نازعته أردانه فلبستها ... مع ظبية في (1) عيشنا الفينان
تنسي الحليم من الرجال معاده ... بين الغناء وعودها الحنان
حتى يعود كأن حبة قلبه ... مشدودة بمثالث ومثاني
ظلت تغنيني وتعطف كفها ... بالعود بين الراح والريحان
فسمعت ما أبكى وأضحك سامعاً ... فسكرت من طرب ومن أشجان
ومشيت في لجج الهوى متبختراً ... ومشى إلي الموت (2) في ألوان
فعلمت أن قد عاد قلبي عائد ... من بين عودٍ مطرب وبنان ومنه:
إذ نحن نسقاها شمولاً قرقفاً ... تدع الصحيح بعقله مرتابا
حمراء مثل دم الغزال وتارةً ... بعد المزاج تخالها زريابا
من كف جارية كأن بنانها ... من فضةٍ قد قمعت عنابا
تزداد (3) حسناً كاسها في كفها ... ويطيب منها نشرها أحقابا
وإذا المزاج علا فشج جبينها ... بقيت بألسنة المزاج حبابا
وتخال ما جمعت فأحدق سمطه ... بالطوق ريق جنادبٍ (4) ورضابا
والعود متبع غناء خريدة ... غرداً (5) يقول كما تقول صوابا
وكأن يمناها إذا نطقت به ... تلقي على يدها الشمال حسابا وكانت وفاته بعد المائتين، رحمه الله تعالى.
__________
(1) ص: طيبة في؛ ر: طيبة من.
(2) الأغاني: اللهو.
(3) ص: يزداد.
(4) الأغاني: حبائب.
(5) غزراً؛ ر: عرراً، والتصويب عن الأغاني.(2/457)
(1) 330
علوان الأسدي
علوان بن علي بن مطارد الأسدي الضرير؛ سمع منه سلمان الشحام، وكانت وفاته سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، رحمه الله تعالى.
ومن شعره:
أوجهك أم شمس النهار أم البدر ... وثغرك أم در وريقك أم خمر
وقدك أم غصن ترنحه الصبا ... وغنج أراه حشو جفنك أم سحر
تبدى لنا والليل ملقٍ جرانه ... فعاد نهاراً قبل أن يطلع الفجر
أعاذلتي ما أقتل الحب للفتى ... إذا كان من يهواه شيمته الغدر
ويا معشر العشاق ما أعجب الهوى ... يرى مرة عذباً وأعذبه مر
ولم أنس حالي يوم زمت ركابهم ... أقام بجسمي الضر وارتحل الصبر
فما للنوى لا ألف الله شملها ... وما لغراب البين لا ضمه وكر
وليلٍ كيوم الحشر معتكر الدجى ... طويل المدى لا يستبين له فجر
أراعي نجوماً ليس يلفى زوالها ... ولا مؤنس إلا التسهد والفكر
أرى أسهم الأيام تقصد مهجتي ... كأن صروف الدهر عندي لها وتر
ألا أيها الدهر المكدر عيشتي ... رويدك مثلي لا يروعه ذعر
أتحسب أن ألفى لغدرك ضارعاً ... فأنى وفخر الدين لي في الورى ذخر ومنه في غلام أسود:
سواد عيني فدى أسودٍ ... في داخل القلب له نقطه
__________
(1) نكت الهميان: 203 والزركشي: 229.(2/458)
البدر ما استكمل في حسنه ... حتى اكتسى من لونه خطه
مخطط بالحسن لكنما ... قلبي في الخطة في خطه 331 (1)
الباز الأشهب
علوي بن عبد الله بن عبيد، الشاعر الحلي المعروف بالباز الأشهب؛ كان أديباً متفنناً مليح الإيراد للشعر، توفي سنة ست وتسعين وخمسمائة ببغداد، رحمه الله تعالى.
ومن شعره:
سل البانة الغناء هل مطر الحمى ... وهل آن للورقاء أن تترنما
وهل عذبات الرند نبهها الصبا ... لذكر الصبا قدماً فقد كنا نوما
وإن تكن الأيام قصت جناحها ... فقد طالما مدت بناناً ومعصما
بكتها الغوادي رحمةً فتنفست ... وأعطت رياض الحزن سراً مكتما
وشقت ثياباً كن ستراً لأمرها ... فلما رآها الأقحوان تبسما
خليلي هل من سامعٍ ما أقوله ... فقد منع الجهال أن أتكلما
عرفت المعالي قبل تعرف نفسها ... ولا سفرت وجهاً ولا فغرت فما
وأوردتها ماء البلاغة منطقاً ... فصارت لجيد الدهر عقداً منظما
وكانت تناجيني بألسن حالها ... فأدرك سر الوحي منها توهما
فما لليالي لا تقر بأنني ... خلقت لها منها بدوراً وأنجما
ورب جهولٍ قال لو كان صادقاً ... لأمكنت الأيام أن يتقدما
__________
(1) الزركشي: 229.(2/459)
ولم يدر أني لو أشاء حويتها ... ولكن صرفت (1) النفس عنها تكرما
أبى الله أن ألقى بخيلاً بمدحه ... وقد جعل الشكوى إلى المدح سلما
إذا المرء لم يحكم على النفس قادراً ... يمت غير مأجورٍ ويحيى مذمما
سلام على الماء الذي طاب مورداً ... وإن صيرته وقفة الذل علقما
فقد كنت لا أبغي سوى العز مطعماً ... ولا أرتضي ماءً ولو بلغ الظما
وكنت متى مثلت للنفس حاجةً ... أرى وجه إعراضي ولو كان أينما
وأحسب أن الشيب غير حالتي ... وصير حلي الغانيات محرما 332 (2)
ابن سعد الخير
علي بن إبراهيم بن محمد بن عيسى بن سعد الخير، أبو الحسن الأنصاري البلنسي؛ كان مع تقدمه في العربية وتفننه في الآداب منسوباً إلى غفلة تغلب عليه، وله رسائل بديعة وتواليف: منها كتاب الحلل في شرح الجمل للزجاجي، وكتاب جذوة البيان وفريدة العقيان وكتاب القرط على الكامل؛ وتوفي سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، رحمه الله تعالى.
ومن شعره (3) :
ألا سائل الركبان هل ظل لعلع ... كما كان مطول الصائل سجسجا
وهل وردوا ماء العذيب مناهلاً ... اذا صافحت كف النسيم تأرجا
__________
(1) ر: صدفت.
(2) الزركشي: 230 وزاد المسافر: 103 والمقتضب من التحفة: 51 والتكملة رقم: 1867 والذيل والتكملة 5: 187 والمغرب 2: 317 ونفح الطيب 3: 602، 604.
(3) لم ترد هذه القطعة في المطبوعة.(2/460)
وعن جزعات الحي مالي وما لها ... تجدد لي شوقاً إذا الركب عرجا
وعن أثلات الجزع هل مال ظلها ... وهل تخذت ريح الصبا منه مدرجا
لئن ظمئت نفسي إليها فطالما ... وردت بمغناهن أشنب أفلجا
بحيث يشف الستر عن ماء مبسمٍ ... أرى باب صبري عنه أبهم مرتجا وقال:
بأبي من بني الملوك غرير (1) ... قد ترديت فيه برد التصابي
ضاعفت حسنه ضفيرة شعرٍ ... هي منه طراز برد الشباب
تتلوى على الرداء مراحاً ... كحبابٍ ينساب فوق حباب وقال في سحابة:
وساريةٍ سحبت ذيلها ... وهزت على الأفق أعطافها
تسل البروق بأرجائها ... كما سلت الزنج أسيافها وقال:
بدا البدر في أفقه لابساً ... ثياباً من الشفق الأحمر
فشبهته والدجى حائل ... عروساً تزف إلى أسمر وقال في رمانة مفتحة:
وساكنة من ظلال الغصون ... بخدر تروق أفنانه
تضاحك أترابها عندما ... غدا الجو تدمع أجفانه
كما فتح الليث فاه وقد ... تضرج (2) بالدم أسنانه وقال في إبرة في لباد أحمر:
__________
(1) ص: غزيز؛ ر: غزير.
(2) ص: تضرم.(2/461)
ومخيطٍ ضاق عنه وصفي ... يعجز عن فعله اليماني
يكمن في لبدة ويبدو ... كالعرق في باطن اللسان وقال في حقلة كتان اصطفت بها غربان (1) :
ومخضرة الأرجاء قد طلها الندى ... وقابلها أنف الصبا بتنفس (2)
تبدى بها سطراً دقيقاً (3) كما بدت ... ضفيرة شعرٍ (4) فوق بردة سندس وقال:
لله دولاب يفيض بسلسلٍ ... في روضة قد أينعت أفنانا
قد طارحته بها الحمائم شجوها ... فيجيبها ويرجع الألحانا
فكأنه دنف يدور بمعهدٍ ... يبكي ويسأل فيه عن من كانا
ضاقت مجاري جفنه عن دمعه ... فتفتحت أضلاعه أجفانا وقال في مليح أرمد، وقد لبس ثياباً حمراً (5) :
ومهفهفٍ يجري بصفحة خده ... ولماه من ماء الحياة عبابه
ما زال يهتك باللحاظ قلوبنا ... حتى تضرج طرفه وثيابه
فبدا بحمرة ذا وحمرة هذه ... كالسيف يدمى حده وقرابه
__________
(1) ر: غزلان.
(2) ص: يتنفس.
(3) دقيقاً: سقطت من ر ص.
(4) ص: ظفيرة شعره.
(5) ص: حمر.(2/462)
(1) 333
ابن الثردة الواعظ
علي بن إبراهيم بن علي بن معتوق بن عبد المجيد بن وفا، المعروف بابن الثردة الواعظ الواسطي الأصل البغدادي المنشأ؛ سألته عن مولده فقال: بكرة الإثنين ثاني عشرين شعبان سنة سبع وتسعين وستمائة.
قدم إلى دمشق مرات ووعظ بها بالجامع الأموي، ثم حصل له خلط سوداوي فتغير حاله، وكان يدعي في هذه الحالة أنه كانت له ببغداد كتب تقدير ألفي مجلدة، وأن جماعة من التجار الذين قدموا دمشق اغتصبوها وقدموا بها دمشق وأباعوها، وكان ذلك كله من مخيلة السوداء، فساءت حاله وأضرت به، والتحق بعقلاء المجانين، وكان يتخذ كارة (2) يحملها تحت إبطه لا يفارقها ليلاً ولا نهاراً، بحيث أنه كان إذا دخل الحمام أو الطهارة يكون جالساً وهي تحت إبطه، وكلما وجد خيطاً أو حبلاً شدها به، فلا تزال في نمو وزيادة وهو حاملها، وكان يقول: لو دفع لي فيها ملك مصر ما أبعتها، ويقول: هي أشهى إلي من خاتمة الخير، والله لو خيرت بين دخول الجنة بلا كارتي أو دخول النار وكارتي معي اخترت دخول النار على دخول الجنة. وكان ينظم الشعر الجيد في هذه الحالة، وكان إذا دفع إليه أحد شيئاً من دراهم أو غيرها لا يقبل منه، ويقول: من أنت؟ أظن عندك شيء من كتبي فأنت تبرطلني على ذلك، ولا يقبل لأحد شيئاً إلا بعد الجهد؛ وكانت وفاته بمارستان ابن سويد في أوائل سنة خمسين وسبعمائة، رحمه الله تعالى.
__________
(1) الزركشي: 230 والدرر الكامنة 3: 76 وفي نسبة ((يعقوب)) بدل ((معتوق)) والفردة بدل ((الثردة)) ؛ وصاحب الدرر ينقل عن الصفدي.
(2) الكارة: مكيال للدقيق أو وعاء.(2/463)
ولما توفي فتحت كارته فما وجد فيها سوى جزاز بخطه وكراريس وعظيات وشعر تغزل وغيره (1) .
أنشدني لنفسه:
أضحى جمالك للورى أعجوبة ... كل الورى قد قيدوا بقياده
فوحق من سواك يا بدر الدجى ... ما أنت إلا فتنة لعباده وقال:
لي حبيب خياله نصب عيني ... أينما كنت وجهه (2) مرآتي
يتجلى لطور سيناء قلبي ... فتراني أخر من صعقاتي
ليتني ما عدمته من حبيب ... أتراءاه من (3) جميع جهاتي
وإذا لاح أو تجلى لعيني ... كدت أقضي من شدة الحسرات
هو ناري وجنتي ومماتي ... وحياتي في السر والخلوات
لست مهما حييت أنساه أصلا ... لا ولا ساعةً من الساعات وأنشدني لنفسه:
سبحان من أبدى جمالك للورى ... عجباً يحار العقل في تصويره
وصفوك غاية وصفهم لكنهم ... لم يدركوا مقدار عشر عشيره
لو كان يوسف في زمانه فقته ... حسناً وكنت تكون فوق سريره
اعطف على عبدٍ ملكت قياده ... فالعبد لم يرحمه غير أميره وأنشدني لنفسه:
يا دار علوة لا عداك غمام ... مني عليك تحية وسلام
__________
(1) بعد هذا في ر: رحمه الله تعالى وعفا عنه.
(2) ر: ووجهه.
(3) ر: في.(2/464)
فلقد تقضت لي بربعك عيشة ... زمن الصبا إذ لست فيك ألام
مع فتية حلوا ببطحاء الحمى ... ولهم بقلبي مربع ومقام
يحمون بالبيض النزيل حمية ... ومن استجار بهم فليس يضام
انظر إليهم كيف تضرم نارهم ... للطارقين إذا ألم ظلام
ترهم إذا ما الليل جن عليهم ... وهم سجود في الدجى وقيام
لولاهم ما كان يعرف ما الهوى ... كلا ولا بيع النفوس يسام وقال أيضاً عفا الله عنه:
بالجامع الأموي ظبي أهيف ... ما في الملاح كحسنه وجماله
هو بدر تم والقلوب بروجه ... يخفي البدور بنور عز جلاله
وإذا تثنى مائساً في مشيه ... فضح الغصون بلينه ودلاله وقال:
ولما تجلى من أحب لناظري ... خررت من الأشواق صعقا إلى الأرض
وإني لأتلو ذكره وحديثه ... وسمعي به يلتذ في النفل والفرض وقال مواليا:
لك وجه يحكي فتات السكر المصري ... وقد يشبه (1) قضيب البان لي يمري
وردف ما ريت مثله قط في عصري ... يا ليته حظ علي بن الثردة المقري وأنشدني لنفسه من موشح:
أيها النائم كم هذا الرقاد ... انتبه كم نوم
انتبه من ذا الكرى يا ذا الجماد ... تلتحق بالقوم
وتأهب لغدٍ يوم المعاد ... يا له من يوم
__________
(1) شبه.(2/465)
وافعل الخير لتحظى بالنجاح ... لا تكن كسلان
واجتهد فالمجتهد يلقى الفلاح ... ويرى الإحسان
قد تقضى العمر دع لهو الصبا ... أيها الغافل
لا تكن ممن إلى الجهل صبا ... تعس الجاهل
كل شيء تهب الدنيا هبا ... ليس بالطائل
كم حريص خلف الدنيا وراح ... لابس الأكفان
وأخو الفقر توفي فاستراح ... قلبه التعبان(2/466)
334 - (1)
المكتفي بالله
علي بن أحمد بن طلحة بن جعفر بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب؛ هو أمير المؤمنين المكتفي بالله ابن المعتضد ابن الموفق ابن المتوكل ابن المعتصم ابن الرشيد ابن المهدي ابن المنصور، الهاشمي العباسي، ولد سنة أربع وستين ومائتين، وتوفي سنة خمس وتسعين ومائتين.
كان معتدل القامة دري اللون أسود الشعر حسن الوجه؛ بويع له بالخلافة عند موت والده في جمادى الأولى سنة تسع وثمانين، وكانت أيامه ست سنين ونصف، ومات شاباً في ذي القعدة، وخلف مائة ألف ألف دينار عيناً، وأمتعة وعقاراً وأواني بمثلها، وثلاثة وستين ألف ثوب وكان يلقب " المترف " لنعمة جسمه وحسنه، وكان نقش خاتمه " اعتمادي على الذي خلقني ".
ومن شعره:
من لي بأن تعلم ما ألقى ... فتعرف الصبوة والعشقا
مازال لي عبداً وحبي له ... صيرني عبداً له حقا
أعتق من رقي ولكنني ... من حبه لا آمن العتقا وله أيضاً:
__________
(1) الزركشي: 231 والروحي: 59 وتاريخ الخلفاء: 405 والفخري: 232 وخلاصة الذهب المسبوك: 237 وراجع التواريخ العامة كالطبري والمسعودي وابن الأثير ... الخ؛ وقد وردت في ر.(3/5)
تلطف في رسولك يا أميري ... فإني من رسولك في غرور (1)
أحمله رسالاتي فينسى ... ويبلغك القليل مع الكثير
وأرسل من إذا لحظته عيني ... حكى لي طرفه ما في ضميري
إذا كان الرسول كذا بليداً ... تقطعت الجوانح في الصدور وفي المكتفي هذا يقول ابن المعتز:
قايست بين جمالها وفعالها ... فإذا الملاحة بالخيانة لا تفي
والله لا كلمتها لو أنها ... كالشمس أو كالبدر أو كالمكتفي وما أحسن قول ابن سناء الملك (2) :
وملية بالحسن يسخر وجهها ... بالبدر، يهزأ ريقها بالقرقف
لا أرتضي بالشمس في تشبيهها ... والبدر، بل لا أكتفي بالمكتفي 335 (3)
الحريري شيخ الطائفة
علي بن الحسن بن منصور، الشيخ أبو الحسن الحريري؛ قال الشيخ شمس الدين: شيخ الفقراء الحريرية أولي الطيبة والسماعات والشاهد، كان له شأن عجيب ونبأ غريب، وهو حوراني من عشيرة يقال لهم " بنو الزمان " بقرية بسر (4) ، وقدم
__________
(1) ر: غروري.
(2) ديوان ابن سناء الملك: 477.
(3) ذيل الروضتين: 180 والبداية والنهاية 13: 173 والشذرات 5: 231 وعبر الذهبي 5: 186 والنجوم الزاهرة 6: 360؛ ووردت في ر.
(4) بسر: من قرى حوران.(3/6)
دمشق صبياً ونشأ بها، وذكر هو أنه من قوم يعرفون ببني قرقر، وكانت أمه دمشقية من ذرية الأمير قرواش بن المسيب العقيلي، وكان خاله صاحب دكان في الصاغة؛ توفي والده وهو صغير، ونشأ في حجر عمه، وتعلم صناعة العتابي وبرع فيها حتى فاق الأقران، ثم صحب الشيخ أبا علي المغربل خادم الشيخ رسلان.
قال الحافظ سيف الدين ابن المجد: علي الحريري وطئ أرض الجبل ولم يمكنه المقام به، والحمد لله، كان من أفتن شيء وأضره على الإسلام، تظهر منه الزندقة والاستهزاء بأوامر الشرع ونواهيه، بلغني من الثقات عنه أشياء يستعظم ذكرها من الزندقة والجرأة على الله تعالى، وكان مستخفاً بأمر الصلاة وانتهاك الحرمات.
ثم قال: حدثني رجل أن شخصاً دخل الحمام، فرأى الحريري في الحمام ومعه صبيان حسان بلا ميازر، فجاء إليه وقال: ما هذا؟ فقال: كأن ليس سوى هذا، وأشار إلى أحدهم: تمدد على وجهك، فتمدد، فتركه الرجل وخرج هارباً مما رأى.
قال الشيخ شمس الدين: رأيت جزءاً (1) من كلامه من جملته: إذا دخل مريدي بلد الروم فتنصر وأكل لحم الخنزير وشرب الخمر كان في شغلي. وسأله رجل: أي الطرقات أقرب إلى الله حتى أسير فيه؟ فقال له: اترك السير وقد وصلت، وهذا مثل قول العفيف التلمساني:
فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن ... إلا إليك إذا بلغت المنزلا وقال لأصحابه: بايعوني على أن نموت يهود ونحشر إلى النار حتى لا يصاحبني أحد لعلة؛ وقال: ما يحسن بالفقير أن ينهزم من شيء، وإذا خاف من شيء قصده؛ وقال: لو قدم علي من قتل ولدي وهو بذلك طيب كنت أطيب منه.
ومن شعره في ذلك الجزء:
__________
(1) ر: جزء.(3/7)
أمرد يقدم مداسي ... أخير من رضوانكم
وربع قحبه عندي ... أحسن من الولدان
قالوا أنت تدعى صالح ... دع عنك هذه الخندقة
قلت السماع يصلح لي ... بالشمع والمردان
ما أعرف لآدم طاعه ... إلا سجود الملايكه
وما أعرف آدم عصى الله ... يعظم الرحمن وله:
إن كنت أقجي (1) تقدم ... وإن كنت رماح انتبه
وإن كنت حشو المخده ... اخرج ورد الباب
أو ذا اشتهي قبل موتي ... أعشق ولو صورة حجر
أنا مثكل محير ... والعشق بي مشغول ومن شعره:
كم تتعبني بصحبة الأجساد ... كم تسهرني بلذة الميعاد
جد لي بمدامة تقوي رمقي ... والجنة جد بها على الزهاد وكان يلبس الطويل والقصير والمدورة والمفرج والأبيض والأسود، والقلنسوة وحدها، وثوب المرأة، والمطرز والملون.
وذكر بهاء الدين يوسف بن أحمد بن العجمي أن القاضي مجد الدين ابن العديم حدثه عن أبيه قال: كنت أكره الحريري وطريقه، فاتفق أن حججت وحج الحريري ومعه جماعة ومردان، فأحرموا وبقوا تبدو منهم في الإحرام أمور منكرة، فحضت يوماً عند أمير الحاج، فجاء الحريري، واتفق حضور إنسان بعلبكي
__________
(1) أوقجي (بالتركية) : رامي السهام.(3/8)
ومعه ملاعق، ففرق علينا كل واحد ملعقتين ملعقتين، وأعطى الشيخ علي الحريري واحدة، فأعطاه الجماعة ملاعقهم تكرمة له، وأما أنا فلم أعطه ملعقتي، فقال لي: يا كمال الدين، لم لا توافق الجماعة؟ فقلت: ما أعطيك شيئاً، فقال: الساعة نكسرهما (1) ، قال: والملعقتان على ركبتي، قال: فنظر إليهما وإذا بهما قد انكسرتا كل واحدة شقفتين، فقلت: ومع هذا فلا أرجع عن أمري فيك، وهذا من الشيطان، أو قال: هذا حال شيطاني.
وذكر النسابة في تعاليقه قال: وفي سنة ثمان وعشرين وستمائة أمر الصالح بطلب الحريري واعتقاله، فهرب إلى بسر، وسببه أن ابن الصلاح وابن عبد السلام وابن الحاجب أفتوا بقتله لما اشتهر عنه من الإباحة وقذف الأنبياء والفسق وترك الصلاة، وقال الملك الصالح: أعرف منه أكثر من هذا. وسجن الوالي جماعة من أصحابه، وتبرأ منه أصحابه وشتموه، ثم طلب وحبس بعزتا (2) ، فجعل أناس يترددون إليه، فأنكر الفقهاء ذلك، وسألوا الوزير ابن مرزوق أن يعلم الواجب فيه، وإلا قتلناه نحن، وكان ابن الصلاح يدعو عليه في أثناء كل صلاة بالجامع جهراً، وكتب جماعة من أصحابه بالبراءة عليه منه.
ولما مات سنة خمس وأربعين وستمائة سن أصحابه المحيا (3) في شهر رمضان كل ليلة سبعة وعشرين، وهي من ليالي القدر، فيحيون تلك الليالي الشريفة بالدفوف والشبابات والملاح بالرقص إلى السحر، وفي ذلك يقول علاء الدين الوداعي (4) :
حاز الحريري فضلاً ... لميت ما تهيا
__________
(1) ر: نكسرها.
(2) كذا وردت في ر، وكذلك هي عند ابن كثير وقال إنها قلعة عزتا.
(3) المحيا: أصبح اسماً لكل ليلة تحييها جماعة من الناس، فهي عند الشيعة في 27 من رجب (انظر دوزي) .
(4) هو علي بن المظفر بن إبراهيم وسيترجم المؤلف له (أنظر رقم: 362) .(3/9)
في كل ليلة قدر ... يرى له الناس محيا وفيه يقول سيف الدين المشد (1) :
سمعت بأن حبركم علياً (2) ... حباه الله منه بالحبور
إذا حضر السماع يتيه عجباً ... بما أوتيه من عزم الأمور
فلا تولوه تعنيفاً ولوماً ... فما تدرون أسرار الصدور
ومن ذا في السماع له مقام ... إذا سمعت مقامات الحريري ورثاه النجم ابن إسرائيل بقصيدته التي أولها:
خطب كما شاء الإله جليل ... ذهلت لديه بصائر وعقول
ومصيبة كسفت لها شمس الضحى ... وهفا ببدر المكرمات أفول
وكبا زناد المجد وانفصمت عرى ال ... علياء واغتال الفضائل غول
وتنكرت سبل المعارف واغتدت ... غفلاً وأقفر ربعها المأهول
ومضت بشاشة كل شيء وانقضت ... فالوقت قبض والزمان عليل
وعلا ملاحات الوجوه سماجة ... وخفيف تلك الكائنات ثقيل
والروض أغبر والمياه أواجن ... ومعاطف الأغصان ليس تميل
والشمع والألحان لا نور ولا ... طرب وليس على الشهود قبول
خطب ألم بكل قطر نعيه ... كادت له شم الجبال تزول
فعلى المعاني والعلوم كآبة ... وعلى الحقائق ذلة وخمول
والسالكون سطت عليهم حيرة ... وغوى لهم نهج، وضل (3) سبيل
والعارفون تنكرت أحوالهم ... فحجاب عين قلوبهم مسدول
ودنان خمر الحب قد ختمت وبا ... ب ألحان مهجور الفنا مملول
__________
(1) هو علي بن عمر بن قزل التركماني، وستأتي ترجمته (رقم: 345) .
(2) ر: خيركم علي.
(3) ر: وظل.(3/10)
ما كنت أعلم والحوادث جمة ... والناس فيهم عالم وجهول
أن الدجى ليس الحداد توقعاً ... لمصابه قدماً وذاك قليل
أو أن صوب المزن حين همى على ... عفر الثرى دمع عليه يسيل
أو أن صوت الرعد حنة فاقد ... فقد العلا فله عليه عويل
أو أن قلب البرق يحقق روعة ... لسماع ما ناعي علاه (1) يقول
أإمامنا يا أوحد العصر الذي ... ما إن له فيمن نراه عديل
يا سيداً ملك القلوب فكلها ... عن حق طاعة أمره مسئول
من يبرد المهج الحرار ومن لها ... ببلوغ آمال الوصال كفيل
أمن يدل السالكين إلى حمى ... ليلى وقد ضل (2) السبيل دليل
أمن يقول الحق لا متخوفاً ... حيث النفوس على السيوف تسيل
أمن يحل المشكلات بلفظة ... يرضى بها المنقول والمعقول
أمن يفي بضمان حان مدامة ... حبل النجاة بدنها موصول
أمن يبيح المفلسين سلافهاً ... ويجول بين دنانها ويصول
أمن يهيم الجمال به صبابة ... فكأنما رب الجمال جميل
يصبوا إليه قلب من هو عند أر ... باب القلوب معشق مقبول
من كل فتاك اللواحظ ما رنا ... إلا تشحط في الدماء قتيل
نشوان عساك المعاطف فاتر ال ... أجفان خمر رضابه معسول
بهواه لا يصغي لقول مفند ... أبداً ولا يثنيه عنه عذول
وغريرة الألحاظ ناعمة الصبا ... ريا الإزار وخصرها مهزول
حوراء مائسة المعاطف طرفها ... سيف على عشاقها مسلول
كل يهيم بحبه، وكذاك من ... ملك الإرادة أمره المفعول
__________
(1) ر: عليه.
(2) ر: ظل.(3/11)
مولاي دعوة من دعته مصيبة ... غطت عليه فعقله معقول
حاشا علاك من الممات وإنما ... هي نقله فيها المنى والسول
ناداك من أحببته فأجبته ... وأتاك منه بالقبول رسول
وحننت نحو حماك حنة صادق ... لم يقتطعه عن حماك بديل
فخلعت هيكلك السعيد مطهراً ... تبدو عليه نضرة (1) وقبول
جسد خلا وحلا وخف كأنما ... قد ضم منه الحامل المحمول
حتى حللت محلك الأعلى الذي ... ما بعده بعد ولا تحويل
فهناك عرس للوصال مجدد ... وسعادة تبقى وليس تزول
جادت ثراك من السحاب ثرة ... وكفت دموع قد وكفن همول
وتعاهدتك تحية وكرامة ... منه يروح بها صباً وقبول
وعدت علينا من حماك تحية ... وبحسبنا من تربك التقبيل واتفق أن ليلة وفاته كانت شاتية مثلجة، فقال ابن إسرائيل:
بكت السماء عليه ساعة دفنه ... بمدامع كاللؤلؤ المنثور
وأظنها فرحت بمصعد روحه ... لما سمت وتعلقت بالنور
أو ليس دمع الغيث يهمي بارداً ... وكذا تكون مدامع المسرور 336 (2)
المسعودي صاحب التاريخ
علي بن الحسين بن علي، أبو الحسن المسعودي المؤرخ، من ذرية عبد الله
__________
(1) ر: نظرة.
(2) لسان الميزان 4: 224 والفهرست: 154 ورجال النجاشي: 178 ومعجم الأدباء 13: 90 وطبقات السبكي 2: 307 والنجوم الزاهرة 3: 315 وانظر بروكلمان 3: 57 (الترجمة العربية) ؛ وقد وردت الترجمة في ر.(3/12)
ابن مسعود رضي الله عنه؛ قال الشيخ شمس الدين: عداده في البغداديين، وأقام بمصر مدة، وكان إخبارياً علامة صاحب غرائب وملح ونوادر، مات سنة ست وأربعين وثلاثمائة.
وله من التصانيف كتاب " مروج الذهب ومعادن الجوهر في تحف الأشراف وملوك " وكتاب " ذخائر العلوم وما كان في سالف الدهور " وكتاب " الرسائل والاستذكار لما مر في سالف الأعصار " وكتاب " التاريخ في أخبار الأمم من العرب والعجم " وكتاب " التنبيه والإشراف " وكتاب " خزائن الملك وسر العالمين " وكتاب " المقالات في أصول الديانات " وكتاب " أخبار الزمان ومن أباده الحدثان " وكتاب " البيان في أسماء الأئمة " وكتاب " الخوارج ".
337 - (1)
ابن هندو
علي بن الحسين بن هندو، أبو الفرج الكاتب الأديب الشاعر، له رسائل مدونة، وكان أحد كتاب الإنشاء في ديوان عضد الدولة، وكان متفلسفاً، قرأ كتب الأوائل على أبي الحسن العامري بنيسابور، ثم على أبي الخير بن الخمار، وكان يلبس الدراعة على رسم الكتاب؛ وكانت وفاته بجرجان في سنة عشرين وأربعمائة.
وكان به ضرب من السوداء، وكان قليل القدرة على شرب النبيذ، فاتفق أنه
__________
(1) اليتيمة 3: 397 وابن أبي أصيبعة 1: 323 وتتمة اليتيمة 1: 134 والزركشي: 231؛ ووردت في ر.(3/13)
كان يوماً عند أبي الفتح بن أحمد كاتب قابوس، فتناشدوا الأشعار، وحضر الغداء فأكلوا وانتقلوا إلى مجلس الشراب، فلم يطق ابن هندو المساعدة على ذلك، فكتب في رقعة ودفعها إليه:
قد كفاني من المدام شميم ... صالحتني النهى وتاب الغريم
هي جهد العقول سمي راحاً ... مثل ما قيل للديغ سليم
إن تكن جنة النعيم ففيها ... من أذى السكر والخمار جحيم فلما قرأها ضحك، وأعفاه من السكر.
ومن شعره:
أرى الخمار ناراً والنفوس جواهراً ... فإن شربت أبدت طباع الجواهر
فلا تفضحن النفس يوماً بشربها ... إذا لم تثق منها بحسن السرائر وقال (1) :
عابوه لما التحى فقلنا ... عبتم وغبتم عن الجمال
هذا غزال ولا عجيب ... تولد المسك في الغزال وقال (2) :
حللت وقاري في شادن ... عيون الأنام به تعقد
غدا وجهه كعبة للجمال ... ولي قلبه الحجر الأسود وقال (3) :
ضعت بأرض الري في أهلها ... ضياع حرف الراء في اللثغة
صرت بها بعد بلوغ المنى ... أجهد أن تبلغ بي البلغه قال (4) :
__________
(1) اليتيمة 3: 398.
(2) التتمة 1: 137.
(3) التتمة 1: 142.
(4) اليتيمة 3: 397 - 398.(3/14)
لا يؤيسنك (1) عن مجد تباعده ... فإن للمجد تدريجاً وترتيبا (2)
إن القناة التي شاهدت رفعتها ... تنمي وتنبت (3) أنبوباً فأنبوبا وقال:
وساق تقلد لما أتى ... حمائل زق ملاه شمولا
فلله درك من فارس ... تقلد سيفاً يقد العقولا وقال:
كل ما لي فهو رهن، ما له ... من فكاك في مساء وابتكار
ففؤادي أبداً رهن هوى ... وردائي أبداً رهن عقار
فدع التفنيد يا صاح لنا ... إنما الربح لأصحاب الخسار
لو ترى ثوبي مصبوغاً بها ... قلت ذميماً تبدى في غيار
ولقد أمرح في شرخ الصبا ... مرح المهرة في ثني العذار وقال:
كفى فؤادي عذاره حرقه ... وكف عين بدمعها غرقه
ما خط حرف من العذار به ... إلا محي من جماله ورقه وقال (4) :
يا من محياه كاسمه حسن ... إن غاب عني فليس لي وسن
قد كنت قبل العذار في محن ... حتى تبدى فزادت المحن
يا شعرات جميعها فتن ... يتيه في وصف كنهها الفطن
ما غيروا من عذاره سفهاً ... قد كان غصناً فأورق الغصن
__________
(1) اليتيمة: يوحشنك؛ ر: يوسنك.
(2) اليتيمة: وتدريباً.
(3) اليتيمة: فتصعد.
(4) التتمة 1: 138.(3/15)
وقال:
أوحى لعارضه العذار فما ... أبقى على روعي ولا نسكي
وكأن نملاً قد دببن به ... غمست أكارعهن في مسك وقال:
قولوا لهذا القمر البادي ... مالك إصلاحي وإفسادي
زود فؤاداً راحلاً قبلة ... لا بد للراحل من زاد وقال:
قالوا اشتغل عنهم يوماً بغيرهم ... وخادع النفس إن النفس تنخدع
قد صيغ قلبي على مقدار حبهم ... ما لحب سواه فيه متسع قال الثعالبي (1) : قد اتفق لي معنى بديع لم أقدر أني سبقت إليه، وهو:
قلبي وجداً مشتعل ... على الهموم مشتمل
وقد كست جسمي الضنى ... ملابس الصب الغزل
إنسانة فتانة ... بدر السما منها خجل
إذا زنت عيني بها ... فبالدموع تغتسل حتى أنشدت لابن هندو:
يقولون لي ما بال عينك إذ رأت ... محاسن هذا الظبي أدمعها هطل
فقلت: زنت عيني برؤية وجهه ... فكان لها من صوب أدمعها غسل أخذ هذا المعنى ابن الساعاتي فقال (2) :
جفني الذي يرد الكرى متأسناً ... كلف بفاتر جفنه المتوسن
__________
(1) اليتيمة 3: 398.
(2) لم يرد البيتان في المطبوعة، وانظر ديوان ابن الساعاتي 1: 251.(3/16)
ولقد زنت عيني برؤية وجهه ... جهلاً ورجم الدمع حد المحصن وما أحسن ما استعمل السراج هذا المعنى فقال:
ودموع في إثرهن دماء ... كانسكاب الولي بعد الوسمي
يتراكضن بين شهب وحمر ... والغواني يبكين حولي بدهم
وزناء العيون تطهيره من ... شهب الدمع في الظلام برجم وقال الشريف العقيلي (1) :
اقتض حمرة خده ... باللحظ طرفي إذ رنا
فجلدته بدموعه ... والحد يلزم من زنى وقال سيف الدين المشد:
تنبأ دمعي في ضلالة شعره ... ألم تره في فترة الجفن يرسل
إذا ما زنى إنسان عيني بنظرة ... إلى حسنه يوماً فبالدمع يغسل وقال السراج الوراق:
يا نازح الطيف مر نومي يعاودني ... فقد بكيت لفقد النازحين دماً
أوجبت غسلاً على عيني بأدمعها ... فكيف وهي التي لم تبلغ الحلما وقال العفيف التلمساني:
قالوا أتبكي من بقلبك داره ... جهل العواذل داره بجميعي
لم أبكه لكن لرؤية حسنه ... طهرت أجفاني بفيض دموعي والأصل في هذا قول مجنون ليلى (2) :
يقول رجال الحي: تطمع أن ترى ... بعينيك ليلى مت بداء المطامع
__________
(1) دبوان العقيلي: 275.
(2) ليس في ديوانه.(3/17)
وكيف ترى ليلى بعين ترى بها ... سواها وما طهرتها بالمدامع؟ ولابن هندو من المصنفات كتاب " مفتاح الطب " و " المقالة المشوقة في المدخل إلى علم الفلك ". كتاب " الكلم الروحانية من الحكم اليونانية " و " الوساطة بين الزناة واللاطة " هزلية، وديوان شعره.
338 - (1)
الشريف العقيلي
علي بن الحسين بن حيدرة بن محمد بن عبد الله بن محمد العقيلي، ينتهي إلى عقيل ابن أبي طالب، وذكره ابن سعيد في كتاب " المغرب " وساق له قطعة كبيرة من شعره، وله أرجوزة طويلة ناقض فيها ابن المعتز في أرجوزته التي ذم فيها الصبوح ومدح الغبوق. ومن شعره (2) :
استجل بكراً عليها ... من الزجاج رداء
فوجه يومك فيه ... من الملاحة ماء ومنه (3) :
قم فانحر الراح يوم النحر بالماء ... ولا تضح ضحى إلا بصهباء
أدرك حجيج الندامى قبل نفرهم ... إلى منى قصفهم مع كل هيفاء
__________
(1) المغرب (قسم مصر) 1: 205 واليتيمة 1: 431 والزركشي: 231 وخطط المقريزي 2: 163 والخريدة (قسم مصر) 2: 62 وله ترجمة في الوافي، وقد نشر ديوانه الدكتور زكي المحاسني رحمه الله (ط. البابي الحلبي، القاهرة، دون تاريخ) ووردت الترجمة في ر.
(2) الديوان: 42 والمغرب: 208.
(3) الديوان: 42 والمغرب: 207.(3/18)
وعج على مكة الروحاء مبتكراً ... وطف بها حول ركن العود والناء وقال (1) :
وقائل: ما الملك؟ قلت: الغنى ... فقال: لا بل راحة القلب
وصون ماء الوجه عن بذله ... في نيل ما ينفذ عن قرب وقال (2) :
قم هاتها وردية ذهبية ... تبدو فتحسبها عقيقاً ذابا
أو ما ترى حسن الهلال كأنه ... لما تبدى حاجباً قد شابا وقال (3) :
وبركة قد أفادنا عجبا ... ما ماج من مائها وما انسكبا
من حول فوارة مركبة ... قد انحنى ظهر مائها تعبا وقال (4) :
ولما أقلعت سفن المطايا ... بريح الوجد في لجج السراب
جرى نظري وراءهم إلى أن ... تكسر بين أمواج الهضاب وقال (5) :
وهات زواهر (6) الكاسات ملأى ... إلى الحافات بالذهب المذاب
فكير الجو يوقد نار برق ... إذا خمدت تدخن بالضباب
__________
(1) الديوان: 50 والمغرب: 209.
(2) الديوان: 55 والمغرب: 210.
(3) الديوان: 49 والمغرب: 209.
(4) الديوان: 65 والمغرب: 211.
(5) الديوان: 65 والمغرب: 210.
(6) الديوان: فهات بواتق.(3/19)
وقال (1) :
يا من يدلس بالخضاب مشيبه (2) ... إن المدلس لا يزل مريبا
هب ياسمين الشيب عاد بنفسجاً ... أيعود عرجون القوام قضيبا وقال (3) :
أذهبت فضة خده بعتابي ... ونثرت در دموعه بخطابي
ظبي جعلت كناسه قلبي فلم ... أعقل لصيد سواه قبل طلابي
فزها علي ومر يسحب ذيله ... بين التكبر منه والإعجاب
فحلفت أني إن ظفرت بخده ... لأرصعن مدامه بحباب وقال (4) :
اشرب على ذهبية ... صفراء كالذهب المذاب
فالجلنار خلوقه ... قد غاب في مسك الضباب وقال (5) :
أعتق من الهم رق قلبي ... بعاتق ثوبها (6) الزجاج
بين رياض مزخرفات ... للماء في خلجها اختلاج
فليس يدنو إليك غصن ... بمفرق ليس فيه تاج وقال (7) :
__________
(1) الديوان: 54 والمغرب: 209.
(2) الديوان والمغرب: شيبه بخضابه.
(3) الديوان: 66 والمغرب: 212.
(4) الديوان: 67.
(5) الديوان: 91 والمغرب: 216.
(6) الديوان: حشوها.
(7) الديوان: 108 والمغرب: 221.(3/20)
يا ذا الذي يبسم عن مثل ما ... لائحة يلمع في عقده
ومن له خد (1) غدا حائزاً ... شقائق النعمان من ورده
اثن عنان الهجر عن عاشق ... قد طال ركض الدمع في خده وقال (2) :
سوالف سوسن وخدود ورد ... وأعين نرجس وجباه غدر
محاسن ليس ترضى عن نديم ... إذا لم يقض واجبها بشكر وقال (3) :
قد أوقد الزهر مصابيحه ... وصير القضب فوانيسا
فأغن بالراح ندامى غدوا ... من المسرات مفاليسا
ما دام قد صار نعام الربى ... من نعم السحب طواويسا وقال (4) :
أهيف يستعطف لحظ القنا (5) ... إن كان غضبان بأعطافه
إذا التثني عصفت ريحه ... تلاطمت أمواج أردافه وقال (6) :
والأقحوان غصونه ... بيض النواصي والمفارق
ومراود الأمطار قد ... كحلت بها حدق الحدائق
__________
(1) ر: خداً.
(2) الديوان: 175: والمغرب: 229.
(3) الديوان: 183 والمغرب: 229.
(4) الديوان: 215 والمغرب: 230.
(5) الديوان والمغرب: الفتى.
(6) الديوان:215 والمغرب: 230.(3/21)
وقال (1) :
منعم حلية اللحاظ إذا ... أقبل تجري إليه في طلق
كأنما وجهه لكثرة ما ... فيه من الحسن موسم الحداق وقال (2) :
أنر بصبح الوصل عيشي فقد ... صيره ليل القلى مظلما
وارث لمن أفلاك أجفانه ... تطلع من أدمعه أنجما وقال (3) :
ألذ مودات الرجال مذاقه ... مودة من إن ضيق الدهر وسعا
فلا تلبس الود الذي هو ساذج ... إذا لم يكن بالمكرمات مرصعا وقال (4) :
ناحت فواخت سحب وكرها الفلك ... بكاؤها لطواويس الربى ضحك
وأنجم النبت تجلى في ملابسها ... جيد السماء التي أقمارها البرك
والورد ما بين أنهار مدرجة ... كأنه شفق من حوله حبك
فسقنا من عصير الكرم صافية ... كأنها الذهب الإبريز منسبك
يبدي المزاج على حافاتها حبباً ... كأنه من حرير أبيض شبك وقال (5) :
رشأ تنعم العيون بما في ... خده من شقائق النعمان
ما التقى حسنه بنا قط إلا ... ردنا عن محجة السلوان
__________
(1) الديوان: 215 والمغرب: 233.
(2) الديوان: 260 والمغرب: 240.
(3) الديوان: 199.
(4) الديوان: 231 والمغرب: 234.
(5) الديوان: 272 والمغرب: 245.(3/22)
وقال (1) :
جعلت مهجتي الفداء لغصن ... إن تثنى تثنى القلوب إليه
كلما لاح وجهه في مكان ... كثرت زحمة العيون عليه وقال (2) :
قطع قلبي بمدية التيه ... وذر من ملح صده فيه
ولفه في رقاق جفوته ... وقطع البقل من تجنيه
وقال لي كل فقلت آكل ما ... أمرض قلبي به وأوذيه؟! وقال (3) :
نحن المحاسن في الدنيا إذا سفرت ... حتى إذا ابتسمت كنا ثناياها
عصابة ما رأى جيد الزمان له ... قلائداً هي أبهى من سجاياها
لم يخلق الله شيئاً قط أكثر من ... حاجات قصادها إلا عطاياها 339 (4)
نجم الدين القحفازي
علي بن داود بن يحيى بن كامل بن يحيى بن جبارة بن عبد الملك، ينتهي نسبه إلى الزبير بن العوام، الشيخ الإمام الفريد الكامل، نجم الدين أبو الحسن ابن
__________
(1) الديوان: 293 والمغرب: 248.
(2) المغرب: 249.
(3) المغرب: 249.
(4) الزركشي: 232 والدرر الكامنة 3: 116 وبغية الوعاة: 337 والبداية والنهاية 14: 214 والدارس 1: 548 وذيل العبر: 245 (وفيات 245) وتاريخ أبي الفدا 4: 142 (القحفيزي) ؛ ووردت في ر.(3/23)
القاضي عماد الدين القرشي القحفازي، شيخ أهل دمشق في عصره خصوصاً في العربية؛ قرأ عليه الطلبة وانتفع به الجماعة، وله النظم والنثر والكتابة المليحة الفائقة، وله التنديب الحلو والنوادر الظريفة والحكايات المطبوعة.
سمعته يوماً يقول لمنصور الكتبي رحمه الله تعالى: يا شيخ منصور، هذا أوان الحجاج، اشتري لك منهم مائتي جراب وارميها خلف ظهرك إلى وقت موسمها تكسب فيها جملة، فقال: والله الذي يشتغل عليك في العلم يحفظ حرافاً قدره عشر مرات.
وأنشد يوماً للجماعة الذين يشتغلون عليه لغزاً وهو:
يا أيها الحير الذي ... علم العروض به امتزج
أبن لنا دائرة ... فيها بسيط وهزج ففكر الجماعة زماناً، فقال واحد منهم: هذه الساقية، فقال: دورت فيها زماناً حتى ظهرت لك، يريد أنه ثور يدور في الساقية.
وقيل إنه لما عمر الأمير سيف الدين تنكز، رحمه الله تعالى، الجامع الذي له بدمشق المحروسة عينوا له شخصاً من الحنفية يلقب بالكشك ليكون خطيباً، فلما كان يوماً وهو يمشي في الجامع أجروا له ذكر الشيخ نجم الدين القحفازي وذكر فضائله، وأنه في الحنفية مثل الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني في الشافعية، فأحضره وتحدثا، ثم قال له وهم في الجامع يمشون: إيش تقول في هذا الجامع، فقال: مليح وصحن مليح، ولكن ما يليق أن يكون فيه كشك؛ فأعجب ذلك الأمير سيف الدين تنكز ورسم له بخطابة الجامع المذكور، ثم بعد مدة رسم له بتدريس الركنية فباشرها مديدة ثم نزل عنها وقال: لها شرط لا أقوم به، ومعلومها في الشهر جملة، تركه تورعاً.
وكان يعرف الاسطرلاب جيداً ويحل التقاويم، وكان فريد عصره، وكان يشغل في مذهب الحنفي، وفي " مختصر ابن حاجب " وفي " الحاجبية " و " المقرب "(3/24)
ويعرفهما جيداً إلى الغاية، وفي " ضوء المصباح " وغيره من كتب المعاني والبيان. مولده ثالث عشر جمادى الأولى سنة ثمان وستين وستمائة، ووفاته في شهور سنة أربع وأربعين وسبعمائة؛ ومن شعره في جارية اسمها قلوب:
عاتبني في حبكم عاذل ... يزعم نصحي وهو فيه كذوب
وقال ما في قلبك اذكره لي ... فقلت في قلبي المعنى قلوب وقال في مليح نحوي:
أضمرت في القلب هوى شادن ... مشتغل في النحو لا ينصف
وصفت ما أضمرت يوماً له ... فقال لي المضمر لا يوصف ولما ظفر قازان سنة تسع وتسعين وستمائة ثم جاء في سنة اثنتين وسبعمائة فكسر، وقازان اسم القدر، فقال الشيخ نجم الدين:
لما غدا قازان فخاراً بما ... قد نال بالأمس وأغراه البطر
جاء يرجي مثلها ثانية ... فانقلب الدست عليه فانكسر وقال عند قدوم الحاج، وأنشدت بدار الحديث الأشرفية:
يا نياق الحجيج لا ذقت سهداً ... بعدها ولا شممت خدا
لا فدينا سواك بالروح منا ... أنت أولى من بات بالروح يفدى
يا بنات الذميل كيف تركتن ... شعاب الغضا وسلع ونجدا
مرحباً مرحباً وأهلاً وسهلاً ... بوجوه رأت معالم سعدى ولم ذهب بدر الدين ابن بصخان (1) مع الجفال إلى مصر أقام هناك فكتبت إليه:
__________
(1) المطبوعة: نصحاف، وفي السلوك (2: 638) : والمقرئ بدر الدين محمد بن أحمد بن نصحان الدمشقي شيخ القراء بها توفي سنة 743 عن خمس وسبعين سنة؛ وأثبته الجزري (2: 57) بصخان، وقال إنه كان ممن انجفل بعد قازان سنة سبعمائة إلى مصر وأقام بها ست سنين؛ وضبطه الصفدي (الوافي 2: 159) بفتح الباء الموحدة وسكون الصاد المهملة وبعد الخاء المعجمة ألف ونون، وله ترجمة في بغية الوعاة: 8 والدرر الكامنة 3: 398، وورد الاسم صحيحاً في ر. 2 كذا في ر.(3/25)
غائباً قد كنت أحسب قلبه ... بسوى دمشق وأهلها لا يعلق
إن كان صدك نيل مصر عنهم ... لا غرو فهو لنا العدو الأزرق وكان في فقهاء الشافعية شخص يسمى شهاب الدين التعجيزي وينظم شعراً في زعمه، فعمل أبياتاً في شخص كان يحبه وكتبها إلي أولها:
أيها المعرض لا عن سببا ... أصلحك الله وصالي الأربا وفي هذا ما يعني عن باقيها، فكتبت إليه:
يا شهاباً أهدى إلي قريضاً ... خالياً عن تعسف الألغاز
جاءني مؤذناً برقة طبع ... حين رشحته بباب المجاز
إن تكن رمت عنه من جزاء ... فأقلني فلست ممن أجازي ومن شعر شهاب الدين المذكور:
يا سن يا شيع (1) إني بينكم وسط ... مذبذباً لا وإلى هولي (2) ولا ثمت
وفي القيامه على الأعراف منقعد ... وأنتظر منكم من يدخل الجنت
فإن دخلتم فإني داخل معكم ... وإن صفعتم فإني قاعد سكت 340 (3)
ابن ظافر الأزدي
علي بن ظافر بن حسين الفقيه، الوزير جمال الدين أبو الحسن الأزدي المصري
__________
(1) يريد: يا سنة يا شيعة.
(2) هولي: عامية ((هؤلاء)) .
(3) الزركشي: 209 وابن الشعار 4: 403 ومعجم الأدباء 13: 264؛ وانظر مقدمة غرائب التنبيهات على عجائب التشبيهات، تحقيق الدكتورين سلام والجويني (القاهرة 1971) ومقدمة الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم على بدائع البدائه.(3/26)
ابن العلامة أبي منصور، ولد سنة سبع وستين وخمسمائة، وتفقه على والده؛ وتوفي سنة ثلاث وعشرين وستمائة (1) .
قرأ الأدب وبرع فيه، وقرأ على والده الأصول، وبرع في علم التاريخ وأخبار الملوك، وحفظ في ذلك جملة وافرة، ودرس بمدرسة المالكية بمصر بعد أبيه، وترسل إلى الديوان العزيز، وولي وزارة الملك الأشرف، ثم انصرف عنه ودخل مصر، وولي وكالة بيت المال مدة، وكان متوقد الخاطر طلق العبارة، ومع تعلقه بالدنيا له ميل كثير إلى أهل الآخرة، محباً لأهل الدين والصلاح.
أقبل في آخر عمره على مطالعة الأحاديث النبوية وأدمن النظر فيها؛ روى عنه القوصي وغيره، وله تواليف: منها " الدولة المنقطعة " وهو كتاب مفيد جداً في بابه، و " بدائع البدائة " والذيل عليه، و " أخبار الشجعان " و " أخبار الملوك السلجوقية " و " أساس السياسة " و " نفائس الذخيرة " ولم يكمل ولو كمل ما كان في الأدب مثله، وكتاب " التشبيهات "، وكتاب " من أصيب " وابتدأ بعلي رضي الله عنه، وغير ذلك.
ومن شعره:
إني لأعجب من حبي أكتمه ... جهدي وجفني بفيض الدمع يعلنه
وكون من أنا أهواه وأعشقه ... يخرب القلب عمداً وهو يسكنه
وأعجب الكل أمراً أن مبسمه ... من أصغر الدر جرماً وهو أثمنه وله أيضاً:
كم من دم يوم النوى مطلول ... بين رسوم الحي والطلول (2)
__________
(1) في ياقوت سنة 613 ويبدو أنه أصوب.
(2) ر: والطول.(3/27)
بانوا فلا جسم ولا ربع لهم ... إلا رماه البين بالنحول
يا راحلين والفؤاد معهم ... مسابق في أول الرعيل
ردوا فؤادي إنه ما باعكم ... إياه إلا طرفي الفضولي
ورب ظبي منكم يخاف من ... سطوة عينيه أسود الغيل
أنار منه الوجه حتى كدت أن ... أقول، لولا الدين، بالحلول
ينقص بالعلة كل كامل ... في الحسن غير لحظه العليل وقال في " بدائع البدانة " (1) : اجتمعنا ليلة من ليالي رمضان بالجامع، فجلسنا بعد انقضاء الصلاة للحديث، وقد وقد فانوس السحور، فاقترح بعض الحضور (2) على الأديب أبي الحجاج يوسف بن علي المعروف (3) بالنعجة أن يصنع قطعة من فانوس السحور، وإنما طلب بذلك إظهار عجزه، فصنع:
ونجم من الفانوس يشرق ضوؤه ... ولكنه دون الكواكب لا يسري
ولم أر نجم قط قبل طلوعه ... إذا غاب ينهي الصائمين عن الفطر فقلت له: هذا التعجب لا يصح؛ لأنا قد رأينا نجوماً لا تدخل تحت الحصر ولا تحصى بالعدد إذا غارت تنهي (4) الصائمين عن الفطر وهي نجوم الصباح، فأسرف الجماعة في تقريعه، وأخذوا في تمزيق عرضه وتقطيعه، فصنع أيضاً:
هذا لواء سحور يستضاء به ... وعسكر الشهب في الظلماء جرار
والصائمون جميعاً يهتدون به ... كأنه علم في وسطه نار ولما أصبحنا سمع من كان غائباً من أصحابنا ما جرى بيننا، فصنع الرشيد
__________
(1) انظر بدائع البدائه: 272.
(2) بدائع: الحاضرين.
(3) بدائع: المنبوز.
(4) ر: نهي.(3/28)
أبو عبد الله محمد بن منانو (1) رحمه الله تعالى:
أحبب بفانوس غدا صاعداً ... وضوؤه دان من العين
يقضي بصوم وبفطر معاً ... فقد حوى وصف الهلالين وصنع الفقيه أبو محمد العقيلي (2) :
وكوكب من ضرام الزند مطلعه ... تسري النجوم ولا يسري إذا رقبا
يراقب الصبح خوفاً أن يفاجئه ... فإن بدا طالعاً في أفقه غربا
كأنه عاشق وافى على شرف ... يرعى الحبيب فإن لاح الرقيب خبا ثم إني صنعت بعد ذلك:
ألست ترى شخص المنار وعوده ... عليه لفانوس السحور لهيب
كحامل منظوم الأنابيب اسمر ... عليه سنان بالدماء خضيب
ترى بين زهر الزهر منه شقيقة ... لها العود غصن والمنار كثيب
وتبدو كخد أحمر والدجى لمى ... بدا فيه ثغر للنجوم شنيب
كأن لزنجي الدجى من لهيبه ... ومن خفقه قلب عراه وجيب
تراه يراعي الشهب ليلاً فإن دنا ... طلوع صباح حان منه غروب
فهل كان يرعاها لعشق ففر إذ ... درى أن رومي الصباح رقيب وقلت في اختصار المعنى الأول من هذه القطعة:
انظر إلى المنار وال ... فانوس فيه يرفع
كحامل رمحاً (3) سنا ... نه خضيب يلمع وقلت:
__________
(1) بدائع: متانو.
(2) بدائع: القلعي.
(3) ر: رمح.(3/29)
ألست ترى حسن المنار ونوره (1) ... يرفع من جنح الدجنة أستارا
" تراه إذا جن الظلام مراقباً ... له مضرماً في قلب فانوسه نارا " (2)
كصب نجود من بني الزنج سامها ... وصالاً وقد أبدى لترغب دينارا وقلت:
وليلة صوم قد سهرت بجنحها ... على أنها من طيبها تفضل الدهرا
حكى الليل فيها سقف ساج مسمراً ... من الشهب قد أضحت مساميره تبرا
وقام المنار المشرق اللون حاملاً ... لفانوسه والليل قد أظهر الزهرا
كما قام رومي بكأس مدامة ... وحيا بها زنجية وشحت درا وحين صنعت هذه القطع صنع شهاب الدين يعقوب:
رأيت المنار وجنح الظلام ... من الجو يسدل أستاره
وحلق في الجو فانوسه ... فذهب بالنور أقطاره
فقلت المحلق قد شب في ... ظلام الدجى للقرى ناره
وخلت الثريا يداً والنجوم ... ورقاً غدا البدر قسطاره
وخلت المنار وفانوسه ... فتى قام يصرف ديناره وأنشدني كمال الدين ابن نبيه لنفسه (4) :
حبذا في الصيام مئذنة الجا ... مع والليل مسبل أذياله
خلتها والفانوس إذ رفعته ... صائداً واقفاً لصيد الغزاله وأنشدني أبو القاسم نفطويه لنفسه:
__________
(1) بدائع: رضوءه.
(2) لم يرد البيت في ر.
(4) لم يرد في ديوانه.(3/30)
يا حبذا رؤية الفانوس في شرف ... لمن يريد سحوراً وهو يتقد
كأنما الليل والفانوس مرتفع ... في الجو أعور زنجي به رمد وله أيضاً:
نصبوا لواء للسحور وأوقدوا ... من فوقه ناراً لمن يترصد
فكأنه سبابة (1) قد قمعت ... ذهباً فأومت في الدجى تتشهد وأنشدني أبو يحيى السلولي (2) لنفسه:
وليلة ملئت أسدافها لعساً ... واستوضحت غرر (3) من زهرها شنبا
ولاح كوكب فانوس السحور على ... إنسان مقلتها النجلاء واشتهبا
حتى كأن دجاها وهو ملتهب ... زنجية حملت في كفها ذهبا وصنع أبو العز مظفر الأعمى:
أرى علماً للناس في الصوم ينصب ... على جامع ابن العاص أعلاه كوكب
وما هو في الظلماء إلا كأنه ... على رمح زنجي سنان (4) مذهب
ومن عجب أن الثريا سماؤها ... مع الليل تلهي كل من يترقب
فطوراً تحييه بباقة نرجس ... وطوراً يحييها بكأس تلهب
وما الليل إلا قانص لغزالة ... بفانوس نار نحوها يتطلب
ولم أر صياداً على البعد قبله ... إذا قربت منه الغزالة يهرب ومن شعر ابن ظافر:
وقد بدت النجوم على سماء ... تكامل صحوها في كل عين
__________
(1) ر: شبابة.
(2) بدائع: المستولي.
(3) ر: غرراً.
(4) ر: سناناً.(3/31)
كسقف أزرق من لازورد ... بدت فيه مسامر من لجين ومنه:
والليل فرع بالكواكب شائب ... فيه مجرته كمثل المفرق
ولربما يأتي الهلال ببحره ... متصيداً حوت النجوم بزورق
حتى إذا هبت على الماء الصبا ... وألاح نور تمامه بالمشرق
أبدى لنا علماً بهيجاً مذهباً ... قد لاح في تجعيد كم أزرق
وحكى برادة عسجد قد رام صا ... نعها يؤلف بينها بالزئبق 341 (1)
تقي الدين ابن المغربي
علي بن عبد العزيز بن علي بن جابر، الفقيه الأديب البارع، تقي الدين ابن المغربي البغدادي الشاعر المالكي؛ كان من أظرف خلق الله تعالى، وأخفهم روحاً (2) ، وله القصيدة الدبدبية المشهورة التي أولها " يا دبدبة تدبدبي "؛ وكانت وفاته ببغداد سنة أربع وثمانين وستمائة، ومن شعره يصف مجلساً تقضى له بالمحول:
يا مغاني اللهو والطرب ... بأبي أفدي ثراك وبي
لا تعداه الغمام ولا ... حاد عنه صيب السحب
__________
(1) الزركشي: 209 والبدر السافر: 17 وقال فيه: سمع الحديث من عبد الصمد بن أبي الجيش وأبي طالب بن الأنجب الساعي وأبي الفضل بن محمد وأبي عبد الله محمد بن الكتار وغيرهم وتفقه على السراج الشار مساحي المالكي ونظر في اللغة والعربية؛ وكان حسن الشكل حسن الأخلاق؛ وانظر الحوادث الجامعة: 447؛ ووردت الترجمة في ر.
(2) ر: روح.(3/32)
حبذا دار عهدت بها ... كل معسول اللمى شنب
حيث كانت قبل فرقتنا ... فلكاً يجري على شهب
ونصيبي من وصالهم ... واصلاً نحوي بلا نصب
في بساتين المحول لا ... في قفار الجزع واللبب
بين أشجار تفوق على ... شجرات الضال والكثب منها:
صفعوني لا عدمتهم ... وأضاعوا حرمة الأدب
فعلوا بالرأس ما فعلوا ... وأحالوني على الذنب
كأن في رأسي وأسفلهم ... شبه من حكة الجرب وقال يصف حال المستنصرية والفقهاء، وكان قد قيل لهم: من يرضى بالخبز وحده وإلا فما عندنا غيره:
حاشا لست المدارس ... ومن بها يضرب المثل
تهون من بعد ذاك ... التعظيم والتشريف
مستنصرية سبيكه ... قد كنت في عصر الصبا
واليوم قد صرت بهرج ... مزيفه تزييف
ما زال نخلك يرجم ... حتى فني الرطب الجني
وما بقي في قراحك ... غير الكرب والليف
ذكرت بيتاً ظريف (1) ... من كان وكان (2) البغادده
__________
(1) الزركشي: ظريفاً.
(2) كان وكان: فن زجلي اخترعه البغداديون، له وزن واحد وقافية واحدة (من عروض المجتث) ولكن الشطر الأول من البيت أطول من الشطر الثاني ولا تكون قافيته إلا مردفة قبل حرف الروي بأحد حروف العلة، وكان أولاً مقصوراً على الحكايات والخرافات ثم توسعوا فيه فنظموا فيه المواعظ والزهديات والأمثال والحكم (العاكل الحالي: 148 - 149) .(3/33)
وكل معنى يندر ... من الظريف ظريف
أي ست ما أكثر زبونك ... ما أخلى فراشك من العشي
ذي زحمة الباقلاني ... وكلهم برغيف وقال " في " شخص اسمه علوان وينعت بالصفي:
علوان لا شك اسمك ... وأنت تنعت بالصفي
فإن سئلت عن اسمك ... قول الصفي علوان وقال زجل في الخلاعة والمجون:
الوقت يا نديمي ... قد طاب واعتدل
والشمس مذ ليالي ... قد حلت الحمل
فانهض إلى الحميا ... واستنهض الصحاب
فالبدر والثريا ... الكاس والحباب
والوقت قد تهيا ... ومجلس الشراب
فيه كل ما تريده ... فانهض على عجل
ما قد بقي يعوزه ... غيرك وقد كمل
انهب زمان وصلك ... وانه الذي نهاك
واسعد بقرب خلك ... وابلغ منه مناك
فبعد يوم لعلك ... لا تستطيع ذاك
والتذ فالليالي ... ما بيننا دول
لقمة تكون حنظل ... وأخرى تكون (1) عسل
مالك كدى (2) محير ... لا تهتدي الطريق
__________
(1) الزركشي: تكون.
(2) ر: كذى.(3/34)
هل أدخل الصغير ... أو قال ما أطيق
ادفع ولا تفكر ... تا يزعق الحريق
دع يشتكي لعمه ... دع يفعل إيش فعل
ما رأيت قط لوطي ... مصلوب على دقل (1)
من أين للعروس ... مثل (2) ذا العذار
لمنية النفوس ... ودرة البحار
زها على الشموس ... مذ تم واستدار
فاترك كلام سفله ... بحرفته (3) اشتغل
وادي العروس عنده ... أشرف من الجبل
لا تهو من أضاعك ... لا كان ولا استكان
واعتز باقتناعك ... إن الهوى هوان
كن عبد من أطاعك ... لا تنتظر فلان
فالوقت سيف مجرد ... قاطع بيد بطل
والعاقل المجرب ... يبطش بمن حصل
لا تغفلوا يا ولدي ... عن طيب العناق
واوصوا بذاك بعدي ... لساير الرفاق
المغربي جدي ... وأنا من العراق
وقد علمت أني ... في صنعة الزجل
مثل الذي يجهله ... يبخر لزحل
__________
(1) الدقل: صاري السفينة.
(2) الزركشي: شبيه.
(3) هذه هي القراءة عند الزركشي، وفي ر: بحرقته.(3/35)
ما لفت العمايم ... إلا على العقول
نعشق وأنت نايم ... وتدعي الفضول
قم واسمع الحمايم ... فإنها تقول
يا من دنا حبيبه ... انهض بلا كسل
واشف الغليل منو ... بالضم والقبل وقال أيضاً:
لا بد نظهر بين الناس ... قلندري (1) محلوق الراس
نلبس عوض الكتان ... جلنك (2) من صوف الخرفان أو دلق (3) أو نصبح عريان
نغدو ندروز (4) مع أجناس ... محلقين الروس أكياس
ما يعرفوا إلا الخضره (5) ... والبنك (6) لا شرب الخمرة مثقالها بألفي جره
وعندهم منها أكياس ... دانق يقاوم سبعين كاس
من قبل ما نغدو مسطول ... نهتم في أمر المأكول ونطلع السوق بالكجكول (7)
نطلب على الله من رواس ... وباقلاني مع هراس (8)
__________
(1) القلندرية أو القرندلية: طائفة من الصوفية.
(2) الجلنك (من التركية) : زينة فضية توضع في العمامة تمييزظاً للمحارب، وفي الفارسية مادة حريرية تطرز بالذهب أو الفضة أو لا تطرز، وكلا المعنيين لا يحدد ما يعنيه الرجال، إذ هو يقصد فروة من الصوف أو ما أشبه.
(3) الدلق: ضرب من الرداء طويل مؤلف من خرق الجوخ المختلفة الألوان وهو مما يلبسه القرندلية (انظر قاموس الملابس لدوزي، الترجمة العربية 150 - 152) .
(4) الدروزة: احتراف الطواف من أجل الكدية.
(5) ر: الحضرة، والخضره (الخضراء) يعني بها الحشيشة.
(6) أقدر أنه نوع من الحشيشة، وهو الذي لا يزال يعرف في السودان باسم ((البنقو))
(7) تكتب أيضاً: الكشكول.
(8) الرواس: بائع الرؤوس، والهراس: بائع الهريسة.(3/36)
لمن لقينا قلنا أي جان ... خره بدي كي درويشان همه غريبان سركردان (1)
يدعون لك وقت الإغلاس (2) ... فهم صحيحين الأنفاس
وننقد العالم جيد ... نقول لذي المال يا سيد نريد كرامه للمسجد
رطيل شيرق (3) في الجلاس (4) ... لنشعله بين الجلاس
كأنكم بي يا خلان ... وأنا مجرد كالشيطان فقد قوي عندي ذا الشان
وقد فشر (5) في أذني الخناس ... حتى ملا صدري وسواس
فلا تقولوا يا فقوس ... نرى جميع أمرك معكوس المغربي خلف منحوس
ما خلف إلا اغلب دعاس ... والشبل من نسل الهرماس
لكنني (6) أصلي سمقون ... كشيح (7) كالدر المكنون وقد صرت في عشقه مجنون
وهل على مثلي من باس ... إن هام بالقد المياس
مثل القمر أبيض أزهر ... بعارض كالآس أخضر من تاه في عشقه يعذر
لو باس قارون ذاك الآس ... هون على قلبو الإفلاس
دعنا نلذ العيش دعنا ... مع رفقة جازوا المعنى فأعقل الناس من غنى
كش البهار (8) واصمي (9) بالطاس ... ولا تقف مع قول الناس
__________
(1) المعنى: نقول لمن لقينا: يا سيدي أعط الدراويش من نورك فإنهم غرباء هائمون على وجوههم. (سر كردان مستذلون، أفاقون، هائمون) .
(2) ر: الاعلاس، والمعنى وقت الغلس.
(3) الشيرق: زيت الشيرج (السيرج) .
(4) ر: الحلاس؛ والجلاس: القنديل (دوزي أخذ سيرج للجلاس وزيت للسراج) .
(5) كذا في ر؛ وفي المطبوعة: فسا، وهو أنسب للمعنى.
(6) كذا في ر؛ وفي المطبوعة: اسمي.
(7) كشيح: لعله يعني أهيف الكشح.
(8) في المطبوعة: النهار.
(9) الصمي: الشرب؛ وفي القصيدة الساسانية (اليتيمة 3: 359) وما ننفك من صمي.(3/37)
وأما قصيدته الدبدبية فإنها غاية وهي طويلة جداً ذكر فيها فنون وأولها:
أي دبدبه تتدبدبي ... أنا علي بن المغربي
تأدبي ويحك في ... حق أمير الأدب
وأنت يا بوقاته ... تألفي تركبي
وأنت يا سناجقي ... يوم الوغى ترتبي
وأنت يا عساكري ... يوم اللقا تأهبي
ها قد ركبت للمسي ... ر في البلاد فاركبي
ها قد برزت فاركبي ... في ألف ألف مقنب
أنا الذي أسد الشرى ... في الحرب لا تحفل (1) بي
إذا تمطيت وفرقع ... ت عليهم ذنبي
أنا الذي كل الملو ... ك ليس تخشى غضبي
فمن رأى للهذيا ... ن موكباً كموكبي
أنا امرؤ أنكر ما ... يعرف أهل الأدب
ولي (2) كلام نحوه ... لا مثل نحو العرب
لكنه منفرد ... بلفظه المهذب
يصافع الفراء في ال ... نحو بجلد ثعلب
ويقصد التثليث في ... نتف سبال قطرب
وإن سألت مذهبي ... فمذهبي المجرب
آكل ما يحصل لي ... ورغبتي في الطيب (3)
وأشرب الماء ولا ... أرد ماء العنب
__________
(1) ر: تجفل، وأثبت ما ورد عند الزركشي.
(2) ر: مولى، والتصويب عن الزركشي.
(3) الزركشي: الطلب.(3/38)
وألبس القطن ولا ... أكره لبس القصب (1)
وإن ركبت دابة ... وإلا (2) فنعلي مركبي
وكل قصدي خلوة ... تجمعني وللصبي
في البيت أو في روضة ... أزهارها كالشهب
ونجتلي بنت الكرو ... م أو بني القنب
ونبتدي نأخذ في ال ... شكوى وفي التعتب
حتى إذا ما جاء لي ... برشف ذاك الشنب
حكمته في الرأس إذ ... حكمني في الذنب 342 (3)
الاربلي الشاعر
علي بن عثمان بن علي بن سليمان، أمين الدين السليماني الإربلي الصوفي الشاعر؛ كان من أعيان شعراء الناصر ابن العزيز، وكان جندياً فتصوف وصار فقيراً، توفي بالفيوم وهو في معترك المنايا سنة سبعين وستمائة؛ ومن شعره قصيدة في كل بيت نوع من البديع، وهي:
بعض هذا الدلال والإدلال حال بالهجر والتجنب حالي
" الجناس اللفظي "
حرت إذا حزت ربع قلبي وإذ لا لي صبر أكثرت من إذلالي
" الجناس الخطي "
__________
(1) ر الزركشي: القضي.
(2) في المطبوعة: أو لا.
(3) الزركشي: 214 وفي نسبه الليماني (بدل السليماني) وحدد وفاته في العشر الأخير من جمادى الأولى سنة 670؛ وانظر ابن الشعار 5: 144؛ والترجمة في ر.(3/39)
رق يا قاس الفؤاد لأجفان ... قصار أسرى ليال طوال " الطباق "
شارحات بدمعها مجمع البحرين في حب مجمع الأمثال
" الاستعارة "
نفت النوم في هواك قصاصاً ... حيث أدى منها خداع الخيال " المقابلة "
أنا بين الرجاء والخوف في حبك ما بين صحة واعتلال
" التفسير "
لست أنفك في هواك ملوماً ... في معاد يسومني وموال " التقسيم "
عمر ينقضي وأيامي الأيا ... م بالهجر والليالي الليالي " الإشارة "
ليس ذنبي سوى مخالفة اللا ... حين فيه، واخيبة العذال " الإرداف "
سالباً بزتي وما هي إلا ال ... عمر رفقاً بهذه الأسمال " المماثلة "
طلب دونه منال الثريا ... وهوى دونه زوال الجبال " الغلو "
وغرام أقله يذهل الآ ... ساد في خيسها عن الأشبال " المبالغة "
أنا أخفي هواك صوناً وإن ب ... ت طعين القنا جريح النبال " الكناية والتعريض "
فشمالي لم تستعن بيميني ... ويميني لم تستعن بشمالي " العكس "
لذ طول المطال منك ولولا ال ... حب ما لذ منك طول المطال " التذييل "(3/40)
خنت عهدي فدام وجهي يك ... بت ضدي يوماً بطيب الوصال " الترصيع "
لك ألحاظ مقلتين شباهاً ... كالحسام الهندي غب الصقال " الإيغال "
كملت وصفها بمدح علي ... في علي رب الحجى والكمال " التوشيح "
ماجد بعض فضله بذله الما ... ل، وقل الذي يجود بالمال " رد العجز على الصدر "
يفعل المكرمات طبعاً فإن ج ... ود أفنى رغائب الآمال " التعميم والتكميل "
طال شكري نداه حتى لقد أف ... حم فضل، لا زال ذا إفضال " الالتفات "
هو ما لم يزل وذلك أبقى ... عصمة المرملين ذي (1) الأطفال " الاعتراض "
ذو وداد للأصفياء بعيد ... عن زوال وهل به من زوال " الرجوع "
أفترب الأنواء تخصب منه ال ... أرض أم سيب جوده الهطال " تجاهل العارف "
جاد حتى للمكتفين فأثروا ... فنداه كالماء في سيمال " الاستطراد "
جامع العلم والفصاحة والحل ... م وحسن الأخلاق والأفعال " جمع المؤتلف والمختلف "
لا يعد الفعل الجميل لدنيا ... هـ ولكن (2) يعده للمال " السلب والإيجاب "
__________
(1) ر: المؤملين ذا.
(2) ر: ولكنه.(3/41)
ليس فيه عيب يعدده الحس ... اد إلا العطاء قبل السؤال " الاستثناء "
عالم أن من يعيش كمن زا ... ل وإن دام والورى في زوال " المذهب الكلامي "
يجتلى وجهه الكريم من الح ... رب ويغضى عنه من الإجلال " التشطير "
أيها الصاحب الذي نلت منه ... ما أرجي فاليوم حالي حال " المحاورة "
عاين الناظمون شعري ولا يذ ... هب فضل المعنى بلبس النصال (1) " الاستشهاد والاحتجاج "
هي آل للمدح في مجدك السا ... مي المعاني وغيرها لمع آل " التعطف "
آب يوم الهناء بالخير في رب ... عك يحكي نوالك المتوالي " المضاعف "
فلك المدح دائماً ولشاني ... ك القطوعان منصلي ونصالي " التطريز "
أعجز الواصفون (2) فضلك فاجعل ... شين شكري فيه كشين بلال " التلطف "
وقال وهو حسن بديع:
أضيف الدجى معنى إلى ليل شعره ... فطال ولولا ذاك ما خص بالجر
وحاجبه نون الوقاية ما وقت ... على شرطها فعل الجفون من الكسر وقال:
وتعجبني حاجب نونها ... دلالاً مع الجمع لا تنفتح
__________
(1) كذا في ر.
(2) كذا في ر والمطبوعة.(3/42)
وقال:
تموج تحت الخصر أسود شعره ... فإياك والحيات في كثب الرمل
ولو لم يقم بالحسن مرسل صدغه ... لما نزلت في سورة النمل وقال:
وما غرني في حبكم لمع خافق ... لآل ولكن برد ماء لآلي
شموس وعودي بالوصال لديكم ... تعلقت من مكذوبها بحبال وقال:
بدر تم له على الخد خال ... في احمرار ينشق منه الشقيق
كتب الحسن بالمحقق معنا ... هـ ولكن عذاره تعليق وقال:
يعذلني عاذلي عليك ولا ... يحصل مني إلا على العتب
فعاذلي ظل في هواك كمن ... يقرأ تبت على أبي لهب 343 (2)
عفيف الدين ابن عدلان
علي بن عدلان بن حماد بن علي، الإمام العلامة عفيف الدين أبو الحسن الربعي الموصلي النحوي المترجم؛ ولد سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وتوفي سنة ست وستين وستمائة، سمع ببغداد وأخذ عن أبي البقاء وغيره،
__________
(2) الزركشي: 215 وابن الشعار 5: 116 وبغية الوعاة: 343؛ والترجمة في ر.(3/43)
وسمع من ابن الأخضر وابن منينا وجماعة، وسمع منه ابن الظاهري والدمياطي والشريف عز الدين والدوادري، وأقرأ العربية وزماناً وتصدر بجامع الصالح بالقاهرة، وكان علامة في الأدب من أذكياء بني آدم، انفرد بحل المترجم والألغاز، وله في ذلك تصانيف: منها كتاب " عقلة المجتاز في حل الألغاز "، ومصنف في حل المترجم للملك الأشرف.
وكتب إلى علم الدين السخاوي بدمشق باللبادين، قول الحسين بن عبد السلام في المعمى (1) :
ربما عالج القوافي رجال ... في القوافي فتلتوي وتلين
طاوعتهم عين وعين وعين ... وعصتهم نون ونون ونون فحلهما ابن الحاجب، فقال: قوله " عين وعين وعين " يعني نحو غد ويد ودد، لأنها عينات مطاوعات في القوافي، مرفوعة كانت أو منصوبة أو مجرورة؛ لأن وزن غد فع، ووزن يد فع، ووزن دد فع، وقوله " وعصتهم نون ونون ونون " الحوت يسمى نون (2) ، والدواة لأنها تسمى نوناً، والنون الذي هو الحرف، وكلها نونات غير مطاوعة في القوافي؛ إذ لا يلتئم واحد منها مع الآخر.
ونظم ابن الحاجب:
أي غد مع يد دد ذو حروف ... طاوعت في الروي " وهي عيون "
ودواة والحوت والنون نونا ... ت عصتهم وأمرها مستبين وقال عفيف الدين: أنشدني إسماعيل المسمول الذي ينسب إلى صلاح الدين الإربلي:
وما بيت له في كل عضو ... عيون ليس تنكرها العقول
__________
(1) انظر أخبار وتراجم أندلسية: 47 وابن خلكان 3: 249 والغيث 1: 34.
(2) كذا في ر.(3/44)
إذا بسطوه تلقاه قصيراً ... وإن قبضوه تبصره طويل فقلت: هذه شبكة صياد طيور، فأخذ يباهت، فقلت: قد نزلته، ولا يلزمني أكثر من هذا، فأخذ في المباهتة، فقلت: هذا في خركاه، فاعترف أنه هو.
وكتب إليه ناصر الدين ابن النقيب ملغزاً في سيف:
يا عفيف الدين يا من ... دق في الفهم وجلا
والذي سموه في النا ... س علياً وهو أعلى
يا أخا الفضل الذي في ... هـ لنا القدح المعلى
أي شيء طعمه م ... ر وإن كان محلى
وهو شيخ لا يصلي ... ولكم بالضرب صلى
ما له عقل وكم من ... هـ استفاد الناس عقلا
جفنه من غير سهد ... ما يذوق النوم أصلا
وهو ما يحسن قولاً ... ولقد يحسن فعلا
وهو إن تعكسه قي ... س فصحفه وإلا
وهو مطبوع نحيف ... عند ما يلقاك سلا
ولكم بدد جمعاً ... ولكم شتت شملا
ولكم قد سبق العذ ... ل وكم قطع وصلا
فأبن عنه بأجلى ... منه في اللفظ وأحلى
وابق في إيوان عز ... وبناء ليس يبلى فكتب عفيف الدين الجواب:
ناصر الدين الذي فا ... ق جميع الناس فضلا
والذي وافق في الإس ... م الذي وافق فعلا
والذي أشعاره أش ... هى من الحلي (1) وأحلى
__________
(1) ر: الحل.(3/45)
هو حلو في فم النا ... س وفي العينين يجلى
إن تسلني عن رقيق ... لك يجلى حين يجلى
هو أنثى في زمان ... ويرى في ذاك فحلا
يشرب الماء ولا يأ ... كل إلا اللحم أكلا
والندى يؤذيه والنا ... ر له إلف فيصلى
وهو يعمي العين لا ش ... ك متى ما كان كحلا
محرم في كل وقت ... ما رآه الناس حلا
أعجمي وفصيح ... جمع الوصفين كلا
وهو كالمرآة يبدي ... مثل رأي الشكل شكلا
ولموع برقه الخل ... ب لا يمطر وبلا
وعليه أبد الده ... ر ذباب ما تولى
وهو مثل الناس في النش ... أة مذ قد كان طفلا
ويرى شرخاً وشيخاً ... بعد ما كان كهلا
سبق التصحيف ذا الش ... ئ وشنف الأذن حلا (2)
قلت لما جاءني: أه ... لاً بذا اللغز وسهلا
لغز كالشمس قد دق ... ت معانيه وجلا
__________
(2) ر: جلى.(3/46)
344 - (1)
ابن الزقاق البلنسي
علي بن عطية بن مطرف، أبو الحسن اللخمي البلنسي الشاعر المشهور، المعروف بابن الزقاق؛ أخذ عن ابن السيد، واشتهر ومدح الأكابر، وجود النظم، وتوفي وله دون الأربعين في سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، ومن شعره (2) :
كلما مال سكر الصبا ... مال بي سكر هواها والتصابي
أشعرت في عبراتي خجلاً (3) ... إذ تجلت فتغطت بالنقاب
كذا كاء الدجن مهما هطلت ... عبرة المزن توارت بالحجاب وقال (4) :
وأغيد طاف بالكؤوس ضحى ... فحثها والصباح قد وضحا
والروض يبدي لنا شقائقه ... وآسه العنبري قد نفحا
قلنا وأين الأقاح؟ قال لنا ... أودعته ثغر من سقى القدحا
فظل ساقي المدام يجحد ما ... قال فلما تبسم افتضحا وقال (5) :
__________
(1) الزركشي: 216 والتكملة رقم 1844 والذيل والتكملة 5: 265 والمطرب: 101 والمغرب: 2: 323 وصفحات متفرقة من نفح الطيب، وقد نشر ديوانه بتحقيق الآنسة عفيفة ديراني (دار الثقافة - بيروت 1964) ؛ وهذه الترجمة مما ورد في ر.
(2) الديوان: 87.
(3) الديوان: بخلا.
(4) الديوان: 124.
(5) الديوان: 129.(3/47)
ألمت فبات الليل في قصر بها ... يطير وما غير السرور جناح
وبت وقد زارت بأنعم ليلة ... يعانقني حتى الصباح صباح
على عاتقي من ساعديها حمائل ... وفي خصرها من ساعدي وشاح وقال (1) :
وحببت يوم السبت عندي أنني ... ينادمني فيه الذي كنت أحببت
ومن أعجب الأشياء أني مسلم ... حنيف ولكن خير أيامي السبت وقال أيضاً (2) :
بذلت لها من أدمع العين جوهراً ... وقدماً حكاها في الصيانة والستر
فقالت وأبدت مثله إذ تبسمت ... غنيت بهذا الدر عن ذلك الدر وقال (3) :
سقتني بيمناها وفيها فلم أزل ... يجاذبني من ذاك أو هذه سكر
ترشفت فاها إذ ترشفت كأسها ... فلا والهوى لم أدر أيهما الخمر وقال (4) :
وشهر أدرنا لارتقاب هلاله ... عيوناً إلى جو السماء موائلا
إلى أن بدا أحوى المدامع أحور ... يجر لأبراد الشباب ذلاذلا
فقلت له أهلاً وسهلاً ومرحباً ... ببدر حوى طيب الشمول شمائلا
أتطلبك الأبصار في الجو ناقصاً ... وأنت كذا تمشي على الأرض كاملا وقال (5) :
__________
(1) الديوان: 113.
(2) الديوان: 161.
(3) الديوان: 178.
(4) الديوان: 238.
(5) الديوان: 274.(3/48)
وساق يحث الكأس حتى كأنما ... تلألأ منها مثل ضوء جبينه
سقاني بها صرف الحميا عشية ... وثنى بأخرى من رحيق جفونه
هضيم الحشا ذو وجنة عندمية ... تريك جني (1) الورد في غير حينه
فأشرب من يمناه ما فوق خده ... وألثم من خديه ما في يمينه وقال (2) :
أديراها على الزهر المندى ... فحكم الصبح في الظلماء ماض
وكأس الراح تنظر عن حباب ... تنوب لنا عن الحدق المراض
وما غربت نجوم الأفق لكن ... نقلن من السماء إلى الرياض وقال (3) :
وعشية لبست رداء شقيق ... تزهى بلون للخدود أنيق
لو أستطيع شربتها كلفاً بها ... وعدلت فيها عن كؤوس رحيق
أبقت بها الشمس المنيرة مثل ما ... أبقى الحياء بوجنة المعشوق وقال (4) :
يفضح البدر كمالاً إن بدا ... والدمى العفر جمالاً إن رمق
أطلعت خجلته في خده ... شفقاً في فلق تحت غسق وقال (5) :
ومهفهف أحوى اللمى ذي مقلة ... تزري ظباها بالكمي الفارس
فعلت شمائله العذاب بمهجتي ... فعل النعامى بالقضيب المائس
__________
(1) الديوان: قطاف.
(2) الديوان: 197.
(3) الديوان: 206.
(4) الديوان: 208.
(5) الديوان: 192.(3/49)
كالغصن هز على كثيب أهيل ... كالصبح أطلع تحت ليل دامس وقال (1) :
ومقلة شادن أودت بنفسي ... كأن السقم لي ولها لباس
يسل اللحظ منها مشرفياً ... لقتلي ثم يغمده النعاس وقال (2) :
كم زورة لي بالزوراء خضت بها ... عباب بحر من الليل الدجوجي
وكم طرقت قباب الحي مرتدياً ... بصارم مثل عزمي هندواني
والليل يسترني غربيب سدفته ... كأنني خفر في خد زنجي وقال (3) :
زارت على شحط المزار متيماً ... بالرقمتين ودارها تيماء
في ليلة كشفت ذوائبها بها ... فتضاعفت بعقاصها الظلماء
والطيف يخفى في الظلام كما اختفى ... في وجنة الزنجي منه حياء وقال في حمام (4) :
رب حمام تلظى ... كتلظي كل وامق
ثم أذرى عبرات ... دمعها (5) بالوجد ناطق
فغدا منه ومني ... عاشق في جوف عاشق وقال، وأوصى أن تكتب على قبره، وهي آخر شعر قاله، رحمه الله تعالى (6) :
__________
(1) الديوان: 190.
(2) الديوان: 280.
(3) الديوان: 63.
(4) الديوان: 215.
(5) الديوان: صوبها.
(6) الديوان: 205.(3/50)
أإخواننا والموت قد حال دوننا ... وللموت حكم نافذ في الخلائق
سبقتكم للموت والعمر طيه ... وأعلم أن الكل لا بد لاحقي
بعيشكم أو باضطجاعي في الثرى ... ألم نك في صفو من العيش رائق
فمن مر بي فليمض بي مترحماً ... ولا يك منسياً وفاء الأصادق 345 (1)
سيف الدين المشد
علي بن عمر بن قزل بن جلدك التركماني الياروقي، الأمير سيف الدين المشد صاحب الديوان المشهور؛ ولد بمصر سنة اثنتين وستمائة، وتوفي بدمشق سنة ست وخمسين وستمائة، ودفن بقاسيون. اشتغل في صباه، وقال الشعر الرائق، وتولى شد الدواوين بدمشق للناصر يوسف بن العزيز مدة، وكان ظريفاً طيب العشرة تام المروءة، وهو ابن أخي فخر الدين عثمان أستاذ دار الملك الكامل، ونسيب الأمير جمال الدين ابن يغمور، روى عنه الدمياطي والفخر ابن عساكر، وكانت وفاته يوم تاسوع فقال الكمال العباسي (2) :
أيا يوم عاشورا جعلت مصيبة ... لفقد (3) كريم أو عظيم مبجل
وقد كان في قتل الحسين كفاية ... فقد جل بالرزء المعظم في علي
__________
(1) الزركشي: 217 والبدر السافر: 200 وكانت وفاته عشية الأحد تاسع المحرم وقيل يوم عاشوراء من السنة في ترجمته؛ وانظر البداية والنهاية 13: 197 والنجوم الزاهرة 7: 64 وعير الذهبي 5: 233 والشذرات 5: 280؛ والترجمة ثابتة في ر.
(2) البدر السافر: الكمال ابن عبد الرحمن القيمي.
(3) البدر: لقصد.(3/51)
وقال تاج الدين ابن حواري يرثيه:
أأخي أي دجنة أو أزمة ... كانت بغير السيف عنا تنجلي
نبكي عليه وليس ينفعنا البكا ... نبكي على فقد الجواد المفضل
من للقوافي والمعاني بعده ... من للمواضي والرماح الذبل من ذا لباب العلم غير عليه ال عالي المحل ومن لحل المشكل
عاشور يوم قد تعاظم ذنبه ... إذ حل فيه كل خطب معضل
لم يكفه قتل الحسين وما جرى ... حتى تعدى بالمصاب على علي ومن شعر سيف الدين المشد رحمه الله تعالى:
باكر كؤوس المدام واشرب ... واستجل وجه الحبيب واطرب
ولا تخف للهموم داء ... فهي دواء له مجرب
من يد ساق له رضاب ... كالمسك لا بل جناه أطيب
يعجبني خال وجنتيه ... والمسك في الجلنار أعجب وقال في مليح معذر:
وأغيد لما لاح خط عذاره ... على خده ازددت منه تعجبا
رأيت به التفاح أنبت سوسناً ... فأصبح مسكياً وكان مخضبا وقال أيضاً:
غرامي بكم أحلى من الأمن في القلب ... وودي لكم أصفى من المنهل العذب
وشوقي إليكم كل يوم وليلة ... يزيد على حال التباعد والقرب
وإني وإن شطت بي الدار عنكم ... تقلبني الأشواق جنباً إلى جنب
أأحبابنا إن قرب الله داركم ... نذرت بأني لا أعود إلى العتب
ذكرت زماناً كان يجمع بيننا ... ففاضت دموعي واستطار له قلبي
فواهاً له لو عاد للوصل مرة ... وأعطيه ما أبقى التفرق من لبي(3/52)
وكم (1) ليلة هبت من الغور نفحة ... برياكم طيباً فقلت لها هبي
عليكم سلام الله مني تحية ... شذا عرفها كالمسك والمندل الرطب وقال:
لئن تفرقنا ولم نجتمع ... وزادت الفرقة عن وقتها
فهذه العينان مع قربها ... لا تنظر العين إلى أختها وقال:
أقصى مرادي في الهوى ... بأن تحلوا ساحتي
وراحتي في قدح ... أنظره في راحتي وقال:
لعبت بالشطرنج مع أهيف ... رشاقة الأغصان من قده
أحل عقد البند من خصره ... وألثم الشامات من خده وقال في أرمد:
وشادن هممت فيه وجدا ... لما غدت مقلتاه رمدا
لم ينتقص حسنه ولكن ... نرجس عينيه صار وردا وقال:
يا جيرة الحي من جرعاء كاظمة ... طرقي لبعدكم ما التذ بالنظر
لا تسألوا عن حديث الدمع كيف جرى ... فقد كفى ما جرى منه على بصري وقال في مليح نصراني:
وبي غرير يحاكي الظبي ملتفتاً ... أغن أغيد (2) عقلي فيه قد حارا
__________
(1) الزركشي: فكم.
(2) الزركشي: أحور.(3/53)
يصبو الحباب إلى تقبيل مبسمه ... وتكتسي الراح من خديه أنوارا
من آل عيسى يرى بعدي يقربه ... ولم يخف من دم العشاق أوزارا
لأجله (1) أصبح الراووق منعكفاً ... على الصليب وشد الكاس زنارا وقال لغزاً في رمح:
أي شيء يكون مالاً وذخراً ... راق حسناً عند اللقاء ومخبر
أسمر القد أزرق السن وصفاً ... إنما قلبه بلا شك أحمر وقال لغزاً في هاروت:
ما اسم إذا صحفته ... فهو نبي مرسل
وهو إذا عكسته ... كتابه المنزل وقال:
أساود شعره لسبت فؤادي ... وأمست بين أحشائي تجول
كأن الشعر يطلبني بدين ... فكم يجفو علي ويستطيل وقال:
الحمد لله في حلي ومرتحلي ... على الذي نلت من علم ومن عمل
بالأمس كنت إلى الديوان منتسباً ... واليوم أصبحت والديوان ينسب لي وقال:
فصل كأن البدر فيه مطرب ... يبدو وهالته لديه طاره
والشمس في أفق السماء خريدة ... والجو ساق والأصيل عقاره
وكأن قوس الغيم جنك مذهب ... وكأنما صوب الحيا أوتاره وقال في مليحة عمياء، وهو بديع:
__________
(1) الزركشي: من أجله.(3/54)
علقتها نجلاء مثل المها ... فخان فيها الزمن الغادر
أذهب عينيها فإنسانها ... في ظلمة لا يهتدي حائر
تجرح قلبي وهي مكفوفة ... وهكذا قد يفعل الباتر
والنرجس الغض غدا ذابلاً ... واحسرتا لو أنه ناضر (1) ولبعضهم في عمياء وقد أحسن:
قالوا تعشقتها عمياء قلت لهم ... ما شانها ذاك في عيني ولا قدحا
بل زاد وجدي فيها أنا أبداً ... لا تنظر الشيب في فودي إذا وضحا
إن يجرح السيف مسلولاً فلا عجب ... وإنما اعجب لسيفٍ مغمد جرحا
كأنما هي بستان خلوت به ... ونام ناطوره سكران قد طفحا
تفتح الورد فيه من كمائمه ... والنرجس الغض فيه بعد ما انفتحا ومن شعر المشد:
سري بألسنة الدموع علانيه ... وشحوب جسمي في الغرام علانيه
أخفي الهوى ويذيعه يوم النوى ... حرق عن الواشين ليست خافيه
يا نازحين عن الهوى خلفتم ... جسداً بكم مضنى ونفساً باليه
وسكنتم غور الحشا فمدامعي ... تجري شرائعها وعيني داميه
وأنا الفداء لحاضرين بمهجتي ... أبداً وأشواقي إليهم بادية
لي وقلة إنسانها في حبهم ... رفض الكرى ودموعها متواليه
وبمهجتي من وجنتاه (2) جنة ... وقطوف صدغيه عليها دانيه
ما بعت روحي في هواه رخيصة ... إلا لكون عذاره من غاليه وقال:
لو كان قلبك مثل عطفك لينا ... ما كنت أقنع من وصالك بالمنى
__________
(1) ر: ناظر.
(2) ر: جنتاه.(3/55)
لكن خصرك مثل جسمي ناحل ... فكلاهما متحالفان على الضنا
يا هاجري ظلماً بغير جناية ... ما هكذا شرط المودة بيننا
قيدت طرفي مذ تسلسل دمعه ... وحبست نومي فالأسير إذاً أنا
لا تحم قدك عن حنايا أضلعي ... كم لذة بين الحمى والمنحنى
علمتني كيف الغرام ولم أكن ... أدري الهوى فرأيت صعباً هينا وقال من أبيات:
بدر يريني ثغره دائماً ... برقاً له في كل قلب وميض
تلاعب الشعر على ردفه ... أوقع قلبي في الطويل العريض وقال:
في كل يوم لأرباب الهوى شان ... وجد قديم وتبريح وأشجان
دموعهم كالغوادي وهي هاملة ... وفي حشاياهم للحب نيران
يبكون الوصل خوف الهجر من شغف ... فكل أوقاتهم هم وأحزان
لا يعرفون سلواً يهتدون به ... هيهات أين مع العشاق سلوان وقال ذوبيت:
كم قلت لقاتلي الذي تيمني ... إذ قال أنا نبي هذا الزمن
هل معجزة فقال من شاعته ... من ينظرني لوقته يعشقني 346 (1)
دبيران
علي بن عمر بن علي، العلامة نجم الدين الكاتبي، دبيران - بفتح الدال
__________
(1) تاريخ مختصر الدول: 287 وتاريخ الفلك: 36؛ والترجمة في ر.(3/56)
وكسر الباء الموحدة وسكون الياء وبعدها راء وألف ونون - القزويني المنطقي الحكيم صاحب التصانيف؛ توفي في شهر رمضان سنة خمس وسبعين وستمائة، ومولده في رجب سنة ستمائة. ومن تصانيفه " العين " في المنطق، و " الشمسية " و " جامع الدقائق " و " حكمة العين " (1) ، وله كتاب جمع فيه الطبيعي والرياضي وأضافه إلى العين ليكون حكمة كاملة، وله غير ذلك.
347 - (2)
المنشئ الإربلي
علي بن عيسى بن أبي الفتح، الصاحب بهاء الدين ابن الأمير فخر الدين الإربلي المنشي الكاتب البارع؛ له شعر وترسل، كان رئيساً، كتب لمتولي إربل ابن صلايا ثم خدم ببغداد في ديوان الإنشاء أيام علاء الدين صاحب الديوان (3) ، ثم إنه فتر سوقه في دولة اليهود، ثم تراجع بعدهم وسلم ولم ينكب، إلى أن مات سنة اثنتين وتسعين وستمائة. وكان صاحب تجمل وحشمة ومكارم، وفيه تشيع، وكان أبوه والياً بإربل.
ولبهاء الدين مصنفات أدبية مثل " المقامات الأربع " (4) و " رسالة الطيف " المشهورة، وغير ذلك (5) ، وخلف لما مات تركة عظيمة بنحو ألفي ألف
__________
(1) طبع بقازان سنة 1319 ومعه شرحه لميرك البخاري.
(2) الزركشي: 219 والبدر السافر: 21 وقال: وكان شيعياً إلا أنه متأدب مع علماء السنة ويوافقهم في عقائدهم، وكان كريماً متواضعاً وله مجلس ببغداد يجلس فيه طرفي النهار ويجتمع عنده الفضلاء وتجري بينهم بحوث في أنواع من العلوم؛ وهذه الترجمة ثابتة في ر.
(3) يعني علاء الدين الجويني.
(4) هي البغدادية والدمشقية والحلبية والمصرية.
(5) ورد في البدر السافر من مؤلفاته: ((كشف الغمة في معرفة الأثمة)) .(3/57)
درهم تسلمها ابنه أبو الفتح ومحقها ومات صعلوكاً.
ومن شعر بهاء الدين:
أيا هاجري من غير جرم جنيته ... ومن دأبه ظلمي وهجري فديته
أجرني رعاك الله من نار جفوة ... وحر غرام في البعاد اصطليته
وكن مسعدي فيما ألاقي من الأسى ... فهجرك يا كل المنى ما نويته
أأظما غراماً في هواك ولوعة ... ولي دمع عين كالسحاب بكيته
وحقك يا من تهت فيه صبابة ... ووجداً ومن دون الأنام اصطفيته
وحقك لا أنسى العهود التي مضت ... قديماً ولا أسلو زماناً قضيته ومنه:
كيف خلاصي من هوى شادن ... حكمه الحسن على مهجتي
بعاده ناري التي تتقى ... وقربه لو زارني جنتي
ما اتسعت طرق الهوى فيه لي ... إلا وضاقت في الجفا حيلتي
ليت ليالي وصله عدن لي ... يا حسرتا أين الليالي التي وقال:
وجهه والقوام والشعر الأس ... ود في بهجة الجبين النضير
بدر تم على قضيب عليه ... ليل دجن من فوق صبح منير وقال:
حثه سائق الغرام فحنا ... وجفا منزلاً وخلف مغنى
ودعاه الهوى فلبى سريعاً ... وكذا شيمة المحب المعنى
رام صبراً فلم يطعه غرام ... غادر القلب بالصبابة رهنا
وجفا لذة الكرى في رضى الحب ... فأرضى قلباً وأسخط جفنا
أسهرت مقلتيه في طاعة الوج ... د عيون على المحصب وسنى(3/58)
كل ظامي الوشاح ريان من ما ... ء التصابي أضنى المحب وعنى
ما على الدهر لو أعاد زماناً ... سلبته أيدي الحوادث منا
وعلى من أحب لو شفع الحس ... ن الذي قيد العيون بحسنى
وبروحي أفدي رشيق قوام ... لاح بدراً وماس إذ ماس غصنا
يتجنى ظلماً فيحدث لي وج ... داً إذا صد عاتباً أو تجنى
ما ثناني عنه العذول وهل يث ... ني غرامي وقده يتثنى
كيف أسلو بدراً يشابهه البد ... ر سناء يصبي الحليم وسنا
لي معنى فيه وفي صاحب الدي ... وان إذا رمت مدحه ألف معنى وقال:
طاف بها والليل وحف الجناح ... بدر الدجى يحمل شمس الصباح
وفاز بالراحة عشاقه ... لما بدا في كفه كأس راح
ظبي من الترك له قامة ... يزري تثنيها بسمر الرماح
عارضه آس وفي خده ... ورد نضير والثنايا أقاح
أطعت فيه صبوتي والهوى ... طوعاً وعاصيت النهى واللواح
عاطيته صهباء مشمولة ... تحكي سنا الصبح إذا الصبح لاح
فسكنت سورته وانتشى ... فظل طوعي بعد طول الجماح
فبت لا أعرف طيب الكرى ... وبات لا ينكر طيب المزاح
فهل على من بات صباً به ... وإن نضا ثوب وقار جناح وقال أيضاً:
غزال النقا لولا ثناياك واللمى ... لما بت صباً مستهاماً متيما
ولولا معان (1) فيك أوجبن صبوتي ... لما كنت من بعد الثمانين مغرما
__________
(1) ر: معاني.(3/59)
أيا جنة الحسن الذي (1) غادر الحشا ... بفرط التجافي والصدود جهنما
جريت على رسم من الجور واضح ... أما آن يوماً أن ترق وترحما
أمالك رقي كيف حللت جفوتي ... وعدت لقتلي بالبعاد متمما
وحرمت من حلو الوصال محللا ... وحللت من مر الجفاء محرما
بحسن التثني رق لي من صبابة ... أسلت بها دمعي على وجنتي دما
ورفقاً بمن غادرته غرض الردى ... إذا زار عن شحط بلادك سلما
كلفت بساجي الطرف أحوى مهفهف ... يميس فينسيك القضيب المنعما
يفوق الظبا والغصن طرفاً وقامة ... وبدر الدجى والبرق وجهاً ومبسما
فناظره في قصتي ليس ناظراً ... وحاجبه في قتلتي قد تحكما
ومشرف صدغ ظل في الحكم جائراً ... وعامل قد بات أعدى وأظلما
وعارضه لم يرث لي من شكاية ... فنمت دموعي حين لاح منمنما 348 (2)
أبو القاسم التنوخي
علي بن المحسن بن علي بن محمد بن أبي الفهم، أبو القاسم التنوخي؛ ولد يوم الثلاثاء نصف شعبان سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، وتوفي في شهور سنة سبع وأربعين وأربعمائة؛ وكان شيعياً معتزلياً، وكان ساكناً وقوراً، وكان يدخله من نيابة القضاء ودار الضرب وغيرهما كل شهر مائتا (3)
__________
(1) ر والزركشي: التي.
(2) الزركشي: 220 وابن خلكان 4: 162 وتاريخ بغداد 12: 115 وشروح السقط 1593؛ ووردت الترجمة في ر.
(3) ر: مائتين.(3/60)
دينار فيمر الشهر وليس معه شيء، كان ينفق على أصحاب الحديث، وكان الخطيب والصولي (1) وغيرهما يبيتون عنده، وكان ثقة في الحديث متحفظاً (2) في الشهادة، محتاطاً صدوقاً، وتقلد قضاء عدة نواح منه المدائن وأعمالها وأذربيجان والبردان وقرميسين.
وكان ظريفاً نبيلاً جيد النادرة، اجتاز يوماَ في بعض الدروب فسمع امرأة تقول لأخرى: كم عمر بنتك يا أختي؟ فقالت: رزقتها يوم صفع القاضي وضرب السياط، فرفع رأسه إليها وقال: يا بظراء صار صفعي تاريخك، ما وجدت تاريخاً غيره! !
وكان أعمش العينين لا تهدأ جفونه من الانخفاض والارتفاع والتغميض والانفتاح، وفيه يقول ابن بابك:
إذا التنوخي انتشى ... وغاص ثم انتعشا
أخفى عليه إن مشي ... ت وهو يخفى إن مشى
فلا أراه قلة ... ولا يراني عمشا ودفع إليه رجل رقعة وهو راكب، فلما فضها وجد فيها:
إن التنوخي به أبنة ... كأنه يسجد للفيش
له غلامان ينيكانه ... بعلة الترويح في الخيش فقال: ردوا زوج القحبة، فردوه فقال له: يا كشخان يا قرنان يا زوج ألف قحبة، هات زوجتك وأختك وأمك إلى داري وانظر ما يكون مني، وبعد ذلك احكم بما يكون مني، قفاه!! فصفعوه.
وكان يوماً نائماً، فاجتاز واحد غث وأزعجه مما يصيح: شراك النعال
__________
(1) ر: والصوري.
(2) ر: محتفظاً.(3/61)
شراك النعال، فقال لغلامه: اجمع كل نعل في البيت وأعطها (1) لهذا يصلحها ويشتغل بها، ثم نام، وأصلحها الإسكافي واشتغل بها إلى آخر النهار ومضى لشأنه، فلما كان في اليوم الثاني فعل كذلك ولم يدعه ينام، فقال للغلام: أدخله، فأدخله فقال له: يا ماص بظر أمك، أمس أصلحت كل نعل عندنا، واليوم تصيح على بابنا، هل بلغك أننا نتصافع بالنعال ونقطعها؟ ! قفاه قفاه، فقال: يا سيدي أتوب ولا أعود أدخل إلى هذا الدري أبداً.
وهذا أبو القاسم من أهل بيت كلهم فضلاء، ذكر ابن خلكان أباه (2) المحسن وجده القاضي التنوخي الكبير، رحمه الله تعالى وعفا عنهم.
349 - (3)
القليوبي الكاتب
علي بن محمد بن أحمد بن حبيب القليوبي الكاتب؛ قال ابن سعيد المغربي: وصفه ابن الزبير في كتاب " الجنان " بالإجادة في التشبيهات، وغلا في ذلك إلى أن قال: إن أنصف لم يفضل عليه ابن المعتز، وذكر أنه أدرك العزيز العبيدي ومدح قواده وكتابه، وتوفي في أوائل دولة الظاهر العبيدي.
ومن شعره:
وصافية بات الغلام يديرها ... على الشرب في جنح من الليل أدعج
كأن حباب الماء في وجناتها ... فرائد در في عقيق مدحرج
ولا ضوء إلا هلال كأنما ... تفرق منه الغيم عن نصف دملج
__________
(1) ر: وأعطيها.
(2) ر: أبوه.
(3) الزركشي: 220 والبدر السافر: 22.(3/62)
وقد حال دون (1) المشتري من شعاعه ... وميض كمثل الزئبق المترجرج
كأن الثريا في أواخر ليلها ... تحية (2) ورد فوق زهر بنفسج وقال أيضاً:
في ليلة أنف كأن هلالها ... صدع تبين في إناء زجاج
كفل الزمان لأختها بزيادة ... في نورها (3) فبدا كوقف العاج
وكأنما كيوان نقرة (4) فضة ... وكأنما المريخ ضوء سراج
تتطاول الجوزاء تحت جناحه ... وكأنها من نورها في تاج
ليل كمثل الروض فتح جنحه ... زهر الكوكب في ذرى الأبراج
أحييته حتى رأيت صباحه ... من لونه يختال في دواج
والشمس من تحت الغمام كأنها ... نار تضرم خلف جام زجاج وقال:
وكأن السماء مصحف قار ... وكأن النجوم رسم عشور
أو كأن النجوم زهر رياض ... قد أحاطت من بدرها بغدير وقال:
نجمت نجوم الزهر إلا أنها ... في روضة فلكية الأنوار
وكأنما الجوزاء منها شارب ... وكأنما المريخ كأس عقار وقال:
ألا فاسقنيها قد قضى الليل نحبه ... وقام لشوال هلال مبشر
__________
(1) البدر السافر: وقد جال نحو.
(2) البدر: نجية.
(3) في ر والمطبوعة: نورهد، والتصويب عن البدر والزركشي.
(4) في ر والمطبوعة: ثغرة؛ والتصويب عن البدر السافر.(3/63)
بدا مثل عرق السام واسترجعت له ... صروف الليالي فرصة (1) وهو قمر
إلى أن رأيناه ابن سبع كأنما ... على الأفق منه طيلسان مقور وقال:
وصفراء من ماء الكروم كأنما ... دجى الليل منها في رداء معصفر
كأن حباب الماء في وجناتها ... من الدر إكليل على تاج يعصر (2)
قطعت بها ليلاً كأن نجومه ... إذا اعترضتها العين نيران عسكر
تراها بآفاق السماء كأنما ... مطالعها منها معادن جوهر
ومنطقة الجوزاء تبدو كأنها (3) ... وسائط در في قلائد عنبر
وباتت بعيني الثريا كأنما ... على الأفق منها غصن ورد منور
فبت أراعي النجم (4) حتى تشمرت ... ذيول الدجى عن مائه المتفجر 350 (5)
ابن حريق البلنسي
علي بن محمد بن أحمد بن سلمة بن حريق، أبو الحسن المخزومي البلنسي الشاعر؛ كان متبحراً في اللغة والأدب، حافظاً (6) لأشعار العرب وأيامها،
__________
(1) الزركشي: قرضه.
(2) في حاشية الزركشي: صوابه: قيصر.
(3) ر والزركشي: كأنما.
(4) الزركشي: الفجر.
(5) الزؤركشي: 221 وابن الشعار 4: 366 والبدر السافر: 23 والتكملة رقم: 1895 وزاد المسافر: 64 وشرح مقصورة حازم: 142 وصفحات متفرقة في النفح، والذيل والتكلمة 5: 275والمغرب 2: 318 ومولد ابن حريق سنة 551؛ والترجمة في ر.
(6) ر: حافظ.(3/64)
اعترف له بالسبق بلغاء وقته؛ قال ابن الأنباري: توفي سنة اثنتين وعشرين وستمائة.
ومن شعره في مليح أعور:
لم يشنك الذي بعينك (1) عندي ... أنت أعلى من أن تعاب وأسنى
لطف الله رد سهمين سهماً ... رأفة بالعباد فازددت حسنا ولشمس الدين محمد بن العفيف التلمساني - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - في مثله:
كان بعينين فلما طغى ... سحرهما (2) رد إلى عين
وذاك من لطف بعشاقه ... ما يضرب الله بسيفين ومن شعر ابن حريق:
وكاتب ألفاظه وكتبه ... بغيضة إن خط أو تكلما
ترى أناساً يتمنون العمى ... وآخرين يحمدون الصمما وقال وقد زاره محبوبه فجاء مطر وسيل منه من العود:
يا ليلة جادت الأماني ... فيها على رغم أنف دهري
للقطر فيها علي نعمى ... يقصر عنها طويل شكري
إذ بات في منزلي حبيبي ... وقام في أهله بعذر
يا ليلة السيل في الليالي ... لأنت خير من ألف شهر وقال:
يا صاحبي وما البخيل بصاحبي ... هذي الخيام فأين تلك الأدمع
أنمر بالعرصات لا نبكي بها ... وهي المعاهد منهم وهي الأربع
__________
(1) ر: بعينيك.
(2) ر: بسحرها.(3/65)
يا سعد ما هذا القيام وفد نأوا ... أتقيم من بعد القلوب الأضلع؟
هيهات لا ريح اللواعج بعدهم ... رهو ولا طير الصبابة وقع (1)
وأبى الهوى إلا الحلول بلعلع ... ويح المطايا، أين منها لعلع
لم أدر أين ثووا فلم أسأل بهم ... ريحاً تهب ولا بريقاً يلمع
وكأنهم في كل مدرج ناسم ... فعليه مني رقة وتضرع
فإذا منحتهم السلام تبادرت ... تبليغه عني الرياح الأربع 351 (2)
ابن نبيه الشاعر
علي بن محمد بن الحسن بن يوسف بن يحيى، الأديب الشاعر البارع كمال الدين ابن النبيه المصري، صاحب الديوان المشهور؛ مدح بني أيوب، واتصل بالملك الأشرف موسى وكتب له الإنشاء، وسكن بنصيبين، وتوفي بها في حادي وعشرين جمادى الأولى (3) سنة تسع عشرة وستمائة؛ وهذا ديوانه المشهور هو انتقاه من شعره، لأنه كله منقى منقح، الدرة وأختها، وإلا فما هذا شعر من لا نظم إلا هذا الديوان الصغير.
ومن شعره ما ذكره القوصي في مليح يشتغل بعلم الهندسة (4) :
__________
(1) البدر: يرفع.
(2) النجوم الزاهرة 6: 243 والشذرات 5: 85 وحسن المحاضرة 1: 566 والزركشي: 221 وابن الشعار 4: 305؛ وانظر مقدمة ديوانه تحقيق الدكتور عمر أسعد (بيروت: 1969) ؛ والترجمة في ر.
(3) ر: الأول.
(4) الديوان: 472.(3/66)
وبي هندسي الشكل يسبيك لحظه ... وخال وخد بالعذار مطرز
ومذ خط بيكار الجمال عذاره ... كقوس علمنا أنما الخال مركز وقال (1) :
تعلمت علم الكيمياء بحبه ... غزال بجسمي ما بجفنيه من سقم
فصعدت أنفاسي وقطرت أدمعي ... فصح بذا التدبير تصفيرة الجسم وقال في مليح يهودي رآه بدمشق فأحبه (2) :
من آل إسرائيل علقته ... أسقمني بالصد والتيه
قد انزل السلوى على قلبه ... وأنزل المن على فيه وقال (3) :
بدر تم له من الشعر هاله ... من رآه من المحبين هاله
قصر الليل حين زار ولا غر ... وغزال غارت عليه الغزاله
يا نسيم الصبا عساك تحمل ... ت لنا من سكان نجد رساله
كل معسولة المراشف بيضا ... ء حمتها سمر القنا العاسله
عانقتني كصارمي وأدارت ... معصميها في عاتقي (4) كالحماله
إن بالرقمتين ملعب لهو ... بسطت دوحه علينا ظلاله
معلم معلم وشى بسطه الزه ... ر وحاكته ديمة هطاله
وكأن الحمام فيه قيان ... أعربت (5) لحنها على غير آله
وكأن القضيب شمر للرق ... ص سحيراً عن ساقه أذياله
__________
(1) الديوان: 390.
(2) الديوان: 389.
(3) الديوان: 473.
(4) ر: عانقي.
(5) ر: عربت.(3/67)
إن خوض الظلماء أطيب عندي ... من مطايا أمست تشكي (1) كلاله
فهي مثل القسي شكلاً ولكن ... هي في السبق أسهم لا محاله
تركتها الحداة بالخفض والرف ... ع حروفاً في جرها عماله ولشهاب الدين التلعرفي قصيدة في هذا الوزن وهي:
أي دمع من الجفون أساله ... إذ أتته من النسيم رساله
حملته الرياض أسرار عرف ... أودعتها السحائب الهطاله منها:
يا خليلي وللخليل حقوق ... واجبات الأحوال في كل حاله
سل عقيق الحمى وقل إذ تراه ... خالياً من ظبائه المختاله
أين تلك المراشف العسليا ... ت وتلك المعاطف العساله
وليال قضيتها كلآل ... بغزال تغار منه الغزاله
بابلي اللحاظ والريق والأل ... فاظ، كل مدامة سلساله
وطويل الصدود والشعر والمط ... ل، ومن لي بأن يديم مطاله
وسقيم الجفون والعهد والخص ... ر فكل تراه يشكو اعتلاله
ونقي الجبين والخد والثغ ... ر فطوبى لمن حسا جرياله
من بني الترك كلما جذب القو ... س رأينا في وسطه بدر هاله
يقع الوهم حين يرمي فلا ند ... ري يداه أم عينه النباله
قلت لما لوى ديوان وصالي ... وهو مثر وقادر لا محاله
بيننا الشرع قال سر بي فعندي ... من صفاتي لكل دعوى دلاله
وشهودي من خال خدي ومن قد ... ي شهود معروفة بالعداله
أنا وكلت مقلتي في دما الخل ... ق فقالت قبلت هذي الوكاله
__________
(1) الديوان: باتت بكل.(3/68)
ومن شعر ابن نبيه (1) :
رنا وانثنى كالسيف والصعدة السمرا ... فما أكثر القتلى وما أرخص الأسرى
خذوا حذراً من خارجي عذاره ... فقد جاء زحفاً في كتيبته الخضرا
غلام أراد الله إطفاء فتنة ... بعارضه فاستأنفت فتنة أخرى
فزرفن بالأصداغ جنة خده ... وأرخى عليها من ذؤابته (2) سترا
أخوض عباب الموت من دون ثغره ... كذاك يخوض البحر من طلب الدرا
غزال رخيم الدال في يوم سلمه ... وليث له في حربه البطشة الكبرى
دري يحمل الكأس في يوم لذة ... ولكن بحمل السيف يوم الوغى أدرى
أهيم به في عقده أو نجاده ... فلا بد في السراء منه وفي الضرا
وصامتة (3) الخلخال أن وشاحها ... فهذا قد استغنى وذاك اشتكى (4) الفقرا
لها معصم لولا السوار عنه بحبها ... إذا حسرت أكمامها لجرى نهرا
دعتني إلى السلوان عنه بحبها ... فما كنت أرضى بعد إيماني الكفرا
بأي اعتذار ألتقي حسن وجهه ... إذا شغلتني عنه غانية عذرا وقال (5) :
باكر صبوحك أهنا العيش باكره ... فقد ترنم فوق الأيك طائره
والليل تجري الدراري في مجرته ... كالروض تطفو على نهر أزاهره
وكوكب الصبح نجاب على يده ... مخلق تملأ الدنيا بشائره
فانهض إلى ذوب ياقوت لها حبب ... تنوب عن ثغر من تهوى جواهره
حمراء في وجنة الساقي لها شبه ... فهل جناها مع العنقود عاصره؟
__________
(1) الديوان: 287.
(2) الديوان: عوارضه.
(3) ر: وظامئه.
(4) الديوان: وذا يشتكي.
(5) الديوان: 91.(3/69)
ساق تكون من صبح ومن غسق ... فابيض خداه واسودت غدائره
مفلج الثغر معسول اللمى غنج ... مؤنث الجفن فحل اللحظ شاطره
مهفهف القد يندى جسمه ترفاً ... مخصر الخصر عبل الردف وافره
بيض سوالفه لعس مراشفه ... نعس نواظره خرس أساوره
تعلمت بانة الوادي شمائله ... وزورت سحر عينيه جآذره
كأنه بسواد الصدغ (1) مكتحل ... وركبت فوق خديه محاجره
نبي حسن أظلته ذوائبه ... وقام في فترة الأجفان ناظره
فلو رأت مقلتاً هاروت آيته ال ... كبرى لآمن بعد الكفر ساحره
قامت أدلة صدغيه لعاشقه ... على عذول أتى فيه يناظره
خذ من زمانك ما أعطاك مغتنماً ... وأنت ناه لهذا الدهر آمره
فالعمر كالكاس تستحلى أوائله ... لكنه ربما مجت أواخره وقال (2) :
طاب الصبوح لنا فهاك وهات ... واشرب هنيئاً يا أخا اللذات
كم ذا التواني والشباب مطاوع ... والدهر سمح والحبيب مواتي
قم فاصطبح من شمس طاسك (3) واغتبق ... بكواكب طلعت من الكاسات
صفراء صافية توقد بردها ... فعجبت للنيران في الجنات
ينسل من قار الظروف (4) حبابها ... والدر مجتلب من الظلمات
عذراء واقعها المناج أما ترى ... منديل عذرتها بكف سقاة
يسعى بها عبل الروادف أهيف ... خنث الشمائل شاطر الحركات
يهوي فتسبقه أساود شعره ... ملتفة كأساود الحيات
__________
(1) الديوان: الليل.
(2) الديوان: 123.
(3) الديوان: كاسك.
(4) ر: الضروف.(3/70)
يدري منازل نيرات كؤوسه ... ما بين منصرف وآخر آتي وقال أيضاً (1) :
أماناً أيها القمر المطل ... ففي جفنيك أسياف تسل
يزيد جمال وجهك كل يوم ... ولي جسد يذوب ويضمحل
وما عرف السقام طريق جسمي ... ولكن دل من أهوى يدل
يميل بطرفه التركي عني ... صدقتم إن ضيق العين بخل
إذا نشرت ذوائبه عليه ... ترى ماء يرف عليه ظل وقال أيضاً (2) :
حديث دمعي عن غرامي شجون ... تنقله عني رواة الجفون
عجبت من صحة أخبارها ... وقد تجرحن بدمع هتون
بمهجتي أحور قد جمعت ... جفونه المرضى فنون الفتون
مغنيطس الخال على خده ... يجذب بالحسن حديد العيون
ساومته في فمه (3) قبلة ... فقال هذا أبداً لا يكون
أدر دنانير فقد نثرت ... دراهم النور بنان الغصون
عوذ جناني من جنون الهوى ... من لام صدغيه بقاف ونون وقال أيضاً (4) :
صن ناظراً مترقباً (5) لك أن يرى ... فلقد كفى من دمعه ما قد جرى
يا من حكى في الحسن صورة يوسف ... آهاً لو أنك مثل يوسف تشترى
__________
(1) الديوان: 255.
(2) الديوان: 473.
(3) الديوان: سألته يمنحني.
(4) الديوان: 247.
(5) ر: لكي.(3/71)
تعشو العيون لخده فيردها ... ويقول ليست هذه نار القرى
يا قاتل الله الجمال فإنه ... ما زال يصحب باخلاً متجبرا
يا غصن بان في نقا رمل لقد ... أبدعت غذ أثمرت بدراً نيرا
ما ضر طيفك أن أكون مكانه ... فقد اشتبهنا في السقام فما نرى
أترى لأيامي بوصلك عودة ... ولو أنها في بعض أحلام الكرى
زمناً شربت زلال وصلك صافياً ... وجنيت روض أخضر مثمرا
ملكتك فيه يدي فحين فتحتها ... لم ألق إلا حسرة وتفكرا وقال (1) :
لماك والخد النضر ... ماء الحياة والخضر
أخذتني يا تاركي ... أخذ عزيز مقتدر
أحلت سلواني على ... ضامن قلب منكسر
ونمت عن ذي أرق ... إذا غفا النجم سهر
وماء عيني التقى ... فيك لأمر قد قدر
ما نصبت أشراك أل ... حاظك إلا للحذر
قلبي على الترك به ... ذا البدوي يفتخر
ولي عهد البدر وإن ... غاب فإني منتظر
خلعت إذ بايعته ... عذار من لا يعتذر
في خلقه وخلقه ... طبع الغزال والنمر
نزهة (2) أحداق الورى (3) ... فحيثما سار تسر
إن طريق ناظري ... إلى محياه خطر
__________
(1) الديوان: 422.
(2) الديوان: ترعاه.
(3) الديوان: القنا.(3/72)
وقال (1) :
قم يا غلام ودع مقالة من نصح ... فالديك قد صدع الدجى لما صدح
خفيت (2) تباشير الصباح فسقني ... ما طل في الظلماء من قدح القدح
صهباء ما لمعت بكف مديرها ... لمقطب إلا تهلل وانشرح
هي صفوة الكرم " الكريم " (3) فما سرت ... سراؤها في باخل إلا سمح
من كف فتان القوام بوجهه ... عذر لمن خلع العذار أو اطرح (4)
ولي بشعر كالظلام إذا دجا ... وأتى بوجهه كالصباح إذا وضح
يهتز كالغصن الرطيب على النقا ... ذا خف في طي الوشاح قد اتضح (5)
النرجس الغض استحى من طرفه ... وبخده زهر الأقاح قد اتضح
فكأنه متبسم بعقوده ... أو بالثنايا قد تقلد واتشح وديوان شعره كله من هذا الأسلوب، وهو موجود في أيدي الناس سامحه الله تعالى.
352 - (6)
علاء الدين الباجي
علي بن محمد بن خطاب، الشيخ علاء الدين الباجي المغربي الأصولي
__________
(1) الديوان: 208.
(2) ر: حفت، وفي المطبوعة: لاحت؛ وأثبت ما في الديوان.
(3) سقطت من ر.
(4) الديوان: أو اتفضح.
(5) ر: اتقح.
(6) البدر السافر: 24 والدرر الكامنة 3: 176 وطبقات السبكي 6: 227 والشذرات 6: 34 وحسن المحاضرة 1: 544 والأسنوي 1: 286؛ والترجمة في ر.(3/73)
المصري؛ ولد سنة إحدى وثلاثين وستمائة، وتوفي سنة أربع عشرة وسبعمائة؛ ختصر كتاب " المحرر " و " علوم الحديث " و " المحصول " في أصول الفقه و " الأربعين ".
وكان عمدة في الفتوى، وتخرج به الأصحاب، وممن أخذ عنه العلامتان قاضي القضاة تقي الدين السبكي وأثير الدين أبو حيان، وكان ديناً صيناً وقوراً، ومن شعره:
رثى لي عذلي (1) إذ عاينوني ... وسحب مدامعي مثل العيون
وراموا كحل عيني قلت كفوا ... فأصل بليتي كحل العيون وقال ذوبيت:
بلبل والهزار والشحرور ... يسبي طرباً قلب الجشي المغرور
فانهض عجلاً وانهب من اللذة ما ... جادت كرماً به يد المقدور 353 (2)
أبو سعد ابن خلف
علي بن محمد بن خلف، أبو سعد الكاتب النيرماني - ونيرمان قرية من قرى الجبل بالقرب من همذان -؛ كان من جلة الكتاب الفضلاء، والرؤساء النبلاء، وكان يخدم في ديوان بني بويه ببغداد، وصنف لبهاء الدولة " المنثور البهائي " في مجلدة، وهو نثر كتاب " الحماسة "؛ وتوفي
__________
(1) البدر: عودي.
(2) الزركشي: 223 (وهو ينقل أيضاً عن ابن النجار في الذيل) واليتيمة 3: 224 والتتمة 1: 126 ومعجم البلدان (نيرمان) وورد فيه ((أبو سعيد محمد بن علي بن خلف)) ؛ والترجمة في ر.(3/74)
سنة أربع عشرة وأربعمائة.
ومن شعره القصيدة المشهورة وهي:
خليلي في بغداد هل أنتما ليا ... على العهد مثلي أم غدا العهد باليا
وهل ذرفت يوم النوى مقلتاكما ... علي كما أمسي وأصبح باكيا
وهل أنا مذكور بخير لديكما ... إذا ما جرى ذكر لمن كان نائيا
وهل فيكما من إن تنزل منزلاً ... أنيقاً وبستاناً من النور حاليا
أجد له طيب المكان وحسنه ... منى يتمناها فكنت الأمانيا (1)
كتاب عن شوق شديد إليكما ... كأن على الأحشاء منه مكاويا
وعن أدمع منهلة، فتأملا ... كتابي تبن آثارها في كتابيا
ولا تيأسا أن يجمع الله بيننا ... كأحسن ما كنا عليه تصافيا
" فقد يجمع الله الشتيتين بعد ما ... يظنان كل الظن أن لا تلاقيا " (2)
ولما تفرقنا تطيرت أن أرى ... مكانك مني لا خلا منك خاليا
فضمنته ورداً كرياك ريحه ... يذكرني منك الذي لست ناسيا
ولا تطلبا صوني إذا ما تغنتا ... تسر وفوز جادتا لي الأغانيا
" وخبرتماني أن تيماء منزل ... لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا "
" فهذي شهور الصيف عنا قد انقضت ... فما للنوى ترمي بليلى المراميا " (3)
فدى لك يا بغداد كل مدينة ... من الأرض حتى خطتي ودياريا
فقد سرت في شرق البلاد وغربها ... وطوفت خيلي بينها وركابيا
فلم أر فيها مثل بغداد منزلاً ... ولم أر فيها مثل دجلة واديا
__________
(1) البيت والذي قبله من قول الشاعر:
(2) للمجنون، ديوانه: 293.
(3) البيت والذي قبله للمجنون، ديوانه: 293، 300.(3/75)
ولا مثل أهليها أرق شمائلاً ... وأعذب ألفاظاً وأحلى معانيا
وكم قائل لو كان ودك صادقاً ... لبغداد لم ترحل وكان جوابيا
" يقيم الرجال الموسرون بأرضهم ... وترمي النوى بالمقترين المراميا " وأورد له ابن النجار في تاريخه:
يا ظالمي قسماً عليك بحرمة ال ... إيمان وهي نهاية الأيمان
لا تسفكن دمي فإني خائف ... جداً عليك عقوبة العدوان
وإذا مررت على زرود فلا تغر ... بالمشي فيه تمايل الأغصان
بالله واستر ورد خدك فيه لا ... ينشق قلب شقائق النعمان وأورد له أيضاً:
عجباً لضرسك كيف يشكو علة ... وبجنبه من ريقك الدرياق
هذا نظير سقام ناظرك الذي ... عافاك وابتليت به العشاق
أو عقربي صدغيك إذ لدغا الورى ... وحماك حمتيهما الخلاق 354 (1)
الصاحب بهاء الدين ابن حنا
علي بن محمد بن سليم، الصاحب الوزير الكبير بهاء الدين ابن حنا المصري، أحد رجال الدهر حزماً وعزماً ورأياً ودهاء وتصرفاً، استوزره الظاهر وفوض إليه الأمور، ولم يكن على يده يد، وقام بأعباء المملكة، وكان واسع الصدر عفيفاً نزهاً لا يقبل لأحد شيئاً إلا أن يكون من الصلحاء
__________
(1) تاريخ ابن الفرات 7: 125 وعبر الذهبي 5: 315 والشذرات 5: 358 والسلوك 1: 649؛ والترجمة في ر.(3/76)
والفقراء، وكان قائلاً بهم: يحسن إليهم ويحترمهم ويدر عليهم الصلات، وقد قصده غير واحد بالأذى فلم يجدوا ما يتعلقون به عليه، ووزر بعد الظاهر لابنه السعيد، وزادت رتبته، وله مدرسة وبر وأوقاف. ابتلي بفقد ولديه: فخر الدين ومحيي الدين فصبر وتجلد، وعاش أربعاً وسبعين سنة، وتوفي سنة سبع وسبعين وستمائة.
وحكي أن من جملة سعادته أول وزارته أنه نزل إلى دار الوزير الفائزي ليتبع ودائعه وذخائره، فوجد ورقة فيها أسماء من أودع عنده أمواله، فعرف الحاضرون كل من سمي في الورقة، وطلب وأخذ المال منه، وكان في جملة الأسماء مكتوب: الشيخ ركن الدين أربعون ألف دينار، فلم يعرف الحاضرون من هو الشيخ ركن الدين، ففكر الصاحب زماناً وقال: احفروا هذا الركن، وأشار إلى ركن الدار، فحفروه فوجدوا الذهب.
وكان ينتبه قبل الأذان للصبح، ويشرب قدحاً فيه ثماني أواق شراب بالمصري، ويأكل طيري دجاج مسلوقة، فإذا أذن صلى الصبح وركب إلى القلعة، وأقام طول نهاره لا يأكل شيئاً في المباشرة ويظن أنه صائم، وهو في الحقيقة صائم لا يحتاج إلى غداء مع ذلك الشراب والدجاج، وكان الملك الظاهر يعظمه ويدعوه يا أبي.
وحكي أن الأمراء الكبار اشتوروا فيما بينهم أنهم يخاطبون الملك الظاهر في عزل الصاحب بهاء الدين، وكانوا قد قرروا أن ابن بركة خان هو الذي يفتح الباب في ذلك، والأمراء يراسلونه، فبلغ السلطان ذلك، وكانوا قد عزموا على مخاطبته في بكرة ذلك النهار في الخدمة، فلما جاءوا ثاني يوم ادعى السلطان أنه أصبح به مغس منعه عن الجلوس للخدمة، فجلس الأمراء إلى أن تعالى النهار ثم خرج إليهم جمدار وقال لهم: باسم الله ادخلوا، فدخلوا يعودون السلطان، فوجدوه متقلق، فجلسوا عنده ساعة، فجاءه خادم وقال: خوند كان مولانا السلطان قد دفع إلي في وقت قعبة صيني(3/77)
فيها حلاوة يقطين وقال لي: دعها عندك فإن هذه أهداها لي رجل صالح، وهي تنفع من الأمراض، فقال السلطان: نعم، أحضرها، فأحضرها، فأكل منها شيئاً قليلاً، وادعى أنه سكن ما يجده من الألم، ففرح الأمراء وسروا بذلك، فقال: يا أمراء تعرفون الذي أهدى إلي هذه الحلاوة؟ فقالوا: لا، قال: هذا أبي الصاحب بهاء الدين، فسكتوا، فلما خرجوا قال بعضهم لبعض: إذا كان يعتقد أن طعامه يشفي من المرض أي شيء تقولون فيه؟!
355 - (1)
علاء الدين ابن غانم
علي بن محمد بن سلمان بن حمائل، الشيخ الفاضل البليغ الكاتب الشاعر، صدر الشام بقية الأعيان، الشيخ علاء الدين ابن غانم - تقدم تمام نسبه في ترجمة أخيه الشيخ شهاب الدين (2) -؛ توفي بتبوك سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، وله ست وثمانون سنة.
كان حسنة من حسنات الزمان، وبقية مما ترك الأعيان، ذا مروءة فاتت الواصف، وجود أخجل الغمام الواكف، تأذى من الدولة مرات، وما رجع عما له في الخير والعصبية من كرات.
قال الشيخ صدر الدين ابن الوكيل: ما أعرف أحداً في الشام إلا ولعلاء
__________
(1) الزركشي: 223 والدرر الكامنة 3: 178 والشذرات 6: 114 والبداية والنهاية 14: 178 والسلوك 2: 426 وذيل العبر: 195؛ ووردت الترجمة في ر.
(2) انظر الترجمة رقم: 50.(3/78)
الدين ابن غانم في عنقه منة قلدها بصنيعه أو جاهه أو ماله، وكان الشيخ كمال الدين الزملكاني يكرهه (1) ويقول: ما أدري ما أعمله بهذا علاء الدين ابن غانم؟ إني من أردت أن أذكره عنده بسوء يقول: ما في الدنيا مثل علاء الدين ابن غانم.
" وكانت كراهته له بسبب، وهو أنه شغر منصب القضاء بدمشق، فكتب جمال الدين الأفرم نائب السلطنة مطالعة يذكر فيها من يصلح للقضاء، فعين الشيخ صدر الدين ابن الوكيل وابن الزملكاني وابن الشريشي وغيرهم، وكتب في الجملة نجم الدين ابن صصرى، وكان بين ابن صصرى وابن غانم تودد عظيم وإدلال وعشرة عظيمة، وكان عند الأفرم حجرة عربية ليس لها نظير، وكان يحبها، وكان سلار والجاشنكير كل منهما قد طلبها وهو يدافع عنها، ولا تسمح نفسه بفراقها، فأخذ ابن غانم علامة الأفرم وكتب عليها كتاباً بخطه يقول لسلار: أحب أن تجعل ولاية قضاء القضاة لابن صصرى وشكرانه، ولك الحجرة التي طلبتها، وسير المطالعة، فلم يشعر إلا وتقليد ابن صصرى قد كتب، ولم يكن في ظن أحد ذلك، فتغيظ ابن الزملكاني وابن الوكيل لذلك وعز عليهما، وباشر ابن صصرى القضاء، ثم بعد ذلك طلبت الفرس وقيل له: قد أجبنا سؤالك إلى ما أردت، وسير لنا ما ذكرت من الفرس، فقال: أنا لم أعلم بذلك ولا لي غرض، فسيروا إليه المطالعة فوجدت بخط ابن غانم، فرسم إليه في الغد برايه ليقطع في بكرة النهار يده، وشاع ذلك، فلما كان سحر ذلك اليوم طلبه الأفرم وقال له: من أول الليل إلى آخره كلما أردت النوم يأتيني شخص في يده رمح - قال أو حربة - ويقول: لا تعرض لابن غانم بسوء وإلا قتلتك بهذه الحربة، وقال له: ما حملك على ذلك؟ قال: حبي لابن صصرى، ولا عدت إلى مثلها،
__________
(1) ر: يكرمه.(3/79)
فعفا عنه وخلع عليه، وكمد عداه لذلك، واستقل ابن صصرى بالقضاء، وعظمت منزلة ابن غانم عند ابن صصرى مع عظمها قبل ذلك، وكان زائد الإدلال عليه وتضاعف إدلاله، وكان ابن صصرى إذا عزل لا يولي، وإذا ذاكر في أمر لا يرجع عنه، واتفق أن قاضي نوى كان له أعداء تكلموا فيه بسوء، جرحوه بالباطل وتحاملوا عليه عند قاضي القضاة نجم الدين، فاستحضره وعزله وانتهره في المجلس، وخرج من بين يديه منكسر الخاطر، وكان علاء الدين ابن غانم يقرأ بين المغرب والعشاء في السبع بالحائط الشمالي، عند باب النظامين، فقيل لذلك الرجل: ما لك إلا علاء الدين ابن غانم فله إدلال عظيم على القاضي، وأعلموه أنه بين العشاءين يقرأ في السبع المذكور، فاتفق أن ذلك الرجل جاء إلى علاء الدين ولم يكن يعرفه، فسأله عن علاء الدين وقال: لي إليه حاجة فدلني عليه، فقال علاء الدين: قل لي حاجتك، فإن كان يمكن قضاؤها تحدثت لك مع ابن غانم فهو ما يخالفني إن شاء الله تعالى، فقال له: يا مولانا أنا والله فقير الحال ولي عائلة، ورجل كبير، والله ما معي درهم ولا ما أتعشى به وبكى وقال: أنا قاض من قضاة البر، وكأن بعض من يحسدني وشى عنده ونقل إليه بأنني أرتشي، وحمله علي فاستحضرني وعزلني، والله ما لي درهم واحد ولا دابة أحضر عليها أهلي، وقصدت أن أجلس بين الشهود فما مكنني، فقيل لي: إن علاء الدين ابن غانم واسطة خير، وله عليه إدلال عظيم، ودلوني إلى هذا المكان، وبكى، فقال له: اقعد هنا لأكشف لك خبر ابن غانم، وأرجو من الله إصلاح أمرك، فأجلسه وانطلق من وقته فدخل على ابن صصرى وكلمه بإدلاله بحيث قال له: أنت قاسي القلب، وأنت أنت، فقال له: ما الخبر؟ فقال: هذا القاضي الفلاني، أي شيء ذنبه حتى عزلته؟ فقال: من صفته كذا وكذا وقيل عنه كذا وكذا، فقال: والله كذب عليه، وأنا والله ما أعرفه، ودل علي، وحلف أنه ما ارتشى قط ولا له ما يتعشى(3/80)
به، ورق قلبي له، ووالله العظيم لا خرجت من عندك حتى توليه وظيفته، وتكتب تقليده وتكبت عدوه فقال: هذا ما يمكن، وما لي عادة إذا عزلت أحداً أعود إليه، فقال: والله ما أخرج حتى توليه، وإن لم تسمع مني لا عدت أكلمك أبداً، فلم يزل حتى ولاه من ساعته، وكتب تقليده وأشهد عليه بذلك، فقال: وتعطيه عمامتك وفرجيتك خلعة عليه، فلم يمكنه مخالفته، ثم قال: وتكتب له عن الصدقات خمسمائة درهم، ففعل ذلك جميعه، وأتى إلى منزله فأخذ ثوباً ودلقاً له ووضع الجميع في بقجة وأتى إليه وهو ينتظره، فحين رآه قال له: إيش قال لك ابن غانم؟ فأخرج التوقيع، وكان في ذهنه أن يسعى له في الجلوس بين الشهود، فلما قرأ التوقيع كاد يموت فرحاً، ثم أعطاه العمامة والفرجية والخمسمائة وقال: هذا من قاضي القضاة، وهذا الدلق والغلالة مني، فأكب على يديه يقبلهما، فلم يمكنه وقال: أنا والله ما عملت معك هذا إلا لله تعالى، فابتهل بالدعاء له.
وله من هذا وأشباهه ما لا يكاد ينضبط، ولو بسطت مناقبه لطال الفصل " (1) .
وكان وقوراً مليح الهيبة منور الشيبة، ملازم الجماعة مطرح الكلف؛ حدث عن ابن عبد الدايم والزين خالد وابن النشبي وجماعة؛ وكان بيته رحمه الله تعالى مأوى كل غريب، وبابه مقصد كل ملهوف. وله النظم والنثر، ومدحه شعراء عصره؛ وكان آخر ما بقي من رؤساء دمشق.
كتب إلى العلامة شهاب الدين محمود:
لقد غبت عنا والذي غاب محسود ... وأنت على ما اخترت من ذاك محمود (2)
حللنا محلاً بعد بعدك ممحلاً ... به كل شيء ما خلا الشر مفقود
به الباب مفتوح إلى كل شقوة ... ولكن به باب السعادة مسدود
__________
(1) ما بين معقفين لم يرد في ر والزركشي، وهو في المطبوعة.
(2) ر: مجهود.(3/81)
فكتب إليه شهاب الدين محمد الجواب:
أأحبابنا بنتم وشط مزاركم ... برغمي وحالت دون وصلكم البيد
وروعتم روض الحمى بفراقكم ... فشابت نواصي بانه وهو مولود
ومن لم تهجه الورق وجداً عليكم ... توهم أن النوح في الدوح تغريد وكتب إليه السيخ نجم الدين الصفدي:
شنف الأسماع بالنظم الذي ... قد حكى الأنجم في ظلمائها
وبدا كالشمس إلا أنه ... زاد في النور على لألائها فأجاب:
ليس للملوك إلا مدحه ... في معاليك وفي آلائها
وبحار الفضل تجري منك لي ... فمقالي قطرة من مائها وقال رحمه الله تعالى: عتبني شهاب الدين محمود وهو صاحب الديوان وقال: بلغني أن جماعة كتاب الإنشاء يذمونني وأنت حاضر ما ترد غيبتي، فكتبت إليه:
ومن قال إن القوم ذموك كاذب ... وما منك إلا الفضل يوجد والجود
وما أحد إلا لفضلك حامد ... وهل عيب بين الناس أو ذم محمود فأجاب بأبيات منها:
علمت بأني لم أذم بمجلس ... وفيه كريم القوم مثلك موجود
ولست أزكي النفس إذ ليس نافعي ... إذا ذم مني الفعل والاسم محمود
وما يكره الإنسان من أكل لحمه ... وقد آن أن يبلى ويأكله الدود قال: ولم يكن " بعد " ذلك إلا أيام قلائل حتى توفي، رحمه الله تعالى، وأكله الدود.(3/82)
ومن شعر علاء الدين ابن غانم لما أمسك كراي المنصوري نائب الشام (1) :
أنا راض بحالتي لا مزيد ... وبأن لا أزال عبد الحميد
لي (2) في أمر كافل الملك بالشا ... م عظات للحازم المستفيد
جاءه بالتقليد أرغون بالأم ... س وولى وعاد بالتقييد ومنه:
وكم سرحة لي بالربى زمن الصبا ... أشاهد مرأى حسنها متمليا
ويسكرني عرف الشذا من نسيمها ... فأقضي هوى من طيبه حتف أنفيا
وأسأل فيها مبسم الروض قبلة ... فيبرز من أكمامه لي أيديا
فلله روض زرته متنزهاً ... فأبدى لعيني حسن مرأى بلا ريا
غدا الغصن فيه راقصاً ونسيمه ... يكر على من زاره متعديا
ترجلت الأشجار والماء خر إذ ... نسيم الصبا أضحى به متمشيا
تغني لديه الورق والغصن راقص ... فيعرق وجه الأرض من كثرة الحيا وقال:
فعد نفسك من أهل القبور بها ... فعن قليل إليها سوف تنتقل
واذكر مصارع قوم قد قضوا ومضوا ... كأنهم لم يكونوا بعد ما رحلوا
يا ليت شعري ما قالوا وقيل لهم ... وما الذي قد أجابوا عندما سئلوا ومن نثره في صفة قلعة ذات أودية ومحاجز: لا تراها العيون لبعد مرماها إلا شزرا، ولا ينظر ساكنها العدد الكثير إلا نزرا، ولا يظن ناظرها إلا أنها طالعة بين النجوم بما لها من الأبراج، ولها من الفرات خندق (3)
__________
(1) كان الأير سيف الدين كراي المنصوري حتى سنة 699 مستقراً في نيابة صفد؛ ولما تواترت الأخبار بنزول غازان على الشام وجه مع آخرين لمواجهته، ويبدو أن القبض عليه تم بعد ذلك.
(2) ر: أنا.
(3) ر: خندقاً(3/83)
يحفها كالبحر إلا أن هذا فرات وهذا ملح أجاج، ولها واد لا يقي لفحة الرمضاء ولا حر الهواجر، وقد توعرت مسالكه فلا يداس فيه إلا على المحاجر، وتفوت ما بين مرآه العلي وبين قراره العميق، ويقتحم راكبه الهول في هبوطه فكأنما خر من السماء أو تخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق.
356 - (1)
ابن خروف النحوي
علي بن محمد بن خروف، نظلم الدين أبو الحسن ابن خروف الأندلسي؛ حضر من إشبيلية، وكان إماماً في العربية، محققاً مدققاً ماهراً مشاركاً في علم الأصول، صنف شرحاً لكتاب سيبويه جليل الفائدة، حمله إلى صاحب الغرب فأعطاه ألف دينار، وشرحاً للجمل، وكتاباً (2) في الفرائض، وله رد على أبي زيد السهيلي وعلى جماعة في العربية. أقرأ النحو بعدة بلاد،
__________
(1) الزركشي: 224 والبدر السافر: 29 وابن العشار 4: 409 وصلة الصلة: 114 والتكلمة رقم: 1894 وزاد المسافر رقم: 6 وممالك الأبصار 11: 480 والذيل والتكلمة 5: 396 ونفح الطيب 2: 640؛ وهذا ابن خروف هو علي بن محمد بن يوسف قرطبي هاجر إلى المشرق، وأقام بحلب وفيها توفي متردياً في بئر حوالي سنة 620؛ وهناك ابن خروف آخر وهو علي بن محمد ابن علي، اشبيلي، وهو الإمام المشهور بالنحو؛ وقد خلط الكتبي بينهما هنا، إذ أن هذا النحوي الذي شرح كتاب سيبويه وتوفي سنة 609 وقد وردت ترجمته في صلة الصلة: 122 والتكلمة رقم: 1884 وبرنامج الرعيني: 81 ومعجم الأدباء 15: 75 وابن خلكان 3: 335: وهذا الخلط الذي وقع فيخ الكتبي وقع فيه أيضاً ابن الساعي في الجامع المختصر: 306 والسيوطي في البغية: 354؛ قلت: وهذه الترجمة في ر.
(2) ر: وكتاب.(3/84)
وأقام في حلب مدة، واختل عقله بأخرة حتى مشى في الأسواق عرياناً بادي العورة مكشوف الرأس، وتوفي سنة تسع وستمائة.
ومن شعره في كاس:
أنا جسم للحميا ... والحميا لي روح
بين أهل الظرف أغدو ... كل يوم وأروح وقال في صبي مليح حبسه القاضي:
أقاضي المسلمين حكمت حكماً ... أتى وجه الزمان به عبوسا
حبست على الدراهم ذا جمال ... ولم تحبسه إذ سلب النفوسا وكتب إلى قاضي القضاة محيي الدين ابن الزكي يستقيله من مشارفة مارستان نور الدين، وكان بوابه يسمى السيد، وهو في اللغة الذئب:
مولاي مولاي أجرني فقد ... أصبحت في دار الأسى والحتوف
وليس لي صبر على منزل ... بوابه السيد وجدي خروف ودعاه نجم الدين ابن اللهيب إلى طعامه فلم يجبه، وكتب إليه:
ابن اللهيب دعاني ... دعاء غير نبيه
إن سرت يوماً إليه ... فوالدي في أبيه وقال فيه:
يا ابن اللهيب جعلت مذهب مالك ... يدعو الأنام إلى أبيك ومالك
يبكي الهدى ملء الجفون وإنما ... ضحك الفساد من الصلاح الهالك وقد قال فيه أيضاً:
لابن اللهيب مذهب ... في كل غي قد ذهب
يتلو الذي يبصره ... " تبت يدا أبي لهب "(3/85)
وكتب إلى القاضي بهاء الدين بن شداد يطلب منه فروة قرض (1) :
بهاء الدين والدنيا ... ونوء المجد والحسب
طلبت مخافة الأنوا ... ء من نعماك جلد أبي
وفضلك عالم أني ... خروف بارع الأدب
حلبت الدهر أشطره ... وفي حلب صفا حلبي وقال في نيل مصر:
ما أعجب النيل ما أحلى شمائله ... في ضفتيه من الأشجار أدواح
من جنة الخلد فياض على ترع ... تهب فيها هبوب الريح أرواح
ليست زيادته ماء كما زعموا ... وإنما هي أرزاق وأرواح وقال:
واشربوا كل صباح لبناً ... واشربوا كل أصيل عسلا
واعلسوا (2) ذاك إلى أعدائكم ... من قسي النبل أو رقش الفلا وقال:
لا ترجون لمثلي ... من هذه الراحة توبه
فإنما هي ليلى ... وإنما أنا توبه قال القوصي: وقع ابن خروف في جب يحلب ليلاً فمات، وذلك في سنة تسع وستمائة، رحمه الله تعالى.
__________
(1) انظر ابن خلكان 7: 94.
(2) علس: أطعم أو شوى.(3/86)
357 - (1)
مجد العرب
علي بن محمد بن غالب، أبو فراس العامري المعروف بمجد العرب؛ شاعر جال ما بين العراق والشام ومدح الملوك والأكابر، ولبس أخيراً لبس الأتراك، وتوفي بالموصل سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة.
ومن شعره:
أمتعب ما رق من جسمه ... بحمل السيوف وثقل الرماح
علام تكلفت حملانها ... وبين جفونك أمضى سلاح وقال أيضاً:
فارق تجد عوضاً عمن تفارقه ... في الأرض وانصب تلاق (2) الرشد في النصب
فالأسد لولا فراق الغاب ما فرست ... والسهم لولا فراق القوس لم يصب 358 (3)
ابن الأعمى
علي بن محمد بن المبارك، الأديب كمال الدين ابن الأعمى الشاعر، صاحب المقامة التي في الفقراء المجردين، وكان شيخاً كبيراً من بقايا شعراء
__________
(1) الزركشي: 225؛ والترجمة في ر.
(2) ر والزركشي: تلاقي.
(3) الزركشي: 225 والشذرات 5: 421؛ والترجمة ثابتة في ر.(3/87)
الدولة الناصرية، انقطع في آخر عمره بالقليجية (1) ، وكان مقرئاً بالتربة الأشرفية، ووالده الشيخ ظهير الدين الأعمى كان خطيب القدس؛ وكانت وفاة كمال الدين سنة اثنتين وتسعين وستمائة.
ومن شعره:
أنا في حالة النوى والتداني ... لست أثني عن الغرام عناني
لا يروم السلو قلبي ولا يف ... تر عن ذكر من أحب لساني
وسواء إذا المودة دامت ... نظري بالعيان أو بالجنان
فاقترب الديار لفظ وقرب ال ... ود معنى، فاسلك سبيل المعاني
لست ممن يرضى بطيف خيال ... قانعاً في هواهم بالهوان
إن طيف الخيال دل على أن ... الكرى قد يلم بالأجفان
غير أني تشتاق عيني إلى من ... حل من مهجتي أعز مكان
وبروحي ظبياً تغار غصون ال ... بان منه ويخجل النيران
ذو قوام يغنيه عن حمله الرم ... ح وجفن وسنانه كالسنان
كتب الحسن فوق خديه بين ال ... ماء والنار فيهما جنتان
حرس الورد منهما نرجس اللح ... ظ فلم سيجوه بالريحان
عارض عوذته ياسين لما ... أن تبدى كالنمل أو كالدخان
يلبس الحسن كل وقت (2) جديداً ... فلهذا أخلقت ثوب التواني
يا خليلي خلياني ووجدي ... وامزجا لي بذكره واسقياني
وإذا ما قضيت سكراً من الوج ... د فلا تحزنا ولا تدفناني
فأيادي ذا الناصر الملك تحيي ... ني كإحيائها الندى وهو فاني وقال يذم دار سكناه ويبالغ فيها:
__________
(1) المدرسة القليجية: كانت داخل البابين الشرقي وباب توما، بناها مجاهد الدين بن قليج محمد، وقد ضاعت معالمها (الدارس 1: 434) .
(2) ر: وقتاً.(3/88)
دار سكنت بها أقل صفاتها ... أن تكثر الحسرات من حشراتها
الخير عنها نازح متباعد ... والشر دان من جميع جهاتها
من بعض ما فيها البعوض عدمته ... كم أعدم الأجفان طيب سناتها
وتبين تسعدها براغيث متى ... غنت لها رقصت على نغماتها
رقص بتيقيظ (1) ولكن قافه ... قد قدمت فيه على أخواتها
وبها ذباب كالضباب يسد عي ... ن الشمس ما طربي سوى غناتها
أين الصوارم والقنا من فتكها ... فينا وأين الأسد من وثباتها
وبها من الخطاف ما هو معجز ... أبصارنا عن حصر كيفياتها
تعشي العيون بمرها ومجيئها ... وتصم سمع الخلد من أصواتها
وبها خفافيش تطير نهارها ... مع ليلها ليست على عاداتها
شبهتها بقنافذ مطبوخة ... نزع الطهاة بنضجها شوكاتها
شوكاتها فاقت على سمر القنا ... في لونها وتمامها وشياتها
وبها من الجرذان ما قد قصرت ... عنه العتاق الجرد في حملاتها
فترى أبا غزوان منها هارباً ... وأبا الحصين يروغ عن طرقاتها
وبها خنافس كالطنافس أفرشت ... في أرضها وعلت على جنباتها
لو شم أهل الحرب منتن فسوها ... أردى الكماة الصيد عن صهواتها
وبنات وردان وأشكال لها ... مما يفوت العين كنه ذواتها
متزاحم متراكم متحارب ... متراكب في الأرض مثل نباتها
وبها قراد لا اندمال لجرحها ... لا يفعل المشراط مثل أداتها
أبداً تمص دماءنا فكأنها ... حجامة لبدت على كاساتها
وبها من النمل السليماني ما ... قد قل ذر الشمس عن ذراتها
لا يدخلون مساكناً بل يحطمو ... ن جلودنا؛ فالعقر (2) من سطواتها
__________
(1) في المطبوعة: بتنغيص.
(2) ر: فالعفو.(3/89)
ما راعني شيء (1) سوى وزغاتها ... فنعوذ بالرحمن من نزعاتها
سجعت على أوكارها فظننتها ... ورق الحمام سجعن في شجراتها
وبها زنابير تظن عقارباً ... لا برء للمسموم من لدغاتها
فكأنما حيطانها كغرابل ... أطلعن أرؤسهن من طاقاتها
كيف السبيل إلى النجاة ولا نجا ... ة ولا حياة لمن رأى حياتها
السم في نفثاتها والمكر في ... فلتاتها والموت في لفتاتها
منسوجة بالعنكبوت سماؤها ... والأرض قد نسجت ببزاقاتها
ولقد رأينا في الشتاء سماؤها ... والصيف لا تنفك من صعقاتها
فضجيجها كالرعد في جنباتها ... وترابها كالوبل في خشباتها
والبوم عاكفة على أرجائها ... والآل يلمع في ثرى عرصاتها
والنار جزء من تلهب حرها ... وجهنم تعزى إلى لفحاتها
قد رممت من قبل أن يلقى لآدم ... أمنا حواء في عرفاتها
شاهدت مكتوباً على أرجائها ... ورأيت مسطوراً على عتباتها
لا تقربوا منها وخافوها ولا ... تلقوا بأيديكم إلى هلكاتها
أبداً يقول الداخلون ببابها ... يا رب نج الناس من آفاتها
قالوا إذا ندب الغراب منازلاً ... تتفرق السكان من ساحاتها
وبدارنا ألفا غراب ناعق ... كذب الرواة فأين صدق رواتها
صبراً لعل الله يعقب راحة ... للنفس إذ غلبت على شهواتها
دار تبيت الجن تحرس نفسها ... فيها وتنذر باختلاف لغاتها
كم بت فيها مفرداً والعين شو ... قاً للصباح تسح من عبراتها
وأقول: يا رب السموات العلى ... يا رازقاً للوحش في فلواتها
__________
(1) ر: شيئاً.(3/90)
أسكنتني بجهنم الدنيا ففي ... أخراي هب لي الخلد في جناتها
واجمع بمن أهواه شملي عاجلاً ... يا جامع الأرواح بعد شتاتها وكتب إلى الملك الحافظ (1) يستهدي نطعاً:
يا ملكاً قد خلقت كفه ... للفرق بين الضر والنفع
وملكاُ صيرني عبده ... إحسانه في القول والصنع
وماجداً أنوار أسيافه ... مشرقة في ظلم النقع
نحن بحمد الله في عيشة ... مرضية بالعقل والشرع
إذا شبعنا بعد طول الطوى ... ليس لنا نقل سمى الصفع
والشغل قد دار على رسمه ... والوقت محتاج إلى النطع وله في حمام ضيق شديد الحر ليس فيه ماء بارد:
إن حمامنا الذي نحن فيه ... قد أناخ العذاب فيه وخيم
مظلم الأرض والسما والنواحي ... كل عيب من عيبه يتعلم
حرج بابه كطاقة سجن ... شهد الله من يجز فيه يندم
وله مالك غدا خازن النا ... ر بلى مالك أرق وأرحم
كلما قلت قد أطلت عذابي ... قال لي اخسأ فيه ولا تتكلم
قلت لما رأيته يتلظى ... ربنا اصرف عنا عذاب جهنم وأهدى إليه صاحب صحن حلاوة ولم يكن جيداً، فكتب إليه:
إن في صحنك المسمى حلاوه ... رقة تورث القلوب قساوه
كم حفرنا فلم نجد غير أرض ال ... صحن يبساً كمثل أرض السماوه
لست أدري من سكر كان أم من ... عسل حين لم تشبه نداوه
غير أني رأيت صحناً صغيراً ... ما عليه من النعيم طلاوه
__________
(1) هو محمد بن شاهنشاه بن بهرام شاه الأيوبي أبو عبد الله غياث الدين، توفي بدمشق سنة 693 (ابن الفرات 8: 189) .(3/91)
شبهته العيون حين أتانا ... وجه مولودة عليه غشاوه
لا تكن تحسب الصداقة هذا ... ليس هذا صداقة بل عداوة 359 (1)
ابن بسام البغدادي
علي بن محمد بن نصر بن منصور بن بسام، أبو الحسن البغدادي، أحد الشعراء، ابن أخت ابن حمدون النديم، وله هجاء خبيث، استفرغ شعره في هجاء والده، وهجا جماعة من الوزراء كالقاسم بن عبيد الله و " أبي " جعفر ابن الزيات.
وتوفي سنة اثنتين وثلاثمائة.
وهو من بيت كتابة، وله من الكتب كتاب " أخبار عمر بن أبي ربيعة " وكتاب " المعاقرين " وكتاب " مناقضات الشعراء " وكتاب " أخبار الأحوص " وديوان رسائله.
ومن شعره في وزارة بني الفرات:
إذا حكم النصارى في الفروج ... وتاهوا بالبغال وبالسروج
فقل للأعور الدجال هذا ... أوانك إن عزمت على الخروج وقال: كنت أتعشق غلاماً لخالي أحمد بن حمدون، فقمت ليلة الأدب
__________
(1) ليست هذه الترجمة مستدركة على ابن خلكان، فقد وردت عنده 3: 363 ((علي بن محمد ابن منصور بن نصر)) وانظر الفهرست: 150 ومعجم المرزباني: 154 وتاريخ بغداد 12: 163 ومعجم الأدباء 14: 139 واللباب (البسامي) والهدايا والتحف: 139 واعتاب الكتاب: 188 ومروج الذهب 4: 297 والزركشي: 225؛ وقد وردت الترجمة في ر.(3/92)
عليه، فلما قربت منه لسبتني عقرب، فصرخت فانتبه خالي وقال: ما تصنع هاهنا؟ فقلت: جئت لأبول، صدقت، في است غلامي فقلت لوقتي:
ولقد سريت على الظلام لموعد ... حصلته من غادر كذاب
فإذا على ظهر الطريق معدة ... سوداء قد عرفت أوان ذهابي
لا بارك الرحمن فيها عقرباً ... دبابة دبت على دباب فقال خالي: قبحك الله، لو تركت المجون يوماً لتركته في هذا الحال.
وقال: كنت أتقلد البريد في أيام عبيد الله بن سليمان بن وهب، والعامل بها أبو عيسى أحمد بن محمد بن خالد، فأهدى إلي ليلة عيد الأضحى بقرة، فاستقللتها ورددتها وكتبت إليه:
كم من يد لي إليك سالفة ... وأنت بالحق غير معترف
نفسك أهديتها لأذبحها ... فصنتها عن مواقع التلف 360 (1)
علاء الدين ابن الكلاس
علي بن محمد، علاء الدين الدواداري، يعرف بابن الريس وابن الكلاس؛ كان جندياً بدمشق، رأيته بسوق الكتب غير مرة؛ كان فاضلاً أديباً ناظماً ناثراً، له تعاليق ومجامع تدل على حسن اختياره فيها على فضله (2) ؛ توفي بحطين
__________
(1) الزركشي: 226 والجواهر المضية 2: 306 والدرر الكامنة 3: 197؛ وعند الزركشي أنه توفي سنة 728 وذكر أنه دخل في الجندية وحصل له اقطاع جيد بحلقة دمشق، قال: بلغني أن له تاريخاً؛ وهذه الترجمة في ر.
(2) كذا وردت العبارة في ر.(3/93)
- قرية من قرى صفد - في سنة ثلاثين وسبعمائة.
ومن شعره:
خليلي ما أحلى الهوى وأمره ... وأعلمني بالحلو منه وبالمر
بما بيننا من حرمة هل رأيتما ... أرق من الشكوى وأقسى من الهجر وقال أيضاً:
تقدمت فضلاً من تأخر مدة ... بوادي الحيا طل عقباه وابل
وقد جاء وتراً في الصلاة مؤخراً ... به ختمت تلك الشفوع الأوائل وقال:
فكرت في الأمر الذي أنا قاصد ... تحصيله فوجدته لا ينجح
وعلمت من نصف الطريق بأن من ... أرجوه يقضي حاجتي لا يفلح وقال لغزاً في رغيف:
ومستدير الوجه كالترس ... يجلس للناس على كرسي
يدخل مثل البدر حمامه ... وبعدها يخرج كالشمس
يوصل السلطان في دسته ... واللص في هاوية الحبس
لو غاب عن عنترة ليلة ... وهت قوى عنترة العبسي وقال:
من مبلغ غربيل (1) أن رحيله ... جلب السرور وأذهب الأحزانا
والناس من فرط الشماتة خلفه ... كسروا القدور وأوقدوا النيرانا وقال:
وأهيف تحكي البدر طلعة وجهه ... وإن لم يكن في حسن صورته البدر
__________
(1) الزركشي: غبريل.(3/94)
خلوت به ليلاً يدير مدامة ... وجنح الدجى دون الرقيب لنا ستر
فلما سرت كأس الحميا بعطفه ... ومالت به تيهاً ورنحه السكر
هممت بلثم (1) الثغر منه فصدني ... عذار له في منع تقبيله عذر
حمى ثغره المعسول نمل عذاره ... ومن عجب نمل يصان به ثغر 361 (2)
علاء الدين الشاعر المنجم
علي بن محمود بن حسن بن نبهان بن سند، علاء الدين أبو الحسن اليشكري الربعي البغدادي الأصل البصري المولد، الشاعر المنجم؛ ولد سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وتوفي سنة ثمانين وستمائة.
سمع بدمشق من ابن طبرزد والكندي، أخذ عنه الدمياطي وغيره، وسمع منه البرزالي، وكانت له يد طولى في علم الفلك وحل التقاويم، مع النظم وحسن الخط، وكانت وفاته بدمشق.
ومن شعره:
ولما دهاني الخطب من كل جهة ... وأصبح حالي حائلاً متبدلاً (3)
عكفت على الأفلاك أرجو معونة ... بها أو بسعد للكواكب يجتلى
فخاطب منها المشتري بعد زهرة ... فما ازددت إلا حيرة وتقلقلا
أما والعلا لو كنت خاطبت عاقلاً ... لأصغى إلى ما قلته وتأملا
__________
(1) الزركشي: برشف؛ ر: بلم.
(2) الزركشي: 226 والشذرات 5: 367 والنجوم الزاهرة 7: 350 وابن الشعار 5: 58؛ ووردت الترجمة في ر.
(3) ر: متبذلاً.(3/95)
ولكن خطابي أطلساً (1) غير سامع ... مقالي له " ... " (2)
فلا فلك التدوير للقول يرعوي ... ولا الكوكب الدري يفهم مقولا
وليس سوى الخلاق جل جلاله ... أوجه وجهي نحوه متوسلا (3) وقال:
إني أغار من النسيم إذا سرى ... بأريج عرفك خيفة من ناشق
وأود لو سهدت لا من علة ... خوفاً عليك من الخيال الطارق وقال:
من لي بمقتبل العذار كأنه ... مسك بوردة خده مفتوت
وتخال جمر الخد يحرق خاله الن ... دي إلا أنه ياقوت وقال أيضاً:
وسرب من الغيد الحسان عرضن لي ... فخلت ظباء بالصريم نوافرا
تكحلن سحراً واعتجزن دياجياً ... ولحن صباحاً وابتسمن جواهرا
وأقبلن في خضر الحلى فكأنما ... سلبن غصوناً أو لبسن مرائرا
نصبت لها أشراك عيني طماعة ... وقد رفعت خمراً وجرت غدائرا
فغادرن قلبي في الحبائل واقعاً ... وإن كان لبي بالصبابة طائرا وقال في صبي لعب وعرق وأخذ المرآة ينظر وجهه فيها:
لما غدا تعباً وكل ... ل وجهه عرق المراح
أخذ المراءة فاجتلى ... في الورد نوار الأقاح
لا بل حباب قد طفا ... من وجنتيه فوق راح
__________
(1) ر: أطلس.
(2) بياض في ر؛ وفي المطبوعة: ما ساعني متأهلاً؛ ولا معنى له؛ والبيت ساقط من الزركشي.
(3) ر: مترسلا.(3/96)
وقال:
ولما أتاني (1) العاذلون عدمتهم ... وما منهم إلا للحمي قارض
وقد بهتوا لما رأوني شاحباً ... وقالوا به عين فقلت وعارض وقال:
أشممت من عرف الصبا المتضوع ... طيباً تأرج عن ظباء الأجرع
وافى يقص علي أخبار الغضا ... ففهمت من رياه ما لم أسمع
رقصت قدود الدوح عند هبوبه ... وترنمت ورق الحمام السجع
وسرى عليلاً إذ براه هواهم ... من لم يطق حمل الهوى يتوجع
فسقى حيا جفني إذا ضن (2) الحيا ... داراً (3) لهم بين العذيب ولعلع
أوطان لهو قد قضت أوطارنا ... غفلات أيام لنا لم ترجع
وبمهجتي قاس علي وإنه ... ليميله نفس النسيم المولع
جذلان مقتبل الشباب بطرفه ... نظر الأبي وكسرة المتخضع
متمنع لما سألت وصاله ... واذلتي من عزه المتمنع
لقضيتي في الحب سقم شاهد ... لو تسمع الشكوى ودمع مدعي وقال:
ومعذر غاض الجمال بوجهه ... من بعد ما قد كان ليس بغائض
وعذاره بالنتف يصبح واقعاً ... فكأن عارضه أصيب بعارض وقال:
لا تضع بالفصاد من دمك الطي ... ب واستبقه فما ذاك رشد
فهو إن حال ريقه كان خمراً ... وإذا جال في الخدود فورد
__________
(1) ر: أتوني.
(2) ر: ظن.
(3) ر: دار.(3/97)
وقال ذوبيت:
يا ليلة وصلنا سقتك السحب ... عودي فعسى يقر هذا القلب
إذا طاب عتابنا فيا فوزي لو ... أكثرت ذنوباً كي يطول العتب وقال أيضاً:
أهوى قمراً تحار منه الحور ... كالصبح سناً وفرعه ديجور
يزور مقطباً إذا أبصرني (1) ... كالكأس إذا عاينها المخمور وقال:
قم نشربها فقد أضاء الشرق ... والصبح فقد بدا لنا ينشق
قم نسلب روح الزق حتى نحيا ... سكراً ويموت بالفراق الزق 362 (2)
علاء الدين الوداعي
علي بن المظفر بن إبراهيم بن عمر بن زيد، الأديب البارع المقرئ المحدث الكاتب المنشئ، علاء الدين الكندي المعروف بالوداعي كاتب ابن وداعة؛ ولد سنة أربعين وستمائة تقريباً، وتوفي سنة ست عشرة وسبعمائة.
تلا بالسبع على القاسم الأندلسي، وطلب الحديث ونسخ الأجزاء، وسمع من الخشوعي والكفرطابي والصدر والبكري وعثمان ابن خطيب
__________
(1) ر: انصرني.
(2) الزركشي: 227 والدرر الكامنة 3: 204 وانجوم الزاهرة 9: 235 والشذرات 6: 39 والبداية والنهاية 14: 78 ولسان الميزان 4: 263 ودول الإسلام 2: 169 وذيل العبر: 87 والدارس 1: 114؛ ووردت الترجمة في ر.(3/98)
القرافة والنقيب ابن أبي الجن وابن عبد الدايم وغيرهم، ونظر في العربية، وحفظ كثيراً من أشعار العرب، وكتب المنسوب، وخدم موقعاً بالحصون، وتحول إلى دمشق، وهو صاحب " التذكرة الكندية " الموقوفة بالسميساطية في خمسين مجلد (1) بخطه، فيها عدة فنون، وتوفي ببستانه عند قبة المسجف، وكان شيعياً، وكان شاهداً بديوان الجامع الأموي، وولي مشيخة النفيسية (2) وكانت له ذؤابة بيضاء إلى أن مات.
ومن شعره فيها:
يا عائباً مني بقاء ذؤابتي ... مهلاً فقد أفرطت في تعييبها
قد واصلتني في زمان شبيبتي ... فعلام أقطعها زمان مشيبها؟ وقال:
من زار بابك لم تبرح جوارحه ... تروي محاسن ما أوليت من منن
فالعين عن قرة والكف عن صلة ... والقلب عن جابر والأذن عن حسن وقال:
وذي دلال أحور أهيف ... أصبح في عقد الهوى شرطي
طاف على القوم بكاساته ... وقال ساقي قلت في وسطي وقال:
ولم أرد الوادي ولا عدت صادراً ... مع الركب إلا قلت يا حادي النوق
فديتك عرج بي وعرس هنيهة ... لعلي أبل الشوق من آبل السوق وقال:
__________
(1) كذا في ر.
