجميع حاصل له . وليس تعقله لها بصور أخرى ، بل بأعيان تلك الجواهر ، وما فيها فلا يغرب عنه شيء من صور الموجودات : الكلية والجزئية ، من غير حصول صورة فيه ، ولا اتصافه بصفة حقيقية .
____________________
(1/550)
ويكون علمه بجميع ذلك على الوجه الذي لا يتغير ، وقد عرفت كيفية إدراك الجزئيات المتغيرة ، على وجه لا يلحقه التغير . وقد بان من هذا أن علمه لا يجوز أن يكون انفعاليا ، كما يستفيد صورة البيت من البيت ، بل علمه إنما هو فعلي ، إذ نفس وجود الأشياء عنه نفس معقوليتها له . وأنت تعلم أن علمه بهذه المعقولات هو بعينه صدورها عنه ، كما أن علمه بعلمه بذاته ، هو نفس وجوده . وهكذا الحال في علمنا بعلمنا بأمر ما ، لأن علمنا به ، هو وجوده في أذهاننا . ولا يصح أن يقال أن وجوده في أذهاننا يوجد فيه مرة أخرى ، حتى يكون علمنا بعلمنا ، هو هذا الوجود الثاني ، بل وجوده مرة واحدة ، هو علمنا به ، وعلمنا بعلمنا به ، وعلى هذا ، إلى أن ينقطع اعتبار المعتبر . وإذا كان كذلك ، كانت نسبة المعلومات إليه نسبة صورة بيت نتصوره فنبين البيت بحسبه ، إلا أنك تحتاج إلى استعمال آلات ، حتى تتوصل إلى بناء البيت ، وهناك يكفي التصور في صدور الفعل عنه ، بل علمه هو صدور المعلومات عنه . ولما كان علمه بما سواه ، إنما هو بسبب العلم بأسبابه التي بها يجب ، فهو إذن يعرف وجوب إمكان الأشياء في ذواتها ، ووجوب وجودها بأسبابها . فعلمه بالأمور الممكنة على هذا الوجه ، إنما هو يقيني ، ولا يجوز أن يكون ظنيا البتة . وإذا كان الحي عبارة عن الدراك الفعال ، فالواجب لذاته حي . ومما يدل على علم الواجب وحياته ، أن الانسان إنما علم بنفسه ، لأن نفسه مجردة ، وهو ليس غائبا عن نفسه ، حتى يحتاج إلى ( لوحة 359 ) حصول مثاله وصورته فيه ، ليعلمه ، بل نفسه حاضرة لنفسه ، وذاته غير غائبة عن ذاته ، فكان عالما بنفسه .
____________________
(1/551)
وقد بين أن علمه بذاته هو نفس ذاته ، غير زائد عليها ، وهي ممكنة محتاجة إلى موجد ، فموجدها يجب أن يكون أكمل منها في العلم والحياة ، إذ العلم والحياة من الكمالات التي هي غير زائدة على الذات ، كما علمت . وكذلك الكلام في موجد الموجد ، إلى أن ينتهي إلى الواجب الذي له الكمال الأعلى ، فيجب أن يكون علمه وحياته أتم وأكمل من كل علم وحياة في الوجود . وأنت تعلم من كونه عالما بفعله ، ومن كون علمه فعليا ، مع أنه لا مكره له على الفعل ، أنه مريد لكل أفعاله ، فإن الكل فائض منه ، غير مناف لذاته ، حتى يكون كارها له . فهو إذن راض بفيضانه منه ، وليس من شرط المريد كونه بحيث يصح ألا يريد ، وهو قادر ، بمعنى أن ما يصدر عنه ، إنما يصدر بمشيئته ، ولو شاء ألا يفعل لما فعل ، لكن ليس من شرط صدق هذه القضية صدق قولنا : أنه شاء ألا يفعل وما فعل ، لأن صدق الشرطية لا يتوقف على صدق مقدمها . ولأن القادر حال توفر دواعيه على الفعل قادر على الفعل ، لا لأنه شاء ألا يفعل ولم يفعل ، فإن ذلك لا يصدق ، مع ( صدق ) أنه شاء وفعل ، بل لأنه بحيث لو شاء ألا يفعل لما فعل . والواجب لذاته ، وإن استحال في حقه مشيئة ألا يفعل ، لكنه يصدق عليه أنه لو شاء ألا يفعل لما فعل ، فلا جرم كان قادرا وهو حكيم ، بمعنى أنه يعلم الأشياء على ما هي عليه ، تصورا وتصديقا . وبمعنى أن فعله مرتب محكم جامع لكل ما يحتاج إليه من كمال وزينة . وهو جواد بمعنى أنه أفاض الخير والأنعام ، من غير غرض وفائدة ترجع إليه . فإنه أفاض الوجود على الممكنات كلها ، كما ينبغي وعلى ما ينبغي ، بلا غرض ولا منفعة تعود إلى ذاته ، بل لأن ذاته ذات تفيض منه على الخلق كلهم ، كل ما هو لائق بهم .
____________________
(1/552)
واسم الوجود على غيره مجاز ، وهو المعنى التام لكونه غير متعلق بشيء خارج عنه ، لا في ذاته ، ولا في صفاته الممكنة من ذاته ، سواء عرض لها إضافة إلى الغير ، أو لم يعرض . وهو الملك الحق ، فإن ذات كل شيء من جميع الوجوه هي له ، لأن منه أو مما منه وجوده ، ولا يستغنى عنه شيء في شيء ، ولا يفتقر هو إلى شيء . وإذ حقيقة الشيء هي خصوصية وجوده ، فلا حق إذن أحق من ذات واجب الوجود بذاته . ولما كان ما يكون الاعتقاد به صادقا ، يسمى حقا أيضا ، فالواجب حق بهذا المعنى . وكل شيء بالقياس إلى ذاته باطل وهو حق . وكنت عرفت أن اللذيذ هو الكمال ، وذلك بحسب المدرك . فإن كان بحسب الخيال فهو الكمال الذي له ، أو بحسب العقل ، فهو الكمال الذي له ، ومبدأ جميع ذلك الادراك . وواجب الوجود بذاته ، هو الكمال المطلق ، والجمال المحض ، إذ هو بريء عن علائق المادة ، وما بالقوة ، ( و ) لأن الخير هو ما يتشوقه الكل ، وما يتشوقه الكل هو الوجود ، أو كمال الوجود . إذ العدم من حيث هو عدم لا يتشوق ، وواجب الوجود هو الخير المحض ، الذي لا يخالطه شر ، وإذا كان له الجمال المحض والبهاء المحض ، فهو في ذاته الخير المطلق ، وتعقل ذاته بأتم تعقل وأشده . وكل كمال فهو معشوق ، فهو إذن يعشق ذاته ، ويبتهج بها ، فهو أجل مبتهج بذاته ، لأنه يدرك ذاته على ما هي عليه من الجمال والبهاء الذي هو مبدأ كل جمال وبهاء ، ومنبع كل حسن ونظام .
____________________
(1/553)
فإن نظرنا إلى المدرك فهو أجل الأشياء وأعلاها ، وكذلك إن نظرنا إلى المدرك ، وإن نظرنا إلى الادراك فهو أشرف الادراكات وأتمها ، فهو إذن أقوى مدرك ، لأجل مدرك ، بأنم إدراك ، لما هو عليه من العظمة والجلال . ولا مغايرة بين هذه الثلاث ، بل نفس وجوده هو إدراكه لذاته ، وكونه مدركا ومدركا ، ( كما ) هو بعينه وجوده . وقياس ابتهاجه بذاته إلى ابتهاجنا بذاتنا ، كقياس كماله إلى كمالنا . وكما أن سرورنا أكمل من سرور البهائم ، لما بيننا من التفاوت في الكمال ، فكذلك نسبة سرور ما هو أشرف منا بكمال ذاته ، إلى سرورنا بكمال ذاتنا . وكذلك حتى ينتهي الأمر إلى الواجب الأول الذي له الكمال المطلق . فيجب أن يكون عنده من المعنى الذي نعبر عن نظيره في حقنا باللذة والطيبة والفرح والسرور ، بجمال ذاته وكمالها ، ما لا يدخل تحت أوصافنا . ولا سبيل لنا إلى التعبير عن كنهه ، إذ لا يدرك كماله كما هو ، إلا هو . ولما كان كل خير مؤثرا ، وكان إدراك المؤثر من حيث هو مؤثر حبا له ، وكان الحب المفرط ، هو العشق ، صح أن نطلق على الواجب أنه عاشق لذاته ، معشوق لذاته ، ولما كان ( لوحة 360 ) شدة العشق وضعفه تابعين لشدة الادراك وخيرية المدرك وضعفهما ، ولم يكن الادراك التام إلا للواجب ، وجب من ذلك ألا تكون اللذة التامة ، والابتهاج التام الالة . وأن يكون عشقه لذاته ، هو العشق الحقيقي التام .
____________________
(1/554)
والفرق بين العشق والشوق ، أن العشق هو الابتهاج بتصور حضرة ذات ما هي المعشوقة ، والشوق هو الحركة إلى تتميم هذا الابتهاج إذا كانت الصورة متمثلة من وجه غير متمثلة من آخر . كما يتفق أن يتمثل في الخيال ولا يكون متمثلة في الحس ، فكل مشتاق ، فإنه قد نال شيئا ما ، وفاته شيء . ولهذا لم يجز أن يصدق على الواجب أنه مشتاق ، وجاز أن يصدق عليه أنه عاشق . ومحال أن يبتهج الغير بإدراكه ، كما يبتهج هو بإدراك ذاته . وتتفاوت العقليات في إدراكه كتفاوتها في وقوع ظله عليها . وتتفاوت لذاتها بإدراكه كتفاوتها في ذلك الادراك . والقرب من ذات المدرك على حسب شدة الادراك له ، فالمجردات المفارقة تتفاوت في اللذة بحسب تفاوت قربها وبعدها من الواجب . وبهذا تختلف مراتب الموجودات ودرجاتها ، ولا تقدر على فهم شيء من نعوت الواجب لذاته إلا بالمقايسة إلى ما نعرفه من أنفسنا . ونعلم من تفاوت ذلك في حقنا بالكمال والنقصان ، أن ما فهمناه منه في حق واجب الوجود ، أشرف ( وأعلى ) مما فهمناه في حق أنفسنا ، ولا نفهم حقيقة تلك الزيادة ، لأن مثل تلك الزيادة ، لا توجد في حقنا . فكل نعت في الواجب الأول لا نظير له فينا ، ولا سبيل لنا إلى فهمه البتة . وهذا القدر الذي قد ذكر من نعوت جلاله ، إنما هو بقدر ما في وسعنا أن نعلمه منه ، لا بقدر ما يستحقه هو لذاته .