(2) نسبة إلى النفيس إسماعيل بن محمد الحراني وقفها داراً للحديث؛ وقد درس فيها الوداعي عشر سنين إلى أن مات (انظر الدارس 1: 114) .(3/99)
لا أرى لقط عارضيه قبيحاً ... يا عذولاً (1) عن حبه ظل ينهى
وجهه روضة وغير عجيب ... أنه يلقط البنفسج منها وقال أيضاً:
أتيت إلى البلقاء أبغي لقاءكم ... فلم أركم فازداد شوقي وأشجاني
فقالت لي الأقوام من أنت راصد ... لرؤياه قلت الشمس قالوا بحسبان وقال:
لنا صاحب قد هذب الشعر طبعه ... فأصبح عاصيه على فيه طيعا
إذا خمس الناس القصيد لحسنه ... فحق لشعر قاله أن يسبعا وقال:
قل للذي بالرفض أتهم ... ني أضل (2) الله قصده
أنا رافضي ألعن ... الشيخين أباه وجده وقال:
قالوا حبيبك قد دامت ملاحته ... وما أتاه عذار إن ذا عجب
فقلت خداه تبر والعذار صدا ... وقد زعمتم بأن لا يصدأ الذهب وقال:
رو بمصر وبسكانها ... شوقي وجدد عهدي البالي
وصف لي القرط وشنف به ... سمعي وما العاطل كالحالي
وارو لنا يا سعد عن نيلها ... حديث صفوان بن عسال
فهو مرادي لا يزيد ولا ... ثورا وإن رقا وراقا لي وقال في مليح سمين كثير الشعر:
تعشقت فلاحاً بنيرب جلق ... ففي حسنه لا في الرياض تفرجي
__________
(1) ر: عذول.
(2) ر: أظل.(3/100)
وقالوا اسل عنه فهو عبل ومشعر ... وما هو إلا من جبال البنفسج وقال:
سمعت بأن الكحل للعين قوة ... فكحلت في عاشور مقلة ناظري
لتقوى على سح الدموع على الذي ... أذاقوه دون الماء حر البواتر وقال:
سئل الورد عندما استقطروه ... لم كذا عذبوك بالنيران
قال ما لي جناية غير أنني ... جئت بعض السنين في رمضان وقال:
لا نال من وصلك ما يسومه ... إن كان قد أصغى لمن يلومه
حاشا حشاه أن يبيت ليلة ... مقفرة من الهوى رسومه
واوحشة الصب الذي أنيسه ... أنينه ودمعه حميمه
النوم لا يلوي على جفونه ... وصبره يلوي به غريمه
هذا وما يشكو سوى عذوله ... فكم بما (1) يسوءه يسومه
وكيف يسلو عن غزال دمعه ... عقيقه ووده صريمه
إن لم يكن في الحسن عن بدر الدجى ... خليفة فإنه قسيمه
قباؤه سماؤه عذاره ... هالته أزراره نجومه
كالأقحوان والبروق ثغره ... أشمه إن شيت أو أشيمه
طوبى بمن يسعده زمانه ... وذاك في نديه نديمه وقال:
كلما دغدغت أكف الجنوب ... خصر نهر وعطف غصن رطيب
انثنى الغصن ضاحكاً بالأزاهي ... ر وزاد الغدير في التقطيب
__________
(1) ر: لما.(3/101)
وإذا هم أن يقبل خد ال ... ورد شوقاً ثغر الأقاح الشنيب
خلال أن النيلوفر الغض والنر ... جس أذن الواشي وعين الرقيب وقال:
ويوم لنا بالنيربين رقيقة ... حواشيه خال من رقيب يشينه
وقفنا على الوادي نحييه بكرة (1) ... فردت علينا بالرؤوس غصونه
وقد هب علوي النسيم فلم تزل ... تغازلنا من كل نهر عيونه
ومالت بنا الجرد العتاق إلى رشاً ... جديد العذار رائقات فنونه
من الترك تقري الطارقين جفانه ... وتفري قلوب العاشقين جفونه
يرنحه سكر الدلال فينثني ... فينهضه من شعره زرجونه
إذا تاهت الأبصار في ليل شعره ... هداهن من فرق الصباح جبينه وقال:
ليس لي بالصدود منك يدان ... لا ولا طاقة على السلوان
وإذا ما أردت كتمان وجدي ... نم دمعي وكان شاني شاني
حر قلبي من برد قلبك عني ... وسهادي من طرفك الوسنان
وعذولي لما رأى منك إعرا ... ضاً رثى لي وإن أطلت رثاني
وغرامي هو العذاب وما في ... ض دموعي إلا حميم آن
ودماء سقت (2) سماء خدودي ... فغدت وهي وردة كالدهان
فتكرم بعطفة والتفات ... مثل باقي الغصون والغزلان وقال:
الزهر في الأكمام راح مقطباً ... والريح قد خطرت عليه بذيلها
وغدت تبشره بإقبال الحيا ... حتى تبسم ضاحكاً من قولها
__________
(1) الدرر الكامنة: وقفنا فسلمنا على الدوح غدوة.
(2) ر: شقت.(3/102)
وقال:
إن أسرع العارض في وجنته ... فأسرعت تعيبه اللوائم
فما نبات خده أول من ... قد دخل الجنة وهو ظالم وقال:
هيهات ما أنا بالمفيق من الهوى ... ما دام يسكرني بحسن فائق
متناسب في حسنه متجانس ... برشيق قامته وطرف راشق
سقياً لوادي النيربين فكم لنا ... من صابح فيه الغداة وغابق
أيام ليس لنا عدو أزرق ... غير البنفسج والخزامى العابق
كلا ولا للغانيات مشاقق ... في حمرة الوجنات غير شقائق
والغصن يلحفنا (1) بظل ساكن ... والنهر يلقانا بقلب خافق 363 (2)
ابن سعيد المغربي
علي بن موسى بن سعيد المغربي الغماري الأديب نور الدين، ينتهي نسبه إلى عمار بن ياسر؛ ورد من الغرب وجال في الديار المصرية والعراق والشام، وجمع وصنف ونظم، وهو صاحب كتاب " المغرب في أخبار المغرب " و " المشرق في أخبار المشرق " و " المرقص والمطرب "
__________
(1) الزركشي: يلحظنا.
(2) المغرب 2: 178 واختصار القدح: 1 والديباج المذهب: 208 وتاريخ السلامي: 145 وبغية الوعاة: 357 ومسالك الأبصار 8: 382 والذيل والتكلمة 5: 411 والنفح 2: 262 والزركشي: 228 والبدر السافر: 35؛ وهذه الترجمة وردت في ر.(3/103)
و " ملوك الشعر "؛ توفي بدمشق في شعبان سنة ثلاث وسبعين وستمائة (1) .
حكي أنه كان يوماً في جماعة " من " شعراء عصره المصريين، وفيهم أبو الحسين الجزار، فمروا في طريقهم بمليح نائم تحت الشجرة، وقد هب الهوا فكشف ثيابه عنه فقالوا: قفوا بنا لينظم كل منا في هذا شيئاً، فابتدر الأديب نور الدين فقال:
الريح أقود ما يكون لأنها (2) ... تبدي خفايا الردف (3) والأعكان
وتميل الأغصان عند هبوبها ... حتى تقبل أوجه الغدران
فلذلك العشاق يتخذونها ... رسلاً (5) ، إلى الأحباب والأوطان فقال أبو الحسين: ما بقي أحد منا يأتي بمثل هذا. وقال:
لله من أقطار جلق روضة ... راقت لنا حيث السحاب يراق
وتلونت أزهارها فكأنما (5) ... نزلت بها الأحباب والعشاق وقال:
أنا من علمت بشوقه ذكر الحمى ... وتساق روحي والركاب تساق
أخلصت في حبي وكم من عاشق ... في ما ادعاه من الغرام نفاق
يدعو الحمام وترقص الأغصان من ... طرب بهم وتصفق الأوراق
وحدي جمعت من الهوى مثل الذي ... جمعوا كذاك تقسم الأرزاق وقال أيضاً:
في جلق نزلوا حيث النعيم غدا ... مطولاً وهو في الآفاق مختصر
__________
(1) الأرجح أن وفاة ابن سعيد تأخرت عن هذا التاريخ، وإنها كانت في حدود 685، فقد ترجم له ابن رشيد في رحلته (الورقة 169 من نسخة الاسكوريال رقم 1737) وذكر أنه لقب بتونس؛ وهذا يجعل وفاته متأخرة عن التاريخ الذي ذكره المؤلف.
(2) الزركشي: رأيت فإنها.
(3) الزركشي: الصدر.
(5) ر: فكأنها.
(5) ر: فكأنها.(3/104)
فكل واد به موسى يفجره ... وكل روض على حافاته الخضر وقال:
يا غصن روض سقته أدمعي مطراً ... وليس لي منه لا ظل ولا ثمر
طال انتظاري لوعد لا وفاء له ... وإن صبرت فقد لا يصبر العمر وقال في جزيرة مصر (1) :
تأمل لحسن الصالحية إذ بدت ... وأبراجها مثل النجوم تلالا
ووافى إليها النيل من بعد غاية ... كما زار مشغوف يروم وصالا
وعانقها من فرط شوق محبها ... فمد يميناً نحوها وشمالا وقال:
إن للجبهة في قلبي هوى ... لم يكن عندي للوجه الجميل
يرقص الماء بها من طرب ... ويميل الغصن للظل الظليل
وتود الشمس لو باتت بها ... فلذا تصفر أوقات الأصيل وقال:
إذا الغصون غدت خفاقة العذب ... فاسجد هديت إلى الكاسات واقترب
وطارح الورق في أوراقها طرباً ... ومل إذا مالت الغصون من طرب
وانهض إلى أم أنس بنت دسكرة ... تجلى عليك بإكليل من الذهب
وانظر إلى زينة الدنيا وزخرفها ... في روضة رقمتها أنمل السحب
وللأزاهر أحداق محدقة ... قد كحلتها يمين الشمس بالذهب وقال أيضاً:
أسكان مصر جاور النيل أرضكم ... فأكسبكم تلك الحلاوة في الشعر
وكان بتلك الأرض سحر وما بقي ... سوى أثر يبدو على النظم والنثر
__________
(1) النفح 2: 269.(3/105)
وقال (1) :
يا واطئ النرجس ما تستحي ... أن تطأ الأعين بالأرجل
قابل جفوناً بجفون ولا ... تبتذل الأرفع بالأسفل وقال:
انظر إلى الغيم كيف يبدو ... وقد أتى مسبل الإزار
والبرق في جانبيه يذكي ... أنفاسه وهو كالشرار
ما طاب هذا النسيم إلا ... والجو من عنبر ونار وقال:
أتى عاطل الجيد يوم النوى ... وقد حان موعدنا للفراق
فقلدته بلآلي الدموع ... ووشحته بنطاق العناق 364 (2)
صاحب شذور الذهب
علي بن موسى بن علي بن موسى بن محمد بن خلف، أبو الحسن الأنصاري الأندلسي الجياني نزيل فاس؛ ولي خطابة فاس، وهو صاحب كتاب " شذور الذهب في صناعة الكيمياء " توفي سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة.
لم ينظم أحد في الكيمياء مثل نظمه بلاغة معاني وفصاحة ألفاظ وعذوبة تراكيب، حتى قبل فيه: إن لم يعلمك صنعة الذهب، علمك صنعة الأدب،
__________
(1) النفح 2: 269، 271.
(2) يعرف بابن النقرات، وقال ابن عبد الملك (5: 412) إنه كان حياً سنة خمس وتسعين؛ وانظر التكلمة رقم: 1877 والنفح 3: 605.(3/106)
وقيل هو شاعر الحكماء وحكيم الشعراء، وقصيدته الطائية أبرزها في ثلاث مظاهر: مظهر غزل، ومظهر قصة موسى، والمظهر الذي هو الأصل في صناعة الكيمياء، وهذا دليل على القدرة والتمكن، وأولها:
بزيتونة الدهن المباركة الوسطى ... غنينا فلم نبدل بها الأثل والخمطا
صفونا فآنسنا من الطور نارها ... تشب لنا وهناً ونحن بذي الأرطى
فلما أتيناها وقرب صبرنا ... على السير من بعد المسافة ما اشتطا
نحاول منها جذوة ما ينالها ... من الناس من لا يعرف القبض والبسطا
هبطنا من الوادي المقدس شاطئاً ... إلى الجانب الغربي نمتثل الشرطا
وقد أرج الأرجاء منها كأنها ... لطيب شذاها تحرق العود والقسطا (1)
وقمنا فألقينا العصا في طلابها ... إذا هي تسعى نحوها حية رقطا
وثار لطيف النقع عند اهتزازها ... وأظلم من نور الظهيرة ما غطى
ومد إليها الفيلسوف يمينه ... فجاذبها أخذاً وأوسعها ضغطا
فصارت عصاً في كفه وأحبها ... فأخرجها بيضاء تجلو الدجى كشطا
فلم أر ثعباناً أذل لعالم ... سواها، ولا منها على جاهل أسطى
هي المركب الصعب المرام وإنها ... ذلول ولكن لا لكل من استمطى
فأعجب بها من آية لمفكر ... يقصر عن إدراكها كل من أخطا
وتفجيرها من صخرة عشر أعين ... وثنتين تسقس كل واحدة سبطا
وتفليقها رهواً من البحر فاستوى ... طريقاً فمن ناج ومن هالك غمطا
فتلك عصانا لا عصا خيزرانة ... على أنها في كف ممسكها ألطا
وقد كان للزيتون فيها قساوة ... ولكن لين الدهن صيرها نقطا
تسيل بماء الخد أبيض صافياً ... إذا ما شرطناها على ساقها شرطا
ومن قبل ما أغوى أبانا بذوقها ... جذاذاً فأخطا والقضاء فما أخطا
__________
(1) عند هذا البيت ينتهي ما بقي من القصيدة والترجمة في ر.(3/107)
قطفت جناها واعتصرت مياهها ... فجمدت ما استعلى وذوبت ما انحطا
ولينة الأعطاف قاسية الحشا ... إذا نفثت في الصخر تصدعه هبطا
كأن عليها من زخاريف جلدها ... رداء من الوشي المفوف أو مرطا
توصل إبليس بها في هبوطه ... إلى الأرض من عدن ففارقها سخطا
أمت بها حياً وسودت أبيضاً ... وأسرفت في قلع السواد فما أبطا
وأحييت تلك الأرض من بعد موتها ... بري وكانت تشتكي الجدب والقحطا
كأن العيون الثابتات بخصرها ... عقدن نطاقاً أو على جيدها سمطا
كأن من البدر المنير مشابهاً ... ومن أنجم الجوزاء في أذنها قرطا
كأن من الصدغ الذي فوق خدها ... على ورده نوناً ومن خاله نقطا
ظفرت بها بالنفس من جسم أمها ... كما ظفرت بالقلب في صدره لقطا
وأرضعتها بالدر من ثدي بنتها ... فعاشت وكانت قبل ماتت به عبطا
فحلت به روح الحياة كأنما ... مزجت لها في ذلك الدر إسفنطا
وصيرتها بنتاً وصيرت بنتها ... لها مرضعاً فاعجب لمرضعة شمطا
فحالت هناك البيت والأم فضة ... فتى لم يزاحمه العذر ولا خطا
له منظر كالشمس يعطي ضياءه ... وليس كمثل البدر يأخذ ما أعطى
فهذا الذي أعيا الأنام فأضمروا ... لمن وضع الأرماز في علمه سخطا
وهذا هو الكنز الذي وضعوا له ... برابي إخميم وخصوا بها قفطا
وتخليصه سهل بغير مشقة ... لمن عرف التطهير والعقد والخلطا
أبا جعفر خذها إليك يتيمة ... تورع لوقا أن يورثها قسطا
ولكنني لما رأيتك أهلها ... سمحت بها لفظا وأثبتها خطا ومن شعره أيضاً في الصناعة:
لقد قلبت عيناي عن عينه قلبي ... بلينة الأعطاف قاسية القلب
يهيم الفتى الشرقي منها بغادة ... تشوق إلى شرق وترغب عن غرب(3/108)
هي الشمس إلا أنها قمرية ... هي البدر إلا أنه كامن الشهب
إذا الفلك الناري أطلع شهبها ... على الذروة العليا من الغصن الرطب
تراءت عروساً برزة الوجه تبتغي ... رفاقاً وكانت خلف ألف من الحجب
فزوجها بكراً أخاها لأمها ... أبوها رجاء في المودة والقرب
فعاد بها حياً وكان فراقها ... له سبباً إذ مات من شقة الحب
فجن هوى لما استجنت بنفسه ... وطار فقالت بعد جهد له حسبي
ولما ثنته عن طبيعته التي ... بدت عنه إلا أن تناهبها قلبي
تعالى عن الأشباه لوناً وجوهراً ... وجل فلم ينسب إلى طينة الترب 365 (1)
ابن عصفور
علي بن مؤمن بن محمد بن علي، العلامة ابن عصفور النحوي الحضرمي الإشبيلي حامل لواء العربية بالأندلس؛ أخذ عن الأستاذ أبي الحسن الدباج، ثم عن الأستاذ أبي علي الشلوبين، وتصدى للاشتغال مدة، ولازم الشلوبين عشر سنين إلى أن ختم عليه كتاب سيبويه، وكان أصبر الناس على المطالعة لا يمل ذلك، وأقرأ بإشبيلية وشريش ومالقة ولورقة ومرسية.
قال ابن الزبير (2) : لم يكن عنده ما يؤخذ عنه سوى العربية ولا تأهل
__________
(1) الذيل والتكملة 5: 413 وصلة الصلة: 142 وبغية الوعاة: 357 والزركشي: 233 وله ترجمة مسهبة في رحلة ابن رشيد (الورقة: 91 من نسخة الإسكوريال رقم: 1737) ؛ وقال ابن عبد الملك إنه توفي سنة 659؛ وقال ابن الزبير: إنه توفي في عشر السبعين وستمائة؛ ولعل تعيين وفاته سنة 669 أدق؛ وما ورد عند ابن عبد الملك سهو.
(2) في المطبوعة: ابن الأثير، والتصويب عن الزركشي، والنص موجود في صلة الصلة.(3/109)
لغير ذلك، قال: وكان يخدم الأمير أبا عبد الله محمد بن أبي بكر الهنتاني.
ولد سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وتوفي سنة تسع وستين وستمائة، بتونس؛ ولم يكن بذلك الورع، كان الشيخ تقي الدين ابن تيمية يدعي أنه لم يزل يرجم بالنارنج في مجلس الشراب إلى أن مات.
ومن تصانيفه كتاب " الممتع " وكتاب " المفتاح " وكتاب " الهلال " وكتاب " الأزهار " وكتاب " إنارة الدياجي " وكتاب " مختصر الغرة " وكتاب " مختصر المحتسب " وكتاب " السالف والعذار " وكتاب " شرح الجمل " وكتاب " المقرب " (1) في النحو، يقال: إن حدوده كلها مأخوذة من الجزولية، وكتاب " البديع " شرح الجزولية و " شرح المتنبي " و " سرقات الشعراء " و " شرح الأشعار الستة " و " شرح المقرب " و " شرح الحماسة " وهذه الشروحات لم يكملها، وله غير ذلك.
ومن شعره:
لما تدنست بالتخليط في كبري ... وصرت مغرى برشف الراح واللعس
رأيت أن خضاب الشيب أستر لي ... إن البياض قليل الحمل للدنس 366 (2)
ابن ماكولا
علي بن هبة الله بن جعفر بن علكان بن محمد بن دلف بن القاسم بن
__________
(1) نشر بتحقيق الأستاذ الجواري والجبوري (الجزء الأول، بغداد 1971) وبتحقيق الدكتور فخر الدين قباوة (حلب) .
(2) ليست هذه الترجمة من المستدرك على ابن خلكان فقد وردت ترجمة ابن ماكولا في الوفيات (3: 305) وانظر المنتظم 9: 5 ومعجم الأدباء 15: 102 وتذكرة الحفاظ: 1201 وابن الأثير 10: 128 وعبر الذهبي 3: 317 والشذرات 3: 318 والرسالة المستطرقة: 116 والزركشي: 234 ومقدمة الإكمال؛ والمشهور في نسبه علي بن هبة الله بن علي بن جعفر.(3/110)
عيسى، المعروف بابن ماكولا؛ كان أبوه وزير جلال الدولة بن بويه، وكان عمه أبو عبد الله الحسين بن جعفر (1) قاضي القضاة ببغداد، وكان عالماً حافظاً متقناً، وكان يقال عنه: الخطيب الثاني.
قال ابن الجوزي: سمعت شيخنا عبد الوهاب يقدح فيه ويقول: يحتاج إلى دين (2) .
صنف كتاب " المختلف والمؤتلف " جمع فيه بين كتاب الدارقطني وعبد الغني والخطيب وزاد عليهم زيادات كثيرة، وله كتاب " الوزراء ".
وكان نحوياً مجوداً شاعراً صحيح النقل، ما كان في البغداديين في زمانه مثله؛ سمع أبا طالب ابن غيلان وأبا بكر بن بشران وأبا القاسم بن شاهين وأبا الطيب الطبري، وسافر إلى الشام والسواحل وديار مصر والجزيرة والثغور والجبال، ودخل بلاد خراسان وما وراء النهر، وجال في الآفاق.
ولد بعكبرا سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، وتوفي سنة خمس وثمانين وأربعمائة؛ قال الحميدي: خرج إلى خراسان ومعه غلمان له ترك، فقتلوه بجرجان وأخذوا ماله وهربوا، وطاح دمه هدراً.
ومن شعره:
ولما تفرقنا تباكت قلوبنا ... فممسك دمع عند ذاك كساكبه
فيا نفسي الحرى البسي (3) ثوب حسرة ... فراق الذي تهوينه قد كساك به وقال أيضاً:
فؤاد ما يفيق من التصابي ... أطاع غرامه وعصى النواهي
__________
(1) ابن خلكان: الحسين بن علي بن جعفر.
(2) كذا وردت العبارة عند الزركشي؛ وفي معجم الأدباء: ((العلم يحتاج إلى دين)) .
(3) في المطبوعة: اكتسي؛ وما اثبته موافق للزركشي ومعجم الأدباء.(3/111)
وقالوا لو تصبر كان يسلو ... وهل صبر يساعد والنوى هي وقال أيضاً:
علمتني بهجرها الصبر عنها ... فهي مشكورة على التقبيح
وأرادت بذاك قبح صنيع ... فعلته فكان عين المليح وقال أيضاً:
أقول لقلبي قد سلا كل واحد ... ونفض أثواب الهوى عن مناكبه
وحبك ما يزداد إلا تجلداً ... فيا ليت شعري ذا الهوى من مناك به وقال أيضاً:
تجنبت أبواب الملوك لأنني ... علمت بما لم يعلم الثقلان
رأيت سهيلاً لم يحد عن طريقه ... من الشمس إلا من مقام هوان 367 (1)
نجم الدين الحلي
علي بن يحيى بن بطريق، بجم الدين أبو الحسن الحلي الكاتب؛ كتب بالديار المصرية أيام الدولة الكاملية، ثم اختلت حاله فعاد إلى العراق ومات ببغداد سنة اثنتين وأربعين وستمائة؛ وكان فاضلاً أصولياً.
قال القوصي: أنشدنا لنفسه بدمشق وكتب بها إلى ابن عنين، وكان به جرب انقطع بسببه في داره:
مولاي لا بت في همي وفي نصبي ... ولا لقيت الذي ألقى من الجرب
__________
(1) الزركشي: 234.(3/112)
هذا زماني (1) أبو جهل وذا جربي ... أبو معيط وذا قلبي أبو لهب وأنشدني لنفسه وقد بلغه أن الملك الأشرف أعطى الحلي سيفاً محلى فتقلد به وتشبه بالحيص بيص:
تقلد راجح الحلي سيفاً ... محلى واقتنى سمر الرماح
وقال الناس فيه فقلت كفوا ... فليس عليه في ذا من جناح
أيقدر أن يغير على القوافي ... وأموال الملوك بلا سلاح وقال أيضاً:
لي على الريق كل يوم ركوب ... في غبار أغص منه بريقي
أقصد القلعة السحوق كأني ... حجر من حجارة المنجنيق
فدوابي تحفى وجسمي يضني ... هذه قلعة على التحقيق 368 (2)
" ابن الذروي "
علي بن يحيى، القاضي الوجيه المعروف بابن الذروي؛ شاعر مجيد، وكانت وفاته بالديار المصرية سنة " ... " (3) ومن شعره:
جن به العاذل لما رآه ... وعاد يستعذر مما جناه
__________
(1) في المطبوعة: زمان، والتصويب عن الزركشي.
(2) الخريدة (قسم مصر) 1: 187 وذكر المحقق هنالك أن له ترجمة في المغرب لابن سعيد (قسم مصر) 2: 170 (من نسخة دار الكتب المصرية) وابن سعيد ينقل عن كتاب السيل والذيل للعماد وعن ديوان ابن الذروي، وانظر كتاب الروضتين 2: 27 والزركشي: 234 وصفحات متفرقة من بدائع البدائه؛ وبقي جزء يسير من هذه الترجمة في ر.
(3) بياض في المطبوعة، وكذلك عند الزركشي، وذكر محقق الخريدة أنه توفي سنة 577.(3/113)
أتاه كي يهدي إلى سلوة ... عنه فضل العقل منه وتاه
وهل يطيع القلب تقييده ... وقد عصى لما نهته نهاه
الحب بالكتمان عقل فإن ... تجد به وشاه قول الوشاه
وما على العاذل من مغرم ... شفاؤه ما ضمنته الشفاه
هويته كالروض في حسنه ... إذا رضيت بالوصف مني حلاه
ينور وجهاً وابتساماً، فما ... نعرف منه الثغر لولا لماه
إن لم يكن بدراً على بانه ... فإن بين المنظرين اشتباه
أنكر من قتلي ألحاظه ... منه دماً تعرفه وجنتاه
وشفني سقماً فما ضره ... لو أبرأ السقم الذي قد براه وقال أيضاً:
ألم وطرف النجم قد كاد يغمض ... خيال إذا دب الكرى يتعرض
سرى لي من أقصى الشآم وبيننا ... فياف على الساري تطول وتعرض
هدته من الأشواق نار دخانها ... هموم عليه صبغة الليل تنفض
وأداه للعشاق دمع تقطرت ... مرائرنا في مائه فهي عرمض
له الله من طيف متى ذقت هجعة ... أتتني به خيل الأماني تركض
يواصلني عمن هو الدهر هاجر ... ويقبل لي عمن هو الدهر معرض
وما شاقني إلا تألق بارق ... أرقت له والجو بالصبح يحرض
وللغيم مسك في ذرانا مطبق ... وللطل كافور لدينا مرضرض
وقد أشرب الصهباء من كف شادن ... حلاه على شرب المدام تحرض
يروقك خد منه للثم أحمر ... ويصيبك (1) ثغر منه للرشف أبيض
فللحسن من هذا شقيق مذهب (2) ... وللطيب من ذا أقحوان مفضض
__________
(1) المطبوعة: نصيبك، والتصويب عن الزركشي.
(2) المطبوعة: مهذب، وما أثبته عن الزركشي.(3/114)
وندمان صدق قد بلوت وكلهم ... لودك يصفي أو لنصحك يمحض وقال أيضاً:
يا بان إن كان سكان الحمى بانوا ... ففيض شاني له في إثرهم شان
ويا حمائم إن سجعت مسعدة ... فلي على دوحة الأشواق ألحان
أبكي الأحبة أو أبكي منازلهم ... فإن مضى ذكر نعمى قلت نعمان
قد كان في تلك أوطار نعمت بها ... ولت كما كان من هاتيك أوطان
من لي بأقمار أنس في دجى طرر ... أفلاكها العيس والأبراج أظعان
تلك القدود مع الأرداف إن خطرت ... ما القضب قضب ولا الكثبان كثبان
سقوا من الحسن ماء واحداً فبدا ... منهم لنا غير صنوان وصنوان
يا يوم توديعهم ماذا به ظفرت ... عيني من الحسن لو والاه إحسان
جئنا فولى بها الإعراض من حذر ... فكيف لم تتلفت وهي غزلان
من كل قانية الخدين ناهدة ... لو كان للضم أو للثم إمكان
يدل على وجنتيها الجلنار على ... أن الذي حاز منها الصدر رمان
كم طرت شوقاً إليها في الرياح صنى ... فظن بلقيس وافاها سليمان وقال أيضاً:
ما بين وجهك والهلال سوى ... أن الأهلة لا تميت هوى
لله منظر من كلفت به ... ماذا من الحسن البديع حوى
والنجم منه إذا هوى وروى ... ما ضل مثلي عاشق وغوى
ما الغصن هزته الجنوب إذا ... ما السكر هز قوامه ولوى
لام العذول وقد رآه وكم ... عاو على البدر المنير عوى
يا من غدا بنواه يوعدني ... ليكن عقابك لي بغير نوى
انظر إلى جسمي يذوب ضنى ... وانظر تجد قلبي يفت جوى وقال من أبيات:(3/115)
أنت المنى والمنايا للأنام فإن ... أردت آمن قلوب الناس أو أخف
قال العواذل كم تعنى به أسفاً ... فقلت: يا أسفي إن حلت عن أسف
يا من تعطفت الصدغان منه على ... ذلي وما قلبه القاسي بمنعطف
إن كان عندك عدوى كل ذي جنف ... فإن كان عندي بلوى كل ذي دنف
أقول والفجر قد لاحت بشائره ... والجو قد كاد (1) يكسى حلة السدف
والليل خلف عصا الجوزاء من خور ... فذاك في عمره للشيب والخرف
راهنت يا نجم جفني في السهاد وقد ... بدا بأجفانك التسهيد فاعترف ودخل الوجيه ابن الذروي إلى الحمام ومعه ابن وزير الشاعر، فقال ابن وزير (2) :
لله يومي بحمام نعمت بها (3) ... والماء ما بيننا من حوضها جاري
كأنه فوق شفاف الرخام ضحى ... ماء يسيل على أثواب قصار فقال ابن الذروي:
وشاعر أوقد الطبع الذكي (4) له ... فكاد يحرقه من فرط إذكاء
أقام يعمل أياماً قريحته (5) ... وشبه (6) الماء بعد الجهد بالماء ولابن الذروي في الحمام:
إن عيش الحمام أطيب عيش (7) ... غير أن المقام فيه قليل
__________
(1) المطبوعة: كان؛ والتصويب عن الزركشي.
(2) انظر بدائع البدائه: 259 - 260؛ وابن خلكان وابن وزير هو النجيب هبة الله بن وزير؛ الخريدة - قسم مصر - 2: 143.
(3) البدائع: به.
(4) البدائع: الذكاء.
(5) البدائع: يجهد ... رويته.
(6) البدائع: وفسر.
(7) البدائع: عيش هني.(3/116)
فهي مثل المليك (1) يصفي لك الو ... د ولكن وده مستحيل
جنة تكره (2) الإقامة فيها ... وجحيم يطيب فيه الدخول
فكأن الغريق فيها كليم ... وكأن الحريق فيها خليل وفيه يقول ابن المنجم:
لا تحسبن الوجيه حين كسا ... بردته للغلام من غلطه
والله ما لفه ببردته ... إلا لأخذ القضيب من وسطه 369 (3)
" ابن القفطي "
علي بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الواحد بن موسى، وزير حلب، القاضي الأكرم الوزير جمال الدين أبو الحسن ابن القفطي، أحد الكتاب المشهورين، وكان أبوه القاضي الأشرف كاتباً أيضاً؛ ولد بقفط من الصعيد الأعلى بالديار المصرية وأقام بحلب، وكان يقوم بعلوم من اللغة والنحو والفقه والحديث وعلوم القرآن والأصول والمنطق والنجوم والهندسة والتاريخ والجرح والتعديل؛ ولد سنة ستين (4) وخمسمائة وتوفي سنة ست وأربعين وستمائة.
__________
(1) ر: لملوك.
(2) ر: يكره.
(3) الزركشي: 234 وابن الشعار 5: 1 ومعجم الأدباء 15: 175 ومرآة الجنان 4: 116 وبغية الوعاة: 358 والشذرات 5: 236 والطالع السعيد: 436 وحسن المحاضرة 1: 554 ومعجم البلدان (فقط) . والنجوم الزاهرة 6: 361 والحوادث الجامعة: 237 وانظر مقدمة المحقق على إنباه الرواة؛ وقد وردت هذه الترجمة في ر.
(4) معجم الأدباء: ثمان وستين.(3/117)
وكان صدراً محتشماً كامل السؤدد، جمع من الكتب ما لا يوصف وقصد بها من الآفاق، وكان لا يحب من الدنيا سواها، ولم يكن له دار ولا زوجة، وأوصى بكتبه للناصر صاحب حلب وكانت تساوي خمسين ألف دينار، وله حكايات غريبة في غرامه بالكتب، وهو أخو المؤيد ابن القفطي.
ومن شعره (1) :
ضدان عندي قصرا همتي ... وجه حيي ولسان وقاح
إن رمت أمراً خانني ذو الحيا ... ومقول يطمعني في النجاح
فأنثني في حيرة منهما ... لي مخلب ماض وما من جناح
شبه جبان فر من معرك ... خوفاً وفي يمناه عضب الكفاح وله من التصانيف كتاب " الضاد والظاء " وهو ما اشتبه في اللفظ واختلف في المعنى والخط. كتاب " الدر الثمين في أخبار المتيمين ". كتاب " من ألوت الأيام عليه فرفعته ثم التوت عليه فوضعته ". كتاب " أخبار المصنفين وما صنفوه ". كتاب " أخبار النحويين " كبير. كتاب " أخبار مصر من ابتدائها إلى أيام صلاح الدين ". ست مجلدات. كتاب " تاريخ المغرب ". كتاب " تاريخ اليمن ". كتاب " المحلى في استيعاب وجوه كلا ". كتاب " إصلاح خلل صحاح الجوهري ". كتاب " الكلام على الموطأ " لم يتم. كتاب " الكلام على صحيح البخاري " لم يتم. " تاريخ محمود بن سبكتكين وبيته (2) ". " كتاب تاريخ السلجوقية ". كتاب " الإيناس في أخبار آل مرداس ". كتاب " الرد على النصارى وذكر مجامعهم ". كتاب " مشيخة تاج الدين الكندي ". كتاب " نهزة الخاطر ونزهة الناظر، في أحاسن ما نقل من ظهور الكتب ".
__________
(1) معجم الأدباء 179 - 180.
(2) معجم الأدباء: وبنيه.(3/118)
370 - (1)
ابن الصفار المارديني
علي بن يوسف بن شيبان، جلال الدين المارديني المعروف بابن الصفار؛ مولده بماردين سنة خمس وسبعين وخمسمائة، ومات مقتولاً، قتلته التتار لما دخلوا ماردين سنة ثمان وخمسين وستمائة.
خدم بكتابة الإنشاء الملك المنصور ناصر الدين أرتق صاحب ماردين، وتولى كتابة أشراف دنيسر ثماني عشرة (2) سنة؛ كان شاعراً مجيداً، وله فضل وأدب، وصنف كتاباً يحتوي على آداب كثيرة وسماه كتاب " أنس الملوك " وله شعر رائق منه من قصيدة:
أنا ما سلوت وبرق فيه خلب ... أسلو وعارضه أمامي سائل؟!
يسعى بإبريقين: ذا من ثغره ... يحيي وذا من مقلتيه قاتل
فمتى تقوم قيامتي بوصاله ... ويضم شملينا معاد شامل؟
وأكون من أهل الخطايا: خده ... ناري وصدغاه علي سلاسل وقال أيضاً:
مشوق إذا ما ارتاح هيجه الحب ... وصب لوبل الدمع في خده صب
إذا نفحته من صبا الشوق نفحة ... صبا نحوها والمدنف الصب قد يصبو
بروحي ريم قد رمتني جفونه ... بأسهم لحظ كان برجاسها القلب
نضا عضب جفنيه علي عذاره ... فمن مهجتي جفن ومن لحظه عضب
يعذب قلبي ظالماً عذب ظلمه ... ولكن تعذيبي لمرشفه عذب
__________
(1) الزركشي: 235 والنجوم الزاهرة 7: 252 وابن الشعار 5: 259.
(2) ر والزركشي: ثمانية عشر.(3/119)
نصبت لضيف الطيف منه حبائلاً ... من النوم لما عز في اليقظة القرب
وما كنت أدري أنه رافض الهوى ... ينفره عن زورتي ذلك النصب
تجمعت الأضداد فيه ولم يكن ... ليجتمع الإيجاب في الشيء والسلب
ففي خده نار وفي الثغر جنة ... وفي لفظه سلم وفي حلظه حرب
وفي قده لين وفي القلب قسوة ... وفي خصره جدب وفي ردفه خصب وقال أيضاً:
إذا نظرت عيني وجوه حبائبي ... فتلك صلاتي في ليالي الرغائب منها:
تبدت لنا عند الصباح طليعة ... من الترك مرد فوق جرد سلاهب
بأيديهم سمر طوال كأنما ... أسنتها تبغي التقاط الكواكب
تثنوا غصوناً في السروج وأطلقوا ... سهام لحاظ من قسي الحواجب
والقوا القنا المران عنهم وقوموا ... قدوداً أعدوها لقرع الكتائب
ولو كشفوا بيض العوارض في الوغى ... لأغنتهم عن سل بيض القواضب
ترى كل عين منهم عين فتنة ... تنادي أسود الحرب: هل من محارب؟
فظلت موالينا أسارى محاسن ... من القوم صرعى لا أسارى المضارب
فما ملك إلا أسير لمالك ... ولا حاجب إلا أسير لحاجب وقال أيضاً:
هل اختط فانآد غصناً وريقا ... غرير (1) حكى الكأس ثغراً وريقا
أم الصدغ لما صفا خده ... تمثل فيه خيالاً دقيقا
رنا فرمى أسهماً وانثنى ... رشيقاً فراح كلانا رشيقا
وأبدع فيه فمالي أرى ... له الخال وهو فريد (1) شقيقا
__________
(1) ر والزركشي: غريراً.
(1) ر والزركشي: غريراً.(3/120)
وما بال مبسمه ميسماً ... وما ملكته يمين رقيقا
وهبه ارتوى من نمير الصبا ... فكيف استحال بفيه رحيقا
فأجرى لنا من فم أولاً ... وثغر جديد كميتاً عتيقا
حججت إلى كعبة الحسن منه ... ووجهت وجهي إليها مشوقا
وقبلته فوردت العذيب ... وجزت الثنايا وجئت العقيقا وقال:
برق بدا أم ثغرك المنعوت ... أم لؤلؤ قد ضمه ياقوت
وظبا سيوف جردت من لحظك ال ... فتاك أم هاروت أم ماروت
يا للنصارى برقعوا شماسكم ... قبل الضلال فإنه طاغوت
ما قام أقنوم الجمال بوجهه ... إلا وفي ناسوته لاهوت
أحسن فإن الحسن وصف زائل ... واصنع جميلاً فالجمال يفوت
واستبق أبناء الغرام فإنهم ... سيقلدوك دماهم ويموتوا وقال:
مذ عقربت صدغاه واستجمع ال ... نمل على شهد اللمى الأشنب (1)
تقدم الحاجب للعارض أن ... يكتب بالأدهم في الأشهب
وقام في جيش الهوى معلناً ... وصاح والعشاق في الموكب
يا أمراء الحسن لا تركبوا ... القمر (2) الأرضي في العقرب وقال في غلام مليح غرق في الماء (3) :
يا أيها الرشأ المكحول ناظره ... إني أعيذك من نار بأحشائي (4)
__________
(1) عند هذا الحد تنقطع الترجمة في ر.
(2) الزركشي: فالقمر.
(3) الزركشي: وله في غلام اسمه الشمس يعوم.
(4) الزركشي: بالسحر، حسبك قد أحرقت أحشائي.(3/121)
إن انغماسك في التيار حقق أن ... الشمس تغرب في عين من الماء وقال أيضاً:
ويوم قر برد أنفاسه ... يمزق الأوجه من قرصها
يوم تود الشمس من برده ... لو جرت النار إلى قرصها أخذه من قول القاضي الفاضل: في ليلة جمد خمرها، وخمد جمرها، إلى يوم تود البصلة لو ارتدت إلى قمصها، والشمس لو جرت النار إلى قرصها.
وقال أيضاً:
ما برحت يوم وداعي لها (1) ... تضمني ضمة مستأنس
حتى تثنى الغصن فوق النقا ... وانتثر الطل على النرجس وقال أيضاً:
تعشقته أمي (2) حسن فماله ... أتى بكتاب ضمنه سورة النمل
ومالي أنا المجنون (3) فيه وشعره ... إذا مر بالكثبان خط على الرمل وهو مثل لقول آخر:
وتركي نقي الخد ألمى ... بقد ماس كالغصن الرطيب
له شعر حكى مجنون ليلى ... يخط إذا مشى فوق الكثيب وقال أيضاً:
إذا هب النسيم بطيب نشر ... طربت وقلت إيه يا رسول
سوى أني أغار لأن فيه ... شذاك وأنه مثلي عليل
__________
(1) المطبوعة: لهم، والتصويب عن الزركشي.
(2) المطبوعة: زاهي، والتصويب عن الزركشي.
(3) المطبوعة: ومالي والمجنون، والتصويب عن الزركشي.(3/122)
وقال أيضاً:
وأعجب شيء أن ريقك ماؤه ... يولد دراً وهو عذب مروق
وأنك صاح وهو فيك مسكر ... وأنت جديد الحسن وهو معتق وقال أيضاً " ذوبيت ":
لا تعتقدوا شامته في الخد ... قد زخرفها تعمداً بالقصد
ذا خالقه لما بدا حاجبه ... نوناً جعل النقطة فوق الخد 371 (1)
علية بنت المهدي
علية بنت المهدي العباسية، أخت أمير المؤمنين هارون الرشيد؛ كانت من أحسن خلق الله وجهاً، وأظرف النساء (2) وأعقلهن، ذات صيانة وأدب بارع، تزوجها موسى بن عيسى العباسي، وكان الرشيد يبالغ في إكرامها واحترامها، ولها ديوان شعر.
عاشت خمسين سنة، توفيت سنة عشر ومائتين، وكان سبب موتها أن المأمون سلم عليها وضمها إلى صدره، وجعل يقبل رأسها ووجهها مغطى، فشرقت من ذلك وحمت، وماتت لأيام يسيرة، وكانت تتغزل في خادمين: أحدهما طل والآخر رشاً. فمن قولها في طل وصحفت اسمه:
أيا سروة البستان (3) طال تشوقي ... فهل لي إلى ظل لديك سبيل
__________
(1) الأغاني 10: 171 والزركشي: 236 ونزهة الجلساء: 80 وفيه نقل عن الحصري من كتاب ((النورين)) ؛ وبعض الترجمة ورد في ر سقط جزء من أولها.
(2) في المطبوعة: الناس، والتصويب عن الزركشي.
(3) في المطبوعة: الفتيان، والتصويب عن الزركشي.(3/123)
متى يلتقي من ليس يقضي خروجه ... وليس لمن يهوى إليه وصول وقالت فيه أيضاً:
سلم على ذاك الغزا ... ل الأغيد الحسن الدلال
سلم عليه وقله له: ... يا غل ألباب الرجال
خليت جسمي ضاحياً ... وسكنت في ظل الحجال
وبلغت مني غاية ... لم أدر منها ما احتيالي فبلغ الرشيد ذلك فحلف أنها لا تذكره، ثم تسمع عليه يوماً فوجدها وهي تقرأ في آخر سورة البقرة حتى بلغت قوله تعالى: فإن لم يصبها وابل فما نهى عنه أمير المؤمنين، فدخل الرشيد وقبل رأسها وقال لها: قد وهبت لك طلاً لا منعتك بعد هذا عما تريدين.
وكانت من أعف الناس: كانت إذا طهرت لازمت المحراب، وإذا لم تكن طاهرة غنت.
ولما خرج الرشيد إلى الري أخذها معه، فلما وصلت إلى المرج نظمت قولها:
ومغترب بالمرج يبكي لشجوه ... وقد غاب عنه المسعدون على الحب
إذا ما أتاه الركب من نحو أرضه ... تنشق يستشفي برائحة الكرب وغنت بهما، فلما بلغ الرشيد الصوت علم أنها قد اشتاقت إلى العراق وأهلها، فأمر بردها.
ومن شعرها:
إني كثرت عليه في زيارته ... فمل والشيء مملول إذا كثرا
ورابني منه أني لا أزال أرى ... في طرفه قصراً عني إذا نظرا وقالت:
كتمت اسم الحبيب عن العباد ... ورددت الصبابة في فؤادي(3/124)
فواشوقي إلى ناد خلي ... لعلي باسم من أهوى أنادي وقالت:
خلوت بالراح أناجيها ... آخذ منها وأعاطيها
نادمتها إذ لم أجد صاحباً ... أرضاه أن يشركني فيها وهذا يشبه قول أبي النواس:
على مثلها مثلي يكون منادمي ... وإن لم يكن مثلي خلوت بها وحدي وقالت:
بني الحب على الجور فلو ... أنصف المعشوق فيه لسمج
ليس يستحسن في حكم الهوى ... عاشق يحسن تأليف الحجج
وقليل الحب صرفاً خالصاً ... هو خير من كثير قد مزج وقالت عريب المغنية: أحسن يوم (1) مر بي في الدنيا وأطيبه يوم اجتمعت فيه مع إبراهيم بن المهدي وأخته علية، وعندهم أخوهم يعقوب، وكان من أحذق الناس بالزمر، فبدأت علية فغنتهم من صنعتها في شعرها، وأخوها يعقوب يزمر عليها:
تحبب (2) فإن الحب داعية الحب ... وكم من بعد الديار متوجب القرب
تبصر فإن حدثت أنا أخا هوى ... نجا سالماً فارج النجاة من الحب
وأطيب أيام الفتى يومه الذي ... يروع بالهجران فيه وبالعتب
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضى ... فأين حلاوات الرسائل والكتب وغنى إبراهيم وزمر عليه يعقوب:
__________
(1) ر: يوماً.
(2) ر: تجنب.(3/125)
لم ينسنيك سرور لا ولا حزن ... وكيف لا كيف ينسى (1) وجهك الحسن
ولا خلا منك قلبي ولا جسدي ... كلي بكلك مشغول ومرتهن
وحيدة الحسن مالي منك مذ كلفت ... نفسي بحبك إلا الهم والحزن
نور تولد من شمس ومن قمر ... حتى تكامل فيه (2) الروح والبدن فما سمعت مثل ما سمعت منهما قط، وأعلم أني لا أسمع مثله أبداً.
ولدت سنة ستين ومائة وتوفيت سنة عشر ومائتين، رحمها الله تعالى.
372 - (3)
كمال الدين ابن العديم
عمر بن أحمد بن هبة الله ابن أبي جرادة، الصاحب العلامة رئيس الشام، كمال الدين العقيلي الحلبي المعروف بابن العديم؛ ولد سنة ست وثمانين وخمسمائة وتوفي سنة ست وستين وستمائة، وسمع من أبيه ومن عمه أبي غانم محمد وابن طبرزد والافتخار والكندي والحرستاني، وسمع جماعة كثيرة بدمشق وحلب والقدس والحجاز والعراق، وكان محدثاً حافظاً مؤرخاً صادقاً فقيهاً مفتياً منشئاً بليغاً كاتباً مجوداً، درس وأفتى وصنف، وترسل عن الملوك، وكان رأساً في الخط المنسوب لا سيما النسخ الحواشي. أطنب الحافظ شرف الدين الدمياطي في وصفه وقال: ولي قضاء حلب خمسة من آبائه متتالية، وله الخط
__________
(1) ر: ننسى.
(2) ر: فيها.
(3) البدر السافر: 37 والزركشي: 237 ومعجم الأدباء 16: 5 والجواهر المضية 1: 386 والنجوم الزاهرة 7: 208 ومرآة الجنان 4: 158 والشذرات 5: 303 وتاريخ ابن الوردي 2: 215؛ واكثر المصادر على أن وفاته كانت سنة 660؛ والترجمة ثابتة في ر.(3/126)
البديع والحظ الرفيع، والتصانيف الرائقة منها " تاريخ حلب " أدركته المنية قبل إكمال تبييضه، روى عنه الدواداري وغيره ودفن بسفح المقطم بالقاهرة؛ انتهى.
قال ياقوت (1) : سألته لم سميتم ببني العديم؟ فقال: سألت جماعة من أهلي عن ذلك فلم يعرفوه، وقال: هو اسم محدث، ولم يكن في آبائي القدماء من يعرف به، ولا أحسب إلا أن جدي القاضي أبا الفضل هبة الله بن أحمد بن يحيى ابن زهير بن " أبي " جرادة - مع ثروة واسعة ونعمة شاملة - كان يكثر في شعره من ذكر العدم وشكوى الزمان، فسمي بذلك، فإن لم يكن هذا سببه فما أدري ما سببه.
ولكمال الدين من المصنفات كتاب " الدراري في ذكر الذراري (2) " صنفه للملك الظاهر غازي وقدمه له يوم ولده الملك العزيز، وكتاب " ضوء الصباح في الحث على السماح " صنفه للملك الأشرف، وكتاب " الأخبار المستفادة في ذكر بني أبي جرادة ". كتاب في الخط وعلومه وآدابه ووصف طروسه وأقلامه، وكتاب " دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري " وكتاب " تبريد حرارة الأكباد في محفة تشد له بين بغلين ويجلس فيها ويكتب، وقدم إلى مصر رسولاً وإلى بغداد، وكان إذا قدم إلى مصر يلازمه أبو الحسين الجزار، فقال فيه بعض أهل العصر:
يا ابن العديم عدمت كل فضيلة ... وغدوت تحمل راية الإدبار
ما إن رأيت ولا سمعت بمثلها ... تيس يلوذ بصحبة الجزار ومن شعر الصاحب كمال الدين (3) :
__________
(1) معجم الأدباء 16: 6.
(2) ر: الدراري.
(3) معجم الأدباء 16: 51.(3/127)
وأهيف معسول المراشف خلته ... وفي وجنتيه للمدامة عاصر
يسيل إلى فيه اللذيذ مدامة ... رحيقاً وقد مرت عليه الأعاصر
فيسكر منه عند ذاك قوامه ... فيهتز تيهاً والعيون فواتر
كأن أمير النوم يهوى جفونه ... إذا هم رفعاً خالفته المحاجر
خلوت به من بعد ما نام أهله ... وقد غارت الجوزاء والليل ساتر
فوسدته كفي وبات معانقي ... إلى أن بدا ضوء من الصبح سافر
فقام يجر البرد منه على تقى (1) ... وقمت ولم تحلل لإثم مآزر
كذلك أحلى الحب ما كان فرجه ... عفيفاً ووصلاً (2) لم تشبه الجرائر وقال:
فواعجباً من ريقه (3) وهو طاهر ... حلال وقد أضحى علي محرما
هو الخمر لكن أين للخمر طعمه ... ولذته مع أنني لم أذقها وقال:
بدا يسحر الألباب بالحسن والحسنى ... هلم إليه إنه المقصد الأسنى
وزر بين (4) أزرار القميص ترائباً ... وضم إليك الدعص والغصن اللدنا وقال، وكتب بها إلى نور الدين ابن سعيد:
يا أحسن الناس نظماً غير مفتقر ... إلى شهادة مثلي مع توحده
إن كان خطي كسا خطاً كتبت له ... إلي حسناً بدا في لون أسوده
فقد أتت منك أبيات (5) تعلمني ... نظم القريض الذي يحلو لمنشده
__________
(1) ر: نقا.
(2) ياقوت: ووصل.
(3) ياقوت: ريقها.
(4) الزركشي: وزر من.
(5) ر: أبياتاً.(3/128)
أرسلتها تقتضيني ما وعدت به ... والحر حاشاه من إخلاف موعده
وما نسيت ولكن عاقني ورق ... يجيد خطي فآتيه بأجوده
وسوف أسرع فيه الآن مجتهداً ... حتى يوافيك بدراً في مجلده
بأحرف حسنت كالوجه دار به ... مثل الحواشي عذار (1) في مورده وكتب إلى ولده قاضي القضاة مجد الدين:
هذا كتابي إلى من غاب عن نظري ... وشخصه في سواد القلب والبصر
ولا يمن بطيف منه يطرقني ... عند المنام ويأتيني على قدر
ولا كتاب له يأتي فأسمع من ... أنبائه عنه فيه أطيب الخبر
حتى الشمال التي تسري على حلب ... ضنت علي فلم تخطر ولم تسر
أخصه بتحياتي وأخبره ... أني سئمت من الترحال والسفر
أبيت أرعى نجوم الليل مكتئباً ... مفكراً في الذي ألقى إلى السحر
وليس لي أرب في غير رؤيته ... وذاك عندي أقصى السول والوطر 373 (2)
رشيد الدين الفارقي
عمر بن إسماعيل بن مسعود بن سعد بن سعيد بن أبي الكاتب، الأديب العلامة رشيد الدين أبو حفص الربعي الفارقي الشافعي، ولد سنة ثمان وتسعين " وخمسمائة " وتوفي سنة تسع (3) وثمانين وستمائة.
__________
(1) ر والزركشي: عذاراً.
(2) الزركشي: 238 وبغية الوعاة: 360 وفيه نقل عن الذهبي؛ وذكر أن وفاته كانت سنة 689 وكذلك هو في عبر الذهبي 5: 363 والشذرات 5: 409 والأسنوي 2: 286 والدارس 1: 351؛ ووردت الترجمة في ر.
(3) في ر والمطبوعة: سبع، وصوبناه اعتمادا على المصادر.(3/129)
سمع من الزبيدي وابن باقا وغيرهما (1) ، وبرع في النظم، وكتب في ديوان الإنشاء، وله يد طولى في التفسير والبديع واللغة، وانتهت إليه رياسة الأدب، وأفتى وناظر، ودرس بالظاهرية وانقطع بها، وله في النحو مقدمتان كبرى وصغرى، وكان حلو المناظرة مليح النادرة يشارك في الأصول والطب وغير ذلك، ودرس بالناصرية مدة قبل الظاهرية. روى عن الدمياطي وابن دبوقا والمزي والبرزالي وآخرون، وكتب المنسوب، وانتفع به جماعة، وخنق في بيته بالظاهرية وأخذ ذهبه، وشنق الذي خنقه على باب الظاهرية، ودرس بالظاهرية بعده علاء الدين ابن بنت الأعز.
من شعره ما كتبه إلى جمال الدين علي بن جرير إلى قرية القاسمية على يد راجل اسمه علي أيضاً:
حسدت علياً على كونه ... توجه دوني إلى القاسميه
وما بي شوق إلى قرية (2) ... ولكن مرادي ألقى سميه وكتب إلى شيخ الشيوخ عماد الدين ابن حمويه:
من غرس نعمته وناظم مدحه ... بين الورى وسميه ووليه
يشكو ظماه إلى السحاب لعله ... يرويه من وسميه ووليه وقال:
خوذ تجمع فيها كل مفترق ... من المعاني التي تستغرق الكلما
عطت غزالاً سطت ليثاً خطت غصناً ... فاحت عبيراً رنت نبلاً بدت صنما وقال وكتب بها إلى الوزير ابن جرير وقد سوغه سكنى المنيبع بدمشق:
فديت بناناً أراني الندى ... عياناً وكان الندى يسمع
وكفاً حكى البحر جوداً ومن ... أنامله صح لي المنبع
__________
(1) ر: وغيرهم.
(2) الشذرات: قربه.(3/130)
وقال ملغزاً في خيمة:
ما اسم إذا نصبته ... رفعت ما ينصب به
ولا يتم نصبه ... إلا بجر سببه وقال ملغزاً في سبسب:
ما اسم إذا عكسته ... فلذلك اسم للفلا
وإن تركت عكسه ... فهو المسمى أولا وقال، وكتب بها إلى المكرم محمد بن بصاقة:
يا جواداً جود راحته ... أغنت الدنيا عن الديم
ووفياً من سجيته ... رعي أهل الود والذمم
إني أصبحت ذا ثقة ... بكريم غير متهم
خص بالحمد اسمه وغدا ال ... نعت مشتقاً من الكرم وقال بيتين ولا يؤتى لهما بثالث:
ومخطفة تسبي القلوب وتخطف ال ... عقول كأن السحر من جفنها يوحى
رنت وسطت ظبياً وليثاً وأسفرت ... صباحاً وفاحت عنبراً وبدت يوحا 374 (1)
ابن الحسام الذهبي
عمر بن الحسام أقوش؛ هو الشاعر زين الدين أبو حفص الشبلي الدمشقي الذهبي الشافعي الافتخاري، سألته عن مولده فقال: سنة أربع وثمانين
__________
(1) الدرر الكامنة 3: 231 والزركشي: 238؛ ووردت في ر.(3/131)
" وستمائة " وكانت وفاته في شهر رمضان سنة تسع وأربعين وسبعمائة.
اجتمعت به غير مرة، وأنشدني كثيراً من شعره، وفيه تودد كثير وحسن صحبة وطهارة لسان، أنشدني من لفظه لنفسه:
قد أثقلتني الخطايا ... فكيف أخلص منها
يا رب فاغفر ذنوبي ... واصفح بفضلك عنها وقال أيضاً:
يا من عليه اتكالي ... ومن إليه مآبي
جد لي بعفوك عني ... إذا أخذت كتابي وقال:
يا سائلي كيف حالي في مراقبتي ... وما العقيدة في سري وإعلاني
أخاف ذنبي وأرجو العفو عن زللي ... فانظر فبين الرجا والخوف تلقاني وقال:
ولما اعتنقنا للوداع عشية ... وفي القلب نيران لفرط غليله
بكيت وهل يعني البكا عند هائم ... وقد غاب عن عينيه وجه خليله؟ وقال أيضاً:
يا سيد الوزراء دعوة قائل ... من بعد إفلاس وبيع أثاث
أبطت حوالتكم علي كأنها ... تأتي إذا ما صرت في الأجداث
فإذا أتت من بعد موتي فاحسنوا ... بوصولها للأهل في ميراثي وقال، وكتب بها إلى الصاحب شرف الدين يعقوب ناظر طرابلس يشكو من أيوب:
بليت بالضر من أيوب حين غدا ... ينكد العيش في أكل ومشروب(3/132)
وزاد يعقوب في حزني لغيبته ... فضر أيوب لي مع حزن يعقوب وقال:
إذا ما جئتم لغناء فقري ... تقول ابشر إذا قدم الأمير
وقد طال المطال وخفت يأتي ... أميركم وقد مات الفقير 375 (1)
أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز
عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، أمير المؤمنين أبو حفص الأموي رضي الله عنه، ولد بالمدينة سنة ستين للهجرة عام توفي معاوية، أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، روى عن أنس وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب ويوسف بن عبد الله بن سلام وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والربيع ابن سبرة وطائفة.
وكان أبيض رقيق الوجع جميلاً، نحيف الجسم حسن اللحية غائر العينين، بجبهته أثر حافر دابة، ولذلك سمي " أشج بني أمية "، وخطه الشيب؛ قيل إن أباه لما ضربه الفرس وأدماه جعل يسمح الدم ويقول: إن كنت أشج بني مروان إنك لسعيد.
بعثه أبوه من مصر إلى المدينة ليتأدب بها، فكان يختلف إلى عبد الله بن عبيد الله يسمع منه، ولما مات أبوه عبد العزيز طلبه عمه عبد الملك إلى دمشق وزوجه
__________
(1) مصادر أخباره تكاد تعز على الحصر، وقد طبعت سيرته من تأليف ابن كثير (القاهرة) وسيرة أخرى ألفها ابن الجوزي (القاهرة 1331) وسيرة ألفها ابن عبد الحكم (دمشق 1954) وفي المصادر التاريخية الكبرى والموجزة أخبار كثيرة عنه، وانظر تهذيب التهذيب 7: 475 وصفة الصفوة 2: 62 وحلية الأولياء 5: 253 والأغاني 9: 254؛ والترجمة ر.(3/133)
بابنته فاطمة، وكان قبل الإمرة يبالغ في التنعم، ويفرط في الاختيال في المشية.
قال أنس رضي الله عنه: ما صليت خلف إمام أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى، عمر بن عبد العزيز. وقال زيد بن أسلم: كان يتم الركوع والسجود ويخفف القيام والقعود. سئل محمد بن علي بن الحسين عن عمر، فقال: هو نجيب بني أمية، وإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده. وقال عمر بن ميمون بن مهران عن أبيه: كانت العلماء مع عمر بن عبد العزيز تلامذة. وقال نافع: بلغنا عن عمر أنه قال: إن من ولدي رجلاً بوجهه شين يملأ الدنيا عدلاً، فلا أحسبه إلا عمر بن عبد العزيز.
ولما طلب للخلافة كان في المسجد، فسلموا عليه بالخلافة، فعقر به فلم يستطع النهوض حتى أخذوا بضبعيه، فأصعدوه المنبر فجلس طويلاً لا يتكلم، فلما رآهم جالسين قال: ألا تقوموا فتبايعوا أمير المؤمنين، فنهضوا إليه فبايعوه رجلاً رجلاً.
وروى حماد بن زيد عن أبي هاشم أن رجلاً جاء إلى عمر بن عبد العزيز فقال: لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وأبو بكر عن يمينه وعمر عن شماله، فإذا رجلان يختصمان وأنت بين يديه جالس، فقال لك: يا عمر إذا عملت فاعمل بعمل هذين، لأبي بكر وعمر؛ وقيل إن عمر هو الذي رأى هذا المنام.
وقد عمل له ابن الجوزي سيرة، مجلد كبير.
وكانت وفاته بدير سمعان لعشر بقين من شهر رجب سنة إحدى ومائة، سقاه بنو (1) أمية السم لما شدد عليهم وانتزع كثيراً مما في أيديهم، وصلى عليه يزيد بن عبد الملك، وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأربعة شعر يوماً، ونقش خاتمه " عمر يؤمن بالله " وهو الذي بنى الجحفة، واشترى ملطية من الروم بمائة ألف أسير وبناها، وروى له الجماعة.
__________
(1) ر: بني.(3/134)
وفي عمر بن عبد العزيز يقول الشريف الرضي (1) :
يا ابن عبد العزيز لو بكت ... العين فتى من أمية لبكيتك
غير أني أقول إنك قد طبت ... وإن لم يطب ولم يزك بيتك
أنت نزهتنا عن السب والقذ ... ف فلو أمكن الجزاء جزيتك
ولو أني رأيت قبرك لاستح ... ييت من أن أرى وما حييتك
دير سمعان فيك مأوى أبي ... حفص فودي لو أنني آويتك
أنت بالذكر بين عيني وقلبي ... إن تدانيت منك أو إن نأيتك
وعجيب أني قليت بني مر ... وان طراً وأنني ما قليتك
قرب العدل منك لما نأى الجو ... ر بهم فاجتويتهم واجتبيتك
فلو أني ملكت دفعاً لما نا ... بك من طارق الردى لافتديتك 376 (2)
أبو حفص الشطرنجي
عمر بن عبد العزيز، أبو حفص الشطرنجي، مولى بني العباس؛ كان أبوه أعجمياً من موالي المنصور، ونشأ عمر في دار المهدي ومع أولاد مواليه فكان كأحدهم، وتأدب، وكان مشغوفاً بالشطرنج ولعبه، ولما مات المهدي انقطع إلى علية وخرج معها لما تزوجت، وعاد معها لما عادت إلى القصر، وكان يقول لها الأشعار فيما تريده من الأمور بينها وبين إخوتها وبني أخيها من الخلفاء فتنتحل بعض ذلك وتترك بعضه.
__________
(1) ديوان الشريف 1: 215.
(2) الأغاني 22: 50 والسمط: 517 والزركشي: 239؛ ووردت الترجمة في ر.(3/135)
وقال محمد بن الجهم البرمكي: رأيت أبا حفص الشطرنجي فرأيت إنساناً يلهيك حضوره عن كل غائب، وتسليك مجالسته عن كل الهموم والمصائب، قربه عرس، وحديثه أنس، وجده لعب، ولعبه جد، دين ماجن، إن لبسته على ظاهره لبست موموقاً لا تمله، وإن تتبعه لتنظر خبرته وقفت على مروءة لا تطور (1) الفواحش بجنباتها، وكان من علمته أقل ما فيه الشعر، وهو القائل (2) :
تحبب فإن الحب داعية الحب ... وكم من بعيد الدار مستوجب القرب
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضى ... فأين حلاوات الرسائل والكتب
ففكر فإن حدثت أن أخا الهوى ... نجا سالماً فراج النجاة من الحب
وأطيب أيام الهوى يومك الذي ... تروع بالهجران (3) فيه وبالعتب ومن شعره:
وقد حسدوني قرب داري منكم ... وكم من قريب الدار وهو بعيد
دخولك من باب الهوى إن أردته ... يسير ولكن الخروج شديد وقال له الرشيد: يا حبيبي، لقد أحسنت ما شئت في بيتين قلتهما، فقال: ما هما يا سيدي؟ فمن شرفهما استحسانك، فقال: قولك:
لم ألق ذا شجن يبوح بحبه ... إلا حسبتك ذلك المحبوبا
حذراً عليك وإنني بك واثق ... أن لا ينال سواي منك نصيبا فقال: يا أمير المؤمنين ليسا لي، هما للعباس بن الأحنف، فقال: صدقك والله أعجب لي، ولك والله أحسن منهما حيث تقول:
__________
(1) ر: تتطور؛ والتصويب عن الأغاني. تطور: تقرب.
(2) وردت هذه الأبيات في ترجمة علية.
(3) الأغاني: بالتحريش.(3/136)
إذا سرها أمر وفيه مساءتي ... قضيت لها فيما تريد على نفسي
وما مر يوم (1) أرتجي فيه راحة ... فأذكره إلا بكيت على أمسي قيل غضب الرشيد على علية بنت المهدي، فأمرت أبا حفص الشطرنجي شاعرها بأن يقول شعراً يعتذر فيه عنها، ويسأله الرضى عنها، فقال:
لو كان يمنع حسن الفعل صاحبه ... من أن يكون له ذنب (2) إلى أحد
كانت علية أبرا (3) الناس كلهم ... من أن تكافا بسوء آخر الأبد
ما لي إذا غبت لم أذكر بواحدة ... وإن سقمت فطال السقم لم أعد
ما أعجب الشيء ترجوه فتحرمه ... قد كنت أحسب أني قد ملأت يدي فغنت عليه لحناً وألقته على جماعة من جواري الرشيد، فغنينه إياه في أول مجلس جلس فيه، فطرب طرباً شديداً وسأل عن القصة فأخبرته بذلك، فأحضر علية وقبلت رأسه واعتذرت إليه، وسألها إعادة الصوت فغنته فبكى وقال: لا غضبت عليك ما عشت أبدا.
وكانت وفاة أبي حفص في خلافة المعتصم.
377 - (4)
قطب الدين الشارعي
عمر بن عوض بن عبد الرحمن بن عبد الوهاب الشارعي، يعرف بابن قليلة ويدعى قطب الدين؛ كانت وفاته بعد السبعمائة.
__________
(1) ر: يوماً.
(2) ر: ذنباً.
(3) الأغاني: أربى.
(4) الزركشي: 239 والدرر الكامنة 3: 258؛ والترجمة في ر.(3/137)
من شعره، وقيل هي لابن خلكان (1) :
ألا يا سائراً في قفر عمر (2) ... يقاسي في السرى (3) حزناً وسهلا
بلغت نقا المشيب وجزت عنه ... وما بعد النقا إلا المصلى وله:
عزمت على تزويج بكر مدامة ... بماء قراح والليالي تساعد
فأمهرتها در الحباب وإنه ... إذا جليت ليلاً عليها قلائد
وجاءت رياحين البساتين عرفت ... فطابت بذاك النفس واللوز عاقد
وكان حضور النبق فألاً مهنئاً ... لنا بالبقا في العقد والورد شاهد 378 (4)
مجير الدين ابن اللمطي
عمر بن عيسى بن نصر بن محمد بن علي بن أحمد بن محمد بن حسن بن حسين التيمي، مجير الدين ابن اللمطي؛ قال العلامة أثير الدين أبو حيان: رأيته بقوص وكتبت عنه شيئاً من شعره، قدم علينا " مصر " (5) وسكنها أيام القاضي تقي الدين ابن دقيق العيد، واشتغل عنده أوقات، وكان قد نظر في العربية، وأنشدني لنفسه بمدرسة الأفرم سنة ثمانين وستمائة (6) :
__________
(1) ورد البيتان منسوبين لابن خلكان في ترجمته، وعند الزركشي: 54.
(2) الدرر: بطن قفر.
(3) الدرر: ليقطع في الفلا.
(4) الطالع السعيد: 448 والزركشي: 239،وأطال الأدفوي في رفع نسبته؛ وهذه الترجمة في ر.
(5) زيادة ضرورية من الزركشي.
(6) أورد الأدفوي أبياتاً كثيرة منها (انظر الصفحة: 453) .(3/138)
أبى الدمع إلا أن يفيض وأن يجري ... على ما مضى من مدة النأي من عمري
وما لي إن كفكفت ماء محاجري ... وقد بعدت دار الأحبة من عذر
أما إنه لولا اشتياقي لذكراهم ... ولا شوق إلا ما يهيج بالذكر
لما شاقني نظم القريض ولا صبا ... فؤادي على البلوى إلى عمل الشعر
وكان لمثلي عن أفانين منطقي ... هنالك ما يلهي عن النظم والنثر وأنشدني أيضاً:
جفن قريح بالبكاء موكل ... فعلت به العبرات ما لا يفعل
وجوانح مني على شحط النوى ... أضحت تمزق في الهوى وتوصل
عجباً لحكم الحب في، فليته ... يوماً يجور به ويوماً يعدل
إني وإن أمسى يحملني الهوى ... من ثقله في الحب ما لا يحمل
فلقد حلت منه مرارات الجوى ... عندي وخف لدي ما يستثقل
لا يطمع اللوام في ترك الهوى ... إن كثروا من لومهم أو قللوا
لهفي على زمني بمنعرج اللوى ... والشمل مجتمع وجدي مقبل
ما كان أهنا العيش فيه فليته ... لو دام منه ريثما أتأمل وقال:
وزهدني في الخل أن وداده ... لرهبة جاه أو لرغبة مال
فأصبحت لا أرتاح منه لرؤية ... ولا أرتجي نفعاً لديه بحال ولما توفي قاضي القضاة ابن دقيق العيد ترك ما ولاه من نظر رباع الأيتام وتوجه إلى قوص، وأقام بها إلى أن توفي سنة إحدى وعشرين وسبعمائة وله من العمر ثلاث وثمانون سنة.
وله شعر جيد، وكان صحيح الود حافظ العهد حسن الصحبة، رحمه الله.(3/139)
379 - (1)
السراج الوراق
عمر بن محمد بن حسن، سراج الدين الوراق الشاعر المشهور والأديب المذكور؛ ملكت ديوان شعره، وهو في سبعة أجزاء كبار ضخمة بخطه إلى الغاية، هذا الذي اختاره لنفسه وأثبته، فلعل الأصل كان من حساب خمسة عشر مجلداً، وكل مجلد يكون مجلدين، فهذا الرجل أقل ما يكون ديوانه لو ترك جيده ورديه في ثلاثين مجلداً، وخطه في غاية الحسن والقوة والأصالة. وكان حسن التخيل جيد المقاصد صحيح المعاني عذب التركيب، قاعد التورية والاستخدام، عارف (2) بالبديع وأنواعه، وكان أشقر أزرق العين، وفي ذلك يقول:
ومن رآني والحمار مركبي ... وزرقتي للروم عرق قد ضرب
قال وقد أبصر وجهي مقبلاً: ... لا فارس الخيل ولا وجه العرب وكان يكتب الدرج للأمير سيف الدين أبي بكر ابن أسباسلار والي مصر، وتوفي في جمادى الأولى سنة خمس وتسعين وستمائة، رحمه الله تعالى، وقد قارب التسعين أو جاوزها بقليل، وأكثر شعره في اسمه، فمن ذلك:
وكنت حبيباً إلى الغانيات ... فألبسني الشيب بغض الرقيب
وكنت سراجاً بليل الشباب ... فأطفأ نوري نهار المشيب وقال:
بني اقتدى بالكتاب العزيز ... وراح لبري سعياً وراجا
__________
(1) الزركشي: 240 والنجوم الزاهرة 8: 83 والشذرات 5: 431 وهذه الترجمة ثابتة في ر.
(2) كذا في ر.(3/140)
فما قال لي أف مذ كان لي ... لكوني أباً ولكوني سراجا وقال:
وقالت يا سراج علاك شيب ... فدع لجديده خلع الغذار
فقلت لها نهار بعد ليل ... فما يدعوك أنت إلى النفار
فقالت قد صدقت، وما علمنا ... بأضيع من سراج في نهار وقال:
إلهي قد جاوزت تسعين حجة ... فشكراً لنعماك التي ليس تكفر
وعمرت في الإسلام فازددت بهجة ... ونوراً، كذا يبدو السراج المعمر
وعمم نور الشيب رأسي فسرني ... وما ساءني أن السراج منور وقال:
طوت الزيارة إذ رأت ... عصر المشيب طوى الزياره
ثم انثنت لما انثنت ... بعد الصلابة كالحجاره
وبقيت أهرب وهي تس ... أل جارة من بعد جاره
وتقول: يا ستي استرح ... نا لا سراج ولا مناره وقال:
كم قطع الجود من لسان ... قلد من نظمه النحورا
فها أنا شاعر سراج ... فاقطع لساني أزدك نورا وقال أيضاً:
أثنى علي الأنام أني ... لم أهج خلقاً ولو هجاني
فقلت لا خير في سراج ... إن لم يكن دافئ اللسان وقال:
رب سامح أبا الحسين وسامح ... ني فشأني وشأنه في الإسلام(3/141)
فذنوب الوراق كل جريح ... وذنوب الجزار (1) كل عظام " وقال:
واخجلتي وصحائفي قد سودت ... وصحائف الأبرار في إشراق
وفضيحتي لمعنف لي قائل: ... أكذا تكون صحائف الوراق (2) " وقال:
وباخل يشنأ الأضياف حل به ... ضيف من الصفع نزال على القمم
سألته ما الذي يشكو فأنشدني ... " ضيف ألم برأسي غير محتشم (3) " وقال:
وضاع خصر لها ما زلت أنشده ... أو رق لي ورثى للسقم من بدني
وقال لي بلسان من مناطقه: ... " لولا مخاطبتي إياك لم ترني (4) " وقال أيضاً:
رأت حالي وقد حالت ... وقد غال الصبا فوت
فقالت إذ تشاجرنا ... ولم يخفض لنا صوت
فلا خير ولا مير ... ولا أير فذا موت وقال:
أصبحت أعجن إذ أقوم وشر ما ... وقعت عليه العين شيخ عاجن (5)
وإذا أردت أدق شيئاً لم أجد ... عندي يداً والبيت فيه الهاون
__________
(1) ر: السراج.
(2) ما بين معقفين لم يرد في ر، وهو ثابت في المطبوعة.
(3) صدر بيت للمتنبي، وعجزه: السيف أحسن فعلاً منه باللمم.
(4) عجز البيت للمتنبي، وصدره: ((كفى بجسمي نحولاً أنني رجل)) .
(5) عجن: نهض على الأرض معتمداً بجمعه، وهو دلالة الشيخوخة.(3/142)
وقال:
قام فلما دنوت منها ... نام، وما مثل تلك خجله
وكل كفي لفرط جذبي ... له وما للجبان حمله
فزرجنت (1) وانثنت وقالت: ... قوموا انظروا عاشقاً بوصله
فقلت هذا لفرط حبي ... قالت دع الترهات بالله
قلت أقيم الدليل قالت ... لو قام ما احتجت للأدله وقال في أقرع (2) :
أبدا لنا لما بدا قرعة ... يحار في تشبيهها القلب
قالوا فهل تشبه يقطينة ... فقلت لو كان لها لب وقال:
ما كنت أعرف في فلان حالة ... تدعو لحب الأسود الغربيب
حتى رأيت محل سعد عنده ... فرأيت كل غريبة وغريب
ورأيته فرحاً به في غاية ... ومقطباً لي غاية التقطيب
فسألت بعض الحاضرين فقال لي ... حاشاك يغرب عنك فهم أديب
أوليس سعد أسوداً (3) غض الصبا ... أولست أبيض في خليع مشيب
فأجبته حتى كلامي عنده ... يلغى وسعد (4) لم يكن بأديب
وكلامه المسموع قال أطلت ما ... المسموع عند الشيخ إلا النوبي وقال:
دع الهوينا وانتصب للتقى ... واكدح فنفس المرء كداحه
__________
(1) الزرجنة: الخب والخديعة.
(2) سقط من البيتان من المطبوعة.
(3) ر: سعداً أسود.
(4) ر: وسعداً.(3/143)
وكن عن الراحة في معزل ... فالصفع موجود مع الراحة وقال:
وقائل قال لي لما رأى قلقي ... لطول وعد وآمال تعنينا
عواقب الصبر فيما قال أكثرهم ... محمودة قلت أخشى أن تخرينا (1) وقال:
هززته بالمدح جهدي فما اه ... تز ونادى إلياس كم تتعب
فقلت أرجو زبدة قال لي ... فاتك: أين اللبن الطيب وقال:
لي حرمدان كاتب قد تهرا ... وتخلى عني ومني تبرا
أبكي وتبكي وما لنا سبب ... يدخل في كسها ولا كيسي وقال:
سألتهم وقد حثوا المطايا ... قفوا نفساً فساورا حيث شاءوا
وما عطفوا علي وهم غصون ... وما التفتوا إلي وهم ظباء وقال:
ما حل عزمي مثل عقد قبائه ... بدراً يعد البدر من رقبائه
مرح المعاطف تائه بجماله ... واه لصب تائه في تائه
__________
(1) يشير إلى أن ((المحودة)) اسم نبات يتخذ للاسهال.(3/144)
يحلو (1) مقبله وبرد رضابه ... " كالأقحوان غداة غب سمائه " (2)
في شعره وجبينه لي موقف ال ... حيران بين ظلامه وضيائه
يتشبه الغصن النضير بقده ... يا غصن حسبك لست من نظرائه وقال:
شمت برقاً من ثغرها الوضاح ... والدجى نسره مهيض الجناح
فتمارى شكي به ويقيني ... هل تجلى الصباح قبل الصباح
فأجابت متى تبسم صبح ... عن حباب أو لؤلؤ أو أقاح
ومتى كان للصباح لمى كالمس ... ك أو نكهة كصرف الراح
سل بثغري المسواك تسأل خبيراً ... باغتباق من خمره واصطباح
قلت ما لي وللسكارى فقالت ... أنت أيضاً من الهوى غير صاح
حجة من مليحة قطعتني ... هكذا كل حجة للملاح
لا ولحظ كفترة النرجس ... الغض وخد كحمرة التفاح
ما تيقنت بل ظننت وما في ال ... ظن يا هذه كبير جناح
وكثيراً شبهت بالبدر والشم ... س وسامحت فارجعي للسماح
واجعلي ذا من ذاك واطرحي القو ... ل اطرحي عليك قول اللاحي وقال:
أحسن ما سطر في صفحة ... عذار من أهوى على خده
يا قلم الريحان سبحان من ... خطك بالآس على ورده وقال:
جاء عذار الذي أهيم به ... فجرد الوجد أي تجريد
وظنه آخر الغرام به ... مفند جاهل بمقصودي
__________
(1) ر: يجلوا.
(2) من بيت للنابغة الذبياني وتتمته: جفت أعاليه وأسفله ندي.(3/145)
وما درى أن لام عارضه ... لام ابتداء أو لام توكيد وقال (1) :
يا نازح الطيف مر نومي يعاودني ... لقد بكيت لفقد النازحين دما
أوجبت غسلاً على عيني بأدمعها ... فكيف وهي التي لم تبلغ الحلما وقال:
ومهفهف عني يميل ولم يمل ... يوماً إلي فقلت من ألم الجوى
لم لا تميل إلي يا غصن النقا ... فأجاب كيف وأنت من جهة الهوى وقال:
أقول وكفي في خصرها ... يدور وقد كاد يخفى علي
أخذت عليك عهود الهوى ... وما في يدي منك يا خصر شي 380 (2)
السراج المحار
عمر بن مسعود الأديب، سراج الدين المحار، الحلبي الكناني صاحب الموشحات، والأزجال الرائقة؛ توفي بدمشق في سنة " إحدى عشرة و " سبعمائة (3) ؛ فمن شعره:
رأيته في المنام معتنقي (4) ... يا ليت ما في المنام لو كانا
__________
(1) مر البيتان للوراق في ترجمة ابن هندو.
(2) الزركشي: 241 والدرر الكامنة 3: 270 وقال: مات سنة 711 أو 712 وفي توشيع التوشيح عدد من موشحاته؛ وهذه الترجمة في ر.
(3) في ر والزركشي بياض قبل ((وسبعمائة)) .
(4) المطبوعة: ضاجعني، والتصويب عن الزركشي.(3/146)
ثم انثنى معرضاً فواعجبي ... يهجوني نائماً ويقظانا وقال في مليح نجار بالمعرة:
قالوا المعرة قد غدت من فضلها ... يسعى إلى أبوابها وتزار
وجبت زيارتها علينا عندما ... شغف القلوب حبيبها النجار وقال في أحدب:
وأحدب أنكروا عليه وقد ... سمي حساماً وغير منكور
ما لقبوه الحسام عن سفه ... لو لم يروا قده القلاجوري (1) وقال:
بعثت نحوي المشط يا مالكي ... فكدت أن تسلبني روحي
وكيف لا تسلب روحي وقد ... بعثت منشوراً لتسريحي وقال:
أرى لابن سعد لحية قد تكاملت ... على وجهه واستقبلت غير مقبل
ودارت على أنف عظيم كأنه ... " كبير أناس في بجاد مزمل " (2) وقال:
يا حبذا وادي حماة وطيبه (3) ... وطلاوة العاصي بها والجوسق
فاقت منارة جلق فلحسنها ال ... شقراء تكبو خلفها والأبلق (4) وقال في إبريق فخار:
يا حبذا شكل إبريق تميل له ... منا القلوب وتصبو نحوه الحدق
__________
(1) قلاجوري (بالفارسية) : السيف اللامع.
(2) عجز بيت لأمرئ القيس وصدره: ((كأن أباناً في عرانين وبله)) .
(3) المطبوعة: جادي حماة وطيبها، والتصويب عن ر والزركشي.
(4) المطبوعة: والجوسق.(3/147)
يروق لي حين أجلوه، ويعجبني ... منه طلاوة ذاك الجسم والعنق
كم قد شربت له ماء الحياة، ولن ... ينالني منه لا غص ولا شرق
حتى غدا خجلاً مما أقبله ... فظل يرشح من أعطافه العرق وقال في قنديل:
يا حسن بهجة قنديل خلوت به ... والليل قد أسلت منا ستائره
أضاء كالكوكب الدري متقداً ... فراق باطنه نوراً وظاهره
تزيده ظلمة الليل البهيم سناً ... كأنما الليل طرف (1) وهو باصره وقال في مليح معالج:
بروحي أفدي في الأنام معالجاً ... معاطفه أزهى من الغصن الغض يكلف عطفيه العلاج فيبسط ال قلوب إلى حبيه في ساعة القبض
إذا ما امتطى لطفاً مقيرة له ... وأقعدها واحمر سالفه الفضي
رأيت محياه وما في يمينه ... كشمس تجلت دونها كرة الأرض وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
ما بث شكواه لولا مسه الألم ... ولا تأوه لولا شفه السقم
ولا توهم أن الدمع مهجته ... أذابها الشوق حتى سال وهو دم
صب له مدمع صب يكفكفه ... فتستهل غواديه وتنسجم
فطرفه بمياه الدمع في غرق ... وقلبه بلهيب الشوق يضطرم
أراد إخفاء ما يلقاه من كمد ... حتى لقد عاد بالسلوان يتهم
يبدي التجلد والأجفان تفضحه ... كالبرق تبكي (2) الغوادي وهو يبتسم
سقته أيدي النوى كأساً مدعدعة ... فما نداماه إلا الحزن والندم
__________
(1) ر: طرفاً.
(2) ر: يبكي.(3/148)
يمسي ويصبح لا صبراً ولا جلد ... ولا قرار ولا طيف ولا حلم
لولا (1) يؤمل إلماماً بجيرته ... لكاد يعتاده مما به لمم
قال (2) الوشاة تسلى عن محبتهم ... يا ويحهم جهلوا فوق الذي علموا
أنى يميل إلى السلوان مكتئب ... باق على الود والأيام تنصرم
قضى بحبهم عصر الشباب وما ... خان الوداد وهذا الشيب والهرم
أنا المقيم على ما يرتضون به ... مصغ إذا نطقوا راض بما حكموا
متى دعاني هواهم جئت معتذراً ... أسعى على الرأس إن لم يسعد القدم ومن موشحاته:
جسمي ذوى بالكمد والسهر ... والوصب من جاني
ذي شنب كالبرد كالدرر ... كالحبب جماني
بي غصن بان نضر ... يسبيك منه الهيف
يرتع فيه النظر ... فزهره يقتطف
الخد منه خفر ... والجسم منه ترف
قد جاءنا يعتذر ... عذاره المنعطف
ثم التوى كالزرد معبقري ... معقرب ريحاني
في مذهب مورد مدنر ... مكتب سوساني
ظبي له مرتشف ... كالسلسبيل البارد
بدر علاه سدف ... من ليل شعر وارد
غصن نقا منعطف ... من لين قد مائد
مقرطق مشنف ... يختال في القلائد
__________
(1) ر: لو لم
(2) ر: قالوا.(3/149)
بين اللوى وثهمد كجؤذر ... في ربرب غزلاني
من كثب ذي جيد ذي حور ... ذي هدب وسنان
أما وحلي جيده ... ورنة الخلاخل
والضم من بروده ... قد قضيب مائل
والورد من خدوده ... إذ نم في الغلائل
لا كنت من صدوده ... مستمعاً لعاذل
نار الجوى واستعري ... وكذبي سلواني
وانسكبي واطردي وانهمري ... كالسحب أجفاني
مولاي جفني ساهر ... مؤرق كما ترى
فلا خيال زائر ... يطرقني ولا كرى
إني عليك صابر ... فما جزا من صبرا
إن سح دمعي الهامر ... فلا تلمه إن جرى
جال الهوى خلدي ومضمري ... أضر بي كتماني
مؤنبي اتئد لا تفتري ... وجنب عن عاني وقال أيضاً (1) :
ترى دهر مضى بكم يؤوب منيبا ... يضحي روض آمالي الجديب خصيبا
عسى صب تملكه هواه ... يعاود جفن مقلته كراه
ويبلغ من وصالكم مناه ... ويرجع دهرنا عما جناه
ويجمع شملنا حسن وطيب قريبا ... ويصبح حيث أدعوه الحبيب مجيبا
أرى أمد الصدود بكم تمادى ... وكم لمت الفؤاد فما أفادا
وتأبى عبرتي إلا اطرادا ... ونار صبابتي إلا اتقادا
__________
(1) هذه الموشحة وردت في توشيع التوشيح: 63.(3/150)
فخدي رده الدمع السكوب خضيبا ... وقلبي كاد أشواقاً يذوب لهيبا
وبي رشأ بناظره يصول ... حسام من ضرائبه العقول
على وجناته لدمي دليل ... ولكن ما إلى قود سبيل
حبته من ضمائرها القلوب نصيبا ... فكان لها وإن كره الرقيب حبيبا
غزال وهو في المعنى هلال ... قريب وصله ما لا ينال
وغصن راح يعطفه الدلال ... كذا الأغصان تثنيها الشمال
إذا مالت بعطفيه الجنوب هبوبا ... تثنى في غلائله القضيب رطيبا
كلفت بحبه حلو المعاني ... أعاني في هواه ما أعاني
أراه وإن تباعد عن عياني ... كبدر التم قاص وهو داني
يرينا حين تطلعه الجيوب عجيبا ... جمالاً لا يكلفه الغروب مغيبا وقال أيضاً (1) :
من دون رملة عالج ... لربة الخال دار
حلت عليها السحائب ... منا الدموع الغزار
همت عليها دموع ... لها السحاب شؤون
فاخضل منها النقيع ... ومسن فيها الغصون
حدث فتلك الربوع ... حديثهن شجون
في القلوب لواعج ... من ذكرها وأوار
ونار فقد الحبائب ... زنادها الإدكار
لم أنس يوم تولى ... حادي المطي وسارا
شطر أول ... شطر ثاني
خلى المحبين قتلى ... كما ترى وأسارى
__________
(1) توشيع التوشيح: 67 وأوردها أيضاً الزركشي.(3/151)
ودون رامة خلى ... منا العقول حيارى
لأن بين الهوادج ... أقمار تم تحار
منها بدور الغياهب ... لم يخفهن سرار
حكوا البروق ابتساماً ... والسمهريات لينا
أغصان بان إذا ما ... مالت تغير الغصونا
كم خلفت مستهاماً ... ملقى لديها طعينا
مذ أعينعت في الدمالج ... لها البدور ثمار
أوراقهن الذوائب ... حق (1) الغصون تغار
سفرن بين الستور ... هيف دقاق الخصور
عن أوجه كالبدور ... في جنح ليل الشعور
تقلدوا في النحور ... بمثل ما في الثغور
يحكين غزلان ضارج ... شعارهن النفار
فليس يدنو لطالب ... من طيفهن مزار
هل للحياة سبيل ... وقد دهتنا العيون
وسل منها نصول ... لها الجفون جفون
قضب علينا تصول ... شفارهن المنون
فكيف للهم فارج ... أو للمحب اصطبار
وفي الجفون قواضب ... لها المنون شفار وقال أيضاً (2) :
أيخفى غرامي والدموع السوافح ... تنم بما تطوى عليه الجوانح
__________
(1) المطبوعة: حتى.
(2) أوردها الزركشي (الورقة: 243) .(3/152)
وقلبي في واد من الشوق هائم ... حزين وغاد في الغرام ورائح
صب هيمان بعد الخلان ... نامي الأشجان بادي الأحزان
كتمت الهوى العذري بين أضالعي ... وأخفيته لولا وشاة مدامعي
وحاولت سلواناً فلم ألق سلوة ... فقلت لقلبي مت بداء المطامع
سلواني بان وسري بان ... فلا سلوان ولا كتمان
تملكني حلو الشمائل أهيف ... مليح التثني ناحل الخصر مخطف
أغض من الغصن الرطيب شمائلاً ... وأحسن مرأى في العيون وأظرف
يثني ريان قد فينان ... فاق الأغصان أغصان البان
أعار قضيب البان هزة عطفه ... ورق على نشر النسيم بلطفه
وزاد على البدر المنير بوجهه ... سناً وعلى الظبي الغرير بطرفه
ما للغزلان معنى أجفان ... طرف وسنان صاحي نشوان
تقوى على ضعفي برقة خصره ... وأضرم أشواقي إلى لثم ثغره
فقلت لقلبي عندما صد مغضباً ... وزاد إلى عدوانه طول هجره
كم ذا العدوان بذا الهجران ... ترى ما آن يرضى الغضبان؟
أجرني من الهجران يا غاية المنى ... وجد لي بوصل منك إن كان ممكنا
وعدني إذا لم يمكن الوصل زورة ... وزدني من الحسنى فلا زلت محسنا
وأحسن إن كان تلقى إمكان ... إن الإنسان عبد الإحسان
ظفرت بمحمود الوصال حميده ... حباني به المحبوب بعد صدوده
فقلت لقلبي بين آس عذاره ... ونرجس عينيه وورد خدوده
قم يا جنان وايش ذا النسيان ... واجني ريحان هذا البستان(3/153)
381 - (1)
رشيد الدين الفهري
عمر بن مظفر بن سعيد، القاضي رشيد الدين أبو حفص الفهري الفوي المصري الشاعر الكاتب؛ تنقل في الخدم الديوانية ومدح الملوك والوزراء، وكان كثير الحفظ، روى عنه المنذري، وعاش خمساً وسبعين سنة، وتوفي سنة ثمان وثلاثين وستمائة.
قال شهاب الدين القوصي: أنشدني المذكور بدمشق عند قدومه إليها زائراً عقيب انفصاله من الخدمة الملكية الكاملية هذه الأبيات في النسيان:
أفرط بي النسيان في غاية ... لم يترك النسيان لي حسا
وكنت مهما عرضت حاجة ... مهمة أودعتها الطرسا
فصرت أنسى الطرس في راحتي ... وصرت أنسى أنني أنسى وأنشدني:
قد نسيت الذي حفظت قديماً ... من معان غر وحسن بيان
غار مني قليب قلبي فذهني ... شارب من بلاذر النسيان وأنشدته قول ابن سناء الملك (2) :
خاصمني من سكت عنه ... فظن أن ليس لي لسان
فقلت ما أنت لي بخصم ... وإنما خصمي الزمان فأنشدني لنفسه:
__________
(1) الزركشي: 243 وابن الشعار 5: 282؛ ووردت هذه الترجمة في ر.
(2) ديوان ابن سناء الملك: 848.(3/154)
سكت إذ سبني من لا خلاق له ... فقيل لي خفت منه إنه لسن
فقلت: والله ما عياً سكت ولا ... ذا النحس خصمي ولكن خصمي الزمن وأنشدته قول ابن الخيمي:
أأبناء هذا الجبل طراً أكلكم ... يعوق وما فيكم يغوث ولا ود
لقد طال تردادي إليكم فلم أجد ... سوى رب شأن منكم شانه الرد فأنشدني لنفسه:
لأصنام الزمان عبدت دهراً ... وقد أسلمت واتسع المضيق
فما فيهم يغوث أقول هذا ... ولكن كل من فيهم يعوق 382 (1)
ملك بطليوس
عمر بن المظفر بن الأفطس ملك بطليوس؛ هو المتوكل، من قبيلة من البربر يعرفون بمكناسة، ورث الملك ببطليوس من أبيه، وأبوه هو الذي كان يحارب المعتضد بن عباد، وكان المتوكل ببطليوس كالمعتمد بإشبيلية، آل أمره إلى أن حصره الملثمون، وحصل في أيديهم فقتلوه صبراً وقتلوا ولديه (2) قبله وهو ينظر إليهما، وفيه قال ابن عبدون قصيدته المشهورة التي أولها:
الدهر يفجع بعد العين بالأثر ...
__________
(1) المعجب: 127 وأعمال الأعلام: 185 والقلائد: 36 والمغرب 1: 364 والذخيرة (القسم الثاني) والحلة السيراء 2: 96؛ والمظفر لقب لا اسم، واسمه محمد بن عبد الله؛ وورد بعض هذه الترجمة في ر.
(2) ر: ولداه.(3/155)
ومن شعره ما خطب به وزيره أبا غانم (1) :
انهض أبا غانم إلينا ... واسقط سقوط الندى علينا
فنحن عقد من غير وسطى ... ما لم تكن حاضراً (2) لدينا وقال، وقد ذكر في مجلس أخيه المنصور بسوء:
وما بالهم لا أنعم الله بالهم ... ينوطون بي ذماً وقد علموا فضلي
يسيئون (3) لي في القول جهلاً وضلة ... وإني لأرجو أن يسوءهم فعلي
وكيف وراحي درس كل فضيلة (4) ... وورد التقى شمي وحرب العدا نقلي
فإن كان حقاً ما أذاعوا فلا مشت (5) ... إلى غاية العلياء من بعدها رجلي
ولم ألق أضيافي بوجه طلاقة ... ولم أسخ للعافين (6) في الزمن المحل
ولي خلق في السخط كالشوك (7) طعمه ... وعند الرضى أحلى جنى من جنى النحل
فيا أيها الساقي أخاه على النوى ... كؤوس القلى جهلاً رويدك بالعل
لتطفئ ناراً أضرمت في نفوسنا ... فمثلي لا يقلى ومثلك لا يقلي
وقد كنت تشكيني إذا جئت شاكياً ... فقل لي لمن أشكو صنيعك بي قل لي
فبادر إلى الأولى وإلا فإنني ... سأشكوك يوم الحشر للحكم العدل
__________
(1) في الحلة: أبو طالب ابن غانم، وهو يخاطبه بقوله ((انهض أبا طالب)) .
(2) ر: حاضر.
(3) في المطبوعة: يسوؤن، والتصويب عن الحلة والقلائد.
(4) الحلة والقلائد: غريبة.
(5) الحلة: خطت.
(6) الحلة والقلائد: ولم أمنح العافين.
(7) الحلة والقلائد: كالشري؛ وهي أجود.(3/156)
383 - (1)
" زين الدين ابن الوردي "
عمر بن مظفر بن عمر بن محمد بن أبي الفوارس، القاضي الأجل، الإمام الفقيه، الأديب الشاعر، زين الدين ابن الوردي المعري الشافعي أحد فضلاء العصر وفقهائه، وأدبائه وشعرائه، تفنن في العلوم، وأجاد في المنثور والمنظوم، نظمه جيد إلى الغاية، وفضله بلغ النهاية.
ومن شعره:
مليح ردفه والساق منه (2) ... كبنيان القصور على الثلوج
خذوا من خده القاني نصيباً ... فقد عزم الغريب على الخروج وقال:
جاءنا مكتتماً ملتثما ... فدعوناه لأكل وعجبنا (3)
مد في السفرة كفا ترفا ... فحسبنا أن في السفرة جبنا وكتب إلى القاضي فخر الدين ابن الخطيب جبرين قاضي حلب، وقد عزله وعزل أخاه:
جنبتني وأخي تكاليف القضا ... وشفيتنا في الدهر من خطرين
يا حي عالم دهرنا أحييتنا ... فلك التحكم (4) في دم الأخوين
__________
(1) الزركشي: 243 والدرر الكامنة 3: 272 وقال ان الصفدي ذكره في أعيان العصر؛ وبغية الوعاة: 365 والنجوم الزاهرة 10: 240 وطبقات السبكي 6: 243 وابن إياس 1: 198؛ وله ديوان طبع بمطبعة الجوائب سنة 1300 تالياً لشرح لامية العرب وشرح مقصورة ابن دريد.
(2) في المطبوعة: مليح ساقه والردف منه، والتصويب عن الديوان: 259.
(3) في المطبوعة: وعجنا، والتصويب عن الديوان: 144.
(4) الديوان: 256 - التصرف.(3/157)
وقال:
قلت وقد عانقته ... عندي من الصبح فلق (1)
قال وهل يحسدنا ... قلت نعم قال انفلق وقال أيضاً:
جبرت يا عائدتي بالصله ... فتممي الإحسان تنفي الوله
وهذه قد حسبت زورة ... مالك بالفيئة (2) مستعجله وقال:
بالله يا معشر أصحابي ... اغتنموا علمي وآدابي
فالشيب قد حل برأسي وقد ... أقسم لا يرحل إلا بي وقال أيضاً:
رامت وصالي فقلت لي شغل ... عن كل خود تريد تلقاني
قالت كأن الخدود كاسدة ... قلت كثيراً لقلة القاني وقال أيضاً:
لا تقصد القاضي إذا أدبرت ... دنياك واقصد من جواد كريم
كيف ترجي الرزق من عند من ... يفتي بأن الفلس مال عظيم وقال أيضاً:
وكنت إذا رأيت ولو عجوزاً ... يبادر بالقيام على الحراره
فأصبح لا يقوم لبدر تم ... كأن النحس قد ولي الوزاره وقال أيضاً:
__________
(1) الزركشي: قلق.
(2) الزركشي: يا لعبة.(3/158)
أنت ظبيي أنت مسكي ... أنت دري أنت غصني
في التفات وثناء ... وثنايا وتثني وقال:
لما شتت عيني ولم ... ترفق لتوديع الفتى
أدنيتها من خده ... والنار فاكهة الشتا وقال أيضاً:
من كان مردوداً بعيب فقد ... ردتني الغيد بعيبين
الرأس واللحية شابا معاً ... عاقبني الدهر بشيبين أنشدني الشيخ جمال الدين ابن نباته أمتع الله بفوائده ورضي عنه:
لا حبذا شيب برأسي ولا ... شيب بقلبي، أقذيا (1) عيني
ما كنت بالتائب من صبوتي ... أصلاً (2) فقد تبت بشيئين ومن شعر ابن الوردي رحمه الله:
دهرنا أمسى ضنينا ... باللقا حتى ضنينا
يا ليالي الوصل عودي ... واجمعينا أجمعينا وقال:
أنتم أحباي وقد ... فعلتم فعل العدا
حتى تركتم خبري ... في العالمين مبتدا وقال:
سبحان من سخر لي حاسدي ... يحدث لي في غيبتي ذكرا
__________
(1) المطبوعة: أخزيا.
(2) الزركشي: طوعاً.(3/159)
لا أكره الغيبة من حاسد ... يفيدني (1) الشهرة والأجرا وقال:
وتاجر شاهدت عشاقه ... والحرب فيما بينهم ثائر (2)
قال: علام اقتتلوا هكذا؟ ... قلت: على عينك يا تاجر وقال:
إني عدمت صديقاً ... قد كان يعرف قدري
دعني لقلبي ودمعي ... عليه أحرق (3) وأذري ومن مصنفاته " البهجة الوردية في نظم الحاوي " فوائد فقيه منظومة. " شرح ألفية ابن مالك ". " ضوء الدرة على ألفية ابن مطي ". قصيدة " اللباب في علم الإعراب " وشرحها. اختصار " ملحة الإعراب " نظماً. " مذكرة الغريب " نظماً وشرحها. " المسائل المذهبة في المسائل الملقبة ". " أبكار الأفكار ". " تتمة تاريخ صاحب حماة ". و " أرجوزة في تعبير المنامات ". أرجوزة في خواص الأحجار " و " منطق الطير " نظماً. وبلغنا وفاته في الطاعون سنة تسع وأربعين وسبعمائة، وهو في عشر السبعين، رحمه الله تعالى.
__________
(1) المطبوعة يفيد في (والقافية مكسورة) والتصويب عن الديوان: 255.
(2) في المطبوعة: سائر، والتصويب عن الزركشي.
(3) كذا هو أيضاً في الديوان: 258 لأنه يضمن المثل ((احرق وأذري)) .(3/160)
384 - (1)
" عمر الأشدق "
عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس؛ كان أحد الأشراف الأمويين، ولي المدينة ليزيد بن معاوية، وكان يسمى الأشدق، سمي بذلك لأنه كان أفقم مائلاً إلى الذقن، ولهذا سمي " لطيم الشيطان "، وقيل: إنما سمي الأشدق لتشادقه في الكلام، وكان مروان ابن الحكم قد ولاه العهد بعد ابنه عبد الملك، فقتله عبد الملك، فقيل أنها كانت أول غدرة كانت في الإسلام، وقال ابن الزبير لما بلغه قتله: إن أبا الذبان قتل لطيم الشيطان، " وكذلك نولي بعض الظالمين بما كانوا يكسبون " " الأنعام: 129 " وقال يحيى بن الحكم أخو مروان يرثيه:
أعيني جودا بالدموع على عمرو ... عشية سددنا الخلافة بالخير
كأن بني مروان إذ يقتلونه ... بغاث من الطير اجتمعن على صقر
غدرتم بعمرو يا بني خيط باطل ... ومثلكم يبني البيوت على غدر
فرحنا وراح الشامتون بنعشه ... كأن على أكتافنا فلق الصخر وكان عمرو قد رام الخلافة وغلب على دمشق، وكانت قتلته في سنة سبعين من الهجرة.
وقد روى له مسلم والترمذي وابن ماجة والنسائي، رحمه الله تعالى.
__________
(1) أخباره في كتب التاريخ (حوادث سنة 70) وانظر تهذيب التهذيب 8: 37.(3/161)
3851 -
" عوف بن ملحم الخزاعي "
عوف بن ملحم الخزاعي، أحد العلماء الأدباء الرواة الفهماء الندماء الظرفاء الشعراء الفصحاء؛ كان صاحب أخبار ونوادر ومعرفة بأيام الناس، اختصه طاهر بن الحسين لمنادمته ومسامرته، فلا يسافر إلا وهو معه، فيكون زميله وعديله.
قال محمد بن داود: إن سبب اتصاله به أنه نادى على الجسر أيام الفتنة بهذه الأبيات، وطاهر منحدر في حراقة له بدجلة، وأنشده إياها، وهي هذه 2:
عجبت لحراقة ابن الحسي ... ن كيف تعوم ولا تغرق
وبحران من تحتها واحد ... وآخر من فوقها مطبق
وأعجب من ذاك عبدانها ... وقد مسها كيف لا تورق فضمه طاهر إليه وبقي معه ثلاثين سنة لا يفارقه، وكلما استأذنه في الانصراف إلى أهله ووطنه لم يأذن له، فلما مات طاهر ظن أنه قد تخلص، وأنه يلحق بأهله، فقربه عبد الله بن طاهر، وأنزله منزلته من أبيه، وأفضل عليه حتى كثر ماله وحسنت حاله، وتلطف بجهده أن يأذن له بالعودة، فاتفق أن خرج عبد الله بن طاهر إلى خراسان فجعل عوفاً عديله، فلما شارف الري سمع صوت عندليب يغرد بأحسن تغريد، فأعجب ذلك عبد الله والتفت إلى عوف وقال: يا ابن محلم، هل سمعت بأشجى من(3/162)
هذا؟ فقال: لا والله، " فقال عبد الله ": قاتل الله أبا كبير حيث يقول:
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ... وغصنك مياد ففيم تنوح؟
أفق لا تنح من غير شيء فإنني ... بكيت زماناً والفؤاد صحيح
ولوعاً فشطت عربة دار زينب ... فها أنا أبكي والفؤاد قريح فقال عوف: أحسن والله أبو كبير، إنه كان في الهذليين مائة وثلاثون شاعراً ما فيهم إلا مفلق، وما كان فيهم مثل أبي كبير، وأخذ عوف يصفه، فقال له عبد الله: أقسمت عليك إلا عارضت قوله، فقال عوف: قد كبر سني وفني ذهني وأنكرت كل ما أعرف، فقال له عبد الله: بتربة طاهر إلا فعلت، فقال عوف رحمه الله:
أفي كل عام غربة ونزوح ... أما للنوى من ونية فتريح
لقد طلح (1) البين المشت ركائبي ... فهل أرين البين وهو طريح
وأرقني بالري نوح حمامة ... فنحت وذو البث الغريب ينوح
على أنها ناحت ولم تذر دمعة ... ونحت وأسراب الدموع سفوح
وناحت وفراخها بحيث تراهما ... ومن دون أفراخي مهامه قيح
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ... وغصنك مياد ففيم تنوح؟
عسى وجود عبد الله أن يعكس النوى ... فيلقي (2) عصا التطواف وهي طليح
فإن الغنى يدني الفتى من صديقه ... وعدم الفتى بالمعسرين طروح فاستعبر عبر الله ورق له وجرت دموعه، وقال له: والله إني ضنين بمفارقتك شحيح على الفائت من محاضرتك، ولكن والله لا أعلمت معي خفاً ولا حافراً إلا راجعاً إلى أهلك، وأمر له بثلاثين ألف درهم، فقال له عوف:
__________
(1) في المطبوعة: ظلع، والتصويب عن طبقات ابن المعتز وياقوت.
(2) الطبقات: فتضحي.(3/163)
يا ابن الذي دان له المشرقان ... وألبس (1) الأمن به المغربان
إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وبدلتني بالشطاط انحنا ... وكنت كالصعدة تحت السنان
وقاربت مني خطى لم تكن ... مقاربات وثنت من عنان
فأنشأت بيني وبين الورى ... عنانة من غير نسج العنان
ولم تدع في لمستمتع ... إلا لساني وبحبسي اللسان
أدعو بالله وأثني على ... صنع الأمير المعصبي الهجان
وهمت بالأوطان وجداً بها ... لا بالغواني أين مني الغوان؟
فقرباني بأبي أنتما ... من وطني قبل اصفرار البنان
وقبل منعاي إلى نسوة ... أوطانها حران والرقتان (2)
سقى قصور الشاذياخ الحيا ... من بعد عهدي وقصور الميان
فكم وكم من دعوة لي بها ... أن تتخطاها صروف الزمان وكر راجعاً إلى أهله فلم يصل إليهم، ومات في حدود العشرين ومائتين.
ومن شعر عوف بن محلم رحمه الله تعالى (3) :
وكنت إذا صحبت رجال قوم ... صحبتهم ونيتي الوفاء
فأحسن حين يحسن محسنهم ... وأجتنب الإساءة إن أساءوا
وأنظر ما يسرهم بعين ... عليها من عيونهم غطاء وقال:
وصغيرة علقتها ... كانت من الفتن الكبار
بلهاء لم تعرف لغر ... تها يميناً من يسار
كالبدر إلا أنها ... تبقى على ضوء النهار
__________
(1) في المطبوعة: وأكثر؛ والتصويب عن الطبقات.
(2) الطبقات: فالقرمتان.
(3) انظر الطبقات: 191.(3/164)
386 - (1)
" النقاش البغدادي "
عيسى بن هبة الله بن عيسى، أبو عبد الله البغدادي النقاش؛ كان ظريفاً صاحب نوادر خفيف الروح، له شعر، روى عنه التاج الكندي كتاب " الكامل " للمبرد؛ وتوفي سنة أربع وأربعين وخمسمائة.
ومن شعره رحمه الله تعالى:
إذا وجد الشيخ في نفسه ... نشاطاً فذلك موت خفي
ألست ترى أن ضوء السراج ... له لهب قبل أن ينطفي ومنه:
رزقت يساراً فوافيت من ... قدرت به حين لم يرزق
وأملقت من بعد فاعتذرت ... إليه اعتذار أخ مملق
فإن كان يشكر فيما مضى ... يداً لي يعذر فيما بقي وقال أيضاً:
كيف السلو وقد تمل ... ك مهجتي من غير أمري
قمر تراه إذا استسر ... كمثل (2) أربعة وعشر
يرنو بنجلاوين يس ... قم من يشا بهما (3) ويبري
وإذا تبسم في دجى ... ليل شهدت له بفجر
ولذاك تظلمه إذا ... شبهت ريقته بخمر
__________
(1) الزركشي: 244.
(2) في المطبوعة: لمثل، وأثبت ما عند الزركشي.
(3) في المطبوعة: يشابه، وهو خطأ واضح؛ وفي الزركشي من يشا (ء) بها.(3/165)
ولورد وجنته وحس؟ ... ن عذاره قد قام عذري وكان نقاشاً للحلي ثم صار بزازاً، وكان يمتنع من الرواية ويقول: ما أنا أهل ذلك.
قال ابن شجاع: لقيته امرأة يوماً فقالت له: يا سيدي، النظر منا بقيراط ونصف، كم لي بقيراط وحبة؟ فحل منديلاً كان بيده وأعطاها قطعة، وقال: مري إيش أعطوك فقد أنصفوك.
وقال: كان في دربنا شخص أبغضه لا لسبب، فاتفق أني خرجت يوم عيد وعلي ثياب العيد، فلقيني شخص في الظلمة وفي يده دستيجة ملأى شيرجاً، فصدمني بها فانكسرت على ثيابي وصيرني شهرة، قال: فأمسكته وأخرجته إلى الضوء، فلما رأيته قلت: هو ذا أنت؟ لهذا كنت أبغضك، مر، الله معك.(3/166)
3341 -
المكتفي بالله
علي بن أحمد بن طلحة بن جعفر بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب؛ هو أمير المؤمنين المكتفي بالله ابن المعتضد ابن الموفق ابن المتوكل ابن المعتصم ابن الرشيد ابن المهدي ابن المنصور، الهاشمي العباسي، ولد سنة أربع وستين ومائتين، وتوفي سنة خمس وتسعين ومائتين.
كان معتدل القامة دري اللون أسود الشعر حسن الوجه؛ بويع له بالخلافة عند موت والده في جمادى الأولى سنة تسع وثمانين، وكانت أيامه ست سنين ونصف، ومات شاباً في ذي القعدة، وخلف مائة ألف ألف دينار عيناً، وأمتعة وعقاراً وأواني بمثلها، وثلاثة وستين ألف ثوب وكان يلقب " المترف " لنعمة جسمه وحسنه، وكان نقش خاتمه " اعتمادي على الذي خلقني ".
ومن شعره:
من لي بأن تعلم ما ألقى فتعرف الصبوة والعشقا
مازال لي عبداً وحبي له صيرني عبداً له حقا
أعتق من رقي ولكنني من حبه لا آمن العتقا
وله أيضاً: الزركشي: 231 والروحي: 59 وتاريخ الخلفاء: 405 والفخري: 232 وخلاصة الذهب المسبوك: 237 وراجع التواريخ العامة كالطبري والمسعودي وابن الأثير ... الخ؛ وقد وردت في ر.(3/167)
3341 -
المكتفي بالله
علي بن أحمد بن طلحة بن جعفر بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب؛ هو أمير المؤمنين المكتفي بالله ابن المعتضد ابن الموفق ابن المتوكل ابن المعتصم ابن الرشيد ابن المهدي ابن المنصور، الهاشمي العباسي، ولد سنة أربع وستين ومائتين، وتوفي سنة خمس وتسعين ومائتين.
كان معتدل القامة دري اللون أسود الشعر حسن الوجه؛ بويع له بالخلافة عند موت والده في جمادى الأولى سنة تسع وثمانين، وكانت أيامه ست سنين ونصف، ومات شاباً في ذي القعدة، وخلف مائة ألف ألف دينار عيناً، وأمتعة وعقاراً وأواني بمثلها، وثلاثة وستين ألف ثوب وكان يلقب " المترف " لنعمة جسمه وحسنه، وكان نقش خاتمه " اعتمادي على الذي خلقني ".
ومن شعره:
من لي بأن تعلم ما ألقى فتعرف الصبوة والعشقا
مازال لي عبداً وحبي له صيرني عبداً له حقا
أعتق من رقي ولكنني من حبه لا آمن العتقا
وله أيضاً: الزركشي: 231 والروحي: 59 وتاريخ الخلفاء: 405 والفخري: 232 وخلاصة الذهب المسبوك: 237 وراجع التواريخ العامة كالطبري والمسعودي وابن الأثير ... الخ؛ وقد وردت في ر.(3/168)
حرف الغين
387 - (1)
أبو الهندي الشاعر
غالب بن عبد القدوس بن شبث بن ربعي، أبو الهندي؛ كان شاعراً مطبوعاً أدرك الدولتين الأموية والعباسية، وكان جزل الشعر سهل الألفاظ لطيف المعاني، وإنما أخمله وأمات ذكره بعده من العرب ومقامه بسجستان وخراسان ومعاقرة الشراب، وكان يتهم بفساد الدين، واستفرغ شعره في وصف الخمر، وهو أول من وصفها من شعراء الإسلام، فمن ذلك قوله (2) :
سقيت أبا المطوع إذ أتاني ... وذو الرعثات منتصب يصيح
شراباً يهرب الذبان منه ... ويلثغ حين يشربه الفصيح وقال (3) :
نبهت ندماني وقلت له اصطبح ... يا ابن الكرام من الشراب الأصهب
صفراء تنزو في الزجاج كأنها ... حدق الجرادة أو لعاب الجندب وقال (4) :
__________
(1) طبقات ابن المعتز: 136 والشعر والشعراء: 572 والأغاني 20: 293 والسمط: 168، 208 والزركشي: 245 وقد اختلف في اسمه، فهو عند ابن قتيبة: عبد المؤمن، وقيل عبد الملك وقيل أزهر وقيل عبد السلام وقيل غالب؛ وفي نسبة " شبث " ووقع بالياء عند الزركشي والنسخة ر حيث وردت ترجمته، وترجم له الصفدي في الوافي (ج: 9) باسم: أشعث وورد عنده " شيث " بالياء في نسبه؛ وقد جمع ديوانه الأستاذ عبد الله الجبوري (بغداد 1970) .
(2) الديوان: 23.
(3) الديوان: 15 - 16.
(4) الديوان: 30.(3/169)
مفدمة قزاً كأن رقابها ... رقاب بنات الماء تفزع للرعد
جلتها الجوالي حين طاب مزاجها ... وطينتها بالمسك والعنبر والورد
تمج سلافاً في الأباريق خالصاً ... وفي كل كأس في يدي حسن قد
تضمنها زق أزب كأنه ... صريع من سودان ذو شعر جعد اشتهى أبو هندي الصبوح يوماً فدخل الخمارة فأعطى الخمار ديناراً وجعل يشرب حتى سكر ونام، وجاء قوم يسلمون عليه فوجدوه نائماً، فقالوا للخمار: ألحقنا به، فسقاهم حتى سكروا، وانتبه أبو الهندي فسأل عنهم فعرفه الخمار حالهم، فقال: يا هذا الآن وقت السكر والآن طاب، ألحقني بهم، فسقاه حتى سكر، وانتبهوا فقالوا للخمار: ويحك هو نائم إلى الآن؟ فقال: لا، انتبه وعرفته خبركم وسكر ونام، فقالوا ألحقنا به، فسقاهم حتى سكروا، ولم يزل على ذلك دأبه ودأبهم ثلاثة أيام، ولم يلتقوا وهم في موضع واحد، ثم تركوا الشرب عمداً حتى أفاق فلقوه، وفي ذلك يقول (1) :
ندامى بعد ثالثة تلاقوا ... يضمه بكوه زيان راح
وقد باكرتها فتركت منها ... قتيلاً ما أصابتني جراح
فقالوا أيها الخمار من ذا؟ ... فقال أخ تخونه اصطباح
فقالوا: هات راحك ألحقنا ... به، وتعللوا ثم استراحوا
فما إن لبثتهم أن رمتهم ... بحد سلاحها ولها سلاح
وحان تنبهي فسألت عنهم ... فقال أتاحهم قدر متاح
رأوك مجدلاً واستخبروني ... فحركهم إلى الشرب ارتياح
فقلت بهم فألحقني فهبوا ... فقالوا هل تنبه حين راحوا
فقال نعم، فقالوا ألحقنا ... به قد لاح للرائي صباح
__________
(1) الديوان: 20.(3/170)
فما إن زال ذلك الدأب منا ... ثلاثاً تستهب وتستباح
نبيت معاً وليس لنا التقاء ... ببيت ما لنا منه براح قال صدقة بن إبراهيم البكري: كاب أبو الهندي يشرب معنا، وكان إذا سكر يتقلب تقلباً قبيحاً في نومه، فكنا كثيراً ما نشد رجليه لئلا يسقط، فسكرنا ليلة في سطح، وشددنا رجله بحبل طويل ليهتدي على القيام لبوله، فتقلب فسقط من السطح فأمسكه الحبل، فبقي معلقاً منكساً، فأصبحنا فوجدناه ميتاً، فمررت على قبره بعد حين فوجدت عليه مكتوباً (1) :
اجعلوا إن مت يوماً كفني ... ورق الكرم وقبري المعصره
إنني أرجو من الله غداً ... بعد شرب الراح حسن المغفره وكان الفتيان يجيئون إلى قبره فيشربون ويصبون القدح إذا وصل إليه على قبره.
ومن شعره (2) :
إذا صليت خمساً كل يوم ... فإن الله يغفر لي فسوقي
ولم أشرك بري الناس شيئاً ... فقد أمسكت بالحبل الوثيق
وجاهدت العدو ونلت مالاً ... يبلغني إلى البيت العتيق
فهذا الحق ليس به خفاء ... دعوني من بنيات الطريق وكانت وفاته في حدود الثمانين والمائة، سامحه الله تعالى.
__________
(1) الديوان: 33.
(2) الديوان: 45.(3/171)
388 - (1)
الغضنفر أبو تغلب
الغضنفر أبو تغلب ابن ناصر الدولة، صاحب الموصل وابن صاحبها؛ حارب عضد الدولة ابن بويه، وفر إلى الرحبة ثم هرب منها خوفاً من ابن عمه سعد الدولة صاحب حلب، فأنفذ كاتبه إلى العزيز العبيدي يستنجد به، ثم نزل بحوران، وفارقه ابن عمه الغطريف، وجاءه الخبر من كاتبه بأن يقدم على العزيز، فخاف وتوقف، ثم إنهم حاربوه وأسروه، وقتله مفرج صبراً وبعث برأسه إلى العزيز سنة ثمان وستين وثلاثمائة؛ وكان يرجع إلى فضل وأدب، وله شعر.
حكي أنا أبا الهيجاء ابن عمران بن شاهين صاحب البطيحة قال (2) : كنت أساير معتمد الدولة أبا المنيع قرواش بن المقلد ما بين سنجار ونصيبين، فاستدعاني وقد نزل يقصر هناك مطل على بساتين ومياه كثيرة يعرف بقصر العباس ابن عمرو الغنوي (3) ، فدخلت عليه وهو قائم في القصر يتأمل كتابة على الحائط، فلما دخلت قال: اقرأ ما هنا، فقرأت فإذا على الحائط مكتوب هذه الأبيات:
يا قصر عباس بن عم ... رو كيف فراقك ابن عمرك
قد كنت تغتال الدهو ... ر فكيف غالك ريب دهرك
__________
(1) ابن الأثير 8: 692 - 699 والنجوم الزاهرة 4: 136، ولقبه عند ابن الأثير فضل الله، واسم أبيه ناصر الدولة: ((الحسن)) ؛ وهذه الترجمة في ر.
(2) انظر هذا الخبر عند ابن خلكان 5: 261.
(3) العباس بن عمرو الغنوي من أهل تل بني سيار بين الرقة ورأس عين، وقد جعله المعتضد قائداً للجيش الذي أرسله لحرب القرامطة، فأسر ثم اطلق، وكانت وفاته سنة 350 (ابن خلكان: 262) .(3/172)
واهاً لعزك بل لجو ... دك بل لمجدك بل لفخرك وتحت الأبيات مكتوب: وكتب علي بن عبد الله بن حمدان بخطه في سنة إحدى وستين وثلاثمائة، وتحتها مكتوب:
يا قصر ضعضعك الزما ... ن وحط من علياء قدرك
ومحا محاسن أسطر ... شرفت بهن متون جدرك
واهاً لكاتبها الكري ... م وفخره الموفي بفخرك وتحتها مكتوب: وكتب الغضنفر بن الحسن بن عبد الله بن حمدان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة.(3/173)
3341 -
المكتفي بالله
علي بن أحمد بن طلحة بن جعفر بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب؛ هو أمير المؤمنين المكتفي بالله ابن المعتضد ابن الموفق ابن المتوكل ابن المعتصم ابن الرشيد ابن المهدي ابن المنصور، الهاشمي العباسي، ولد سنة أربع وستين ومائتين، وتوفي سنة خمس وتسعين ومائتين.
كان معتدل القامة دري اللون أسود الشعر حسن الوجه؛ بويع له بالخلافة عند موت والده في جمادى الأولى سنة تسع وثمانين، وكانت أيامه ست سنين ونصف، ومات شاباً في ذي القعدة، وخلف مائة ألف ألف دينار عيناً، وأمتعة وعقاراً وأواني بمثلها، وثلاثة وستين ألف ثوب وكان يلقب " المترف " لنعمة جسمه وحسنه، وكان نقش خاتمه " اعتمادي على الذي خلقني ".
ومن شعره:
من لي بأن تعلم ما ألقى فتعرف الصبوة والعشقا
مازال لي عبداً وحبي له صيرني عبداً له حقا
أعتق من رقي ولكنني من حبه لا آمن العتقا
وله أيضاً: الزركشي: 231 والروحي: 59 وتاريخ الخلفاء: 405 والفخري: 232 وخلاصة الذهب المسبوك: 237 وراجع التواريخ العامة كالطبري والمسعودي وابن الأثير ... الخ؛ وقد وردت في ر.(3/174)
3341 -
المكتفي بالله
علي بن أحمد بن طلحة بن جعفر بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب؛ هو أمير المؤمنين المكتفي بالله ابن المعتضد ابن الموفق ابن المتوكل ابن المعتصم ابن الرشيد ابن المهدي ابن المنصور، الهاشمي العباسي، ولد سنة أربع وستين ومائتين، وتوفي سنة خمس وتسعين ومائتين.
كان معتدل القامة دري اللون أسود الشعر حسن الوجه؛ بويع له بالخلافة عند موت والده في جمادى الأولى سنة تسع وثمانين، وكانت أيامه ست سنين ونصف، ومات شاباً في ذي القعدة، وخلف مائة ألف ألف دينار عيناً، وأمتعة وعقاراً وأواني بمثلها، وثلاثة وستين ألف ثوب وكان يلقب " المترف " لنعمة جسمه وحسنه، وكان نقش خاتمه " اعتمادي على الذي خلقني ".
ومن شعره:
من لي بأن تعلم ما ألقى فتعرف الصبوة والعشقا
مازال لي عبداً وحبي له صيرني عبداً له حقا
أعتق من رقي ولكنني من حبه لا آمن العتقا
وله أيضاً: الزركشي: 231 والروحي: 59 وتاريخ الخلفاء: 405 والفخري: 232 وخلاصة الذهب المسبوك: 237 وراجع التواريخ العامة كالطبري والمسعودي وابن الأثير ... الخ؛ وقد وردت في ر.(3/175)
3341 -
المكتفي بالله
علي بن أحمد بن طلحة بن جعفر بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب؛ هو أمير المؤمنين المكتفي بالله ابن المعتضد ابن الموفق ابن المتوكل ابن المعتصم ابن الرشيد ابن المهدي ابن المنصور، الهاشمي العباسي، ولد سنة أربع وستين ومائتين، وتوفي سنة خمس وتسعين ومائتين.
كان معتدل القامة دري اللون أسود الشعر حسن الوجه؛ بويع له بالخلافة عند موت والده في جمادى الأولى سنة تسع وثمانين، وكانت أيامه ست سنين ونصف، ومات شاباً في ذي القعدة، وخلف مائة ألف ألف دينار عيناً، وأمتعة وعقاراً وأواني بمثلها، وثلاثة وستين ألف ثوب وكان يلقب " المترف " لنعمة جسمه وحسنه، وكان نقش خاتمه " اعتمادي على الذي خلقني ".
ومن شعره:
من لي بأن تعلم ما ألقى فتعرف الصبوة والعشقا
مازال لي عبداً وحبي له صيرني عبداً له حقا
أعتق من رقي ولكنني من حبه لا آمن العتقا
وله أيضاً: الزركشي: 231 والروحي: 59 وتاريخ الخلفاء: 405 والفخري: 232 وخلاصة الذهب المسبوك: 237 وراجع التواريخ العامة كالطبري والمسعودي وابن الأثير ... الخ؛ وقد وردت في ر.(3/176)
حرفُ الفَاء
389 - (1)
الفتح بن خاقان
الفتح بن خاقان بن أحمد بن غرطوج وزير المتوكل؛ كان شاعراً فصيحاً مفوهاً محسناً موصوفاً بالشجاعة والكرم والرياسة والسؤدد، وكان المتوكل لا يصبر عنه، قدمه واستوزره وأمره على الشام، وأمره أن يستنيب عنه، وللفتح أخبار في الجود والمكارم والظرف، وكان معادلاً للمتوكل على جمازة لما قدم إلى دمشق.
قال أبو العيناء: دخل المعتصم يوماً على خاقان يعوده، فرأى ابنه الفتح صغيراً لم يثغر، فمازحه وقال: أيما أحسن دارنا أو داركم؟ فقال الفتح: دارنا أحسن إذا كان أمير المؤمنين فيها، فقال المعتصم: والله لا أبرح حتى أنثر عليه مائة ألف درهم.
قتل هو والمتوكل معاً في مجلس أنس - على ما تقدم في ترجمة المتوكل - وكان ذلك سنة سبع وأربعين ومائتين. وكانت له خزانة كتب جمعها علي بن يحيى المنجم، لم ير (2) أعظم منها كثرة وحسناً، وكان يحضر داره فصحاء الأعراب وعلماء البصرة والكوفة.
قال أبو هفان: ثلاثة لم أر (3) قط ولا سمعت بأكثر محبة للكتب والعلوم منهم: الجاحظ والفتح بن خاقان وإسماعيل بن إسماعيل القاضي.
__________
(1) معجم الأدباء 16: 174 والفهرست: 116 وصفحات متفرقة من مروج الذهب (ج: 7) والزركشي: 245 وانظر أيضاً كتاب " الترك في مؤلفات الجاحظ " للدكتور زكريا كتابجي (ط. دار الثقافة: 1972) ؛ ووردت هذه الترجمة في ر.
(2) ر: يرى.
(3) ر: أرى.(3/177)
وكان الفتح يحضر لمجالسة المتوكل، فإذا أراد القيام لحاجة أخرج كتاباً (1) من كمه أو خفه وقرأه إلى حين عودة المتوكل.
وللفتح من التصانيف كتاب " البستان " وكتاب " الصيد والجوارح "؛ قال ياقوت: ومن شعر الفتح:
لست مني ولست منك فدعني ... وامض عني مصاحباً بسلام
وإذا ما شكوت ما بي قالت ... قد رأينا خلاف ذا في المنام
لم تجد علة تجنى بها الذن ... ب فصارت تعتل بالأحلام قال البحتري: قال لي المتوكل: قل في شعراً وفي الفتح، فإني أحب أن يحيا معي ولا أفقده فيذهب عيشي ولا يفقدني، فقل في هذا المعنى، فقلت (2) :
سيدي كيف أنت أخلفت وعدي ... وتثاقلت عن وفاء بعهدي وقلت فيها:
لا أرتني الأيام فقدك يا فت ... ح ولا عرفتك ما عشت فقدي
أعظم الرزء أن تقدم قبلي ... ومن الرزء أن تؤخر بعدي
حسداً أن تكون إلفاً لغيري ... إذ تفردت بالهوى فيك وحدي فقال: أحسنت يا بحتري، جئت بما في نفسي، وأمر لي بألف دينار. قال البحتري: فقتلا معاً، وكنت حاضراً، وربحت هذه الضربة، وأومأ إلى ضربة على ظهره.
ومن شعر الفتح بن خاقان:
__________
(1) ر: كتاب.
(2) ديوان البحتري: 522 وذكر أنها في غلامه نسيم، ولهذا وجدت اختلافات في الروايتين، وانظر أخبار البحتري: 85.(3/178)
وإني وإياها لكالخمر والفتى ... متى يسطع منها الزيادة يزدد
إذا ازددت منها وجداً بقربها ... فكيف احتراسي من هوى متجدد ومنه:
أيها العاشق المعذب صبراً ... فخطايا أخي الهوى مغفوره
زفرة في الهوى أحط لذنب ... من غزاة وحجة مبروره 390 (1)
المسترشد بالله
الفضل بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق ابن جعفر بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، أمير المؤمنين المسترشد بالله ابن المستظهر ابن المقتدي؛ بويع بالخلافة ليلة الخميس الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وخمسمائة، بايعه سبعة من أولاد الخلفاء، وكان المسترشد أشقر أعطر أشهل خفيف العارضين، وجلس للناس جلوساً عاماً، وكان المتولي للبيعة قاضي القضاة أبو الحسن علي بن محمد الدامغاني، وبايع الناس إلى الظهر، ثم أخرجت جنازة المستظهر، وكان عمره لما بويع سبعاً وعشرين سنة؛ لأن مولده سنة ست وثمانين وأربعمائة، وكان يتنسك في أول زمانه ويلبس الصوف وينفرد في بيت العبادة، وختم القرآن وتفقه، وكان مليح الخط، لم يكن قبله في الخلفاء من كتب أحسن منه، وكان يستدرك على
__________
(1) المنتظم 10: 53 وابن الأثير 11: 27 والزركشي: 245 والفخري: 267 والروحي: 66 وتاريخ الخلفاء: 463 وخلاصة الذهب المسبوك: 272 وتاريخ الخميس 2: 361 ومرآة الزمان: 156؛ وهذه الترجمة في ر.(3/179)
كتابة أغاليطهم، وكان ابن الأنباري يقول: أنا وراق الإنشاء ومالك الأمر يتولى ذلك بنفسه الشريفة.
وكان ذا هيبة وإقدام وشجاعة، وضبط الخلافة ورتبها أحسن ترتيب وأحيا رميمها، وشيد أركان الشريعة، ولم تزل أيامه مكدرة بكثرة التشويش من المخالفين، وكان يخرج بنفسه لدفع ذلك ومباشرته، إلى أن خرج الخرجة الأخيرة فكسر وأسر وقتلته الملاحدة، جهزهم عليه السلطان مسعود، فهجموا عليه " في " مخيمه بظاهر مراغة سنة تسع وعشرين وخمسمائة.
وكانت خلافته سبع عشرة (1) سنة وثمانية أشهر وأياماً، وكان عمره خمساً وأربعين سنة. ومن شعره لما كسر وأشير عليه بالهزيمة:
قالوا تقيم وقد أحا ط بك العدو ولا تفر
فأجبتهم المرء ما ... لم يتعظ بالوعظ غر
ولا نلت خيراً ما حيي ... ت ولا عداني الدهر شر
إن كنت أعلم أن غي ... ر الله ينفع أو يضر ومن شعره:
أقول لشرخ الشباب اصطبر ... فولى ورد قضاء الوطر
فقلت قنعت بهذا المشيب ... وإن زال غيم فهذا مطر
فقال المشيب أيبقى الغبار ... على جمرة ذاب منها الحجر وقال لما أسر:
ولا عجباً للأسد إن ظفرت بها ... كلاب الأعادي من فصيح وأعجم
فحربة وحشي سقت حمزة الردى ... وموت علي من حسام ابن ملجم وقال:
__________
(1) ر: سبعة عشر.(3/180)
أنا الأشقر الموعود بي في الملاحم ... ومن يملك الدنيا بغير مزاحم
ستبلغ أقصى الروم خيلي وتنتضى ... بأقصى بلاد الصين بيض صوارمي واتفق أن المسترشد رأى فيما يرى النائم في الأسبوع الذي استشهد فيه كأن على يده حمامة مطوقة، فأتاه آت وقال له: خلاصك في ذلك، فلما أصبح حكى لابن سكينة الإمام ما رآه، فقال: ما أولته يا أمير المؤمنين؟ فقال: أولته ببيت أبي تمام الطائي:
هن الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهن فإنهن حمام وخلاصي في حمامي، وليت من يأتيني فيخلصني مما أنا فيه من الذل والحبس. فقتل بعد المنام بأيام وكان قد خرج للإصلاح بين السلجوقية واختلاف الأجناد، وكان معه جمع كثير من الأتراك، فغدر أكثرهم به ولحقوا بالسلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه، ثم التقى الجمعان فلم يلبثوا إلا قليلاً وانهزموا عن المسترشد، وقبض على المسترشد وعلى خواصه، وحملوا إلى قلعة بقرب همذان وحبسوا بها، وكان ذلك في شهر رمضان، وبقي إلى النصف من القعدة، وحمل مع مسعود إلى مراغة، وأنزل بناحية من العسكر، فدخل عليه جماعة من الباطنية من خلف الخيمة وتعلقوا به وضربوه بالسكاكين، فوقعت الصيحة، وقتل معه جماعة منهم أبو عبد الله ابن سكينة وابن الجزري، وخرج جماعة وأمسكوا وقتلوا وحرقوا، وبقيت يد أحدهم لم تحترق، ففتحوا يده فإذا فيها شعرات من كريمة المسترشد، فأخذها السلطان مسعود وجعلها في تعويذ ذهب، ثم جلس السلطان للعزاء، وخرج الخادم ومعه المصحف وعليه الدم، وخرج أهل مراغة وعليهم المسوح وعلى وجوههم الرماد، وهم يستغيثون ويبكون، ودفنوه في مدرسة أحمدك، وبقي العزاء بمراغة أياماً.(3/181)
وخلف من الأولاد منصور الراشد وأبا العباس أحمد وأبا القاسم عبد الله وإسحاق توفي في حياته، رحمه الله تعالى.
391 - (1)
المطيع لله
الفضل بن جعفر، أمير المؤمنين المطيع لله ابن المقتدر ابن المعتضد. بويع له بعد المستكفي سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة ومولده سنة إحدى وثلاثمائة، وتوفي سنة أربع وستين وثلاثمائة؛ قال ابن شاهين: وخلع نفسه غير مكره في ذي القعدة سنة ثلاث وستين، ونزل عن الخلافة لولده أبي بكر عبد الكريم، ولقبوه الطائع لله، وسنه يومئذ ثمان وأربعون سنة، ومات المطيع وفي المحرم سنة أربع وستين.
وكان أبيض تعلوه صفرة، أقنى جميل الوجه، وكانت خلافته تسعاً وعشرين (2) سنة، وفي أيامه أعيد الحجر الأسود إلى البيت من القرامطة، ومن شعره يمدح سيف الدولة ابن حمدان:
تخيرت سيفاً من سيوف كثيرة ... فلم أر فيها مثل سيف الدولة (3)
أرى الناس في وسط المجالس يشربوا ... وذاك بثغر الشام يحفظ دولتي (4)
__________
(1) ابن الأثير 8: 637 وتاريخ الخميس 2: 353 ومروج الذهب 9: 31 والروحي: 63 والفخري: 258 وتاريخ الخلفاء: 429 وخلاصة الذهب المسبوك: 257؛ والترجمة ثابتة في ر.
(2) ر: تسع وعشرون.
(3) ر: لدولتي.
(4) في المطبوعة: بيضتي، وما اثبته رواية ر.(3/182)
392 - (1)
الرقاشي الشاعر
الفضل بن عبد الصمد الرقاشي البصري، من فحول الشعراء، ومدح الخلفاء الكبار، وبينه وبين أبي نواس مهاجاة ومباسطة، وتوفي في حدود المائتين؛ وكان مولى رقاش، وهو من ربيعة.
قال أبو الفرج صاحب " الأغاني ": قيل إنه كان في العجم من أهل الري ومدح الرشيد، وأجازه، إلا أن انقطاعه كان إلى بني برمك، فأغنوه عمن سواهم، وكان كثير التعصب لهم، ولما صلب جعفر جاز به الرقاشي وهو على الجذع فبكى أحر بكاء وقال الأبيات التي منها:
على اللذات والدنيا جميعاً ... ودولة آل برمك السلام وقد ذكرها ابن خلكان في ترجمة جعفر البرمكي (2) ، فكتب أصحاب الأخبار إلى الرشيد، فأحضره وقال: ما حملك على رثاء عدوي؟ فقال: يا أمير المؤمنين كان إلي محسناً، فلما رأيته على هذا الحال حركني إحسانه، فما ملكت نفسي حتى قلت الذي قلت، قال: فكم كان يجري عليك؟ قال: ألف دينار في كل سنة، قال: فإني قد أضعفتها لك.
قال ابن المعتز (3) : حدثني أبو مالك قال، قال الفضل بن الربيع للرقاشي: ويلك يا رقاشي، ما أردت بوصيتك إلا الخلاف على الصالحين، فقال له: جعلت فداك لو علمت أني أعافى من علتي ما أوصيت بها، فإنها من
__________
(1) طبقات ابن المعتز: 226 وتاريخ بغداد 12: 345 والأغاني 16: 180 والزركشي: 245؛ والترجمة وردت في ر.
(2) انظر وفيات الأعيان 1: 340.
(3) اطبقات: 226 وفي النص هنا بعض اختلاف.(3/183)
الذخائر النفيسة التي (1) تدخر للممات. ووصيته هذه أرجوزة مزدوجة يأمر فيها باللواط وشرب الخمر والقمار والنقار بين الديكة والهراش بين الكلاب، وهو يزعم لتهتكه وخلاعته أنها من الفوائد التي (2) تدخر للوصية عند الموت، أولها:
أوصى الرقاشي إلى إخوانه ... وصية المحمود في أخدانه وهي مشهورة موجودة.
ولما قال أبو دلف قصيدته التي يقول فيها:
ناولني الدرع قد طا ... ل عن الحرب فطامي (3) أجابه الرقاشي فقال:
جنبيني الدرع قد طا ... ل عن القصف جمامي
واكسري البيضة والمط ... رد وابدي بالسهام (4)
واقذفي في لجة البح ... ر بقوسي وسهامي
وبترسي وبرمحي ... وبسرجي ولجامي
واعقري مهري أصاب ... الله مهري بالصدام
أنا لا أطلب أن يع ... رف في الحرب مقامي
وبحسبي أن تراني ... بين فتيان كرام
سادة نغدو مجدي ... ن على حرب المدام
واصطفاق العود والنا ... يات في جوف الظلام
نهزم الراح إذا ما ... هم قوم بانهزام
__________
(1) ر: الذي.
(2) ر: الذي.
(3) الطبقات: جمامي.
(4) الطبقات: بالحسام، وهو أصوب، لأنه سيذكر السهام في البيت التالي.(3/184)
ونخلي الضرب والطع ... ن لأشلاء وهام
لشقي قال قد طا ... ل عن الحرب فطامي 393 (1)
فضل الشاعرة
فضل جارية المتوكل، الشاعرة؛ كانت من مولدات اليمامة (2) ، ولم يكن في زمانها امرأة أفصح منها ولا أشعر، توفيت سنة ستين ومائتين. قال لها يوماً علي بن الجهم (3) :
لاذ بها يشتكي إليها ... فلم يجد عندها ملاذا فقال لها المتوكل: أجيزي، فقالت:
ولم يزل ضارعاً إليها ... تهطل أجفانه رذاذا
فعاتبوه فزاد عشقاً ... فمات وجداً فكان ماذا وقال ابن المعتز (4) : كانت تهاجي الشعراء، ويجتمع عندها الأدباء، ولها في الخلفاء والملوك مدائح كثيرة، وكانت تتشيع وتتعصب لأهل مذهبها وتقضي حوائجهم بجاهها عند الملوك والأشراف. وعشقت سعيد بن حميد، وكان من أشد الناس نصباً وانحرافاً عن آل البيت رضي الله عنهم، وكانت
__________
(1) طبقات ابن المعتز: 426 والمنتظم 5: 6 والأغاني 19: 257 والزركشي: 246؛ والترجمة في ر.
(2) الأغاني: من مولدات البصرة، وكانت أمها من مولدات اليمامة.
(3) الأغاني: 271.
(4) الطبقات: 426 ولم يذكر أنها كانت تهاجي الشعراء.(3/185)
فضل نهاية في التشيع، فلما هويته انتقلت إلى مذهبه، ولم تزل على ذلك إلى أن توفيت، ومن قولها فيه (1) :
يا حسن الوجه سيء الأدب ... شبت وأنت الغلام في الأدب
ويحك أن القيان كالشرك ال ... منصوب بين الغرور والكذب
بينا تشكى إليك إذ خرجت ... من لحظات الشكوى إلى الطلب
فلحظ هذا ولحظ ذاك وذا ... لحظ محب بعين مكتسب قال أبو الفرج الأصفهاني (2) : حدثني جعفر بن قدامة قال، حدثني سعيد ابن حميد قال: قلت لفضل الشاعرة أجيزي:
من لحب أحب في صغره ... فقالت غير متوقفة:
فصار أحدوثة على كبره ... فقلت:
من نظر شفه وأرقه ... فقالت:
وكان مبدا هواه من نظره ...
لولا الأماني لمات من كمد ... مر الليالي يزيد في فكره
ليس له مسعد يساعده ... بالليل في طوله وفي قصره ومن شعرها:
قد بدا شبهك يا مو ... لاي في جنح الظلام
__________
(1) قالت هذه الأبيات عندما بلغها أن سعيد بن حميد عشق إحدى القيان.
(2) لم ترد هذه الرواية في ترجمة ((فضل)) في الأغاني.(3/186)
فانتبه نقض لبانا ... ت اعتناق والتثام
قبل أن تفضحنا عو ... دة أرواح النيام وألقى عليها يوماً أبو دلف العجلي:
قالوا عشقت صغيرة فأجبتهم ... أشهى المطي إلي ما لم يركب
" كم بين حبة لؤلؤ مثقوبة ... من بين حبة لؤلؤ لم تثقب " (1) فقالت تجيبه:
إن المطية لا يلذ ركوبها ... ما لم تذلل بالزمام وتركب
والحب ليس بنافع أربابه ... ما لم يؤلف بالنظام ويثقب قال علي بن الجهم (2) : كنت يوماً عند فضل، فلحظتها لحظة استرابت بها فقالت:
يا رب رام حسن تعرضه ... يرمي ولا يشعر أني غرضه فقلت مجيباً لها:
أي فتى لحظك ليس يمرضه ... وأي عقد محكم لا ينقضه فضحكت وقالت: خذ في غير هذا.
ويوم أهديت إلى المتوكل قال لها: أشاعرة أنت؟ فقالت: كذا يزعم من باعني واشتراني، فضحك المتوكل وقال: أنشدينا شيئاً من شعرك فأنشدته:
استقبل الملك إمام الهدى ... علم ثلاث وثلاثينا
خلافة أفضت إلى جعفر ... وهو ابن سبع بعد عشرينا
إنا لنرجو يا إمام الهدى ... أن تملك الدنيا ثمانينا
لا قدس الله امرءا لم يقل ... عند دعائي لك آمينا
__________
(1) لم يرد في ر.
(2) الأغاني 19: 262 وديوان ابن الجهم: 153.(3/187)
3341 -
المكتفي بالله
علي بن أحمد بن طلحة بن جعفر بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب؛ هو أمير المؤمنين المكتفي بالله ابن المعتضد ابن الموفق ابن المتوكل ابن المعتصم ابن الرشيد ابن المهدي ابن المنصور، الهاشمي العباسي، ولد سنة أربع وستين ومائتين، وتوفي سنة خمس وتسعين ومائتين.
كان معتدل القامة دري اللون أسود الشعر حسن الوجه؛ بويع له بالخلافة عند موت والده في جمادى الأولى سنة تسع وثمانين، وكانت أيامه ست سنين ونصف، ومات شاباً في ذي القعدة، وخلف مائة ألف ألف دينار عيناً، وأمتعة وعقاراً وأواني بمثلها، وثلاثة وستين ألف ثوب وكان يلقب " المترف " لنعمة جسمه وحسنه، وكان نقش خاتمه " اعتمادي على الذي خلقني ".
ومن شعره:
من لي بأن تعلم ما ألقى فتعرف الصبوة والعشقا
مازال لي عبداً وحبي له صيرني عبداً له حقا
أعتق من رقي ولكنني من حبه لا آمن العتقا
وله أيضاً: الزركشي: 231 والروحي: 59 وتاريخ الخلفاء: 405 والفخري: 232 وخلاصة الذهب المسبوك: 237 وراجع التواريخ العامة كالطبري والمسعودي وابن الأثير ... الخ؛ وقد وردت في ر.(3/188)
حرف القاف(3/189)
3341 -
المكتفي بالله
علي بن أحمد بن طلحة بن جعفر بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب؛ هو أمير المؤمنين المكتفي بالله ابن المعتضد ابن الموفق ابن المتوكل ابن المعتصم ابن الرشيد ابن المهدي ابن المنصور، الهاشمي العباسي، ولد سنة أربع وستين ومائتين، وتوفي سنة خمس وتسعين ومائتين.
كان معتدل القامة دري اللون أسود الشعر حسن الوجه؛ بويع له بالخلافة عند موت والده في جمادى الأولى سنة تسع وثمانين، وكانت أيامه ست سنين ونصف، ومات شاباً في ذي القعدة، وخلف مائة ألف ألف دينار عيناً، وأمتعة وعقاراً وأواني بمثلها، وثلاثة وستين ألف ثوب وكان يلقب " المترف " لنعمة جسمه وحسنه، وكان نقش خاتمه " اعتمادي على الذي خلقني ".
ومن شعره:
من لي بأن تعلم ما ألقى فتعرف الصبوة والعشقا
مازال لي عبداً وحبي له صيرني عبداً له حقا
أعتق من رقي ولكنني من حبه لا آمن العتقا
وله أيضاً: الزركشي: 231 والروحي: 59 وتاريخ الخلفاء: 405 والفخري: 232 وخلاصة الذهب المسبوك: 237 وراجع التواريخ العامة كالطبري والمسعودي وابن الأثير ... الخ؛ وقد وردت في ر.(3/190)
394 - (1)
ابن الطوابيقي
القاسم ابن الحسين، أبو شجاع ابن الطوابيقي البغدادي الشاعر؛ سافر إلى الموصل ومدح الملوك بها وبديار بكر، روى عنه عثمان البلطي النحوي شيئاً من شعره، وتوفي سنة ست وتسعين وخمسمائة.
ومن شعره:
لي بيت تموت فيه السناني ر هزالاً والفأر في الأسراب
أنا فيه فوق التراب وخير ... لي منه لو كنت تحت التراب ومنه (2) :
قامت تهز قوامها يوم النقا ... فتساقطت خجلاً غصون البان
وبكت فجاوبها البكا من مقلتي ... فتمثل الإنسان في إنساني منها:
وأحبكم وأحب حبي فيكم ... وأجل قدركم على إنسان
وإذا نظرتكم بعين خيانة ... قام الغرام بشافع عريان
وإن لم يخلصني الوصال بجاهه ... سأموت تحت عقوبة الهجران منها:
أصبحت تخرجني بغير جناية ... من دار إعزار لدار هوان
__________
(1) البدر السافر: 52 والزركشي: 246 والخريدة (قسم العراق) 2: 318 وذكر إن وفاته كانت سنة تسع وستين (وخمسمائة) وكذلك قال صاحب البدر السافر؛ وهذه الترجمة في ر.
(2) وردت الأبيات في الخريدة: 321.(3/191)
كدم الفصاد يراق أرذل موضع ... أبداً ويخرج من أعز مكان 395 (1)
قاسم الواسطي
القاسم بن عمر بن منصور، أبو محمد الواسطي؛ مولده بواسط سنة خمسين وخمسمائة، وتوفي بحلب سنة ست وعشرين وستمائة؛ كان أديباً نحوياً لغوياً فاضلاً مصنفاً، قرأ النحو بواسط على الشيخ مصدق ابن شبيب، وقرأ اللغة على عميد الرؤساء هبة الله بن أيوب، والقراءات على الشيخ أبي بكر الباقلاني وعلى الشيخ علي بن هياب الجماجمي، وسمع كثيراً من كتب النحو واللغة على جماعة يطول ذكرهم.
ومن تصانيفه " شرح اللمع " لابن جني. " شرح التصريف الملوكي " له. كتاب " فعلت وأفعلت بمعنى " على حروف المعجم. كتاب في اللغة لم يتم. كتاب " شرح المقامات " على حروف المعجم. شرح آخر على ترتيب المقامات. شرح آخر على ترتيب آخر، كتاب خطب، كتاب رسالة فيما أخذ على الرشيد ابن النابلسي في قصيدة نظمها في الإمام الناصر (2) .
ومن شعره:
ديباج خدك (3) بالعذار مطرز ... برزت محاسنه وأنت مبرز
وبدت على حسن (4) الصبا روضة ... والغصن ينبت في الرياض ويغرز
__________
(1) الزركشي: 246 ومعجم الأدباء 16: 296 وبغية الوعاة: 380 وابن الشعار 5: 574؛ والترجمة في ر.
(2) أورد ياقوت مقدمة هذه الرسالة.
(3) ياقوت: وجهك.
(4) ياقوت: غصن.(3/192)
وجنت على وجنات خدك حمرة ... خجل الشقيق بها وحار القرمز
لو كنت مدعياً نبوة يوسف ... لقضى القياس بأن حسنك معجز ومنه:
زهرة الحسن فوق زهر الرياض ... منه للغصن حمرة في بياض
قد حمى ورده ونرجسه الغ ... ض سيوف من الجفون مواض
فإذا ما اجتنيت باللحظ فاحذر ... ما جنت صحة العيون المراض
فلها في القلوب قتلة باغ ... رويت عنه فتكة البراض (1)
وإذا فوقت سهاماً من الهد ... ب رمين السهام بالأغراض منها:
واجل من جوهر الدنان عروساً ... نطقت عن جواهر الأعراض
كلما أبرزت أرتك لها وج ... هـ انبساط يعطيك وجه انقباض
فعلى الأفق للغمام ملاء ... طرزتها البروق والإيماض
وكأن الرعود إرزام نوق ... فصلت دونها بنات المخاض
أو صهيل الجياد للملك الظا ... هر تسري بالجحفل النهاض وقال يهجو الرشيد النابلسي الشاعر:
لا تعجبن لمدلوي ... هـ إذا بدا شبه المريض
قد ذاب من بخر بفي ... هـ نما (2) من الخلق البغيض
وتكسرت أسنانه ... بالعض في جعس (3) القريض
وتقطعت أنفاسه ... عرضاً بتقطيع العروض
__________
(1) البراض بن قيس الكناني يضرب به المثل في الفتك إذ قتل عروة الرحال حين أجار إحدى اللطائم.
(2) ياقوت: بدا.
(3) ر: جبس.(3/193)
وله فيه:
يا من تأمل مدلوي ... هـ وشك فيما يسقمه
انظر إلى بخر بفي ... هـ وما أظنك تفهمه
لا تحسبن بأنه ... نفس يغيره فمه
لكنما أنفاسه ... نتنت بشعر ينظمه وقال يهجو جماعة:
ويبدون الطلاقة من وجوه ... كما يبدو لك الحجر الصقيل
إذا قاموا لمجد أقعدتهم ... مسالك ما لهم فيها سبيل
وإن طلبوا الصعود فمستحيل ... وإن لزموا النزول فما يزولوا (1)
كذاك السجل (2) في الدولاب يعلو ... صعوداً والصعود له نزول وقال:
لنا صديق فيه انقباض ... ونحن بالبسط نستلذ
لا يعرف الفتح من يديه ... إلا إذا ما أتاه أخذ
فكفه " أين " حين تعطي ... شيئاً (3) وبعد العطاء " منذ " وقال:
لا ترد من خيار دهرك خيراً ... فبعيد من السراب الشراب
رونق كالحباب يعلو على الكأ ... س ولكن تحت الحباب الحباب
عذبت في النفاق ألسنة القو ... م وفي الألسن العذاب العذاب وقال:
أفي البان إن بان الخليط مخبر ... عسى ما انطوى من عهد لمياء ينشر
__________
(1) ياقوت: يزول.
(2) ر: السخل.
(3) ر: شيء.(3/194)
نعم حركات في اعتدال سكونها ... أحاديث يرويها النسيم المعطر
يود ظلام الليل وهو ممسك ... لذاذاتها والصبح وهو مزعفر
أحاديث لو أن النجوم تمتعت ... بأسرارها لم تدر كيف تغور
يموت بها داء الهوى وهو قاتل ... ويحيا بها ميت الجوى وهو مقبر
فيا لنسيم صحتي في اعتلاله ... وصحوي إذا مر بي وهو مسكر
كأن به مشمولة بابلية ... صفت وهي من غض الشمائل تعصر
إذا نشأت مالت بلبك نشوة ... كما مال مهزوز يماح (1) ويمطر وقال:
في زهرة وطيب ... بستاني من أوجه ملاح
أجلو على القضيب ... ريحاني والورد والأقاح
ما روضة الربيع ... في حلة الكمال
تزهى (2) على ربيع ... مرت به شمال (3)
في الحسن كالبديع ... بالحسن والجمال
ناهيك من حبيب ... نشوان بالدل وهو صاح
إن قلت والهيبي ... حياني من ثغره براح
كم بت والكؤوس ... تجلى من الدنان
كأنها عروس ... زفت من الجنان
تبدو لنا الشموس ... منها على البنان
لم أخش من رقيب ... ينهاني ألهو إلى الصباح
مع شادن ربيب ... فتان زندي له وشاح
__________
(1) ر: يماح، وأثبت ما عند ياقوت.
(2) ياقوت: تزهو.
(3) ياقوت: الشمال.(3/195)
خيل الصبا بركضي ... تجري مع الغواه
في سنتي وفرضي ... ما أبتغي سواه
وحجتي لعرضي ... ما تنقل الرواه
عن عاقل لبيب ... أفتاني أن الهوى مباح
والرشف من شنيب ... ريان ما فيه من جناح 396 (1)
علم الدين البرزالي
القاسم بن محمد بن يوسف، الشيخ الإمام الحافظ المحدث المؤرخ، علم الدين أبو محمد ابن العدل بهاء الدين ابن الحافظ زكي الدين البرزالي الإشبيلي ثم الدمشقي الشافعي؛ ولد في جمادى الأولى سنة خمس وستين وستمائة، وحفظ القرآن " والتنبيه " ومقدمة ابن الحاجب، وسمع سنة ثلاث وسبعين من أبيه ومن القاضي عز الدين ابن الصائغ، ولما سمع " صحيح البخاري " من الإربلي بعثه والده فسمعه سنة سبع، وأحب الحديث ونسخ الأجزاء ودار على الشيوخ، وسمع من ابن أبي الخير وابن أبي عمر وابن علان وابن شيبان والمقداد والفخر، وجد في الطلب، وذهب إلى بعلبك، وارتحل إلى حلب سنة خمس وثمانين، وفيها ارتحل إلى مصر، وأكثر عن العز الحراني وطبقته، وكتب بخطه الصحيح المليح كثيراً وخرج لنفسه
__________
(1) طبقات السبكي 6: 246 والأسنوي 1: 292 والدرر الكامنة 3: 321 والدارس 1: 112 والبداية والنهاية 14: 185 والنجوم الزاهرة 9: 319 والشذرات 6: 122 وتاريخ ابن الوردي 2: 327والبدر الطالع 2: 51 والذيل على طبقات الحفاظ: 18 وذيل عبر الذهبي: 209 والزركشي: 248 والرد الوافر: 119؛ ووردت الترجمة في ر.(3/196)
وللشيوخ شيئا ًكثيراً، وجلس في شبيبته مدة مع أعيان الشهود، وتقدم في معرفة الشروط، ثم اقتصر على جهات تقوم به، وورث من أبيه جملة، وحصل كتباً جيدة وأجزاء في أربع خزائن، وبلغ ثبته أربعاً وعشرين مجلداً، وأثبت فيه من كان يسمع معه، وله تاريخ بدأ فيه من عام مولده الذي توفي فيه الإمام أبو شامة فجعله صلة لتاريخ أبي شامة في خمس مجلدات، وله مجاميع وتعاليق كثيرة، وعمل في فن الرواية عملاً قل من يبلغ إليه، وبلغ عدد مشايخه بالسماع أثر من ألفين، وبالإجازة أكثر من ألف، رتب كل ذلك وترجمهم في مسودات متقنة، وكان رأساً في صدق اللهجة والأمانة، صاحب سنة واتباع ولزم الفرائض، خيراً متواضعاً حسن البشر عديم الشر، فصيح القراءة مع عدم اللحن، قرأ ما لا يوصف كثرة وروى، وكان عالماً بالأسماء والألفاظ، وكان فيه حلم وصبر وتودد ولا يتكثر بفضائله ولا يتنقص بفاضل بل يوفيه فوق حقه، يلاطف الناس وله ود في القلوب وحب في الصدور. احتسب عدة أولاد: منهم محمد، تلا بالسبع وحفظ كتباً، وعاش ثمان عشرة (1) سنة، ومنهم فاطمة، عاشت نيفاً وعشرين سنة، وكتبت صحيح البخاري وأحكام مجد الدين وأشياء.
وللشيخ علم الدين إجازات عالية عام مولده من ابن عبد الدايم وإسماعيل ابن عزون والنجيب، وحدث في أيام شيخه ابن البخاري، وكان حلو المحاضرة قوي المذاكرة عارفاً بالرجال، لا سيما أهل زمانه وشيوخهم، لم يخلف بعده مثله.
حج سنة ثمان وثمانين وأخذ عن مشيخة الحرمين، ثم حج أربعاً بعد ذلك، وكان باذلاً لكتبه وأجزائه سمحاً في كل أموره، مؤثراً متصدقاً.
قال الشيخ شمس الدين الذهبي: وهو الذي حبب إلي طلب الحديث،
__________
(1) ر: ثمانية عشر.(3/197)
قال لي: خطك يشبه خط المحدثين، فأثر قوله في وسمعت وتخرجت به في أشياء؛ ولي دار الحديث الأشرفية مقرئاً فيها، وقرأ بالظاهرية سنة ثلاث عشرة (1) وسبعمائة، وحضر المدارس وتفقه بالشيخ تاج الدين عبد الرحمن وصحبه وأكثر عنه وسافر معه، وجود القراءة على رضي الدين ابن دبوقا، وتولى مشيخة دار الحديث النورية ومشيخة النفيسية، ووقف كتبه وعقاراً جيداً على الصدقات؛ وتوفي بخليص (2) بكرة الأحد الرابع من ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وسبعمائة عن أربع وسبعين سنة ونصف، وتأسف الناس عليه، رحمه الله تعالى.
397 - (3)
صاحب الموصل
قرواش بن مقلد بن المسيب بن رافع، الأمير أبو المنيع معتمد الدولة ابن الأمير حسام الدولة العقيلي صاحب الموصل؛ وقد خطب في بلاده للحاكم ثم رجع عن ذلك وخطب للقادر العباسي، فجهز صاحب مصر جيشاً لحربه، ووصل إلى الموصل ونهبوا داره وأخذوا له من الذهب مائتي ألف دينار، فاستنجد عليهم بدبيس بن صدقة واجتمعا على حربهم فنصرا عليهم، وقتلا منهم خلقاً كثيراً.
__________
(1) ر: ثلاثة عشر.
(2) خليص: حصن بين مكة والمدينة (ياقوت) .
(3) ابن خلكان 5: 263 (في ترجمةوالده المقلد بن المسيب) ودمية القصر 1: 31 والشذرات الأثير؛ وقرواش بكسر القاف وسكون الراء، وضبطه ابن تغري بردي بفتح القاف، ومعناه بالتركية: ((عبد أسود)) ؛ وهذه الترجمة وردت في ر.(3/198)
وكان (1) ظريفاً شاعراً نهاباً وهاباً، وجمع بين أختين فلاموه فقال: خبروني ما الذي نستعمل من الشرع حتى تتكلموا في هذا الأمر؟ وقبض عليه بركة ابن أخيه وحبسه وتقلب زعيم الدولة، فلم تطل دولته، فقام بعده أبو المعالي قريش بن بدران بن مقلد ابن أخيه، فأول ما ملك أخرج عمه قرواشاً وذبحه صبراً، وقيل بل مات في سجنه سنة أربع وأربعين وأربعمائة.
وفي قرواش يقول الظاهر الجزري (2) :
وليل كوجه البرقعيدي ظلمة ... وبرد أغانيه وطول قرونه
سريت ونومي فيه نوم مشرد ... كعقل سليمان بن فهد ودينه
على ألق فيه مضاء كأنه ... أبو جابر في طيشه وجنونه
إلى أن بدا وجه الصباح كأنه ... سنا وجه قرواش وضوء جبينه وكانت إمارة قرواش خمسين سنة.
حكى أبو الهيجاء ابن عمران بن شاهين قال (3) : كنت أساير معتمد الدولة قرواشاً ما بين سنجار ونصيبين، فنزل ثم استدعاني بعد الزوال وقد نزل هناك بقصر العباس بن عمرو الغنوي، وهو مصل على بساتين ومياه كثيرة، فدخلت عليه فوجدته قائماً يتأمل كتابة في الحائط، فقرأتها فإذا هي:
يا قصر عباس بن عم ... رو كيف فارقك ابن عمرك؟
قد كنت تغتال الدهو ... ر فكيف غالك ريب دهرك؟
واهاً لعزك بل لجو ... دك بل لمجدك بل لفخرك وتحت الأبيات مكتوب: وكتب علي بن عبد الله حمدان سنة إحدى
__________
(1) انظر ابن خلكان 5: 266.
(2) قد مرت ترجمته، وانظر ابن خلكان 5: 265.
(3) ابن خلكان 5: 261.(3/199)
وثلاثين وثلاثمائة، وهذا الكاتب هو سيف الدولة ابن حمدان، وتحت ذلك مكتوب:
يا قصر ضعضعك الزما ... ن وحط من علياء قدرك (1)
ومحا محاسن أسطر ... شرفت بهن متون جدرك
واهاً لكاتبها الكري ... م وقدره الموفي بقدرك وتحت الأبيات: وكتبه الغضنفر بن الحسن بن عبد الله بن حمدان بخطه في سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، وتحت ذلك مكتوب:
يا قصر ما فعل الأولى ... ضربت خيامهم بعقرك؟
أخنى الزمان عليهم ... وطواهم تطويل نشرك
آهاً لقاصر عمر من ... يختال فيك وطول عمرك وتحت ذلك مكتوب: وكتب المقلد بن المسيب بن رافع بخطه سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، وهذا هو حسام الدولة أبو قرواش المذكور، وتحت ذلك مكتوب:
يا قصر ما فعل الكرا ... م الساكنون قديم عصرك
عاصرتهم فبذذتهم ... وشأوتهم طراً بصبرك
ولقد أثار تفجعي ... يا ابن المسيب رقم سطرك
وعلمت أني لا حق ... بك دائباً (2) في قفو إثرك وتحت ذلك مكتوب: وكتبه قرواش بن المقلد بن المسيب سنة إحدى وأربعمائة. قال الراوي: فعجبت لذلك، وقلت له: الساعة كتبت هذا؟ قال: نعم، ولقد هممت بهدم هذا القصر فإنه مشوم، ودفن الجماعة؛ فدعوت
__________
(1) ابن خلكان: فخرك.
(2) ابن خلكان: دائب.(3/200)
له بالسلامة، ولم يهدم القصر.
وسيأتي ذكر والده المقلد في مكانه من حرف الميم إن شاء الله تعالى.
ومن شعر قرواش (1) :
لله در النائبات فإنها ... صدأ اللئام وصيقل الأحرار
ما كنت إلا زبرة فطبعنني ... سيفاً وأطلق صرفهن غراري ومنه أيضاً:
وآلفة للطيب ليست تغبه ... منعمة الأطراف لينة اللمس
إذا ما دخان الند من جيبها علا ... على وجهها أبصرت غيماً على شمس 398 (2)
المظفر قطز
قطز بن عبد الله الشهيد، الملك المظفر سيف الدين المعزي؛ كان من أكبر مماليك المعز أيبك التركماني، وكان بطلاً شجاعاً مقداماً حازماً حسن التدبير يرجع إلى دين وإسلام وخير، وله اليد البيضاء في جهاد التتار.
حكى شمس الدين الجزري في تاريخه عن أبيه قال: كان قطز في رق ابن الزعيم بدمشق في القصاعين، فضربه أستاذه فبكى ولم يأكل يومه شيئاً، ثم ركب أستاذه وأمر الفراش يترضاه ويطعمه، فحدثني الحاج علي الفراش قال: جئته فقلت له: ما هذا البكاء من ضربة؟ فقال: إنما بكائي من
__________
(1) ورد في الدمية وابن خلكان.
(2) النجوم الزاهرة 7: 72 والشذرات 5: 293 وعبر الذهبي 5: 247 وذيل مرآة الزمان 2: 28 - 36؛ ووردت الترجمة في ر.(3/201)
لعنته أبي وجدي وهما خير (1) منه، فقلت: ومن أبوك؟ واحد كافر، فقال: والله ما أنا إلا مسلم ابن مسلم، أنا محمود بن مودود ابن أخت خوارزم شاه، من أولاد الملوك؛ فترضيته. ولما تملك أحسن إلى الفراش وأعطاه خمسمائة دينار وعمل له راتباً.
وحكى الجزري أيضاً في تاريخه قال: حدثني أبو بكر بن الدريهم الإسعردي والزكي إبراهيم الجبيلي أستاذ الفارس أقطاي قال: كنا عند قطز لما تسلطن أستاذه المعز أيبك، وعنده منجم مغربي، فصرف أكثر مماليكه، فأردنا القيام فأمرنا بالقعود، ثم أمر المنجم فضرب الرمل وقال: اضرب لمن يملك بعد أستاذي ومن يكسر التتار؛ فضرب وبقي زماناً يحسب وقال: يا خوند يطلع معي خمس حروف بلا نقط، فقال: لم لا تقول محمود بن مودود؟ فقال؟ يا خوند لا يقع إلى هذا الاسم، فقال: " أنا " هو، وأنا أكسرهم وآخذ بثأر خالي خوارزم شاه، فقلنا: يا خوند إن شاء الله تعالى، فقال: اكتموا هذا، وأعطى المنجم ثلاثمائة درهم.
وكان مدبر دولة ابن أستاذه المنصور علي بن المعز أيبك، فلما دهم التتار الشام رأى أن الوقت يحتاج إلى سلطان مهيب، فعزل الصبي وتسلطن، وتم له ذلك في أواخر سنة سبع وخمسين، فلم يبلغ ريقه ولا تهنا بالسلطنة حتى امتلأ الشام تتار (2) ، فتجهز للجهاد وأخذ أهبة الغزو، والتف إليه عسكر الشام وبايعوه، فسار بالجيوش في أوائل رمضان وعمل المصاف مع التتار على عين جالوت، وعليهم كتبغا، فنصره الله عليهم وقتل مقدمهم.
وكان قطز شاباً أشقر كبير اللحية، ولما كسر التتار جهز بيبرس - أعني الظاهر - في أثر التتار ووعده بنيابة حلب، فساق وراءهم إلى أن طردهم عن الشام، ثم انثنى عزمه عن إعطائه حلب وولاها علاء الدين
__________
(1) ر: خيراً.
(2) كذا في ر.(3/202)
ابن صاحب الموصل، فتأثر الظاهر من ذلك، ودخل قطز دمشق وأحسن إلى الرعية فأحبوه حباً زايداً، ثم استناب على البلد علم الدين سنجر الحلبي، ورجع بعد شهر إلى القاهرة، فقتل بين الغرابي والصالحية، ودفن بالقصير، رحمه الله تعالى، سنة ثمان وخمسين وستمائة، تولى قتله الظاهر وأعانه جماعة من الأمراء، وبقي ملقى فدفنه بعض غلمانه، وصار قبره يقصد بالزيارة ويترحم عليه ويسب من قتله، فلما كثر ذلك بعث الظاهر من نبشه ونقله إلى مكان لا يعرف ودفنه، وعفى قبره وأثره، وكان قتله في سادس عشر القعدة من السنة.
399 - (1)
المنصور قلاوون
قلاوون السلطان المنصور سيف الدنيا والدين، أبو المعالي وأبو الفتوح الصالحي النجمي؛ اشتري بألف دينار ولهذا كان يقال له " الألفي "؛ كان من أحسن الناس صورة في صباه وأبهاهم، كان تام الشكل مهيباً مستدير اللحية، قد وخطه الشيب، على وجهه هيبة الملك وعليه سكينة ووقار؛ كان في إمرته إذا دخل دمشق ينزل في دار الزاهر، وعمل نيابة السلطنة للملك العادل سلامش ابن الظاهر عندما خلعوا السعيد وحلفوا لسلامش وهو ابن سبع سنين، وضربت السكة بوجهين: وجه عليه اسم سلامش ووجه عليه اسم قلاوون، وبقي هذا الحال مدة شهرين، وفي رجب سنة
__________
(1) النجوم الزاهرة 7: 292 والشذرات 5: 409 وعبر الذهبي 5: 363 والسلوك 1: 663 وكتاب تشريف الأيام والعصور لابن عبد الظاهر هو سيرته (تحقيق الدكتور مراد كامل، القاهرة) ؛ والترجمة في ر.(3/203)
ثمان وسبعين خلعوا العادل سلامش، وبايعوا الملك المنصور قلاوون، واستقل بالملك، وأمسك جماعة أمراء ظاهرية، واستعمل مماليكه على نيابة البلاد.
وكسر التتار سنة ثمانين، ونازل حصن المرقب (1) وفتحه سنة أربع وثمانين، وفتح طرابلس، وأنشأ بالقاهرة بين القصرين المدرسة العظيمة والبيمارستان العظيم الذي لم يكن مثله (2) ، وتوفي في سادس القعدة سنة تسع وثمانين وستمائة ظاهر القاهرة، وحمل إلى القلعة وملك بعده ولده الأشرف، فلما كان مستهل سنة تسع أنزل من القلعة في تابوته إلى تربته، وفرق الذهب على القراء، وكان ملكاً عظيماً لا يحب سفك الدماء، إلا أنه كان يحب جمع الأموال، وأبقى الله تعالى الملك في بيته من بنيه ومماليكه وبني بنيه إلى الآن، رحمه الله تعالى.