____________________
(1/555)
فارغة
____________________
(1/556)
الفصل الخامس في تبيين كون صفات الواجب لذاته لا توجب كثرة لا بحسب تقوم ذاته ولا بحسب ما يتقرر فيها أعلم أن الصفات للأشياء على خمسة أقسام : أحدهما : صفات حقيقية عارية عن الاضافات ، ككون الشيء أسود وأبيض . وثانيها : صفات حقيقية يلزمها إضافة إلى أمر كلي ، ككون الإنسان قادرا على تحريك أجسام بحال ، فإن إضافته إلى هذا الكلي ، هو لزوم أولي ذاتي ، ويدخل فيه : زيد وعمرو وحجر وشجر ، دخولا ثانيا فإنه لا يتعلق بهذه الجزئيات تعلق ما لا بد منه ، ولهذا لو عدم زيد ، ولم تقع إضافة القوة إلى تحريكه ، ما ضر ذلك في كونه قادرا على التحريك ، لأن الأمر الكلي الذي به تعلقت الصفة ، لا يمكن تغيره ، بل إنما تتغير الاضافات الخارجة فقط . وثالثها : صفات حقيقية ، تلزمها إضافة إلى أمر جزئي ، مثل علم الشيء ، بأن كذا موجود ، ثم يعدم ذلك ، فيصير عالما بأنه معدوم فإن العلم بالكلي لا يكفي في العلم بجزئي جزئي تحته . ألا ترى أن علمنا بكون كل حيوان جسما ، لا نعلم منه كون الانسان جسما ، ما لم يقترن إليه علم آخر ، هو العلم بأن الانسان حيوان ، فتعلم كل واحدة من المقدمتين بعلم ، ونعلم النتيجة بعلم آخر . وإذا اختلف حال المعلوم من عدم أو وجود أو غيرهما ، وجب أن تتغير الاضافة ، والصفة المضافة معا .
____________________
(1/557)
ورابعها : الاضافات المحضة ، مثل كون الشيء قبل غيره وبعده ومثل كونه يمينا ويسارا ، فإنك إذا جلست على يمين إنسان ، ثم قام ذلك الانسان ، فجلس في الجانب الآخر منك ، فقد كنت يمينا له ، ثم صرت الآن يسارا له . فها هنا لا يقع التغيير في ذاتك ، ولا في صفة حقيقية من صفاتك ، بل هذا محض الاضافة . وخامسها : ما يرجع إلى سلب محض ، ككون زيد فقيرا ، فإنه اسم إثبات لصفة سلب . فإن معناه عدم المال . وقد يتركب بعض هذه الأقسام مع بعض ، وإذ قد تقرر هذا فنقول : واجب الوجود ، لا يجوز أن يوصف بما هو من قبيل الأقسام الثلاثة الأول ، لما عرفت من استحالة كونه فاعلا وقابلا لما فعله ، فلا يكون علمه من قبيل علمنا بالأمور المتغيرة ، ولا قدرته من قبيل قدرتنا . وإذ لا بد من وصف واجب الوجود بالأوصاف ، التي أوجبنا اتصافه بها ، فيجب أن تكون غير مؤدية إلى تكثير ذاته ، وتلك هي الاضافية ، والسلب وما يتركب منهما . وقد علمت أن علمه بذاته ، هو نفس ذاته ، لا زائد عليها ، وكذا علمه بعلمه بذاته ، وهلم جرا . وعلمت أيضا أن علمه بمعلولاته ليس بزائد عليها ، ولا يحوج إلى صفات متقررة في ذاته . ولما كان كون لوازمه موجودة عنه ، هو بعينه كونها معقولة له ، فعلمه هو قدرته . ونحن نفتقر في إيجاد الأشياء كبناء بيت مثلا ، إلى عزيمة واستعمال آلات ، حتى نتوصل بذلك إلى بناء البيت . وقدرته هي حياته ، فإن الحياة التي عندنا تتكمل بإدراك وفعل ، هي التحريك ، ينبعثان عن قوتين ( لوحة 361 ) مختلفتين .
____________________
(1/558)
وليس الحياة منه غير العلم ، وكل ذلك له بذاته . ولو كانت الصورة المعقولة التي تحدث فينا ، فتكون سببا للصورة الموجودة الصناعية ، تكفي بنفس وجودها لأن تتكون منها الصورة الصناعية ، بأن تكون صورا ، هي بالفعل مباديء ، لما هي له صورة ، لكان المعقول عندنا هو بعينه القدرة ، ولكن ليس كذلك . لكن يحتاج إلى زيادة متجددة منبعثة عن قوة شوقية ، تتحرك منهما معا القوة المحركة ، فتحرك العصب والأعضاء الآلية ، ثم تتحرك الآلات الخارجة ، ثم تتحرك المادة ، فكذلك لم يكن نفس وجود هذه الصورة المعقولة قدرة ولا إرادة . وأنت فتتحقق مما عرفته ، أن واجب الوجود ليست إرادته مغايرة الذات لعلمه الذي هو ذاته ، مع اعتبار سلب ما . وإذا قيل له واحد فمعناه : سلب الشريك والنظير ، وسلب الانقسام . وإذا قيل قديم فمعناه سلب البداية عن وجوده ، وإذا قيل كريم وجواد ورحيم ، فمعناه إضافته إلى أفعال صدرت منه . وإذا قيل : هو مبدأ الكل فمعناه الاضافة أيضا . وإذا قيل : أنه جزء لم يعن إلا كونه مبرأ عن مخالطة ما بالقوة والنقص . وهذا سلب ، أو كونه مبدأ لكل كمال ونظام ، وهذا إضافة . وبالجملة ، فصفات الواجب ، التي هي غير نفس ذاته ، لا بد وأن تكون : أما سلبية ، كقولنا : ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا حال ولا محل ، أو إضافية كقولنا : ( أنه ) مبدأ وفاعل ، أو مركبة من إضافة وسلب كالأول ، فإنه الذي لا يكون مسبوقا بغيره ، ويكون سابقا على غيره ، وكالمريد ، فإنه الذي يكون عالما بما يصدر عنه ، ولا يكون ذلك الصادر منافيا له .
____________________
(1/559)
ووصفه بالمبدأية هو إضافة واحدة له ، تصحح جميع الاضافات ووصفه بأنه غير ممكن هو سلب واحد ، يتبعه جميع السلوب . وهذا كما يدخل تحت سلب الجمادية عن الانسان ، سلب الحجرية والمدرية عنه . ولو لم ترجع إضافاته كلها إلى إضافة واحدة ، لكانت الاضافات المختلفة توجب اختلاف حيثيات فيه ، فكانت ذاته تتقوم من عدة أشياء ، وليس كذا . وتتفرع من الاضافيات والسلبيات صفات ، لا سبيل لنا إلى حصرها ، في عدد مثل : الخالق البارىء المصور القدوس العزيز الجبار الرحمن الرحيم ، اللطيف المؤمن المهيمن ، إلى غير ذلك ، مما لا يحصى كثرة . فإن تكثر السلوب والاضافات ، توجب تكثر أسماء بحسبها ، ولما لم تكن حقيقة الواجب معلومة لنا ، لا جرم ، لم يكن لها عندنا اسم أصلا . فإن الاسم إنما يوضع للمعلوم ، فيستعمل مع العالم بذلك الشيء ، الذي وضع ذلك الاسم له ، إذا كان عالما بأنه وضع لذلك المعنى . هذا ، مع أن كل واحد مما نعلمه ، من الأسماء التي تطلق على الواجب ، فإن مفهومه مقول على كثيرين : أما على سبيل الجمع ، وأما على سبيل البدل ، وكل ما كان كذلك لا يكون تمام تلك الذات المعنية ، لأن القدر المشترك بينه وبين غيره ، ليس تمام هويته ، وإلا لكان هو غيره . فإذن كل ما دلت هذه الأسماء عليه ، فليس هو هو فإذن ليس له من حيث هو هو اسم عندنا ، ثم اسم كل شيء ، أما إن يدل عليه أو على ما يكون داخلا فيه ، أو على ما يكون خارجا عنه ، أو على ما يتركب من هذه .
____________________
(1/560)
والأول والثاني محالان ، في حق واجب الوجود ، كما عرفت وكذا الدال على ما يتركب منهما . وأما الثالث فيحتمل وجودها سبعة : لأنه إما أن تكون صفة حقيقية ، أو إضافية ، أو سلبية ، أو حقيقية مع إضافية ، أو مع سلبية ، أو إضافية مع سلبية ، أو سلبية مع حقيقية وإضافية . والصفة الحقيقية مفردة او مع غيرها ، هي ممتنعة في حق الواجب لذاته ، والبواقي فغير ممتنعة ، ولك ان تعتبرها من نفسك .
____________________
(1/561)
فارغة
____________________
(1/562)
الفصل السادس في كيفية فعل واجب الوجود وترتيب الممكنات عنه الصادر الأول عن الواجب لذاته ، لا يمكن أن يكون إلا عقلا محضا ، إذ لو لم يكن كذلك ، لكان كما عرفت : إما عرضا أو هيولي أو صورة أو جسما أو نفسا . لا جائز أن يكون عرضا ، لأنه لا يخلو : إما أن يكون محله هو الواجب أو غيره ، لكنه قد بان أن الواجب لا يتقرر في ذاته صفة . ولو كان محله غير الواجب ، لكان ذلك الغير متقدما على العرض الحال فيه ، لوجوب افتقار الحال إلى المحل ، فكان المحل هو الأولى ، بأن يكون المعلول الأول من عرضه ، وفرض أن العرض هو المعلول الأول ، هذا خلف . وأيضا ، لو كان المعلول الأول عرضا ، لكانت الجواهر بأسرها معلولة له . وقد عرفت فساد ذلك . ثم احتياج الجوهر إلى العرض ، مع احتياج العرض إليه ، يؤدي إلى الدور ( لوحة 362 ) المحال ، لأن ذلك الجوهر ، هو الذي يكون محل العرض ، على تقدير كون العرض معلولا أول . ولا جائز أن يكون المعلول الأول ، هو الهيولي الجسمية . وإلا لكانت الصورة الحالة فيها من معلولاتها ، فكان يلزم أن تكون قابلة لما هي فاعلة له ، وقد سبق بطلانه . ولأن الهيولي أخس من باقي الممكنات ، فلو كانت تلك الممكنات معلولة لها ، لكان قد أوجد الشيء ما هو أشرف منه ، وأنت خبير باستحالة ذلك . ولا جائز أن يكون أول المعلولات هو الصورة ، لما علمت من احتياجها في وجودها وتشخصها وتأثيرها فيما تؤثر فيه ، إلى الهيولي ، فلا يمكن أن تكون واسطة مطلقة في وجود الهيولي .
____________________
(1/563)
ولا جائز أن يكون ذلك هو الجسم ، إذ الواجب لذاته واحد حقيقي فلا يصدر عنه ما فيه تركيب بوجه . والجسم ، فقد تبين أنه مركب من الهيولي والصورة ، فلا يصدر عنه بغير واسطة ، ولأنه لو كان أول معلولات الواجب ، لكان سائرها من العقول والنفوس والأعراض والهيولي والصورة ، توجد بتوسط الجسم ، ويكون الجسم علة موجدة له ، وقد استبان لك فيما مر امتناع ذلك . ولا جائز أن يكون نفسا ، لأن الصادر الأول عن الواجب ، يجب أن يكون علة لكل ما عداه من الممكنات ، فيكون علة لجميع الأجسام . وكل ما كان كذلك فلا يكون في فاعليته محتاجا إلى الجسم ، وكل ما كان غنيا في فعله عن كل الأجسام لا يكون نفسا . ومن له رتبة الابداع لجسم ، لا تقهره علاقة ذلك الجسم . ولما بطلت الأجسام بأسرها ، سوى العقل المحض ، ثبت أنه هو الذي يصدر عن واجب الوجود أولا . وهذا العقل الذي هو المعلول الأول : إما أن يصدر عنه أكثر من واحد ، أو لا يصدر ، فإن لم يصدر عنه إلا واحد فقط ، فالصادر عن ذلك الصادر أيضا واحد ، والكلام فيه كالكلام في الأول . وذلك يقتضي ألا يوجد موجودان إلا في سلسلة العلية والمعلولية ، وهو محال بالضرورة . فتعين أن يكون بعض المعلولات ، يصدر عنه اثنان معا ، فما زاد . ولا يمكن أن يكون صدور الكثرة عن ذلك المعلول من حيث هو بسيط ، بل لا بد وأن يعتبر فيه تركيب ما . وذلك التركيب : إما أن يكون له من : ذاته أو من علته ، أو بعضه له من ذاته وبعضه له من علته . فإذا ضم ما له من ذاته إلى ما له من علته ، حصلت في ذاته كثرة بهذا الاعتبار . والأول والثاني باطلان ، لأن ذاته : إن كانت بسيطة استحال أن تكون مبدأ للكثرة ، من حيث هي كذلك .
____________________
(1/564)
وإن كانت مركبة استحال أن تكون صادرة عن البسيط ، من حيث هو بسيط . فبقي الثالث ، وهو أن يكون بعض الكثرة من ذاته ، وبعضها من علته . وهذا المجمل هو المتيقن ، وأما تقرير ذلك على وجه التفصيل ، فيحتمل وجوها كثيرة : وذاك لأن المعلول الأول له هوية مغايرة للواجب لا محالة . ومفهوم كونه صادرا عنه غير مفهوم كونه ذا هوية ما ، فيصدر عن الواجب لذاته الوجود ، ويلزمه أنه ذو هوية ، وتسمى بالماهية ، وهي تابعة للوجود من هذا الاعتبار . وإن كان الوجود تابعا لها ، من حيث العقل ، وبقياس الماهية وحدها إلى الوجود يعقل الامكان ، وبقياسها لا وحدها ، بل بالنظر إلى الواجب ، يعقل الوجود بالغير ، وباعتبار أن الوجود الصادر قائم بذاته ، ليس وجودا لغيره ، بل لنفسه ، يلزمه أن يكون عاقلا لذاته ، كما قد سبق لك تقريره . وباعتبار ذلك له مع الواجب ، يلزمه أن يكون عاقلا للواجب ، فهذه ستة أشياء في العقل الأول الصادر عن الواجب ، بعضها حقيقي ، وبعضها اعتباري . ولوجوب كون المعلول مشابها للعلة ، ومناسبا لها ، يجب أن يكون الكمال الفائض على المعلول الأول من مبدئه . إذ هو بالصورة أشبه مبدأ لكائن صوري ، وأن يكون الحال الذي له في ذاته بالمادة أشبه مبدأ لكائن مادي ، فيكون بالاعتبار الأول مبدأ لجوهر روحاني ، وبالاعتبار الآخر مبدأ لجوهر جسماني . ولا مانع أن يكون لهذا الآخر أيضا تفصيل إلى أمرين ، يصير باعتبارهما سببا لصورة ومادة جسميين ، فإن الوجود والتعقل بالذات ، هي حال له ، من حيث هو بالفعل ، والهوية والامكان حال له من حيث هو بالقوة والفعل أشبه بالصورة ، والقوة أشبه بالمادة .
____________________
(1/565)
فتصدر هيولي الفلك وصورته ، عن العقل الأول باعتبارهما . ولأجل كون الماهية والامكان عدميين في ذاتيهما وجوديين بغيرهما ، كانت المادة عدمية بانفرادها ، وجودية بالصورة . ولأجل كون ( لوحة 363 ) الماهية متقدمة على الوجود ، من حيث العقل متأخرة عنه ، من حيث الوجود ، كانت المادة متقدمة على الصورة من وجه ، متأخرة عنها من غيره . ولأجل كون الوجود أقرب إلى المبدأ في الترتيب ، كان للصورة تقدم بالعلية على المادة . فالكل معقول للواجب ، لكن منه ما صدر عنه بغير واسطة ، وهو العقل الأول ، الذي ذاته واحدة . لكن تتبعها كثرة إضافية ليست في أول وجوده داخلة في مبدأ قوامه . وتلك الذات الواحدة ، مع ما يتبعها من كمالاتها ، يعبر عنها ، بأنها معلول أول . وإن كان المعلول الأول بالحقيقة ، هو بعضها ، لا كلها . ومنه ما صدر عنه بواسطة ، أو وسائط ، هي شروط معدة لوجود ما يتلوها في مرتبة الوجود ، فإنه لا مانع من أن يكون الواحد يلزم عنه واحد ، ثم يلزم ذلك الواحد المعلول حكم وحال ، أو صفة أو معلول آخر ، هو واحد أيضا . ثم يلزم عنه لذاته شيء ، وبمشاركة اللازم آخر ، فيحصل بسبب ذلك كثرة كلها لازمة عن ذاته ، ( و ) لا تستنكرن صدور شيء باعتبار الوجوب والامكان وغيرهما من الأمور العدمية ، فإن العدميات إنما يمتنع كونها عللا مستقلة بأنفسها . وأما كونها شروطا وحيثيات تختلف أحوال العلة الموجدة ، باعتبار كل واحد منها ، فغير ممتنع البتة ، اللهم إلا بدليل منفصل . ولا تتعجب من كون الامكانات متساوية في كونها إمكانات ، وكذا الوجوبات ، وما يجري مجراها ، مع كون ما يلزم عن العلة باعتبار امكانها مثلا ، غير ما يلزم عن علة أخرى ، باعتبار إمكانها .
____________________
(1/566)
وكذلك ما يلزم باعتبار وجوبيهما بغيرهما وتعقيلهما ، وغير ذلك ، فإن الامكانات والوجوبات والتعقلات ، وما ينحو نحو هذه ، إنما تقال على ما هو صادق عليه بالتشكيك ، لا بالتوطؤ . فلا يلزم تساوي لوازمه لو كانت هذه الأشياء عللا مستقلة ، لتلك اللوازم ، فكيف والحق أنها لا تستقل بالايجاد ، بل هي شروط له . ومن الجائز ألا يصدر باعتبار هذه الأشياء عن العقل الأول شيء غير العقل الثاني ، وكذا عن كل عقل عقل آخر فقط . وعلى هذا إلى أن تصدر عن عقل من العقول ، باعتبار ما فيه ، من أمثال هذه الأمور ، أو باعتبار مقايسته إلى غيره أو مشاركته معه موجودات أخرى ، أو موجود آخر غير العقل . وهذه الاعتبارات في العقل الأول إنما جعلت مثالا وأنموذجا وتمهيدا ، لكيفية صدور الكثرة عن الواحد ، لا على وجه أنه لا يمكن أن يكون ما هو في نفس الأمر على خلاف ذلك . وما في كل فلك كلي لكوكب من السيارة من الأفلاك الكثيرة ، وما في فلك الكواكب الثابتة ، أو أفلاكها من الكواكب ، يدل على أنه يمتنع أن يكون صدورها عن عقل ، هو ثاني العقول ، أو ثالثها أو رابعها . إذ لا يحصل فيه من الحيثيات ، ولا يحصل له من النسب مع غيره عما يفي بهذه الكثرة المختلفة أن تكون حاصلة منه . وما يصدق على الواجب لذاته من الاضافات والسلوب ، لا يجوز أن يوجب صدور الكثرة عنه . فإن هذه إنما تعقل بعد ثبوت الغير ، فلو جعلت مبدأ لثبوت ذلك الغير ، لكان دورا . وكون الواجب أو العقل أو النفس يعقل ذاته ، لا يصح أن يصدر باعتباره أمر غير ما يصدر عن غيره ، من الاعتبارات ، إذ ليس تعقل المجردات لذواتها أمرا زائدا على ذواتها ، فإنه لا ماهية لها وراء كونها عاقلة لذاتها .
____________________
(1/567)
وتكثر الجهات والاعتبارات ممتنع في المبدأ الواجب ، لأنه واحد من كل جهة ، فلا يشتمل على حيثيات مختلفة واعتبارات متكثرة لما مر ، وغير ممتنع في معلولاته ذلك . ولا يجوز أن يكون مبدأ للجسم ولا للنفس إلا بتوسط العقل ، كما عرفت . وليس يجوز أن يصدر الجسم السماوي عن آخر العقول ، لأن لكل جسم سماوي مبدأ عقليا . ولو انقطعت العقول ، قبل انقطاع السمائيات ، لبقي ما تخلف من السمائيات ، غير مستند إلى علة ، إذ لا يمكن إسناده إلى جرم سماوي ، ولا إلى مال له تعلق بجسم البتة ، من حيث هو كذلك . فالعقول ليست أقل عددا من الأفلاك ، بل من الجائز أن يكون أكثر منها ، بما لا سبيل لنا إلى حصره . وقد يحصل من هذا أن واجب الوجود يبدع جوهرا عقليا ، وجرما سماويا ، مع احتمال أن يكون بينه ، وبين أول الأجرام السماوية عقل واحد أو أكثر ، وكذلك يصدر عن ذلك الجوهر العقلي عقل آخر وفلك آخر . وهكذا حتى تتم الأجرام السماوية . ولا طريق لنا إلى معرفة عددها ، ولا معرفة عدد العقول والنفوس . ولا بد من الانتهاء إلى جوهر عقلي لا يلزم عنه جرم سماوي ، ولا يلزم من ( لوحة 364 ) كون كل اختلاف في المعلول ، يجب كونه عن اختلاف في العلل ، باعتبار الحيثيات المذكورة في العقل أو غيرها ، أن يكون كل اختلاف في العلل يوجب اختلافا في المعلولات ، ولهذا لم يستمر أن يصدر عن كل عقل عقل وفلك معا . ولو استمر ذلك للزم التسلسل ، الذي عرفت امتناعه ، ولكانت الأجسام غير متناهية ، وقد برهن على أن ذلك محال . وإنما انقطع الفيض عن العقول ، لكونها متفاوتة بالكمال والنقص فلا يكون العقل المفيد ، كالعقل المستفيد وجوده منه ، بل كل معلول هو أنقص من علته .
____________________
(1/568)
وتنتهي العقول في النقص إلى عقل لا يصدر عنه عقل . والحال في ذلك كالحال في الأنوار المحسوسة ، إذا كانت نورية بعضها مستفادة من نورية بعض ، إلى أن تنتهي في النقص إلى نور ، لا يظهر عنه نور آخر . والتفاوت في الكمال والنقص قد يكون : من جهة الفاعل ، وقد يكون من جهة القابل ، وقد يكون من جهتيهما معا . فما لا قابل له فتفاوته في ذلك ، يكون بسبب رتبة فاعله ، وكمال الواجب ، لا علة له ، بل هو الوجود المحض ، الذي لا يشوبه فقر ونقص . والعقل الأول هو أكمل الممكنات وأشرفها ، وهو فقير في نفسه ، غني بالواجب . ووجود المعلول من العلة ليس بأن ينفصل منها شيء ، فإن الانفصال والاتصال من خواص الأجسام . بل على أنه موجود بها فحسب ، كما هو الحال في أشراق نور الشمس . ولا يمتنع في بديهة العقل أن يكون المعلول يقبل عن علته ، بعد صدوره عنها ، أعني البعيدة الذاتية هيئة أو هيئات . وإذا قبل العقل الأمر الأول من الواجب هيئة ، فلا يوجب ذلك أن يكون الواجب متكثرا ، بسبب إعطاء الذات والهيئة ، فإنهما لم يوجدا عنه ، لمجرد ذاته ، بل أحدهما ، وهو الذات ، هو لذاته فحسب ، والآخر ( و ) هو الهيئة لصلوح القابل ، فالمجردات . فقد تنعكس الأنوار من بعضها على بعض ، كما تنعكس الأنوار المحسوسة من الأجسام . وكل سافل يقبل من الواجب ، بتوسط ما فوقه رتبة رتبة . إذ المجردات لا يحجب بعضها عن بعض ، فإن الحجاب من خاصية الأجسام والأبعاد وشواغلها ، وبمشاركة الذوات مع هيئة الأشعة ، وبمشاركة بعض هذه الأشعة مع بعض تتكثر الموجودات المجردة وغيرها . ويكون منها ما هي متكافئة في الوجود ، ومنها ما هو في سلسلة العلية والمعلولية طولا .