400 - (3)
قيس ابن ذريح
قيس بن ذريح - بالذال المعجمة - الكناني صاحب لبنى؛ قال صاحب " الأغاني ": كان رضيعاً للحسن بن علي عليهما السلام، مر بخيام بني كعب والحي خلوف فوقف على خيمة لبنى بنت الحباب، فاستسقى ماء فسقته،
__________
(1) كان حصن المرقب بساحل جبلة حينئذ للاسبتارية، وقد أخرجهم قلاوون من ذلك الحصن إلى طرابلس.
(2) قال المقريزي (السلوك 1: 716) وفيها (ي سنة 681) اشتريت الدار القطبية بين القصرين من القاهرة من خالص مال السلطان ... وقام الأمير علم الدين ستجر الشجاعي في عمارتها مارستاناً وقية ومدرسة باسم السلطان الملك المنصور قلاوون، فأظهر من الاهتمام في العمارة ما لم يسمع بمثله.
(3) الأغاني 9: 174 والمؤتلف: 120 والسمط: 710 والموشح: والنجوم الزاهرة 1: 182 والشعر والشعراء: 524 والزركشي: 248 وصفحات متفرقة من تزيين الأشواق؛ والترجمة في ر.(3/204)
وكانت امرأة مديدة القامة شهلاء حلوة المنظر والكلام، فلما رآها وقعت في نفسه فشرب الماء، فقالت: انزل فتبرد عندنا، قال: نعم، ونزل، فجاء أبوها فنحر له وأكرمه، وانصرف قيس وفي قلبه النار من لبنى، فجعل ينطق بالشعر فيها حتى شاع وروي، ثم أتاها يوم آخر وقد اشتد وجده بها، فظهرت له فشكا إليها ما يجده من حبها وشكت إليه مثل ذلك، وانصرف إلى أبيه يسأله زواجها فأبى عليه وقال: بنات عمك أحق بك، وكان ذريح كثير المال، فانصرف قيس وقد ساءه ما خاطبه به، فاستعان بأمه على أبيه فلم يجد عندها ما يحب، فأتى الحسن بن علي رضي الله عنهما وشكا إليه ما به، فقال: أنا أكفيك، ومشى معه إلى أبي لبنى، فلما رآه أعظمه، فقال له: قد جئتك خاطباً ابنتك لقيس بن ذريح، فقال: يا ابن بنت رسول الله ما كنا لنعصي لك أمراً، وما بنا عن الفتى رغبة، ولكن نحب أن يخطبها أبوه ذريح، فإنا نخاف إن لم يسمح أبوه أن يكون علينا عار وسبة، فأتى الحسن رضي الله عنه ذريحاً وقومه فأعظموه، فقال لذريح: أقسمت عليك إلا خطبت لبنى لقيس، فقال: السمع والطاعة، ثم قام في وجوه القوم وخطبها لابنه وزوجه إياها وزفت إليه، فأقام معها مدة لا ينكر أحد منهم من صاحبه شيئاً. وكان أبر الناس بأبيه، فألهاه عكوفه على لبنى عن ذلك، ووجدت أمه في نفسها فقالت لأبيه: لقد خشيت أن يموت قيس ولم يترك ولداً، وقد حرم الولد من هذه المرأة، وأنت ذو مال فيصير مالك إلى غير ولدك، فزوجه بغيرها لعل الله يرزقه ولداً، وألحت عليه، فأمهل قيس (1) حتى اجتمع قومه وقال له: يا قيس إنك اعتللت هذه العلة فخفت عليك ولا لي ولد سواك، وهذه المرأة ليست بولود فتزوج غيرها من بنات عمك لعل الله يهب لك ولداً تقر به أعيننا،
__________
(1) كذا في ر.(3/205)
فقال قيس: لا أتزوج غيرها أبداً، فقال أبوه: إن في مالي سعة فتسرى بالجواري، قال: ولا أسوؤها بشيء، فقال: أقسمت عليك إلا طلقتها، قال: الموت عندي والله أسهل من ذلك، ولكن أخيرك خصال، قال: ما هي؟ قال: تزوج أنت لعل الله يرزقك ولداً غيري، قال: ما في فضل لذلك، قال: فدعني أرحل عنك بأهلي واصنع ما أنت صانع لو مت في علتي هذه، قال: ولا هذه، قال: فأدع لبنى عندك وأرتحل عنك فلعلي أسلوها فإنها تطيب نفسي أنها في حبالي، قال: ولا هذه، ولا أرضى إلا أن تطلقها، ثم حلف أنه لا يكنه بيت ولا سقف إلا أن تطلق (1) لبنى، وكان يخرج فيقف في الشمس فيجيء قيس ويقف إلى جانبه ويظلل عليه بردائه ويصلى هو بحر الشمس حتى يفيء الفيء، فينصرف عنه فيدخل إلى لبنى فيعانقها ويبكي وتبكي معه وتقول له: يا قيس إياك أن تطيع أباك فتهلك وتهلكني، فيقول: ما كنت لأطيع فيك أحداً أبداً. فيقال إنه مكث كذلك سنة، وقيل بل أربعين يوماً، ثم طلقها، فلما بانت بطلاقها وفرغ من الكلام لم يلبث أن استطير عقله ولحقه مثل الجنون، وأسف وجعل يبكي وينشج، وبلغها الخبر فأرسلت إلى أبيها، فأقبل بهودج على ناقة وإبل تحمل أثاثها، فلما رأى قيس ذلك أقبل على جاريتها وقال: ويلك! ما دهاني فيكم؟ قالت: لا تسألني وسل لبنى، فذهب إلى لبنى ليسلم عليها فمنعه قومها، وأقبلت عليه امرأة من قومه وقالت له: مالك تسأل كأنك جهل أو تتجاهل؟ هذه لبنى ترحل الليلة أو غداً؛ فسقط مغشياً عليه لا يعقل، ثم أفاق وهو يقول:
وإني لمفن دمع عيني بالبكا ... حذار الذي قد كان أو هو كائن
وقالوا غداً أو بعد ذلك بليلة ... فراق حبيب لم يبن وهو بائن
وما كنت أخشى أن تكون منيتي ... بكفك إلا أن ما حان حائن
__________
(1) كذا في ر.(3/206)
ورحلت لبنى واشتد مرضه، فسأل أبوه فتيات الحي أن يعدنه ويتحدثن عنده ويعللنه، فأتينه وجلسن عنده، وجاءه طبيب يداويه فقال قيس:
عدن (1) قيساً من حب لبنى، ولبنى ... داء قيس، والحب داء شديد
فإذا عادني العوائد يوماً ... قالت العين: لا أرى (2) ما أريد
ليت لبنى تعودني ثم أقضي ... إنها لا تعود فيمن يعود
ويح قيس ماذا تضمن منها ... داء خبل والقلب منه عميد فقال الطبيب: مذ كم وجدت العلة بهذه المرأة؟ فقال:
تعلق روحي روحها قبل خلقنا ... ومن بعد ما كنا نطافاً وفي المهد
فزاد كما زدنا فأصبح نامياً ... وليس إذا متنا بمنفصم العهد
ولكنه باق على كل حادث ... وزائرنا في ظلمة القبر واللحد ومن شعره:
وفي عروة العذري أن مت أسوة ... وعمرو بن عجلان الذي قتلت هند
وبي مثل ما قد نابه، غير أنني ... إلى أجل لم يأتني وقته بعد
هل الحب إلا عبرة ثم زفرة ... وحر على الأحشاء ليس برد
وفيض دموع تستهل إذا بدا ... لنا علم من أرضكم لم يكن يبدو وشكا أبو لبنى قيساً إلى معاوية، وأعلمه بتعرضه لها بعد الطلاق، فكتب إلى مروان بن الحكم بهدر دمه، وأمر أباها أن يزوجها بخالد بن حلزة من بني غطفان، فلما علم قيس جزع جزعاً شديداً، وقال:
فإن يحجبوها أو يحل وصلها ... مقالة واش أو وعيد أمير
فلن يمنعوا عيني من دائم البكا ... ولن يذهبوا ما قد أجن ضميري
__________
(1) ر: عند.
(2) ر: الذي.(3/207)
وكنا جميعاً قبل أن يظهر النوى ... بأنعم حالي غبطة وسرور
فما برح الواشون حتى بدت لنا ... بطون النوى مقلوبة لظهور
لقد كنت حسب النفس لو دام وصلنا ... ولكنما الدنيا متاع غرور ولم يزل تارة يتوصل إلى زيارتها بالحيلة عليها، وتارة تزوره وهو نازل على قوم، إلى أن ماتت لبنى، فتزايد ولعه وجزعه وخرج في جماعة قومه حتى وقف على قبرها، وقال:
ماتت لبينى فموتها موتي ... هل تنفعن حسرة على الفوت
فسوف أبكي بكاء مكتئب ... قضى حياة وجداً على ميت ثم أكب على القبر يبكي حتى أغمي عليه، فرفعه أهله إلى منزله وهو لا يعقل؛ ولم يزل عليلاً لا يفيق ولا يجيب متكلماً حتى مات ودفن إلى جانبها، وكانت وفاتهما في حدود السبعين للهجرة، رحمهما الله.
401 - (1)
مجنون ليلى
قيس بن الملوح بن مزاحم بن قيس، هو مجنون بني عامر؛ قال صاحب " الأغاني ": لم يكن مجنوناً، ولكن كانت به لوثة مثل أبي حية النميري (2)
__________
(1) الشعر والشعراء: 467 والأغاني 2: 5 والخزانة 2: 169 والمؤتلف: 188 ومعجم المرزباني: 292 (معاذ بن كليب) 448 (مهدي بن الملوح) والسمط: 350، وديوانه بتحقيق الأستاذ عبد الستار فراج؛ وبعض هذه الترجمة في ر.
(2) اسمه الهيثم بن الربيع، شاعر إسلامي عاصر جريراً والفرزدق، انظر الشعر والشعراء: 658 والأغاني 16: 236 وطبقات ابن المعتز: 143 والخزانة 4: 283.(3/208)
وكان سبب عشقه لليلى أنه أقبل ذات يوم على ناقة له، وعليه حلتان من حلل الملوك، وكان من أجمل الفتيان، فمر بامرأة من قومه يقال لها كريمة وعندها جماعة من النسوان تحدثهن فيهن ليلى، فأعجبهن جماله فدعونه إلى النزول، فنزل وأمر عبداً كان معه فعقر لهن ناقته، وتحدثن بقية يومه معه، فبينما هم كذلك إذ طلع فتى من الحي يسمى منازل، فلما رأينه أقبلن عليه وتركن المجنون، فغضب وقام من عندهن وهو يقول (1) :
أأعقر من أجل الكريمة ناقتي ... ووصلي مقرون بوصل (2) منازل
إذا جاء قعقعن الحلي ولم أكن ... إذا جئت أرضى صوت تلك الخلاخل
متى ما انتضلنا بالسهام نضلته (3) ... وإن يرم رشقاً عندها فهو ناضلي ولما أصبح لبس حليته وركب ناقة أخرى ومضى متعرضاً لهن، فرأى ليلى قاعدة بفناء بيتها، وكان قد علق قلبه بحبها، وعندها جويريات يتحدثن معها، فوقف المجنون وسلم عليهن فدعونه إلى النزول وقلن له: هل لك في محادثة من لا يشغله عنك منازل ولا غيره؟ فقال: إيه لعمري، ونزل وعقر ناقته، فأرادت ليلى أن تعلم: هل لها عنده مثل ما له عندها، فجعلت تعرض عن حديثه ساعة بعد ساعة وتحدث غيره، وكان قد شغفته " بحبها واستملحته " (4) واستملحها، فبينما هي تحدثه إذ أقبل فتى من الحي، فدعته ليلى وساررته سراً ثم قالت له: انصرف، ونظرت إلى وجه المجنون وقد تغير وامتقع لونه فقالت:
كلانا مظهر للناس بغضاً ... وكل عند صاحبه مكين
__________
(1) ديوانه: 229.
(2) الديوان: مفروش لوصل.
(3) ر: فضلته.
(4) لم يرد في ر، وثبت في المطبوعة(3/209)
تبلغنا العيون بما أردنا ... وفي القلبين ثم هوى دفين فلما سمع البيتين شهق وأغمي عليه فنضحوا الماء على وجهه، فأفاق بعد ساعة وقد تمكن حب كل منهما من قلب الآخر، وانصرفا وقد أصاب المجنون لوثة ولم يزل في جنبات الحي منفرداً عارياً ولا يتكلم، إلا أن يذكروا له ليلى فيثوب إليه عقله.
فلما تولى الصدقات عليهم نوفل بن مساحق رأى المجنون يلعب بالتراب عرياناً، فسأل عنه فأخبروه بخبره وحكوا له ما هو فيه، فأراد أن يكلمه فقيل له: ما يكلمك إلا إن ذكرت له ليلى وحديثها، فأقبل عليه وذكرها له فثاب إليه عقله وأقبل يحدثه بحديثه وينشده شعره فيها، فرق له نوفل وقال له: أتحب أن أزوجكها؟ قال: نعم، وكيف لي بذلك؟ فدعا له بثياب فألبسه إياها، وراح معه كأصح ما يكون يحدثه وينشده، فبلغ ذلك رهط ليلى فتلقوه بالسلاح وقالوا: لا والله يا ابن مساحق، لا يدخل المجنون منازلنا وقد أهدر السلطان دمه، فأقبل بهم وأدبر فأبوا، فقال للمجنون: إن انصرافك (1) أهون من سفك الدماء، فانصرف وهو يقول (2) :
أيا ويح من أمس يخلس عقله ... فأصبح مذهوباً به كل مذهب
خلياً من الخلان إلا معذراً (3) ... يضاحكني من كان يهوى (4) تجنبي
إذا ذكرت ليلى عقلت وراجعت ... روائع عقلي من هوى متشعب
وقالوا صحيح ما به طيف جنة ... ولا الهم إلا بافتراء التكذب
تجنب ليلى أن يلج بك الهوى ... وهيهات كان الحب قبل التجنب
ألا إنما غادرت يا أم مالك ... صدى أينما تذهب به الريح يذهب
__________
(1) ر: اصرافك.
(2) الديوان: 78.
(3) الديوان: معذباً.
(4) ر: يلهو.(3/210)
ثم إن المجنون وأهله وعشيرته اجتمعوا إلى أبي ليلى ووعظوه وناشدوه الرحم وقالوا: إن هذا الرجل هالك، وقد حكمناك في المهر، فأبى وحلف بالطلاق أن لا يزوجها به أبداً وقال: يا قوم أفضح نفسي وعشيرتي!! فانصرفوا عنه، وزوجها رجل من قومه وبنى بها في تلك الليلة، فيئس المجنون وزال عقله جملة، فقالوا لأبيه: احجج به وادع الله له فلعل الله أن يخلصه، فحج به، فلما كان بمنى سمع صارخاً بالليل يصيح " يا ليلى " فصرخ صرخة كادت نفسه تزهق معها ووقع مغشياً عليه، ولم يزل كذلك حتى أصبح فأفاق وهو حائل اللون وجعل يقول (1) :
عرضت على قلبي العزاء فقال لي ... من الآن فايأس لا أعزك من صبر (2)
إذا بان من تهوى وأصبح نائباً ... فلا شيء أجدى من حلولك في القبر
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى ... فهيج أحزان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى طائراً كان في صدري
دعا باسم ليلى ضلل الله سعيه (3) ... وليلى بأرض عنه نازحة قفر قال العتبي: مر المجنون يوماً بزوج ليلى وهو جالس يصطلي في يوم بارد، فوقف عليه المجنون ثم أنشأ يقول (4) :
بربك هل ضممت إليك ليلى ... قبيل الصبح أو قبلت فاها؟
وهل رفت عليك قرون ليلى ... رفيف الأقحوانة في نداها؟ فقال: اللهم إذ حلفتني فنعم، فقبض المجنون بتلك يديه قبضتين من الجمر فسمع نشيش لحمه وسقط لحم كفيه مع الجمر ووقع مغشياً عليه
__________
(1) الديوان: 162 مع اختلاف في ترتيب الأبيات.
(2) الديوان: فاجزع لا تمل من الصبر.
(3) الديوان: أسخن الله عينه.
(4) الديوان: 286.(3/211)
وقام زوج ليلى متعجباً منه مغموماً عليه.
ومن شعر المجنون (1) :
أيا جبلي نعمان بالله خليا ... سبيل الصبا يخلص إلي نسيمها
أجد بردها أو تشف مني حرارة ... على كبد لم يبق إلا صميمها
فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت ... على نفس مهموم (2) تجلت همومها ومنه، وبه سمي المجنون (3) :
يقول أناس عل مجنون عامر ... يروم سلواً قلت إني لما بيا
وقد لامني في حب ليلى أقاربي ... أخي وابن عمي وابن خالي وخاليا
يقولون ليلى أهل بيت عداوة ... بنفسي ليلى من عدو وماليا
خليلي لا والله لا أملك البكا ... إذا علم من أرض ليلى بدا ليا
قضاها لغيري وابتلاني بحبها ... فهلا بشيء غير ليلى قضى ليا فسلب عقله.
ومن شعره (4) :
جرى السيل فاستبكاني السيل إذ جرى ... وفاضت له من مقلتي غروب
وما ذاك إلا حين أيقنت أنه ... يمر بواد أنت منه قريب
يكون أجاجاً دونكم فإذا انتهى ... إليكم تلقى نشركم فيطيب
أظل غريب الدار في أرض عامر ... ألا كل مهجور هناك غريب
وإن الكثيب الفرد من أيمن الحمى ... إلي وإن لم آته لحبيب
ولا خير في الدنيا إذ أنت لم تزر ... حبيباً ولم يطرب إليك حبيب
__________
(1) الديوان: 251.
(2) الديوان: محزون.
(3) الديوان: 306.
(4) الديوان: 52.(3/212)
وقال أيضاً (1) :
وأدنيتني حتى إذا ما ملكتني ... بقول يحل العصم سهل الأباطح
تناءيت عني حين لا لي حيلة ... وغادرت ما أوريت بين الجوانح وقال أيضاً (2) :
أمزمعة للبين ليلى ولم تمت ... كأنك عما قد أظلك غافل
ستعلم إن شطت بهم غربة النوى ... وزالوا بليلى أن لبك زائل وقال أيضاً (3) :
كأن القلب ليلة قيل يغدى ... بليلى العامرية أو يراح
قطاه عزها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح ولم يزل المجنون يهيم في كل واد ويتبع الظباء ويكتب ما يقوله على الرمل، ولا يأنس بالناس، حتى أصبح ميتاً في واد كثير الحجارة، وما دل عليه إلا رجل من بني مرة، فحضر أهله وغسلوه وكفنوه، واجتمع حي بني عامر يبكونه أحر بكاء، ولم ير أكثر باكياً وباكية من ذلك اليوم، وذلك في حدود الثمانين من الهجرة، رحمه الله تعالى وعفا عنه، آمين.
__________
(1) الديوان: 94.
(2) الديوان: 215.
(3) الديوان: 90.(3/213)
3341 -
المكتفي بالله
علي بن أحمد بن طلحة بن جعفر بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب؛ هو أمير المؤمنين المكتفي بالله ابن المعتضد ابن الموفق ابن المتوكل ابن المعتصم ابن الرشيد ابن المهدي ابن المنصور، الهاشمي العباسي، ولد سنة أربع وستين ومائتين، وتوفي سنة خمس وتسعين ومائتين.
كان معتدل القامة دري اللون أسود الشعر حسن الوجه؛ بويع له بالخلافة عند موت والده في جمادى الأولى سنة تسع وثمانين، وكانت أيامه ست سنين ونصف، ومات شاباً في ذي القعدة، وخلف مائة ألف ألف دينار عيناً، وأمتعة وعقاراً وأواني بمثلها، وثلاثة وستين ألف ثوب وكان يلقب " المترف " لنعمة جسمه وحسنه، وكان نقش خاتمه " اعتمادي على الذي خلقني ".
ومن شعره:
من لي بأن تعلم ما ألقى فتعرف الصبوة والعشقا
مازال لي عبداً وحبي له صيرني عبداً له حقا
أعتق من رقي ولكنني من حبه لا آمن العتقا
وله أيضاً: الزركشي: 231 والروحي: 59 وتاريخ الخلفاء: 405 والفخري: 232 وخلاصة الذهب المسبوك: 237 وراجع التواريخ العامة كالطبري والمسعودي وابن الأثير ... الخ؛ وقد وردت في ر.(3/214)
حَرفُ الكاف(3/215)
3341 -
المكتفي بالله
علي بن أحمد بن طلحة بن جعفر بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب؛ هو أمير المؤمنين المكتفي بالله ابن المعتضد ابن الموفق ابن المتوكل ابن المعتصم ابن الرشيد ابن المهدي ابن المنصور، الهاشمي العباسي، ولد سنة أربع وستين ومائتين، وتوفي سنة خمس وتسعين ومائتين.
كان معتدل القامة دري اللون أسود الشعر حسن الوجه؛ بويع له بالخلافة عند موت والده في جمادى الأولى سنة تسع وثمانين، وكانت أيامه ست سنين ونصف، ومات شاباً في ذي القعدة، وخلف مائة ألف ألف دينار عيناً، وأمتعة وعقاراً وأواني بمثلها، وثلاثة وستين ألف ثوب وكان يلقب " المترف " لنعمة جسمه وحسنه، وكان نقش خاتمه " اعتمادي على الذي خلقني ".
ومن شعره:
من لي بأن تعلم ما ألقى فتعرف الصبوة والعشقا
مازال لي عبداً وحبي له صيرني عبداً له حقا
أعتق من رقي ولكنني من حبه لا آمن العتقا
وله أيضاً: الزركشي: 231 والروحي: 59 وتاريخ الخلفاء: 405 والفخري: 232 وخلاصة الذهب المسبوك: 237 وراجع التواريخ العامة كالطبري والمسعودي وابن الأثير ... الخ؛ وقد وردت في ر.(3/216)
402 - (1)
" ظهير الدين البادرائي "
كامل بن الفتح بن ثابت، ظهير الدين الضرير البادرائي (2) الأديب؛ له شعر وترسل، كتب الصاحب كمال الدين ابن العديم عنه (3) ، وتوفي سنة ست وتسعين وخمسمائة، وكان مسكنه ببغداد بباب الأزج، وكان يدخل على الخليفة الناصر ويحاضره ويخلو معه، وعلمه علم الأوائل، وهون عليه الشرائع، والله أعلم.
وقال ياقوت: وكان متهماً في دينه؛ ومن شعره من قصيدة:
وفي الأوانس من بغداد آنسة ... لها من القلب ما تهوى وتختار
سألتها (4) نهلة من ريقها بدمي ... وليس إلا خفي الطرف سمسار
عند العذول اعتراضات ولائمة ... وعند قلبي جوابات وأعذار
__________
(1) انباه الرواة 3: 41 ومعجم الأدباء 17: 19 ونكت الهميات: 231 وبغية الوعاة: 382 والزركشي: 249.
(2) في المطبوعة: البارزي، وأثبت ما عند الزركشي، وقال القفطي وياقوت إنه من بادرايا، فالنسبة الصحيحة هي البادرائي.
(3) في المطبوعة: كتب الطلبة عنه، وما أثبته عن الزركشي.
(4) الزركشي: ساومتها.(3/217)
403 - (1)
" كتبغا المنصوري "
كتبغا الملك العادل، زين الدين المنصوري المغلي؛ كان أسمر قصيراً رقيق الصوت، له لحية صغيرة من الحنك، أسر حدثاً من عسكر هولاكو نوبة حمص الأولى في آخر سنة ثمان وخمسين وستمائة، وأمره أستاذه الملك المنصور، وكان من أمراء الألوف، ثم إنه عظم في دولة الأشرف، ولما قتل الأشرف التفت الخاصكية عليه، فحمل بهم على بيدرا وقتلوه، ولما تملك السلطان الملك الناصر جعل كتبغا نائبه، ولما تحول الناصر إلى الكرك تسلطن كتبغا ولقب بالعادل، ونهض بأمره لاجين وقراسنقر وطائفة كان قد اصطنعهم في نوبة الأشرف، وتمكن، وقدم دمشق وسار بالجيش إلى حمص ثم رد، ولما كان بأرض بيسان وثب حسام الدين لاجين وشد على بتخاص والأزرق (2) فقتلهما في الحال وكانا عضدي كتبغا، واختبط الجيش وفر كتبغا على فرس النوبة وتبعه أربعة من مماليكه، وساق كتبغا إلى دمشق فتلقاه نائبها مملوكه وفتح له أرجواس القلعة ودقت البشائر، ولم ينتظم له حال، واجتمع كجكن والأمراء وحلفوا لمن هو صاحب مصر وصرحوا لكتبغا في الحال فقال: أنا ما مني خلاف، وخرج من القلعة إلى قاعة صغيرة وبذل الطاعة، فرسم له أن يقيم بقلعة صرخد فأقام بها، وانطوى ذكره إلى بعد نوبة غازان، فأحسن الملك الناصر إليه وأعطاه حماة فمات بها
__________
(1) الدرر الكامنة 3: 348 وصفحات متفرقة من النجوم الزاهرة (ج؟: 8) والشذرات 6: 5 وذيل العبر: 22 والبداية والنهاية 14: 27 والسلوك 1: 806 - 947.
(2) هما من المماليك العادلية: بدر الدين بكتوت الأزرق العادلي وسيف الدين بتخاص العادلي.(3/218)
سنة اثنتين وسبعمائة.
وكان موصوفاً بالديانة والخير والرفق بالرعية، ونقل تابوته إلى تربته بسفح قاسيون بدمشق، وجرى في أيامه الغلاء العظيم بالديار المصرية، وكان يبكي ويقول: هذا بخطيئتي، وفيه يقول الوداعي لما تسلطن وخلع على أهل دمشق:
إنما العادل سلطان الورى ... عندما جاد بتشريف الجميع
مثل قطر صاب قطراً ماحلاً ... فكسا أعطافه زهر الربيع 404 (1)
العتابي
كلثوم بن عمرو العتابي الشاعر؛ أصله من الشام من أرض قنسرين، صحب البرامكة وصحب طاهر بن الحسين، وكان حسن الاعتذار في رسائله وشعره، وهو أديب مصنف له من الكتب " كتاب المنطق " و " كتاب الآداب " و " كتاب فنون الحكم " و " كتاب الخيل " و " كتاب الألفاظ ". وتوفي في حدود العشرين والمائتين.
وكان تزهد ومدح الرشيد والمأمون، وكان قد نقل إلى الرشيد عنه ما أهدر به دمه، فخلصه جعفر فقال فيه شعراً:
__________
(1) تاريخ بغداد 13: 488 وطبقات ابن المعتز: 261 والشعر والشعراء: 740 ومروج الذهب 4: 14 والأغاني 13: 107 والفهرست: 181 وكتاب بغداد: 69، 87 - 89 ومعجم المرزباني: 251 والوزراء والكتاب: 181 والموشح: 449 والبيان والتبيين 1: 51 ومعجم الأدباء 17: 26 واللباب 2: 118 وابن خلكان 4: 122 (وهو مما انفردت به إحدى النسخ وليس من شرط المؤلف) والزركشي: 249؛ وبقيت من هذه الترجمة في ر بقية يسيرة.(3/219)
ما زلت في غمرات الموت مطرحاً ... يضيق عني فسيح الرأي من حيلي
فلم تزل دائماً تسعى بلطفك لي ... حتى اختلست حياتي من يدي أجلي وكلم يحيى بن خالد في حاجة بكلمات قليلة فقال له يحيى: لقد نزر كلامك اليوم وقل، فقال: وكيف لا يقل وقد كفيتني ذل المسألة وحيرة الطلب وخوف الرد؟ فقال له يحيى: لئن قل كلامك لقد كثرت فوائده.
ومن شعره:
ولو كان يستغني عن الشكر حامد ... لعزة ملك أو علو مكان
لما أمر الله العباد بشكره ... وقال اشكروا لي أيها الثقلان ولما دخل على المأمون كان عنده إسحاق الموصلي، فسلم عليه فرد عليه وأدناه وقربه حين دخل عليه وقبل يده، وأقبل عليه يسأله عن حاله وهو يجيبه بلسان طلق، فاستظرفه المأمون وأقبل عليه بالمداعبة والمزاح، فظن أنه استخف به فقال له: يا أمير المؤمنين الإيناس قبل الإبساس، فاشتبه على المأمون، وأقبل على إسحاق مستفهماً، فأومأ إليه وغمزه على معناه حتى فهمه، فقال: يا غلام، ألف دينار، فأتي بذلك فدفعها إلى العتابي، ثم غمز المأمون إسحاق الموصلي عليه، فجعل العتابي لا يأخذ في شيء إلا عارضه، فبقي العتابي متعجباً، ثم قال: يا أمير المؤمنين أيذن لي في مسألة هذا الشيخ عن اسمه، فقال: نعم سله، فقال لإسحاق: يا شيخ من أنت؟ وما اسمك؟ فقال: أنا من الناس واسمي كل بصل، فتبسم العتابي، وقال: أما أنت فمعروف وأما الاسم فمنكر، فقال إسحاق: ما أقل إنصافك، أتنكر أن يكون اسمي كل بصل واسمك كل ثوم؟ وما كل ثوم من الأسماء؟ أليس البصل أطيب من الثوم؟ فقال العتابي: لله درك ما أحجك! أيأذن لي أمير المؤمنين أن أصله بما وصلني به؟ فقال: لا بل هو موفر عليك ونأمر له بمثله، فقال إسحاق: أما إذ أقررت فتوهمني أنت، فقال:(3/220)
ما أظنك إلا إسحاق الموصلي الذي يتناهى إلينا خبره، قال: أنا حيث ظننت، فأقبل عليه بالتحية والسلام، فقال المأمون وقد طال الحديث بينهما: أما إذ اتفقتما فانصرفا متنادمين، فانصرف العتابي إلى منزل إسحاق وأقام عنده.
وقال عمر الوراق: رأيت العتابي يأكل خبزاً على الطريق بباب الشام فقلت له: ويحك أما تستحي؟ فقال: أرأيت لو كنا في دار فيها بقر أكنت تحتشم أن تأكل وهو يراك؟ فقلت: لا، فقال: فاصبر حتى أعلمك أنهم بقر، ثم قام فوعظ وقص ودعا حتى كثر الزحام عليه، فقال لهم: روي لنا من غير وجه أنه من بلغ لسانه أرنبة أنفه لم يدخل النار، قال: فما بقي أحد منهم إلا أخرج لسانه نحو أرنبة أنفه ويقدره هل يبلغها أم لا، فلما تفرقوا قال العتابي: ألم أعلمك أنهم بقر؟
ودخل العتابي على عبد الله بن طاهر، فلما مثل بين يديه أنشده:
حسن ظني وحسن ما عود الل ... هـ بسؤلي (1) منك الغداة أتى بي
أي شيء يكون أحسن من حس ... ن يقين حدا إليك ركابي فأمر له بجائزة، ثم دخل عليه من الغد فأنشده:
ودك يكفينيك في حاجتي ... ورؤيتي كافية عن سؤال
وكيف أخشى " الفقر " ما عشت لي ... وإنما كفاك لي بيت مال؟ فأمر له بجائزة، ثم دخل عليه في اليوم الثالث فأنشده:
بهجات الثياب يخلقها الده ... ر وثوب الثناء غض جديد
فاكسني ما يبيد، أصلحك الل ... هـ فإني أكسوك ما لا يبيد " فأمر له بكسوة وجارية " (2) .
__________
(1) ر: سؤالي.
(2) زيادة من المطبوعة.(3/221)
3341 -
المكتفي بالله
علي بن أحمد بن طلحة بن جعفر بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب؛ هو أمير المؤمنين المكتفي بالله ابن المعتضد ابن الموفق ابن المتوكل ابن المعتصم ابن الرشيد ابن المهدي ابن المنصور، الهاشمي العباسي، ولد سنة أربع وستين ومائتين، وتوفي سنة خمس وتسعين ومائتين.
كان معتدل القامة دري اللون أسود الشعر حسن الوجه؛ بويع له بالخلافة عند موت والده في جمادى الأولى سنة تسع وثمانين، وكانت أيامه ست سنين ونصف، ومات شاباً في ذي القعدة، وخلف مائة ألف ألف دينار عيناً، وأمتعة وعقاراً وأواني بمثلها، وثلاثة وستين ألف ثوب وكان يلقب " المترف " لنعمة جسمه وحسنه، وكان نقش خاتمه " اعتمادي على الذي خلقني ".
ومن شعره:
من لي بأن تعلم ما ألقى فتعرف الصبوة والعشقا
مازال لي عبداً وحبي له صيرني عبداً له حقا
أعتق من رقي ولكنني من حبه لا آمن العتقا
وله أيضاً: الزركشي: 231 والروحي: 59 وتاريخ الخلفاء: 405 والفخري: 232 وخلاصة الذهب المسبوك: 237 وراجع التواريخ العامة كالطبري والمسعودي وابن الأثير ... الخ؛ وقد وردت في ر.(3/222)
حَرف اللام(3/223)
3341 -
المكتفي بالله
علي بن أحمد بن طلحة بن جعفر بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب؛ هو أمير المؤمنين المكتفي بالله ابن المعتضد ابن الموفق ابن المتوكل ابن المعتصم ابن الرشيد ابن المهدي ابن المنصور، الهاشمي العباسي، ولد سنة أربع وستين ومائتين، وتوفي سنة خمس وتسعين ومائتين.
كان معتدل القامة دري اللون أسود الشعر حسن الوجه؛ بويع له بالخلافة عند موت والده في جمادى الأولى سنة تسع وثمانين، وكانت أيامه ست سنين ونصف، ومات شاباً في ذي القعدة، وخلف مائة ألف ألف دينار عيناً، وأمتعة وعقاراً وأواني بمثلها، وثلاثة وستين ألف ثوب وكان يلقب " المترف " لنعمة جسمه وحسنه، وكان نقش خاتمه " اعتمادي على الذي خلقني ".
ومن شعره:
من لي بأن تعلم ما ألقى فتعرف الصبوة والعشقا
مازال لي عبداً وحبي له صيرني عبداً له حقا
أعتق من رقي ولكنني من حبه لا آمن العتقا
وله أيضاً: الزركشي: 231 والروحي: 59 وتاريخ الخلفاء: 405 والفخري: 232 وخلاصة الذهب المسبوك: 237 وراجع التواريخ العامة كالطبري والمسعودي وابن الأثير ... الخ؛ وقد وردت في ر.(3/224)
405 - (1)
أبو مخنف
لوط بن يحيى بن مخنف بن سليمان (2) الأزدي، أبو مخنف - بالميم والخاء المعجمة والنون والفاء - وجده مخنف من أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
توفي لوط سنة سبع وخمسين ومائة. وكان راوية أخبارياً صاحب تصانيف، وكان يروي عن جماعة من المجهولين؛ قال أبو حاتم: متروك الحديث، وقال الدراقطني: أخباري ضعيف.
ومن تصانيفه: " كتاب الردة ". " فتوح الشام ". " فتوح العراق ". " كتاب الجمل ". " كتاب صفين ". " كتاب النهروان ". " كتاب الغارات ". " كتاب الخريت بن راشد وبني ناجية ". " كتاب مقتل علي رضي الله عنه ". " كتاب مقتل حجر بن عدي وأصحابه ". " مقتل محمد بن أبي بكر والأشتر ومحمد بن أبي حذيفة ". " كتاب الشورى ". " " كتاب " مقتل عثمان رضي الله عنه ". " كتاب المسور بن علقمة ". " كتاب وفاة معاوية وولاية يزيد ووقعة الحرة ومقتل عبد الله بن الزبير ". " كتاب سليمان بن صرد وعين الوردة ". " كتاب مرج راهط ومقتل الضحاك بن قيس الفهري ". " كتاب مصعب بن الزبير والعراق ". " كتاب مقتل
__________
(1) الفهرست: 93 ومعجم الأدباء 17: 41 ورجال النجاشي: 245 ومجمع الرجال 5: 80 - 82؛ وهذه الترجمة في ر.
(2) كذا هو عند ياقوت؛ وفي المصادر الأخرى: سالم (أو سليم) .(3/225)
عبد الله بن الزبير ". كتاب حديث وادي الجماجم ومقتل عبد الرحمن ابن الأشعث ". " كتاب نجدة الحروري ". " كتاب الأزارقة ". " كتاب حديث روستقباذ ". " كتاب شبيب الحروري وصالح بن مسرح ". " كتاب المطرف بن المغيرة ". " كتاب يزيد بن المهلب ومقتله بالعقر ". " كتاب خالد القسري ويوسف بن عمر وموت هشام وولاية الوليد ". " كتاب زيد بن علي ويحيى بن زيد ". " كتاب الضحاك الخارجي ". " كتاب الخوارج والمهلب بن أبي صفرة "، وله غير ذلك من الفتوحات.
406 - (1)
ليلى الأخيلية
ليلى بنت عبد الله الأخيلية الشاعرة المشهورة؛ كانت من أشهر النساء لا يتقدم عليها إلا الخنساء، توفيت في عشر الثمانين للهجرة. وكان توبة بن الحمير يهواها - وقد نقدم ذكره (2) خطبها فأبى أبوها، فكان يزورها.
قال لها الحجاج: إن شبابك قد مضى واضمحل أمرك وأمر توبة، فأقسم عليك إلا صدقتيني، هل كانت بينكما ريبة قط أو خاطبك في ذلك؟ قالت: لا والله أيها الأمير، إلا أنه قد قال لي ليلة وقد خلونا كلمة ظننت أنه قد خضع فيها لبعض الأمر، فقلت له:
وذي حاجة قلنا له لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيل
__________
(1) الأغاني 11: 193 والسمط: 119، 281 والخزانة 3: 31 وأمالي القالي 1: 86 وأمالي الزحاجي: 50 وصفحات متفرقة من مصارع العشاق وزهر الآداب، وشرح شواهد المغني: 200 والشعراء والشعر: 359؛ وقد ورد جزء يسير من هذه الترجمة في ر.
(2) الترجمة رقم: 89.(3/226)
لنا صاحب لا نبغي أن نخونه ... وأنت لأخرى صاحب وخليل فلا والله ما سمعت بعدها منه ريبة حتى فرق بيننا، فقال لها الحجاج: فما كان منه بعد ذلك؟ قالت: وجه صاحباً له إلى حاضرنا وقال له: اعل شرفاً واهتف بهذا البيت بين أهله:
عفا الله عنها هل أبيتن ليلة ... من الدهر لا يسري إلي خيالها فلما فعل ذلك عرفت المعنى، فقلت:
وعنه عفا ربي وأحسن حفظه ... يعز علينا حاجة لا ينالها وعن محمد بن الحجاج بن يوسف قال: بينما الأمير جالس إذ استؤذن لليلى، فأذن لها فدخلت امرأة طويلة دعجاء العين حسنة المشية حسنة الثغر، فسلمت عليه، فرحب بها الحجاج وقال لها: ما وراءك؟ ضع لها وسادة يا غلام، فجلست، فقال لها: ما أقدمك إلينا؟ فقالت: السلام على الأمير والقضاء لحقه والتعرض لمعروفه، فقال: كيف خلفت قومك؟ قالت: في حال خصب وأمن ودعة؛ أما الخصب ففي الأموال والكلأ، وأما الأمن فقد أمنهم الله عز وجل، وأما الدعة فقد خامرهم من خوفك ما أصلح بينهم، ثم قالت: ألا أنشدك أيها الأمير؟ قال: إن شئت، فقالت:
أحجاج لا يفلل سلاحك إنما ال ... منايا بكف الله حيث يراها
إذا هبط الحجاج أرضاً مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة سقاها
سقاها دماء المارقين وعلها ... إذا جمحت يوماً وخيف أذاها
أعد لها مصقولة فارسية ... بأيدي رجال يحلبون صراها
أحجاج لا تعط العداة مناهم ... أبى الله يعطي للعداة مناها
ولا كل خلاف تقلد بيعة ... بأعظم عهد الله ثم شراها(3/227)
فأمر وكيله أن يعطيها خمسمائة درهم ويكسوها خمسة أثواب كسا خز.
وفي خبر آخر أنها وفدت عليه فقال لها: أنشديني بعض شعر في توبة، فأنشدته:
لعمرك ما بالموت عار على الفتى ... إذا لم تصبه في الحياة المعاير
وما أحد حي وإن عاش سالماً ... بأخلد ممن غيبته المقابر
ولا الحي مما أحدث الدهر معتب ... ولا الميت أن لم يصبر الحي ناشر
وكل جديد أو شباب إلى بلى ... وكل امرئ يوماً إلى الله صائر
قتيل بني عوف فيا لهفتا له ... وما كنت إياهم عليه أحاذر
ولكنني أخشى عليه قبيلة ... لها بدروب الشام باد وحاضر فقال الحجاج لحاجبه: اذهب فاقطع عني لسانها، فدعا بالحجام ليقطع لسانها، فقالت: ويحك! إنما قال الأمير: اقطع لسانها بالعطاء والصلة، فارجع إليه فاستأذنه، فرجع إليه فاستأذنه فاستشاط غيظاً، وهم بقطع لسانه، ثم أمر بها فأدخلت عليه، فقالت: كاد وعهد الله يقطع أيها الأمير مقولي، وأنشدته:
حجاج أنت الذي ما فوقه أحد ... إلا الخليفة والمستعظم الصمد
حجاج أنت شهاب الحرب إذ نهجت ... وأنت للناس نور في الدجى يقد(3/228)
حَرف المِيم(3/229)
3341 -
المكتفي بالله
علي بن أحمد بن طلحة بن جعفر بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب؛ هو أمير المؤمنين المكتفي بالله ابن المعتضد ابن الموفق ابن المتوكل ابن المعتصم ابن الرشيد ابن المهدي ابن المنصور، الهاشمي العباسي، ولد سنة أربع وستين ومائتين، وتوفي سنة خمس وتسعين ومائتين.
كان معتدل القامة دري اللون أسود الشعر حسن الوجه؛ بويع له بالخلافة عند موت والده في جمادى الأولى سنة تسع وثمانين، وكانت أيامه ست سنين ونصف، ومات شاباً في ذي القعدة، وخلف مائة ألف ألف دينار عيناً، وأمتعة وعقاراً وأواني بمثلها، وثلاثة وستين ألف ثوب وكان يلقب " المترف " لنعمة جسمه وحسنه، وكان نقش خاتمه " اعتمادي على الذي خلقني ".
ومن شعره:
من لي بأن تعلم ما ألقى فتعرف الصبوة والعشقا
مازال لي عبداً وحبي له صيرني عبداً له حقا
أعتق من رقي ولكنني من حبه لا آمن العتقا
وله أيضاً: الزركشي: 231 والروحي: 59 وتاريخ الخلفاء: 405 والفخري: 232 وخلاصة الذهب المسبوك: 237 وراجع التواريخ العامة كالطبري والمسعودي وابن الأثير ... الخ؛ وقد وردت في ر.(3/230)
407 - (1)
" صاحب الرحبة "
مالك بن طوق التغلبي صاحب الرحبة؛ أحد الأشراف والفرسان الأجواد، ولي إمرة دمشق للمتوكل، كان ينادي على باب داره بالخضراء - وكانت دار الإمارة - بعد المغرب: الإفطار يرحمكم الله، قال: والأبواب مفتوحة يدخلها الناس؛ توفي سنة تسع وخمسين ومائتين.
وهو الذي بنى الرحبة التي على الفرات وإليه تنسب، وسبب ذلك أن هارون الرشيد ركب على حراقة مع ندمائه في الفرات ومعهم مالك بن طوق، فلما اقترب من الدواليب قال: يا أمير المؤمنين لو خرجت إلى الشط لنجوز هذه الدواليب، قال: أحبك تخاف هذه؟ قال: الله يكفي أمير المؤمنين كل محظور، قال الرشيد: قد تطيرت بقولك، ثم صعد إلى الشط، فلما بلغت الحراقة إلى الدواليب دارت دورة ثم انقلبت بما فيها، فتعجب الرشيد من ذلك وسجد شكراً لله تعالى وتصدق بأموال كثيرة، وقال لمالك: وجبت لك علينا حاجة فسل ما تحب، قال: يعطيني أمير المؤمنين هنا أرضاً أبنيها فتنسب إلي، قال: قد فعلنا وساعدناك بالأموال والرجال، فلما عمرها واستوثقت أموره فيها وتحول الناس فيها أنفذ إليه الخليفة يطلب منه مالاً، فتعلل ودافع ومانع وتحصن وجمع الجيوش، وطالت الوقائع بينه وبين عسكر الرشيد، إلى أن ظفر به صاحب الرشيد وحمله مكبلاً، فمكث في السجن عشرة أيام، ثم أمر بإحضاره في جمع
__________
(1) معجم البلدان (رحبة مالك بن طوق) ودول الإسلام 1: 123 والنجوم الزاهرة 3: 20 والشريشي 1: 145.(3/231)
من الرؤساء وأرباب الدولة، فقبل الأرض ولم ينطلق، فعجب الرشيد من صمته وغاظه ذلك وأمر بضرب عنقه، وبسط النطع وجرد السيف وقدم مالك، فقال الوزير: يا مالك تكلم فإن أمير المؤمنين يسمع كلامك، فرفع رأسه وقال: يا أمير المؤمنين أخرست عن الكلام دهشة، وقد أدهشت عن السلام والتحية، فأما إذ إذن أمير المؤمنين فإني أقول: السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، الحمد لله الذي خلق الإنسان من سلالة من طين، يا أمير المؤمنين جبر الله بك صدع الدين، ولم بك شعث الأمة، وأخمد بك شهاب الباطل، وأوضح بك سبيل الحق، إن الذنوب تخرس الألسنة الفصيحة وتصدع الأفئدة، وايم الله لقد عظمت الجريمة وانقطعت الحجة، ولم يبق إلا عفوك أو انتقامك، ثم أنشأ يقول بعد ما التفت يميناً وشمالاً:
أرى الموت بين النطع والسيف كامناً ... يلاحظني من حيث ما أتلفت
وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي ... وأي امرئ مما قضى الله يفلت؟
يعز على الأوس بن تغلب وقفة ... يهز علي السيف فيها وأسكت
وأي امرئ يد لي بعذر وحجة ... وسيف المنايا بين عينيه مصلت
وما بي من خوف أموت وإنني ... لأعلم أن الموت شيء مؤقت
ولكن خوفي صبية قد تركتهم ... وأكبادهم من حسرة تتفتت
كأني أراهم حين أنعى إليهم ... وقد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا
فإن عشت عاشوا آمنين بغبطة ... أذود الردى عنهم، وإن مت موتوا
فكم قائل لا يبعد الله داره ... وآخر جذلان يسر ويشمت قال: فبكى هارون الرشيد وقال: لقد سكت على همة، وتكلمت على حلم وحكمة، وقد عفوت لك عن الصبوة ووهبتك للصبية؛ فارجع إلى ولدك ولا تعاود، فقال: سمعاً وطاعة، وانصرف.(3/232)
408 - (1)
" مالك بن نويرة "
مالك بن نويرة بن حمزة بن شداد، أبو المغوار اليربوعي أخو متمم؛ كان يلقب بالجفول لكثرة شعره. قتل في الردة؛ قال صاحب " الأغاني " (2) : كان أبو بكر رضي الله عنه لما جهز خالد بن الوليد لقتال أهل الردة قد أوصاهم أنهم إذا سمعوا الأذان في الحي وإقامة الصلاة نزلوا عليهم، فإن أجابوا إلى أداء الزكاة وإلا الغارة، فجاءت السرية حي مالك، وكان في السرية أبو قتادة الأنصاري، وكان ممن شهد أنهم أذنوا وأقاموا وصلوا، فقبض عليهم خالد وكانت ليلة باردة، فأمر خالد منادياً ينادي " ادفئوا أسراكم " وكان لغة كنانة إذا قالوا " ادفئوا الرجل " يعنون اقتلوه، فقتل ضرار بن الأزور مالكاً، وسمع خالد الواعية فخرج وقد فرغوا منهم، فقال: إذا أراد الله أمراً أصابه، فقال أبو قتادة: هذا عملك، فزبره خالد، فغضب ومضى حتى أتى أبا بكر، فغضب عليه أبو بكر حتى كلمه فيه عمر، فلم يرضى إلا أن يرجع إلى خالد ويقيم معه، فرجع إليه ولم يزل معه حتى قدم خالد المدينة، وكان خالد قد تزوج بزوجة مالك، فقال عمر: إن في سيف خالد رهقاً وحق عليه أن تقيده، وأكثر عليه في ذلك، وكان أبو بكر
__________
(1) أخباره في المصادر التاريخية التي تتحدث عن أحداث الردة؛ وانظر الشعر والشعراء: 254 وصفحات متفرقة من شرح النقائض وأسماء المغتالين: 244 والمحبر: 126 وطبقات ابن سلام: 170 وخزانة الأدب 1: 236 وسرح العيون: 86 وابن خلكان 6: 13 (في ترجمة وثيمة بن الفرات) ، وراجع مالك ومتمم ابنا نويرة تأليف ابتسام مرهون الصفار وفيه شعرهما مجموعاً (بغداد: 1968) ؛ وقد بقي بعض هذه الترجمة في ر.
(2) الأغاني 15: 239 - 249 وانظر: 241 والنقل عن الأغاني بتصرف.(3/233)
لا يقيد عماله فقال: يا عمر إن خالداً تأول فأخطأ فارفع لسانك عنه، ثم كتب إلى خالد أن يقدم عليه، فقدم وأخبره بخبره فقبل عذره، وعنفه بالتزويج، وقيل إن خالداً كان يهوى امرأة مالك في الجاهلية، وكان خالد يعتذر في قتله فيقول: إنه قال لي وهو يراجعني: ما إخال صاحبكم إلا قد كان يقول كذا وكذا، فقال خالد، أو ما تعده صاحبك؟ ثم قدمه فضرب عنقه.
ومما يؤيد خالد وأن (1) مالكاً مات مرتداً أن متمماً لما أنشد عمر مراثيه في مالك قال له عمر: والله لوددت أني أحسن الشعر فأرثي أخي زيداً بمثل ما رثيت أخاك، فقال متمم: لو أن أخي مات على ما مات عليه أخوك ما رثيته، فقال عمر رضي الله عنه ما عزاني أحد عن أخي بأحسن مما عزاني به متمم.
وقال الرياشي: صلى متمم بن نويرة مع أبي بكر رضي الله عنه الصبح ثم أنشده:
نعم القتل إذا الرياح تناوحت ... تحت الإزار قتلت يا ابن الأزور الأبيات ...
ثم بكى حتى سالت عينه العوراء ثم انخرط على سية قوسه مغشياً عليه.
وقيل لمتتم: ما بلغ من وجدك على أخيك؟ فقال: أصبت بإحدى عيني فما قطرت منها قطرة عشرين سنة، فلما قتل أخي استهلت فما ترقأ.
ويقال في المثل: فتى ولا كمالك، ومرعى ولا كالسعدان، يعنون به مالكاً هذا.
وقيل لمتمم: صف لنا مالكاً فقال: كان يركب الجمل الثفال في الليلة القرة يرتمي لأهله بين المزادتين عليه الشملة الفلوات، يقود الفرس الحرون، ثم يصبح ضاحكاً.
__________
(1) ر: خالد أن.(3/234)
ومن شعر متتم في مالك:
نعم القتيل إذا الرياح تناوحت ... فوق العضاة قتلت يا ابن الأزور
أدعوته بالله ثم غدرته ... بل لو دعاك بذمة لم يغدر
لا يلبس الفحشاء تحت ثيابه ... صعب مقادته عفيف المئزر
فلنعم حشو الدرع كنت وحاسراً ... ولنعم مأوى الطارق المتنور وقال يرثيه من أبيات:
وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
وعشنا بخير في الحياة وقبلنا ... أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
فإن تكن الأيام فرقن بيننا ... فقد بان محموداً أخي يوم ودعا
أقول وقد طار السنا في ربابه ... وجون يسح الماء حتى تربعا
سقى الله أرضاً حلها قبر مالك ... ذهاب الغوادي المدجنات فأمرعا
تحيته مني وإن كان نائياً ... وأمسى تراباً فوقه الأرض بلقعا وقال:
وقالوا أتبكي كل قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللوى والدكادك
لقد لامني عند القبور على البكا ... رفيقي لتذراف الدموع السوافك
فقلت لهم إن الشجا يبعث الشجا ... دعوني فهذا كله قبر مالك وقال عمر رضي الله عنه لمتمم: أكان مالك يحبك مثل محبتك إياه؟ فقال: أين أنا من مالك؟ والله يا أمير المؤمنين لقد أسرني حي من العرب فشدوني وثاقاً وألقوني بفنائهم، فبلغه خبري فأقبل علي على راحلته حتى انتهى إلى القوم وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إلي أعرض عني وقصد إلى القوم، فعرفت ما أراد، فوقف عليهم فسلم وحادثهم وضاحكهم(3/235)
فوالله ما زال حتى ملأهم سروراً، وأحضروا غداءهم فسألوه النزول يتغدى معهم ففعل، ثم نظر إلي وقال: ليقبح بنا أن نأكل ورجل ملقى بين أيدينا لا يأكل معنا، وأمسك عن الطعام، فقاموا القوم إلي وصبوا الماء على قدي حتى لان وحلوني، ثم جاءوا بي وأجلسوني معهم على الغداء، فلما أكلنا قال لهم: ما ترون تحرم هذا بنا وأكله معنا، وإنه لقبيح بكم أن تردوه إلى القيد، فخلوا سبيلي وأطلقوني بغير فداء؛ وكان مقتل مالك في حدود سنة " اثنتي عشرة " (1) .
409 - (2)
مجاهد الخياط
مجاهد بن سليمان بن مرهف بن أبي الفتح المصري التميمي الأديب، المعروف بالخياط، ويعرف بابن " أبي " (3) الربيع؛ كان من كبار أدباء العوام، لكنه قرأ النحو وفهم، وكان قد سلطه الله تعالى على أبي الحسين الجزار شاعر الديار المصرية؛ وتوفي مجاهد سنة اثنتين وسبعين وستمائة (4) :
ومن شعره (5) :
أب الحسين تأدب ... ما الفخر بالشعر فخر
__________
(1) بياض في ر.
(2) البدر السافر: 62 والزركشي: 249 والنجوم الزاهرة 7: 242 وذكر محقق النجوم أن له ترجمة في ذيل مرآة الزمان وعيون التواريخ والمنهل الصافي وانظر المغرب (قسم مصر) 1: 293 حيث سماه ((مجاهد طناش الخياط)) وسيذكر المؤلف في ترجمة الجزار بعض أهاجي الخياط فيه؛ وهذه الترجمة في ر.
(3) زيادة من البدر السافر.
(4) في يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من جمادى الآخرة بالقرافة ودفن بها.
(5) زاد الزركشي: في الجزار.(3/236)
ما تبللت منه ... بقطرة وهو بحر
وإن أتيت بيت ... وما لبيتك قدر
ولم تأت بالبيت إلا ... عليه للناس حكر وكان ناصر الدين ابن النقيب قد وعده بإردب قمح، فجهز له ويبتين وتأخر له أربعة (1) ، فكتب إلى ابن النقيب:
ما ماجداً بالقمح قد جاد لي ... ماذا الذي ألجاك أن تمنعه
وقد شكا لي نقصه فرقة ال ... باقي عسى مولاي أن يجمعه
أأبعث الثنتين من حاصلي ... إليك أو تبعث لي الأربعة فكتب إليه ابن النقيب الجواب:
تا الله ما أخرتها مانعاً ... لها ولا في ذاك من مطمعه
وإنما أخرتها خيفة ... من كفك المتلفة المضيعة
وما عسى مقدارها عندكم ... والألف مع مثلك مستودعة
وإنها أجود ما يقتنى ... وإنك الميشوم بالأربعه ومن شعره:
أعد يا برق ذكر أهيل نجد ... فإن لك اليد البيضاء عندي
أشيمك بارقاً فيضل (2) عقلي ... فواعجباً تضل وأنت تهدي
ويبكيك السحاب وأنت ممن ... تحمل بعض أشواقي ووعدي
بعثت مع النسيم لهم سلاماً ... فما عطفوا علي له برد وقال:
وظبي تظلمت من خده ... لقلبي عليه حقوق ودم
أخذت القصاص بتعضيضه ... ولم يجر بعد عليه القلم
__________
(1) كذا في ر.
(2) ر: فيظل؛ وهو صواب عند الزركشي.(3/237)
410 - (1)
ابن مواهب البغدادي
محمد بن محمد بن مواهب، أبو العز ابن الخراساني الشاعر البغدادي صاحب العروض ومصنف النوادر، المنسوب إلى حدة الخاطر؛ قرأ الأدب على الجواليقي، وله ديوان شعر في خمسة عشر مجلداً.
قال العماد الكاتب: ومدح الخلفاء والوزراء، وله مصنفات أدبية، وتغير ذهنه آخر عمره، وتوفي سنة ست وسبعين وخمسمائة، وله اثنتان (2) وثمانون سنة، وأورد له ابن النجار ما يكتب على كمران (3) :
أنا محسود من النا ... س على أمر عجيب
أنا ما بين قضيب ... يتثنى وكثيب وقال:
أنا راض منكم بأيسر شيء ... يرتضيه لعاشق معشوق
بسلام على الطريق إذا ما ... جمعتنا بالاتفاق الطريق وقال:
إن شئت أن لا تعد غمرا ... فخل زيدا معاً وعمرا
واستغن بالله في أمور ... ما زلن طول الزمان امرا
__________
(1) الوفي 1: 150 والزركشي: 250 ومعجم الأدباء 19: 46 والشذرات 5: 257 وبغية الوعاة: 101؛ وقد وردت هذه الترجمة في ر ما عدا البيتين الأخيرين؛ وعند هذا الحد تنتهي التراجم التي وردت في النسخة المذكورة.
(2) ر: اثنان.
(3) الكسران: المنطقة أو الحزام.(3/238)
ولا تخالف مدى الليالي ... لله حتى الممات أمرا
واقنع بما راج من طعام ... والبس إذا ما عريت طمرا 411 (1)
القاضي نجم الدين الطبري
محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله، القاضي نجم الدين ابن جمال الدين الطبري؛ كان فقيهاً جيداً فيه كرم وحسن أخلاق، وله نظم منه:
أشبيه البدر التمام إذا بدا ... حسناً وليس البدر من أشباهك
مأسور حبك إن يكن متشفعاً ... فإليك بالحسن (2) البديع بجاهك
وأساه قد (3) أعيا الأساة دواؤه ... وشفاه يحصل بارتشاف شفاهك
فصليه واغتنمي بقاء حياته ... لا تقطعيه جفاً بحق إلهك قال تاج الدين اليمني: توفي نجم الدين الطبري سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة (4) ، ومولده سنة ثمان وخمسين وستمائة، رحمه الله تعالى.
__________
(1) الوافي 1: 228 والزركشي: 250 والدرر الكامنة 4: 210 والشذرات 6: 94 والعقد الثمين 2: 271 وذيل العبر: 165.
(2) الوافي: في الحسن.
(3) الوافي: أشفى أسى.
(4) عند الذهبي أنه توفي سنة 730.(3/239)
412 - (1)
الوأواء الدمشقي
محمد بن أحمد - وقيل هو ابن محمد - أبو الفرج الوأواء الغساني الدمشقي؛ شاعر مطبوع منسجم العبارة حسن جيد التشبيه، بنى الحريري مقامة (2) على قوله:
وأمرت لؤلؤاً من نرجس وسقت ... ورداً وعضت على العناب بالبرد ومن شعره (3) :
وليل كفكري في صدود معذبي ... وإلا كأنفاسي عليه من الوجد
وإلا كعمر الهجر فيه لأنه ... إذا قسته بالوصل كان بلا حد وقال أيضاً (4) :
اسقياني ذبيحة الماء في الكأ ... س وكفا عن شرب ما تسقياني
إنني قد أمنت بالأمس إذ م ... ت بها أن أموت موتاً ثاني
قهوة تطرد الهموم إذا ما ... سكنت في (5) مواطن الأحزان
نثرت راحة المزاج عليها ... حدقاً ما تدور في الأجفان
فهي تجري من اللطافة في الأر ... واح مجرى الأرواح في الأبدان
__________
(1) اليتيمة 1: 272 والوافي 2: 52 والزركشي: 250 والمحمدون: 54 وانظر مقدمة ديوانه؛ وقد نشر ديوانه بتحقيق الدكتور سامي الدهان (دمشق 1950) .
(2) هي المقامة الثانية.
(3) ديوانه: 87.
(4) الديوان: 241.
(5) الديوان: مكنت من.(3/240)
يتهادى بكأسها من هدايا ... هـ إلينا طرائف الأشجان
ما رأينا ورداً كورد بخدي ... هـ بدا طالعاً على غصن بان
زارني والصباح في ساعد الأف ... ق كبحر (1) في نصفه نصف جان
وغدا والهلال في شرك الفج ... ر شريكي في قبضة الارتهان
ويمين الجوزاء تبسط باعاً ... لعناق الدجى بغير بنان
وكأن الإكليل (2) إذ رمي الغر ... ب به شعله من النيران
وكأن النجوم أحداق روم ... ركبت في محاجر السودان
رشأ تشره النفوس إلى ما ... في ثناياه من رحيق اللسان
لا وما احمر من تورد خدي ... هـ وما اصفر من شموس الدنان
لأطيل (3) السجود في قبلة الكأ ... س بتسبيح ألسن العيدان
كم صلاة على فتى مات سكراً ... قد أقيمت فينا بغير أذان
أيها الرائح الذي راحتاه ... بخضاب الكؤوس مخضوبتان
عج بضحك الأقداح في رهج القص ... ف إذا ما بكت عليها القناني
واسقني القهوة التي تنبت الور ... د إذا شئت في خدود الغواني
لا تدغدغ صدر المدام بأيدي ال ... مزج ما دغدغت صدور المثاني
كتبتها أيدي السحاب بأقلا ... م دموع على طروس المغاني
ألفات مؤلفات ولاما ... ت تكون من ضمير المعاني
في رياض تريك بالليل منها ... سرجاً من شقائق النعمان انظر إلى ما في هذه القصيدة من جودة التشبيه وصحته ولطف الاستعارات ورشاقة ألفاظها؛ ومن شعره (4) :
__________
(1) الوافي: كنحر.
(2) الديوان: المريخ، وكذلك في الوافي.
(3) الوافي: لأطلت؛ الديوان: سأطيل.
(4) الديوان: 203.(3/241)
وجلا الثريا في ملا ... ءة نوره البدر التمام
فكأنها كأس ليش ... ربها (1) الدجى والبدر جام
وكأن زرق نجومها ... حدق مفتحة نيام وقال أيضاً (2) :
سقياً ليوم غدا الغمام به ... والشمس مشرقة والبرق خلاس
كأنه قوس رام والبروق له ... رشق السهام وعين الشمس برجاس وقال أيضاً (3) :
والبدر أول ما بدا متلثماً ... يبدي الضياء لنا بخد مسفر
وكأنما هو خوذة من فضة ... قد ركبت في هامة من عنبر وله أيضاً (4) :
لست أنسى قلبي وقد راح نهباً ... بين بين مبرح وصدود
وسماء العيون إذ ذاك تسقي ... بسحاب الدموع (5) روض الخدود وقال، وهو لطيف عذب (6) :
بالله ربكما عوجا على سكني ... وعاتباه لعل العتب يعطفه
وعرضاه بي وقولا في حديثكما ... ما بال عبدك بالهجران تتلفه؟
فإن تبسم قولا في ملاطفة ... ما ضر بوصال منك تسعفه؟
وإن بدا لكما في وجهه غضب ... فغالطاه وقولا ليس نعرفه
__________
(1) الديوان: يدير بها.
(2) الديوان: 131.
(3) الديوان: 108.
(4) الديوان: 82.
(5) الديوان: الجفون.
(6) الديوان: 146.(3/242)
وقال آخر في المعنى (1) :
ألا يا نسيم الريح بلغ رسالتي ... سليمى وعرض بي كأنك مازح
فإن أعرضت عني فموه مغالطاً ... بغيري وقل ناحت بذاك النوائح أخذه القائل فنظمه ذوبيت:
باللطف إذا لقيت من أهواه ... عاتبه وقل له الذي ألقاه
إن أغضبه الوصال غالطه به ... أو رق فقل عبدك لا تنساه وقال الآخر موالياً:
بحرمة العهد إن جزت النقا يا سعد ... أبصرت ذاك المحيا والأثيث الجعد
عرض بذكري وغالطها وقل يا دعد ... إذ لم تجودي بوصلك فاسمحي بالوعد وقال الشيخ صلاح الدين الصفدي من أبيات:
ويا رسولي إليهم صف لهم أرقي ... وأن طرفي لطيف الضيف مرتقب
واسأل مواهبهم للعين بعض كرى ... لعل أن يهبوا لي بعض ما نهبوا
ولطف القول لا تسأم مراجعة ... عند الهوى والنوى قد ينجح الطلب
عرض بذكري فإن قالوا أتعرفه ... فاسأل لي الوصل وانكرني إذا غضبوا ومن قول الوأواء الدمشقي في سيف الدولة (2) :
من قاس جدواك بالغمام فما ... أنصف في الحكم بين اثنين
أنت إذا جدت ضاحك أبداً ... وهو إذا جاد دامع (3) العين وقال أيضاً (4) :
أيا ملزمي ذنب الدموع وقد جرت ... فأبدت من الأسرار كل مصون
__________
(1) وردت هي وما بعدها من قطع في الوافي.
(2) الديوان: 222.
(3) الديوان: 236.
(4) المطبوعة: باكي.(3/243)
أعني على تأديب دمعي فإنه ... يتوب إذا ما كنت أنت معيني وقال أيضاً وهو لطيف جداً (1) :
إذا اشتد ما ألقى جلست حذاءه ... ونار الهوى قد أضرمت بين أوصالي
أقبل من فيه نسيم كلامه ... إذا مر بي صفحاً بأفواه آمالي وقال أيضاً (2) :
يا من بزرقة سيف اللحظ طل دمي ... والسيف ما فخره إلى بزرقته
علمت إنسان عيني أن يعوم فقد ... جادت سباحته في ماء مقلته (3) وقال أيضاً (4) :
ولما وقفنا ساعة البين لم نطق (5) ... كلاماً تناجينا بكسر الحواجب
نناجي بإضمار الهوى ظاهر الهوى ... بأطيب من نجوى الأماني الكواذب وقال أيضاً (6) :
رعى الله من لم يرع لي حق صحبتي ... وإن كان في كف المنية مودعي
فيا أسفي زدني عليه تأسفاً ... ويا كبدي وجداً عليه تقطعي
وإني لمشتاق إلى من أحبه ... فلا معه شوقي ولا صبره معي وقال أيضاً (7) :
تنفست الغداة وقد تولت ... ركائبهم معارضة طريقي
__________
(1) الديوان: 183.
(2) الديوان: 65.
(3) الديوان: دمغته.
(4) الديوان: 25.
(5) المطبوعة: ننادي.
(6) الديوان: 142.
(7) الديوان: 162 مع اختلاف في الرواية.(3/244)
تنادت بالحريق فظلت أبكي ... فنادت بالحريق وبالغريق وقال في جرب معشوقه من أبيات (1) :
دب في كفيه ما من ... حبه دب مقلتي
فهو يشكو حر حب ... واشتكائي حر حب وكانت وفاة الوأواء في عشر التسعين والثلاثمائة تقريباً، رحمه الله تعالى.
413 - (2)
محيي الدين ابن سراقة
محمد بن محمد بن إبراهيم بن الحسين بن سراقة، محيي الدين الأنصاري الأندلسي الشاطبي؛ ولد في رجب سنة اثنتين وتسعين (3) وخمسمائة بشاطبة، وتوفي سنة اثنتين وستمائة بالقاهرة، ودفن بسفح المقطم.
سمع الكثير، وولي مشيخة دار الحديث البهائية بحلب، ثم قدم إلى الديار المصرية ولي مشيخة دار الحديث الكاملية بالقاهرة إلى حين وفاته، وكان أحد الأئمة المشهورين بغزارة الفضل وكثرة العلم والجلالة " والنبل "، وأحد المشايخ المعروفين بطريق القوم، وله في ذلك إشارات لطيفة، مع ما جبل عليه من مكارم الأخلاق واطراح التكليف ورقة الطبع ولين الجانب، وله شعر منه:
إلى كم أمني النفس ما لا تناله فيذهب عمري والأماني لا تقضى
__________
(1) الديوان: 57.
(2) الوافي 1: 208 (وكنيته أبو بكر) والزركشي: 251 وابن الشعار 7: 78 والنجوم الزاهرة 6: 216 والشذرات 5: 310 ونفح الطيب 2: 63 وذيل الروضتين: 230.
(3) المطبوعة: وسبعين.(3/245)
وقد مر لي خمس وعشرون حجة ... ولم أرض فيها عيشي فمتى أرضى
وأعلم أني والثلاثون مدتي ... وخير مغاني اللهو أوسعها ركضا
فماذا عسى في هذه الخمس أرتجي ... ووجدي (1) إلى أوبٍ من العشر قد أفضى وقال أيضاً:
وصاحب كالزلال يمحو ... صفاؤه الشك باليقين
لم يحص إلا الجميل مني ... كأنه كاتب اليمين وهذا عكس قول المنازي:
وصاحب خلته خليلاً ... وما جرى غدره ببالي
لم يحص إلا القبيح مني ... كأنه كاتب الشمال وكان محيي الدين من أبناء القضاة، حفظ القرآن العظيم وتفقه على مذهب مالك، رحمه الله.
414 - (2)
نصير الدين الطوسي
محمد بن محمد بن الحسن، نصير الدين الطوسي الفيلسوف صاحب علم الرياضي؛ كان رأساً في علم الأوائل، لا سيما في الأرصاد والمجسطي فإنه فاق الكبار، قرأ على المعين سالم بن بدران المعتزلي الرافضي وغيره،
__________
(1) الوافي: ووحدي.
(2) الوافي 1: 179 وأمل الآمل 2: 299 وروضات الجنات: 578 وعبر الذهبي 6: 300 والشذرات 5: 339 والبداية والنهاية 13: 267 وابن الوردي 2: 223 وتراث العرب العلمي: 356 - 364 وصفحات متفرقة من علم الفلك لنلينو.(3/246)
وكان ذا حرمة وافرة ومنزلة عالية عند هولاكو، وكان يطيعه فيما يشير به عليه، والأموال في تصريفه، وابتنى بمراغة قبة ورصداً عظيماً، واتخذ في ذلك خزانة عظيمة فسيحة الأرجاء وملأها من الكتب التي نهبت من بغداد والشام والجزيرة حتى تجمع فيها زيادة على أربعمائة ألف مجلد، وقرر بالرصد المنجمين والفلاسفة، وجعل له الأوقاف (1) ، وكان حسن الصورة سمحاً كريماً جواداً حليماً حسن العشرة غزير الفضل.
حكي أنه لما أراد العمل للرصد رأى هولاكو ما يغرم عليه، فقال له: هذا العلم المتعلق بالنجوم ما فايدته؟ أيدفع ما قدر أن يكون؟ فقال: أنا أضرب لك مثلاً: يأمر القان من يطلع إلى هذا المكان، ويرمي من أعلاه طشت نحاس كبير من غير أن يعلم به أحد، ففعل ذلك، فلما وقع كانت له وقعة عظيمة هائلة روعت كل من هناك، وكاد بعضهم يصعق، وأما هو وهولاكو فإنهما ما حصل لهما شيء لعلمهما بأن ذلك يقع، فقال له: هذا العلم النجومي له هذه الفائدة، يعلم المتحدث فيه ما يحدث فلا يحصل له من الروعة ما يحصل للذاهل الغافل عنه، فقال له: لا بأس بهذا، وأمره بالشروع فيه، أو كما قيل.
ومن دهائه ما حكي أنه حصل لهولاكو غضب من علاء الدين الجويني (2) - صاحب الديوان - فأمر بقتله، فجاء أخوه إلى النصير وذكر له ذلك، فقال النصير: هذا القان إن أمر بأمر لا يمكن رده، خصوصاً إذا برز إلى الخارج، فقال له: لا بد من الحيلة في ذلك، فتوجه إلى هولاكو وبيده عكاز وسبحة ثم اصطرلاب، وخلفه من يحمل مبخرة وبخوراً وناراً، فرآه خاصة هولاكو الذين على باب المخيم، فلما وصل أخذ يزيد في البخور ويرفع الاصطرلاب ناظراً فيه ويضعه، فلما رأوه يفعل ذلك دخلوا على
__________
(1) الوافي: وجعل لهم الجامكية.
(2) مرت ترجمته رقم: 327.(3/247)
هولاكو وأعلموه، ثم خرجوا إليه فقال لهم: القان أين هو؟ قالوا له: جوا، قال: طيب معافى موجود في صحة؟ قالوا: نعم، فسجد شكراً لله تعالى، ثم قال لهم: طيب في نفسه؟ قالوا: نعم، وكرر ذلك مراراً وقال: أريد أرى وجهه بعيني، فدخلوا فأعلموه، وكان في وقت لا يجتمع " فيه " به أحد، فقال: علي به، فلما دخل ورآه سجد وأطال السجود، فقال له: ما خبرك؟ قال: اقتضى الطالع في هذا الوقت أن يكون على القان أمر فظيع (1) عظيم إلى الغاية، فقمت وعملت هذا وبخرت بهذا البخور ودعوت بأدعية أعرفها أسأل الله تعالى صرف ذلك عن القان، وينبغي الآن أن القان يكتب إلى سائر ممالكه بإطلاق من في الاعتقال والعفو عمن له جناية لعل الله عز وجل يصرف هذا الحادث العظيم، ولو لم أر وجه القان ما صدقت، فأمر في تلك الساعة هولاكو بما قال، وانطلق علاء الدين صاحب الديوان في جملة الناس، ولم يذكره النصير الطوسي، وهذا غاية في الدهاء بلغ به مقصده ودفع عن الناس أذاهم.
ومما وقف له عليه أن ورقة حضرت إليه من شخص من جملة ما فيها: يا كلب " يا " ابن الكلب، فكان الجواب: أما قوله يا كذا فليس بصحيح؛ لأن الكلب من ذوات الأربع، وهو نابح طويل الأظفار، وأما أنا فمنتصب القامة بادي البشرة عريض الأظفار ناطق ضاحك، فهذه الفصول والخواص غير تلك الفصول والخواص، وأطال في نقض كل ما قاله، هكذا رد عليه بحسن طوية (2) وتأن غير منزعج، ولم يقل في الجواب كلمة قبيحة.
ومن تصانيفه: " كتاب المتوسطات بين الهندسة والهيئة " وهو جيد
__________
(1) في أصل الوافي: ((قطع)) وهو من مصطلحات المنجمين؛ وغيره المحقق إلى ((فظع)) وهو خطأ؛ ولعل ما كان في أصل الفوات: أمر قطع عظيم.
(2) الوافي: برطوبة.(3/248)
إلى الغاية، و " مقدمة في الهيئة " واختصر " المحصل " للإمام فخر الدين وهذبه وزاد فيه، وشرح " الإرشادات " ورد على الإمام فخر الدين في شرحه، وقال: هذا جرح وما هو شرح وقال فيه: إني حررته في عشرين سنة، وناقض فخر الدين كثيراً، ومن تصانيفه " التجريد في المنطق " و " أوصاف الأشراف " و " قواعد العقائد " و " التخليص (1) في علم الكلام " و " العروض " بالفارسية، و " شرح الثمرة (2) " لبطليموس، و " كتاب المجسطي " و " جامع الحساب في التخت والتراب " و " الكرة والاسطرلاب " و " المغطيات " و " الظاهرات " و " المناظ (3) ر " و " الليل والنهار " و " الكرة المتحركة " و " الطلوع والغروب " و " " تسطيح الكرة " " و " " المطالع " و " تربيع الدائرة " و " المخروطات " و " الشكل المعروف بالقطاع " و " الجواهر " و " الاسطوانة " و " الفرائض على مذهب أهل البيت " و " تعديل المعيار في نقض (4) تنزيل الأفكار " و " بقاء النفس بعد بوار البدن " و " الجبر والمقابلة " و " إثبات العقل الفعال " و " شرح مسألة العلم " و " رسالة الإمامة " و " رسالة إلى نجم الدين الكاشي (5) في إثبات واجب الوجود " و " الحواشي على كليات القانون " و " الزيج الإيلخاني " و " رسالة ثلاثون فصلاً في معرفة التقويم " و " كتاب أكر مانالاوس " و " أكر ثاوذوسيوس (6) " وله شعر كثير بالفارسية.
وقال شمس الدين ابن المؤيد العرضي: أحذ النصير العلم عن كمال الدين ابن يونس الموصلي ومعين الدين سالم بن بدران المصري المعتزلي، وكان
__________
(1) الوافي: التلخيص.
(2) في المطبوعة: الهمزة، والتصويب عن الوافي.
(3) في المطبوعة: والمناظرات والمساطير.
(4) المطبوعة: بعض؛ الوافي: نقد.
(5) الوافي: الكاتبي.
(6) في المطبوعة: والثريا(3/249)
منجماً " لأبغا " (1) بعد أبيه، وكان يعمل الوزارة لهولاكو من غير أن يدخل يده في الأموال، واحتوى على عقله حتى إنه لا يركب ولا يسافر إلا في وقت يأمره به، ودخل عليه مرة ومعه كتاب مصور في عمل الدرياق الفاروق، فقرأه عليه وعظمه عنده وذكر منافعه وقال: إن كمال منفعته أن تسحق مفرداته في هاون ذهب، فأمر له بثلاثة آلاف دينار لعمل هاون، وولاه هولاكو جميع الأوقاف في سائر بلاده، وكان له في كل بلد نائب يستغل الأوقاف ويأخذ عشرها ويحمل إليه ليصرفه في جامكيات المقيمين بالرصد ولما يحتاج إليه من الأعمال بسبب الأرصاد، وكان للمسلمين به نفع خصوصاً الشيعة والعلويين والحكماء وغيرهم، وكان يبرهم ويقضي أشغالهم ويحمي أوقافهم، وكان مع هذا كله فيه تواضع وحسن ملتقى.
قال شمس الدين الجزري، قال حسن بن أحمد الحكيم صاحبنا: سافرت إلى مراغة وتفرجت في الرصد ومتوليه علي بن الخواجا نصير الدين الطوسي، وكان شاباً فاضلاً في التنجيم والشعر بالفارسية، وصادفت شمس الدين " ابن " المؤيد العرضي وشمس الدين الشرواني والشيخ كمال الدين الأيكي وحسام الدين الشامي، فرأيت فيه من آلات (2) الرصد شيئاً كثيراً، منها ذات الحلق وهي خمس دوائر متخذة من نحاس: الأولى دائرة نصف النهار، وهي مركوزة في الأرض، ودائرة معدل النهار، ودائرة منطقة البروج، ودائرة العرض، ودائرة الميل، ورأيت الدائرة الشمسية التي يعرف بها سمت الكواكب، وأخبرني شمس الدين العرضي أن نصير الدين أخذ من هولاكو بسبب عمارة هذا الرصد ما لا يحصيه إلا الله تعالى (3) خارجاً عن الجوامك والرواتب التي للحكماء والقومة.
__________
(1) زيادة من الوافي.
(2) المطبوعة: آيات.
(3) في الوافي بعده: وأقل ما كان يأخذ بعد فراغ الرصد لأجل الآلات وإصلاحها عشرون ألف دينار.(3/250)
وقال نصير الدين في الزيج الإيلخاني: أنني جمعت لبناء الرصد جماعة من الحكماء: منهم المؤيد العرضي من دمشق، والفخر المراغي " الذي " (1) كان بالموصل، والفخر الخلاطي الذي كان بتفليس، ونجم الدين القزويني، وقد ابتدأنا في بنائه في سنة سبع وخمسين وستمائة بمراغة، والأرصاد التي بنيت قبل وعليها كان الاعتماد دون غيرها هو رصد برجس (2) ، وله مذ بني ألف وأربعمائة سنة، وبعده رصد بطليموس، وبعده في ملة الإسلام رصد المأمون ببغداد، وله أربعمائة سنة وثلاثون سنة، والرصد البناني (3) في حدود الشام، والرصد الحاكمي بمصر، ورصد بني (4) الأعلم ببغداد وله مائتان وخمسون سنة، وقال الأستاذون: إن أرصاد الكواكب " السبعة " (5) لا تتم في أقل من ثلاثين سنة، لأن فيها يتم دوران هذه السبعة، فقال هولاكو: اجهد في أن رصد هذه السبعة يتم في اثنتي عشرة سنة، قلت: أجتهد (6) في ذلك.
وكان النصير قد قدم من مراغة إلى بغداد ومعه كثير من تلامذته وأصحابه، فأقام بها مدة أشهر ومات، وخلف من الأولاد صدر الدين علي والأصيل حسن والفخر أحمد، وولي صدر الدين بعد أبيه غالب مناصبه، فلما مات ولي بعده الأصيل حسن، وقدم الشام مع غازان، وحكم في أوقاف الشام تلك الأيام وأخذ منها جملة، ورجع مع غازان، وولي نيابة بغداد فأساء السيرة، فعزل وصودر وأهين، فمات غير حميد، وأما الفخر أحمد فقتله غازان لكونه أكل أوقاف الروم وظلم.
__________
(1) زيادة من الوافي.
(2) في المطبوعة: ابن جبس.
(3) المطبوعة: البيساني.
(4) الوافي: ابن.
(5) زيادة من الوافي.
(6) الوافي: أجهد.(3/251)
ومولد النصير بطوس سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وتوفي في ذي الحجة سنة اثنتين وسبعين وستمائة ببغداد، وشيعه صاحب الديوان والكبار، وكانت جنازته حفلة، ودفن في مشهد الكاظم، رحمه الله تعالى آمين.
415 - (1)
مؤيد الدين ابن العلقمي
محمد بن محمد بن علي، أبو طالب الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي البغدادي الرافضي، وزير المستعصم؛ ولي الوزارة أربع عشرة سنة فأظهر الرفض قليلاً، وكان وزيراً كافياً خبيراً بتدبير الملك، ولم يزل ناصحاً لأصحابه وأستاذه حتى وقع بينه وبين الدوادار لأنه كان متغالياً (2) في السنة، وعضده ابن الخليفة، فحصل عنده من الضغن ما أوجب سعيه في دمار الإسلام وخراب بغداد على ما هو مشهور؛ لأنه ضعف جانبه وقويت شوكة الدوادار بحاشية الخليفة حتى قال في شعره من ذلك:
وزير رضي (3) من بأسه وانتقامه ... بطي رقاع حشوها النظم والنثر
كما تسجع الورقاء وهي حمامة ... وليس لها نهي يطاع ولا أمر وأخذ يكاتب التتار إلى أن جر هولاكو وجرأه على أخذ بغداد، وقرر
__________
(1) الوافي 1: 184 والحوادث الجامعة 196، 340 (وصفحات أخرى) وعبر الذهبي 5: 225 والفخري: 299 والشذرات 5: 272 والبداية والنهاية 13: 212 وتاريخ الخميس 2: 377 ومرآة الجنان 4: 147 والنجوم الزاهرة 7: 20 وأورده مؤلف الأعلام تحت اسم ((محمد بن أحمد)) وذكر مصادر أخرى لترجمته.
(2) الوافي: يتغالى.
(3) في المطبوعة: له، ولا تلائم سياق المعنى، إذ هو يسخر من أنه ((رضي بطي رقاع ... )) .(3/252)
مع هولاكو أموراً انعكست عليه، وندم حيث لا ينفعه الندم، وكان كثيراً ما يقول بعد ذلك:
وجرى القضاء بعكس ما أملته
لأنه عومل بأنواع الهوان من أراذل التتار والمرتدة؛ حكي أنه كان جالساً بالديوان، فدخل عليه بعض التتار ممن ليس له وجاهة راكباً فرسه، فسار (1) إلى أن وقف بفرسه على بساط الوزير وخاطبه بما أراد، وبال الفرس على البساط وأصاب الرشاش ثياب الوزير، وهو صابر لهذا الهوان يظهر قوة النفس وأنه بلغ مراده.
وقال له بعض أهل بغداد: يا مولانا أنت فعلت هذا جميعه حمية، وحميت الشيعة، وقد قتل من الأشراف الفاطميين خلق لا تحصى، وارتكبت الفواحش مع نسائهم، فقال: بعد أن قتل الدوادار ومن كان على رأيه لا مبالاة بذلك. ولم تطل مدته حتى مات غماً وغيظاً في أوائل سنة سبع وخمسين وستمائة.
بعث إليه المستعصم شدة أقلام، فكتب إليه: قبل الملوك الأرض شكراً للإنعام عليه بأقلام قلمت أظافر الحدثان، وقامت له في حرب الزمان، مقام عوالى المران، وأجنته ثمار الأوطار من أغصانها، وحازت له قصبات المفاخر بيوم (2) رهانها، فيا لله كم عقد زمام في عقدها، وكم بحر سعادة أصبح جارياً من مدادها ومددها، وكم منآد (3) خط استقام بمثقفاتها، وكم صوارم فل مضاربها مطرر (4) مرهفاتها.
__________
(1) الوافي: فساق.
(2) الوافي: يوم.
(3) في المطبوعة: سنان؛ وأثبت ما في أصل الوافي.
(4) الوافي: بمطرور.(3/253)
لم يبق لي أمل إلا وقد بلغت ... نفسي أقاصيه براً بي وإنعاما
لأفتحن بها والله يقدر لي ... مصانعاً (1) أعجزت من قبل بهراما
تعطي الأقاليم من لم يبد مسألة ... له فلا عجب إن تعط أقلاما وكان قد طالع المستعصم في شخص من أمراء الجبل يعرف بابن شرف شاه وقال في آخر كلامه " وهو مدبر " فوقع المستعصم له:
ولا تساعد أبداً مدبراً ... وكن مع الله على المدبر فكتب ابن العلقمي أبياتاً في الجواب منها:
يا مالكاً أرجو بحبي له ... نيل المنى والفوز في المحشر
أرشدتني لا زلت لي مرشداً ... وهادياً من رأيك الأنور
أبنت لي بيت هدى (2) قلته ... عن شرف من بيتك الأطهر
فضلك فضل ما له منكر ... ليس لضوء الشمس من منكر
أن يجمع العالم في واحد ... ليس على الله بمستنكر اشتغل بالحلة على عميد الرؤساء أيوب، وعاد إلى بغداد وأقام عند خاله عضد الدين أبي نصر المبارك ابن الضحاك، وكان أستاذ الدار.
ولما قبض على مؤيد الدين القمي - وكان أستاذ الدار - فوضت (3) الأستاذ دارية إلى شمس الدين ابن الناقد، ثم عزل وفوضت الأستاذ دارية إلى ابن العلقمي، فلما توفي المستنصر بالله وولي الخليفة المستعصم وتوفي ابن الناقد وزر ابن العلقمي، وكان قد سمع الحديث واشتغل على أبي البقاء العكبري.
وحكي أنه لما كان يكاتب التتار تحيل إلى أن أخذ رجلاً وحلق رأسه
__________
(1) الوافي: مصاعباً.
(2) المطبوعة: بيتاً متى.
(3) المطبوعة: فرضت، وهو خطأ.(3/254)
حلقاً بليغاً وكتب ما أراد عليه بالإبر (1) ، ونفض عليه الكحل وتركه عنده إلى أن طلع شعره وغطى ما كتب، فجهزه وقال: إذا وصلت مرهم بحلق رأسك ودعهم يقرأون ما فيه، وكان آخر الكلام " اقطعوا الورقة " فضربت عنقه، وهذا غاية في المكر والخزي.
416 - (2)
تاج الدين ابن حنا
محمد بن محمد بن علي بن محمد بن سليم المصري، الصاحب تاج الدين ابن الصاحب فخر الدين ابن الوزير بهاء الدين ابن حنا؛ ولد سنة أربعين وستمائة، وتوفي سنة سبع وسبعمائة، وسمع من سبط السلفي ومن الشرف المرسي، وبدمشق من ابن عبد الدايم وابن أبي اليسر، وانتهت إليه رياسة عصره بمصره، وكان ذا تصون وسؤدد ومكارم أخلاق وشكل حسن وبزة فاخرة إلى الغاية، يتناهى (3) في المطاعم والملابس والمساكن، ومع ذلك صدقاته كثيرة وتواضعه وافر، ومحبته في الفقراء والصلحاء زائدة، وهو الذي اشترى الآثار النبوية - على ما قيل - بستين ألف درهم وجعلها في مكانه بالمعشوق، وهو المكان المنسوب إليه بالديار المصرية، وهي قطعة من العنزة (4) ومرود ومخصف وملقط من فضة، ورأى من العز والرياسة
__________
(1) الوافي: بوخز الإبر.
(2) الوافي 1: 217 والنجوم الزاهرة 8: 228 والدرر الكامنة 4: 322 وفي البدر السافر: 157 ترجمة لمحمد بن محمد بن علي بن محمد بن سليم ولقبه فخر الدين أنه ابن الصاحب بهاء الدين ومولده ووفاته كالذي ذكره هنا. ويبدو أن في البدر خطأ.
(3) المطبوعة: يتباهى.
(4) العنزة: العصا.(3/255)
والوجاهة ومن السيادة ما لا رآه جده الصاحب بهاء الدين.
حكى الشيخ شهاب الدين محمود رحمه الله تعالى أن الصاحب فخر الدين " ابن " (1) الخليلي لما لبس خلعة (2) الوزارة توجه من القلعة بالخلعة إلى دار الصاحب تاج الدين، وجلس بين يديه وقبل يده، فأراد أن يجبره ويعظم قدره، فالتفت إلى بعض غلمانه وطلب منه توقيعاً يختص بذلك الشخص، فأخذه وناوله لابن الخليلي وقال: مولانا يعلم على هذا التوقيع، فأخذه وقبله ووضعه على رأسه وكتب عليه قدامه؛ وكان فتح الدين ابن سيد الناس إذا حكى هذه الحكاية يقول: وهذه الحركة من الصاحب تاج الدين بمنزلة الإجازة والإمضاء لوزارة ابن الخليلي.
ومن أحسن حركة اعتمدها ما حكاه الشيخ صلاح الدين الصفدي حرسه الله تعالى في تاريخه، قال: حكى لي القاضي شهاب الدين ابن فضل الله رحمه الله تعالى قال: اجتزت بتربته، فرأيت إلى جانبها (3) مكتباً للأيتام وهم يكتبون القرآن في ألواحهم، فإذا أرادا مسحها غسلوا الألواح وسكبوا ذلك على قبره، فسألت عن ذلك فقيل لي: هذا شرط الواقف (4) ، وهذا قصد حسن وعقيدة صحيحة.
وكان الصاحب بهاء الدين يؤثره على أولاده لصلبه ويعظمه، وكتب له عليه حجة بمبلغ ستين مثقال (5) مصرية؛ ومن وجاهته وعظمه في النفوس أنه لما نكب على يد الشجاعي جرده من ثيابه وضربه مقرعة واحدة فوق قميصه، ولم يدعه الناس يصل إلى أكثر من ذلك، مع جبروت
__________
(1) زيادة من الوافي.
(2) الوافي: تشريف.
(3) الوافي: في داخلها.
(4) الوافي: هكذا شرط في هذا الوقف.
(5) الوافي: دينار.(3/256)
الشجاعي وعتوه وتمكنه من السلطان.
وكان له شعر حسن، فمن ذلك ما كتبه إلى الشراج الوراق في حمار سقط
في بئر فمات:
يفديك جحشك إذ مضى متردياً ... وبتالد يفدى الأديب وطارف
عدم الشعير فلم يجده ولا رأى ... تبناً وراح من الظما كالتالف
ورأى البويرة غير خاف ماؤها ... فرمى حشاشة نفسه لمخاوف
فهو الشهيد لكم بوافر فضلكم ... هذي المكارم لا حمامة خاطف (1)
قوم يموت حمارهم عطشاً لقد ... أزروا بحاتم في الزمان السالف وأجابه الوراق بقصيدة على وزنها في غاية الحسن، أولها:
أدنت ثمار قطوفها (2) للقاطف ... وثنت بأنفاس النسيم معاطفي ومنها في ذكر الحمار:
ولكم بكيت عليه عند مرابع ... ومراتع رشت بدمعي الذارف
يمشي على عسري ويسري صابراً ... بمعازف (3) تلهيه دون معالف
وقد استمر على القناعة يقتدي ... بي وهي في ذا الوقت جل وظائفي
ودعاه للبئر الصدى فأجابه ... واعتاقه صرف الحمام الآزف
وهو المدل بألفة طالت وما ... أنسي حقوق مرابعي ومآلفي
ومواقفي في كل ما حاولته ... في الدهر غير مواقفي ومخالفي
دوران ساقية لطاحون ونق ... ل الماء في شات ويوم صائف
__________
(1) قال الصفدي: قوله لاحمامة خاطف، أشار إلى أبيات ابن عنين التي مدح بها الإمام فخر الدين الرازي، وقد جاءت حمامة فدخلت حجره هرباً من جارح كان خلفها؛ قلت: وذلك في قول ابن عنين:
(2) الوافي: قطوف ثمارها.
(3) الوافي: بمعارف.(3/257)
لكن بماء البئر راح بنقله ... قتلته شا مات (1) بموت جارف وبعث الصاحب تاج الدين إلى السراج، وقد ولد له ولد، صلة وثلثاً حريرياً، وكتب مع ذلك أبياتاً خمسة أولها:
بعثت بها وبالثلث الرفيع ... فأجابه الوراق بأبيات أولها:
سرت من جانب العز الرفيع ... إلي بطيب أنفاس الربيع
مصرعة كأني اليوم منها ... ولجت على حبيب والصريع
دعونا الخمسة الأبيات ستاً ... لسبع علقت فوق الجميع
فدينا من هباتك مذهبات ... كأن بحوكها (2) قطع الربيع
تزيد بلمس كفك حسن وشي ... كحسن الروض بالغيث المريع (3)
بها أحييت للنفساء نفساً ... ولي معها وللطفل الرضيع
وقد سمنت كيسي بعد ضعف ... به التقت الضلوع مع الضلوع وحكي أنه أضاف جده يوماً ووسع في الضيافة، فلما عاد جده إلى بيته أخذ الناس يتعجبون من همته وكرم نفسه؛ فقال الصاحب بهاء الدين: ليس ما ذكرتموه بعجيب، لأنه نفسه " كريمة ومكنته " (4) متسعة، والعجيب العجيب كونه طول هذا النهار وما أحضره من المشروب والمأكول من الطعام والفاكهة والحلوى وغير ذلك على اختلاف الأنواع ما قام من مكانه، ولا دعا خادماً " فأسر إليه " ولا أشار إليه بيده ولا طرفه. وقيل إن الناس تعجبوا على كثرتهم من شربهم الماء المبرد في كيزان عامة نهارهم، فسئل عن ذلك فيما بعد
__________
(1) المطبوعة: شومات؛ والمراد، شاه مات، حسب ما يقال في لعب الشطرنج.
(2) الوافي: محوكها.
(3) الوافي: الهموع.
(4) زيادة من الوافي.(3/258)
فقال: اشترينا خمسمائة كوز، وبعثنا إلى الجيران قليلاً قليلاً بردوا ذلك في الباذهنجات (1) التي لهم. ولا شك أنه كان عالي الهمة ممجداً مسوداً.
واعتكف في مئذنة عرفات بجامع مصر ثلاثة أيام، فكتب إليه السراج الوراق:
ثلاثة أيام قطعت لطولها ... ثلاث شديدات من السنوات
حجبن محيا الصاحب ابن محمد ... لتجمع بين الحسن والحسنات
وما كاد قلبي أن يقر قراره ... لأني بمصر وهو في عرفات وقال الحكيم شمس الدين ابن دانيال (2) يهجوه:
يحتاج ذا التاج من يرصعه ... بدره تحت دالها كسره
فمن رأى عنقه الطويل ولا ... ينزل فيه يموت بالحسره 417 (3)
الأثير ابن بنان
محمد بن محمد " بن محمد " (4) بن بنان الأنباري، أبو طاهر بن أبي الفضل الكاتب؛ من أهل مصر وأصله من الأنبار؛ قرأ الأدب وسمع الحديث، وكان شيخاً جليلاً مهيباً عالماً أديباً كاملاً بليغاً، يكتب الخط الحسن ويقول
__________
(1) الباذهانج: انبوب يشبه ذلك الذي يستعمل للتهوية (دوزي) .
(2) الوافي: ناصر الدين ابن النقيب.
(3) الوافي 1: 281 والزركشي 252 والشذرات 4: 327 وعبر الذهبي 4: 294 ومختصر الدبيثي 1: 123 وحسن المحاضرة 1: 375.
(4) زيادة من الوافي والزركشي.(3/259)
الشعر الجيد ويترسل، وفيه مفاكهة (1) ودماثة أخلاق.
قدم بغداد رسولاً مع قافلة من مكة من جهة سيف الإسلام طغتكين أخي صلاح الدين من اليمن، فأنزل بباب الأزج وأكرم مثواه، وحدث بكتاب " الصحاح في اللغة " للجوهري، وبالسيرة النبوية.
ولد سنة سبع وخمسمائة " بمصر " (2) وتوفي بها سنة ست وتسعين وخمسمائة، ودفن بالقرافة وله كتاب " تفسير القرآن المجيد " وكتاب " المنظوم والمنثور " في مجلدين، ومن نظمه في صاحب له توفي:
عجباً لي وقد مررت بآثا ... رك كيف اهتديت نهج الطريق
أتراني نسيت عهدك فيها ... صدقوا ما لميت من صديق وكتب الكثير بخطه المليح، وتولى ديوان النظر في الدولة المصرية، وتنقلت به الخدم في الأيام الصلاحية بتنيس وإسكندرية، وكان القاضي الفاضل ممن يغشى بابه (3) ويمدحه ويفتخر بالوصول إليه.
418 - (4)
ابن عروس الكاتب
محمد بن محمد بن عروس الشيرازي، الكاتب الشاعر نزيل سامرا؛ له نظم، وتوفي في سنة ثمانين (5) ومائتين.
__________
(1) المطبوعة: فاكهة.
(2) زيادة لازمة من الوافي.
(3) في المطبوعة: أبوابه، وأثبت ما في الوافي والزركشي.
(4) الوافي 1: 128 والزركشي: 252 ومعجم الشعراء: 390 وطبقات ابن المعتز: 419.
(5) كذلك هو أيضاً عند الزركشي، وفي الوافي: في عشر الثمانين.(3/260)
ومن شعره:
ولقد تأملت الحيا ... ة بعيد فقدان التصابي
فإذا المصيبة بالحيا ... ة هي المصيبة بالشباب وله أيضاً في أبي العيناء:
طرف أبي العيناء معلول (1) ... ودينه لا شك مدخول
وليس ذا علم بشيء ولا ... له إذا حصلت محصول
ما هو إلا جملة غثة ... وليس للجملة تفصيل قال محمد بن عروس: اجتمعت أنا وعلي بن الجهم في سفينة، ونحن غير متعارفين فتذاكرنا ووجدت له مذاكرة حلوة، فكان في بعض ما قاله: أنا أشعر الناس، قلت: بماذا؟ قال: بقولي (2) :
سقى الله ليلاً ضمنا بعد هجعة ... وأدنى فؤاداً من فؤاد معذب
فبتنا جميعاً لو تراق زجاجة ... من الخمر فيما بيننا لم تسرب فقلت: والله قد أحسنت، ولكنني أشعر منك، قال: بأي شيء؟ قلت: بقولي:
لا والمنازل من نجد وليلتنا ... بفيد إذ جسدانا بيننا جسد
كم رام فينا الكرى من لطف مسلكه ... نوماً فما انفك لا خد ولا عضد فقال: أحسنت، ولكن بما صرت أشعر مني؟ قلت: لأنك منعت دخول جسد بين جسدين، وأنا منعت دخول عرض بين جسدين، قال: من أنت؟ قلت (3) : أنا ابن عروس فمن أنت؟ قال: أنا علي بن الجهم.
__________
(1) الوافي: معسول.
(2) ديوان ابن الجهم: 95.
(3) في الوافي: فقلت بل تقول أنت أولاً، قال أنا علي بن الجهم قلت: وأنا ابن عروس؛ وما ورد هنا مماثل لما أورده الزركشي.(3/261)
419 - (1)
أبو الحسن البصروي
محمد بن محمد بن أحمد، أبو الحسن البصروي، وبصرى قرية بدجيل دون عكبرا؛ كان شاعراً فصيحاً مطبوعاً له نوادر، منها أنه قال " له " (2) رجل: لقد شربت البارحة كثيراً فاحتجت للقيام للبول كل ساعة كأني جدي، فقال: لم تصغر نفسك يا سيدي؟ وتوفي ببغداد في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة؛ ومن شعره:
ترى الدنيا وزهرتها فتصبو (3) ... وما يخلو من الشبهات صب (4)
فضول العيش أكثره هموم ... وأكثر ما يضرك ما تحب
فلا يغررك زخرف ما تراه ... وعيش لين الأطراف رطب
إذا ما بلغه جاءتك عفواً ... فخذها فالغنى مرعى وشرب
إذا حصل القليل وفيه سلم ... فلا ترد الكثير وفيه حرب وله غير ذلك، رحمه الله.
__________
(1) الوافي 1: 120 والنجوم الزاهرة 5: 52 ومعجم البلدان (بصرى) .
(2) زيادة من الوافي.
(3) الوافي: نرى.. فنصبو.
(4) الوافي: قلب.(3/262)
420 - (1)
ابن الجنان الشاطبي
محمد بن سعيد بن هشام بن الجنان - بتشديد النون - الشيخ فخر الدين أبو الوليد الشاطبي الحنفي؛ ولد سنة خمس عشرة وستمائة بشاطبة، وقدم الشام وصحب الصاحب كمال الدين ابن العديم وولده قاضي القضاة مجد الدين، فاجتذباه ونقلاه من مذهب مالك إلى مذهب أبي حنيفة، ودرس بالإقبالية (2) وكان أديباً فاضلاً وشاعراً محسناً، وكان يخالط الأكابر وفيه حسن عشرة ومزاج؛ وتوفي سنة خمس وسبعين وستمائة.
قال الشيخ صلاح الدين الصفدي حرسه الله تعالى: أخبرني الشيخ فتح الدين ابن سيد الناس قال: أخبرني والدي قال: كنا عند القاضي شمس الدين ابن خلكان وهو ينوب في الحكم بالقاهرة، والشيخ فخر الدين حاضر وهو إلى جانبي، فأنشد:
عرف النسيم بعرفكم يتعرف ... وأخو الغرام بحبكم يتشرف
شرف المتيم في هواكم أنه ... طوراً ينوح (3) وتارة يتلهف
لطفت معانيه فهب مع الصبا ... فرقيبه بهبوبه لا يعرف
وإذا الرقيب درى به فلأنه ... أخفى عليه من النسيم وألطف
__________
(1) الوافي 1: 175 والبدر السافر: 103 واختصار القدح: 206 والمغرب 2: 833 ونفح الطيب 2: 120 وبغية الوعاة: 45 والزركشي: 256؛ وقال أثير الدين أنه محمد بن محمد.
(2) نسبة إلى إقبال خادم نور الدين أو صلاح الدين وبه سميت مدرستان الإقبالية الكبيرة للشافعية والإقبالية الصغيرة للحنفية؛ وقال ابن كثير إن الإقبالية أنشئت في ذلك العام ونسبت إلى إقبال الشرابي (الدارس 1: 158 وما بعدها) .
(3) الوافي: يبوح.(3/263)
ولأنه يعد (1) والنسيم ديارهم ... وله على تلك الربوع توقف فقال القاضي شمس الدين: يا شيخ فخر الدين لطفته لطفته إلى أن عاد لا شيء، فالتفت وقال بلسانه: الكاضي (2) حمار (3) ما له دوك شيء، يعني القاضي حمار ما له ذوق.
قال أبو حيان: أنشدني فخر الدين ابن الجنان:
أفناني القبض عني ... حتى تلاشى وجودي
وجاءني البسط يحيي ... روحي بالنفس جودي
فقلت للنفس شكراً ... كذاك (4) بالنفس جودي
وقمت أشطح سكراً ... فغبت عن ذا الوجود وقال أيضاً:
ذكر العذيب فمال من سكر الهوى ... صب على صحف الغرام قد انطوى
يبكي على وادي العقيق بمثله ... ويميل من طرب بمنعطف اللوى
وجهت وجهي نحوهم فبوجههم (5) ... لا أبتغي غيراً ولا أرجو سوى
وبمهجتي معبود حسن منهم ... فلذا على عرش القلوب قد استوى
أوحى إلى قلبي الذي أوحى له ... فعجبت كيف نطقت فيه عن الهوى وقال أيضاً:
عليك من ذاك الحمى يا رسول ... بشرى (6) علامات الرضى والقبول
__________
(1) المطبوعة: يغدو.
(2) المطبوعة: القاضي.
(3) الوافي: حمار هوس.
(4) الوافي: لذاك.
(5) الوافي: فوحقهم.
(6) المطبوعة: تسري، وما أثبته ورد في الوافي والنفح والزركشي والبدر السافر.(3/264)
جئت وفي عطفيك منهم شذاً ... يسكر من خمر هواه العذول
يكفيك تشريفاً رسول الرضى ... أنك للعشاق فيهم رسول
حللتم قلبي وهو الذي ... يقول في دين الهوى بالحلول وقال أيضاً:
وأبيك لم يخفق حشاي وإنما ... طرباً بأودية العقيق يصفق
بالله قولوا من أكون لديهم ... حتى أرى بهواهم أتعشق
نطق الغرام بحالهم لما رأى ... أن اللسان بحاله لا ينطق
لا يدعي فيه الفؤاد خفوقه ... فوشاح من أهوى لعمري أخفق وقال أيضاً:
ودوح بدت معجزات له ... تبين عليه وتدعو إليه
جرى النهر حتى سقى غصنه ... فمال يقبل شكراً يديه
وكف الصبا ضيعت (1) حليه ... فأضحى الحمام ينادي لديه
كساه الأصيل ثياب الضنى ... فحل طبيب الدياجي لديه
وجاء النسيم له عائداً ... فقام له لاثماً معطفيه وقال أيضاً (2) :
خبر بأنفاس النسيم معطر ... وافى إلي فظلت منه أسكر
لله ما أحلى شمائله التي ... جاء النسيم بعرفها يتبختر
وافى وما في القوم من يدري به ... إلا فتى في حبه متنكر
تتلى أحاديث الغرام بقلبه ... ولسانه عما به يستخبر
حتى إذا غنى له الحادي بهم ... وسرى له من نشر ليلى العنبر
__________
(1) المطبوعة: صبغت، والتصويب عن الوافي.
(2) من هنا حتى نهاية الترجمة لم يرد في الوافي.(3/265)
هز المعاطف ثم راح مولهاً ... نشوان في ذيل الصبا يتعثر
متهتكاً في العاشقين كما ترى ... يبدي الذي يخفيه منه ويضمر
سلطان حبي فيك أرسل أدمعاً ... أمست بأخبار الغرام تخبر
فقرأت منها في صحيفة وجنتي ... ما لا وعينك باللسان تعبر
نزلوا حديقة مقلتي أو ما ترى ... أغصان أهدابي بدمعي تزهر؟
لا أقفرت تلك المنازل منهم ... أبداً وربع الصبر منهم مقفر وقال أيضاً:
يا رعى الله عيشنا روض ... حيث مال السرور فيه نميل
تحسب النهر عنده يتثنى ... وتخال الغصون فيه تسيل وقال أيضاً:
أهيل الحي هل علم الفريق ... بأني فيكم صب مشوق
نعم علموا وذاك لأن دمعي ... غداة البين سال به الطريق
أتأتون الحجاز وما علمتم ... بأن القلب بيتكم العتيق؟
وألفاظي العذيب وفي ضلوعي ال ... حمى ودموع مقلتي العقيق وقال أيضاً:
لي حبيب عن حبه لا أحول ... إن شرح الغرام فيه يطول
قال لي عاذلي: تناس هواه ... قلت: أنسى يا عاذلي ما تقول
ولعمري لقد نسيت فقل لي ... أنت فيه مساعد أم عذول؟
لو ضللنا في فترة من هواه ... لهدانا من مقلتيه رسول وقال أيضاً:
قم فاسقنيها وجيش الليل منهزم (1) ... والصبح أعلامه محمرة العذب
__________
(1) أورد في النفح روايتين: وثغر الصبح مبتسم (وهذه رواية الزركشي) وليل الهم منهزم.(3/266)
والسحب قد نثرت في الروض لؤلؤها ... فضمها الشمس في ثوب من الذهب (1) وقال أيضاً:
حديث ذاك الحمى روحي وريحاني ... فكيف يصبر عن هذين جثماني
فمن هواك لذاك الحسن راح به ... في الحي كل خلي القلب يهواني
ثم انثنيت وبي من سكرة طرب ... أهز عطفي به تيهاً وأرداني
وحقهم لو ملكت الكون أجمعه ... وهبته طمعاً في وصل هجراني وقال أيضاً:
بروحي وقلبي مبسمه الذي ... أبان لنا زهراً بأرض عقيق
وخاف بأن يسري النسيم بعطره ... فأصبح يخفيه بستر شقيق 421 (2)
سعد الدين ابن عربي
محمد بن محمد بن علي بن العربي الطائي الحاتمي، سعد الدين ابن الشيخ محيي الدين ابن العربي، الأديب الشاعر؛ ولد بملطية في رمضان سنة ثمان عشرة وستمائة، سمع الحديث ودرس، وكان شاعراً مجيداً وله ديوان مشهور؛ وتوفي بدمشق سنة ست وثمانين وستمائة (3) ، ودفن عند قبر أبيه بسفح قاسيون في تربة بني الزكي.
__________
(1) ورد في النفح مرة بهذه الرواية، ومرة أخرى على النحو الآتي:
(2) الوافي 1: 186 ونفح الطيب 2: 170 والشذرات 5: 283 والزركشي: 258.
(3) كذلك أيضاً في الزركشي، وفي الوافي والشذرات: ست وخمسين وستمائة.(3/267)
ومن شعره في مليح رآه بالزيادة بدمشق:
يا خليلي في الزيادة ظبي ... سلبت مقلتاه جفني رقاده
كيف أرجو السلو عنه وطرفي ... ناظر حسن وجهه في الزيادة وقال في مليح قاض:
ورب قاض لنا مليح ... يعرب عن منطق لذيذ
إذا رمانا بسهم لحظ ... قلنا له دائم النفوذ وقال في مليح قواس:
قلت لقواس له طلعة ... من رام عنها الصبر لم يقدر
يا من له وجه كبدر الدجى ... بكم تبيع القوس للمشتري وله أيضاً:
لما تبدى عارضاه في نمط ... قيل ظلام بضياء اختلط
وقيل نمل فوق عاج سقط ... وقال قوم إنها اللام فقط وقال أيضاً (1) :
فاتر الطرف فاتك ... لدم الصب سافك
هاجر لي مواصل ... آخذ لي وتارك
وعلى كل حالة ... فهو مولى ومالك
قد أراني الدجى ضحى ... وجهه وهو ضاحك
يا سليماً من الأسى ... أنا والله هالك
لي حال كمثل شع ... رك يا بدر حالك
كم صبا فيك عابد ... ولكم ضل ناسك
__________
(1) من هنا حتى آخر الترجمة لم يرد في الوافي.(3/268)
لك والله منظر ... قل فيه المشارك (1)
إن يوماً أراك في ... هـ ليوم مبارك وقال:
أسباك نرجس مقلتيه المضعف ... يا للهوى غلب القوي الأضعف
فتكت بقلبك مرهفات جفونه ... سله على م عليه سل المرهف
ويروقني الورد الجني بخده ... واهاً له لو كان مما يقطف
إن سامني فيه الهوان فإنني ... أبداً بعشق جماله أتشرف
يثنيه عن وصلي العفاف وطرفه ... أبداً يريق دمي ولا يتعفف
أمعنفي قسماً بمن قسم الهوى ... وقضى بأنك في الغرام تعنف
ما أبصرت عيناك أحسن منظراً ... من وجهه لو كنت ممن ينصف
قال الحبيب وقد رآني مبدياً ... فرط التأسف لو أفاد تأسف
مالي أراك لفرك حبك حاكياً ... يعقوب؟ قلت له: لأنك يوسف وقال أيضاً:
أن بالأحبة لا أزال مولها ... إن لم أكن أنا للصبابة من لها
جاء البشير بهم فلولا أنني ... عبد لهم لبذلت نفسي كلها
شرفت بهم منا القلوب وإنما ... شرف المنازل بالذي قد حلها
آه على أيامنا بطويلع ... ما كان أطيبها لنا وأجلها
لاحت منازلهم بأعلى المنحنى ... قف بي لألثم حزنهن وسهلها
يا سادة ملكوا النفوس لأنهم ... كانوا أحق بها وكانوا أهلها وقال أيضاً في مليح يسمى بابن الفويرة:
زعموا بأن المسك فارته اغتدت ... تجنى من الظبي الغرير وتجلب
__________
(1) هذا البيت والذي يليه ورداً في النفح: 171.(3/269)
نسبوا الفويرة للغزال وما دروا ... أن الغزال إلى الفويرة ينسب وقال أيضاً في مليح سمين:
وقالوا من كلفت به سمين ... وذلك لا يخف على القلوب
فقلت لهم نحول الجسم وصف ال ... محب وليس من وصف الحبيب وقال أيضاً في مليح ضعيف:
قيل لي جسم من تحب نحيل ... وهو مما يشينه فاسل عنه
قلت ما ذاك من سقام ولكن ... خفة الروح أعدت الجسم منه وقال أيضاً:
ألا يا سائلي عن شرح حالي ... سؤال المشفق البر الرحيم
فأما الجسم فهو كما تراه ... سقيم مثل ناظرك السقيم
وأما حال قلبي يا حبيبي ... فلا تسأل عن أصحاب الجحيم وقال أيضاً ذوبيت:
قد طارحني الحديث في ناديه ... بدر حسن جميع ما يبديه
يا مهدي در لفظه من فيه ... شرفت مسامعي فإيه إيه وقال أيضاً:
يا للهوى ما لي من راحم ... يأخذ حقي منك يا ظالمي
لو لم تكن في مهجتي حاكماً ... ما غبت عني غيبة الحاكم وقال أيضاً ذوبيت:
صبرت فؤادي عنهم إذ جاروا ... في الحب وأرباب الهوى أطوار
نادوني كم تظهر عنا جلداً ... في قلبك غيرنا؟ فقلت: النار وقال أيضاً:
أليلة وصل كنت أم ليلة القدر ... سقى عهدك الماضي سلاف من الخمر(3/270)
لئن كان ذاك العهد ولى ولم يدم ... فإني له إني له دائم الذكر
أآمل أن الدهر يسخو برده ... فوا أسفاً ما ذاك من شيم الدهر (1)
وبي رشأ أهوى رشاقة قده ... إذا ما انثنى يا خجلة الغصن النضر
أيا صنم الحسن الذي فتن الورى ... وبرهان قولي أن قلبك من صخر
سباني ثغر منك كالدر نظمه ... ويا من رأى دراً يشبه بالبدر
أشاهد ريقاً منه كالشهد طعمه ... وما ذقته يوماً ولكنني أدري 422 (2)
النور الإسعردي
محمد بن محمد - " وقيل محمد " (3) ابن عبد العزيز - ابن عبد الصمد بن رستم الإسعردي نور الدين الشاعر؛ ولد سنة تسع عشرة وستمائة، وتوفي سنة ست وخمسين وستمائة؛ كان من كبار شعراء الملك الناصر وله به اختصاص، وله ديوان شعر، وغلب عليه المجون، وأفرد هزلياته من شعره وجمعها وسماها " سلافة الزرجون في الخلاعة والمجون " وضم إليها أشياء من نظم غيره، وكان ماجناً (4) خليعاً يجلس (5) تحت الساعات؛ حضر ليلة عند الملك
__________
(1) بعده في الزركشي:
(2) الوافي 1: 188 والزركشي: 259 والشذرات 5: 284 ونكت الهميان: 255 والبداية والنهاية 13: 212 ومطالع البدور 1: 55.
(3) زيادة من الوافي.
(4) كذلك هو عند الزركشي؛ وفي الوافي: شاباً.
(5) الوافي: جلس؛ ويبدو أن قوله هنا ((يجلس تحت الساعات)) تكرار غير ضروري، لأنه سيرد بعد قليل؛ وقد تكرر في الوافي والزركشي.(3/271)
الناصر في مجلس أنس، فخلع عليه قباء وعمامة بطرف (1) ذهب، فأتى بهما من الغد وجلس تحت الساعات.
ومن شعره:
ولقد بليت بشادن أن لمته ... في قبح ما يأتيه ليس بنافع
متبذل في خسة وجهالة ... ومجاعة كشهود باب الجامع وحضر ليلة عند الناصر في مجلس أنس، وكان في شرف الدين ابن الشيرجي، وكان ألحى، فقام ابن الشيرجي فقضى شغله وعاد، فأشار إليه السلطان بصفع النور الإسعردي فصفعه، فلما فعل نزلت ذقنه على كتف النور، فقبض عليها وأنشد في الحال:
قد صفعنا في ذا المحل الشريف ... وهو إن كنت ترتضي تشريفي
فارث للعبد من مصيف صفاع ... يا ربيع الندى وإلا خري في قال الشيخ صلاح الدين الصفدي: ما أحسن ما أتى بياء المنادى هنا لتشريح التورية بين الربيع والخريف، وقوله " وإلا خري في " من أحسن التورية (2) بقرينة إمساكه ذفن ابن الشيرجي، وقد ظرف غاية.
وأضر قبل موته فقال:
قد كنت من قبل في أمن وفي دعة ... طرفي يرود لقلبي روضة الأدب
حتى تلقبت نور الدين فانعمشت ... عيني وحول ذاك النور للقب (3) وقال أيضاً:
سألت الله يختم لي بخير ... فعجل لي ولكن في عيوني
__________
(1) المطبوعة: وطوق، والتصويب عن الوافي والزركشي.
(2) الوافي: الإشارة.
(3) المطبوعة: للقلب، وهو خطأ.(3/272)
وقال أيضاً:
يا سائلي لما رأى حالتي ... والطرف منى ليس بالمبصر
لست أحاشيك ولكنني ... سمحت بالعينين للأعور وقال أيضاً:
قلت إذ راح ناعساً ثم أبدى (1) ... ضرطة آذنت لشملي بجمع
" فاتني أن أرى الديار بطرفي ... فلعلي أرى الديار بسمعي " (2) وقال مضمناً قول المتنبي:
سباني معسول المراشف عاسل ال ... معاطف مصقول السوالف مائد
يروم على أردافه الخصر مسعداً ... " إذا عظم المطلوب قل المساعد " وقال أيضاً:
قلت يوماً للصدر (3) هل تثبت الب ... عث وتنفي إنكارهم للحشر
قالت أثبت ذقنك في استي ... قال أنفي فقلت في وسط حجري وقال أيضاً يفضل حشيش الفقراء (4) :
لك الخير لا تسمع كلام المفند ... ودونك في فتياك غير مقلد
سألت عن الخضراء والخمر فاسمتع ... مقالة ذي رأي مصيب ومسدد
وحقك ما بالخمر بعض صفاتها ... أتشرب جهراً في رباط ومسجد؟
عليك بها خضراء غير مبالغ ... بأبيض ورق أو بأحمر عسجد
ولكن على رغم المدام هدية ... تنزه عن بيع بغير التزهد
__________
(1) الوافي: قلت إذ نام من أحب وأبدى؛ وما هنا شبه لما عند الزركشي.
(2) مضمن من شعر الشريف الرضي.
(3) الوافي: للزين، والرواية عند الزركشي كما هو مثبت في المتن.
(4) من هنا حتى آخر الترجمة لم يرد في الوافي.(3/273)
رياضية يحكي الجنان اخضرارها ... وخمرهم كالمارج المتوقد
مدامهم تنسي المعاني وهذه ... تذكر أسرار الجمال الموحد
هي السر ترقى الروح فيها إلى ذرى ال ... معالم في معراج فهم مجرد
بل الروح حقاً لا يحل بربعها ... هموم ولا يحظى بها غير مهتدي
ولا داسها العصار عمداً ودنس ال ... دنان بمختوم من القار أسود
ولا تتعب الأبدان عند نزالها ... وفي القيء إذ تبدو كزق ممدد
ولا تستخف الناس عقلك بينهم ... لعمري ولا تدعى لديهم بمفسد
وفي طرف المنديل يوماً وعاؤها ... ويعتاض عن حمل الزجاجة باليد
وتخلص من إثم وحد ولا ترى ... ذليلاً وتنجو من نديم معربد
وتشربها في العسر واليسر دائماً ... ولا تتقي فيها ليالي التعبد
وتأمن كبسات الحماة وكيدهم ... وتسلم من جور الولاة ولا تدي
وتغدوا ذكياً فاضلاً ذا نباهة ... ظريفاً ولا يغشاك فرط تبلد
وتصبح عند الناس غير مبغض ... وتمنح من كل بحسن التودد
وإن ذاقها المعشوق وافاك خلسة ... من الحاسد الواشي على غير موعد
ومن فضلها في الطب جودة هضمها ... وهيهات يحصى فضلها لمعدد
ولا سيما إن كان فيها منادمي ... غزال كغصن البانة المتأود
ينادم بالشعر اللطيف وتارة ... يغني فيزري بالحمام المغرد
يغازلني سراً بعيني غزالة ... ويبسم عن ثغر كدر منضد
فلا تستمع فيها مقالة عاذل ... يصدك عنها واعص كل مفند وقال أيضاً يفضل الخمر على الحشيش:
فديتك نور الحق قد لاح فاهتد ... نديمي وكن في اللهو غير مقلد
أترضى بأن تمسي شبيه بهيمة ... بأكل حشيش يابس غير أرغد
فدع رأي قوم كالدواب ولا تدر ... سوى درة كالكواكب المتوقد(3/274)
مدام إذا ما لاح للركب نورها ... وقد ضل ليلاً عاد بالنور يهتدي
حشيشتهم تكسو المهيب مهانة ... فتلقاه مثل القاتل المتعمد
ويبدو على خديه مثل اخضرارها ... فيضحي بوجه مظلم اللون أربد
وتفسد من ذهن النديم خياله ... فينظر مبيض الصباح كأسود
وخمرتنا تكسو الذليل مهابة ... وعزاً فتلقى دونه كل سيد
وتجلى فتجلو هم كل منادم ... ويروى بها من شربها قلبه الصدي
وتبدو فيبدو سره وتسره ... فيشبهها لوناً بخد مورد
وفيها على رغم الحشيش منافع ... فقل في معانيها وصفها وعدد
وفي غيرها للناس كل مضرة ... فحدث بكل السوء عن وصفها الردي
وحقك ما ذاق الحشيش خليفة ... ولا ملك فاق الأنام بسؤدد
ولا جد في وصف لها قط شاعر ... بتنميق ألفاظ كألحان معبد
ولم تضرب الأوتار في مجلس لها ... وما ذاك إلا للشراب المورد
أتخضب من غير المدامة راحة ... إذا ما بدت في الكأس تجلى على اليد
بها ينثني المعشوق نشوان مائلاً ... بقد كغصن البانة المتأود
يعاطيك راحاً مثلها في رضابه ... ومبسمه مثل الحباب المنضد
وينعم بالوصل الذي كان باخلاً ... به ثم ينسى كل ما كان في الغد
أعن مثلها يا صاح يصبر عاقل ... لقد كنت في تركي لها غير مهتدي
ولولا فضول الناس ما بت صاحياً ... ولم أستمع فيها مقال المفند
فخذها ولا تسمع مقالة لائم ... وإن حرمت يوماً على دين أحمد تأمل هاتين القصيدتين وكيف ناقض بينهما، وبهذا يعرف حذق الشاعر فإنه يمدح الشيء ويذم ضده، ثم يعكس فيميل الطباع إلى ما مدح، ويصرفها على ما ذم، من غير أن يغير حقيقة هذا ولا هذا.
وقال أيضاً:(3/275)
أيا حبذا دوح حللنا ظلاله ... فطاب لنا فيه مقيل ومسرح
سرينا إليه خلسة كنسيمة ... وعدنا كأغصان به تترنح وقال وهو ببستان البهاء ابن سيدة:
ألا يا بهاء الدين ليس بنادم ... نديمك بل تسدي إليه المكارم
خرينا وبلنا إذ سكرنا بنهركم ... " ووجهك وضاح وثغرك باسم " وقال في أحول لائط:
يا ظريفاً يكاد يقطر من عط ... فيه ماء اللواط في كل واد
عش هنيئاً فإن عينيك يغني ... حول فيهما عن القواد وقال أيضاً:
ولي صاحب قال نلت المنى ... بمن هو دون الورى منيتي
فقلت أتى زائراً قال لا ... ولكن جلدت ولي نيتي 423 (1)
شهاب الدين ابن تمرداش
محمد بن محمد بن محمود بن تمرداش، شهاب الدين أبو عبد الله؛ كان في أول مرة جندياً، وخدم بحماة وصحب صاحبها الملك المنصور، ثم أبطل
__________
(1) الوافي 1: 232 والزركشي: 260 والدرر الكامنة 5: 3، وقد كتب الزركشي ((تمرداش)) وفي الوافي جاء هذا الاسم بصورتين: ((دمرتاش)) و ((دمرداش)) وفي نسبه بعد محمود ((بن سكي بن عيسى)) ، وكانت وفاته سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة، في خامس صفر، ودفن بسفح قاسيون، وكانت ولادته سنة 638 وهو من بيت إمرة وحشمة، قال الصفدي: وأظنه كان مخلا من إحدى عينيه.(3/276)
ذلك ولبس زي العدول وجلس في مركز الرواحية بدمشق، وبها ولد وتوفي.
ومن شعره:
أقول لمسواك الحبيب لك الهنا ... برشف فم ما ناله ثغر عاشق
فقال وفي أحشائه حرقة الجوى ... مقالة صب للديار مفارق
تذكرت أوطاني فقلبي كما ترى ... أعلله بين العذيب وبارق قال الشيخ صلاح الدين الصفدي حرسه الله تعالى: ما أحلى قول محيي الدين ابن قرناص:
سألتك يا عود الأراكة إن تعد ... إلى ثغر من أهوى فقبله مشفقا
ورد من ثنيات العذيب منيهلاً ... تسلسل ما بين الأبيرق والنقا ولابن تمرداش:
ولما التقينا بعد بعد وفي الحشا ... لواعج شوق في الفؤاد تخيم
أراد اختباري بالحديث فما رأى ... سوى نظر فيه الجوى يتكلم وقال أيضاً:
ومهفهف الأعطاف معسول اللمى ... كالغصن يعطفه النسيم إذا سرى
قال اسقني فأتيته بزجاجة ... ملئت قراحاً وهو لاه لا يرى
وتأرجت برضابه وأمدها ... من نار وجنته شعاعاً أحمرا
ثم انثنى ثملاً وقد أسكرته ... برضابه وبوجنتيه وما درى وقال أيضاً:
قال لي ساحر اللواحظ صف لي ... هيفي قلت يا رشيق القوام
لك قد لولا جوارح جفني ... ك لغنت عليه ورق الحمام وقال أيضاً:(3/277)
حتام لا تصل المدام وقد أتت ... لك في النسيم من الحبيب وعود
والنهر من طرب يصفق من فرحة ... والغصن يرقص والرياض تميد وقال أيضاً:
قد صنت سر هواكم ضناً به ... إن المتيم بالهوى لضنين
فوشت به عيني ولم أك عالماً ... من قبلها أن الوشاة عيون ومن شعر ابن تمرداش:
لقد لذ لي من بعد طول تنسكي ... غرامي بمعسول اللمى وتهتكي
وأصليت قلبي في جحيم صدوده ... وإن كان في توحيده غير مشرك
ولم أنس إذ ودعته وحشاشتي ... تقابل جيش الشوق في كل معرك
فلو يسمع الشكوى حسود لراعه ... غريب الهوى من حيث أشكي ويشتكي
ولما سرت من نحوه نسمة الصبا ... يفوح شذاها كالعبير الممسك
علمت يقيناً أن نار ذكائه ... أعارت نسيم الريح من عرفها الذكي وقال أيضاً في خياط:
رأيت في السوق خياطاً محاسنه ... تزهو على البدر إذ يبدو من الأفق
إن قرض الخيط في فيه وألصقه ... إلى ثنايا كنظم الدر في النسق
تكسوه نوراً ثناياه فتحبسه ... على المراشف خيط الصبح في الشفق وقال أيضاً:
أراه بعيداً وهو في نفسي أدنى ... إلي وألقاه إذا غاب بالمعنى
وتشتاقه شوق الرياض إلى الحيا ... عيوني وإن أضحى فؤادي له مغنى
تشرد نومي إذ جفاني لأجله ... وسال من الصبر إلى المقلة الوسنى " كذا "
وكيف يلام النوم في عشق مقلة ... لواحظها تلقاك بالحسن والحسنى
يلوم عليه الحاسدون وبينناً ... من الود ما يفني الزمان وما يفنى(3/278)
إذا قطعت العمر في ظل عشقه ... فلله ما أحلاه عيشاً وما أهنا وله أيضاً:
قسماً بظبي ليس فيه نفور ... إني بعشق عذاره معذور
قمر يميس به كما شاء الصبا ... غصن يسر الناظرين نضير
يرنو إلي بناظر فيه الرضى ... فيغور في قلبي الجوى ويغير
وتزيدني ألطافه شغفاً به ... وقليل إحسان الحبيب كثير
وإذا أتاني زائراً وافى وفي ... ديباجتيه نضرة وسرور
لا يعتريه تكلف أنى سرى ... سراً ولا يرزوه حين يزور وقال أيضاً:
ولرب ليل سرت فيه والدجى ... يدعى لفرط ظلامه بالكافر
طوراً أضل عن الطريق وأهتدي ... طوراً بنجم من هلال الحافر وقال أيضاً ذوبيت:
أخفيت هواك عن جميع البشر ... ضناً بحديث سرك المستتر
فانصان وكاد يخفى قمري ... عن فرط ذكا مثلك لولا نظري وله أيضاً:
كلما زادني اللواحي ملاما ... في هوى من أحب قلت سلاما
أنا من معشر إذا استمعوا العذ ... ل تجافوا عنه ومروا كراما
لي سمع للمنطق العذب إلا ... أنه لا يعي سواه كلاما
يصبح العاذلون في الهرج والمر ... ج وقلبي لا يستفيق غراما
وجفاني الذي أحب وأجفا ... ني يبيتون سجداً وقياما وقال أيضاً:
طرب الدوح من غناء الحمام ... وتثنى سكراً بغير مدام(3/279)
وسقته سحب الغوادي فأضحى ... باسم النور من بكاء الغمام
باسماً في كمامه وابتسام ال ... عجب يخفي للحسن في الأكمام
كيف لا يزدهيه عجب وقد أص ... بح يحكيك يا رشيق القوام
يا حمام الأراك لا تعرب اللح ... ن فحسبي ما فيك من إعجام
لا تبح بالذي تجن فتلقى ... ما ألاقي من كثرة اللوام وقال أيضاً:
ولقد قطعت العيش في زمن الصبا ... قطع امرئ عن غيه لا يرجع
أيام ألقى الحادثات بمثلها ... بأساً وأنف الخطب عني أجدع
والآن قد ولى الشباب وأقبل ال ... شيب الملم وخطبه لا يدفع وقال أيضاً:
تقضت شهور بالبعاد وأحوال ... جرت بعدكم فيها أمور وأحوال
فإن يسر الله التلاقي ذكرتها ... وإلا فلي في هذه الأرض أمثال وقال أيضاً:
يا قمري إن جزت وادي الأراك ... وقبلت أغصانه الخضر فاك
أرسل إلى عبدك من بعضها ... فإنني والله ما لي سواك وقال أيضاً:
روى دمع عيني عن غرامي فأشكلا ... ولكنه ورى الحديث فأشكلا
وأسنده عن واقدي أضالعي ... فأضحى صحيحاً بالغرام معللا وله أيضاً:
وافى النسيم وقد تحمل منكم ... لطفاً يقصر فهمه عن علمه
وشكا السقام وما درى ما قد جرى ... وأنا أحق من الرسول بسقمه وقال أيضاً:(3/280)
إن طال ليلي بعدكم فلطوله ... عذر وذاك لما أقاسي منكم
لم تسر فيه نجومه لكنها ... وقفت لتسمع ما أحدث عنكم وقال أيضاً:
عجباً لمشغوف يحدث عنكم (1) ... ماذا يقول وما عساه يمدح
والكون إما صامت فمعظم ... حرماتكم أو ناطق فمسبح وقال أيضاً:
من لأسير أمست أنيسته (2) ... في الدوح عن حاله تسائله
فهو يغني مبدى الحزين (3) لها ... وهي بأوراقها تراسله وقال أيضاً:
حتى إذا رق جلباب الدجى وسرت ... من تحت أذياله مسكية النفس
تبسم الصبح إعجاباً بخلوتنا ... ووصلنا الطاهر الخالي من الدنس وقال أيضاً:
جيادك يا من طبق الأرض عدله ... وحاز بأعلى الجد أعلى المناصب
إذا سابقتها في المهبة (4) غرة ... رياح الصبا عادت لها كالجنائب
ولو لم يكن في ظهرها كعبة المنى ... لما شبهت آثارها بالمحارب وقال أيضاً:
يا سيدي أوحشت قوماً ما لهم ... عن حسن منظرك الجميل بديل
وتعللت شمس النهار فما لها ... من بعد بعدك بكرة وأصيل
__________
(1) الوافي: يفوه بمدحكم.
(2) الوافي: قرينته.
(3) في المطبوعة: الحزن.
(4) الوافي: المهامه.(3/281)
وبكى السحاب مساعداً لتفجعي ... من طول هجرك والنسيم عليل وقال أيضاً:
يقولون شبهت الغزال بأهيف ... وهذا دليل في المحبة واضح
ولو لم يكن لحظ الغزال كلحظه اح ... وراراً لما تاقت إليه الجوارح سبقه إلى هذا شمس الدين محمد بن دانيال فقال " (1) :
بي من أمير شكار (2) ... وجد يذيب الجوانج
لما حكى الظبي حسناً (3) ... حنت إليه الجوارح وقال أيضاً:
انظر إلى الأزهار تلق رؤوسها ... شابت وطفل ثمارها ما أدركا
وعبيرها قد ضاع من أكمامها ... وغدا بأذيال الصبا متمسكا وقال أيضاً:
ولما أشارت بالبنان وودعت ... وقد أظهرت للكاشحين تشهدا
طفقنا نبوس الأرض نوهم أننا ... نصلي الضحى عليها من العدا وقال أيضاً:
ما أبطأت أخبار من أحببته ... عن مسمعي بقدومه ورجوعه
إلا جرى قلبي إليه خافقاً ... وشكا إليه تشوقي بدموعه وقال أيضاً:
يقول لي الدولاب راض حبيبك ال ... ملول بما يهوى الخير والنفع
__________
(1) ما بين معقفين زيادة من الوافي، وقد ورد البيتان الحاثيان في المطبوعة بعد.
(2) في المطبوعة: تشكى.
(3) الوافي: جيداً.(3/282)
فإني من عود خلقت وها أنا ... إذا مال عني الغصن أسقيه من دمعي وقال أيضاً ذوبيت:
الصب بك المتعوب والمعتوب ... والقلب بك المسلوب والملسوب
يا من طلبت لحاظه سفك دمي ... مهلاً ضعف الطالب والمطلوب قيل إن الشيخ صدر الدين ابن الوكيل كان يقول: وددت لو أخذ شعري كله وأعطاني هذين البيتين.
وله غير ذلك وكل شعره مليح، رحمه الله تعالى وعفا عنه.
424 - (1)
ابن الحداد الأندلسي
محمد بن أحمد بن عثمان، أبو عبد الله القيسي الأندلسي، ابن الحداد الشاعر؛ له ديوان كبير، وكتاب في العروض، اختص بالمعتصم ابن صمادح وتوفي سنة ثمانين وأربعمائة. ومن شعره قوله من قصيدة:
بعيشكما ذات اليمين فإنني ... أراح بشم (2) الروح من عقداتها
فقد عبقت ريح النعامى كأنما ... سلام سليمى فاح من نفحاتها
وتيماء للقلب المتيم منزل ... فعوجا بتسليم على سلماتها
مشاعر تهيام وكعبة فتنة ... فؤادي من حجاجها ودعاتها
__________
(1) الوافي 2: 86 والزركشي: 262 والمحمدون: 99 والمطمح: 80 والذخيرة 1/ 2: 201 والإحاطة 2: 250 والمسالك 11: 400 والمغرب 2: 143 والنفح 3: 502 وأخبار وتراجم أندلسية: 17 والذيل والتكملة 6: 10.
(2) الوافي: لشم.(3/283)
فكم صافحتني من (1) مناها يد المنى ... وكم هب عرف اللهو في عرفاتها
عهدت بها أصنام حسن عهدتي ... هوى عبد عزاها وعبد مناتها
أهل بأشواقي إليها وأتقي ... شرائعها في الحب حق تقاتها وله أيضاً:
هم في ضميرك خيموا أو قوضوا ... ومنى جفونك أقبلوا أم أعرضوا
وهم رضاك من الزمان وأهله ... سخطوا كما زعمت وشاتك أو رضوا
أهواكم وإن استمر قلاهم ... ومن العجائب أن يحب المبغض وله أيضاً:
وقد هوت بهوى نفسي مها سبإ ... فهل درت (2) مضر من تيمت سبأ
كأن قلبي سليمان وهدهده ... طرفي وبلقيس ليلى والهوى النبأ 425 (3)
ابن الصابوني الإشبيلي
محمد بن أحمد ابن الصابوني الصدفي، من أهل إشبيلية؛ قال ابن الأزبار: ذهبت البدائع (4) بذهابه، وختمت الأندلس شعراءها به، ذهب إلى المشرق فتوفي بالإسكندرية وهو طالب مصر سنة أربع " وثلاثين " (5) وستمائة.
__________
(1) الوافي: في.
(2) في المطبوعة: فهددت.
(3) الوافي 2: 99 والزركشي: 262 والبدر السافر: 76 والمقتضب من التحفة: 161 واختصار القدح: 69 والمغرب 1: 263 وصفحات متفرقة من نفح الطيب.
(4) في المطبوعة: الآداب، والتصويب عن الوافي والزركشي.
(5) زيادة من المقتضب؛ ولم ترد في الوافي أيضاً؛ وفي البدر السافر: سنة أربع وقيل ست وثلاثين وستمائة.(3/284)
ومن شعره من قصيدة، رحمه الله تعالى:
أقسم فرق الليل عن سنة الضحى ... واهبط خصر القاع من كفل الدعص
إلى أن أرى برقاً إذا شمت وجهه ... رأيت جبين البدر مكتمل القرص وقال أيضاً:
لقد حجبت زج الحواجب سلوتي ... ومن لحظ هذا (1) سميت بالحواجب
وواوات أصداغ أقارب نسبة ... لنوناتها تدعى بوصف عقارب
وميم فم تحت صاد لشارب ... سلافاً حواها ختم صاد لشارب وله أيضاً:
أما وعذار فوق خديك إنه ... لأنكأ فعلي مقلتيك لفاعل
وما خيلت نفسي إلي بأنه ... ستفعل أفعال السيوف الحمائل وله أيضاً:
رأيت في خده عذاراً ... خلعت في حبه عذاري
قد كتب الحسن فيه سطراً ... " ويولج الليل في النهار " وله أيضاً:
يسقي الرحيق المختوم من يده (2) ... ختامة من عذاره مسك
أسبل دمعي من صده درراً ... جسمي لفرط الضنا لها سلك (3)
__________
(1) الوافي والزركشي: فهل لحظ وصف.
(2) الوافي: فمه.
(3) المطبوعة: بها مسك.(3/285)
426 - (1)
أبو نصر الأواني
محمد بن أحمد بن الحسين الفروخي (2) ، أبو نصر الكاتب الأواني (3) ؛ كان كاتباً على أعمال السواد من قبل الوزير ابن هبيرة، وكان شيخاً فاضلاً نبيلاً أديباً حاذقاً، وصنف عدة رسائل: منها " رسالة في الربيع "؛ وتوفي سنة سبع وخمسين وخمسمائة.
ومن شعره (4) :
ما لعين جنت على القلب ذنب ... إنما يرسل اللحاظ القلب
والهوى قائد القلوب فإن سل ... ط جيش الغرام فالقلب نهب
أحياة بعد التفرق يا قل ... ب فأين الهوى وأين الحب
كان دعوى ذاك التأوه للبي ... ن ولم ينصدع لشملك شعب
إن موت العشاق من ألم الفرق ... ة في الحب سنة تستحب
وعلاج الهوى عذاب المحبي ... ن ولكنه عذاب عذب وقال أيضاً:
يا رب عفوك إنني في معشر ... لا أبتغي منهم سواك ملاذا
هذا ينافق ذا وذا يغتاب ذا ... ويسب هذا ذا ويشتم ذا ذا
__________
(1) الوافي 2: 109 والزركشي: 262 ومعجم البلدان (أوانا) ومختصر الدبيثي 1: 5 والمحمدون: 56.
(2) المطبوعة: الفدوخي، وهو خطأ.
(3) المطبوعة: الأوابي؛ والأواني نسبة إلى أوانا من نواحي دجيل بغداد.
(4) في مدح جمال الدين محمد علي الأصبهاني، وقد أورد منها أبياتاً كثيرة في ((المحمدون)) .(3/286)
وقال أيضاً:
قالت وقد عاينت حمرة كفها ... لا تعتبن فالعهد غير مضيع
ما إن تعمدت الخطاب وإنما ... زفرات حبك أوقدت في أضلعي
فبكيت من شوقي دماً فمسحته ... بأناملي فتخضبت من أدمعي وله ترسل مليح، رحمه الله تعالى.
427 - (1)
فتح الدين ابن سيد الناس
محمد بن محمد بن أحمد بن سيد الناس، الشيخ الإمام العالم الحافظ المحدث، فتح الدين أبو الفتح ابن الفقيه أبي عمرو ابن الحافظ أبي بكر اليعمري؛ كان حافظاً بارعاً أديباً بليغاً مترسلاً، حسن المحاورة لطيف العبارة، فصيح الألفاظ كامل الأدوات لا تمل محاضرته، كريم الأخلاق زائد الحياء (2) ، حسن الشكل والعمة، وهو من بيت رياسة وعلم، سمع وقرأ وارتحل وكتب وحدث وأجاز. أجاز له عبد اللطيف وكناه بأبي الفتح، وسمع حضوراً سنة خمس وسبعين من القاضي شمس الدين ابن القسطلاني (3) وقرأ على أصحاب ابن طبرزد وأصحاب الكندي وأصحاب الحرستاني،
__________
(1) الوافي 1: 289 والزركشي: 263 والدرر الكامنة 4: 330 والبدر السافر: 152 والشذرات 6: 108 والنجوم الزاهرة 9: 303 والسلوك 2: 376 ومرآة الجنان 4: 291 والبداية والنهاية 14: 169 وذيل العبر: 182 ودول الإسلام 2: 183.
(2) الوافي: الاحتمال.
(3) المطبوعة: العسقلاني.(3/287)
وارتحل إلى دمشق سنة تسعين فكاد يدرك الفخر بن البخاري (1) ففاته (2) بليلتين، قال الشيخ شمس الدين: ولعل مشيخته تقارب الألف. ونسخ بخطه، واختار وانتقى شيئاً كثيراً، ولازم الشهادة مدة؛ وكان عنده كتب كبار وأمهات جيدة: منها مصنف ابن أبي شيبة، ومسنده، والمحلى، والتمهيد، وجامع عبد الرزاق، وتاريخ أبي خيثمة، والاستيعاب، والاستذكار، وتاريخ الخطيب، والمعاجم الثلاثة للطبراني، وطبقات ابن سعد، وتاريخ المظفري وغير ذلك.
وصنف " عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير " (3) و " النفخ الشذي في شرح الترمذي " ولم يكمل، وكتاب " بشرى (4) اللبيب بذكر الحبيب " و " منح المدح ". وشعره رقيق سهل التركيب منسجم الألفاظ عذب النظم بلا كلفة، وكتب بالمغربي طبقة كما كتب بالمشرقي.
فن شعره قوله:
عهدي به والبين ليس يروعه ... صباً براه نحوله ودموعه
لا تطلبوا في الحب ثأر متيم ... فالموت من شرع الغرام وشروعه
عن ساكن الوادي سقته مدامعي ... حدث حديثاً طاب لي مسموعه
أفدي الذي عنت البدور لوجهه (5) ... إذ حل معنى الحسن فيه جميعه
البدر من كلف به كلف به ... والغصن من عطف عليه خضوعه
لله (6) معسول المراشف واللمى ... حلو الحديث ظريفه مطبوعه
دارت رحيق لحاظه فلنا بها ... سكر يجل عن المدام صنيعه
__________
(1) في المطبوعة: القمر بن السخاوي؛ وفي الوافي: الفخر بن الفخاري.
(2) المطبوعة: فعاقه.
(3) طبع في جزءين، بمصر سنة 1356 بعناية حسام الدين القدسي.
(4) المطبوعة: سمر؛ والتصويب عن الوافي والزركشي.
(5) المطبوعة: الوجوه لحيه، والتصويب عن الوافي والزركشي.
(6) اثبت في الوافي والزركشي؛ وفي المطبوعة: أهواه.(3/288)
يجني فأضمر عتبه فإذا بدا ... فجماله مما جناه شفيعه وقال أيضاً:
قضى ولم يقض من أحبابه أربا ... صب إذا مر خفاق النسيم صلبا
راض بما صنعت أيدي الغرام به ... فحبسه الحب ما أعطى وما سلبا
لا تحسبن قتيل الحب مات ففي ... شرع الهوى عاش للإخلاص (1) منتسبا
في جنة من معاني حسن قاتله ... لا يشتكي نصبا فيها ولا وصبا
ما مات من مات في أحبابه كلفاً ... وما قضى بل قضى الحق الذي وجبا
فالسحب تبكيه بل تسقيه هامية ... وكيف تبكي محباً نال ما طلبا
فطوقت جيدها الورقاء واختضبت ... له وغنت على أعوادها طربا
ومالت الدوحة (2) الغناء راقصة ... تصبو وتنثر من أوراقها ذهبا
والغصن نشوان يثنيه الغرام به ... كأنه من حميا وجده شربا
والروض حمل أنفاس النسيم شذا ... أزهاره راجياً من قربه سببا
فراقه الورد فاستغنى به وثنى ... عطفاً إليه ومن رجع الجواب أبى
ففارقت روضها الأزهار واتخذت ... نحو الرسول سبيلاً وابتغت سربا (3)
وحين وافته نادت عند رؤيته ... لمثل هذا حبيباً فلتحل (4) حبا
تهللت (5) وجنات الورد من فرح ... وأعين النرجس انهلت له نغبا (6)
سقته واستوسقت من عرفه أرجاً ... أذكى وأعطر أنفاساً إذا انتسبا
__________
(1) كذا أيضاً في الزركشي؛ الوافي: للأحباب.
(2) رواية الزركشي والوافي؛ وفي المطبوعة: الروضة.
(3) المطبوعة: سبباً
(4) المطبوعة والوافي: فليحل.
(5) الوافي: اخضلت.
(6) المطبوعة: لغبا؛ الزركشي: تعبا.(3/289)
وأملت لمحة من حسن قاتله (1) ... فأجفلت رهباً إذ لم تطق هربا (2)
أما درى حين جد الوجد أن لها ... من دمعها ولها من حسنه حجبا
وبانة الشيح جادتها سحائبها ... أوفت وفاء ولفت (3) حولها عذبا
عرارها وخزاماها وما حملت ... من البشام سقاه الغيث منسكبا
والعاذلون لووا أكتافهم حزناً ... والكاشحون ثنوا أعطافهم حربا
لم يبق عذل ولا لوم يؤنبه ... سيان إن بعد اللاحي (4) وإن قربا
ولم يكن قبل ذا يصغي لهم أذناً ... ولا تخوف يوماً أعين الرقبا
وربما طاف شيطان السلو به ... فأرسل الشوق من آماقه شهبا
أفديه من حافظ للعهد إذ نقضوا ... عهداً ومن صادق في الحب ما كذبا
راض الصبابة واستحلى لواعجها ... حتى استلان له منها الذي صعبا
تراه منقبضاً (5) للوصل مقتضياً ... طوراً ومكتئباً للبين مرتقبا
يستخبر الركب هل شط المزار بهم ... والرسم أعجم أنى خاطب العربا
بالله يا نسمات الريح هل خبر ... عنهم يعيد لي العيش الذي ذهبا
بانوا فأي فؤاد لم يذب أسفاً ... وأي قلب غداة البين ما وجبا
ناديت بالسفح قلباً في ضيافتهم ... لا يذكر السفح إلا حن مغتربا
غير أن تصرعه الذكرى إذا خطرت ... والريح إن نسمت والدمع إن نضبا
يرتاع للقضب إن ماست معاطفها ... ليناً وكان يروع السمر والقضبا
شوقاً إلى غصن بان مثمر قمراً ... على كثيب نقاً بالحسن منتقبا
تضرم الماء في جنات وجنته ... ناراً وأضرم في أحشائنا لهبا
__________
(1) كذا عند الزركشي والوافي؛ وفي المطبوعة: قاتلها.
(2) هنا ينتهي ما أورد الصفدي من القصيدة.
(3) المطبوعة: وكفت، والتصويب عن الزركشي.
(4) المطبوعة: اللاهي؛ وما أثبته عن الزركشي هو الصواب.
(5) المطبوعة: منتقضاً.(3/290)
ولم يكن بابلي الريق مبسمه ... لما اكتسى ثغره من دره حببا
للأقحوانة مما فيه منظرها ... ولم تنل مثله عرفاً ولا ضربا
والبرق يخفق لما شام بارقه ... فالمزن تبكي له أن أعوز الشنبا
من لي وللكبد الحرى ومقلتي العبرى (1) ... استهلت وسحت دمعها سحبا
ومن لمضنى إذا لج السقام به ... والحب لم يرض إلا روحة سلبا
ما زال يتعبه حتى استراح به ... وإنما يألف الراحات من تعبا وقال أيضاً:
ما شروط الصوفي في عصرنا اليو ... م (2) سوى ستة بغير زيادة
وهي نيك العلوق والسكر والسط ... لة والرقص والغنا والقيادة
وإذا ما اهتدى وأبدى اتحاداً ... وجميلاً من خلوة وأعاده
وأتى المنكرات عقلاً وشرعاً ... فهو شيخ الشيوخ ذو السجادة وقال أيضاً:
يا كاتم الشوق إن الدمع مبديه ... حتى يعيد زمان الوصل مبديه
أصبو إلى البان بانت عنه (3) هاجرتي ... تعللاً بليالي وصلها فيه
عصر مضى وجلابيب الصبا قشب ... لم يبق من طيبه إلا تمنيه وقال أيضاً:
صرفت الناس عن بالي ... فحبل ودادهم بالي
وحبل الله معتصمي (4) ... به علقت آمالي
فمن يسلو الورى طراً ... فإني ذلك السالي
__________
(1) المطبوعة: الضرا.
(2) المطبوعة: قطعاً، وأثبت رواية الزركشي.
(3) المطبوعة: عند.
(4) المطبوعة: يعصمني، وأثبت ما عند الزركشي.(3/291)
فار وجهي لذي جدة ... ولا ميلي لذي مال وقال أيضاً:
فقري لمعروفك المعروف يغنيني ... يا من أرجيه والتقصير يرجيني
إن أوثقتني الخطايا عن مدى شرف ... نجا بإدراكه الناجون من دوني
وغض من أملي ما ساء من عملي ... فإن لي حسن ظن فيك يكفيني وقال أيضاً:
عذيري من دهري تصدى معاتباً ... لمستمنح العتبى (1) فأقصد من قصد
رجوت به وصل الحبيب فعندما ... تبدى له المعشوق قابله الرصد وقال أيضاً:
يا بديع الجمال شكر جمالك ... أن توافي عشاقه بوصالك
لنت (2) عطفاً لهم وقلبك قاس ... فهم يأخذون من ذا لذلك
غير أن الكمال أولى بذا الحس ... ن ومن للبدور مثل كمالك
قابلت وجهك السماء فشكل ال ... بدر ما مرآتها من خيالك
مثلته لكن رسوم صداها ... كلفته فقصرت عن مثالك وقال أيضاً:
إن غض من فقرنا قوم منحوا ... فكل حزب بما أوتوه قد فرحوا
إن هم أضاعوا لحفظ المال دينهم ... فإن ما خسروا أضعاف ما ربحوا وكانت وفاة الشيخ فتح الدين ابن سيد الناس حادي عشر شعبان سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، ومولده رابع عشر ذي القعدة سنة إحدى وستين وستمائة، رحمه الله.
__________
(1) المطبوعة: لمستبهج الغنى، وهو مضطرب، والتصويب عن الزركشي والوافي.
(2) المطبوعة: كنت، والتصويب عن الوافي.(3/292)
428 - (1)
أبو اليسر ابن الصايغ
محمد بن محمد بن عبد القادر الأنصاري، الشيخ الإمام المفتي بركة الوقت بدر الدين أبو اليسر ابن قاضي القضاة عز الدين ابن الصايغ الدمشقي الشافعي، مدرس الدماغية (2) والعمادية (3) ؛ ولد سنة ست وسبعين وستمائة؛ وسمع كثيراً من أبيه وابن شيبان والفخر علي وبنت مكي، وحضر على ابن علان، وحدث بصحيح البخاري عن اليونيني، وكان يلازم حلقة الشيخ برهان الدين، وعرض عليه قاضي القضاة فامتنع واستعفى وصمم، فاحترمه الناس وأحبوه لتواضعه ودينه، وعظمه تنكز (4) نائب دمشق واعتقد فيه، وحج غير مرة، وتولى خطابة القدس مدة مديدة وتركها، وكان مقتصداً في لباسه وأموره، زار القدس فتعلل هناك ونقل إلى دمشق فمات بها شهور سنة تسع وثلاثين وسبعمائة، ودفن عند أبيه بسفح قاسيون، وشيعه الخلائق وحمل على الرؤوس، رحمه الله تعالى وعفا عنه.
__________
(1) الوافي 1: 248 (هامش) والزركشي: 265 والشذرات 6: 123 ومرآة الجنان 4: 301 والدارس 1: 238 وقضاة دمشق: 76 وذيل العبر: 206.
(2) في المطبوعة: الدامغة؛ وقد نسبت إلى منشئتها جدة فارس الدين ابن الدماغ، زوجة شجاع الدين ابن الدماغ اعادلي في سنة 638 واسمها عائشة، وجعلتها للشافعية والحنفية (الدارس 1: 236) .
(3) العمادية كانت لصيق الدماغية وهي منسوبة إلى بانيها عماد الدين إسماعيل بن نور الدين (الدارس 1: 406) .
(4) المطبوعة: شكر؛ وهو خطأ.(3/293)
429 - (1)
الشيخ بهاء الدين ابن النحاس الحلبي
محمد بن إبراهيم بن محمد بن أبي نصر، الإمام العلامة حجة العرب، بهاء الدين ابن النحاس الحلبي النحوي، شيخ العربية بالديار المصرية؛ ولد في سلخ جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وستمائة بحلب، وتوفي سنة ثمان وتسعين وستمائة بالقاهرة.
سمع ابن اللتي (2) والموفق ابن يعيش وأبا القاسم ابن رواحة وابن خليل، وقرأ القرآن على أبي عبد الله الفاسي وأخذ عن جمال الدين ابن عمرون، ودخل مصر لما خربت حلب وأخذ عن بقايا شيوخها، ثم جلس للإفادة وتخرج به جماعة من الأئمة، وكان من أذكياء بني آدم، وله خبرة بالمنطق وإقليدس، مشهوراً بالدين والصدق والعدالة، مع اطراح الكلفة، يمشي في الليل بين القصرين بقميص وطاقية على رأسه فقط، وكان حسن الأخلاق فيه ظرف النحاة وانبساطهم، وكان له صورة كبيرة في صدور الناس، معروفاً بحل المشكلات، واقتنى كتباً نفيسة، ولم يتزوج قط، وكانت له أوراد من العبادة.
قال قطب الدين عبد الكريم: كان كثير التلامذة كثير الذكر كثير الصلاة، ثقة حجة، يسعى في مصالح الناس، وكان لا يدخر شيئاً، وكان عنده من أصحابه ومن الطلبة من يأكل على مائدته، وكان لا يكلم أحداً في حل النحو إلا بلغة العوام لا يراعي الإعراب.
__________
(1) الوافي 2: 10 والزركشي: 65 والشذرات 5: 442 وبغية الوعاة: 6 والبلغة: 200 وغاية النهاية 2: 46 والبدر السافر: 69.
(2) المطبوعة: المثنى؛ وهو خطأ.(3/294)
وقال الشيخ أثير الدين: كان الشيخ بهاء الدين والشيخ محيي الدين محمد ابن عبد العزيز المازوني (1) المقيم بالإسكندرية شيخي الديار المصرية، ولم ألق أحداً أكثر سماعاً لكتب الأدب من الشيخ بهاء الدين، وانفرد بسماع " الصحاح " للجوهري، وكان كثير العبادة والمروءة والترحم (2) على من يعرفه، لا يكاد يأكل شيئاً وحده، وكان ينهى عن الخوض في العقائد، وله تودد إلى من ينتمي إلى الخير. ولي التدريس بجامع ابن طولون بالقبة المنصورية، وله تصدير بمصر (3) ، ولم يصنف شيئاً إلى إملاء على كتاب " المقرب " لابن عصفور من أول الكتاب إلى باب الوقف أو نحوه. توفي يوم الثلاثاء سابع جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين. وكنت أنا وأياه نمشي بين القصرين، فعبر علينا صبي يسمى بجمال، وكان مصارعاً، فقال الشيخ بهاء الدين: ينظم كل منا في هذا المصارع، فنظم الشيخ بهاء الدين:
مصارع تصرع الآساد سمرته ... تيهاً فكل مليح دونه همج
لما غدا راجحاً في الحسن قلت لهم ... عن حسنه حدثوا عنه ولا حرج ونظم الشيخ أثير الدين أبو حيان:
سباني جمال من مليح مصارع ... عليه دليل للملاحة واضح
لئن عز منه المثل فالكل دونه ... وإن خف منه الخصر فالردف راجح قال الشيخ أثير الدين: وسمع الشيخ شهاب الدين العزازي (4) نظمنا فنظم:
هل حكم ينصفني من هوى ... مصارع يصرع أسد الشرى
مذ فر مني الصبر في حبه ... حكى عليه مدمعي ما جرى
__________
(1) المطبوعة: الماروني، بالراء المهملة؛ وهو خطأ.
(2) المطبوعة: والرحم.
(3) الوافي: وله تصدير في الجامع الأقمر وتصادير بمصر.
(4) المطبوعة: الفزاري، وما أثبته من الوافي والزركشي.(3/295)
أباح قتلي في الهوى عامداً ... وقال كم من عاشق في الورى
رميته في أسر حبي ومن ... أجفان عينيه أخذت الكرى وقال الشيخ أثير الدين: أنشدني بهاء الدين يخاطب رضي الدين الشاطبي وقد كلفه أن يشتري له قطراً:
أيها الأوحد الرضي الذي طا ل علاء وطاب في الناس نشرا
أنت بحر لا غرو إن نحن وافي ناك راجين من نداك القطرا
وأنشدني لنفسه ما كتب على منديل:
ضاع مني خصر الحبيب نحولاً ... فلهذا أضحي عليه أدور
لطفت خرقتي وودقت فجلت ... عن نظير كما حكتها الخصور
أكتم السر عن رقيب لهذا ... بي يخفي دموعه المهجور وأنشدني لنفسه أيضاً:
أني تركت لذا (1) الورى دنياهم ... وظللت أنتظر الممات وأرقب
وقطعت في الدنيا علائق (2) : ليس لي ... ولد يموت ولا عقار يخرب وله أيضاً في مليح شرطوه:
قلت لما شرطوه وجرى ... دمه القاني على الخد اليقق (3)
ليس بدعاً ما أتوا في فعلهم ... هو بدر ستروه (4) بالشفق وكتب الخط الفائق المنسوب، وقرأ عليه جماعة من أهل عصره ومصره،
__________
(1) المطبوعة: لدى.
(2) الوافي: العلائق.
(3) المطبوعة: النقي، والتصويب عن الوافي والزركشي.
(4) هذه رواية الوافي والزركشي؛ وفي المطبوعة: مشرق.(3/296)
وقرأ عليه الشيخ شمس الدين الذهبي، وكان يحفظ ثلث " صحاح " الجوهري، رحمه الله تعالى وعفا عنه.
430 - (1)
البدر ابن جماعة
محمد بن إبراهيم بن سعد بن جماعة بن علي بن جماعة بن حازم بن صخر، قاضي القضاة بدر الدين أبو عبد الله الكناني الحموي الشافعي؛ ولد بحماة سنة تسع وثلاثين وستمائة، وسمع سنة خمسين من شيخ الشيوخ " الأنصاري، وبمصر من الرضي ابن البرهان والرشيد العطار وإسماعيل " (2) ابن عزون وغيره (3) ، وبدمشق من الواني بن أبي اليسر وابن عبد الله وطائفة، وحدث بالشاطبية عن ابن عبد الوارث صاحب الشاطبي، وحدث بالكثير وتفرد في وقته، وكان قوي المشاركة في علم الحديث والفقه والأصول والتفسير، خطيباً تام الشكل، ذا تعبد وأوراد، وحج، وله تصانيف، درس وأفتى وأشغل (4) ؛ ولي خطابة القدس، ثم طلبه الوزير ابن السلعوس فولاه قضاء مصر، ورفع شأنه، ثم حضر إلى الشام قاضياً وولي خطابة الجامع الأموي مع القضاء، ثم طلب لقضاء مصر بعد ابن دقيق العيد وامتدت أيامه إلى أن شاخ وأضر وثقل سمعه،
__________
(1) الوافي 2: 18 وأعيان العصر والنجوم الزاهرة 9: 298 والشذرات 6: 105 والدرر الكامنة 3: 367 ونكت الهميان: 235 والأنس الجليل 2: 48 والبداية والنهاية 14: 163 وقضاة دمشق: 82 وذيل العبر: 178 وطبقات السبكي 5: 230 ودول الإسلام 2: 183 ومرآة الجنان 4: 287 وذيول تذكرة الحفاظ: 107.
(2) سقط من المطبوعة، وزدته من الوافي.
(3) الوافي: وعدة.
(4) المطبوعة: واشتغل.(3/297)
فعزل بقاضي القضاة جلال الدين القزويني سنة سبع وعشرين وسبعمائة، وكثرت أمواله، وباشر آخراً بلا معلوم على القضاء، ولما رجع السلطان من الكرك صرفه وولى جمال الدين الزرعي، فاستتم (1) نحو السنة، ثم أعيد بدر الدين ابن جماعة وولي مناصب كباراً، وكان يخطب من إنشائه، وصنف في علوم الحديث وفي الأحكام، وله " رسالة في الكلام على الاسطرلاب "
وتوفي سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، رحمه الله.
431 - (2)
أبو العبر
محمد بن أحمد الهاشمي، كنيته أبو العباس، فصيرها " أبا العبر " ثم إنه كان يزيدها كل سنة حرفاً فمات وهو أبو العبر طرد طبك طلياري بك بك بك (3) . وكان شاعراً ترك الجد وعدل إلى الهزل، حبسه المأمون (4) وقال: هذا عار على بني هاشم، فصاح في الحبس: نصيحة لأمير المؤمنين، فأخبروه، فاستحضره وقال: هات نصيحتك، فقال: الكشكية أصلحك الله لا تطيب إلا بكشك، فضحك منه وقال: أرى أنه مجنون، فقال أبو العبر: إنما امتخطت حوت، فقال: ويحك! ما معنى قولك؟ فقال: أصلحك الله زعمت أنني مججت نون، وإنما
__________
(1) الوافي: فاستمر.
(2) الوافي 2: 41 والزركشي: 266 ومعجم الأدباء 17: 122 وأشعار أولاد الخلفاء: 323 والأغاني 23: 76 وطبقات الشعراء: 342 وتاريخ بغداد 5: 40.
(3) هذه الصورة التي وردت للقبه عند الزركشي؛ وفي الوافي: طزد طبك طلبري ... )) وفي المطبوعة: وطيك طنكندي ... وهناك صور أخرى منها أيضاً، انظر الأغاني: 80.
(4) هكذا في الزركشي أيضاً؛ وقال الصفدي: حبسه إسحاق بن إبراهيم الطاهري، وكذلك هو في الأغاني.(3/298)
امتخطت (1) حوت، فأطلقه وقال: أظنني في حبسك مأثوم، قال: لا ولكنك في ماء بصل (2) ، فقال: أخرجوه عني ولا تقم في بغداد فهذا عار علينا.
وكان في مبدأ أمره صالح الشعر مع توسط، لا ينفق مع أبي تمام والبحتري وأضرابهما، فعمد إلى الحمق وكسب بذلك أضعاف ما كسبه كل شاعر بالجد. ومن قوله الصالح:
لا أقول الله يظلمني ... كيف أشكو غير متهم
وإذا ما الدهر ضعضعني ... لم تجدني كافر النعم
قنعت نفسي بما ظفرت ... وتناهت في العلا هممي قال عبد العزيز ابن (3) أحمد: كان أبو العبر يجلس في مجلس يجتمع إليه المجان فكان يجلس على سلم وبين يديه بالوعة فيها ماء وحمأة وقد سد (4) مجراها، وبيده قصبة طويلة، وعلى رأسه خف وفي رجليه قلنسوتان، ومستمليه في جوف بئر، وحوله ثلاثة يدقون بالهواوين، حتى تكثر الجلبة ويقل السماع (5) ، ويصيح مستمليه من البئر، ثم يملي عليهم، فإن ضحك أحد (6) ممن حضر قاموا فصبوا على رأسه من البالوعة إن كان وضيعاً، وإن كان ذا مروءة رشوا عليه بالقصبة من مائها، ثم يحبس (7) في الكنيف (8) إلى
__________
(1) الوافي والزركشي: أمتخط.
(2) في المطبوعة والزركشي: بل ماء بصل؛ وأثبت ما في الأغاني والوافي.
(3) المطبوعة: أبو.
(4) المطبوعة سهل؛ وأثبت ما في الأغاني والوافي.
(5) المطبوعة: حتى تكثر الجلبة للسماع.
(6) زاد بعدها في المطبوعة: منهم.
(7) المطبوعة والوافي: يجلس؛ ورواية الأغاني أدق.
(8) المطبوعة: ذلك.(3/299)
أن ينقضي المجلس، فلا يخرج (1) منه حتى يغرم درهمين.
ومن شعره الصالح:
أيها الأمرد المولع بالهج ... ر أفق ما كذا سبيل الرشاد
فكأني بحسن وجهك قد أل ... بس في عارضيك ثوب حداد
وكأني بعاشقيك وقد أب ... دلت فيهم من خلطة ببعاد
حيث تغضي العيون عنك كما ين ... قبض السمع من حديث معاد
فاغتنم قبل أن تصير إلى كا ... ن وتضحي من جملة الأضداد وقال أيضاً:
رأيت من العجائب قاضيين ... هما أحدوثة في الخافقين
هما اقتسما العمى نصفين عمداً ... كما اقتسما قضاء الجانبين
هما فأل الزمان بهلك (2) يحيى ... إذ افتتح القضاء بأعورين
وتحسب منهما من هز رأساً ... لينظر في مواريث ودين
كأنك قد جعلت عليه دناً ... فتحت بزاله من فرد عين وكان المتوكل يرمي به في المنجنيق إلى البركة، فإذا علا في الهواء يقول: الطريق، جاءكم المنجنيق، حتى يقع في البركة، فيطرح عليه الشباك ويصطاد، ويخرج وهو يقول: ويأمر بي ذا الملك " فيطرحوني في البرك " ويصطادني بالشبك، كأني بعض السمك، ويضحك لي هك هك.
قال بعضهم: رأيته ببعض آجام سامرا وهو عريان لا يواريه شيء، على يده اليمنى باشق وبيده اليسرى قوس، وعلى رأسه قطعة رثة من حبل (3)
__________
(1) زاد بعدها في المطبوعة: أحد.
(2) المطبوعة: الدمار بملك؛ ولا معنى له.
(3) المطبوعة: رقة حبك.(3/300)
مشدود بأنشوطة (1) ، وفي ذكره شعر مفتول فيه شص (2) قد ألقاه لصيد السمك، وعلى شفته دوشاب ملطخ، فقلت له: خرب بيتك ما تصنع؟ قال: أصطاد بجميع جوارحي.
وفي كتاب " نثر الدر " (3) باقي نوادره؛ وكانت وفاته بعد الأربعين ومائتين، رحمه الله تعالى وعفا عنه.
432 - (4)
الشيخ مجد الدين ابن الظهير الإربلي
محمد بن أحمد بن عمرو بن أحمد بن أبي شاكر، الشيخ مجد الدين أبو عبد الله ابن الظهير الإربلي الحنفي الأديب؛ ولد بإربل في ثاني صفر سنة اثنتين وستمائة، وسمع ببغداد في الكهولة من أبي بكر ابن الخازن والكاشغري، وبدمشق من السخاوي وكريمة وتاج الدين ابن حمويه وتاج الدين ابن أبي جعفر، وقيل إنه سمع من ابن اللتي. روى عنه أبو شامة والدمياطي وأبو الحسين اليونيني وشهاب الدين محمود، وعليه تدرب وبه تخرج، وابن العطار وابن الخباز والشيخ جمال الدين المزي وجماعة، وكان من كبار الحنفية، ودرس بالقيمازية (5) ، وكان ذا رأي منتقى، وهو من أعيان شيوخ الأدب
__________
(1) المطبوعة: بالشوطة.
(2) المطبوعة: شعر..
(3) أورد أبو سعد الآبي نوادر أبي العبر في الكتاب السابع من ((نثر الدر)) .
(4) الوافي 2: 123 والبدر السافر: 77 والجوهر المضية 2: 401 والزركشي: 266 والدارس 1: 574 والبداية والنهاية 13: 282 والشذرات 5: 359 وعبر الذهبي 5: 316 وابن الفرات 7: 127، 137.
(5) المدرسة القيمازية (أو القايمازية كما وردت عند الصفدي) منسوبة إلى منشئها صارم الدين قايماز النجمي المتوفي سنة 596 (الدارس 1: 572) .(3/301)
وفحول المتأخرين في الشعر، له ديوان شعر في مجلدين.
وكانت وفاته سنة سبع وسبعين (1) وستمائة بدمشق، ودفن بمقابر الصوفية، ورثاه الشيخ شهاب الدين محمود بقصيدة أولها:
تنكر ليلي واطمأنت كواكبه ... وسدت على صبحي الغداة مذاهبه " منها " (2) :
بكته معاليه ولم ير قلبه ... كريم مضى والمكرمات نوادبه
ولا غرو أن تبكي المعالي بشجوها ... على المجد إذ أودى وهن صواحبه
فأي إمام في الندي وفي الهدى ... تماثله (3) آدبابه ومآدبه
أظن الردى نسر السماء (4) وأنه ... علا فوقه فاستنزلته مخالبه وهي من قصيدة طويلة مليحة.
وهي من شعر الشيخ مجد الدين:
حيث الأراكة والكثيب الأوعس ... واد يهيم به الفؤاد مقدس
يحمى بأطراف الرماح طرافه ... عزاً وبالبيض المواضي يحرس
وتكاد أنفاس النسيم إذا سرت ... من خيفة الغيران لا تتنفس
وبجو (5) ذاك الشعب أنفس مطلب ... أمست تذوب أسى عليه الأنفس
وبكل خدر منه ليث مخدر ... أفغابة ذاك الحمى أم مكنس
يا جيرة الحي المظلل بالقنا ... هل ناركم بسوى الأضالع تقبس
أضرمتموها للنزيل ودونها ... غير أن فتاك الحفيظة أشوس
__________
(1) في المطبوعة: وتسعين، وهو خطأ.
(2) زيادة في الوافي.
(3) الوافي: في الهدى والندى غدت لآمله.