____________________
(1/569)
ويحصل بين الأشعة بعضها في بعض ، وبينها وبين غيرها ، من المناسبات العجيبة ما يكون سببا للتركيبات العجيبة في المعلولات الروحانية والجسمانية . وليست الأنواع المحفوظة عندنا ، ولا الفضائل الدائمة الثابتة ونحوها ، مبنية على الاتفاقات ، بل لأحوال ثابتة في العلل . ولكل علة موجدة بالنسبة إلى معلولها محبة وقهر ، وللمعلول بالنسبة إلى علته محبة يلزمها ذل وخضوع . وقد يتأدى إلى المعلولات النوعية من هذه الجهات ما تقتضي أن تكون متفاوتة فيها أو في بعضها . ولا يوجد ممكن أخس إلا والممكن الأشرف قد وجد قبله . فإنه لا يمكن وجود ما هو أفضل من العقل الأول ، فإن الواجب اقتضاه بجهته الوحدانية فلم تبق جهة تقتضي ما هو أشرف منه . ولو فرض وجود ما هو أشرف منه ، لاستدعى جهة تقتضيه هي أشرف مما عليه الواجب ، وذلك محال . فيجب أن يعتقد في كل ما هو غير داخل تحت الحركات الفلكية ما هو أشرف وأكرم له ، بعد إمكانه . فإن كل ما هو خارج عن عالم الاتفاقات ، فلا مانع له عما هو أكمل لماهيته ، فإن المراد بالاتفاقي في هذا الموضع ما يلحق ماهية ، لا لذاتها ، مما تختلف به أشخاصها . وهذه الماهيات المعقولة إن أمكنت من حيث هي هي ، لا تمنعها خارجيات دونها ، إذ العلة لا تمتنع بامتناع معلولها . وما يتقدم على الحركات بعلية ما ، فلا يمتنع بها ، ولا بما لا يكون علة ، ولا معلولا لها .
____________________
(1/570)
وكل ما هو كذلك ، فيجب ألا يتقاعد عن كماله ، فإنه لو تقاعد عنه ، لكان ذلك لنقص في علته ، لا محالة . ويجب أن تكون هيولي العالم العنصري لازمة عن بعض المجردات ، ولكون العناصر قابلة للكون والفساد ، يجب أن ( تكون ) مادتها مشتركة ، فيجب أن تكون علة تلك المادة واحدة ، ( و ) لأجل أنها مستعدة لقبول جميع الصور ، فلا تحصل فيها صورة ، دون أخرى ، ألا لمرجح . وتلك الأسباب المرجحة لا شك أنها حادثة ، فيجب أن تكون علتها أمرا متغيرا ، ومع تغيره متصلا . وهذه صفة الحركة الدورية ، فالمادة موجودة ، لا بواسطة وحدها ، وإلا كان يلزم متى عدمت إحدى الصور أن تعدم المادة ، إذ المادة لا تبقى بلا صورة . فللصورة شريك في استبقاء المادة ، بأن تتداول المادة الواحدة ، بتعاقب الصور عليها ( لوحة 365 ) ، وهذا هو المفارق الذي يفيد الصور . وأما كيفية كون الحركة معدة للمادة ، فبأن تقرب مثلا نارا من ماء ، حتى تبطل عنه البرد المضاد للصورة النارية ، فتستعد المادة ، ببطلان المانع للصورة النارية ، فتحدث فيها الصورة النارية ، من عند واهب الصور . وإذا تأملت الوجود ، وجدته مبتدئا من الأشرف فالأشرف ، على مراتبه . فالوجود الواجبي ، هو الذي له الشرف الأعلى الذي لا يتناهى . والعقول على اختلافها في الرتبة ، هي أشرف الممكنات ، وأشرفها هو العقل الأول . ثم تلي العقول في الشرف ، النفوس السمائية ، وتليها مرتبة الصور ، ثم مرتبة الهيولي التي للسمائيات ، والتي هي مشتركة بين العناصر .
____________________
(1/571)
ومن ههنا تأخذ في الارتقاء إلى دورة الكمال ، بعد انحطاطه عنه . وذلك على مراتب : أولها : مرتبة الأجسام النوعية البسيطة ، من الفلك الأعلى إلى الأرض . وبعدها مرتبة الصور الأولى الحادثة بعد التركيب على اختلاف درجاتها . وبعدها مرتبة القوى النباتية بأسرها . ثم مرتبة النفوس الحيوانية ، على اختلافها ، حتى تبلغ النفس الناطقة المنتهية في درجات كمالها ، إلى العقل المستفاد المشتمل على صور الموجودات كما هي اشتمالا انفعاليا ، كما اشتملت عليها العقول اشتمالا فعليا . فبهذا العقل المستفاد عاد الوجود ، إلى مثل ما ابتدأ منه ، وإن كانت مماثلة ضعيفة . والواجب ، كما أنه واجب في ذاته ، فكذلك هو واجب في فاعليته ، ولولا ذلك لتوقف تأثيره في معلوله الأول ، على أمر آخر ، يترجح به وجوده عنها ، فيكون ذلك الأمر قبل ما فرض أنه معلول أول له ، فلا يكون المعلول الأول معلولا أول ، هذا خلف . ولما كان كل ما عدا الواجب فهو من الواجب ، وجب ألا يتوقف مجموع ما عداه على غيره ، فيجب دوامه بدوامه ، لعدم توقفه على أمر منتظر . وفي العدم البحث لا يمكن فرض عدد ، مع أن كل ما يتجدد يعود الكلام فيه ، فيؤدي ذلك إلى حوادث ، لا أول لها ، فلا يكون لمجموع ما عدا الواجب ابتداء زماني ، بل الذي له ابتداء زماني ، هو بعض معلولاته ، لا كلها . وكونه يفعل بالارادة ، لا يقدح في دوام فاعليته ، فإن الارادة أو غيرها ، من الصفات ، متى فرضت دائمة ، ولا يتوقف تأثير الواجب على غيرها ، فيدوم التأثير بدوامها .
____________________
(1/572)
وإن فرضت الارادة أو أمر آخر ، كقدرة أو وقت أو داع ، أو زوال مانع ، أو أي شيء كان حادثا ، عاد الكلام فيه ، وانجر ذلك إلى حوادث لا بداية لها . وبالجملة ، فلا فرق بين الارادة والقدرة ، وغيرهما من الصفات الممكنة ، وبين سائر الممكنات ، التي لا يتقدم مجموعها غير واجب الوجود ، وهو دائم ، فيدوم تأثيره . ولا زمان ولا حال فيما يفرض ، قبل جميع الممكنات ، فإن جميع الأحوال والأزمنة ، هي من الممكنات ، التي لا يتقدمها إلا واجب الوجود . وإذا لم يتقدم على جميع الممكنات ، إلا هو ، فلا يتوقف على غيره . ومهما دام ما لا يتوقف الشيء على غيره ، وجب دوام ذلك الشيء . وكون آحاد الحركات وآحاد الحوادث ، حادثا ، لا يقتضي أن يكون مجموعها كذلك ، فإنه لا يلزم أن يعطي الكل حكم كل واحد ، ولا كل واحد حكم الكل . وتوقف الحادث اليومي ، على انقضاء ما لا نهاية له ، من الحوادث الماضية ، ليس بمحال ، فإن الممتنع من التوقف على الغير ، هو ما يكون الشيء متوقفا ، على ما لا يتناهى ، ولم يحصل بعد . والذي لا يكون إلا بعد وجود ما لا يتناهى في المستقبل ، لا يصح وقوعه . وليس في الماضي حالة كان فيها غير المتناهي الذي يتوقف عليه حادث ما ، معدوما ، فحصل بعد ذلك ، وحصل بعده الحادثات . إذ ما من وقت يفرض ، إلا وكان مسبوقا بما لا يتناهى ، ولا يأتي بعده مما يتوقف على حركات ، إلا ويتوقف على ما يتناهى ، لا على ما لا يتناهى . أي لا يوجد شيء منها ، إلا وهو مسبوق بحوادث غير متناهية ، من جهة الأزل ، فهو غير ممتنع ، بل ولا يصح وقوع الحوادث ، إلا كذلك . وقد عرفت أن ما لا نهاية له ، إنما يمتنع وجوده ، إذا كانت آحاده مترتبة وموجودة معا .
____________________
(1/573)
أما إذا كان وجودها على التعاقب ، كهذه الحوادث فلا ، ولا يمتنع في بداية العقول وجود مجموع غير متناه ، يكون كل واحد من آحادة : حادثا وأبدي الوجود ، وغير مرتبط بشيء من الآحاد . فإن بحدوث كل واحد من الآحاد ، يحدث مجموع غير المجموع الذي كان قبل حدوث ذلك الواحد . فإن الأشياء إذا أحدثت مع شيء يكون المجموع الذي معه ، غير المجموع الذي دونه ، فيكون كل مجموع غير متناهي الآحاد ، مسبوقا بمجموع آخر ، هو كذلك . وهذا المجموع إنما هو ( لوحة 366 ) مجموع اعتباري ، لا حقيقي ، وآحاده فغير معدودة في نفس الأمر ، فإن العدد من الأمور الاعتبارية ، التي لا وجود لها بالفعل في الأعيان . وليس للذهن عد هذه الآحاد ، فليست بمحصورة في عدد ، وهي بحيث لو عدها عاد أبد الدهر ، ما انتهى تعديده لها ، بحيث يكون آتيا على الكل . والعالم بأسره حادث بالحدوث الذاتي . فإن لا استحقاق وجوده عقلا متقدم على استحقاق وجوده ، فإن استحقاق الوجود أمكن من غيره ، وهو مشروط بالاستحقاق من نفسه . وما للشيء من ذاته يتقدم على ما له من غيره ، كما علمت . فأن لا يكون للعالم وجود متقدم عقلا ، على أن يكون له وجود ، فهو إذن حادث حدوثا ذاتيا . ومن يقل أنه حادث بالحدوث الزماني ، فلا يمكنه أن يجعل الزمان من جملة العالم ، إذ لو كان من جملته ، لما كان سبق العدم على العالم سبقا زمانيا ، فيكون إذن سبقا غير زماني . ولا يتصور أن يكون ذلك سبقا زمانيا ، إلا إذا توقف وجود العالم ، على غير الواجب لذاته ، ولم يكف في وجوده ذاته وصفاته اللازمة عن ذاته ، لو جاز أن يكون له صفات حقيقية كذلك .