(4) في المطبوعة: ارتقى ... السحاب؛ ولا معنى له.
(5) المطبوعة: وبجنب؛ وأثبت ما في الوافي والزركشي.(3/302)
وقال أيضاً:
غش المفند كامن في نصحه ... فأطل وقوفك بالغوير وسفحه
واخلع عذارك في محل ريه ... برذاذ دمع العاشقين وسفحه
وإذا سرى سحراً طليح نسيمه ... مالت به سكراً ذوائب طلحه
جهل الهوى قوم فراموا شرحه ... جل الهوى وجنابه (1) عن شرحه
أفدي الذي يغنيه فاتر طرفه ... عن سيفه وقوامه عن رمحه
ذو وجنة شرقت بماء نعيمها ... كالورد أشرقه نداه برشحه
وكأن طرته ونور جبينه ... ليل تألق فيه بارق صبحه " منها " (2) :
قلبي وطرفي ذا يسيل دماً وذا ... بين الورى أنت العليم بقرحه
وهما بحبك شاهدان وإنما ... تعديل كل منهما في جرحه
والقلب منزلك القديم فإن تجد ... فيه سواك من الأنام فنحه وقال أيضاً:
أواصل فيه لوعتي وهو هاجر ... ويؤنسني تذكاره وهو نافر
ويغري هواه ناظري بأدمعٍ ... يوردها ورد له وهو ناظر (3)
ويفتن في تيه الملاحة خاطراً ... فكل خلي في هواه مخاطر
ويزور سخطاً ثاني العطف معرضا ... فلا عطفه يرجى ولا الطيف زائر
محياه زاه بالملاحة زاهر ... فقلبي وطرفي فيه ساه وساهر
يجيل على القد (4) معجباً ... حبالة شعر كم بها صيد شاعر
__________
(1) المطبوعة: وحياته؛ وما هنا رواية الوافي والزركشي.
(2) زيادة من الوافي لم ترد في الزركشي.
(3) الوافي: ورد بخديه ناضر؛ وما هنا موافق للزركشي.
(4) المطبوعة: الخد.(3/303)
جلا طلعة كالروض دبجة الحيا ... ترف بماء الحسن فيه أزاهر
وشهر خداً بالعذار مطرزاً ... فما الفؤاد لم يهم في عاذر
فإن صاد قلبي طرفه فهو جارح (1) ... وإن فتنت آياته فهو ساحر (2)
إذا كان صبري في الصبابة خاذلاً ... فمالي سوى دمعي على الشوق ناصر
على أن يفيض الدمع لم يرو غلة ... من الوجد أذكتها العيون الفواتر وقال أيضاً يتشوق إلى دمشق (3) :
لعل سنا برق الحمى يتألق ... على النأي أو طيفاً لأسماء يطرق
فلا نارها تبدو لمرتقب ولا ... وعود الأماني الكواذب تصدق
وعل رياح الهوج تهدي لنازح ... عن الشام عرفاً كاللطيمة يعبق
ديار قضينا العيش فيها منعماً ... وأيامنا تحنو علينا وتشفق
سحبنا بها برد الشباب وشربنا ... لذيذ كما شئنا مصفى مصفق
مواطن فيها السهم سهمي فكلنا ... نحث مطايا اللهو فيه ونعنق
كلا جانبيه معلم متجعد ... من الماء في أطلاله يتدفق
إذا الشمس حلت متنه (4) فهو مذهب ... وإن حجبتها دوحه فهو أزرق
وإن فرج الأوراق جادت بنورها ... فرقم أجادته الأكف منمق
أطل عليه الشمس قبل غروبها ... وترجف إجلالاً له حين تشرق
وتصفر من قبل الأصيل كأنها ... محب من البين المشتت مشفق
وفي النيرب المرموق للب سالب ... من المنظر الزاهي وللطرف مونق
بدائع من صنع القديم ومحدث ... تألق فيه المحدث المتأنق
__________
(1) المطبوعة: ساحر؛ وأثبت ما عند الزركشي والوافي في هذه القراءة والتي تليها.
(2) المطبوعة: فاتر.
(3) لم ترد هذه القصيدة في الوافي والزركشي.
(4) المطبوعة: بينه.(3/304)
رياض كوشي البرد تزهو بحسنها ... جداولها والنور بالماء يشرق
فمن نرجس يخشى فراق فريقه ... ترى الدمع في أجفانه يترقرق
ومن كل ريحان مقيم وزائر ... تضاعف رياه الرياح فيعبق
كأن قدود السرو فيه موائساً ... قدود عذارى ميلها يترقرق
إذا ما تداعت للتعانق صدها ... عيون من النور المفتح ترمق
وقصر يكل الطرف عنه كأنه ... إلى النسر نسر في السماء محلق
زها ببديع الوشي حسناً كأنما ... مدبج روض في نواحيه ملصق
وكم جدول جار يطارد جدولاً ... وكم جوسق عال يوازيه جوسق
وكم بركة فيه تضاحك بركة ... كم قسطل في الماء للماء يدفق
وكم منزل يعشي العيون كأنما ... تألق فيه بارق يتألق
وفي الربوة الشماء للقلب جاذب ... وللسمع إصمات وللعين مرمق
فهام بها الوادي ففاضت عيونه ... فكل قرار منه بالدمع يملق
تكفل من دون الجداول شربها ... يزيد يصفيه لها ويصفق
إذا أشرف الولدان من شرفاتها ... رأيت بدوراً في بروج تألق
وفي بردى معنى يشوق ومنظر ... يروق ومأوى للسرور ومطرق
إذا أنت من أعلاه أشرفت ناظراً ... تجيل عنان الطرف فيه وتطلق
رأيت به بحراً من الدوح مزبداً ... وغدرانه حيتانه منه ترمق
تميل مع الأفنان فيه كأنها ... نشاوى وما دار الرحيق المعتق
وتعطف أعطاف الغصون حمامة ... إذا ما تغنت والغدير يصفق
وتجمع فيه كل حسن مفرق ... وشمل الأسى عن حاضريه مفرق
كأن رياض الغوطتين جنوده ... يقسم فيها جوده ويفرق
وبالمزة الفيحاء دام نعيمها ... جنان تأنى أهلها وتأنقوا
حدائقها من ريها ذات بهجة ... بها الراح والريحان والورد محدق
وفي كنفي سطرى ومقرى معالم ... تعلم أسباب الهوى كيف تعلق(3/305)
عليلة أنفاس النسيم رياضها ... كأن سراها فأر مسك مفتق
إذا ما تغنت في ذرى الدوح ورقها ... غدا كل عود منه كالعود يخفق
وإن جمشت أنهارها نسمة الصبا ... تسلسل فيها ماؤها وهو مطلق
جنيت بها ما شئت من ثمر المنى ... وغازلني فيها الغزال المقرطق
وفي بيت أبيات (1) مصايد للنهى ... خيول الهوى واللهو فيهن سبق
فكم من كئيب نال فيها ترفقاً ... بمن كان لا يحنو ولا يترفق
وكم من خلي لازم طوقه الهوى ... ينوح كما ناح الحمام المطوق
وفي ساحة الميدان أثواب سندس ... لها بهجة تجلو العيون ورونق
كأن شعاع الشمس في كل وجهة ... يفر إذا الغزلان فيه تفرقوا
من الترك لا عانيهم يبلغ المنى ... ولا هو منون عليه فيعتق
عيونهم المرضى ومرضى عهودهم ... تؤكد أسباب الهوى وتوثق
أكفهم ترمي ولا دم طائح ... وألحاظهم تصمي القلوب وترشق
إذا أرسلوا سود الذوائب خلتها ... محاسنها من جنة الخلد تسرق
تؤلف شمل الماء بعد شتاته ... وتجمع شمل الأنس وهو مفرق
ومن جسر جسرين إلى تل راهط ... ظلال عنان الأنس فيهن مطلق
فكم من غياض في رياض وجنة ... بها كوثر من مائها يتدفق
حدائقها لا ظلها قالص ولا ... مجال خيول اللهو فيهن ضيق
رعى الله من ودعت والوجد قابض ... عنان لساني والمدامع تنطق
وفارقتهم لا عن ملال ولا رضى ... وغربت عنهم غير قال وشرقوا
لئن حالت الأيام دون لقائهم ... فما حال لي العهد ولا انحل موثق
أجيراننا بالغوطتين عليكم ... سلام مشوق قد براه التشوق
__________
(1) لعل الصواب: بيت أبيار (أو بيت آبار) .(3/306)
له كل يوم ثوب وجد مجدد ... وصبر كما شاءت نواكم ممزق
أعاتب دهراً صرفه غير معتب ... أصرف فيه كنز عمري وأنفق
نأت بي ولم تسمع خطابي خطوبه ... فدام زفيري والحنين المؤرق
وبدلت عن تلك الظلال وطيبها ... منازل صافي العيش منها مرنق
أظل نجي الشوق لا نار لوعتي ... تبوح ولا شمل الأسى يتفرق
وكم ليلة شاب الفؤاد بطولها ... وما شاب للظلماء فود ومفرق
وإن غيبتني غشية توهم الكرى ... يواصل طيف الهم فيها ويطرق
ويمزج ماء النيل عند وروده ... بدمعي أشواق إليكم فأشرق
فيا ليت شعري هل تلوح لمقلتي ... منازل ظني باللقاء محقق
وهل شائم برق الثنية ناظري ... على القرب يخفى تارة ثم يخفق
وهل بارد من ماء باناس مبرد ... لظى كبد حرى لها الشوق محرق
وهل زمني بالصالحية عائد ... يبلغني أقصى المنى ويحقق
وهل يجمعني والأحبة موقف ... لنشكو جميعاً ما لقيت وما لقوا
وهل لي إلى باب البريد وقد نأى ... بريد به فيما يبلغ موثق
دمشق أذاقتني الليالي فراقها ... وقد كنت أخشى منه قدماً وأفرق
هي الغرض الأقصى ورؤيتها المنى ... وسكانها ودي لهم متوثق
ولو لم تكن ذات العماد لما غدت ... وليس لها مثل على الأرض يخلق
حنيني إليها ما حييت مرجع ... وقلبي أسير الشوق والدمع مطلق
عليها تحياتي غواد روائح ... بها الريح تجري والركائب تخفق
لجامعها المعمور بالذكر بهجة ... ومرأى يسر الناظرين ورونق
محاسنه بكر الزمان فصرفه ... علينا مدى الأيام حان ومشفق
به زجل التسبيح عال بهيجه ... حنين إلى ذاك الحمى وتشوق
وللعلم فيه والعبادة معلم ... جديد على أمر الجديدين مونق
وفيه لأرباب التلاوة لذة ... إذا أخذوا في شأنهم وتحلقوا(3/307)
كأن مجاج النحل في لهواتهم ... إذا رجعوا الأصوات فيها وأطلقوا
وكم فيه من مثوى نبي ومشهد ... بنسبته يسمو محلاً ويسمق
وكم قائم لله فيه تهجداً ... بدعوته نكفى المخوف ونرزق
مصابيحه تجلو الظلام كأنها ... مصابيح في جو السماء تألق
وقبته مأوى الهلال وبرجه ... وفي كل أفق منه للحسن مشرق
وقد جاوز الجوزاء فيه مآذن ... بأكنافها نور الجلالة محدق
فواحدها منه الهلال سوارة ... وأخرى لها الجوزاء قرط معلق
وأخرى ترى الإكليل في غسق الدجى ... يزان بها منها جبين ومفرق
إذا ما بدا قوس السحاب لناظر ... فمنها له في الجو سهم مفوق
وقد نازع النسر العنان كأنه ... إلى أخويه نازع متشوق
أحاطت به الأمواه من كل جانب ... وأمثالها في أرضه تتخرق
فمن بركة فيحاء يدعج ماؤها ... ومن جدول ريان كالسهم يمرق
وفوارة يحكي سبيكة فضة ... تلألؤها أو بارقاً يتألق
فإن تنجز الأيام وعداً بقربها ... فإني موفى الحظ منها موفق
وإن أرض طوعاً أرض مصر وحرها ... بديلاً فإني فائل الرأي أخرق
سقاها فروى كل منفصم العرى ... من الدلو دان مرعد السحب مبرق
إذا أثقلت حملاً رواعد مزنه ... حسبت عشار النوق للرعد تطلق
وإن شهرت سيفاً من البرق كفها ... رأيت بخديه دم المحل يرهق
على أنه أضحى الكفيل بريها ... وإن ضن غيثاً ماؤها المتدفق وكان قد وعده الشيخ شهاب الدين محمود وفخر الدين ابن الجنان فأخلفا، فكتب إلى الشيخ شهاب الدين محمود:
مواعد الفخر والشهاب ... أكذب من لامع السراب
أحسنت بالسيدين ظناً ... فكان نقباً على خراب(3/308)
كم أخلفاني فخلفاني ... إذ كنت غراً على التراب
بما تكلفت من أمور ... ما كن من عادتي ودابي
خرجت فيهن من قشوري ... فأفقراني من اللباب راغا وزاغا وليس هذا ال خداع من شيمة الصحاب
لو أنصفاني بفرط شوقي ... لوافياني بلا طلاب
أو عدلاً في الوداد عادا ... بعد عدول إلى الصواب
هل أمن الصعب من ملامي ... والمؤلم المر من عقابيي فأجابه شهاب الدين:
أبارق لاح في صباح ... أم نظم الدر في سخاب
أم أسطر فر جيش همي ... حين تسارعن في طلابي
لم ير من قبلها محب ... كتائباً سرن في كتاب
أرسلها سيد نداه ... يهزأ بالزاخر العباب
إلى غريبين لو يزالا ... لها مدى الدهر في ارتقاب
لم يخلفا الوعد بل أقاما ... ليأخذ الجوع في التهاب
ويستطيلا بكل ناب ... كالصارم العضب غير نابي
ويصبح الفخر وهو جاث ... ينقض للأكل كالشهاب فلما زاره كتب إلى الأمير ناصر الدين الحراني متولي حرب دمشق:
تفضل فخر الدين مثل شهابه ... وزارا محل العبد وامتثلا الأمرا
وجاءا بجمع ضامرين من الطوى ... فما تركوا عندي لباباً ولا قشرا
فأوسعتهم بالرغم مني كرامة ... وإن كنت بالتحقيق ضقت بهم صدرا
وقالوا جميعاً يخلف الله قلت إن ... تقبل منكم كان في السنة الأخرى وقال أيضاً (1) :
__________
(1) وردت هذه القصيدة في الزركشي.(3/309)
أدار عقيقاً في إناء من الدر ... فعاينت شمس الراح في راحة البدر
وأبدت سماء الكأس زهر نجومها ... فيا حسن يوم حف بالأنجم الزهر
غدت كعبة الأفراح إذ طاف ناحراً ... بها لهم مصقول الترائب والنحر
غزال له من أخته البعد والسنا ... وليس لها در القلائد والثغر
أغارت على أسرار أرواح شربها ... وأنقذت الأفراح من قبضة الأسر
غرير من الأتراك زنجي خاله ... كقلبي مقيم من هواه على جمر
إذا ازور سخطاً أو تلفت راضياً ... أمات وأحيا بالقطوب وبالبشر
وإن سل سيف اللحظ أو هز عطفه ... فيا خجلة البيض القواضب والسمر
تمتع بأيام الصبا واغد جامعاً ... لشمل صبا الأيام باللذة بالبكر
فما العيش إلا وصل كأس بأختها ... وجارية تسقي وساقية تجري
وداو بحسن الظن بالله كل ما ... جنيت فعفو الله يجلو دجى الوزر 433 (1)
قطب الدين القسطلاني
محمد بن أحمد بن علي بن محمد بن الحسن بن عبد الله بن ميمون، الإمام الزاهد قطب الدين القسطلاني التوزري الأصل المصري ثم المكي، ابن الشيخ الزاهد أبي العباس؛ ولد " بمصر " (2) سنة أربع عشرة وستمائة، ونشأ بمكة (3) ، وسمع من ابن البناء والسهروردي وابن الزبيدي وجماعة، وقرأ
__________
(1) الوافي 2: 132 والزركشي: 268 والبدر السافر: 73 والشذرات 5: 397 والنجوم الزاهرة 7: 373 وطبقات السبكي 5: 18 والمغرب (قسم مصر) 1: 269 وحسن المحاضرة 1: 419 وتاريخ علماء بغداد: 173 والأسنوي 2: 326.
(2) زيادة ضرورية من الوافي.
(3) في المطبوعة: ونشأ بها.(3/310)
العلم ودرس وأفتى ورحل في طلب الحديث؛ وسمع ببغداد ومصر والشام والموصل، وكان شيخاً عالماً زاهداً عابداً كريم النفس كثير الإيثار حسن الأخلاق قليل المثال؛ طلب من مكة إلى القاهرة وولي مشيخة دار الحديث بالدار الكاملية إلى أن مات، وله شعر مليح. وروى عنه الدمياطي والمزي والبرزالي وخلق كثير.
وكان يتوجه إلى أبي الهول الذي عند أهرام مصر، وهو رأس الصنم الذي هناك، ويعلو رأسه ويضربه باللالكة، ويقول: يا أبا الهول، افعل كذا، افعل كذا، لأن جماعة من أهل مصر يزعمون أن الشمس إذا كانت في الحمل وتوجه أحدهم إلى أبي الهول، وبخر بشكاعى وباذاورد، ووقف عليه وقال ثلاثاً وثلاثين (1) مرة كلمات يحفظونها، وقال معها: يا أبا الهول افعل كذا، فزعموا أن ذلك يتفق وقوعه، وكان الشيخ قطب الدين يفعل ذلك إهانة لأبي الهول وعكساً لذلك المقصد الفاسد؛ لأن تلك الكلمات ربما تكون تعظيماً له ضرورة.
وتوفي الشيخ قطب الدين سنة ستمائة وست وثمانين؛ ومن شعره:
إذا كان أنسي في التزامي لخلوتي ... وقلبي عن كل البرية خالي
فما ضرني من كان في الدهر قالياً (2) ... وما سرني من كان في موالي وقال أيضاً:
ألا هل لهجر العامرية إقصار ... فتقضى من الوجد المبرح أوطار
عسى ما مضى من خفض (3) عيشي في الحمى ... يعود ولي فيه نجوم وأقمار
عدمت فؤادي إن تعلقت غيرها ... وإن زين السلوان لي فهو غدار
__________
(1) الوافي: ثلاثاً وستين.
(2) البدر السافر: من كان لي الدهر جافياً.
(3) المطبوعة: طيب؛ وأثبت ما في الزركشي والوافي.(3/311)
ولي من دواعي الشوق في السخط والرضى ... على الوصل والهجران ناه وأمار
أأسلو وفي الأحشاء من لاعج الجوى ... لهيب أسأل الروح فالصبر منهار وقال أيضاً:
لما رأيتك مشرقاً في ذاتي ... بدلت من حالي ذميم صفاتي
وتوجهت أسرار فكري سجداً ... لجميل ما واجهت من لحظاتي
وتلوت من آيات حسنك سورة ... وسارت محاسنها لجمع (1) شتاتي
وبلوت أحوالي فخلت معبراً ... في الصحو عن سكري بصدق ثباتي
وتحولت أحوال سري في العلا ... فعلت على (2) محو وعن إثبات
وتوحدت صفتي فرحت مروحاً ... نظراً لما أشهدت من آيات
لا أشتهي أن أشتهي متنزهاً (3) ... بل أنتهي عن غفلة الشهوات
أنا إن ظهرت فعن ظهور بواطن ... شهدت بنطق كان من سكتاتي
من كان يجهل ما أقول عذرته ... فالشمس تخفى في دجى الظلمات
فدع المعنف والعذول وقل له ... الحق أبلج فاستمع كلماتي
لا تيأسن بذاهب من حاضر ... أو غائب يدعو إلى الغفلات
لا تنظرن لغير ذاتك واسترح ... عن كل ما في الكون من طلبات
نزه مصادر وردها عن كل ما ... يلقي بها في ظلمة الشبهات
__________
(1) الوافي: بجمع.
(2) هذا ما في الوافي والزركشي؛ وفي المطبوعة: إذ غبت عن.
(3) المطبوعة: مستنزهاً.(3/312)
434 - (1)
قاضي القضاة الخويي
محمد بن أحمد بن الخليل بن سعادة بن جعفر، قاضي القضاة ذو الفنون شهاب الدين ابن قاضي القضاة شمس الدين الخويي (2) الشافعي، قاضي دمشق وابن قاضيها؛ ولد في سنة ست وعشرين وستمائة ونشأ بدمشق، وقد اشتغل في صغره، ومات والده وله إحدى عشرة سنة فبقي منقطعاً بالعادلية، ثم أدمن الدرس والسهر والتكرار مدة بالمدرسة، وحفظ عدة كتب وعرضها، وتميز على أقرانه، وسمع في صغره من ابن اللتي، وابن المقير والسخاوي وابن الصلاح، وأجاز له خلق من أصبهان وبغداد ومصر والشام، ولازم الاشتغال في كبره.
وصنف كتاباً كبيراً يحتوي على عشرين علماً، وشرح " الفصول " لابن معطي، ونظم " علوم الحديث " لابن الصلاح و " الفصيح " لثعلب، و " كفاية المتحفظ "، وشرح من أول " الملخص " للقابسي خمسة عشر حديثاً في مجلد.
قال الشيخ شمس الدين: ثم انجفل إلى القاهرة فولي قضاء القاهرة والوجه البحري خاصة، اقتطع له من ولاية الوجيه البهنسي، وأقام البهنسي على قضاء مصر والوجه القبلي؛ ولما مات القاضي بهاء الدين ابن الزكي بدمشق نقل الخويي
__________
(1) الوافي 2: 137 والبدر السافر: 76 والزركشي: 269 والأنس الجليل 2: 466 والبداية والنهاية 13: 327 والدارس 1: 237 وبغية الوعاة: 10 والشذرات 5: 423 والعبر 5: 379 وحسن المحاضرة 1: 543 والاسنوي: 501.
(2) توفي شمس الخويي سنة 637 (انظر ابن خلكان 4: 258) وابن العدجيم 1: 80 وابن قاضي شهبة: 168 وابن الشعار 1: 297 والسبكي 5: 8 والذيل على الروضتين: 167 والاسنوي 1: 500 وذكر محقق الأسنوي عدداً من مصادر الترجمة.(3/313)
إليها. وسمع منه المزي والبرزالي والنابلسي والختني وعلاء الدين المقدسي.
وتوفي في بستان صيف فيه بالسهم يوم الخميس خامس عشرين (1) رمضان سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وصلي عليه بالجامع المظفري ودفن عند والده بتربته بالجبل. كان يعرف من العلوم التفسير والأصولين والفقه والنحو والخلاف والمعاني والبيان والحساب والفرائض. ومن شعره رحمه الله تعالى:
بخفي لطفك كل سوء أتقي ... فامنن بإرشادي إليه ووفق
أحسنت في الماضي وإني واثق ... بك أن تجود علي فيما قد بقي
أنت الذي أرجو فما لي والورى (2) ... إن الذي يرجو سواك هو الشقي وقال أيضاً:
أما سواك فبابه لا أطرق ... حسبي كريم جوده متدفق
ما إن يخافك بظل بابك واقف ... ظمأ وبحر نداك طام مغدق
بحبال جودك لا يزال تعلقي ... ما خاب يوماً من بها يتعلق
بشرى لمن أضحى رجاؤك كنزه ... وله الوثوق بأنه لا يملق 435 (3)
الشيخ محمد ابن تمام
محمد بن أحمد بن تمام الصالحي الحنبلي الخياط؛ هو الشيخ البركة أخو الشيخ تقي الدين ابن تمام، ولد بطريق الحج سنة إحدى وخمسين وستمائة،
__________
(1) المطبوعة: خامس عشر؛ وأثبت ما في الوافي والبدر السافر.
(2) المطبوعة: في الورى.
(3) الوافي 2: 152 والدرر الكامنة 3: 400 وذيل العبر: 220 وذيل ابن رجب 2: 433 والبداية والنهاية 14: 189.(3/314)
وسمع سنة ست وخمسين من عمره بن عوة التاجر وتمام السروري (1) وابن عبد الدايم وعبد الوهاب بن محمد، وسمع منه خلق كثير.
واشتهر بالصلاح والتواضع، وقد طال عمره، وكان يرتزق من خياطة الخام ومما يفتح عليه، ويطعم ويؤثر. وكان مليح الوجه بساماً لين الكلمة أماراً بالمعروف، له وقع في القلوب ومحبة في الصدور، نشأ في تصون وعفاف وقناعة، وتفقه قليلاً وصحب الأخيار مثل الشيخ شمس الدين ابن الكمال، ورافق ابن مسلم والشيخ علي بن نفيس. وكان الأمير سيف الدين تنكز يكرمه ويزوره، ويذهب هو إليه ويشفع عنده، وتمتع بحواسه وأبطأ مشيبه. وتوفي ثالث عشر ربيع الأول سنة إحدى أربعين وسبعمائة، رحمه الله تعالى.
436 - (2)
الحافظ شمس الدين الذهبي
محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز، الشيخ الإمام العلامة الحافظ شمس الدين أبو عبد الله الذهبي، حافظ لا يجارى، ولافظ (3) لا يبارى، أتقن الحديث ورجاله، ونظر علله وأحواله، وعرف تراجم الناس، وأبان الإبهام في تواريخهم والإلباس، جمع الكثير، ونفع الجم الغفير، وأكثر من التصنيف، ووفر بالاختصار مؤونة التطويل في التأليف، وقف الشيخ كمال الدين ابن
__________
(1) المطبوعة: السروري.
(2) الوافي 2: 163 والزركشي: 270 والدرر الكامنة 3: 426 وطبقات السبكي 5: 216 وذيول تذكرة الحفاظ: 34 والشذرات 6: 153 والبداية والنهاية 14: 225 والنجوم الزاهرة 10: 182 وتاريخ ابن الوردي 2: 349 وذيل العبر: 268 والدارس 1: 78 وغاية النهاية 2: 71.
(3) المطبوعة: ولاحظ.(3/315)
الزملكاني رحمه الله تعالى على تاريخه الكبير المسمى بتاريخ الإسلام جزءاً بعد جزء إلى أن أنهاه مطالعة، هذا كتاب علم (1) .
ومن تصانيفه: كتاب " تاريخ الإسلام " عشرين مجلداً، وكتاب " تاريخ النبلاء " عشرين مجلداً، و " الدول الإسلامية " و " طبقات القراء " و " طبقات الحفاظ " مجلدان، و " ميزان الاعتدال " ثلاث مجلدات و " المشتبه في الأسماء والأنساب " مجلد. " نبأ الدجال " مجلد. " تذهيب التهذيب " اختصار تهذيب الكمال ثلاث مجلدات. " اختصار كتاب الأطراف " مجلدان. " الكاشف ". اختصار " التذهيب " مجلد. " اختصار سنن البيهقي " خمس مجلدات. " تنقيح أحاديث التعليق " لابن الجوزي. " المستحلى اختصار المحلى ". " المقتنى في الكنى ". " المغني في الضعفاء ". " العبر في خبر من غبر " مجلدان. " أختصار المستدرك للحاكم " مجلدان. " اختصار تاريخ ابن عساكر " عشر مجلدات. " اختصار تاريخ الخطيب " مجلدان. " اختصار تاريخ نيسابور " مجلد. " الكبائر " جزآن. " تحريم الإدبار " جزآن. " أخبار السد ". " أحاديث مختصر ابن الحاجب ". " توقيف أهل التوفيق على مناقب الصديق " مجلد. " نعم السمر في سيرة عمر " مجلد. " التبيان في مناقب عثمان " مجلد. " فتح المطالب في أخبار علي بن أبي طالب " مجلد. " معجم أشياخه " وهم ألف وثلاثمائة شيخ. " اختصار كتاب الجهاد لابن عساكر " مجلد. " ما بعد الموت " مجلد. " اختصار كتاب القدر للبهيقي " ثلاثة أجزاء. " هالة البدر في عدد أهل البدر ". " اختصار تقويم البلدان " لصاحب حماة. " نفض الجعبة في أخبار شعبة ". " قض نهارك بأخبار ابن المبارك ". " أخبار أبي مسلم الخراساني ". وله في تراجم الأعيان لكل واحد منهم مصنف قائم الذات، مثل الأئمة الأربعة، ومن يجري مجراهم، لكنه أدخل الكل " في تاريخ النبلاء " (2) .
__________
(1) المطبوعة: كتاب جليل.
(2) المطبوعة: تاريخ العلماء والنبلاء.(3/316)
وكان مولده في ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين وستمائة، وتوفي في سنة ثمان وأربعين وسبعمائة.
ومن شعره:
إذا قرأ الحديث علي شخص ... وأخلى موضعاً لوفاة مثلي
فمات جازى بإحسان لأني ... " أريد حياته ويريد قتلي " وله أيضاً:
لو أن سفيان على حفظه ... في بعض همي نسي الماضي
نفسي وعرسي ثم ضرسي سعوا ... في غربتي والشيخ والقاضي وقال أيضاً:
العلم قال الله قال رسوله ... إن صح والإجماع فاجهد فيه
وحذار من نصب الخلاف جهالة ... بين الرسول وبين رأي فقيه 437 (2)
المنتصر بالله
محمد بن جعفر أمير المؤمنين المنتصر " بالله " (3) ابن المتوكل ابن المعتصم ابن الرشيد ابن المهدي ابن المنصور؛ كان أعين أقنى أسمر مليح الوجه جسيماً
__________
(2) الوافي: 289 والزركشي: 270 وتاريخ بغداد 2: 119 ومعجم الشعراء: 400 والأغاني 9: 293 والروحي: 55 والفخري: 217 وتاريخ الخلفاء: 385 وخلاصة الذهب المسبوك: 227 وانظر المصادر التاريخية الكبرى: الطبري وابن الأثير واليعقوبي والمسعودي ... الخ.
(3) زيادة من الوافي.(3/317)
مهيباً، وكان وافر العقل راغباً في الخير قليل الظلم محسناً إلى العلويين.
وكان يقول: يا بغا أين أبي؟ من قتل أبي؟ ويسب الأتراك ويقول: هؤلاء القتلة الخلفاء، فدسوا للطبيب ابن طيفور ثلاثين ألف دينار عند مرضه فأشار بفصده بريشة مسمومة فمات. ويقال إن ابن طيفور نسي وقال لغلامه: افصدني، ففصده بتلك الريشة فمات أيضاً. وقيل مات بالخوانيق، وقيل سم في كمثراة بإبرة، وقال عند موته: يا أماه، ذهبت مني الدنيا والآخرة، عاجلت أبي فعوجلت. ولم يتمتع بالخلافة لأنه ولي في شوال سنة سبع وأربعين ومائتين، ومات في ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين، وعاش ستاً وعشرين سنة، وقال عند الموت:
فما متعت نفسي بدنيا أصبتها ... ولكن إلى الرب الكريم أصير
وما كان ما قدمته رأي فلتة ... ولكن بفتياها أشار مشير وقال أيضاً:
متى ترفع الأيام من قد وضعته ... وينقاد لي دهر علي جموح
أعلل نفسي بالرجاء وإنني ... لأغدو على من ساءني وأروح وله فيما نسب إليه من قتل أبيه:
لو يعلم الناس نالني ... فليس لي عندهم عذر
كان إلي الأمر في ظاهر ... وليس لي في باطن الأمر قال سبط ابن الجوزي في " المرآة ": كان المتوكل قد أراد أن ينقل العهد من ابنه المنتصر لابنه المعتز لمحبته لأمه، وسام المنتصر أن ينزل عن ولاية العهد فأبى، وكان يحضره ويتهدده بالقتل، فأحضره ليلة وشتمه شتماً قبيحاً وشتم أمه، فقام المنتصر وهو يقول: والله لو أنها جارية لبعض سواسك لمنعت من ذكرها ولوجب عليك صيانتها، فغضب المتوكل وقال للفتح بن(3/318)
خاقان: وحق قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن لم تلطمه لأقتلنك، فقام الفتح ولطمه، وقال المتوكل: اشهدوا علي، إنني قد خلعته من الخلافة، فبقيت هذه الأشياء في قلبه، وعمل ما عمل مما هو مذكور في ترجمة المتوكل والله أعلم.
438 - (1)
المعتز بالله
محمد بن جعفر، أمير المؤمنين المعتز بالله ابن المتوكل ابن المعتصم؛ ولد سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، ولم يل الخلافة قبله أصغر منه، بويع له بالخلافة عند عزل المستعين بالله وهو ابن تسع عشرة سنة، وكانت خلافته ثلاث سنين وستة أشهر وأربعة عشر يوماً، ومات عن أربع وعشرين سنة.
وكان مستضعفاً مع الأتراك، اجتمع إليه الأتراك وقالوا له: أعطنا أرزاقنا لنقتل صالح بن وصيف، وكان يخافه، فطلب من أمه مالاً لنفقة الأتراك فأبت، ولم يكن في بيوت الأموال شيء، فاجتمعوا هم وصالح واتفقوا على خلعه، وجروه برجله وضربوه بالدبابيس وأقاموه في الشمس في يوم صائف، فبقي يرفع قدماً ويضع أخرى وهم يلطمون وجهه ويقولون: اخلع نفسك، ثم أحضروا القاضي ابن أبي الشوارب والشهود وخلعوه، ثم أحضروا محمد بن الواثق من سامرا فسلم عليه المعتز بالخلافة وبايعه، ولقبوه المهتدي، ثم إنهم أخذوا المعتز بعد خمسة أيام وأدخلوه الحمام وعطشوه،
__________
(1) الوافي 2: 291 والزركشي: 271 والأغاني 9: 298 وتاريخ بغداد 2: 121 ومعجم الشعراء: 400 والديارات: 106 والروحي: 56 والفخري: 220 وتاريخ الخلفاء: 388 وخلاصة الذهب المسبوك: 230 والمصارد التاريخية الكبرى.(3/319)
وطلب الماء فمنعوه من ذلك حتى أغمي عليه، فأخرجوه وسقوه ماء فشربه وسقط ميتاً.
وقال سبط ابن الجوزي في المرآة: لما أوقفوه في الشمس طلب نعلاً فلم يعطوه، فأسبل سراويله على رجليه، وقيل أنهم نزعوا أصابع يديه ورجليه ثم خنقوه، وقيل أدخلوه سرداباً مجصصاً جديداً فاختنق، ولم يعذب خليفة بمثل ما عذب على صغر سنه؛ وتوفي يوم السبت لست خلون من رمضان (1) سنة خمس وخمسين ومائتين، ودفن إلى جانب أخيه المنتصر.
وكان أبيض جميل الوجه، على خده الأيسر خال أسود، وصلى عليه المهتدي. وأمه رومية، وكان نقش خاتمه " المعتز بالله " وهو ثالث خليفة خلع من بني عباس، ورابع خليفة قتل منهم. قال البحتري: كنت صاحباً لأبي معشر المنجم، فتضايقنا مضايقة شديدة، فدخلنا على المعتز وهو محبوس قبل أن يلي الخلافة، فأنشدته أبياتاً كنت قلتها (2) :
جعلت فداك الدهر ليس بمنفك ... من الحادث المشكو والنازل المشكي
وما هذه الأيام إلا منازل ... فمن منزل رحب إلى منزل ضنك
وقد هذبتك الحادثات وإنما ... صفا الذهب الإبريز قبلك ضنك
أما في رسول الله يوسف أسوة ... لمثلك محبوساً على الظلم والإفك
أقام جميل الصبر في السجن برهة ... فآل به الصبر الجميل إلى الملك فدفع الورقة إلى خادم على رأسه وقال: احتفظ بها فإن فرج الله تعالى ذكرني لأقضي حاجتهم، وكان أبو معشر قد أخذ له طالعاً لمولده فحكم له بالخلافة بمقتضى الطالع، فلما ولي الخلافة أعطى كل واحد منا ألف دينار، وأجرى له في كل شهر مائة دينار.
__________
(1) الوافي: من شعبان، وقيل في اليوم الثاني من رمضان.
(2) ديوان البحتري: 1567 وكان البحتري قد قال هذه الأبيات في أبي سعيد الثغري.(3/320)
وقال الزبير بن بكار: دخلت على المعتز فقال لي: يا عبد الله، قد قلت أبياتاً في مرضي هذا، وقد أعيا علي إجازة بعضها، وأنشدني:
إني عرفت علاج القلب من وجعي ... وما عرفت علاج الحب والهلع
جزعت للحب والحمى صبرت لها ... فليس يشغلني عن حبكم وجعي " قال الزبير: فقلت " (1) :
وما أمل ببيتي ليلتي أبداً ... مع الحبيب ويا ليت الحبيب معي 439 (2)
الراضي بالله
محمد بن جعفر بن أحمد، الراضي بالله أمير المؤمنين ابن المقتدر ابن المعتضد؛ كان سمحاً واسع النفس، أديباً شاعراً كريم الأخلاق، محباً للعلماء مجالس لهم، ختم الخلفاء في أمور عدة: منها أنه آخر خليفة له شعر مدون، وآخر خليفة انفرد بتدبير الجيوش والأموال، وآخر خليفة جالس الندماء، وآخر خليفة كانت عطاياه ونفقاته وجوائزه تجري على ترتيب الخلفاء الأول؛ وقع حريق في الكرخ فأطلق خمسين ألف دينار لعمارة ما احترق.
قال الصولي: دخلت عليه وهو جالس على آجرة قبالة الصانع، وكنت أنا وجماعة من الجلساء، فأمر بالجلوس، فأخذ كل واحد منا آجرة وجلس عليها، واتفق أني قد أخذت أنا آجرتين ملتصقتين فجلست عليهما، فلما
__________
(1) سقط هذا من المطبوعة.
(2) الوافي 2: 297 والزركشي: 271 وتاريخ بغداد 2: 142 وكتاب أخبار الراضي والمتقي للصولي؛ ومعجم الشعراء: 430 والبداية والنهاية 11: 196 والروحي: 62 والفخري: 251 وتاريخ الخلفاء: 421 وخلاصة الذهب المسبوك: 252 والمصادر التاريخية الكبري.(3/321)
قمنا أمر أن توزن كل آجرة ويدفع إلى صاحبها بوزنها دنانير، قال الصولي: فتضاعفت جائزتي عليهم. وقد حكي عنه أنواع من الكرم.
ومن شعره وقد تكلم الناس في إنفاقه الأموال:
لا نقد في (1) كرمي على الإسراف ... ربح المحامد متجر الأشراف
أجري كآبائي الخلائف سابقاً ... وأشيد ما قد أسست أسلافي
إني من القوم الذين أكفهم ... معتادة الإتلاف والإخلاف وقال أيضاً:
يصفر وجهي إذا تأمله ... طرفي ويحمر وجهه خجلا
حتى كأن الذي بوجنته ... من دم جسمي إليه قد نقلا وقال أيضاً:
قد أفصحت بالوتر الأعجم ... وأفهمت من كان لم يفهم
جارية تحسب (2) من لطفها ... مخاطباً ينطق لا من فم
جست من العود مجاري الهوى ... جس الأطباء مجاري الدم وقال أيضاً عند موته:
كل صفو إلى كدر ... كل أمر إلى حذر
ومصير الشباب لل ... موت فيه أو الكبر
أيها الآمل الذي ... تاه في لجة الغرر
أين من كان قبلنا ... درس الشخص والأثر
رب إني ادخرت عن ... دك أرجوه مدخر
أنني مؤمن بما ... بين الوحي في السير قيل إنه مرض وتقيأ في يومين أربعة عشر رطل دم، وقيل إنه استسقى وأصابه
__________
(1) الوافي: لا تعذلي.
(2) الوافي: تحضن.(3/322)
ذرب عظيم، وكان عظم آفاته كثرة الجماع؛ توفي ببغداد منتصف ربيع الآخر سنة تسع (1) وعشرين وثلاثمائة، وهو ابن إحدى وثلاثين سنة وستة أشهر، وكانت خلافته ستة سنين وعشرة أيام، ولم يوجد له حنوط لأن الخزائن ختمت عند موته، فاشتروا له حنوطاً من بعض العطارين، وحمل إلى الرصافة في طيار ودفن في تربة عظيمة له أنفق عليها أموال كثيرة. قال ابن الجوزي: درست الآن، ولم يبق لها عين ولا أثر. كان قصيراً أسمر نحيفاً في وجهه طول، رحمه الله تعالى عفا عنا وعنه.
440 - (2)
ابن حمدون صاحب التذكرة
محمد بن الحسن بن محمد بن علي بن حمدون، أبو المعالي ابن أبي سعد، الكاتب المعدل كافي الكفاة بهاء الدين البغدادي؛ من بيت فضل ورياسة، وكان ذا معرفة بالأدب والكتابة، سمع وروى وصنف كتاب " التذكرة " في الأدب والنوادر والتواريخ، وهو كتاب كبير يدخل في اثني عشر مجلداً، اختص بالمستنجد يجتمع به وينادمه (3) ، وولاه ديوان الزمام، وكان أولاً عارض جيش المقتفي. وكان كريم الأخلاق حسن العشرة، وقف المستنجد على حكايات له رواها في " التذكرة " توهم غضاضة على الدولة، فأخذ من دست منصبه
__________
(1) المطبوعة: سبع.
(2) الوافي 2: 357 والزركشي: 271 والخريدة (قسم العراق) 1: 184 والمنتظم 10: 221 والنجوم الزاهرة 5: 374 والشذرات 4: 206 وليست هذه الترجمة من المستدرك على ابن خلكان فقد ترجم له (4: 380) .
(3) الوافي: ويذكراه.(3/323)
وحبس، ولم يزل في سجنه إلى أن رمس؛ توفي محبوساً سنة اثنتين وستين وخمسمائة.
ومن شعره:
يا خفيف العقل والرأس معاً ... وثقيل الروح أيضاً والبدن
تدعي أنك مثلي طيب ... طيب أنت ولكن بلبن (1) وقال أيضاً:
وحاشا معاليك أن تستزاد ... وحاشا نوالك أن يقتضى
ولكنما أستزيد الحظوظ ... وإن أمرتني النهى بالرضى 441 (2)
ابن الأردخل
محمد بن " أبي " الحسن بن يمن، أبو عبد الله الأنصاري الموصلي، المعروف بابن الأردخل الشاعر، نديم صاحب الموصل، ونديم صاحب ميافارقين؛ كان من الشعراء المجيدين، مدح الأشرف موسى وغيره، والأردخل هو المجيد في البناء (3) توفي سنة ثمان وعشرين (4) وستمائة.
__________
(1) علق الصفدي على ذلك بقوله: يريد أنه قرع.
(2) الوافي 2: 358 والزركشي: 271 وابن خلكان 5: 236 ووقع في بعض نسخ ابن خلكان ((محمد بن ابي الحسين)) ؛ وفي الزركشي: محمد بن الحسن.
(3) هكذا قال الصفدي أيضاً والزركشي، والكلمة سريانية بفتح الهمزة، وتعني ((البناء الحاذق)) ، وذكر صاحب التاج لها معنى آخر، وحقق ذلك مؤلف الأعلام (6: 316) فانظره.
(4) عند الزركشي والمطبوعة: وخمسين؛ وهو خطأ، وقول ابن خلكان هو المعتمد هنا، وقد وافقه الصفدي في ذلك.(3/324)
ومن شعره رحمه الله:
ولقد رأيت على الأراك حمامة ... تبكي فتسعدني على أحزاني
تبكي على غصن وأندب قامة ... فجميعنا يبكي على الأغصان
صرع الزمان وحيدها فتعللت ... من بعده بالنوح والأحزان
تخشى من الأوتار وهي مروعة ... منها فلم غنت على العيدان وقال أيضاً:
أير أنام الليل وهو يقوم ... حامي الإهاب كأنه محموم
مغرى بحرف الجر إلا أنه ... ما زال مفتوحاً به المضموم وله أيضاً:
أفي كل يوم لي من الدهر صاحب ... جديد ولي حاد إلى بلد يحدو
أروح وأغدو للغنى غير مدرك ... ويدركه من لا يروح ولا يغدو وقال أيضاً:
وذكرها ماء بدحلة لائم ... فلم تتمالك أن جرت عبراتها
فلله عين ما عتبت دموعها ... صمتن وإقرار الجواري صماتها وله أيضاً:
ما على من وصاله الصبح لو قص ... ر من ليل هجره ما أطاله
ألفي القوام عني أمالو ... هـ فقلبي مكسور تلك الإمالة وقال:
واهاً على عيش مضت سنواته ... فكأنما كانت هي الساعات
والراح ترجم كل هم طالع ... بكواكب أفلاكها الراحات
قابلت بالساقي السماء فأطلعت ... بدراً علي كأنها مرآة
الخضر عارضه وواضح ثغره ... عين الحياة وصدغه الظلمات(3/325)
وله أيضاً:
يا قريباً عصيت فيه التنائي ... وعزيزاً أطعت فيه الهوانا
أخذت وصف قدك الورق عني ... فأحبت لحبه (1) الأغصانا 442 (2)
الشمس الصايغ
محمد بن الحسن بن سباع، شمس الدين الصايغ العروضي؛ أقام بالصاغة زماناً يقرئ الناس العربية والعروض والأدب، وكان يألف بقطب الدين ابن شيخ السلامية، ورأيته " غير " مرة. توفي سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة تقريباً، وكان له نظم ونثر، وشرح " ملحة الإعراب " وشرح الدريدية في مجلدين كبيرين، رأيته بخطه، وديوانه مجلدين كبيرين، واختصر " صحاح " الجوهري وجرده من الشواهد، وله قصيدة تائية على وزن الهيتية التي لشيطان العراق (3) وتزيد على ألفي (4) بيت، وله المقامة الشهابية عملها للقاضي شهاب الدين الخويي.
ومن نظمه:
إن جزت بالموكب يوماً فلا ... تسأل عن السيارة الكنس
فثم آرام على ضمر ... لله ما تفعل بالأنفس
فقل لذي الهيئة يا ذا الذي ... ينقل ما ينقل عن هرمس
__________
(1) المطبوعة: فأمالت بلحنها.
(2) الوافي 2: 361 والزركشي: 272 والدرر الكامنة 4: 40 وبغية الوعاة: 34.
(3) المطبوعة: التائية التي لسلطان العارفين.
(4) الوافي: الألف؛ وما هنا موافق للزركشي.(3/326)
قولك هذا خطل (1) باطل ... أما ترى الأقمار في الأطلس أخذ هذا المعنى من سيف الدين المشد ونقضه فإنه قال:
زعم الأوائل أنما ... تبدو الذوائب للكواكب وتوهموا الفلك المعظ م أطلساً ما فيه ثاقب
أتراهم لم ينظروا ... ما في الزمان من العجائب
كم من هلال قد بدا ... في أطلس وله ذوائب وقال وهو بمصر يتشوق إلى دمشق:
لي نحو ربعك دائماً يا جلق ... شوق أكاد به جوى أتمزق
وهمول دمع من جوى بأضالع ... ذا مغرق عيني وهذا محرق
أشتاق منك منازلاً لم أنسها ... أنى وقلبي في ربوعك موئق
طلل به خلقي تكون أولاً ... وبه عرفت بكل ما أتخلق
وقف عليه لدى التأسف والبكا ... قلبي الأسير ودمع عيني المطلق
أدمشق لا بعدت ديارك عن فتى ... أبداً إليك بكله يتشوق
أنفقت في ناديك أيام الصبا ... حباً وذاك أعز شيء ينفق
ورحلت عنك ولي إليك تلفت ... ولكل جمع صدعة وتفرق
فاعتضت عن أنسي بظلك وحشة ... منها وهي جلدي وشاب المفرق
فلبست ثوب الشيب وهو مشهر ... وخلعت (2) ثوب الشرخ وهو معتق
ولكم أسكن عنك قلباً طامعاً ... بوعود قربك وهو شوقاً يخفق
ولكم أحدث عنك من لاقيته ... وجميع من سمع الحديث يصدق
والأرض في عرض وطول دائماً ... لم يحو مثلك غربها والمشرق
لله وادي النيربين (3) وظله ... لا الرقمتان ورامة والأبرق
__________
(1) المطبوعة: خطأ.
(2) الوافي: ونزعت.
(3) المطبوعة: النيرين؛ وهو خطأ.(3/327)
وسقى ديار الصالحية وابل ... يهمي على تلك المنازل مغدق
والسهم لا افترت ثغور أقاحه ... إلا ودمع سحابه يترقرق
كم فيه من قصر منيف مشرف ... يبدو به قمر منير مشرق
وببيت لهيا لا تعداه الحيا ... طلل عليه من النضارة رونق
هو منزل آثاره مشهورة ... ولأهله عهد علي وموثق
وحباك يا أطلال جوبر (1) واصلاً ... غيث مريع مستهل مشفق
لله سرحه ذلك الربع الذي ... قلبي يهيم به وذاك الجوسق (2)
والوادي الشرقي لا برحت به ... ديم تسح ووبلها يتدفق
فغياضه ورياضه كعيونه ... هذا يعوم به وهذا يغرق
ولكم قطعت به زماناً لم أزل ... أشتاقه ما دمت حياً أرزق
في سكر زبدين إلى جسرين كم ... حيا الحيا حياً عليه رونق
بالواديين (3) كلاهما الغربي والشر ... قي نزهة من برفق يرمق
أنى اتجهت رأيت دوحاً ماؤه ... متسلسل يعلو عليه جوسق
والقصر والشرفات والشقراء وال ... ميدان عشقاً للذي لا يعشق
فلكم حوت تلك المنازل صورة ... فيها الجمال مجمع ومفرق
فمخضب ومؤزر ومعمم ... ومزنر ومبرقع ومقرطق
كم من غزال بالنفوس متوج ... وقضيب بان بالعيون ممنطق
والريح تكتب والجداول أسطر (4) ... خط له نسخ الربيع (5) محقق
والطير يقرأ والنسيم مردد ... والغصن يرقص والغدير يصفق (6)
__________
(1) المطبوعة: حوبر؛ وهو خطأ أيضاً.
(2) المطبوعة: الجولق؛ والتصويب عن الزركشي.
(3) المطبوعة: فالواديان، والتصويب عن الزركشي.
(4) الوافي: في الجداول أسطراً.
(5) الوافي: النسيم.
(6) المطبوعة: مصفق، وأثبت ما عند الزركشي والوافي.(3/328)
ومعاطف الأغصان غنتها (1) الصبا ... طرباً فذا عار وهذا مورق
وكأن زهر اللوز أحداق إلى ال ... زوار من خلل الغصون تحدق
وكأن أشجار الرياض سرادق ... في ظلها من كل لون نمرق
والورد بالألوان يجلو منظراً ... ونسيمه عطر كمسك يعبق
فبلابل منها تهيج بلابلاً ... وكذاك (2) أثواب الشقيق تشقق
وهزاره يصبو إلى شحروره ... ويجاوب القمري فيه مطوق
وكأنما في كل عود صادح ... عود حلا مزمومه والمطلق
والورق في الأوراق يشبه شجوها ... شجوي وأين الخلي (3) الموثق
تتلو على الأغصان أخبار الهوى ... فيكاد ساكن كل شيء ينطق
يا سائراً والريح تعثر دونه ... والبرق يبسم إذ به يتألق
إن جزت من وادي دمشق منازلاً ... لي نحوها حتى الممات تشوق
بالجبهة الغراء والوجه (4) الذي ... يزهو (5) به القصر المنيف الأبلق
ورأيت ذلك الجامع الفرد الذي ... في الأرض طراً مثله لا يخلق
قل للفتى عبد الرحيم (6) فإنني ... أبداً بحسن وداده أتحقق
إن كنتم عرضتم بتشوق ... وحياتكم إني إليكم أشوق
أشتاقكم من أرض مصر وبيننا ... بيد تخب لها المطي وتعنق
قفر يحار به (7) الدليل ودونه ... رمل تكاد به المطايا تغرق
لم أستطع فيه المسير كأنه ... لتوقد الرمضاء نار تحرق
__________
(1) المطبوعة: أثنتها.
(2) الوافي: بلابل ولذاك.
(3) الوافي: الطليق.
(4) الزركشي: والنهر؛ ولم يرد هذا البيت وسائر الأبيات حتى آخر القصيدة في الوافي.
(5) الزركشي: يزهي.
(6) هو الشيخ كمال الدين عبد الرحيم.
(7) المطبوعة: بها.(3/329)
فارقتكم لا عن رضى فلبعدكم ... عني علي الرحب ضنك ضيق
وقنعت حتى صرت أرجو منكم ... من بعد ذاك القرب طيفاً يطرق
ولقد عطفت على الزمان معاتباً ... فرأيت كفي عنه صبراً أليق
يمضي النهار وفيه قلبي مفكر ... والليل طرفي بالبعاد مؤرق
فعليكم مني التحية ما بدا ... صبح به وجه الغزالة مشوق 443 (1)
شمس الدين ابن دانيال الحكيم
محمد بن دانيال بن يوسف الموصلي الحكيم الفاضل الأديب، شمس الدين صاحب النظم الحلو والنثر العذب والطباع الداخلة والنكت الغريبة والنوادر العجيبة؛ قال الشيخ صلاح الدين الصفدي: هو ابن حجاج عصره، وابن سكرة مصره، وضع كتاب " طيف الخيال " فأبدع طريقه، وأغرب فيه فكان هو المطرب والمرقص على الحقيقة؛ أخبرني الشيخ فتح الدين ابن سيد الناس قال: كان الحكيم شمس الدين ابن دانيال له دكان كحل داخل باب الفتوح، فاجتزت عليه أنا وجماعة من أصحابه، فرأينا عليه زحمة ممن يكحله، فقالوا: تعالوا نخايل على الحكيم، فقلت لهم: لا تشاكلوه تخسروا (2) معه، فلم يسمعوا وقالوا: يا حكيم تحتاج إلى عصيات؟ يعنون أن هؤلاء الذين يكحلهم يعمون ويحتاجون إلى العصا، فقال بسرعة: لا، إلا إن كان فيكم من يقود لله تعالى، فمروا خجلين؛ وله من هذا النوع غرائب
__________
(1) الوافي 3: 51 والزركشي: 273 والبدر السافر: 92 والنجوم الزاهرة 9: 215 والجواهر المضية 1: 55 والدرر الكامنة 4: 54 (وذكر أن وفاته سنة 710) .
(2) المطبوعة: تخروا.(3/330)
ينقلها المصريون عنه. وكانت وفاته بالديار المصرية في شهور سنة عشر وسبعمائة (1)
فمن نظمه، قال لغزاً في سرموزة:
وجارية هيفاء ممشوقة القد ... لها وجنة أبهى احمراراً من الورد
من اليمنيات التي حر وجهها ... يفوق صقالاً صفحة الصارم الهندي
وثيقة حبل الوصل منذ صحبتها ... فلست أراه قط منتقض العهد
وفي وصلها أمسى الشقاء ميسراً ... وجاوز في تيسيره غاية الجهد
ولم أر وجهاً قبلها كل ساعة ... على الترب ألقاها معفرة الخد
ومن عجبي أني إذا ما وطئتها ... تئن أنيناً دونه أنة الوجد
مباركة عندي ولا برحت إذاً ... مدورة الكعبين شؤماً على ضد وقال أيضاً:
قلت لمولاي السني ... المحسن المستحسن
من قال إنك ما تنا ... فإن عبدك ما يني وقال أيضاً:
ولرب ليل بالخليج قطعته ... إذ بت منه ساهراً بالشاطي
أمسى الضياء منادمي وحشاه لي (2) ... محشوه بغرائب الأخلاط
ولشقوتي بتنا معاً في مضجع ... مترديين على الثرى ببساط
عصفت علي رياحه فوجدتها ... أقوى هبوباً من رياح شباط
قد كنت أنعس لانتشاق فسائه ... غشياً فيوقظني بصوت ضراط
ما زلت أنشق منه ريحاً منتناً ... حتى استحال إلى الخراء مخاطي
يا أيها المفتوق (3) من أرياحه ... هذي النصيحة فيك للخياط
__________
(1) في المطبوعة: ثمان وستمائة؛ ولا أدري كيف وقع هذا الخطأ.
(2) المطبوعة: وحشاشتي؛ والتصويب عن الزركشي.
(3) المطبوعة: المفتون.(3/331)
وقال أيضاً في فرسه:
قد كمل الله برذوني لمنقصة ... وشانه بعد ما أعماه بالعرج
أسير وهو يعرج بي ... كأنه ماشياً ينحط من درج
فإن رماني على ما فيه من عرج ... فما عليه إذا مت من حرج وقال في الشيخ ابن ثعلبة وقد ترك الغناء واللهو وتصوف في المشتهى من روضة مصر:
لطمت بعدك الخدود الدفوف ... وتحاملت تلك الصروف الكفوف
وتساوى عند الرقاق وقد ما ... ت لدينا ثقيلها والخفيف
وعلت ضجة المواصل حزناً ... والندامى على السرور عكوف
وجرت أدمع الرواويق حتى ... عاد منها النزيف وهو نزيف
وبدا الشمع وهو من سيلان ال ... دمع إنسان عينه مطروف
يا إمام الملاح دعوة قاض ... في قضايا المجون ليس يحيف
كيف ذقت الخشوع هل هو حلو ... يا حريفي بالله أو حريف
تبت لله توبة الشيخ إن ال ... زهد لا يحتوي عليه الضعيف
لا تكن راسب المقر فما ير ... سب في المستقر إلا الكثيف
وإذا قمت للصلاة فقم ثع ... لبة ناشقاً فأنت نظيف
وإذا ما خلوت في خلوة المس ... جد قل للمريد عندي ضيوف
وإذا ما أخرجت كيسك بالمع ... لوم قل للحضور هذا سفوف
حبذا زهدك التليد فما أن ... ت به في الشيوخ إلا ظريف
قسماً يا قلبة البين إني ... قرم الشوق للقا ملهوف
أترجى منك الرجوع قريباً ... طمعاً فيك والمحب عطوف وقال أيضاً:
أصبحت أفقر من يروح ويغتدي ... ما في يدي من فاقة إلا يدي(3/332)
في منزل لم يحو غيري قاعداً ... فإذا رقدت رقدت غير ممدد
لم يبق فيه سوى رسوم حصيرة ... ومخدة كانت لأم المهتدي
ملقى على طراحة في حشوها ... قمل كمثل السمسم المتبدد
والفأر يركض كالخيول تسابقت ... من كل جرداء الأديم وأجرد
هذا وكم ناشر طاوي الحشا ... يبدو كمثل الفاتك المتردد
هذا ولي ثوب تراه مرقعاً ... من كل لون مثل ريش الهدهد وقال أيضاً:
قد عقلنا والعقل أي وثاق ... وصبرنا والصبر مر المذاق
كل من كان فاضلاً كان مثلي ... فاضلاً عند قسمة الأرزاق وقال أيضاً:
ما عاينت عيناي في عطلتي ... أدبر (1) من حظي ولا بختي
قد بعت عبدي وحماري وقد ... أصبحت لا فوقي ولا تحتي وقال أيضاً:
يا سائلي عن حرفتي في الورى ... وضيعتي فيهم وإفلاسي
ما حال من درهم إنفاقه ... يأخذه من أعين الناس وقال أيضاً (2) :
رأيت سراج الدين للصفع صالحاً ... ولكنه في علمه فاسد الذهن
أستره بالكف خوف انطفائه ... وآفته في طفئه كثرة الدهن (3) وقال وقد صلبوا ابن الكازروني وفي عنقه جرة خمر في الأيام الظاهرية:
لقد كان حد الخمر من قبل صلبه ... خفيف الأذى إذ كان في شرعنا جلدا
__________
(1) الوافي: أقل.
(2) الوافي: وقال في الشمس الجرواني؛ الغيث 2: 205 السراج الحوراني.
(3) المطبوعة: كبر الذقن.(3/333)
فلما بدا المصلوب قلت لصاحبي ... ألا تب فإن الحد قد جاوز الحدا وقال أيضاً:
لقد منع الإمام الخمر فينا ... وصير حدها حد اليماني
فما جسرت ملوك الجن خوفاً ... لأجل الخمر تدخل في القناني وقال أيضاً:
كم قيل لي إذ دعيت شمساً ... لا بد للشمس من طلوع
فكان ذاك الطلوع داء ... سما (1) إلى السطح من ضلوعي وقال أيضاً:
يا رشاً لحظه الصحيح العليل ... كل صب بسيفه مقتول
لك ردف غادرته رهن خصر ... وهو رهن كما علمت ثقيل وقال أيضاً:
يا لائمي في العذار مهلاً ... فأنت بالعذل لي مهيج
الحسن قد زادني غراماً ... إذ رقم الورد بالبنفسج
وكل ديباج خد ظبي ... إن لم يكن معلماً فدحرج وقال أيضاً:
يقولون سيف الدين من أجل علقه ... جفاك فلا تأمن غوائل حقده
فقلت ألا يا قوم ما أنا جاهل ... فأدخل بين السيف عمداً وغمده
__________
(1) الزركشي: يرقى.(3/334)
وقال وقد أبطلت المنكرات في أيام حسام الدين لاجين:
احذر نديمي أن تذوق المسكرا ... أو أن تحاول قط أمراً منكرا
لا تشرب الصهباء صرفاً قرقفاً ... وتزور من تهواه إلا في الكرى
أنا ناصح لك إن قبلت نصيحتي ... اشرب إذا ما رمت سكراً سكرا
والرأي عندي ترك عقلك سالماً ... من أن تراه بالمدام تغيرا
ذي دولة المنصور لاجين الذي ... قهر الملوك وكان سلطان الورى
إياك تأكل أخضراً في عصره ... يا ذا الفقير يصير جسمك (1) أحمرا
والمزر يا مسعود دعه جانباً ... واشرب من اللبن المخيض مبكرا
وبني حرام احفظوا أيديكم ... فالوقت سيف والمراقب قد درى
توبوا وصلوا داعيين لملكه ... فيه تنالون النعيم الأكبرا وقال أيضاً وقد دعي إلى عرس:
دعوتني للعرس يا سيدي ... فكدت أن أحضر من أمس
وها أنا الليلة في داركم ... فالكلب ما يهرب من عرس وقال في برهان الفاحشة وقد صفع وهو أرمد:
صفع البرهان وما رجما ... فبكى من بعد الدمع دما
قد كان شكا رمداً صعباً ... فازداد بذاك الصفع عمى
ورمى النوروز أخادعه ... حتى باتت تشكو ورما
أدماه القوم بآخرة ... كانت حوراً لا بل أدما
نزلوا سحراً في ساحله ... فرأى الإصباح بهم ظلما
من كل فتى بالنطع بدا ... مثل القصار إذا احتزما
فسقاه بها صرفاً سبعاً ... وسقاه بها سبعين بما
__________
(1) الزركشي: جنبك.(3/335)
وقال أيضاً:
في وصف حسنكم تكل الألسن ... وجمالكم فهو الجمال الأحسن
يا سادة غابوا فمات تصبري ... وبكيتهم حتى بكاني المسكن
لي فيكم ظبي ذكرت لحسنه ... عين الجنان أجم أحور أعين
قاسي الفؤاد علي ولكن عطفه ... مثلي على غمز الصبابة لين
باد ولكن في الضمير محجب ... سهل ولكن بالرماح محصن
حلفوا بأن الورد زهرة خده ... صدق الوشاة وعارضاه سوسن
متلون الميثاق لكن وجهه ... بسوى الحياء الطلق لا يتلون
في خط عارضه ونقطة خاله ... شكل يصادر في الهوى ويبرهن وقال أيضاً في شرح حاله وشكوى زوجته:
قل لقاضي الفسوق والإدبار ... عضد البله عمدة الفجار
والذي قد غدا سفينة جهل ... وله من قرونه كالصواري
بك أشكو من زوجة صيرتني ... غائباً بين سائر الحضار
غيبتني عني بما أطعمتني ... فأنا الدهر مفكر في انتظار
غبت حتى لو أنهم صفعوني ... قلت كفوا بالله عن صفع جاري
فنهاري من البلادة ليل ... في التساوي والليل مثل النهار
دار رأسي عن باب داري فبالله ... أخبروني يا سادتي أين داري
ملكتني عيارة وعياراً ... حتى زادت بالدردبيس عياري
أين مخ الجمال من طبع مخي ... في التساوي وأين مخ الحمار
غفر الله لي بما رحت للبح ... ر من البرد أصطلي بالنار
وتجردت للسباحة في الآ ... ل لظني به الزلال الجاري
ولكم قد عصبت رجلي برؤيا ... أوطأتني حلماً على مسمار
ولكم رمت قلع ضرسي ضروب ... بعد ما ضر غاية الإضرار(3/336)
فإذا بي قلعت بعد عنائي ... واجتهادي القوي من أوزاري
ورحى حزتها لطحن فما زل ... ت ظلالاً أدور حول المدار
وأنادي وقد سئمت من الرك ... ض إلى أين منتهى مضماري
أنا أختار لو قعدت من الجه ... د ولكن أمشي بغير اختيار
أنا أنسى أني نسيت فلا يخ ... شى سميري إذاعة الأسرار
أنا سطل الشرائحي بما أو ... دعت من عجة ومن أبزار
ولكم قد رأيت في الماء شيخاً ... وهو جاث في الجب كالعيار
شيخ سوء كالثلج ذقناً ولكن ... وجهه في سواده كالقار
أشبه الناس بي وقد يشبه التي ... س أخاه في حومة الجزار
فاعتراني رعب وناديت ما كن ... ت إخال اللصوص في الأزيار
أين ترسي وأين درعي الحقيني ... أم عمرو بصارمي البتار
إن أمت كنت في الغزاة شهيداً ... أو أعش كنت شاطر الشطار
ثم أثخنت ذلك الزير ضرباً ... بحسامي حتى هوى لانكسار
وجرى الماء فاختشيت وإلا ... كدت أقفو الآثار في التيار
أنا كالبان في قوامي وإن أف ... ردتني كنت في التهارش ضاري
أنا مثل الخروف قرناً وإن أس ... قط فإني أعد في الأقذار
أنا لو رمت للعلاج طبيباً ... ما تعديت دكة البيطار
بعد ما كنت من ذكائي أدري ... أن بابي من صنعة النجار
أحزر البيض قبل ما يكسروه ... أن فيه البياض فوق الصفار
وبعيني نظرت كوز نحاس ... كان عندي أقوى من الفخار
وكثير مني على شيب رأسي ... حفظ هذي الأشياء مثل الكبار وقال موشحاً يعارض به أحمد الموصلي:
غصن من البان مثمر قمرا ... يكاد من لينه إذا خطرا يعقد(3/337)
بديع حسن سبحان خالقه ... مسك ذكي الشذا لناشقه ... أبيض ثغر يبدي لعاشقه ...
نمل عذار يحير الشعرا ... وفوق شعر يستوقف النهرا أسود (1) يا بأبي شادن فتنت به ... يهواه قلبي على تقلبه ... مذ زاد في التيه من تجنبه ...
أحرمني النوم عند ما نفرا ... حتى لطيف الخيال حين سرى قيد جوى أذاب الحشا فحرقني ... ونيل دمعي جرى فغرقني ... لكنه بالدمع خلقني ...
فرحت أمشي في الدمع منحدرا ... ذاك لأني غدوت منكسرا مفرد وأما موشح أحمد الموصلي فإنه قوله (2) :
بي رشأ عندما رنا وسرى ... باللحظ للعاشقين إذ أسرا قيد بما بأجفانه من الوطف ... وما بأعطافه من الهيف ... وما بأردافه من الترف ...
ذا الأسمر اللدن ردني سمرا ... وفي فؤادي من قده سمرا أملد السحر من لحظه ومقلته ... والرشد من فرقه وغرته ... والغي من صدغه وطرته ...
__________
(1) هذا القفل والغصن الذي جاء قبله هما آخر الموشحة في الوافي.
(2) هذه الموشحة أيضاً تخالف في ترتيبها الصورة التي وردت لها عند الصفدي.(3/338)
بدر لصبح الجبين قد سترا ... بليل شعر فانظر له سترى أسود إن قلت بدراً فالبدر ينخسف ... أو قلت شمس فالشمس تنكسف ... أو قلت غصن فالغصن ينقصف ...
وسنان جفن سما عن النظرا ... وكل طرف إليه قد نظرا سهد يزهو بثغر كالدر والشهب ... والطلع والأقحوان والحبب ... رصع شبه اللجين في الذهب ...
حوى الثريا من ثغره أثراً ... له الذي أدمعي به نثرا نضد حاجبه مشرف على شغفي ... عارضه شاهد على أسفي ... ناظره عامل على تلفي ...
به غرامي قد شاع واشتهرا ... وسيفه في الحشا إذا شهرا يغمد عذاره النمل في الفؤاد سعى ... والنحل من ثغره الأقاح رعى ... ويوسف أيدي النسا قطعا ...
بالنور من وجهه سبا الشعرا ... وردني بالجفا وما شعرا مكمد(3/339)
444 - (1)
أبو علي بن الشبل
محمد بن الحسين بن عبد الله بن الشبل، أبو علي الشاعر الحكيم البغدادي؛ توفي في المحرم سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة، ودفن بباب الحرب؛ كان شاعراً مجيداً وله ديوان، وكان ظريفاً نديماً مطبوعاً، ومن شعره:
لا تظهرن لعاذل أو عاذر ... حاليك في السراء والضراء
فلرحمة المتوجعين حرارة ... في القلب مثل شماتة الأعداء وقال أيضاً:
يفني (2) البخيل بجمع المال مدته ... وللحوادث والأيام (3) ما يدع
كدودة القز ما تبنيه يهدمها ... وغيرها بالذي تبنيه ينتفع وقال أيضاً يرثي أخاه بقصيدة أولها:
غاية الحزن والسرور انقضاء ... ما لحي من بعد ميت بقاء
لا لبيد بأربد مات حزناً ... وسلت عن شقيقها الخنساء
مثل ما في التراب يبلى الفتى فال ... حزن يبلى من بعده والبكاء
غير أن الأموات مروا وأبقوا ... غصصاً لا تسيغها الأحياء
__________
(1) الوافي 3: 11 والزركشي: 275 والمنتظم 8: 328 وابن أبي أصيبعة 1: 247 (الحسين بن عبد الله) وكذلك معجم الأدباء 10: 23؛ وانظر تكلمة المنذري 1: 71 والمحمدون: 270 والبدر السافر: 91 وابن خلكان 4: 393 والنجوم الزاهرة 5: 111 ودمية القصر 1: 352 والبداية والنهاية 12: 121 واسم والده (0الحسين)) في معظم المصادر، وكان في المطبوعة: ((الحسن)) فغيرته.
(2) المطبوعة: يعني البخيل.
(3) المحمدون: والوراث.(3/340)
إنما نحن بين ظفر وناب ... من خطوب أسودهن ضراء
نتمنى وفي المنى قصر العم ... ر فنغدو كما نسر نساء
صحة المرء للسقام طريق ... وطريق الفناء هذا البقاء
بالذي نغتدي نموت ونحيا ... أقتل الداء للنفوس الدواء
ما لقينا من غدر دنياً فلا كا ... نت ولا كان أخذها والعطاء
صلف تحت راعد وسراب ... كرعت فيه مومس خرقاء
راجع جودها عليها فمهما ... تهب الصبح يسترد المساء
ليت شعري حلماً تمر بنا الأيام ... أم ليس تعقل الأشياء
من فساد يكون في عالم الكو ... ن فما للنفوس منه اتقاء
وقليلاً ما يصحب المهجة الج ... سم ففيم الشقا وفيم العناء
قبح الله لذة لشقانا ... نالها الأمهات والآباء
نحن لولا الوجود لم نألم الفق ... د فإيجادنا علينا بلاء ومن شعره:
بربك أيها الفلك المدار ... أقصد ذا المسير أم اضطرار
مدارك قل لنا في أي شيء ... ففي أفهامنا عنك انبهار
فطوق في المجرة أم لآل ... هلالك أم يد فيها سوار
وفيك الشمس رافعة شعاعاً ... بأجنحة قوادمها قصار
ودنيا كلما وضعت جنيناً ... عراه من نوائبها طوار
هي العشواء ما خبطت هشيم ... هي العجماء ما جرحت جبار
فكم من بعده عفر وعقر ... يضير وما تلا ليلاً نهار
لقد بلغ العدو بنا مناه ... وحل بآدم وبنا الصغار
وتهنا ضائعين كقوم موسى ... ولا عجل أضل ولا خوار
فيا لك أكلة ما زال فيها ... علينا نقمة وعليه عار(3/341)
نعاقب في الظهور وما ولدنا ... ويذبح في حشا الأم الحوار
ونخرج كارهين كما دخلنا ... خروج الضب أخرجه الوجار
وكانت أنعماً لو كان كوناً ... نشاور قبله أو نستشار
وما أرض عصته ولا سماء ... ففيم يغول أنجمها انكدار ومثل هذه للبحتري (1) :
أناة أيها الفلك المدار ... أنهب ما تطرف أم جبار
ستفنى مثل ما تفني وتبلى ... كما تبلي فيدرك منك ثار
وما أهل المنازل غير ركب ... مطاياهم رواح وابتكار
لنا في الدهر آمال طوال ... نرجيها وأعمار قصار
وأهون بالخطوب على خليع ... إلى اللذات ليس لها عذار
فآخر يومه سكر تجلى ... غوايته وأوله خمار ومن شعر أبي علي ابن الشبل:
وكأنما الإنسان في غيرة ... متكوناً (2) والحسن فيه معار
متصرف وله القضاء مصرف ... ومكلف وكأنه مختار
طوراً تصوبه (3) الحظوظ وتارة ... حظ تحيل صوابه الأقدار
تعمى بصيرته وتبصر بعدما ... لا يسترد الفائت استبصار
فتراه يؤخذ قلبه من صدره ... ويرد فيه وقد جرى المقدار
فيظل يضرب بالملامة نفسه ... ندماً إذا لعبت به الأفكار
لا يعرف التفريط في إيراده ... حتى يبينه له الإصدار وقال أيضاً:
__________
(1) ديوان البحتري: 959.
(2) المطبوعة: متلوناً.
(3) المطبوعة: به تصبو، وأثبت ما في الوافي.(3/342)
إن تكن تجزع من دم ... عي إذا فاض فصنه
أو تكن أبصرت يوماً ... سيداً يعفو فكنه
أنا لا أصبر عمن ... شطر ثاني
شطر أول ... لا يحل الصبر عنه
كل ذنب في الهوى يغ ... فر لي ما لم أخنه وقال أيضاً:
قالوا القناعة عز والكفاف غنى ... والذل والعار حرص النفس والطمع
صدقتم من رضاه سد جوعته ... إن لم يصبه بماذا عنه يقتنع وله:
قالوا وقد مات محبوب فجعت به ... وبالصبا وأرادوا عنه سلواني
سواه في الحسن موجود فقلت لهم ... من أين لي للهوى الثاني صباً ثاني وقال أيضاً:
بنا إلى الدير من درنا صبابات ... فلا تلمني فلا تجدي الملامات
لا تبعدن وإن طال الزمان بها ... أيام لهو عهدناها وليلات
فكم قضيت لبانات الشباب بها ... غنماً وكم بقيت عندي لبانات
ما أمكنت دولة الأفراح مقبلة ... فانعم ولذ فإن العيش تارات
قبل ارتجاع الليالي وهي عارية ... وإنما لذة الدنيا إعارات
قم فاجل في فلك الظلماء وشمس ضحى ... بروجها الدهر كاسات وطاسات
لعله إن دعا داعي الحمام بنا ... نقضي وأنفسنا منها رويات
بم التعلل لولا ذاك من زمن ... أحياؤه باعتياد الهم أموات
دارت تحيي فقابلنا تحيتها ... وفي حشاها لقرع المزج روعات
عذراء أخفى مزاج الماء صورتها ... لم يبق من روحها إلا حشاشات
مدت سرادق برق من أبارقها ... على مقابلها منها ملاءات
فلاح في أذرع الساقين أسورة ... تبراً وفوق نحور الشرب جامات(3/343)
قد وقع الدهر سطراً في صحيفته ... لا فارقت شارب الخمر المسرات
خذ ما تعجل واترك ما وعدت به ... فعل اللبيب فللتأخير آفات
وللسعادة أوقات ميسرة ... تعطي السرور وللأحزان أوقات 445 (1)
ابن فروجة
محمد بن حمد بن فروجة - بالفاء المضمومة وبعد الواو والراء (2) جيم مشددة - البروجردي؛ قال الثعالبي في " التتمة " من شعره:
كأن الأيك توسعنا نثاراً ... من الورق المكسر والصحاح
تميد كأنما علت براح ... وما شربت سوى الماء القراح
كأن غصونها شرب نشاوى ... تصفق كلها راح براح وقال في الفستق المملوح:
أعجب إلي بفستق أعددته ... عوناً على العادية الخرطوم
مثل الزبردج في حرير أخضر ... في حق عاج في غلاف (3) أديم وقال أيضاً:
فلو ترى نقلي وما أبدعت ... فيه بماء الملح أيدي (4) الصنع
__________
(1) الوافي 3: 24 والزركشي: 275 وتتمة اليتيمة 1: 123 ومعجم الأدباء 18: 188 وبغية الوعاة: 39 والبلغة: 74 (وسماه: حمد بن محمد) وانباه الرواة 1: 334.
(2) المطبوعة: والزاي؛ وهو وهم، وكل المصادر، تورده بالراء المهملة؛ والضبط الذي أثبته ورد في الوافي والزركشي.
(3) التتمة: غشاء.
(4) التتمة: كف.(3/344)
قلت حمامات على منهل ... شحت مناقير تسيغ الجرع وأكمل منه قول المشتهي أبي الفضل جعفر بن المحسن الدمشقي حيث يقول:
انظر إلى الفستق المملوح حين بدا ... مشققاً في لطيفات الطيافير (1)
والقلب ما بين قشريه يلوح لنا ... كألسن الطير ما بين المناقير وقال ابن فروجة:
أما ترون إلى الأصداغ كيف جرى ... لها نسيم فوافت خده قدرا
كأنما مد زنجي أنامله ... يريد قبضاً على جمر فما قدرا قال ياقوت: مولد (2) ابن فروجة بنهاوند في ذي الحجة سنة ثمانين وثلاثمائة. وله " التجني على ابن جني " و " الفتح على أبي الفتح " والكتابان يرد فيهما على أبي الفتح ابن جني في شعر المتنبي، رحمه الله تعالى وعفا عنه.
446 - (3)
أبو طاهر البغدادي
محمد بن حيدر، أبو طاهر " البغدادي " (4) الشاعر المشهور؛ توفي سنة سبع عشرة وخمسمائة ومن شعره:
__________
(1) المطبوعة: الطوافير.
(2) هكذا هو في الوافي؛ وفي المطبوعة: وفاة؛ وهو خطأ لا محالة؛ وذكر بهامش الزركشي أنه توفي بالري سنة أربع وأربعين وأربعمائة، نقلاً عن انباه الرواة للقفطي.
(3) الوافي 3: 32 والزركشي: 275 والمحمدون: 195 (وفيه نقل عن الخريدة) والنجوم الزاهرة 5: 372.
(4) زيادة من الزركشي.(3/345)
مرحباً بالتي بها قتل الهم ... وعاشت مكارم الأخلاق
هي في رقة الصبابة والشو ... ق وفي قسوة النوى والفراق
لست أدري أمن خدود الغواني ... سفكوها أم أدمع العشاق وقال أيضاً:
خطرت فكاد الورق يسجع فوقها ... إن الحمام لمغرم بالبان
من معشر نشروا على هام الربى ... للطارقين ذوائب النيران أورد له محب الدين ابن النجار في تاريخه قصيدة، وهي:
من كل ذات روادف ... كالرمل رجرجة ولينا
منطقن بالتحف (1) الخصو ... ر وصن بالترف البطونا
وأقمن من تلك العيو ... ن على خواطرنا عيونا " منها " (2) :
يا من يلوم على البكا ... كلفاً يزيد به جنونا
الآن قد كان الذي ... قد كنت أحذر أن يكونا (3)
وتفرق الشمل الذي ... قد كنت أعهده مصونا
مني تعلمت الحما ... م النوح والإبل الحنينا
والسحب من عيني تعلم ... كيف يحتلب الشؤونا ومنها:
ورأيت منك قبيح ما ... ظن الوشاة بنا يقينا
__________
(1) الوافي: بالنحف.
(2) زيادة من الوافي.
(3) ورد هذا البيت في الوافي بعد لفظة ((منها)) التالية، برواية مختلفة.(3/346)
حتى كأنك كنت بال ... هجران للواشي ضمينا
طولت أنفاسي فلم ... قصرت عن وسني الجفونا 447 (1)
السابق المعري
محمد بن الخضر بن الحسن بن القاسم، أبو اليمن بن أبي المهزول التنوخي المعروف بالسابق، من أهل المعرة؛ قال ابن النجار: كان شاعراً مجيداً مليح القول، حسن المعاني رشيق الألفاظ، دخل بغداد، وجالس ابن ناقيا (2) والأبيوردي والخطيب التبريزي وأنشدهم شعره، ودخل الري وأصفهان ولقي ابن الهبارية الشاعر، وعمل رسالة لقبها " تحية (3) الندمان " أتى فيها بكل معنى غريب تشتمل على عشر كراريس، وأورد له في مليح قد حلق شعره:
وجهك المستنير قد كان بدراً ... فهو شمس لنفي (4) صدغك عنه
ثبتت أية النهار عليه ... إذ محا القوم أية الليل منه وأحسن منه قول ابن بلول (5) الكاتب:
__________
(1) الوافي 3: 39 والزركشي: 276 والخريدة (قسم الشام) 2: 125 (وذكر المحقق أن له ترجمة في ابن عساكر) وابن خلكان 5: 132 والمحمدون: 310 والشذرات 4: 117.
(2) المطبوعة والوافي: باقيا، وذلك خطأ، فقد ترجم ابن خلكان لأبي القاسم عبد الله وقيل عبد الباقي ابن محمد بن ناقيا - وضبط الاسم بالنون المفتوحة (انظر 3: 98 - 99 ومصادر ترجمته في الحاشية) .
(3) المطبوعة: تحفة.
(4) المطبوعة: لفيء، واثبت ما في الزركشي والوافي.
(5) الوافي: قول بلول.(3/347)
حلقوك تقبيحاً لحسنك رغبة ... فازداد وجهك بهجة وضياء
كالخمر فك ختامها فتشعشعت ... كالمشع قط ذباله فأضاء ومن شعر السابق المعري:
وأغيد واجه المرآة زهواً ... فحرق بالصبابة كل نفس
وليس من العجائب أن تأتى ... حريق بين مرآة وشمس وقال أيضاً:
ولقد عصيت عواذلي وأطعته ... رشأ يقتل عاشقيه ولا يدي
ولقد عصيت شوك (1) اللوم فيه مسامعي ... فبما جنت من ورد وجنته الندي وقال أيضاً:
وراح أزاحت ظلام الدجى ... فأبدى الفراش إليها فطارا
رآها (2) توقد في كأسها ... فيممها يحسب النور نارا
وما زلت أشربها قهوة ... تميت الظلام وتحيي النهارا وقال أيضاً:
حلمت عن السفيه فزاد بغياً ... وعاد فكفه سفهي عليه
وفعل الخير من شيمي ولكن ... أتيت الشر مدفوعاً إليه قال محب الدين ابن النجار: قال لنا أبو عبد الله " ابن " (3) الملحي: كنت عند السابق قبل موته فقال لي: قد وصف صديقنا أبو نصر ابن الحكيم (4)
__________
(1) المطبوعة: شر؛ والتصويب عن الوافي.
(2) المطبوعة: يراها.
(3) زيادة من الوافي.
(4) الوافي: حليم.(3/348)
سماقية، فتقدم من يطبخها وأنفذها إلي، فقلت: نعم، وانصرفت، فتقدمت إلى تعجيل ما اقترحه، وعدت إلى منزلي عاجلاً، فوردت علي رقعة من السابق بخطه المليح الفائق: يا سيدي، كانت السماقية ممسكة، فصارت ممسكة، وأظن سماقها ما نبت، والسكين عن ذبح شاتها نبت.
فلا شفى الله من يرجو الشفاء بها ... ولا علت كف ملقي كفه فيها (1) فكتبت في ظهر الرقعة وأنفذتها قرين السماقية:
بل كل ولا حرج منه عليك ودع ... عنك التمثل بالأشعار تهديها
ولا تعن لتشقيق الكلام ولا ... قصد المعاني تنقاها وتبنيها وكانت وفاته بعد الخمسمائة، رحمه الله تعالى.
448 - (2)
السنبسي الشاعر
محمد بن خليفة بن حسين، أبو عبد الله النميري العراقي الشاعر المعروف بالسنبسي؛ أصله من هيت، أقام بالحلة عند سيف الدولة صدقة بن مزيد،
__________
(1) هذا البيت للبحتري كتبه إلى من وعده بمزورة (اي حساء للمريض) ومطلة ولم يرسلها اليه؛ انظر ديوان البحتري: 2426 وابن خلكان 6: 28.
(2) الوافي 3: 48 والزركشي: 276 ومختصر ابن الدبيشي 1: 45 والبدر السافر: 92 والمحمدون: 303 والخريدة (قسم العراق) : 4/ 1: 209، وفي المطبوعة: السنبستي، وهو خطأ. وذكر صاحب البدر السافر انه ليس من سنبس، وإنما أم جده الحسين منها ونزل عندهم فلما عاد الى منزله قيل له السنبسي.(3/349)
وكان شاعره وشاعر ولده دبيس، وروى عنه السلفي؛ توفي سنة خمس عشرة وخمسمائة.
أورد له ابن النجار في تاريخه قوله:
قم فاسقنيها على صوت النواعير ... حمراء تشرق في ظلماء ديجور
كانت سراج أناس يهتدون بها ... في أول الدهر قبل النار والنور فأصبحت بعد ما أفنى ذبالتها مر السنين وتكرار الأعاصير
تهتز في الكأس من ضعف ومن كبر ... كأنها قبس في كف مقرور
ونرجس خضل تحكى نواظره ... أحداق تبر على أجفان كافور زرق الأسنة في لون وتقدير
وقال أيضاً:
نفض ختاماً عن حديث كأنه ... وإن مل من أسماعنا لم يردد
فإما لأمر عاجل يستجده ... وإما لأمر (1) فات أو ذكر موعد وقال أيضاً:
وخمارة من بنات المجوس ... لا تطعم النوم إلا غرارا
طرقت على عجل والنجوم ... في الجو معترضات حيارى
وقد برد الليل فاستخرجت ... لنا في الظلام من الدن نارا وقال أيضاً:
فوالله ما أنسى عشية ودعوا (2) ... ونحن عجالى بين غاد وراجع
وقد سلمت بالطرف منها فلم يكن ... من النطق إلا رجعنا بالأصابع
ورحنا وقد روى السلام قلوبنا ... ولم منا في خروق المسامع
__________
(1) الوافي: لهجر.
(2) الخريدة: ومن ينس لا أنسى عشية بيننا.(3/350)
ولم يعلم الواشون ما دار (1) بيننا ... من السر لولا ضجرة في المدامع أنشدت هذه الأبيات في مجلس سيف الدولة فطرب طرباً شديداً، وما ارتضاها مقدار " بن " المطاميري، فقال له سيف الدولة: ويلك يا مقيدير، ما تقول؟ قال: أقول أنا خيراً منه، قال: إن خرجت من عهدة دعواك وإلا ضربت عنقك، فقال وهو سكران ملتخ (2) :
ولما تناجوا للفراق غدية ... رموا كل قلب مطمئن برائع
وقمنا فمبد حنة إثر أنة ... خروق الكرى إنسانها غير هاجع
أمنا بها الواشين أن يلهجوا بنا ... فلم نتهم إلا وشاة المدامع فطرب سيف الدولة وأمره بالجلوس عنده.
449 - (3)
الشيخ محمد الأكال
محمد بن خليل بن عبد الوهاب بن بدر، المعروف بالأكال، من جبل بني هلال، ومولده بقصر حجاج دمشق سنة ستمائة، وتوفي سنة ثمان وخمسين وستمائة في شهر رمضان.
كان رجلاً صالحاً كثير الإيثار، وحكاياته في أخذ الأجرة على ما يأكله
__________
(1) الخريدة: ما كان.
(2) المطبوعة: يتلجلج؛ الوافي: ملتج؛ وكل ذلك خطأ، وهو من قولهم ((سكران ملتخ)) اي طافح سكراً.
(3) الوافي 3: 49 والثذرات 5: 403.(3/351)
وما يقبله من بر الأمراء والكبراء مشهورة، ولم يسبقه إلى ذلك أحد ولا اقتفى أثره غيره، وجميع ما يتحصل له يصرفه في وجوه البر ويتفقد به المحابيس والمحاويج والأرامل، وكان بعض الناس ينكر على من يعامله بهذه المعاملة، فإذا اتفق ذلك معه انفعل له ودفع ما يرضاه على الأكل، وكلما تناهى الإنسان له في المطعم زاد هو في الاشتراط عليه، وكان مع ذلك حلو الشكل والحديث مليح العبارة، له قبول تام بين سائر الناس. وعاش تسعاً وخمسين سنة رحمه الله تعالى.
450 - (1)
ابن الخمسي
محمد بن الخمسي الإسكندري؛ توفي في حدود الخمسمائة. ومن شعره رحمه الله في إنسان بنعت بعين الملك:
ألا إن ملكاً أنت تدعى بعينه ... جدير بأن يمسي ويصبح أعورا
فإن كنت عين الملك حقاً كما ادعوا ... فان (2) له العين التي دمعها جرى ومن شعره أيضاً:
قال لي العاذل في حبه ... قوله زور وبهتان
ما وجه من أحببته قبلة ... قلت ولا قولك قرآن
__________
(1) الوافي 3: 50 الزركشي: 276، وفي المطبوعة ((الخمشي)) .
(2) الوافي: فأنت.(3/352)
451 - (1)
ابن الجراح الكاتب
محمد بن داود بن الجراح الكاتب؛ كان كاتباً عارفاً بأيام الناس وأخبارهم ودول الملك، له في ذلك مصنفات، كان مع ابن المعتز فلما انحل أمر ابن المعتز وقتل اختفى ابن داود.
قال أبو عمر بن محمد بن يوسف القاضي: لما جرت واقعة ابن المعتز حبست أنا وأبو المثنى ومحمد بن داود بن الجراح، فكنا في دار في ثلاثة بيوت متلاصقات، وبيتي في الوسط، وإذا جننا الليل تحدثنا من وراء الجدار، وأوصى بعضنا إلى بعض، فلما كان في بعض الليالي دخل أناس بشموع إلى بيت محمد بن داود وأخرجوه وأضجعوه للذبح فقال: يا قوم ذبحاً كالشاة، أين المصادرات؟ أين أنتم من الأموال؟ أنا أفدي نفسي بكذا وكذا. فلم يسمعوا منه وذبحوه وأخذوا رأسه وألقوه (2) في البئر، ثم أخرجوا أبا المثنى بعدما ذهبوا وعادوا وقالوا: يا عدو الله، يقول لك أمير المؤمنين بم استحللت نكث بيعتي؟ فقال: لعلمي أنه لا يصلح، فذبحوه وأخذوا رأسه وألقوا جثته في البئر، ومضوا وعادوا وأخرجوني وقالوا: يقول لك أمير المؤمنين: يا فاعل، ما الذي حملك على نكث بيعتي؟ قلت: الشقاوة، وقد أخطأت وأنا تائب إلى الله تعالى، فحملوني إلى دار الخلافة وابن الفرات جالس، فوبخني فتنصلت واعتذرت، فقالوا: وهب لك أمير المؤمنين ذنبك، واشتريت
__________
(1) الوافي 3: 61 والزركشي: 276 وتاريخ بغداد 5: 255 والمصادر التاريخية (حوادث 296) والفهرست: 128 وصفحات متفرقة من تحفة الوزراء للصابي، وانظر مقدمة كتاب الورقة: 14 - 16.
(2) الوافي: وألقوا جثته.(3/353)
دمك وجرمك (1) بمائة ألف دينار، فقلت: والله ما رأيت بعضها مجتمعاً قط، فغمزني الوزير، فأديت البعض وسومحت بالباقي.
وكانت وفاة ابن الجراح سنة ست وتسعين ومائتين. ومن شعر ابن الجراح:
قد ذهب الناس فلا ناس ... وصار بعد الطمع الياس
وساس أمر القوم أدناهم ... وصار تحت الذنب الراس وقال أيضاً:
أعين أخي أو صاحبي في مصابه ... أقوم له يوم الحفاظ وأقعد
ومن يفرد الأقوام فيما ينوبهم ... تبته (2) الليالي مرة وهو مفرد ومن تصانيفه كتاب " الورقة " سماه بذلك لأنه في أخبار الشعراء ولا يزيد في خبر الشاعر الواحد على ورقة، ولهذا سمى الصولي كتابه في أخبار الوزراء ب " الأوراق " لأنه أطال في أخبار كل واحد بأوراق؛ وله " الشعر والشعراء " لطيف. كتاب " من سمى عمراً من الشعراء في الجاهلية والإسلام ". كتاب " الوزراء ".
452 - (3)
الشريف الناسخ
محمد بن رضوان، السيد الشريف العلوي الحسيني الدمشقي الناسخ؛ توفي في ربيع الأول سنة إحدى وستمائة، عن تسع وستين سنة.
__________
(1) الوافي: وحرمك.
(2) الوافي: تنبه.
(3) الوافي 3: 70 والزركشي: 277.(3/354)
كان يكتب خطاً متوسط الحسن والمنسوب (1) ، وله يد في النظم والنثر والأخبار وعنده مشاركة في العلوم، وكتب الكثير وجمع، وكان مغرى بتصانيف ابن الأثير الجزري، مثل " المثل السائر " و " الوشي المرقوم " فكتب (2) منها كثيراً.
ومن شعره ما ذكر الشيخ قطب الدين اليونيني أنه سمعه منه:
يا من يعيب تلوني ... ما في التلون ما يعاب
إن السماء إذا تلو ... ن وجهها يرجى السحاب وقال أيضاً:
كرر على الظبي حديث الهوى ... على سماه بعد صحو تغيم
ولا تخف أن له نفرة ... فطالما أونس ظبي الصريم
ولا تقل إن له صحبة ... مع غيرنا دهراً وعهداً قديم (3)
فالماء ربى الغصن في حجره ... ومال عنه برسول النسيم وقال أيضاً:
عقد الربيع على الشتاء مآتماً ... لما تقوض للرحيل خيامه
لطم الشقيق خدوده فتضرجت ... حزناً وناح على القضيب حمامه
والدهر منفتح العيون إلى خيو ... ط المزن حيث تفتقت أكمامه وقال من أبيات:
تجلى لنا ليلاً فلم ندر وجهه ... أم القمر الوضاح واتضح (4) الشك
صعقت له لما استنار جماله ... فطور فؤادي مذ تجلى له دك
__________
(1) الوافي: في المنسوب.
(2) الوافي: يكتب.
(3) المطبوعة: مقيم، وأثبت ما في الوافي والزركشي.
(4) الوافي: واعترض.(3/355)
طما بحر أجفاني فيا نوح غفلتي ان ... تبه فلهذا البحر تصطنع الفلك وقال في مليح يلقب بالجدي:
رأيت في جلق أعجوبة ... ما إن رأينا مثلها في بلد
جدي له من صدغه عقرب ... وفي مطاوي الجفن منه أسد
وخلقه سنبلة تطلب ال ... ميزان لا ترضى بأخذ العدد وقال في حسين (1) الصواف وكان يلازم رجلاً مقدسياً:
يهنيكم الصواف أصبح عابداً ... للرب غير مداهن ومدلس
طويت له الأرض الفسيحة فاغتدى ... تحت المهامه في ظلام الحندس
فهو المقيم بجلق وركوعه ... وسجوده أبداً ببيت المقدس " ي " وقال أيضاً:
عانقته عند الوداع وقد جرت ... عيني دموعاً كالنجيع القاني
ورجعت عنه وطرفه في فترة ... يملي علي " مقاتل الفرسان " 453 (2)
زين الدين ابن الرعاد
محمد بن رضوان بن إبراهيم بن عبد الرحمن، المعروف بابن الرعاد، يدعى زين الدين؛ قال الشيخ أثير الدين: كان المذكور خياطاً بالمحلة من الغربية، وله مشاركة في العربية وله أدب لا بأس به، وكان في غاية الصيانة
__________
(1) المطبوعة: حسن.
(2) الوافي 3: 72 والزركشي: 277 وبغية الوعاة: 41 والبدر السافر: 95 وقال: كان نحوياً ... أخذ النحو عن العلامة أبي عمرو ابن الحاجب.(3/356)
والترفع عن أهل الدنيا والتودد إليهم، واقتنى من صناعة الخياطة كتباً نفيسة، وابتنى داراً حسنة بالمحلة، وتوفي بالمحلة. ومن شعره في الشيخ بهاء الدين " ابن " النحاس:
سلم على المولى البهاء وصف له ... شوقي إليه وأنني مملوكه
أبداً يحركني إليه تشوقي ... جسمي به مشطوره منهوكه
لكن نحلت لبعده فكأنني ... ألف وليس بممكن تحركه وقال أيضاً:
رأيت حبيبي في المنام معانقي ... وذلك للمهجور مرتبة عليا
وقد رق لي من هجر وقسوة ... وما ضر إبراهيم لو صدق الرؤيا وقال أيضاً:
نار قلبي لا تقري لهبا ... وامنعي أجفان عيني أن تناما
فإذا نحن التقينا فارجعي ... نار إبراهيم برداً وسلاما وقال أيضاً:
قالوا وقد شاهدوا نحولي ... إلام في ذا الغرام تشقى
فنيت أو كدت فيه تفنى ... وأنت لا تستفيق عشقا
فقلت لا تعجبوا لهذا ... ما كان لله فهو يبقى(3/357)
454 - (1)
شمس الدين المقدسي
محمد بن سعد بن عبد الله بن مفلح بن هبة الله بن نمير، شمس الدين الأنصاري الحنبلي المقدسي؛ نشأ بقاسيون على الخير والصلاح، وقرأ القرآن والعربية وسمع الكثير، وكان ديناً ورعاً، وبرع في الأدب وحسن الخط، وكتب للصالح إسماعيل وللناصر داود، وطال عمره وروى عنه الدمياطي وغيره، وتوفي سنة خمسين وستمائة.
ومن شعره رحمه الله ما كتبه إلى الصالح إسماعيل:
يا مالكاً لم أجد لي من نصيحة ... بداً وفيها دمي أخشاه
اسمع نصيحة من أوليته نعماً ... يخاف كفرانها إن كف أو تركا
والله لا امتد ملك مد مالكه ... على رعيته من ظلمه شبكا
ترى الحسود به مستبشراً فرحاً ... مستغرباً من بوادي أمره ضحكا
وزيره ابن غزال والرفيع له ... قاضي القضاة ووالي حربه ابن بكا
وثعلب وفضيل من هما وهما ... أهل المشورة فيما ضاق أو ضنكا
جماعة بهم الآفات قد نشرت ... والشرع قد مات والإسلام قد هلكا
ما راقبوا الله في سر وفي علن ... وإنما يرقبون النجم والفلكا
إن كان خيراً ورزقاً واسعاً فلهم ... أو كان شراً وأمراً سيئاً فلكا
__________
(1) الوافي 3: 91 والزركشي: 278 ومرآة الزمان: 523 وذيل ابن رجب 2: 248 والثذرات 5: 251 وعبر الذهبي 5: 206.(3/358)
455 - (1)
ابن شرف القيرواني
محمد بن " أبي " سعيد بن أحمد بن شرف القيرواني الجذامي، أحد فحول شعراء الأندلس والغرب؛ كان أعور، وله تصانيف منها " أبكار الأفكار " وهو كتاب حسن في الأدب يشتمل على نظم ونثر من كلامه، وتوفي سنة ستين وأربعمائة (2) .
وكان بينه وبين ابن رشيق مهاجاة ومعاداة جرى الزمان بها كعادته بين المتعاصرين، ولابن رشيق فيه عدة رسائل يهجوه فيها ويذكر أغلاطه وقبائحه، منها رسالة " ساجور الكلب " ورسالة " قطع الأنفاس " ورسالة " نجح الطب " ورسالة " رفع الإشكال ودفع المحال " وكتاب " فسخ الملح، ونسخ اللمح " (3) .
ومن شعر ابن شرف وهو تشبيه متمكن (4) :
كأنما حمامنا فقحة ... ألنتن والظلمة والضيق
كأنني في وسطها فيشة ... ألوطها والعرق الريق فبلغ ذلك ابن رشيق فقال مجيزاً:
__________
(1) الوافي 3: 97 والزكشي: 278 والذخيرة 4/ 1: 133 ومعجم الأدباء 19: 37 والخريدة (قسم المغرب) 2: 224 والمغرب 2: 230 والصلة: 545 والمطرب: 71 ومسالك الأبصار 11: 43 وبغية الوعاة: 47 وورد في الزركشي والمطبوعة ((محمد بن سعيد)) وهو مخالف لبقية المصادر؛ وانظر أيضاً معالم الأيمان 3: 39 وعنوان الأريب 1: 56، وبعض أشعاره جمعه الأستاذ الميني في ((النتف من شعر ابن رشيق وابن شرف)) (القاهرة: 1343) .
(2) زاد الصفدي: أو فيما قبلها.
(3) الوافي: نسخ ... وفسخ.
(4) النتف: 50 والخريدة.(3/359)
وأنت أيضاً أعور أصلع ... فصادف التشبيه تحقيق وهذا في غاية الحسن وعجيب الاتفاق.
ومن شعر ابن شرف من أبيات (1) :
ولقد نعمت بليلة جمد الحيا ... بالأرض فيها والسماء تذوب
جمع العشاءين المصلي وانزوى ... فيها الرقيب كأنه مرقوب
والكأس كاسية القميص كأنها ... لوناً وقدراً معصم مخضوب
هي وردة في خده وبكأسها ... تحت القناني عسجد مصبوب
مني إليه ومن يديه إلى يدي ... فالشمس تطلع بيننا وتغيب ومما سار له وطار وملأ الأقطار قوله (2) :
جاور علياً ولا تحفل بحادثة ... إذا ادرعت فلا تسأل عن الأسل
فالماجد السيد الحر الكريم له ... كالنعت والعطف والتوكيد والبدل
سل عنه وانطق به وانظر إليه تجد ... ملء المسامع والأفواه والمقل وقال أيضاً (3) :
لا تسأل الناس عن خبر ... هما يبثانك الأخبار تطفيلا
ولا تعاتب على نقص الطباع أخاً ... فإن بدر السما لم يعط تكميلا وقال أيضاً (4) :
احذر محاسن أوجه فقدت محا ... سن أنفس ولو أنها أقمار
سرج تلوح إذا نظرت فإنها ... نور يضيء وإن مسست فنار
__________
(1) النتف: 91.
(2) النتف: 109.
(3) النتف: 106.
(4) النتف: 99.(3/360)
وقال أيضاً (1) :
قالوا تصاهلت الحمي ... ر فقلت من عدم السوابق
خلت الدسوت من الرخا ... خ ففرزنت فيها البياذق وقال في عود، والمعنى مشهور (2) :
سقى الله أرضاً أنبتت عودك الذي ... زكت منه أغصان وطابت مغارس
تغنى عليها الطير وهي رطيبة ... وغنت عليها الناس والعود يابس وقال (3) :
إذا صحب الفتى جد وسعد (4) ... تحامته المكاره والخطوب
ووافاه الحبيب بغير وعد ... طفيلياً وقاد له الرقيب
وعد الناس ضرطته غناء ... وقالوا إن فسا قد فاح طيب وقال في مليح اسمه عمر (5) :
يا أعدل الناس (6) إسماً كم تجور على ... فؤاد مضناك بالهجران والبين
أظنهم سرقوك القاف من قمر ... فأبدلوها بعين خيفة العين
__________
(1) النتف: 106.
(2) النتف: 103.
(3) النتف: 91.
(4) المطبوعة: وسعي.
(5) النتف: 114.
(6) الوافي: الأمة.(3/361)
456 - (1)
شرف الدين البوصيري
محمد بن سعيد بن حماد بن " محسن بن " عبد الله بن صهناج بن ملال الصهناجي؛ كان أحد أبويه من أبو صير والآخر من دلاص، فركبت له نسبة منهما وقيل الدلاصيري، لكنه اشتهر بالبوصيري.
كان يعاني صناعة الكتابة والتصرف، وباشر الشرقية ببلبيس، وله تلك القصيدة المشهورة التي نظمها في مباشري الشرقية التي أولها (2) :
فقدت (3) طوائف المستخدمينا ... فلم أر فيهم رجلاً أمينا
فقد عاشرتهم ولبثت فيهم ... مع التجريب من عمري سنينا
فكتاب الشمال هم جميعاً ... فلا صحبت شمالهم اليمينا
فكم (4) سرقوا الغلال وما عرفنا ... بهم فكأنما سرقوا العيونا
ولولا ذاك ما لبسوا حريراً ... ولا شربوا خمور الأندرينا
ولا ربوا من المردان مرداً (5) ... كأغصان يقمن (6) وينحنينا
__________
(1) الوافي 3: 105 والزركشي: 278 (ولقب شرف الدين في العنوان مأخوذ عنه) والبدر السافر: 97 والشذرات 5: 432، وقال الصفدي: وأظن وفاته كانت في سنة ست وتسعين أو سبع وتسعين وستمائة أو ما حولها، وانظر مقدمة ديوانه الذي نشر بعناية الأستاذ سيد كيلاني (القاهرة: 1955) .
(2) ديوانه: 218.
(3) المطبوعة: نقدت، الديوان: ثكلت.
(4) الديوان: فقد.
(5) الديوان: قوماً.
(6) المطبوعة: يملن، والتصويب عن الديوان والوافي.(3/362)
وقد طلعت لبعضهم ذقون ... ولكن بعد ما نتفوا (1) ذقونا
وأقلام الجماعة جائلات ... كأسياف بأيدي لاعبينا
وقد ساوقتهم (2) حرفاً بحرف ... وكل اسم يخطوا منه سينا
أمولاي (3) الوزير غفلت عما ... يتم من اللئام الكاتبينا (4)
تنسك (5) معشر منهم وعدوا ... من الزهاد والمتورعينا
وقيل لهم دعاء مستجاب ... وقد ملأوا من السحت بالطونا
تفقهت القضاة فخان كل ... أمانته وسموه الأمينا
وما أخشى على أموال مصر ... سوى من معشر يتأولونا
يقول المسلمون لنا حقوق ... بها ولنحن أولى الآخذينا
وقال القبط نحن ملوك مصر ... وإن سواهم هم غاصبونا (6)
وحللت اليهود بحفظ سبت ... لهم مال الطوائف أجمعينا
وما ابن قطيبة (7) إلا شريك ... لهم في كل ما يتخطفونا
أغار على قرى فاقوس منه ... بجور يمنع النوم الجفونا
وصير عينها حملاً ولكن ... لمنزلة وغلتها خزينا
وأصبح شغله تحصيل تبر ... وكانت راؤه من قبل نونا
وقدمه الذين لهم وصول ... فتمم نقصه صلة الذينا
وفي دار الوكالة (8) أي نهب ... فليتك لو نهبت الناهبينا
__________
(1) المطبوعة: حلقوا، وأثبت ما في الديوان والوافي.
(2) المطبوعة: ساوفتهم.
(3) الديوان: أمولانا.
(4) الديوان: الكلاب الخائنينا.
(5) الديوان: تورع.
(6) الديوان: وقال القبط إنهم بمصر الملوك ومن سواهم غاصبونا.
(7) الديوان: قطية، وهي بلدة في مديرية الشرقية.
(8) الديوان: الولاية.(3/363)
فقام بها يهودي خبيث (1) ... يسوم المسلمين أذى وهونا
إذا ألقى بها موسى عصاه ... تلقفت القوافل والسفينا
وشاهدهم إذا اتهموا يؤدي ... عن الكل الشهادة واليمينا وهي طويلة إلى الغاية، وقد اختصرت من أبياتها كثيراً، وله فيهم غير ذلك وشعره في غاية الحسن واللطافة عذب الألفاظ منسجم التركيب
وقال فيمن اسمه عمر وعلى عينه فص (2) :
سموه غمرا فصحفنا اسمه عمرا ... فبين الدهر منا موضع الغلط
فأصبحت عينه غيناً بنقطتها ... وطال ما ارتفع التصحيف بالنقط وقال فيه من قصيدة أولها (3) :
أهوى والمشيب قد حال دونه ... والتصابي بعد المشيب رعونه
أبت النفس أن تطيع وقالت ... إن جني لا يدخل القنينه
كيف أعصي الهوى وطينة قلبي ... بالهوى قبل آدم معجونه
سلبته الرقاد بيضة خدر ... ذات حسن كالدرة المكنونه
سمتها قبلة تسر بها النف ... س فقالت كذا أكون حزينه
قلت لابد أن تسيري إلى الدا ... ر فقالت عسى أنا مجنونه
قلت سيري فإنني لك خير ... من أب راحم وأم حنونه
أنا نعم القرين إن كنت تبغي ... ن حلالاً وأنت نعم القرينه
قالت اضرب عن وصل مثلي صفحاً ... واضرب الخل أو تصير طحينه
لا أرى أن تمسني يد شيخ ... كيف أرضى به لطستي مسينه
قلت إني كثير مال فقالت ... هبك أنت المبارز القارونه
__________
(1) الوافي: فثم بها؛ الديوان: وما فرعون فيها غير موسى.
(2) ليسا من أصل الديوان، انظر: 228.
(3) الديوان: 228 وليست من أصل الديوان.(3/364)
" منها ":
سيدي لا تخف علي خروجاً ... في عروضي ففطنتي موزونه
كل بحر إن شئت فيه اختبرني ... لا تكذب فإنني يقطينه وقال من قصيدة أولها (1) :
يا أيها المولى الوزير (2) الذي ... أيامه طائعة أمره
ومن له منزلة في العلا ... تكل عن أوصافها الفكره
إليك نشكو حالنا إننا ... حاشاك من قوم أولي عسره (3)
في قلة نحن ولكن لنا ... عائلة في غاية الكثره
أحدث المولى الحديث الذي ... جرى لهم بالخيط والإبره
صاموا مع الناس ولكنهم ... كانوا لمن أبصرهم عبره
إن شربوا فالبئر زير لهم ... ما برحت والشربة الجره
لهم من الخبيز مصلوقة ... في كل يوم تشبه النشره
أقول مهما اجتمعوا حولها ... تنزهوا في الماء والخضره
وأقبل العيد وما عندهم ... قمح ولا خبز ولا فطره
فارحمهم إن عاينوا (4) كعكة ... في كف طفل أو رأوا تمره
تشخص أبصارهم نحوها ... بشهقة تتبعها زفره
كم قائل يا أبتا منهم ... قطعت عنا الخير (5) في كره
ما صرت تأتينا بفلس ولا ... بدرهم ورق ولا نقره
وأنت في خدمة قوم فهل ... تخدمهم يا أبتي سخره
__________
(1) الديوان: 117.
(2) يخاطب الوزير بهاء الدين ابن حنا.
(3) سقط هذا الشطر والذي يليه من الديوان، ووقع الشطران الباقيان معاً.
(4) الديوان: أبصروا.
(5) الديوان: الخبز.(3/365)
ويوم زارت أمهم أختها ... والأخت في الغيرة كالضره
وأقبلت تشكو لها حالها ... وصبرها مني على العشره (1)
قالت لها كيف تكون النسا ... كذا مع الأزواج يا عره
قومي اطلبي حقك منه بلا ... تخلف منك ولا فتره
وإن تأبى فخذي ذقنه ... وانتفيها (2) شعرة شعره
قالت لها ما هكذا عادتي ... فإن زوجي عنده ضجره
أخاف إن كلمته كلمة ... طلقني؛ قالت لها: بعره
وهونت قدري في نفسها ... فجاءت الزوجة محتره
فقاتلتني (3) فتهددتها ... فاستقبلت رأسي بآجره
وحق من حالته هذه ... أن ينظر المولى له نظره وقال وقد كتب بها إلى بعض الأصحاب (4) :
قل لعلي الذي صداقته ... على حقوق الإخوان مؤتمنه
أخوك قد عودت طبيعته ... بشربة في الربيع كل سنه
والآن قد عفنت عليه وقد ... هدت قواه وجففت بدنه
وعاودت يومها زيارته ... وما اعتراها من قبل ذاك سنه
وعاد عند القيام يحملها ... براحتيه كأنها زمنه
جئت بها للطبيب مشتكياً ... ودمعتي كالعوارض الهتنه
فقال عد لي إذا احتميت وكل ... في كل يوم دجاجة دهنه
كيف وصولي إلى الدجاجة وال ... بيضة عندي كأنها بدنه
جزاك ربي إذا انسهلت بما ... شربت عن كل خرية حسنه
__________
(1) الديوان: العسرة.
(2) الوافي: وخلصيها؛ الديوان: ثم أنتفيها.
(3) الديوان: فاستقبلتني.
(4) أثبتها في الديوان نقلا عن الفوات.(3/366)
قال الشيخ فتح الدين ابن سيد الناس: كانت له حمارة استعارها منه ناظر الشرقية فأعجبته فأخذها وجهز له ثمنها مائتي درهم، فكتب على لسانها إلى الناظر: المملوكة حمارة البوصيري " تنشد " (1) :
يا أيها السيد الذي شهدت ... ألفاظه (2) لي بأنه فاضل
ما كان ظني يبيعني أحد ... قط ولكن سيدي جاهل (3)
لو جرسوه علي من سفه ... لقلت غيظاً عليه يستاهل
أقصى مرادي لو كنت في بلدي ... أرعى بها في جوانب الساحل (4)
وبعد هذا فما يحل لكم ... أخذي (5) لأني من سيدي حامل فردها الناظر إليه ولم يأخذ الدراهم منه.
وقال في من على عينه بياض (6) .
انظر تجد لله في ... عينيه سراً أي سر
طمس اليمين بكوكب ... وسيطمس اليسرى بفجر وقال في الشيخ زين الدين ابن الرعاد (7) :
لقد عاب شعري في البرية شاعر ... ومن عاب أشعاري فلا بد أن يهجى
__________
(1) الديوان: 189.
(2) المطبوعة: أخلاقه.
(3) الديوان:
(4) الديوان:
(5) الديوان: ملكي؛ الوافي: بيعي.
(6) الوافي: أمجد.
(7) أثبتهما في الديوان: 229 واللذين بعدهما نقلا عن الفوات.(3/367)
وشعري بحر لا يوافيه ضفدع ... ولا يقطع الرعاد يوماً له لجا وللبوصيري في مديح النبي صلى الله عليه وسلم قصائد طنانة، منها قصيدة مهموزة أولها:
كيف ترقى رقيك الأنبياء (1) ... وقصيدة على وزن بانت سعاد وأولها (2) :
إلى متى أنت باللذات مشغول ... وأنت على كل ما قدمت مسؤول وقصيدته المشهورة بالبردة التي أولها (3) :
أمن تذكر جيران بذي سلم ... مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم قال البوصيري: كنت قد نظمت قصائد في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها ما كان اقترحه علي الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير، ثم اتفق أن أصابني فالج أبطل نصفي، ففكرت في عمل قصيدتي هذه البردة فعملتها، واستشفعت به إلى الله تعالى في أن يعافيني، وكررت إنشادها وبكيت ودعوت وتوسلت، ونمت فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم، فمسح على وجهي بيده المباركة، وألقى علي بردة فانتبهت، ووجدت في نهضة فقمت وخرجت من بيتي، ولم أكن أعلمت بذلك أحد، فلقيني بعض الفقراء فقال لي: أريد أن تعطيني القصيدة التي مدحت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أيها؟ فقال: التي أنشأتها في مرضك، وذكر أولها وقال: والله لقد سمعتها البارحة وهي تنشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمايل وأعجبته
__________
(1) الديوان: 1؛ الوافي: ليس ترقي.
(2) الديوان: 172.
(3) الديوان: 190.(3/368)
وألقى على من أنشدها بردة، فأعطيته إياها، وذكر الفقير ذلك وشاع المنام إلى أن اتصل بالصاحب بهاء الدين ابن حنا، فبعث إلي وأخذها وحلف أن لا يسمعها إلا قائماً حافياً مكشوف الرأس، وكان يحب سماعها هو وأهل بيته. ثم إنه بعد ذلك أدرك سعد الدين الفارقي الموقع رمد أشرف منه على العمى فرأى في المنام قائلاً يقول له: اذهب إلى الصاحب وخذ البردة واجعلها على عينيك فتعافى بإذن الله عز وجل، فأتى إلى الصاحب وذكر منامه فقال: ما أعرف عندي من أثر النبي صلى الله عليه وسلم بردة، ثم فكر ساعة وقال: لعل المراد قصيدة البردة التي للبوصيري، يا ياقوت افتح الصندوق الذي فيه الآثار وأخرج القصيدة للبوصيري، وأت بها، فأتى بها، فأخذها سعد الدين ووضعها على عينيه فعوفي، ومن ثم سميت البردة، والله أعلم.
457 - (1)
ابن قتلمش الحاجب
محمد بن سليمان بن قتلمش، أبو منصور السمرقندي، ولد سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وبرع في الأدب، وولي حجبة (2) الباب للخليفة. وتوفي سنة عشرين وستمائة، ودفن في الشونيزية.
ومن شعره:
سئمت تكاليف هذي الحياة ... وكر الصباح بها والمساء
__________
(1) الوافي 3: 125 والزركشي: 280 وابن الشعار 6: 161 ومعجم الأدباء 18: 205 وبغية الوعاة: 47 والشذرات 5: 93.
(2) الوافي: حجب.(3/369)
وقد صرت كالطفل في عقله ... قليل الصواب كثير الهذاء (1)
أنام كنت في مجلس ... وأسهر عند دخول الغناء (2)
وقصر خطوي قيد المشيب ... وطال على ما عناني عنائي
وما جر ذلك غير البقا ... فكيف ترى سوء فعل البقاء وقال أيضاً:
تقول حليلتي لما رأتني ... وقد أزمعت عن وطني غدوا
أقم واطلب مرامك من صديق ... فقلت لها يصير إذاً عدوا وقال أيضاً:
لا والذي سخر قلبي لها ... عبداً كما سخر لي قلبها
ما فرحي في حبها غير أن ... تبيح لي من هجرها قلبها وقال أيضاً:
ومهفهف غض الشباب أنيقه ... كالبدر غصني (3) الشباب وريقه
نازعته مشمولة فأدارها ... من وجنتيه ومقلتيه وريقه وقال أيضاً:
يا قوم ما بي مرض واحد ... لكن بي عدة أمراض
ولست أدري بعد ذا كله ... أساخط مولاي أم راضي وقال أيضاً:
ومقرطق وجدي عليه كردفه ... وتجلدي والصبر عنه كخصره
نادمته في ليلة من شعره ... أجلو محاسنه بشمعة ثغره
__________
(1) الوافي: الهراء.
(2) المطبوعة: الفناء؛ وهو خطأ.
(3) المطبوعة: غضي.(3/370)
وقال أيضاً:
لي في هواك وإن عذبتني أرب ... شطر ثانيينفي السلو ولو قطعت آرابا
لا أطلب الروح من كرب الغرام ولو ... صبت علي سماء الحب أوصابا
ولست أبغي ثواب الصبر عنك ولو ... ألبستني من سقام الجسم أثوابا
وشقوتي بك لا أرضى النعيم بها ... وساعة منك تسوى النار أحقابا وكان مغرى بالقمار والنرد لا يكاد يفارقهما إلا إذا لم يجد من يساعده على ذلك.
458 - (1)
ابن أبي الربيع الهواري
محمد بن سليمان بن عبد الله بن يوسف، جمال الدين الهواري - بتشديد الواو وبعد الألف راء - المالكي المعروف بابن أبي الربيع؛ كان فاضلاً أديباً، قال قطب الدين اليونيني: قال ابن خلكان: أنشدني جمال الدين لنفسه:
لولا التطير بالخلاف وأنهم ... قالوا مريض لا يعود مريضا
لقضيت نحبي خدمة بفنائكم ... لأكون مندوباً قضى المفروضا ومن شعره:
أحباب قلبي إن تحكمت النوى ... في بيننا وجرى القضاء بما جرى
فلقد غضضت عن الورى من بعدكم ... طرفاً يرى من بعدكم أن لا يرى
__________
(1) الوافي 3: 127 والزركشي: 280، وكانت وفاته بالقاهرة في شهر رمضان سنة ثلاث وسبعين وستمائة.(3/371)
وقال أيضاً:
سريت من السواد إلى السويدا ... مسير البدر في طرفي وقلبي
قضيت من النوى وطراً وها قد ... قضيت - لك البقا - في البعد نحبي وقال في موسى بن يغمور (1) :
لك الله يا موسى فأنت محمد ال ... صفات وفكري فيك حسان مدحه
إذا ما دجا ليل من الخطب مظلم ... فمن يداك البيضاء إسفار صبحه وكتب إلى صديق له يدعى الصدر:
ما زلت في بعد وقرب ... صباً إليك وأي صب
حزت القلوب بأسرها ... والصدر موضع كل قلب وقال أيضاً " فيه ":
وتوسوست باشتياقي إلى الصد ... ر وما زال موضع الوسواس 459 (2)
شمس الدين ابن العفيف التلمساني
محمد بن سليمان بن علي، شمس الدين ابن الشيخ عفيف الدين التلمساني؛ قال القاضي شهاب الدين ابن فضل الله في حقه: نسيم سرى، ونعيم جرى،
__________
(1) المطبوعة: يوسف بن يعفور؛ وهو خطأ.
(2) الوافي 3: 129 والزركشي: 280 والشذرات 5: 405 والبداية والنهاية 13: 326 والنجوم الزاهرة 8: 29 وقد نشر ديوانه مرات، والاشارة هنا إلى طبعة النجف 1967 بعناية الأستاذ شاكر هادي شكر؛ وهذه الترجمة من التراجم القليلة التي فارق فيها المؤلف الاعتماد على الوافي.(3/372)
وطيف لا بل أخف موقعاً منه في الكرى، لم يأت إلا بما خف على القلوب، وبرئ من العيوب، رق شعره فكاد أن يشرب، ودق فلا غرو للقضب أن ترقص والحمام أن يطرب، ولزم طريقة دخل فيها لا استئذان، وولج القلوب ولم يقرع باب الآذان، وكان لأهل عصره ومن جاء على آثارهم افتتان بشعره وخاصة أهل دمشق فإنه بين غمائم حياضهم ربي، وفي كمائم رياضهم حبي، حتى تدفق نهره، وأينع زهره، وقد أدركت جماعة من خلطائه لا يرون عليه تفضيل شاعر، لا يروون له شعراً إلا وهم يعظمونه كالمشاعر، لا ينظرون له بيتاً إلا كالبيت، ولا يقدمون عليه سابقاً حتى لو قلت ولا امرأ القيس لما باليت، ومرت له ولهم بالحمى أوقات لم يبق من زمانها إلا تذكره، ولا من إحسانها إلا تشكره، وأكثر شعره لا بل كله رشيق الألفاظ، سهل على الحفاظ، لا يخلو من الألفاظ العامية، وما تحلو به المذاهب الكلامية، فلهذا علق بكل خاطر، وولع به كل ذاكر، وعاجله أجله فاخترم، وحرم أحباه لذة الحياة وحرم.
فمن شعره (1) :
بلا غيبة للبدر وجهك أجمل ... وما أنا فيما قلته متجمل
ولا عيب عندي فيك لولا صيانة ... لديك بها كل امرئ يتبذل
لحاظك أسياف ذكور فما لها ... كما زعموا مثل الأرامل تغزل
وما بال برهان العذار مسلماً ... ويلزمه دور وفيه تسلسل
وعهدي أن الشمس بالصحو آذنت ... فما بال سكري من (2) محياك يقبل
كأنك لم تخلق لغير نواظر ... تسهدها وجداً وقلباً تعلل
حبيبي ليهن الحسن أنك حزته ... ويهن فؤادي أنه لك منزل
__________
(1) الديوان: 199.
(2) الوافي: وسكري أراه في.(3/373)
إذا كنت ذا ود صحيح فلم يكن ... يضرني العذال حيث تقولوا
رأوا منك حظي في المحبة آخراً ... لذا حرفوا عني الحديث وأولوا وقال أيضاً (1) :
بعينيك هذي الفاترات التي تسبي ... يهون علي اليوم يا حبي
إذا ما رأت عيني جمالك مقبلاً ... وحقك يا روحي سكرت بلا شرب
وإن هز عطفيك الصبا متمايلاً ... أضاع الهوى نسكي وغيبت عن لبي
فدعني وهذا الخد أعصر في فمي ... عناقيد صدغيه وحسبي به حسبي
لو أن تجار اللؤلؤ الرطب شاهدوا ... ثناياك ما عنوا على اللؤلؤ الرطب
أيا ساقي الكاس الذي زاده خده ... عليها احمراراً عد بالكاس عن صحبي
وما ذاك بخلاً بالمدام وإنما ... إذا حلت لم آمن عليهم من السلب
وبالله قل لي أيها الظبي كيف قد ... تعلمت صيد الأسد في شرك الهدب
وماذا الذي قد بعت فاسترهنت به ... لديك الربى رهناً كثيباً من الكثب
فخذ قصة الشكوى من الأعين التي ... نفيت لذيذ النوم عنها بلا ذنب
ولا تعتبن صباً تهتك ستره ... عليك فهتك الستر أليق بالصب وقال أيضاً (2) :
أعز الله أنصار العيون ... وخلد ملك هاتيك الجفون
وضاعف بالفتور لها اقتداراً ... وإن تك أضعفت عقلي وديني (3)
وأبقى دولة الأعطاف فينا ... وإن جارت على القلب الطعين
وأسبغ ظل ذاك الشعر يوماً ... على قد به هيف الغصون
وصان حجاب هاتيك الثنايا ... وإن ثنت الفؤاد إلى شجون
__________
(1) الديوان: 71:
(2) الديوان: 277.
(3) الديوان: وجدد نعمة الحسن المصون.(3/374)
وقال أيضاً (1) :
أسير ألحاظ لخد (2) أسيل ... كليم أحشاء لطرف كليل
في حب من حظي كشعر له ... لكن قصير ذا وهذا طويل
ليس خليلاً لي ولكنه ... أضرم (3) في الأحشاء نار الخليل
يا ردفه جرت على خصره ... رفقاً به ما أنت إلا ثقيل وقال أيضاً (4) :
في غزلي من لحظ ذاك الغزال ... أخبار صب قتلته النبال
غصن سقته أدمعي ثم ما ... أثمر لما مال إلا الملال
حل ثلاثاً يوم حمامه ... ذوائباً تعبق منها الغوال
فقلت والقصد ذؤاباته ... يا سهري في ذي الليالي الطوال وقال أيضاً (5) :
لم أنس لما زارني مقبلاً ... أولاني الوصل وما ألوى
وقعت بالرشف على ثغره ... وقع المساطيل على الحلوى (6) وقال أيضاً (7) :
رأى رضاباً عن تسل ... يه أولو العشق سلوا
ما ذاقه وشاقه ... هذا وما وكيف لو
__________
(1) الديوان: 235.
(2) الوافي: أجفان بخد؛ الديوان: بخد.
(3) الوافي: يضرم.
(4) الديوان: 234.
(5) الديوان: 286.
(6) الوافي: حلوى.
(7) الديوان: 287 نقلاً عن الفوات.(3/375)
وقال (1) :
يا من أطال التجني ... وقد أسا في التوخي
أسرفت تيهاً وعجباً ... وكثرة الشد يرخي وقال أيضاً (2) :
بحق هذي الأعين الساحرة ... وحسن هذي الوجنة الزاهره
خف في الهوى إثمي يا قاتلي ... فاليوم دنيا وغداً آخره
قلبي مصر لك ما باله ... قد ذاب من أخلاقك القاهره وقال أيضاً (3) :
أحلى من الشهد من هويت وكم ... شقت (4) به في الهوى مرارات
وكيف لا تستطاب ريقته ... وثغره سكر سنينات وقال أيضاً (5) :
يا خاله خضرة بعارضه ... حرستها عن متيم مغرى
كف عن العاشقين مقتصرا ... هل أنت إلا حويرس الخضرا وقال أيضاً (6) :
مثل الغزال نظرة ولفتة ... ممن ذا رآه مقبلاً ولا افتتن
أعذب خلق الله ثغراً وفماً ... إن لم يكن أحمق بالحسن فمن
__________
(1) الديوان: 89 عن الفوات والوافي.
(2) الديوان: 128.
(3) الديوان: 75.
(4) الوافي: فتت.
(5) الديوان: 125.
(6) الديوان: 280.(3/376)
في ثغره وخده وشكله (1) ... الماء والخضرة والوجه الحسن وقال أيضاً (2) :
حللت بأحشاء لها منك قاتل ... فهل أنت فيها نازل أو منازل
أرى الليل مذ حججت ما حال لونه ... على أنه بيني وبينك حائل
أيسعدني يا طلعة البدر طالع ... ومن شقوتي خط بخديك نازل
شطر ولو أن قساً واصف منك وجنة ... لأعجزه نبت بها وهو باقل على كل أمر منك عون فربما يعين الذي أبلى بما أنت فاعل
وبي ساحر باللحظ للخد حارس ... وذابل أعطاف لدمعي نازل
وشعر كليلي كان طولاً فما له ... قصير كحظي هل لذاك دلائل
نعم قد تناهى في الغرام تطاولاً ... " وعند التناهي يقصر المتطاول " وقال أيضاً (3) :
ما بين هجرك والنوى ... قد ذبت فيك من الجوى
وحياة وجهك لا سلا ... عنك المحب ولا نوى
يا فاتني بمعاطف ... سجدت لها قضيب اللوى
يا من حكى بقوامه ... قد القضيب إذا التوى
ما أنت عندي والقضي ... ب اللدن في حال سوا
هذاك حركه الهوا ... ء وأنت حركت الهوى وقال أيضاً (4) :
تمشى بصحن الجامع اليوم شادن ... على قده أغصان بان النقا تثني
__________
(1) الوافي: وصدغه.
(2) الديوان: 200.
(3) الديوان: 285.
(4) الديوان: 276.(3/377)
فقلت ولد لاحت عيه حلاوة ... ألا فانظروا هذي الحلاوة في الصحن وقال أيضاً (1) :
بدا وجهه من فوق أسمر قده ... وقد لاح من ليل الذوائب في جنح
فقلت عجيباً كيف لم يذهب الدجى ... وقد طلعت شمس النهار على رمح وقال أيضاً (2) :
وهل فيه من شيء أن طرفه ... لكل فؤاد في البرية صائد
وأن محياه إذا قابل الدجى ... أضاء به جنح من الليل راكد
فكم يتجافى خصره وهو ناحل ... وكم يتحالى ريقه وهو بارد
وكم يدعي صوناً وهذي جفونه ... بفترتها للعاشقين مواعد وقال أيضاً (3) :
للعاشقين بأحكام الغرام رضى ... فلا تكن في الهوى بالعذل معترضا
روحي الفداء لأحبابي وإن نقضوا ... عهد الوفي الذي للعهد ما نقضا
قف واستمع سيرة الصب الذي قتلوا ... فمات في حبهم لم يبلغ الغرضا
رأى فحب فرام (4) الوصل فامتنعوا ... فرام صبراً فأعيا نيله فقضى وقال أيضاً موشح (5) :
بدر عن الوصل في الهوى عدلا ... مالي عنه إن جار أو عدلا مذهب مترك اللحظ لفظه خنث ...
__________
(1) الديوان: 86.
(2) الديوان: 91.
(3) الديوان: 158.
(4) الديوان: فسام.
(5) الديوان: 293.(3/378)
إليه تصبو الحشا وتنبعث ... أشكو إليه وليس يكترث ...
دعا فؤادي بأن يذوب قلى ... الموت والله إذ دعا وقلى أقرب لم يبق لي مقلة ولا كبد ... والقلب فيه أودى به الكمد ... وليس يلفى لهجره أمد ...
لا تعجبوا أن غدوت محتملا ... لكن قلبي إن كان عنه سلا أعجب بالحسن كل العقول قد نهبا ... والحزن كل القلوب قد وهبا ... شمس ولكنني لديه وهبا ...
فانظر لذاك القوام كيف جلا ... غصن وكم بالجمال منه جلا غيهب وقال ذوبيت (1) :
قاسيت بك الغرام والهجر سنين ... ما بين بكاء وأنين وحنين
أرضيك ولا تزداد إلا غضباً ... الله كما أبلى بك القلب يعين وقال أيضاً (2) :
يا من بفؤادي نار وجدي غادر ... من قاس إليك حسنه من فاخر
لا تخش إذا ما قيل هذا حسن ... عن غيرك فالشيخ غداً شيء آخر وقال أيضاً (3) :
__________
(1) الديوان: 280.
(2) الديوان: 145.
(3) الديوان: 284.(3/379)
يا من غدت القلوب في حكم (1) يديه ... ذا صبك كم تهدي تجنيك إليه
عذل وتسهيد ووجد وقلى ... ما تم على الكلاب (2) ما تم عليه وقال أيضاً (3) :
لا تعتقدوا عذاره الفتان (4) ... قد وشح ورد الخد بالريحان
ذا خالقه قد خط في وجنته ... لاماً كتبت بالقلم الريحاني وقال أيضاً (5) :
يا ممرض جسم صبه بالتيه (6) ... أوردت فؤاده بحار التيه
لا يطلب مضنى مغرم فيه سوى ... إبلاغ حويجة له في فيه وقال أيضاً (7) :
كم يشمت بي في حبك العذال ... كم يكثر فيك القيل بي والقال
والصبر بكل حالة أليق بي ... أحتاج أداريك ويمشي الحال وقال أيضاً (8) :
إن صد وراح (9) للجفا يعتمد ... أو زال وداده الذي أعتقد
فالأمر له وما عليه حرج ... لا يدخل بينه وبيني (10) أحد
__________
(1) الديوان: طوع.
(2) الديوان: العشاق.
(3) الديوان: 274.
(4) كذا هو أيضاً في الديوان.
(5) الديوان: 283
(6) الديوان: يا ممرض ضبه بكثر التيه.
(7) الديوان: 211.
(8) الديوان: 92.
(9) الديوان: وأضحى.
(10) المطبوعة: بيني وبينه.(3/380)
وقال أيضاً (1) :
وقد أصبح آخر الهوى أوله ... فالعاذل في هواك ما لي وله
بالله عليك خل ما أوله ... وارحم دنفاً حشو حشاه وله وكانت وفاة شمس الدين المذكور في شهور سنة ثمان وثمانين وستمائة بدمشق، وكان مولده بالقاهرة في عاشر جمادى الآخرة سنة إحدى وستين وستمائة.
ورثاه والده الشيخ عفيف الدين وذكر أخاه أيضاً (2) :
ما لي بفقد المحمدين يد ... مضى أخي ثم بعده الولد
يا نار قلبي وأين قلبي أو ... يا كبدي لو يكون لي كبد
يا بائع الموت مشتريه أنا ... فالصبر ما لا يصاب والجلد
أين البنان التي إذا كتبت ... وعاين الناس خطها سجدوا
أين الثنايا التي إذا ابتسمت ... أو نطقت لاح لؤلؤ نضد
ما فقدتك الإخوان (3) يا ولدي ... وإنما شمس أنسهم (4) فقدوا
محمد يا محمد عدداً ... وما لما ليس ينتهي عدد " منها " (5) :
ماذا على الغاسلين إذ قرب الأم لاك منه لو أنهم بعدوا
قد حملت نفسه العلوم إلى ال فردوس والنعش فوقه الجسد
أبكيت خالاتك الضواحك من قبل وما صفاتك النكد
بي كبر مسنى وأمك قد شاخت فمن أين لي يرى ولد
وهبه قد كان لي فمثلك لا يرجى وأين الزمان والأمد
__________
(1) الديوان: 281.
(2) الوافي: 135.
(3) الوافي: الأقران.
(4) الوافي: أفقهم.
(5) زيادة من الوافي.(3/381)
" منها ":
يا ليتني لم أكن أباً لك أو ... يا ليت ما كنت أنت لي ولد قيل: إنه عمل مرة جماعة سماعاً حسناً وكان فيه جماعة ملاح، فبعثوا منهم مليحاً إلى شمس الدين يطلبونه من والده، فلما جاء الرسول كتب والده على يده:
أرسلتما لي رسولاً في رسالته ... حلو المراشف والأعطاف والهيف
وقدتما ويسير ذاك أنكما ... وقدتما النار في بادي الضنا (1) دنف فلما حضر ولده وبلغته الواقعة واطلع على مجيء الرسول كتب إلى والده:
مولاي كيف انثنى عنك (2) الرسول ولم ... تكن لوردة خديه بمرتشف
جاءتك من بحر ذاك الحسن لؤلؤة ... فكيف ردت بلا ثقب إلى الصدف؟ 460 (3)
ابن النقيب المفسر
محمد بن سليمان بن الحسن بن الحسين، العلامة الزاهد جمال الدين أبو عبد الله البلخي الأصل المقدسي الحنفي، المعروف بابن النقيب أحد الأئمة؛ ولد سنة إحدى عشرة وستمائة، ودخل القاهرة ودرس بالعاشورية ثم تركها
__________
(1) المطبوعة: في وسط الحشا.
(2) المطبوعة: كيف أتى لك، وهو خطأ، والبيتان في الديوان: 183 نقلاً عن الوافي والفوات.
(3) الوافي 3: 136 والجواهر المضية 2: 57 والبدر السافر: 107 والشذرات 5: 442 والأنس الجليل 2: 556 والسلوك 1: 881.(3/382)
وأقام بالجامع الأزهر مدة. وكان صالحاً زاهداً متواضعاً عديم (1) التكلف، وكان الأكابر يترددون إليه ويسألونه الدعاء، وصرف همته إلى التفسير وصنف تفسيراً حافلاً جمع فيه خمسين مصنفاً وذكر في أسباب النزول والقراءات والإعراب واللغات والحقائق وعلم الباطن، قيل إنه في خمسين مجلدة. وتوفي سنة ثمان وتسعين وستمائة، رحمه الله تعالى.
461 - (2)
نجم الدين ابن إسرائيل
محمد بن سوار بن إسرائيل بن الخضر بن إسرائيل بن الحسن بن علي ابن الحسين، نجم الدين أبو المعالي الشيباني الشاعر المشهور؛ ولد بدمشق سنة ثلاث وستمائة، وتوفي بها سنة سبع وسبعين وستمائة، ودفن داخل قبة الشيخ رسلان. صحب الشيخ علي الحريري ولبس الخرقة من الشيخ شهاب الدين السهروردي وسمع عليه وأجلسه في ثلاث خلوات. وكان قادراً على النظم مكثراً منه، مدح الرؤساء والقضاة وغيرهم، وتجرد وسافر " إلى " البلاد على قدم الفقر (3) وقضى الأوقات الطيبة، وكان ريحانة المشاهد وديباجة السماعات. وحضر بعض الليالي وقتاً وفيه نجم الدين ابن الحكيم الحموي فغنى المغني من شعر ابن إسرائيل قوله:
__________
(1) في المطبوعة: عظيم، وهو خطأ واضح.
(2) الوافي 3: 143 والزركشي: 282 والبدر السافر: 107 وابن الفرات: 7: 131 والشذرات 5: 359 ولسان الميزان 5: 195 وعبر الذهبي 5: 316 والبداية والنهاية 13: 283.
(3) الوافي: الفقراء.(3/383)
وما أنت غير الكون بل أنت عينه ... ويفهم هذا السر من هو ذائق فقال " ابن " الحكيم: كفرت كفرت، فقال ابن إسرائيل: لا ما كفرت ولكن أنت ما تفهم؛ وتشوش الوقت.
ومن شعره:
وفى لي من أهواه جهراً بموعدي ... فأرغم عذالي عليه وحسدي
وزار على شحط المزار تطولاً ... على مغرم بالوصل لم يتعود
فيا حسن ما أبدى لعيني جماله ... ويا برد ما أهدى إلى قلبي الصدي
ويا صدق أحلامي ببشرى وصاله ... ويا نيل آمالي ويا نجح مقصدي
نديمي من سعد أريحا ركائبي ... فقد أمنت من أن تروح وتغتدي
ولا تلزمني النسك فالحب شاغلي ... ولا تذكرا لي الورد فالراح موردي
ولا تقفا بي في الرسوم التي عفت ... فقد طال حبسي بين نؤي وموقد
ومرا علي حي بمنعرج اللوى ... وقولا لغزلان الصريم ألا ابعدي
ولا تسعداني بعدها لكما البقا ... فما في بعد اليوم فقر لمسعد
أمن بعد ما قد برق الشوق غلتي ... وزار الكرى أجفان طرفي المسهد
وهامت بي الصهباء وجداً فكل من ... سقاها له طرف إلى رؤيتي صدي
وأمسيت والكاسات شمسي وأصبحت ... عروس حميا الحان تجلى على يدي
وأضحت ظباء الحي صيد خلاعتي ... وإن صدن من أهل النهى كل أصيد
ذراني وعزمي والدجى ومزاره ... فقد أبت العلياء إلا تفردي
ولا تأيسا من روحه وتأسيا ... فكم معرض في اليوم يقبل في غد
ففي الحي صب باع مهجة نفسه ... لجيرة ذاك الحي نقداً بموعد
هو الحب إما منية أو منية ... ودون العلا حد الحسام المهند
ألم تريا أني وجدت تلذذي ... برؤياه عقبى حيرتي وتلددي
وقد عشت دهراً والزمان يهزني ... وتطربني الألحان من كل منشد(3/384)
فأغدو وفي ليل الغدائر دائباً ... أضل ومن صبح المباسم أهتدي
ويسقم جسمي كل جفن وتارة ... يورد دمعي كل خد مورد
فطوراً أرى في الربع يبدو تولهي ... وطوراً وراء الظعن يوهى تجلدي
أحن للمع النار شب ضرامها ... بنعمان في ظل الأراك المعمد
وأصبو متى هبت صباحاً جرية ... تخبرني عن منجد غير منجدي
وتخجل أجفاني السحاب بوبلها ... متى لاح لي برق ببرقة ثهمد وقال في غلام جميل الصورة حياه بتفاحة:
لله تفاحة وافى به سكني ... فسكنت لهباً في القلب يستعر
كفرصة المسك وافاني الغزال بها ... وغرة النجم حياني بها القمر
حمراء في صورة المريخ عاطرة ... يزري بنشر الحميا نشرها العطر
أتى بها قاتلي نحوي فهل أحد ... قبلي تمشى إليه الغصن والثمر وقال أيضاً:
عسى الطيف بالزوراء منك يزور ... فقد نام عنه كاشح وغيور
وكيف يزور الطيف صباً مسهداً ... له النجم بعد الظاعنين سمير
سروا في ضياء من شموس خدورهم ... كأن سراهم في الظلام منير
ظعائن تغزوا الجيش وهي رديفة ... عليهن من سمر الرماح ستور
إذا نزلوا أرضاً تولت محولها ... وأضحت وفيه روضة وغدير
وإن فارقوا أرضاً غدت ورمالها ... من الطيب مسك والتراب عبير
أأحبابنا النائين أدعو وبيننا ... سهول عسير قطعها ووعور
سقى أبرق الحنان حيث مصيفكم ... من المزن داني الهيدبين مطير
ودار لكم بالبان عن أيمن الحمى ... يلوح عليها نضرة وسرور
قريبة عهد بالخليط رسومها ... مواثل ما محت لهن سطور
كأن مواطي الخيل فيها أهله ... وآثار أخفاف المطي بدور(3/385)
وقال أيضاً:
في ذمة الله من أهوى وإن بانا ... وإن أسر الغدر الذي بانا
وفي سبيل الهوى عهداً تحمله ... قلب يرى حفظه الأيمان إيمانا
يا ظاعناً لم أكن من قبل فرقته ... أهوى ربوعاً ولا أشتاق أوطانا
لم يبق بينك عندي يا منى أملي ... للشوق قلباً ولا للدمع أجفانا وقال أيضاً في كحال كحل محبوبه:
يا سيد الحكماء هذي سنة ... مسنونة في الطب أنت سننتها
أو كلما كلت سيوف جفون من ... سفكت لواحظه الدماء (1) سننتها وقال أيضاً:
يا من يشير إليهم المتكلم ... وإليهم يتوجه المتظلم
وعليهم يحلو التأسف والأسى ... ويلذ لوعات الغرام المغرم
هذا الوجود وإن تعدد ظاهراً ... وحياتكم ما فيه إلا أنتم
وشغلتم كلي بكم وجوارحي ... وجوانحي أبداً سمعت فمنكم أو عنكم
وإذا نطقت ففي صفات جمالكم ... وإذا سألت الكائنات فعنكم
وإذا سكرت فمن مدامة حبكم ... وبذكركم في سكرتي أترنم
إذا نظمت تغزلاً في صورة ... فلأجل حسنكم المحجب أنظم
أنتم حقيقة كل موجود بدا ... ووجود هذي الكائنات توهم
أنا في وجودكم غريب بائس ... وغريبكم ما باله لا يرحم وقال أيضاً:
وأهيف القامة عذب اللمى ... يقر عينيه دوام السهر
__________
(1) الزركشي: أجرى دماء العاشقين.(3/386)
وما رأينا قبل أجفانه ... من نرجس يذبل وقت السحر وقال أيضاً:
إن أم سمراً أو أراك ... فإنما مقصدهم أن أراك
وإن ترنمت بذكر الحمى ... فإنما عقد ضميري حماك
وإن دعا غيرك داع فما ... أحسب إلا أنه قد دعاك
وإن بكا صب حبيباً فما ... أحسب إلا أنه قد بكاك
يا جملة الحب وتفصيله ... أجملت إذ فرغتني من سواك
ويا غنياً عن غرامي به ... من لي بأن يرحم فقري غناك
ملأت كل الكون عشقاً فما ... أعرف قلباً خالياً من هواك وقال أيضاً:
إلى كم، رعاك الله، تنأى وأقرب ... وأرضى بما تجني علي وتغضب
فلا أنت مشك إن شكوت فيشتفي ... فؤادي وإن أعتب فما أنت معتب
تكلفت لي ذاك الوداد فلم يدم ... وكل وداد بالتكلف يصعب
ومن يتكلف ضد ما هو طبعه ... تعد نفسه للطبع، والطبع أغلب
يقولون هند لا تدوم وزينب ... على العهد، كل الناس هند وزينب
تطلبت وداً لا يكون لعلة ... فأعوزني وجدان ما أتطلب
وحاولت من يوفي بعهد فلم أجد ... كأن الذي حاولت عنقاء مغرب
تلطف فإن اللطف منك سجية ... تعطف فإن العطف منك مجرب
وإن كان لا بداً من الهجر فاتئد ... لعل رحيلي عن جنابك يقرب
سأرحل عنك اليوم لا متلفت ... بوجهي كأني خائف مترقب
وأما ودادي فهو باق وإن من ... بقاء ودادي أنني أتعتب وقال أيضاً:
يا غزالاً قد سبانا حسنه ... وهلالاً لاح في غصن لجين(3/387)
قمر العقرب (1) خوفت؛ فمن ... منصفي من قمر في عقربين وقال أيضاً:
ما أحسن الجامع في ليلة الن ... صف وقد لاح عليه السرور
وأشبهت زهر قناديله ... كاسات راح للندامى تدور
وقارن النسر الثريا به ... وقابل البدر هناك البدور وقال أيضاً:
ما مثل جامعنا ومثل وقيده ... كضياء طلعة شاهدي ومواصلي
وكأن ذاك الوجه قنديل يرى ... ومن العذار معلق بسلاسل وقال أيضاً في مروحة:
ومحبوبة في القيظ لم تخل من يد ... وفي القر تجفوها أكف الحبائب
إذا ما الهوى المقصور هيج عاشقاً ... أتت بالهوى الممدود من كل جانب وقال في مليح مغن:
وأهيف إن غنى فقمري بانة ... وإن ماس من عجب فبعض غصونها
تحرك خلف الدف حتى تحركت ... شطر ثانيقلوب رجال فجعت بسكونها وقال أيضاً:
هل عهد ليلى بالكثيب عائد ... أم طيفها لسقم جسمي عائد
حوراء حار العقل في صفاتها ... لها الجمال عاشق وحاسد
فكل عضو فيه بدر طالع ... وكل عطف فيه غصن مائد
فعطفها وحسن صبري ناقص ... وحسنها وفرط وجدي زائد
يا كعبة الحسن التي أحجها ... فؤاد مضناك عليك وافد
قد سقت في الهوى إليك مهجتي ... والدم دمع لغرامي شاهد
__________
(1) قمر العرب، والتصويب عن الزركشي.(3/388)
وطفت في مغناك حتى ملني ... من أرضك الرسوم والمعاهد
ولم أقصر فيك عن حفظ الهوى ... شطر ثانيوالحر من يحفظ من يعاهد
وربما يجمع جمع شملنا ... بكم وتصفو عندك الموارد
وعلنا نقضي منانا يمنى ... وتنقضي من وصلنا المواعد
أو لا فموتي فيكم شهادة ... علي فيها بالرضى شواهد وحكى لي الشيخ عز الدين الدربندي المؤذن بالجامع الأموي، رحمه الله تعالى، قال: أخبرني نجم الدين ابن إسرائيل قال: أضقت في بعض الأوقات إضاقة شديدة، فقلت في نفسي: والله لا مدحت غير الله تعالى، فقلت القصيدة السينية التي أولها:
يا ناق ما دون الأثيل معرس ... جدي فصبحك قد بدا يتنفس
واستصحبي عزماً يبلغ الحمى ... لتظل تغبطك الجواري الكنس قال: فجاءت اثنين وستين بيتاً، وكان لي عادة أن أنظم القصيدة وأنقحها فيما بعد، فعرضت القصيدة فلم أر فيها ما يحذف، فنمت ليلتي، فلما كان وقت السحر وإذا بالباب يدق، فقمت فوجدت قاصداً من مصر ومعه كتاب من الأمير جمال الدين " ابن " يغمور، وصحبته صرة ذهب، وقال: الأمير يسلم عليك، وهذه برسم النفقة، فعددت الذهب فكان اثنين وستين ديناراً، أو كما قال، رحمه الله تعالى.(3/389)
462 - (1)
شرف الدين ابن الوحيد
محمد بن شريف بن يوسف، الكاتب شرف الدين بن الوحيد صاحب الخط الفائق والنظم والنثر؛ كان تام الشكل حسن البزة موصوفاً بالشجاعة متكلماً بعدة ألسن، يضرب المثل بحسن كتابته. توفي سنة إحدى عشرة وسبعمائة وقد شاخ.
سافر إلى العراق واجتمع بياقوت المجود، وكان قد اتصل بخدمة بيبرس الجاشكنير، وكتب له أجزاء ختمة في سبعة أجزاء بليقة ذهب بقلم الثلث في قطع البغدادي (2) ، دخل فيها جملة من الذهب أعطاها له الجاشكنير (3) ألف وستمائة دينار أو ألف وأربعمائة دينار، دخل الختمة ستمائة دينار وأخذ الباقي، فقيل له في ذلك فقال: متى يعود آخر مثل هذا يكتب مثل هذه الختمة؛ وزمكها (4) صندل المذهب، وهي وقف في جامع الحاكم. وكتب السبعة أقلام طبقة، وخدم بديوان الإنشاء بالقاهرة، ومن نظمه في تفضيل الحشيش:
وخضراء لا الحمراء تفعل فعلها ... لها وثبات في الحشا وثبات
تؤجج ناراً في الحشا وهي جنة ... وتبدي مرير الطعم وهي نبات وقال أيضاً:
جهد المغفل في الزمان مضيع ... وإن ارتضى أستاذه وزمانه
__________
(1) الوافي 3: 150 والزركشي: 283 والبدر السافر: 108 والدرر الكامنة 4: 73.
(2) الوافي: بليقة ذهبية قلم الأشعار ثلث كبير قطع البغدادي.
(3) زاد في الوافي: برسم الليقة لا غير.
(4) زمك: وضع حاشية ضيقة (للثواب أو لغيره) .(3/390)
كالثور في الدولاب يسعى وهو لا ... يدري الطريق فلا يزال مكانه وكان ناصر الدين شافع قد وقف على شيء من نظمه فأثنى عليه وشكره
فلما بلغ ابن الوحيد ذلك قال:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وكان ناصر الدين شافع قد عمي، فلما بلغه قوله كتب إليه أبياتاً يهجوه:
نعم نظرت ولكن لم أجد أدباً ... يا من غدا واحداً في قلة الأدب
عيرتني بعمى أصبحت تذكره (1) ... والعيب في الرأس دون العيب في الذنب وكان الواقع " عظيماً " (2) بينه وبين محيي الدين ابن البغدادي، و " ابن البغدادي " (3) عمل له ذلك المنشور الذي أقطعه فيه قائم الهرمل وابن عروة وأبو عروق وما أشبه هذه الأماكن.
ورأيت كتاب " خواص الحيوان " وفيه مكتوب ذكر الضبع: من خواص شعرها أنه من تحمل بشيء منه حدث له البغاء، وقد كتب ابن البغدادي على الهامش: أخبرني الثقة شريف الدين ابن الوحيد الكاتب أنه جرب ذلك فصح معه، أو كما قال.
__________
(1) الوافي: جازيت مدحي وتقريظي بمييرة.
(2) زيادة عن الوافي.
(3) وابن عروة: لم ترد في الوافي.(3/391)
463 - (1)
العلوي
محمد بن صالح بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن ابن علي بن أبي طالب؛ حمله المتوكل من البادية سنة أربعين ومائتين في من طلبه من آل أبي طالب، فحبس ثلاث سنين ثم أطلق، فأقام بسامرا ثم عاد إلى الحجاز. وكان راوية أديباً شاعراً، وهو القائل في الحبس من أبيات:
وبدا له من بعد ما اندمل الهوى ... برق تألق بالحمى لمعانه
يبدو كحاشية الرداء ودونه ... صعب الذرى متمنع أركانه
فدنا لينظر أين لاح فلم يجد (2) ... نظراً إليه وصده سجانه
فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سمحت به أجفانه 464 (3)
عماد الدين الدنيسري
محمد بن عباس بن أحمد بن صالح، الحكيم البارع عماد الدين الدنيسري؛ ولد بدنيسر سنة خمس وستمائة (4) ، وقرأ الطب حتى برع فيه، وساد (5)
__________
(1) الوافي 3: 154 ومعجم الشعراء: 380 والأغاني 16: 282.
(2) الوافي: يطق.
(3) الوافي 3: 200 والزركشي: 284 وابن أبي أصيبعة 2: 267 والشذرات 5: 397 والبدر السافر: 119.
(4) الوافي: خمس أو ست وستمائة.
(5) في المطبوعة: وقد سافر.(3/392)
وسمع الحديث بالديار المصرية، وصحب البهاء زهيراً مدة وتخرج به في الأدب والشعر، وتفقه على مذهب الإمام الشافعي، وصنف " المقالة المرشدة في درج الأدوية المفردة " و " أرجوزة في الدرياق الفاروق "، ونظم " مقدمة المعرفة " (1) لبقراط وغير ذلك، وسكن الشام، وخدم بالقلعة في الدولة الناصرية ثم خدم بالبيمارستان الكبير، وكان أبوه خطيباً بدنيسر. سمع منه قاضي القضاة نجم الدين ابن صصرى والبرزالي. وتوفي سنة ست وثمانين وستمائة.
ومن شعره، رحمه الله تعالى:
وقلت شهودي في هواك كثيرة ... وأصدقها قلبي ودمعي مسفوح
فقال شهود ليس يقبل قولهم ... فدمعك مقذوف وقلبك مجروح وقال أيضاً:
عشقت بدراً مليحاً ... عليه في الحسن هاله
مثل الغزال ولكن ... تغار منه الغزاله
فقلت أنت حبيبي ... ومالكي لا محاله
جسمي يذوب وجفني ... دموعه هطاله
بعثت من نار وجدي ... مني إليه رساله
ولي عليك شهود ... معروفة بالعداله وقال أيضاً:
إذا رفع العود تكبيره ... ونادى على الراح داعي الفرح
رأيت سجودي لها دائماً ... ولكن عقيب ركوع القدح وقال أيضاً:
__________
(1) الوافي: تقدمة المعرفة.(3/393)
كلفت بالمعسول من ريقه ... وهمت بالعسال من قده
بدر إذا أبصرته مقبلاً ... أبصرت بدر التم في سعده
يجرح قلبي لحظه مثلما ... يجرحه لحظي في خده
قلت لعذالي على حبه ... والقلب موقوف على وجده
من يده في الما إلى زنده ... يعرف حر الماء من برده وقال أيضاً:
ولقد سألت وصاله فأجابني ... عنه الجمال إشارة عن قائل
في نون حاجبه وعين جفونه ... مع ميم مبسمه جواب السائل 465 (1)
بدر الدين ابن الفويرة
محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن حفاظ، بدر الدين السلمي الحنفي الدمشقي، ابن الفويرة؛ تفقه على الصدر سليمان، وبرع في المذهب ودرس وأفتى، وأخذ العربية عن الشيخ جمال الدين ابن مالك ونظر في الأصول، وقال الشعر الفائق، وكان ذا مروءة ودين ومعروف، وهو والد القاضي جمال الدين ابن الفويرة.
ومن شعره:
وشاعر يسحرني طرفه ... ورقة الألفاظ من شعره
__________
(1) الوافي 3: 235 والجواهر المضية 2: 82 والزركشي: 285 والشذرات 5: 347 وعبر الذهبي 5: 306 والنجوم الزاهرة 7: 253 وضبط الفويرة بكسر الراء المهملة، وكانت وفاة ابن الفويرة سنة 675 في جمادى الأولى منها.(3/394)
أنشدني نظماً بديعاً له ... أحبب بذاك النظم من ثغره وقال أيضاً:
عاينت حبة خاله ... في روضة من جلنار
فغدا فؤادي طائراً ... فاصطاده شرك العذار وقال:
كانت دموعي حمراً قبل بينهم ... فمذ نأوا قصرتها لوعة الحرق
قطفت باللحظ ورداً من خدودهم ... فاستقطر البين (1) ماء الورد من حدقي وقال أيضاً:
ورياض كلما انعطفت ... نثرت أوراقها ذهبا
تحسب الأغصان حين شدا ... فوقها القمري منتحبا
ذكرت عصر الشباب وقد ... لبست أبراده القشبا
فانثنت في الدوح راقصة ... ورمت أثوابها طربا (2) وقال أيضاً:
والروض مثل العروس قد خطرت ... أعطافه في ملابس قشب
وريقه الطل قد طفت درراً ... على كؤوس الشقيق كالحبب
في أعين النور كالدموع وفي ... مباسم الأقحوان كالشنب وقال أيضاً:
ألا رب غصن أثمر البدر طالعاً ... وأورق ليلاً من عذاريه أليلا
محياه روض نرجس اللحظ زهره ... وقد سال فيه عارض الخد جدولا
__________
(1) الوافي: البعد.
(2) إلى هنا تنتهي الترجمة في الوافي.(3/395)
وقال أيضاً:
ألمت بنا والليل زهر نجومه ... كأحداق زهر فتحتها الحدائق
وأبدت محياها لنا وتبسمت ... وهل مع شروق الشمس يلمع بارق وقال أيضاً:
تأمل إلى الروض الأنيق وحسنه ... وبهجة ذاك النور بين الحدائق
وقد نثرت أيدي السماء لآلئاً ... نظمن حباباً في كؤوس الشقائق وقال يمدح الملك الناصر يوسف بن عبد العزيز:
أذاع لسان الدمع يوم النوى سري ... وحلت أكلف البين في عرى صبري
وطلت على الأطلال (1) أسياف نأيهم ... دمي واغتدى قلبي أسيراً مع السفر
وعطل نادي الأنس من حلي حسنهم ... فحليته من أدمع العين (2) بالدر
رعى الله ليلات تقضت بوصلهم ... فقد كن كالخيلان في وجنة الدهر
وحيا رياضاً بالحمى كنت منهم ... أنال المنى في ظل أغصانه الخضر
وأركض طرف اللهو في حلبة الهوى ... فأعثر في ذيل المسرة بالسكر
ولله ليل زارني في ظلامه ... غزال رشيق القد كالغصن النضر
شربت مياه الحسن من روض وجهه ... براحة طرفي والدجى مسبل الستر
وبتنا وثوب الوصل ينشر بيننا ... إلى أن طوت برد الظلام يد الفجر
فقام كبدر التم في غسق الدجى ... يدير شموس الراح في الأنجم الزهر
وطاف علينا بالكؤوس ضحى وقد ... تمايل عطف الروض في الحلل الخضر
تعانق قد الغصن أيديه تارة ... ويلثم طوراً ثغره وجنة النهر
وألقت عليه الشمس ثوب شعاعها ... لتمسح دمع الطل من أعين الزهر
وفاح نسيم يعبث في الربى ... بديباج روض حاكه واكف القطر
__________
(1) المطبوعة: اطلاق، والتصويب عن الزركشي.
(2) المطبوعة: أعين الدمع، وصوبته عن الزركشي.(3/396)
وينساب منها الماء بين شقائق ... بدت كالغواني في غلائلها الحمر
كما لمعت أسياف يوسف في الوغى ... مخضبة أطرافها من دم الكفر ومنها في المديح أيضاً:
يشيد بنيان المعالي لمجده ... ويرفل في ثوب المكارم والفخر
هو البحر يسطو في غدير مفاضة ... بجدوله الماضي على الجحفل المجر
ويغرس في لباتهم سوسن القنا ... فينبت ورد الطعن من ساحة الصدر
ولو لم تكن يمناه غيثاً لما بدا ... بها لامعاً برق المهندة البتر
ولا أورقت بالنضر في موقف الوغى ... وقد جال أغصان المثقفة السمر
ويا عجباً من كفه كيف أضرمت ... شرار حروب وهي أندى من البحر
ورقصت في ليل المداد عقيلة ... تناغي بألفاظ أرق من الخمر
وقد قلدت من بحر علياك جيدها ... بنظم لآل هذبته يد الفكر
تغالي ملوك الأرض في مهر مثلها ... وها هي قد جاءت إليك بلا مهر 466 (1)
شهاب الدين الباجربقي
محمد بن عبد الرحيم بن عمر الباجربقي (2) الجزري، الشيخ الزاهد ابن المفتي الكبير جمال الدين؛ تحول جمال الدين بولديه بعد الثمانين
__________
(1) الوافي 3: 249 والدرر الكامنة 4: 130 والشذرات 6: 64 وذيل العبر: 134 ودول الاسلام 2: 177 والنجوم الزاهرة 9: 258 والبداية والنهاية 14: 15.
(2) المطبوعة: عبد الرحمن بن عمر الباجريقي، وهو خطأ. والباجربقي: نسبة إلى باجريق، قرية من قرى بين النهرين (ياقوت) .(3/397)
وستمائة إلى دمشق، فسمعهما من ابن البخاري، وجلس للإفادة والإفتاء ودرس ومات وقد شاخ بعد الستمائة، فتزهد ولده محمد المذكور وحصل له حال وكشف، فانقطع فصحبه جماعة من الرذالة، وهون لهم أمر الشرائع وأراهم بوارق شيطانية، وكان له قوة تأثير، فقصده جماعة من الفضلاء قلدوا الشيخ صدر (1) الدين ابن الوكيل في تعظيمه، وكان ممن قصده الشيخ مجد الدين التونسي النحوي، فسلكه على عادته، فجاء إليه في اليوم الذي قال له تعود إلي فيه فقال له: ما رأيت؟ قال: وصلت في سلوكي إلى السماء الرابعة، فقال: هذا مقام موسى بن عمران بلغته في أربعة أيام، فرجع الشيخ مجد الدين إلى نفسه وتوجه إلى القاضي وحكى له ما جرى، وتاب إلى الله تعالى وجدد إسلامه، فطلب الباجربقي وحكم بإراقة دمه فاختفى، وتوجه إلى مصر وانقطع بالجامع الأزهر وتردد إليه جماعة، وكان الشيخ صدر الدين يتردد إليه " وهو بدمشق " ويجلس بين يديه ويحصل له بهت في وجهه، ويضع يده تحت ذقنه ويخلل ذقنه بأصابعه وينشد:
عجب من عجائب البر والبح ... ر وشكل فرد ونوع غريب وشهد عليه مجد الدين التونسي وخطيب الزنجيلية والشيخ أبو بكر ابن شرف (2) بما أبيح به دمه، وحكي عنه التهاون بالصلاة وذكر النبي صلى الله عليه وسلم باسمه من غير تعظيم ولا صلاة عليه، حتى يقول: ومن محمد هذا؟ فحكم القاضي جمال الدين الزواوي المالكي بإراقة دمه، فاختفى وسافر إلى العراق، وسعى أخوه بحماية بيبرس العلائي إلى الحنبلي، فشهد نحو العشرين بأن الستة الذين شهدوا عليه بينهم وبينه عداوة، فحقن الحنبلي دمه، فغضب المالكي وجدد الحكم بقتله، وجاء بعد مدة ونزل بالقابون على باب دمشق، ولم
__________
(1) الوافي: نصر الدين.
(2) الوافي: مشرف.(3/398)
يزل مختفياً إلى أن مات، وله ستون سنة، سنة أربع وعشرين وسبعمائة.
وكان يقول: إن لرسل طولت على الأمم الطريق (1) إلى الله تعالى.
467 - (2)
شمس الدين الرسعني
محمد بن عبد الرزاق بن رزق الله الرسعني (3) ، العدل شمس الدين المحدث الحنبلي نزل دمشق؛ كان شيخاً أبيض مليح الشكل، ولد سنة عشر (4) وستمائة، وسمع من ابن روزبه وابن بهروز وابن القبيطي وكريمة وجماعة، وأم بالمسجد الكبير بالرماحين، وسافر إلى مصر في شهادة، ولما عاد دخل الشريعة يسقي فرسه فغرق ولم يظهر له خبر، وذلك سنة تسع وثمانين وستمائة.
كتب إليه بهاء الدين " ابن " الأرزني (5) :
أحن إلى تلك السجايا وإن نأت ... حنين أخي ذكرى حبيب ومنزل
وأهدي إليها من سلامي مشاكلاً ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل فأجابه شمس الدين المذكور:
على فترةٍ جاء الكتاب معطراً ... بمسكٍ سحيقٍ لا بريا القرنفل
__________
(1) الوافي: الطرق.
(2) الوافي 3: 251 والزركشي: 286 والبدر السافر: 112 والشذرات 5: 410 وعبر الذهبي 5: 364 وذيل ابن رجب 2: 324.
(3) في المطبوعة: الرسعيني، وكذلك هو في الوزركشي، والمشهور ما أثبته، ولعل ((الرسعيني)) نسبة شائعة.
(4) الوافي: في بضع عشرة.
(5) المطبوعة: الأزدي، والتصويب عن الوافي.(3/399)
فأذكرني ليلات وصل تصرمت ... بدار حبيب لا بدارة جلجل
شكوت إلى صبري اشتياقاً فقال لي ... ترفق ولا تهلك أسى وتجمل
فقلت له إني عليك معول ... وهل عند رسم دارس من معول ومن شعره أيضاً:
ولو أن إنسان يبلغ لوعتي ... ووجدي وأشجاني إلى ذلك الرشا
لأسكنته عيني ولم أرضها له ... ولولا لهيب القلب أسكنته الحشا وقال أيضاً:
أأحبابنا إن جادت المزن أرضكم ... فما هي إلا من دموعي تمطر (1)
وإن لاح برق فهو برق أضالعي ... وإن ناح ورقعن أنيني (2) يخبر
وإن نسمت ريح الصبا وتأرجت ... فمن طيب أنفاسي بكم تتعطر
وإن رنحت أغصان دجلة فانثنت ... فعني بإبلاغ النسيم تخبر (3)
ومن عجب أني أكتم لوعة ... وأودعها طي الصبا وهي تنشر 468 (4)
أمير المؤمنين المهدي
محمد بن عبد الله، أمير المؤمنين المهدي ابن المنصور، ثالث خلفاء
__________
(1) البدر السافر: تقطر.
(2) البدر: حنيني.
(3) البدر: تبشر.
(4) الوافي 3: 300 والزركشي: 287 والشذرات 1: 266 والروحي: 47 والفخري: 161 وتاريخ الخلفاء: 296 وخلاصة الذهب المسبوك: 90 ودول الإسلام 1: 86 والبدء والتاريخ 6: 95 وتاريخ بغداد 5: 391 وابن الساعي: 23 وانظر المصادر التاريخية الكبرى (كالطبري واليعقوبي والمسعودي وابن الأثير وابن خلدون ... الخ) .(3/400)
بني العباس؛ مولده سنة سبع وعشرين ومائة؛ كان جواداً ممدحاً، مليح الشكل محبباً إلى الرعية، قصاباً (1) للزنادقة، وكان ملكه عشر سنين وشهراً ونصفاً، مات في سنة تسع وستين ومائة، وعاش ثلاثاً وأربعين سنة، وصلى عليه ولده هارون الرشيد. ومن شعره:
أرى ماء وبي عطش شديد ... ولكن لا سبيل إلى الورود
أما يكفيك أنك تملكني ... وأن الناس كلهم عبيدي
وأنك لو قطعت يدي ورجلي ... لقلت من الرضى أحسنت زيدي وكتب إلى جاريته الخيزران وهو في منتزه له:
نحن في أفضل السرور ولكن ... ليس إلا بكم يتم السرور
عيب ما نحن فيه يا أهل ودي ... أنكم غبتم ونحن حضور
فأغذوا المسير بل إن قدرتم ... أن تطيروا مع النسيم فطيروا دخل ابن الخياط المكي عليه فقبل يده ومدحه، فأمر له بخمسين ألف درهم، فلما قبضها فرقها على الناس وقال:
لمست بكفي كفه أبتغي الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفه يعدي
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى ... أفدت وأعداني فضيعت ما عندي وبلغ المهدي ذلك فأعطاه بكل درهم ديناراً.
وجلس المهدي جلوساً عاماً فدخل عليه رجل وبيده منديل فيه نعل، فقال: يا أمير المؤمنين، هذه نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهديتها لك، فأخذها منه وقبلها ووضعها على عينيه وأعطاه عشرة آلاف درهم، فلما خرج قال لجلسائه: ما ترون؟ إني أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرها فضلاً عن أن يكون قد لبسها، ولو كذبناه لقال للناس:
__________
(1) المطبوعة: قصاصاً، وأثبت ما في الوافي والزركشي.(3/401)
أتيت أمير المؤمنين بنعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فردها علي، وكان من يصدقه أكثر ممن يكذبه، إذ كان من شأن العامة الميل إلى أشكالها، والنصرة للضعيف على القوي وإن كان ظالماً، فاشترينا لسانه وقبلنا هديته وصدقنا قوله، وكان الذي فعلناه أرجح وأنجح.
469 - (1)
أبو الشيص الشاعر
محمد بن عبد الله بن رزين، الشاعر المشهور الملقب بأبي الشيص، وهو ابن عم دعبل الخزاعي؛ توفي سنة ست وتسعين ومائة، وقد كف بصره.
قال أبو الشيص وهو مشهور عنه (2) :
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة ... حباً لذكرك فليلمني اللوم
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ كان حظي منك حظي منهم
وأهنتني فأهنت روحي عامداً ... ما من يهون عليك ممن يكرم فأخذ بعض المغاربة هذا المعنى فقال:
هددت بالسلطان فيك وإنما ... أخشى صدودك لا من السلطان
أجد اللذاذة في الملام فلو درى ... أخذ الرشا مني الذي يلحاني
__________
(1) الوافي 3: 302 والزركشي: 287 والأغاني 16: 319 والشعر والشعراء: 721 وتاريخ بغداد 5: 401 والسمط: 506 وطبقات ابن المعتز: 72 ونكت الهميان: 257 وجمع شعره الاستاذ عبد الله الجبوري (بغداد 1967) .
(2) الديوان: 92.(3/402)
ولأبي الشيص (1) :
لا تنكري صدي ولا إعراضي ... ليس المقل عن الزمان براض
شيئان لا تصبو النساء إليهما ... حلي المشيب وحلة الإنفاض
حسر المشيب قناعه عن رأسه ... فرمينه بالصد والإعراض
ولربما جعلت محاسن وجهه ... لجفونها غرضاً من الأغراض 470 (2)
محمد ابن طاهر
محمد بن عبد الله بن طاهر بن لحسين الخزاعي الخراساني، الأمير أبو العباس؛ كان جواداً ممدحاً أديباً شاعراً، مألفاً لأهل الفضل والأدب " من بيت الأدب " (3) والإمرة والتقدم، ولاه المتوكل على بغداد، وعظم سلطانه في دولة المعتز إلى أن مات بالخوانيق سنة ثلاث وخمسين ومائتين، ومن شعره ما كتبه إلى جارية له:
ماذا تقولين في من شفه سقم ... من جهد حبك حتى صار حيرانا فأجابته:
إذا رأينا محباً قد أضر به ... جهد الصبابة أوليناه إحسانا وقال في حسن العشرة:
__________
(1) الديوان: 72.