____________________
(1/574)
وحال أبدية وجود الواجب ، كحال أزليته ، فإن كليهما لازم عن عدم تغيره . ولا يصح أن يفعل واجب الوجود لعرض ، وإلا لكان مستكملا بفعله ، سواء كان العرض عائدا إلى ذاته ، أو إلى غيره ، كما علمت . والغاية التي هي أحدى العلل ، سواء كانت عرضا أو لم تكن ، هي منفية عن فعله لمثل ذلك . ولكن لفعله غاية ، إذا عنى بالغاية ما ينتهي إليه الفعل ، أو أشرف ما ينتهي إليه الفعل . وذلك ليس بعلة غائبة لفعله . ولو فعل شيئا لمصلحة شيء آخر : فإن كان الأولى به حصول تلك المصلحة فهي غرض فعله . وإن لم يكن الأولى به ذلك ، فلماذا اختار ذلك الفعل ، دون غيره . وإذا كان ذلك الفعل أولى بالمخلوق ، فيحصل ذلك الأولى بالمخلوق ، لو لم يكن أولى بالخالق ، لما فعله . وإذا كان أولى بالخالق فقد توقف كماله على غيره . ولو كان إنما فعل ذلك الفعل ، لأنه جواد ، لكانت جواديته إن لم يحصل إلا بهذا الفعل ، فقد فعل لتحصيلهما ، وهي أولى به ، ويعود المحال . وإن كانت جواديته حاصلة دون فعله ، فليس ذلك بغاية تجعل الفاعل فاعلا متصور الغاية أو لا ، ثم يفعل لأجلها ، بل هذا غاية ، بمعنى انتهاء الفعل إلى مصلحة . ولو أدرك شيئا ، ثم أوجب وجود آخر لأجله ، حتى حصل الأولى لذلك الشيء ، وما كفى في ذلك انتهاء الفعل إليه لذاته ، فههنا يلزم أن يكون واجب الوجود جعله ما هو الأولى لذلك الشيء فاعلا للآخر . فيعود التقسيم في أن حصول الأولوية لذلك الشيء : إما أن يكون أولى بالواجب ، أو لا يكون ، ولزم المحال من كلا القسمين .
____________________
(1/575)
ولو فعل المعلول الأول لأجل الثاني ، والثاني لأجل الثالث ، وكذلك إلى آخر المعلولات ، لكان ما هو أقصى وأبعد عن واجب الوجود ، أشرف من الأقرب إليه ، فإن الغاية القصوى لا تحصل إلا بعد جميع ما يبتني عليه حصولها . فوجب أن تكون الجسمانيات أشرف من الروحانيات لأن كلامنا ههنا ، إنما هو في العلة الغائية ، لا في الغاية التي هي نهاية الفعل . والعلة الغائية وإن كانت منفية عن واجب الوجود ، فليس بمنفى عنه أنه غاية جميع الموجودات . فإن جميعها - يحسب ما لها من الكمال - طالبة لكمال الواجب لذاته ، ومتشبهة في تحصيل ذلك الكمال بحسب ما يتصور في ذاتها من جهة ما يكون على كمال لائق به ، فهو غاية الكل ، ولا غاية له ، بل صدرت عنه الموجودات على أكمل ما يمكن ، لا بمعنى أنه خلقها ناقصة ، ثم كملها بقصد ثان ، بل خلقها منساقة إلى كمالها ، لاستئناف تدبير . ولو استأنف تدبيرها في الاكمال بقصد ثان ، لكان ذلك هو الغرض المنفى عنه فجميع الخيرات راشحة من كمال الواجب ، على الغير . وإرادة الخير للغير هو من كماله . وإذا كان الطلب والارادة ذاتيين له ، لم يكن ناقصا ، بل كان ذلك كالوجود ، فإنه أولى له من العدم ، ولم يلزم من ذلك أنه كامل بغيره . وحصول المطلوب لازم من هذا الكمال الذاتي ، وأولوية الطلب الذاتي كافية في كون الأثر الصادر عنه مطلوبا مترجحا . والفرق بين فعله ، وفعل الطالب للشيء الذي إنما يطلبه ، ليستكمل به ، وينجبر نقصانه بسببه ، هو أن المستكمل بفعله يكون كل واحد من الطلب والمطلوب أولى به .
____________________
(1/576)
وأما الذي يكون فعله من كماله من غير أن يحصل به كمالا آخر ، فالطلب فقط ، هو الذي يكون أولى به ، دون المطلوب . وليس ذلك الطلب زائدا على ذاته ، كما عرفت ، بل هو ذاته ، وإنما تختلف الأسامي باختلاف الاعتبارات . ونحن إذا استقرأنا ( لوحة 367 ) الممكنات ، لم نجد شيئا منها خاليا من وقوع ظل الواجب عليه ، وذلك هو كماله وإن تفاوت . ولو خلا عن ذلك الكمال ، لما كان موجودا . وذو الكمال ينزع بطبيعته إليه ، إذ هو خيرية هويته ، فلا يزال عاشقا له ، إذا كان حاصلا ، ومشتاقا إليه ، إذا كان مفقودا . وظاهر أن الحي من الموجودات لا ينفك عن العشق البتة ، لا في حال حصول كماله ، ولا في حال فقده . وغير الحي من الموجودات ، إن كان نباتا فله بحسب القوة الغاذية شوق إلى حصول الغذاء ، عند حاجة المادة إليه ، وشوق إلى بقائه بعد استحالته إلى طبيعته ، وبحسب القوة المنمية شوق إلى تحصيل الزيادة الطبيعية المناسبة ، في أقطار المغتذي . وبحسب القوة المولدة شوق إلى تهيئة مبدأ الكائن الذي هو من جنس ما هي فيه . وهذه القوى مهما وجدت لزمتها هذه الطبائع العشقية ، فإذن هي في طبائعها عاشقة أيضا . وغير النبات مما ليس بحي ، إن كان هيولي فمتى عريت عن صورة ، بادرت إلى الاستبدال عنها بصورة أخرى ، إشفاقا عن ملازمة العدم المطلق . وإن كان صورة فهي تلازم موضوعها ، وتنافي مستحميها عنه ، ولا تزال ملازمة لكمالاتها ومواضعها الطبيعية ، إن كانت فيها ، ومتحركة شوقا إليها متى باينتها ، وكذا كل الأعراض ، فإن عشقها ظاهر بالجد في ملازمة الموضوع ، وذلك بين في ملاحتها الأضداد في الاستبداد به .
____________________
(1/577)
والوجه الكمي في جميع ذلك ، أن الهويات غير مكتفية بذاتها في وجود كمالاتها ، إذ كمالات الهويات مستفادة من فيض الكامل بالذات ، من غير أن تقصد بالافادة واحدا واحدا من جزئيات الهويات . فكان من الواجب في الحكمة وحسن التدبير ، أن يغرز فيه عشقا كليا حتى يصير بذلك مستحفظا لما نال من فيض الكمالات ، ونازعا إلى ملابستها عند فقدانها ، ليجري الأمر على النظام الحكمي . ولا يجوز مفارقة هذا العشق لشيء من الموجودات ، إذ لو فارقها لاحتاجت إلى عشق آخر به يستحفظ هذا العشق عند وجوده ، إشفاقا من عدمه ، ويسترده عند فواته منعا لبعده ، ولصار أحد العشقين معطلا . فلكل شيء من الأشياء كمال يخصه من الواجب ، وعشق إرادي أو طبيعي لذلك الكمال وشوق إليه . كذلك إذا فارقه ما هو كماله ، ولو لا هذا الشوق ، لما وجدت الحركة أصلا لا الارادية والطبيعية ولا القسرية . وواجب الوجود لا يجوز عليه أن يتحرك لهذا المعنى ، ولما مضى ، وهو فلا يحرك جسما مباشرة ، فإن قوته لا يمكن أن تكون متناهية ، فهي إذن غير متناهية . وإذا كانت كذلك فلو حرك بها جسما ، لكانت تلك الحركة لا يتصور ما هو أسرع منها ، لكن ذلك محال . لأنها لا بد وأن تكون في زمان ، وكل زمان فهو ينقسم بالفرض ، فيكون قطع المسافة المعنية في نصفه ، أسرع من قطعها في كله ، فلا يكون قطعها في كله أسرع الحركات ، وفرضت أسرعها ، هذا خلف . وإذا كانت سرعة الحركة ، بسبب شدة القوة ، فما لا يتصور أشد من قوته ، لا يتصور أسرع من الحركة التي تباشرها بكل تلك القوة ، مع أن الواجب لذاته يمتنع عليه الغير ، فهو ثابت ، والحركة فليست بثابتة .
____________________
(1/578)
والثابت من حيث هو ثابت لا يصدر عنه ما ليس بثابت . وليس في الوجود غير الواجب وآثاره . وإذا أضيف أثر إلى غيره فعلى التجوز : أما إلى الحيوانات فلكونها محل الأثر بداعية وقدرة مخلوقين فيها ، فهي مختارة مع كونها مسخرة . وإذا قد عرفت أن كل ما لا يجب لا يوجد ، فالأفعال الارادية من الحيوان ، هو مجبور عليها لا محالة . وإن كانت صادرة بإرادته واختياره ، فهو مختار في جبره ومجبوره في اختياره
____________________
(1/579)
فارغة
____________________
(1/580)
الفصل السابع في عناية واجب الوجود بمخلوقاته ورحمته لهم وحكمته في إيجادهم قد اتضح لك مما سلف بيانه : أن واجب الوجود لا يفعل لغرض ، وأن العلل العالية لا تفعل فعلا لأجل السافل ، ولا سبيل إلى إنكار الآثار العجيبة في تكون العالم ، وأجزاء السماوات ، وأجزاء الحيوان والنبات ، مما لا يصدر ذلك اتفاقا ، وعلى سبيل الجزاف . فيجب أن تعلم أنه كيف يمكن أن يصدر هذا النظام المشاهد والمعقول عن علله العالية ، وليس ذلك إلا لأن الأول تعالى عالم لذاته ، بما عليه الوجود في نظام الخير وعلة لذاته للخير والكمال ، بحسب الامكان ، وراض به على النحو الذي عرفته ، فيعقل نظام الخير على الوجه الأبلغ في الامكان ، فيفيض عنه ما يعقله نظاما وخيرا على الوجه الأبلغ الذي يعقله فيضانا ، على أتم تأدية إلى النظام ، بقدر ما يمكن ، وذلك هو العناية التي للباريء بمخلوقاته . وتحقيق هذا أن ذات الواجب لما كانت هي الكمال المطلق ، كان وجود الموجودات الصادرة عنه ، على أتم نظام ( لوحة 368 ) وأحسن ترتيب .