(2) الوافي: 3: 304 والزركشي: 287 وتاريخ بغداد 5: 418 ومعجم الشعراء: 383 والديارات: 81.
(3) زيادة من الوافي.(3/403)
أواصل من هويت على خلال ... أذود بهن ليات المقال
وأحفظ سره والغيب منه ... وأرعى عهده في كل حال
وفاء لا يحل به انتكاث ... وود لا تخونه الليالي
وأوثره على عسر ويسر ... وينفذ حكمه في سر مالي
وأغفر نبوة الإدلال منه ... إذا ما لم يكن غير الدلال
وما أنا بالملول ولا بجاف ... ولا الغدر المذمم من فعالي وقال في الأترنج:
جسم لجين قميصه ذهب ... ركبت فيه بديع تركيب
فيه لمن شمه وأبصره ... لون محب وريح محبوب 471 (1)
أبو عبد الله ابن الأبار
محمد بن عبد الله بن أبي بكر بن عبد الله بن عبد الرحمن، الحافظ العلامة أبو عبد لله القضاعي البلنسي، الكاتب الأديب المعروف بابن الأبار؛ ولد سنة خمس وتسعين وخمسمائة. عني بالحديث وجال في الأندلس وكتب العالي والنازل، وكان بصيراً بالرجال عالماً بالتاريخ إماماً في العربية، فقيهاً مفنناً (2) أخبارياً فصيحاً، له يد في البلاغة والإنشاء، كامل الرياسة، ذا رياسة
__________
(1) الوافي 3: 355 والزركشي: 287 والبدر السافر: 120 والذيل والتكملة 6: 253 واختصار القدح: 191 (وعنه النفح 3: 303 وانظر أيضاً 2: 589) ورحلة ابن رشيد وعنوان الدراية: 309 وأزهار الرياض 3: 204 والمغرب 2: 309 والشذرات 5: 275 وعبر الذهبي 5: 249 ولعبد العزيز عبد المجيد مؤلف عنه (تطوان 1951) .
(2) الوافي: مقرئاً.(3/404)
وافية وأبهة (1) وتجمل وافر.
وله من المصنفات " تكملة الصلة " لابن بشكوال. كتاب " تحفة القادم " وكتاب " إيماض البرق ".
قتل مظلوماً بتونس على يد صاحبها لأنه تخيل منه الخروج وشق العصا، وقيل إن بعض أعدائه ذكر عند صاحب تونس أنه ألف تاريخاً وأنه تكلم فيه جماعة، فلما طلب وأحس بالهلاك قال لغلامه: خذ البغلة وامض بها حيث شئت فهي لك، وكان ذلك في سنة ثمان وخمسين وستمائة.
ومن شعره:
مرقوم (2) الخد مورده ... يكسوني السقم مجرده
شفاف الدر له جسد ... بأبي ما أودع مجسده
في وجنته من نعمته ... جمر بفؤادي موقده
ريم يرمي عن أكحله ... زرقاً تصمي من يصمده
متداني الخطوة من ترف ... أترى الأحجال تقيده
ولاه الحسن وأمره ... وأتاه السحر يؤيده وقال أيضاً:
ونهر كما ذابت سبائك فضة ... حكى بمحانيه انعطاف الأراقم
إذا الشفق استولى عليه احمراره ... تراءى خضيباً (3) مثل دامي الصوارم وقال أيضاً (4) :
__________
(1) الوافي: ذا جلالة وأبهة.
(2) المطبوعة: منظوم.
(3) المطبوعة: قضيباً، والتصويب عن الوافي: تبدي خضيباً.
(4) ليست هذه القصيدة لأبي عبد الله بن الأبار وإنما هي لأبي جعفر أحمد بن محمد الخولاني ويعرف أيضاً بابن الأبار، وقد نسبها لهذا الثاني ابن بسام في الذخيرة وابن خلكان في الوفيات 1: 141 وفي ترجمة ابن الأبار هذا انظر الذخيرة 2: 52 والمغرب 1: 253 والجذوة: 107 وبغية الملتمس رقم: 364 ومسالك الأبصار 11: 18 وقد أخطأ الزركشي أيضاً في نسبتها لابن الأبار المؤرخ؛ أما الصفدي فلم يقع في هذا الوهم.(3/405)
لم تدر ما خلدت عيناك في خلدي ... من الغرام ولا ما كابدت كبدي
أفديك من رائد رام الدنو فلم ... يسطعه من فرق في القلب متقد
خان العيون فوافاني على عجل ... معطلاً جيده إلا من الجيد
عاطيته الكأس فاستحيت مدامتها ... من ذلك الشنب المعسول والبرد
حتى إذا غازلت أجفانه سنة ... وصيرته يد الشهباء طوع يدي
أردت توسيده خدي وقلت له ... فقال كفك عندي أفضل الوسد
فبات في حرم لا غدر يذعره ... وبت ظمآن لم أصدر ولم أرد
بدر ألم وبدر الأفق ممتحق ... والجو محلولك الأرجاء من حسد
تحير الليل فيه أين مطلعه ... أما درى الليل أن البدر طوع يدي وقال أيضاً (1) :
زارني خيفة الرقيب مريبا ... يتشكى القضيب منه الكثيبا
رشأ راش لي سهام المنايا ... من جفون تصمي بهن القلوبا
قال لي: ما ترى الرقيب مطلاً ... قلت ذره أتى (2) المكان الرحيبا
واسقنيها بخمر (3) عينيك صرفاً ... واجعل الكأس منك ثغراً شنيبا
عاطني أكؤس الرضاب دراكاً ... وأدرها علي كوباً فكوبا
ثم لما أن نام من بعد نعسٍ (4) ... وتلقى الكرى سميعاً مجيبا
قال لابد أن تدب إليه ... قلت أبغي رشاً وآخذ ذيبا
__________
(1) هذه القصيدة أيضاً ثابتة النسب لابن الأبار الخولاني (انظر الحاشية السابقة) وقد وردت في ترجمته في الذخيرة والنفح 3: 477.
(2) المطبوعة: أين، والتصويب عن النفح.
(3) النفح: من خمر.
(4) النفح: من نتقيه.(3/406)
قال فابدأ بنا وثن عليه ... قلت عمري لقد وقعت (1) قريبا
فوثبنا على الغزال وثوباً ... ودببنا إلى الرقيب دبيبا
فهل أبصرت أو سمعت بصب ... ناك محبوبه وناك الرقيبا 472 (2)
الشيخ جمال الدين ابن مالك
محمد بن عبد الله " بن عبد الله " بن مالك، الإمام العلامة الأوحد جمال الدين الطائي الجياني الشافعي النحوي نزيل دمشق؛ ولد سنة ستمائة (3) وسمع بدمشق وتصدر بحلب لإقراء العربية، وصرف همته إلى إتقان لسان العرب حتى بلغ فيه الغاية وأربى على المتقدمين، وكان إماماً في القراءات وعللها، صنف فيه قصيدة دالية مرموزة في قدر الشاطبية، وأما اللغة فكان إليه المنتهى فيها، وكان إماماً في العادلية فكان إذا صلى فيها يشيعه قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان إلى بيته تعظيماً له، وأما النحو والتصريف فكان فيهما بحراً لا يشق لجه (4) ، وأما اطلاعه على أشعار العرب التي يستشهد بها على النحو فكان أمراً عجيباً، وكان الأئمة الأعلام يتحيرون في أمره، وأما الاطلاع على الحديث فكان فيه غاية (5) ، وكان أكثر ما يستشهد بالقرآن، فإن كان ما فيه
__________
(1) المطبوعة: كلا لقد رفعت؛ النفح: لقد أتيت.
(2) الوافي 3: 359 والزركشي: 288 ونفح الطيب 2: 222 وغاية النهاية 2: 180 وبغية الوعاة: 53 والبلغة: 299 والسلوك 1: 613 ومرآة الجنان 4: 172.
(3) الوافي: سنة إحدى " وستمائة ".
(4) المطبوعة: لججه.
(5) الوافي: آية.(3/407)
شاهد عدل إلى الحديث فإن لم يكن " فيه " شيء عدل إلى أشعار العرب، هذا مع ما هو عليه من الدين والعبادة وكثرة النوافل وحسن السمت وكمال العقل، وانفرد عن المغاربة بشيئين: الكرم والمذهب الشافعي، وأقام بدمشق مدة يصنف ويشغل (1) بالجامع وبالتربة العادلية، وتخرج به جماعة، وكان نظم الشعر عليه سهلاً، وصنف كتاب " تسهيل الفوائد ". مدحه سعد الدين ابن عربي بأبيات مليحة إلى الغاية وهي هذه:
إن الإمام جمال الدين جمله ... رب العلا ولنشر العلم أهله
أملى كتاباً له يسمى الفوائد لم ... يزل مفيداً لذ لب تأمله
فكل مسألة في النحو يجمعها ... إن الفوائد جمع لا نظير له ومن تصانيفه " سبك المنظوم وفك المختوم " وكتاب " الكافية الشافية " ثلاثة آلاف بيت، وشرحها و " الخلاصة " و " هي " " مختصر الشافية " و " إكمال الإعلام بمثلث الكلام " و " فعل وأفعل " و " المقدمة الأسدية " وصنفها باسم ولده الأسد، و " عدة اللافظ وعمدة الحافظ " و " النظم الأوجز فيما يهمز " و " الاعتضاد في الظاء والضاد " و " إعراب مشكل البخاري ".
وكانت وفاته سنة اثنتين وسبعين وستمائة.
قال شرف الدين الحصني يرثيه بأبيات، رحمه الله تعالى:
يا شتات الأسماء والأفعال ... بعد موت ابن مالك المفضال
وانحراف الحروف من بعد ضبط ... منه في الانفصال والاتصال
مصدراً كان للعلوم بإذن الل ... هـ من غير شبهة ومحال
عدم النعت والتعطف والتو ... كيد مستبدلاً من الإبدال
ألم اعتراه أسكن منه أسكن منه ... حركات كانت بغير اعتلال
يا لها سكنة لهمز قضاء ... أورثت طول مدة الانفصال
__________
(1) المطبوعة: ويشتغل.(3/408)
رفعوه في نعشه فانتصبا ... نصب تمييز كيف سير الجبال
صرفوه يا عظم ما فعلوه ... وهو عدل معرف بالجمال
أدغموه في الترب من غير مثل ... سالماً من تغير الانتقال
وقفوا عند قبره ساعة الدف ... ن وقوفاً ضرورة الامتثال
ومددنا الأكف نطلب قصراً ... مسكناً للنزيل من ذي الجلال
آخر الآي من سبا حظنا من ... هـ حظه جاء أول الأنفال
يا لسان الأعراب يا جامع الإ ... عراب يا مفهماً لكل مقال
يا فريد الزمان في النظم والنث ... ر وفي نقل مسندات العوالي
كم علوماً بثثتها في أناس ... علموا ما بثثت عند الزوال 473 (1)
حافي رأسه النحوي
محمد بن عبد الله بن عبد العزيز بن عمر، العلامة جمال الدين التلمساني؛ محيي الدين النحوي (2) المعروف بحافي رأسه.
كان من أئمة العربية، وكان يحفظ " الإيضاح " للفارسي، ويقرئ بداره.
ولد بتلمسان سنة ست وستمائة وسمع من ابن رواج (3) وجماعة، وتصدر للاشتغال زماناً، أخذ عنه تاج الدين الفاكهاني وجماعة.
__________
(1) الوافي 3: 364 والزركشي: 289 والبدر السافر: 117 (وقال فيه: الزناتي المازوني) وبغية الوعاة: 57 والبلغة: 230 (وفي نسبته: الزناتي الكملاني) ؛ وذكر صاحب البدر السافر أنه توفي سنة 691.
(2) المطبوعة: النووي، وهو خطأ واضح.
(3) المطبوعة: رواحة.(3/409)
ولقب بحافي رأسه لحفرة كانت في رأسه (1) ، وقيل لأنه كان في أول أمره مكشوف الرأس، وقيل رآه رئيس في الثغر فأعطاه ثياباً جدداً لبدنه فقال: هذا لبدني ورأسي حافي!؟ فأمر له بعمامة، فلقب بحافي رأسه.
ومن شعره:
ومعتقد أن الرياسة في الكبر ... فأصب ممقوتاً بها وهو لا يدري
يجر ذيول الكبر طالب رفعة ... ألا فاعجبوا من طالب الرفع بالجر وقال أيضاً:
يا منكراً من بخل الثغر ما ... عرف الورى أنكرت ما لا ينكر
أقصر فقد صحت نتانة أهله ... ومن الثغور كما علمت الأبخر وقال أيضاً:
ومعلمي الصبر الجميل بهجره ... فثنى فؤاداً عنه لم يك ينثني
لا بد من أجر لكل معلم ... وإلى السلو ثواب ما علمتني وكتب إلى الأمير نور الدين علي بن مسعود الصوابي:
شكوت إليك نور الدين حالي ... وحسبي أن أرى وجه الصواب " ي "
وكتبي بعتها ورهنت حتى ... بقيت من المجوس بلا كتاب وتوفي سنة ثمانين وستمائة، رحمه الله تعالى وعفا عنا وعنه.
__________
(1) زاد الصفدي أيضاً: وقيل كان في رأسه شيء يشبه ح.(3/410)
474 - (1)
ابن حواري الحنفي
محمد بن عبد المنعم بن نصر الله بن جعفر بن أحمد بن حواري، الشيخ تاج الدين أبو المكارم التنوخي المعري الأصل الدمشقي الحنفي، ويعرف بابن شقير، الأديب الشاعر؛ ولد سنة ست وستمائة، وهو أخو المحدث الأديب نصر الله، وكانت وفاة تاج الدين سنة تسع وستين وستمائة.
ومن شعره:
ما ضر قاضي الهوى العذري حين ولي ... لو كان في حكمه يقضي علي ولي
وما عليه وقد صرنا رعيته ... لو أنه مغمد عنا ظبا المقل
يا حاكم الحب لا تحكم بسفك دمي ... إلا بفتوى فتور الأعين النجل
ويا غريم الأسى الخصم الألد هوى ... رفقاً علي فجسمي في هواك بلي
أخذت قلبي رهناً يوم كاظمة ... على بقايا دعاو للهوى قبلي
ورمت مني كفيلاً بالأسى عبثاً ... وأنت تعلم أني بالغرام ملي
وقد قضى حاكم التبريج مجتهداً ... علي بالوجد حتى ينقضي أجلي
لذا قذفت شهود الدمع فيك عسى ... أن الوصال بجرح الجفن يثبت لي
لا تسطون بعسال القوام على ... ضعفي فما آفتي إلا من الأسل
هددتني بالقلى حسبي الجفا وكفى ... " أنا الغريق فما خوفي من البلل " وقال أيضاً:
أما الوفاء فشيء ليس يتفق ... من بعد ما خنت يا قلبي بمن أثق
أغراك طرفي بما أغراك من فتن ... حتى سبتك القدود الهيف والحدق
__________
(1) الوافي 4: 47 والزركشي: 290 والجواهر المضية 2: 85 والنجوم الزاهرة 7: 233.(3/411)
وقد تشاركتما في فتح باب الهوى ... سدت على سلوتي من دونه الطرق
سعيتما في دمي بغياً فيا لكما ... لفرط بغيكما التبريح والأرق
حتام لا ترعوي يا قلب ذب كمداً ... فحسبك المزعجان الشوق والقلق (1)
تبيت (2) صباً كئيباً نهب جند هوى ... لا قاتلي بك طول الدهر معتلقي
طوراً بنجد وأحياناً بكاظمة ... وتارة لك يبدو بالحمى علق
وكل يوم تعنيني إلى أمل ... من دونه المرهفات البيض تمتشق
أبكي لكي تنطفي من أدمعي حرقي ... وكلما فاض دمعي زادت الحرق
وكنت أشكو ولي صبر ولي رمق ... فكيف حالي ولا صبر ولا رمق وقال أيضاً:
وغزال سبا فؤادي منه ... ناظر راشق وقد رشيق
ريقه رائق السلافة والثغ ... ر حباب وخده الراووق
حل صدغيه ثم قال أفرق ... بين هذين؟ قلت فرق دقيق وقال أيضاً:
واحيرة القمرين منه إذا بدا ... وإذا انثنى يا خجلة الأغصان
كتب الجمال ويا له من كاتب ... سطرين من خديه بالريحان " ي " وكان تاج الدين يلقب بالهدهد، فأعطاه الملك الناصر ضيعة على نهر ثورا (3) ، فحسده جماعة وسعوا على إخراجها من يده، فكتب إلى الملك الناصر:
ما قدر داري في البناء فسعيهم ... في هدمها قد زاد في مقدارها
__________
(1) المطبوعة: والأرق.
(2) المطبوعة: لقيت.
(3) المطبوعة: نورا؛ وهو خطأ.(3/412)
هب أنها إيوان كسرى رفعة ... أو ما بجودك كان أصل قرارها
فاكتب بأني لا أعارض كاتب ... عصب يضن علي في إنكارها (1)
فالنص جاء عن النبي محمد ال ... هادي: " أقروا الطير في أوكارها " وقال أيضاً ذوبيت:
أقسمت برشق المقلة النباله ... قلبي وبلين القامة العساله
ما ألبسني حلة وضنى ... يا هذه سوى جفونك القتاله 475 (2)
شهاب الدين ابن الخيمي
محمد بن عبد المنعم بن محمد، شهاب الدين " ابن " الخيمي الأنصاري، اليمني الأصل، المصري الدار؛ حدث بجامع الترمذي عن ابن البناء المكي، وحدث بكثير من مروياته، روى عن الصقلي (3) وابن منير وابن الظاهري، وكان هو المقدم على شعراء عصره مع المشاركة في كثير من العلوم، وشعره في الذروة، وكان يعاني الخدم الديوانية، وباشر وقف مدرسة الشافعي ومشهد الحسين، وفيه أمانة ومعرفة، وكان معروفاً بالأجوبة المسكتة، ولم يعرف عنه غضب، عاش اثنتين وثمانين سنة، وكانت وفاته بالقاهرة سنة خمس وثمانين وستمائة.
__________
(1) في المطبوعة: فاكتب فإني لا أعارض، فكتب:
(2) الوافي 4: 50 والزركشي: 291 والبدر السافر: 129 والشذرات 5: 393 وعبر الذهبي 5: 354 والنجوم الزاهرة 7: 339 وابن الفرات 8: 42 وحسن المحاضرة 1: 569 وانظر ابن خلكان 2: 106.
(3) في الوافي: الدمياطي.(3/413)
اتفق أن نجم الدين ابن إسرائيل حج، فرأى ورقة ملقاة فيها القصيدة التي لابن الخيمي البائية المشهورة فادعاها. قال قطب الدين اليونيني في تاريخه: إن ابن إسرائيل وابن الخيمي اجتمعا بعد ذلك بحضرة جماعة من الأدباء، وجرى الحديث، فتحاكما إلى شرف الدين ابن الفارض فقال: ينبغي لكل واحد منكما أن ينظم أبياتاً على هذا الوزن والروي، فنظم ابن الخيمي:
لله قوم بجرعاء الحمى غيب ... القصيدة ... ونظم ابن إسرائيل:
لم يقض من حقكم بعض الذي يجب ... القصيدة ... فلما وقف عليهما ابن الفارض قال لابن إسرائيل:
لقد حكيت ولكن فاتك الشنب ... وحكم بالقصيدة لابن الخيمي، واستجاد بعض الحاضرين أبيات ابن إسرائيل وقال: من ينظم مثل هذا ما الحامل له على (1) ادعاء ما ليس له؟ فابتدر ابن الخيمي وقال: هذه سرقة عادة لا سرقة حاجة، وانفصل المجلس وسافر ابن إسرائيل لوقته من الديار المصرية، وطلب ابن خلكان وهو نائب الحكم بالقاهرة الأبيات من ابن الخيمي، فكتبها له وذيل في آخرها أبياتاً، وسأله الحكم بينه وبين من ادعاها:
والقصيدة المدعاة هي هذه:
يا مطلباً ليس لي في غيره أرب ... إليك التقصي وانتهى الطلب
" وما طمحت لمرأى أو لمستمع ... إلا المعنى إلى علياك ينتسب "
وما أراني أهلاً أن توصلني ... حسبي علواً بأني فيك مكتئب
لكن ينازع شوقي تارة أدبي ... فأطلب الوصل لما يضعف الأدب
__________
(1) المطبوعة: الحاجة ... إلى.(3/414)
ولست أبرح في الحالين ذا قلق ... نام وشوق له في أضلعي لهب
ومدمع كلما كفكفت صيبه (1) ... صوناً لذكراك يعصيني وينسكب
ويدعي في الهوى دمعي مقاسمتي ... وجدي وحزني ويجري وهو مختضب
كالطرف يزعم توحيد الحبيب ولا ... يزال في ليلة للنجم يرتقب
يا صاحبي قد عدمت المسعدين فسا ... عدني على وصبي لا مسك الوصب
بالله إن جزت كثباناً بذي سلم ... قف بي عليها وقل لي هذه الكثب
ليقضي الخد من أجراعها وطراً ... في تربها ويؤدي بعض ما يجب
ومل إلى البان من شرقي كاظمة ... فلي إلى البان من شرقيها أرب (2)
وخذ يميناً لمغنى تهتدي بشذا ... نسيمه الرطب إن ضلت بك النجب
حيث الهضاب (3) وبطحاها يروضها ... دمع المحبين لا الأنداء والسحب
أكرم به منزلاً تحميه هيبته ... عني وأنواره لا السمر والقضب
دعني أعلل نفساً عز مطلبها ... فيه وقلباً لغدر ليس ينقلب
ففيه عانيت قدماً حسن من حسنت ... به الملاحة واعتزت به الرتب
أحيا إذا مت من شوق لرؤيته ... بأنني لهواه فيه منتسب
ولست أعجب من جسمي وصحته ... في حبه إنما سقمي هو العجب
والهف نفسي لو أجدي تلهفها ... غوثاً وواحربا لو ينفع الحرب
يمضي الزمان وأشواقي مضاعفة ... يا للرجال ولا وصل ولا سبب
يا بارقاً بأعالي الرقمتين بدا ... لقد حكيت ولكن فاتك الشنب
ويا نسيماً سرى من حي كاظمة ... بالله قل لي كيف البان والعذب
وكيف جيرة ذاك الحي (4) هل حفظوا ... عهداً أراعيه إن شطوا إن قربوا
__________
(1) الوافي: أدمعه.
(2) الوافي: طرب.
(3) المطبوعة: الرضاب.
(4) الوافي: الجو.(3/415)
أم ضيعوا ومرادي منك ذكرهم ... هم الأحبة إن أعطوا وإن سلبوا
إن كان يرضيهم إبعاد عبدهم ... فالعبد منهم بذاك البعد مقترب
والهجر إن كان يرضيهم بلا سبب ... فإنه من لذيذ الوصل محتسب
وإن هم احتجبوا عني فإن لهم ... في القلب مشهود وحسن ليس يحتجب
قد نزه اللطف والإشراق بهجته ... عن أن تمنعها الأستار والحجب
ما ينتهي نظري منهم إلى رتب ... في الحسن إلا ولاحت فوقها رتب
وكلما لاح معنى من جمالهم ... لباه شوق إلى معناه منتسب
أظل دهري ولي من حبهم طرب ... ومن أليم اشتياقي نحوهم حرب وكان الذي نظمه ابن إسرائيل:
لم يقض في حبكم بعض الذي يجب ... صب متى ما جرت ذكراكم يجب
أحبابنا والمنى تدني زيارتكم ... وربما حال من دون المنى الأدب
قاطعتمون فأحزاني مواصلة ... وحلتم فحلا لي فيكم التعب
ما رابكم من حياتي بعد بعدكم ... وليس لي في حياة بعدكم أرب
رحتم بقلبي وما كادت لتسلبه ... لولا قدودكم الخطية السلب
يا بارقاً ببريق الحزن لاح لنا ... أأنت أم أسلمت أقمارها النقب
ويا نسيماً سرى والعطر يصحبه ... أجزت حيث مشين الخرد العرب
أقسمت بالمقسمات الزهر تحجبها ... سمر العوالي والهندية القضب
لكدت تشبه برقاً من ثغورهم ... يا در دمعي لولا الظلم والشنب والقصيدة التي نظمها ابن الخيمي ثانياً مع ابن إسرائيل:
لله قوم بجرعاء الحمى غيب ... جنوا علي ولما أن جنوا عتبوا
يا رب هم أخذوا قلبي فلم سخطوا ... وإنهم غصبوا عيشي فلم غضبوا
هم العريب بنجد مذ عرفتهم ... لم يبق لي معهم مال ولا نشب
شاكون للحرب لكن من قدودهم ... وفاترات اللحاظ السمر والقضب(3/416)
فما ألموا بحي أو ألم بهم ... إلا وغادروا على الأبيات وانتهبوا
عهدت في دمن البطحاء عهد الهوى ... إليهم وتمادت بيننا حقب
فما أضاعوا قديم العهد بل حفظوا ... لكن لغيري ذاك العهد قد نسبوا
من منصفي من لطيف منهم غنج ... لدن القوام لإسرائيل ينتسب
مبدل القوم ظلماً لا يفي بموا ... عيد الوصال ومنه الذنب والغضب
تبين لثغته بالراء نسبته ... والمين منه بزور الوعد والكذب
موحد فيرى كل الوجود له ... ملكاً ويبطل ما يأتي به النسب
فعن عجائبه حدث ولا حرج ... ما ينتهي في المليح المطلق العجب
بدر ولكن هلالاً لاح إذ هو بال ... وردي من شفق الخدين منتقب
في كل كأس مبسمه من حلو ريقته ... خمر ودر ثناياه لها حبب
فلفظه أبداً سكران يسمعنا ... من معرب اللحن ما ينسى به الأدب
تجني لواحظه فينا ومنطقه ... جناية يجتنى من مرها الضرب
حلو الأحاديث والألحاظ ساحرها ... تلقى (1) إذا نطق الألواح والكتب
لم تبق (2) ألفاظه معنى يرق لنا ... لقد شكت ظلمه الأشعار والخطب
فداؤه ما جرى في الدمع من مهج ... وما جرى في سبيل الحب محتسب
ويح المتيم شام البرق من إضم ... فهزه كاهتزاز البارق الحرب
وأسكن البرق من وجد ومن كلف ... في قلبه فهو في أحشائه لهب
وكلما لاح منه بارق بعثت ... ماء المدامع من أجفانه سحب
وما أعادت نسيمات الغوير له ... أخبار ذي الأثل إلا هزه الطرب
واهاً له أعرض الأحباب عنه وما ... أجدت رسائله الحسنى ولا القرب ونظم الشيخ عفيف الدين التلمساني:
لولا الحمى وظباء بالحمى عرب ... ما كان في البارق النجدي لي أرب
__________
(1) الوافي: تلغى.
(2) المطبوعة: لم تنف.(3/417)
حلت عقود اصطباري دونه حلل ... خفوقها كارتياحاتي لها تجب
وفي رياض بيوت الحي من إضم ... ورد جني ومن أكمامه النقب
يسقي الأقاحي منها قرقف فإذا ... لاح الحباب عليها فاسمه الشهب (1)
يقضي بها لعيون الناظرين على ... كل القلوب قضاء ما له سبب
إلا تمارض أجفان إذا سلبت (2) ... فمقتضى همها المسلوب لا السلب
وبي لدى الحلة الفيحاء غصن نقاً ... يهفو فيجذبه حقف فينجذب
لا تقدر الحجب أن تخفي محاسنه ... وإنما في سناه الحجب تنحجب
أعاهد الراح أني لا أفارقها ... من أجل أن الثنايا شبهها الحبب
وأرقب البرق لا سقياه من أربي ... لكنه مثل خديه له لهب
يا سالماً في الهوى مما أكابده ... رفقاً بأحشاء صب شفه الوصب
فالأجر يا أملي إن كنت تكسبه ... من كل ذي كبد حراء يكتسب
يا بدر تم تجافى في زيارته ... ما آن أن تنجلي عن أفقك السحب
صحا السكارى وسكري دام (3) فيك أما ... للسكر لا سبب يروى ولا نسب
قد آيس الصبر والسلوان أيسره ... وعاقت الصب عن آماله الوصب
وكلما لاح يا عيني وميض سناً ... تهمي وإن هب يا قلبي صباً تجب " وقال العفيف التلمساني أيضاً:
أينكر الوجد أني في الهوى شجب ... ودون كل دخان ساطع لهب
وما سلوت كما ظن الوشاة ولا ... أسلو كما يترجى الواله الوصب " (4)
فإن بكى لصباباتي عذول الهوى ... فلي بما منه يبكي عاذلي طرب
ناشدتك الله يا روحي اذهبي كلفاً ... بحب قوم عن الجرعاء قد ذهبوا
__________
(1) المطبوعة: الحبب.
(2) المطبوعة: سبلت.
(3) المطبوعة: ومن رام؛ وبه ينكسر الوزن.
(4) زيادة ضرورية من الوافي.(3/418)
لا تسأليهم ذماماً في محبتهم ... فطالما قد وفى بالذمة العرب
هم أهل ودي وهذا واجب لهم ... وإنما ودهم لي فهو لا يجب
هم ألبسوني سقاماً من جفونهم ... أصبحت أرفل فيه وهو ينسحب
وصيرت أدمعي حمراً خدودهم ... فكيف أجحد ما منوا وما وهبوا
هل السلامة إلا أن أموت بهم ... وجداً وإلا فبقيائي هي العطب
إن يسلبوا البعض مني والجميع لهم ... فإن أشرف جزأي الذي سلبوا
لو تعلم العذبات المائسات بمن ... قد بان عنها إذن ما اخضرت العذب
ولو درى منهل الوادي الذي وردوا ... من وارد ماءه لاهتزه الطرب
إني لأكظم أنفاسي إذا ذكروا ... كيلا يحرقهم من زفرتي اللهب
أسائل البان عن ميل النسيم بهم ... سؤال من ليس يدري فيه ما السبب
وتلك آثار لين في قدودهم ... جرت (1) بها الريح فاهتزت بها القضب تصحو السكارى ولا أصحو ظماً بكم ويسكر من بعض الذي شربوا ونظم الشيخ شهاب الدين محمود رحمه الله في هذه المادة:
قضى وهذا الذي في حبهم يجب ... في ذمة الوجد تلك الروح تحتسب
ما كان يوم رحيل الحي عن إضم ... لروحه في بقاء بعدهم أرب
صب بكى أسفاً والشمل مجتمع ... كأنه كان للتفريق يرتقب
نأوا فذابت عليهم روحه كمداً ... ما كان إلا النوى في حتفه سبب
لم يدر أن قدود السمر مشبهة ... للبيض لو لم يكن أسماءها القضب
وظن كأس الهوى يصحو الشريد بها ... إذ أوهمته الثنايا أنها الحبب
طوبى له لم (2) يبدل دين حبهم ... بل مات وهو إلى الإخلاص ينتسب
لو لم يمت فيهم ما عاش عندهم ... حياته من وفاة الحب تكتسب
__________
(1) الوافي: مرت.
(2) الوافي: لمن لم.(3/419)
بانوا وفي الحي ميت ناح بعدهم ... له الحمام وسحت دمعها السحب
وشق غصن النقا من أجله حزناً ... جيوبه وأديرت حوله العذب
وشاهد الغيث أنفاساً يصعدها ... فعاد والبرق في أحشائه لهب
يا بارق الثغر لو لاحت ثغورهم ... وشمت بارقها ما فاتك الشنب
ويا حياً جادهم إن لم تكن كلفاً ... " ما بال عينك منها الماء ينسكب " (1)
ويا قضيب النقا لو لم تجد خبراً ... عند الصبا منهم ما هزك الطرب
بالله يا نسمات الريح أين هم ... وهل نأوا أم دموعي دونهم حجب
بالله لما استقوا عن ديارهم ... أحنت الدار من شوق أم النجب
وهل وجدت فؤادي في رحالهم ... فإنه عندهم من بعض ما سلبوا
نأوا غضاباً وقلبي في إسارهم ... يا ليتهم غصبوا روحي وما غضبوا
طوبى لقلب غدا في الركب عندهم ... كأنه عندهم ضيف وهم عرب
وإن رجعت إليهم فاذكري خبري ... إني شرقت بدمع العين مذ غربوا
ثم اذكري سفح دمعي في معاهدهم ... لا يذكر السفح إلا حن مغترب
عساك أن تعطفي نحوي معاطفهم ... فالغصن بالريح ينأى ثم يقترب ومن شعر الشيخ شهاب الدين الخيمي (2) :
كلفت ببدر في مبادي الدجى بدا ... فعاد لنا ضوء الصباح كما بدا
وحجب عنا حسنه نور حسنه ... فمن ذلك الحسن الضلالة والهدى
فيا عاذلي دعني ونار صبابتي ... عليه فإني قد وجدت بها (3) هدى
وهاك يدي إني على ترك حبه ... مدى الدهر لا أعطيك يا عاذلي يدا
فما العيش إلا أن أبيت مواصلاً ... لبدري أو في حب بدري مسهدا
__________
(1) صدر بيت لذي الرمة، وعجزه: كأنه من كل مقربة سرب.
(2) من هنا حتى آخر الترجمة لم يرد في الوافي.
(3) المطبوعة: لها؛ وأثبت ما عند الزركشي.(3/420)
فيا نار قلبي حبذا أنت مصطلى ... ويا دمع عيني حبذا أنت موردا
ويا سقمي في الحب أهلاً ومرحباً ... ويا صحة السلوان شأنك والعدا وقال أيضاً:
سلام على بعد المزار وقربه ... سلام فتى ما زال عن عهد حبه
يعلله إن فاته طيب وصلكم ... لذيذ هواكم في سويداء قلبه
ويلقى بخديه النسيم لأنه ... بمغناكم قد جر ذيلاً بثوبه (1)
ويعترض الركبان على مبشراً ... بقربكم يقضي بتفريج كربه وقال أيضاً:
هل لي إلى برد الثنايا من سبيل ... لمشوق ذاب من حر الغليل
أو إلى الوصل وصول خلسة ... لمحب بين واش وعذول
تعب الواشي ولو شاء اكتفى ... بوشاة من دموعي ونحولي
وبواش من كثير الطيب إن ... سمح المحبوب بالوصل القليل
وعذول لج في عذلي إذ ... لم ير الخال على الخد الأسيل
لو رأى وجه حبيبي عاذلي ... لتفارقنا على وجه جميل
حبذا وجه حبيبي جنة ... ذات ظل مد بالصدع ظليل
لم يرق قلبي خليل غيره ... إنه خير حبيب وخليل
خده الناظر برد ناره ... وسلام إنها نار الخليل
أنا مقتول (2) كما شاء الهوى ... بالقوام اللدن والطرف الكحيل
مت بالحب شهيداً فعسى في ... جنان الخلد أن يقضى دخولي وقال وهو محموم:
صاح قل للطبيب ما هي حمى ... تلك نار اشتياق قلبي إليهم
__________
(1) المطبوعة: بتربه، وأثبت ما عند الزركشي.
(2) المطبوعة: وأنا المقتول؛ والتصويب عن الزركشي.(3/421)
وخروج المياه من جسمي المض ... نى بكا أعين المسام لديهم
ما شفاني بكاء عيني حتى ... ساعدني عيون جسمي عليهم وقال أيضاً:
إني سلوت عن الحبيب ولم يكن ... هذا لأني في الهوى غدار
لكنه اختار السلو وقال لي ... إني علي من المحب أغار
فأطعته وسلوته إذ بيننا ... في العهد أن أختار ما يختار وقال أيضاً:
أيا من سلوا عنا ومالوا إلى الغدر ... وما لزموا أخلاق أهل الهوى العذري
وبعد حلاوات التواصل والهوى ... جنوا مر طعم الهجر من علقم الصبر
إذا ما رجعتم عن محبتكم لنا ... مشاة رجعنا عن محبتكم نجري
وإن كنتم في الجهر عنا صددتم ... ففي سرنا عنكم نصد وفي الجهر
سكنتم فؤادي مرة ورحلتم ... فأصبح منكم خالياً خالي السر
وقال لي العذال هل أنت راجع ... إذا رجعوا عن غدرهم قلت لا أدري وقال أيضاً (1) :
ألام على الخلاعة إذ شبابي ... ورونق جدتي ذهبا جميعا
ومن ذهبت بجدته الليالي ... فلا عجب إذا أضحى خليعا وقال أيضاً:
رأيت على قد (2) المليح ذؤابة ... فعيني غراماً بالذؤابة تهمع
وقال لي الواشون مالك باكياً ... فقلت بعيني شعرة فهي تدمع وقال أيضاً:
__________
(1) زاد في الزركشي: ويروي للوراق أو للجزار.
(2) المطبوعة: خد، وما أثبته متابع للزركشي.(3/422)
يا صاح يا صاح البدار البدار ... فالشرق قد أضحى وصاح الهزار
وهب مسكي نسيم الصبا ... فانهض نباكر زمن (1) الابتكار
وقم بنا نحي (2) ابنة الكرم أم ... الزهر زوج الماء أخت النهار (3)
ثم اجلها عذراء من ذاتها ... صيغت حلاها والحباب النثار
صهباء خمر قرقف سلسل ... مدامة وراح سلاف عقار
كوجنة الساقي فلا غرو أن ... يخلع إذ تجلى عليها العذار
صفراء لا أملك في حبها ... مالاً ولا أملك عنها اصطبار
ولا أخاف النار من شربها ... لأنني أشربها وهي نار
وما أضعت المال فيها وقد ... بعت لها، وهي النضار، العقار
تملأ أعطافي وسمعي بها ... سكراً ووقراً عن حديث الوقار
تشربها قبل فمي مقلتي ... شطرففي جفوني قبل سكري انكسار
ما أذهبت عقلي ولكن أطا ... رته إلى أفق المعالي فطار
فعاطني يا صاح كاساتها ... وسقني واشرب نهاراً جهار
وهات في يمناي من صرفها ... كأساً وأخرى هاتها في اليسار
دعني بها أقطع ليلي فما ... أطوله بعد الليالي القصار
إذ كان ربع بلوى الجزع لي ... داراً وكان الحب في فيه جار
ما كان أحلى ذلك العيش من ... عيش وأحلى الدار بالجزع دار وقال لغزاً في الملعقة:
وممدودة كيد المجتدي ... بكف على ساعد مسعد
ترى بعضها في فمي كاللسان ... وجملتها في يدي كاليد
__________
(1) الزركشي: فانهض لباكر آية؛ وفي المطبوعة: فانهض شكوراً
(2) المطبوعة: نحو.
(3) المطبوعة: الهزار.(3/423)
وقال في سبحة سوداء:
وسبحة مسودة لونها ... يحكي سواد القلب والناظر
كأنني عند اشتغالي بها ... أعد أيامك يا هاجري 476 (1)
صريع الدلاء
محمد بن عبد الواحد، الملقب بصريع الدلاء وقتيل الغواشي (2) ؛ كان شاعراً ماجناً غلب على شعره الهزل والمجون، عارض مقصورة ابن دريد بمقصورة يقول فيها:
من لم يرد أن تنتقب نعاله ... يحملها في كفه (3) إذا مشى
ومن أراد أن يصون رجله ... فلبسه خير له من الحفا
من دخلت في عينه مسلة ... فاسأله من ساعته عن العمى
من أكل الفحم يسود (4) فمه ... وراح صحن خده مثل الدجى
من صفع الناس ولم يدعهم ... أن يصفعوه فعليهم اعتدى
__________
(1) ليست هذه الترجمة من المستدرك على ابن خلكان فقد ترجم لصريع الدلاء تحت اسم ((علي بن عبد الواحد)) (3: 382) وقال: ورأيت في نسخة من ديوان شعره أنه أبو الحسن محمد بن عبد الواحد القصار البصري والله أعلم بالصواب؛ وكذلك ورد اسمه في تتمة اليتمية 1: 14 وعبر الذهبي 3: 110 والزركشي: 294 والوافي 4: 61 أما صاحب شدرات الذهب 3: 197 فقد لخص ترجمته عن ابن خلكان، وكذلك ابن كثير 12: 13 وحسن المحاضرة 1: 562.
(2) قال الصفدي: في الغواشي ما في الدلاء من المعنى المراد وهي تقابل ((الغةواني)) في لقب مسلم بن الوليد.
(3) الوافي: كمه.
(4) الوافي: تسود.(3/424)
من ناطح الكبش يفجر (1) رأسه ... وسال من مفرقه شبه الدما
من أكل الكرش ولا يغسله ... سال على شاربه منه الخرا (2)
من طبخ الديك ولا يذبحه ... طار من القدر إلى حيث يشا
من شرب المسهل في فعل الدوا ... أطال ترداداً إلى بيت الخلا
من مازح السبع ولا يعرفه ... مازحه السبع مزاحاً بجفا
من فاته العلم وأخطاه الغنى ... فذاك والكلب على حد سوا
والدرج يلفى بالغشاء ملصقاً ... والسرج لا يلزق إلا بالغرا
والذقن شعر في الوجوه نابت ... وإنما الاست التي تحت الخصا
فاستمعوها فهي أولى لكم ... من زخرف القول ومن طول المرا يقول في آخرها مشيراً إلى ابن دريد:
فتلك كالدر يضيء لونها ... وهذه في وزنها مثل الحذا ومن شعره يمدح فخر الملك من قصيدة:
كيف تلقى بؤساً ودولة فخر ال ... ملك فينا نعم بالإنعام (3)
هكذا (4) ما بقي الجديدان تبقى ... للتهاني مملكاً ألف عام
كل يوم لنا بنعماك عيد ... لا خلت منه سائر الأيام
فله الأنعم الجسام اللواتي ... هن مثل الحياة في الأجسام
لم يزل يطلب المحامد والعل ... ياء بين السيوف والأقلام
فلقد نال بالعزائم مجداً ... لم ينل مثله بحد الحسام
أدرك المجد قاعداً وسواه ... عاجز أن يناله من قيام
__________
(1) الوافي: تعجر.
(2) المطبوعة: ذاك الدوا.
(3) كان البيت مضطرباً في المطبوعة فصوبته كما جاء في الوافي.
(4) المطبوعة: هذه.(3/425)
لم يزل جوده يعطعط بالإف ... ضال مذ كان في قفا الإعدام
فهو من حبه المكارم والجو ... د يرى الآملين (1) في الأحلام
قد كفتنا غيوث كفيه أن نب ... سط كفاً إلى سؤال الغمام
ورضعنا لديه (2) در الأماني ... ونظمنا لديه (3) در الكلام وكانت وفاة صريع الدلاء في شهور اثنتي عشرة وأربعمائة، رحمه الله تعالى.
477 - (4)
الحافظ ضياء الدين المقدسي
محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل، الحافظ الحجة الإمام ضياء الدين أبو عبد الله السعدي " المقدسي " الدمشقي الصالحي صاحب التصانيف؛ ولد بالدير المبارك سنة تسع وستين وخمسمائة، ولزم الحافظ عبد الغني وتخرج به، وحفظ القرآن وتفقه، ورحل أولاً إلى مصر سنة خمس وتسعين، وسمع، ورحل إلى بغداد بعد موت ابن كليب، وسمع من ابن الجوزي وغيره، ودخل همذان ثم رجع إلى دمشق بعد الستمائة، ثم رحل إلى أصفهان " فأكثر بها وتزيد وحصل شيئاً كثيراً من المسانيد
__________
(1) المطبوعة: الكاملين.
(2) المطبوعة: ورصصنا إليه.
(3) المطبوعة: إليه.
(4) الوافي 4: 65 والزركشي: 294 والنجوم الزاهرة 6: 354 والبداية والنهاية 13: 169 والشذرات 5: 224 وتذكرة الحفاظ: 1405 وذيل ابن رجب 2: 236 وعبر الذهبي 5: 179.(3/426)
والأجزاء ورحل إلى نيسابور " (1) فدخلها ليلة وفاة الفراوي، ورحل إلى مرو وعاد إلى حلب وسمع بها وبحران والموصل، وعاد إلى دمشق بعلم كثير، وحصل أصولاً نفيسة فتح الله بها عليه هبة وشراء ونسخاً، وسمع بمكة، وأكب على الاشتغال لما رجع والتصنيف والنسخ، وأجازه السلفي وشهدة وابن بري وخلق كثير، قال الشيخ شمس الدين: سمعت الشيخ جمال الدين المزي يقول: الحافظ ضياء الدين أعلم من الحافظ عبد الغني.
ومن تصانيفه كتاب " الأحكام " ثلاث مجلدات (2) . " فضائل الأعمال " مجلد. " الأحاديث المختارة " تسعين جزءاً. " فضائل الشام " ثلاثة أجزاء. " فضائل القرآن " جزء. " صفة الجنة والنار " (3) . " مناقب أصحاب الحديث ". " النهي عن سب الصحابة ". " سير المقادسة " كالحافظ عبد الغني والشيخ أبي عمر وغيرهم في عدة مجلدات؛ وله تصانيف كثيرة في أجزاء عديدة.
وبنى مدرسة على باب الجامع المظفري وأعانه عليها أهل الخير (4) ، وجعلها دار حديث ووقف عليها كتبه وأجزاءه، وفيها من وقف الموفق والبهاء عبد الرحمن والحافظ عبد الغني وابن الحاجب وابن سلام وابن هائل (5) والشيخ علي الموصلي، وقد نهبت في نكبة الصالحية نوبة غازان (6) وراح منها شيء كثير.
وكانت وفاة الشيخ الضياء سنة ثلاث وأربعين وستمائة، رحمه الله تعالى.
__________
(1) زيادة من الوافي.
(2) الوافي: يعوز قليلا ثلاث مجلدات.
(3) الوافي: كتاب الجنة. كتاب النار.
(4) ذيل ابن رجب: وقال غير الذهبي ولم يقبل من أحد فيها شيئاً تورعاً.
(5) الوافي: هامل.
(6) غازان (أو قازان) ملك المغول، وكان نهب الصالحية سنة 699 (السلوك 1: 891) .(3/427)
478 - (1)
شمس الدين الحنبلي
محمد بن عبد الوهاب بن منصور، العلامة شمس الدين أبو عبد الله الحراني الحنبلي، كان إماماً بارعاً أصولياً من كبار الأئمة في الفقه والأصول والخلاف، تفقه على القاضي نجم الدين راجح الحنبلي والشيخ مجد الدين ابن تيمية، وقدم دمشق فقرأ الأصول والعربية على الشيخ علم الدين (2) القاسم، ودخل مصر ولازم درس الشيخ عز الدين ابن عبد السلام وناب في القضاء عن تاج الدين ابن بنت الأعز، فلما جعلت القضاة أربعة ناب في القضاء عن الشيخ شمس الدين ابن العماد، ثم قدم دمشق وانتصب للإفادة. وكان حسن العبارة طويل النفس في البحث، أعاد بالجوزية مدة، وناب في إمامة محراب الحنابلة، ثم ابتلي بفالج أبطل نصفه الأيسر وثقل لسانه حتى لا يفهم من كلامه إلا القليل، وبقي كذلك أربعة أشهر ومات سنة خمس وسبعين (3) وستمائة.
وكان من أذكياء الناس، روى عن ابن اللتي والموفق عبد اللطيف وجماعة، ومات في عشر السبعين (4) ، وكان يقرأ تائية ابن الفارض ويبكي.
ومن شعره ما ذكره الشيخ شهاب الدين محمود أنه أنشده إياه لغزاً في شبابة:
منقبة مهما خلت مع محبها ... يزودها لثماً وينظرها (5) شزرا
__________
(1) الوافي 4: 75 والزركشي: 294 والشذرات 5: 348 وذيل ابن رجب 2: 287.
(2) المطبوعة: نجم الدين.
(3) المطبوعة: وتسعين.
(4) كذا، وقد ذكر سنة وفاته قبل قليل.
(5) الوافي: ويوسعها.(3/428)
وتصحيفها في كف من شئت فلتقل ... إذا شئت في اليمنى وإن شئت في اليسرى وقال أيضاً رحمه الله تعالى:
طار قلبي يوم ساروا فرقا ... وسواء فاض دمعي أو رقا
حار في سقمي من بعدهم ... كل من " في " الحي داوى أو رقى
بعدهم لا ظل وادي المنحنى ... وكذا بان الحمى لا أورقا 479 (1)
ابن أبي كدية
محمد بن عتيق أبي بكر " بن محمد " (2) بن أبي نصر، التميمي (3) القيرواني الأشعري المتكلم، المعروف بابن أبي كدية؛ درس الأصول بالقيروان على أبي " عبد الله " الحسين (4) بن حاتم الأزدي صاحب ابن الباقلاني، وسمع بمصر من القضاعي، وقدم الشام وأخذ عنه أبو الفتح نصر الله بن محمد المصيصي، ودخل العراق وأقرأ الكلام (5) بالنظامية، وكان صلباً في الاعتقاد، وسمع ابن عبد البر بالأندلس، وتوفي ببغداد سنة اثنتي عشرة؛ وخمسمائة.
سمع يوماً قائلاً ينشد أبيات أبي العلاء المعري:
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة وحق لسكان البسيطة أن يبكوا
__________
(1) الوافي 4: 79 والزركشي: 205 والنجوم الزاهرة 5: 217 وغاية النهاية 2: 195.
(2) زيادة من الوافي.
(3) المطبوعة: اليمني.
(4) المطبوعة: الحسن.
(5) المطبوعة: العلوم.(3/429)
تحطمنا الأيام حتى كأننا ... زجاج ولكن لا يعاد له سبك فقال رحمه الله يرد عليه:
كذبت وبيت الله حلفة صادق ... سيسبكنا بعد الثرى (1) من له الملك
ونرجع أجساماً صحاحاً سليمة ... تعارف في الفردوس ما عندنا شك ومن شعره أيضاً:
كلام إلهي ثابت لا نفارقه ... وما دون رب العرش فالله خالقه
ومن لم يقل فقد صار ملحداً ... وصار إلى قول النصارى يوافقه ودفن عند الأشعري، قال ابن الجوزي (2) : كان يحفظ كتاب سيبويه.
480 - (3)
ابن حسول الهمذاني
محمد بن علي بن حسول - بالحاء المهملة والسين المهملة وبعد الواو لام - الكاتب الهمذاني؛ كان صدراً نبيلاً له النظم والنثر، وسمع من الصاحب ابن عباد ومن ابن فارس صاحب " المجمل "، توفي سنة خمسين وأربعمائة (4) .
ومن شعره في أمرد علوي:
وأزهر من بني الزهراء يرنو ... إلي كما رنا الظبي الكحيل
__________
(1) الوافي: النوى.
(2) يريد سبط ابن الجوزي في ((مرآة الزمان)) .
(3) الوافي 4: 132 والزركشي: 295 وتتمة اليتيمة 1: 107 المحمدون: 367.
(4) زاد في الوافي: أو ما دونها.(3/430)
نهاني الدين والإسلام عنه ... فليس إلى مقبله سبيل
إذا أرسلت ألحاظي إليه ... نهاني الله عنه والرسول ومن شعره أيضاً:
تقعد فوقي لأي معنى ... للفضل للهمة النفيسه (1)
إن غلط الدهر فيك يوماً ... فليس في الشرط أن تقيسه
كنت لنا مسجداً ولكن ... قد صرت من بعده كنيسه
كم فارس أفضت الليالي ... به إلى أن غدا فريسه
فلا تفاخر بمن (2) تقضى ... كان الخرا مرة هريسه ومن شعره أيضاً:
دخلت على الشيخ مستأنساً ... به وهو في دسته الأرفع
وقد دخل الناس مثل الجراد ... فمن ساجدين ومن ركع
فهش ولكن لمردانه ... وقام ولكن على أربع
وأرسل في كمه مخطة ... بدت لي على (3) صورة الضفدع
فهوعني ما تأمتله ... وزعزع روحي م أضلعي
وأعرض إعراض مستكبر ... تصدر مثلي ومستبدع
فأقبلت أضرط من خيفة ... وأفسو على السيد الأروع
وقمت وجددت فرض (4) الوضوء ... وكنت قعدت وطهري معي
ورام الخضوع الذي رامه ... أبي من أبيه (5) فلم أخضع
__________
(1) الوافي: الرئيسه.
(2) الوافي: بما.
(3) المطبوعة: تدب على.
(4) المطبوعة: فضل.
(5) قال الصفدي: يعني آدم وإبليس.(3/431)
وكيف أقبل كف امرئ ... إذا صنع الخير لم يصنع
فيقبضها عند بذل اللهى ... ويبسطها في الجدا الرضع
وإني وإن كنت ممن يهون ... عليه تكبر (1) مستوضع
ليعجبني نتف شيب السبال ... وصفع قمحدوة الأصلع
خراها ولو أنه ابن الفرات ... وحرها ولو أنه الأصمعي وقال يهجو بعض المتكبرين:
دخلت على الشيخ فيمن دخل ... فغربل عصعصه وانتخل
وأظهر من نخوة الكبرياء ... ما لم أقدر وما لم أخل
فقلت له مؤثراً نصحه ... وقد يقبل النصح ممن بخل
إذا كنت سيدنا سدتنا ... وإن كنت للخال فاذهب فخل
فقال اغتفر زلتي منعماً ... فإني نغل بزيت وخل
وكم من وزير كبير عراه ... عند قضاء الحقوق البخل وقال يداعب ابن الحنان (2) وكان يخضب
سني كسن أديب ال ... عراق زين الظراف
ست وستون عاماً ... ما بيننا من خلاف
لكن شيبي باد ... وشيبه في غلاف
__________
(1) المطبوعة: الكبر، ولا يستقيم به الوزن.
(2) الوافي: ابن الحبان.(3/432)
481 - (1)
ابن حباب الصوري
محمد بن علي بن محمد بن حباب الصوري الشاعر؛ كان فصيحاً، توفي في طرابلس وقد نيف على السبعين، وكانت وفاته سنة ثلاث وستين وأربعمائة.
ومن شعره، رحمه الله تعالى:
صب جفاه حبيبه ... فحلا له تعذيبه
فالنار تضرم في الجوا ... نح والغرام يذيبه
حتى بكاه (2) لما دها ... هـ بعيده وقريبه
وتآمروا في طبه ... كيما يخف لهيبه
فأتى الطبيب وما دروا ... الطبيب حبيبه 482 (3)
أبو بكر القصار المؤدب
محمد بن علي بن محمد الدينوري، أبو بكر " القصار " المؤدب؛ سكن درب الدواب ببغداد، وله أشعار في الزهد والغزل، توفي سنة أربع عشرة وخمسمائة.
__________
(1) الوافي 4: 135 والنجوم الزاهرة 5: 89 والزركشي: 295.
(2) المطبوعة: بكى.
(3) الوافي 4: 149 والزركشي: 295 وقال الصفدي: ولم يكن يعرف النحو واللغة، والصفدي ينقل عن ابن النجار.(3/433)
ومن شعره:
ومشمر الأذيال في ممزوجة ... متتوج (1) تاجاً من العقيان
بالجاشرية ظل يهتف سحرة ... ويصيح من طرب إلى الندمان
ويا طيب لذة هذه دنياكم ... لو أنها أبقت على الإنسان
أصبو إلى شرب الخمور وإنما ... لصبوحكم لا للصلاة أذاني
طلعت شموس (2) الراح من أيديهم ... مثل النجوم وغبن في الأبدان 483 (3)
أبو سعد الكاتب الكرماني
محمد بن علي بن محمد بن المطلب، أبو سعد الكرماني الكاتب؛ ولد ببغداد، وقرأ طرفاً صالحاً من الأدب وأخبار الأوائل، وسمع الحديث من ابن بشران وابن شاذان، وكان كاتباً سديداً مليح الشعر، إلا أنه كان قليله، كثير الهجاء دقيق الفكر فيه، قال ابن النجار: يشبه هجوه هجو ابن الرومي.
ومن شعره:
عزلت وما خنت فيما وليت ... وغيري يخون فلا يعزل
فهذا يدل على أن من ... يولي (4) ويعزل لا يعقل وكتب إلى الوزير أبي نصر ابن جهير:
__________
(1) المطبوعة: متبرجاً.
(2) الوافي: كؤوس، وما هنا ثابت عند الزركشي.
(3) الوافي 4: 150 والزركشي: 296.
(4) المطبوعة: تولى.(3/434)
هبني كما زعم الواشون لا زعموا ... أخطأت حاشاي أو زلت بي القدم
وهبك ضاق (1) عليك العذر من حرج ... لم أجنه أيضيق العفو والكرم
ما أنصفتني في حكم الهوى أذن ... تصغي لواش وعن عذري بها صمم ومن شعره:
يا حسرتا مات حظي من قلوبكم ... وللحظوظ كما الناس آجال
إن مت شوقاً ولم أبلغ بكم أملي (2) ... كم تحت هذي القبور الدرس (3) آمال توفي سنة ثمان وسبعين وأربعمائة ودفن بمقابر قريش، رحمه الله.
484 - (4)
الشيخ محيي الدين ابن عربي
محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله، الشيخ محيي الدين أبو بكر الطائي الحاتمي الأندلسي، والمعروف بابن عربي، صاحب التصنيفات في التصوف وغيره، ولد في شهر رمضان سنة ستين وخمسمائة بمرسية، ذكر أنه سمع بمرسية من ابن بشكوال، وسمع ببغداد ومكة ودمشق،
__________
(1) المطبوعة: ضاقت.
(2) هذه هي رواية الصدر عند الزركشي أيضاً، وفي الوافي: تصرم العمر لم أحظى بقربكم.
(3) الوافي: الخرس.
(4) الوافي 4: 173 والزركشي: 296 والبداية والنهاية 13: 156 والشذرات 5: 190 وعبر الذهبي 5: 198 والنفح 2: 161 والتكملة: 652 والذيل والتكملة 6: 493 وعنوان الدراسة: 97 (156) والنجوم الزاهرة 6: 339 ومرآة الزمان: 736 ولسان الميزان 5: 311 وهناك دراسات كثيرة عنه، منها دراسة للمستشرق آسين بلاثيوس (ترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي، القاهرة 1965) .(3/435)
وسكن الروم، ركب له (1) يوماً صاحب الروم فقال: هذا تذعر له الأسود (2) ، فسئل عن ذلك فقال: خدمت بمكة بعض الصلحاء فقال يوماً: الله يذل لك أعز خلقه، أو كما قال: وقيل إن صاحب الروم أمر له بدار تساوي مائة ألف درهم على ما قيل، فلما كان يوماً قال له بعض السؤال: شيء لله، فقال: ما لي غير هذه الدار خذها لك.
قال ابن مسدي في جملة ترجمته: كان ظاهري المذهب في العبارات، باطني النظر في الاعتقادات، " وكتب لبعض الولاة " ثم حج ولم يرجع إلى بلده، وروى عن السلفي بالإجازة " العامة "، وبرع في علم التصوف، وتواليف جمة في العرفان، ولولا شطحه في الكلام لم يكن له بأس، ولعل ذلك وقع منه حال سكره وغيبته فيرجى له الخير.
وقال الشيخ قطب الدين اليونيني في ذيله على المرآة: وكان يقول أنا أعرف اسم الله الأعظم، وأعرف الكيمياء؛ وكانت وفاته في دار القاضي محيي الدين ابن الزكي، وغسله الجمال ابن عبد الخالق ومحيي الدين، وكان عماد الدين ابن النحاس يصب عليه، وحمل إلى قاسيون ودفن بتربة بني الزكي.
وكان مولده في سنة ستين وخمسمائة (3) بمرسية من الأندلس، ووفاته في الثامن والعشرين من ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين وستمائة.
ومن تصانيفه " الفتوحات المكية " عشرون مجلداً، و " التدبيرات
__________
(1) الوافي: ركبة.
(2) الوافي: هذا بدعوة الأسود.
(3) قد تقدم ذكر ذلك.(3/436)
الإلهية والتنزيلات الموصلية " و " فصوص الحكم " وعمل ابن سودكين (1) شرحاً عليها سماه " نقش الفصوص " وهو من تلك المادة، " والإسرا إلى المقام الأسرى " نظماً ونثراً، و " شرح (2) خلع النعلين " و " الأجوبة المسكتة عن سؤالات الحكيم الترمذي " و " تاج الرسائل ومنهاج الوسائل " و " كتاب العظمة " و " كتاب السبعة " وهو كتاب الشان (3) ، و " الحروف الثلاثة التي انعطفت أواخرها على أوائلها " و " التجليات " و " مفاتيح الغيب " و " كتاب (4) الحق " و " مراتب علوم الوهب " و " الإعلام بإشارات أهل الإلهام " و " العبادة والخلوة " و " المدخل إلى معرفة الأسماء " و " كنه ما لا بد " للمريد " منه " و " النقباء " و " حلية الأبدال " و " الشروط فيما يلزم أهل طريق الله تعالى من الشروط " و " أسرار الخلوة " و " عقيدة أهل السنة " و " المقنع في إيضاح السهل الممتنع " و " إشارات القرآن " (5) و " كتاب الهو " و " الأحدية " و " الاتحاد العشقي " و " الجلالة " و " الأزل " و " القسم " و " عنقاء مغرب في ختم (6) الأولياء وشمس المغرب " و " الشواهد " و " مناصحة النفس " و " اليقين " و " تاج التراجم " و " القطب والإمامين " و " رسالة الانتصار " و " الحجب " و " الأنفاس العلوية في المكاتبة " و " ترجمان الأشواق " و " الذخائر والأعلاق في شرح ترجمان الأشواق " و " مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار " والعلوم " "، و " المواعظ (7) الحسنة " و " المبشرات " و " خطبة ترتيب العالم " و " الجلال
__________
(1) المطبوعة: سويد كين؛ وهو خطأ.
(2) لم ترد لفظة ((شرح)) في الوافي.
(3) المطبوعة: البيان.
(4) الوافي: ونسخة.
(5) المطبوعة: القولين.
(6) المطبوعة: وختم.
(7) الوافي: الموعظة.(3/437)
والجمال " و " مشكاة الأنوار فيما روي عن الله عز وجل من الأخبار " و " شرح الألفاظ التي اصطلحت عليها الصوفية " و " محاضرات الأبرار ومسامرات الأخيار " خمس مجلدات، وغير ذلك.
قال الشيخ محيي الدين ابن عربي: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقلت: يا رسول الله، أيما أفضل الملك أو النبي؟ فقال: الملك، فقلت: يا رسول الله أريد على هذا برهان دليل إذا ذكرته عنك أصدق فيه، فقال: ما جاء عن الله تعالى أنه قال " من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ".
وعلى الجملة فكان رجلاً صالحاً عظيماً، والذي نفهمه من كلامه حسن، والمشكل علينا نكل أمره إلى الله تعالى، وما كلفنا اتباعه ولا العمل بما قاله، وقد عظمه الشيخ كمال (1) الدين ابن الزملكاني، رحمه الله تعالى، في مصنفه الذي عمله في الكلام على الملك والنبي والصديق والشهيد، وهو مشهور، فقال في الفصل الثاني في فضل الصديقية: قال الشيخ محيي الدين ابن العربي البحر الزاخر في المعارف الإلهية، وذكر من كلامه جملة، ثم قال في آخر الفصل: إنما نقلت كلامه وكلام من يجري مجراه من أهل الطريق لأنهم أعرف بحقائق هذه المقامات وأبصر بها لدخولهم فيها وتحققهم بها ذوقاً، والمخبر عن الشيء ذوقاً مخبر عن اليقين، فاسأل به خبيراً؛ انتهى.
ومن شعر الشيخ محيي الدين:
إذا حل ذكركم خاطري ... فرشت خدودي مكان التراب
وأقعدني الذل في بابكم (2) ... قعود الأسارى لضرب الرقاب وقال (3) :
__________
(1) المطبوعة: جمال.
(2) المطبوعة: وأقعد في الذل على بابكم.
(3) ترجمان الأشواق: 152.(3/438)
نفسي الفداء لبيض خرد عرب ... لعبن بي عند لثم الركن والحجر
ما أستدل إذا ما تهت خلفهم ... إلا بريحهم من طيب الأثر
غازلت من غزلي فيهن واحدة ... حسناء ليس لها أخت من البشر
إن أسفرت عن محياها أرتك سناً ... مثل الغزالة إشراقاً بلا غير (1)
للشمس غرتها لليل طرتها ... شمس وليل معاً من أحسن الصور وقال (2) في كتاب ترجمان الأشواق (3) :
سلام على سلمى ومن حل بالحمى ... وحق لمثلي رقة أن يسلما
وماذا عليها أن ترد تحية ... علينا ولكن لا احتكام على الدمى
سروا وظلام الليل أرخى سدوله ... فقلت لها صباً غريباً متيما
فأبدت ثناياها وأومض بارق ... فلم أدر من شق الحنادس منهما
وقالت أما يكفيه أني بقلبه ... يشاهدني من كل وقت أما أما وقال فيه أيضاً (4) :
درست عهودهم (5) وإن هواهم ... أبداً جديد في الحشا ما يدرس
هذي طلولهم وهذي الأدمع ... ولذكرهم أبداً تذوب الأنفس
ناديت خلف ركابهم من حبهم ... يا من غناه الحسن ها أنا مفلس
يا موقداً ناراً رويداً هذه ... نار الصبابة شأنكم فلتقبسوا وقال أيضاً (6) :
__________
(1) الوافي: عثر.
(2) ما تبقى من الترجمة لم يرد في الوافي.
(3) ترجمان الأشواق: 25.
(4) ترجمان الأشواق: 35.
(5) ترجمان: ربوعهم.
(6) ترجمان الأشواق: 48.(3/439)
ناحت مطوقة فحن حزين ... وشجاه ترجيع لها وحنين
جرت الدموع من العيون تفجعاً ... لحنينها فكأنهن عيون
طارحتها ثكلى (1) بفقد وحيدها ... والثكل من فقد الوحيد يكون
بي لاعج من حب رملة عالج ... حيث الخيام بها وحيث العين
من كل فاتكة اللحاظ مريضة ... أجفانها لظبا اللحاظ جفون (2)
ما زلت أجرع دمعتي من غلتي ... أخفي الهوى عن عاذلي وأصون
حتى إذا صاح الغراب ببينهم ... فضح الفراق صبابة المحزون (3)
وصلوا السرى قطعوا البرى فلعيسهم ... تحت المحامل رنة وأنين
عاينت أسباب المنية عندما ... أرخوا أزمتها وشد وضين
إن الفراق مع الغرام لقاتل ... صعب الغرام مع اللقاء يهون
ما لي عذول في هواها إنها ... معشوقة حسناء حيث تكون وقال أيضاً:
ليت شعري هل دروا ... أي قلب ملكوا
وفؤادي لو درى ... أي شعب سلكوا
أتراهم سلموا ... أم تراهم هلكوا
حار أرباب الهوى ... في الهوى وارتبكوا
__________
(1) ترجمان: ثكلا.
(2) المطبوعة: تكون؛ والتصويب عن الديوان والزركشي.
(3) كذا ورد البيت على الأقواء في ترجمان الأشواق والزركشي.(3/440)
485 - (1)
مهذب الدين ابن الخيمي
محمد بن علي بن علي، الأديب الكامل مهذب الدين " ابن " الخيمي الحلي، العراقي الشاعر؛ شيخ معمر فاضل، قال ابن النجار: كتبت (2) عنه بالقاهرة، وله مصنفات كثيرة، سمع وروى، وتوفي سنة اثنتين وأربعين وستمائة.
ومن شعره:
أأصنام هذا الجيل طراً أكلكم ... يعوق أما فيكم يغوث ولا ود
لقد طال تردادي إليكم فلم أجد ... سوى رب شان في الغنى شانه الرد ومن شعره:
جننت فعوذني بكتبك إن لي ... شياطين شوق لا تفارق مضجعي
إذا استرقت أسرار وجدي تمرداً ... بعثت عليها في الدجى شهب أدمعي ومن شعره الأبيات المشهورة، وهو ما كتبه لابنه لما عصر:
عصروك أمثال اللصو ... ص ولم تفد تلك الأمانه
فإذا سلمت فخنهم ... إن السلامة في الخيانه
وافعل كفعل بني سنا ... ء الملك في مال الخزانه يقال إن هذه الأبيات لما شاعت أمسك بنو سناء الملك وصودروا بسبب هذه الأبيات.
__________
(1) الوافي 4: 181 والزركشي: 298 وبغية الوعاة: 78 وابن الشعار 6: 417 والبدر السافر: 133 وابن خلكان 1: 211، 309؛ 2: 340 - 342 ووقع عند ابن خلكان (2: 342) ابن التامغاز في نسبه - ولكن الصفدي ضبطه بالقاف والراء (القامغار) .
(2) المطبوعة؛ كتب.(3/441)
وقال ابن خلكان (1) : أنشدني مهذب الدين الخيمي، وأخبرني أنه كان بدمشق قد رسم السلطان بحلق لحية شخص له وجاهة بين الناس، فحلق نصفها، وحصل فيه شفاعة، فعفي عنه في الباقي، فعمل فيها أبياتاً ولم يصرح باسمه:
زرت ابن آدم لما قيل حلقوا ... جميع لحيته من بعد ما ضربا
فلم أر النصف محلوقاً فعدت له ... مهنئاً بالذي منها له وهبا
فقام ينشدني والدمع يخنقه ... بيتين ما نظما ميناً ولا كذبا
إذا أتتك لحلق الذقن طائفة (2) ... " فاخلع ثيابك منها ممعناً هربا "
" وإن أتوك وقالوا إنها نصف ... فإن أطيب نصفيها الذي ذهبا " 486 (3)
الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد
محمد بن علي بن وهب بن مطيع، الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو الفتح ابن دقيق العيد القشيري المنفلوطي المصري المالكي الشافعي، أحد الأعلام وقاضي القضاة؛ ولد سنة خمس وعشرين وستمائة بناحية ينبع وتوفي يوم الجمعة حادي عشر صفر سنة اثنتين وسبعمائة.
__________
(1) انظر ابن خلكان 6: 56.
(2) أصل هذا الشطر: لا تنكحن عجوزاً إن أثبت بها؛ ثم ضمن سائر البيتين، انظر الحماسية رقم: 870 من شرح المرزوقي.
(3) الوافي 4: 193 والزركشي: 299 والشذرات 6: 5 والنجوم الزاهرة 8: 206 والدرر الكامنة 4: 210 وتذكرة الحفاظ: 1481 ودول الإسلام 2: 158 ومرآة الجنان: 4: 236 وطبقات السبكي 6: 2 والبداية والنهاية 14: 27 والديباج المذهب: 324 والسلوك 1: 929 والطالع السعيد: 567 والبدر الطالع 2: 229. وللأستاذ علي صافي حسين دراسة عنه (دار المعارف بمصر 1960) وقد ذيلها بمجموعة من شعره.(3/442)
سمع من ابن المقير وابن رواج وابن الجميزي والبسط، وسمع من ابن عبد الدايم والزين خالد، وله التصانيف البديعة ك " الإمام " و " الإلمام " و " علوم الحديث " و " شرح عمدة الأحكام " و " شرح مقدمة المطرز في أصول الفقه " وجمع " الأربعين في الرواية عن رب العالمين "، وشرح بعض مختصر ابن الحاجب.
وكان إماماً متفنناً محدثاً مجوداً فقيهاً مدققاً أصولياً أديباً شاعراً نحوياً، ذكياً غواصاً على المعاني، مجتهداً وافر العقل كثير السكينة بخيلاً بالكلام، تام الورع شديد التدين، مديم السهر مكباً على المطالعة والجمع، قل أن ترى العيون مثله. وكان سمحاً جواداً، وكان قد قهره الوسواس في أمر المياه والنجاسات، وله في ذلك حكايات ووقائع كثيرة. وكان كثير التسري والتمتع، وله عدة أولاد ذكور بأسماء الصحابة العشرة. تفقه بأبيه وبالشيخ عز الدين ابن عبد السلام، واشتهر اسمه في حياة مشايخه، وكان مالكياً ثم صار شافعياً؛ ومن شعره، رحمه الله تعالى (1) :
الحمد لله كم أسعى بعزمي في ... نيل العلا وقضاء الله ينكسه كأنني البدر أبغي الشرق والفلك ال أعلى يعارض مسعاه فيعكسه
وقال أيضاً (2) :
أأحباب قلبي والذين بذكرهم ... وترداده طول الزمان تعلقي
لئن غاب عن عيني بديع جمالكم ... وجار على الأبدان حكم التفرق
فما ضرنا بعد المسافة بيننا ... سرائرنا تسري إليكم فنلتقي وقال يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) :
__________
(1) صافي: 161.
(2) صافي: 161.
(3) صافي: 139.(3/443)
يا سائراً نحو الحجاز مشمرا ... اجهد فديتك في المسير وفي السرى
وإذا سهرت الليل في طلب العلا ... فحذار ثم حذار من خدع الكرى
فالقصد حيث النور يشرق ساطعاً ... والطرف حيث ترى الثرى متعطراً
قف بالمنازل والمناهل من لدن ... وادي قباء إلى حمى أم القرى
وتوخ آثار النبي فضع بها ... متشرفاً خديك في عفر الثرى
وإذا رأيت مهابط الوحي التي ... نشرت على الآفاق نوراً أنورا
فاعلم بأنك ما رأيت شبيهها ... مذ كنت في ماضي الزمان ولا ترى
ولقد أقول إذا الكواكب أشرقت ... وترفعت في منتهى شرف الذرى
لا تفخري زهواً فإن محمداً ... أعلى علاً منها وأشرف جوهرا
نلنا به ما قد رأينا من علا ... مع ما نؤمل في القيامة أن نرى
فسعادة أزلية سبقت وما ... هو ثابت أزلاً فلن يتغيرا
وسيادة بارى الأنام بها ولا ... سيما إذا قدموا عليه المحشرا
وبديع لطف شمائل من دونها ... ماء الغمامة والنسيم إذا سرى
مع سطوة لله في يوم الوغى ... تعنو لشدة بأسها أسد الشرى
شوقي لقرب جنابه وصاحبه ... شوق يجل يسيره أن يذكرا
أفنى كنوز الصبر من أشواقه ... وجرى على الأحشاء منه ما جرى
إن لاح صبح كان وجد مقلق (1) ... أو جن ليل كان هماً مسهرا ومن شعره (2) :
تهيم نفسي طرباً عند ما ... أستملح البرق الحجازيا
ويستخف الوجد عقلي وقد ... لبست أثواب الحجى زيا
يا هل أقضي حاجتي من منى ... وأنحر البزل المهاريا
__________
(1) الوافي: وجداً مقلقاً.
(2) صافي: 154.(3/444)
وأرتوي من زمزم فهي لي ... أرق من ريق المها ريا وقال أيضاً (1) :
تمنيت أن الشيب عاجل لمتي ... وقرب مني في صباي مزاره
فآخذ من عصر الشباب نشاطه ... وآخذ من عصر المشيب وقاره وقال أيضاً (2) :
عطيته إذا أعطى سرور ... فإن سلب الذي أعطى أثابا
فأي النعمتين أعد فضلاً ... وأحمد عند عقابها إيابا
أنعمته التي كانت سروراً ... أم الأخرى التي جلت ثوابا وقال يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) :
لم يبق لي أمل سواك فإن يفت ... ودعت أيام الحياة وداعا
لا أستلذ لغير وجهك منظراً ... وسوى حديثك لا أريد سماعا وقال أيضاً (4) :
أتعبت نفسك بين لذة كادح ... طلب الحياة وبين حرص مؤمل
وأضعت نفسك لا خلاعة ماجن ... حصلت فيه ولا وقار مبجل
وتركت حظ النفس في الدنيا وفي ال ... أخرى ورحت عن الجميع بمعزل وقال أيضاً (5) :
لعمري لقد قاسيت بالفقر شدة ... وقعت بها في حيرة وشتات
__________
(1) صافي: 156.
(2) صافي: 155.
(3) صافي: 156.
(4) صافي: 156.
(5) صافي: 158.(3/445)
فإن بحت بالشكوى هتكت مروءتي ... وإن لم أبح بالصبر خفت مماتي
وأعظم به من نازل بملمة ... يزيل حيائي أو يزيل حياتي وقال أيضاً ذوبيت (1) :
الجسم تذيبه حقوق الخدمه ... والقلب عذابه علو الهمه
والعمر بذاك ينقضي في تعب ... والراحة ماتت فعليها الرحمه وقال أيضاً (2) :
يا عصر شبيبتي ولهوي أرأيت ... ما أسرع ما انقضيت عني ومضيت
قد كنت مساعدي على كيت وكيت ... واليوم فلو رأيت حالي لبكيت وقال أيضاً (3) :
أفكر في حالي وقرب منيتي ... وسيري حثيثاً في مصيري إلى القبر
فينشئ لي فكري سحائب للأسى ... تسح هموماً دونها وابل القطر
إلى الله أشكو من وجودي فإنني ... تعبت به مذ كنت في مبتدا العمر
نروح ونغدو والمنايا فجائع ... تكدره والموت خاتمة الأمر وله أيضاً (4) :
سحائب فكري لا يزال هامياً ... وليل همي لا أراه راحلا
قد أتعبتني همتي وفطنتي ... فليتني كنت مهيناً جاهلا وقال أيضاً (5) :
__________
(1) صافي: 157.
(2) صافي: 169.
(3) صافي: 174.
(4) صافي: 181.
(5) صافي 159 - 160.(3/446)
كم ليلة فيك وصلنا السرى ... لا نعرف الغمض ولا نستريح
وكلت العيس وجد الهوى (1) ... واتسع الكرب وضاق الفسيح
وكادت الأنفس مما بها ... تزهق والأرواح منا تطيح
واختلف الأصحاب ماذا الذي ... يزيل من شكواهم أو يريح
فقيل تعريسهم ساعة ... وقلت بل ذكراك وهو الصحيح وقال أيضاً (2) :
يا معرضاً عني ولست بمعرض ... بل ناقضاً عهدي وليس بناقض
أتعبتني بخلائق لك لم يفد ... فيها وقد جمحت رياضة رائض
أرضيت أن تختار رفضي مذهباً ... فتشنع الأعداء أنك رافضي وقال أيضاً (3) :
قد جرحتنا يد أيامنا ... وليس غير الله من آس
فلا ترج الخلق في حاجة ... ليسوا بأهل لسوى الياس
ولا تزد شكوى إليهم فلا ... معنى لشكواك إلى قاس
وإن تخالط منهم معشراً ... هويت في الدين على الراس
يأكل بعض لحم بعض ولا ... يخاف (4) في الغيبة من باس
لا ورع في الدين يحميهم ... عنها ولا حشمة جلاس
فاهرب من الناس إلى ربهم ... لا خير في الخلطة بالناس وقال أيضاً (5) :
__________
(1) المطبوعة: السرى.
(2) صافي: 177.
(3) صافي: 175.
(4) الوافي: يحسب.
(5) صافي: 173.(3/447)
إذا كنت في نجد وطيب نسيمها ... تذكرت أهلي باللوى فمحجر
وإن كنت فيهم ذبت شوقاً ولوعة ... إلى ساكني نجد وعيل تصبري
وقد طال ما بين الفريقين قصتي ... فمن لي بنجد بين أهلي ومعشري وقال أيضاً نظماً في بعض الوزراء (1) :
مقبل مدبر بعيد قريب ... محسن مذنب عدو حبيب
عجب من عجائب البر والبح ... ر ونوع فرد وشكل غريب وقال أيضاً (2) :
ذروا في السرى نحو الجناب الممنع ... لذيذ الكرى واجفوا له كل مضجع
وأهدوا إذا جئتم إلى خير مربع ... تحية مضنى هائم القلب موجع سريع إلى داعي الصبابة طيع ...
يقوم بأحكام الهوى ويقيمها ... فكم ليلة قد نازلته همومها
فسامرها حتى تولت نجومها ... له فكرة فيمن يحب يديمها وطرف إلى اللقيا كثير التطلع ...
وكم ذاق في أحواله طعم محنة ... وكم عارضته من مواقف فتنة
وكم أنة يأتي بها بعد أنة ... تنم على سر له في أكنة وتخبر عن قلب له متقطع ...
ففي صبره شوق أقام ملازما ... وحب يحاشي أن يطيع اللوائما
وجفن يرى أن لا يرى الدهر نائما ... وعقل ثوى في سكره الحب دائما وأقسم أن لا يستفيق ولا يعي ...
أقام على بعد المزار متيما ... وأبكاه برق بالحجاز تبسما
__________
(1) صافي: 167.
(2) سمى الزركشي هذه المخمسة ((موشحاً)) وهو وهم، وانظرها في صافي علي: 147.(3/448)
وشوقه أحبابه نظر الحمى ... دعوه لأمر دونه تقطر الدما فيا ويح نفس الصب ماذا له دعي ...
له عند ذكر المنحنى سفح عبرة ... وبين الرجا والخوف موقف عبرة
فحيناً يوافيه النعيم بنظرة ... وحيناً ترى في قلبه نار حسرة يجيء إليه الموت من كل موضع ...
سلام على صفو الحياة وطيبها ... إذا لم تفز عيني بلقيا حبيبها
ولم تحظ من إقباله بنصيبها ... ولا استعطفته عبرتي بصبيبها ولا وقعت شكواي منه بموقع ...
موكل طرفي بالسهاد المؤرق ... ومجري دموعي كالحيا المتدفق
وملهب وجد في فؤادي محرق ... " بعينك ما يلقى الفؤاد وما لقي " (1) وعندك ما تحوي وتخفيه أضلعي ...
أضرب بي البلوى وذو الحب مبتلى ... يعالج داء بين جنبيه معضلا
ويثقله من وجده ما تحملا ... وتبعثه الشكوى فيشتاق منزلا به يتلقى راحة المتودع ...
مقر الذي دل الأنام بشرعه ... على أصل دين الله حقاً وفرعه
به انضم شمل الدين من بعد صدعه ... لنا مذهب العشاق في قصد ربعه نقيم به رسم البكا والتضرع ...
تحل به الأنوار ملء رحابه ... ومستودع الأسرار عند صحابه
هداية من يحتار تأميل بابه ... وتشريف من يختار قصد جنابه بتقبيله وجه الثرى المتضوع ...
__________
(1) أصله: لعينك، وهو للمتنبي.(3/449)
أقام لنا شرع الهدى ومناره ... وألبسنا ثوب التقى وشعاره
وجنبنا جور العمى وعثاره ... سقى الله عهد الهاشمي وداره سحاباً من الرضوان ليس بمقلع ...
بني العز للتوحيد من بعد هذه ... وأوجب ذل المشركين بجده
عزيز قضى رب السماء بسعده ... وأيده عند اللقاء بجنده فأورده للنصر أعذب مشرع ...
أقول لركب سائرين ليثرب ... ظفرتم بتقريب النبي المقرب
فبثوا إليه كل شكوى ومتعب ... وقصوا عليه كل سؤال ومطلب فأنتم بمرأى للرسول ومسمع ...
أما والذي آتاه مجداً مؤثلا ... لقد كان كهفاً للعفاة ومعقلا
يبوئهم ستراً من الحلم مسدلا (1) ... ويمطرهم غيثاً من الجود مسبلا وينزع في إكرامه كل منزع ...
لقد شرف الدنيا قدوم محمد ... وألقى بها أنوار حق مؤبد
يزين به وراثة كل مشهد ... فهم بين هاد للأنام ومهتدي ومثبت أصل في الهدى ومفرع ...
سلام على من شرف الله قدره ... سلام محب عمر الدهر سره
له مطلب أفنى تمنيه عمره ... وحاجات نفس لا تجاوز صدره أعد لها جاه الشفيع المشفع ... وقال أيضاً (2) :
... شطر ثاني
آه من حيرة الفراق ويا حس ... رة من خاب بعد ما قد تمنى
ليت شعري أكان هجري لمعنى ... عند أهل العقيق أم لا لمعنى
__________
(1) الزركشي: مسبلا.
(2) صافي: 160.(3/450)
487 - (1)
الشمس الدهان
محمد بن علي بن عمر المازني الدهان، الشيخ شمس الدين الدمشقي الشاعر؛ كان يعمل صناعة الدهان وينظم الشعر الرقيق ويدري الموسيقى ويعمل الشعر ويلحنه ويغني به المغنون (2) . وكان يلعب القانون.
توفي سنة إحدى وعشرين وسبعمائة، وكان قد ربى مملوكاً وهذبه وأحبه حباً مفرطاً، فمات فأسف عليه أسفاً عظيماً ورثاه بشعر كثير، غنى به ونقله المغنون، من ذلك:
تيم قلبي وزادني أسفا ... بدر به البدر قد غدا كلفا
مهفهف القد لين قامته ... علم غصن الأراكة الهيفا
يا راحلاً أودع الحشا حرقاً (3) ... كدت بها أن أشارف التلفا
بعدك دمعي قد كاد يغرقني ... وكلما قلت قد كفى وكفا وقال أيضاً موشح:
يا أبي غصن بانة حملا ... بدر دجى بالجمال قد كملا أهيف فريد حسن ما ماس أو سفرا ... إلا أغار القضيب والقمرا ... يبدي لنا بابتسماه دررا ...
__________
(1) الوافي 4: 209 والزركشي: 302 والدرر الكامنة 4: 196 والنجوم الزاهرة 9: 252؛ ولم يرد أكثر هذه الترجمة في المطبوعة.
(2) ص: المغنيون.
(3) حرقاً: لم ترد في المتن؛ وإنما هي ترجيح من الحاشية، وهي كذلك عند الزركشي.(4/5)
في شهد لذ طعمه وحلا ... كأن أنفاسه نسيم طلا قرقف مورد الخد فاتر المقل ... يفوق ظبي الكناس بالحمل ... وينثني كالقضيب في الميل ...
من حمل ردف مثل الكثيب علا ... نيط بحصر كأضلعي نحلا مخطف ظبي من الترك يقنص الأسدا ... مقرطق قد أذابني كمدا ... حاز بديع الجمال فانفردا ...
واهاً لون لو أجار أو عدلا لمستهام ... بهجره نحلا مدنف غزال سرب جمال شرك ... ستر اصطباري عليه منهتك ... لكل قلب هواه منتهك ...
علم قلبي الولوع والغزلا ... طرف له بالفتور قد كحلا أوطف لله يوم به الزمان وفى ... إذ من بالوصل بعد طول جفا ... حتى إذا ما اطمأن وانعطفا ...
أسفر عنه اللثام ثم جلا ... ورداً بغير اللحاظ من فلا يقطف فظلت من فرط شدة البرح (1) ... ذا زارني والرقيب لم يلح ... ألثم أقدامه من الفرح ...
وقلت إذ عن صدوده عدلا ... أهلاً بعد جفوة وقلى أسعف
__________
(1) الوافي: الترح.(4/6)
(1) 488
كمال الدين ابن الزملكاني
محمد بن علي بن عبد الله الواحد، الشيخ الإمام العلامة قاضي القضاة ذو الفنون جمال الإسلام، كمال الدين ابن الزملكاني (2) الأنصاري السماكي الدمشقي، كبير الشافعية في عصره؛ ولد في شوال سنة سبع وستين وستمائة، وسمع من ابن علان والفخر علي وابن الواسطي وابن القواس، وطلب الحديث وقرأه، وكان فصيحاً متشرعاً (3) ، وكان بصيراً بالمذهب وأصوله، قوي العربية، قد أتقنها ذكاء ودربها، ذكياً صحيح الذهن صائب الفكر، تفقه على الشيخ تاج الدين، وأفتى وله نيف وعشرون (4) سنة، وكان يضرب بذكائه المثل، وقرأ العربية على الشيخ بدر الدين ابن مالك وقرأ على قاضي القضاة شهاب الدين الحويي وقاضي القضاة بهاء الدين ابن الزكي وعلى شمس الدين الأيكي وصفي الدين الهندي، وحفظ " التنبيه " و " المنتخب " في أصول الفقه، و " المحصل " في أصول الدين، وغير ذلك، وكتب المنسوب.
وكان شكله حسناً ومنظره رائعاً وتجمله في بزته وهيئته غاية، وشيبته منورة بنور الإسلام يكاد الورد يلقط من وجنتيه، وعقيدته صحيحة متمكنة أشعرية،
__________
(1) الوافي 4: 214 والبدر السافر: 134 وطبقات السبكي 5: 251 والزركشي: 303 والدرر الكامنة 4: 192 والأسنوي 2: 13 والدارس 1: 31 والبداية والنهاية 14: 131 والشذرات 6: 78 والنجوم الزاهرة 9: 270 وذيل العبر: 154؛ وهذه الترجمة مستوفاة في المطبوعة.
(2) الزملكاني: نسبة إلى قرية تسمى ((زملكا)) بغوطة دمشق.
(3) الوافي: متسرعاً.
(4) ص: وعشرين.(4/7)
وفضائله عديدة، وفواضله ربوعها مشيدة، وكان كريم النفس عالي الهمة، حشمته وافرة.
صنف أشياء: منها " رسالة في الرد على الشيخ تقي الدين ابن تيمية في مسألة الطلاق " و " رسالة في الرد علي في مسألة الزيارة " (1) ورسالة سماها " رابع أربعة " نظماً ونثراً، وشرح قطعة جيدة من " المنهاج " (2) .
وتخرج به الأصحاب وانتفع به الطلبة، ودرس بالشامية البرانية والظاهرية والرواحية، وولي نظر ديوان الأفرم ونظر الخزانة ووكالة بيت المال، وكتب في ديوان الإنشاء ووقع في الدست، وله الإنشاء الجيد والتواقيع المليحة. نقل إلى قضاء (3) القضاة بحلب ومدارسها فأقام بها أكثر من سنتين واشتغلوا عليه الحلبيين (4) ، ثم إن السلطان طلبه من حلب ليوليه قضاء دمشق لما نقل قاضي القضاة جلال الدين القزويني إلى مصر، وفرح الناس بذلك، فمرض في الطريق وأدركه الأجل في بلبيس في سادس عشر شهر رمضان سنة سبع وعشرين وسبعمائة، قيل إنه سم في الطريق، وعند الله تجتمع الخصوم.
وحكى ولده تقي الدين أن والده الشيخ كمال الدين قال له: يا ولدي، أنا والله ميت ولا أتولى لا مصر ولا غيرها، وما بقي بعد حلب ولاية أخرى لأنه في الوقت الفلاني حضر إلى دمشق فلان الصالح فترددت إليه وخدمته وطلبت منه التسليك، فأمرني بالصوم مدة، ثم أمرني بصيام ثلاثة أيام أفطر فيها على الماء واللبان الذكر، وكان آخر ليلة في الثلاث ليلة النصف من
__________
(1) هي ((العمل المقبول في زيارة الرسول)) (البدر السافر) .
(2) له كتاب سماه ((بمجالة الراكب)) وكتاب في أصول الفقه؛ وأما المنهاج فهو تصنيف الشيخ أبي زكريا النووي.
(3) ص: قضى.
(4) كذا هو في ص.(4/8)
شعبان، فقال لي: الليلة تجي إلى الجامع تتفرج أو تخلو بنفسك؟ فقلت: أخلو بنفسي، فقال جيد، ولا تزال تصلي حتى أجي إليك، فخلوت بنفسي أصلي ساعة جيدة، فلما كنت في الصلاة إذا به قد أقبل، فلم أبطل الصلاة، وإذا قد خيل لي قبة عظيمة بين السماء والأرض، وظاهرها معارج ومراقي، والناس يصعدون فيها من الأرض إلى السماء، فصعدت معهم، فكنت أرى على كل مرقاة مكتوباً: نظر الخزانة، وعلى أخرى وأخرى وأخرى: وكالة بيت المال، التوقيع، المدرسة الفلانية، قضا حلب، فلما وصلت إلى هذه المرقاة أشفقت (1) من تلك الحالة، ورجعت إلى حسي، وبت ليلتي، فلما اجتمعت بالشيخ قال: كيف كانت ليلتك؟ جيت إليك وما قصرت لأنك ما اشتغلت بي، والقبة التي رأيتها هي الدنيا، والمراقي هي المراتب والوظايف (2) والأرزاق، وهذا الذي رأيته كله تناله والله يا عبد الرحمن؛ كل شيء قد رأيته نلته، وكان آخر الكل قضا حلب، وقد قرب الأجل.
وكان الشيخ كمال الدين كثير التخيل شديد الاحتراز، يتوهم أشياء بعيدة ويبني عليها، وتعب بذلك وعودي وحسد وعمل عليه، ولطف الله به، رحمه الله.
ومن نظمه قصيدة يذكر فيها الكعبة المعظمة، ويمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
أهواك يا ربة الأستار أهواك ... وإن تباعد عن مغناي مغناك
وأعمل العيس والأشواق ترشدني (3) ... عسى يشاهد معناكي معناك
تهوي بها البيد لا تخشى الضلال وقد ... هدت ببرق الثنايا الغر مضناك
__________
(1) الوافي: استفقت.
(2) ص: والوضايف.
(3) البدر السافر: تحملني.(4/9)
تشوقها نسمات الصبح سارية ... تسوقها نحو رؤياك برياك
يا ربة الحرم العالي الأمين لمن ... وافاه من أين هذا الأمن لولاك
إن شبهوا الخال بالمسك الذكي فه ... ذا الحال من رؤية المحكي والحاكي
أفدي بأسود قلبي نور أسوده ... من لي بتقبيله من بعد يمناك
إني قصدتك لا ألوي على بشر ... ترمي النوى بي سراعاً نحو مرماك
وقد حططت رحالي في حماك عسى ... تنحط أثقال أوزاري (1) بلقياك
كما حططت بباب المصطفى أملي ... وقلت للنفس بالمأمول بشراك
محمد خير خلق الله كلهم ... وفاتح الخير ما حي كل إشراك
سما بأخمصه فوق السماء فكم ... أوطا أسافلها من علو أفلاك
ونال مرتبة ما نالها أحد ... من أنبياء ذوي فضل وأملاك
يا صاحب الجاه عند الله خالقه ... ما رد جاهك إلا كل أفاك
أنت الوجيه على رغم العدا أبداً ... أنت الشفيع لفتاك ونساك
يا فرقة الزيغ لا لقيت صالحة ... ولا سقى الله يوماً قلب مرضاك
ولا حظيت بجاه المصطفى أبداً ... ومن أعانك في الدنيا ووالاك
يا أفضل الرسل يا مولى الأنام ويا ... خير الخلائق من إنس وأملاك
ها قد قصدتك أشكو بعض ما صنعت ... بي الذنوب وهذا ملجأ الشاكي
قد قيدتني ذنوب من بلوغ مدى ... قصدي إلى الفوز منها فهي أشراكي
فاستغفر الله لي واسأله عصمته ... فيما بقي وغنى من غير إمساك
عليك من ربك الله الصلاة كما ... منا عليك السلام الطيب الزاكي وعمل على هذه القصيدة كراريس وسماها " عجالة الراكب " (2) .
__________
(1) ص: أوزار أثقالي، ورجح في الحاشية ما أثبته، وكذلك هو في الوافي، وعند الزركشي كما في ص.
(2) قال الصفدي: وعمل على هذه القصيدة - فيما أظن - أو على قصيدة ميمية، أو عليهما كراريس ... الخ؛ والمؤلف يسقط ما يورده الصفدي من ظن أو ترجيح، في هذه الترجمة.(4/10)
ومن شعره:
يا سائق الظعن قف بي هذه الكثب ... عساي أقضي بها ما للهوى يجب
فثم حي حياتي في خيامهم ... فالموت إن بعدوا والعيش إن قربوا
لي فيهم قمر في القلب منزله ... لكن طرفي له بالعبد يرتقب
لدن القوام رشيق القد ذو هيف ... شطر ثاني
شطر أول ... تغار من لينه الأغصان والقضب
حلو المقبل معسول مراشفه ... يجول فيها رضاب طعمه الضرب
لا غرو إن راح نشواناً (1) ففي فمه ... خمر ودر ثناياه لها حبب
ولائم لامني في البعد عنه وفي ... قلبي من الشوق نيران لها لهب
فقلت إن صروف الدهر تصرفني ... عما أروم فمالي في النوى سبب
ومذ رماني زماني بالبعاد ولم ... يرحم خضوعي ولما يبق لي نشب ولما توفي إلى رحمة تاريخ رثاه الشيخ جمال الدين ابن نباتة بقصيدة أولها (2) :
بلغا القاصدين أن الليالي ... قبضت جملة العلا بالكمال
وقفا في مدارس العقل والنق؟ ... ل ونوحاً معي على الأطلال
سائلها عسى يجيب صداها ... أين ولي مجيب أهل السؤال
أين ولي بحر العلوم وأبقى ... بين أجفاننا الدموع لآلي
أين ذاك الذهن الذي قد ورثنا ... عنه ما في الحشا من الاشتعال (3)
أين تلك الأقلام يوم انتصار ... كعوالي الرماح يوم النزال
ينقل الناس عن حديث هداها ... طرق العلم عن متون العوالي
وتفيد الجنى من اللفظ حلواً ... حين كانت نوعاً من العسال
__________
(1) ص: نشوان.
(2) ديوان ابن نباتة: 405.
(3) ص: الاشتغال.(4/11)
(1) 489
المنصور صاحب حماة
محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب، السلطان الملك المنصور ابن الملك المظفر تقي الدين ابن الأمير نور الدولة، صاحب حماة وابن صاحبها؛ سمع الحديث بالإسكندرية من السلفي، وكان شجاعاً، يحب العلماء، وجمع تاريخاً على السنين في عدة مجلدات، فيه فوائد.
قال شهاب الدين القوصي: قرأت عليه قطعة من كتابه " مضمار الحقائق وسر الخلائق " (2) وهو كبير نفيس يدل على فضله، لم يسبق إلى مثله وله كتاب " طبقات الشعراء " (3) يكون في عشر مجلدات، وجمع من الكتب ما لا مزيد عليه، وكان في خدمته ما يناهز مائتي متعمم من الفقهاء والأدباء والنحاة والمشتغلين بالحكمة والمنجمين والكتاب. وأقامت دولته ثلاثين سنة؛ وتوفي سنة " سبع " (4) عشرة وستمائة، رحمه الله.
ومن شعره:
سحا الدموع فإن القوم قد بانوا ... وأقفر الصبر لما أقفر البان
وأسعداني بدمع بعد بينهم ... فالشان لما نأوا عني له شان
__________
(1) الوافي 4: 259 والزركشي: 304 والسلوك 1: 205 وابن الشعار 6: 301 وتاريخ أبي الفدا 3: 125 والنجوم الزاهرة 6: 250 وذيل الروضتين: 124 والشذارت5: 77 وعبر الذهبي 5: 71؛ والترجمة مستوفاة في المطبوعة.
(2) نشرت قطعة من هذا الكتاب بتحقيق الدكتور حسن حبشي (القاهرة: 1968)
(3) اسمه ((أخبار الملوك ونزهة المالك والمملوك في طبقات الشعراء المتقدمين من الجاهلية والمخرمين والإسلاميين والمحدثين ... )) (ومنه نسخة بمكتبة ليدن رقم 639. Or)
(4) زيادة من الوافي؛ وفي الزركشي ((توفي سنة عشرة وستمائة)) كما هو في ص.(4/12)
لا تبعثوا في نسيم الريح نشركم ... فإنني من نسيم الريح غيران
سقاهم الغيث من قبلي كاظمة ... سحاً وروى ثراهم أينما كانوا وقال:
ادعني باسمها فإني مجيب ... وادر أني مما تحب قريب
حكم الحب أن أذل لديها ... نخوة الملك، والغرام عجيب وقال:
أربي راح وريحا ... ن ومحبوب وشادي
والذي ساق لي المل ... ك له دفع الأعادي 490 (1)
الشيخ صدر الدين ابن الوكيل
محمد بن عمر بن مكي بن عبد الصمد، الشيخ الإمام العالم العلامة ذو الفنون، البارع صدر الدين ابن المرحل، ويعرف في الشام بابن الوكيل (2) ، المصري الأصل العثماني الشافعي، أحد الأعلام وفريد أعاجيب الزمان في الذكاء والحافظة والذاكرة؛ ولد في شوال سنة خمس وستين بدمياط، وتوفي بالقاهرة سنة ست عشرة (3) وسبعمائة. رثاه جماعة من شعراء مصر
__________
(1) الوافي 4: 264 والبدر السافر: 142 وطبقات السبكي 6: 23 والدرر الكامنة 4: 234 والأسنوي 2: 459 والبداية والنهاية 14: 80 والنجوم الزاهرة 9: 233 والدارس 1: 27 والزركشي: 304 والشذرات 6: 40 وذيل العبر: 90 والسلوك 1: 167 ودول الإسلام 2: 170؛ وأكثر هذه الترجمة ورد في المطبوعة
(2) يعني ابن وكيل بيت المال.
(3) ص: عشر.(4/13)
والشام وحصل التأسف عليه، وقال الشيخ تقي الدين ابن تيمية لما بلغه وفاته: أحسن الله عزاء المسلمين فيك يا صدر الدين.
نشأ بدمشق وتفقه بوالده وبالشيخ شرف الدين المقدسي. وأخذ الأصول عن صفي الدين الهندي وسمع من القاسم الإربلي والمسلم بن علان وجماعة، وكان له عدة محفوظات، قيل إنه حفظ " المفصل " في مائة يوم ويوم، و " المقامات الحريرية " في خمسين يوماً، و " ديوان المتنبي " على ما قيل في جمعة واحدة، وكان من أذكياء زمانه، فصيحاً مناظراً، لم يكن أحد من الشافعية يقوم بمناظرة الشيخ تقي الدين ابن تيمية غيره، وتخرج به الأصحاب والطلبة، وكان بارعاً في العقليات. وأما الفقه وأصول الفقه فكانا قد بقيا له طباعاً لا يتكلفهما.
أفتى (1) ودرس وبعد صيته؛ ولي مشيخة دار الحديث الأشرفية سبع سنين وجرت له أمور وتنقلات، وكان مع اشتغاله يتنزه ويعاشر، ونادم الأفرم نائب دمشق، ثم توجه إلى مصر وأقام بها إلى أن عاد السلطان من الكرك سنة تسع وسبعمائة، فجاء بعد ما خلص من واقعة الجاشنكير، فإنه نسب إليه منها أشياء، وعزم الصاحب فخر الدين ابن الخليلي على القبض عليه تقرباً إلى خاطر السلطان، فلما أحس بذلك فر إلى السلطان على طريق البدرية ودخل على السلطان وهو بالرمل، فعفا عنه، وجاء إلى دمشق وتوجه إلى حلب وأقرأ بها ودرس وأقبل عليه الحلبيون إقبالاً زائداً، وعاشرهم، وكان محظوظاً (2) ، لم يقع بينه وبين أحد من الكبار إلا وعاد من أحب الناس فيه.
وكان حسن الشكل تام الخلق حسن البزة حلو المجالسة طيب المفاكهة، وعنده كرم مفرط، كل ما يحصل له ينفقه بنفس متسعة ملوكية، وكان يتردد إلى الصلحاء ويلتمس دعاءهم ويطلب بركتهم.
__________
(1) قال في البدر السافر: ((أفتى وهو ابن اثنتين وعشرين سنة)) .
(2) الوافي والزركشي: محفوظاً.(4/14)
قيل (1) إنه وقف له فقير - وكانت ليلة عيد - وقال له: شي لله، فالتفت إلى غلامه، وقال: إيش معك؟ قال: مائتا درهم، قال: ادفعها إلى هذا الفقير، فقال له: يا سيدي الليلة العيد وما معنا شي ننفقه غداً، فقال: امضي إلى القاضي كريم الدين وقول له: الشيخ يهنيك بالعيد، فلما راى كريم الدين غلام الشيخ قال: كأن الشيخ يعوز نفقة في هذا العيد، ودفع له ألفين درهم وثلثمائة للغلام، فلما حضر إلى الشيخ قال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحسنة بعشرة، مائتان بألفين.
وكان له مكارم كثيرة ولطفاً زايداً (2) وحسن عشرة؛ وأما أوائل عشرته فما كان لها نظير، لكنه ريما يحصل عنده ملل في آخر الحال، حتى قال فيه القائل:
وداد ابن الوكيل له شبيه ... بلبادين جلق في المسالك
فأوله حلي ثم طيب ... وأخره زجاج مع لوالك (3) وشعره مليح إلى الغاية، وكان ينظم الشعر والموشح والذوبيت والمخمس والزجل والبليق؛ ومن تصانيفه ما جمعه في سفينة وسماه " الأشباه والنظائر "، يقال إنه شيء غريب، وعمل مجلدة في السؤال الذي حضر من عند أسندمر نائب طرابلس في الفرق بين الملك والنبي والشهيد والولي والعالم.
ومن شعره قصيدة بائية أولها:
ليذهبوا في ملامي أية ذهبوا ... في الخمر (4) لا فضة تبقى ولا ذهب
لا تأسفن على مال تمزقه ... أيدي سقاة الطلا والخرد العرب
__________
(1) أبقيت هذه الحكاية على حالها، وفيها صورة من اللهجة الدارجة حينئذ؛ وقارن بما في الوافي.
(2) كذا ظن.
(3) اللوالك: جمع لالكة، وهي نوع من النعال.
(4) ص: فالخمر؛ وأثبت ما في الحاشية ترجيحاً، وهو كذلك عند الصفدي.(4/15)
فما كسوا راحتي من راحها حللاً ... إلا وعروا فؤادي الهم واستلبوا
راح بها راحتي في راحتي حصلت ... فتم عجبي بها وازداد لي العجب
إذ ينبع الدر من حلو مذاقته ... والتبر منسبك في الكأس منسكب
وليست الكيميا في غيرها وجدت ... وكل ما قيل في أبوابها كذب
قيراط خمر على القنطار من حزن ... يعود في الحال أفراحاً وينقلب
عناصر أربع في الكأس قد جمعت ... وفوقها الفلك السيار والشهب
ماء ونار هواء أرضها قدح ... وطوقها فلك والأنجم الحبب
ما الكأس عندي بأطراف الأنامل بل ... بالخمس تقبض لا يحلو لها الهرب
شججت بالماء منها الرأس موضحة ... فحين أعقلها بالخمس لا عجب
وما تركت بها الخمس التي وجبت ... وإن رأوا تركها من بعض ما يجب
ولن أقطب وجهاً حين تبسم لي ... فعند بسط الموالي يحسن (1) الأدب
عاطيتها من بنات الترك عاطية ... لحاظها للأسود الغلب قد غلبوا
هيفاء جارية للراح ساقية ... من فوق ساقية تجري وتنسرب2 شطر ثاني
من وجهها وتثنيها وقامتها ... تخشى الأهلة والقضبان والقضب
يا قلب أردافها مهما مررت بها ... قف بي عليها وقل لي هذه الكثب
وإن مررت بشعر فوق قامتها ... بالله قلي لي كيف البان والعذب
تريك وجنتها ما في زجاجتها ... لكن مذاقته للريق تنتسب
تحكي الثنايا الذي أبدته من حبب ... " لقد حكيت ولكن قاتك الشنب " (3) وقال أيضاً:
وعارض قد لام في عارض ... وطاعن يطعن في سنه
__________
(1) الوافي: يحفظ.
(3) مضمن من قول الخيمي، وصدره: ((يا بارقاً بأعالي الرقمتين بدا)) .(4/16)
وقال لي قد طلعت ذقنه (1) ... فقلت لا أفكر في ذقنه وقال وهو في غاية الحسن:
شب وحدي بشائب ... من سنا البدر أوجه
كلما شاب ينحني ... بيض الله وجهه وقال أيضاً:
ولما جلا فصل الخريف (2) محاسناً ... وصف ماء النهر إذ غرد القمري
أتاه النسيم الرطب رقص دوحه ... فنقط وجه الماء بالذهب المصري وقال أيضاً:
عيرتني بالسقم طرفك مشبهي ... وتحول جسمي مثل خصرك ناحلا (3)
وأراك تشمت إذ أتيتك سائلاً ... لا بد أن يأتي عذارك سائلا وقال في مليح به يرقان:
رأيت في طرفه اصفراراً ... سبا فؤادي فقلت مهلا
أيا مليك الأنام حسناً ... العفو من سيفك المحلى وهذا يشبه قول الوداعي (4) :
قال قوم قد شانه يرقان ... قلت أخطأتم وحاشا وكلا
إنما الخد واللواحظ منه ... مصحف مذهب وسيف محلى وقال أيضاً (5) :
__________
(1) ص: دقنه.
(2) الوافي: الربيع.
(3) الوافي: وكذاك خصرك مثل جسمي ناحلا.
(4) هذا البيتان تأخرا عن موضعهما في المطبوعة.
(5) لم يرد البيتان التاليان في المطبوعة.(4/17)
أقصى مناي أن أمر على الحمى ... ويلوح نور رياضه ويفوح
حتى أري سحب الحمى كيف البكا ... وأعلم الورقاء كيف تنوح وقال أيضاً:
بعيشك خل عاذلتي تلمني ... ومنها في ملامتها ومني
فإن نجحت فلا نجحت طريقي ... وأدركت المنية لا التمني
وإن خابت فلا خابت طريقي ... وإن كان الهو ثانيه عني
فيا غصن النقا ويجل قدراً ... قوامك ان أشبهه بغصن
لحاظك بالمها فتكت عناداً ... ولا تسأل عن الظبي الأغن
وعطفك قد كسا الأغصان وجداً ... فمالت بالهوى لا بالتثني
ورقت ورقها فبكت عليها ... وفي الأفنان أبدت كل فن
وقد طارحتها شجناً فلما ... بكيت صبابة أخذت تغني وقال أيضاً في مليح اسمه خليل:
تلك المعاطف أم غصون البان ... لعبت ذوائبها على الكثبان
وتضرحت تلك الحدود فوردها ... قد شق قلب شقائق النعمان
ما يفعل الموت المبرح في الورى ... ما تفعل الأحداق في الأبدان
أخليل قلبي وهو يوسف عصره ... قلبي الكليم رميت في النيران
قطعته مذ كان قلباً طائراً ... ودعوته فأتى بغير توان
يا نور عيني لا أراك وهكذا ... إنسان عيني لا يراه عياني وقال أيضاً:
أخفيت حبك عن جميع جوانحي ... فوشت عيوني والوشاة عيون
ووددت أن جوانحي وجوارحي ... مقل تراك وما لهن جفون
وودت دمع الخافقين لمقلتي ... حتى عزيز الدمع فيك يهون
يا ليت قيساً في زمان صبابتي ... حتى أريه العشق كيف يكون(4/18)
وقال أيضاً في مليح يلقب بالحامض:
وبديع الجمال معتدل القا ... مة كالغصن والقنا الأملود
لقبوه بحامض وهو حلو ... قول من لم يصل إلى العنقود وقال:
يا وجنة هي جنة قد زخرفت ... ورداً ومن آس العذار تخضرت
عين بنور جمال وجهك متعت ... وسوى جمالك أبصرت، لا أبصرت وقال ذوبيت (1) :
يا غاية منيتي ويا معشوقي ... من بعدك لم أمل إلى مخلوق
يا خير نديم كان لي يؤنسني ... من بعدك صلبت على الراووق وقال أيضاً:
في خدك خط مشرف الصدغ سطور ... والشاهد ناظر على الفتك يدور
يا عارضه بالشرع لا تقتلني ... الشاهد فاتك وذا خطك زور وقال:
تغنت في ذرى الأوراق ورق ... ففي الأفنان من طرب فنون
وكم بسمت ثغور الزهر عجباً ... وبالأكمام كم رقصت غصون وقال أيضاً:
وبي من قسا ولان معاطفاً ... إذا قلت أدناني بضاعف تبعيدي
أقر برق إذا أقول أنا له ... وكم قالها أيضاً ولكن لتهديدي وقال:
إذا قلت ثغرك صن باللثام ... يقول: سيحيميه صارم جفني
__________
(1) لم يرد هذا الدوبيت في المطبوعة.(4/19)
وإن قلت قد صار من فتكه ... كليلاً يقول عذاري مسني وقال ذوبيت:
كم قال معاطفي حكتها الأسل ... والبيض سرقن ما حوته المقل
الآن أوامري عليهم حكمت ... البيض تحد والقنا تعتقل وقال:
عانقت وبالعناق يشفى الوجد ... حتى شفي الصب ومات الضد (1)
من أخمصه لثماً إلى وجنته ... حتى اشتكت القضب وضج الورد وقال موضح يعارض به السراج المحار:
ما أخجل قده غصون البان ... بين الورق
إلا سلب المها مع الغزلان ... حسن الحداق قاسوا غلطاً من حاز حسن البشر ... بالبدر يلوح في دياجي الشعر ... لا كيد ولا كرامة للقمر ...
الحب جماله مدى الأزمان ... معناه بقي
وازداد سناً وخص بالنقصان ... بدر الأفق الصحة والسقام في مقلته ... والجنة والجحيم في وجنته ... من شاهد يقول من دهشته ...
هذا وأبيك فر من رضوان ... شطر تحت الغسق
للأرض يعيذه من الشيطان ... رب الفلق
قد أنتبه الله ... نباتاً حسناً
__________
(1) الوافي: الصد.(4/20)
وازداد على المدى بهاء وسنا ... من جاد له بروحه ما غبنا ... قد زين حسنه مع الإحسان حسن الخلق ... لو رمت لحسنه شبيهاً (1) ثاني لم يتفق ... في نرجس لحظه وزهر الثغر ... روض نضر قطافه بالنظر ... قد دبج خده بنبت الشعر ... كالورد حواه ناعم الريحان بالطل سقي ... والقد يميل ميلة الأغصان للمعتنق ... أحيا وأموت في هواه كمدا ... من مات جوى في حب قد سعدا ... يا عاذل لا أترك وجدي أبدا ... لا تعذلني فكلما تلحاني زادت حرقي ... يستأهل من يهم (2) بالسلوان ضرب العنق ... القد وطرفه قناة وحسام ... والحاجب واللحاظ قوس وسهام ... والثغر مع الرضاب كأس ومدام ... والدر منظم مع المرجان في فيه نقي ... قد رصع فوقه عقيق قان نظم النسق ... وأما موشحة السراج المحار فهي:
مذ شمت سنا الروق من نعمان ... باتت حدقي
__________
(1) ص: شبيه.
(2) ص: يهيم.(4/21)
تذكي بمسيل دمعها الهتان ... نار الحرق ما أومض بارق الحمى أو خفقا ... إلا وأجد لي الأسى والحرقا ... هذا سبب لمحنتي قد خلقا ...
أمسي لوميضه بقلب عاني ... بادي القلق
لا أعلم في الظلام ما يغشاني ... غير الأرق أضني جسدي فراق إلف نزحا ... أفنى جلدي دمع عيني نزحا ... كم صحت وزند لوعتي قد قدحا ...
لم تبق يد السقام من جثماني ... غير الرمق
ما أصنع والسلو مني فاني ... والوجد بقي أهوى قمراً حلو مذاق القبل ... لم يكحل طرفه بغير الكحل ... تركي اللحظات بابلي المقل ...
زاهي الوجنات زائد الإحسان ... حلو الخلق
عذب الرشفات ساحر الأجفان ... ساجي الحدق ما حط لثامه وأرخى شعره ... أو هز معاطفاً رشاقاً نضره ... إلا ويقول كل راء نظره ...
هذا قمر بدا بلا نقصان ... تحت الغسق
أو شمس ضحى في غصن فينان ... غض الورق ما أبدع معنى لاح في صورته ... إيناع عذاره على وجنته ...(4/22)
لما سقي الحياة من ريقته ...
فاعجب لنبات خده الريحاني ... من حيث سقي
يضحي ويبيت وهو في النيران ... لم يحترق والسراج المحار عارض بهذا موشح أحمد الموصلي، وهو:
مذ غردت الورق على الأغصان ... بين الورق
أجرت دمعي وفي فؤادي العاني ... أذكت حرقي لما برزت في الدوح تشدو وتنوح ... أضحى دمعي بساحة السفح سفوح ... والفكر نديمي في غبوق وصبوح ...
قد هيجت الذي به أضناني ... منه قلقي
والقلب له من بعد صبري الفاني ... الوجد بقي ما لاح بريق رامة أو لمعا ... إلا وسحاب عبرتي قد همعا ... والجسم على المزمع هجري مزمعا ...
بالنازح والنازح عن أوطاني ... ضاقت طرقي
ما أصنع قد حملت من أحزاني ... ما لم أطق قلبي لهوى ساكنه قد خفقا ... والوجد حبيس واصطباري طلقا ... والصامت من سري بدمعي نطقا ...
في عشق منعم من الولدان ... أصبحت شقي
من جفوته، ولم يزر أجفاني ... غير الأرق فالورد مع الشقيق من خديه ...(4/23)
قد صانهما النرجس من عينيه ... والآس هو السياج من صدغيه ...
واللفظ وريق الأغيد الروحاني ... عند الحدق
حلوان على غصن من المران ... غض رشق الصاد من المقلة من حققه ... والنون من الحاجب من عرقه ... واللام من العارض من علقه ...
قد سطره بالقلم الريحاني ... رب الفلق
بالمسك على الكافور كالعنوان ... فوق الورق ما أبدع وضع الخال في وجنته ... خط الشكل الرفيع من نقطته ... قد حير إقليدس في هيئته ...
كالعنبر في نار الأسيل القاني ... للمنتشق
فاعجب لعبير وهو في النيران ... لم يحترق ومن موشحات الشيخ صدر الدين قوله:
صاح صاح الهزار ... قم نحث الكووس
قد تجلى النهار ... فاجل بنت القوس
ما علينا جناح ... إن فصل المصيف
قد تولى وراح ... وتولى الخريف
قم فذات الجناح ... ذات رمز لطيف
في اقتلاع الوقار ... من طروس الضروس
وانتهاب العقار ... وسرور النفوس(4/24)
زوج الما براح ... يا شبيه القمر
والشهود الملاح ... والولي المطر
والمغاني الفصاح ... ساكنات الشجر
وهي بكر تدار ... والسقاة الشموس
والحباب النثار ... فوق وجه العروس
إن عيشي الرغيد ... حين ألقى الصديق
وعذار جديد ... وسلاف عتيق
ثم ألقى شهيد ... بسيوف الرحيق
كم كذا ذا الفشار ... وخيوط الرؤوس
طاح عمري وطار ... في سماع الدروس وكان الشيخ صدر الدين عارفاً بالطب علماً لا علاجاً، فاتفق أن شكا إليه الأفرم سوء هضم، فركب له سفوفاً وأحضره، فلما استعمله أفرط في الإسهال (1) جداً، فأمسكه ممالكيه ليقتلوه، وأحضروا أمين الدين الحكيم لمعالجة الأفرم، فعالجه باستفراغ تلك المواد التي اندفعت وأعطاه أمراق الفراريج، ثم أعطاه الممسكات حتى صلح حاله، فلما صلحت حاله سأل الأفرم عن الشيخ صدر الدين فأخبروه المماليك ما فعلوا به، فأنكر ذلك عليهم ثم أحضره وقال له: يا صدر الدين، جيت تروحني غلطاً، فقال له سليمان الحكيم: يا صدر الدين اشتغل بفقهك ودع الطب، فغلط المفتي يستدرك وغلط الطبيب ما يستدرك، فقال الأفرم: صدق لك، لا تخاطر، ثم قال لمماليكه: مثل صدر الدين ما يتهم، والله الذي جرى عليه منكم أصعب مما جرى عليّ، وما أراد والله إلا الخير، ثم سير له
__________
(1) الوافي: أفرط به الإسهال.(4/25)
جملة دراهم وقماش.
ولما أنكر البكري استعارة البسط والقناديل من الجامع العمري بمصر لبعض كنائس القبط في بعض مهماتهم، ونسب هذه الفعلة إلى كريم الدين، فطلع البكري إلى حضرة السلطان وكلمه في ذلك وأغلظ له في القول، وكاد يجوز ذلك على السلطان لو لم يحل بعض القضاة الحاضرين على البكري، وقال: ما قصر الشيخ، كالمستهزيء به، فحينئذ أغلظ السلطان له وأمر بقطع لسانه، فأتى الخبر إلى الشيخ صدر الدين وهو في زاوية السعودي، فطلع إلى القلع على حمار فاره اكتراه للسرعة، فرأى البكري وقد أخذ ليمضي فيه ما أمر، فلم يملك دموعه أن تساقطت على خده، واستمهل الشرطة، ثم صعد الأيوان والسلطان جالس به، وتقدم إلى السلطان من غير استئذان وهو باك، فقال له السلطان: خير يا صدر الدين فزاد بكاؤه ونحيبه ولم يقدر على مجاوبة السلطان، فلم يزل السلطان يرفق به ويقول له: خير، ما بك؟ إلى أن قدر على الكلام، فقال له: هذا البكري من العلماء الصلحاء، وما أنكر إلا في موضع الإنكار، ولكنه لم يحسن التلطف، فقال له السلطان: إي والله أنا أعرف أنه حطبة، وانفتح الكلام، ولم يزل الشيخ صدر الدين يرفق بالسلطان ويلاطفه حتى قال: خذه وروح وانصرف، هذا كله جرى والقضاة حضور وأمراء الدولة ملء الإيوان، وما فيهم من أعانه.
وكان إذا فرغ مما هو فيه مع أصحابه وعشراه قام وتوضأ وصلى ومرغ وجهه على التراب وبكى حتى يبل ذقنه بالدموع، ويستغفر الله تعالى ويسأله التوبة، رحمه الله تعالى.(4/26)
(1) 491
ابن اللبانة
محمد بن عيسى بن مح، أبو بكر اللخمي الأندلسي، الشاعر المشهور بابن اللبانة، وله كتاب " مناقل الفتنة " و " نظم السلوك في وعظ الملوك " و " سقيط الدرر ولقيط الزهر " في شعر بني عباد، وتوفي بميورقة في سنة سبع وخمسمائة. من شعره:
هلا ثناك علي قلب مشفق ... لترى فراشاً في فراش يحرق
أصبحت كالرمق الذي لا يرتجي ... وبقيت كالنفس الذي لا يلحق
وغرقت في دمعي عليك وعمني ... طوف فهل سبب به أتعلق
أو خدعة بتحية مقبولة ... في جنب موعدك الذي لا يصدق
أنت المنية والمنى، فيك استوى ... ظل الغمامة والهجير المحرق
لك قد ذابلة الوشيج ولونها ... لكن سنانك أكحل لا أزرق
ويقال إنك أيكة حتى إذا ... غنيت قيل هو الحمام الأورق
لو في يدي سحر وعندي نفثة ... لجعلت قلبك بعض يوم يعشق
لتذوق ما قد ذقت من ألم الهوى ... وترق لي مما تراه وتشفق وقال أيضاً يمدح المعتمد بن عابد:
بكت عند توديعي فما علم الركب ... أذاك سقيط الطل أم لؤلؤ رطب
__________
(1) الوافي 4: 297 والزركشي: 306 وقلائد العقيان: 245 وبغية الملتمس رقم: 213 والذخيرة (القسم الثالث: 209) والمغرب 2: 409 والمعجب: 208 والمطرب: 178 والتكملة: 410 والخريدة (قسم المغرب والأندلس) 2: 107 (ط. تونس) والمسالك 11: 270 وله موشحات في صفحات متفرقة من نفح الطيب ودار الطراز وجيش التوشيح؛ وهذه الترجمة مستوفاة في المطبوعة.(4/27)
وتابعها سرب وإني لمخطيء ... نجوم الدياجي لا يقال لها سرب
لئن وقفت شمس النهار ليوشع ... لقد وقفت شمس الهوى لي والشهب
هفا بين عصف الريح والموج مثلما ... هفا بين أضلاعي يكوي به القلب
كأني قذى في مقلة وهو ناظر ... بها والمجاذيف التي حولها هدب منها في المديح:
حوى قصبات السبق (1) عفواً ولو سعى ... لها البرق خطفاً جاء من دونها يكبو
ويرتاح عند الجود (2) حتى كأنه ... وحاشاه نشوان يلذ له الشرب
سألت أخاه البحر عنه فقال لي ... شقيقي إلا أنه البارد العذب وقال موشح (3) :
في نرجس الأحداق ... وسوسن الأجياد
نبت الهوى مغروس ... بين القنا المياد
وفي نقا الكافور ... والمندل الرطب
والهودج المزرور ... بالوشي والعصب
قضب من البلور ... حمين بالقضب
نادى بها المهجور ... من شدة الحب
أذابت الأشواق ... روحي على أجساد
أعارها الطاووس ... من ريشه أبراد
كواعب أتراب ... تشابهت قداً
__________
(1) الوافي: السعي.
(2) الوافي: الحمد.
(3) هي الموشحة رقم: 41 في جيش التوشيح.(4/28)
عضت على العناب ... بالبرد الأندا (1)
أوصت بي الأوصاب ... وأغرت الوجدا
وأكثر الأحباب ... أعدى من الأعدا
تفتر عن أعلاق ... لآليء أفراد
فيه اللمى (2) محروس ... بألسن الأغماد
من جوهر الذكرى ... أعطى (3) نحور الحور
وقلد الدرا ... سلالة المنصور
جاوز به البحرا ... واخرق حجاب النور
وقال له شعرا ... بفضلك المشهور
جمعت في الآفاق ... تنافر الأضداد
فأنت ليث الخيس ... وأنت بدر الناد
خرجت مختالا ... أبغي سنا البرق (4)
أقطع أميالا ... غرباً إلى شرق
مؤملاً حالا ... يكون من وفقي
فقال من قالا ... وفاه بالصدق
دع قطعك الآفاق ... يا أيها المرتاد
واقصد إلى باديس ... خير بني عباد
يا من رجاله ثقات الظلا ... وأمل التعريس
__________
(1) ص: والاندا
(2) ص: اللقا.
(3) ص: عطل.
(4) جيش التوشيح: الرزق.(4/29)
إن شئت أن تحلى ... بطائل التأنيس
لا تعتمد إلا ... على علا باديس
من قومه أعلى ... قدراً من البرجيس
مواطن الأرزاق ... أولئك الأمجاد (1)
فاحطط رحال العيس ... وانفض بقايا الزاد وقال أيضاً:
شق النسيم كمامه ... عن زاهر يتبسم
فلا تطع لملامه ... واشرب على الزير والبم
حيا النسيم بمندل ... عن طيب زهر أنيق
ونرجس الروض تخجل ... منه خدود الشقيق
فانهض إلى الدن واقبل ... منه سؤال (2) الرحيق
وفض منه ختامه ... عن مثل مسك مختم
تكاد منه المدامه ... للشرب أن تتكلم
حاكت على النهر درعا ... ريح الصبا في الأصايل
وأسبل القطر دمعا ... على جيوب الخمايل (3)
فاسمع من العود سجعا ... تشق منه الغلايل
ما رنمته حمامه ... من فوق غصن منعم
ولا ادعته كرامه ... بنت الحسين بن مجذم (4)
__________
(1) جيش التوشيح: الأنجاد.
(2) الوافي: سوار.
(3) ص: الأصايل.
(4) الوافي: مخدم.(4/30)
أما علي فإني ... ممن سمعت بذكره
والود يشهد عني ... بما أبوح بفخر
وقد رأيت التمني ... يختال في ثوب بره (1)
في حلة من أسامه ... بظاهر الحسن معلم
متوج بالكرامه ... وبالسماح مختم
حيا النسيم تلمسان ... بواكف القطر هطال
فقد قضت كل إحسان ... بجودها بابن شملال
وقصرت كل إنسان ... ما حواه من إجلال
ندب يذل همامه ... ربيعة بن مكدم
وما حواه أسامه ... في عصره المتقدم
قد جاءك المتنبي ... يا سيف هذا الزمان
يختال في ثوب عجب ... بما حوى من معان
يشدو ارتجالاً فيسبي ... كل الوجوه الحسان
هذا المليح في العمامه ... لو أنه يتلثم
لقلت هذي غمامه ... غطت على قمر التم
__________
(1) الوافي: بشره.(4/31)
(1) 492
ماني الموسوس
محمد بن القاسم، أبو الحسن المعروف بماني الموسوس؛ من أهل مصر قدم بغداد أيام المتوكل، وكان من أظرف الناس وألطفهم. توفي سنة خمس وأربعين ومائتين.
ومن شعره:
زعموا أن من تشاغل بال؟ ... لذات عمن يحبه يتسلى
كذبوا والذي تقاد له البد ... ن ومن عاذ بالطواف وصلى
أن نار الهوى أحر من الجم؟ ... ر على قلب عاشق يتقلى وقال:
دعا طرفه طرفي فأقبل مسرعاً ... وأثر في خديه فاقتص من قلبي
شكوت إليه ما لقيت من الهوى ... فقال على رس فمت فما ذنبي وقال:
ذنبي إليه خضوعي حين أبصره ... وطول شوقي إليه حين أذكره
وما جرحت بدمع العين وجنته ... إلا ومن كبدي يقتص محجره
نفسي على بخله تفديه من قمر ... وإن رماني بذنب ليس يغفره
وعاذل باصطبار القلب يأمرني ... فقلت: من أين لي قلب فأهجره وذكر صاحب " الأغاني " أن محمد بن عبد الله بن اهر عزم على
__________
(1) الوافي 4: 346 وتاريخ بغداد 3: 169 والأغاني 23: 55 ومعجم المرزباني: 387 وطبقات ابن المعتز: 383 والزركشي: 307؛ وقد وردت هذه الترجمة مكتلمة في المطبوعة.(4/32)
الصبوح، وعنده الحسن بن محمد بن طالوت، فقال له محمد: نحتاج أن يكون معنا من نأنس به ونلتذ بمنادمته، فمن ترى أن يكون؟ فقال له ابن طالوت: قد خطر ببالي من ليس علينا بمنادمته ثقل، قد خلا من إبرام المجالسين، وبريء من ثقل المؤانسين، خفيف الوطأة إذا أدنتيه، سريع الوثبة إذا أمرته، قال: من هو؟ قال: ماني الموسوس، فتقدم إلى صاحب الشرطة بطلبه وإحضاره، فلم يكن بأسرع من أن قبض عليه ووافى به باب محمد، فلا مثل بين يديه وسلم رد عليه السلام وقال له: ما آن لك أن تزورنا مع شوقنا إليك؟ فقال له ماني: أز الله الأمير، الشوق شديد، والود عتيد، والحجاب صعب، ولو سهل لي الأذن لسهلت علي الزيارة، فقال له محمد: لقد لطفت في الاستئذان، وأمره بالجلوس فجلس، وكان قد أطعم قبل أن يدخل، وأدخل الحمام وأخذ من شعره وألبس ثيباً نظافاً وأتى محمد بن عبد الله بن طاهر بجارية كان يحب السماع منها، فكان أول ما غنته:
ولست بناس إذ غدوا وتحملوا ... دموعي على الخدين من شدة الوجد
وقولي وقد زالت بعيني حمولهم ... بواكر تحدى: لا يكن آخر العهد فقال ماني إيذن لي أيها الأمير، قال: في ماذا؟ قال: في استحسان ما اسمع، قال: نعم، قال: أحسنت فإن رأيت أن تزيدي في هذا الشعر هذين البيتين:
وقفت أناجي الربع والدمع حائر ... بمثلة موقوف عليه السلام الضر والجهد
ولم يعدني هذا الأمير بعدله ... على ظالم قد لج في الهجر والصد فقل له محمد: ومن أي شيء استعديت ياماني؟ قال: لا من ظلم أيها الأمير، ولكن تحرك شوق وكان ساكناً. ثم غنت:
حجبوها عن الرياح لأني ... قلت للريح بلغيها السلاما(4/33)
لو رضا بالحجاب هان ولكن ... منعوها يوم الرياح الكلام فطرب محمد وشرب، فقال ماني: أيها الأمير ما على قائل هذين البيتين لو أضاف إليهما:
فتنفست ثم قلت لطيفي ... ويك لو زرت طيفها إلماما
حيها بالسلام سراً وإلا ... منعوها لشقوتي أن تناما فقال محمد: أحسنت يا ماني. ثم غنت:
يا خليلي ساعة لا تريما ... وعلى ذي صبابة فأقيما
ما مرننا بدار زينب إلا ... فضح الدمع سرنا المكتوما فقال ماني: لولا هيبة الأمير لأضفت إلى هذين البيتين بيتين لا يردان على سمع ذي لب فيصدران إلا عليه السلام استحسان لهما، فقال له محمد: الرغبة في حسن ما تأتي به حائلة عن (1) كل رهبة، فهات ما عندك، فقال:
ظبية كالهلال لو تلحظ الصخ ... ر بطرف لغادرته هشيما
وإذا ما تبسمت خلت ما يب ... دو من الثغر لؤلؤاً منظوما وفي الخبر طول وهذا يكفي منه.
__________
(1) ص: على.(4/34)
493 - (1)
الملك الناصر
محمد بن قلاوون، السلطان الملك الناصر، ناصر الدين أبو الفتح محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاون؛ ولد الملك الناصر سنة أربع وثمانين وستمائة، وتوفي يوم الأربعاء تاسع عشر ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، ودفن بالمدرسة المنصورية بين القصرين، على والده؛ وكان ملكاً عظيماً دانت له البلاد وملك الأطراف بالطاعة.
لما قتل الأشرف خليل وقع الاتفاق أن يكون السلطان الملك الناصر أخوه هو السلطان، وزين الدين كتبغا هو النائب، والشجاعي وزير، واستقر الأمر على ذلك سنة، ثم تسلطن كتبغا (2) وتسمى بالعادل، وخطب له بمصر والشام وزينت له البلاد، ثم تسلطن لاجين وتسمى بالملك المنصور وقتل في سنة ثمان وتسعين، فحلفوا الأمراء للملك الناصر، وأحضروه من الكرك، وهذه سلطنته الثانية، وعمره يومئذ خمس عشرة سنة، فأقام إلى سنة ثمان وسبعمائة، وذهب إلى الكرك متبرماً من سلار والجاشنكير وحجرهم عليه ومنعهم له من التصرف، وأعرض عن مصر، فوثب الجاشنكير على السلطنة وتسلطن.
وفي سنة تسع وسبعمائة خرج السلطان من الكرك وطلب دمشق ودخل من باب السر إلى قلعة دمشق، وجاء الخبر بنزول الجاشنكير عن الملك
__________
(1) الوافي 4: 353 والدرر الكامنة 4: 161 والسلوك 2: 523 والشذرات 6: 134 والنجوم الزاهرة 8: 115 وتاريخ أبي الفدا 4: 30 والرد الفاخر في سيرة الملك الناصر (وهو ج: 9 من كنز الدرر) للدواداري؛ وقد جاءت هذه الترجمة مكتملة في المطبوعة
(2) حدث ذلك في 11 محرم سنة 694.(4/35)
وهروبه وهروب سلار، ورحل الملك الناصر طالب مصر فدخلها، فلا استقر بها - وهي سلطنته الثالثة - ومد السماط، قبض على اثنين وثلاثين أمير وأمر غيرهم، وصفا له الوقت إلى حين وفاته، رحمه الله تعالى.
494 - (1)
الحافظ ابن النجار
محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله بن محاسن، الحافظ الكبير محب الدين ابن النجار البغدادي صاحب التاريخ؛ ولد في ذي القعدة سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، سمع الحديث من ابن كليب وابن الجوزي وأصحاب ابن الحصين وجماعة. وله الرحلة الواسعة إلى الشام ومصر والحجاز وأصبهان وخراسان ومرو وهراة ونيسابور، وسمع الكثير وحصل الأصول والمسانيد، وصنف التاريخ الذي ذيل به على تاريخ الخطيب واستدرك فيه على الخطيب فجاء في ثلاثين مجلداً، دل على تبحره في هذا الشأن وسعة حفظه.
وكان إماماً ثقة حجة مقرئاً مجوداً (2) حسن المحاضرة كيساً متواضعاً، اشتملت مشيخته على ثلاثة (3) آلاف شيخ، ورحل سبعاً وعشرين سنة. يقال إنه حضر مع تاج الدين الكندي في مجلس المعظم عيسى أو الأشرف موسى لأنه ذكره وأثنى عليه، فقال له الأشرف: أحضره، فسأله السلطان عن وفاة الشافعي
__________
(1) الوافي 5: 9 وطبقات الشافعية 5: 41 والبدر السافر: 166 والشذرات 5: 226 والحوادث الجامعة: 205 وتذكرة الحفاظ: 1428 والأسنوي 2: 502 ومعجم الأدباء 19: 49 ومرآة الجنان 4: 111 والبداية والنهاية 13: 169 وعبر الذهبي 5: 180، وكنيته أبو عبد الله؛ ولم تخل المطبوعة بشيء من هذه الترجمة.
(2) ص: موجودااً.
(3) ص: ثلث.(4/36)
ومتى كانت، فبهت، وهذا من التعجيز لمثل هذا الحافظ الكبير القدر، فسبحان من له الكمال.
وله كتاب " القمر المنير في المسند الكبير " ذكر كل صحابي وما له من الحديث، وله كتاب " كنز الإمام في معرفة السنن والأحكام " و " المختلف والمؤتلف " ذيل به على ابن ماكولا، و " المتفق والمفترق " و " نسب المحدثين على الآباء والبلدان ". " كتاب عواليه ". " كتاب معجمه ". " جنة الناظرين في معرفة التابعين ". " الكمال في معرفة الرجال ". " العقد الفائق في (1) عيون أخبار الدنيا ومحاسن تواريخ الخلائق ". " الدرة الثمينة في أخبار المدينة ". " نزهة الورى في أخبار أم القرى ". " روضة الأوليا في مسجد إيليا ". " الأزهار في أنواع الأشعار ". " سلوة الوحيد ". " غرر الفوائد " ست مجدلدات. " مناقب الشافعي ". ووقف كتبه بالنظامية (2) ، و " الزهر (3) في محاسن أهل العصر ". كتاب نحا فيه نحو " نشوار المحاضرة " مما التقطه من أفواه الرجال. " نزهة الطرف في أخبار أهل الظرف ".
" أخبار المشتاق إلى أخبار العشاق ". " الشافي " في الطب.
قال ياقوت في " معجم الأدباء ": أنشدني لنفسه:
وقائل قال يوم العيد لي ورأى ... تململي ودموع العين تنهمر
مالي أراك حزيناً باكياً أسفاً ... كأن قلبك فيه النار تستعر
فقلت إني بعيد الدار عن وطني ... ومملق الكف والأحباب قد هجروا ونظر إلى غلام تركي حسن الصورة فرمد باقي يومه فقال:
وقائل قال قد نظرت إلى ... وجه مليح فاعتادك الرمد
فقلت إن الشمس المنيرة قد ... يعشى بها الناظر الذي يقد
__________
(1) ص: القانوني.
(2) هذه العبارة في غير موضعها، وحقها أن تقع بعد الانتهاء من ذكر مؤلفاته كما أوردها الصفدي.
(3) الوافي: أنوار الزهر.(4/37)
495 - (1)
شمس الدين الأصفهاني
محمد بن محمود بن محمد بن عبد الكافي، العلامة شمس الدين الأصفهاني الأصولي؛ قدم الشام بعد الخمسين وستمائة، وناظر الفقهاء، واشتهرت فضيلته، وانتهت إليه الرياسة في معرفة الأصول، وشرح " المحصول " للإمام فخر الدين شرحاً كبيراً حافلاً، وصنف كتاب " القواعد " مشتملاً على أصول الدين والفقه والمنطق والخلاف، وهو أحسن تصانيفه، وله " غاية الطلب في المنطق " وله معرفة جيدة بالعربية والأدب والشعر، ولكنه كان قليل البضاعة في الفقه والسنة.
ولي قضاء منبج في أيام الناصر، ثم دخل مصر وولي قضاء قوص، ثم قضاء الكرك، ورجع إلى مصر وولي تدريس الصاحبية وتدريس مشهد الحسين، وأعاد وأفاد، ثم ولي تدريس الشافعي، وتخرج به خلق ورحل إليه الطلبة؛ كتب عنه علم الدين البرزالي وغيره.
مولده بأصبهان سنة ست عشرة، وتوفي سنة ثمان وثمانين وستمائة.
__________
(1) الوافي 5: 12 وطبقات السبكي 5: 41 والشذرات 5: 406 والزركشي: 308 والأسنوي 1: 155 والبداية والنهاية: 13 ومرآة الجنان 4: 208 والنجوم الزاهرة 7: 382 وعبر الذهبي 5: 359؛ وقد جاءت هذه الترجمة كاملة في المطبوعة.(4/38)
496 - (1)
ابن المكرم
محمد بن مكرم - بتشديد الراء - ابن علي بن أحمد الأنصاري الرويفعي ثم المصري، القاضي جمال الدين ابن المكرم، من ولد رويفع بن ثابت الأنصاري؛ ولد أول سنة ثلاثين وستمائة، وكان فاضلاً، وعنده تشيع بلا رفض مات في شعبان سنة إحدى عشرة (2) وسبعائة، خدم في الإنشاء بمصر، ثم ولي نظر طرابلس، وكان كثير الحفظ (3) ، اختصر كتباً كثيرة، وله نظم ونثر، فمن شعره:
ضع كتابي إذا أتاك إلى الأر ... ض وقلبه في يديك لماما
فعلى ختمه وفي جانبيه ... قبل قد وضعتهن (4) تؤاما
كان قصدي بها مباشرة الأر ... ض وكفيك بالتثامي إذا ما وقال:
الناس قد أثموا فينا بظنهم ... وصدقوا بالذي أدري وتدرينا
ماذا يضرك في تصديق قولهم ... بأن نحقق ما فينا يظنونا
حملي وحملك ذنباً واحداً ثقة ... بالعفو أجمل من إثم الورى فينا وقال:
توهم فينا الناس أمراً وصممت ... على ذاك منهم أنفس وقلوب
__________
(1) الوافي 5: 54 ونكت الهميان: 275 والزركشي: 307 والشذرات 6: 26 والدرر الكامنة 5: 31 والبدر السافر: 167، وقد جاءت هذه الترجمة مستوفاة في المطبوعة.
(2) ص: عشر.
(3) ص: الحظ؛ وفي الوافي: وكان كثير النسخ، فلعل الصواب ((الخط)) .
(4) البدر السافر: بعثتهن.(4/39)
وظنوا وبعض الظن إثم وكلهم ... لأقواله فينا عليه ذنوب
تعالي نحقق ظنهم لنريحهم ... من الإثم فينا مرة ونتوب أخذه من قول القائل حيث يقول:
قم بنا تفديك نفسي ... نجعل الشك يقينا
فإلي كم يا حبيبي ... يأثم القائل فينا؟ وأخذه هذا من قول الأول:
ما أنس (1) لا أنس قولها بمنى ... ويحك إن الوشاة قد علموا
ونم واش بنا (2) فقلت لها ... هل لك يا هند في الذي زعموا
قالت لماذا ترى فقلت لها ... كيلا تضيع الظنون والتهم ومن شعر ابن المكرم (3) :
بالله إن جزت بوادي الأراك ... وقبلت أغصانه الخضر فاك
أبعث إلى المملوك من بعضه ... فإنني والله مالي سواك 497 (4)
ابن الدجاجية
محمد بن مكي بن محمد بن حسن بن عبد الله، القرشي الدمشقي العدل
__________
(1) ص: لا أنس.
(2) ص: بها.
(3) مر البيتان 3: 280 منسوبين لابن تمرداش.
(4) الوافي 5: 58 والزركشي: 308 والشذرات 5: 289 والنجوم الزاهرة 7: 71 والترجمة مستوفاة في المطبوعة.(4/40)
الأديب، بهاء الدين ابن الدجاجية، كان يجيد النظم، روى عنه الدمياطي، ومن شعره:
ما راح عندكم النسيم ولا غدا ... إلا ليأخذ عند عبدكم يدا
أحباب قلبي ذلك القلق الذي ... قد كاد يأخذني عليكم ما هدا
كدرتم بعد الصفا وغدرتم ... بعد الوفا وبخلتم بعد الجدا
وجعلتم الريان منزل حيكم ... ولكم محب مات فيه من الصدا وقال:
من أين لقدك ذا الهيف ... قد حار الواصف ما يصف
الرمح الأسمر يحسده ... والغصن الأخضر والألف
فتبارك من أنشاك لقد ... في الخلق تفاضلت النطف
يا أحسن بل يا أظرف من ... زينت بذؤابته الكتف
" وقاك الله تعالى العي ... ن وعن أعطافك تنصرف " (1)
كل الأقمار ببلدتنا ... بضياء جبينك قد خسفوا "
فاحكم فلأنت أميرهم ... فيهم فببابك قد وقفوا "
راقت أخلاقك للغربا ... ء فكيف بمن بك قد ألفوا
قسماً بهواك وما أحلى ... قسم العشاق إذا حلفوا
وبمن خاضوا غمرات منى ... وحصى الجمرات بها حذفوا
لا حلت عن الميثاق ولو ... أودى بحشاشتي التلف
يلحاني قوم ما فهموا ... ما شاني فيك ولا عرفوا وقال أيضاً:
إلى سلم الجرعاء أهدى سلامه ... فماذا على من قد لحاه ولامه
تجلد حتى لم يدع معظم الجوى ... لرائيه إلا جلده وعظامه
__________
(1) ما بين معقفين لم يرد في ص او الوافي، وهو ثابت في المطبوعة.(4/41)
وقال أيضاً:
غرته غرته لما سرى ... ظن بأن الصبح قد أسفرا
أقبل يسعى خفراً خائفا ... على ذمام الوعد أن يخفرا
يحق يا قوم لمن قده ال ... خطار أن لا يرهب الخطرا
ضممته إذ نام سماره ... كما يضم البطل الأسمرا
بتنا وما في ليلنا من كرى ... كأنما النوم غدا منكرا وقال ذوبيت:
ما عذر فتى ما مد للهو يدا ... والدوح قد اكتسى ثياباً جددا
مالت طرباً أغصانه راقصة ... لما صدح الطير عليها وشدا وكانت وفاته في شهور سنة سبع وخمسين وستمائة، رحمه الله تعالى.
498 - (1)
شرف الدين القدسي
محمد بن موسى الكاتب، شرف الدين القدسي؛ كان كاتب أمير سلاح ثم كتب الإنشاء بقلعة الجبل. كان حسن الأخلاق كريم العشرة محتملاً (2) ، فيه كرم وله خط حسن ونظم كثير ونثر.
قال أبو حيان: جالسته مراراً وكتبت عنه وقرأ علينا من نظمه، وخمس " شذور الذهب " تخميساً حسناً، أنشدني من لفظه:
__________
(1) الوافي 5: 93 والدرر الكامنة 5: 39 والشذرات 6: 32 والنجوم الزاهرة 9: 223 والزركشي: 309 والبدر السافر: 172؛ والترجمة ثابتة كلها في المطبوعة.
(2) ص: محتمل.(4/42)
تبسم فاستبكى ببارق ثغره ... سحائب جفن ما أحلت بعارض
مليح أصبناه بعين ونظرة ... فمن أجل هذا قد أصيب بعارض وقال أيضاً:
بي فرط ميل إلى الغزلان والغزل ... فكيف لا يقصر العذال عن عذلي
مالوا علي ولاموا في الهوى عبثاً ... من لم يمل سمعه مذ كان للملل
أضحى الغرام غريمي في هوى رشإ ... يغنيه عن كحله ما فيه من كحل
فالبدر من حسنه قد راح ذا كلف ... والورد من خده قد راح في خجل
تشاغل الناس في الأسمار بي وبه ... وإنني عن حديث الناس في شغل وقال أيضاً في مليح اسمه سالم:
وأهيف تهفو نحو بانة قده ... قلوب تبث الشجو فهي حمائم
عجبت له إذ دام توريد خده ... وما الورد في حال على الغصن دائم
وأعجب من ذا أن حية شعره ... تجول على أعطافه وهو سالم ومن شعره قصيدة بديعة البيت معناها (1) وهي:
ما ملت عنك لجفوة وملال ... يوماً، ولا خطر السلو ببالي
يا مانحاً جسمي السقام ومانعاً ... طرفي المنام وتاركي كالآل
عمن أخذت جواز (2) نعي ريقك ال؟ ... معسول يا ذا المعطف العسال
عن شعرك الفحام أم عن ثغرك ال؟ ... نظام أم عن طرفك الغزالي
فأجابني: أنا مالك أهل الهوى ... والحسن أضحى شافعي وجمالي
وشقائق النعمان أضحى نابتاً ... في وجنتي وحماه رشق نبالي
والصبر أجمل للمحب إذا ابتلي ... في الحب من محن الهوى بسؤال
وعلى أساري " الحب " (3) في سجن الهوى ... بين الملاح عرفت بالقفال
__________
(1) الوافي: والناس ينسبون إلى محيي الدين ابن عبد الظاهر.
(2) ص: جوار.
(3) زيادة من الوافي.(4/43)
وقتلت معتزلي في شرع الهوى ... وطرقت بالتنبيه عين السالي
وتفقه العشاق في فكل من ... نقل الصحيح أجزته بوصالي
والجوهري غدا بثغري ساكنا ... يحمي الصحاح بقدي الميال
وشهود حسني (1) لو نظرت إليهم ... بين الأنام عجبت من أفعالي
جرح البكاء عيونهم وقلوبهم ... وزكوا لقذف الدمع في الأطلال
والشاهد المجروح عندي صادق ... هل في قضاة العاشقين مثالي
وعلى رحيق الثغر صارم مقلتي ... وليته ولك ثغر والي
وعلى مقامات الغرام شواهد ... جسمي الحريري والبديع مقالي
ولبست من حلل الجمال مفصلاً ... حسن الملابس مذهب (2) الغزالي
ولحسني الكشاف في جمل الضيا ... لمعاً لإيضاح الفصيح مقالي
وأتى المطرز نحو خدي راقماً ... طرز العذار وحار في أشكالي
والواقدي بنار هجري والجفا ... وكلته فلكل سال صالي
وبلفظي الفراء يفري قلب من ... وافى يناظر ناظري بنصال
ومصارع العشاق بين خيامنا ... ومقاتل الفرسان يوم نزال
ورفضت يوم العاشقين فكل من ... ذكر الفراق فدمعه متوال
ولدي سلوان المطاع سفاهة ... لمتيم أوثقته بحبالي
وخصصت إخوان الصفا برسائلي ... ولهم صفا ودي وهم آمالي
والبيهقي بوجه كل معنف ... في موقف التوديع والترحال
وبوجهي النقاش راح مفسراً ... سور الملاحة من دليل دلالي
ورقيبي الكلبي قد أخسأته ... بوقوفه في باب ذل سؤال
ومجاهد أضحى علي مقاتلاً ... خوفاً من الرقباء والعذال " (3)
__________
(1) ص: حسي.
(2) الوافي: مدهش.
(3) ما بين معقفين زيادة من الوافي، لم يرد في ص وهو في المطبوعة.(4/44)
" وأبو نعيم منعم في حليتي ... إذ بات يمليها على النقال "
ومحاسني قوت القلوب كرما ... ومناقب الأبرار حسن فعالي
وبطلعتي (1) زاد المسير ومبسمي ال ... ضحاك والمنثور حسن لآلي "
وبخدي الزهري جنات المنى ... أضحى بها الثوري من عمالي
وبمنطقي قس الفصاحة واعظ ... في فترة الأجفان للضلال
وقميص حسني قد من قبل الهوى ... بيدي اليمين وتارة بشمالي
والثعلبي رأى الوجوه بجهده ... وحلا له في النقل وجه الحالي
وعلى أبي الجود استغلت ونافع ... علمي كثير عاصم متوالي " (2)
ولحسني الأنساب يرويها عن ال ... عدل الزكي بصحة النقال
فيراه للتمييز نصباً واجباً ... ورفعت عنه الهجر من أفعالي
ولي الخلافة في الملاح فلحظي الس ... فاح والمنصور في أقوالي
وعلى محلي بالجمال رواية ... في راية نشرت ليوم جدال
ومدينة العلم السخاوي أصبحت ... في راحتي فعرفت بالبذال
قال (3) الأوائل ما رأينا مثله ... غصن رطيب مثمر بهلال
قد عمه الحسن الغريب وخاله ... ما في البرية منه قلب خال
فوصلت عشاقي فلام معنفي ... فأجبته هذا الذي يبقى لي
القوم أبناء السبيل وعندنا ... تعطى زكاة الحسن كالأموال
قد طال ما نقلوا حديث محاسني ... فهم عدو لي صحة ورجالي
هذي القصيدة بالأئمة شرفت ... قدري وفقت بها على أمثالي
فكأنها العقد النظيم وهم بها ال ... در الثمين (4) مكللاً (5) بلآلي
__________
(1) الوافي: وتطلعي.
(2) لم يرد هذا البيت في ص والوافي، وإنما هو مما يثبت في المطبوعة.
(3) ص: قالوا.
(4) الوافي: الثمين ... النظيم.
(5) ص: فكلا.(4/45)
499 - (1)
أمير المؤمنين الأمين
محمد بن هارون، أمير المؤمنين الأمين ابن أمير المؤمنين الرشيد ابن المهدي؛ كان ولي العهد بعد أبيه، وكان من أحسن الشباب صورة، أبيض طويلاً ذا قوة مفرطة وبطش وشجاعة وفصاحة وأدب وبلاغة، ولكنه كان سيء الرأي، كثير التبذير أرعن؛ عاش سبعاً وعشرين سنة، وآخر أمره خلع ثم أسر، وقتل صبراً في المحرم سنة تسع وتسعين ومائة، وطيف برأسه، لأنه في سنة خمس وتسعين خلع أخاه (2) المأمون وعقد لعلي ابن عيسى بن ماهان على الجبال ونهاوند وقم وقاشان، وأمر له بمائتي دينار، وأعطى لجنده مالاً عظيماً، وفرق على أهل بغداد ثلاثة آلاف " ألف " (3) درهم، وسارت العساكر لملتقى المأمون وعليهما ابن ماهان، فلقيهم طاهر بن الحسين من قبل المأمون، وهو في أقل من أربعة آلاف فارس، فكسرهم وقتل ابن ماهان. ولما وصل الخبر إلى الأمين قال: دعوني فإن كوثر الخادم صاد سمكتين وأنا " ما صدت " سمكة (4) .
وقيل إن جيش ابن ماهان كان أربعين ألف فارس. وندم الأمين
__________
(1) الوافي 5: 135 وتاريخ بغداد 3: 336 ومعجم المرزباني: 362 والروحي: 49 وتاريخ الخميس 2: 333 وتاريخ الخلفاء: 296 والفخري: 161 وخلاصة الذهب المسبوك: 90 والمصادر التاريخية الكبرى: كالمسعودي واليعقوبي والطبري وابن الأثير وابن خلدون ... الخ؛ وقد وردت هذه الترجمة كاملة في المطبوعة.
(2) ص: أخيه.
(3) سقطت من ص.
(4) الوافي: وأنا إلى الآن ما صدت شيئاً.(4/46)
على خلع المأمون، ثم جهز عبد الرحمن بن جبلة الأنباري في أربعين ألف فارس، فسار إلى همذان فلقيه طاهر فقتله وكسر جيشه بعد حروب عظيمة، وسار طاهر وقد خلت البلاد وتقدم إلى الأهواز، ثم تقدم ونزل بباب الأنبار، ثم سار وأحاط بمدينة المنصور، فخرج الأمين في حراقة هارباً، فلما سمع طاهر بذلك خرج إليه ورماه بالنشاب فانكفأت الحراقة وغرق الأمين ومن كان معه، فسبح حتى صار إلى بستان موسى، فعرفه محمد ابن حميد، فصاح بأصحابه، ثم أخذ برجله، وحمل على برذون إلى بين يدي طاهر فأمر بقتله وقطع رأسه ونصبه على حائط بستان، ونودي عليه: هذا رأس محمد المخلوع، ثم بعث به وبالبردة والقضيب والمصلى مع ابن عمه محمد بن المصعب إلى المأمون، وقال: قد بعثت إليك بالدنيا وهو رأس محمد الأمين وبالآخرة وهي البردة والقضيب، فأمر المأمون لمحمد بن مصعب بألف ألف درهم، ولما رأى رأس الأمين سجد.
وكان قتله سنة تسع (1) وتسعين ومائة، وخلافته أربع سنين، وكان الرشيد يعرف بالفراسة ما يجري بن الأمين والمأمون، فكان ينشد:
محمد لا تبغض أخاك فإنه ... يعود عليك البغي إن كنت باغيا
فلا تعجلن فالدهر فيه كفاية ... إذا مال بالأقوام لم يبق باقيا وفي الأمين يقول أبو الهول الحميري:
ملك أبوه وأمه من نبعة ... منها سراج الأمة الوهاج
شربوا بمكة في ذرى بطحائها ... ماء النبوة ليس فيه مزاج يريد أن أباه وأمه من هاشم.
ومن شعر الأمين:
__________
(1) ص: سبع.(4/47)
ما يريد الناس من ص ... ب من يهوى كئيب
كوثر ديني ودنيا ... ي وسقمي وطبيبي
أحمق الناس الذي يل ... حى محباً (1) في حبيب 500 (2)
أمير المؤمنين المعتصم
محمد بن هارون، أبو إسحاق المعتصم بن الرشيد؛ ولد سنة ثمانين ومائة، وأمه أم ولد اسمها ماردة، بويع بعد المأمون بعهد منه إليه في رابع عشر رجب سنة ثمان عشرة ومائتين.
وكان أبيض أصهب اللحية طويلها ربع القامة، ذا شجاعة وقوة وهمة عالية؛ وكان يقال له " المثمن " لأنه ثامن خلفاء بني العباس، وملك ثمان سنين وثمانية أشهر، وفتح ثمانية (3) فتوح، وقتل ثمانية أعداء: بابك وباطيش ومازيار والأفشين وعجيف وقاروت (4) وقائد الرافضة ورئيس الزنادقة. وخلف من الذهب ثمانية آلاف ألف دينار، ومن الدراهم مثلها، ومن الخيل ثمانين ألف فرس. وثمانية آلاف ملوك، وثمانية آلاف جارية، وبني ثمانية قصور.
__________
(1) ص: محب.
(2) الوافي 5: 139 وتاريخ بغداد 3: 197 والبدء والتاريخ 6: 114 والفخري: 209 والروحي: 52 وتاريخ الخلفاء: 360 وخلاصة الذهب المسبوك: 221 والمصادر التاريخية الكبرى (انظر الترجمة السابقة) ؛ وهذه الترجمة كاملة في المطبوعة.
(3) ص: ثمان.
(4) الوافي: وقارون.(4/48)
وكان عرياً من العلم، كان معه ملوك يتعلم في الكتاب، فقال له أبوه: مات يا محمد غلامك، فقال: نعم واستراح من الكتاب، فقال له أبوه: إن كان الكتاب ليبلغ منك هذا، دعوه ولا تعلموه.
وغزا عمورية وفتحها وقتل ثلاثين ألفاً وسبى مثلهم. وكان من أهيب الخلفاء، وامتحن العلماء في القول بخلق القرآن.
وقال أحمد بن أبي دواد: كان المعتصم يخرج يده إلي ويقول عض ساعدي بأكبر قوتك، فأقول: ما تطيب نفسي، فيقول: إنه لا يضرني، فأروم ذلك فإذا هو لا تعمل فيه الأسنان. وقبض يوماً على جندي أخذ ابناً لامرأة فأمره برده فأبى، فقبض عليه فسمعت صوت عظامه، ثم أطلقه فسقط، وكان ذلك في حياة المأمون. وجعل زند رجل بين إصبعيه فكسره.
وكان موته في شهور سنة سبع وعشرين ومائتين، وصلى عليه ابنه الواثق.
ولكثرة عسكره وضيق بغداد عليه بني سامراً وانتقل إليها بعسكره، وذلك في سنة إحدى وعشرين ومائتين، وعلق له خمسون ألف مخلاة، ولما احتضر قال: ذهبت الحيلة، ولم يزل يكررها حتى صمت؛ رحمه الله تعالى.
ومن شعره ما أورده ابن المرزبان في " المعجم " (1) :
قرب النحام واعجل يا غلام ... واطرح السرج عليه واللجام
أعلم الأتراك أني خائض ... لجة الموت فمن شاء أقام وقال:
لم يزل بابك حتى ... صار للعالم عبره
__________
(1) انظر معجم المرزباني: 364 ويروى البيتان الأولان لغيره.(4/49)
ركب الفيل ومن ير ... كب فيلاً فهو شهره وقال في غلامه عجيب:
إني هويت عجيباً ... هوى أراه عجيبا
طبيب ما بي من الح؟ ... ب لا عدمت الطبيبا
الوجه منه كبدر ... والقد يحكي القضيبا 501 (1)
أمير المؤمنين المهتدي
محمد بن هارون أمير المؤمنين الخليفة الصالح المهتدي ابن الواثق المعتصم ابن الرشيد؛ ولد في خلافة جده سنة بضع (2) عشرة ومائتين، وبويع له بالخلافة وله بضع وثلاثون (3) سنة. وكان أسمر رقيقاً مليح الوجه، ورعاً متعبداً عادلاً قوياً في أمر الله، بطلاً شجاعاً، لكنه لم يجد ناصراً ولا معيناً على الخير.
وكان يلبس في الليل جبة صوف وكساء ويصلي فيهما، ويفطر في رمضان على خبز وملح وزيت وخل، ويقول: فكر بأنه كان في بني أمية عمر ابن عبد العزيز وكان من التقلل والتقشف على ما بلغنا فغرت على بني هاشم، وأخذت نفسي بذلك. وكان قد اطرح الملاهي وحرم الغناء وحسم
__________
(1) الوافي 5: 144 وتاريهخ الخميس 2: 341 وتاريخ بغداد 3: 347 ومعجم المرزباني: 401 والروحي: 57 والفخري: 222 وتاريخ الخلفاء: 389 وخلاصة الذهب المسبوك: 231 وانظر أيضاً المسعودي واليعقوبي ... الخ؛ وهذه الترجمة مستوفاة في المطبوعة.
(2) ص: بضعة.
(3) ص: وثلاثين.(4/50)
أصحاب السلطان عن الظلم، وكان شديد " الإشراف " (1) على الدواوين فخرجوا عليه الأتراك فحاربهم بنفسه، وجرح فأسروه وخلعوه وقتلوه سنة ست وخمسين ومائتين.
قال العمراني: إن الأتراك عصروا خصاه حتى مات وبايعوا أحمد بن المتوكل ولقبوه المعتمد على الله، وذلك في سادس عشر رجب سنة ست وخمسين، وكانت خلافة المهتدي سنة إلا خمسة (2) عشرة يوماً.
جلس يوماً للمظالم فاستعداه (3) رجل على ابن له، فأحضره وحكم عليه ورد الحق للرجل، فقال الرجل: أنت والله يا أمير المؤمنين كما قال الأعشى:
حكمتموه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الزاهر
لا يقبل الرشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر فقال المهتدي: أما أنت فجزاك الله خيراً، وأما أنا فإني والله ما جلست حتى قرأت قوله تعالى: " ونضع الموازين القس ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً، وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها، وكفى بنا حاسبين " " الأنبياء: 47 " قال الإسكافي: فما رأيت باكياً أكثر من ذلك اليوم.
ومدحه البحتري بقصيدة منها (4) :
هجرت الملاهي خشية وتفردا ... بآيات ذكر الله يتلى حكيمها
وما تحسن الدنيا إذا هي لم تعن ... بآخرة حسناء يبقى نعيمها وخلف من الولد سبعة عشر ذكراً وست بنات، وأولاده أعيان أهل بغداد، وهم الخطباء بالجوامع والعدول ولم يبق ببغداد أكثر من ولده.
__________
(1) زيادة من الوافي.
(2) ص: خمس.
(3) ص: فاستعدى.
(4) ديوان البحتري: 2025 وما بعدها.(4/51)
502 - (1)
الخالدي الشاعر
محمد بن هاشم بن وعلة بن عثمان بن بلال الخالدي مضى ذكر أخيه سعيد في حرف السين؛ كانا شاعرين اشتركا في كثير من الشعر ونسب إليهما معاً، وكلاهما من خواص سيف الدولة بن حمدان.
والخالدية: قرية من قرى الموصل.
توفي سنة ثمانين وثلثمائة تقريباً.
وكانا خزنة كتب سيف الدولة، وقد اختارا من الدواوين كثيراً، وجمعا مجاميع أدبية؛ ومن شعر محمد المذكور من أبيات (2) :
وصبغ شقائق النعمان يحكي ... يواقيتاً نظمن على اقتران
وأحياناً نشبهها خدوداً ... كستها الراح ثوباً أرجواني
شقائق مثل أقداح ملاء ... وخشخاش كفارغة القناني
وإما غازلتها الريح خلنا ... بها جيشي وغى يتقاتلان
تخال به ثغوراً باسمات ... إذا ما أفتر نور الأقحوان
وآذريونه قد شبهوه ... بتشبيه صحيح في المعاني
بكأس من عقيق فيه مسك ... وهذا الحق أيد بالبيان (3)
__________
(1) الوافي 5: 149 والزركشي: 310 واليتيمة 2: 183، وانظر سائر المصادر المذكورة في ترجمة أخيه ((سعيد بن هاشم)) ؛ والترجمة مستوفاة في المطبوعة.
(2) ديوان الخالديين: 99.
(3) ص: بالبنان.(4/52)
503 - (1)
أبو الوليد ابن حزم
محمد بن يحيى بن حزم من شعراء " الذخيرة "؛ قال ابن بسام: أحلى الناس شعراً، لا سيما إذا عاتب أو عتب، وهو ابن عم الفقيه أبي (2) محمد بن حزم، وكنتيه أبو الوليد. ومن شعره:
أتجزع من دمعي وأنت أسلته ... ومن نار أحشائي ومنك لهيبها
وتزعم أن النفس غيرك علقت ... وأنت، ولا من عليك، حبيبها
إذا طلعت شمس عليك بسلوة ... أثار الهوى بين الضلوع غروبها ومن شعره من قصيدة:
والشمس ترمق من محاجر أرمد ... والظل يركض في النسيم الواني
والراح تأخذ من معاطف أغيد ... أخذ الصبا من عطف غصن البان
ملنا نؤمل غير ذلك منزلاً ... والراح يقصر خطوه فيداني
ثم اعتنقنا والوشاة بمعزل ... وقد التقت في جفنه سنتان
والبدر يرميني بمقلة حاسد ... لو يستطيع لكان حيث يراني وله أيضاً:
وكم ليلة عاقرت (3) في ظلها المنى ... وقد طرفت من أعين الرقباء
وفي ساعدي حلو الشمائل مترف ... لعوب بيأسي تارة ورجائي
__________
(1) الوافي 5: 194 والذخيرة (القسم الثاني) : 226 والزركشي: 311؛ والترجمة مستوفاة في المطبوعة.
(2) ص: أبو.
(3) الوافي: ظافرت.(4/53)
أطارحه حلو العتاب وربما ... تغاضب فاسترضيته ببكائي
وفي لفظه الناس سورة الراح فترة ... تمت إلى ألحاظه بولاء (1)
وقد عابثته الراح حتى رمت به ... لقى بين ثنيي بردتي وردائي
على حاجة في النفس لو شئت نلتها ... ولكن حمتني عفتي وحيائي وقال أيضاً:
وكم ليلة بات (2) الهوى يستفزني ... ولا رقبة دون الأماني ولا ستر
وفي ساعدي بدر على غصن بانة ... يود مكاني بين لباته البدر
وفي لحظه كالسكر لا عن مدامة ... ولولا اعتراض الشك قلت هو السكر
فلم يك إلا ما أباح لي التقى ... ولم يبقى إلا أن تحل لي الخمر وقال أيضاً:
كم ليلة ضمت عليه ساعدي ... والمسك يأخذ منه ما يعطيه
والبدر من حسد يجمجم قوله ... ما ضر مجدك لو شركتك فيه توفي بعد الخمسمائة، رحمه الله تعالى.
504 - (3)
مجير الدين ابن تميم
محمد بن يعقوب بن علي، مجير الدين ابن تميم الإسعردي، وهو سبط
__________
(1) ص: بولائي.
(2) الذخيرة: كاد.
(3) الوافي 5: 228 والزركشي: 311 والشذرات 5: 389 والنجوم الزاهرة 7: 367 والترجمة كاملة في المطبوعة.(4/54)
فخر الدين ابن تميم؛ سكن حماة وخدم الملك المنصور، وكان جندياً محتشماً شجاعاً مطبوعاً كريم الأخلاق، بديع النظم رقيقه لطيف التخيل.
توفي بحماة سنة أربع وثمانين وستمائة. وهو في التضمين الذي عاناه في فضلاء المتأخرين آية، وفي صحة المعاني والذوق اللطيف غاية؛ لأنه يأخذ المعنى الأول ويحل تركيبه، وينقله بألفاظه إلى معنى ثاني، حتى كأنّ الناظم الأول إنما أراد به المعنى الثاني، وقد أكثر من ذلك حتى قال:
أطالع كل ديوان أراه ... ولم أزجر عن التضمين طيري
أضمن كل بيت فيه معنى ... فشعري نصفه من شعر غيريه ومنه قوله يرثي قدحاً:
أيا قدحاً قد صدع الدهر شمله ... فأصبح بعد الراح قد جاور التربا
سأبكيك في وقت الصبوح وإنني ... سأكثر في وقت الغبوق لك الندبا
وإن قطبت شمس المدام فحقها ... " لأنك كنت الشرق للشمس والغربا " ومنه:
أهديته قدحاً فإن أنصفته ... أوسعته بجماله تقبيلا
نظمت به الصهباء در حبابها ... " حتى تصير لرأسه إكليلا " ومنه قوله:
لو أنك إذ شربناها كؤوساً ... ملئن من المدام الأرجواني
حسبت سقاتها دارت علينا ... " بأشربة وقفن بلا أواني " ومنه قوله أيضاً:
إن كان راووق المدامة عندما ... تاب (1) الأمير بكى بدمع قاني
__________
(1) الوافي: مات.(4/55)
فاليوم ينشد وهو يبكي عند ما ... شرب المدامة من يد السلطان
" يا عين صار الدمع عندك عادة ... تبكين في فرح وفي أحزان " ومنه قوله:
قالوا فلان تولى نتف عارضه ... ليصبح الحسن عنه غير منتقل
فقلت سد طريق الشعر يعجزه ... " ومن يسد طريق العارض الهطل " وقال يهجو كحالا:
دعوا الشمس الناس كحل العيون فكفه ... تسوق إلى الطرف الصحيح الدواهيا
فكم ذهبت من ناظر بسواده ... " وخلت بياضاً خلفها ومآقيا " وقال أيضاً:
لو كنت في الحمام والحنا على ... أعطافه ولجسمه لألاء
لرأيت ما يسبيك منه بقامة ... " سال النضار بها وقام الماء " وقال في مليح كان عند خصي فانتقل إلى غيره:
يقول ويبدي للخصي اعتذاره ... برغبته في غيره واجتنابه
رأيتك مخصياً فملت إلى الذي ... " له فضلة عن جسمه في إهابه " وقال في فوارة:
لقد نزهت عيني أنابيب (1) بركة ... تقابلني أمواجها بالعجائب
أنابيب لجت ف يعلو كأنما ... " تحاول ثأراً عند بعض الكواكب " وقال في عوادة:
جاءت بعود كلما لعبت به ... لعبت بي الأشجان والتبريح
" غنت فجاوبها ولم يك قبلها ... شجر الأراك مع الحمام ينوح "
__________
(1) ص: في أنابيب.(4/56)
وقال:
يا ليلة قصرت بزورة غادة ... سفرت فأغنى وجهها عن بدرها
حتى إذا خافت هجوم صباحها ... " نشرت ثلاث ذوائب من شعرها " وقال أيضاً:
وأهيف مثل البدر غصن قوامه ... عليه قلوب العاشقين تطير
يدور عذاراه لتقبيل وجنة ... " على مثلها كان الخصيب يدور " وقال أيضاً:
ولم أنس قول الورد والنار قد سطت ... عليه فأمسى دمعه يتحدر
" ترفق فما هذي دموعي التي ترى ... ولكنها روحي تذوب فتقطر " وقال في جارية تحمل فانوساً:
يقول لها الفانوس لما بدت له ... وفي قلبه نار من الوجد تسعر
خذي بيدي ثم اكشفي الثوب وانظري ... ضنى جسدي لكنني أتستر " وقال في مليح يشرب من بركة:
أفدي الذي أهوى بفيه شارباً ... من بركة راقت وطابت مشرعاً
أبدت لعيني وجهه وخياله ... " فأرتني القمرين في وقت معا " وقال أيضاً:
طوبى لمرآة الحبيب فإنها ... حملت براحة غصن بان أينعا
" واستقبلت قمر السماء بوجهها ... فأرتني القمرين في وقت معاً " وقال أيضاً:
وليلة بت أسقى في غياهبها ... راحاً تسل شبابي من يد الهرم
ما زلت أشربها حتى نظرت إلى ... غزالة الصبح ترعى نرجس الظلم(4/57)
وقال أيضاً:
ألا رب يوم (1) قد تقضى ببركة ... أقمت به فيما جرى متفكرا
بعيني رأيت الماء فيها وقد هوى ... على رأسه من شاهق فتكسرا وقال أيضاً:
تأمل إلى الدولاب والنهر إذ جرى ... ودمعهم بين الرياض غزير
كأن نسيم الروض قد ضاع منهما ... فأصبح ذا يبكي (2) وذاك يدور وقال أيضاً:
ونهر حالف الأهواء حتى ... غدا طوعاً لها في كل أمر
إذا سرقت حلى الأغصان ألقت ... إليه بها فيأخذها ويجري وقال أيضاً:
لم أنس قول الورد حين جنيته ... ودموعه خوف الحريق تراق
لا تعجلوا في أخذ روحي واصبروا ... " فإليكم هذا الحديث يساق " وقال أيضاً:
سيقت إليك من الحديقة وردة ... وافتك قبل أوانها تطفيلا
طمعت بلثمك إذ رأتك فجمعت ... " فمها إليك كطالب تقبيلا " وقال أيضاً:
كيف السبيل للثم من أحببته ... في روضة للزهر فيها معرك
ما بين منثور وناضر نرجس ... مع أقحوان وصفه لا يدرك
هذا يشير بإصبع وعيون ذا ... ترنو إليه وثغر هذا يضحك
__________
(1) ص: يوماً.
(2) الوافي: يجري.(4/58)
وقال أيضاً:
أيا حسنها من روضة ضاع نشرها ... فنادت عليه في الرياض طيور
ودولابها كادت تعد ضلوعه ... لكثرة ما يبكي بها ويدور وقال أيضاً:
لو كنت تشهدني وقد حمي الوغى ... في موقف ما الموت عنه بمعزل
لترى أنابيت القناة على يدي ... تجري دماً من تحت ظل القسطل وقال أيضاً:
راقبت غفوة من أحب ولم أكن ... أدري بأن الريح من رقبائه
حتى هممت بأن أقبل خده ... هبت وغطت وجهه بقبائه (1) وقال في بستانه:
لي بستان كبير ... نجده أصبح غورا
دارت الأيام حتى ... كبشه قد صار ثورا وقال أيضاً:
زار الحمى فتعطرت أنفاسه ... شغفاً بمن تصبو إليه الأنفس
وأحب رؤيته فأنبت نرجساً ... إن الرياض عيونهن النرجس وقال أيضاً:
قالوا رأيناك كل وقت (2) ... تهيم بالشرب والغناء
فقلت إني فتى قنوع ... أعيش بالماء والهواء وقال أيضاً:
__________
(1) ص: بفنائه.
(2) ص: قالوا راينا في كل، والتصويب من هامش النسخة.(4/59)
لو كان فيض الدمع يرجع من نأى ... عني بكيت بسائر الأعضاء
قلبي له قبر وتلك عجيبة ... أن تقبر الأموات في الأحياء وقال وقد اجتاز ليلة بدرا بعض أصحابه معه شمعة فطفئت، وأوقدها من داره:
يا أيها المولى الشريف ومن له ... فضل يفوق به على أهل الأدب
لما أزرتك شمعتي لتنيرها ... جاءت تحدث عن سراجك بالعجب
وافته حاسرة فقبل رأسها ... وأعادها نحوي بتاج من ذهب وقال أيضاً:
إن تاه ثغر الأقاحي في تشبهه ... بثغر حبي واستولى به الطرب
فقل له عندما يحكيه مبتسماً ... " لقد حكيت ولكن فاتك الشنب " وقال في مليح يطيل حمل الكأس:
قالوا الذي تهواه يحبس كاسه ... في كفه من غير ذنب موجب
فأجبتهم كفوا الملام فإنه ... قمر ينزه طرفه في كوكب وقال أيضاً:
تركت بمصر يوسفاً وهو أمرد ... وقلت لخل قاصد مصر يا فتى
لك الحمد بالرحمن عرج بيوسف ... لتخبرني عن نمل خديه هل أتى وقال يافخر بني السماء والأرض:
يا جاعل الأفق مثل الأرض حجته ... بالشمس إذ بزغت والبدر حين وضح
كم من شموس وأقمار إذا سرحت ... في الأرض طرت إليها خفة وفرح
فلا تقل قزح (1) في الجو زينه ... في كل غصن ترى في الأرض قوس قزح
__________
(1) ص: قزحاً.(4/60)
وقال في مليح ينظر في المرآة:
وأهيف ظل بالمرآة مغرى ... يواظب رؤية الوجه المليح
يقول طلبت معشوقاً جميلاً ... فلما لم أجده عشقت روحي وقال في رثاء مليح:
وكم ساعدتني مذ دفنت قوامه ... حمامة أيك بالغرام تبوح
فكنت وإياها لأجل قوامه ... كلانا على الغصن الرطيب ينوح وقال يهجو:
أنت بين اثنتين يا نجل داو ... د وكلتاهما مقر السياده
ليس تنفك راكباً أير عبد ... مسبطراً أو حاملاً خف غاده
أي ماء لحر وجهك يبقى ... بين ذلك البغا وذل القياده؟ وقال أيضاً:
لمن أبوح بشعري حين أنظمه ... أم من أخص بما فيه من الزبد
أما جهول فلا يدري مواقعه ... أو فاض فهو لا يخلوا من الحسد وقال أيضاً:
حاذر أصابع من ظلمت فإنه ... يدعو بقلب في الدجى مكسور
فالورد ما ألقاه في جمر الغضا ... إلا الدعا بأصابع المنثور وقال أيضاً:
رعى الله وادي النيربين فإنني ... قطعت به يوماً لذيذاً من العمر
درى أنني قد جئته متنزهاً ... فمد لأقدامي بساطاً من الزهر
وأخدمني الماء الزلال فحيثما ال ... تفت رأيت الماء في خدمتي يجري وقال أيضاً:(4/61)
مذ لاحظ المنثور طرف النرجس ال؟ ... مزور قال وقوله لا يدفع
فتح عيونك في سواي فإنما ... عندي قبالة كل عين إصبع وقال:
ومدامة كاساتها ... تعطي المان من الزمان
قد أحكمت علم النجو ... م وأتقنت سحر البيان
فإذا حساها الشاربو ... ن وأوقعتهم في الأماني
بدأت بإخراج الضم؟ ... ير وبعده عقد اللسان 505 (1)
التلعفري الشاعر
محمد بن يوسف بن مسعود بن بركة الأديب البارع شهاب الدين الشيباني التلعفري، الشاعر المشهور؛ ولد بالموصل سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، واشتغل بالأدب، ومدح الملوك والأعيان، وكان خليعاً معاشراً امتحن بالقمار، وكلما أعطاه الملك الأشرف شيئاً قامر به، فطرده إلى حلب، فمدح العزيز فأحسن إليه وقرر له رسوماً، فسلك معه ذلك المسلك، فنودي في حلب: أي من قامر مع الشهاب التلعفري قطعت يده، فضاقت عليه الأرض فجاء إلى دمشق. ولم يزل يستجدي ويقامر حتى بقي في أتون حمام، وفي الآخر نادم صاحب حماة. توفي سنة خمس وسبعين وستمائة.
__________
(1) الوافي 5: 255 والزركشي: 313 والبدر السافر: 177 (وقال: كنيته أبو المكارم وفي مصادر أخرى: ابو عبد الله) . وابن الشعار 7: 21 وابن خلكان 7: 40، 45، وتاريخ ابن الفرات 7: 76 والشذرات 5: 349 والنجوم الزاهرة 7: 255، وقد طبع ديوانه ببيروت سنة 1910، واستوفت المطبوعة هذه الترجمة.(4/62)
ومن شعره (1) :
أقلعت إلا عن العقار ... وتبت إلا من القمار
فالكاس والفص ليس يخلو ... منهم يميني ولا يساري وقال الشيخ شهاب الدين ابن غانم رحمه الله تعالى: أنشدني التلعفري لنفسه (2) :
جريت بحمراء الكميت إلى الشقرا ... مقر الهوى حسناً وأعرضت عن مقرى (3)
ولم أخل بالخلخال من كأسها يدي ... وأثبت في تاريخ ما سرني سطرا (4)
وأبصرت ما بين الميادين سائلاً ... فلم أر إلا أن أقابله نهرا
ولا سيما والروض من حوله له ... بساط وقد مد النسيم له نشرا
فلله أيام تولت بجانبي ... يزيد (5) فقد كانت ببهجتها العمرا
وما كان مقصودي يزيد وبرده ... ولكن قصدي كان أن أنظر الزهرا وقال أيضاً (6) :
أيطرق في الدجى منكم خيال ... وطرفي ساهر؟ هذا محال
سقت أيامنا بأراك حزوي ... وهاتيك الربى سحب ثقال
منازل للصبا ما زال شملي ... له فيها بمن أهوى اتصال
دموعي بعدها دال وميم ... على خدي له ميم ودال وقال من أبيات (7) :
__________
(1) الديوان: 18.
(2) الديوان: 18.
(3) مقرى: من قرى دمشق.
(4) سطرا: من قرى دمشق، وفيه هنا تورية.
(5) يزيد: نهر بدمشق.
(6) الديوان: 35.
(7) الديوان: 16.(4/63)
وإذا الثنية أشرقت وشممت من ... أرجائها (1) أرجاً كنشر عبير
سل هضبها المنصوب أين حديثه (3) ال ... مرفوع عن ذيل الصبا المجرور وقال أيضاً (3) :
حتام أرفل في هواك وتغفل ... وإلام أهزل من جفاك وتهزل
يا مضرماً في مهجتي بصدوده ... حرقاً يكاد لهن يذبل يذبل
القلب دل عليك أنك في الدجى ... قمر السماء لأنه لك منزل
هب أن خدك قد أصيب بعارض ... ما بال صدغك راح وهو مسلسل
قسماً بحاجبك الذي لم ينعقد ... إلا أراني السبي وهو محلل
وبماء ثغرك من سلافة ريقة ... عذبت فقيل هي الرحيق السلسل
لولا مقبلك المنظم عقده ... ما بات من يهواك وهو مقبل
حزني وحزنك إن لغا من لامني ... ونحوت هجري مجمل ومفصل
لو كنت في شرع المحبة عادلاً ... يا ظالمي ما كنت عني تعدل
يا آمري من نصحه بسلوه ... إن السلو كما تقول لأجمل
لكن يعز خلاص قلب متيم ... تركته أيدي الهجر وهو مبلبل
هيهات كلا لا نجاة لمن غدا ... من جسمه في كل عضو مقتل وقال أيضاً:
أرأيت غيرك يا حياة الأنفس ... من يحرس الورد الجني بنرجس
أم هل سمعت بشمس أفق أشرقت ... من قبل وجهك في ظلام الحندس
يا من يدير بمقلتيه ووجنتي ... هـ وراحتيه لنا ثلاثة أكؤس
__________
(1) الوافي: نفس الحمى؛ الديوان: وتيممت أرجاؤها.
(3) الديوان: 36.
(3) الديوان: 36.(4/64)
ما زاغ عن نهج الصواب مشبه ... منك الجبين بشمعة في المجلس
أنسيت ليلتنا وقد أخذ السكري ... بزمام هاتيك العيون النعس
إذ قلت أين الراح قلت مغالطاً ... يغنيك عنها رشف ثغري الألعس
فضممت منك إلي عصناً لم يكن ... دون الغلائل بالحمائل مكتسي
يا حسنها من ليلة ما شانها ... إلا تبلج صبحها المتنفس
فوقت للرقباء فيها أسهماً ... من مقلتيك لها حواجبك القسي
" ما كنت أطمع قبلها في مثلها ... فأعدتني من مثلها لم أيأس " (1) وقال رحمه الله تعالى:
تولهي بك شيء عنك غير خفي ... فراقب الله في الهجران لي وخف
واعدل عن الظلم واعدل في النفوس ولا ... تجر على المستهام المغرم الدنف
يا رائشاً أسهماً من لحظ ناظره ... فوق فغير فؤادي ليس من هدف
سبحان معطيك خصراً غير مختصر ... لي في العذاب وعطفاً غير منعطف
إذا شكوت لترثي لي وترحم ما ... تراه من جسمي المضنى ومن كلفي
يردني آيساً من ذاك عارضك ال ... لامي والمنثني من قدك الألفي
أحبابنا بنواحي الغوطتين سقى ... ربوعكم وابل من أدمعي الذرف
قد كنت قبل النوى أشكو الصدود فوا ... لهفي على الصد يومي ذا ويا أسفي
ملاعب كم بها من شادن غنج ... حلو الشمائل معسول اللمى ترف
محجب بالتجني والدلال رخي؟ ... م اللفظ أحور مطبوع على صلف
بخده كل ما بالورد من ضرج ... وقده كل ما بالبان من هيف وقال أيضاً:
__________
(1) لم يرد في ص، وهو ثابت في المطبوعة والزركشي.(4/65)
يذكرني برق الحمى المتألق ... زماناً تولى بالحمى وهو مونق
ويرتاح قلبي للنسيم إذا سرى ... ويطربني ذاك الحمام المطوق
سقى بانة الجرعاء إن أخلف الحيا ... وضن حياً من عبرتي يتدفق
ولا حاد عن تلك المعاطف صيب ... من المزن أو من مقلة الصب مغدق
منازل تصبيني إليها نسيمة ... لها أرج أرجاؤها منه تعبق
عدمت عذولي كم يعنف في الهوى ... حليف غرام نال منه التشوق
إذا لامني أنشدته متمثلاً ... " بودي لو يهوى العذول ويعشق "
كلفت بأحوى من بني الترك أحور ... له غصن قد بالذوائب مورق
رشيق التثني والمعاطف ألعس ال ... مراشف يصمي طرفه حين يرمق
حمى بحسام اللحظ خداً مورداً ... غدت عنه أكمام الشقيق تشقق
له ناظر في ضمنه وهو أسود ... عدو لأرباب الصبابة أزرق وقال أيضاً:
ألم بي طيفه إلمام مختلس ... فأشرقت بسناه ظلمة الغلس
جلا على بعده لي منه بدر دجى ... على قضيب بغير الدل لم يمس
طيف غنيت به عن شيم بارقة ... وعن تلقي صباً مسكية النفس
أراحني من مواعيد مزخرفة ... أجريت منهن آمالي على يبس
فبت في نعمة لليل سابغة ... ممتعاً باللمى والثغر واللعس
أردد الطرف في خد نضارته ... وقف على مستق منها ومقتبس
خد متى قلت إن الورد يشبهه ... قل الجمال تأمل ذا وذا وقس
شققت أكمام صون عن شقائقه ... بالرغم من نرجس في الأعين النعس
فيا لها زورة ما كان لي طمع ... فيها لعلمي بخلق الزائر الشرس
بات الغرام بها في مأتم وأنا ... بمنة عظمت للطيف في عرس
وافى بمن لم أخل أني أفوز به ... لما على طرفه دوني من الحرس(4/66)
فلا عدمت الكرى من محسن أخذ ... الأيمان بالأنس لي من إلي يسي وقال من أبيات، رحمه الله تعالى (1) :
في ثغره والقوام اللدن ألف غنى ... عن أبرق الحزن بل عن بانة الوادي
سبحان مطلع بدر التم منه على ... غصن رطيب من الأغصان مياد
سكرت من نشوة في مقلتيه صحا (2) ... منها وزاد ضلالي وجهه الهادي
ما ضرني ما أقاسي فيه من سقم ... ومن ضنى لو غدا من بعض عوادي وقال أيضاً (3) :
أي دمع من الجفون أساله ... إذ أتته مع النسيم رساله
حملته الرياض (4) أسرار عرف ... أودعتها السحائب الهطاله
يا خليلي وللخليل حقوق ... واجبات الداء في كل حاله
سل عقيق الحمى وقل إذ تراه ... خالياً من ظبائه المختاله
أين تلك المراشف العسليا ... ت وتلك المعاطف العساله
وليال قضيتها كلآل ... بغزال تغار منه الغزالة
بابلي اللحاظ والريق والأل ... فاظ كل مدامة سلساله
ونقي الجبين والخد والثغ؟ ... ر فطوبى لمن حسا جرياله
وطويل الصدود والشعر والمط ... ل ومن لي بأن يديم مطاله
من بني لاترك كلا جذب القو ... س رأينا في وسطه (5) بدر هاله
يقع الوهم حين يرمي فلا ند ... ري (6) يداه أم عينه النباله
__________
(1) الديوان: 12.
(2) ص والديوان: ضحاً، والتصويب من الزركشي.
(3) الديوان: 34.
(4) الوافي: الرياح؛ الديوان: النسيم.
(5) الديوان: كفه.
(6) ص: ندر، الوافي: يدري، الديوان: فلم ندر.(4/67)
قلت لما لوى ديون وصالي ... وهو مثر وقادر لا محاله
بيننا الشرع قال سر بي فعندي ... من صفاتي لكل دعوى دلاله
وشهودي من خال خدي ومن قد ... ي شهود (1) معروفة بالعداله
أنا وكلت مقلتي في دما الخل؟ ... ق فقالت قبلت هذي الوكاله وكتب إليه الأديب شهاب الدين العزازي بهذه الموشحة يمدحه بها:
بات طرفي يتشكى الأرقا ... وتوالت أدمعي لا ترتقي
ليت أيامي ببانات اللوى ... غفلت عنها لويلات النوى
عاذلاتي باعتلاقي بالهوى ... كيف سلواني وقلبي والجوى
أقسما في الحب لن يفترقا ... وجفوني أقسمت لا تلتقي
ولقد همت بذي قد نضر ... قامة البانة منه تنهصر
ذي رضاب بارد اللظم خصر ... في فؤادي منه نار تستعر
رشأ قلبي به قد علقا ... جل من صوره من علق
سال من سالفه المسك فنم ... وشذا المسك أبى أن يكتتم
" أحور صحح عينيه السقم " (2) ... مذ تبدي وتثغ وابتسم
خلته بدراً على غصن نقا ... باسماً عن أنفس الدر نقي
ساد بالدل وفرط الخفر ... سانحات الظبيات العفر
مثل ما فاق فتى التلعفري ... قالة الشعر بوشي الحبر
أريحي خص لما خلقا ... بسخا النفس وحسن الخلق
شيمة أصفى من الراح الشمول ... همة أوفت على العلياء طول
__________
(1) الوافي: وقدي فشهود.
(2) سقطت من ص، وزدتها من الوافي.(4/68)
نبعة جرت على النجم الذيول ... دوحة طابت فروعاً وأصول
سح جوداً في ذراها ورقا ... فكساها يانعات الورق
شاعر فاق فحول الشعرا ... بقواف مثل أطراف الكرى (1)
باسمات تجتلي منها الورى ... يغراً يبسم أو زهراً (2) يرى
كلما لاح سناها مشرقا ... سجد الغرب لنور المشرق
أيها الموفي على عهد الزمن ... كرماً محضً وفضلاً ومنن
جاءك الخادم من غير ثمن ... جالب الوشي لصنعاء اليمن
فاستمعها زادك الله بقا ... مدحة لم يحكها إبن بقي فأجابه شهاب الدين التلعفري رحمهما الله:
ليس (3) يروي ما بقلبي من ظما ... غير برق لائح من إضم
إن تبدي لك بان الأجرع ... وأثيلات النقا من لعلع
يا خليلي قف على الدار معي ... وتأمل كم بها من مصرع
واحترز واحذر فأحداق الدمى ... كم أراقت في رباها من دم
حظ قلبي في الغرام الوله ... فعذولي فيه ما لي وله
حسبي الليل فما أطوله ... لم يزل آخره أوله
البيت في هوى أهيف معسول اللمى ... ريقه كم قد شفى من ألم
سائلي عن أحمد مما حوى ... من خلال هي للداء دوا
ما سواه وهو يا صاح سوى ... نار من كل فن ما انطوى
بحر آداب وفضل قد طما ... فاخش من آذيه الملتطم
__________
(1) وقع هذا الدور قبل سابقه في الوافي.
(2) ص: زهر
(3) الوافي: كيف.(4/69)
العزازي الشهاب الثاقب ... شكره فرض علينا واجب
فهو إذ تبلوه (1) نعم الصاحب ... سهمه في كل فن صائب
جائل في حلبة الفضل كما ... جال في يوم الوغى شهم كمي
شاعر أبدع في أشعاره ... ومتى أنكرت قولي باره
لو جرى مهيار في مضماره ... والخوارزمي في آثاره
قلت عودا وارجعا من أنتما ... ذا امرؤ القيس إليه ينتمي وكان بالقاهرة قد عشق صبياً يلقب بالنجم، فسافر، ووجد عليه حزن (2) ، فكتب إليه عز الدين ابن أمسينا بهذه الأبيات يسأله عن حالة ويسليه:
يا خليلي حد ثاني بعلم ... كيف حال الشهاب بعد النجم
واقصصا لي حديثه فلقد قل ... اصطباري وزاد فكري وهمي
فمن المستحيل بعد رواح ال ... روح عند الورى بقاء الجسم
ثم قولا له مقال أخ ب ... ر شفيق بغير ظن ووهم
يا شهاباً أنوار بهجته الغرا ... ء تجلو عنا دياحي الظلم
إن ناءى فلال فلا من الإل ... مام شوقاً من الديار برسم
واصرف الهم عن فؤادك إن أم ... كن تصريفه بإبنة كرم فأجابه الشهاب التلعفري (3) :
بأبي أنت يا خليلي وأمتي ... أنت قوسي إذا رميت وسهمي
أنت والله لي حسام جراز (4) ... فيه للنائبات أعظم حسم
__________
(1) ص وأصل الوافي: يتلوه، وأثبت ما في المطبوعة.
(2) كذا في ص.
(3) الديوان: 38.
(4) ص: جرار.(4/70)
كيف أخشى ذل ولي منك عز ... ما ترقت إليه همة نجم
نظمت فيك للمعالي عقود ... معجزات جميع نثري ونظمي
سيدي ما يطيق عبدك يشكو ... ما يقاسي الناس فرط وجد وغم
مذ تولى نجمي علمت بأني ... هابط في جميع أمري ونجمي
الليالي عندي ظلام وظلم ... بعد ذاك اللمى وذاك الظلم
جملة المر أن لي بعده دم؟ ... عاً كجدواك في انسكاب وسجم وقال (1) :
ما لي ولمصر لا سقاها ربي ... غيثاً غدقاً من ساريات السحب
بالروح دخلتها وبالقلب فلا ... بالروح خرجت لا ولا بالقلب 506 (2)
أثير الدين أبو حيان
محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان، الشيخ الإمام الحافظ العلامة فريد العصر وشيخ الزمان وإمام النحاة، أثير الدين أبو حيان الغرناطي؛
__________
(1) الديوان: 7.
(2) الوافي 5: 267 ونكت الهميان: 280 والبدر السافر: 178 والزركشي: 315 والدرر الكامنة 5: 70 ونفح الطيب 2: 535 - 584 (وفيه نقل عن أعيان العصر وغيره) والكتيبة الكامنة: 81 وبغية الوعاة: 121 وطبقات الشافعية 6: 31 وغاية النهاية 2: 285 والبلغة: 203 والشذرات 6: 145 وذيل العبر: 243 والنجوم الزاهرة 10: 111 وذيول تذكرة الحفاظ: 23 والأسناوي 1: 457 وللكتورة خديجة الحديثي دراسة عنه (بغداد 1966) كما نشر ديوانه بعناية الدكتور أحمد مطلوب والدكتورة خديجة الحديثي (بغداد 1969) ؛ وجاءت الترجمة بكاملها في المطبوعة.(4/71)
قرأ القرآن بالروايات، وسمع الحديث بجزيرة الأندلس وبلاد إفريقية (1) وثغر الإسكندرية وبلاد مصر والحجاز، وحصل الإجازات من الشام والعراق وغير ذلك، واجتهد وطلب وحصل وكتب، وله إقبال على الطبلة الأذكياء وعنده تعظيم لهم. نظم ونثر، وله الموشحات البديعة، وهو ثبت فيما ينقله محرر لما يقوله، عارف باللغة ضابط لألفاظها، وأما النحو والتصريف فهو إمام الدنيا فيهما، وله اليد الطولى في التفسير والحديث والشروط والفروع وتراجم الناس وطبقاتهم وتواريخهم وحوادثهم وتقييد أسمائهم، خصوصاً المغاربة، على ما يتلفظون به من إمالة وترخيم وترقيق وتفخيم، وهو الذي جسر الناس على مصنفات جمال الدين ابن مالك ورغبهم في قراءتها وشرح لهم غامضها وخاض بهم لحجها وفتح لهم مقفلها، والتزم أن لا يقريء أحداً إلا أن كان في سيبيويه أو " التسهيل " لابن مالك أو في مصنفاته. ولما قدم من البلاد لازم الشيخ بهاء الدين ابن النحاس رحمه الله تعالى وأخذ عنه كتب الأدب.
وكان حسن العمة مليح الوجه، ظاهر اللون مشرباً بحمرة منور الشيبة؛ مولده بغرناطة في شهور سنة أرب وخمسين وستمائة، وتوفي بالديار المصرية في أوائل سنة خمس وأربعين وسبعمائة، رحمه الله تعالى.
ومن نظمه (2) :
سبق الدمع بالمسيل (4) المطايا ... إذ نوى من أحب عني نقله
وأجاد السطور في صفحة الخد ... ولم لا يجيد وهو ابن مقله؟ وقال أيضاً (4) :
__________
(1) ص: ببلاد الأندلس وجزيرة أفريقية.
(2) الديوان: 473.
(4) الديوان: 418.
(4) الديوان: 418.(4/72)
يقول لي العذول ولم أطعه ... تسل فقد بدا للحب لحيه
تخيل أنها شانت حبيبي ... وعندي أنها زين وحليه وقال أيضاً (1) :
شوقي لذاك المحيا الزاهر الزاهي ... شوق شديد وجسمي الواهن الواهي
أسهرت طرفي ودلهت الفؤاد هوى ... والطرف والقلب مني الساهر الساهي
نهب قلبي وتنهى أن يبوح (2) بما ... يلقاه وأشوقه للناهب الناهي
لهجت بالحب لما أن لهوت به ... عن كل شيء فويح اللاهج اللاهي وقال أيضاً (3) :
راض حبيبي عارض قد بدا ... يا حسنه من عارض رائض
وظن قوم (4) أن قلبي سلا ... والأصل لا يعتد بالعارض وقال أيضاً (5) :
تعشقته شيخاً كأن مشيبه ... على وجنتيه ياسمين على ورد
أخا الفضل (6) يدري ما يراد من النهي ... أمنت عليه من رقيب ومن ضد
وقالوا الورى قسمان في شرعة الهوى ... لسود اللحى ناس وناس إلى المرد
ألا إنني لو كنت أصبو لمرد ... صبوت إلى هيفاء مائسة القد
وسود اللحى أبصرت فيهم مشاركاً ... فأحببت أن أبقى بأبيضهم وحدي
__________
(1) الديوان: 403.
(2) ص: تبوح.
(3) الديوان: 252.
(4) ص: قوماً.
(5) الديوان: 439.
(6) الوافي: العقل.(4/73)
وقال في مليح أحدب (1) :
تعشقته أحدباً (2) كيساً ... يحاكي نجيباً حنين اليغام
إذا كدت أسقط من فوقه ... تعلقت من ظهره بالسنام وقال أيضاً (3) :
عداتي لهم فضل علي ومنة ... فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا
هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها ... وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا وقال أيضاً (4) :
رجاؤك فلساً قد غاد في حبائلي ... قنيصاً رجاء للنتاج من العقم
أأتعب في تحصيله وأضيعه ... إذاً كنت معتاضاً من البرء بالسقم وقال في مليح فحام (5) :
وعلقته مسود عين ووفرة ... وثوب يعاني صنعة الفحم عن قصد
كأن خطوط الفحم في وجناته ... لطاخة مسك في جني من الورد وقال موشحة (6) :
إن كان ليل داج ... وخاننا الإصباح
فنورها الوهاج ... يغني عن المصباح
سلافة تبدو ... كالكوكب الأزهر
__________
(1) الديوان: 475.
(2) ص: أحدب.
(3) الديوان: 415.
(4) الديوان: 479.
(5) الديوان: 440.
(6) الديوان: 491.(4/74)
مزاجها شهد ... وعرفها عنبر
يا حبذا الورد ... منها وإن أسكر
قلبي بها قد هاج ... فما تراني صاح
عن ذلك المنهاج ... وعن هوى يا صاح
وبي رشا أهيف ... قد لج في بعدي
بدر فلا يخسف ... منه سنا الخد
بلحظه المرهف ... يسطو على الأسد
كسطوة الحجاج ... في الناس والسفاح
فما ترى من ناج ... من لحظه السفاح
علل بالمسك ... قلبي رشاً أحور
منعم المسك ... ذو (1) مبسم أعطر
رياه كالمسك ... وريقه سكر (2)
غصن على رجراج ... طاعت له الأرواح
فحبذا الآراج ... إن هبت الأرواح
مهلاً أبا القاسم ... على أبي (3) حيان
ما إن له عاصم ... من لحظك الفتان
وهجرك الدائم ... قد طال بالهيمان (4)
فدمعه أمواج ... وسره قد لاح
__________
(1) ص: ذي.
(2) الوافي: كوثر.
(3) ص: ابن.
(4) ص: بالهميان.(4/75)
لكنه ما عاج ... ولا أطاع اللاح (1)
يا رب ذي بهتان ... يعذل في الراح
وفي هوى الغزلان ... دافعت بالراح
وقلت لا سلوان ... عن ذاك يا لاحي
سبع الوجوه والتاج ... عن ذاك يا لاحي
فاختر لي يا زجاج ... قمصال (2) وزوج أقداح وقال يعارض موشح ابن العفيف التلمساني رحمهما الله تعالى (3) :
عاذلي في الأهيف الأنس ... لو رآه كان قد عذرا
رشأ قد زانه الحور ... غصن من فوقه قمر
قمر من سحبه الشعر ... ثغر في فيه أم درر
جال بين الدر واللعس ... خمرة من ذاقها سكرا
رجة بالردف أم كسل ... ريقة بالثغر أم عسل
وردة بالخد أم خجل ... " كحل بالعين أم كحل " (4)
يا لها من أعين نعس ... جلبت للناظر السهرا (5)
مذ نأى عن مقلتي سني ... ما أذيقا لذة الوسن
طال ما ألقاه من شجني ... عجباً ضدان في بدني
بفؤادي جذوة القبس ... وبعيني الماء منفجرا
__________
(1) ص: للاح.
(2) القمصال: وعاء يستعمل للشرب، وفي ص: ممصال وكذلك في أصل الوافي.
(3) الديوان: 495.
(4) موضع هذا الشطر بياض في ص، وهو ثابت في الوافي.
(5) الوافي: لناظري سهرا.(4/76)
قد أتاني الله بالفرج ... إذ دنا مني أبو الفرج
قمر قد حل بالمهج ... كيف لا يخشى من الوهج
غيره لو صابه نفسي ... ظنه من حره شرراً
نصب العينين لي شركا ... فانثنى والقلب قد ملكا
أنت جيت من أرض اندلس ... نحو مصر تعشق القمرا؟ والموشحة التي لشمس الدين محمد بن العفيف التلمساني في هذا الوزن وهي:
قمر يجلو دجى الغلس ... بهر الأبصار مذ ظهرا
آمن من شبهة الكلف ... ذبت في حبيه بالكلف
لم يزل يسعى إلى تلف ... بركاب الدل والصلف
آه لولا أعين الحرس ... نلت منه الوصل مقتدرا
يا أميراً جار مذ وليا ... كيف لا ترثي لمن بليا
فبثغر منك قد جليا ... قد حلا طعماً وقد حليا
وبما أوتيت من كيس ... جد فما أبقيت مصطبرا
بدر تم في الجمال سني ... ولهذا لقبوه سني
قد سباني لذة الوسن ... بمحيا باهر حسن
هو خشفي وهو مفترسي ... فارو عن أعجوبتي خبرا
لك خد يا أبا الفرج ... زين بالتوريد والضرج
وحديث عاطر الأرج ... كم سبى قلباً بلا حرج
لو رآك الغصن لم يمس ... أو رآك البدر لاستترا(4/77)
يا مذيباً مهجتي كمدا ... فت في الحسن البدور مدى
يا كحيلاً كحله اعتمدا ... عجباً أن تبريء الرمدا
وبسقم الناظرين كسي ... جفنك السحار فانكسرا ومدحه محيي الدين ابن عبد الظاهر بقوله:
قد قيل لما الناس سمعت مباحثاً ... في الذات قررها أجل مقيد
هذا أبو حيان قلت صدقتم ... وبررتم (1) هذا هو التوحيدي وأما ما صنفه فهو: " البحر المحيط " في تفسير القرآن العظيم.
" إتحاف الأريب بما في القرآن من الغريب ". " كتاب الأسفار الملخص من كتاب الصفار ". " شرح سيبويه ". " كتاب التجريد لأحكام سيبويه ". " كتاب التذييل والتكميل في شرح التسهيل ". " كتاب التنخيل من شرح التسهيل ". كتاب " التذكرة ". كتاب " المبدع في التصريف ". كتاب " الموفور ". كتاب " التقريب ". كتاب " الندريب ". كتاب " غاية الإحسان ". كتاب " النكت الحسان ". كتاب " الشذا في مسألة كذا ". كتاب " الفصل في أحكام الفصل ". كتاب " اللمحة ". كتاب " الشذرة ". كتاب " الارتضاء في الفرق بين الضاد والظاء "، كتاب " عقد اللآلي ". كتاب " نكت الأمالي ". كتاب " النافع في قراءة نافع ". " الأثير في قراءة ابن كثير ". " المورد الغمر في قراءة أبي عمرو ". " الروض الباسم في قراءة عاصم ". " المزن (2) الغامر في قراءة ابن عامر ". " الرمزة في قراءة حمزة ". " النائي (3) في قراءة الكسائي ". " النير الجلي في قراءة زيد بن علي ". " الوهاج في اختصار المنهاج ". " النور الأجلى في اختصار المحلى ". " الحلل الحالية
__________
(1) ص: وبرزتم.
(2) الوافي: الهامر.
(3) الوافي: تقريب النائي.(4/78)
في أسانيد القرآن العالية ". " الإعلام بأركان الإسلام ". " نثر الدرر (1) ونظم الزهر ". " قطر الحبي في جواب أسولة الذهبي ". " نوافث السحر في دمائث الشعر ". " تحفة الندس في نحاة الأندلس ". " الأبيات الوافية البيت علم القافية ". " مشيخة ابن أبي المنصور ". " الإدراك للسان الأترك ". " زهو الملك فينحو الترك ". " نفحة المسك في سيرة الترك ". " الأفعال في لسان الأتراك ". " منطق الخرس في لسان الفرس ". ومما ليم يكمل تصنيفه: كتاب " مسلك الرشد في تجريد مسائل نهاية ابن رشد ". " منهج السالك في الكلام على ألفية ابن مالك ". نهاية الإعراب في علمي التصريف والإعراب " رجز. " مجاني الهصر في شعراء العصر " (2) . " المخبور في لسان اليحمور " (3) . رحمه الله تعالى.
507 - (4)
محمود الوراق
محمود بن الحسن الوراق؛ أكثر شعره في المواعظ والحكم، روى عنه ابن أبي الدنيا، وتوفي في خلافة المعتصم في حدود الثلاثين والمائتين.
ومن شعره:
ما إن بكيت زماناً ... إلا بكيت عليه
ولا ذممت صديقاً ... إلا رجعت إليه
__________
(1) الوافي: نثر الزهر.
(2) الوافي: في آداب وتواريخ لأهل العصر.
(3) الوافي: اليخمور؛ البدر السافر: اليشمور.
(4) الزركشي: 317 وطبقات ابن المعتز: 367 وتاريخ بغداد 13: 87.(4/79)
وقال:
وما صاحب السبعين والعشر بعدها ... بأقرب ممن حنكته القابل
ولكن آمالاً يؤملها الفتى ... وفيهن للراجين حق وباطل وقال أيضاً:
يا ناظراً يرنو بعيني راقد ... ومشاهداً للأمر غير مشاهد
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي ... درك الجنان بها وفوز العابد
ونسيت أن الله أخرج آدماً ... منها إلىالدنيا بذنب واحد وقال أيضاً:
أليس عجيباً بأن الفتى ... يصاب بنقص الذي في يديه
فمن بين باك له موجع ... وبين معز معز إليه
ويسلبه الشيب شرخ الشباب ... فليس يعزيه خلق عليه وقال أيضاً:
سقياً لأيام خلت ... وكأن أوجهها رياض
أيام يحيينا الهوى ... وتميتنا الحدق المراض وقال أيضاً:
أي جهل يكون أبين من جه؟ ... ل أراني أضحي عليه وأمسي
أبغض الناس إن ظننت على الظن ... وأنسى اليقين من علم نفسي وقال أيضاً:
إذا أعطاك قتر حين يعطي ... وإن لم يعط قال أبى القضاء
يبخل ربه سفهاً وظلماً ... ويعذر نفسه فيما يشاء وقال أيضاً:
الدهر لا يبقى على حالة ... لكنه يقبل أو يدبر(4/80)
فإن تلقاك بمكروهه ... فاصبر فإن الدهر لا يصبر وقال أيضاً:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا محال في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع وقال أيضاً:
دار الصديق إذا استشاط تغضباً ... فالغيظ يخرج كامن الأحقاد
ولربما كان التغضب باحثاً ... لمثالب الآباء والأجداد وقال أيضاً (1) :
تعز بحسن الصبر عن كل هالك ... ففي الصبر مسلاة الهموم اللوازم
إذا أنت لم تسل اصطباراً وحسبة ... سلوت على الأيام مثل البهائم وقال أيضاً:
لبست صروف الدهر كهلاً وناشئاً ... وجربت حاليه على العسر واليسر
فلم أر بعد الدين خيراً من الغنى ... ولم أر بعد الكفر شراً من الفقر وقال أيضاً:
أيا رب قد أحسنت عوداً وبدأة ... إلي فلم ينهض بإحسانك الشكر
فمن كان ذا عذر لديك وحجة ... فعذري إقراري بأن ليس لي عذر
__________
(1) بهامش الزركشي: كذب، بل هي لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.(4/81)
508 - (1)
شهاب الدين محمود
محمود بن سلمان بن فهد، الإمام العلامة البارع البليغ الكاتب الحافظ، شهاب الدين أبو (2) الثناء محمود الحلبي الدمشقي الحنبلي؛ ولد بدمشق سنة أربع وأربعين وستمائة، وتوفي في شهور سنة خمس وعشرين وسبعمائة.
كتب المنسوب ونسخ الكثير، وتفقه على ابن المنجا وغيره، وتأدب على ابن مالك، ولازم الشيخ مجد الدين ابن الظهير وسلك طريقته في النظم وأربى عليه، وحذا حذوه في الكتابة. ونقله الوزير شمس الدين بن السلعوس إلى مصر، وتقدم ببلاغته وبديع كتابته وإنشائه وسكونه وتواضعه؛ وأقام بالديار المصرية إلى توفي القاضي شرف الدين بن فضل الله، فجهز إلى دمشق صاحب ديوان إنشائها، فأقام على المنصب ثمانية أعوام، وتوفي رحمه الله تعالى، وصلى عليه الأمير سيف الدين تنكز، ودفن في تربته بسفح قاسيون، وله من التصانيف: " مقامة العشاق "، وكتاب " منازل الأحباب "، و " حسن التوسل في صناعة (3) الترسل "، و " أسنى المنائح في أسنى المدائح ". وكان ممن أتقن الفنين المنظوم والمنثور.
كتب إليه السراج الوراق ملغزاً في سجادة:
يا إماماً ألفاظه الغر في الأس؟ ... ماع تزري بالدر في الأسماط
__________
(1) الزركشي: 318 والبدر السافر: 191 والدرر الكامنة 5: 92 والنجوم الزاهرة: 9: 264 وذيل العبر: 140 والشذرات 6: 69؛ وقد جاء اسمه في الزركشي ومصادر أخرى ((محمود بن سليمان)) ، وقد أخلت المطبوعة بعدد غير قليل من المختارات الشعرية في هذه الترجمة.
(2) ص: أبي.
(3) الزركشي: صنعة، والكتاب مطبوع باسمه كما أثبته الكتبي (القاهرة 1315) .(4/82)
وشهاباً يجاوز الشهب قدراً ... فغدت عن علاه ذات انحطاط
أي أنثى وطئت منها حلالاً ... مستبيحاً ما لا يباح لواطي
لم أحاول تقبيلها غير خمس ... حال زهدي فيها وحال اغتباطي
وهي مملوكة وعند أناس ... هي ست على اختلاف التعاطي
وهي في صورة خماسية ما ... فهقت لا ولا دنت للبواطي
وتصيب الإيمان يسعى إليها ... طالب الله وهو عبد خاطي
وأرى أن تحلها بيمين ... ويسار فقد غدت في رباط فكتب إليه الجواب:
يا سراجاً لما سمت باسمه الشم؟ ... س غدا البدر دونها في انحطاط
أنت بحر نداك موج وألفا ... ظك در وصنع يمناك شاطي
لا تلمني إذا نظمت معاني ... ك فمن در فيك كان التقاطي
أنت ألغزت في اسم ذات رقاع ... لم تجاهد وكم غدت في رباط
خمساها عشر وللعشر فيها ... خطوات براحة وانبساط
حازها تابع المجلي فحاز ال ... سبق من دونه بغير اشتراط
مذ علاها في أول الصف أضحى ... كسليمان فوق متن البساط ومن شعره:
أسروا إلى ليلى سراهم فما انجلى ... وبات كطرفي نجمه وهو حيراني
كلانا غريق في المدامع والدجى ... كأن دموع العين والليل طوفان وقال:
عريب سبوا نومي ولم تدر مقلتي ... كما سكنوا قلبي ولم تشعر الأعضا
وطلقت نومي والجفون حوامل ... فمن أجل ذا في الخد أبقت لها فرضا وقال:(4/83)
تثنى وأغصان الأراك نواضر ... ونحت وأسراب من الطير عكف
فعلم بانات اللوى كيف تنثني ... وعلمت ورقاء الحمى كيف تهتف وقال:
رأتني وقد نال مني النحول ... وفاضت دموعي على الخد فيضا
فقالت بعيني هذا السقام ... فقلت صدقت، وبالخصر أيضا يشبه هذا قول الأرجاني:
غالطتني إذ كست جسمي الضنى ... كسوة عرت من اللحم العظاما
ثم قالت أنت عندي في الهوى ... مثل عيني صدقت لكن سقاما ومن هذه المادة قول جمال الدين ابن نباتة (1) :
وملولة في الحب (2) لما أن رأت ... أثر السقا بعظمي المنهاض
قالت تغيرنا فقلت لها نعم ... أنا بالسقام (3) وأنت بالإعراض وقال أيضاً:
رق العذول لما ألقى بكم ورثي ... لما رأى صدكم عن صبكم عبثا
نكثتم حبل ودري بعد قوته ... وطالما قلتم لا كان من نكثا
أين الوفاء الذي كنا نظن وما ... هذا الجفاء الذي من بعده حدثا؟
فاه نفثة مصدور بهجركم ... ومن يذق هجر من يشتاقه نفثا
رجوت يوم نواه لو تلبث لي ... لأشتكي بعض ما ألقى فما لبثا
وكم شكوت الذي ألقاه منه فما ... أوى لذلي ولا ألوي ولا اكترثا
وكم حلفت بأني لا أعاتبه ... ولست أول صب في الهوى حنثا
ويح المحب متى صدت حبائبه ... يوماً قضى وإذا ما واصلوا بعثا
قضى فناحت عليه الورق من حزن ... فسجعها بين أثناء النشيد رثا
__________
(1) ديوان ابن نباتة: 282.
(2) ص: ومملوكة؛ الديوان: وملولة الأخلاق.
(3) الديوان: بالصدود.(4/84)
وقال أيضاً:
أفدي الذي بالأمس ودعني ... فقضى اصطباري بعده نحبا
وسرت به في البحر جارية ... سوداء يسبق سيرها الشهبا
لوأن حكم البحر طوع يدي ... لأخذت كل سفينة غصبا وقال مضمناً:
قل لي عن الحمام كيف دخلتها ... يا صاحبي لتسر خ مشفقا
أدخلتها وأولئك الأقوام قد ... شدوا المآزر فوق كثبان النقا وقال أيضاً:
رأيت في بستان خل لنا ... بدر دجى يغرس أشجار
فقلت إن أنجب هذا الذي ... يغرسه أثمر أقمارا وقال أيضاً:
ورأيته في الماء يسبح مرة ... والشعر قد رفت (1) عليه ظلاله
فظننت أن البدر قابل وجهه ... وجه الغدير فلاح فيه خياله وقال وكتب به إلى فتح الدين ابن عبد الظاهر:
هل البدر إلا ما حواه لثامها ... أو الصبح إلا ما جلاه ابتسامها
أو النار إلا ما بدا فوق خدها ... سناها وفي قلب المحب ضرامها
أقامت بقلبي إذ أقام بحبها ... فدارتها قلبي وداري خيامها
مهاة نقاً لو يستطاع اقتناصها ... وكعبة حسن لو يطاق استلامها
إذا ما نضت عنها اللثام وأسفرت ... تقشع من شمس النهار غمامها
نهاية حظي أن أقبل تربها ... وأيسر حظ للثام التثامها
تريك محيا الشمس في ليل شعرها ... على قيد رمح وجهها وقوامها
__________
(1) ص: رقت.(4/85)
وتزهى على البدر المنير فإنها ... مدى الدهر لا يخشى السرار تمامها
تغني على أعطافها ورق حليها ... إذا ناح في هيف الغصون حمامها
تردد بين الخمر والسحر لحظها ... وحازها والدر أيضاً كلامها
كلانا نشاوي غير أن جفونها ... مدام المعنى والدلال مدامها
وليلة زارت والثريا كأنها ... نظاماً وحسناً عقدها وابتسامها
وحيت فأحيت ما أمات صدودها ... وردت فرد الروح في سلامها
وقالت بعيني ذا السقام (1) الذي أرى ... فقلت وهل بلواي إلا سقامها
فأبدت ثناياها فقل في خميلة ... بدا نورا وانشق عنها كمامها
وأبعدت لا بل سمط در تصونه ... بأصداف ياقوت لماها ختامها
وقالت وما للعين عهد بطيفها ... ولا النوم مذ صدت وعز مرامها:
لقد أتعبت عيني جفونك في الدجى ... فقلت سلي جفنيك أين منامها
وما علمت أن الرقاد وقد جفت ... كمثل حياتي في يديها زمامها
وكم ليلة سامرت فيها نجومها ... كأني راع ضل (2) عنه سوامها
كأن الثريا والهلال ودارة ... حوته وقد زان الثريا التئامها
حباب طفا من حول رفرف فضة ... بكف فتاة (3) طاف بالراح جامها
كأن نجوماً في المجرة خرد ... سواق رماها في غدير زحامها
كأن رياضاً قد تسلسل ماؤها ... فشقت أقاحيها وشاق خزامها
كأن سنا الجوزاء إكليل جوهر ... أضاءت لآليه فراق انتظامها
كأن لدى النسرين في الجو غلمة ... رماة رمى ذا دون هذا سهامها
كأن سهيلاً والنجوم وراءه ... صفوف صلاة قام فيها إمامها
كأن الدجى هيجاء جرت نجومه ... أسنتها والبرق فيها حسامها
__________
(1) الزركشي: الغزال.
(2) ص: ظل.
(3) ص: قناة، وأثبت ما في الزركشي.(4/86)
كأن الرجوم الهاديات فوارس ... تساقط ما بين الأسنة هامها
كأن سنا المريخ شعلة قابس ... تلوح على بعدويخفى ضرامها
كأن السها صب سها نحو إلفه ... يراعي الليالي جفنه لا ينامها
كأن خفوق القلب قلب متيم ... رأى بلدة الأحباب أقوى مقامها
كأن ثريا أفقه في انبساطها ... يمين كريم لا يخاف انضمامها
كأن بفتح الدين في جوده اقتدت ... فروى الروابي والأكام انركامها وقال في أبيات:
والطل في أعين النوار تحسبه ... دمعاً (1) تحير لم يرقأ ولم يكف
كلؤلؤ ظل عطف الغصن متشحاً ... بعقده وتبدي منه في شنف
يضم من سندس الأوراق في صور ... خضر ويجني من الأزهار في صدق
والشمس في طفل الأمساء تنظر من ... طرف غدا وهو من خوف الفراق خفي
كعاشق سار عن أحبابه وهفا ... به الهوى فتراءاهم على شرف وقال يرثي شاباً جميلاً فقد:
إن من تهواه قد ظعنا (2) ... فاندب الأطلال والدمنا
واخدع القلب الذي صحبوا ... وخداع النافرين عنا
واسل عن طيب الحياة فقد ... صرت لا قلباً ولا سكنا
لا تقل أرجو الإياب فكم ... نازح بعد البعاد دنا
فهو دهر كان ملتهياً ... عنكم والآن قد فطنا
جيرة والله بعدهم ... لم أجد حسناً ولا حسنا
سلبوا روحي فليتهم ... عوضوني عودهم ثمنا
ودروا أني أموت بهم ... فكسوني بالضنا كفنا
ما على الحادي العجول بهم ... حرج لو يحبس البدنا
__________
(1) ص: دمع.
(2) ص: ضعنا.(4/87)
فعسى روح معلقة ... بهم أن تذكر الوطنا
قلت للبدر المنير وقد ... غاب من أربى عليه سنا:
غب أو اطلع إن أردت فما ... فيك لي عن من فقدت غنى (1)
أنبأتني الشمس عنه وعن ... بدرها إذ غاب واقترنا
نحن كنا إخوة شرفاً ... فأصاب الدهر أحسننا
وسألت الدوح بعدهم ... هل أمالت نسمة غصنا
أو تمشت في خمائله ... ذات طوق تبعث الشجنا
أو سقاه الطل مضطجعاً ... فلوى أعطافه وثنى
قال لي ذاك النسيم نأى ... مذ تناءوا والغمام ونى
وعيون النور قد رمدت ... وغناء الورق عاد عنا
فإذا ملنا فلا طرب ... بل لأن الورق نحن لنا
سادتي هل بعد بعدكم ... ترجع الأيام تجمعنا
أرتجي واليأس يهزأ بي ... أن يضم الدهر ألفتنا
وضلال الحب غادر ... لي فيكم بعد المنون منى
إن قضى صب يهيم علي ... فقد أحباب نأوا فأنا
فسقاكم كل سارية ... من دموعي تخجل المزنا وقال أيضاً:
يا من أضاف إلى الجمال جميلا ... لا كنت إن طاوعت فيك عذولا
عوضتني من نار هجرك جنة ... فسكنت ظلاً من رضاك ظليلاً
وحللت من أحشاي ربعاً دارساً ... فغدا بقربك عامراً مأهولا
ومننت حين منحتني سقماً به (2) ... أشبهت خصرك رقة ونحولا
__________
(1) ص: عنا.
(2) ص: بسقامه.(4/88)
وكففت لحظك بالفتور تلطفاً ... كيلا أبيت بحده (1) مقتولا
وسلكت بي في الحب أحسن مسلك ... لم يبق لي نحو السلو سبيلا
ولرب ليل مثل وجهك بدره ... ودجاه مثل مديد شعرك طولا
أرسلت لي فيه الخيال فكان لي ... دون الأنيس مؤانساً وخليلا
إن لم أجد للوجد فيك بمهجتي ... لا نال قلبي من وصالك سولا وقال أيضاً:
تقضي زماني في انتظار وصاله ... ومات اصطباري والغرام بحاله
قضيب نقا قد كنت أرجو انعطافه ... فرحت لحيني آيساً من خياله
أعرض من وجد بعسال قده ... ومعسول فيه بالعذيب وضاله
أليس من التبريج أن مزاره ... قريب ونيل الشهب دون مناله
لئن عمه بالحسن ياقوت خده ... فقد خصه بالصون عنبر خاله
إذا ما شكوت الوجد قال أخو الهوى ... صبابته تغنيه عن شرح حاله
وإن رمت وصلاً قال لي أنت مدع ... فأعرض عنه خيفة من جداله
وما ذاك عياً غير أن دليله ... علي عليه شاهد من دلاله وقال أيضاً:
نم بأسرار الحمى نسيمه ... فذاع من سر الهوى مكتومه
روى حديثاً عن أهيل رامة ... جدد ما أبلى الهوى قديمه
إلى كئيب دنف عذابه ... في حب جيران النقا نعيمه
روم أن يعطف من ذاك الحمى ... عليه من بعد الصدود ريمه
يا صناً مقلته صاد له ... والحاجب النون وفوه ميه
طوبى لمن في راحتيك راحه ... وأنت يا كل المنى نديه
إن تاه في معوج صدغيك فقد ... هداه من فرقك مستقيمه
__________
(1) ص والزركشي: بخده.(4/89)
آنس قلبي نار طور خده ... فهو كما شاء الهوى كليمه وقال يعاتب محبوباً:
غدرتم ولولا الغدر ما كان لي عذر ... فجاء على قصدي وقصدتم الأمر
وجدتم مجالاً للقلى وكذا أنا ... فما ضاق لي يوماً ولا لكم صدر
فلا أشتكي منكم ملالاً لأنكم ... هجرتم بحمد الله إذ طاب لي الهجر
فإن تدعوا عنا اصطباراً فهكذا ... أتانا بلا دعوى كما نشتهي الصبر
وإن تشكروا حكم البعاد فللنوى ... علينا إياد لا يقوم بها الشكر
وكنت أظن الصبر مراً مذاقه ... فمذ ذقته أيقنت أن الهوى المر
فكونوا كما شئتم فإنا كما نشا ... صحونا جميعاً وانجلى ذلك السكر
فكم تهت من قد هناك وطلعة ... بغصن ولا غصن وبدر ولا بدر
وإن كان زيد صدكم عن وصالنا ... فلم تخطئوا شيئاً كذا صدنا عمرو
وإن كنتم أنسيتم العهد فاسألوا ... ليخبركم هل مر يوماً له ذكر
تقضي الهوى منا ومنكم فكلنا ... سواء ولكن منكم بدأ الشر
ولا شر في أمر عرفنا به الذي ... لنا عندكم حتى استوى السر والجهر
فلا مقلة عبرى بأجفانها قذى ... ولا كبد حرى بأثنائها جمر
ولا زادنا حب جوى كل ليلة ... ولا سلوة الأيام موعدها الحشر (1)
وكنا كما شاء الغرام كأننا ... لفرط امتزاج بيننا الماء والخمر
فكم ليلة ما شاب إظلامها دجى ... وكم ليلة بالهجر ما شابها فجر
فأعقبكم ذاك الوفاء ملالة ... فلا بأس هذا الغدر شيمته الغدر
وإني وإن ألفيت في ذاك راحة ... وباتت يدي منكم وراحتها صفر
لمثن ولكن لا يقابل هجركم ... سوى الهجر لا عتب يمض ولا هجر وقال أيضاً:
__________
(1) فيه إشارة إلى قول أبي الصخر الهذلي:
فيا حبها زدني جوى كل ليلة ... ويا سلوة الأيام موعدك الحشر(4/90)
ما ضر من شفع الصدود ببعده ... لو علل الكلف المشوق بوعده
أو لو شفاه بزورة بعد النوى ... ليرى الذي فعل البعاد بعبده
ظبي من الأتراك خال باله ... من حال ملآن الفؤاد بوجده
ريان من ماء الشباب إذا مشى ... تثني الغصون على تثني قده
ما كنت أشكو من قساوة قلبه ... لو أنه أعدته رقة خده
أبكي ويضحكه التدلل عن نقا ... برد شفاء محبه في برده
وأمير حسن ناظري والقلب من ... أعوانه أبداً علي وجنده
علماً بأن اللحظ منه صارم ... عضب وما حذرا مواقع حده
لو زارني لفضضت ختم رضابه ... ما بغيتي في ورده أو ورده
وأجلت كفي في مجال نطاقه ... في غوره وكففتها عن نجده
قالوا به سقم فقلت لعله ... في جفنه أو خصره أو عهده
يا سالبي طيب الرقاد وإنما ... أسفي علي فقد الخيال كفقده
لولا انتظار الطيف يطرق في الطرى ... ما راح دمعي سائلاً في رده وقال أيضاً:
أيا رشأ بت من حبه ... فقيد الكرى قلق المضجع
ومن أصبحت نار وجدي به ... تؤججها في الحشا أدمعي
" ومن إن تدم مقلتي لحظها ... إلى وجهه تدم أو تدمع "
ومن غير ذكراه لم يحل في ... لساني ولا حل في مسمعي
ومن حاز قلبي طوعاً لديه ... متى يدعه لحظه يتبع
دمي لك فارفع شبا السيف من ... لحاظك عن مهجتي أو ضع
وحكم حياتي في راحتيك ... فخذها إن اخترتها (1) أو دع
فصن ذا المحيا الذي في سناه ... دليل على قدرة المبدع
__________
(1) ص: اخترها.(4/91)
فما ربة الخدر إن أسفرت ... بأحوج منك إلى البرقع
ولاح يعنفني في الغرام ... وهل يسمع اللوم من لا يعي
وأنكر ما يدعي من هواه ... وسقمي يثبت ما يدعي
رآك فساعدني في الحنين ... وأضحى على من لحاني معي وقال أيضاً:
خليلي هذا البرق أسيافه تنضي ... فهيا عسى حتف الظلام به يقضى
فليس لنا بالصبح عهد (1) لأننا ... عهدناه من قبل التفرق مبيضاً
ولا بالكرى علم وهل كان لامرئ ... نأى عنه من يهواه أن يعرف الغمضا
هم هجروا برد الظلال وإنما ... حشاي، وحاشاهم، أقامت على الرمضا
مضوا فاسترد الدهر أنسي الذي مضى ... كأن له عندي بقربهم قرضا
وبانوا فآلى (2) البان لا بان بعدهم ... ولا عانقت أغصانه بعضها بعضا
عريب سبوا نومي ولم تدر مقلتي ... كما سلبوا قلبي ولم تشعر الأعضا (3)
فليتهم عادوا وقلبي فداهم ... وأرضي بأن تضحي خدودي لهم أرضا وقال أيضاً:
أعلي في حب الديار ملام ... أم هل تذكرها علي حرام
أم هل أذم إذا ذكرت منازلاً ... فارقتها ولها علي ذمام
دار الأحبة والهوى وشبيبة ... ذهبت وجيران علي كرام
فارقتها فأرقت من وجدي بهم ... أفهل لهم أو للكرى إلمام
كانوا حياتي وابتليت بفقدهم ... فعليهم وعلى الحياة سلام
أشتاقها شوق الغريب مزاره ... سفهاً، وإلا أين مني الشام
وتروقني خدع المنى منها وقد ... بعد المدى وتمادت الأيام
__________
(1) ص: عهداً.
(2) ص: فألا.
(3) مر البيت ص: 83.(4/92)
وتلذ لي سنة السكرى لا رغبة ... في النوم بل لتعيدها الأحلام
وتمثل الأوهام لي أني بها ... ثاو (1) ولذات الهوى أوهام
فكأن ربع تشوقي وخيالها ... دمن ألم بها فقال سلام
ليس الغرام بها لأن نسيمها ... وان وثغر رياضها بسام
بل للديار إذ (2) الشباب مطاوع ... فيها وأيام الزمان وسام
إذ لا نخاف بها الوشاة وحولنا ... فيها العيون وعندنا النمام
الورد خد والبنفسج عارض ... والنور ثغر والقضيب قوام
والراح ريق أو حديث رائق ... والنقل لثم والقيان حمام
ولقد نقلت إلى الأجل وإنما ... عصر الصبا أيامه الأيام
لو عاد لي عصر الشباب رأيتها ... بعيون صب ماؤهن غرام وقال أيضاً:
يا ليلة بات ثغر الكأس معتنقي ... فيها فداك سواد القلب والحدق
إن كنت أنشر صباً ميتاً فلقد ... أمات فقدك ما أبقيت من رمقي
سمحت لي برشاً أدري الوشاة به ... جبينه والشذا من نشره العبق
في روضة كلما ماست معاطفه ... فيها تسترت الأغصان بالورق
وبات يطفيء بالعذب المبرد من ... لماه ما أضرمت خداه من حرقي
وبت حاوي بدر التم إذ بيدي ... طوقت اسود ذاك الشعر في عنقي
وجاء يسعى بها حمراء قبالها ... بوجهه فبدت شمسين في أفق
بكر حبتها ثناياه الحباب كما ... خداه ألقت عليها حمرة الشفق
وقال دونكها إن شئت من قدحي ... أو من لمى شفتي اللعساء أو حدقي
كل مدام وإن شككت ها شفتي ... وهذه الكأس فاختر ما تشا وذق
__________
(1) ص: ثاوي.
(2) ص: إذا.(4/93)
فيا لها ليلة قضيتها عجباً ... الشمس مغتبقي والبدر معتنقي وكتب إليه علاء الدين ابن غانم من حصن صهيون:
إليك شهاب الدين نشكو متاعباً ... فأنت الذي ما زلت ترثي لمن شكا
إلى الله نشكو حصن صهيون إننا ... إلى الرفق فيها لم نجد قط مسلكا
لتغييره وجه الوجود مقطب ... عليه وعين الشمس زالت من البكا
أصم صراخ الرعد فيه مسامع ال ... برايا وستر البرق وجداً تهتكا فأجابه شهاب الدين رحمهما الله تعالى:
ألم يكفني شوق إليه وأدمع ... عليه إذا ما جادت الغيث أمسكا
وأني مذ فارقت - لا ذقت بعده - ... محياه لم أصحب حميماً سوى البكا
إلى أن شكا حالاً غدوت لحملها ... أكابد من همي به فوق ما شكا
وحرك أشجاني على أن في الحشا ... لها باعثاً (1) من نفسها ومحركا
فيا نازحاً أودى بقلبي ولم يزل ... بإخلاصه في حبه متمسكا
وحقك لو عاينت ما في جوانحي ... لساءك أو ما في ضميري لسركا
جوى لو غدا في حصن صهيون بعضه ... تزلزل أو أخني عليه تدكدكا
وتوحيد وجد لو تقسم لم تجد ... على الأرض في دين المودة مشركا
فصبراً، على أني وقد غبت رمته ... فلم ألق نحو الصبر بعدك مسلكا
فهل هو إلا البرق أومض موهناً ... لديك ليحكي نار وجدي فما حكى
أو القطر يهمي وهو مذ شطت النوى ... رأى عبرتي تجري فمثلها لكا
أو الشمس أخفت وجهها عنك كي ترى ... وقد غبت عني وحشة الأفق بعد كا
عساك ترى الرأي الموفق بعدها ... فإن الذي أغراك من قبل غركا وكتب إلى الشيخ علاء الدين ابن غانم:
__________
(1) ص: باعث.(4/94)
سيدي قربك عندي ... منتهى سولي وقصدي
أنت أحلى في فؤادي ... من دنو بعد بعد (1)
فلم اخترت فراقي ... وأنا الليلة وحدي
كن جوابي تغنم الوا ... فر من شكري وحمدي
وتكن أكرم مولى ... قد تمشي نحو عبد فأجابه علاء الدين ابن غانم:
لم أغب عنك بودي ... يا أعز الناس عندي
لكن الحرمان يقصي؟ ... ني ويدنيني سعدي
أنا للخدمة ".... " ... كل وقت متصدي
لا على رجلي أسعى ... بل على رأسي وخدي وقال رحمه الله تعالى:
أيها المنزل الذي كان فيه ... لتجلي شموسهم إشراق
والذي كان فيه بدر المسرا ... ت تماماً لا يعتريه محاق
أوحشوني مذ فارقوني فهل أص ... بحت مثلي إليهم تشتاق
فابك لي مسعداً عليهم فلا يأ ... س إذا ما تساعد العشاق وقال أيضاً:
وبمهجتي من سل صارم لحظه ... فحمى رياض خدوده أن تجتنى
لو أن رقة خده أو لفظه ... أو ريقه في قلبه نلت المنى وقال أيضاً:
قبلت رجل حبيبي ... فازور واحمر خدا
وقال تلثم رجلي ... لقد تنازلت جدا
__________
(1) ص: بعدي.(4/95)
فقلت لم آت ذنباً ... ولا تعديت حدا
رجل سعت بك نحوي ... حقوقها لا (1) تؤدي وقال في مليح حراث:
عشقت حراثاً مليحاً غدا ... في يده المساس ما أجمله
كأنه الزهرة قدامه ال ... ثور يراعي مطلع السنبله وكتب إليه علاء الدين ابن غانم لغزاً في أحمد:
نصف اسم من أهواه في قلبه ... أمر لغير الفائت القاني
ونصفه الأول معكوسه ... في العكس حرف وهو حرفان فأجابه رحمهما الله تعالى:
كتم اسم من همت غراماً به ... أحمد من كشف وإعلان
فإن نأى فابك على فقده ... بالعكس من نصف اسمه الثاني
وإن تصحف عكس نصف اسمه ... أمنت من صد وهجران وقال:
يا حياتي من حياتي بعدما ... بنت عنهم والنوى أقتل شي
ليتهم لو عاينوني ليروا ... ميتاً من بعدهم في زي حي
__________
(1) ص: إلاّ.(4/96)
509 - (1)
غازان المغلي
محمود بن أرغون المغلي الجنكزخاني صاحب العراقين وخراسان وفارس وأذربيجان والروم؛ كان شاباً عاقلاً شجاعاً مهيباً مليح الشكل، ملك سنة ثلاث وتسعين وستمائة فحسن له نائبه توزون الإسلام فأسلم سنة أربع وتسعين، وفشا الإسلام في التتار. وطرق الشام وغلب عليه بعد أن قل (2) العساكر الإسلامية. وكان يعف عن الدماء لا عن المال، ومات بقرب همذان (3) سنة ثلاث وسبعمائة في شوال، ولم يتكهل، ونقل إلى تبريز، ودفن بتربيه؛ واشتهر أنه سم في منديل تمسح به بعد الجماع، فتعل ومات، وقام بعده أخوه خربندا (4) .
وكان له خبرة بسياسة الأمور وتدبيرالملك، وكان قد التحق في أفعاله بجده الأكبر هولاكو، ولم يكن فيه ما يشينه غير أنه كان بخيلاً، لكن كانت هيبته قوية ورعيته في زمانه آمنة، ولما توفي كتب نائب البيرة مطالعة إلى السلطان الملك الناصر يخبره فيها بوفاته بخط علاء الدين الوداعي، وكانت الأخبار قد اختلفت بوفاته كثيراً:
قد مات قازان بلا مرية ... ولم يمت في الحجج الماضيه
بل شنعوا عن موته فانثنى ... حياً ولكن هذه القاضيه
__________
(1) الدرر الكامنة 3: 292 والنجوم الزاهرة 8: 212 ودول الإسلام 2: 160 وذيل العبر: 26؛ ولم ترد الترجمة في المطبوعة.
(2) كذا في ص، ولعلها: فل.
(3) ص: همدان.
(4) ص: خر نبدا.(4/97)
فكتب جواب المطالعة الشيخ شهاب الدين محمود بخطه إلى الأمير سيف الدين طوغان نائب البيرة: ووقفنا على البيتين اللذين نظما في وصف حال قازان وتحقق موته بعد اختلاف الأخبار فيه، والجواب عنهما:
مات من الرعب وإن لم تكن ... بموته أسيافنا راضيه
وإن يفتها فأخوه إذا ... رأى ظباها كانت القاضيه 510 (1)
صفي الدين القرافي
محمود بن محمد بن حامد بن ابي بكر، الشيخ الإمام العالم المحدث المتقن المفيد صفي الدين القرافي الصوفي أخو الشيخ المعمر شهاب الدين الصوفي؛ ولد سنة سبع وأربعين وستمائة، وتوفي سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة.
قرأ مسند الإمام أحمد على أبي الغنائم بن علان، وكتب العالي والنازل، وكان فصيح العبارة عذب القراءة، ديناً صيناً؛ حصل له لما تكهل يبس وسوداء، فاستوحش ولازم الوحدة، وبقي يحدث نفسه ولكنه جمع ونسخ وتعب، وخلط " صحاح " الجوهري والأزهري و " المحكم " في ديوان واحد، ووقف كتبه بالخانقاه الشميصاتية، وبها توفي رحمه الله تعالى.
__________
(1) الزركشي: 321 والدرر الكامنة 5: 103 ودول الإسلام 2: 176 والبداية والنهاية 14: 108 وذيل العبر: 130، ولم ترد الترجمة في المطبوعة.(4/98)
511 - (1)
" كشاجم "
محمود بن الحسين، أبو الفتح الكاتب المعروف بكشاجم؛ هو من أهل الرملة من نواحي فلسطين، هو لقب نفسه " كشاجم " فسئل (2) عن ذلك فقال: الكاف من كاتب والشين من شاعر والألف من أديب والجيم من جواد والميم من منجم. وقال بعضهم: كشاجم طخ، وزاد الطاء من طباخ والخاء من خراء.
وكان من شعراء أبي الهيجاء " ... " (3) عبد الله بن حمدان والد سيف الدولة. وله من التصانيف كتاب " أدب النديم ". " كتاب المصايد والمطارد ". " كتاب الطبيخ ". وكانت وفاته في حدود الخمسين وثلثمائة. ومن شعره (4) :
بأبي وأمي زائر متنقب ... لم يخف ضوء الشمس تحت قناعه
لم أستتم عناقه لقدومه ... حتى ابتدأت عناقه لوداعه وهو من قول العكوك (5) :
__________
(1) الزركشي: 322 والديارات: 167 والشذرات 3: 37 (وفيات: 360) وحسن المحاضرة 1: 560 (وفيه محمود بن محمد بن الحسين) والفهرست: 139، وقد طبع ديوانه غير مرة، ولكني أشير هنا إلى مخطوطة دار الكتب رقم: 597 أدب، ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.
(2) ص: فسأل.
(3) هناك بياض في ص، ولا أظن أنه سقط شيء في هذا الموضع.
(4) الديوان: 72.
(5) هو علي بن جبلة، شاعر عباسي كان ضريراً، توفي سنة 213 راجع الأغاني 19: 287 والشعر والشعراء: 742 وتاريخ بغداد 11: 359 وطبقات ابن المعتز: 171 وابن خلكان 3: 350 ونكت الهميان: 209؛ وجمع شعره الدكتور حسين عطوان (دار المعارف 1972) .(4/99)
راقب الخلوة حتى أمكنت ... ورعى (1) السامر حتى هجعا
كابد الأهوال في زورته ... ثم ما سلم حتى ودعا ومن شعر كشاجم يصف النار (2) :
كأنما الجمر والرماد وقد ... كاد يواري من نورها نورا
ورد جني القطاف أحمر قد ... ذرت عليه الأكف كافورا وقال أيضاً (3) :
جاءت بوجه كأنه قمر ... على قوام كأنه غصن
غنت فلم تبق في جارحة ... إلا تمنت بأنها أذن وقال أيضاً (4) :
أرى وصالك لا يصفو لآمله ... والهجر يتبعه ركضاً على الأثر
كالقوس أقرب سهميها إذا عطفت ... عليه أبعدها من منزع الوتر 512 (5)
" ابن قادوس "
محمود بن إسماعيل بن قادوس القاضي، أبو الفتح المصري الكاتب
__________
(1) ص: ودعا، والتصويب عن ابن خلكان والديوان: 76.
(2) الديوان: 107.
(3) لم يردا في الديوان.
(4) لم يردا في الديوان.
(5) الزركشي: 322 والخريدة (قسم مصر) 1: 226 وحسن المحاضرة 1: 563 وأخبار مصر لابن ميسر 2: 97 وقال الزركشي: ((وقع ديوانه في مجلدين لطيفين)) وقد أكثر من الاختيار له؛ ولم ترد هذه النرجمة في المطبوعة.(4/100)
صاحب ديوان الإنشاء بالديار المصرية؛ أصله من دمياط، قيل إن القاضي الفاضل كان ممن اشتغل عليه، وكان يعظمه ويشميه " ذو البلاغتين "، وكان لا يتمكن من اقتباس فوائده غلاباً إلا في ركوبه من القصر إلى منزله ومن منزله إلى القصر، فيسايره ويجاريه في فنون الإنشاء والأدب. توفي سنة إحدى وخمسين وخمسمائة؛ ومن شعره:
وفاتر النية عنينها ... يواصل الرعدة والهزه
مكبراً سبعين في مرة ... كأنما صلى على حمزه يشير إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قتل عمه حمزة رضي الله عنه كان يقدمه (1) كلما صلى على قتيل قتل يوم أحد.
ومن شعره:
ديباج خديه بسن؟ ... دس عارضيه مفروز
وبخده خال لدا ... ئرة الملاحة مركز ومنه أيضاً:
من عاذري من عاذل (2) ... يلوم في حب رشا
إذا جحدت (3) حبه ... قال كفى بالدمع شا يعني كفى بالدمع شاهداً (4) .
وقال أيضاً (5) :
مداده في الطرس لما بدا ... قبله الصب ومن يزهد
كأنما قد حل فيه اللمى ... أو ذاب فيه الحجر الأسود
__________
(1) ص: يقدمونه.
(2) ص: عاذلي.
(3) الخريدة: نكرت.
(4) ص: شاهد.
(5) يصف كتاباً.(4/101)
513 - (1)
" شمس الدين الكوفي "
محمود بن أحمد بن عبد الله بن داود بن محمد بن علي الهاشمي الحنفي، شمس الدين الكوفي؛ كان أديباً فاضلاً عالماً شاعراً ظريفاً كيساً دمث الأخلاق. ولي التدريس بالمدرسة التشيشية، وخطب في جامع السلطان، ووعظ في باب بدر. توفي في شهور سنة خمس وسبعين وستمائة، ومولده سنة ثلاث وعشرين وستمائة، فمن شعره:
ملابس الصبر نبليها وتبلينا ... ومدة الهجر نفنيها وتفنينا
شوقاً إلى أوجه متنا بفرقتها ... حزناً وكانت تحيينا فتحيينا
أحزاننا بهم لا تنقضي ولنا ... شوق إلى ساكني يبرين يبرينا
يا دهر قد مسنا من بعدهم حرق ... من الفراق إلى التكفين تكفينا
وعدتنا بالتلاقي ثم تخلفنا ... فكم نرى منك تلوينا وتلوينا
ديارهم درس من بعد ما درست ... نفسي بها من تلاقينا تلاقينا
متعت فيها إلى حين فوا أسفا ... إذ عشت حتى رأيت الحين والحينا
كنا جميعاً وكان الدهر يسعدنا ... والكائنات بكأس الأمن تسقينا
فالآن قرت عيون الحاسدين بنا ... بما جرى واشتفت منا أعادينا
فصار يرحمنا من كان يأملنا ... وعاد يبعدنا من كان يدنينا
وبات يخذلنا من كان ينصرنا ... وصار يرخصنا من كان يغلينا
واليوم ألطف كل العالمين بنا ... من عن أحبتنا أضحى يعزينا
__________
(1) الزركشي: 324 محمود بن عابد، وبهامشه أن الصواب في اسمه ((محمد)) ؛ ولم يرد أكثر هذه الترجمة في المطبوعة.(4/102)
ليت العذول يرى من فيه يعذلنا ... لعله إذ يرى عيناً يراعينا
إلى متى نحمل البلوى وعاذلنا ... بغير ما هو يعنينا يعنينا
ما ضر عذالنا لو أنهم رفقوا ... فعذلهم ليس يسلينا ويسلينا
حمائم الدوح في الأغصان نائحة ... كما تنوح فنحكيها وتحكينا
تشجو وتندب من شوق لمن فقدت ... ومن فقدنا فنشجيها وتشجينا
قد نسرت يا أحبانا جرائحنا ... وما لنا غير لقياكم يداوينا
أمراضنا من كلام الشامتين بنا ... فهل زمان يشفينا ويشفينا؟
إنا عطاش إلى أخباركم فمتى ... يأتي رسول يروينا ويروينا؟
بنا إلى عزكم فقر ومسكنة ... فهل بشير يغنينا فيغنيا؟ وقال رحمه الله تعالى:
ارفق بصب لا يريد سواكا ... قد صار من فرط السقام سواكا
أسكنته ربع الغرام فيا له ... من ساكن لا يستطيع حراكا
بالله (1) من أفتاك في سفك الدما ... حتى تسلط طرفك الفتاكا
كم لي بأكناف (2) الأجيرع وقفة ... علي وادي الأراك أراكا
كم صامت بالوجد بنطق حاله ... هذا وكم شاك فؤادي شاكا
ضرب الغرام على النفوس سراداً ... والحسن مد على العقول شباكا
كيف الخلاص من الحمى وبربعه ال ... غزلان تنصب للأسود شراكا
وارحمتا لذوي الوى من جاهل ... متعقل ومغفل يتذاكى
قالوا هلكت بحبه فرحمت من ... من جهله عد النجاة هلاكا
كفوا فما أحلى عذابي في الهوى ... عندي إذا كان المعذب ذاكا
يا صاحبي عرج بجرعاء الحمى ... فهناك رؤية من تراه هناكا
__________
(1) الزركشي: يا بدر.
(2) ص: باصناف.(4/103)
عرب يعز المحتمي بجنابهم ... والعرب ما زالت تعز كذاكا وقال أيضاً:
ما للقلوب سوى الحبيب أنيس ... هو للفؤاد منادم وجليس
جبذ القلوب إلى هواه جماله ... فكأنه للخلق مغناطيس
لا يردك المعقول لطف جمال من ... أهوى فكيف يناله المحسوس
كم قد كتبت إليه قصة غصتي ... بمداد دمعي والخدود طروس
لم يبق دمعي وجنتي إلا عسى ... يوماً لها قدم الحبيب تدوس
دمعي بذكرك مطلق ومسلسل ... وصبابتي وقف عليك حبيس
الناس عشاق وأنت حبيبهم ... والكون ماشطة وأنت عروس
وحماك كم نحرت نحو دونه ... وتطايرت عند الدنو رؤوس
أيقال لي أتلفت نفسك في الهوى ... عجبي وهل للعاشقين نفوس
جردت نفسي ذلك علمت بأنه ... لا يستقيم الكيس لي والكيس
وعكست حال يفي العيون كأنه ... نقش الفصوص صوابه المعكوس
كما قال قوم والحديث تعلة ... وادي العروس وما هناك عروس
قد غرهم آل التوهم مثلما ... غرت بصرح قبلهم بلقيس
يا من دعا أرواحنا فتبادرت ... سبقاً وحن إلى النفيس نفيس
سارت إليك بنا أيانقنا (1) فلا ال ... تقبيل يعجبها ولا التعريس
ومتى وصلن إليك يا كل المنى ... ذهب العنا عنا وزال البوس
العيس تشتاق العقيق لساكن ... لولاه ما حنت إليه العيس وقال أيضاً:
جلا الدجى إذ جلا فينا محياه ... فكم أمات به صباً وأحياه
ممنع تعشق الأكوان بهجته ... بدر بلى ما لبدر التم معناه
__________
(1) ص: أذيفنا.(4/104)
أشتاقه وسواد القلب منزله ... ولبدر ما زال برج القلب مأواه
أكني بليلى ولبنى حين أذكره ... صوناً له وبحالي يعلم الله
بالحب يعرفنا حقاً ونعرفه ... مكمل الظرف يهوانا ونهواه
أدير عيني في الدنيا وزهرتها ... فما يروق لها في الخلق إلا هو
يسوغ لي العذل إذ يشدو العذول به ... لولاه ما ساغ عندي العذل لولاه
لو شاهد القوم ما شاهدت من قمري ... بالعذل ما نطقوا فيه ولا فاهوا
قالوا تسل عن المحبوب قلت لهم ... حاشا لمثلي أن يسلو وحاشاه
أما رأى حسنه من فيه يعذلني ... يا قوم ما أجهل اللاحي وأغباه
يا عز من أنت يا مولاي سيده ... يا ذل من لست يا مولاي مولاه
أهيم إن رمز الحادي بذكر حبي ... ب القلب أو هو سماه وكناه
هيجت وجدي بذكرى من كلفت به ... كرر على مسمعي بالله ذكراه
أعد فأن حديث الحب في أذني ... والله أطيب مسموع وأحلاه وقال أيضاً رحمه الله:
شهود غرامي في هواك عدول ... سهاد ودمع سائل ونحول
وشوقي إلى لقياك شوق مبرح ... ولي شرح حال في الغرام يطول
لقد فضح الصب الحمول ركائب ... سرين وأقمار السماء حمول
سرت وفؤادي موبق موثق بها ... تميل به الأشواق حيث تميل
وهمت ولكن ما وهمت بحب من ... محاسنه ما إن لهن مثيل
حبيب تجني ظالما ًفاحتملته ... وكل محب للحبيب حمول
تجني بلا ذنب علي وملني ... وعن له عما عهدت يحول
ومال على ضعفي ومال إلى العدا ... وأقبل يصغي والعذول يقول
ولم لم ينزه سمعه عن مقالة ... بها كم أتاني كاشح وعذول
ترى هل لنا بعد الفراق تآلف ... وهل لي إلى طيب الوصال وصول(4/105)
لأشكو إليه ما لقيت وما الذي ... جرى البيت ودمعي شاهد ودليل
فو الله ما يشفي المشوق راسلة ... ولا يشتكي شكوى المحب رسول وقال موشح:
قد صفا الوقت وقد رق النسيم ... قم بنا نربح
قد خلا السمت ومن نهوى نديم ... حقنا نفرح
في طوى قد شمت جنات النعيم ... أبداً تفتح
فاختلس من صرف دهر ورقيب ... ساعة الإمكان
فالتواني بعد أن يدنو الحبيب ... غاية الخسران
في الصبا قد جاء في حال الهيوب ... خبر لي راق
وراد أظهر لي ما في الغيوب ... هيج الأشواق
قد تجلى الآن معشوق القلوب ... معشر العشاق
ها حبيب القلب قد أمسى قريب ... أيها الندمان
من له من قربه أدنى نصيب ... لا يكن ندمان
تسكر الألباب كاسات الصبا ... عند وقت السحر
حين تهوى نشر رايات الربى ... وأريج الزهر
وترانا نتثنى طربا ... لبلوغ الوطر
احسدينا في التثني إذ نطيب ... يا غصون البان
أبداً لا يستوي " غصن " رطيب ... وفتى نشوان
قد تعرضت بسكان اللوى ... وحمى الأجرع
اين من يعرف قانون الهوى ... قم ولا تجزع
وائتمر لي واتبعني في الجوى ... وانطبع واسمع(4/106)
هذه النيران عن يمنى (1) الكثيب ... تضرم النيران
ما ينال الفوز منها ويطيب ... أبداً كسلان
يا عذولي ليس ذا وقت العتاب ... فأنا مشغول
أنا ابغي الآن مع كشف الحجاب ... أبلغ المأمول
إن تقل أنت قتيل فالجواب ... رضي المقتول
خلني يا عاذل الصب الكئيب ... كان ما قد كان
فحبيبي نصب عيني لا يغيب ... من ضميري دان وقال أيضاً:
تعالوا نعيد الوصل لا كان من وشى ... فحر اشتياقي بعدكم قد حشا الحشا
وبي رشأ ما في البرية لائم ... نهى روحه والمال زال الرشا رشا
على سخا بالوصل من بعد شحه ... ومن بعد ما قد كان نعش أنعشا
وشى باسمك الواشي إلي فسرني ... وسمعي يا مولاي لما وشى وشا
حديثك سرح يملأ القلب نشوة ... وعبدك يا بدر الدجى إن تشا انتشا وقال في خطلوشاه مملوك علاء الدين الجويني:
آه ولا أعذل إن قلت آه ... قد قتلتني مقلتا خطلشاه
فعارضاه واشرحا قصتي ... له وما قد فعلا عارضاه
لم يفتن من لا رأى حسنه ... ولا سبي يا قوم من لا سباه
خاطرت بالروح لذكري له ... غاية له في الباب دقوا قفاه بلغت هذه البيات علاء الدين الجويني فكتب إليه: حرمة الشيب والآداب تمنعنا عن غاية ما في الباب، وقد رسمنا لمملوكك خطلو شاه يأتي إليك كل نهار كرتين.
__________
(1) ص: يمين.(4/107)
514 - (1)
ابن الملحي الواعظ
محمود (2) بن القاسم بن أبي البدر المحلي (3) ؛ هو الشيخ العالم الفاضل الكامل شمس الدين ابن الملحي الواعظ الواسطي. توفي آخر جمعة في شهر رمضان سنة أربع وأربعين وسبعمائة، رحمه الله تعالى، وقد ناهر السبعين؛ فمن شعره:
رعى الله ربعاً كنتم فيه جيرتي ... وعيشاً تقضي معكم يا أحبتي
وحيا زماناً كان يجمع بيننا ... ونحن جميعاً في سرور ولذة
ولا غيرت أيدي الزمان منازلاً ... نزلتم رباها يا أهيل مودتي
ولا أقفرت تلك الديار التي بها ... تقضت ليالي أنسنا وتولت
إذا ما جرى تذكاركم في مسامعي ... جرى دمع عيني فوق صفحة وجنتي
فلله ما أحلى قديم حديثكم ... وأطيبه عندي عشاي وغدوتي
أحبة قلبي أين أنسي بقربكم ... لقد هدني من بعدكم طول وحشتي
تعجلتم بالبعد لما عرفتكم ... فما وقع التعريف إلا لشقوتي
أحن إليكم كلما هبت الصبا ... على أثلات الرقمتين ورقت
ويطلبكم قلبي على البعد والنوى ... وأين سبيلي بعدكم، أين حيلتي
نظرت إلى الأحباب يوم وداعهم ... فكانت من الأحباب آخر نظرتي
وناديتهم (4) هذا الرحيل، متى اللقا ... ألا خبروني كم على الصبر مدتي؟
__________
(1) الزركشي: 326 والدرر الكامنة 4: 260 (وفيه محمد بن القاسم كما في ص) ؛ ومعظم الترجمة ثابت في المطبوعة.
(2) ص: محمد، وصوبنا عن الزركشي.
(3) الدرر: المليحي.
(4) ص: وناديتم.(4/108)
وقلت لهم قلبي لديكم وديعة ... يسافر معكم فاحفظوا لي وديعتي
عسى تسمح الأيام تجمع بيننا ... وترجع أوطاري ولذاتي التي
ويطرب سمعي من لذيذ حديثكم ... وتنظر عيني أنجمي وأهلتي وقال أيضاً:
أنوح إذا الحادي بذكركم غنى ... وأبكي إذا ما البرق من نحوكم عنا
وكيف شكا قلبي تداويت باسمكم ... ونعم الدوا أنتم على قلبي المضنى
بكم ولهي لا بالعذيب ولا النقا ... وأنتم مرادي لا سعاد ولا لبنى
لقد عاش من أنتم من العمر حظه ... ومات الذي في غيركم عمره يفنى
يلد لي الليل الطويل بذكركم ... فما أطيب الليل الطويل إذا جنا
أحبتنا أين المواثيق بيننا ... زمان خلونا الحمى وتعاهدنا
ظنناكم للعمر ذخراً وعدة ... فيا قرب ما خيبتم بكم الظنا
سمعتم من الأعدء قولهم بنا ... ومن أجل ما قالوا تغيرتم عنا
تغيرتم عنا بصحبة غيرنا ... وأظهرتم الهجران، ما هكذا كنا
واقسمتم أن لا تحولوا عن الوفا ... فحلتم عن العهد القديم وما حلنا
أأحبابنا ما كان أهنأ عيشنا ... ولكنه ولى كطيف بدا وهنا
مررنا على أوطانكم بعد بعدكم ... فمذ نحن شاهدنا أماكنكم نحنا
ولما تخيلنا جمالكم بها ... وقفنا على تلك الديار وسلمنا
سلام على العيش الذي بكم مضى ... فما كان أشهاه لدي وما أهنا
ليالي كان الدهر معنا موافقا ... فلما نأيتم ما رأيت له معنى
لئن عاد ذاك العيش يا سادتي بكم ... وعدنا إلى تلك الديار كما كنا
غفرت لأيامي جميع ذنوبها ... وقلت لك الإنعام عندي والحسنى وقال أيضاً:
بدا البرق من حزوي فهاج حنينه ... وهبت صبا نجد فزاد أنينه(4/109)
وغنى له الحادي بأيام حاجر ... ففاضت بأمطار الدموع جفونه
وذكره العيش الذي كان وانقضى ... فكاد جوى يطرا عليه جنونه
غريب بعيد الدار فارق أهله ... كئيب وحيد بان عنه قرينه
مريض إذا هب النسيم من الحمى ... يطيب له خفاقه وسكونه
تحمل أثقال الغرام وماله ... معين على حمل الغرام يعينه
وصان الهوى في قلبه كل جهده ... فلما نأى الأحباب بان مصونه
وظن بأن الدهر يجمع شمله ... بمن يتمناهم فخابت ظنونه
أهيل الحمى بنتم فدمعي مطلق ... وقلبي قد ضاقت عليه شجونه
أهيل الحمى لا أوحش الربع منكم ... لقد كنتم للربع زيناً يزينه
مررت على الوادي وكان زمانكم ... بلابله تشدو وتجري عيونه
فأبصرته من بعدكم وهو قد عفا ... وأقفر منه سهله وحزونه
فناديته أين الذين عهدتهم ... هنا وغدير العيش صاف معينه؟
فقل لي الوادي نأو وترحلوا ... وهذا فؤادي للتنائي حزينه
فقلت فهل يسخو الزمان بعودهم ... فقال لعل الدهر يسخو خؤونه
إلى أن يعود الماء في النهر جاريا ... تموت به أطياره وغصونه
وكم مات صب (1) بالتوقع والمنى ... ولم تقض من خصم الزمان ديونه وقال أيضاً:
هنيئاً لمن أمسى وأنت حبيبه ... ولو أن نيران الغرام تذيبه
وطوبى لقل أنت ساكن سره ... ولو بان عنه إلفه وقريبه
وواهاً (2) لمطرود عن الباب مبعد ... لقد ضاق في هذا الوجود رحيبه
وحقك ما من ذاق وصلك ميت ... " يحق عليه ندبه ونحيبه " (3)
__________
(1) ص: صباً.
(2) ص: وواه، وهو صحيح عند الزركشي.
(3) اضطرت هذا البيت مع الذي يليه في ص، والتصويب عن الزركشي.(4/110)
" أيا غاية الآمال من أنت أنسه " ... فكل بلاء عنده يستطيبه
ومن أنت راض عنه في طي غيبه ... فما ضره والله من يستغيبه
وما ضر صباً أن يبيت وما له ... نصيب من الدنيا وأنت نصيبه
عبيدك في باب التطفل واقف ... إذا لم تجبه أنت من ذا يجيبه
غريب عن الأوطان يبكي لذلة ... وهل ذاق طعم الذل إلا غريبه
فقير من الأعمال أنت غناؤه ... مريض من الآثام أنت طبيبه
تقضت لياليه وفات زمانه ... ولم يدر حتى لاح منه مشيبه
غدا خاسراً فالعار يكفيه والعنا ... وقد أن من ضوء النهار مغيبه وقال أيضاً:
سلام عليم هل تراكم علمتم ... بما نال قلبي منذ ساعة بنتم
وهل عندكم ما عند قلبي من الأسى ... وهل مثل وجدي للفراق وجدتم
أيا سادتي والله عهدي بلذتي ... وطيب حياتي منذ كنت وكنتم
ليالي كانت كالنهار منيرة ... سهرت بها من طيبها وسهرتم
فلا كان يوم (1) كان آخر عهدكم ... وقد أسرع الحادي سحيراً وسرتم
ولا كان يوم فيه خلفت بعدكم ... ونحن بوقفات الوداع نسلم
ترحلت عنكم كارهاً غير طائع ... أؤخر أقداماً وأخرى أقدم
وودعتكم والقلب يأبى وداعكم ... وفي كبدي نار الأسى تتضرم
علمت من الأيام كل كريهة ... ولكن هذا البعد ما كنت أعلم
حرمتم جفوني أن ترى غير شخصكم ... كما للذيذ النوم عنها حرمتم
وعيني حرمتم أن تراكم كأنما ... لقاؤكم طيب وجفني محرم
ربيعي جمادى حيث سمعي لغيركم ... به رجب منكم ونومي محرم
ولما حدا حادي الفراق بشملنا ... وأنجدت سراً والأحبة أتهموا
__________
(1) ص: يوماً.(4/111)
وأصبح منكم منزل الأنس خالياً ... تبين عليه وشحة وهو مظلم
وأضمرت (1) توديعاً له وهو ساكت ... ولكن لسان الحال منه يكلم
وقالت لي الأوطان هل عودة بكم ... فقلت لها ربي بذلك يعلم وقال موشح:
نشرت ريح الصبا روح الصباح ... فصبا المشتاق
وبكى عصر الصبا الماضي وناح ... من جوى الإشفاق
قدحت في العود نسمات الربيع ... لهب الأزهار
وانثنت ترقم بالوشي البديع ... جاري الأنهار
فكست عن برده البرد الخليع ... خلع النوار
وبدت في خضرة الماء القراح ... صفرة الأوراق
كطراز مذهب فوق وشاح ... صنعة الخلاق
مثل الورد على الماء المعين ... مثل الإنسان
زهرة العمر له في الأربعين ... وبدا النقصان
ولقد يعجله بعض السنين ... يكسر الأغصان
فافهم الجد فما المعنى مزاح ... وافتح الآماق
وادخر ما اسطعت من فعل الصلاح ... قيل أن تعتاق
مثل الدنيا كبيت العنكبوت ... أمره موهون
من بها أيامه سهواً تفوت ... فهو المحزن
فسعيد الناس عن الهم استراح ... وابتغى ما راق
وإذا حف من الطير الجناح ... أدرك السباق
__________
(1) ص: وأضمر.(4/112)
ما لأهل النوم في الليل نصيب ... من لقا المحبوب
لا ولا تلقى بعيداً كالقريب ... يدرك المطلوب
وكذا من لا يرى وجه الحبيب ... إنه مكروب
فدع النوم فصبح الشيب لاح ... مسفر الإشراق
وانقضى ليل الصبا الداجي وراح ... مثل ركب ساق
أين أهل الأرض من أيام عاد ... أين أهل الأرض
وقرون ملأوا هذي البلاد ... طولها والعرض
سيعود الكل في يوم المعاد ... إذ يقوم العرض
كلهم يسعى إذ ما الصور صاح ... شاخص الأحداق
فلكم من أوجه ثم صباح ... حظها الإحراق
سيمور الفلك الأعلى المحيط ... من علا الأفلاك
ويضيق الخرق من هذا البسيط ... وترى الملاك
عندها كل خليل وخليط ... قلبه ينساك
وترى الأعين تجري بانسفاح ... دمعها الدفاق
زائدات فوقأواه البطاح ... تبلغ الأعناق
أرتجي ربي ويكفيني الرجا ... فهو الغفار
والنبي المصطفى بدر الدجا ... أحمد المختار
من على سنته سار نجا ... من لهيب النار
مرشد الخلق إلى سبل النجاح ... طاهر الأعراق
ذا الندى بحر العطايا والسماح ... طيب الأخلاق وقال أيضاً:
ما غردت الورق مع الإشراق ... فوق الورق(4/113)
إلا وحلمت من جوى الأشواق ... ما لم أطق
ما نسمت الصبا صباحاً وسرت ... إلا بمسيرها لروحي أسرت
بالله ولا ذكرت أيامكم ... إلا ومدامعي من الشوق جرت
أصبو فإذا ما التهبت بي ناري ... ظلت حدقي
تبكي أسفاً لعل دمعي الجاري ... يطفي حرقي
أيامكم قضيت عيشاً رغدا ... بنتم فبقيت بعدكم منفردا
ما أوحش دنياي إذا لم أركم ... لا أوحشني الزمان منكم أبدا
يا مصطبحي الصفو عن الأكدار ... يا مغتبقي
من بعدكم غرقت في تيار ... بحر الغرق
من يوم عدمتكم عدنت الفرحا ... واعتضت بغصة الجوى والبرحا
والقلب ساقه دهره بعدكم ... كأسا وإلى الآن فما عاد صحا
سكران من الغرام والتذكار ... بادي القلق
ظمآن إلى أهيله والجار ... حلف الأرق
ودعتكم وعبرتي تندفق ... والقلب بنار وجده يحترق
ناديت قفوا بالله كي أنظركم ... هيهات نعود بعدها نتفق
قد كان تبقى لي من أوطاري ... بعض الرمق
فاسترجع مني بيد الأقدار ... ما كان بقي
ما أشوقني إلى قدوم الغياب ... ما أتوقني إلى وجوه الأحباب
إن عاد لي الزمان يوماً (1) بهم ... لم يبق على الزمان والله عتاب
أو إن أمنت بقربهم أسراري ... بعد الفرق
__________
(1) ص: يوم.(4/114)
حدثتهم بكل ضيم طاري ... القلب لقي وقال أيضاً:
كل من يبكي على إلف جفاه ... أو حبيب مات
وأنا أبكي على طيب الحياه ... وزمان فات
أين عمري، وعلى عمري وآه ... خلف الحسرات
زار كالطيف وولى بسلام ... حامل الأوزار
لم يكن إلا كطيف في المنام ... أو كطير طار
كلما أفكر في عمر الشباب ... ونزول الشيب
وفعال لي أحصاها (1) الكتاب ... كم بها من عيب
كدت أن أحثو (2) على رأسي التراب ... وأشق الجيب
وأنادي من يعزي المستهام ... فاقد الأوطار
وقته فات وما نال المرام ... وكفاه العار
كلما قلت عسى قلبي الشقي ... يبلغ الآمال
وأنال الخير فيما قد بقي ... وتجود الحال
حطني الدهر فكم ذا أرتقي ... والمدى قد طال
وكأن قد جاءني داعي الحمام ... بلغ الإنذار
فانثنت بعدي أغاريد الحمام ... تندب الآثار
بان من كانوا لقلبي مؤنسين ... من جميع الناس
رحلوا فاليوم لي قلب حزين ... دائم الوسواس
__________
(1) ص: أحصاه.
(2) ص: أحثي.(4/115)
فتراني خضاعاً للشامتين ... مطرقاً (1) بالراس
غائصاً في بحر فكر وغرام ... موجه زخار
لا أبالي من رحل أو من أقام ... من جوى الأفكار
أين من كانوا لضيمي (2) مشتكي ... ولأسراري
أين من كانوا لظهري متكا ... أين أنصاري
بينما هم مثل بستان زكا ... نهره جاري
هب فيهم عاصم الموت الزؤام ... بهوا الإعصار
فإذا النبت به عصف حطام ... نهره قد غار
جز بأطلال خلت بعد السكن (3) ... واندب الأطلال
أين سكانك يا هذي الدمن ... والعلا والمال
إنها إن لم يكن فيها سكن ... ليقول الحال
ها هنا كنا جميعاً بانتظام ... في الذي نختار
أصبحت دارهم بعد الزحام ... ما بها ديار
أيها الخاطي بليل الخاطئين ... لاح ضوء الفجر
انتبه قبل لحاق الأولين ... ومضيق الحجر
واصطبر فالله يجزي الصابرين ... بعظيم الأجر
فبيوم وبشهر وبعام ... تنقضي الأعمار
وجزاء الخلق في يوم القيام ... جنة أو نار
ليس لي غير إلهي ذي (4) الكرم ... غافر الزلات
__________
(1) ص: مطرق.
(2) ص: لظيمي.
(3) ص: السكون.
(4) ص: ذا.(4/116)
والنبي المصطفى بدر الظلم ... صاحب الآيات
أحمد الهادي الرسول المحتشم ... سيد السادات
بدر حق يخجل البدر التمام ... مشرق الأنوار
الذي كان تغشاه الغمام ... وهو في الأسفار
سلم الله عليه وعلى ... آله الأعيان
وعلى صديقه تاج العلا ... سابق الإيمان
وعلى الفاروق مأمون الملا ... والرضا عثمان
وعلي فارس الجيش الهمام ... الفتى الكرار
وعلى أولاده الزهر الكرام ... خيرة الأخيار وقال كان وكان:
دع عنك شرب الهليلج ... يا من فؤاده به حمى
واترك ذنوبك أي من ... ما يحمل التعذيب
أهوال يوم القيامة ... حدث عن البحر ولا حرج
أقل ما في النوبة ... الطفل فيه يشيب
القبر قال نبيك ... أول منازل الآخره
من أول الدن دردري ... والله الأخير عجيب
من بالأمل يتمسك ... مثل الذي يقبض الهوا
ومن من الثلج بيتو ... لا يأمن التخريب
من الغراب دليله ... أي المنازل يسكنو
ومن لإبليس يبتع ... يبصر لايش يصيب
من تاب عن ذنب واحد ... وذنب آخر عاد فعل
كم هرب من رشقه ... قعد حذا مزريب(4/117)
على الطبيب النسخه ... وما عليه المزوره
من أهلكه تخليطه ... ما يلتزم بو طبيب
إن كنت فحل ثابت ... نما تميل مع الهوى
الفحل للقلع آمن ... وما يخاف الهيب
خليت أرض الجنه ... ما فيها نخله واحده
واخترت أرض الدنيا ... جريب خلف جريب
فدرب دينار تعبر ... نسيت درب المقبره
لو جزت في درب صالح ... عرفت درب حبيب
عاملت دنياك مده ... فعامل الله مثلها
إن ريت أنك تخسر ... فارجع وقل تجريب
إذا خلوت بنفسك ... فعلت ما لا ينبغي
أي من خلا أين تخلو ... والحق منك قريب
ترمي ليوسف قلبك ... في منقلب جب الهوى
وعند يعقوب تبكي ... تقول أكله الذيب
أفنيت بندق عمرك ... في رمي عصفور الهوى
وللجليل ما عرفته ... لإيش بقيت تصيب
تدب فوقك نمله ... تمد إيدك ترضها
يا من يرض النمله ... كم في التراب دبيب
تم العمل يا شبيطر ... لا تتبع نسر الأمل
وأي عقاب المظالم ... القوس في التعقيب
تسف في قربانك ... سحت الحرام ولا تسل
هم يوم تصرع وتخرج ... من الجميع سليب(4/118)
حلوان قولك وسمتك ... لكن مراغه داخله
مالك إلى الحق موصل ... فكيف تصل لطبيب
قل للفقيه المهذب ... قلبك يكن فيه تبصره
فإن تنبيه قلبك ... تتمة التهذيب
لا بد ذي حركاتك ... بعد التصرف تتجزم
وواو جمعك وحيتك ... تخرج بلا ترتيب
اذخر لنفسك ذخيره ... عسى تراها في غدا
نمى تعذب وغيرك ... بما جمعت يطيب
لا بد لك أن تفلس ... ولا يغرك ذا الغنى
ولو ورثت الدنيا ... بالفرض (1) والتعصيب
أي من بشوطو واقف ... في منصف العمر انتبه
وأسرع فشمس حياتك ... بقي القليل وتغيب
شرفك النفس ما هو ... بالنقش والنفش والنسب
قد قال: سلمان منا ... ولم يكن بنسيب
من خاط ثوب المعالي ... بلا جميل يحمله
أصبح وستره شهره ... وبان وفيه وريب
واسط مقام الفصاحه ... بغداد دار الأذكيا
وأنا فقير حصل لي ... من كل أرض نصيب
فصار معجون قلبي ... يشفي القلوب من المرض
ولا يشوبه مراره ... لأن فيه تركيب
__________
(1) ص: بالقرض.(4/119)
وأنشده شخص هذين البيتين:
أيامنا بالحمى حييت أياما ... وزادك الله إجلالاً وإكراماً
بالأمس قد كنت أحلى ما بأنفسنا ... فما أصابك حتى صرت أحلاما وسأله أن يزيد عليها (1) فقال:
يا سادة جرحوا قلبي ببينهم ... وحملوه على الآلام آلاما
لله ليلات أنس كن لي بكم ... عصيت فيهن عذالاً ولواما
كانت لنا من عطيات الزمان فما ... دامت علينا ولا المعطي لها داما وقال ذوبيت:
لما رأت العين بياض الشعرات ... فاضت أسفاً وقرحتها العبرات
ثم التفتت إلى الصبا وهي تقول ... قف صل على العمر صلاة الأموات وقال أيضاً:
ما يلمع بارق بذات العلمين ... إلا وبعين كل عين لي عين
تالله ولا أنظر يوماً حسناً ... إلا ويقول خاطري أين وأين وقال أيضاً:
في أي بطالة وفي أي زمان ... أستبدل في الهوى فلاناً بفلان
أرجو بدلاً هيهات ولى عمري ... قد كان من الصبا ومني ما كان
__________
(1) كذا في ص.(4/120)
515 - (1)
تاج الدين الصرخدي
محمود بن عابد (2) بن حسين بن محمد، الشيخ تاج الدين أبو (3) الثنا التميمي الصرخدي النحوي الشاعر المشهور الحنفي؛ ولد بصرخد سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، وتوفي بدمشق سنة أربع وسبعين وستمائة، وكان فقيهاً صالحاً، نحوياً بارعاً، شاعراً محسناً ماهراً، متففاً خيراً متواضعاً دمث الأخلاق، كبير القدر وافر الحرمة. وكان سكنه بالمدرسة النورية؛ ومن شعره قوله:
عجباً لقدك ما ترنح مائلا ... إلا وقد سلب الغصون شمائلا
ولسقم جفنك كيف صح بكسرة ... فيه وأصبح باللواحظ نابلا
ولناظر حاز الولاية فاغتدى ... من غير عزل للمعاطف عاملا
وإذا علمت بأن ثغرك منهل ... في روضة فعلام تحرم نائلا
في بحر خدك راح صدغك زورقاً ... فلحبسه مد العذار سلاسلا
وأظن موج الحسن يقذف عنبراً ... أضحى له نبت السوالف ساحلا
ومن العجائب أن سائل أدمعي ... قد جاء يستجدي عذارك سائلا وقال أيضاً:
ما للفؤاد إذا ذكرتك يخفق ... والدمع من عيني يسح ويدفق
__________
(1) الزركشي: 326 وعبر الذهبي 5: 302 والشذرات 5: 344 وقال الزركشي: ((ووقفت على المفصل للزمخشري وعليه خط الإمام زين الدين ابن معطي النحوي وذكر أن الصرخدي هذا قرأه عليه قراءة بحث وإتقان عظيم)) ؛ وأكثر هذه الترجمة لم يرد في المطبوعة.
(2) ص: عايد، ولا إعجام عند الزركشي.
(3) ص: أبي.(4/121)
وإذا رأيتك فاللسان مهابة ... خرس ودمعي بالصبابة ينطق
ما ذاك إلا أن قلبي موثق ... بالأسر منك وأن دمعي مطلق
لا غرو أن خفق الفؤاد فإنه ... في العطف من غصن القوام معلق
وبمهجتي بدر له من قده ... رمح عليه من الذؤابة سنجق
أضحى بقلبي ساكناً ووشاحه ... أبداً كمسكنه يجول ويقلق
يا قاطعاً نومي ولم يسرق له ... حسناً وليس النوم ممن يسرق
عيني التي سرقت نصاب الحسن من ... وجه عليه من الملاحة رونق
قالوا انتظر منه زيارة طيفه ... فلسوف يأتيك الخيال ويطرق
فأجبتهم (1) والقلب من أشجانه ... مثر ومن حسن التصبر ملق
مالي وللطيف الطروق وإنما ... كلفي به وله أحب وأعشق وقال أيضاً:
تأنوا ففي طري النسيم رسائل ... وميلوا فإن البان بالسفح مائل
وما مال إلا للسؤال وعنده ... حديث هوى فاستخبروه وسائلوا
روى خبراً عن بان نعمان مرسلاً ... وأسند عنه ما حكته الشمائل
فعلل معتلاً وحرك ساكناً ... من الوجد أضحى وهو في الحال عامل
خذوا عن يمين البان قد بلغ الهوى ... أواخر لم تبلغ لهن أوائل
وقصوا غرامي للنسيم فإنه ... غريمي إذا ما هيجتني البلابل
وميلوا إلى رمل الحمى عل سربه ... تلاحظكم غزلانه وتغازل
سقى دمنة الوادي بمنعرج اللوى ... من المزن محلول النطاقين هاطل
ففيها ضفت (2) عند المقيل ظلالها ... ومنها صفت عند الورود المناهل
وإن سؤالي للنسيم علالة ... كما أن دمعي للمنازل سائل
__________
(1) ص: فأجبته.
(2) ص: صفت.(4/122)
516 - (1)
" المختار الثقفي "
المختار بن أبي عبيد بن مسعود الثقفي؛ قال ابن عبد البر: لم يكن بالمختار، كان أبوه من جلة الصحابة؛ ولد المختار عام الهجرة وليست له صحبة ولا رواية، وأخباره غير مرضية حكاها عنه ثقات مثل سويد ابن غفلة والشعبي وغيرها.
كان معدوداً في أهل الفضل والخير يتراءى بذلك ويكتم الفسق، إلى أن فارق ابن الزبير وطلب الإمارة؛ وكان المختار يتستر بطلب دم الحسين رضي الله عنه؛ يقال إنه كان خارجياً ثم صار زبيرياً ثم صار رافضياً. وكان يضمر بغض علي ويظهر منه أحياناً لضعف عقله.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكون البيت ثقيف كذاب ومبير، وكان الكذاب المختار كذب على الله تعالى وادعى أن ألوحي يأتيه من الله تعالى؛ والمبير الحجاج بن يوسف.
وقتل المختار في رمضان سنة سبع وستين، قتله مصعب بن الزبير.
والفرقة المختارية من الرافضة إليه تنتسب، كان يقول بإمامة محمد بن الحنفية بعد علي رضي الله عنه، وتبرأ منه محمد بن الحنفية لما بلغه من محارمه، لأنه اتخذ كرسياً غشاه بالديباج وزينه بأنواع الزينة وقال: هذا من ذخائر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وهو عندنا بمنزلة التابوت الذي كان في بني
__________
(1) تجد أخباره في المصادر التاريخية (حوادث سنة 65 - 67) وانظر أيضاً أنساب الأشراف والمصادر الخاصة بالفرق افسلامية؛ وقد ترجمت له بعض الكتب الخاصة بتراجم الصحابة؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.(4/123)
إسرائيل فيه السكينة؛ واتخذ حمام (1) أبيض طيرها في الهوا وقال لأصحابه: إن الملائكة تنزل عليكم في صورة حمامات بيض. وألف أسجاعاً باردة، وادعى النبوة.
517 - (2)
أبو الفوارس ابن منقذ
مرهف بن أسامة بن منقذ، الإمام العالم مقدم الأمراء أبو الفوارس ابن الأمير الكبير الأديب مؤيد الدولة أسامة، الكناني الشيزري أحد أمراء مصر؛ ولد بشيزر وسمع من أبيه وغيره، وكان مسناً معمراً شاعراً كوالده، وجمع من الكتب شيئاً كثيراً، وتوفي سنة ثلاث عشرة (3) وستمائة؛ ومن شعره:
رحلتم وقلبي بالولاء مشرق ... لديكم وجسمي للعناء مغرب
وما أدعي شوقاً فسحب مدامعي ... تترجم عن شوقي إليكم وتعرب
ووالله ما اخترت التأخير عنكم ... ولكن قضاء الله ما منه مهرب وقال أيضاً:
سمحت بروحي في رضاك ولم تكن ... لتعجزني لولا رضاك المذاهب
__________
(1) كذا في ص.
(2) الزركشي: 329 والخريدة (قسم الشام) 1: 571 ومعجم الأدباء 5: 243 (وفي ترجمة أسامة) وذيل الروضتين: 93؛ وقال ياقوت: ((واسع الخلق شائع الكرم)) وذكر أنه باع أربعة آلاف مجلد من كتبه في نكبة لحقته فلم يؤثر ذلك فيها، ومولده سنة 520؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.
(3) ص: عشر.(4/124)
وهانت لجراك (1) العظائم كلها ... علي وقد جلت لدي النوائب (2)
فمهلاً فلي في الأرض عن منزل القلى ... مسار إذا أحرجتني ومسارب
وإن كنت ترجو طاعتي بإهانتي ... وقسري فإن الرأي عنك لعازب وكان قد أقعد لا يقدر على الحركة إلا أنه صحيح العقل والذهن والبصر، غير أن سمعه ثقل؛ وكان السلطان صلاح الدين قد أقطعه ضياعاً بمصر وأجراه أخوه العادل على ذلك، وكان الكامل ابن العادل يحترمه ويعرف حقه، رحمه الله تعالى.
518 - (3)
" مروان بن الحكم "
مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي أبو عبد الله، ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، توجه إلى الطائف مع أبيه حين نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم معه في خلافة عثمان رضي الله عنه، واستكتبه واستولى عليه إلى أن قتل عثمان.
ونظر إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوماً فقال له: ويلك وويل أمة محمد منك ومن بنيك.
وكان مروان يقال له " خيط باطل " وفيه يقول عبد الرحمن " ابن "
__________
(1) ص: لمجراك.
(2) هذا البين وقع ثالثاً في ص، وآثرت الترتيب الوارد عند الزركشي وياقوت.
(3) أخباره في المصادر التاريخية الكبرى كالطبري والمسعودي واليعقوبي وابن الأثير ... الخ وانظر الروحي: 21 والفخري: 109 والإصابة واسد الغابة وتهذيب التهذيب 10: 91 والبدء والتاريخ 6: 19 وتاريخ الخميس 2: 306؛ وهذه الترجمة لم ترد في المطبوعة.(4/125)
أخيه لما بويع:
فو الله ما أدري وإني لسائل ... حليلة مضروب القفا كيف تصنع
لحى الله قوماً حكموا خيط باطل ... على الناس يعطي من يشاء ويمنع وولاه معاوية مكة والمدينة والطائف ثم عزله وولى سعيد بن العاص ثم ولاه ثم عزله بالوليد بن عقبة؛ فلما مات معاوية وتولى يزيد ثم مات يزيد وتولى ابنه معاوية ومات معاوية وثب عليها مروان وقال:
إني أرى فتنة تغلي مراجلها ... والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا ثم التقى هو والضحاك بن قيس بمرج راهط وقتل الضحاك.
وكان مروان قد تزوج أم خالد بن يزيد ليضع منه، فوقع بينه وبين خالد كلام، فأغلظ له مروان في القول وقال له: اسكت يا ابن الرطبة؛ فدخل خالد على أمه وقال لها: هكذا أردت يقول لي مروان على رؤوس الناس!! فقالت: اسكت فو الله لا ترى بعدها منه شيئاً تكرهه، وسأقرب عليك ما بعد، فلما نام مروان تلك الليلة قامت إليه مع جواريها وغمته حتى مات. وكانت خلافته تسعة أشهر، وكانت وفاته في رمضان سنة خمس وستين للهجرة، ومات وله أربع وستون سنة، وصلى عليه ابنه عبد الملك، وكان مولده ليلة بدر لسنتين من الهجرة، رحمه الله.(4/126)
519 - (1)
مروان الحمار
مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية الملقب " الحمار " و " الجعدي " نسبة إلى مؤدبه الجعد ابن درهم؛ كان لا يجف له لبد في محاربة الخوارج، ولد بالجزيرة سنة اثنتين (2) وسبعين وقتل سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وكان مشهوراً بالفروسية والإقدام والدهاء (3) ؛ بويع له في نصف صفر سنة سبع وعشرين ومائة.
أدخل عليه يزيد بن خالد القسري وكان قد حاربه قبل أن يلي الخلافة فلف منديلاً على إصبعه ثم أدخلها في عين يزيد فقلعها واستخرج الحدقة ثم أدار يديه فاستخرج الحدقة الأخرى، وما سمع من يزيد كلمة.
وسار مروان لحرب بني العباس في مائة وخمسين ألفاً (4) حتى نزل قريباً (5) من الموصل، فالتقى وعبد الله بن علي عم المنصور في جمادى الآخرة (6) سنة اثنتين وثلاثين ومائة فانكسر مروان؛ وتقرب عبد الله من الشام وملك دمشق، وهرب مروان ودخل مصر وعبر الصعيد، فوجه عبد الله أخاه صالحاً في طلبه، وعلى طلائعه عمرو بن اسماعيل، فساق عمرو في أثره
__________
(1) أخباره في المصادر التاريخية الكبرى كالطبري واليعقوبي والمسعودي وابن الأثير وابن خلدون وتاريخ الإسلام للذهبي ... الخ؛ وتاريخ الخلفاء: 278 والروحي: 28 والفخري: 123؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.
(2) ص: اثنين.
(3) ص: والدما.
(4) ص: وخمسون ألف.
(5) ص: قريب.
(6) ص: الآخر.(4/127)
فلحقه بقرية بوصير فقلته وله من العمر اثنتان (1) وستون سنة.
وكان أشقر أزرق، فقدم عليه شخص أول ولايته فرآه على هذه الصورة فلوى وجهه وقال: ما خلق الله هذه الصورة لأن يضع فيها خيراً أبداً، فبلغه كلامه فأحضره وقال: أنت القائل كذا؟ والله لأكذبنك، ثم أمر له بجملة وافرة وصرفه، فانصرف الرجل وهو يقول: صورة شر ما نفع الله عندها إلا بالشر.
ولما وصل إلى بوصير قطع لسان قائد (2) من قواده اتهمه مكاتبة بني العباس، فاختطفته هرة فأكلته، وفي عشية ذلك اليوم وصل عسكر عبد الله بن علي ودخلوا الدار التي فيها مروان فسلوا لسانه من قفاه ورموا به على الأرض، فجائت تلك الهرة بعينها فأكلت لسانه.
ومن شعر مروان قوله من قصيدة:
أبلغ نزاراً (3) وعرب الشام قاطبة ... وبالجزيرة واخصص قيس غيلانا
من ذا الذي يرتجي بعدي مودتكم ... وأن تكونوا له في الناس أعوانا وكان يلقب بالحمار لثباته في الحرب.
__________
(1) ص: اثنان.
(2) ص: قائداص.
(3) ص: نزار.(4/128)
520 - (1)
أبو الشمقمق
مروان بن محمد؛ هو أبو (2) الشمقمق الشاعر، له في الجد والهزل أشياء؛ توفي في حدود الثمانين ومائة، وكان يهجو الشعراء الكبار مثل بشار بن برد وغيره من أهل عصره، وكانوا يصانعونه بالمال وله عليهم رسم في كل سنة، ومن شعره (3) :
شرابك في السحاب إذا عطشنا ... وخبزك عند منقطع التراب
وما روحتنا لتذب عنا ... ولكن خفت مرزئة الذباب وقال (4) :
إذا حججت بمال أصله دنس ... فما حججت ولكن حجت العير
لا يقبل الله إلا كل طيبة ... ما كل حج ببيت الله مبرور وشخص أبو الشمقمق مع خالد بن يزيد بن مزيد وقد تقلد الموصل، فلما مر ببعض الدروب اندق اللواء، فاغتم خالد لذلك وتطير منه، فقال أبو الشمقمق (5) :
__________
(1) الزركشي: 329 وطبقات ابن المعتز: 126 وتاريخ بغداد 13: 146 وابن خلكان 6: 335 وقد جمع شعره غرونباوم (شعراء عباسيون: 130 - 157) ؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.
(2) ص: ابن.
(3) شعراء عباسيون: 131 وهي في هجاء جعفر بن أبي زهير.
(4) شعراء عباسيون: 137.
(5) شعراء عباسيون: 147.(4/129)
ما كان مندق اللواء لطيرة ... تخشى ولا شر يكون معجلا
لكن هذا العود أضعف متنه ... صغر الولاية فاستقل الموصلا فسري عن خالد، وكتب صاحب البريد بذلك إلى المأمون فزاده ديار ربيعة، فأعطى خالد أبا الشمقمق عشرة آلاف درهم.
521 - (1)
" والد أسامة "
مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ، والد أسامة؛ قال السمعاني: رأيت مصحفاً بخطه بماء الذهب ما أظن الرائين رأوا مثله. وتقدم بحسن تدبيره على رهطه، وأسن وعمر، وله الأولاد الأمجاد النجباء، ولد سنة خمسين وأربعمائة، وتوفي بشيزر سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة؛ وكتب بخطه سبعين ختمة.
ومن شعره (2) :
ظلوم أبت (3) في الظلوم إلا تماديا ... وفي الصد والهجران إلا تناهيا
شكت هجرنا والذنب في ذاك ذنبها ... فيا عجباً من ظالم جاء شاكيا
وطاوعت الواشين (4) في وطالما ... عصيت عذولاً في هواها وواشيا
__________
(1) الزركشي: 329 والخريدة (قسم الشام) 1: 558 وابن خلكان 1: 199 والنجوم الزاهرة 5: 260 والروضتين 1: 111 ومعجم الأدباء 5: 227 (وفي الترجمة أسامة) ، ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.
(2) الأبيات في الخريدة 1: 560 والزركشي ومعجم الأدباء.
(3) ص: أنت.
(4) ص: الواشون.(4/130)
ومال بها تيه الجمال إلى القلى ... وهيهات أن أمسي لها الدهر قاليا
ولا ناسياً ما استودعت من عهودها ... وإن هي أبدت جفوة وتناسيا منها (1) :
وقلت أخي يرعى بني وأسرتي ... ويحفظ فيهم عهدتي وذماميا
ويجزيهم ما لم أكلفه (2) فعله ... لنفسي فقد أعددته من تراثيا
فأصبحت صفر الكف مما رجوته ... أرى اليأس قد غطى سبيل رجائيا
فمالك لما أن حنى الدهر صعدتي ... وثلم مني صارماً كان ماضيا
تنكرت حتى صار برك قسوة ... وقربك منهم جفوة وتنائيا
على أنني ما حلت عما عهدته ... ولا غيرت هذي النون وداديا
فلا زعزعتك الحادثات فإنني ... أراك يميني والأنام شماليا 522 (3)
مزبد المدني
مزبد بالزاي والباء المشددة المكسورة ودال مهملة أبو إسحاق المدني؛ كان كثير المجون حلو النادرة، له أخبار كثيرة في البخل، فإنه كان مبخلا إلى الغاية؛ قيل إنه صب عليه الماء يوماً، فسألته امرأته عن ذلك فقال: جلدت عميرة، ثم إنه رآها بعد أيام تصب عليها الماء، فسألها عن ذلك فقالت: جاءت عميرة فجلدتني.
__________
(1) كان أخوه ((سلطان)) كثير الحسد له على أولاده فهو يعاتبه في هذه الأبيات.
(2) ص: أكلف.
(3) نوادره في الحيوان والبيان والتبيين للجاحظ والبصائر للتوحيدي وثمار القلوب: 470 ومحاضرات الراغب.(4/131)
وأحضره بعض ولاة المدينة، وقد اتهمه بشرب الخمر، فاستنكهه فلم يجد له رائحة، فقال: قيئوه، فقال: ومن يضمن عشائي أصلحك الله؟
وقيل له هل لك في الخروج إلى قبا والعقيق، وأخذ ناحية قبور الشهداء، فإن يومنا كما ترى طيباً (1) ؟ فقال: اليوم الأربعاء ولست أبرح من منزلي، قالوا: وما تكره من يوم الأربعاء، وفيه ولد بيونس ابن متى؟ فقال: بأبي أنتم وأمي فقد التقمه الحوت، قالوا: فهو اليوم الذي نصر الله فيه النبي صلى الله عليه وسلم على الأحزاب، قال: أجل ولكن بعد إذ " زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون " " الأحزاب: 10 ".
وهبت يوماً ريح شديدة فصاح الناس: القيامة، القيامة، فقال مزبد: هذه القيامة على الريق بلا دابة الأرض ولا الدجال ولا يأجوج ومأجوج!!.
ومرض مرة فقال له الطبيب: احتم (2) ، قال: يا هذا أنا ما أقدر على شيء إلا على الأماني، أفأحتمي منها؟!
ورآه إنسان وهو بالرها وعليه جبة خز فقال: هب لي هذه الجبة، فقال: ما أملك غيرها، فقال الرجل: فإن الله تعالى يقول: " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " " الحشر: 9 "، فقال: الله أرحم بعباده من أن ينزل هذه الآية بالرها في كانون، وإنما أنزلت بالحجاز في حزيران وتموز وآب.
ونظر يوماً إلى امرأته وهي تصعد في سلم فقال لها: أنت طالق إن صعدت، وأنت طالق إن نزلت، وأنت طالق إن وقفت، فرمت بنفسها إلى الأرض، فقال لها: فداك أبي وأمي، إن مات مالك احتاج الناس إليك لأحكامهم.
__________
(1) كذا في ص.
(2) ص: احتمي.(4/132)
واشترى يوماً جارية فسئل (1) عنها فقال: فيها خلتان من خلال الجنة: البرد والسعة.
وقيل له: ما بال حمارك يتبلد إذا رجع إلى منزله؟ قال: لأنه يعلم سوء المنقلب.
وقيل له: أيولد لابن ثمانين ولد؟ قال: نعم، إذا كان له جار ابن ثلاثين سنة.
وسمع رجلاً (2) يقول: عن ابن عباس أنه قال: من نوى حجة فعاقه عنها عائق كتبت له، فقال مزبد: ما خرج كرى أرخص من ذا العام.
وطلب منه بعض جيرانه ملعقة، فقال: ليت لنا ما نأكله بالأصابع.
وهبت بالمدينة ريح صفراء أنكرها الناس وفزعوا، فجعل مزبد يدق أبواب جيرانه ويقول: لا تعجلوا بالتوبة، فإنما هي وحياتكم زوبعة، والساعة تنكشف.
وكان مرة نائماً في المسجد، فدخل إنسان فصلى وقال: يا رب أنا اصلي وهذا نائم، فقال: يا بارد، سل حاجتك ولا تحرشه علينا.
وصلى يوماً، فلما فرغ دعا، فقالت امرأته: اللهم أشركني في دعائه، فسمعها، فقال: اللهم اصلبني.
وغضب يوماً عليه بعض الولاة، فأمر الحجام بحلق لحيته، فقال له الحجام: انفخ شدقك حتى أتمكن من الحلاقة، فقال: الوالي أمرك بحلق لحيتي أو تعلمني الزمر؟!
وقيل له: كيف حبك لأبي بكر وعمر؟ فقال: ما ترك الطعام في قلبي حباً لأحد.
ودخل يوماً على بعض العلويين، فجعل يعبث به ويؤذيه، فتنفس
__________
(1) ص: فسأل.
(2) ص: رجل.(4/133)
الصعداء وقال: صلوات الله على عيسى بن مريم فإن أمته معه في راحة لم يخلف عليهم من يؤذيهم.
وباع جارية على أنها تحسن تطبخ، فلم تحسن شيئاً، فطلب إلى القاضي وطولب بأن يحلف على أنها تحسن الطبيخ، فاندفع وحلف أيماناً مغلظة أنه دفع إليها مرة جرادة فعملت منها خمسة ألوان من الطعام وفضل منها شريحة للقديد، سوى الجنب فإنها عملته جوذابة، فضحك من حضر وبئس الخصم من الوصول إلى شيء منه، فخلى سبيله.
وجمع مرة في بيته بين متعاشقين، فتعاتبا ساعة، ثم إن العشيق مد يده إليها فقالت: دع هذا ليس هذا موضعه، فسمعها مزبد فقال: يا زانية، فأين موضعه؟ بين الركن والمقام؟ والله ما بنيت هذه الدار إلا للقحاب والقوادين، ولا اشتري خشبها إلا من دراهم القمار، فأي موضع أحق بالزنا منها؟
ونوادره كثيرة، عفا الله عنا وعنه وسامحنا بمنه وكرمه.
523 - (1)
ابن قسيم الحموي
مسلم بن الضر بن المسلم بن قسيم، أبو المجد التنوخي الحموي من شعراء نور الدين الشهيد رحمه الله تعالى؛ توفي سنة إحدى (2) وأربعين وخمسمائة.
__________
(1) الزركشي: 330 والخريدة (قسم الشام) 1: 433 (وأشار المحقق غلى ترجمته في الوافي) وقال الزركشي: وقفت على ديوان شعره في مجلد، ثم أورد مختارات أنفرد في أكثرها عما جاء به المؤلف؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.
(2) ص: أحد.(4/134)
يقال إنه كان له خادم وعبد، فدخل بعض الأيام داره فوجد العبد فوق الخادم، فضربه وخرج، فرأى بعض أصحابه فسأله عن غيظه فقال: هذا العبد النحس ناك الخويدم الصغير، فقال: مولانا المخدوم الكبير.
ومن شعر ابن قسيم:
كأن خمرته إذ قام بمزجها ... من خده عصرت أو من ثناياه
النرجس الغض عيناه، وطرته ... بنفسج، وجني الورد خداه وقال يصف المطر على النهر:
ولنا إذا انبجست أهاضيب الحيا ... يوم تغاث به البلاد وتمطر
وتظل مفعمة أكف بروقه ... تطوى بها حلل الغمام وتنشر
والغيث منسكب كأن حبابه ... درر تبث على المياه وتنثر
فحسبت أن الروض منه منور ... والأرض غرقى والغدير مجدر وقال يصف زهر الباقلا:
لله في زمن الربيع وصائف ... حيت (1) بزهرة باقلاء مبهجه
ولوت بمفرقها عصابة لؤلؤ ... وكأن شمساً بالنجوم متوجه
وكأن أنملها حبتك بدرة ... بيضاء مطبقة علي فيروزجه
__________
(1) الخريدة: حفت.(4/135)
524 - (1)
" صريع الغواني "
مسلم بن الوليد، أبو الوليد مولى الأنصار المعروف بصريع الغواني، أحد فحول الشعراء؛ قيل إنه كان في أول أمره خاملاً أجير فران، فانقاد له الشعر وجوده وكسب به الأموال العظيمة، ثم اتصل بابني سهل: الحسن والفضل فولوه جرجان، فمات وهو واليها. مدح الرشيد وآل برمك وسار شعره. لقبه الرشيد بصريع الغواني لقوله (2) :
وتغدو صريع الكاس والأعين النجل ... توفي في حدود المائتين. وقصيدته التي قالها في يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني مشهورة جيدة، وهي (3) :
أجررت حبل خليع في الصبا غزل ... وشمرت همم العذال في عذلي
هاج البكاء على العين الطموح هوى (4) ... مفرق بين توديع ومرتحل
كيف السلو لقلب بات (5) مختبلاً ... يهذي بصاحب قلب غير مختبل
لولا مراعاة (6) دمع العين لانكشفت ... مني سرائر لم تظهر ولم تخل
__________
(1) الزركشي 331 وطبقات ابن المعتز: 235 والشعر والشعراء: 712 وتاريخ بغداد 13: 96 والأغاني 18: 315 ومعجم المرزباني: 372 والنجوم الزاهرة 2: 186 وقد جمع شارح ديوانه أخباره من المصادر وألحقها بالديوان (351 - 452) ؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.
(2) ديوانه: 43 وصدر البيت: ((هل العيش إلا أن أروح مع الصبا وأغدو.....)) .
(3) ديوانه 1 - 23.
(4) ص: بها.
(5) الديوان: راح
(6) الديوان: مداراة.(4/136)
أما كفى البين أن أرمي بأسهمه ... حتى رماني بلحظ الأعين النجل
مما جنت (1) لي وإن كانت منى صدق (2) ... صبابة خلس التسليم بالمقل
ماذا على الدهر لو لانت عريكته ... أو رد (3) في الرأس مني سكرة الغزل
جرم الحوادث عندي أنها اختلست ... مني غذاء بنات الكرم (4) والكلل
ورب يوم من اللذات مختصر (5) ... قصرته بلقاء الراح والحلل
وليلت خلست للعين من سنة ... هتكت فيها الصبا عن بيضة الحجل
عن غادة مثل قرن الشمس ناعمة ... فعم مخلخلها مرتجة الكفل (6)
قد كان دهري وما بي اليوم من كبر ... شرب المدام وعزف القينة الفضل (7)
إذا شكوت إليها الحب خفرها ... شكواي واحمر خداها من الخجل
فكم قطعت (8) وعين الدهر راقدة ... أيامه بالصبا في اللهو والغزل
وطيب الفرع أصفاني (9) مودته ... كافأته بمديح فيه منتخل
وبلدة لمطايا الركب منضية ... أنضيتها بوجيف الأينق الذلل
فيم (10) المقام وهذا البحر (11) معترضاً ... دنا النجاء وحان السير فارتحل
يا مائل (12) الرأس إن الليث مفترس ... ميل الجماجم والأعناق فاعتدل
__________
(1) الديوان: جنى.
(2) الديوان: صدقت.
(3) الديوان: ورد.
(4) الديوان: بنات غذاء الكرم، ص: عدا نبات الكرم.
(5) الديوان: محتضر.
(6) لم يرد هذا البيت في الديوان.
(7) الديوان: العطل.
(8) الديوان: كم قد قطعت.
(9) ص: صفاني.
(10) ص: فقيم.
(11) الديوان: النجم.
(12) ص: مالك.(4/137)
حذار من أسد ضرغامة شرس ... لا يولغ السيف إلا هامة البطل
لولا يزيد لأضحى الملك مطرقا (1) ... أو مائل الرأس (2) أو مسترخي الطول
حاط الخلافة سيف (3) من بني مطر ... أقام قائمه من كان ذا ميل
كم صائل في ذرى تمهيد مملكة ... لولا يزيد بني شيبان لم يصل
ناب الإمام الذي يفتر عنه إذاً ... ما افترت الحرب عن أنيابها العصل
كفاكم يا بني العباس أن لكم ... سيفاً بكم غير ما نكس ولا وكل (4)
سد الثغور يزيد بعد ما انفرجت ... بقائم السيف لا بالختل والحيل (5)
من كان يختل قرناً عند موقفه ... فإن جار (6) يزيد غير مختتل (7)
كم قد أذاق (8) حمام الموت من بطل ... حامي الحفيظة لا يؤتي من الوهل
أغر أبيض يغشي البيض أبيض لا ... يرضى لمولاه يوم الروع بالفشل
يغشى الوغى وشهاب الموت في يده ... يرمي الفوارس والأبطال بالشعل
يفتر عند افترار الحرب مبتسماً ... إذا تغير وجه الفارس البطل
موف على مهج في يوم ذي رهج ... كأنه أجل يسعى إلى أمل
ينال بالرفق ما يعيا الرجال به ... كالموت مستعجلاً يأتي على مهل
يغشي المنايا المنايا ثم يفرجها ... حين النفوس (9) مطلات على الهبل
إن شيم بارقه حالت خلائقه ... بين العطية والإمساك والعلل
لا يرحل الناس إلا نحو حجرته ... كالبيت يضحي إليه ملتقى السبل
__________
(1) الديوان: مطرحاً.
(2) الديوان: السمك.
(3) الديوان: سل الخليفة سيفاً.
(4) لم يرد هذا البيت في الديوان.
(5) ص: بالخيل والخيل.
(6) الديوان: قرن.
(7) ص: مختبل.
(8) ص: أراق.
(9) الديوان: عن النفوس.(4/138)
يقري المنية أرواح الكماة كما ... يقري الوحوش (1) شحوم الكوم والبزل
يكسو السيوف نفوس (2) الناكثين به ... ويجعل الهام تيجان القنا الذيل
يغدو فتغدو المنايا في أسنته ... شوارعاً تتحدى الناس بالأجل
إذا طغت فئة عن غب طاعتها ... عبى لها الموت بين البيض والأسل
قد عود الطير عادات وثقن بها ... فهن يتبعته في كل مرتحل
تراه في الأمن في درع مضاعفة ... لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل
جافي الجفون صحيح الطرف (3) همته ... فك العناة وأسر الفاتك الحطل
لا يعبق الطيب عينيه ومفرقه ... ولا يمسح عينيه من الكحل
إذا انتضى سيفه كانت مسالكه ... مسالك الموت في الأبدان والقلل
وإن خلت بحديث النفس فكرته ... حي الرجاء ومات الخوف من وجل
كالليث إن هجته فالموت راحته ... لا يستريح إلى الأيام والدول
إنا لحوادث لما رمن هضبته ... أزمعن عن جار شيبان بمنتقل
والدهر يغبط أولاه أواخره (4) ... إذا لم يكن كان في أعصاره الأول
لا تكذبن فإن المجد معدنه ... وراثة في بني شيبان لم يزل
إذا الشريكي (5) لم يفخر على أحد تكلم ... الفخر عنه غير منتحل
الزائديون (6) قوم في رماحهم ... خوف المخيف وأمن الخائف الوجل
سلوا السيوف فأغشوا من يحاربهم ... خبطاً بها غير تعذير ولا وكل (7)
كبيرهم لا تقوم الراسيات له ... حلماً وطفلهم في هدي مكتهل
__________
(1) الديوان: الضيوف.
(2) الديوان: دماء.
(3) الديوان: صافي العيان طموح العين.
(4) ص: وآخره.
(5) الشريكي: المسنوب إلى شريك وهو أحد أجداد الممدوح.
(6) ص: الزائدون.
(7) الديوان: غير ما نكل ولا وكل.(4/139)
إسلم يزيد فما في الدين من أود ... إذا سلمت وما في الملك من خلل
أثبت سوق بني الإسلام في صعد (1) ... يوم الخليج وقد قامت على زلل
لولا دفاعك بأس الروم إذ مكرت ... عن بيضة الدين (2) لم تأمن الثكل
ويوسف البرم (3) قد صبحت عسكره ... بعسكر يلفظ الأقدار ذي زجل
غافصته (4) يوم عبر النهر مهلته ... وكان محتجزاً في الحرب بالمهل
والمارق ابن طريف قد دلفت له ... بعارض للمنايا مسبل هطل
لما رآك مجداً في منيته ... وإن دفعك لا يسطاه (5) بالحيل
سام النزال فأبرزت (6) اللقاء له ... مقدم الخطو فيها غير منتكل (7)
ماتوا وأنت غليل في صدورهم ... وكان سيفك يستشفى من الغلل
لو أن غير شريكي أطاف بها ... فاز الوليد بقدح الناضل الخصل (8)
وقمت بالدين يوم الرس فاعتدلت ... منه دعائم القوم قد أوفت على خزل (9)
ما كان جمعهم لما لقيتهم ... إلا كمثل نعام ريع منجفل
تابوا ولو لم يتوبوا من ذنوبهم ... لآب جيشك بالأسرى وبالنفل
كم آمن لك نائي الدار ممتنع ... أخرجته من حصون الملك والخول
ومارقين غواة (10) من بيوتهم ... لا ينكلون ولا يؤتون من نكل (11)
__________
(1) الديوان: فاطأدت.
(2) الديوان: إذ بكرت عن عثرة الدين.
(3) ص: اليوم.
(4) ص: عاصفته.
(5) ص: يستطاع.
(6) الديوان: شام ... فأبرقت.
(7) الديوان: متكل.
(8) ص: الناظل الخضل.
(9) الديوان: ميل.
(10) الديوان: غزاة.
(11) نكل: كتبها في ص، وكتب بعدها ((وكل)) .(4/140)
خلفت أجسادهم والطير عاكفة ... فيها وأقفلتهم هاماً مع القفل
يأبى لك الذم في يوميك إن ذكرا ... عضب حسام وعرض غير مبتذل
فافخر فما لك في شيبان من مثل ... كذاك ما لبني شيبان من مثل
كم مشهد لك لا تحصى مآثره ... قسمت فيه كرزق الجن (1) والخبل
لله من هاشم في أرضه (2) جبل ... وأنت وابنك ركنا ذلك الجبل
قد أعظموك فما تدعى لهينة ... إلا لمعضلة تستن بالعضل
يا رب مكرمة أصبحت واحدها ... أعيت صناديد راموها فلم تنل
تشاغل الناس بالدنيا وزخرفها ... وأنت من بذلك المعروف في شغل
أقسمت ما ذدت (3) عن جدواك طالبها ... ولا دفعت (4) اعتزام الجد بالهزل
بأبي لسانك منع الجود سائله ... فما يلجلج بين الجود والبخل
صدقت ظني وصدقت الظنون به ... وحط جودك عقد الرحل عن جملي صنع هذه القصيدة لما أشخصه إليه إلى الرقة، فأخذه وأدخله على الرشيد، فأنشده شعره فيه، فأمر له بمائتي ألف درهم؛ ثم إن يزيد الممدوح بعث إليه بمائة وتسعين ألف درهم وقال: لا تكون عطيتي لك بمثل عطية أمير المؤمنين؛ قال مسلم: وأقطعني إقطاعات تبلغ ألف درهم؛ ثم أفضت الأمور بعد ذلك إلى أن أغضبتني، فهجوته، فشكاني إلى الرشيد، فدعاني وقال: أتبيعني عرض يزيد؟ قلت: نعم، قال: بكم؟ قلت: برغيف، فغضب حتى خفته على نفسي، وقال: قد كان رأيي أن أشتريه منك بمال جسيم، ولست أفعل ولا كرامة، وأنا بريء من أبي، ووالله والله، إن بلغني أنك هجوته لأنزعن لسانك من بين فكيك؛ قال: فأمسكت
__________
(1) الديوان: الأنس؛ والخبل: الجن أو طائفة منهم.
(2) ص: في ... من أرضه.
(3) الديوان: ذب.
(4) ص: رفعت.(4/141)
عنه بعد ذلك ولم أذكره.
ومن شعر صريع الغواني (1) :
لا يمنعنك خفض العيش في دعة ... نزوع نفس إلى أهل وأوطان
تلقى بكل بلاد إن حللت بها ... أرضاً بأرض وجيراناً بجيران وقال أيضاً (2) :
وليلة ناب الهم إلا بقية ... تداركها طيف ألم فسلما
جمعنا معاذير العتاب برقدة ... مشت بيننا نطوي الحديث المكتما وقال أيضاً (3) :
وخندريس لها شعاع ... ابنة خمسين ألف عام
كأنها كوكب منير ... والبدر في ليلة التمام
لو قرنت بالظلام يوماً ... لانجاب عنا دجى الظلام
تكسب شرابها سروراً ... فما يراعون باهتمام
تضحك عن لؤلؤ شتيت ... ألفه الماء البيت النظام
ما ذقتها قط غير أني ... أمنحها الود بالكلام
حلت لي الكاس حين دارت ... علي في سكرة المنام
__________
(1) ديوانه: 342.
(2) لم يردا في ديوانه.
(3) لم ترد في ديوانه.(4/142)
525 - (1)
مصعب ابن الزبير
مصعب بن الزبير بن العوام؛ استعمله أخوه عبد الله على البصرة، وقتل المختار بن أبي عبيد، وحارب بالعراقين عبد الملك بن مروان، إلى أن قتل سنة إحدى وسبعين للهجرة.
قال الشعبي: ما رأيت أميراً على منبر أحسن من مصعب.
وقال عبد الرحمن بن أبي الزناد (2) عن أبيه، قال: اجتمع في الحجر عبد الله ومصعب وعروة بنو الزبير، وعبد الله بن عمر، فقالوا: تمنوا؛ فقال عبد الله: الخلافة؛ وقال عروة: يؤخذ عني العلم؛ وقال مصعب: إمرة العراق، وأجمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين، وقال ابن عمر: المغفرة؛ فنالوا ما تمنوا.
أتي مصعب يوماً بأساري من أصحاب المختار، فأمر بقتلهم بين يديه، فقام إليه أسير منهم فقال له: أيها الأمير، ما أقبح بي يوم القيامة أن أقوم إلى صورتك هذه المليحة الحسنة، ووجهك هذا الذي يستضاء به، فأتعلق بك وأقول: أي رب، سل مصعباً هذا فيم قتلني، فاستحيا مصعب وأمر بإطلاقه، فقال: أيها الأمير، اجعل ما وهبت لي في خفض ودعة من العيش، قال: قد أمرت لك بثلاثين ألف درهم؛ فقال: اشهدني أيها الأميرأن شطر هذا المال لعبد الله بن قيس الرقيان، قال: ولم ذلك؟ قال: لقوله فيك:
__________
(1) ترجمته وأخباره في المصادر التاريخية الكبرى، وانظر بخاصة أنساب الأشراف للبلاذري وطبقات ابن سعد (ج؟: 5) ؛ وهذه الترجمة لم ترد في المطبوعة.
(2) ص: الزياد.(4/143)
إنما مصعب شهاب (1) من الل؟ ... ؟؟ هـ تجلت عن وجهه الظلماء فضحك مصعب وقال: احفظ ما أمرنا لك به، ولابن قيس عندنا مثله.
فما شعر عبد الله بن قيس الرقيات، إلا وقد وافاه المال.
526 - (2)
أبو العرب الصقلي
مصعب بن عبد الله بن أبي الفرات، أبو العرب القرشي العبدري الصقلي الشاعر المشهور؛ دخل الأندلس عند تغلب الروم على صقلية، وحظي عند المعتمد بن عباد، وديوانه بأيدي الناس. روى عن ابن عبد البر، أخذ عنه أبو علي ابن غريب " أدب الكاتب " لابن قتيبة، وتوفي بميورقة سنة ست وخمسمائة. ومن شعره:
إلام اتباعي للأماني الكواذب ... وهذا طريق المجد بادي المذاهب
أهم ولي عزمان: عزم مشرق ... وآخر يثني همتي في المغارب
ولا بد لي أن أسأل العيس حاجة ... تشق على أخفافها والغوارب
إذا كان أصلي من تراب فكلها ... بلادي وكل العاملين أقاربي
وما ضاق عني في البسيطة جانب ... وإن جل إلا اعتضت عنه بجانب
إذا كنت ذا هم فكن ذا عزيمة ... فما غائب نال النجاح بغائب ومن شعره من أخرى:
__________
(1) ص: شهاباً.
(2) الزركشي: 332 والخريدة (قسم المغرب والأندلس) 2: 102 وصفحات متفرقة من المكتبة الصقلية؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.(4/144)
كأن فجاج الأرض يمناك إن يسر ... بها خائف تجمع عليها الأناملا
فأين يفر المرء عنك بجرمه ... إذا كان يطوي في يديك المراحلا وهو من قول النابغة:
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأي عنك واسع 527 (1)
مطيع بن إياس
مطيع بن إياس الكناني أبو سلمى؛ قيل إنه من الديل (2) . كان شاعراً من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية. كان خليعاً ماجناً حلو النادرة متهماً في دينه مأبوناً، ومولده ومنشأه بالكوفة، وكان إذا حضر ملك، وإذا غاب عنك شاقك، وإذا عرفت به فضحك. وكان يجتمع هو ويحيى بن زياد (3) الحارثي وحماد الراوية وابن المقفع ووالبة ابن الحباب ويتنادمون لا يفترقون ولا يستأثر أحد منهم على صاحبه بمال. وكان يرمي الجميع بالزندقة.
ولام الناس مطيعاً على ما يرمى به من الأبنة، وقالوا: أنت في أدبك وسؤددك ترى هذه الفاحشة، فلو أقصرت (4) عنها، فقال: جربوه أنتم ثم دعوه إن كنتم صادقين، فقالوا: قبح الله تعالى فعلك، وانصرفوا عنه.
وقدم بغداد رجل يقال له الفهمي، مغن محسن، فدعاه مطيع ودعا
__________
(1) طبقات ابن المعتز: 94 وتاريخ بغداد 13: 226 والأغاني 13: 275 وقد جمع شعره غرونباوم (شعراء عباسيون: 30 - 76) ؛ ولم ترد الترجمة في المطبوعة.
(2) ص: دبك (دون اعجام للباء) .
(3) ص: وناد.
(4) ص: قصرت.(4/145)
جماعة من إخوانه، وكتب إلى يحيى بن زياد يدعوه بهذه الأبيات (1) :
عندنا الفهمي مس؟ ... رور وزمار مجيد
ومعاذ وعياذ ... وعمير وسعيد
وندامى يعملون ال؟ ... قلز والقلز شديد
بعضهم ريحان بعض ... فهم مسك وعود القلز بالقاف واللام والزي: البدال. فاتاهم يحيى وأقام عندهم.
وبلغت الأبيات المهدي، فضحك منها وقال: تنايك القوم ورب الكعبة.
وخرج مطيع بن غياس ويحيى بن زياد حاجين، فقدما أثقالهما وقال أحدهما للآخر: هل لك أن نصير إلى زرارة فنقصف عنده ليلتنا ثم نلحق أثقالنا؟ فقال: نعم، فما زال ذلك دأبهما حتى انصرف الناس من مكة، فركبا بعيرين وحلقا رؤوسهما ودخلا مع الحاج، فقال مطيع (2) :
ألم ترني ويحيى إذ حججنا ... وكان الحج من خير التجاره
خرجنا طالبي خير وبر ... فمال بن الطريق إلى زراره
فعاد الناس قد غنموا وحجوا ... وأبنا موقرين من الخساره ومن شعر مطيع (3) :
ويوم ببغداد نعمنا صباحه ... على وجه حوراء المدامع تطرب
ببيت ترى فيه الزجاج كأنه ... نجوم الدجى بين الندامى تقلب
يصرف ساقينا ويقطب (4) تارة ... فيا طيبها مقطوبة حين تقطب
علينا سحيق الزعفران وفوقنا ... أكاليل فيها الياسمين المذهب
__________
(1) شعراء عباسيون: 46.
(2) شعراء عباسيون: 57.
(3) شعراء عباسيون: 37.
(4) ص: تصرف ... ونقطب.(4/146)
فما زلت أسعى بين صنج ومزهر ... من الراح حتى كادت الشمس تغرب وسقط لمطيع حائط فقال له بعض أصحابه: أحمد الله على السلامة، فقال: أحمده أنت الذي لم ترعك هدته، ولم يصل إليك غباره، ولم تغرم أجرة بنائه.
هو الذي يقول في نخلتي حلوان (1) :
أسعداني يا نخلتي حلوان ... وابكيا لي من ريب هذا الزمان
واعلما أن ريبه لم يزل يف ... رق بين الألاف والأقران
ولعمري لو ذقتما ألم الفر ... قة أبكاكما الذي أبكاني
أسعداني وأيقنا أن نحساً ... سوف يلقاكما فتفترقان فلما خرج هارون الرشيد إلى طوس هاج به الدم بحلوان، فوصف له الحكيم أكل جمار النخل، فلم يكن بحلوان إلا تلك النخلتان اللتان في العقبة، فقطعوا له رأس إحداهما وأتي به إليه، فأكل منه، فلما بلغ إلى العقبة نظر إلى القائمة وإذا عليها مكتوب هذه الأبيات، فاغتم لذلك وبكى وقال: والله لو سمعت بهذا الشعر ما قطعتها ولو قتلني الدم، ويعز علي أن أكون النحس الذي فرق بينهما.
وقال إبراهيم بن القاسم الكاتب المعروف بالرقيق النديم في كتاب " قطب السرور " (2) : إن مطيع بن إياس ويحيى بن زياد وحماد عجرد كانوا (3) يجتمعون عند أبي الأصبغ المقين، وكان له عدة جوار قيان، وكان فتيان الكوفة يألفون منزله وينفقون عنده، وكان هؤلاء الأدباء يغشون منزله
__________
(1) شعراء عباسيون: 69.
(2) وردت هذه القصة في الأغاني 13: 327.
(3) ص: كانا.(4/147)
لجارية يقال له حوذانة (1) مليحة الغناء حسنة الوجه بارعة الظرف والأدب، وكان لأبي الأصبغ ابن يقال له الأصبغ ولم يكن بالعراق أحسن منه، وكان غالب أهل بغداد (2) يتعشقونه ولا يقدرون عليه، وكان يحيى بن زياد كثير الإفضال على أبي الأصبغ. وعزم أبو الأصبغ على أن يصطبح يوماً مع يحيى ابن زياد، فاهدي إليه يحيى من الليل جداء ودجاجاً وفراخاً وفاكهة وشراباً، وقال أبو الأصبغ لجورايه: إن يحيى يزورنا فأصلحن له ما يشبه مثله، فلما فرغ من الطعام لم يجد رسولاً يرسله إلى يحيى لأنه وجه بغلمانه في حوائجه، فوجه ابنه الأصبغ وقال له: لا تبرح أو تجيء بيحيى معك، فلماجاء الأصبغ قال يحيى للغلام: أدخله وتنح أنت وأغلق الباب وإن أراد الخروج فامنعه. فلما دخل إليه أصبغ وأدى الرسالة راوده عن نفسه فامتنع، فاروه يحيى فصرعه ورام حل تكته فل يقدر على ذلك فقطعها وقضى غرضه منه، فلما فرغ أعطاه أربعين ديناراً فأخذها، وقال له يحيى: امض وأنا في أثرك، فخرج أصبغ من عنده، فاغتسل يحيى وجلس يتزين ويتبخر، فدخل إليه مطيع بن إياس فرأى ما هو فيه، فقال له: كيف أصبحت؟ فلم يجبه وشمخ بأنفه وقطب حاجبيه وتعظم، فقال له: أراك تتبخر وتتزين فإلى أين عزمت؟ فلم يجبه وازداد قطوباً وتعظماً (3) ، فقال له: ويحك، نزل عليك الوحي؟ كلمتك الملائكة؟ بويع لك بالخلافة؟ وهو يوميء برأسه: لا، لا؛ فقال له: فما خبرك؟ قد تهت فلا تتكلم كأنك قد نكت الأصبغ، قال: أي والله الساعة نكته وأعطيته أربعين ديناراً قطعت تكته، قال له: فإلى أين تمضي؟ قال إلى دعوة أبيه، قال مطيع: فامرأته طالق ثلاثاً إن فارقتك أو أقبل أيرك، فأبداه له يحيى حتى قبله، ثم قال له: كيف
__________
(1) ص: حوذاته.
(2) كذا هو، ولعل الصواب ((الكوفة)) لأن الحديث قد تقم عن فتيان الكوفة.
(3) ص: وتعظيماً.(4/148)
قدرت عليه؟ فحدثه حديثه، وقام يمضي إلى منزل أبي الأصبغ، واتبعه مطيع، فقال له: ما تصنع معي والرجل لم يدعك (1) وإنما يريد الخلوة؟ قال: أشيعك إلى بابه ونتحدث، فمضى معه، ودخل يحيى ورد الباب في وجهه، فصبر مطيع ساعة ثم دق الباب واستأذن، فخرج إليه الرسول وقال: يقول لك أنا عنك مشغول اليوم في شغل لا أتفرغ منه لك فتعذر، فقال له مطيع: فابعث لي بدواة وقرطاس، فبعث له فكتب (2) :
يا أبا الأصبغ لا زلت على ... كل حال ناعماً متبعا (3)
لا تصيرني من الود كمن ... قطع التكة قطعاً شنعا
وأتى ما يشتهي لم يثنه ... خيفة أو خفض حق ضيعا
لو ترى الأصبغ ملقى تحته ... مستكيناً خجلاً قد خضعا
وله دفع عليه عجل ... شبق ساءك ما قد صنعا
فادع بالأصبغ واعرف حاله ... سترى أمراً قبيحاً فظعا (4) قال، فقال أبو الأصبغ ليحيى: فعلتها يا ابن الزانية؟! قال: لا والله، فضرب بيده إلى تكة ابنه فوجدها مقطوعة فأيقن بالفضيحة، فقال يحيى: قد كان الذي كان، وسعى مطيع ابن الزانية إليك، وهذا ابني هو والله أفره من ابنك وأما عربي ابن عربي وأنت نبطي ابن نبطية، فنك ابني عشر مرات مكان المرة الواحدة التي نكت لابنك، فتكون قد ربحت الدنانير والوحدة بعشر، فضحك أبو الأصبغ وضحك الجواري، وقال لابنه: هات الدنانير يا ابن الفاعلة، فرمى بها إليه وقام خجلاً، فقال يحيى: والله لا دخل
__________
(1) ص: يدعوك.
(2) شعراء عباسيون: 76.
(3) الشابشتي: 165 عالياً ممتنعاً.
(4) ص: فضعاً.(4/149)
مطيع ابن الزانية، فقال أبو الأصبغ وجواريه: ليدخلن إلينا، فقد نصحنا وغشيتنا (1) ، فأدخل وجلس يشرب معهم ويحيى يشتمه بكل لسان، ومطيع يضحك.
ونوادر مطيع كثيرة في كتاب " الأغاني "؛ وتوفي سنة تسع وستين ومائة.
528 - (2)
" مظفر الذهبي "
مظفر بن محاسن بن علي؛ هو تاج الدين الموصلي الأصل الدمشقي المولد الذهبي، مولده في العشر الأول من الحجة سنة سبع وستمائة، وتوفي سنة ست وثمانين وستمائة.
قال الشيخ أثير الدين أبو حيان: استعرت ديوانه منه وكتبت منه كثيراً مما اخترته وقرأته عليه، فمن ذلك قوله:
إذا شرفت نفس الفتى وتلطفت ... طفت فتراها بالهوا تتعلق
وتقعد بالفدم الغبي كثافة ... تجاذبه نحو الحضيض فيغرق
وساق لشمس الراح في فيه مغرب ... لأن لها من أفق خديه مشرق
إذا ما سعى بالكاس كان مبشراً ... بكسر جيوش الهم وهو مخلق
تعاهدني أعطافه ثم تنثني ... ويطعن رمح القد قلبي فيصدق
بخصر يرى مثل السراب ممنطقاً ... وردف تخال الموج فيه يصفق
__________
(1) الأصوب: وغششتنا.
(2) الزركشي: 32؛ ولم يرد منها في المطبوعة إلا شيء يسير.(4/150)
وقال:
أمن وصحة جسم ... وكسر بيت وكسره
نهاية العيش فاقنع ... وشره حيث تشره وقال أيضاً:
راحت تدير بمقلتيها الراحا ... فغبقت من أحداقها أقداحا (1)
وجلت لنا من تحت ليل غدائر ... قبل الصباح من الجبين صباحا
ناديتها رفقاً بصب مدنفق ... قد مال من سكر الغرام وطاحا
قد مسه قرح الصدود فبرؤه ... لو كان يرشف من لماك قراحا
فتبسمت دلا وقالت هكذا ... يلفي (2) ملحاً من أحب ملاحا
قم فاهصر الغصن الرطيب وكسر ال؟ ... رمان فيه وعضض التفاحا وقال أيضاً:
سن الظبا من لحظه الوسنان ... ورنا فراش سهامه ورماني
وبدا فذاب البدر من حسد له ... فلذاك ما ينفك في نقصان
ماء النعيم يرف من وجناته ... يسقي رياض شقائق النعمان
قالت عقود نهوده لقوامه ... من أنبت الرمان في المران وقال:
زمرذ شاربه الأخضر ... ينم على ثغره الجوهري
وريق اللمى طعمه سكر ... وذاك النبات من السكر وقال:
لقد خاب من يرجو رجوع شبابه ... بصبغة نيل تنتهي وتحول
__________
(1) ص: الراحا، والتصويب عن الزركشي.
(2) ص: يلقى.(4/151)
كأن بقاياها بصفحة خده ... سهام المنايا والنصول نصول وقال:
من منصفي من ساحر ساخر ... يزيد من ذل لديه اعتزاز
مذ وشحت خداه بالعارض ال ... مرقوم قال الناس: دار الطراز وقال:
وأمرد ضاق عن معاملتي ... أودعت فاه خفيف ديار
فقال: بهرجت ذا الخفيف لنا ... فقلت: والضرب خارج الدار وكان تاج الدين الذهبي يكتب جيداً، ويذهب أجود، ويصور في نهاية الحسن؛ ودخل السلطان الملك الناصر ابن العزيز عليه وهو بقلعة دمشق يذهب في دار رضوان، فقال له: ما تصنع يا تاج؟ قال: يا خوند أنا بالنهار أذهب (1) إلثنا، وفي الليل أذهب الثنا، وقال شعر (2) :
يا حاتم الجود بل يا يوسف الثاني ... اشفع فديتك إحساناً باحسان
ماذا أقول وعكس الحال صيرني ... يا مالكي أحرقتني دار رضوان وقال:
كلفت بتصوير الدمى في شبيبتي ... وأتقنتها إتقان حبر مهذب
وحاولت عنها رجعة ومدحتكم ... فلم أخل من تزويق زور مكذب ولابن صابر المنجنيقي (3) في هذه المادة (4) :
__________
(1) الزركشي: أهذب.
(2) كذا في ص.
(3) هو أبو يوسف يعقوب بن صابر بن بركات، نجم الدين المنجنيقي، توفي ببغداد سنة 626 (انظر ابن خلكان 7: 35 والبدر السافر: 237 والزركشي: 364 وابن الشعار 10: 144 والحوادث الجامعة: 8 - 11 والبداية والنهاية 13: 125) .
(4) البيتان عند ابن خلكان 7: 37.(4/152)
كلفت بعلم المنجنيق ورميه ... لهدم الصياصي وافتتاح المرابط
وعدت إلى نظم القريض لشقوتي ... فلم أخل في الحالي من قصد حائط وكتب إليه ناصر الدين ابن النقيب يعتذر إليه:
منعتني من أن أراك خيول ... ضاق صدري بها وضاق السبيل
هي ما بيننا تحول وما ين ... كر تصحيف من يقول تحول
منظر مثلما رأيت مروع ... وسماع كما علمت مهول
مقنب خلف مقنب متوال ... ورعيل يقفوه ثم رعيل
وجمال محملات وقد قا ... بلها مثلها عليها حمول
وبغال تأتي بزبل فتلقا ... ها بغال غشم عليها طبول
ودواب الحلفاء والماء والطي ... ن وقوم ترمي وقوم تشيل
وروايا مؤثرات من الآثا ... ر ما لا يمحي وما لا يزول
كاع فيها الغسال من كثرة الغس ... ل وضاع الصابون والغاسول
وجباة الأسواق بالقرد والد ... ب، وسبع من آخرين وفيل
وصراخ وغاغة وصياح ... وبغيض وغائظ وثقيل
وشحيج (1) مستنكر ونهاق ... ورغاء مزعزع وصهيل
وكسير على يد متوك ... وعلى الكتف آخر محمول
وثياب تخرقت بالمهامي ... ز وباللجم، رفوها مستحيل
ومواعين من غضار وفخا ... ر على أهلها الغضار تسيل
فتراها وقد رجعن شقافاً ... ولأصحابها عليها عويل
وسقوط الأطفال من زحمة الخي ... ل وللأمهات عنها ذهول
ولكم أزمنت حوافرها خل ... قاً كثيراً وكم لهن قتيل
وعليها من لا يخاف علينا ... وإذا قال لا نطيق نقول
__________
(1) ص: وخخيش.(4/153)
وهو من تيهه بلفظة إيا ... ك وحاشاك أو تنح بخيل
" ما الذي عنده تدار المنايا ... كالذي عنده تدار الشمول " (1)
فلك العذر أيها الخل إن لم ... آت أو يأت من جهاتي رسول فكتب إليه الجواب مظفر ابن الذهبي:
سيدي من زيارتي أنت معفى ... وعلينا مزاركم والمثول
أنا أسعى إليك سعي محب ... ومحق بفعله ما يقول
لو غدت داركم بنجد أتينا ... لم ترعنا حزونها والسهول
والصخور الكبار بالعجل العا ... جل والخيل إذ تراها جفول
ورحال (2) يحملن ما سلخ الجزار ... منه الدماء سحاً تسيل
ومكال ملئن من وسخ المس ... لخ وافين وانتفضن غليل
ولكم رابني وعيد سرير ... من جريد به النواظر حول
وقميصي من قطع بنتكة (3) الفوا ... ل شلت يمينه مشلول
ثم سقا يرش بالقربة الس ... وق أيضاً: سريعاً ذيلي به مبلول
وزحام والجرح فيكتف المن ... بل يجري ونصله مسلول
وحمير التراس إذ زجروها ... حيث أنا عن صدمهن غفول
ودفوف المزكلشين (4) وللنا ... س عليهم تزاحم ودخول
وجمال الأجناد إذ تجلب الأح ... طاب والسيروان (5) فدم جهول
__________
(1) مضمن، وهو للمتنبي.
(2) ص: ورجال.
(3) لم أهتد إلى وجه الصواب في هذه اللفظة.
(4) المزكلشون: الذين ينشدون الزكالش المصرية، وهي فيما أقدر نوع من الأزجال.
(5) السيروان: من سروان بالفارسية وهو الجمال.(4/154)
وطبالي الشوء مع بطة (1) الزي ... ات لم ينق طبعها الغاسول
وبرجلي معالج صخرة إن هـ ... ي زلت علي أني قتيل
ولوأن البليغ يستوعب الأن ... كاد فيها لكان شرحاً يطول فأجابه الحكيم شمس الدين ابن دانيال:
يا خليلي أنتما المأمول ... ومنائي من الورى والسول
بكما راقت الفضائل وانسا ... غت بطيب كما تساغ الشمول
عجباً منكما صديقين صدقاً ... لكما عن مزار كل عدول
لا يصد الخليل عن زورة الخ ... ل إذا ما أتاه أمر مهول
لا ولا زحمة الخلائق في الأس ... واق كل عليه جهلاً يميل
وحمير البلاط والجبس تجري ... والورى في الزحام عنها غفول
وحمار الزبال يعثر بالزب ... ل أمامي والريح ريح قبول
وغبار النحات والسبل ال ... منكي ودمعي إذ قابلتني همول
ولكم قد وقعت من طعنة القب ... ان حيث الوزان فدم هول
ومنادي السيوف أرهبه حي ... ث ينادي وسيفه مسلول
ولقدر الشرائحي سخام ... في ثيابي بالغسل لا يستحيل
وكذاك الأمراق من مطبخ السل ... طان يجري بها الغلام العجول
وزحام المجذمين مع البر ... ص بقلبي من لمسهن غليل
ووقوع المياه من دار قوم ... فوق رأس بالوه أو لم يبولوا
ولكم سلحة من الطاق ترمي ... ها فتاة إذ طفلها مسهول
وبراسي منها علامة ذم ... ي كأني أبو العلا شمويل
وحمار مطرمذ (2) عجل إن ... نال ظهري إني إذاً لقتيل
__________
(1) البطة: وعاء للزيت وما شابهه.
(2) المطرمذ: العجل النفاج.(4/155)
وسراب الحمام يحفر إذ ضا ... ق ففيض المياه منه تسيل
وسقوط الأحجار من كل هدم ... وذراعي من وقعها مشلول
ورجال قد زاحموني بأثقا ... ل لهم عند عتلها ترتيل
والذي يذبح الدجاج ويرمي ... هن والدم سائح مطلول
وارتياعي إذا المجرس وافى ... مقبلاً مدبراً به تنكيل
وعصاة الضرير تجرح كعب ... ي وذيلي بطينها مبلول
كل ذا هين على صاحب الشو ... ق وإكثاره عليه قليل
فذرا أيها الخليلان عذراً ... هو عندي إن زرتما مقبول
وخذاه نظماً حكى البرد وشياً ... ولأهدابه عليه فضول 529 (1)
أبو المظفر الأنباري
مفلح بن علي بن يحيى بن عباد، أبو المظفر الأنباري؛ أقام ببغداد وكان يؤدب الصبيان، ثم اتصل بخدمة الوزير ابن هبيرة واختص به سفراً وحضراً، ولما توفي الوزير نقل عنه أنه نظم شعراً يعرض (2) فيه ببعض الصدور، فأخذ وحبس في حبس الجرائم وعوقب مراراً، ومكث في الحبس سنة، ثم أخرج منه ميتاً سنة إحدى وستين وخمسمائة.
وكان حافظاً لكتاب الله تعالى حسن القراءة عالماً بالفقه والأصول أديباً مليح العبارة، سمع الكثير بنفسه وقرأ على الشيوخ وحدث بالسير (3) ، رحمه الله؛ ومن شعره:
__________
(1) الزركشي: 333 والخريدة (قسم العراق) 4: 301؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.
(2) ص: تعرض.
(3) كذا ولعله: باليسير.(4/156)
وكنت قنعت في الدنيا بشخص ... يكون لراحتي ولكبت ضدي
تؤانسه مفاكهتي وقربي ... وتؤلمه مفارقتي وبعدي
فما سمحت به الأيام إلا ... يسيراً والمنون إليه تخدي
فما فرت به عيناي حتى ... توخاه الردى وبقيت وحدي وقال:
سقى ربوعاً أقوت على حاجر ... واهي العزال مجلجل ماطر
وجاد ماذان والعقيق إلى ... غمرة دان وسميه باكر
يثير سلكاً من الرذاذ علي ... بان قرورا وروضها الزاهر
بكت بها شجوها فأضحكها ... بالنور دمع السحائب (1) الماطر
كأنما الطل في ذوائبه ... والشمس صبحاً تنسل من كافر
عقد فتاة ألقى جواهره ... سلك خؤون لضعفه خائر
إذا تغنى حمامه (2) طرقاً ... كان له من هديله سامر
كأنه شارب معتقة ... كان لها قس إيليا عاصر
من عهد كسرى وقيصر ختمت ... ما فضها شارب ولا تاجر
يا خالياً من غرام مكتئب (3) ... ويا رقوداً عن ليله الساهر
وناصحي والنصيح متهم ... إن لم تكن مسعداً فكن عاذر
وعدتني منك وقفة (4) أمماً ... أين وفاء الميعاد يا غادر
قف ساعة بي على معاهدهم ... ولا تكن للمطي بالزاجر
أما تراها تحن مرزمة ... ودمعها في جفونها حائر
قد أيقنت أنني أخو كلف ... بأربع لا ترق للذاكر
__________
(1) ص: للحايب.
(2) ص: حماه.
(3) ص: مكتئباً.
(4) ص: وقفاً.(4/157)
قد كنت جلداً فخانني جلدي ... أهجر من مل أو غدا هاجر
ومدمعي جامداً فمذ رحلوا ... عن ارض نجد لم يرق لي ناظر
حجر علي البكاء في طلل ... وإن شجاني إلا على حاجر
ومخطف الخصر أغيد علقت ... بالقلب منه كنفثة الساحر
يعقد أزراره على غصن ... وبدر تم يعشي (1) له الناظر
بمهجتي رمت وصله فأبى ... وعدت منه بصفقة الخاسر
رمى فأصمى عن قوس حاجبه ... فالسهم لا طائش ولا عاثر
ما خامر القلب قط فيه ولا ... جالت بنات السلو في خاطر
له على القلب من جلالته ... رقبة ناه من غيرة آمر
بغيب ذهي إذا تذكره ... وهو بقلبي مخيم حاضر
حن فؤادي إلى معذبه ... فيا لهيم حنت إلى الزاجر 530 (2)
مقدار المطاميري
مقدار بن المختار، أبو الجزائز بن المطاميري الشاعر التكريتي؛ توفي سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة؛ من شعره:
لو أن وقفة ليل ذي الأثل ... رجعت علي بذاهب الوصل
__________
(1) ص: يغشى.
(2) الزركشي: 334 والخريدة (قسم العراق) 2: 195 وفيها (مقدار بن بختيار)) والمطاميري: نسبة إلى المطامير، وهي ضيعة بحلوان العراق؛ ووصفه العماد بأنه كان شاعر الدولتين المستظهرية والمسترشدية ومدح صدقة، وكان يحب الخمول، ولم يزل خلق الثياب؛ قلت: ولم ترد الترجمة في المطبوعة.(4/158)
أو عاود الإلمام طيفكم ... لقضى ديون الحب ذو مطل
كانت ليالي وصلكم خلساً ... جادت بها مألوفة البخل
تثني اللثام على حصى برد ... تشفي مذاقته من الخبل
وتدير نجلاوين زانهما ... كحل لقد أغنى عن الكحل
ويهز منها الخطو معتدلاً ... نشوان من ترف ومن دل
كقوام خوط البان رنحه ... ولع النسيم بذي نقا سهل
يا صاحبي سري اللذين هما ... أدنى محافظة من الأهل
بباله هل آنستما أحداً ... شغف الغرام فؤاده مثلي
ليت الحلول سهول كاظمة ... لم يستحلوا في الهوى قتلي
جحدوا دمي وعلى أكفهم ... نضح يقوم بشاهد عدل وقال (1) :
ولما تنادوا (2) بالفراق غدية ... رموا كل قلب مطمئن برائع
وقمنا فمبد (3) حنة إثر أنة ... تقوم بالأنفاس عوج الأضالع
مواقف تدمي كل عبراء (4) ثرة ... صدوف الكرى إنسانها غير هاجع
أمنا بها الواشين أن يلهجوا بنا ... فلم نتهم إلا وشاة المدامع
__________
(1) انظر الأبيات ومناسبتها في الخريدة 2: 200 - 201.