____________________
(1/581)
وأنت إذا أردت إحكام أمر ، ثم طلبت النظام في إيجاد شيء ، فإنك تتصور أولا نظاما ، ثم تسوق إليه الأمور ، فيكون بالحقيقة مصدر تلك الأمور ، هو النظام المتصور . فإذا كان الفاعل هو النظام المطلق والكمال المحض ، فمن الواجب أن تكون الأمور الموجودة عنه ، بحيث لا مزيد عليها في الأحكام والنظام . فلهذا لا يصح صدورها على نظام آخر ، فإن جميع النظام يكون دونه . ولما لم يزيد علم الواجب بذاته على ذاته ، ولا علمه بمعلولاته على وجود تلك المعلولات ، فلا يمكن تقدم علمه بلوازمه عليها . ولو تقدم علمه بمعلوله على لزومه عنه ، لما كانت ذاته مفيدة للوازم بمجردها . بل هي مع العلم بالمبدأ الأول ، لا تزيد عنايته على ذاته ، وعلى عدم غيبته عن ذاته ولوازمها . ومتى قيل : ان عنايته زائدة على ذاته ، فكذلك انما تصدق بنوع من الاعتبار لا بالحقيقة . وكذا اذا قيل علمه هو سبب وجود الأشياء عنه . وإذا كانت العقول لازمة عن الخير المطلق ومن مقتضاه ، وكانت الافلاك صادرة عنه أيضا ، ومتشبهة في حركاتها به ، وكانت الأمور التي تحت الافلاك نظامها يتعلق بحركات الافلاك ، التي هي أفضل الحركات ، فيجب أن يكون هذا النظام الموجود في عالم الطبيعة أيضا ، على أتم ما يمكن أن يكون وأفضله ، ولا نظام أتم منه ، وأنه ليس في الموجودات أمر بالاتفاق ، بل كله أما طبيعي بحسب ذاته ، كحركة الحجر إلى أسفل ، وأما طبيعي بالقياس إلى الكل ، وأن لم يكن طبيعيا بالقياس إلى ذاته . ومن اعتبر آثار العناية في جملة العالم وفي أجزائه ، لوجد منها ما يقتضي منه آخر العجب . وعلى أنه لا سبيل للإنسان إلى معرفة جميع ذلك ، في أحوال نفسه وبدنه ، فضلا عن معرفته فيما عداه من جمل العالم وتفاصيله .
____________________
(1/582)
ولو فكر الانسان في منافع أعضائه ، ووضعها ، وترتيبها ، وما فيها من القوى ، وسريان آثارها في البدن ، وحفظ الشخص والنوع بها ، لرأي من ذلك ما تبهره عجائبه ، وكان يظهر له كونه عاجزا عن الاحاطة به ، أو الاطلاع على أكثره . وإذا كان عجزه عن حال نفسه وبدونه هذا العجز ، فكيف لا يعجز عن الاطلاع على جميع عجائب ما في عالم الكون والفساد ، وعالم الأفلاك ، الذي لا يحيط علما بوجود أكثره ، فضلا عما فيه من دقائق الحكمة ولطائف العناية . وقد رأيت أن أذكر جملة من آثار عناية الباريء بمخلوقاته ، ليكون كالانموذج لباقيها . فمن ذلك حال أعضاء الحيوان ، لا سيما الانسان ، فإن الباريء جل ثناؤه قدر بلطف حكمته أن جعل العظام دعائم أبدان الحيوانات وعمدها . ولما احتاج الحيوان إلى الحركة في وقت دون وقت وأن يتحرك جزء من بدنه دون جزء ، لم يجعل ما في بدنه عظما واحدا ، بل جعل فيه عظاما كثيرة مشكلة بالاشكال الموافقة ، كما يراد منها . ووصل ما يحتاج أن يتحرك في بعض الأحوال معا ، وفي بعضها فرادي بالربط الثابتة من أحد طرفي العظم المتصلة بالطرف الآخر . وجعل لأحد طرفي العظمين زوائد ، وفي الآخر نقرا موافقة لدخول هذه الزوائد فيها . فصار للأعضاء من أجل المفاصل ، أن يتحرك منها بعض دون بعض ، ومن أجل الربط الواصلة بين العظام أن تتحرك معا بعظم واحد . وجعل الدماغ عنصر الحس والحركة الارادية ، وأنبت منه أعصابا تتصل بالأعضاء ، فتعطيها ضروب الحس والحركة . ولما كان أسافل البدن ، وما بعد عن الدماغ ، يحتاج أيضا إلى حس وحركة إرادية ، أخرج من أسفل القحف شيئا من الدماغ ، هو النخاع ، وحصنه لشرفه بحرز الظهر ، كما حصن الدماغ بالقحف ، حتى صار الدماغ بمنزلة عين وينبوع للحس والحركة ، والنخاع بمنزلة نهر
____________________
(1/583)
عظيم تجري منه ، والأعصاب النابتة من النخاع بمنزلة جداول تأخذ من ذلك النهر ، فالدماغ معدن الحواس الباطنة ، وينبوع الحواس الظاهرة والحركة الارادية . والقلب هو معدن الروح والحرارة الغريزية ، ومنه يكتسب سائر البدن بواسطة الشرايين . ولما كان القلب محتاجا لبقائه على طباعه إلى نسيم هو أبرد منه ، ليخرج ما قد سخن في تجاويفه من الهواء سخونة مفرطة ، خلق له آلات النفس ، كالصدر والرئة ، وجعل بينها وبين القلب ' وصل ومجاري ' ينفذ منها ما يستنشق من الهواء . وجعل الكبد أصلا ومولدا للأخلاط ، ووصل منه العروق بالأعصاب ليسقي كل عضو ، ويوزع الدم وما يصحبه من سائر الأخلاط عليها ، بقدر حاجتها إليه ، فيكون بذلك بقاء ما يبقى بحاله ، ونمو ما ينمى منها . ولما كان ما يغتذي به ليس يستحيل عن آخره ، بل يبقى منه فضل غير صالح للغذائية ، لو بقي في البدن لاورث ضروبا من الأسقام ، أعد لدفع ذلك الفضل وإخراجه ( لوحة 369 ) آلات ومنافذ . ولما ركبت جثة الحيوان من أجسام متحللة غير دائمة البقاء والثبات ، لم يمكن أن يبقى الشخص الواحد دائما . فهيئات آلات التناسل لبقاء نوعه بحاله . والأفعال في الحيوان ثلاثة : طبيعية وحيوانية ونفسانية . والطبيعة منها ما يكون به بقاء الشخص ، ومنها ما يكون به بقاء النوع . والأعضاء والآلات التي أعدت للأفعال الطبيعية التي يكون بها بقاء الشخص الانساني ، وما يجري مجراه هي : الفم واللسان والأسنان والمريء والمعدة والأمعاء والماساريقا والكبد والأوردة المتفرعة من العرق النابت من مجذبها في جميع البدن . والمرارة والطحال والكليتان ومجاريهما والمثانة ومجاري البول والصفاق والمراق والأعضاء والآلات
____________________
(1/584)
التي أعدت للأفعال الطبيعية التي بها يكون بقاء النوع الانساني ونحوه هي الانثيان وأوعية المنى ومجاريه من الذكور والاناث والذكر والرحم وعنقه والثديان . وأما التي أعدت للأفعال الحيوانية فهي : القلب وأغشيته والشرايين والرئة والصدر والحجاب . وأما المعدة للأفعال النفسانية فهي : الدماغ وأماه والنخاع والأعصاب النابتة منهما ، والعضل والأوتار والعينان والأذنان والزائدتان الشبيهتان بحلمتي الثدي ، وثقب المصافي والأنف واللسان ، وجلدتا الكفين وخصوصا ما على الأنملة منها ، وفي كل واحدة من هذه عضو واحد ، هو الأصل . والرئيس في ذلك الجنس وسائر الأجزاء الباقية تابعة له وموافقة لفعله . فالكبد هو رئيس آلات الغذاء ، والمعدة أعدت لهضم الطعام ، لتصيره كيلوسا بمعاونة ما يطيف بها من الأعضاء . والأسنان ، لتصغير أجزاء الطعام وطحنه بمعونة اللسان لها على ذلك بتقليبه . والمعي الدقاق والماساريقا ، لنفوذ عصارة الكيلوس وصفوه للكبد . والمرارة ، لتنقية الدم المنطبخ في الكبد ، من فضل المرة الصفراء . والطحال ، لتنقيته من فضل المرة السوداء . والكليتان ، لتنقيته من المائية المحتاج إليها ، بسبب نفوذ الغذاء في مسالك الكبد الضيقة ، المستغني عنها بعد ذلك . والأوردة المتفرعة من العرق الأجوف ، لاتصال الدم إلى سائر الأعضاء الأخر . والمثانة والمعي الغلاظ ، لقبول الفضلتين : الرطبة المائية التي تصير في المثانة بولا ، واليابسة الأرضية ، التي تصير في المعي برازا ، وينفضان عن البدن ، من مجرييهما بمعونة من عضل البدن بالعصر عليها ، وجعل اندفاع ما فضل من المرارة إلى قعر المعدة والمعي ، ليكسح بجذبه ما يجتمع فيها من فضول الهضوم ، فيدفع عنها بذلك أذية تراكمها واجتماعه فيها .
____________________
(1/585)
وما فضل عن الطحال إلى فم المعدة ، ليسده بقبضه ويدغدغه بحموضته ، فيفتق بذلك الشهوة للطعام وينبهها ، وعضل المقعدة وعنق المثانة ، ليضبطها إلى وقت الارادة . والصفاق وما ينبع منه من أغشية آلات الغذاء والمذاق ، وضلوع الخلف لوقاية هذه الأعضاء وحفظها من كثرة الآفات الواردة عليها من الخارج . والانثيان هما العضو الرئيس في آلات التناسل ، والرحم ، لتوليد الجنين ، والثديان لتربيته بأعداد اللبن الذي هو غذاؤه . والقلب ، هو العضو الرئيس في آلات الحياة ، بل هو الرئيس المطلق ، لأنه ينبوع الحار الغريزي ، الذي به تكون حياة سائر الأعضاء ، أعني : اغتذاءها ونموها واستعدادها لقبول الحس والحركة الارادية . وما يحيط به من الأغشية وأضلاع الصدر ، لحفظه ووقايته والشرايين النابتة منه ، لتؤدي الحار الغريزي ، وتوزعه على سائر الأعضاء . والحجاب وعضل الصدر والرئة ، لتورد عليه بالانبساط هواء باردا ، يعدل التهاب حرارته واشتعالها ، ويخرج عنه بانقباضها البخار الدخاني المؤدي له . والرئة مع ذلك تعد له من الهواء ما يتراوح به إذا اضطره سبب لامساك النفس ، كالغوص في الماء ونتن الهواء والتصويت الطويل . واللهاة ، لتكبس برد الهواء ، لئلا يفرغ الرئة فجأة ، ويرد ما يخالطه من الغبار ونحوه عنها . والدماغ ، هو العضو الرئيس في الآلات النفسانية ، لأنه أصل القوى الحاسة والمتحركة بالارادة ، لوقايته من أذى صلابة العظام المطيفة به ، وتلك العظام وما يطيف بها تقيه من أذى كثير من الواردات عليه من خارج .
____________________
(1/586)
وآلام الرقيقة من أميه مع وقايتها له تربط العروق الساكنة والضاربة الصائرة إليه ، لتوصل إليه الغذاء . والحار الغريزي يحفظ أوضاعها ، بانتساخها فيها . والنخاع كخليفة ووزيره ، فيما ينبت منه من الأعصاب الواصلة إلى الأعضاء البعيدة ( لوحة 370 ) منه ، لما يخشى من فساد حالها ، بطول المسافة ، بين تلك الأعضاء وبينه ، لو كانت منه نفسه ، دون واسطة ، ولما تدعو إليه الحاجة ، من زيادة صلابتها عما ينبت منه من الأعصاب النابتة منه ومن النخاع ، ليؤدي عنه نفسه ، وبواسطة النخاع ، قوى الاحساس الظاهرة ، والتحريك الارادي إلى سائر الأعضاء المعدة لقبولها . وآلات الحواس الخمس الظاهرة ، لتؤدي إليه آثار محسوساتها وصورها ، فتجتمع في الحس المشترك ، وترتسم في التخيل بعد غيبتها عن الحواس ، وتتصرف فيها القوة الفكرية ، وتتطرق منها إلى معرفة أمور أخرى من أمور الصناعات والعلوم ، وتحفظها بالقوة الحافظة . وثقب العظام الشبيهة بالمصافي ، التي بينه وبين المنخرين ، لشم الهواء ودفع فضوله الغليظة الأرضية . وأعضاء البدن : أما كبار كالعينين واليدين ، وأما صغار كالظفر من اليد والغشاء الملتحم من العين . فالكبار أعدت لفعل فعل من أفعال الحيوان ، كالعينين للابصار ، واليدين للامساك . والصغار هي أجزاء عضو عضو من أعضائه الكبار ، وجعلت على ما هي عليه بالطبع من الهيئات والمقادير والأحوال والأوضاع .
____________________
(1/587)
وقوام الجوهر من أجل فعل العضو التي هي أجزاؤه ، وكلها مترافدة ، لاستتمام ذلك الفعل ، كطبقات العين ورطوباتها وسائر أجزائها . فإن منها ما يكون به الابصار ، كالرطوبة الجليدية ، ومنها ما يجود به الابصار ، وتكمل فضيلته ، كالعشي العيني . ومنها ما يحفظ هذه ويوقيها ، كالغشاء الملتحم . ومنها ما له فوائد أخرى يطول شرحها . وفي هيئات الأعضاء وأوضاعها حكم عجيبة ، لو ذكرتها لطال الكتاب ، وكذلك في أوضاع الأفعال وقواها . واعتبر وضع الكف والأصابع وكون الابهام ، في غير سمتها ، وتفاوت الأربع غيره في الطول وترتيبها في صف واحد ، إذ بهذا الترتيب صلحت اليد للقبض والاعطاء فإن بسطها كانت له طبقا ، يضع عليه ما يريد ، وأن جمعها كانت آلة للضرب ، وأن ضمها ضما غير تام كانت مغرفة له ، وأن بسطها وضمم أصابعها كانت مجرفة له . ثم خلق الأظافر على رؤسها زينة للأنامل ، وعمادا لها من ورائها ، وليلتقط بها الأشياء الصغار التي لا تتناولها الأنامل ، وليحك بها بدنه عند الحاجة ، إذ لا يقوم أحد مقامه في حك بدنه . وكذا هيئة الاسنان ، وكون الثنايا والرباعيات تماس ويلاقي بعضها بعضا في حالة العض على الأشياء ، بجذب الفك إلى قدام ، ورجوعها إلى مكانها عند المضغ والطحن . وكون أصول الأضراس أكثر من سائر الأسنان ، بحسب شدة عملها ودوامه ، وما في العلو منها أصوله أكثر ، لتعلقه . ثم انظر كيف ينحفظ الغذاء الرطب واليابس في المعدة ، إلى حين انهضامه الهضم المتعلق بالمعدة ، فإذا تم ذلك الانهضام ، انفتح البواب الذي في أسفل المعدة ، فيخرج ما فيها إلى المعى .
____________________
(1/588)
وقد خلق أعضاء كل حيوان ، بحسب ما يوافق طباعه ، كالمخاليب والأنابيب للمفترس ، وآلات السباحة للسابح الذي مسكنه الماء ، وعلى هذا سائرها . وكل ذلك من نطفة داخل الرحم . وهذا الذي قد ذكرته هو قطرة من بحر منافع الأعضاء ، وما فيها ، وفي أفعالها من عجائب الحكم . ونعم الله تعالى خارجة عن حصرنا وأحصائنا . وليس ذلك مخصوصا بالحيوان الكبير والمتوسط ، بل الحيوانات الصغار أيضا كالنمل والبعوض ، فإن فيها من آثار عناية الباريء عز وجل ، في خلقتها والهامها مصالحها ، ما لا يكاد أن يغفل عنه إلا البليد . انظر إلى خرطوم البقة ، كيف يجذب به الدم من البشرة ، لغذائها ، وكيف قد ألهمت أن تغيصه في الجلد واللحم ، وتمص به الدم الموافق لها . وكيف قد خلق فيه مع لينه قوة يتمكن بها من الغوص في البشرة الحاسية . وانظر إلى العنكبوت وتسديته ما يصاد به الذباب بالحيلة اللطيفة والالهام العجيب . ومن آثار العناية في النبات ، ما يرى من عرقه الناشب في الأرض ، لاجتذاب الماء من أعماقها ، مخلوطا بما يجري عليه وينجذب منه ، من لطائف الأرض ، في انجذابه وسيلانه ، حتى يصير غذاء له ، ثم يحمله إلى الساق الواحد ، الذي يصير كأرض فوق الأرض ، بل يصير واسطة بين النبات وبين الأرض ، حتى نقل مواضع الثمر من الشجر عن الأرض إلى الجو الذي يلقاه فيه الهواء المنضج الملطف ، ثم تتفرق الأغصان في الجهات ، حتى لا تتزاحم الثمار وتكثر ، بقدر كثرة المادة ، التي تحملها الساق من تلك العروق ، من تلك المياه الغائرة ، فعرقها ناشب في الأرض ، لأخذ المادة الجسمانية ، وفرعها صاعد ( لوحة 371 ) في الجو لاستمداد القوى الروحانية ، فيعيش هذا بإمداد هذا ، وهذا بإمداد ذاك .
____________________
(1/589)
أحدهما بالروح الهوائية النارية ، والآخر بالمادة المائية الأرضية ، ويجتمع لهما معا بذلك قبول القوى الفعالة السماوية ، حتى نرى النخلة تموت بقطع القلب الذي هو الرأس الأعلى ، وتجف العروق الناشبة في الأرض السفلى مع بقاء المادة عندها ، كما يموت القلب بانقطاع العروق الممدة أيضا . هذا ، ولا يعرف أحدهما مصلحته بالآخر ، وكذلك ترى الأشخاص للانواع مسخرة في الايلاد باستثمار النبات ، واستنتاج الحيوانات ، من غير أن يعرف من المسخر وقد سخر . وكذلك أيضا باللذة الموجودة في حركة الجماع للذكر في الاعطاء ، وللأنثى في القبول . وقد أودع في النبات منافع كثيرة وطبائع غريبة وخواص عجيبة ظاهرة في بدن الانسان ، وفي غيره ، يعرف بعض ذلك من كتب الطب وغيرها . ولما كان النبات غير متنفس كان منكوس الرأس ، وهو أصله الذي في الأرض ، وإذا قطع بطلت قواه . والحيوان غير الناطق لما كان أتم منه ، كان رأسه من التنكس إلى التوسط ، ولكنه ما استقام . والإنسان لما فضل عليهما صار رأسه إلى السماء وانتصبت قامته . فهو لا يعطي الاشياء من الكمالات ألا بحسب ما يلائمها . ومن العناية تصريف الرياح وسوق السحب بها ، إلى المواضع النائية عن مواضع ارتقائها . ونزول الغيب الذي ينتفع به النبات والحيوان . واذا اعتبرت سائر حوادث الجو وما يتكون في الأرض وتحتها ، لم تجده خاليا من حكمة بالغة ونفع عظيم .
____________________
(1/590)
وكذلك إذا نظرت إلى البحار وعظمها وما يتكون منها . ومن عناية الباريء - جلت عظمته - أن المادة لما امتنع قبولها لصورتين معا ، وكان الجود الالهي تقتضيا لتكميلها بإخراج ما منها بالقوة من قبول الصور ، إلى الفعل ، قدر بلطيف حكمته زمانا غير منقطع في الطرفين تخرج فيه تلك الأمور من القوة إلى الفعل واحد بعد واحد ، فتصير الصور في جميع ذلك الزمان موجودة في موادها ، والمادة كاملة بها . ولما لم يكن لتجدد الفيض بد من تجدد أمر ما ، وجدت أشخاص علوية دائرة لأغراض علوية يتبعها استعداد غير متناه ، ينضم إلى فاعل غير متناهي الفعل ، وقابل غير متناهي القبول ، فلا يزال الخير راشحا أزلا وأبداً . ويحصل الفيض على كل قابل بحسب استعداده . ومما اقتضته العناية الالهية ، أن جعلت الاجرام النيرة من السمائيات متحركة غير ثابتة ، ولو ثبتت لاثرت بإفراط وتفريط ، وأحرقت كل ما يدوم مقابلتها له ، ولم يلحق أثرها غيره . ولو كانت الافلاك كلها نيرة ، لاحرقت بالشعاع ما دونها ، ولو عريت كلها عن النور ، لعمت الظلمة كل ما في عالم الكون والفساد . ولو تحركت السماويات حركة واحدة للازمت دائرة ، ولم يصل أثر الشعاع إلى نواحيها ، فالحكمة الربانية أوجبت أن يكون لها حركة سريعة ، وحركة أخرى أبطأ منها ، أو حركات أخرى كذلك لكل فلك من الأفلاك التي نعرفها . وبالحركة التي هي أبطأ تميل الأجرام النيرة إلى جانبي الجنوب
____________________
(1/591)
والشمال ، ولولا هذا الميل لتشابهت فصول السنة في الحر والبرد دائما ، في جميع المواضع من الأرض . وما من كوكب من الكواكب إلا ولله تعالى حكم كبيرة ، في خلقه ، ثم في مقداره وشكله ولونه ووضعه من غيره . وقس ذلك بأعضاء بدنك ، إذ ما من جزء إلا وفيه حكمة بل حكم كثيرة . وأمر السماء أعظم ، بل لا نسبة لعالم الأرض إلى عالم السماء ، لا في كبر جسمه ولا في كثرة معانيه . وعجائب السموات والأرض يطول الكلام في استقصاء ما نعرفه منها ، فكيف ما لا نعرفه ؟ ! . هذا مع أن القدر الذي نعرفه منها هو من القلة والحقارة بالقياس إلى ما نجهله ، بحيث لا نسبة لأحدهما إلى الآخر يعتد بها . واعتبر في ذلك بنسبة بدنك إلى عالم العناصر ، ونسبة العنصريات إلى الجرم المحيط بكل الأجرام ، ونسبة جرم الكل إلى نفس الكل ، ونسبتها إلى عالم العقول ، لا سيما العقل الأول منها . وانظر كيف نسبة ذلك أجمع إلى جناب ' الكبرياء ' ، أعني : القيوم الواجب لذاته . وكل ما هو أدون من هذه فهو منطو في قهر الأعلى منه . فالأجسام العنصرية منطوية في قهر الأجسام السمائية ، وجميع الأجسام منطوية في قهر النفوس المنطوية في قهر العقول ، والجميع منطو في قهر القيوم الواجب الوجود . والكل متلاش في جبروته وعظمته ، مشمول من جهة حكمته وعنايته
____________________
(1/592)
بنظام واحد حكمي ، يربط بعضه ببعض ، وينقسم في ( أقسامه ويتجزأ في ) أجزائه على وفق انقسامها ، وتجزئها ، كليا في الكلي ، وجنسيا في الأجناس ، ونوعيا في الأنواع وأنواع الأنواع ، ( لوحة 372 ) حتى انتهى إلى الأصناف والأشخاص وأجزاء الأجزاء . حتى ينتهي في الدقة إلى ما يعجزنا معشر البشر معرفته ، كما جل ، إلى ( أن ) بهرتنا عظمته . ومن هذا الارتباط الحكمي في أجزاء العالم ، استدللنا على وحدة صانعه ومدبره ، الذي يسوق المباديء إلى غاياتها ، والأوائل إلى نهاياتها ويجمع بينها على وجه يستبقي بعضها ببعض ، وينتفع جزء منها بآخر . فإن خالق النظام في أفعال الأنواع ، هو واجد للأنواع الكثيرة . والجامع في ذلك بين الأفعال السماوية والأرضية ، هو واحد في السماء والأرض . فذلك الواحد هو مدبر الكل ، وهو معلم المعلمين بأسرهم ، ومسدد أفعال الفاعلين جميعهم ، لا إله غيره . وما في العالم من النظام والاتقان يدل على الأخير في الامكان إلا ويتعلق به علم الخالق الواحد ، وإرادته وقدرته وجوده تقتضي إيجاده ( أولا ) . ولا شيء في الامكان إلا ويتعلق به علمه ، ورحمته تقتضي دفعة ، فلو أمكن وجود عوالم كثيرة ، لكانت كلها من خلقه . ولا يمكن وجود إله آخر ، وإلا لزم التمانع والتعارض ، الممتنعين ، وهذا مما تثبت به وحدانية الصانع ( تعالى ) . ولو أمكن أكثر من واجب واحد ، فكيف وذلك غير ممكن على ما سبق بيانه .