(2) الخريدة: تناجوا.
(3) الخريدة: وقفنا ومنا.
(4) الخريدة: عشواء.(4/159)
531 - (1)
أبو سعد الآبي
منصور بن الحسين، الأستاذ أبو سعد الآبي؛ تقلد الوزارة بالري، وكان يلقب بالوزير الكبير ذي المعالي زين الكفاة؛ كان أديباً ماهراً ناظماً عالي الهمة شريف النفس، ذكره الثعالبي في كتاب " اليتيمة " (2) واثنى عليه، وله كتاب " نثر الدر " لم يجمع مثله، سبع مجلدات، كل مجلد بخطبة، وكل مجلد فيه أبواب، لم يجمع أحد في المنثور مثله. وله كتاب " نزهة الأدب " وله كتاب " الأنس والعرس "، وكان يتشيع. ولما ورد السلطان إلى الري سنة إحدى (3) وعشرين وأربعمائة ولاه القيام باستيفاء الأموال.
ومن شعره:
على التلعات البيض من أبرق اللوى ... تلألأ برق مثلما ابتسمت سعدى
واتلع إن ماس الأراكة لم يدع ... لها فنناً سبطاً ولا ورقاً جعدا
إذا وردت ماء العذيب ركائبي ... فقد اعشبت مرعى وقد أعذبت وردا
يرف (4) عليها الأقحوان غدية ... وقد عله طل كدمعي أو أندى
هنالك قوم كلما زرت حيهم ... لقيت أبا سعد به الطائر السعدا
عقائله يفرشن بالورد طرقه ... ليوطئه إن جئته الفرس الوردا
__________
(1) الزركشي: 334 وتتمة اليتيمة 1: 100 ودمية القصر 1: 467 (وفيه منصور بن الحسن) ؛ ولم ترد الترجمة في المطبوعة.
(2) الصواب: تتمة اليتيمة.
(3) ص: أحد.
(4) ص: يرق.(4/160)
وقال:
إذا الليل أسبل أستاره ... وضم أبا حسن والحسن
فإني بريء من المصطفى ... لئن كنت أعلم من ناك من وقال:
أزور بمهجتي العلمين دارا ... يناغي الأقحوان به العرارا
أناشد لامع البرق اليماني ... وأستسقي لكاظمة القطارا
واسأل عن نار كل دار ... وما تغني مساءلتي الديارا
سلام إن يكن قولي سلام ... يليح (1) الوصل أو يدني المزارا
سلام فتى يحن إلى هنات ... صحا من سكرها إلا ادكارا
ودون المنحني بالجزع حي ... عزيز أن يزور وأن يزارا
ألا يا صاحبي عرج قليلاً ... فقد آنست من وهبين (2) نارا
ألا يا ناذريه دمي رويداً ... أراقته عقيلتكم جبارا
فربت ليلة سهرت ونمتم ... قطعناها عتاباً واعتذارا
وما حدرت لمحظور (3) نقاباً ... ولا وضعت لفاحشة خمارا
وليلة زرتها والأفق سود ... حوافيه (4) وأنجمه حيارى
__________
(1) ص: مليح.
(2) ص: وهنين.
(3) ص: لمحضور.
(4) ص: خوافيه.(4/161)
532 - (1)
أمير العرب بهاء الدولة
منصور بن دبيس بن علي بن مزيد، أبو كامل بهاء الدولة الأسدي؛ كان أديباً فاضلاً، شاعراً فارساً، شجاعاً كريماً جواداً ذا رأي وحسن تدبير، وكان حفظة لأخبار المتقدمين وسير الأوائل وأشعار الجاهلية والإسلام.
قرأ الأدب على عبد الواحد بن علي بن برهان، وكان حسن السيرة عادلاً في رعيته؛ ولد سنة خمس وعشرين وأربعمائة، وتوفي سنة تسع وسبعين وأربعمائة، وكانت أيامه بالعراق أربع سنين وشهوراً. ولما دخل على عميد الملك الكندري وزير طغرلبك أسيراً قال له الأمير: أين فروسيتكم وشجاعتكم؟ فأنشده:
فإن نهزم فهزامون قدماً ... وإن نهزم فغير مهزمينا (2)
وما إن طبنا جبن ولكن ... منايانا ودولة آخرينا وقال أيضاً:
أقول لزياد ولا ستر دونه ... ونحن بشاطي المسرقان (3) جنوح
وقد عاد للدولاب رجع كأنه ... حنين مطايا مسهن طلوح
تبصر خليلي هل ترى ضوء بارق ... على نشز نحو العراق يلوح
فقال وقد طال التشوق ما أرى ... سوى زفرات في الفؤاد تفوح
__________
(1) الزركشي: 334 وابن خلدون 4: 280 وابن الأثير 10: 150؛ ولم ترد الترجمة في المطبوعة.
(2) ص: مهزمونا.
(3) ص: المشرفان؛ الزركشي: المشرفات؛ والمسرقان: نهر بخوزستان.(4/162)
رعى الله سكان العراق فإنني ... عليهم وإن شط المزار شحيح
ولازال من نوء السماك عليهم ... ونوء الثريا العشي دلوح وقال أيضاً:
ما لامني فيك أعدائي وعذالي ... إلا لغفلتهم عني وعن حالي
لا طيب الله لي عيشاً أفوز به ... إن دب سكر التسلي عنك في بالي وقال أيضاً:
ولما رأيتك ضراعة ... تزين الخداع مقالاً جميلا
تسليت عنك بمن لا أريد ... فدب السلو قليلاً قليلا وقال من أبيات:
أولئك قومي إن أعد الذي لهم ... كرم وإن أفخر بهم لا أكذب
هم ملجأ الجاني إذا كان خائفاً ... ومأوى الصريخ والفقير المعصب
بطاء عن الفحشاء لا يحضرونها ... سراع إلى داعي الصباح (1) المثوب
مناعيش للمولى مساميح للقرى ... مصاليت تحت العارض المتلهب
وجدت أبي فيهم وخالي كليهما ... يطاع ويؤتى أمره وهو محتبي
فلم أتعمد للسيادة فيهم ... ولكن أتتني وادعاً غير متعب
__________
(1) ص: الصياح.(4/163)
533 - (1)
النمري الشاعر
منصور بن سلمة بن الزبرقان بن شريك بن مطعم؛ كان من شعراء الدولة العباسية، وهو تلميذ العتابي، والعبابي هو الذي وصفه للفضل بن يحيى بن خالد حتى أقدمه من الجزيرة واستصحبه وأوصله للرشيد، ومنصور هو راوية العتابي وعنه أخذ ومن بحره استقى، وجرت بعد ذلك بينه وبين العتابي وحشة فتهاجرا وتناقضا وسعى كل واحد منهما على هلاك صاحبه.
وعرف منصور النمري (2) مذهب الرشيد في الشعر ومقصده في نفي الإمامة عن آل أبي طالب والطعن عليهم، لما كان يبلغه عن مروان بن أبي حفصة، فسلك مذهب مروان ونحا نحوه ولم يصرح بالهجاء كما كان يفعل مروان، وكان شديد العداوة للطالبيين.
وتوفي منصور النمري في حدود العشر والمائتين، ولما دخل على الرشيد (3) أنشد:
أمير المؤمنين إليك خضنا ... غمار الموت من بلد شطير (4)
بخوص كالأهلة خافقات ... يلبن (5) على السرى " وعلى الهجير " (6)
__________
(1) الزركشي: 334 والأغاني 13: 140 والشعر والشعراء: 736 وتاريخ بغداد 13: 65 وطبقات ابن المعتز: 242وابن خلكان 6: 336، وكنية منصور ((أبو الفضل)) وأصله من رأس العين؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.
(2) ص: النميري، حيثما وقع؛ وهو من النمر بن قاسط.
(3) ص: المنصور.
(4) ص: ولد سطير، والتصويب عن الأغاني؛ والشطير البعيد.
(5) ص: يلين، الأغاني: تلين.
(6) سقط من ص، وأكملته من الأغاني.(4/164)
حملن إلي آملاً ثقالا ... ومثل الصخر والدر النثير
فقد وقفوا (1) المديح بمنتهاه ... وغايته فصار إلى مصير
إلى من لا تشير إلى سواه ... إذا ذكر الندى كف المشير فقال مروان بن أبي حفصة: وددت والله أنه أخذ جائزتي وسكت.
وقال في هذه القصيدة:
يد لك في رقاب بني علي ... ومن ليس بالمن الصغير
مننت على ابن عبد الله يحيى ... وكان من الهلاك (2) على شفير
فإن شكروا فقد أنعمت فيهم ... وإلا فالندامة للكفور
وإن قالوا بنو (3) ابنته فحق ... وبروا والمناسب للذكور
وما لبني بنات من تراث ... مع الأعمام في ورق الزبور ولابن المعتز هذا المعنى حيث يقول:
فأنتم بنو بنته دوننا ... ونحن بنو عمه المسلم وهذا في غاية الفخر والحسن لأن العباس رضي الله عنه مات مسلماً وأبا طالب مات كافراً.
ودخل يوماً على الرشيد وأنشده قوله:
ما تنقضي حسرة مني ولا جزع ... إذا ذكرت شباباً ليس يرتجع
بأن الشباب وفاتتني بلذته ... صروف دهر وأيام لها خدع
ما كنت أوفى شبابي كنه غربته ... حتى انقضى فإذا الدنيا له تبع فقال الرشيد: أحسن والله، لا يتهنا أحد بعيش (4) حتى يخطر في رداء
__________
(1) الأغاني: وقف.
(2) الأغاني وابن المعتز: الحتوف.
(3) ص: بني.
(4) ص: أحداً يعيش.(4/165)
الشباب؛ ومن القصيدة في المديح:
أي امريء بات من هارون في سخط ... فليس بالصلوات الخمس ينتفع
إن المكارم والمعروف أودية ... أحلك الله منها حيث تجتمع (1)
إذا رفعت امرءاً فالله يرفعه ... ومن وضعت من الأقوام يتضع
نفسي فداؤك والأبطال معلمة ... يوم الوغى والمنايا بينها قرع فأمر الرشيد له بمائة ألف درهم.
وكان محمد البيذق ينشد الرشيد أشعار المحدثين، وكان إنشاده يطرب أكثر من الغناء، فأنشده يوماً هذه القصيدة، فلما بلغ هذه الأبيات كان بين يديه خوان فرمى به من يديه وقال: هذا أطيب من كل طعام ومن كل شيء، وبعث إلى منصور النمري بسبعة آلاف دينار، قال البيذق: فلم يعطني منها ما يرضيني، وشخص إلى رأس عين فأغضبني فأنشدت هارون قوله:
شاء من الناس راتع هامل (2) ... يعللون النفوس بالباطل حتى بلغت قوله:
إلا مساعير يغضبون لها ... بسلة البيض والقنا الذابل فقال هارون: أراه يحرض علي. ابعثوا إليه من يأتيني برأسه، فكلمه فيه الفضل بن الربيع فلم يفده. وتوجه إليه الرسول فوافاه في اليوم الثاني الذي مات فيه منصور، فأمر ينبشه وإحراقه، فشفع فيه الفضل ولم يزل إلى أن كف عنه.
ومن مديح قصيدته العينية في الرشيد قوله:
__________
(1) الأغاني: تتسع.
(2) ص: رايع هايل.(4/166)
إن أخلف الغيث لم تخلف مخايله ... أو ضاق أمر ذكرناه فيتسع قيل إن العتابي استقبل منصوراً النمري يوماً فوجده واجماً كثيباً فقال له: ما خبرك؟ قال: تركت امرأتي تطلق وقد عسرت عليها الولادة، وهي يدي ورجلي والقيمة بأمري، فقال له العتابي: اكتب على فرجها " هارون "، قال: ولم ذلك؟ قال: لتلد ويتسع المكان، قال: وكيف ذلك؟ قال: لقولك كذا وكذا وأنشده البيت، فقال: يا كشخان، والله لئن تخلصت امرأتي لأذكرن ذلك للرشيد؛ فلما ولدت امرأة منصور اخبر الرشيد الواقعة، فغضب وطلب العتابي، فاستتر عند الفضل بن الربيع حتى شفع له فأمره بإحضاره فأحضره فقال له: ويلك تقول كذا وكذا للنمري، فاعتذر له حتى قبل ذلك، فقال العتابي: ما حمله على الكذب علي إلا وقوفي على ميله إلى العلوية، وأنشده قصيدته اللامية التي أولها:
شاء من الناس راتع هامل ... فغضب وقال للفضل: احضره الساعة، فستره الفضل عنده، ولم يزل الرشيد يتطلبه إلى أن قال يوماً للفضل: ويحك يفوتني النمري؟! قال: يا أمير المؤمنين، قد حصلته وهو عندي، قال: فجئني به؛ وكان الفضل قد أمره أن يلبس فروة مقلوبة ويباشر الشمس ليشحب ويسوء حاله، ففعل، فلما أرد إدخاله عليه علمه ما يقول، فلما وقعت عين الرشيد عليه قال: السيف، فقال الفضل: يا أمير المؤمنين ومن هو هذا الكلب حتى نأمر بقتله بحضرتك؟ قال: أليس هو الذي يقول:
إلا مساعير يغضبون لنا ... بسلة البيض والقنا الذابل فقال منصور: لا يا سيدي، ما أنا الذي قلت هذا ولقد كذب علي، ولكني الذي أقول:(4/167)
يا منزل الحي ذا المغاني ... أنعم صباحاً على بلاكا منها:
هارون يا خير من يرجى ... لم يطع الله من عصاكا
في خير دين (1) وخير دنيا ... من اتقى الله واتقاكا فأمر بإطلاقه وتخلية سبيله، فقال منصور يمدح الفضل:
رأيت الملك مذ آزر ... ت قد قامت محانيه (2)
هو الأوحد في الفضل ... فما يعرف ثانيه (3) 534
الراشد بالله
منصور بن الفضل بن أحمد بن عبد الله، أبو جعفر الإمام الراشد بالله أمير المؤمنين ابن المسترشد بالله ابن المستظهر؛ ولد ليلة الجمعة ثالث عشر شهر رمضان سنة اثنتين وخمسمائة، ويقال إنه لم يكن له مخرج، فأحضر الأطباء وأشاروا بأن يفتح له مخرج بآلة من ذهب، ففعل به ذلك واستقام أمره.
وخطب لوالده بولاية العهد سنة ثلاث عشرة (4) وخمسمائة، وبويع
__________
(1) ص: ديناً.
(2) ص: أحانيه.
(3) الكامل لابن الأثير 11: 62 وتواريخ آل سلجوق: 178 ومرآة الزمان: 158، 167 وتاريخ الخلفاء: 467 والفخري: 273 والروحي: 66 وخلاصة الذهب المسبوك: 273 والخريدة (قسم العراق) 1: 32؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.
(4) ص: ثلاثة عشر.(4/168)
له بالخلافة سنة تسع وعشرين وخمسمائة، وتوفي سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة.
وكان مليحاً أبيض شديد الأيد شجاعاً حسن السيرة جيد الطوية، يؤثر العدل ويكره الشر، وكان فصيحاً أديباً شاعراً سمحاً جواداً، ولم تطل أيامه، خلعه السلطان مسعود وبايع عمه الإمام المتقي وعمره أربعون سنة، وخرج الراشد بالله إلى نواحي أصبهان فقتله الفراشون بالسكاكين في خركاته وبني له هناك تربة.
يحكى أنه كان ببستان الخلافة إيل عظيم الخلقة اعترضه في بعض الميادين، فهرب الخدم عنه، فهجم عليه بنفسه ومسك قرنيه فقلعهما بيده فوقع ميتاً؛ ومن شعره رحمه الله تعالى:
سأقتضي من زمني ديوني ... إن أخرتني ريب المنون
ولست بالراشد إن لم أنتخي ... لهاشم عن حسبي وديني (1) 535
" المستنصر بالله "
منصور بن محمد بن أحمد، الإمام المستنصر بالله ابن الإمام الظاهر ابن الإمام الناصر؛ ولد في ثالث عشر صفر سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، بويع له بالخلافة يوم الجمعة لعشر خلون من الحجة سنة أربعين وستمائة، وبويع بعده لولده الأكبر أبي أحمد المستعصم.
__________
(1) تاريخ الخميس 2: 370 والسلوك 1: 311 وابن خلدون 3: 536 وتاريخ أبي الفدا 3: 171 وتاريخ الخلفاء: 460 والروحي: 68 والفخري: 292 وخلاصة الذهب المسبوك: 285 والحوادث الجامعة: 155؛ ولم ترد الترجمة في المطبوعة.(4/169)
ولما استقر الإمام المستنصر نشر العدل وبث المعروف وزاد أبواب الخيرات، وقرب أهل العلم والزهاد والصالحين، وبنى المدارس والمساجد والربط والمشاهد ودور الضيافة والبيمارستانات، وكف الفتن واعتنى بطرق الحاج وإصلاح آبارها، وبنى بالمدينة ومكة دوراً (1) للمرضى وأرسل إليها (2) ما تحتاج من العقاقير والمركبات من الأدوية؛ وجمع العساكر وقام بأمر الجهاد، وأذعنت لطاعته ملوك الأرض، وبيعت كتب العلم في أيامه بأغلى الأثمان لميله إلى اقتنائها ورغبته في تحصيلها وإكبابه على مطالعتها ووقفها على أهل الفضل. وصنف الفضلاء في دولته بدائع المصنفات في فنون العلم تقربوا باهدائها إليه.
وكان أبيض أشقر الشعر ضخماً قصيراً، وكان جده الإمام الناصر يقربه ويسميه " القاضي " لعقله وهديه وإنكاره المنكر.
قال ابن واصل: وبنى على دجلة من الجانب الشرقي فيما يلي دار الخلافة مدرسة ما بني على وجه الأرض مثلها، وهي بأربع مدرسين على المذاهب الأربعة، وعمل فيها بيمارستاناً كبيراً، ورتب فيها مطبخاً ومزملة للفقراء، ورتب لهم حماماً وبالحمام قومة، واستخدم عساكر عظيمة تزي على مائة ألف وعشرين ألف فارس، وهزم التتار.
وكان قد بلغ ارتفاع وقف المستنصرية نيفاً وسبعين ألف مثقال.
ولما اهتم رضي الله عنه بجمع الجند من أقطار الأرض لدفع التتار اتفق جماعة من التجار وجمعوا مالاً خطيراً وسألوا الإنعام عليهم بقبوله وانفاقه على الغزاة ودفعوا المال إلى الدوادار، فأمر بأن يرد عليهم المال وقال: جزاكم الله الخير، يكفينا منكم الدعاء، وفي خزائننا ما يغني عن ذلك.
وكان له جارية يحبها اسمها " فضة "، فمن شعره فيها:
__________
(1) ص: دور.
(2) ص: إليه.(4/170)
قالوا أمثل أمير المؤمنين له ... عقل يقسم بين الملك والغزل
فقلت ما جئت بدعاً في الغرام ... أخذت إلا بخط من حلى الرسل
وما يضيع الهوى عقلاً يكون له ... فضلاً إلى الرأس والتدبير للدول وحكي أن محيي الدين ابن الجوزي حضر عنده بعض الصالحين وشكا إليه أمر دين لزمه وعجز عن قضائه، فهم ابن الجوزي أن يقضي دينه، ثم رأى أن يؤثر المستنصر بالله بهذه المثوبة لما يعلم من صلاح الرجل ورغبة المستنصر في الخير، فطالعه بذلك، فبعث إلى ابن الجوزي من المال مقدار دين الرجل، وبعث مع ذلك مائتي دينار وقال: هذه لنفقته لأنه إذ قضى دينه لم يبق له ما ينفقه، وبعث إلى ابن الجوزي خمسمائة دينار وقال: هذه عوض إيثارك لنا بهذه المثوبة، رحمه الله تعالى.
(1) 536
النيري الواسطي
منصور بن محمد بن علي، أبو نصر الخباز المعروف بالنيري (2) من أهل واسط؛ كان أمياً لا يحسن الكتابة، وكان له خاطر جيد في النظم. لو أراد أن لا يتكلم في خطابه إلا بالشعر لفعل ذلك، ولم يزل يجتمع بالناس ويهذب شعره إلى أن أجاد النظم، ومات سنة خمسين وأربعمائة؛ فمن شعره رحمه الله تعالى:
ولرب يوم بت أخلف شمسه ... والروض قد نثرت محاسن برده
بمدامة صفراء كلل تاجها ... كف المزاج بلؤلؤ من عقده
__________
(1) الزركشي: 334؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.
(2) قد تقرأ الكلمة ((النيربي)) .(4/171)
ومليحة تحدو (2) الهموم إذا شدت ... ومهفهف يسبي القضيب بقده
هذاك منتقش العذار كأنما ... غرس البنفسج في منابت ورده
ويد الفتاة خضيبة فكأنما ... غمست أديم وصالها في صده
غنت فأطربت الغزال بشدوها ... فجنى أناملها بخضرة زنده
ودنا يقبلها فمن رقبائها ... سخطت عليه وأسرفت في رده
لطمت عوارضه بغير جناية ... منه فأثر نقشها في خده ومنه:
الكأس بن معصفر ومخلق ... والحب بين مزنر ومقرطق
والماء في زبد الصراة كأنه ... ورد اللجين على قباء فستقي
وترى الهلال لليلتين كأنه ال ... خلخال يلمع تحت ذي أزرق ومنه:
كأن نجوم الليل أحداق فضة ... بأجفان تبر لم يصغهن صائغ
ونجم الثريا شبه كاس مرصع ... بكف حبيب رده وهو فارغ وقال أيضاً:
حبيبي ما (2) يفارقك الرقيب ... ولا لي منك يا سكني نصيب
ولا تخلوا وأخلوا معك يوماً ... فأملي من حديثك ما يطيب
أحب لا أحب سواك خلقاً ... وتبغضني وذا شيء عجيب
إذا كان المحب قليل حظ ... فما حسناته إلا ذنوب وقال أيضاً:
وتبرية جاءتك في ثوب فضة ... بكف خماسي القوام رشيق
أتت بين طعمي عنبر وسلافة ... بأنفاس مسك في شعاع حريق
__________
(2) الزركشي: لا.
(2) الزركشي: لا.(4/172)
كأن حباب المزج في جنباتها ... كواكب در في سماء عقيق وقال أيضاً:
سقاني وقد نام الرقيب مدامة ... على فرق والليل عسكرهزنج
وطير عقلي حين تاه بنظرة ... على واضح من تحتها أعين دعج
وفي يده تفاحة شبه خده ... مضرجة كالنار ليس لها وهج
عقيقية الأثواب درية الحشا ... فظاهرها نار وباطنها ثلج وقال أيضاً:
الخد بين مطرز ومدبج ... والثغر بين منظم ومفلج
وكأنما وجناته بلورة ... وعذاره والصدغ من فيروزج
وكأنا والكاس تجمع شملنا ... والروض بني مجلل وممزج
من طرفه والخد ثم عذاره ... في نرجس وشقائق وبنفسج 537 (1)
الخليفة الهادي
موسى بن محمد، أمير المؤمنين الهادي ابن المهدي ابن المنصور؛ كان أبيض جسيماً طويلاً مولده بالري سنة سبع وأربعين ومائة، وتوفي ليلة الجمعة لثلاث عشرة (2) بقيت من ربيع الول سنة سبعين ومائة، وله خمس وعشرون (3) سنة وشهور، وصلى عليه أخوه الرشيد، ودفن
__________
(1) تاريخ بغداد 13: 21 وابن الساعي: 24 والبدء والتاريخ 6: 99 والروحي: 48 والفخري: 171 وخلاصة الذهب المسبوك: 103 وتاريخ الخلفاء: 305؛ ولم ترد الترجمة في المطبوعة.
(2) ص: لثلثة عشر.
(3) ص: وعشرين.(4/173)
بالقصر الأبيض الذي كان عمله. وكانت خلافته سنة وشهراً واحداً (1) وعشرين يوماً. وأمه أم ولد يقال لها الخيزران.
وكان شجاعاً بطلاً أديباً جواداً صعب المرام، يلهو ويلعب ويركب حماراً فارهاً، ولا يقيم أبهة الخلافة وكان فصيحاً قادراً على الكلام تعلوه هيبة وله سطوة.
أعطى لإبراهيم الموصلي سبعمائة ألف درهم.
يقال إن أمه الخيزران سمته لأنه طالب أخاه الرشيد أن يخلع نفسه من العهد ويقدم ولده، وكان موسى قد سماه الناطق بالحق، فامتنع، فهم بقتله مرراً، فكانت أمهما الخيزران تدافع عنه، ولعظمها في دولة المهدي كان كبراء الدولة يغشون بابها للحوائج، فأغضب الهادي ذلك وقال لها: ما هذه المواكب التي تغدو لبابك وتروح؟! إنما للمرأة بيتها ومغزلها وسجادتها وسبحتها، ثم أنفذ لها أرزاً مسموماً، ففطنت له ولم تأكله وأخذت في الاحتيال عليه وسمته، فمات، وفي ليلة مات ولد خليفة وولي خلفية: توفي الهادي وولي الرشيد وولد المأمون.
وهو أول من وصل بمائة ألف درهم لأنه أعطى سلم الخاسر مائة ألف درهم، وكان أسمح بني العباس بالمال.
وحكي أنه كان في بستان له يتفرج وهو راكب حماراً (2) ، فجيء إليه برجل قد وجب عليه القتل وشرطيان يمسكانه عن يمينه ويساره، فأفلت منهما واخترط سيف أحدهما وأقبل به على الهادي، فصاح الهادي وقد أيقن بالموت: ويلك، اضرب عنقه يوهم أن وراءه أحداً (3) ، فلوى عنقه، فوثب من حماره عليه وضرب به الأرض وأخذ السيف من يده
__________
(1) ص: وشهر واحد.
(2) حمار.
(3) ص: أحد.(4/174)
وذبحه به، وعاد الشرطيان وأصحابه الذين كانوا قد هربوا فلم يعتبهم بحرف واحد.
وقتل جاريتين بلغه عنهما ما أوجب ذلك عنده، وشاع عنه ما فعل بهما، وكثر الكلام في ذلك:
يلومني من جهل الأمرا ... فكيف إن لم يسمع العذرا
يزعم أني آثم والذي ... فعلته أرجو به الأجرا
من كان ذا صبر على مثل ذا ... فلست منه أملك الصبرا 538 (1)
الرئيس موسى القرطبي
موسى بن ميمون، الرئيس أبو عمران القرطبي اليهودي، الطبيب المفتن في العلوم؛ كان رئيساً على اليهود بمصر، وكان أوحد أهل زمانه في الطب، وكان السلطان صلاح الدين يستطبه، وكذلك ولده الأفضل. ويقال إنه كان قد أسلم بالمغرب وحفظ القرآن واشتغل بالفقه؛ ولما قدم من الغرب صلى بمن في المركب التراويح في شهر رمضان، وجاء إلى الديار المصرية، وجاء إلى دمشق، فاتفق للقاضي محي الدين ابن الزكي مرض خطر، فعالجه الرئيس موسى وبالغ في نصحه؛ فرأى له القاضي ذلك وأراد مكافأته على ذلك، فحلف أيماناً مغلظة أنه ما يأخذ شيئاً أبداً. ثم بعد مدة اشترى داراً وسأل من القاضي تقديم التاريخ إلى خمس سنين متأخرة، فما بخل القاضي عليه بمثل ذلك، ولم يعلم أن في ذلك مفسدة، ثم إنه أثبت ذلك؛ وبعد مدة توجه إلى الديار المصرية، وخدم القاضي الفاضل، فجاء من كان في
__________
(1) ابن أبي أصيبعة 2: والبحر المحيط 7: 472 وأخبار الحكماء: 317؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.(4/175)
المركب وقالوا: جاء معنا من الغرب وصلى بنا التراويح في السنة الفلانية، فأنكر ذلك وأخرج المكتوب وقال: أنا كنت في دمشق قبل هذه السنة بمدة واشتريت داراً، وهذا خط القاضي بذلك؛ فلما رأى الفاضل خط محيي الدين ابن الزكي بالثبوت ما شك فيه واندفعت القضية بخبث هذا الشيطان.
وعلى الجملة فكان فاضلاً، وله كتاب " الدلالة " في أصول دينهم.
وهو جيد إلى الغاية على قواعدهم. وكانت له مشاركة في كل فن، وفيه يقول ابن سناء الملك (1) :
أرى طب جالينوس للجسم وحده ... وطب أبي عمران للعقل والجسم
فلو كان بدر التم من يستطبه ... لتم له ما يدعيه من التم
وداواه يوم التم من كلف به ... وأبراه في يوم السرار من السقم وله مقالة في معالجة الحدبة، صنفها للقاضي الفاضل، ومقالة في السموم و " تنقيح الفصول " وهو من أجل كتب الطب.
وتوفي سنة عشر (2) وستمائة.
539 - (3)
" المؤمل المحاربي "
المؤمل بن أميل المحاربي الكوفي؛ كان شاعراً محسناً، مدح المهدي، فأجازه عشرة آلاف دينار، وتوفي في حدود التسعين والمائة، وهو القائل
__________
(1) لم ترد في ديوانه.
(2) ص: عشرة.
(3) الأغاني 22: 255؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.(4/176)
في امرأة كان يهواها من أهل الحيرة:
شف المؤمل يوم الحيرة النظر ... ليت المؤمل لم يخلق له بصر فيقال إنه رأى رجلاً في المنام قد أدخل إصبعيه في عينيه فأخرجهما وقال: هذا ما تمنيت، فأصبح أعمى. ومن هذه القصيدة:
يكفي المحبين في الدنيا عذابهم ... والله لا عذبتهم بعدها (1) سقر وامتدح المهدي، وهو ولي العهد، فأعطاه عشرين ألف درهم، فبلغ المنصور ذلك فكتب إليه يلومه ويقول: إنما كان ينبغي أن تعطيه أربعة آلاف درهم بعد أن يقيم ببابك سنة؛ وأجلس قائداً (2) من قواده على جسر النهروان يتصفح وجوه الناس حتى مر به المؤمل، فأخذه ودخل به على المنصور فسلم فقال: من أنت؟ قال: المؤمل بن أميل، فقال: أتيت إلى غلام غر خدعته؟! فقال: نعم، أصلح الله أمير المؤمنين، أتيت غلاماً كريماً فخدعته فانخدع، فكأن ذلك أعجب المنصور (3) ، فقال: أنشدني ما قلت فيه، فأنشده القصيدة، ومنها:
هو المهدي إلا أن فيه ... مشابهة من (4) القمر المنير
تشابه ذا وذا فهما إذا ما ... أنارا مشكلان على البصير
فهذا في الظلام سراج ليل ... وهذا في النهار ضياء نور
ولكن فضل الرحمن هذا ... على ذا بالمنابر والسرير
وبالملك العزيز فذا أمير ... وماذا بالأمير ولا الوزير
وبعض الشهر ينقص ذا وهذا ... منير عند نقصان الشهور
__________
(1) ص: لا عذبتها بعدهم.
(2) قائد.
(3) ص: فكان.... للمنصور.
(4) الأغاني: مشابه صورة.(4/177)
فيا ابن خليفة الله المصفى ... به تعلو مفاخرة الفخور
لئن فت الملوك وقد توافوا ... إليك من السهول والوعور
لقد سبق الملوك أبوك حتى ... بقوا من بين كاب أو حسير
وجئت مصلياً تجري حثياً ... وما بك حين تجري من فتور
فقال الناس ما هذان إلا ... كما بني الخليق إلى الجدير
لئن سبق الكبير (1) فأهل سبق ... له فضل الكبير على الصغير
وإن بلغ الصبي مدى كبير ... فقد خلق الصغير من الكبير فقال: والله لقد أحسنت ولكن هذا لا يساوي عشرين ألف درهم، فأين المال؟ قال: ها هوذا، فقال: يا ربيع، امض معه فأعطه أربعة آلاف درهم وخذ الباقي منه، ففعل؛ فلما ولي الخلافة المهدي، ولى أبا ثوبان المظالم، فكان يجلس بالرصافة، فإذا ملأ كساءه رقاعاً دفعها إلى المهدي، فرفع المؤمل رقعة ذكر فيها واقعته، فلما نظر إليها المهدي ضحك وقال: ردوا إليه عشرين ألف ردهم، فردت إليه.
وقال محمد بن حذيفة الطائي، حدثني أبي قال: رأيت المؤمل شيخاً كبيراً أعمى نحيفاً، فقلت له: لقد صدقت في قولك:
وقد زعموا لي أنها نذرت دمي ... وما لي بحمد الله لحم ولا دم
برى حبها لحمي ولم يبق لي دم (2) ... وإن زعموا أني صحيح مسلم
فلم أر مثل الحب صح سقيمه ... ولا مثل من لا يعرف الحب يسقم
ستقتل جلداً بالياً فوق أعظم ... وليس يبالي القتل جلد وأعظم (3) فقال: نعم، فديتك، ما كنت لأقول إلا حقاً.
__________
(1) ص: الكثير.
(2) الأغاني: ولم يبق لي دماً.
(3) ص: جلداً ولا دم.(4/178)
حرف النون(4/179)
فراغ(4/180)
540 - (1)
البديهي الشاعر
ناشب بن هلال بن ناشب بن نصير الحراني، أبو منصور المعروف بالبديهي؛ كان أديباً فاضلاً يقول الشعر بديهاً ويعظ في التعازي وغيرها، وسمع أبا القاسم هبة الله بن محمد بن الحصين وأبا القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر السمرقندي وابن كادش وغيرهم، وحدث باليسير. ولد سنة أربع عشرة (2) وخمسمائة، وتوفي سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، ومن شعره رحمه الله تعالى:
لا تحقرنّي وإن أبصرتني حدثاً ... فالشبل يصغر حيناً ثم يأتسد
إني وإن صغرت سنّي فقد فقهت ... خواطري غرراً ما نالها أحد ومنه:
يحسدني كل من رآني ... أركب في موكب الأمير
والناس لا يعلمون أني ... تبيت خيلي بلا شعير
وقال: قصدت ديار بكر مكتسباً بالوعظ، فلما نزلت قلعة ماردين دعاني صاحبها تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق للإفطار عنده في شهر رمضان، فحضرت عنده فلم يرفع مجلسي ولا أكرمني، وقال بعد الإفطار لغلام عنده: آتينا بكتاب، فجاء به، فقال: ادفعه إلى الشيخ ليقرأ فيه، فازداد غيظي لذلك وفتحت الكتاب وإذا هو ديوان امرىء القيس، وإذا في أوله:
ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي
__________
(1) الزركشي: 334؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.
(2) ص: عشر.(4/181)
فقلت في نفسي: أنا ضيف وغريب وأستفتح ما أقرأه على سلطان كبير وقد مضى هزيع من الليل:
ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي!! ... فقلت:
ألا عم مساءً أيها الملك العالي ... ولا زلتَ في عزّ يدوم وإقبال ثم أتممت القصيدة، فتهلل وجه السلطان لذلك ورفع مجلسي وأدناني إليه، وكان ذلك سبب حظوتي عنده، رحمهما الله تعالى.
541 - (1)
المطرزي شارح المقامات
ناصر بن عبد السيد بن علي، أبو الفتح المطرزي الأديب الخوارزمي؛ من أعيان مشايخ خوارزم في علم الأدب، قرأ على والده وبرع في معرفة النحو واللغة وصار أوحد زمانه، وصنف كتباً حساناً، وكان شديد التعصب داعية إلى الاعتزال.
مولده سنة ست وثلاثين وخمسمائة ووفاته سنة عشر وستمائة، وصنف شرحاً للمقامات الحريرية وكتاب " المعرب " وتكلم فيه على الألفاظ (2) التي يستعملها الفقهاء الحنفية، وهو لهم مثل الأزهري للشافعية، ومقدمة في
__________
(1) الزركشي: 334 ومعجم الأدباء 19: 212 وابن خلكان 5: 369 (فهو ليس من المستدرك على الوفيات) وانباه الرواة 3: 339 والجواهر المضية 2: 190 وبغية الوعاة: 402 ومرآة الجنان 4: 20؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.
(2) بياض في ص، وهو ثابت عند الزركشي وابن خلكان.(4/182)
النحو والإقناع في اللغة ومختصر إصلاح المنطق.
ولما مات رثي بثلاثمائة قصيدة بالعربي وبالعجمي، وكان يقال هو خليفة الزمخشري، وكان سائر الذكر مشهور السمعة، وانتفع الناس به وأخذو عنه.
ومن شعره رحمه الله تعالى:
تعامى زماني عن حقوقي (1) وإنه ... قبيح على الزرقاء تبدي تعاميا
فإن تنكروا فضلي فإن دعاءه ... كفى لذوي الأسماع منكم مناديا ومن أبيات:
وإني لأستحيي من الله أن أرى ... حليف غوان أو أليف أغاني قال ياقوت في معجم الأدباء (2) : أنشدني المطرزي ببغداد لنفسه:
يا خليلي اسقياني بالزجاج ... حلب الكرمة من غير مزاج
أنا لا ألتذ سمعاً باللجاج ... فاسقنيها قبل تغريد الدجاج قبل أن يؤذن صبحي بانبلاج (3) ...
إن أردت الراح فاشربها صباحا ... بعد أن تصحب أتراباً ملاحا
جمعوا حسناً وأنساً ومزاحا ... وغدوا كالبحر علماً وسماحا فهم مفتاح باب الإبتهاج ...
__________
(1) ص: حقوق.
(2) لم يرد هذا في نعجم الأدباء المطبوع.
(3) ص: بابتلاج.(4/183)
542 - (1)
ابن صورة الكتبي
ناصر بن علي بن خلف، الوجيه المعروف بابن صورة الكتبي؛ كان سمساراً في الكتب بمصر وله في ذلك حظ كبير، وكان يجلس في دهليز داره لذلك ويجتمع الناس عنده يوم الأحد والأربعاء من أعيان الرؤساء والفضلاء ويعرض عليهم الكتب التي تباع، ولا يزالون عنده إلى انقضاء وقت السوق.
توفي سنة سبع وستمائة بمثر ودفن بالقرافة؛ وكان له دار مليحة موصوفة بالحسن فاحترقت، فقال في ذلك نشو الملك أبو الحسن علي بن المنجم، وقد تقدم ذكره:
أقول وقد عاينت دار ابن صورة ... وللنار فيها مارج يتضرم
كذا كل مال أصله من مهاوش ... فعما قليل في نهابر يعدم
وما هو إلا كافر طال عمره ... فجاءته لما استبطأته جهنم وقال ابن المنجم أيضاً لما وقعت الأرضة في دار ابن صورة:
قالوا بدار ابن صورة سعت ... الأرضة حتى أتت على الخشب
من أعلم الأرضة المشومة ... أن الدار مسروقة من الكتب وفيه يقول ابن الساعاتي وقد غدر به في كتاب:
يا خائناً ما كنت أحس ... به يخف إلى الخيانه
أصبحت في سلب القلوب ... وذاك من عدم الديانه
__________
(1) ابن خلكان 1: 197 وانظر كذلك ترجمة نشو الملك في البدر السافر: 205 فقد ذكرت فيها ابيات الميمية؛ ولم تردج هذه الترجمة في المطبوعة.(4/184)
كفتى زبيد في العما ... رة وابن صورة في الأمانه
فامرر عليه وقل له ... في الستر منه والصيانه
يا ريشكون (1) غدرت بي ... إن كنت تحسن بالرطانه 543 (2)
ابن الشقيشقة الصفار
نصر الله بن مظفر بن أبي طالب بن عقير بن حمزة، نجيب الدين أبو الفتح الشيباني الدمشقي الصفار المعروف بابن الشقيشقة، المحدث الشاهد؛ ولد سنة نيف وثمانين وخمسمائة، وتوفي سنة ست وخمسين وستمائة. سمع وعني بالحديث، وكان يعقد الأنكحة تحت الساعات، وفيه يقول البهاء ابن الحوط:
جلس الشقيشقة الشقي ليشهدا ... بأبيكما ماذا عدا مما بدا
هل زلزل الزلزال أم هل أخرج الد ... جال أم عدم الرجال ذوو الهدى
عجباً لمحلول العقيدة جاهل ... بالشرع قد أذنوا له أن يعقدا وقف قاعته التي بدرب البانياسي دار حديث، وتولى مشيختها الشيخ جمال الدين المزي؛ قال الشيخ شمس الدين: ولم يكن بالعدل في دينه.
__________
(1) ص: ريش كون؛ وريش كن بالفارسية تعني من ذهب جهده سدى؛ والأقرب أن تكون ريش كاو: وهو البليد أو الجشع.
(2) الزركشي: 335 وذيل الروضتين: 201؛ وابن الشعار 9: 85؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.(4/185)
544 - (1)
ابن حواري الحنفي
نصر الله بن عبد المنعم بن نصر الله بن أحمد بن جعفر بن حواري، الشيخ شرف الدين أبو الفتح التنوخي الدمشقي الحنفي الأديب، ويعرف بابن شقير أيضاً؛ ولد في سنة أربع وستمائة، وتوفي سنة ثلاث وسبعين وستمائة. سمع البكري وابن ملاعب، وروى عنه الدمياطي وابن الجناز والدواداري وقاضي القضاة ابن صصرى وآخرون.
وخطه أسلوب غريب، كتب كثيراً، وملكت من ذلك عدة مجلدات؛ وكان أديباً فاضلاً حسن المحاضرة حفظة للنوادر والأخبار، حسن البزّة، كريما مجملاً. عمّر في آخر عمره مسجداً عند طواحين الأشنان، وتأنق في عمارته، ودفن لما مات بمغارة الجوع؛ وصنف كاب إيقاظ الوسنان في تفضيل دمشق وذكر محاسنها وما مدحت به في ثلاث مجلدات، وهو عندي بخطه. وكان مقامه بالعادلية الصغيرة.
ولما ولي القاضي شمس الدين ابن خلكان وفوض إليه أمر الأوقاف جميعها طلب الحسابات من أربابها، ومن شرف الدين هذا عن وقف المدرسة، فعمل له الحساب وكتب وريقة فيها:
ولم أعمل لمخلوق حساباً ... وها أنا قد عملت لك الحسابا فقال له القاضي: خذ أوراقك ولا تعمل لنا حساباً ولا نعمل لك، وكان له خلق حاد وفيه تسرع؛ وهو أخو تاج الدين المقدم ذكره، رحمهما الله.
__________
(1) الزركشي: 336؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.(4/186)
545 - (1)
فخر القضاة ابن بصاقة
نصر الله بن هبة الله بن محمد بن عبد الباقي، فخر القضاة أبو الفتح ابن بصاقة الغفاري المصري الحنفي الناصري الكاتب؛ شاعر كاتب ماهر، كان خصيصاً بالمعظم عيسى ثم بابنه الناصر داود، وتوجه معه إلى بغداد.
ولد بقوص سنة تسع وسبعين وخمسمائة، وتوفي بدمشق سنة خمسين وستمائة.
ومن شعره لغزاً في المحفة المحمولة على البغال، رحمه الله تعالى:
وحاملة محمولة غير أنها ... إذا حملت ألقت سريعاً جنينها
وأكثر ما تحويه يوماً وليلة ... وتضجر منه أن يدوم قرينها
منعمة لم ترض خدمة نفسها ... فغلمانها من حولها يخدمونها
لها جسد ما بين روحين يغتدي ... فلولاهما كان الترهب دينها
وقد شبهت بالعرش في أن تحتها ... ثمانية من فوقهم يحملونها وقال أيضاً لغزاً في البيضة:
ومولودة لا روح فيها وإنها ... لتقبل نفخ الروح بعد ولادها
وتسمو على الأقران في حومة الوغى ... ولكن سمواً لم يكن بمرادها
إذا جمعت فالنقص يعرو حروفها ... ولكنها تزداد عند انفرادها وقال أيضاً في السيف:
__________
(1) الزركشي: 336 والبدر السافر: 207 والشذرات 5: 252 والسلوك 1: 385 والطالع السعيد: 676 والبداية والنهاية 13: 184 وابن الشعار 9: 69؛ وورد من هذه الترجمة في المطبوعة شيء يسير.(4/187)
وأبيض وضاح الجبين صحبته ... فأحسن حتى ما أقوم بشكره
إذا خذلتني أسرتي وتقاعدت ... أخلاي عن نصري حباني بنصره
يواصلني في شدتي منه قاطع ... يخفف عني في رخائي بهجره
شددت يدي منه على قائم بما ... أكلفه يلقى الأعادي بصدره
صبور (1) على الشكوى فلو دست خده ... على رقة فيه وثقت بصبره
إذا نابني خطب جليل ندبته ... فيهتز منه مستقل بأمره
يخف غداة الروع مهما نهرته ... فيغرق في بحر العجاج بنهره
ويمضي إذا أرسلته في مهمة ... فما يتلقاني مقيماً لعذره
غدا فاخراً بين الأنام بحده ... وراح أبيّاً عن أبيه بفخره
فغص خلفه إن كنت تؤثر كشفه ... ولا تدّعِ (2) التقصير عن طوا بحره
فها أنا عنه قد كشفت لأنني ... حلفت له أن لا أبوح بسره وقال في الرمح:
ولي صاحب قد كمّل الله خلقه ... وليس به نقص يعاب فيذكر
عصي ثقيل إن أطيل عنانه ... مطيع خفيف الكل حين يقصر
يسابقني يوم النزال إلى العدا ... فإن لم أوخره فما يتأخر
ويؤمن منه الشر ما دام قائماً ... ولكن إذا ما نام يخشى ويحذر
أنال به في الروع مهما اعتقلته ... مراماً إذا أطلقته يتعذر
تعدى على أعدائه متنصلاً ... إليهم وما أبدى اعتذاراً فيعذر
ترى منه أميّاً إلى الخط ينتمي ... ومعرىً بغزو الروم وهو مزنّر
عجبت له من صامت وهو أجوف ... ومن مستطيل الشكل وهو مدور
ومن طاعن في السنَ ليس بمنحن ... ومن أرعن مذ عاش وهو موقر
__________
(1) ص: صبوراً.
(2) ص: تدعي.(4/188)
ففكر إذا ما رمت إفشاء سره ... فها أنا قد أظهرته وهو مضمر وقال في الخيمة:
ومرفوعة منصوبة قد نصبتها ... ولكنه رفع يؤول إلى خفض
تعين على حر الزمان وبرده ... بلا حسب زاك ولا كرم محض
وتصبح للاجي إليها وقاية ... لبعض الأذى الطاري على الجسم لا العرض
تقوم على رجلين طوراً وتارة ... تقوم على رجل بلا عرج منض
إذا حضرت كانت عقيلة خدرها ... وإن تبد لم تلزم مكانا على الأرض
قصدت كريما (1) خيمه ليبينها ... وقصد الكريم الخيم من جملة الفرض يا رافع لواء الأدباء، ودافع لأواء الغرباء، هذا اللغز ممهد موطا، مكشوف لا مغطى، وقد سطر مفردا ومجموعاً، وذكر مقيسا ومرفوعا، إلا أنه قد استخفى وهو مظهر، وأسر وهو مجهر، وتعامى وهو بصير، وتطاول وهو قصير، وتصامم وهو سميع، وتعاصى وهو مطيع، ومثل مولاي من عرف وكره، ولم يعمل فكره، والأمر له علي أمره، وأطال للأولياء عمره.
وقال أيضاً:
ومليح جاءنا يش ... طح في صدر نهار
وهو في مبدأ سكر ... وعقابيل خمار
فسقيناه إلى أن ... أظلم الليل لسار
وجذبنا في لبان ... ودفعنا بمداري
فصبحناه بكاسٍ ... وغبقناه بعار وقال في جمع سواك:
__________
(1) ص: كريم.(4/189)
أيا سيداً ما رام جدواه الله طالب ... فعاد ولم يظفر بأقصى مطالبه
أبن لي عن الجمع الذي إن ذكرته ... تخاطب من خاطبته بمعايبه وكتب إلى ركن الدين قرطاي ببغداد وهو ساكن عند نهر عيسى:
أمولاي إني مذ رأيتك ساكناً ... على نهر عيسى لم أزل دائم الفكر
لأنك بحر بالمكارم زاخر ... ومن عجب أن يسكن البحر في النهر ولما كان ببغداد خرج للشعراء من عند المستنصر ذهب على أيدي الحجاب ولم يخرج إليه شيء، فكتب إلى الخليفة المستنصر:
لما مدحت الإمام أرجو ... ما نال غيري من المواهب
أجدت في مدحه ولكن ... عدت بجدي العثور خائب
فقال لي مادحوه لما ... فازوا وما فزت بالرغائب
لم أنت فينا بغير عين ... قلت لأني بغير حاجب وقال:
وعلق ٍ نفيسٍ تعلقته ... قزار على خلوة وارتياع
ولم يبق في الرمد إلا كما ... يقال على أكلة والوداع
فعاجلته عن دخول الكنيف ... بشحّ مطاع ورأي مضاع
فغرقني منه نوء البطين ... ورواه مني نوء الذرع وقال:
على ورد خديه وآس عذاره ... يليق بمن يهواه خلع عذاره
وأبذل جهدي في مداراة قلبه ... ولولا الهوى يقتادني لم أداره
أرى جنةً في خده غير أنني ... أرى جل ناري شب من جلناره
كغصن النقا في لينه واعتداله ... وريم الفلا في جيده ونفاره
سكرت بكأس من رحيق رضابه ... ولم أدر أن الموت عقبى خماره(4/190)
وقال:
لو شرحت الذي وجدت من الوج ... د (1) عليكم أمللتكم ومللت
فلهذا خففت عنكم من الكت ... ب ولو شيت أن أطيل (2) أطلت
غير أن العبيد تحمل عن قل ... ب الموالي وهكذا قد فعلت وقال في مليح نحوي:
بليت بنحويّ يخالف رأيه ... أواناً فيجزيني على المدح بالمنع
تعجبت من واو تبدت بصدغه ... ولم يحظني منها بعطف ولا جمع
ومن ألف من قده قد أمالها ... عن الوصل لكن لم يملها عن القطع وقال أبو الحسين الجزار يمدحه:
عفا الله عما قد جنته يد الدهر ... فقد بذل المجهود في طلب العذر
أيحسن أن أشكو الزمان الذي غدت ... صنائعه عندي تجل عن الشكر
لقد كنت في أسر الخمول فلم يزل ... بتدريجه حتى خلصت من الأسر
فشكراً لأيامٍ وفت لي بوعدها ... وأبدت لعيني فوق ما جال في فكري
وكم ليلة قد بتها معسراً ولي ... بزخرف آمالي كنوزٌ من اليسر
أقول لقلبي كلما اشتقت للغنى ... إذا جاء نصر الله تبت يد الفقر منها:
وإن جئته بالمدح يلقاك باللها ... فكم مرة قد قابل النظم بالنثر
ويهتزّ للجدوى إذا ما مدحته ... كما اهتز، حاشا وصفه، شارب الخمر منها:
ولو أنني وافيت غيرك مادحاً ... لتممت نقصي بالحماقة والفشر
__________
(1) الطالع: كتمت من السر.
(2) ص: أطلت.(4/191)
وأعطيت نفسي عنده فوق حقها ... من الكبر لكن ليس ذا موضع الكبر
وكل امرىء لا يحسن العوم غارق ... إذا ما رماه الجهل في لجة البحر 546 (1)
أبو صالح الجيلي
نصر بن عبد الرزاق بن عبد القادر، أبو صالح الجيلي الشافعي (2) ؛ تفقه في صباه، ثم صحب محمد بن علي النوقاني الفقيه الشافعي، وقرأ عليه الخلاف والأصول وبرع في ذلك، وتولى التدريس في مدرسة جده بباب الأزج وبالمدرسة الشاطئية عند باب المراتب، وبنيت له دار بجامع القصر للمناظرة، وعقد مجلس الوعظ في مدرسته، وكان له قبول عظيم.
وأذن له في الدخول في كل جمعة على الأمير أبي نصر محمد ابن الإمام الناصر لسماع مسند مسلم فحصل له به أنس، فلما بويع له بالخلافة ولقب بالإمام الظاهر قلده قضاء القضاة في يوم الأربعاء لثمان خلون من ذي القعدة سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وخلع عليه السواد وقرىء عهده في جوامع مدينة السلام، فسار السيرة المرضية وأقام ناموس الشرع ولم يحاب أحداً (3) في دين الله. وكان يملي الحديث في مجلس حكمه ويكتب الناس عنه، ولم تغيّره
__________
(1) الزركشي: 336 والحوادث الجامعة: 86 (نصر بن أبي بكر بن عبد الرزاق ولعل الصواب: أبي بكر عبد الرزاق) وذل ابن رجب 2: 189، ولم ترد الترجمة في المطبوعة.
(2) قال في الحوادث الجامعة: وقلد قضاء القضاة في خلافة الظاهر بأمر الله ولم يقلد حنبلي سواه، وورد ترجمته في ذيل ابن رجب يؤكد ذلك، وقد ردد الزركشي أنه شافعي.
(3) ص: أحد.(4/192)
الولاية عن أخلاقه، وأقام على القضاء مدة أيام الظاهر، وتولّى المستنصر بالله فأقره على ذلك أربعة أشهر وأياماً وعزله.
وكان له رسم في رجب من الصدقة الناصرية يأخذه من البدرية، فاتفق تفرقته في بعض السنين في يوم الأربعاء، وكان قد توجه لزيارة قبر أحمد بن حنبل، فلما عاد من الزيارة وجد الناس قد قبضوا رسومهم وانفصلوا، وقيل له: إن رسمك قد رفع إلى الحكيم ابن توما النصراني فامض إليه، فقال: والله لا أمضي إليه ولا أطلب رزقي من كافر، وعاد إلى منزله متوكلاً على الله تعالى وقال:
نفس ما عن ديننا من بدل ... فدعي الدنيا وخلي جدلي
ما تساوي أننا نمضي إلى ... مشرك إذ ذاك عين الزلل
إن يكن دين علينا فلنا ... خالق يقضيه، هذا أملي ولم يزل ذلك الذهب عند الحكيم النصراني إلى أن مات وأخذ من تركته وحمل إلى القاضي.
ومولده في شهور سنة أربع وستين وخمسمائة، ووفاته سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وكانت جنازته عظيمة، ودفن إلى جانب قبر الإمام أحمد بن حنبل، وقيل بل دفن معه، تولى ذلكالرعاع والعوام، وقبض على من فعل ذلك وعوقب وحبس، ونبش بعد ثلاثة أيام ونقل وعفي قبره ولم يعلم أين دفن. ورثاه الشيخ يحيى الصرصري رحمه الله تعالى بقوله:
أبا صالح ما العيش بعدك صالح ... نزحت ففيك الحزن للدمع نازح
وما مقل ضنت عليك بمائها ... غداة النوى إلا عيون شحائح
نأيت وصعب الدمع بعدك بالأسى ... ذلول ومطواع التصبر جامع
على مثلك اليوم البكاء لذي الحجى ... مباح وفيك القلب بالحزن نائح
وما عذر عين لا تفيض دموعها ... عليك وآماق المعالي سوافح(4/193)
على صفحات المكرمات كآبة ... لفقدك لما غيبتك الصفائح
فالله قبر ضم فضلك إنه ... لقبر بعيد قطره متفاسح
به الروح والريحان والنور عاكف ... وفوق ثراه فأرة المسك فائح
لئن ذقت كأساً ذاقها أحمد الرضا ... وقد ذاقها من قبل هود وصالح
لما مات ما أحييت من سنن الهدى ... بعلمك فليرغم حسود وكاشح
سقى جدثاً أصبحت فيه مخيماً ... من السلسبيل العذب غاد ورائح
علوت بقرب من إمامك ذروةً ... تسنّمتها إذ أنت عنه تنافح
وما كنت إلا سر جدك، ميتاً ... وحياً، فميزان العلا بك راجح
وكنت عماد الدين معنى وصورة ... وغيرك عن ألقابه متنازح
سموت بمجد سابق ثم لاحق ... فقصّر في الأوصاف ناع ومادح
وكنت لرأس المجد تاجاً مكللاً ... وخلّفت تاجا فوقه الفخر لائح
فلا زال في العلياء بيتك سامياً ... تزول به عنا الخطوب الفوادح (1) 547 (2)
أبو طاهر الحلي الشاعر
نصر بن الفتح بن أبي المعمر بن أسد بن الحسن، ينتهي إلى طاهر بن الحسين، أبو طاهر الطاهري الشاعر، من الحلة السيفية؛ كان شيخاً فاضلاً أديباً شاعراً، دخل الشام ومدح الملوك والأعيان.
قال محب الدين ابن النجار: لقيناه بالشام وكتبناه عنه شيئاً من شعره، وكانت وفاته بعد سنة خمس وعشرين وستمائة، ومولده سنة إحدى وخمسين
__________
(1) ص: القوادح.
(2) الزركشي: 337؛ ولم ترد الترجمة في المطبوعة.(4/194)
وخمسمائة (1) ؛ ومن شعره:
ما بين رامة والعقيق ديار ... كانت وكان بها الهوى ونوار
درست على مر الزمان كأنما ... آثارها من ريطه آثار
لم تبق إلا من أوارٍ، ما بدت ... إلا بدا فوق القلوب أوار
عهدي بها قبل الشباب، وما غدت ... من أهلها للغاديين قفار
والدهر ما صدع الجميع وظلنا ... ضال النقا وضياؤها (2) السمار
والأرض قد حكت السماء بأنجم ... في روضة نجمت بها الأزهار
والطل يستبكي الربيع جفونه ... فإذا بكى يتضاحك النوار
والدوح تهصره الصبا بعليلها ... فإذا أمادت ورقه الأوكار
تشدو وتنشدنا القيان مناسباً ... بفم الكران ويصحب المزمار
فتصفق الأغصان ما بين الغنا ... بيد النسيم وترقص الأشجار
وشرابنا كرميّة الأعراق بل ... كرمية (3) الأخلاق بل بكر الحيا المدرار
كالتبر قد نثر اللجين فويقه ال ... ياقوت بل ماء عليه نار
راح بها روح القلوب وبرؤها ... من عقر سيف الهم وهي عقار
يغدو بها عبل الروادف ما انثنى ... إلا ثنى الأكباد وهي حرار
قمر على غصن على دعص وهل ... هذي الصفات تحوزها الأقمار
لبس العذار فظل يخلع دائماً ... فيه العذار وتلبس الأعذار
يجري غرار السيف منه إذا بدا ... وأسيل خد سال فيه عذار
ورد على طلع وخيط بنفسج ... متنطق بنضيده ومدار
كم شد زناراً (4) لديه مسلم ... ولهاً ولم يحلل له زنار
__________
(1) كانت في الأصل: وستمائة ثم غيرت بغير خط الأصل.
(2) ص: وطلنا ... وضيايها.
(3) ص: كريمة.
(4) ص: زنار.(4/195)
فسقى لييلات مضين بهذه ال ... أوطان كم قضيت بها أوطار
ديم تديم الإنسكاب كأنها ... نعم يجود بها الغياث غزار 548 (1)
أبو سعد الدينوري
نصر بن يعقوب، أبو سعد الدينوري مصنف كتاب التعبير المعروف ب " القادري "؛ ذكره الثعالبي في من ورد من نيسابور وقال: تعقد عليه الخناصر بخراسان في الكتابة والصناعة والبراعة (2) ، وله في الأدب تقدم محمود وفي المروة قدم مشهورة، وشهادة الصاحب ابن عباد له في الفضل، يسجل بها حكام العدل. وله تصانيف منها كتاب " روائع التوجيهات في بدائع التشبيهات " وكتاب " ثمار الأنس في تشبيهات الفرس ". كتاب " الجامع الكبير في التعبير " وهو القادري. كتاب " الأدعية " كتاب " حقّه الجوهر " (3) .
ومن شعره:
أبى لي أن أبالي بالليالي ... وأخشى صرفها في من يبالي
حلولي في ذرى ملك كطود ... رفيع مشرق الأعلام عالي
إلى شمس الشتاء إلى ظلال ال ... مصيف إلى الغمام إلى الهلال
إذا ما جاءه المذعور يوماً ... وحلّ ببابه عقد (4) الرحال
تبوأ من ذراه خير دار ... فلم يخطر لمكروه ببال
__________
(1) الزركشي: 337 واليتيمة 4: 389؛ ولم ترد الترجمة في المطبوعة.
(2) اليتيمة: والبراعة في الصناعة.
(3) اليتيمة: حقة الجواهر في المفاخر.
(4) ص: عند.(4/196)
" ومنها عند ذكر القصيدة " (1) :
بودّي لو نهضت بها ولكن ... ضعفت عن الحراك لضعف حالي ومنه:
اسقني كاساً كلون الذهب ... وامزج الريق بماء العنب
فقد ارتجت بنا الأرض ضحى ... كارتجاج الزئبق المنسرب
وكأنّ الأرض في أرجوحة ... وكأنا فوقها في لولب 549 (2)
نصيب الأكبر
نصيب بن رباح مولى عبد العزيز بن مروان؛ كانت أمه سوداء فوقع عليها أبوه فجاءت بنصيب، فوثب إليه عمه بعد وفاة أبيه فباعه، وكان شاعراً فحلاً مقدّماً في النسيب والمديح، ولم يكن له حظ في الهجاء، وكان عفيفاً؛ توفي في حدود العشرين والمائة.
قال نصيب: كنت أرعى غنماً - أو قال إبلاً - فضلّ (3) منها بعير فخرجت في طلبه حتى قدمت مصر وبها عبد العزيز بن مروان فقالت: ما بعد عبد العزيز أحد أعتمده، ولم أكن بعد قد (4) مدحت أحداً (5) ، فحضرت
__________
(1) زيادة من اليتيمة.
(2) طبقات ابن سلام: 544 والشعر والشعراء: 322 والأغاني 1: 305 والسمط: 291 ومعجم الأدباء 19: 229 والعيني 1: 537 والزركشي: 337. جمع شعره الدكتور داود سلوم (بغداد: 1968) ؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.
(3) ص: فطل.
(4) ص: بعد ذلك.
(5) ص: أحد.(4/197)
بابه مع الناس فرأيت رجلاً على بغلة، حسن البزة يؤذن له إذا جاء، فلما انصرف إلى منزله اتبعته أماشي بلغته فقال: ما شأنك؟ فقلت: أنا رجل شاعر من أهل الحجاز، وقد مدحت الأمير وأتيت إليه راجياً معروفه، قال: فأنشدني، فأنشدته فأعجبه وقال: ويحك هذا شعرك؟ إياك أن تنتحل فإن الأمير راوية عالم (1) بالشعر وعنده رواة، فلا تفضحني وتفضح نفسك، فقلت: والله ما هو إلا شعري، فقال: ويحك، قل أبياتاً تذكر فيها حوف (2) مصر وفضلها على غيرها والقني بها غداً، فغدوت عليه فأنشدته (3) :
سرى الهم حتى بيّتتني (4) طلائعه ... بمصر وبالحوف اعترتني روائعه
وبات وسادي ساعد قلّ لحمه ... عن العظم حتى كاد تبدو أشاجعه وذكر الغيث فقال:
وكم دون ذاك العارض البارق الذي ... له اشتقت من وجه أسيل مدامعه
تمشي به أبناء (5) بكر ومذحج ... وأبناء عمرو فهو خصب مراتعه
بكل (6) مسيل من تهامة طيب ... دميث الربى تسقي البحار دوافعه
أعنّي على برق أريك وميضه ... تضيء دجنّات الظلام لوامعه
إذا اكتحلت عينا محبّ بضوئه ... تجافت به حتى الصباح مضاجعه قال: أنت والله شاعر، احضر الباب فإني أذكرك، قال: فجلست على الباب ودخل فدعاني فدخلت فسلمت على عبد العزيز، فصعد فيّ بصره
__________
(1) ص: عالماً.
(2) ص: خوف.
(3) ديوانه: 103.
(4) الأغاني: تشنيني إليك.
(5) الأغاني: أفناء.
(6) الأغاني: فكل.(4/198)
وصوّب وقال: أشاعر ويلك أنت؟ قلت: نعم أيها الأمير، قال: فأنشدني، فأنشدته (1) :
لعبد العزيز على قومه ... وغيرهم نعم غامره
فبابك ألين أبوابهم ... ودارك مأهولة عامره
وكلبك (2) آنس بالمعتفين ... من الأم بالابنة الزائرة
وكفك حين ترى السائلين ... أندى من الليلة الماطره
فمنك العطاء ومنا الثناء ... كلّ محبرة سائره فقال: أعطوه أعطوه، قلت: إني مملوك، فدعا الحاجب قال: اخرج فابلغ قيمته، فدعا المقوّمين فقال: قوّموا غلاماً أسود ليس له عيب، فقالوا: مائة دينار، قال: إنه راعي إبل يحسن القيام بها، قالوا: مائتا دينار، قال أنه يبري القسي والنبل ويريشها قالوا: أربعمائة دينار قال: إنه راوية للشعر، قالوا: ستمائة دينار، قال: إنه شارع لا يلحن، قالوا: الف دينار، قال عبد العزيز: ادفعها إليه، فقلت له: أصلح الله الأمير، ثمن بعيري الذي ضلّ، قال: كم ثمنه؟ قلت: خمسة وعشرون ديناراً (3) ، قال: ادفعوها إليه: قلت: فجائزتي لنفسي عن مديحي إياك، قال: اشتر نفسك ثم عد إلينا.
ووفد نصيب على الحكم بن المطلب وهو على صدقات المدينة فأنشده (4) :
أبا مروان لست بخارجي ... وليس قديم مجدك بانتحال
أغر إذا الرواق انجاب عنه ... بدا مثل الهلال على المثال
تراءاه العيون كما تراءى ... عشية فطرها وضح الهلال
__________
(1) ديوانه: 99.
(2) ص: وكيلك.
(3) ص: دينار.
(4) ديوانه: 119.(4/199)
فأعطاه أربعمائة ضائنة ومائة لقحة ومائتي (1) دينار.
وقال نصيب: علقت جارية حمراء، فمكثت زماناً تمنيني الأباطيل، فلما ألححت عليها قالت: إليك عني فو الله لكأنك من طوارق الليل، فقلت: والله وأنت لكأنك من طوارق النهار، قال: وما أظرفك يا أسود! فغاظني قولها فقلت لها: أتدرين ما الظرف؟ إنما الظرف العقل، ثم قالت لي: انصرف حتى أنظر في أمرك، فأرسلت إليها بهذا الأبيات (2) :
فإن أك أسوداً (3) فالمسك أحوى ... وما لسواد (4) جلدي من دواء
ومثلي في رجالكم قليل ... ومثلك ليس يعدم في النساء
فإن ترضي فردّي قول راض ... وإن تأبي فنحن على السواء قال: فلما قرأت الشعر تزوجتني.
ودخل نصيب على سليمان بن عبد الملك وعنده الفرزدق فأنشده شعراً لم يرضه وكلح في وجهه، وقال لنصيب: قم فأنشد مولاك، فقام فأنشده (5) :
أقول لركب صادرين لقيتهم ... قفا ذات أوشال ومولاك قارب
قفوا خبروني عن سليمان إنني ... لمعروفه من آل ودّان طالب
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
وقالوا عهدناه وكلّ عشية ... على بابه من طالبي العرف راكب
هو البدر والنسا الكواكب حوله ... ولا يشبه البدر المضيء الكواكب فقال: أحسنت يا نصيب، وأمر له بجائزة، ولم يصنع ذلك بالفرزدق،
__________
(1) ص: ومائتين.
(2) ديوانه: 58 والأغاني: 333.
(3) ص: أسود، الأغاني: حالكاً.
(4) ص: بسودا.
(5) ديوانه: 59.(4/200)
فقال الفرزدق:
وخير الشعر أكرمه رجالاً ... وشر الشعر ما قال العبيد حدث محمد بن سلام قل: دخل نصيب على يزيد بن عبد الملك فقال له: حدثني يا نصيب ببعض ما تمّ عليك، قال: نعم يا أمير المؤمنين، علقت جارية حمراء فعيّرتني بالسواد فكتبت إليها (1) :
فإن يك من لوني السواد فإنني ... لكالمسك لا يروى من المسك ذائقه
وما ضرّ أثوابي سوادي وتحته (2) ... لباس من العلياء بيض بنائقه فلما سمعت الشعر (3) قالت: المال والعقل يأتيان على غيرهما، فتزوجني.
550 - (4)
نصيب الأصغر
نصيب الأصغر مولى المهدي؛ كان قد نشأ باليمامة فاشتراه المهدي، فلما سمع شعره قال: والله ما هو بدون نصيب مولى بني أمية، وأعتقه وزوجه أمة وكنّاه أبا (5) الحجناء وأقطعه ضيعة بالسواد، وعمر بعده ومدح هارون بقوله:
أللبين يا ليلى جمالك ترحل ... ليقطع منا البين ما كان يوصل
تعللنا بالوعد ثمت تلتوي ... بموعدها حتى يموت المعلل
__________
(1) ديوانه: 110 وأثبت هنا رواية الأغاني.
(2) الأغاني: وتحتها.
(3) ص: فلما سمع شعر الشعر.
(4) الأغاني 22: 400 ومعجم الأدباء 19: 234 وطبقات ابن المعتز: 155 والزركشي: 338؛ ولم يرد من هذه الترجمة في المطبوعة إلا بعضها.
(5) ص: أبو.(4/201)
فلا الحبل من ليلى يواتيك وصله ... ولا أنت تنهى القلب عنها فيذهل
خليلي إني ما يزال يشوقني ... قطين الحمى والظّاعن المتحمّل
فأقسمت لا أنسى ليالي منعج ... ولا مأسل إذ منزل الحي مأسل
أمن أجل أبيات ورسم كأنه ... بقية وحي أو كتاب مفصل
فيا أيها الزنجي ما لك والصبا ... أفق عن طلاب البيض إن كنت تقبل (1)
فمثلك من أحبوشة الزنج قطعت ... وسائل (2) أسباب بها يتوصل
قصدنا أمير المؤمنين ودونه ... مهامه موماة من الأرض مجهل (3)
على أرحبيات طوى السير (4) فانطوت ... ثمائلها (5) مما يحلّ ويرحل
إذا انبلج البابان (6) والستر دونه ... بدا مثلما يبدو الأغرّ المحجل
شريكان فينا منه: عينبصيرة ... كلوء وقلب حافظ ليس يغفل
فما فات عينيه رعاه بقلبه ... فآخر ما يرعى سواء (7) وأول
وما نازعت فينا أمورك هفوة ... ولا خطل في الرأي والرأي يخطل
إذا اشتبهت أعناقه (8) بينت له ... معارف في أعجازه وهو مقبل
على ثقة منا تحنّ قلوبنا ... إليك كما كنا أباك نؤمل
إذا ما دهتنا من زمان ملمة ... فليس لنا إلا عليك معوّل ووجه المهدي نصيباً إلى اليمن في شراء إبل مهرية، ووجه معه رجلا
__________
(1) الأغاني: تعقل.
(2) ص: رسائل.
(3) ص: مرماة ... تجهل.
(4) ص: السر.
(5) ص: بمائلها، الأغاني: شمائلها، وهو خطأ.
(6) ص: البانان.
(7) ص: وآخر ... سواه.
(8) ص: أعقابه.(4/202)
من الشيعة، وكتب معه إلى عامل اليمين بعشرين ألف دينار، فمدّ نصيب يده في الدنانير ينفقها ويشرب بها ويشتري الجواري، فكتب الشيعي بخبره إلى المهدي، فأمر بحمله موثقاً في الحديد، فلما دخل على المهدي أنشده:
تأوبني ثقل من الهم موجع ... فأرق عيني والخليّون هجّع
هموم توالت لو أطاف يسيرها ... بسلمى لظلت صمّها (1) تتصدّع
" ولكنها نيطت فناء بحملها ... جهيز المنايا حائن النفس يجزع " (2)
وعادت بلاد الله ظلماء حندساً ... فخلت دجى ظلماءها لا تقشع منها:
إليك أمير المؤمنين ولم أجد ... سواك مجيراً " منك " يدني ويمنع
تلمست هل من شافع لي فلم أجد ... سوى رحمة أعطاكها الله تشفع
لئن جلت الأجرام مني وأفظعت ... لعفوك من جرمي أجلّ وأوسع
لئن لم تسعني يا ابن عمّ محمد ... فما عجزت مني وسائل أربع
طبعت عليها صنعة (3) ثم لم تزل ... على صالح الأخلاق والدين تطبع
تغابيك عن ذي الذنب ترجو صلاحه ... وأنت ترى ما كان يأتي ويصنع
وعفوك عمّن لو تكون جزيته ... لطارت به في الجوّ نكباء زعزع
وأنك لا تنفكّ تنعش عاثراً ... ولم تعترضه حين يكبو ويخمع
وحلمك عن ذي الجهل من بعدما جرى ... به عنق من طائش الجهل أسفع (4)
ففيهن لي إمّا شفعن منافع ... وفي الأربع الأولى إليهن أفزع
مناصحتي بالفعل إن كنت نائياً ... إذا كان دان منك بالقول يخدع
__________
(1) الأغاني: شمها.
(2) الأغاني: صبغة.
(3) لم يرد في ص، وهو في الأغاني.
(4) الأغاني: أشنع.(4/203)
وثانية ظني بك الخير عادة ... وإن قلت عبد ظاهر الغش مسبع
وثالثة أني على ما هويته ... وإن كثر الأعداء فيّ وشنعوا
ورابعة أني إليك يسوقني ... ولائي، تولاك (1) الذي لا يضيع
وإني لمولاك الذي إن جفوته (2) ... أتى مستكيناً خاضعاً (3) يتضرّع
" وإني لمولاك الضعيف فأعفني ... فإني لعفو منك أهل وموضع " (4) فقطع عليه المهدي الإنشاد وقال: ومن أعتقك يا ابن السوداء؟ فأومأ بيده إلى الهادي وقال: الأمير يا أمير المؤمنين، فقال المهدي لولده موسى: أعتقه يا بني؟ قال نعم يا أمير المؤمنين فأمضى المهدي ذلك وأمر بحديده ففك عنه وخلع عليه عدّة من الخلع: الخز والوشي والسواد والبياض، ووصله بألفي دينار وأمر له بجاري يقال لها " جعفرة " جميلة فائقة من روقة الرقيق، فقال له سالم قيم دار الرقيق: لا أدفعها إليك أو تعطيني ألف دينار، فقال قصيدته:
أآذن الحيّ فانصاعوا بترحال (5) ... فهاج بينهم شوقي وبلبالي وقام بها بين يدي المهدي، فلما قال:
ما زلت تبذل لي الأموال مجتهداً ... حتى لأصبحت ذا أهل وذا مال
زوّجتني يا ابن خير الناس جاريةً ... ما كان أمثالها يهدى لأمثالي
زوّجتني بضةً بيضاء ناعمةً ... كأنها درة في كف لآل
حتى توهمت أنّ الله عجلها ... يا ابن الخلائف لي من خير أعمالي
فسالني سالم ألفاً فقلت له ... أنّى لي الألف يا قبّحت من سال
__________
(1) الأغاني: فمولاك.
(2) ص: جفيته.
(3) الأغاني: راهباً.
(4) زيادة من الأغاني.
(5) ص: بترحالي.(4/204)
هيهات ألفك إلا أن أجيء بها ... من فضل مولى لطيف المنّ مفضال فأمر له المهدي بألف دينار ولسالم بألف درهم.
ومرّ نصيب بباب الفضل بن يحيى فقال:
ما لقينا من جود فضل بن يحيى ... جعل الناس كلّهم شعراء وكانت وفاته بعد التسعين والمائة، رحمه الله.
551 - (1)
" النصير الحمامي "
النّصير - بفتح النون - ابن احمد بن علي المناوي الحمّامي؛ قال الحافظ العلامة أثر الدين أبو حيان: كان المذكور أديباً بمصر، كيّس الأخلاق يتحرّف باكتراء الحمامات، وأسنّ وضعف عن ذلك، وكان يستجدي بالشّعر، توفي سنة اثنتي (2) عشرة وسبعمائة، رحمه الله.
من شعره:
لا تفه ما حييت إلا بخير ... ليكون الجواب خيراً (3) لديكا
قد سمعت الصّدى وذاك جماد ... كلّ شيء تقول ردّ عليكا أخذ هذا المعنى من ابن سناء الملك حيث يقول (4) :
__________
(1) الزركشي: 338 والبدر السافر: 212 والدرر الكامنة 5: 166 وحسن المحاضرة 1: 569 وفي البدر السافر أن وفاته ظناً سنة 704 وفي الدرر أنه توفي سنة 708، ولم يرد في المطبوعة من هذه الترجمة إلا شيء يسير.
(2) ص: اثنا.
(3) ص: خير.
(4) ديوان ابن سناء الملك: 791.(4/205)
بان عليها الذل من بعدهم ... وزاد حتى كاد أن لا يبين
فإن تقل أين الذين اغتدوا ... يقل صداها لك أين الذين وأخذه ابن سناء الملك من القاضي ناصح الدين الأرجاني حيث قال (1) :
سال الصدا عنه وأصغى للصدا ... كيما يقول فقال مثل مقاله
ناداه اين ترى محط رحاله ... فأجاب أين ترى محط رحاله ومن شعر النصير:
أقول والكأس قد تبدت ... في كف أحوى أغن أحور
خربت بيتي وبيت غيري ... وأصل ذا كعبك المدور ومنه أيضاً:
إن الغزال الذي هام الفؤاد به ... استأنس اليوم (2) عندي بعد ما نفرا
أظهرتها طاهريات وقد ربضت ... فيها الأسود (3) رآها الظبي فانكسرا ومنه أيضاً:
قالوا افتضحت بحبه ... فأجبت لي في ذا اعتذار
من لي بكتمان الهوى ... وبخده نم العذار وقال أيضاً:
ما زال يسقيني زلاب رضابه ... لما خفيت ضنىً وذبت توقدا
ويظنني حياً رويت بريقه ... فإذا دعا قلبي يجاوبه الصدا وقال أيضاً:
ماذا يضرك لو سمحت بزورةٍ ... وشفعتها لمكارم الأخلاق
__________
(1) ديوان الأرجائي: 328.
(2) ص: النوم.
(3) البدر السافر: بها أسود.(4/206)
وردعت نفسك حين تمنعك اللقا ... وتقول هذا آخر العشاق وقال:
لي منزل معرفوه ... ينهل غيثاً (1) كالسحب
أقبل ذا العذر به ... وأكرم الجار الجنب وقال:
رأيت فتى يقول بشط مصر ... على درج بدت والبعض غارق
متى غطى لنا الدرج استقمنا ... فقلت نعم وتنصلح الدقائق وقال:
ومذ لزمت الحمام صرت فتى ... خلا يداري من لا يداريه
أعرف حر الأشيا وباردها ... وآخذ الماء من مجاريه قلت: لما كتب أبو الحسين الجزار إلى النصير الحمامي:
حسن التأتي مما يعين على ... رزق الفتى والحظوظ تختلف
والعبد مذ كان في جزارته ... يعرف من أين تؤكل الكتف كتبت إليه النصير البيتين المذكورين أولاً.
وقال النصير أيضاً (2) :
رأيت شخصاً آكلاً كرشةً ... وهو أخو ذوقٍ وفيه فطن
وقال ما زلت محباً لها ... قلت من الإيمان حب الوطن وقال النصير يوماً للسراج الوراق: قد عملت قصيدة في الصاحب تاج الدين وأشتهي أنك تزهزه لها وتشكرها، وسيرها إلى الصاحب، فلما أنشدت
__________
(1) البدر السافر: لها انهمال.
(2) مر البيتان في ج؟ 1: 129.(4/207)
بحضرة السراج قال السراج بعد ما فرغ منها:
شاقني للنصير شعر بديع ... ولمثلي في الشعر نقد بصير
ثم لما سمعت باسمك فيه ... قلت نعم المولى ونعم النصير فأمر له الصاحب بدراهم وسيرها إليه وقال: قل له هذه مائتا درهم صنجة (1) ، فلما أدى الرسول الرسالة قال النصير: قبّل الأرض بين يدي مولانا الصاحب وقل له: يسأل إحسانك وصدقاتك أن تكون عادة، فلما " بلغ " ذلك الصاحب أعجبه وقال: يكون ذلك عادته.
وكتب النصير إلى السراج يتشوقه:
وكدرت حمّامي بغيبتك التي ... تكدّر من لذاتها صفو مشربي
فما كان صدر الحوض منشرحا بها ... ولا كان قلب الماء فيها بطيّب وكتب أيضاً يستدعي إلى حمامه:
من الرأي عندي أن تواصل خلوة (2) ... لها كبد حرّى وفيض عيون
تراعي نجوماً فيك من حرّ قلبها ... وتبكي بدمع قارح وحزين
غدا قلبها صباً إليك وأنت إن ... تأخرت أضحى في حياض منون وكتب ناصر الدين ابن النقيب إلى النصير وقد حصل له رمد:
يقولون لي عين النصير تألمت ... ولازمه في جفنه الحكّ والأكل
فقلت أعين الراس أم عين غيره ... فللعلو شيء لا يداوى به السفل
فقالوا بل العين التي تحت صلبه ... فقلت لها التشييف (3) عندي والكحل
__________
(1) لعله يعني أنها دراهم وازنة اي راجحة في وزنها على المعدل المتعارف؛ والصنجة: هي قطعة محررة بوزن بها عند السبك، ووقد جاء عند ابن بعرة ((فإذا احتجت مائة قيراط تحرر أيضاً بصنجة الماءة تحريراً ثانياً)) (كشف الأسرار العلمية: 75) .
(2) كذا، ولعله ((خلة)) أو ((حلة)) .
(3) التشييف: معالجة العين بالشيف، وهو نوع من القطرة.(4/208)
وميل بماء الريق يبتلّ سفله ... فيدخل سهلاً غير صعب وينسل
وأغسلها بالبيض واللبن الذي ... عليّ بتقطيري له يجب الغسل
فإن شاء وافيت الأديب مداوياً ... ولم أشتغل عنه وإن كان لي شغل فأجابه النصير رحمهما الله تعالى:
أيا من له في الطب علم مباشر ... وما كلّ ذي قول له القول والفعل
أتيت بطبّ قد حوى البيع والشرا ... تبين لي في ذلك الخرج والدخل
وإن كان ذا سهلاً بطبك إنه ... بسقمي صعب ليس هذا به سهل
فلا عدم المملوك منك مداوياً ... وما زال للمولى على عبده الفضل وقال النصير ذوبيت:
في وجهك للجمال والحسن فنون ... في طرفك للسحر فتور وفتون
أنى أسلو هواك يا من باتت ... عيناه تقول للهوى كن، فيكون وقال:
إن عجل النوروز قبل الوفا ... عجّل للعالم صفع القفا
فقد كفى من دمعهم ما جرى ... وما جرى من نيلهم ما كفى وقال:
إني لأكره في الأنام ثلاثة ... ما إن لها في عدها من زائد
قرب البخيل وجاهلاً متعاقلاً ... لا يستحي وتودداً من حاسد
ومن الرزية والبلية أن ترى ... هذي الثلاثة جمعّ في واحد وكتب النصير إلى السراج الورّاق من أبيات:
كنت مثل الغزال والله يكفي ... صرت في وجهه إذا جيت كلبا
ولعمري لا ذنب لي غير أني ... تبت لله ظن ذلك ذنبا
وهو لو جاءني وقد تبت حتى ... يبتغي حاجة فلن أتأبى(4/209)
فأجابه السراج الوراق من أبيات:
وأتى الظبي مرسلاً منك فاستغ ... ربتُ لما دعوت نفسك كلبا
ولكم جيت عادياً خلفه تل ... هث عدواً للصيد بعداً وقربا
غير أني نظرت عين صفي ال ... دين كادت أن تشرب الظبي شربا
فاترك التوبة التي قد نراها ... لك وزراً كما زعمت وذنبا
واجتهد في رضاه عنك وقرّب ... كلّ نائي المدى تنل منه قربا
فلكم رضت جامحاً في تراضي ... هـ وذللت بالسفارة صعبا وكتب إلى السراج ملغزاً في نون:
ما اسم ثلاثي يرى واحداً ... وقد يعد اثنين مكتوبه
يظهر لي من بعضه كله ... إذ كلّ حرف منه مقلوبه
أضعف ثمانين إلى ستة ... إن شئت لا يعددك محسوبه
اطلبه في البر وفي البحر لا ... فات حجى مولاي مطلوبه فكتب إليه الوراق الجواب:
يا سالب الألباب من سحره ... بمعجز أعجز أسلوبه
ألغزت في اسم وهو حرف وقد ... يخفى علينا منك محجوبه
وهو اسم أنثى مرضع طفلها ... غير لبان الناس مشروبه
مطّرد منعكس شكله ... سيان في العين ومقلوبه وكتب النصير إلى الوراق:
أتى فصل الخريف عليّ جداً ... بأمراض لواعجها شداد
وأعذر عائدي إن لم يعدني ... وربّ مريض قوم لا يعاد فأجابه الورّاق:
خلائقك الربيع فليس تخشى ... خريفاً في الجسوم له اعتياد(4/210)
ولا والله لم أعلمك إلا ... صحيحاً والصحيح فما يعاد وكتب النصير إلى الوراق أيضاً:
أيها المحسن الذي وهب الله ... تعالى الحسنى له وزياده
ضاع ما كان من وصولات وصلي ... فتصدّق بكتبها لي معاده
أين تلك الطروس نظماً ونثراً ... منك تأتي على سبيل الإفاده
كلّ طرس يجلى عروساً بدرّ ال ... قول كم من عقد وكم من قلاده
كان عيسى إذا أتاك رسول ... منك يحيى خلاّ أمتّ وداده
شهد الله ليس لي غير ذكراك ... وإلا خرست عند الشهاده فكتب الورّاق الجواب:
لم " يفارق سو " اد عيني حبيب ... حلّ من قلبي المشوق سواده
فكأني ولا أذوق له رز ... ءاً جرير وذاك عندي سواده
ذو بيان أدنى بلاغته تن ... سيك قساً وعثره وإياده
جوهري الألفاظ كم قلد الأج ... ياد عقداً من نظمه وقلاده
فعبيد (1) أدنى العبيد لديه ... ولبيد عن نظمه ذو بلاده
ولأزجاله ابن قزمان يعنو ... ولتوشيحه يقرّ عباده (2)
فات دار الطراز منه خلال ... لو بها للسعيد تمت سعاده
يا صديقي الذي غدا راعياً ... فيّ للأصدقاء فيّ زهاده
هجروني كأنني مصحف أو ... مسجد قد أقيم أو سجاده
دمت نعم النصير لي ما تغنّت ... ساجعات على ذرا ميّاده وكتب النصير إلى السراج ملغزاً في النار:
__________
(1) يعني عبيد بن الأبرص.
(2) عبادة بن ماء السماء وشاح أندلسي.(4/211)
وما اسم ثلاثي له النفع والضّرر (1) ... له طلعة تغني عن الشمس والقمر
وليس له وجه وليس له قفا ... وليس له سمع وليس له بصر
يمد لساناً (2) تختشي الريح بأسه ... ويسخر يوم الضرب بالصارم الذكر
يموت إذا ما قمت تسقيه قاصداً ... وأعجب من ذا أن ذاك من الشجر
أيا سامع الأبيات دونك شرحها ... وإلا فنم عنها ونبّه لها عمر فكتب إليه الورّاق الجواب:
أراك نثير الدين ألغزت في التي ... تعيد لمسك الليل كافورة السحر
رأى معشر أن يعشقوها ديانة ... وتا لله لا تبقي عليهم ولا تذر
وكل على قلب لهم ران إسمها ... فمسكنهم منها ومأواهم سقر
وقد وصفوا (3) الحسناء في بهجة بها ... كما وصفوا الحسناء بالشمس والقمر
ولو لم تكن ما طاب خبز لآكل ... ولا لذّ ماء في حماك لمن عبر وكتب " النصير " إلى الورّاق ملغزاً في ديك:
أيا من لديه غامض الشعر يكشف ... ومن بدره بادي السنا ليس يكسف
عساك هدى لي إنني اليوم ذاهل ... عن الرشد فيما قد أرى متوقف
أرى اسماً له في الخافقين ترفّع ... أخا يقظة ذكراً ولا يتعفف
رأيت به الأشياء تبدو وضدها ... فكاد لهذا الأمر لا يتكيف
فعرّفه ذو السمع وهو منكر ... ونكّره ذو اللبّ وهو معرّف
فجاوب لأحظى بالجواب فإنه ... إذا جاوب المولى العبيد يشرّف فكتب إليه الورّاق الجواب عن ذلك:
__________
(1) ص: والضر.
(2) ص: لسانه.
(3) ص: وصفوها.(4/212)
إليك نصير الدين مني إجابة ... بها أوضح المعنى الخفيّ وأكشف
رايتك قد ألغزت لي في متوج ... بتذكاره أسماعنا تتشنّف
ينبّه قوماً للصلاة ومعشراً (1) ... عبادتهم آس وكاس وقرقف
له كرم قد سار عنه وغيره ... وعرف به من غيره ظلّ يعرف
حظيّ تراه وادعاً في ضرائر ... يزينه تاج وبرد مفوّف
وفي قلبه كيد ولكنّ صدره ... غدا ضيّقاً مثلي بذلك يوصف وكتب النصير إلى الوراق ملغزاً في نعامة:
ومفرد جمعاً يرى ... بحذف بعض الأحرف
اسم " نعا " أكثره ... فقال باقيه اكفف
تراه يغدو مسرعاً ... في برده المفوّف فكتب الورّاق الجواب:
لو قلت في من قد نعى ... مات لصدقتك في
فكل باغ كالذي ... تبغي رهين التلف
ألغزت في اسم طائر ... في الأرض عنا ما خفي
يفحص فافحص عنه يا ... ربّ الفتون تعرف
وهو لعمري في السما ... ء يفتضي ويقتفي وكتب النصير إلى الورّاق وعنده أحمد الموصلي الزجال:
عندنا من غدا بحبك مغرىً ... وله فيك لوعةٌ وغرام
موصليّ يهوى الملاح إذا ما ... جاء صبح اللحى وولّى الظلام
فهو لا ينتهي عن الشيب بالش ... يب فماذا تقول يجدي الملام
لو تبدّى لعينه ابن ثمانين ... غدا وهو عاشق مستهام
__________
(1) ص: ومعشر.(4/213)
قرّ عيناً وطب فديتك نفساً ... عنده أنت أنت بدر تمام فكتب إليه الورّاق الجواب:
حبذا من بنات فكرك عذرا ... ء بها من فتيق مسك ختام
خلت ميم الرويّ فاها (1) وقد ض ... اق ومن ذاق قال فيه مدام
ولها من عقود فضلك حلي ... لم يحز مثل درّه النظّام
أذكرت بالشباب عيشاً خليعاً ... نبت فوديه بعد آس ثمام
كيف لا كيف لا ولم أر صعباً ... قط يأتي إلا وأنت زمام
وبما فيك من تأتّ ولطف ... أنا شيخ للموصليّ غلام
فهو نعم المولى، ونعم النصير ال ... مرتضى أنت صاحباً والسلام وكتب النصير إلى الورّاق ملغزاً في كنافة (2) :
يا واحداً في عصره بمصره ... ومن له حسن السناء والسنا
تعرف لي اسماً فيه ذوق (3) وذكا ... حلو المحيا والجنان والجنى
والحلّ والعقد له في دسته ... ومجلس الصدر وفي الصدر المنى
إن قيل يوماً هل لذاك كنية ... فقل لهم لم يخل يوماً من " كنا " فكتب الورّاق الجواب:
لبيك يا نعم النصير والذي ... أدنت (4) به المنية لي كلّ المنى
عرّفتني الإسم الذي عرفته ... وكاد يخفى سرّه لولا " الكنا "
له من الحور الحسان طلعة ... تقابل المرآة منها الأحسنا
__________
(1) ص: فواها.
(2) قال في البدر السافر: وكتب إلى قاضي القضاة تقي الدين القشيري يطلب منه كنافة فبلغني أنه أرسل إليه عشرين درهماً.
(3) البدر السافر: حاز ذوقاً.
(4) ص: أذنت.(4/214)
وخدنه بعض اسمه طيراً غدا ... أصدق شيء إن بلوت الألسنا
وهو لسان كله وبعد ذا ... تنظره عند الكلام ألكنا
وفي خوان المجد كانا مألفي ... عند الصيام ربّ فاجمع بيننا وكتب النصير إلى الوراق مع ظروف (1) يقطين في فرد (2) :
يا من لدفع الردى غدا جنه ... ومن له في قبولها المنه
هدية في الإناء تتبعها خير ... ثناء (3) وهكذا السنه فكتب الوراق الجواب:
يا من غدا لي من العدا جنه ... ومن بحمامه لنا جنه
جاء بها الفرد وهو ممتلىء ... ملء فؤاد الحماة بالكنه
وكل ظرف منها بنوه على ال ... فتح فحقق في حبه ظنه وقال النصير يصف حمامه:
حمام الأديب العارف ... ما تجري وحال (4) واقف بها اسطول وما فيه اسطال (5) ... والماء يتزن بالقسطال (6) ... والمال رأيته بطال ... والاسكندراني ناشف ...
__________
(1) ص: ضروف.
(2) فرد: أظنها تعتني الجوالق الضخم، وفي عامية بعض القرى القسطنطينية ((فردة)) ، ولعلها سميت كذلك لأنها أحد شقي الحمل على الجمل أو غيره.
(3) ص: حيز نبى، دون إعجام للباء.
(4) أي وحالها، ويلاحظ أنه يشير إلى الحمام بالتأنيث، كما يقال لإحدى النعلين ((فردة)) .
(5) أي فيها عدد كبير من الناس ((اسطول)) وليس فيها دلاء ((اسطال)) .
(6) القسطل: أنبوب من الخزف أو غيره يجري فيه الماء، وقد جعل الفتحة ألفاً للوزن.(4/215)
وما رأيت فيها بلان (1) ... يسرح لأحد باحسان ... والزبال يعر القوسان ... قال والهاتمه يتصالف ... ذي دونه وقيمها دون ... مبنيه على ميه مجنون ... والما في المجاري مخزون ... والأنبوب معوج تالف ... وتابوت على فسقيه (2) ... قلتو مت بالكليه ... خذو من نصير الديه ... وإلا اثنينا نتناصف ... وكتب النصير إلى الوراق موشح:
أهوى رشاً في مهجتي مرتعه ... أفديه ربيب
لا بل قمراً في ناظري مطلعه ... لم يدر مغيب حقف وهلال وغزال وغصن ... إن قام وإن رنا وإن لاح وإن ... والمؤمن كيس كما قيل فطن ... قلبي أبداً إلى محياه يحن ...
ما أبعده وفي الحشا موضعه ... ناء وقريب
__________
(1) البلان: الصبي الذي يخدم في الحمام.
(2) الفسقية: مجتمع الماء (شفاء الغليل) .(4/216)
قد راق به شعري لمن يسمعه ... إذ كان حبيب يا خجلة غصن البان لما خطرا ... يا حيرة بدر التم لما سفرا ... يا غيرة ظبي الرمل لما نظرا ... يا رخص فتيق المسك لما نثرا ...
من لؤلؤ نثره لمن يجمعه ... زاه ورطيب
ما أسعد ما أغنى فتى يصنعه ... عقداً لتريب (1) دعني فحديث العشق إفك ومرا ... عندي أبد الزمان والحق أرى ... مدحي لسراج الدين نرو الشعرا ... والكاتب عند الأمرا والوزرا ...
كم فيه فضيلة له ترفعه ... عن قدر أديب
الله بما قد حازه ينفعه ... والله مجيب " ... " (2) وفاق معنا (3) كرما ... تلقاه إذا نحوته في العلما ... ألمفرد في زمانه والعلما ... كن ممتثلا مرسومه إن رسما ...
فالفضل إليه كله مرجعه ... والرأي مصيب
لولا عمر (4) الفضل عفت أربعه ... أو كان غريب
__________
(1) التريب: ما دون النحر من الصدر.
(2) بياض في ص.
(3) ص: معن، ومعن بن زائدة مشهور بسخائه.
(4) يعن السراج الوارق، واسمه عمر.(4/217)
بالفرع غدت في شفق الحدين ... كالبدر يلوح نوره للعين ... لما رميت من هاجري بالشين ... غنته وقد فارقها يومين ...
قد غاب ولي يومين ما أقشعه ... خلوه يغيب
لو راح إلى نجد أنا أتبعه ... حتى لو اصيب فأجابه السراج الوراق:
البدر على غصن النقا مطلعه ... من فوق كثيب
من طرفي والقلب له موضعه ... يبدو ويغيب إنسان عيوني ظل في الدمع غريق ... والقلب بنار البعد والصد (1) حريق ... من يطفئها من مسكر الراح بريق ... والدر بثغر راق لمعاً وبريق ...
من يمنحه السؤال لا يمنعه ... ظمآن كئيب
أبلاه بما يخفى به موضعه ... عن مس طبيب من فترة جفنه أثار الفتنا ... واستل بها من الجفون الوسنا ... إن ماس وإن أسفر أو عن لنا ... كالغصن وكالبدر وكالظبي رنا ...
دع وصفي فالحسن له أجمعه ... من غير ضريب
وانظر ملحا أضعاف ما تسمعه ... من كل لبيب
__________
(1) ص: والضد.(4/218)
لم أنس وسكري بين كاس ورضاب ... من فيه، وشكي بين ثغر وحباب ... والليل كما شاب على إثر شباب ... والجو لنا رق كما رق عتاب ...
لا بل غزل النصير إذ موقعه ... من كل أديب
كالماء من الظمآن إذ يكرعه ... في قيظ أبيب (1) شيخ الأدباء شرقها والغرب ... من كل عروض يمتطي أو ضرب ... أو وصف مقام لذة أو حرب ... كم هز معاطف القنا والقضب ...
بالجزل من اللفظ الذي يبدعه ... من كل غريب
قد سلم في الشعر له أشجعه ... والشيخ حبيب (2) هذا وإذا جدد خلعاً لعذار ... في وصف رشيق القد أو ذات خمار ... أذكى لك منه الشجر الأخضر نار ... كم قد فتنت وجداً به ذات سوار ...
الفته وقالت أي تراها معه ... تأخذ بنصيب
مني وإذا زوجي أتى يصفعه ... لو كان شبيب
__________
(1) أبيب: الشهر الحادي عشر من الشهور القبطية، ويقع في تموز (يوليه) .
(2) يعني أشجع السلمي وحبيب بن أوس (ابا تمام) .(4/219)
552 - (1)
النصير الأذفودي
النصير الأذفودي؛ قال كمال الدين جعفر: لم أجد بأذفو من يعرف اسم أبيه، وكان أديباً شاعراً ينظم الشعر والموشح، وكان في أوائل المائة السابعة، وأظنه مات بعد الخمسين والستمائة؛ أنشدني له والدي في خولي اسمه كستبان:
أبي كستبان الرجل أن يحمل الظرفا ... لقد عدم الحسنى كما عدم الظرفا
يسمونه الخولي وهو مصحف ... ألا إنه الحولي الذي يأكل الحلفا ومن نظمه هذا الموشح:
يا طلعة الهلال ... هلا لي في الحب منتظر
يا غاية الآمال ... أما لي (2) من الهوى مفر
أما لدائي راقي ... من راق قدراً على الأنام
زها بحسن الساق ... والساقي من ريقه المدام
به فؤادي باقي ... والباقي في لجة الغرام
وسست والخلاق ... أخلاقي بالصبر إذ هجر
فلذ للمذاق ... مذاقي في حبه السهر
هل من فتى يسعى في ... إسعافي بالقرب من رشا
إن مال بالأرداف ... أردى في قلبي مع الحشا
__________
(1) الزركشي: 340 والطالع السعيد: 681، ولم ترد في المطبوعة.
(2) ص: مالي.(4/220)
مكمل الأوصاف ... أوصى في قتلي وأدهشا
عقلي وحكموا لجافي ... ألجا في ركوبه الغرر
فكم من الإسراف ... أسرى في كفيه من خطر
أزرى الجبين الحالي ... بالحال ممن قد اعتدى
إذ فاق بالكمال ... كما لي أشقى وأنكدا
من ابنة الدوالي ... دوا لي قلبي من الردى
ومذ بذلت مالي ... أوما لي باللحظ إذ نظر
وقال إذ ألوا لي ... الوالي يرفع له الخبر
يا غصن بان مائل ... يا مائل عني لشقوتي
وارثي (1) لدمعي السائل ... يا سائل عن حال قصتي
ولا تطيع العاذل ... يا عاذل ورافق بمهجتي
وان تزرني قابل ... في قابل أفوز بالظفر
كي ينجلي يا فاضل ... الفاضل من حالي (2) الغير
يا منتهى آمالي ... أما لي في الحب من مجير
ارثي لجسمي البالي ... يا بالي وارحم فتى أسير
فقد بذلت الغالي ... يا غالي في القدر يا أمير
وفيك قد ألقى لي ... يا قالي هجرانك الضرر
وقطعت أوصالي ... يا صالي بقتلي سقر
إن جزت بين السرب ... سر بي عن حيهم قليل
ومل بهم وعج بي ... فعجبني قلبي بهم بخيل
__________
(1) الطالع: ارث.
(2) الطالع: في حالة.(4/221)
وقف بهم يا صحبي ... وصح بي ابكوا على القتيل
وإن تقضى نحبي ... فنح بي في السهل والوعر
وانزل بهم والطف بي ... وطف بي في البدو والحضر
لم أنس إذ غناني ... أغناني والليل قد هدا
وقال إذ حياني ... أحياني روحي لك الفدا
واهتز بالأردان ... أرداني إذ قام منشدا
وطائر الأفنان ... أفناني إذ ناح في السحر
وهاتف الأذان ... آذاني إذ نبه البشر(4/222)
حرف الهاء(4/223)
فراغ(4/224)
(1) 553
هارون الرشيد
هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، أمير المؤمنين الرشيد ابن المهدي ابن المنصور؛ كان شجاعاً كثير الحج والغزو، حج في خلافته ثماني حجج، وقيل تسع، وغزا ثماني غزوات، ولم يحج خليفة بعده، وكان في أيامه فتح هرقلة.
وكان طويلا جسيما أبيض قد وخطه الشيب، مولده سنة سبع وأربعين ومائة في نصف شوال بمدينة الري، وبويع له بمدينة السلام في ربيع الأول سنة سبعين ومائة يوم موت الهادي، وكان ولي العهد بعده، وله يومئذ اثنان وعشرون سنة ونصف، وتوفي بطوس في جمادى الآخرة (2) سنة ثلاث وتسعين ومائة، وله ست وأربعون سنة وكانت مدة خلافته ثلاثاً وعشرين سنة وشهرين وستة (3) عشر يوماً، وكان يحج سنة ويغزو سنة، ولذل قال فيه القائل:
فمن يطلب لقاءك أو يرده ... فبالحرمين أو أقصى الثغور
ففي أرض العدو على طمر ... وفي أرض الثنية فوق كور وكان جواداً بالمال، واعتمد على البرامكة في دولته فزينوها إلى أن أكثروا الدالة عليه ففتك بهم، ولكن ساء تدبيره للملك بعدهم وظهر الاختلال في دولته
__________
(1) مراجع أخباره كثيرة، وانظر تاريخ بغداد 14: 5 والديارات: 144 وتاريخ الخميس 2: 331 والبداية والنهاية 10: 213 ومعجم المرزباني: 462 والزركشي: 340 والروحي: 48 والفخري: 175 وتاريخ الخلفاء: 307 وخلاصة الذهب المسبوك: 107 وسائر المصادر التاريخية الكبرى ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.
(2) ص: الآخر.
(3) ص: وست.(4/225)
بعدهم، وكان يقول: أغرونا بهم حتى إذا هلكوا وجدنا فقدهم ولم يسدوا مسدهم.
وكان فصيح المقال، قال لإسحاق بن إبراهيم الموصلي وقد أنشده أبياتاً منها:
وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأي أمير المؤمنين جميل لله در أبيات (1) تأتينا بها ما أحكم أصولها وأحسن فصولها وأقل فضولها! فقال إسحاق: أخذ الجائزة مع هذا الكلام ظلم.
وله شعر جيد منه قوله في جارية صالحها:
دعي عد الذنوب إذا التقينا ... تعالي لا نعد ولا تعدي ومنه:
ملك الثلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي أعز مكان
مالي تطاوعني البرية كلها ... وأطيعهن وهن في عصياني
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ... وبه غلبن أعز من سلطاني ومن شعر الرشيد يرثي جاريته هيلانة:
أف للدنيا وللزي ... نة فيها والاناث
إذ حثا الترب على هيلا ... ن الناس في الحفرة حاثي
فلها تبكي البواكي ... ولها تشجي المراثي
خلفت سقماً (2) طويلاً ... جعلت ذاك تراثي وكان من أمير الخلفاء وأجل ملوك الدنيا، كان يصلي في اليوم مائة ركعة إلى أن مات، ويتصدق كل يوم من صلب ماله بألف درهم، وكان يحب
__________
(1) ص: ابياناً.
(2) ص: سقمى.(4/226)
العلم وأهله، ويعظم حرمات الله تعالى؛ ولما مات ابن المبارك جلس للعزاء وأمر الناس أن يعزوه.
واجتمع له ما لم يجتمع لغيره: وزراؤه البرامكة، وقاضيه أبو يوسف، وشاعره مروان بن أبي حفصة، ونديمه العباس بن محمد عم أبيه، وحاجبه الفضل بن الربيع أتيه الناس وأعظمهم، ومغنيه إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وزوجته زبيدة.
قال ابن حزم: كان يشرب الخمر؛ ولما مات صلى عليه ابنه صالح ودفنه بطوس.
وذكر الرواة أن الرشيد صنع قسيماً من الشعر وهو:
الملك لله وحده ... ثم أرتج عليه فقال: استدعوا من بالباب من الشعراء، فدخل عليه جماعة منهم الجماز (1) فقال الرشيد: أجيزوا، وأنشدهم القسيم، فبدر الجماز فقال:
وللخليفة بعده ... فقال الرشيد: زد، فقال الجماز:
وللمحب إذا ما ... حبيبه بات عنده فقال الرشيد: أحسنت، لم تعد ما في نفسي، وأجازه بعشرة آلاف درهم، رحمه الله.
__________
(1) كان الجماز من شعراء البصرة ومن موالي قريش (انظر طبقات ابن المعتز: 373 وتاريخ بغداد 3: 125) .(4/227)
554 - (1)
" الواثق بالله "
هارون بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله ابن العباس، أمير المؤمنين الواثق بالله ابن المعتصم بالله ابن الرشيد ابن المهدي ابن المنصور؛ أمه أم ولد يقال لها قراطيس. كان أبيض إلى الصفرة، حسن الوجه جميل الطلعة جسيماً، في عينه اليمنى نكتة بياض.
مولده يوم الاثنين لعشر بقين من شعبان سنة تسعين ومائة، وبويع له بسامرا يوم الجمعة لإحدى عشرة (2) ليلة بقيت من ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين، وتوفي بسامرا يوم الثلاثاء لخمس بقين من الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وستة أيام.
وكان كاتبه محمد بن عبد الملك الزيات، وحاجبه إيتاخ ومحمد بن حماد ابن نقش ثم محمد بن عاصم؛ وكان يقال له " المأمون الصغير " لشبه أحواله كلها بأحواله، وكان أعلم بني العباس بالغناء، وله أصوات مشهورة من تلحينه.
ومن نادر كلامه لشخص كان عاملاً له على عمل، نقل عنه أنه قال لمن شفع إليه في قصته لو شفع لك النبي صلى الله عليه وسلم ما شفعتك: لولا أن في خطأ لفظك إشارة إلى صواب معناك في استعظامك ووضعك رسول الله صلى الله عليه وسلم في غاية التمثيل لمثلت بك. ثم أمر أن يضرب ثمانين سوطاً
__________
(1) الزركشي: 340 والأغاني 9: 267 ومعجم المرزباني: 462 وتاريخ بغداد 14: 15 وتاريخ الخلفاء: 367 والروحي: 53 وخلاصة الذهب المسبوك: 223 والفخري: 215 وسائر المصادر التاريخية الكبري؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.
(2) ص: عشر.(4/228)
ويعزل. ورئي الواثق في تلك الحالة وهو يرعد غضباً وقال: والله لا وليت لي عملاً أبداً.
وللواثق شعر حسن منه (1) :
قالت إذا الليل دجا فأتنا ... فجئتها حين دجا الليل
خفي وطء الرجل من حاسد ... ولو درى حل به الويل وله:
تنح عن القبيح ولا ترده ... ومن أوليته حسنى فزده
ستكفى من عدوك كل كيد ... إذا كاد العدو ولم تكده وكان يحب خادماً أهدي له من مصر، فأغضبه الواثق يوماً فسمعه يقول لبعض الخدم: والله إن الواثق يروم منذ أمس أن أكلمه فلم أفعل، فقال:
يا ذا الذي بعذابي ظل مفتخرا ... هل أنت إلا مليك جار فاقتدرا (2)
لولا الهوى لتجارينا على قدر ... فإن أفق مرة منه فسوف ترى وقال يحيى بن أكثم: ما أحسن أحد إلى آل أبي طالب ما أحسن إليهم الواثق، ما مات وفيهم فقير.
وكان ابن أبي داود قد استولى على الواثق وحمله على التشدد في المحنة بالقول بخلق القرآن، ويقال إن الواثق رجع قبل موته عن القول بخلق القرآن.
وقال عبيد الله بن يحيى (3) : حدثنا إبراهيم بن ساباط قال: حمل فيمن حمل رجل مكبل بالحديد من بلاده فأدخل، فقال ابن أبي داود: تقول أو أقول؟ قال: هذا من أول جوركم، أخرجتم الناس من بلادهم ودعوتموهم إلى
__________
(1) معجم المرزباني: 463.
(2) السيوطي: جار إذ قدرا.
(3) تاريخ الخلفاء: 368 والرجل الذي جعل من بلاده هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد الأذرمي.(4/229)
شيء، لا بل أقول، قال: قل، والواثق جالس، قال: أخبرني عن هذا الرأي الذي دعوتم إليه الناس أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم به فلم يدع الناس إليه أم شيء لم يعلمه؟ قال: علمه، قال: فكان يسعه أن لا يدعو الناس إليه وأنتم لا يسعكم؟! قال: فنبهته، واستضحك الواثق وقام قابضاً على فمه، ودخل بيتاً ومد رجليه وهو يقول: وسع النبي صلى الله عليه وسلم أن يسكت عنه ولم يسعنا، وأمر أن يعطى ثلاثمائة دينار وأن يرد إلى بلده.
وقال رزقان بن أبي داود: أن الواثق لما احتضر قال:
الموت فيه جميع الخلق مشترك ... لا سوقة منهم يبقى ولا ملك
ما ضر أهل قليل في تفاقرهم (1) ... وليس يغني عن الأملاك ما ملكوا ثم أمر بالبسط فطويت من تحته وألصق خده بالأرض وجعل يقول: يا من لا يزول ملكه، ارحم من قد زال ملكه.
وكان في سنة اثنتين ومائتين قد صادر الدواوين وضرب أحمد بن أبي إسرائيل ألف صوط (2) وأخذ منه ثمانين ألف دينار، ومن سليمان بن وهب كاتب الأمير إيتاخ أربعمائة ألف دينار، ومن أحمد بن الخصيب وكاتبه ألف ألف دينار ويقال إنه أخذ من الكتاب في هذه السنة ثلاثة آلاف ألف دينار.
__________
(1) السيوطي: تفارقهم، وما هنا أصوب.
(2) كذا يكتبها المؤلف.(4/230)
555 - (1)
ابن المصلي الارمنتي
هارون بن موسى بن محمد، الرشيد المعروف بابن المصلي الارمنتي؛ قال كمال الدين جعفر الأذفوي: اجتمعت به ولم يعلق بذهني منه شيء، وله شعر كثير يأتي من جهة الطبع، ليس يعرف له اشتغال، وكان إنساناً حسناً فيه لطافة. توفي بأرمنت سنة ثلاثين وسبعمائة، وأورد له:
حثها الشوق حثيثاً من وراها ... فتراها عانقت ترب ثراها
واعتراها الوجد حتى رقصت ... طربا أسكرني طيب شذاها
غني يا ساقي الراح بها ... ليس يغني فاقتي إلا غناها منها في ذم الحشيش ومدح الخمر:
وامل لي حتى تراني ميتا ... إن موت السكر للنفس حياها
ليس في الأرض نبات (2) أنبتت ... فيه سر حير العقل سواها
رامت الخضراء تحكي سكرها ... قتلوها بعد تقطيع قفاها وكان قبلي الدمقرات قرية تسمى ببويه (3) وفيها بدوية، فقال الرشيد فيها:
بدويه في ببويه ساكنا ... صيرت عندي المحبه ماكنا (4)
اسمها ست العرب ... هيجت عندي الطرب أنا قاعد بين جماعه نستريح ...
__________
(1) الزركشي: 341 والطالع السعيد: 66، ولم ترد الترجمة في المطبوعة.
(2) ص: نباتاً.
(3) ببويه: كانت الدمقرات وطفنيس وقد اندثرت (رمزي 1: 143) .
(4) الطالع: كامناً، وماكنا تعني ((مكينة)) اي ثابتة راسخة.(4/231)
عبرت وحده لها وجه مليح ... بقوام أعدل من الغصن الرجيح ... في الملاحة زايدا ... ووراها قايدا ... لو تكن لي رايدا ...
كنت نعطيها ألف دينار وازنا ... وابن في داخل (1) بيوتي ماذنا
وترى مني العجب ... في تصانيف الأدب نفرت مني كما نفر الغزال ... واسفرت لي عن جبين يحكي الهلال ... ودنت أرمت بعينيها نبال ... ثم قالت يا فلان ... خذ من احداقي أمان ... معك في طول الزمان ...
فأنا والله مليحه فاتنا ... ومن الحساد ما أنا آمنا
والملك (2) وأهل الرتب ... يأخذوا مني الحسب قلت يا ستي أنا هوني نموت ... ادفنوني عندكم جوا البيوت ... والعذارى حولها يمشوا سكوت ... ثم قالوا كلميه ... يا عريبه (3) وارحميه ... ذا غريب لا تهجريه ...
__________
(1) الطالع: داخل في.
(2) الطالع: والملوك.
(3) ص: عربيه.(4/232)
يشتهر حالك يصير لك كاينا ... يقتلوه أهلك وتبقي ضامنا
ذا الحديث فيه العطب ... ليس ذا وقت الغضب قالت امضي لا يكون عندك ضجر ... واصطبر واعمل على قلبك حجر ... ما طريقي سابله من جا عبر ... والعذارى يعرفوك ... ما تراهم يسعفوك ... ظلموني وأنصفوك ...
ثم وعاهدني فما أنا خاينا ... وأنا الليلة لروحي راهنا
مر وعبي لي الذهب ... فترى عقلك ذهب واعدتني (1) وبقيت في الانتظار ... واورثتني الذل بعد الانكسار ... والدحى قد صار عندي كالنهار ... عندما غاب القمر ... واظلم الليل واعتكر ... جف قلبي وانكسر ...
وعريبا في حديثي واهنا ... آمنه في سربها مطامنا
والفؤاد مني اضطرب ... ونشف ذاك الطرب صرت نرعى النجم إلى وقت الصباح ... إذ بدا ذي الكوكب الدري ولاح ... فإذا هي قد أتت ست الملاح ...
__________
(1) الطالع: عاهدتني.(4/233)
والعذارى في عتاب ... مع عريبه في ضراب ... ثم قالت ذا الكلاب ...
ينبحوا تأتي الرجال الظاعنا ... بالسيوف وبالرماح الطاعنا
يدركوني في الطلب ... يجعلوا راسي ذنب 556 (1)
الجرذ الكاتب
هبة الله بن الحسين بن محمد بن هبة الله بن محمد بن علي بن الحسن بن المطلب، أبو المعالي الملقب بالجرذ؛ من بيت الوزارة والتقدم، كان أديباً فاضلاً شاعراً يكتب خطاً حسناً، ونسخ بخطه الكثير للناس، وكان ظريفاً لطيفاً، وجمع في الهزل مجاميع مطبوعة، وأسن وعجز عن الحركة، وتوفي سنة تسعين وخمسمائة، رحمه الله. ومن شعره:
فديت من في وجهها سنة ... أشهى إلى قلبي من الفرض
تنسى عهوداً سلفت بيننا ... كأنما قد أكلت قرضي أشار إلى أن أكل الطعام الذي أكل منه الفار يورث النسيان فيما يزعمه أصحاب التجارب، وحسن هذا لأن اسمه الجرذ.
ومن شعره:
ألا قبح الله هذي الوجوه ... وبدلنا غيرها أوجها
__________
(1) لم ترد ترجمته في المطبوعة.(4/234)
فلا أفقها مؤذن بالندى ... ولا بالعلا مؤذن أوجها وقال في ابن دينار كاتب الوزير، وكان أحاله عليه فمطله:
مولاي في بابكم كاتب ... يزيد في ظلمي إفراطا
مضيع للمال لكنه ... أضحى على شؤمي محتاطا
ظن أباه من عطاياك لي ... فليس يعطيني قيراطا وقال في ذم الغيم:
ما أقبح الغيم ولو أنه ... يمطرنا دراً وياقوتا
فكيف والآفاق مغبرة ... شوهاء لا ماء ولا قوتا وقال:
نفض التراب عقوق عن مناكبنا ... لأنه نسب الآباء في القدم 557 (1)
الصائن ابن عساكر
هبة الله بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين الدمشقي الشافعي، ابن عساكر أخو الحافظ ابن عساكر؛ كان الأكبر، وكان يعرف بالصائن؛ حفظ القرآن العظيم في صباه، وقرأه بروايات على أبي الوحش سبع بن قيراط وأحمد بن محمد بن خلف بن محرز الأندلسي، وسمع من الشريف أبي القاسم
__________
(1) طبقات السبكي 4: 320 والدارس 1: 416 وعبر الذهبي 4: 184 والأسنوي 2: 215 وترجم له ابن خلكان (3: 311) في ترجمة أخيه الحافظ أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله، ووفاته على التحديد 23 شعبان سنة 563؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.(4/235)
علي بن إبراهيم بن العباس العلوي وأبي طاهر ابن الحنائي (1) وأبي الفرج غيث ابن علي الصوري وغيرهم، وقرأ الفقه على أبي الحسن علي بن المسلم ونصر الله ابن محمد المصيصي.
وقدم بغداد سنة عشر وخمسمائة، وقرأ الخلاف على أسعد الميهني، وقرأ أصول الفقه على ابن البرهان، وأصول الدين على أبي عبد الله القيرواني، وسمع هناك على أشياخ العصر، وسمع بالكوفة ومكة بعدما حج، ورجع إلى بغداد ثم عاد إلى دمشق، وصار معيداً لشيخه علي ابن المسلم بالمدرسة الأمينية، ثم إنه درس بالغزالية بالجامع الأموي، وأفتى وحدث واعتنى بعلوم القرآن والنحو واللغة، وحصل النسخ نسخاً وتوريقاً وشراء، وكان فاضلاً ظريفاً كيساً مطبوعاً عشيراً حريصاً على طلب العلم، وكتبه مبذولة للطلبة والمستفيدين والغرباء، ولم يزل يكتب إلى أن مات في سنة " ثلاث وستين " (2) وخمسمائة، رحمه الله تعالى وإيانا.
558 - (3)
أبو الحسين الحاجب
هبة الله بن الحسن، أبو الحسين الحاجب؛ ذكره كمال الدين ابن الأنباري في " كتاب النحويين " (4) ، ومات فجأة سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، كان
__________
(1) الحنائي: غير معجمة في ص.
(2) بياض في ص، واعتمدت فيه على المصادر المذكورة.
(3) الزركشي: 341 (هبة الله بن الحسين) وتاريخ بغداد 14: 71 ونزهة الالبا: 239 وإنباه الرواة 3: 358 ومعجم الأدباء 19: 271، وبغية الوعاة: 407؛ ولم ترد الترجمة في المطبوعة.
(4) الأرجح أنه يعني كتاب ((نزهة الألبا)) .(4/236)
من أفاضل الشعراء، ومن شعره:
يا ليلة سلك الزمان ... بطيبها في كل مسلك
إذ أرتقي ردف (1) المسرة ... مدركا ما ليس يدرك
والبدر قد فضح الظلام ... فستره فيه مهتك
وكأنما زهر النجوم ... بلمعها شعل تحرك
والغيم أحيانا يموج ... كأنه ثوب ممسك
وكأن تجعيد الرياح ... بدجلة ثوب مفرك
وكأن نشر المسك ينفح ... في النسيم إذا تحرك
وكأنما المنثور مصفر ... الذرا (2) ذهب مشبك
والنور يبسم في الرياض (3) ... فإن نظرت إليه سرك
شارطت نفسي أن أقوم ... بشرطها (4) والشرط أملك
حتى تولى الليل منهزماً ... وجاء الصبح يضحك
واهاً لنا لو أننا ... في ظل طيب العيس نترك
والمرء يحسب عمره ... فإذا أتاه الشيب فذلك (5)
__________
(1) النزهة: درج.
(2) ص: الندى.
(3) ص الزركشي: والروض يبسم والرياض.
(4) النزهة: بحقها.
(5) فذلك: ختم الحساب.(4/237)
559 - (1)
" هشام بن عبد الملك "
هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، أبو الوليد أمير المؤمنين؛ كان أبيض أحول سمينا طويلا أكلف يخضب بالسواد، مولده سنة قتل ابن الزبير - سنة اثنتين وسبعين للهجرة - وتوفي بالرصافة من أرض قنسرين ليلة الأربعاء لست خلون من شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة، وصلى عليه ابنه مسلمة بن هشام، وبويع سنة خمس ومائة، وكانت أيامه تسع عشرة (2) سنة وسبعة أشهر. وهو الذي قتل زيد بن علي بالكوفة سنة إحدى وعشرين ومائة، وكانت داره عند باب الخواصين التي بعضها الآن المدرسة النورية.
قال مصعب بن الزبير الزبيري: زعموا أن عبد الملك رأى في منامه أنه بال في المحراب أربع مرات، فدس من سأل سعيد بن المسيب، وكان يعبر الرؤيا، فقال سعيد بن المسيب: يملك من ولده لصلبه أربعة، فكان آخرهم هشام.
وكان يجمع المال ويوصف بالحرص والبخل، وكان حازما عاقلا صاحب سياسة حسنة، وكان يكره الدماء، وما كان أشد عليه ما دخله من قتل زيد ابن علي وابنه يحيى، فإنه (3) دخله من قبلهم أمر شديد، فلما ظهر بنو العباس على بني أمية عمد عبد الله بن علي فنبش هشاما من قبره وصلبه.
__________
(1) الروحي: 26 وتاريخ الخلفاء: 269 والفخري: 119 وخلاصة الذهب المسبوك: 26 وتاريخ الخميس 2: 318 وتاريخ الإسلام للذهبي 5: 170 ومرآة الجنان 1: 261 وسائر المصادر التاريخية الكبرى؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.
(2) ص: تسعة عشر.
(3) ص: فإن.(4/238)
وكان هشام رجل بني أمية حزما ورأيا، ولما أتته الخلافة سجد لله شكرا، ورفع رأسه فوجد الأبرش الكلبي واقفا (1) فقال: ما لك لم تسجد معي؟ فقال: يا أمير المؤمنين رأيتك وقد رفعت إلى السماء وأنا مخلد إلى الأرض، فقال: أرأيتك (2) إن رفعتك معي أتسجد؟ قال: الآن طاب السجود، وسجد، فأمر له بالإحسان الكثير وأن يكون جليسه طول مدته. وعوتب في شأنه وقيل له: ما تجالس من هذا الأبرش؟ فقال، حظي منه عقله لا وجهه.
وجمع من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبله، فلما مات احتاط الوليد على كل ما تركه فما غسل ولا كفن إلا بالقرض والعارية. والمشهور عنه أنه ليس له من الشعر إلا هذا البيت:
إذا أنت لم تعص الهدى قادك الهوى ... إلى كل ما فيه عليك مقال ونسب إليه ابن المعتز أيضا:
أبلغ أبا مروان عني رسالة ... فماذا بعيب من وفاء ومن ضر
ونحن كفيناك الأمور كما كفى ... أبوك أبانا الأمر في سالف الدهر ونسب إليه أيضا:
أبلغ أبا وهب إذا ما لقيته ... بأنك (3) شر الناس عيبا لصاحب
أتبدي (4) له بشراً إذا ما لقيته ... وتلسعه بالغيب لسع العقارب ومن بخله أنه رأى بعض أولاده وبثوبه خرق فقال: أقسمت عليك ألا ما رفوته، وتمثل بقول القائل:
قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
__________
(1) ص: واقف.
(2) ص: أريتك.
(3) ص: فإنك.
(4) ص: تبدي.(4/239)
(1) 560
ملك التتار
هولاكو بن تولي قان (2) بن جنكز خان ملك التتار ومقدمهم؛ كان طاغية من أعظم ملوك التتار، وكان شجاعا مقداما حازما مدبرا ذا همة عالية وسطوة ومهابة وخبرة بالحروب ومحبة في العلوم العقلية من غير أن يتعقل منها شيئا. اجتمع عنده جماعة من فضلاء العالم، وجمع حكماء مملكته وأمرهم أن يرصدوا الكواكب، وكان يطلق الكثير من الأموال والبلاد، وهو على قاعدة الترك في عدم التقيد بدين (3) ، لكن زوجته (4) تنصرت. وكان سعيدا في حروبه، طوف البلاد واستولى على الممالك في أيسر مدة. وفتح بلاد خراسان وفارس وأذربيجان وعراق العجم وعراق العرب والشام والجزيرة والروم وديار بكر، وقتل الخليفة المستعصم وأمراء العراق وصاحب الشام وصاحب ميافارقين.
قال الظهير الكازروني، حكى النجم أحمد بن البواب النقاش نزيل مراغة قال: عزم هولاكو على زواج بنت ملك الكرج فأبت حتى يسلم فقال: عرفوني ما أقول، فعرضوا عليه الشهادتين فأقر بهما، وشهد عليه بذلك خواجا نصير الدين الطوسي وفخر الدين المنجم، فلما بلغها ذلك أجابت، فحضر القاضي
__________
(1) البداية والنهاية 13: 248 والنجوم الزاهرة 7: 220 وتاريخ أبي الفدا 4: 2 (حوادث سنة 663) والحوادث الجامعة: 353 وانظر القسم الأول من ج؟ 2 من جامع التواريخ لرشيد الدين فضل الله الهمداني ففيه تاريخ تفصيلي لهولاكو؛ وهذه الترجمة لم ترد في المطبوعة.
(2) مشيد جامع التواريخ: تولوي خان.
(3) ص: التقييد.
(4) اسمها ظفر خاتون في المصادر العربية (ولعل الكلمة مصحفة عن طقز، إذ يجيء اسمها عند رشيد الدين: دوقوز خاتون) وهي لم تتنصر وإنما كانت تنتمي إلى قوم مسيحيين في الأصل.(4/240)
فخر الدين الخلاطي وتوكل لها النصير الطوسي، ولهولاكو الفخر المنجم، وعقدوا العقد باسم ماما خاتون بنت الملك داود إيواني على ثلاثين ألف دينار؛ قال ابن البواب: وأنا كتبت الكتاب في ثوب أطلس أبيض.
وتوفي هولاكو بعلة الصرع وأخفوا موته وصبروه وجعلوه في تابوت. وقال: كان ابنه أبغا غائبا فطلبوه المغل وملكوه، وهلك هولاكو وله ستون سنة أو نحوها في سنة أربع وستين وستمائة، وخلف من الأولاد سبعة عشر ولدا سوى البنات، وهم: أبغا وأشموط وتمنين (1) وتكسي (2) وأجاي وتسنتر (3) ومنكوتمر الذي التقى هو والملك المنصور قلاوون على حمص وانهزم جريحاً؛ وباكودر وأرغون ونغاي (4) دمر والملك أحمد (5) . وقد جمع صاحب الديوان (6) كتابا في أخبارهم وهو عندي في مجلد.
__________
(1) النجوم: وتشمين.
(2) النجوم: وتكشي.
(3) النجوم: وتستز.
(4) النجوم: وتغاي، وهو الصواب.
(5) يلاحظ أنه لم يعد سبعة عشر أسماً؛ وذكر رشيد الدين منهم أربعة عشر ولداً وهم: آبقا أبغا، جومقور، يشموت أشموط، بيكين بيشين (تصحفت: تمنين) ، طرغاي أرغون (؟) توسين تشين تكسي (أو تكشي) ، أجاي أجاي، أحمد (وكان اسمه تاكودار) أحمد بيسودار باكودر، قونقرتاي، منكوتيمور منكوتمر، هولاجو، سياوجي (شيبادجي) ، طغاي تيمور تغاي دمر.
(6) يريد علاء الدين الجويني.(4/241)
561 - (1)
أبو حية النميري
الهيثم بن الربيع بن زرارة، أبو حية - بالحاء المهملة والياء المشددة - النميري؛ كان من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، وكان شاعرا فصيحا من ساكني البصرة، وكان أهوج جبانا كذابا، وقيل إنه كان يصرع، وكان له سيف يسميه لعاب المنية ليس بينه وبين الخشب فرق.
حدث جار (2) له قال (3) : دخل إلى بيته كلب في بعض الليالي فظنه لصا، فأشرف عليه وقد انتضى سيفه لعاب المنية، ووقف في وسط الدار وقال: أيها المغتر بنا والمتجرىء علينا، بئس والله ما اخترت لنفسك: خير قليل وسيف صقيل، لعاب المنية الذي سمعته مشهورة، وضرباته مذكورة، اخرج بالعفو عنك قبل أن أدخل بالعقوبة عليك، والله إن أدع قيسا إليك لا تقم لها، وما قيس؟ تملأ والله الفضاء خيلا ورجلا، سبحان الله ما أكثرها! فبينما هو كذلك إذا بالكلب قد خرج فقال: الحمد لله الذي مسخك كلبا وكفانا حربا.
وقال يوما: إني أخرج إلى الصحراء فأدعو بالغربان فتقع حولي فآخذ منها ما أشاء، فقيل له: يا أبا حية أفرأيت إن خرجنا (4) إلى الصحراء فدعوتها فلم تأتك فماذا تصنع؟ فقال: أبعدها الله إذن.
__________
(1) الشعر والشعراء: 658 والأغاني 16: 236 وطبقات ابن المعتز: 143 والسمط: 244 والخزانة 4: 283؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.
(2) ص: جاراً.
(3) قد روى الجاحظ في الحيوان حكاية مشابهة لهذه، وبطلها هو عروة بن مرثد (انظر الحيوان 2: 231) .
(4) ص: اخرجنا.(4/242)
وحدث يوما قال: عن لي ظبي فرميته فراغ عن سهمي، فعارضه السهم ثم راغ فعارضه السهم، ثم راغ فعارضه السهم، فما زال والله يروغ ويعارضه حتى صرعه.
وما أحلى قول ابن قلاقس:
عسكري جماله ... بطل ليس يدفع
قام عن قوس حاجبي ... هـ الله بعينيه ينزع
أسهم كيفما انحرف ... ن الناس إلى القلب تتبع
هكذا كنت عن أبي ... حية قبل أسمع وقال الشيخ صلاح الدين الصفدي حرسه الله تعالى:
وشادن إن هب عرف الصبا ... شممت منه نشره طيه
أميل عنه خوف عشقي له ... وجفنه يتبعني غيه
كأنني قدامه ظبية ... وطرفه سهم أبي حيه وفد أبو حية على المنصور وامتدحه بقصيد، وهجا فيه (1) بني حسن، فوصله بشيء دون أمله، فاحتجن لعياله أكثره، وصار إلى الحيرة فشرب عند خمارة، وأعجبه الشرب وكره أن ينفد ما معه، وأحب أن يدوم له ما هو فيه، فسال الخمارة أن تبيعه بنسيئة، وأعلمها أنه مدح الخليفة وأرغبها فشرهت، وكان لأبي حية أير كعنق (2) الظليم، فأبرزه لها فتدلهت، وكانت كلما سقته خطت في الحائط خطا، فقال أبو حية:
إذا سقيتني كوزا بخط ... فخطي ما بدا لك في الجدار
فإن أعطيتني عينا بعين ... فهاتي العين وانتظري ضماري
__________
(1) ص: فيها.
(2) ص: كنعق.(4/243)
خرقت مقدما من حيث يؤتى ... خيال مكان ذاك من الازار
فصدت بعدما نظرت إليه ... وقد ألمحتها عنق الحوار وكانت وفاته بعد السبعين والمائة.(4/244)
حرف الواو(4/245)
فراغ(4/246)
562 - (1)
" والبة الأسدي "
والبة بن الحباب، أبو أسامة الأسدي؛ هو أستاذ أبي نواس، وكان ظريفا غزلا وصافا للغلمان المرد (2) والخمر.
قال المهدي لعمارة بن حمزة: من أرق الناس؟ قال: والبة بن الحباب حيث يقول:
ولها ولا ذنب لها ... حب كأطراف الرماح
في القلب يقدح والحشا ... فالقلب مجروح النواحي قال: صدقت والله، قال: يا أمير المؤمنين فما منعك من منادمته؟ قال: قوله:
قلت لساقينا على خلوة ... ادن كذا رأسك من راسي
ونم على وجهك لي ساعة ... إني امرؤ أنكح جلاسي أفتريد أن أكون من جلاسه على هذا الشرط؟
قال الدعلجي غلام أبي نواس: أنشدت يوما بين يدي أبي نواس قصيدته:
يا شقيق النفس من حكم ... نمت عن ليلي ولم أنم وكان قد سكر فقال: ألا أخبرك بشيء على أن تكتمه؟ قلت: نعم، قال:
__________
(1) الزركشي: 341 وطبقات ابن المعتز: 87 والأغاني 18: 43 وتاريخ بغداد 13: 518؛ ولم ترد الترجمة في المطبوعة؛ وهي هنا متابعة لما جاء في الأغاني.
(2) ص والزركشي: والمرد.(4/247)
أتدري من المعني ب " يا شقيق النفس من حكم "؟ قلت: لا، قال: أنا والله المعني بذلك، والشعر لوالبة بن الحباب، وما علم بهذا غيرك.
وحكي عن والبة أنه كشف يوما عن عجز أبي نواس وهو أمرد حسن الوجه مليح الجسم، فلما رأى والبة بياض عجزه قبله، فضرط أبو نواس، فقال له والبة: لم فعلت هذا ويلك؟ قال: كراهية أن يضيع قول القائل: " ما جزاء من قبل الاست إلا ضرطة ".
وعن ابن سهل الشاعر قال: كان والبة صديقي وكان ماجنا رقيق الدين فشربت أنا وهو يوما بغمى (1) ، فانتبه من سكره وقال: اسمع ثم أنشد:
شربت وفاتك مثلي جموح ... بغمى بالكؤوس وبالبواطي (2)
يعاطيني الزجاجة أريحي ... رخيم الدل بورك من معاطي
أقول له على طرب ألطني ... ولو بمؤاجر علج نباطي
فما خير الشارب بغير فسق ... يتابع بالزناء وباللواط
جعلت الحج في غمى وبنى ... وفي قطربل أبدا رباطي
فقل للخمس آخر ملتقانا ... إذا ما كان ذاك على الصراط يعني بالخمس: الصلوات. وتوفي في حدود المائتين.
563 - (3)
" أبو حليقة "
أبو الوحش بن أبي الخير بن داود بن أبي المنى، الحكيم الرشيد أبو
__________
(1) ص: بعمى، وغمى اسم موضع.
(2) ورد البيت برواية مختلفة في طبقات ابن المعتز؛ وما هنا رواية الأغاني.
(3) ابن أبي أصيبعة 2: 123.(4/248)
حليقة؛ سمي " أبو حليقة " لحلقة كانت في أذنه. كان أوحد زمانه في الطب، وكان له حظ من الأدب.
ولد بجعبر سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، وتوفي سنة سبعين وستمائة، وخرج من جعبر إلى الرها وربي بها، وخدم الكامل وخدم الصالح وخدم الترك إلى دولة الظاهر، وقرأ الطب على عمه أبي سعيد بدمشق وعلى مهذب الدين الدخوار، وله نوادر في الطب.
كان قد أحكم معرفة نبض الكامل حتى إنه أخرج يده يوما إليه من خلف ستارة مع الدور (1) المرضى فقال: هذا نبض مولانا السلطان، وهو بحمد الله صحيح، فعجب منه.
ولما طال عليه عمل الدرياق الفاروق لتعذر أدويته عمل درياقا مختصرا توجد أدويته في كل مكان، وقصد بذلك التقرب إلى الله تعالى. وكان يخلص المفلوجين لوقته، وينشىء في العصب زيادة في الحرارة الغريزية ويقويه، ويذيب البلغم في وقته، ويسكن القولنج في وقته.
وحصل للسلطان نزلة في أسنانه فآلمه ذلك وداواه الأسعد (2) لاشتغال الرشيد بعمل الدرياق، فلم ينجع وزاد الألم، فطلب الرشيد فقال له: تسوك من الدرياق الذي عملته لك وترى العجب، فلما وصل إلى الباب خرجت ورقة السلطان فيها: يا حكيم استعملته وزال الألم لوقته، وبعث له خلعاً وذهبا.
ومر على أبواب القاهر بمفلوج ملقى على جنبه، فأعطاه من درياقه شربة، وطلع إلى القلعة وعاد، فقام المفلوج ملقى على جنبه، فأعطاه من درياقه شربة، وطلع إلى القلعة وعاد، فقام المفلوج يعدو في ركابه ويدعو له.
وألف للملك الصالح صلصا يأكل به اليخني، واقترح عليه أن يكون مقويا للمعدة منبها للشهوة ملينا للطبع. فركب من البقدونس جزءا ومن الريحان
__________
(1) ابن أبي أصيبعة: الآدر، وهي كناية عن النساء، يقول ((من ذلك أنه مرضت دار من بعض الآدر السلطانية)) .
(2) يعني أسعد الدين عبد العزيز بن أبي الحسن (- 635) وترجمته في ابن أبي أصيبعة 2: 132.(4/249)
الترنجاني (1) جزءا ومن قلوب الاترج المنقعة في الماء والملح جزءا، ثم يغسل بالماء الحلو من كل واحد نصف جزء ويدق في جرن الفقاعي كل واحد بمفرده ويخلط ويعصر عليه ماء الليمون والملح ويعمل في أواني ويختم بالزيت. فلما استعمله السلطان أثنى عليه ثناء كثيرا.
وشفى بدرياقه من به حصاة ففتها من ساعته وأراق الماء.
ومن نوادره أن امرأة من الريف أتت إليه ومعها ولد أصفر ناحل، فأخذ يده ليعرف نبضه وقال لغلامه: هات الفرجية، فتغير نبض الصبي في يده، فقال لأمه: هذا الصبي عاشق في واحدة اسمها فرجية، فقالت أمه: أي والله يا مولاي، وقد عجزت مما (2) أعذله. فعجب الحاضرون منه.
وله كتاب " المختار في ألف عقار " وله مقالة في ضرورة الموت وأن الإنسان تحلله الحرارة التي في داخله وحرارة الهواء، وقال متمثلا:
وإحداهما قاتلي ... فكيف إذا استجمعا (3) ومقالة في حفظ الصحة، ومقالة في أن الملاذ الروحانية ألذ من الجسمانية، رحمه الله تعالى.
__________
(1) ص: الترجمان.
(2) ص: عما.
(3) ص: اجتمعا.(4/250)
564 - (1)
ولادة بنت المستكفي
ولادة بنت محمد (2) ، هو المستكفي ابن عبد الرحمن؛ كانت واحدة زمانها المشار إليها في آدابها، حسنة المحاضرة، مشكورة المذاكرة، كتبت بالذهب على طرازها الأيمن:
أنا والله أصلح للمعالي ... وأمشي مشيتي وأتيه تيها وكتبت على الجانب الأيسر:
وأمكن عاشقي من صحن خدي ... وأعطي قبلتي من يشتهيها وكانت مع ذلك مشهورة بالصيانة والعفاف، وفيها خلع ابن زيدون عذاره، وله فيها القصائد والمقطعات، منها القصيدة النونية التي أولها:
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا ... شوقا إليكم ولا جفت مآقينا وكانت لها جارية سوداء بديعة الغناء؛ ظهر لولادة من ابن زيدون ميل إلى السوداء فكتبت إليه:
لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا ... لم تهو جاريتي ولم تتخير
وتركت غصنا مثمرا بجماله ... وجنحت للغصن الذي لم يثمر (3)
__________
(1) الزركشي: 341 قال: وذكرها ابن سعيد في كتابه المسمى بالملتقط من السلك من حلى العروش الأندلسية، والذخيرة 1: 376 والمطرب: 7 والصلة: 657 وسرح العيون: 22 والسيوطي: 101 والنفح 4: 205؛ ولم ترد الترجمة في المطبوعة.
(2) هو محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن الناصر.
(3) نقل الزركشي عن صاحب المسهب قوله في التعليق على هذا البيت: ((إنها أثارت معنى غريباً في البيت الثاني لأن عتبة كانت سوداء فلا تظهر منها وردة الخجل ولا زهر البياض فكأنها غصن لم يثمر)) .(4/251)
ولقد علمت بأنني بدر السما ... لكن ولعت لشقوتي بالمشتري وكان مجلس ولادة بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعبا (1) لجياد النظم والنثر، يتهالك الكتاب والوزراء والشعراء على حلاوة عشرتها وسهولة حجابها.
مرت يوما بالوزير أبي عامر ابن عبدوس وهو جالس أمام بركة تتولد من مياه الأمطار، ويسيل إليها شيء من الأوساخ، فوقفت أمامه وقالت بيت أبي نواس في الخصيب والي مصر:
أنت الخصيب وهذه مصر ... فتدفقا فكلاكما بحر فتركته لا يحير جوابا ولا يهتدي صوابا.
وطال عمرها وعمر أبي عامر المذكور، حتى أربيا على الثمانين ولم يدعا المواصلة ولا المراسلة. وكانت أولا تهوى الوزير ابن زيدون، ثم مالت عنه إلى الوزير أبي عامر ابن عبدوس، وكان يلقب بالفار، وفي ذلك يقول ابن زيدون (2) :
أكرم بولادة علقا لمعتلق ... لو فرقت بين بيطار وعطار
قالوا أبو عامر أضحى يلم بها ... قلت: الفراشة قد تدنو من النار
أكل شهي أصبنا من أطايبه ... بعضا وبعضا صفحنا عنه للفار وقال فيها (3) أيضا (4) :
__________
(1) ص: ملعب.
(2) الديوان: 196 وقد زيدت فيه اعتماداً على سرح العيون، وتمام المتون.
(3) ص: فيه.
(4) الديوان: 195، وليست من أصل الديوان.(4/252)
قد علقنا سواك علقا نفيسا ... وصرفنا إليه عنك (1) النفوسا
ولبسنا الجديد من خلع الحب ... ولم نأل أن خلعنا اللبيسا
ليس منك الهوى ولا أنت منه ... اهبطي مصر أنت من قوم موسى اشار ابن زيدون إلى قول أبي نواس (2) :
أتيت فؤادها أشكو إليه ... فلم أخلص إليه من الزحام
فيا من ليس يكفيها خليل ... ولا ألفا خليل كل عام
أظنك من بقية قوم موسى ... فهم لا يصبرون على طعام وكانت ولادة تلقب ابن زيدون بالمسدس، وفيه تقول:
ولقبت المسدس وهو نعت ... تفارقك الحياة ولا يفارق
فلوطي ومأبون وزان ... وديوث وقرنان وسارق وقالت فيه أيضاً:
إن ابن زيدون له فقحة ... تعشق قضبان السراويل
لو أبصرت أيراً على نخلة ... صارت من الطير الأبابيل وقالت ترميه بأنه مع فتاه علي على حالة:
إن ابن زيدون على جهله ... يعتبني ظلما ولا ذنب لي
يلحظني شزرا إذا جئته ... كأنني جئت لأخصي علي وقالت تهجو الأصبحي:
يا أصبحي اهنأ فكم نعمة ... جاءتك من ذي العرش رب المنن
قد نلت باست ابنك ما لم ينل ... بفرج بوران أبوها الحسن وتوفيت ولادة بعد الخمسمائة، رحمها الله تعالى.
__________
(1) ص: عنه.
(2) ديوان أبي نواس 2: 83 (تحقيق فاغثر) .(4/253)
565 - (1)
أمير المؤمنين الوليد
الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم أمير المؤمنين الأموي؛ كان يلقب " النبطي " للحنه؛ عاب (2) عليه أبوه لحنه وقال: كيف تعلو رؤوس المنابر؟ فدخل إلى بيت وأخذ جماعة عنده يتعلم منهم العربية وطين عليه وعليهم الباب وقال: لا أخرج حتى أقيم لساني إعرابا؛ ثم إنه خرج بعد ستة أشهر وأكثر، فلما خطب زاد لحنه على ما كان، فقال له أبوه: لقد أبلغت عذراً.
كان أبيض أفطس به أثر جدري، وكان جميلا طويلا، بويع له بدمشق يوم الخميس منتصف شوال سنة ست وثمانين بعهد من أبيه، وتوفي يوم السبت لأربع عشرة (3) ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين وله تسع وأربعون سنة، وصلى عليه أخوه سليمان بدير مروان من دمشق، وحمل إلى مقابر باب الصغير ودفن بها. وفي أيامه هلك الحجاج بن يوسف، ويقال إن في أيامه نقلت الدواوين من الفارسية إلى العربية (4) .
وكان يتبختر في مشيته. وكان يختن الأيتام ويرتب لهم المؤدبين، ورتب للزمنى والاضراء من يقودهم ويخدمهم لأنه أصابه رمد بعينيه فأقام مدة لا
__________
(1) ترجمته وأخباره في المصادر التاريخية كالطبري وابن الأثير وابن خلدون واليعقوبي والمسعودي والبلاذري والعيون والحدائق، وانظر تاريخ الخميس 2: 311 والفخري: 115 والروحي: 23 وتاريخ الخلفاء: 242 وخلاصة الذهب المسبوك: 1؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.
(2) ص: أعاب.
(3) ص: لأربعة عشر.
(4) الأصح أنها نقلت إلى العربية أيام أبيه عبد الملك.(4/254)
يبصر شيئا فقال: إن أعادهما الله تعالى علي قمت بحقه فيهما، فلما برىء رأى أن شكر هذه النعمة الإحسان إلى العميان، فأمر أن لا يترك أعمى في بلاد الإسلام يسأل بل يرتب له ما يكفيه.
ولما حضرته الوفاة قال: ما أبالي بفراق الحياة بعدما فتحت السند والأندلس، وبنيت جامع دمشق. ويكفيه بنيانه جامع دمشق ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورزق الفقراء والعميان، فإن له في ذلك شرفا خالدا وذكرا باقيا.
وكان مطلاقا لا يصبر على المرأة إلا القليل ويطلقها، فقيل له في ذلك، فقال: إنما النساء رياحين فإذا ذبلت باقة استأنفت أخرى. وحديثه مع وضاح اليمين ومع زوجته أم البنين مذكورة في ترجمة وضاح اليمن، واسمه عبد الرحمن.
ولما مات أبوه عبد الملك، تمثل هشام بقول الشاعر (1) :
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما فقال له الوليد: اسكت، فإنك تتكلم بلسان الشيطان؛ هلا قلت كما قال أوس ابن حجر (2) :
إذا مقرم منا ذرا حد نابه ... تخمط فينا ناب آخر مقرم وعيره خالد بن يزيد باللحن فقال: أنا ألحن في القول وأنت تلحن في الفعل.
__________
(1) هو عبدة بن الطبيب يرثي قيس بن عاصم، انظر الحماسية رقم: 263 في شرح المرزوقي.
(2) ديوانه: 122.(4/255)
566 - (1)
الوليد بن يزيد
الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم أمير المؤمنين، لقب البيطار وخليع بني مروان والفاتك والزنديق. وكان وسيما جسيما أبيض مشربا بحمرة، ربعة قد وخطه الشيب. ولد سنة تسعين وبويع له سنة خمس وعشرين هو مقيم بالرصافة، وقتل بالبخراء (2) على أميال من تدمر ثامن وعشرين جمادى الآخرة (3) سنة ست وعشرين ومائة وله أربعون سنة وقيل إحدى وأربعون، وكانت أيامه سنة وشهرين.
وكان أبوه عهد إليه بعد هشام. وكان قد جعل ولديه عثمان والحكم وليي عهده فحبسا ولم يزالا في الحبس إلى أن ولي مروان الجعدي فقتلهما.
وكان الوليد قد انتهك محارم الله تعالى، فرماه الناس بالحجارة، فدخل القصر وأغلقه، فأحاطوا به وقالوا لم ننقم عليك في أنفسنا شيئا لكن ننقم عليك انتهاك ما حرم الله تعالى، وشرب الخمر ونكاح أمهات أولاد أبيك واستخفافك بأمر الله تعالى، فقال: حسبكم قد أكثرتم، ودخل الدار وأخذ المصحف وقال: يوم كيوم عثمان، وفتح المصحف يقرأ، فتسوروا عليه، وضربه عبد السلام اللخمي على رأسه، وضربه آخر على وجهه فتلف، وجروه
__________
(1) الأغاني 7: 3 - 82 والوزراء والكتاب: 68 والخزانة 1: 328 وتاريخ الخميس 2: 320 وتاريخ الإسلام 5: 173 وتاريخ الخلفاء: 273 والروحي: 27 والفخري: 121 وخلاصة الذهب المسبوك: 44 وسائر المصادر التاريخية الكبرى؛ وديوانه من جمع غابريللي (ط. بيروت 1967) ؛ ولم ترد الترجمة في المطبوعة.
(2) ص: بالبحرا.
(3) ص: الآخر.(4/256)
وحزوا رأسه وأتي يزيد الناقص بالرأس فسجد، وكان قد جعل لمن يأتيه بالرأس مائة ألف درهم، فنصبه على رمح بعد صلاة الجمعة، فلما رآه أخوه سليمان قال: بعدا له، أشهد أنه كان شروبا للخمر ماجنا فاسقا ولقد راودني عن نفسي.
قال الشيخ شمس الدين: ولم يصح عنه كفر، لكنه اشتغل بالخمر واللياطة، فخرجوا عليه لذلك.
قال صاحب " الإشعار بما للملوك من النوادر والأشعار ": كان ربما صلى سكرانا.
وكان في أيام هشام ينتظر الخلافة يوما فيوما، ففتح يوما المصحف فطلع " واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد " " إبراهيم: 15 " فجعل المصحف هدفا للسهام وجعل يرمي نحو تلك الآية ويقول (1) :
تهدد (2) كل جبار عنيد ... فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر ... فقل يا رب (3) مزقني الوليد واستقبل شهر الصوم في خلافته بالمجون والشرب، فوعظ في ذلك فقال (4) :
ألا من مبلغ الرحمن عني ... بأني تارك شهر الصيام
فقل لله يمنعني شرابي ... وقل لله يمنعني طعامي ولما بلغه أن الناس يعيبون عليه ترك الصلاة والصيام، قال: ما للناس وعيب ما نحن فيه؟ لنا منهم الدعاء والطاعة ولهم منا العدل والإحسان؛ ثم
__________
(1) ديوانه: 31.
(2) الديوان: أتوعد.
(3) الديوان: فقل لله.
(4) لم ترد في الديوان.(4/257)
قال: عجبت لمن يعلم أن الفرح لا يكون إلا بنقصان العقل ولا يجعل درجا هذه الأقداح، وأباح المحارم فأصبح دمه وهو مباح.
ومن شعره (1) :
لا أسأل الله تغييرا لما صنعت ... نامت وقد أسهرت عيني عيناها
فالليل أطول شيء حين أفقدها ... والليل أقصر شيء حين ألقاها وقال صاحب الأغاني (2) : لما أتى نعي هشام إلى الوليد قال: والله لألتقين هذه النعمة بسكرة قبل الظهر، ثم قال:
طاب يومي ولذ شرب السلافه ... إذ أتانا نعي من بالرصافه
وأتانا الوليد (3) ينعى هشاما ... وأتانا بخاتم للخلافه
فاصطبحنا من خمر عانة صرفا ... ولهونا بقينة (4) عزافه ثم حلف لا يبرح من موضعه حتى يغنى في هذا الشعر، فغني له وشرب حتى سكر، ثم دخل فبويع له. وسمع صياحا فقال: ما هذا؟ فقيل له: هذا من دار هشام تبكيه بناته، فقال (5) :
إني سمعت بليلي (6) ... ورا المصلى رنه
إذا بنات هشام ... يندبن والدهنه
يندبن قرما جليلا (7) ... قد كان يعضدهنه
__________
(1) الديوان: 20.
(2) الأغاني 7: 17.
(3) الأغاني: البريد، وهو أصوب.
(4) ص: بنتية.
(5) الأغاني: 18 والديوان: 71.
(6) الأغاني: بليل، الديوان: خليلي.
(7) الديوان: شيخاً جليلاً.(4/258)
أنا (1) المخنث حقا ... إن لم أنيكنهنه (2) وقال لعمر الوادي: غنني فيه، فغناه فشرب أرطالا ثم قال له: والله إن سمعه منك أحد لأقتلنك، فما سمع منه حتى مات.
__________
(1) ص: ونا.
(2) ص: أنيكهنه.(4/259)
فراغ(4/260)
حرف الياء(4/261)
فراغ(4/262)
567 - (1)
ياقوت المستعصمي
ياقوت بن عبد الله، جمال الدين المستعصمي الكاتب؛ كان أديبا عالما فاضلا شاعرا، بلغ من الخط غاية ما بلغها ابن البواب. كان قد اشتراه الخليفة المستعصم صغيرا، وربي بدار الخلافة واعتنى بتعليمه الخط صفي الدين عبد المؤمن، ثم كتب على ابن حبيب، وكتب عليه أبناء الأكابر ببغداد، وحظي عند علاء الدين ابن الجويني صاحب الديوان، وكتب عليه أولاده وأولاد أخيه.
وكان ينظم شعرا رقيقا، فمنه قوله:
يا خليلي والمنى كاذبة ... والليالي شأنها أن تسلبا
قم بنا ما قعدت حادثة ... نقض من حق الصبا ما وجبا
نعص من لام على دين الهوى ... هذه سنة أيام الصبا ومنه أيضا:
جاء بوجه مخجل ... شمس النهار المشرقه
في أذنه لؤلؤة ... كأنها والحلقه
قداحة في وردة ... بالياسمين ملحقه (2)
__________
(1) الزركشي: 342 وابن خلكان 6: 118 (هامش أوردته إحدى النسخ منقولاً عن تاريخ الذهبي) والحوادث الدجامعة: 500 والنجوم الزاهرة 8: 187 والشذرات 5: 443 والبداية والنهاية 14: 6 والسلامي: 233؛ ولم ترد الترجمة في المطبوعة.
(2) الزركشي: ملصقة.(4/263)
وقال:
صدقتم في الوشاة وقد مضى ... في حبكم زمني وفي تكذيبها
وزعمتم أني مللت حديثكم ... من ذا يمل من الحياة وطيبها وقال:
رعى الله أياما تقضت بقربكم ... قصارا وحياها الحيا وسقاها
فما قلت إيه بعدها لمسامر ... من الناس إلا قال قلبي آها ومن شعر ياقوت:
عجبت لدهري إذ جاد لي ... بخط يفوق بأجزائه
وأعوزني فيه من نقطة ... تكون على الطاء من خائه (1) ومن شعر ياقوت:
وعدت أن تزور ليلا فألوت ... وأتت بالنهار تسحب ذيلا
قلت هلا صدقت في الوعد قالت ... هل توهمت أن ترى الشمس ليلا وكانت وفاته في شهور سنة ثمان وتسعين وستمائة، رحمه الله تعالى.
568 - (2)
" أبو زكريا النواوي الحافظ "
يحيى بن شرف بن مرى بن حسن بن حسين، مفتي الأمة شيخ السلام
__________
(1) أي تصبح ((حظ)) بدلا من ((خط)) .
(2) تذكرة الحفاظ: 1470 وطبقات السبكي 5: 165 وتاريخ ابن الفرات 7: 108 والسلوك 1: 648 والبداية والنهاية 13: 278 والدارس 1: 24 والأسنوي 2: 476 وعبر الذهبي 5: 312 والشذرات 5: 354 وروضات الجنات: 744؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.(4/264)
محيي الدين أبو زكريا النواوي الحافظ الفقيه الشافعي الزاهد، أحد الاعلام؛ ولد في العشر الأوسط من المحرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة بنوى وتوفي رابع عشرين شهر رجب سنة ست وسبعين وستمائة، رحمه الله تعالى.
قال الشيخ محيي الدين: زعم بعض أجدادي أن نسبه إلى حزام والد حكيم رضي الله عنه.
ولما كان له تسع عشرة (1) سنة، قدم به والده إلى دمشق فسكن المدرسة الرواحية، وبقي نحو سنتين لا يضع جنبه إلى الأرض. وكان قوته جراية المدرسة. وحفظ " التنبيه " في نحو أربعة أشهر ونصف، وبقي قريب شهرين لما قرا: يجب الغسل من إيلاج الحشفة في الفرج، وهو يعتقد أنه قرقرة البطن، ويستحم بالماء البارد كلما قرقر بطنه؛ وحفظ ربع " المهذب " في باقي السنة، وصحح وشرح على شيخه كمال الدين إسحاق بن أحمد المغربي. ثم حج هو ووالده، وكانت وقفة الجمعة، وأقاموا بالمدينة نحوا (2) من شهر ونصف. ولما رحل من نوى كانت الحمى أخذته فلم تفارقه إلى يوم عرفة. وكان يقرأ فيما بعد على المشايخ شرحاً وتصحيحاً: كل يوم اثني (3) عشر درسا، درسين في " الوسيط " ودرسا (4) في " المهذب " ودرسا في " الجمع بين الصحيحين " ودرسا في صحيح مسلم ودرسا في " اللمع " لابن جني ودرسا في " إصلاح المنطق " ودرسا في التصريف ودرسا في أصول الفقه، تارة في " اللمع " لأبي إسحاق وتارة في " المنتخب " للإمام فخر الدين، ودرسا في أسماء
__________
(1) ص: تسعة عشر.
(2) ص: نحو.
(3) ص: اثنا.
(4) ص: ودرس.(4/265)
الرجال ودرسا في أصول الدين. وكان يعلق كل ما يتعلق بذلك من شرح مشكل ووضوح عبارة وضبط لغة.
وخطر له الاشتعال في علم الطب، فاشترى " القانون " وعزم على الاشتغال فيه؛ قال: فأظلم على قلبي، وبقيت أياما لا أقدر على الاشتغال بشيء. ففكرت في أمري ومن أين دخل علي الداخل، فألهمني الله أن سببه اشتغالي بالطب، فبعت " القانون " واستنار قلبي.
وسمع صحيح مسلم من الرضي ابن البرهان، وسمع البخاري ومسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه وجامع الترمذي ومسند الشافعي وسنن الدارقطني وشرح السنة وأشياء عديدة. وسمع من ابن عبد الدايم والزين خالد وشيخ الشيوخ شرف الدين عبد العزيز والقاضي عماد الدين ابن الحرستاني وابن أبي اليسر ويحيى الصيرفي والصدر البكري والشيخ شمس الدين ابن أبي عمر وطائفة سواهم. وأخذ علم الحديث عن جماعة من الحفاظ، فقرأ كتاب " الكمال " لعبد الغني على أبي البقا خالد النابلسي وشرح مسلم ومعظم البخاري على المرادي. وأخذ الفقه عن القاضي أبي علي الفتح التفليسي (1) ، وتفقه على الإمام كمال الدين إسحاق المغربي والإمام شمس الدين عبد الرحمن ابن نوح وعز الدين عمر بن أسعد الإربلي. وأخذ عنه القاضي صدر الدين سليمان الجعبري خطيب داريا والشيخ شهاب الدين ابن جعوان والشيخ علاء الدين ابن العطار وأمين الدين سالم والقاضي شهاب الدين الاربدي. وروى عنه ابن العطار والمزي وابن أبي الفتح وجماعة.
وقد نفع الله المسلمين بتصانيفه واشتهرت وجلبت إلى الأمصار، فمنها " المنهاج " و " شرح مسلم " و " الأذكار " و " رياض الصالحين " و " الأربعين حديثا " و " الإرشاد في علوم الحديث " و " التقريب " و " التيسير "
__________
(1) ص: القفليسي.(4/266)
و " المبهمات " و " تحرير ألفاظ التنبيه " و " العمدة في تصحيح التنبيه " و " الإيضاح في المناسك " و " الإيجاز " في المناسك - وله أربع مناسك أخر - و " التبيان في آداب حملة القرآن " و " الفتاوى " و " الروضة " و " المجموع في شرح المهذب " بلغ فيه إلى باب الربا في خمس مجلدات كبار. وشرح قطعة من البخاري وقطعة من " شرح الوسيط " إلى باب صلاة المسافر وقطعة كبيرة في " تهذيب الأسماء واللغات " وقطعة في " طبقات الفقهاء ".
قال علاء الدين ابن العطار: وله مسودات كثيرة، ولقد أمرني مرة ببيع كراريس نحو ألف كراس بخطه وأمرني أن أقف على غسلها في الوراقة، فلم أخالف أمره وفي قلبي منها حسرات. وأخباره في الزهد والورع والكرامات مشهورة.
وقد عمل له الشيخ علاء الدين ابن العطار سيرة (1) ذكر فيها من رثاه من شعراء عصره، فمن جملتهم الشيخ مجد الدين ابن الظهير، رحمه الله تعالى، قال فيه:
عز العزاء وعم الحادث الجلل ... وخاب بالموت في تعميرك الأمل
واستوحشت بعد ما كنت الأنيس لها ... وساءها فقدك الأسحار والأصل
وكنت تتلو كتاب الله معتبراً ... لا يعتريك على تكراره ملل
قد كنت للدين نورا يستضاء به ... مسدداً فيه منك القول والعمل
وكنت في سنة المختار مجتهداً ... وأنت باليمن والتوفيق مشتمل
وكنت زينا لأهل العلم مفتخراً ... على جدد كساهم ثوبك السمل
وكنت أسبقهم ظلا إذا استغرت ... هواجر الجهل والاضلال ينتقل
كساك ربك أثوابا مجملة ... يضيق عن حصرها التفصيل والجمل
اسلى كمالك عن قوم مضوا بدلاً ... وعن كمالك لا مسلى ولا بدل
__________
(1) ذكر الذهبي أنها في ست كراريس.(4/267)
فمثل فقدك ترتاع القلوب له ... وفقد مثلك جرح ليس يندمل
زهدت في هذه الدنيا وزخرفها ... عزما وحزما فمضروبا بك المثل
أعرضت عنها احتقارا غير محتفل ... وأنت بالسعي في أخراك محتفل
أسهرت في العلم عينا لم تذق سنة ... إلا وأنت بها في العلم مشتغل
يا لهف حفل عظيم كنت بهجته ... وحليه فعراه بعدك العطل
وطالبو العلم من دان ومغترب ... نالوا بيمنك فيه فوق ما أملوا
حاروا لهيبة هاديهم وضاق بهم ... لفرط حزن عليه السهل والجبل
ترى درى تربه من غيبوه به ... أو نعشه من على أعواده حملوا
يا محيي الدين كم غادرت من كبد ... حرى عليك وعين دمعها هطل
وكم مقام كحد السيف لا جلد ... يقوى على هوله فيه ولا جدل
أمرت فيه بأمر الله منتضياً ... سيفاً من العزم لم تصنع له خلل
وكم تواضعت عن فضل وعن شرف ... وهمة هامة الجوزاء تنتعل
عالجت نفسك والأدواء شاملة ... حتى استقامت وحتى زالت العلل
بلغت بالتعب الفاني رضى ملك ... ثوابه في جنان الخلد متصل
ضيف الكريم جدير أن يضاف له ... إلى الكرامة من ألطافه النزل
فجعت بالأنس ليلا كنت ساهره ... لله والنوم قد خيطت به المقل
وحال نور نهار كنت صائمه ... إذا الهجير بنار الشمس مشتعل
لا زال مثواك مثوى كل عارفة (1) ... وروضه النضر من سحب الرضى خضل
إلى متى بغرور نطمئن ولا ال ... ملوك رد الردى عنهم ولا الرسل
ولا حمى من حمام جحفل لجب ... ولا حصون منيعات ولا قلل
يا لاهياً لاهياً عن هول مصرعه ... وضاحك السن منه يضحك الأمل
لا تخل نفسك من زاد فإنك من ... وقت الولاد مع الانفاس مرتحل
وما بقاء مديم السير يتبعه ... إلى محل بلاه سائق عجل
__________
(1) ص: غارقة.(4/268)
569 - (1)
ابن أبي طي
يحيى بن حميد بن ظافر بن النجار بن علي بن عبد الله الحلبي المعروف بابن أبي طي؛ أحد من تعاطى الأدب والفقه على مذهب الإمامية وأصولهم، وصنف في أنواع من العلوم. قال ياقوت (2) : وقد جعل التصنيف حانوته، ومنه مكسبه وقوته وأكثر تصانيفه قطع فيها الطريق وأخاف السبيل، يأخذ كتابا قد أتعب العلماء فيه خواطرهم فيقدم فيه أو يؤخر أو يزيد قليلا أو يختصر، ويخلق له اسما غريبا وينتحله انتحالا. وقد طول ياقوت ترجمته في " معجم الأدباء ".
ومولده بحلب سن خمس وسبعين وخمسمائة، وتوفي حدود الثلاثين والستمائة، وذكر عنه ياقوت أن والده كان لا يعيش له ولد وأنه لما رزقه حملته جارية وصعدت به السطح ليلة الميلاد، وكانت شديد البرد، فأخذه اضطرام وإفحام وابيضت عيناه جميعاً، ولازمه الرمد إلى أن احتلم فتجلت مما كان فيها من البياض. وكان والده نجاراً مقدما على كل نجار بحلب.
وقرأ يحيى القرآن على والده واشتغل بفقه الإمامية على رشيد الدين المازندراني. ومن تصانيفه: كتاب " البستان في مجلس الغلمان ". كتاب " معادن الذهب في تاريخ حلب ". كتاب " ملح البرهان في تفسير القرآن ". كتاب " غريب القرآن " " تفسير الفاتحة ". " المجالس الأربعين في مناقب الأئمة الطاهرين ".
__________
(1) لسان الميزان 6: 263 وإعلام النبلاء 4: 378؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.
(2) لم ترد ترجمته في المطبوع من معجم الأدباء.(4/269)
كتاب " خلاصة الخلاص في آداب الخواص " عشر مجلدات. كتاب " حوادث الزمان " على حروف المعجم، خمس مجلدات. كتاب " تاريخ العلماء " مجلد. " شفاء الغليل في ذم الصاحب والخليل " مجلد. " شرح نهج البلاغة " ست مجلدات. " تحفة الطائفة الفقهائية في شرح كلماتهم اللغوية ". " التنبيهات في تعبير المنامات. " التنبيهات على صنع النبات ". " الكشف والتبيين في محاسن التضمين ". " العروس في أدب السائس والمسوس ". " مودعة السفيه وموزعة النبيه " في المأخذ على راجح الحلي وسرقاته. " التحقيق في أوصاف الرقيق ". " لروضات البهجات في محاسن القينات ". " اللباب في أسماء الأحباب ". " نسيم الأرواح في ما جاء في التفاح ". " الإيجاز في الألغاز ". " أخبار شعراء الشيعة ". " الاقتصاد في الفرق بين الظاء والضاد ". كتاب " الأضداد ". كتاب " النكت الشاردة والنادرة والفائدة ". " المنتخب في شرح لامية العرب ". " تضوع اللطائم في شرح خطبة فاطمة الزهراء ". " شرح كلام أم سلمة لعائشة رضي الله عنهما ". " نهج البيان في عمل شهر رمضان ". " المشكاة في عويص مسائل النحاة ". " أفراد قراءة أبي عمرو ابن العلاء ". " مختصر في اللغة ". " أفراد مسائل ". " الجمع بين زوائد الصحاح وزوائد المجمل ". " ذخر البشر في معرفة القضاء والقدر ". " كتاب في حكمي كلام الأئمة الاثني (1) عشر ". " الحاوي في المعمول عليه من الفتاوي ". كتاب " سر السرائر ". " فقه أحكام النساء في الفقه ". " ذخر البشر في معرفة الأئمة الاثني عشر ". " مجموع مسائل فقه وأصول ". " شرح غريب ألفاظ المقامات ". " شرح الحماسة ". " أخلاق الصوفية ". " عقود الجواهر في سيرة الملك الظاهر ". " كنز الموحدين في سيرة صلاح الدين ". " ذيل التاريخ الكبير الذي سماه معادن الذهب ". " سلك النظام في تاريخ الشام " أربع مجلدات. " مختار تاريخ
__________
(1) ص: الاثنا.(4/270)
المغرب ". كتاب " تاريخ مصر ". " تهذيب الاستيعاب لابن عبد البر ". " سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه " ثلاث مجلدات. " اشتقاق أسماء البلدان ". " نكت درة الغواص ". " أسماء رواة الشيعة ومصنفيها ". " سيرة ملوك حلب ". " كتاب التصحيف والأحاجي ".
ومن شعره رحمه الله:
يا أبا جعفر تجاف قليلا ... كم تسامي بمفخر منحوس
أنت من معشر كرام ولكن ... أنت فيهم قوائم الطاووس وقال في مديح آل البيت رضي الله عنهم:
أنا في إسار غدائر ونواظر ... من كل أبيض ذي قوام ناصر
ريان من مرح الصبا فكأنما ... رويت معاطفه بغيث باكر
خمري ريق لؤلؤي لواحظ ... مسكي صدغ صارمي محاجر
لله ليلتنا بكاظمة وقد ... سمحت به الأيام بعد تهاجر
وقد اضطجعنا والنجوم كأنها ... في الأفق لؤلؤ ثغره في ناظري
والبدر سار في السماء كأنه ... من وجهه باد بنور باهر
والشعريان كأنما أحداقها ... أحداق عاذل حبه المتكاسر
وسهيل الوقاد يخفق دائبا ... خفقان أحشائي عليه وخاطري
والليل يرفل في فضول غلائل ... رقت كشوقي أو كدمعي القاطر
والريح ينشر عرفها بنسيمها ... نشري مديح أخي النبي الطاهر
خير الأنام ومن يذل مهابة ... من بأسه قلب الهزبر الخادر
صنو النبي وصهره ووزيره ... وظهيره في كل يوم تشاجر(4/271)
570 - (1)
ابن أبي حصينة رضي الدين
يحيى بن سالم القاضي رضي الدين ابن أبي حصينة؛ من شعراء الديار المصرية، كان أحدب وفيه يقول وجيه الدين ابن الذروي، وهو في غاية التهكم بأحدب:
يا أخير كيف غيرتنا (2) الليالي ... وأحالت ما بيننا بالمحال
حاش لله أن أصافي خلا (3) ... فيراني في ورده ذا اختلال
زعموا أنني نظمت هجاء ... معربا (4) فيك عن شنيع مقال
كذبوا إنما وصفت الذي حز ... ت تعالى من الفضل والنهى (5) والكمال
لا تظنن حدبة الظهر عيبا ... هي في الحسن (6) من صفات الهلال
وكذاك القسي محدودبات ... وهي أنكى من الظبا والعوالي
ودناني (7) القضاة وهي كما تع ... لم كانت موصوفة بالجلال
وإذا ما علا السنام ففيه ... لقروم الجمال أي جمال
__________
(1) الزركشي: 343 وأورد العماد في الخريدة (قسم مصر) 1: 188 ترجمة للوجيه الحسن علي بن يحيى ابن الذروي وذكر قصيدته التي ينهكم فيها بابن أبي حصينة وقال: ((الذي أصله من المعرة)) ثم ترجم (2: 107) لسالم بن مفرج بن أبي حصينة، فهل يحيى هذا ابنه؟ وقد ذكر رضي الدين هذا ابن ظافر في بدائع البدائه: 282 وتصحف الاسم ((حصينة)) فأصبح ((حفصة)) وأورد له هنالك قصيدة عينية.