____________________
(1/593)
نتائج البحث وقد سبق في مباحث النفس وغيرها ، ذكر كثير مما يستدل به على عناية الباريء ، جلت عظمته . ولا يمكن نسبة هذه العناية والحكمة إلى واسطة ، من غير أن تنسب إليه ، فإن موجد الأثر المحكم أبلغ في الأحكام من أثره . ولا بد من الانتهاء إلى الموجد المحيط علمه ، الكامل قدرته ، البالغة حكمته ، وهو الاله تعالى . والشر الذي في العالم لا يقدح في عناية الواجب ، وإن كان داخلا في القضاء الالهي . فإن من الأحوال ما لا علة مستقلة لها ، ولا هي بجعل جاعل مغاير لفاعل الماهيات ، التي تنسب تلك الأحوال إليها . فإنه من المعلوم أن الماهيات الممكنة ليس لها في ذواتها ، وفي كونها ممكنة سبب ، ولا في حاجتها إلى علة لوجودها سبب ، ولا لكون المتضادين متمانعين في الوجود علة ، ولا لقصور الممكن عن الوجود الواجب لذاته أو نقصانه عن رتبته علة ، وكذا كون النار محرقة ، وكون القطن قابلا لأن يحترق بها ، فإن كل ذلك من مقومات الماهيات ، وطبيعة الامكان ، أو من لوازمها . ومثله كون إحدى غايات بعض الموجودات مضرة ببعض آخر منها ، أو مفسدة لها . كما أن غاية القوة الغضبية مضرة بالعقل ، وإن كنت خيرا ، بحسب تلك القوة . وقد عرفت كيفية لزوم الضروريات للغايات ، فكل ما وجوده على كماله الأقصى ، وليس فيه ما بالقوة ، فلا يلحقه شر ، فإن الشر هو عدم وجود ، أو عدم كمال وجود ، فليس هو أمرا وجوديا ، بل هو عدمي . ولو كان وجوديا لكان إما شرا لنفسه أو لغيره ، فإن كان لغيره : فإما لأنه يعدم ذلك الغير ، أو بعض كمالاته ، أو لا لأنه يعدم ذلك ، فإن
____________________
(1/594)
أعدم فليس الشر إلا عدم ذلك الشيء ، أو ما هو كمال له ، وإن لم يعدم ، فلا يتصور أن يكون شرا ، لما فرض أنه شر له ، لأنا نعلم أن ما لا يخل بذات شيء ، ولا بوجود كمال لشيء كيف كان ، فإن وجوده لا يستضر به ذلك الشيء . وإن كان شرا لنفسه فهو باطل أيضا ، لأن وجود الشيء لا يقتضي عدم نفسه ، ولا عدم شيء مما يكمله ، ولو اقتضى ذلك لكان الشر هو ذلك العدم لا هو ، على أن اقتضاء ذلك غير معقول . فإن الأشياء طالبة بطباعها لكمالاتها ، لا مقتضية لعدمها من حيث هي كمالات . وإذا بطل على تقدير وجوده أن يكون شرا لغيره أو لذاته ، فليس بشر أصلا ، فلو كان موجودا لما كان شرا ، فهو إذن عدمي منبعه الامكان والعدم لا غير ، لأنه لا يعرض إلا لما بالقوة ، وما بالقوة فلا ينفك عن الامكان والعدم ، من حيث هو بالقوة . وما هو شر بالقياس إلى بعض الأمور ، فليس يخلو من خير ، يعلم ذلك من لزومه عن الخير المطلق . فالخير مقتضي بالذات ، والشر مقتضى بالعرض ، وليس إذا كان شيء بالقياس إلى أمر شرا ، فهو شر ، في نظام الكل ، ولا شر بالقياس إلى الكل . والشخص وإن كان بالنسبة إلى شخص آخر ناقصا ، فهو في ذاته كامل ، وكذلك النوع إذا كان ناقصا بالقياس إلى نوع آخر ، والظلم وإن كان شرا فهو بالقياس إلى القوة الغضبية خير ، وليس يمكن تبرئة هذه الخيرات وأمثالها عن الشرور ، فإن الخير المبرأ عن الشر ، وإن وجب في الوجود المطلق فلا يجب في وجود وجود ، فقد أوجد ما أمكن أن يوجد ، غير خال من الشر . ولو لم يوجد هذا الثاني ، لكان الشر أعظم ، فإن وجود هذا النمط لا يخلو من خير ، وإنما الشر الذي فيه بحسب العدم الذي يتخلله ، فلو كان كله معدوما ، لكان أولى بأن يكون شرا .
____________________
(1/595)
ولو وجدت الأمور كلها بريئة من الشر ( لوحة 373 ) ، وعلى حالة واحدة وصفة واحدة ، لكانت الماهيات واحدة ، ولم يكن نقصانها عن مرتبة ' الأول ' - تعالى - متفاوتا ، وكما أن ماهيات الأنواع تتفاوت في ذلك ، فكذلك ماهيات الأشخاص التي تحت الأنواع . والنوع المفسد للانسان مثلا ، هو في ذاته كامل ، وإنما يعده من الشر من يظن خلق العالم ، إنما هو لأجل الانسان ، لا غير ، وليس كذا . ولما وجب وصول بعض الأجسام الكائنة الفاسدة ، إلى بعض ، حتى يحصل المزاج ، لزم أن يفسد بعضها بعضا . وذلك كوصول النار إلى ثوب إنسان ، فتحرقه ، فمن المحال أن تكون النار نارا والثوب ثوبا . وهذا النظام الفاصل هذا النظام ، ثم يصل إليه ، فلا يحترق . ومحال ألا يكون للنار وصول إلى الثوب ، تحت هذه الحركات التي هي أفضل أنواع الحركات . فمثل هذا الشر بالضرورة ، من لوازم العناية ، ويمتنع أن يكون مقتضى جميع الحركات واحدا ، بل مقتضى كل حركة غير مقتضي الأخرى ، فيكون مقتضى واحدة موافقا ، ومقتضى الأخرى غير موافق . فلهذا وجب أن تكون الأمور المنسوبة إلى الشر موجودة ، في هذا النظام وكله حكمة وخير . ولما لم يكن في وجود الانسان ، من وجود قواه المتضادة ، ولم يمكن تعادلها ، حتى لا يغلب أحدها الآخر ، وإلا كانت الأشخاص واحدة ، وجب من ذلك أن تتأدى أحوال بعض الناس ، إلى أن يقع لهم عقد ضار في المعاد وفي الحق ، أو فرط شهوة أو غضب ضارين لذلك الانسان ولغيره . ولا تجد شيئا مما يقال له شر من الأفعال ، ألا وهو كمال لسببه الفاعل ، وعسى أنه شر بقياس القابل أو بقياس فاعل آخر يمنع عن فعله في تلك المادة .
____________________
(1/596)
والشر الذي سببه النقصان والقصور واقع في الجبلة ، فليس ذلك بالحقيقة خيرا بالقياس إلى شيء ، وليس هو ، لأن فاعلا فعله ، بل لأن الفاعل لم يفعله ، فلا ينسب إلى الواجب إلا بالعرض . وأما الشرور المتصلة بالخيرات فأقلية . ولا يوجد ما كله شر ، ولا ما يغلب شره ، أو يكون الخير والشر فيه متساويين . ولا يوجد الشر إلا في عالم الكون والفساد ، لأجل التضاد الضروري ولو كان عالم الكون والفساد كله شرا ، لكان شيئا قليلا ، غير معتد به ، بالنسبة إلى كل الوجود ، فكيف والسلامة فيه غالبة ! إذ لا توجد هذه الشرور إلا في حق الحيوانات ، وهي أقل ما في الأرض ، والذي لا يسلم منها ، فإنه في أكثر أحواله يسلم . وإنما يستضر في بعض الأحوال ، وفي بعض الصفات ، لا في الكل . والمرض والألم ، وإن كانا كثيرين ، إلا أن الصحة والسلامة أكثر ، فالخير غالب والشر نادر . وكما أن حال الأبدان على أقسام ثلاثة ، بالغة في الكمال ، ومتوسطة على مراتب مختلفة ، وشديدة النزول ، فكذلك أحوال النفوس في الآخرة . ولا شك أن المتوسط . غالب ، والطرفان نادران . وإذا أضيف إلى الوسط ، الطرف الفاضل ، صار لأهل النجاة غلبة وافرة . ومراتب الناس في الآخرة ، كمراتبهم في الدنيا ، ومراتب السعادات والشقاوات كثيرة . والملكات الرديئة والهيئات المزعجة ، هي بنفسها الموجبة للألم ،
____________________
(1/597)
كما يوجب النهم المرض ، لا لمسقم من خارج ، يؤثر الأذى . ورحمة الله وسعت كل شيء . ومن علم أن مدبر الدنيا والآخرة واحد ، وأنه غفور رحيم ، لطيف بعباده ، متعطف عليهم ، وتأمل ما أنعم به على الانسان من : صحة البدن ، وسلامة الأعضاء ، ثم بعثه الأنبياء ، لهدايته ، ثم خلق الأطعمة والأشربة والأدوية ، لأجله ، وما ألهمه من التدبيرات المتجعة ، والدعوات المستجابة ، أوجب له ذلك التأمل ، وثوقا تاما ، وطمأنينة ( تامة ) إلى سعة رحمة الله تعالى ، في الآخرة . فأسألك اللهم ! : أن تجعلني من أهلها ، وأن تنفعني بما علمتني ، وأن تجعله يوم القيامة ، حجة لي ، لا علي ، وأن تغفر لي خطيئتي يوم الدين ، وأن تعصمني بنور هدايتك ، من ورطات المضلين ، وأن تبلغني درجات الصادقين المخلصين ، وتوفقني بجودك لما أكون به في دار الخلود من الآمنين ، وبسعادة الأبد من الفائزين ، وتدخلني في زمرة عبادك الصالحين ، برحمتك يا أرحم الراحمين ! ويا أكرم الأكرمين . والحمد لله رب العالمين ، وصلواته على ملائكته المقربين ، وأنبيائه وأوليائه ، أجمعين . تم - والحمد لله حمد الشاكرين - بخط أفقر العباد لعفو ربه : عبد العزيز بن الخيمي المارداني . لنفسه . وذلك بدار السلام - بغداد - في شهور سنة أحدى وتسعين وستمائة هجرية . نفعه الله بالعلم والعمل به وبأهله ، ولمن قرأ فيه ، ودعا له بالمغفرة . ' تم الكتاب بحمد الله تعالى '
____________________
(1/598)