(2) الخريدة: غيرتك.
(3) الخريدة: خليلا.
(4) الخريدة: أتيت بهجو معرب.
(5) الخريدة: النبل والسنا.
(6) الخريدة: للحسن.
(7) الدنانبة: جمع دنية وهي قلنسوة القاضي.(4/272)
وأرى الانحناء في منسر البا ... زي ولم يعد مخلب (1) الرئبال
كون الله حدبة فيك إن شئ ... ت تعالى من الفضل أو من الافضال
فأتت ربوة على طود حلم ... وغدت موجة لبحر نوال
ما رأتها النساء إلا تمنت ... لو غدت حلية لكل الرجال
وأبو الغصن أنت لا شك فيه ... وهو رب القوام والإعتدال
عد إلى ودنا القديم ولا تص؟ ... غ لقيل من الوشاة وقال
وتذكر لياليا حين ولت ... أودعت حسنها عقود لآلي
أترى بالدعاء يرجع شملي ... أم دعائي مضيع وابتهالي
وإذا لم يكن من الهجر بد ... فعسى أن تزورنا (2) في الخيال ومن شعر ابن أبي حصينة:
تملك قلبي غادر غير عاذر ... فوجدي لديه أول مثل آخر
وجاء بقد عادل فمن الذي ... رأى عادلاً أزرى على كل جائر
نصيري دمعي وهو أول خاذل ... فمن منقذي من ساحر الطرف ساخر
فبت أسير القلب والدمع مطلق ... أردد طرفي بين ساه وساهر
يواصلني دمعي ونومي مهاجري ... فمن واصلي ثب النحول وهاجري
ويكثر لوم الجفن في نوم جفنه ... ولا ذنب للمهجور بل للمهاجر (3)
ولو زارني طيف قنعت بقربه ... وإن كان من أهواه ليس بزائري
فيا عاذلي دعني فلو أن عاذلي ... حوى بعض ما بي كان للوقت عاذري
رعى الله ليلا زارني بدر تمه ... ولم يلف قبل اليوم في زي زائر
وخاف من الواشين أن يظفروا به ... فأرخى عليه حلقة من ضفائر (4)
__________
(1) الخريدة: الكاسر يلقى ومخلب.
(2) الخريدة: تزورني.
(3) الزركشي: لا بل لهاجر.
(4) ص والزركشي: ظفائر.(4/273)
وظن سواد الليل سترا يجنه ... وما الليل للبدر المنير بساتر وقال أيضا:
أودعوا إذ ودعوني الحرقا ... فنعيم العيش لي عاد شقا
بذلوا الهجر وصانوا وصلهم ... فاصطباري قال لي أن لا بقا
أخذوا نومي وأعطوا مقلتي ... عندما رقوا عليها الأرقا
آه من ألحاظ قوم كلما ... فوقوا سهما لقلبي رشقا
رمقوا جسمي فما أبقوا به ... بعد هجرانهم لي رمقا
وأبوا غلا انتقاما في الهوى ... فقضى الحب على من عشقا
يا عذولا لم تذق أفكاره ... من أليم الوجد لي ما ذوقا
قل لأحباب نأت دارهم ... مات صبري فلكم طول البقا
أظلم الأفق علينا فاطلعوا ... بسماء الود منكم شفقا
فالكرى فارق جفني بعدكم ... بعدما قبلكم ما افترقا وقال أيضا:
كف الملام فليس شأنك شاني ... إن الشجي إلى الخلي لشاني
لو كان يخلص بالملامة مغرم ... ما سلطت مي على غيلان (1)
ولما عدت (2) أسد الرجال ويدها ... عند اللقاء لواحظ الغزلان
بانت (3) أمامة والغرام مخيم ... عني وبان (4) لبينها سلواني
وإذا سطا جيش الغرام على امرىء ... نقل الذي في السر للإعلان
أسكنتها قلبي فبان خرابه ... والقلب يخربه أذى السكان
__________
(1) غيلان بن عقبة المري الشاعر المشهور ب؟ ((ذي الرمة)) .
(2) ص: غدت.
(3) ص: باتت.
(4) ص: وبات.(4/274)
تسطو بجفن كل منبت شعرة ... من هدبه محسوبة بسنان
وكأنما أجفانها أن حكمت ... في القلب أجفان لكل يماني
حسنت فهلا أحسنت بوصالها ... والحسن منتسب إلى الإحسان وكانت وفاته بعد الثمانين والخمسمائة، رحمه الله تعالى.
570 - (1)
ابن مجبر الاشبيلي
يحيى بن عبد الجليل بن مجبر (2) ، أبو بكر الفهري المرسي ثم الاشبيلي، شاعر الأندلس في وقته؛ توفي بمراكش ليلة عيد النحر سنة ثمان وثمانين وخمسمائة وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، رحمه الله تعالى.
ومن شعره:
أتراه يترك الغزلا ... وعليه شب واكتهلا
كلف بالغيد ما علقت (3) ... نفسه السلوان مذ عقلا
غير راض عن سجية من ... ذاق طعم الحب ثم سلا
أيها اللوام ويحكم ... إن لي عن لومكم شغلا
ثقلت عن لومكم أذن ... لم يجد فيها الهوى ثقلا
تسمع النجوى وإن خفيت ... وهي ليست تسمع العذلا
نظرت عيني لشقوتها ... نظرات وافقت أجلا
__________
(1) زاد المسافر: 9 وبغية الملتمس رقم: 93 والنفح 3: 237 وابن خلكان 7: 13 وشعره في النفح وشرح مقصورة حازم والبيان المغرب (ط. تطوان) والحلل الموشية والروض المعطار.
(2) ص: مجير.
(3) ابن خلكان: عقلت.(4/275)
غادة لما مثلت لها ... تركتني في الهوى مثلا
هي بزتني الشباب فقد ... صار في أجفانها كحلا
أبطل الحق الذي بيدي ... سحر عينيها وما بطلا
أعرضت دلا فإذ فطنت ... بولوعي أعرضت خجلا
وبدا لي أنها وجلت ... من هنات تبعث الوجلا
حسبت أني سأحزنها (1) ... إذ رأت رأسي قد اشتعلا
يا سراة الحي مثلكم ... يتلافى الحادث (2) الجلللا
قد نزلنا في جواركم ... فشكرنا ذلك النزلا
ثم واجهنا ظباءكم ... فلقينا الهول والوهلا
أضمنتم أمن جيرتكم ... ثم ما أمنتم السبلا
وأردتم (3) غصب أنفسهم (4) ... فبثثتم بينها المقلا
ليتنا خضنا السيوف ولم ... نلق تلك الأعين النجلا
عارضتنا منكم فئة ... أحدثت في عهدنا دخلا
ثعليات جفونهم ... وهم لم يعرفوا ثعلا
أشرعوا الأعطاف ناعمة ... حين أشرعنا القنا الذبلا
واستفزتنا عيونهم ... فخلعنا البيض والأسلا
ورمتنا بالسهام فلم ... نر إلا الحلي والحللا
نصروا بالحسن فانتبهوا ... كل قلب بالهوى خذلا (5)
عطلتني الغيد من جلدي ... وأنا حليتها الغزلا (6)
__________
(1) ابن خلكان: سأحرقها.
(2) ص: الحادثات.
(3) ص: وأردتم.
(4) ص: أنفسكم.
(5) ابن خلكان: جذلا.
(6) ص: العطلا.(4/276)
حملت نفسي على فتن ... سمتها صبرا فما احتملا
ثم قالت سوف نتركها ... سلبا للحب أو نفلا
قلت أما وهي قد علقت ... بأمير المؤمنين فلا 571 (1)
أبو الحسين الجزار
يحيى بن عبد العظيم بن يحيى بن محمد بن علي، الشيخ جمال الدين أبو الحسين الجزار الأديب المصري؛ ولد سنة ثلاث وستمائة تقريباً، وتوفي ثامن عشر شوال سنة تسع وسبعين وستمائة بالفالج، وكان بديع المعاني جيد التورية عذب التركيب فصيح الألفاظ حلو النادرة، صاحب مجون وزوايد، يمدح الملوك والكبار، وكان يتزيا بزي الكتاب، عاش مرتزقا بالشعر، وما هجي أحد (2) من شعراء زمانه ما هجي هو ولا ثلب كما ثلب، وكان يسمى " تعاشير "، وفيه يقول مجاهد الخياط " (3) :
ما لتعاشير غلا قيمة ... علي قامت في مواعينه
فلا يلمني وليلم نفسه ... إذ هو مذبوح بسكينه
والله ما أغضبها فعله ... إلا لتقطيع مصارينه
__________
(1) الزركشي: 343 والبدر السافر: 225 والمغرب (قسم مصر) 1: 296 والشذرات 5: 364 والنجوم الزاهرة 7: 345 وحسن المحاضرة 1: والمسالك 12: 166؛ ولم يرد في المطبوعة إلا جزء يسير من هذه الترجمة.
(2) ص: وما هجا أحداً.
(3) قد مرت ترجمة مجاهد (رقم: 409) وانظر ترجمة له في المغرب (قسم مصر) 1: 293 (وسماه مجاهد طناش الخياط) وفي المسالك 12: 213.(4/277)
وكان قليل الهجاء متحملا متوددا إلى الناس، حسن التعريض، واحتاج في آخر عمره إلى الاستجداء بغير شعر. وكان كثير التبذير لا تكاد خلته تستد أبدا ولا يغفل طلبه ولكن بأحسن الصور، وكان مسرفا على نفسه.
وله كتاب " فوائد الموائد " وعمل بعض الفضلاء عليه " علائم الولائم ". وجمع قطعة من شعره سماها " تقاطيف الجزار " (1) وهذه تسمية حسنة.
ولم يكن في عصره من يقاربه في جودة النظم غير السراج الوراق، وهو كان فارس تلك الحلبة ومنه أخذوا وعلى نمطه نسجوا ومن مادته استمدوا. وبينه وبين شعراء عصره مجاراة ومباراة أذكر منها شيئاً.
وقيل إنه لما كان صغيرا نظم أبياتا قلائل، وكان أديب ذلك الزمان ابن أبي الإصبع، فأخذه والده وتوجه به إليه وقال: يا سيدي، قد عمل هذا الولد شعرا وأشتهي أن يعرضه عليك، فقال: قل، فلما أنشده قال له: أحسنت والله إنك عوام مليح. فراح هو ووالده. وبعد أيام عمل والده طعاما وحمله إلى ابن أبي الإصبع فقال: لأي شيء فعلت هذا؟ قال: لشكرك لولدي، فقال: أنا ما شكرته، قال: ألم تقل له أحسنت، إنك عوام مليح؟ فقال: ما أردت بذلك إلا أنه خرج من بحر ودخل في بحر، فاستحيا هو ووالده. ثم لم يزل يتهذب حتى فاق أهل عصره وصار من فحول المتأخرين.
وقيل إنه اجتمع هو وأصحابه وأرادوا النزهة، فأخرجوا من بينهم دراهم وأخذوا منها عشرة دراهم وجاءوا إلى جزار في باب زويلة، فوقفوا عليه وقالوا له: أتدري من هذا الواقف عليك؟ قال: لا، قالوا: هذا الشيخ جمال الدين أبو الحسين الجزار أديب الديار المصرية وإمامها، فباس الجزار السكين وقدمها لأبي الحسين وقال: يا سيدي والله ما يدخل يقطع هذا اللحم
__________
(1) المغرب: تقطيف الجزار، وقال إنه طرزه باسم الصاحب الكبير العالم كمال الدين بن أبي جرادة؛ وكذلك ورد اسم الكتاب عند الزركشي.(4/278)
إلا أنت، فلما دخل أبو الحسين شرع قطع لهم الرقبة والعرقوب والمراق والعظام والمطاميط، وأصحابه ساكتون لا يكلمونه حتى فرغ، وأخذوا اللحم وقالوا له: أما الرجل فإنه قد خلاه الذم وعداه اللوم لأنه مكنك من اللحم، وأنت فعلت بنا هذا الفعل؟! فقال: بالله اعذروني، فإني لما رأيت نفسي وأنا خلف القرمية والساطور وبيدي السكين جاءتني لأمة الجزارين، وما قدرت أفعل غير ما رأيتم؛ فضحكوا منه.
ومما هجي به رحمه الله تعالى:
ماذا أقول في فتى ... نشء التيوس والبقر
فعاله ذميمة ... وبيته بيت الزفر ومنه:
تعصب للأديب علي قوم ... وما كانوا أولئك في حسابي
كلاب وهو جزار ولكن ... به قطعت أذناب الكلاب ومنه:
قل لوزير الملك لا تطرح ... أمر امرىء أعيا بك العتب
وازجر عن الجزار نفسا فقد ... تجني به ذنبا ولا ذنب
لا تأمنن ثلب الورى إن يكن ... قربه من بابك الثلب
ولا تجالس طرفا نازلا ... قد طالما جالسه الكلب وفيه يقول قطب الدين عمر الواعظ:
الشاعر الجزار مات ... فبئس ما ضم التراب
قد وافق العقلاء ربهم ... عليه فهم غضاب
ولبخله بالعظم ... ما حزنت لموتته الكلاب وقال فيه مجاهد الخياط:(4/279)
مر بنا ينصب أحبولة ... للرزق أو يدفن أفخاخا
وهو إذا سافر مع نحسه ... يحتاج فراشا وطباخا
وواحد أعمى إلى جانبي ... ما زال للتاريخ نساخا
يقول لي يوحك من ذا الفتى ... أراه صياحا وصراخا
فقلت قالوا إنه شاعر ... يأكلها بالشعر أوساخا
هذا هو الجزار قال الذي ... قد كان قبل اليوم مراخا (1)
فقلت هذا في الصبا قال لي ... وهو بتلك " الحال " لو شاخا وقال مجاهد أيضا فيه بليقة:
قد كنت عند الناس بعين ... يا أبو الحسين ... وجبتين ... قالوا غلامك يا حزين ... ناكك على زعمي يقين ... قل المكين؟ ... قالوا الأمين ... فقلت قولوا لي الخبر ... قال زب في شاعر عبر (2) ... قلت البغا جاه في الكبر ... قال مرتين ... طفيت حماقه وامتليت ...
__________
(1) ص: صراخا.
(2) ص: غبر.(4/280)
تمشي بمنور ما استحيت ... عليك ظلام ولو مشيت ... بالنيرين ... ربيت صغير (1) في المجزرا ... وفي الكبر جيت مسخرا ... فما نقول إنك خرا ... في الحالتين ... على قذار ما احمقوا ... وما أفشروا وما أنزقوا ... ويلاه على من غرقوا ... بجرتين ... وفيه أشياء كثيرة من هذا النمط، رحمه الله تعالى وعفا عنه.
ولما مات رثاه السراج الوراق:
أغايتنا لهذا يا فلان ... تأمل ليس كالخير العيان
أماني النفوس لها خداع ... وليس من المخوف لها أمان
ومن بعد الحراك لها سكون ... وصمت بعدما مزح اللسان
ايا من جد للآمال ركضا ... تأن ففي يد الأجل العنان
تروقك زهرة الدنيا ومنها ... جنى ثمر الردى إنس وجان
وتخدع لامسا (2) منها بلين ... أيؤمن إذ يميس الأفعوان
بلغت أبا الحسين مدى إليه ... لمستبق ومسبوق رهان
__________
(1) ص: صغيرا.
(2) ص: لامس.(4/281)
وكنت وطالما قد كنت أيضا ... تقول عن الأولى سبقوك كانوا
أقول لمن نعاك ولا امتناع ... لأحزاني عليك ولا امتنان
إلا عز القوافي (1) اليوم عن من ... بكته البكر منها والعوان
لها إيطاء حزن بعد حزن ... وإكفاء لدمع لا يصان
وإقواء برفع فوق نعش ... وخفض في اللحود له مكان
وناح النحو بعدك، والمعاني ... لها مع كل نائحة جنان
فلا بدل لخل عنك يرجى ... ولا عطف لمن غدروا وخانوا
ولو نزفت بحور الشعر دمعا ... وكان على الخليل لها ضمان
لما وفته لا وأبيه حقا ... ولو بسلوكها نظم الجمان
كفاها ذوقه التقطيع فيما ... يجوزه ويأباه الوزان
ولجج سالكا في كل بحر ... غنائمه جواهره الحسان
فنالت منه فاصلة (2) الرزايا ... ودائرة الحمام ولا اعتنان
فيا أسف البديع على بديع ... لكل فنونه منه افتنان
إذا التفت استطال على جرير ... وأخرس من فرزدقه اللسان
فلا تقسا به سحبان يوما ... ولا قسا إذا ذكر البيان
ولو هرم رآه سلا زهيرا ... وكان له عليه ثم شان
جمال الدين أنت جميل ظن ... بربك جل ديانا يدان
وعفو الله أكثر من ذنوب ... لنا وعلى الشفيع لنا الضمان وكتب أبو الحسين إلى السراج الوراق في يوم نوروز:
استعمل العفص بعد الدبغ مقلوبا (3) ... لتغتدي طالبا طورا ومطلوبا
__________
(1) ص: القواف.
(2) ص: فاضلة.
(3) يريد الصفع.(4/282)
واسكر من الراح (1) وافهم ما أشرت له ... فليس يحتاج لا كاسا ولا كوبا
واحمل على القوم واحلم أن هم حملوا ... فأنت ما زلت غلابا ومغلوبا
لك الجوادان فاركب ما تشاء ودع ... ما لا تشاء مع الغلمان مجنوبا
قد أدبتك نواريز مفرقة ... حتى لقد صرت لا تحتاج تأديبا
وطالما استصلح الجزار نحرك في ... يوم الأضاحي ولم يستصلح النيبا
أذكرتنا ازدشيرا (2) إذ ركبت وإذ ... أصبحت بالتاج تاج الخوص معصوبا
فاستوف غير ضجور بالإمارة ما ... على جبينك " ما " قد كان مكتوبا
والق الآيادي واقبل من هديتها (3) ... ما كان من قوص أو إخميم مجلوبا
يا شاعرا لم يفته (4) اليوم راوية ... يروي المجون إذا لم يرو تشبيبا
لو أنه أدرك الشيخ الصريع فتى ... القصار (5) لم يرو إلا عنك أسلوبا فأجابه الوراق:
قتلت يا شيخنا الأشياء تجريبا ... بأكلك العفص بعد القلب تدريبا
وصار جلدك مدبوغا به عجبا ... وما طهرت ومن (6) يحصي الأعاجيبا
يا مستلذا بأكل الراح هاك يدي ... وخل من يستلذ الراح مشروبا
ويا صفيا بعين عندنا أبدا ... لولا تكون بعين كنت محجوبا
ركبت أنثى ولم تعتد سوى ذكر ... مالي أراك على المركوب مقلوبا
مخالفا قد تبدلت العنان بذي ... ال يظل فويق (7) الأرض مسحوبا
__________
(1) يعني الضرب بالراحات.
(2) ص: أزدشير.
(3) ص: هدتها.
(4) ص: تفته.
(5) يريد الشاعر صريع الدلاء.
(6) ص: من.
(7) ص: بذياك ... فوق.(4/283)
وثم ميم وصاد إن قرأتهمما ... قرأت " مص " وكم فسرت مكتوبا
فاجعل لسانك في هذا وذا سببا ... والحش يكفيك إن حاولت مطلوبا
واركب بغرة توت (1) ناشرا علما ... يأتي من الطائف النجدي مجلوبا (2)
فطالما رفعت ايد (3) إليك به ... حتى نزلت عن المركوب مكروبا
أبا الحصين (4) محال أن تروغ وقد ... صوبت ثعلب رمحي اليوم تصويبا
ولست ذئبا فأخشى أن تخاتلني ... لكنما أنت شيء يشبه الذيبا وكان الوراق يوما يسرح ذقته، فقال الجزار:
لا تعجبوا من لباسي ... فكل أمري لبس
والله ما ثم مال ... وإنما ثم تفسو فأجابه الوراق:
صدقت ما ثم مال ... وإنما ثم نحس
وثم أخرى وأخرى ... فيها وعندك حدس وكتب الجزار إلى الوراق:
أيها الفاضل الذي قد حباه ... ذهنه من علومه بكنوز
فقت أهل الآداب جداً وهزلا ... فتميز عنهم بذا التمييز
كم وكم من رسالة لك قد بر ... زت فيها سبقا على التبريزي
أنا والله من رعاياك ما زل ... ت وأنت الأمير في النوروز فأجابه الوراق:
كم إلى كم يطيل مادح مثلي ... بكنى قد خبأتها ورموز
__________
(1) توت: أول الشهور القبطية.
(2) يريد النعال، لأن الطائف مشهورة بالأدم.
(3) ص: أيدي.
(4) غير كنيته من ((أبو الحسين)) إلى ((أبو الحصين)) تشبيهاً له بالثعلب.(4/284)
مانحا مثلها المطرز هيها ... ت له ما لديك من تطريز
رب يوم ركبت فيه أميراً ... وتركت المخيط للمدروز (1)
دخلت منك هيبة لك في قل ... بي ولكن دخولها من طيزي وقال أيضا (2) :
قطعت شبيبتي وأضعت عمري ... وقد أتعبت في الهذيان فكري
وما لي أجرة فيه ولا لي ... إذا ما تبت (3) يوما بعض أجر
قرأت النحو تبيانا وفهما ... إلى أن كعت منه وضاق صدري
فما استنبطت منه سوى محال ... يحال به على زيد وعمرو
فكان النصب فيه علي نصبا ... وكان الرفع فيه لغير قدري
وكان الخفض فيه جل حظي ... وكان الجزم فيه لقطع ذكري
وفي علم العروض دخلت جهلا ... وعمت لخفتي في كل بحر
فأذكرني به التفصيل بيتا ... تضمن نصفه الشيخ المعري
مفاعلتن مفاعلتن (4) فعولن ... " حديث خرافة يا أم عمرو "
وكم يوم ببيع اللحم عندي ... يعد من البوار بألف شهر
ولما أن غدا لا بيع فيه ... مع الميزان أشبه يوم حشر
ودكاني جهنم إذ زبوني ... زبانية بهم تعذيب سري
وفيها زفرة من غير لحم ... وقد وضعت سلاسلها بنحري
وقد طال العذاب علي فيها ... لما قدمت من نحس ووزر
فإن لام العذول أقول دعني ... أنا في ضيعة في وسط عمري
__________
(1) ص: المدروز.
(2) المغرب: 314 وهي في مدح برهان الدين ابن الفقيه نصر.
(3) المغرب: مت.
(4) ص: مفاعيلن مفاعيلن.(4/285)
منها في المديح:
وإن الشعر دون علاه قدرا ... ولا سيما إذا ما كان شعري
كلاما (1) ما قرأت له صحاحا ... ولا نحوا على الشيخ ابن بري
وعيشك لست أدري ما طحاها ... وقد أقررت أني لست أدري
وذا خبري ولو كشفت عني ... لصغره بعظم الجهل خبري
كأني مثل بعض الناس لما ... تعلم آيتين فصار يقري (2) وقال أيضا (3) :
ما زلت في الدنيا من الهم ... طول زماني وافر القسم
فالحمد لله الذي حكمه ... قد خر (4) في أفق السماء نجمي
أصبحت لحاما وفي البيت لا ... أعرف ما رائحة اللحم
جهلته فقرا فكنت الذي ... أضله الله على علم وقال أيضا (5) :
حسبي حرافا بحرفتي حسبي ... أصبحت فيها معذب القلب
موسخ الثوب والصحيفة من ... طول اكتسابي ذنبا بلا ذنب (6)
خلا فؤادي ولي فم وسخ ... كأنني في جزارتي كلبي وقال أيضا (7) :
__________
(1) المغرب: لأني.
(2) المغرب: مقري.
(3) المغرب: 315.
(4) المغرب: حير.
(5) المغرب: 316.
(6) المغرب: بلا كسب.
(7) المغرب: 309.(4/286)
لي من الشمس خلعة صفراء ... لا أبالي إذا أتاني الشتاء
ومن الزمهرير إن حدث الغي ... م ثيابي، وطيلساني الهواء
بيتي الأرض والفضاء به سو ... ر الرجل مدار وسقف بيتي السماء
لو تراني في الشمس والبرد قد أن ... سل جسمي لقلت إني هباء
شنع الناس أنني جاهلي ... مانوي وما لهم أهواء
أخذوني بظاهري (1) إذ رأوني ... عبد شمس تسوؤني (2) الظلماء
آه واحستري لقد ذهب العم ... ر وحظي تأسف وعناء
كلما قلت في غد أدرك السو ... ل أتاني غد بما لا أشاء
لست ممن يخص يوما بشكوا ... هـ لأن الأيام عندي سواء وقال من أبيات (3) :
فاغنني عن سؤال كل لئيم ... قد علا قدره وإن كان سفله
معشر ما ظفرت منهم عقيب ال ... قصد عند السؤال إلا بخجله
ومتى غبت عنهم عتبوني ... ومتى جئتهم رأوا ذاك ثقله
أنا فيهم عار وماش وغيري ... وهو دوني له ثياب وبغله
لي نصفية تعد من العم ... ر الرجل سنينا غسلتها ألف غسله
لا تسلني عن مشتراها ففيها ... منذ فصلتها نشاء بجمله
كل يوم يحوطا العصر وال ... دق مرارا وما تقر بعمله
فهي تعتل كلما غسلوها ... ويزيل النشاء تلك العله
أين عيشي بها القديم وذاك ال ... رفق (4) فيها وخطرتي والشمله
حيث لا في أجنابها رقعة ق ... ط ولا في أكمامها قط وصله
__________
(1) المغرب: بظاهر.
(2) المغرب: تسوءه.
(3) المغرب: 304.
(4) ص: الرنق؛ المغرب: التيه.(4/287)
قال لي الناس حين أطنبت فيها ... بس أكثرت خلها وهي (1) بقله وقال وقد بعث له بعض الرؤساء نصفية (2) :
اشكر مولانا ونصفيتي ... تشكره أكثر من شكري
أراحها جدواه من كل ما ... تشكوه من دق ومن عصر (3)
كم مرة كادت مع الماء إذ ... يغلسها غسالها تجري
تموت في الماجور لولا النشا ... يبعثها في ساعة النشر
أراحها الدهر وطوبى لمن ... يريحه في آخر العمر وقال وقد منعه البواب من دخوله على بعض الأمراء (4) :
أمولاي ما من طباعي الخروج ... ولكن تعلمته من خمولي (5)
وصرت أروم لديك الغنى ... فيخرجني الضرب عند الدخول وقال أيضا (6) :
أدركوني فبي من البرد هم ... ليس ينسى وفي حشاي التهاب
ألبستني الاطماع وهماً فها جس ... مي عار ولي فرا وثياب
كلما ازرق لون جسمي من البر ... د تخيلت أنه سنجاب وقال أيضاً:
إني لمن معشر سك الدماء لهم ... دأب وسل عنهم إن رمت تصديقي
تزداد بالدم إشراقا عراصهم ... فكل أيامهم أيام تشريق
__________
(1) المغرب: فهي.
(2) المغرب: 310.
(3) ص: عصري.
(4) المغرب: 318.
(5) المغرب: بالخمول.
(6) المغرب: 311.(4/288)
وقال أيضا:
قلت لما سكب السا ... قي على الأرض الشرابا
غيرة مني عليه ... ليتني كنت ترابا وقال:
ولم ألق في بيتي دثارا أعده ... لبرد ولا شيء يرد هجيرا
فأنفخ شدقي إن أردت وسادة ... وأفرش ظلي إن أردت حصيرا وقال من أبيات:
يلين إلى أن يجرح الوهم خده ... وتغرق في ماء النعيم غلائله
إذا ما بدا من شعره في ذوائب ... رأيت غزالا لم ترعه حبائله وقال:
وكذبت في نظم مديحي لكم ... والكذب لا ينكر من شاعر
واحتجت أن أذكركم خيفة ... بالخير للوارد والصادر
فأنتم ألجأتموني إلى ... كذبي في الأول والآخر وقال:
لئن قطع الغيث الطريق فبغلتي ... وحاشاك قبقابي وجوختي الدار
وإن قيل لي لا تخش فهي عبورة (1) ... خشيت على علمي بأني جزار وقال من أبيات (2) :
اسقنيها حتى أقوم ولا أع ... رف سكرا عمامتي من مداسي
فزت بالجهل مثلما فاز بالحل ... م وفعل الصنائع البانياسي
وغدائي المسلوق في كل يوم ... لا من اللحم بل من القلقاس
__________
(1) العبورة: الصغيرة من الغنم، وفيه تورية.
(2) المغرب: 343 وأورد منها البيت الأول.(4/289)
وقال أيضا:
أحبابنا ما لليلي بعد فرقتكم ... كأنما هو مخلوق بلا سحر
أنفق أيام عمري في محبتكم ... وقد نأيتم فلا أنتم ولا عمري وقال أيضا:
وكم وكم قد دق أبوابه ... عليه في الليل نسيم الصبا
فقال من؟ قال رسول الشتا ... فقال: لا أهلا ولا مرحبا وقال من قصيدة:
وكم قابلت تركيا بمدحي ... فكاد لما أحاول منه يحنق
ويلطمني إذا ما قلت: " ألطن " ... ويرمقني إذا ما قلت " برمق "
وتسقط حرمتي أبدا لديه ... فلو أني عطشت لقل " بشمق " وقال أيضا:
زمن الغضا في القلب بعدك لوعة ... تذكى بنار الشوق لا نار الغضا
ما كانت اللذات فيك ولا الهوى ... إلا كبرق في الدجنة أومضا
وإذا صبوت لدارسات رسومه ... قال المعيد لدرسها: هذا مضى وقال يمدح فخر القضاة نصر الله ابن بصاقة من أبيات (1) :
وكم ليلة قد بتها معسرا ولي ... بزخرف آمالي كنوز من اليسر
أقول لقلبي كلما اشتقت للغنى ... إذا جاء نصر الله تبت يد الفقر
وإن جئته بالمدح يلقاك بالندى ... فكم مرة قد قابل النظم بالنثر
ويهتز للجدوى إذا ما مدحته ... كما اهتز - حاشا وصفه - شارب الخمر وكتب إلى رجل اصطنعه وهو يؤذيه من أبيات:
__________
(1) وردت الأبيات في ترجمة ابن بصاقة (رقم: 545) .(4/290)
طالما كنت قبلها تحفظ الخب ... ز ولكن بالبخل في الصندوق
ليت شعري ماذا تقول إذا " ما " ... رمت شتمي، قل لي بأي طريق
علم الله ما مضيت رسولا ... قط من عند إبنتي لعشيق
لا ولا بت في مكان طفيلي ... اً كغيري في طاعة وفسوق
لا ولا جئت بالرجال إلى بي ... تي وكاسرت عنهم في السوق وقال أيضا:
ما بال قوادي وعلقي ... قد غلقا أبواب رزقي
وتعاهدا وتعاقدا ... وتحالفا أيمان صدق
إن تتركاني تائباً ... من فاقتي عن كل فسق
وتخلياني مثلة ... للناس في غرب وشرق
قد صرت صوفياً لفق ... ري منهما والجلد دلقي
وعمامتي رأسي وجم ... جمتي الثرى والكبر خلقي
فأنا النذير لمن غدا ... متعرضا يوما لعشق
كم ليلة ضيعت في ... ها حرمتي وأضعت ورقي
وصفعت حين سكرت من ... كاس بها المحبوب يسقي
وإذا سكرت فإنني ... مستهلك مالي وعتقي وقال (1) :
يا مالك القلب رفقا إن نارك في ... أضالع الصب لا تبقي ولا تذر
فضحت غصن النقا لينا فراح إذا ... ما ماس قدك بالأوراق يستتر
ما أنكر الطرف أن الشعر من دجا ... وإنما غر من وجهك القمر
إني لأعجب من جفن تدير به ... على نداماك (2) خمرا (3) وهو منكسر
__________
(1) المغرب: 338.
(2) المغرب: محييك.
(3) ص: خمر.(4/291)
وقال أيضا:
لبست بيتي وقد زررت أبوابي ... علي حتى غسلت اليوم أثوابي
وقد أزال الشتا ما كان من حمقي ... دعني فمستوقد الحمام أولى بي
أنام في الزبل كي يدفا به جسدي ... ما بين جمر به ما بين أصحابي
أو فوق قدر هريس بت أحرسها ... مع الكلاب على دكان غلاب
ما كنت أعرف ما ضرب المقارع أو ... قاسيت وقع الندى من فوق أجنابي
وما تراقصت الأعضاء في جسدي ... إلا وقد صفقت بالبرد أنيابي وقال في زوجة أبيه وكانت طرشاء:
تزوج الشيخ أبي شيخة ... ليس لها عقل ولا ذهن
لو برزت صورتها في الدجى ... ما جسرت تبصرها الجن
كأنها في فرشها رمة ... وشعرها من حولها قطن
وقائل قل لي ما سنها ... فقلت ما في فمها سن وقال فيها وقد مات أبوه:
أذابت كلى الشيخ تلك العجوز ... وأردته أنفاسها المرديه
وقد كان أوصى لها بالصداق ... فما في مصيبته تعزيه
لأني ما خلت أن القتيل ... يوصي لقاتله بالديه وأهدى إلى الصاحب كمال الدين ابن العديم سجادة خضراء، وكتب معها: المملوكة سجادة أبي الحسين الجزار:
أيها الصاحب الأجل كمال الد ... ين لا زلت ملجأ للغريب
كن مجيري لأنني قد تغرب ... ت لكوني وقعت عند الأديب
أنا سجادة سئمت من الط ... يب فهب لي نشرا فنشرك طيبي
طال شوقي إلى السجود وكم لي ... من شروق في بيته وغروب(4/292)
وإذا ما أتاه ضيف أراني ... منه عند الصلاة وجه مريب
لم يرقه اخضرار لونه وهيها ... ت، وما راعه اسوداد الذنوب
فأقل عثرتي ووفر بإحسا ... نك من وجه الكريم نصيبي
واجبر اليوم كسر قلبي فلا زل ... ت مدى الدهر جابرا للقلوب إن حسن في الآراء الالية الصاحبية الكمالية أسعدها الله تعالى أن ينصب محرابي إلى القبلة بعد رفعه، ويخفض عيشي بالتسبيح والتقديس بعد جزمه وقطعه، ويجعلني مؤهلة بين يديه لصالح الأعمال، ويؤمنني العث الذي يعتري الصوف لعدم الاستعمال، فعل، جاريا على عوائد اصطناعه، سالكا سبل أخرقه وطباعه، والسلام.
وقال أيضا:
إذا كنت تعلم ما في الصدور ... وتعلم خائنة الأعين
وتعلم صحة فقري إليك ... فإني عن شرح حالي غني
أسيء فتحسن لي دائما ... وهل للمسيء سوى المحسن
وحقك مالي من قدرة ... على كشف ضرر إذا مسني
فلا تلزمني بغير الدعاء ... فذلك ما ليس بالممكن 572 (1)
أبو زكريا يحيى صاحب إفريقية
يحيى بن عبد الواحد بن الشيخ أبي حفص عمر الهنتاني، الأمير أبو زكريا
__________
(1) الزركشي: 345 وابن خلدون 6 3 280 وصبح الأعشى 5: 127 والتعريف بابن خلدون: 11 والمؤنس: 132 وتاريخ الدولتين: 18 والفارسية: 107 وأزهار الرياض 3: 208؛ وأكثر هذه الترجمة ثابت في المطبوعة إلا أن اضطراباً حدث هناك، فقد انقطعت الترجمة فجأة ص 633 من الجزء الثاني وتتمتها 606 حيث ورد الكلام خطأ تحت اسم ((النصير الأدفوي)) .(4/293)
صاحب إفريقية وتونس؛ كان أبوه نائبا لآل عبد المؤمن على إفريقية، فلما توفي والده تغلب على إفريقية وتونس وامتدت أيامه، واشتغل عنه بنو عبد المؤمن بأنفسهم؛ وتوفي سنة سبع وأربعين وستمائة، وأصله من برابر مصمودة.
وكان يباشر الأمور بنفسه ولا يركن إلى أحد، وكان كثيرا ما يتستر بالليل ويخرج الأموال ويقصد مواضع الفقراء والأيتام، وعم جميع المستحقين بالعطاء، وكان الفقراء يدعون له بكل مكان؛ وفي كل يوم يجلس في مجلس مخصوص وتحضر الأمراء والجند والوافدون، ولا يأنف أن يتكلم في جليل الأمور وحقيرها، ثم يطعم الناس، فإذا حضر وزير الأموال انقلب إلى مكان آخر مع من يشرفه بالحضور من الفضلاء من فقيه وأديب ومنجم وطبيب، فإذا فرغ من هؤلاء دخل إلى داره واستراح لي أذان العصر، فيخرج إلى موضع آخر غير الموضعين الأولين يتفقد فيه الأمور الخاصة بقصره، فإذا أذن المغرب دخل إلى ما هنأه به الله من اللذات. ولم يقطع صلاة الجمعة في الجامع ولا يخل بها، ويجلس يوم السبت في القبة العظمى وحوله أقاربه وشيوخ دولته على مراتبهم، وتقرأ عليه المظالم بحضرة القاضي وغيره، ويجزم الحكم ويفصله، وله في ذلك أخبار ظريفة:
ورفع إليه طائفة من الشعراء قصائد فوقع عليها بما رآه، وكان منهم شاعر يعرف بابن المحظية، وكان في قصيدته خطأ فوقع: يعطى أن قصيدته كذا وكذا، فاستحسن البلغاء هذا منه.
وكان مرة أصابه ألم في عينيه، فدخل إليه خواصه وفيهم شخص يلقب بالخرا، فقال له وقد كلمه: يا مولانا أبصرتني؟ فقال: لا بل شممتك.
ومات بالرعاف وهو نازل بعسكره على بونة آخر مدن إفريقية(4/294)
`رحمه الله. ومن شعره في الجوز:
تفضل بطعم له ملبس ... صلابة وجه لئيم حكى
إذا بز عن جسمه ثوبه ... أتاك كما يمضغ المصطكى وقال يصف الرمح من قصيدة، وهو معنى غريب:
وأسمر غر شيب النقع رأسه ... ألا إنما بعد القشيب مشيب
مددت به كفي إليهم كأنه ... رشاء ومن قلب الكمي قليب وقال (1) :
أمالكتي قلب الكئيب تعطفا ... بساكنتي ربع الضلوع ترحما
على هائم أعياه حمل غرامه ... وأعقبه فرط الغرام تألما
فلم يبق فيه البين إلا تنفسا ... ولم يبق فيه الشوق إلا توهما 573 (2)
رشيد الدين العطار
يحيى بن علي بن عبد الله بن علي بن مفرج بن أبي الفتوح، الإمام الحافظ المحدث رشيد الدين أبو الحسن القرشي الأموي النابلسي المصري المالكي العطار؛ ولد سنة أربع وثمانين وخمسمائة، وتوفي سنة اثنتين وستين وستمائة.
روى الكثير وأفاد وانتخب، وكان ثقة ثبتا عارفا بفن الحديث، مليح الخط حسن التخريج، انتهت إليه رياسة الحديث بالديار المصرية (3) ،
__________
(1) لم ترد في المطبوعة.
(2) الزركشي: 345 والبدر السافر: 231 ونيل الابتهاج: 354 والشذرات 5: 311 وذيل مرآة الزمان 2: 314 وعبر الذهبي 5: 271؛ ولم ترد في المطبوعة.
(3) بعد الحافظ زكي الدين المنذري.(4/295)
ووقف جملة كتبه. روى عنه الدمياطي واليونيني وقاضي القضاة نجم الدين ابن صصرى وخلق كثير.
وقال السراج الوراق يرثيه:
دمعي على الشيخ الرشيد مرسل ... وحزن قلبي أبدا مسلسل
بكى دما جفني القريح بعده ... لو بالجريح يفتدى المعلل
أين إمام في الحديث مثله ... تضرب آباطا إليه الإبل
ذاد عن السنة كل مفتر ... به جلي الداجي وحل المشكل
وكان في علم الرجال أوحدا ... بحيث قال العلم: هذا الرجل
أتقنهم معرفة بقول ذا ... مستعمل وقول ذاك مهمل
ومن سوى العطار يدري سرهم ... والناس منهم حطب ومندل
يا جامع ابن العاص قد أوحشت من ... جارك واستوحش صف أول
عهدي بصدر لك منه حاليا ... قد عاد وهو بعده معطل
لله ما ضم التراب من حجى ... يطيش رضوى عنده ويذبل
ومن عفاف وتقى وكيف لا ... والعلم أس لهما والعمل
إن ضجيعي لحده لسنة ال ... هادي الشفيع والكتاب المنزل
لمثل ذا فليعمل القوم إذا ... راموا العلا لمثل ذا فليعملوا
سقاك يا يحيى حيا مرتجز ... تحدو قطاريه صبا وشمأل 574 (1)
أبو جعفر العلوي
يحيى بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن علي، أبو جعفر العلوي
__________
(1) التكلمة لوفيات النقلة ومرآة الزمان: 581والبداية والنهاية 13: 74؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.(4/296)
البصري؛ كان يتولى النقابة على الطالبين بها. كان أعرف أهل زمانه بأنساب العباسيين والقرشيين وأنساب العرب وأيامها وأشعارها؛ قدم بغداد مرات وأقام بها طويلا، ومدح الإمام الناصر، وقرأ الناس عليه شعره ومن كتب الأدب والأنساب.
وكان مليح المجالسة حسن الأخلاق متواضعا شريف النفس دينا، ولم يرو شيئا من الحديث، وكانت به زمانة لا يستطيع أن يقوم على رجليه. توفي ببغداد في شهر رمضان سنة ثلاث عشرة (1) وستمائة، ومولده سنة ثمان وأربعين وخمسمائة بالبصرة، ومن شعره:
آليت أني لا أطيع عذولي ... وإن اشتملت على جوى وغليل
وأرى السلو عن الحبيب وإن جفا ... وأطال في الأعراض غير جميل
شرع الهوى دارست فيه عصابة ... أخذوا براي كثير وجميل
يا برق حي على العقيق محلة ... حالت وعهد الشوق غير محيل
شقت عليها المعصرات جيوبها ... وبكت بدمع لا يجف همول
وكأنما وجدت بها لما عفت ... وجدي فأعولت الرعود عويلي
لم يبق منها غير أشعث دارس ... مثل على طول الزمان نحيل
ورماد أعشار إذا شبهته ... فلقد أصبت بإثمد منخول
فوددت من ولهي به وصبابتي ... لو بت منه بناظر مكحول
لا عهدها عندي وإن بعد المدى ... عاف ولا شكري لها بقليل
فإنها نعم الخليفة أحمد ال ... أسد المخوف العارض المأمول وقال أيضا:
تشرين أقبل جامعا أزهاره ... في نصر شوال ليطلب ثاره
من شهر نسك لا يزال يمتنا ... جوعا ويمنعنا التقى إفطاره
__________
(1) ص: عشر.(4/297)
أهدى لنا تشرين زهر رياضه ... كرما وفتح وسطها أزهاره
وأباحنا، والله يجعل عمره ... عمر الزمان، شميمه وثماره
وسرى على أيلول وهو مصمم ... والجو ملتهب فأطفأ ناره
فصل تشابه فجره وعشاؤه ... وحكت صدور نهاره أسحاره
وعلى السماء قباء غيم أدكن ... سرت الشمال فحللت أزراره
وتراه ينثر من ذيول قبائه ... درا (1) أطال على الرياض نثاره
فاستجلها حمراء من يد أبيض ... بالمسك خط له الشباب عذاره
ممن يرى دين المسيح مهفهف ... كالغصن يشبه خصره زناره
فالراح أخت الروح إن مزجت بها ... وقضى الكريم فقد قضى أمطاره 575 (2)
الصرصري
يحيى بن يوسف بن يحيى بن منصور بن المعمر بن عبد السلام، جمال الدين الشيخ العلامة الزاهد الضرير، أبو زكريا الصرصري البغدادي الحنبلي اللغوي الأديب الناظم، صاحب المدائح النبوية السارة في الآفاق، لا أعلم شاعرا أكثر من مدائح النبي صلى الله عليه وسلم أشعر منه، وشعره طبقة عالية. وكان فصيحا بليغا، شعره يدخل في ثمان مجلدات، وكله جيد (3) ؛
__________
(1) ص: درراً.
(2) الزركشي: 345 والبدر السافر: 235 وذيل ابن رجب 2: 262 ونكت الهميان: 308 والشذرات 5: 285 وذيل مرآة الزمان 1: 258 - 332 وعبر الذهبي 5: 237 والبداية والنهاية 13: 211 والنجوم الزاهرة 7: 66 ومرآة الجنان 4: 147؛ والصرصري نسبة إلى صرصر وهي قرية قريبة من بغداد؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.
(3) ص: جيدا.(4/298)
وله قصائد التزم في كل حرف منها طاء، وأخرى في كل كلمة منها ضاد، وأخرى في كل كلمة زاي، وأخرى في كل بيت حروف المعجم، وهذا دليل القدرة والاطلاع والتمكن.
ولد سنة ثمان وثمانين وخمسمائة وتوفي شهيدا في واقعة بغداد سنة ست وخمسين وستمائة، رحمه الله تعالى.
قال الشيخ شمس الدين الذهبي: حكى لنا شيخنا ابن الدباهي، وكان خال أمه، قال: دخل عليه التتار وكان ضريرا فطعن بعكازه بطن واحد فقتله ثم قتل شهيدا.
فمن شعره يمدح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أوجهك أم ضوء الصباح تبلجا ... أم البدر في برج الكمال جلا الدجى
أم الشمس يوم الصحو في برج سعدها ... وفرعك أم ليل المحب إذا سجا
وبرق سرى أم نور ثغرك باسما ... ونشرك أم مسك ذكي تأرجا
أتتك جنود الحسن طوعا بأسرها ... فصرت مليكا في الجمال متوجا
فأضحت أبيات القلوب أسرة ... لديك فلم يملكن عنك معرجا
فطوبى لعبد أنت سيده لقد ... سما بين أرباب البصائر والحجى
فهل تجلب الأحلام لي منك نظرة ... فتكشف بعض الهم عني وتفرجا
فقد نال مني منع طيفك مثلما ... شجاني من البيت المطوح ما شجا
حثثنا إليك العيس حتى تبوأت ... لديك مقيلا ناضر (1) الروض مبهجا
فما كان أدنى قربنا من بعادنا ... وأقرب أفراح الفؤاد من الشجى
فلله قلبي يوم زمت ركابنا ... وفارقت ظلا من جنابك سجسجا
رجوت بقرب الدار أن أطفىء الأسى ... فما زاد وقد الشوق إلا تأججا
فهل للركاب القود نحوك مرجع ... يجبن بنا وعرا ويطوين مدرجا
__________
(1) ص: ناظر.(4/299)
يحثحثها الحادي العجول مهجرا ... إليك ويطوي شقة البيد مدلجا
يخوض بها آل الضحى فكأنما ... يخوض بها البحر الخضم ملججا
إذا ما تعالت في الهواجر في السرى ... تخال نعاماً في السباسب هدجا
عليها رجال تشتكي ألم الجوى ... كما تشتكي في سيرها ألم الوجى
لهم حنة عند الصباح وحنة ... إليك إذا ما الليل غيهبه دجا
يؤمون ربعا أفيح الجو زاهراً ... أضاء بوجه منك أزهر أبلجا
حمى بك عنا كل مظلمة محا ... وكل رجا منه ثمال لمن رجا
رحيب الذرى غض القطاف لمن جنى ... إذا ما نحاه من جنى عائذا (1) نجا
إذا لجأ (2) العافي إليه مؤملاً ... جلا ضر معتر إلى بابه لجا
إليك رسول الله أهدي مدائحي ... فتكسب من رياك نشرا مؤرجا
وتلبسها أوصافك الزهر حلة ال ... بهاء وروضا من حلاك مدبجا
أسوت بما بينت داء قلوبنا ... كما كنت تأسو قبل أوسا وخزرجا
وكنت نبيا قبل آدم مرتجى ... لتفتح باباً للهداية مرتجا
فجئت ورسم الرشد بالغي منهج ... فأوضحت فيه للبرية منهجا
وشيدت أعلام الرشاد مجددا ... وكنت كميا في الجهاد مدججا
وثقفت سهم الدين حتى أقمته ... وقد كان ملوي المغامز أعوجا
فصبح وجه الحق أبلج ظاهرا ... بنورك والبطلان أزور مخدجا
وأدخلك الرحمن بالصدق مدخلا ... خرجنا به من دارة الشرك مخرجا
فيا خير من زم النياق لحجة ... وألجم خيلا للجهاد وأسرجا
ومن إن أحاط الكرب بالناس كلهم ... فعاذوا به ألفوه عنهم مفرجا
وإن صلي النار العصاة غدا غدا ... لأمته من هوة النار مخرجا
أجرني فقد أصبحت في زمن له ... عرام لأهل الحلم أصبح مزعجا
__________
(1) ص: عائداً.
(2) الزركشي: إذا ما لجا.(4/300)
وقد أبلت السبعون برد شبيبتي ... فأضحى بتكرار الأهلة منهجا
وعندي حاجات بها الله عالم ... أبيت بها من كارث الهم محرجا
ولست أرى خلا معينا أبثه ... شجوني فما أزداد إلا توهجا
وما لي في يومي غيرك مسعد ... إذا القلب للخطب الفظيع (1) تلجلجا
لأنك عند الله أنجح شافع ... لدفع الملمات الشدائد ترتجى
عليك سلام الله ما أظلم الدجى ... وما فلق الصبح المنير تبلجا
وعم به أصحبك الزهر ما سرى ... إلى ربعك السامي مشوق وأدلجا وقال أيضا يمدح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ذكر العقيق فهاجه تذكاره ... صب عن الأحباب شط مزاره
وهفت إلى سلع نوازع قلبه ... فتضرمت بين الجوانح ناره
كلف برامة ما تألق بارق ... من نحوها إلا بدا إضماره
يشتاق واديها ولولا حبها ... لم يصبه واد زهت أزهاره
شغفا بمن ملك الفؤاد بأسره ... وبوده أن لا يفك إساره
لولا هواه لما ثنى أعطافه ... بان الحجاز ورنده وعراره
يا من ثوى بين الجوانح والحشا ... مني وإن بعدت علي دياره
عطفا على قلب بحبك هائم ... إن لم تصله تصدعت أعشاره
وارحم كئيبا فيك يقضي نحبه ... أسفا علي وما انقتض أوطاره
لا يستفيق من الغرام وكلما ... حجبوك عنه تهتكت أستاره
ما اعتاض عن سمر الحمى ظلا ولا ... طابت بغير حديثكم أسماره
هل عائد زمن تضوع نشره ... أرجا ورقت بالرضى أسحاره
في مربع بقباب سلع مونق ... بالأنس تهتف بالمنى أطياره
فاق البسيطة عزة ومهابة ... فسما وعز من البرية جاره
__________
(1) ص: الفضيع.(4/301)
يحمي النزيل وكيف لا يحمي وقد ... حفت بجاه المصطفى أقطاره
أضحى ثرى عرصاته إذ حلها ... يشفي من الداء العضال غباره
سبحان من جمع المحاسن كلها ... فيه فتم بهاؤه وفخاره
جبلت على التشريف طينته فما ... نشأت على غير العلى أطواره
وصفت خلائقه وطهر صدره ... فزكا وطاب أديمه ونجاره
حملته آمنة الحصان فلم تجد ... ثقلا إلى أن حان منه بداره
ورأت قصور الشام حين تشعشعت ... أنواره وتباشرت حضاره
وضعته مختونا وأهوى ساجدا ... وكساه حسنا باهرا مختاره
لا بالطويل ولا القصير وإن مشى ... بين الطوال سمتهم أنواره
وإذا تكلل بالجمان جبينه ... عرقا لأمر عظمت أسراره
فلريحه أذكى وأطيب مخبرا ... من ريح مسك فضه عطاره
فالشمس بعد الصحو مشرقة السنا ... والبدر في فلك الكمال مداره
متقلدا بالسيف ليس مباليا ... بمن التقى عزت به أنصاره
حلل السكينة والثبات لباسه ... والبر والإخلاص فيه شعاره
وضميره التقوى وأوتي حكمة ... فازداد منها عقله ووقاره
والصدق منه والوفاء طبيعة ... والعفو والصفح الجميل دثاره
وشريعة الإسلام ملته وبال ... حق المبين إلى الورى إظهاره
ختم النبوة فهو درة تاجها ... وطراز حلتها الثمني عباره
أبقى بسنته طريقا واضحا ... رحبا سواء ليله ونهاره
فخرت به خير القبائل هاشم ... وحوى به المجد الأثيل نزاره
زهرت نجوم السعد في بدر به ... وتبلجت يوم الرضى أقماره
وشموسه في فتح مكة أشرقت ... فانجاب عن وجه العلاء قتاره
سعدت به أولاده ونساؤه ... وصحابه وزكت به أصهاره(4/302)
وسمت به غلمانه وإماؤه ... وجواده وبعيره وحماره
وحوى الفخار سريره وفراشه ... وخيامه وقبابه وجداره
وتضوعت أردان بردته به ... طيبا وطاب رداؤه وإزاره
شهد الكتاب الموسوي بفضله ... وتحققته وأيقنت أخباره
هو شاهد متول ومبشر ... هو منذر متيقن إنذاره
أضحى لأميين حرزا مانعا ... وضعت به عن وقته آصاره
بالشام دولته ومكة ربه ال ... حرمات مولده وطيبة داره
عجبا لذي لب رآه وكيف لم ... ينبت عنه لوقته زناره
يا من جلا قتر الضلال ومن إذا ... ما أمه العافي انجلى إقتاره
يا من تساوى في المكارم والندى ... كلتا يديه: يمينه ويساره
أنت الملي بكشف ضر مخلف ... ذي عسرة بندى يديك يساره
جعل الثناء على علاك شعاره ... فحلت به وتعطرت أشعاره
يرجو النجاة بفضل جاهك في غد ... في موقف يخشى التوى أبراره وقال يمدح النبي صلى الله عليه وسلم أيضا:
بين العقيق وبين سلع مربع ... للقلب فيه وللنوظر مرتع
عطر الثرى أرج كأن لطيمة ... من مسك دارين به تتضوع
بدر السعادة كامل بسمائه ... وببرجه شمس الحقائق تطلع
حلو الجنى عذب الموارد عنده ... من كل شرب معنوي منبع
يا منزلا فيه لأرباب الهوى ... مرأى يروق من الجمال ومسمع
ما بال وردك ماؤه يشفي الصدى ... وأنا المحب وغلتي لا تنقع
لي فيك عهد هوى قديم ليس لل ... عذال في الاقلاع عنه مطمع
لك أن تزيد على المدى يا جنتي ... عزاً ولي أني أذل واخضع
لولا اذكارك لم يهز معاطفي ... برق على شعب الأبارق يلمع(4/303)
ولما أرقت (1) وهاج شوقي في الضحى ... ورقاء في فنن الأراكة تسجع
وكذاك لولا سر قصدك لم أكن ... ألتاع إن ذكر الغوير ولعلع
ويعرض الحادي بجرعاء الحمى ... والسفح من وادي الأراك فأجزع
كلفي ببانات العقيق وإنما ... وجه اشتياقي بالحجاز مبرقع
عجبا لجسم بالعراق مخلف ... وفؤاده مغرى بطيبة مولع
ولكيف لا تجف الأضالع نحوها ... شوقا وتذرف في هواها الأدمع
وبها رسول الله خير مؤمل ... تخدي الركاب إلى حماه وتوضع
أزكى البرية عنصرا وأعزهم ... بيتا وأولى بالفخار وأجمع
وأمد كفا بالندى وأتمهم ... حلما وأصدق في المقل وأسرع
وأشدهم بأسا إذا التظت الوغى ... والسمهرية بالأسنة تشرع
جمعت له غر المناقب فهي كال ... عقد النظيم لديه لا تتوزع
هو صفوة ارحم وهو حبيبه ... وله المقامات التي لا تدفع
حلاه من أنواره وكساه من ... أسنى المواهب حلة لا تنزع
وجلاه في ملكوته وأباحه ... ما كان يطلبه سواه فيمنع
يا خير من برأ المهيمن وارتضى ... لبلاغ حجته التي لا تقطع
أشكو إليك وأنت تعلم فتنة ... كادت لها الصم الصلاب تصدع
فبمن أعزك واصطفاك فأجزل ال ... نعمى عليك فحوض فضلك مترع
سل جبر أمتك الكسيرة إنه ... لم يبق في قوس التجلد منزع
محقت طغاة الترك أطراف القرى ... فالمال نهب والمنازل بلقع
واشفع إلى الرحمن في غفران ما ... هذي عقوبته فأنت مشفع وقال من قصيدة:
والمستهام عن المودة لم يحل ... حاشا لذراه من النسيان
لو قيل ما تهوى لقال مبادراً ... أهوى زيارتكم على أجفاني
__________
(1) ص: رقت.(4/304)
ويهزه طرب إذا ذكر الحمى ... هز الشمول شمائل النشوان
تالله إن سمح الزمان بقربكم ... وحللت منكم بالمحل الداني
لأقبلن لأجلكم ذاك الثرى ... وأعفر الخدين بالصوان
يا خير من وخدت إليه نجيبة ... من كل مرمى نازح الأحضان
يطوي إليك بها السباسب ساهم ... بيد السمائم منهج الدرسان
يهفو إذا ذر العقيق فؤاده ... ويبيت من سلع على أشجان
شوقاً إلى عرصات حضرتك التي ... نسمت بنشرك أطيب النسمان
فيها لحزن سلوة ولخائف ... أمن وللطلاب نيل أماني
اشكوا إليك تخلفي عن رفقة ... كانوا على الطاعات من أعواني
رحلوا وصدتني الموانع عنهم ... فنكرت قلبي بعدهم وزماني
أصبحت في وقت كثير هرجه ... متدارك الآفات والافتان
يمسي الفتى فيه يروم زيادة ... ترضى فيصبح وهو في نقصان
فبمن كسا عطفيك أحسن حلة ... ليست على ملك ولا إنسان
سل في ربك أن يوفق باطني ... لرضاه في سري وفي إعلاني
قل رب صل يحيى بن يوسف ال ... مقطوع عنك أضيعف العبدان
فلأنت أكرم شافع علقت به ... لمروع يوم النجاة يدان وقال أيضا:
أقل عثرتي واعف يا حسن العفو ... عن العمد من مسطور ذنبي والهفو
وصف من الأكدار قلبي واهدني ... من البر والتقوى إلى المورد الصفو
فكم لي من سوء اجتراح نسيته ... وأحصاه محروس الحفاظ من السهو
شقيت به أيام أمرح في الصبا ... وأسحب أذيال البطالة والزهو
فيا ملكا زان السماء بأنجم ... على الفلك الأعلى طفت أحسن الطفو
وسخر ما بين السماء وأرضه ... سحائب يخفو برقها أحسن الخفو(4/305)
وأبقى على شمس النهار ضياءها ... وخص بنقص آية الليل بالمحو
ولما دحا الأرض اقتدارا وحكمة ... على الماء أرسى الشم في أثر الدحو
وأحيا بفضل ميت الأرض بالحيا ... وزينها من بعد ذل بالصحو
أغثني بتوفيق ينور باطني ... وينحو إلى الخيرات بي أحسن النحو
فإني مقر أنك الله ربنا ... تعاليت عن شرك الطغاة أولي العدو
برأت جميع الكائنات بقدرة ... على غير أمثال تضاهى ولا حذو
تميت وتحيي والمقادير كلها ... بأمرك في مر الصروف وفي الحلو
وأعددت جنات النعيم لأهلها ... لترحمهم والنار أعددت للسطو
وأرسلت بالحق المبين محمدا ... أجل الورى من حاضرين ومن بدو
وشرفت فضلا آله وصحابه ... فبعدا لقلب من محبتهم خلو
فلا تحزني يوم الحساب ونجني ... بفضلك من نار تلظى بلا خبو وقال أيضا:
يوم أراك به فلست أصومه ... فالعيد (1) عندي ثابت تحريمه
ودجى أماط لنا ثياب ظلامه ... بصباح وصل منك كيف أقومه
لكن أرى فضلا علي معينا ... نظري إليك مع الزمان أديمه
حتى أروي من جمالك غلتي ... وتزول أثقال الهوى وهمومه
فبنور وجهك ينجلي عني صدا ... قلبي ويحيا باللقاء رميمه
من لي بوصلك إن وصلك جنتي ... ودوام هجرك للفؤاد جحيمه
عالجت فيك من الغرام أمره ... وصبرت حتى قيل: ليسر يرومه
وكتمت حتى غال حبك مهجتي ... واشتد شيئا في الهوى مكتومه
وسترت حتى نم دمعي بالهى ... وأبر دمع العاشقين نمومه
فاعطف على قلب ملكت زمامه ... أنت الشقاء له وأنت نعيمه
__________
(1) ص: يوماً ... فالعبد.(4/306)
لولاك لم يطل العقيق ... ولما شجاني بالغوير نسيمه
ولرب خل قال لي وبدا له ... ما ليس يجهل في الهوى معلومه
ما لي أراك إلى الأبارق طامحا ... أبدا سنا برق فأنت تشيمه
وأرى شمائلك اعتراها نشوة ... أسباك من نفس العرار شميمه
فأجبته إني لصب شيق ... بخفي وجد والغرام غريمه
وله قديم لا دواء لدائه ... وأرى الهوى يعي الرجال قديمه
ومبكر يطوي جلابيب الفلا ... عجلا (1) غدا لا يستقر رسيمه
يهوي به في كل خرق مهمه ... فكأنه في جانبيه ظليمه (2)
يمسي ومعتل النسيم مدامه ... والنجم في أفق السماء نديمه
ناديته إن رمت نورا مشرقا ... تهديك إن حال الدليل نجومه
ومقيل أمن واسعا رحبا فلذ ... بجناب من نفق الضلال علومه
ماحي الضلال الشاهد المتوكل ال ... ضحاك أسنا من تغث كلومه
كنز الفضائل منزل التقوى الذي ... هو في المعاد إمامه وزعيمه
جمعت له غرر النهى وتجددت ... بهداه للدين الحنيف رسومه
وثوى بتربة أرضه لما ثوى ... فيها الفخار خصوصه وعمومه
باب الهدى حصن النجاة محمد ... طابت مناسبه وطاب أديمه
يا من لآدم بان سابق فضله ... وسما به في الحشر إبراهيمه
يا من له الحوض الروي وشفاعة ... ينجو بها دنس الإهاب أثيمه
ولتك من رب السماء صلاته ... وأتاك منه على المدى تسلميه
من يستجير بفضل جاهك لائذا ... فمن الذي في العالمين يضيمه
فأجير مروعا من خطوب كيدها ... يعيا به في ذا الزمان حليمه وقال أيضا رحمه الله تعالى:
__________
(1) ص: نجلا (دون إعجام للنون) .
(2) ص: طليمه.(4/307)
لي بين سلع والعقيق عهود ... يبلى الزمان وذكرهن جديد
أيام أرفل في جلابيب الصبا ... وعلي من خلع الوصال برود
في مربع رحب الجوانب للرضا ... والروح فيه طائرا غريد
حرم به روض المعاني ناضر (1) ... لذوي القلوب وظله ممدود
كل الليالي للمحب بجوه ... ليل التمام وكل يوم عيد
إن امرءا يمسي ويصبح عاكفا ... بجنابه العطر الثرى لسعيد
لولاه لم يعذب بخرق مسامعي ... ذكر العذيب ولم ترقه زرود
تدنيه بالآمال أحلام الكرى ... مني وإن مزاره لبعيد
وأظل بالأشواق أطوي نحوه ... ما ليس تقطعه الركاب القود
واها لأوقات صفت فكأنها ... في جيد أيام الزمان عقود
سلفت لنا بين القبب فهل لها ... كزماننا (2) الماضي علي معيد
شوقي إلى من حلها شوق إذا ... نقص الوداد على البعاد يزيد
إن مت من شغفي بها وصبابتي ... فقتيل أسياف الغرام شهيد
كيف اللقاء ودون من أحببته ... وعر الحجاز ومن تهامة بيد
سقيا لربع نازح دان حوى ... شرفا على الآباد ليس يبيد
أقمار أفلاك المال منيرة ... بسمائه ونجومهن سعود
برباه روض المجد ليس مصوحا (3) ... لمن اغتدى للمكرمات يرود
غيث المواهب والندى يهيم على ... أفنان غض نباته ويجود
جمعت له بمحمد غرر النهى ... وبه استقر النصر والتأييد
طود الفضائل فيه رأس راسخ ال ... أركان والشم الرعان تميد
فيه الجلالة والمهابة والهدى ... والبر والتقوى وفيه الجود
__________
(1) ص: ناضرا.
(2) ص: لزماننا.
(3) ص: مصوح.(4/308)
وعليه ألوية السنا معقودة ... حتى يلوح لواؤه المعقود
وحياض ينته هني وردها ... حتى يهيا حوضه المورود
نعم الرسول بنروه الشرك انجلى ... عنا وصح لنا به التوحيد
هو شاهد متوكل ولوصفه ... بين الكرام أولى النهى مشهود
يا خير من وخد العذافر نحوه ... وسعت إليه من الفجاج وفود
يا من به أضحت قبائل هاشم ... لأسود أبطال الرجال تسود
لا زلت مخصوصا بكل تحية ... منا عليها للقبول شهود
يأتي بها ملك كريم مبلغ ... ما لا يطيق له البلاغ بريد وقال أيضا:
رعى الله بالبطحاء أيامنا التي ... بدت كوميض البرق ثم تولت
وحيا قبابا بين سلع إلى قبا ... لعزتها يحلو خضوعي وذلتي
نعمت بها لكن كأحلام نائم ... كأن لم تزرها العيس حتى استقلت
فلا ما مضى فيها من العيش عائد ... ولا النفس عنها بالبعاد تسلت
فهل لي إلى تلك المعاهد عودة ... ولو دونها بيض الصوارم سلت
فألثم إجلالا ثراها وأجتلي ... شموسي في أرجائها وأهلتي (1)
سق الله ذات الظل من دارة الحمى ... حيا نهلت منه ثراه وعلت
وسحت على أعلام سلع مرنة ... غمائم بالنوء الروي استهلت
فتلك لعمر الله دار أحبتي ... وسكانها نحو الرشاد أدلتي
ألا ليت شعري هل أزور قبابها ... فتحمد فيها العيس شدتي ورحلتي
ألا ليت شعري هل أزور متعرضاً ... لمن نظم مدحي فيه تاجي وحليتي
ألا يا رسول الله أنت وسيلتي ... إلى الله إن ضاقت بما رمت حيلتي
وأنت إذا ما حرت نوري وحجتي ... وأنت إلى التقوى إمامي وقبلتي
__________
(1) ص: وأهلة.(4/309)
وأنت نبيي باتباعك أهتدي ... وملتك الزهراء ديني وملتي
وأنت نصيري في خطوب تابعت ... علي وذخري عند فقري وعيلتي
وأنت الذي أرجوه يوم نشورنا ... يروي الصدى مني وينقع غلتي
فلا تخلني من حسن عطفك واسأل ال ... مهيمن رب العرش في سد خلتي
وكن لي في ذا اليوم ثمت في غد ... شفيعا إلى الرحمن في محو زلتي
لئن (1) نور الرحمن قلبي بذكره ... غنيت بذاك النور عن نور مقلتي وقال رحمه الله تعالى:
خط الربيع بأقلام التباشير ... رسالة كتبت بالنور والنور
حيا البقاع الحيا فاهتز هامدها ... لما أتتها يد البشرى بمنشور
وانشقت الأرض عن مكنون ما خبأت ... كأنما باكرتها نفخة الصور
وزينت بحلي النبت وادرعت ... ملابس الفخر من وشي الأزاهير
والطل في عبقري الروض منتشر ... كلؤلؤ من عقود الغيد منثور
والبان قد ماس من نفح الصبا طربا ... كأن أغصانه أعطاف مخمور
والورق تهتف في الأوراق شاكرة ... إحسان مبتدىء بالفضل مشكور
وقد فهمنا لهذا الفصل ترجمة ... إن المهيمن يحي كل مقبور
يا طيب فصل الربيع المونق العطر ال ... أرجاء لو كان لا يدهى بتغيير
يبيت فينا قليلاً ثم يتركنا ... كزورة الطيف وافت ربع مهجور
أو عيشنا بالحمى في حسن رونقه ... ووشك بين على الأحباب مقدور
هل الركاب إلى البطحاء عائدة ... يحثها كل رحب الباع شمير
تمسي وتصبح في البيداء هاجرة ... طيب الكرى عند إسحار وتبكير
حتى تحل على علاتها بحمى ... داني الظلال بروح الأمن معمور
فتجتلي البشر من ذات الستور به ... وتجتني تمر (2) حجر غير محجور
__________
(1) ص والزركشي: لأن.
(2) ص: ثمر.(4/310)
هناك لا حجر في تقبيلنا حجراً ... يربي على المسك في لون وتعطير منها:
يا سيدي يا رسول الله يا أملي ... في موبقات تصاريف المقادير
جمعت ما في الكرام الزهر مفترق ... وزدت فضلاً عظيماً غير محصور
فأنت سيد أهل الفضل أجمع في ... أصل وفرع وتقديم وتأخير
بلغت من شرف المعراج مرتبة ... توفر القرب فيها أي توفير
ويوم حشر الورى أنت الشفيع به ... تنجي من النار نفس الهالك البور
والفضل بعدك لم يدركه ذو طلب ... في صحبك النجب الشوش المغاوير وقال أيضاً:
شواهد قلب الصب لا تقبل الرشا ... فكيف قبول النصح من كاشح وشى
أيأمر خلو بالتصبر مغرما ... وآنس ربع الحب أصبح موحشا
أما في الهوى العذري عذر لشيق ... إذا لاح برق من تهامة أجهشا
ويهتز من وجد إذا نفس الصبا ... سحيراً بأعطاف الخزامى (1) تحرشا
متى يرد الماء النمير محلأ ... فينقع من ورد الصفا غلة الحشا
وينهل من ماء بطيبة حائم ... يروي فؤاداً نحوها متعطشا
سقى حرمي أرض الحجاز حيا روى ... ليحيي ميت الحرتين وينعشا
أتى ونبات الأرض بالجدب خامل ... فدر له كاس الغمائم (2) فانتشا
فأضحت أزاهير الرياض كأنها ... مطارف وشي زانها صنع من وشى
إذا هيمنت فيها النسيم تظنها ... تحبر في الغدران خطاً مرقشا
فثم لعمر الله أشرف دارة ... إلى نارها طرف لمستوقد عشا
إذا أمها ركب وددت بأنني ... جعلت له خدي على الأرض مفرشا
__________
(1) ص: الحزاما.
(2) ص: الغمام.(4/311)
أعظم أخفافا كرائم ترتمي ... إلى الفاتح الختام أكرم من مشى
محمد المبعوث بالحق والذي ... لموسى وعيسى في الكتابين أدهشا
وحاز من الرهبان سلمان وصفه ... فطاف عليه في البلاد وفتشا
وفاز بما أبدى بحيرا وخاب من ... بظلم على كتمان أوصافه ارتشى
فبورك حملا واستوى الخير مرضعا ... وباء بأنواع الكرامة مذ نشا
ولاحت أمارات النبوة عنده ... لذي نظر ما شاب أوصافه العشا
تبشبش وجه الأرض مذ حلها كما ... بطلعته وجه السماء تبشبشا
حباه بما يعلو من الوصف ربه ... وعلمه من أشرف العلم ما يشا
وجاء بحق مستبين نفى به ... زخارف إفك كان في الناس قد فشا
وجاهد حتى شاد بالسيف رافعا ... من الدين ما أوهى الضلال وشوشا
حوى الحسن والإحسان والحلم والتقى ... فلم يك صخابا (1) ولا متفحشا
ولا عباساً فظاً غليظاً فلم يلم ... حبوشاً على زفن ولا عاب أنجشا (2)
حيي جواد زاهد متوكل ... فما اعتد فضلاً من غداء إلى عشا
شجاع إذا ما الحرب مدت رواقها ... وأسبل فيها النقع ليلا فأغطشا
لا كربها حتى تبين أنه ... لدى الباس منهم كان أقوى وأبطشا
له القمر انشق امتثالا لأمره ... وحيته جهراً ظبية فارقت رشا
شفاعته للناس عن طول حبسهم ... كما من لظى ينجي بها من تمحشا (3)
وفي الحشر يسقي الناس من حوضه الروي ... إذا كان كرب الحشر للناس معطشا
وإني لأرجوه إذا اغتالني الردى ... وبؤئت في البيداء قبراً منبشا
وفي الموقف الصعب الشديد الذي به ... تخال الجبال الصم عهنا منفشا
__________
(1) ص: سخابا.
(2) الزفن: الرقص، وقد شهد الرسول الحبش يزفنون فلم ينههم؛ وأنجشة كان حادياً للإبل يتغنى بحداثه، وهو الذي قال له الرسول: ((رفقاً بالقوارير)) في حجة الوداع.
(3) تمحش: تحرق.(4/312)
يعطر شعري ذكره فكأنما ... لشعري بالكافور والمسك قد حشا وقال أيضاً وهي من المجانسات الأواخر:
سقى الله ارض الحمى وابلاً ... إذا حل في جوها أمرعا
فصم لنا بين أكنافه ... حبيب أأهملنا أم رعى
وحيا بساحة وادي العقيق ... جناباً خصيب الربى أوسعا
نعمنا به زمنا لم نبل ... بمن هم كيدا بنا أو سعى
فلله سر به مودع ... كساه الجلالة من أودعا
هناك المآرب مقضية ... لمن رامها صامتا أو دعا
فهل لي إلى ربعه عودة ... أجوب الفلا أجرعا أجرعا
فأجرع من مائه نهلة ... رواء ومن لي أن أجرعا
مواطن تجبر قلب الكسير ... وترفع ذا خفية أوضعا
فطوبى لمن نص في قصدها ... الركائب أو نحوها أوضعا وقال أيضا:
فيا رب قد عودت وجهي صيانة ... وأهلي غنى والقلب منك تعففا
فزدني وأهلي من صنيعك نعمة ... تدوم وصني واكف يا خير من كفى
وصلني ولا تقطع بلطف ورحمة ... فلست أبالي إن وصلت بمن جفا وقال رحمه الله تعالى يذكره سيرة نفسه:
سلكت طريق الفقر ظنا بأنني ... أضاهي جنيداً أو أناسب معروفا
وكنت أديبا قبل ذلك شاعرا ... أروق الورى نظماً ونثراً وتأليفا
فهمت أعارض الخليل بن أحمد ... وبرزت في نحوي قياسا وتصريفا
وباحثت في الفقه الأئمة برهة ... وأتقنت في القرآن همزا وتخفيفا
وطارحت في علم الحساب فنلته ... وبينت في الألفاظ همزا وتصحيفا
فصرت نديما لا تمل مجالسي ... حبيبا إلى أعيان عصري مألوفا(4/313)
إلى أن أملت بي من الفضل نفحة ... فأصبحت عن كل الشواغل مصروفا
وفارقت إخوان الصفا متجنبا ... وثقفت نفسي في الرياضة تثقيفا
ودمت على حسن العبادة عاكفا ... وأصبح حسن الظن حولي معكوفا
فأورثني عزا لدى الناس عفتي ... فصرت بأفواه المحبة مرشوفا
فلما أبت إلا النكاح خواطري ... تجشمت أمرا غادر الدمع مذروفا
ولم ار بدا من معاشرة الورى ... فعاشرت قوما لا يغيثون ملهوفا
فأبغضني من كان منهم يحبني ... وأوسعني لوما شديدا وتعنيفا
وأعرض عن ودي حميم وصاحب ... وارجف في (1) الحاسدون الأراجيفا
كأني قد أظهرت للناس بدعة ... وأحدثت للدين الحنيفي تحريفا
على أنني لم أبد للناس صفحتي ... وما زلت في ثوب الصيانة ملفوفا
فما صح لي فقر وما صح لي غنى ... بل ازددت في علم التقلب تعريفا
وعدت أجيل الفكر فيمن أعده ... يكون به ما بي من الضيم (2) مكشوفا
فلم أر لي كالصالحين وسيلة ... ألذ الورى عرفا وأطيب معروفا
رجال إذا ما طبق الأرض حادث ... رموه بصدق العزم فانجاب مكسوفا
أتتهم عليات الأمور مطيعة ... وأضحى بهم قلب المكارم مشغوفا
هم القوم لا يشقى الجليس لديهم ... ولم يعدموا العافين بشرا وتضييفا
هم العروة الوثقى وهم أنجم الهدى ... بهم يحفظ الله المهامه والسيفا
أعزاء محروس الجناب فناؤهم ... تخطف من ناواهم الذل تخطيفا
إذا ظهروا للدهر أورق عوده ... وأصبح مجني المحاسن مقطوفا
وإن هجروا المأنوس أصبح مقفرا ... وإن نزلوا بالقفر تحسبه ريفا
إذا وجدوا في الوقت كانوا طرازه ... وقد طرزوا من قبل ذاك التصانيفا
صفاتهم أسنى من الشمس في الضحى ... وأحسن من در المراسيل مصفوفا
__________
(1) ص: بي في.
(2) ص: الظيم.(4/314)
وقال رحمه الله تعالى يعاتب نفسه:
يا قسوة القلب مالي حيلة فيك ... ملكت قلبي فأضحى شر مملوك
حجبت عني إفادات الخشوع فلا ... يشفيك ذكر ولا وعظ يداويك
وما تماديك من كسب الذنوب ول ... كن الذنوب أراها من تماديك
لكن تماديك من كسب نشأت به ... طعام سوء على ضعفي يقويك
وأنت يا نفس مأوى كل معضلة ... وكل داء بقلبي من عواديك
أنت الطليعة للشيطان في جسدي ... فليس يدخل غلا من نواحيك
لما فسحت بتوفير الحظوظ له ... أضحى مع الدم يجري في مجاريك
واليته بقبول الزور منك فلن ... يوالي الله إلا من يعاديك
ما زلت في أسره تهوين موثقة ... حتى تلفت فأعياني تلافيك
يا نفس توبي إلى الرحمن مخلصة ... ثم استقيمي على عزم ينجيبك
واستدركي فارط الأوقات واجتهدي ... عساك بالصدق أن تحمي مساويك
واسعي إلى البر والتقوى مسارعة ... فربما شكرت يوما مساعيك
حب التكاثر في الدنيا وزينتها ... هي التي عن طلاب الخير تلهيك
لا تكثري الحرص في تطلابها فلكم ... دم لها بسيوف الحرص مسفوك
بل اقنعي بكفاف الرزق راضية ... فكل ما جاز ما يكفيك يطغيك
ثم اذكري غصص الموت الفظيع يهن ... عليك أكدار دنيا لا تصافيك
وظلمة القبر لا تنسي ووحشته ... عند انفرادك عن خل يوازيك
والصالحات ليوم الفاقة ادخري ... في موقف ليس فيه من يواسك
وأحسني الظن بالرحمن مخلصة ... فحسن ظنك بالرحمن يكفيك وقال رحمه الله تعالى وقد عاتبه بعض إخوانه على انقطاعه عن زيارته:
سكوني في بيتي لقلي راحة ... وستر من الله العظيم لحالي
أكف عن الإخوان شرة عثرتي ... وأسلم من قيل وكثرة قال(4/315)
وأحيا عزيزا لا أرى متعرضا ... ورزقي يأتيني بغير سؤال
وإن أنا زرت الناس فالناس فيهم ... نصيح ومذاق وآخر قالي
وإن أنا أكثرت المقام فربما ... رماني إخوان الصفا بملال
وقلبي كالمرآة إن صنته انجلى ... وإلا فبالأنفاس محو صقالي وقال رحمه الله تعالى:
أنا المدنف الجاني وجهل ألجاني ... إليكم فألفاني مكبا (1) على الفاني
فهل يا عظيم الشان لي منك عطفة ... فتصلح لي شاني وإن رغم الشاني وقال أيضا:
ما بين بعدك والتداني ... يا منيتي يفنى زماني
أحيا بقربك تارة ... ويميتني بعد المغاني
ما دام لي منك النعي ... م ولا الضنا مني بفاني
أطمعتني حتى إذا ... ملك الهوى طوعا عناني
أبديت لي منك القلى ... أنى وقد غلقت (2) رهاني
بجمال طلعت التي ... أنوارها تحيي جناني
ومجال أمواه الحيا ... ة على جبينك كالجمان
وبلؤلؤ الثغر الذي ... يفتر عن برق يماني
نعم علي بنظرة ... فيها الشفاء لما أعاني
ما لي بأثقال الهوى ... إن غبت عن عيني يدان وقال رحمه الله وهي من المجانسات الأواخر:
أئمة أهل الحب ما القول في فتى ... يرى حكم من يهواه من حكمه أولى
ويرضى بما يقضيه سراً وجهرة ... فهل واجب في شرعكم هجره أو لا
__________
(1) ص: مكب.
(2) ص: علقت.(4/316)
في من عن المحبوب ليس بصابر ... نهاراً فهل يقوى على بعده حولا
فهل شافع بالوصل منه فلا قوى ... لقلبي بطول الصدر منه ولا حولا
أعبر عن أنوار طلع وجهه ... ببرق سرى من نحو كاظمة ليلا
وأكني بهند عن هواه ولم أشم ... وميضا ولا أحببت هندا ولا ليلى وقال رحمه الله تعالى:
ذهب الشباب وخانني جلدي ... وتمشت الأسقام في جسدي
ورمتني الستون من عمري ... فأصاب رشق سهامها كبدي
أودى الحمام بمن أحب من ال ... غر الحسان ففت في عضدي
وبقيت مسلوب القرين بلا ... عدد أسر به ولا عدد
لله ما وارى الثرى وحوى ... من والد بر ومن ولد
ومن ابن أم مشفق حدب ... وخليل صدق غير ذي فند
كم عاينت عيناي من رجل ... علم لمرتفد ومرتشد
شمس إذا ما المشكلات دجت ... غيث ووجه العام غير ندي
كانوا الهداة لأهل وقتهم ... سلكا بهم في أوضح الجدد
ومضوا وقد خلفت بعدهم ... فرداً أعالج لوعة الكمد
يا رب فاختم لي بخاتمه ال ... حسنى وخذ في شدتي بيدي وقال في بحر الذوبيت:
يا سامري الدجى بذات السمر ... هل عندكما لناشد من خبر
كم يسأل بالحمى ومن يخبره ... عن سر هوى يخفى على ذي نظر
من علم ذا الحمام شدو الشجن ... من هز من الغرام عطف الغصن
من أي صبابة حنين البدن ... ما ذلك إلا لهوى مستتر
يا طالب برء الدنف المشتاق ... هل عندك للديغ من درياق(4/317)
تا لله لقد أعجز رقي الراقي ... من يسحر لبه نسيم السحر
لله فتى مزق ثوب السلوى ... ثم ادرع الصبر لحمل البلوى
ما أظهر من شدة وجد شكوى ... قد باع لذاذة الكرى بالسهر
ما هز البرق سيفه أو ضحكا ... إلا وتذر الحمى ثم بكى
يقفو أثر الغرام أنى سلكا ... إما المأمول أو ذهاب العمر
قد لجج في بحر الهوى واقتحما ... واختار على الصحة فيه السقما
يرضى بقضاء الحب فيما حكما ... إن جار عليه الحب أو لم يجر
يا أعظم منيتي وأقصى أملي ... يا أشهر أدوائي وأخفى عللي
فيك اتسع الخرق وضاقت حيلي ... فاجبر بالوصل ما وهي من عمري
لا فزت مع الجمع بوادي جمع ... بالقصد وخانني وفي الدمع
إن لذ سوى حديثكم في سمعي ... أو راق مال غيركم في بصري
قد كف هوام لساني ويدي ... كم أخضع للعدا وأنتم عددي
أنتم أصل القرح الذي في كبدي ... والبرء بأيديكم (1) وكشف الضرر (2)
أنتم لغزي في كل " ما " أكنيه ... أنتم سر في باطني أخفيه
أنتم معنى المعنى الذي أبديه ... أنتم قصدي أشرت أو لم أشر
لم آت إلى الموسم كي أذكركم ... كالغائب، بل أردت أن أنظركم
ما أصنع بالحج إذا لم أركم ... أنتم حجي وأنتم معتمري
ما قصدي في منى وفي دوحتها ... إلا أرج يفوح في ساحتها
تالله لقد شممت من نفحتها ... من نشركم ريا نسيم عطر
__________
(1) ص: بأيديكم.
(2) ص: الضر.(4/318)
لولا معنى يلوح بين الخيم ... ما عجت ولا وقفت عند العلم
لولا أنتم وحبكم في القدم ... ما سرت على الهول للثم الحجر
أخفيت إشاراتي عن العذال ... بالرند وبانة الحمى والضال
لما قامت شواهد الأحوال ... أخفيت عبارتي عن المعتبر
دق المعنى فحار لب الفهم ... في متضح عن الورى منعجم
كم قصر عنه من بعيد الهمم ... لا يدرك (1) بالحسن ووهم الفكر 576 (2)
ابن أبي خالد الكاتب الاشبيلي
يزيد بن عبد الله بن أبي خالد اللخمي الإشبيلي؛ قال ابن الأبار في " تحفة القادم ": هو صدر من نبهاء إشبيلية وأدبائها، وممن له قدر في منجبيها ونجبائها، وإلى سلفه (3) ينسب المعقل المعروف بحجر أبي خالد، وتوفي بها سنة اثنتي عشرة (4) وستمائة، رحمه الله. وأورد له في فتح المهدية (5) :
كم غادر الشعراء من متردم ... ذخرت عظائمه لخير معظم
تبعا لمذخور الفتوح فإنها ... جاءت له بخوارق (6) لم تعلم
من كل سامية المنال إذا انتمت ... رفعت إلى اليرموك صوت المنتمي
__________
(1) ص: تدرك.
(2) التحفة: 120 والزركشي: 348 ونفح الطيب 4: 55؛ ولم ترد الترجمة في المطبوعة.
(3) ص: سفله.
(4) ص: اثني عشر.
(5) كان فتح المهدية سنة 602.
(6) ص: بحواري.(4/319)
وتوسطت في النهروان بنسبة ... كرمت ففازت بالمحل الأكرم وأورد له أيضاً قوله:
ويا للجواري المنشآت وحسنها ... طوائر بين الماء والجو عوما
إذا انتشرت في الجو أجنحة لها ... رأيت به روضا ونورا مكمما
وإن لم تهجه الريح جاء مصافحا ... فمدت (1) له كفا خضيبا ومعصما
مجاذف كالحيات مدت رؤوسها ... على وجل في الماء كي تروي الظما
كما أسرعت عدا أنامل حاسب ... بقبض وبسط يسبق العين والفما
هي الهدب في أجفان أكحل أوطف ... فهل صبغت من عندم أو بكت دما قال ابن الأبار: أجاد ما أراد في هذا الوصف وإن نظر إلى قول أبي عبد الله ابن الحداد يصف أصطول المعتثم بن صمادح:
هام صرف الردى بهام الأعادي ... أن سمت نحوهم لها أجياد
وتراءت بشركها (2) لعيون ... دأبها ملء جانبيها سهاد
ذات هدب من المجاذيف حاك ... هدب باك لدمعه إسعاد
حمم فوقها من البيض نار ... كل من أرسلت عليه رماد
ومن الخط في يدي كل ذمر (3) ... ألف خطها على البحر صاد قال: وما أحسن قول شيخنا أبي الحسن ابن حريق في هذا المعنى من قصيدة:
وكأنما سكن الأراقم جوفها ... من عهد نوح خشية الطوفان
فإذا رأي الماء يطفح نضنضت ... من كل خرت حية بلسان
__________
(1) ص: فمرت.
(2) التحفة والنفح: بشرعها.
(3) ص: دمر؛ والتصويب عن التحفة.(4/320)
قال: ولم يسبقهم إلى الإحسان وإن سبقهم بالزمان علي بن محمد الإيادي التونسي في قوله:
شرعوا جوانبها مجاذف أتعبت (1) ... شأو الرياح لها ولما تتعب
تنضاع (2) من كثب كما نفر (3) القطا ... طورا وتجتمع اجتماع الربرب
والبحر يجمع بينها فكأنه ... ليل يقرب عقربا من عقرب ومن هذه القصيدة الفريدة في ذكر الشراع:
ولها جناح يستعار يطيرها (4) ... طوع الرياح وراحة المتطرب
يعلو بها حدب (5) العباب مطا ره ... في كل لج زاخر معلولب
يتنزل الملاح منه ذؤابة ... لو رام يركبها القطا لم يركب
وكأنما رام استراقة مقعد ... للسمع إلا أنه لم يشهب (6) وقال أبو عمر (7) القسطلي (8) :
وحال الموج بين بني سبيل ... يطير بهم إلى الغول (9) ابن ماء
أغر له جناح من صباح ... يرفرف فوق جنح من سماء أخذه ابن خفاجة فقال (10) :
__________
(1) ص: أتبعت، والتصويب عن التحفة.
(2) ص والتحفة: تنضاغ.
(3) ص: نقر.
(4) ص: بطيرها؛ والتصويب عن التحفة.
(5) ص: جذب.
(6) ص: يسهب.
(7) ص: عمرو.
(8) أبو عمر القسطلي هو ابن دراج، انظر ديوانه: 323 والنفح 4: 58.
(9) ص: القول.
(10) ديوان ابن خفاجة: 138 والنفح 4: 58.(4/321)
وجارية ركبت بها ظلاما ... يطير من الصباح بها جناح قال ابن الأبار: وقد عملت أنا في ذلك:
يا حبذا من بنات الماء سابحة ... تطفو لما شب أهل النار تطفئه
تطيرها الريح غربانا بأجنحة ال ... حمائم البيض للأشراك ترزؤه
من كل أدهم لا يلفى به جرب ... فما لراكبه بالقار يهنؤه
يدعى غرابا وللفتخاء سرعته ... وهو ابن ماء وللشاهين جؤجؤه 577 (1)
" يزيد بن عبد الملك "
يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، أمير المؤمنين أبو خالد الأموي الدمشقي؛ ولي الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز لست بقين من رجب سنة إحدى ومائة، وله سبع (2) وثلاثون سنة وتوفي بأرض البلقاء، وقيل بعمان، لخمس بقين من شعبان سنة خمس ومائة، وله إحدى وأربعون سنة، وكانت أيامه أربع سنين وشهرا.
وكان طويلا جسيما مدور الوجه، لم يشب، وكان شديد الكبر عاجزا، وهو صاحب حبابة وسلامة، وهما جاريتان (3) شغف بهما، وماتت حبابة
__________
(1) الوزراء والكتاب: 56 وتاريخ الخميس 2: 318 ومرآة الجنان 1: 224 والنجوم الزاهرة 1: 255 وخلاصة الذهب المسبوك: 25 وتاريخ الخلفاء: 268 والروحي: 25 والفخري: 118 والطبري واليعقوبي والمسعودي والبلاذري والأغاني والعيون والحدائق؛ ولم ترد الترجمة في المطبوعة.
(2) ص: سبعة.
(3) ص: جاريتين.(4/322)
فمات بعدها بيسير أسفا عليها ولما ماتت تركها أياما لم يدفنها، وعوتب في ذلك فدفنها، وقيل إنه دفنها ثم نبشها بعد الدفن؛ وكان يسمى يزيد الماجن.
ولما تولى الخلافة أقبل على الشرب والانهماك، وكان يضع حبابة عن يمينه وسلامة عن يساره ثم يشرب إلى أن يسكر وتغنيانه فيطرب ويشق ما عليه ويقول: أطير، أطير؟! فيقولان: إلى من تترك الخلافة؟ فيقول: إليكما.
ولما ولي الخلافة قالت له زوجته: هل بقي لك أمل بعد الخلافة؟ قال: نعم، أن تحصل في ملكي حبابة، وفيها يقول:
أبلغ حبابة سقى ربعها المطر ... ما للفؤاد سوى ذكراكم وطر
إن سار صحبي لم أملك تذكركم ... أو عرسوا بي فأنت الهم والفكر فسكتت عنه، وأنفذت تاجراً اشتراها بمال عظيم وأحضرتها له خلف ستارة وأمرتها بالغناء، فلما سمعها اهتز وطرب وقال: هذا غناء أجد له في قلبي وقعاً فما الخبر؟ فكشفت الستر وقالت: هذه حبابة وهذا غناؤها فدونك وإياها، فغلبت على قلبه من ذلك، ولم ينتفع به في الخلافة.
وقال في بعض أيام خلواته: الناس يقولون إنه (1) لم يصف لأحد يوم كامل، وأنا أريد أن أكذبهم في ذلك، ثم أقبل على لذاته وأمر أن يحجب عن سمعه وبصره كل ما يكره، فبينما هو في صفو عيشه إذ تناولت حبابة حبة رمانة فشرقت بها فماتت، فاختل عقله، وتركها ثلاثة أيام لم يدفنها ثم دفنها ثم نبشها من قبرها، وتحدث الناس في خلعه من الخلافة، ولم يعش بعدها إلا خمسة عشر يوما. وفيها يقول رحمهما الله تعالى وعفا عنهما:
فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى ... فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد (2)
__________
(1) ص: إن.
(2) البيت لكثير عزة، ديوانه: 435.(4/323)
578 - (1)
ابن صقلاب
يزيد بن محمد بن صقلاب، أبو بكر الكاتب من أهل المرية؛ قال ابن الآبار: كان غزلا صاحب إبداع في قوله وأسجاع، مع سراوة وسخاوة، وكانت وفاته سنة تسع عشرة (2) وستمائة. واورد له:
من الناس من يبقى (3) من اللؤم عرضه ... وإن زانه ثوب عليه جديد
ومنهم جواد النفس لو سيل نفسه ... لكان بها طلق الجبين يجود
فذاك الذي تبقى مآثر مجده ... وآثارها في العالمين شهود
فإن عاش فالآمال خالدة به ... وإن مات فالأمداح فيه خلود وقال أيضاً:
أما ورياض من ضميرك ما درت ... غزارة بحر لا ولا بنت راقم
ولا رقمت كف الغمامة بردها ... وقد خلعت فيها جلود أراقم
فللخاطر السيال فيها سحابة ... وللقلم الجاري بها كف راقم
لقد أنعمتني إذ تنسمت عرفها ... على رمق لا يستلين (4) لناقم
وإن جاد يوما بالرضى فهو مازج ... على إثره شهد الرضى بالعلاقم
مسحت بها حر الجوى عن جوانح ... حوت ضعف ما تحويه حرة واقم
__________
(1) الزركشي: 348 والبدر السافر: 236 وتحفة القادم: 127؛ ولم ترد الترجمة في المطبوعة.
(2) ص: عشر.
(3) يبقى: لم يرد منها معجماً سوى القاف.
(4) ص: يستليق.(4/324)
وقال أيضا:
أنا صب وابن صب ... بالعوالي والمعالي
وبناني (1) وجناني ... بهما قد المعالي
فهما إن فسح الله ... مدى العمر معا لي 579 (2)
الراضي ابن عباد
يزيد بن محمد بن عباد (3) ، الراضي ابن المعتمد بن عباد؛ كان قد ولاه أبوه المعتمد الجزيرة الخضراء وعقل رندة إلى أن غلبه الملثمون على الجزيرة ثم حصروه برندة فلم يقدروا عليها لحصانتها، إلى أن حصل أبوه في أسرهم، فحملوه على أن خاطبه (4) بالنزول إليهم اتباعا لرضاه، فنزل برأي أبيه وأخذ منهم عهدا وموثقا، فلما نزل إليهم ذبحوه.
وكان ناظما ناثرا، كتب إليه ابن عمار لما كان في حبس أبيه يسأله الشفاعة عند أبيه فأجاب: " ألان الله لك (5) قلبا صيره غليظا عليك، وعطف عليك من غالبت فيه قوة الله وحوله بقوتك وحولك، فجاذبته رداء ملكه، وجهدت جهدك في نثر سلكه؛ تعلم أن سيدي ومولاي المعتمد
__________
(1) ص: وبناتي.
(2) الزركشي: 348 وقلائد العقيان: 31 (وعنه نفح الطيب 4: 249) والحلة السيراء 2: 70؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.
(3) ص: عبد.
(4) ص: خاطبوه.
(5) كتبت هذه الكلمة في الهامش ولم يبق منها سوى الكاف.(4/325)
- أيد الله سلطانه - إذا أصرم في شيء فلا يعارض:
ومن يسد طريق العارض الهطل ... وطلبت مني الشفاعة إليه فيك، وأنا عنده دون أن أشفع، وذنبك عنده فوق أن يشفع فيه، وبعد: فمن بره الذي أوجب الله علي أن لا أوالي له عدوا، ولا أعادي له وليا:
ولا تبغ من فرع زكي مخالفا ... لأصل فإن الأصل يتبعه الفرع
أغض جفوني عنك ما غض جفنه ... وإن كنت أطويها فينشرها الدمع
وأمنع صدري أن يلم بفكرة ... وفيه لما تشكوه من ألم لذع ومع هذا: فإني أبلغ النفس عذرها في استلطافه لك:
ومبلغ نفس عذرها مثل منجح ... ومن شعره:
مروا بنا أصلا من غير ميعاد ... فأوقدوا نار قلبي أي إيقاد
لا غرو أن زاد في شوقي مرورهم ... فرؤية الماء تذكي غلة الصادي وقال يخاطب أباه وقد نوه بغيره من إخوته:
حنانك إن يكن جرمي قبيحا ... فإن الصفح عن جرمي جميل
وإن عثرت بنا قدم سفاها ... فإني من عثاري مستقيل
ألست بفرعك الزاكي، وماذا ... يرجي الفرع خانته الأصول ووصل أبوه إلى لورقة لمحاربة العدو، وجهز إليه عسكرا وأمر ابنه الراضي أن يتقدم عليه، فاعتذر وأظهر المرض، فتقدم عليه المعتمد بنفسه ولاقى العدو فكانت الدائرة على المعتمد، فحجب عنه وجه رضاه، وكتب إليه بشعر منه:(4/326)
الملك في طي الدفاتر ... فتمثل عن قود العساكر
طف بالسرير مسلماً ... وارجع لتوديع المنابر
وازحف إلى جيش المعا ... رف (1) تقهر الجد المناظر (2)
واضرب بسكين الدوا ... ة مكان ماضي الجد باثر
واقعد فإنك طاعم ... كاس وقل هل من مفاخر فأجابه الراضي شعر منه:
مولاي قد أصبحت كافر ... بجميع ما تحوي الدفاتر
وفللت سكين الدوا ... ة وظلت للأقدام كاسر
وعلمت أن الملك ما ... بين الأسنة والبواتر
هبني أسأت كما ذكر ... ت أما لهذا العتب آخر
هب زلتي لبنوتي ... واغفر فإن الله غافر فقربه وصفح عنه.
580 - (3)
يزيد بن معاوية
يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، أمير المؤمنين أبو خالد؛ ولد سنة خمس أو سنة ست وعشرين
__________
(1) ص: المعازف.
(2) القلائد: المقامر.
(3) البدء والتاريخ 6: 6 وتاريخ الخميس 2: 300 والوزراء والكتاب (صفحات متفرقة) والطبري واليعقوبي والمسعودي وابن الأثير ... الخ، وانظر أيضاً الفخري: 105 والروحي 19 وتاريخ الخلفاء: 224.(4/327)
للهجرة، بويع له بدمشق في شهر رجب سنة ستين للهجرة، وتوفي بدمشق لأربع عشرة (1) ليلة خلت من ربيع الأول سنة أربع وستين، وكان مدة ملكه ثلاث سنين وثمانية أشهر واثنين وعشرين يوما، وصلى عليه ابنه معاوية، وسنه ثماني وثلاثون (2) سنة.
وكان ضخما آدم (3) سمينا مجدورا، وله ديوان لا يصح عنه منه إلا القليل، وقد جمع ديوانه (4) الصاحب جمال الدين علي بن يوسف القفطي وأضاف إليه كل من اسمه يزيد.
وقال الشيخ شمس الدين الذهبي: لما فعل يزيد بأهل المدينة ما فعل، وقتل الحسين رضي الله عنه وإخوته، وأكثر من شرب الخمر وارتكب أشياء منكرة أبغضه الناس وخرج عليه غير واحد ولم يبارك الله تعالى في عمره.
سئل الكيا الهراسي (5) عن يزيد بن معاوية فقال إنه لم يكن من الصحابة لأنه ولد في زمن عمر بن الخطاب؛ وأما قول السلف ففيه قولان: تلويح وتصريح، ولنا قول واحد: التصريح دون التلويح (6) ، وكيف لا يكون كذلك وهو اللاعب بالشطرنج والنرد والمتصيد بالفهود ومدمن الخمر؟!
قيل إن معاوية في بعض الليالي أنهي إليه أن يزيد ولده يشرب، فأتى إليه ليوقع به فوجده يقول:
ألا إن أهنا العيش ما سمحت به ... صروف الليالي والحوادث نوم
__________
(1) ص: عشر.
(2) ص: ثمانية وثلاثين.
(3) ص: آدما.
(4) ص: ديوان.
(5) تجد هذه الفتوى وفتوى الغزالي عند ابن خلكان 3: 287 وما بعدها، وقد أوجز المؤلف في النقل.
(6) ص: التلويح دون التصريح.(4/328)
فقال معاوية: والله لا كنت عليه في هذه الليلة من الحوادث، ثم رجع من حيث أتى.
رجعنا إلى الأصل:
وكتب الكيا فصلا طويلا ثم قلب الورقة وكتب: " لو " مددت ببياض لمددت العنان في مخازي هذا الرجل، وكتب فلان ابن فلان.
وقد أفتى الغزالي رحمه الله تعالى بخلاف ذلك، فإنه سئل عمن صرح بلعن يزيد: هل يحكم بفسقه؟ فأجاب: لا يجوز لعن المسلم أصلا، ومن لعن مسلما فهو الملعون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المسلم ليس بلعان "، وكيف يجوز لعن المسلم ولا يجوز لعن البهائم، وقد ورد النهي عن ذلك، وحرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة بنص النبي صلى الله عليه وسلم؛ ويزيد صح إسلامه، وما صح قتله الحسين رضي الله عنه ولا أمره ولا رضاه بذلك، ومهما لم يصح ذلك منه لا يجوز أن يظن ذلك به، فإن إساءة الظن بالمسلم حرام، وقد قال الله تعالى " اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم " " الحجرات: 12 " وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله حرم من المسلم دمه وماله وعرضه وأن يظن به ظن السوء. ومن زعم أن يزيد أمر بقتل الحسين أو رضي به فينبغي أن يعلم غاية حمقه (1) ، فإن كان من عصره من الأكابر والوزراء والسلاطين لو أراد أن يعلم حقيقة من الذي أمر بقتله أو رضي به أو كرهه لم يقدر على ذلك، وإن كان قد قتل في جواره وزمانه وهو يشاهده، فكيف لو كان في بلد بعيد وزمن بعيد وقد انقضى، فكيف نعلم ذلك في ما انقضى عليه قريب من أربعمائة سنة في مكان بعيد؟ وقد تطرق التعصب في الواقعة فكثرت فيها الأحاديث، فهذا أمر لا تعرف حقيقته أصلا، وإذا لم تعرف وجب إحسان الظن بكل
__________
(1) ابن خلكان: يعلم به غاية حماقة.(4/329)
مسلم، ومع هذا فلو ثبت على مسلم أنه قتل مسلما فمذهب أهل الحق أنه ليس بكافر، والقتل ليس بكفر بل هو معصية، فإذا مات القاتل ربما مات بعد التوبة، والكافر لو تاب من كفره لم تجز لعنته، فكيف بمن تاب عن قتل؟ وكيف نعرف أن قاتل الحسين رضي الله عنه مات قبل التوبة، " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده " " الشورى 25 " فإذن لا يجوز لعن أحد ممن مات من المسلمين، ومن لعنه كان فاسقاً عاصياً لله عز وجل ولو جاز لعنه فسكت لم يكن عاصياً بالإجماع، بل لو لم يلعن إبليس طول عمره لا يقال له في القيامة: لم لم تلعن إبليس، ويقال للاعن: لم لعنت؟ ومن أين عرفت أنه ملعون مطرود؟ والملعون هو المبعود من الله عز وجل، ولك عيب ولا يعرف إلا في من مات كافراً، فإن ذلك علم بالشرع، وأما الترحم عليه فهو جائز، بل هو مستحب، بل هو داخل في قولنا كل صلاة: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، فإنه كان مؤمنا، والله أعلم، كتبه الغزالي.
وحكى ابن القفطي أن يزيد كان له قرد يجعله بين يديه ويكنيه أباقيس، ويقول: هذا شيخ من بني إسرائيل أصاب خطيئة فمسخ، وكان يسقيه النبيذ ويضحك منه، وكان يحمله على أتان، فحمله يوما وجعل يقول:
تمسك أبا قيس بفضل عنانها ... فليس عليها إن هلكت ضمان
فقد سبقت خيل الجماعة كلها ... وخيل أمير المؤمنين أتان وجاء أبا قيس في ذلك اليوم ريح فمال ميتا والأتان، فحزن عليه وأمر بدفنه بعد أن كفنه، وأمر أهل الشام أن يعزوه فيه وأنشأ يقول:
لم يبق قرم (1) كريم ذو محافظة ... إلا أتانا يعزي في أبي قيس
شيخ العشيرة أمضاها وأحملها ... له المساعي مع القربوس والديس
__________
(1) ص: قرماً.(4/330)
لا يبعد الله قبرا أنت ساكنه ... فيه الجمال وفيه لحية التيس ومن شعره:
شربت على الجوزاء كأسا روية ... وأخرى إذا الشعرى العبور استهلت
معتقة كانت قريش تعافها ... فلما استحلوا دم عثمان حلت ومنه:
أقول لصحب ضمت الكاس شملهم ... وداعي صبابات الهوى يترنم
خذوا بنصيب من نعيم ولذة ... فكل وإن طال المدى يتصرم
ولا تتركوا يوم السرور إلى غد ... فرب غد يأتي بما ليس يعلم
ألا إن أهنأ العيش ما سمحت به ... صروف الليالي والحوادث نوم
لقد كادت الدنيا تقول لأهلها ... خذوا لذة، لو أنها تتكلم
وسيارة ضلوا (1) عن القصد بعدما ... تداركهم جنح من الليل مظلم
أناخوا على قوم ونحن عصابة ... وفينا فتى من سكره يترنم
أضاءت لهم منا على البعد قهوة ... كأن سناها ضوء نار تضرم
إذا ما حسوناها أناخوا مطيهم ... وإن مزجت حثوا الركاب ويمموا وقال أيضا:
ولقد طعنت الليل في أعجازه ... بالكاس بين غطارف كالأنجم
يتمايلون على النعيم كأنهم ... قضب من الهندي لم تتثلم
ولقد شربناها بخاتم ربها ... بكرا وليس البكر مثل الأيم
ولها سكون في الإناء ودونه ... شغب يطوح بالكمي المعلم وقال أيضا:
ولي ولها إذا الكاسات دارت ... رقى سحر يحل عرى الهموم
__________
(1) ص: ظلوا.(4/331)
محادثة ألذ من الأماني ... وبث جوى أرق من النسيم وقال أيضا:
وساق أتاني والثريا كأنها ... قلائص قد أعنقن خلف فنيق
وناولني كأسا كأن بنانه ... مخلفة من نورها بخلوق
وقال اغتنم من دهرنا غفلاته ... فعقد وداد الدهر غير وثيق
وإني من لذات دهري لقانع ... بحلو حديث أم بمر عتيق
هما ما هما لم يبق شيء سواهما ... حديث صديق أم عتيق رحيق
إذا شجها الساقي حسبت حبابها ... نجوما (1) تبدت في سماء عقيق ويقال إنه لما أتي برأس الحسين رضي الله عنه صاح بنات معاوية وعيالهم وسمعهم يزيد فذرفت عيناه وقال:
يا صيحة تحمد من صوائح ... ما أهون الموت على النوائح ثم قال: إذا قضى الله أمرا كان مفعولا، كنا نرضى من أهل العراق بدون قتل الحسين. وعرض عليه في من عرض علي بن الحسين رضي الله عنهما فأراد قتله والأمن من غائلته ثم كف وارعوى وقال:
هممت بنفسي همة لو فعلتها ... لكان قليلا بعدها ما ألومها
ولكنني من عصبة أموية ... إذا هي زلت أدركتها حلومها ولما تحقق معاوية أن يزيد يشرب الخمر عز عليه ذلك وأنكر عليه وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر، وإنك تقدر على بلوغ لذتك في ستر؛ فتماسك عن الشرب ثم دعته نفسه لما اعتاده، فجلس على شرابه، فلما استخفه الخمر وداخله الطرب قال يشير إلى أبيه:
__________
(1) ص: نجوم.(4/332)
أمن شربة من ماء كرم شربتها ... غضبت علي؟! الآن طاب لي السكر
سأشرب فاغضب لا رضيت، كلاهما ... حبيب إلى قلبي: عقوقك والخمر 581 (1)
يزيد بن الوليد أمير المؤمنين
يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان؛ لقب الناقص لأنه نقص الناس من أعطائهم، وقيل لقرب مدته، وقيل غير ذلك. ويقال له: " المعتزلي " و " الضال ". وكان أسمر حسن الوجه نحيف الجسم معتدل القد أعرج، وقال المدائني (2) : ناقص الوركين، ولذلك قيل له الناقص.
ولد في الكعبة سنة إحدى وتسعين للهجرة في حياة جده عبد الملك، وبويع له بدمشق يوم الخميس لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة (3) سنة ست وعشرين وائة، وله خمس وثلاثون سنة، وكانت خلافته خمسة أشهر ويومين وتوفي في ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة، ونبشه مروان بن محمد وصلبه.
وكان أبلغ بني أمية، بلغه عن مروان بن محمد أمر فكتب إليه: " أما بعد فإني رأيتك تقدم رجلا وتؤخر أخرى فاعتمد على أيهما شئت "، فقال له مروان: أنا على لقاء العساكر أقوى مني على لقاء هؤلاء الكلمات؛ ثم أذعن ودخل فيما فيه الجماعة.
__________
(1) أخباره في المصادر التاريخية كالطبري واليعقوبي والمسعودي وابن الأثير وابن خلدون ... الخ؛ وانظر البداية والنهاية 10: 11 وتاريخ الخميس 2: 321 والنجوم الزاهرة 1: 126 وتاريخ الإسلام للذهبي 5: 188 والوزراء والكتاب: 69 وتاريخ الخلفاء: 275 وخلاصة الذهب المسبوك: 45 والروحي: 27 والفخري: 122؛ ولم ترد الترجمة في المطبوعة.
(2) ص: المدني.
(3) ص: الآخر.(4/333)
ويزيد هذا هو أول من خرج بالسلاح في العيد؛ يقال إنه مات بالطاعون ودفن بين باب الجابية والباب الصغير، وصلى عليه أخوه إبراهيم، رحمه الله تعالى.
582 - (1)
يعقوب النيسابوري
يعقوب بن أحمد بن محمد النيسابوري اللغوي الأديب الكردي؛ توفي في شهر رمضان سنة أربع وسبعين وأربعمائة، قرأ الأصول على الحاكم أبي سعد ابن دوست، وصحب الأمير أبا الفضل الميكالي، ورأى العميد القهستاني، وقرأ الحديث الكثير على المشايخ، ونسخ الكتب بخطه الحسن، وكان متواضعا يخالط الأدباء وله نظم ونثر وتصانيف وفرائد ونكت وطرف.
وذكره العماد الكاتب في " الخريدة " وقال: إن له من الكتب كتاب " البلغة " وكتاب: " جونة الند " وأورد له من الشعر:
كم من كتاب قد تصفحته ... وقلت في ذهني صححته
ثم إذا طالعته ثانيا ... رأيت تصحيفا فأصلحته ومن شعره:
حلاوة أيام الوصال شهية ... ولكن ليالي الهجر أمررن طعمها
ولي كبد حرى ونفس عليلة ... كليم تولى كلمها البيض كالمها وقال:
__________
(1) الزركشي: 350 وبغية الوعاة: 418 (نقلا عن السياق لعبد الغافر) والبلغة: 286 ودمية القصر: 190 (نشر الطباخ) ؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.(4/334)
وقالوا لي: أبو حسن كريم ... فقلت الميم هاء في العباره
وما لجلاله أرجوه لكن ... رأيت الكلب يرمى بالحجاره وقال:
يرى الناس منه كالمسيح ابن مريم ... وفي ثوبه التمساح أو هو أغدر
أغركم منه تقلص ثوبه ... وذلك حب دونه الفخ فاحذروا 583 (1)
الخازن الشافعي
يعقوب بن سليمان بن داود، أبو يوسف الخازن الإسفراييني؛ سافر " إلى " العراق والشام وسكن بغداد، وتفقه على القاضي أبي الطيب الطبري، وكان خازن الكتب بالنظامية، وهو فقيه فاضل حسن المعرفة بالأصول على مذهب الأشعري، وله معرفة بالأدب، وكان يكبت خطا جيدا، وصنف كتاب " المستظهري " في الإمامة وشرائط الخلافة والسير العادلة، وكتاب " سير الخلفاء " و " محاسن الآداب " و " بدائع الأخبار وروائع الأشعار " وتوفي سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، رحمه الله.
ومن شعره:
إن الذي قسم المعيشة بيننا ... قد خصني بالسعي في الآفاق
متشتتا لا أستقر ببلدة ... في كل يوم أبتلى بفراق ومنه:
__________
(1) الزركشي: 350 وطبقات السبكي 5: 359 والأسنوي 1: 96 وذكره السمعاني في الذيل؛ وهذه الترجمة لم ترد في المطبوعة.(4/335)
لم بنا وهنا فقال سلام ... خيال لسلمى الرفاق نيام
الم وفي أجفان عيني وصارمي ... غراران نوم غالب وحسام
أجيراننا بالخيف سقاكم الحيا ... مراضع در ما لهن فطام
ظعنتم فسلمتم إلى الوجد مهجتي ... كأن قلوب الظاعنين (1) سلام 584 (2)
أبو البشر البندنيجي
اليمان بن أبي اليمان، أبو البشر البندنيجي؛ أصله من الأعاجم من الدهاقين، ولد أكمه لا يرى الدنيا في سنة مائتين، وتوفي سنة أربع وثمانين ومائتين: نشأ بالبندنيجين (3) وحفظ هناك أدبا كثيرا وأشعارا كثيرة، قال: حفظت في مجلس واحد مائة وخمسين بيتا من الشعر بغريبه. وخرج إلى بغداد وسر من رأى ولقي العلماء، وقرأ على محمد بن زياد الأعرابي وسمع منه، ولقي أبا نصر صاحب الأصمعي وهو ابن أخته.
وكان لأبي بشر ضياع كثيرة وبساتين خلفها أبوه فباعها وأنفقها في طلب العلم، ولقي يعقوب ابن السكيت والزيادي والرياشي وقرأ عليهما من حفظه كتبا كثيرة.
ومن تصانيفه كتاب " معاني الشعر " كتاب " العروض " ومن شعره:
أنا اليمان بن أبي اليمان ... أشعر من أبصرت في العميان
__________
(1) ص: الضاعنين.
(2) الزركشي: 350 ونكت الهميان: 312 وبغية الوعاة: 420 ومعجم الأدباء 20: 56؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.
(3) البندنيجين: بلدة في طرف النهروان من ناحية الجبل كانت تعد من أعمال بغداد (ياقوت) .(4/336)
إن تلقني تلق عظيم الشان ... تلاقني أفصح من سحبان في العلم والحكمة والبيان ... ومر يوماً بباب الطاق فسمع صوت قمرية من حانوت خباز فبكى بكاء شديدا وقال لقائده: مل بي إليه، فأقامه عليه فقال: يا خباز، أتبيع هذه؟ قال: نعم، قال: بكم؟ قال: بعشرة دراهم، ففتح منديله فعد له الدراهم ثم أخذ الحمامة فأطلقها وأنشأ يقول:
ناحت مطوقة بباب الطاق ... فجرت سوابق معي المهراق
حنت إلى أرض الحجاز بحرقة ... تسبي فؤاد الهائم المشتاق
تعس الفراق وجذ حبل وتينه ... وسقاه من سم الأساود ساقي
يا ويحه ما باله قمرية ... لم تدر ما بغداد في الآفاق
كانت تفرخ في الأراك وربما ... كانت تفرخ في فروع الساق
فأتى الفراق بها العراق فأصبحت ... بعد الأراك تنوح في الأسواق
إني سمعت حنينها فابتعتها ... وعلى الحمامة جدت بالإطلاق
بي مثل ما بك يا حمامة فاسألي ... من فك أسرك أن يفك وثاقي ومن شعره:
فديوان الضياع بفتح ضاد ... وديوان الخراج بغير جيم
إذا ولي ابن عباس وموسى ... فما أمر الإمام بمستقيم(4/337)
585 - (1)
الحافظ اليغموري
يوسف بن أحمد بن محمود بن أحمد، الحافظ جمال الدين اليغموري أبو المحاسن الأسدي الدمشقي؛ ولد في حدود الستمائة، وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وسبعين وستمائة، سمع الكثير بدمشق والموصل ومصر والإسكندرية، وعني بالحديث وتعب وحصل وكتب الكثير من الحدي والأدب، وكان له فهم ومعرفة وإتقان ومشاركة في الآداب والتواريخ، وله مجاميع حسنة. وتوفي عند شهاب الدين ابن يغمور، وكان يصحب والده.
كتب شهاب الدين ابن الخيمي إلى الحافظ اليغموري، وكانا أرمدين:
أبثك يا خليل أن عيني ... غدت رمداء تجري مثل عين
حديث أنت تعرفه يقينا ... لأنك قد رمدت وأنت عيني فأجاب الحافظ:
كفاك الله ما تشكو وحيا ... محاسن مقلتيك بكل زين
فإني من شفائك ذو يقين ... لأنك قد شفيت وأنت عيني ومن شعر الحافظ:
رجع الود على رغم الأعادي ... وأتى الوصل على وفق المراد
__________
(1) الزركشي: 351 والبدر السافر: 237 وقال فيه: ((صحب الأمير ابن يغمور ولازمه فقيل له اليغموري، وينعت بالحافظ، سمع الكثير من أحمد بن سلمان بن الأصفر ومسمار بن العويس وجماعة)) وفاته على التحديد بالمحلة ليلة الأربعاء حادي عشرين شهر ربيع الآخر سنة 637؛ وانظر النجوم الزاهرة 7: 247 وذكر أنه يعرف ب؟ ((ابن الطحان)) وهو تكريتي الجد موصلي الأب دمشقي المولد محلي الوفاة؛ وانظر أيضاً ابن خلكان 6: 250 ومقدمة نور القبس؛ ولم ترد الترجمة في المطبوعة.(4/338)
ما على الأيام ذم بعدها ... كفر القرب إساءات البعاد وقال:
أنا مرآة فإن أبصرتم ... حسنا أنتم بها ذاك الحسن
أو تروا ما ليس يرضيكم فقد ... صدئت أن لم تروها من زمن 586 (1)
علم الدين القناوي
يوسف بن أحمد بن إبراهيم، علم الدين الخطيب القناوي الشافعي الأديب؛ كان من الرؤساء الأعيان الكرماء الأجواد الأذكياء، وكانت له معرفة جيدة بحل الألغاز ونظم منها أشياء كثيرة، وتوفي سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، رحمه الله.
وله لغز في " لابس " (2) ، البيت الثاني منه:
يبين إن صحف مع قول لا ... وهو إذا صحفته " لا يبين " وله لغز في مغني:
ما اسم إذا عكسته ... يطرب إن سمعته
ينعم بالوصل متى ... صحف ما عكسته وله لغز في زغل:
وما لغز إذا فتشت شعري ... تراه مسطرا فيه مسمى
__________
(1) الزركشي: 351 والدرر الكامنة 5: 221 والطالع السعيد: 715؛ ولم ترد الترجمة في المطبوعة.
(2) ص: لانس.(4/339)
وإن تعكسه كان من التحري ... إذا حققته في البير يرمي
وفاعله إذا نموا عليه ... فيخشى أن تزل يداه حتما 587 (1)
الحافظ ابن بكار
يوسف بن الحسن بن بدر بن الحسن بن مفرج بن بكار، الحافظ المفيد الإمام السيد شرف الدين النابلسي الأصل الدمشقي الشافعي؛ ولد سنة ثلاثة وستمائة، وتوفي سنة إحدى وسبعين وستمائة. سمع من ابن البن وغيره، ورحل وعني (2) بهذا الشان، ونسخ بنفسه وبالأجرة، وخطه طريقة مشهورة حلوة، وخرج لنفسه " الموافقات " في خمسة أجزاء، وحدث بدمشق والإسكندرية والقاهرة؛ روى عنه الدمياطي وابن الخباز (3) وابن العطار والكندي، وكان ثقة حافظا متقنا جيد المذاكرة جيد النظم حسن الديانة ذا عقل ووقار، ولي مشيخة دار الحديث النورية بدمشق.
ومن شعره رحمه الله تعالى:
بحق خضوعي في الهوى وتملقي ... وفيض دموعي والضنا وتقلقي
وشدة وجدي والغرام ولوعتي ... وفرط هيامي فيكم وتمزقي
__________
(1) الزركشي: 351 وعبر الذهبي 5: 297 وتذكرة الحفاظ: 1462 والشذرات 5: 335 والنجوم الزاهرة 7: 239 والدارس 1: 110 ومرآة الجنان 4: 172 والسلامي: 235؛ وقد ورد اسمه في أكثر المصادر ((يوسف بن الحسن)) وفي ص والزركشي يوسف بن الحسين؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.
(2) ص: وعين.
(3) ص: الجنار.(4/340)
بعزكم يا سادتي بتذللي ... بعظم حنيني نحوكم وتشوقي
بوقفتنا يوم اجتمعنا برامة ... على يمنة الوادي، بعهدي بموثقي
أجيروا فؤادي من جفاكم وأسعفوا ... بقرب ولا تصغوا لزور منمق
أتاكم به الواشي وما خلت أنه ... غداة سعى بي عندكم بمصدق
تعلقكم قلبي قديما من الصبا ... وما حال عن ذاك الهوى والتعلق
وها هو يرجو أن يراكم لعله ... يبثكم ماذا لقي حين نلتقي وقال:
سلوا عذبات الرند أو نسمة الصبا ... إلى غيركم هل مال قلبي أو صبا
فعندهما أخبار كل متيم ... محب لكم ما حال من زمن الصبا
يحن إليكم كلما لاح بارق ... ويشتاقكم يا ساكني ذلك الخبا
ويرتاح نحو المنحنى وطويلع ... ويهفو إلى تلك المعالم والربى وقال أيضاً:
رأى البرق نجديا فجن بمن يهوى ... ولاحت له نار فحن إلى حزوى
وهبت له من جانب الغور نفحة ... أتته بريا ساكني السفح من رضوى
محب لهم مغرى بهم كلف جو ... إلى اللوم فيهم ما أصاخ ولا ألوى
يناجي نسيم الصبح عند هبوبه ... بأخبار ذاك الحي يا طيبها نجوى
ويشكو إليه ما يلاقي من الهوى ... كذا كل صب يستريح إلى الشكوى
فيا راحة الروح التي شغفت بهم ... ويا منتهى المطلوب والغاية القصوى
رويتم حديث الصد عال مسلسل (1) ... فلم ذا أحاديث التواصل لا تروى
مرابع ذكراكم بقلبي أواهل ... ومغنى التسلي عن محبتكم أقوى
أرى كل خلق يدعيكم وينتمي ... إليكم ولكن من تصح له الدعوى
سلام على أهل الغرام جميعهم ... وخفف عنهم ما يلاقوا من البلوى (2)
__________
(1) الزركشي: مسلسلا.
(2) الصواب: ما يلاقون من بلوى.(4/341)
عذاب الهوى مستعذب عند أهله ... وغلتهم فيه مدى الدهر لا تروى
سكارى وما دارت على القوم خمرة ... سوى أن خمر الحب طرحهم نشوى وقال أيضا:
أهيل الحمى والنازلين برامة ... ومن حل تلك الدار بالأجرع الفرد
أحن إليكم كل حين ولحظة ... وتطلبكم عيني وإن كنتم عندي
وفي القلب ما فيه من الشوق والجوى ... سلام على نجد ومن حل في نجد
وأذكركم والدار قد نزحت بنا ... فأسبل دمعي كالجمان على خدي
فيا أهل ذياك الحمى وحياتكم ... يمين وفي لا يحول عن العهد
هواي الهوى المعهود ليس بزائل ... وإن بعدت داري، ووجدي لكم وجدي
مقيم على رعي العهود وحفظها ... فيا ليت علمي كيف حالكم بعدي
ترى بعد هذا البعد يرجى لقاؤنا ... ويجمعنا ظل لدى البان والرند
وأشرح ما قاسيته ولقيته ... فيا نيل آمالي بذاك ويا سعدي وقال أيضا:
شفيعي إليكم ذلتي وخضوعي ... وفرط غرامي فيكم وولوعي
وشدة أشواقي إليكم وحرقتي ... عليكم وأنفاسي وفيض دموعي
جنابكم لي موطن وحماكم ... ملاذ وأنتم مفزعي ونزوعي
تقضى زماني في هواكم فلا أرى ... سواكم إليه موئلي ورجوعي وقال أيضاً:
سلام عليكم شطت الدار بيننا ... على أن ذكراكم قريب إلى قلبي
إذا العين لم تلقاكم " وتراكم " (1) ... ففكري يلقاكم على البعد والقرب
__________
(1) بياض في ص، وأكملته من الزركشي.(4/342)
588 - (1)
جمال الدين الشاعر
يوسف بن سليمان بن أبي الحسين (2) بن إبراهيم، الفقيه الأديب الشاعر الخطيب الصوفي الشافعي، جمال الدين؛ سألته عن مولده فقال لي: سنة ثلاث وتسعين وستمائة بنابلس، ونشأ بدمشق وقرأ بها الأدب على الشيخ تاج الدين المني والنحو على الشيخ نجم الدين القحفازي وغيره. وحج سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة، ثم حج في سنة سبع وأربعين وسبعمائة عقيب موت ولده سليمان، فإنه حصل له عليه وجد عظيم وألم كثير فما رأى لنفسه دواء غير الحج.
وهو شاعر مجيد في المقاطيع يجيد نظمها ومعناها، وله بديهة مطاوعة وارتجال مسرع، لذيذ المفاكهة جميل الود حسن الملقى؛ توفي رحمه الله تعالى في ثامن عشر ربيع الآخر سنة خمسين وسبعمائة " ولم " ينقطع (3) غير يوم واحد.
أنشدني لنفسه:
أسر الفؤاد ودم عيني أطلقا ... والوجد جده وصبري مزقا
حلو الشمائل ما أمر صدوده ... متنعم قد لذ لي فيه الشقا
كملت محاسنه فلو أهدي السنا ... للبدر عند كماله ما أشرقا
يا عاذلي أقصر وتب عما مضى ... ما أنت في عذل المحب موفقا
يا فاتر الأجفان أحرقت الحشا ... مني فمت صبابة وتشوقا
يمضي الزمان وما أزور دياركم ... من خشية الرقباء عند الملتقى
__________
(1) الزركشي: 352 والدرر الكامنة 5: 229؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.
(2) الزركشي والدرر: الحسن.
(3) ينقطع: كتبت في الحاشية، وما قبلها مطموس.(4/343)
وأريد أسبح في الدموع عليكم ... فأخاف من ضعف القوى أن أغرقا
أما غرامي في هواك فإنه ... حي ولكن في السلو لك البقا وله رحمه الله تعالى موشح:
زائر بالخيال ... زائل عن قربي
باهر بالجمال ... ناهر بالعجب
أي غصن نضير ... نزهة للنظر
لحظ عيني خفير ... منه ورد الخفر
يا له من غرير ... في هواه غرر
ساحر بالدلال ... ساخر بالصب
فائق في الكمال ... لائق بالحب
بشذا المسك فاح ... ثغر هذا الغزال
باسم عن أقاح ... أو فريد اللآل
رد نور الصباح ... كظلام الليال
ريقه حين جال ... في لماه العذب
صرت بين الزلال ... والهوى في كرب
ذو قوام رطيب ... منه تجني الحرق
رام ظلم القضيب ... فاشتكى بالورق
فتثنى الحبيب ... ورنا بالحدق
سل بيض النصال ... من سواد الهدب
والعوالي أمال ... بالقوام الرطب
لو رأته القسوس ... حسبته المسيح(4/344)
وهو يحيى النفوس ... بالكلام الفصيح
ما تبين الشموس ... عند هذا المليح
خل عنك الغزال ... يرتعي في الكثب
ثم قل للهلال ... يحتجب بالغرب
ثغره في بريق ... إذ جلاه بريق
كل حر رقيق ... للسماه الرقيق
خده والشقيق ... ذا لهذا شقيق
قد بدا فيه خال ... كسواد القلب
إذ غدا في اشتعال ... فوق نار الحب
ما لصب صبا ... في هواه نصيب
منه قبل الصبا ... قد علاني المشيب
يا نسيم الصبا ... جز بأرض الحبيب
واجتهد أن تنال ... منه طيب القرب
ثم عد بالنوال ... من هدايا حبي
جائر قد ظهر ... عدله في القوام
في الوجود اشتهر ... مثل بدر التمام
فيه يحلو السهر ... ويمر المنام
صد تيهاً وقال ... وهو يبغي حربي
لحظ عيني نبال (1) ... قلت آه وا قلبي وقال في صفة فرس أدهم:
وأدهم اللون فات البرق وانتظره ... فغارت الريح حتى غيبت أثره
__________
(1) ص: ينال، والتصويب عن الزركشي.(4/345)
فواضع رجله حيث انتهت يده ... وواضع يده أني رمى بصره
سهم تراه يحاكي السهم منطلقاً ... وما له غرض مستوقف خبره
إذا توقل قطب الدين صهوته ... أبصرت ليلاً بهيماً حاملاً قمره وقال أيضاً:
قد مضت ليلة الوصال بحال ... قصرت عن محصل الأزمان
أخبرتنا أن الزمان جميعاً ... قد تقضي في ليلة الهجران وقال:
يعيبون من أهوى بكسرة جفنه ... وعندي بهذا (1) العيب قد تم حسنه
فقلت وما قصدي سوى سيف لحظه ... إذا دام فتك السيف يكسر جفنه وقال في دولاب الصاحب شمس الدين:
ودولاب يحن بجبس عود ... على وتر يساس بغير حس
فلما أن بدت منه نجوم ... حكى فلكاً يدور بسعد شمس وقال أيضاً في زهر الخشخاش:
ونوار خشخاش بكرنا نزوره ... وقد دهش الرائي بحسن
تغني به الشحرور من فرط شجوه ... فنقط بالياقوت ملء دفوفه وقال:
كأن السحاب الغر لما تجمعت ... وقد فرقت عنها الهموم بجمعها
نياق ووجه الأرض قعب وثلجها ... حليب ومر الريح حالب ضرعها وقال:
كأن ضوء البدر لما بدا ... ونوره بين غضون (2) الغصون
__________
(1) ص: هذا.
(2) ص: غصون.(4/346)
وجه حبيب زار عشاقه ... فاعترضت من دونه الكاشحون فقال زين الدين الصفدي رحمه الله تعالى:
نظرت في الشهب وقد أحدقت ... بالبدر منها في الدياجي عيون
والروض يستحلي سنا نوره ... فتحسد الأرض عليه الغصون
وكلما صانته أوراقها ... نازعها الريح فلاح المصون
فقلت حتى البدر لم يخله ... ريب الليالي في السما من يعون ونظم الشيخ صلاح الدين الصفدي حرسه الله تعالى:
كأنما الأغصان لما انثنت ... أمام بدر التم في غيهبه
بنت مليح خلف شباكها ... تفرجت منه على موكبه ونظم أيضاً:
وكأنما الأغصان يثنيها الصبا ... والبدر من خلل يولح ويحجب
حسناء قد عامت وأرخت شعرها ... في لجة والموج فيها يلعب وكتب الشيخ صلاح الدين الصفدي إلى جمال الدين المذكور ملغزاً في مكوك الحائك:
أيا من فاق في الآداب حتى ... أقر بفضله الجم الغفير
وأحرز في المنى قصبات سبق ... فدون محله الفلك الأثير
وأطلع في سماء النظم زهراً ... يلوح فمن زهير أو جرير
قطعت أولي النهى وافضل بحثاً ... فمالك في مناظرة نظير
إذا أعربت في الإعراب وجهاً ... فكم ثلجت بما تدبي صدور
وإن قيل المعمى والمورى ... فذهنك ناقد فيه بصير
وها أنا قد دعوتك للتحاجي ... لأنك في الحجا طب خبير
فما ساع يرى في غير أرض ... ولا هو في السما مما يطير(4/347)
تراه مردداً ما بين طرد ... وعكس قصرت عنه الطيور
ويلطم كلما وافى مداه ... ويسحب وهو مغلول أسير
وتنزع كل آونة حشاه ... ويلقى وهو للبلوى صبور
ويرشف بعد ذلك منه ثغر ... ولا عذب هناك ولا نمير
إذا ما سار أثر في خطاه ... طرائق دونها الروض النضير
يجر إذا سعى ذنباً طويلاً ... ويفتر حين يعلوه قصور
ويسمع منه عند الجري صوت ... له في صدره منه خرير
قليل المكث كم قد بات تطوى ... له من شقة لما يسير
ويفترش الحرير ويرتديه ... غطاء وهو مع هذا فقير
وتظهر في جوانبه نجوم ... وفي أحشائه فلك يدور
فأوضح ما ذكرت فغير خاف ... على مجموع فضلك ما أشير
ودم في نعمة وسعود جد ... وعز ما سقى روضاً (1) غدير فكتب جمال الدين الجواب:
أوجهك لاح أم قمر منير ... وذكرك فاح أم نفح العبير
طلعت طلوع شمس الصحو صبحاً ... على فرس حكى فلكاً يسير
ويا لله روض ضمن طرس ... زهير في جوانبه جرير
رميت به إلي فقلت هذا ... شاع الشمس مأخذه عسير
أراني رمزه الوضاح حسناً ... ينبهني على أني حقير
وأني ملحق بأقل صنف ... إذا ما حقق الجم الغفير
فمذ صحفته فكري مكوك ... ومذ نشرته باعي قصير
هو المأسور بالماسور لكن ... له في أسره مرح كثير
نشيط أيد ويعاد طوعاً ... بخيط متنه واه طرير
__________
(1) ص: روض.(4/348)
يراع لأن مهجته يراع ... له في الجوف من خوف صفير
يحور إلى يمين من شمال ... وما يعيا بذا لكن يخور
غدا يسعى بأربعة سراع ... وليس لمشيه بهم نظير
يخالف بين رجليه فيجري ... وترفعه يداه فيستطير
له نول يسير لكل حي ... وميت منه إحسان كثير
إذا أسدى إليه الخير مسد ... جزاه عليه وهو بذا قدير
كذاك صفاتك الحسنى ولكن ... بدأت تطولاً وبنا قصور
فغفراً ثم ستراً ثم قصراً ... فأين الثمد والبحر الغزير توفي جمال الدين المذكور رحمه الله تعالى " ... " (1) .
589 - (2)
مهمندار العرب
يوسف بن سيف الدولة بن زماخ بالزاي والميم المشددة والخاء المعجمة بعد الألف الحمداني المهمندار؛ شيخ متجند، قال الشيخ أثير الدين: أنشدني بدر الدين المهمندار المذكور لنفسه:
وليلة مثل عين الظبي وهي معي ... قطعتها آمناً من يقظة الرقبا
أردفته فوق دهم الليل مختفياً ... والصبح يركض خلفي خيله الشهبا
حتى دهاني وعين الشمس فاترة ... وقد جذبت بذيل الليل ما انجذبا
__________
(1) كذا وردت هذه العبارة غير تامة، وقد ذكر تاريخ وفاته في أول الترجمة.
(2) الزركشي: 354 والبدر السافر: 247 (يوسف بن أبي المعالي بن زماج بن حمدان التغلبي المضصري المنعوت بالبدر؛ وعد من تصانيفه: كتاب في الأنساب. كتاب في البديع سماه ((الايات البينات)) ) والدرر الكامنة 5: 231 وقال إنه مات على رأس القرن.(4/349)
ما هي بأول عادات الصباح معي ... ليل الشباب بصبح الشيب كم هربا وقال: أنشدني لنفسه:
فلا تعجب لحسن المدح مني ... صفاتك أظهرت حكم البوادي
وقد تبدي لك المرآة شخصاً ... ويسمعك الصدا ما قد تنادي وقال: أنشدني لنفسه:
ما شيمة العرب العرباء شيمتكم ... ولا بهذا عرفن الخرد الغيد
كانت سليمى ولبنى والرباب إذا ... أزمعن هجراً أتتهن الأناشيد
ودار بينهما فحوى معاتبة ... أرق مما أراقته العناقيد
وآفة الصب مثل يأ، يبث جوى ... لمن يحب ولا يثني له جيد وقال لما خاض الملك الظاهر الفرات يمدحه ويصف الوقعة (1) :
لو عاينت عيناك يوم نزالنا ... والخيل تطفح في العجاج الأكدر
وسنا الأسنة والضياء من الظبا ... كشفا لأعيننا قتام العثير
وقد اطلخم الأمر واحتدم الوغى ... وهي الجبان وساء ظن المجتري
لرأيت سداً من حديد ما يرى ... فوق الفرات وفوقه نار تري
ورأيت سيل الخيل قد بلغ الزبى ... ومن الفوارس أبحراً في أبحر
طفرت وقد منع الفوارس مدها ... تجري ولولا خيلنا لم تطفر
حتى سبقنا أسهماً طاش لنا ... منهم إلينا بالخيول الضمر
لم يفتحوا للرمي منهم أعيناً ... حتى كحلن بكل لدن أسمر
فتسابقوا هربً ولكن ردهم ... دون الهزيمة رمح كل غضنفر
ملأوا الفضاء فعن قليل لم ندع ... فوق البسيطة منهم من مخبر
سدت علينا طرقنا قتلاهم ... حتى جنحنا للمكان الأوعر
__________
(1) قد مرت طائفة من هذه الأبيات قبلا في ترجمة الظاهر بيبرس 1: 239.(4/350)
ما كان أجرى خيلنا في إثرهم ... لو أنها برءوسهم لم تعثر
من كل أشهب خاض في بحر الدما ... حتى بدا لعيوننا كالأشقر
كم قد فلقنا صخرة من صرخة ... ولكم ملأنا محجراً من محجر
وجرت دماؤهم على وجه الثرى ... حتى جرت منها مجاري النهر
والظاهر السلطان في آثارهم ... يذري الرؤوس بكل عضب أبتر
ذهب العجاج مع النجيع بصقله ... فكأنه في غمده لم يشهر
إن شئت تمدحه فقف بازائه ... مثلي غداة الروع وانظم وانثر وكتب إليه ناصر الدين ابن النقيب:
أيوسف بدر الدين والحسن كله ... ليوسف يعزي إذ إلى البدر ينسب
أتيت أخيراً غير أنك أول ... تعد من الآحاد شعراً وتحسب
وأحسن ما في شعرك الحر أنه ... به ليس يستجدي ولا يتكسب توفي المذكور بعد الثمانين والستمائة، رحمه الله تعالى.
590 - (1)
محيي الدين ابن الجوزي
يوسف بن عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي؛ هو الصاحب العلامة محيي الدين ابن الإمام جمال الدين ابن الجوزي الواعظ البغدادي الحنبلي أستاذ دار أمير المؤمنين المستعصم بالله؛ ولد سنة ثمانين وخمسمائة، وتوفي مقتولاً
__________
(1) الزركشي: 354 وذيل ابن رجب 2: 258 والشذرات 5: 286 وعبر الذهبي 5: 237 وذيل مرآة الزمان 1: 332 والنجوم الزاهرة 7: 66 والبداية والنهاية 13: 203 والدارس 2: 62 وابن خلكان 6: 247؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.(4/351)
سنة ست وخمسين وستمائة.
تفقه وسمع الكثير، وكان إماماً كبيراً وصدراً معظماً، عارفاً بالمذهب كثير المحفوظ حسن المشاركة في العلوم، مليح الوعظ حلول العبارة، ذا سمت ووقار وجلالة وحرمة وافرة، درس وأفتى وصنف، ورسول به إلى الملوك، ورأى من العز والإكرام والاحترام من الملوك شيئاً كثيراً، وكان محبباً إلى الناس، ولي الأستاذ دارية بضع عشرة (1) سنة.
قال الدمياطي: أجازني جميع مصنفات أبيه، وأجازني بجائزة جليلة من الذهب.
قال الشيخ شمس الدين: ضربت عنقه بمخيم التتار هو وأولاده تاج الدين عبد الكريم وجمال الدين المحب وشرف الدين عبد الله في شهر صفر سنة ست وخمسين.
وكان محتسب بغداد ومدرس المستنصرية للحنابلة، وكان إذا سافر استناب ولده في التدريس والحسبة؛ توفي والده وله سبع عشرة (2) سنة، فأذن له بالجلوس للوعظ على قاعدة والده، وخلع عليه الخليفة القميص والعمامة، وجعل على رأسه طرحة، وحضر يوم الجمعة في حلقة والده بجامع القصر وعنده الفقهاء للمناظرة، ونودي له في الجامع بالجلوس، فحضره الخلائق وتكلم فأجاد، ثم أذن له في الجلوس بباب بدر الشريف (3) في بكرة كل يوم ثلاثاء، فبقي على ذلك مدة.
ولما أقام عسكر الشام في أيام الناصر ابن العزيز على تل العجول قبالة عسكر مصر وتجاوزت مدة إقامتهم السنة، وأشاعوا الناس أن الباذرائي رسول الخليفة واصل يصلح بين الفريقين فأبطأ وكثرت الأقاويل في ذلك، فقال شهاب الدين غازي ابن إياز المعروف بابن المعمار أحد الأجناد المقاردة،
__________
(1) ص: بضعة عشر.
(2) ص: عشر.
(3) الشريف: كذا في ص.(4/352)
وكان حاجب ابن يغمور:
يذكرنا زمان الزهد ذكرى ... زمانه اللهو في تل العجول
ونطلب مسلماً يوري حديثاً ... صحيحاً من أحاديث الرسول واختلف الأقاويل أن محيي الدين ابن الجوزي يصل رسولاً من الخليفة وأبطأ حضروه فقال صلاح الدين الأربلي:
قالوا الرسول أتى وقالوا إنه ... ما رام يوماً عن دمشق نزوحا
ذهب الزمان وما ظفرت بمسلم ... يروي الحديث عن الرسول صحيحا 591 (1)
الشيخ جمال الدين المزي
يوسف بن الزكي عبد الرحمن (2) بن يوسف بن عبد الملك بن أبي الزهر، الشيخ الإمام العالم العلامة حافظ العصر، ومحدث الشام ومصر، جمال الدين أبو الحجاج القضاعي الكلبي المزي، الحلبي المولد، خاتمة الحفاظ، نافذ (3) الأسانيد والألفاظ. مولده بظاهر حلب في عاشر ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وستمائة، وطلب الحديث في أول سنة خمس وسبعين وهلم جرا وإلى آخر وقت، لا يفتر ولا يقصر من الطلب والاجتهاد والرواية. توفي في ثاني عشر صفر سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، ودفن بمقابر الصوفية.
__________
(1) الزركشي: 354 والدرر الكامنة 5: 233 والنجوم الزاهرة 10: 76 وفهرس الفهارس 1: 107 وتذكرة الحفاظ: 1498 والشذرات 6: 136 والرد الوافر: 128 والبداية والنهاية 14: 191 وطبقات السبكي 6: 251 وذيل العبر: 229 والدارس 1: 35 والأسنوي 2: 464؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.
(2) ص: الزكي بن عبد الرحمن.
(3) كذا في ص.(4/353)
سمع أصحاب ابن طبرزد والكندي وابن الحرستاني وحنبل، وسمع الكتب الأمهات الستة والمعجم الكبير تاريخ الخطيب والنسب لابن الزبير و " السيرة " و " الموطأ " من طرق، والزهد والمستخرج على مسلم و " الحلية " و " السنن " للبيهقي و " دلائل النبوة " وأشياء يطول ذكرها. ومن الأجزاء ألوفاً، ومشيخته نحو الألف.
حفظ القرآن الكريم وعني باللغة وبرع فيها وأتقن النحو والتصريف. ولما ولي دار الحديث الأشرفي تمذهب للشافعي وأشهد عليه بذلك. وكان فيه حياء وسكينة وحلم واحتمال وقناعة واطراح تكلف وترك التجمل والتودد والانجماع عن الناس وقلة الكلام إلا أنه يسأل فيجيب ويجيد، وكلما طالت مجالسة الطالب له ظهر له فضله. وكان لا يتكثر بفضائله، كثير السكوت لا يغتاب أحداً. وكان معتدل القامة مشرباً بحمرة قوي التركيب متع بحواسه وذهنه. وكان قنوعاً غير متأنق في ملبس أو مأكل، يصعد إلى الصالحية وغيرها ماشياً وهو في عشر التسعين. وكان يستحم بالماء البارد في الشتاء. وكان قد امتحن بالمطالب (1) وتتبعها فيعثر به من الشياطين جماعة فيأكلون ما معه، ولا يزال في فقر لأجل ذلك.
وأما معرفة الرجال فإليه تشد الرحال، فإنه (2) كان الغاية وحامل الراية. ولما ولي دار الحديث قال الشيخ تقي الدين: لم يل (3) هذه المدرسة من حين بنائها وإلى الآن أحق منه بشرط الواقف، وقد وليها جماعة كبار مثل ابن الصلاح ومحيي الدين النواوي وابن الزبيدي، لأن الواقف قال: فإن اجتمع من فيه الرواية ومن فيه الدراية قدم من فيه الدراية؛ قال الشيخ شمس الدين: لم أر أحفظ منه، ولم ير (4) هو مثل نفسه. قال الشيخ شمس الدين:
__________
(1) المطالب: الأموال الدفينة من كنوز أو ركاز.
(2) ص: فإن.
(3) ص: يلي.
(4) ص: يرى.(4/354)
لم يسألني ابن دقيق العيد إلا عنه.
وكان قد أغتر في شبيبته وصحب عفيف الدين التلمساني، فلما تبين له مذهبه هجره وتبرأ منه.
صنف كتاب " تهذيب الكمال " في أربعة عشر مجلداً، كشف به الكتب القديمة في هذا الشأن، وسارت به الركبان، واشتهر في حياته، وألف كتاب " أطراف الكتب الستة " في تسعة أسفار.
قال الشيخ شمس الدين: قرأت بخط الحافظ فتح الدين ابن سيد الناس: ووجدت بدمشق الحافظ المقدم، والإمام الذي فاق من تأخر وتقدم، أبا الحجاج المزي: بحر هذا العلم الزاخر، القائل من رآه: كم ترك الأوائل للأواخر، أحفظ الناس للتراجم، وأعلمهم بالرواة من أعارب وأعاجم، لا يخص بمعرفته مصراً دون مصر، ولا ينفرد عليمه بأهل عصر دون عصر، معتمداً آثار السلف الصالح، مجتهداً فيما نيط به البيت حفظ السنة من المصالح، معرضاً عن الدنيا وأشباهها، مقبلاً على طريقته التي أربى بها على أربابها، لا يبالي ما ناله من الأزل (1) ، ولا يخلط جده بشيء من الهزل، وكان بما يضعه بصيراً، وبتحقيق ما يأتيه جديراً، وهو في اللغة إمام، وله بالقريض إلمام. وكنت أحرص على فوائده لأحرز منها " ما " أحرز، وأستفيد من حديثه الذي إن طال لم يملل وإن أوجز وددت أنه لم يوجز، رحمه الله تعالى.
__________
(1) الضيق والشدة(4/355)
(1) 592
سبط ابن الجوزي
يوسف بن قزغلي بالقاف والزاي والغين المعجمة واللام الإمام المؤرخ الواعظ شمس الدين، أبو المظفر التركي البغدادي سبط الشيخ الإمام جمال الدين، نزيل دمشق. ولد سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وتوفي رحمه الله تعالى سنة أربع وخمسين وستمائة.
سمع من جده، وسمع بالموصل ودمشق من جماعة، وكان إماماً فقيهاً واعظاً وحيداً في الوعظ، علامة في التاريخ والسير، وافر الحرمة، محبباً إلى الناس، حلو الوعظ؛ قدم دمشق وهو ابن نيف وعشرين سنة ونفق على أهلها، وأقبل عليه أولاد الملك العادل، وصنف في الوعظ والتاريخ.
وكان والده قزغلي من مماليك الوزير عون الدين ابن هبيرة، وهو صاحب " مرآة الزمان "؛ قال الشيخ شمس الدين: وقد اختصره قطب الدين اليونيني وذيل عليه إلى وقتنا هذا. ولما مات حضر جنازته السلطان ومن دونه. ودرس بالشبلية (2) مدة وبالمدرسة البدرية (3) . وقرأ الأدب على أبي البقاء، والفقه على الحصيري، ولبس الخرقة من عبد الوهاب ابن سكينة. وكان حنبلياً فانتقل وصار حنفياً لأجل الدنيا، وصنف في مناقب أبي حنيفة جزءاً.
__________
(1) السلامي: 236 والجواهر المضية 2: 230 وذيل مرآة الزمان 1: 39 والبداية والنهاية 13: 194 وميزان الاعتدال 4: 471 والدارس1: 478 والنجوم الزاهرة 7: 39 والشذرات 5: 266 وعبر الذهبي 5: 220 ومرآة الجنان 4: 136 وابن خلكان 3: 142؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.
(2) المدرسة الشبلية: كانت بسفح جبل قاسيون، بناها شبل الدولة الحسامي سنة 626 (الدارس 1: 530) .
(3) كانت قبالة الشبلية، بناها الأمير بدر الدين المعروف بلالا سنة 638 (الدارس 1: 477) .(4/356)
وله " معادن الأبريز في التفسير " تسعون وعشرون (1) مجلداً، و " شرح الجامع الكبير " في مجلدين.
593 - (2)
ابن طملوس المغربي
يوسف بن محمد بن طملوس، من أهل جزيرة شقر من عمل بلنسية. كان أحد علمائها الأماثل، وآخر المتحققين بعلوم الأوائل. توفي سنة عشرين وستمائة، واورد له ابن الأبار من شعره:
بسمت به الأيام بعد عبوسها ... وتهللت بشراً عيون الناس
وتمهدت أراؤهم لما رسا ... ما بينها جبل الملوك الراسي
هيهات أين الصبح من لألائه ... أيقاس نور الشمس بالنبراس
ملك أبت هماته وهباته ... من أن تجاري في الندى والباس وقال أيضاً:
جاد على الجزع بوادي الحمى ... صوب الحيا سكباً على سكب
حيث الصبا يهدي نسيم الربى ... طيبة المسرى إلى الغرب
تمر بالركب سحيراً فيا ... موقع رياها من الركب
وبالكثيب الفرد من لعلع ... غزيل ضل (3) عن السرب
أفلت مني واغتدى قانصاً ... قلبي فيا ويحي من قلبي
__________
(1) ص: وعشرين.
(2) تحفة القادم: 130.
(3) ص: أضل.(4/357)
فسرت أشتد على إثره ... أنشده في ذلك الشعب
يا هل رأت عيناك من ناشد ... يسعى بلا قلب ولا لب
أحبب به من ملك جائر (1) ... أحكامه تجري على الصب
يثنيه من خرم الصبا نشوة ... لعب الصبا بالغصن الرطب
يا جائر اللحظ على صبه ... سلطت عيناك على قلبي 594 (2)
المستنجد بالله
يوسف بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن جعفر، أمير المؤمنين المستنجد بالله ابن المقتفي لأمر الله ابن المستظهر ابن المعتمد ابن القائم ابن القادر ابن المقتدر ابن المعتضد ابن الموفق ابن المتوكل ابن المعتصم ابن الرشيد ابن المهدي ابن المنصور العباسي. خطب له والده بولاية العهد من بعده مستهل الحجة سنة سبع وأربعين وخمسمائة، وبويع له بالخلافة بعد وفاة أبيه ثاني شهر ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمسمائة. مولده سنة ثمان عشرة (3) وخمسمائة، وتوفي ثامن شهر ربيع الآخر سنة ست وستين وخمسمائة وعمره ثمان وأربعون (4) سنة وولايته إحدى عشرة (5) سنة؛ وكانت أمراضه قولنجية.
__________
(1) ص: جائراً.
(2) الروحي: 67 والفخري: 279 وخلاصة الذهب المسبوك: 276 وتاريخ الخلفاء 474 وتاريخ الخميس 2: 363 ومرآة الجنان 3: 379 ومرآة الزمان: 284 ومفرج الكروب 1: 193 والزركشي: 355؛ وهذه الترجمة لم ترد في المطبوعة.
(3) ص: عشر.
(4) ص: وأربعين.
(5) ص: عشر.(4/358)
وكان طويل القامة جسيماً أسمر اللون كثيف اللحية، وكانت أيامه أيام خصب ورخاء وأمن عام، ودولته زاهرة، وسياسته قاهرة، وهيبته رائعة، وسطوته قامعة، ذلت له رقاب الجبابرة في الآفاق، وخضعت له منهم الأعناق، وأشحن بالظلمة الحبوس (1) وأزال الظلم والمكوس، وتمكن تمكن الخلفاء المتقدمين، قلما انتهت إليه حالة مكروهة إلا أزالها، وعثرة إلا أقالها؛ ويقال إنه رأى في منامه مكتوباً (2) في كفه أربع خاءات فعبرها أنه يلي الخلافة سنة خمس وخمسين وخمسمائة.
وكتب إليه كمال الدين الشهرزوري قصة لما قدم إلى بغداد رسولاً من قبل نور الدين ابن زنكي مترجمة: " محمد بن عبد الله الرسول "، فوقع عند اسمه " صلى الله عليه وسلم "؛ يقال إن ليلته حانت من ابنة عمه فلما توجه إليها وجد في طريقه بعض حجرات جواريه مفتوح الباب، فدخل إليها، فقالت له الجارية: امض (3) إلى ابنة عمك فإني أخاف أن تعلم بنا فلا آمن شرها، فقال: في ساقها خلخال إذا جاءت عرفت بها. فمضت إليها (4) جارية ووشت بالحال، فرفعت خلخالها إلى أعالي ساقها وقصدت المقصورة، ففاحت روائح الطيب، فنم ذلك عليها، فخرج من المقصورة من الباب الآخر وقال:
استكتمت خلخالا ومشت ... تحت الظلام به فما نطقا
حتى إذا هبت نسيم صبا ... ملأ العبير بنشرها الطرقا وللشيخ صلاح الدين الصفدي في هذا المعنى:
__________
(1) ص: والجيوش.
(2) ص: مكتوب.
(3) ص: امضي.
(4) ص: إليه.(4/359)
إذا شئت حليك أن لا يشي ... وقد زرت في الحندس المظلم
فردي السوار مكان الوشاح ... وخلي وشاحك في المعصم وله أيضاً:
قالوا وشى الحي بها إذ مشت ... إليك من قبل ابتسام الصباح
فقلت: لا، خلخالها صامت ... ثم تذكرت فضول الوشاح ومن شعر المستنجد:
إذا مرضنا نوينا كل صالحة ... وإن شفينا فمنا الزيغ والزلل
نرضي الإله إذا خفنا ونغضبه ... إذا أمنا فيما يزكو لنا عمل ومنه أيضاً:
عيرتني بالشيب وهو وقار ... ليتها عيرت بما هو عار
إن تكن شابت الذوائب مني ... فالليالي تنيرها الأقمار وقال أيضاً:
يا هذه إن الخيال يزورني ... لو كان يسعف أو يرد سلاما
ما إن رأيت كزائر يعتادني ... يغضي العيون ويقظ النواما وقال أيضاً:
وباخل أشعل في بيته ... طرمذة منه لنا شمعه
فما جرت من عينها دمعة ... حتى جرت من عينه دمعه وقال أيضاً:
وصفراء مثلي في القياس ودمعها ... سجام على الخدين مثل دموعي
تذوب كما في الحب ذبت (1) صبابة ... وتحوي حشاها ما حوته ضلوعي
__________
(1) ص: دنب.(4/360)
595 - (1)
الملك الناصر صاحب الشام
يوسف بن محمد بن غازي بن يوسف بن أيوب بن شاذي، السلطان الملك الناصر صلاح الدين ابن الملك العزيز ابن الملك الظاهر ابن الناصر صلاح الدين؛ هو صاحب حلب ثم صاحب الشام. ولد بقلعة حلب في رمضان سنة سبع وعشرين وستمائة وقتل سنة تسع وخمسين؛ تولى الملك عند موت والده العزيز سنة أربع وثلاثين وستمائة، وقام بتدبير دولته الأمير شمس الدين لؤلؤ الأميني والأكرم ابن القفطي وعز الدين ابن المجلي والطواشي جمال الدولة إقبال الخاتوني، والأمر كله لجدته الصاحبة صفية خاتون بنت العادل. ولما توجه القاضي بهاء الدين إلى الكامل بوصية العزيز - وكان قد مات وعمره أربع وعشرون سنة - فلما رآها الكامل بكى وحلف للناصر لأجل أخته صفية خاتون، فلما توفيت سنة أربعين اشتد الناصر وأمر ونهى؛ فلما كانت سنة ست وأربعين، سار من جهته نائبه شمس الدين لؤلو وحاصر حمص، وطلب النجدة من الصالح نجم الدين أيوب فلم ينجده، وغضب، واستمرت حمص في ملك الناصر؛ فلما كان شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين، قدم إلى دمشق وأخذها بلا كلفة. وفي أثناء السنة قصد الديار المصرية، فما تم له ذلك. وفي سنة اثنتين وخمسين دخل على بيت السلطان علاء الدين صاحب الروم.
__________
(1) الزركشي: 355 وذيل مرآة الزمان 1: 461، 2: 134 والنجوم الزاهرة 7: 203 ومرآة الجنان 4: 151 وأمراء دمشق: 102 والشذرات 5: 299 وعبر الذهبي5: 256 وابن خلكان 4: 10 (وقال إنه قتل في الثالث والعشرين من شوال سنة 658) ؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة، وفيها بعض خروج على قواعد اللغة والأعراب.(4/361)
وكان الناصر سمحاً جواداً حليماً حسن الأخلاق محبباً إلى الرعية، فيه عدل وصفح ومحبة للفضلاء والأدباء، وكان سوق الشعر نافقة في أيامه، وكان يذبح في مطبخه كل يوم أربعمائة راس غنم سوى الدجاج والطيور والأجدية. وكان يبيع الغلمان من سماطه شي كثير عند باب القلعة بدمشق بأرخص الأثمان من المآكل الفاخرة.
حكى علاء الدين بان نصر الله أن الناصر جاء إلى داره بغتة؛ قال: فمددت له شيئاً كثيراً في الوقت بالدجاج المحشي بالسكر والفستق وغيره، فقال: كيف تهيأ لك هذا؟ فقلت: هو من نعمتك، اشترتيه من باب القلعة. وكانت نفقته في كل يوم أكثر من عشرين ألف درهم.
وكان يحاضر الأدباء والفضلاء، وعلى ذهنه كثير من الشعر والأدب، وله نوادر ونظم، وحسن ظن بالصالحين. وبني بدمشق مدرسة جوا باب الفراديس، وبالجبل رباطاً، وبنى الخان عند المدرسة الزنجيلية (1) . وبلغه عن بعض الفقراء من الأجناد أنه تسمح في حقه فأحضره ليؤدبه، فلما رأى وجله رق له وأرم له بذهب وصرفه ولم يؤاخذه. وكانت تمر له الأيام الكثيرة يجلس فيها من أول النهار إلى نصف الليل يوقع على الأوراق ويصل الأرزاق، وقيل إنه خلع في أقل من سنة أكثر من عشرين ألف خلعة.
وكانوا الفرنج قد ضمنوا له أخذ الديار المصرية على أن يسلم إليهم القدس وبلاد أخر، ودار الأمر على أن تعطى لهم أو للمصريين، فبذل ذلك للمصريين اتباعاً لرضى الله عز وجل، وقال: والله لا لقيت الله تعالى وفي صحيفتي إخراج القدس عن المسلمين. ولما بعد عن خزائنه احتاج إلى قرض أرهن أملاكه وضرب أواني الذهب والفضة، وقيل له في أخذ القابض (2) من الأوقاف،
__________
(1) يقال لها أيضاً الزنجارية، كانت خارج باب توما، تنسب إلى فخر الدين عثمان بن الزنجيلي، أنشئت في سنة 626 (الدارس 1: 526) .
(2) كذا ولعلها: الفائض.(4/362)
فما مد يده إلى شيء منها بدمشق ولا بحلب.
قال ابن العديم: حضر بعض المدرسين إلى العسكر، ورفع على يدي قصة بين يديه تتضمن التضور من قلة معلومه، ويذكر أن عياله وصلوا من مصر وأنه لا يطلب التثقيل على السلطان في مثل هذا الوقت الذي يحتاج فيه إلى الكلف بن يطلب زيادة في المدرسة التي هو بها. فسأل عن شرط الواقف، فقيل: شرطه ما يتناوله الآن، لكن ذكر أنه في كتاب الوقف ما يدل على أن السلطان يزيده إذا رأى في ذلك مصلحة. فأطرق كما هي عادته إذ لم يرى قضاء ما طلب، ولم يرد في ذلك جواباً، ولم يهن عليه رده خائباً، وتورع عن مخالفة الواقف، فقرر له ما طلبه على ديوانه دون الوقف.
قال ابن العديم: أنشدني لنفسه، رحمه الله:
البدر يجنح للغروب ومهجتي ... لفراق مشبهه أسى تتقطع
والشرب قد خاط النعاس جفونهم ... والصبح من جلبابه يتطلع ومن شعره أيضاً:
سقى حلب الشهاب كل مرنة (1) ... سحائب غيث نوؤها ليس يقلع
فتلك ربوعي لا العقيق ولا الحمى ... وتلك دياري لا زرود ولعلع وقال أيضاً:
فو الله لو قطعت قلبي تأسفاً ... وجرعتني كاسات دمعي دما صرفا
لما زادني إلا هوى ومحبة ... ولا اتخذت روحي سواك لها إلفا وورد الخبر في منتصف صفر من سنة ثمان وخمسين وستمائة بورود التتار إلى حلب ودخولها بالسيف، فهرب السلطان مع الأمرا الموافقين له، وزال ملكه، ودخل التتار بعده بيوم إلى دمشق، وقري فرمان الملك بأمان
__________
(1) ص: مزنة.(4/363)
أهل دمشق وما حولها حتى وصل السلطان إلى قطيا وتفرق عنه عسكره، فتوجه مع خواصه إلى وادي موسى ثم جاء إلى بركة زيزا فكبسه كتبغا، فهرب وأتى إلى التتار بالأمان، فبقي معهم البيت ذل وهوان. فلما بلغ هولاكوا قتل كتبغا قتله، قيل إنه قتله بالسيف عقيب واقعة عين جالوت، وقيل خصل بعذاب دون أصحابه، وقيل جعل هدفاً للسهام، وقيل جمع له نخلتان وربط بينهما وافترقتا فذهبت كل واحدة بشق منه.
قال شهاب الدين أحمد بن عبد العزيز بن العجمي: أنشدني الناثر لنفسه:
يا برق أنش من الغمام سحابة ... وطفاء هامية على بطياس
وأدم على تلك الربوع وأهلها ... غيثاً (1) يرويها مع الأنفاس
وعلى ليال بالصفاء قطعتها ... مع كل غانية وظبي كناس فأنشدته ارتجالاً:
فلتلك (2) أوطاني ومعهد أسرتي ... ومقر أحبابي ومجمع ناسي
ليس (3) الفؤاد وإن تناءت سالياً ... عنها ولا لعهودها بالناسي (4) وكان قتله في الخامس وعشرين من شوال سنة ثمان وخمسين وستمائة، وعمل عزاؤه في سادس وعشرين ربيع الآخر سنة تسع وخمسين بقلعة الجبل من الديار المصرية، رحمه الله تعالى.
ورثاه غير واحد من شعراء دولته وغيرهم. فممن (5) رثاه أمين الدين
__________
(1) ص: غيث.
(2) ص: فتلك.
(3) ص: أيس.
(4) ص: بالناس.
(5) ص: فمن.(4/364)
السليماني، قال حين توجه الملك الناصر (1) مع التتار وانقطعت أخباره والتبس أمره:
بكى الملأ الأعلى على الملك الأعلى ... وأصبحت الدنيا لفقدانه ثكلى
تولى صلاح الدين يوسف وانقضت (2) ... محاسنه الحسنى وسيرته المثلى
وفارق ملك الشام والشرق عنوة ... فريداً كما جردت من غمده نصلا
وأضحى أسيراً في التتار مروعاً ... فبكوا عزيزاً لم يكن يعرف الذلا
وأني لأرجو أن يكون كصارم ... يجرده قين ليحكمه صقلا
تناقضت الأخبار عنه لبعده ... فيا لحديث ما أمر وما أحلى
فيا ليت عيني عاينت كنه حاله ... لقد شفني حزني عليه وقد أبلى
أبكيه في الأسرى وأرجو خلاصه ... رجاء بعيد أم أرثيه في القتلى
أبن مخبراً: يا يوسف بن محمد ... أحي ترجى أنت أم ميت تسلى
ووالله ما يسلوك قلب ابن حرة ... جعلت له من طولك الفرض والنفلا وقال فيه حين بلغه أن التتار قتلوه:
رمت الخطوب فأقصدتك نبالها ... والأرض بعدك زلزلت زلزالها
أأبا المظفر يوسف بن محمد ... لا قلت بعدك للحوادث يا لها
خذلتك أسرتك الذين ذخرتهم ... للنائبات وقد وقفت حيالها
تركوك منفرداً بقطية ذاهلاً ... تسفي عليك العاصفات رمالها
تبكيك ولولة الحريم حواسراً ... من كل معولة تضم عيالها
ومصونة البيت خدرها ما شاهدت ... قبل الرزية ما يروع بالها
كيف الخلاص من المنية لامريء ... من بعد ما نصبت عليه حبالها
أأبا المظفر يوسف بن محمد ... جرعت نفسي صابها وخبالها
__________
(1) ص: النار.
(2) ص: وانفضت.(4/365)
إن الملوك إذا تخاذل بعضها ... عن بعضها ففعالها أفعى لها
ذكري مصيبات الملوك تعللاً ... إذ كان حالك في المصية حالها
إني لأجتنب المراثي طامعاً ... ببقاء نفسك بالغاً آمالها 596 (1)
فخر الدين ابن الشيخ
يوسف بن محمد بن عمر بن علي بن محمد بن حموية، الأمير فخر الدين ابن صدر الدين شيخ الشيوخ الحموي الجويني؛ كان أميراً كبير عالي الهمة فاضلاً متأدباً سمحاً جواداً محبوباً إلى الخاص والعام، خليقاً بالملك لما فيه من الأوصاف الجميلة، تعلوه الهيبة والوقار. وكانت أمه ابنة المطهر ابن أبي عصرون قد أرضعت الملك الكامل، فكانوا أولادها الأربعة أخوة الملك الكامل من الرضاعة، وكان يحبهم ويعظمهم، ولم يكن عنده أحد في رتبة الأمير فخر الدين، لا يطوي عنه سراً ويثق به ويعتمد عليه في سائر أموره، ونال الأمير فخر الدين وإخوته من السعادة ما لا ناله غيرهم. ولما ملك الملك الصالح البلاد، أعرض عن الأمير فخر الدين واطرحه ثم اعتقله ثم أفرج عنه وأمره بلزوم بيته. ثم إنه ألجأته الضرورة إلى ندبه للمهمات لما لم يجد من يقوم مقامه، فجهزه إلى بلاد الملك الناصر داوود، فأخذها ولم يترك بيده سوى الكرك، ثم جهزه لحصار حمص، ثم ندبه لقتال الفرنج، فاستشهد.
__________
(1) الزركشي: 356 وطبقات السبكي 5: 152 والسلوك (ج؟: 1 في عدة مواضع) ودول الإسلام 2: 116 والشذرات 5: 238 وعبر الذهبي 5: 194 والنجوم الزاهرة 6: 363 والبداية والنهاية 13: 178؛ ولم ترد هذه الترجمة في المطبوعة.(4/366)
وكان أول أمره معمماً، فألزمه الكامل أن يلبس الشربوش وزي الجند، فأجابه إلى ذلك، وأقطعه منية السوادان بالديار المصرية، ثم طلب منه " أن " ينادمه، فأجابه إلى ذلك، فاقطعه شبراً، فقال ابن بطريق:
على منية السودان صار مشربشا ... وأعطوه شبراً عندما شرب الخمرا
فلو ملكت مصر الفرنج وأنعموا ... عليه ببسوس (1) تنصر للأخرى وقال فيه وفي أخيه عماد الدين، وكان يذكر الدرس بالشافعي (2) رحمه الله:
ولدى الشيخ في العلوم وفي الإم ... رة بالمال وحده والجاه
فأمير ولا قتال عليه ... وفقيه والعلم عند الله وكان لهم مع الاقطاعات المناصب الدينية، منها مدرسة الشافعي والمدرسة التي إلى جانب مشهد الحسين رضي الله عنه، وخانقاه سعيد السعدا؛ ولم تزل هذه المناصب بأيديهم إلى أن ماتوا.
وكان قد قدم دمشق ونزل في دار أسامة، فدخل عليه الشيخ عماد الدين ابن النحاس وقال له يا فخر الدين، إلى كم؟ - يشير إلى تناوله للشراب - فقال له: يا عماد الدين والله لأسبقنك إلى الجنة، فاستشهد على المنصورة في الوقعة سنة سبع وأربعين وستمائة، وتوفي عماد الدين سنة سبع وخمسين فسبقه كما قال إلى الجنة، وحمل إلى القاهرة، وكان دفنه يوماً مشهوداً، وعمل له عزاء عظيم. وكان مولده سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة. ومن شعره:
صيرت فمي لفيه باللثم لثام ... غصباً ورشفت من ثناياه مدام
فاغتاظ وقال أنت في الفقه إمام ... ريقي خمر وعندك الخمر حرام ومن شعره:
__________
(1) غير معجمة في ص.
(2) يعني بمدرسة الشافعي، وسيذكرها بعد قليل.(4/367)
وتعانقنا فقل ما شيت ... في ماء وخمر
وتعاتبنا فقل ما شيت ... في غنج وسحر
ثم لما أدبر الليل ... وجاء الصبح يجري
قال إياك رقيبي ... بك يدري قلت يدري وقال:
في حبك هجرت أمي وأبي ... الراحة للغير وحظي تعبي
يا ظالم في الهوى أما تنصفني ... وحدتك في العشق فلم تشرك بي وقال سيف الدين المشد يرثيه:
فض فم نهى لنا ... يوم الخميس يوسفا
وا أسفا من بعده ... على العلا وا أسفا 597 (1)
" بدر الدين الذهبي "
يوسف بن لؤلؤ الذهبي الأديب، بدر الدين الدمشقي الشاعر؛ كان والده لؤلؤ عتيق ولدرم الياروقي صاحب تل باشر. له نظم يروق الأسماع، ويعقد (2) على فضله الإجماع، مدح الناصر ابن العزيز والكبار، وكن له بيت في الصادرية جوار جامع بني أمية. عاش ثلاثاً وسبعين سنة وتوفي رحمه الله في شعبان سنة ثمانين وستمائة. فمن شعره:
رفقاً أذبت حشاشة المشتاق ... وأسلتها دمعاً من الآماق
__________
(1) الزركشي: 357 والبدر السافر: 248.
(2) ص: وتعقد.(4/368)
وأحلته من بعد تسويف على الص ... بر الذي لم يبق منه بواقي
وطلبت مني في هواك مواثقاً ... والقلب عندك في أشد وثاق (1)
قلب بعين قد أصيب وعارض ... فأعده لي فالدمع ليس براقي
أشقيق بدر التم طال وتلهفي ... وأطال فيك العاذلون شقاقي
أنفقت من صبر يعليك وإنه ... لرضاك لا لتملق ونفاق
وصبا بعثت بها إليك فلم تعد ... وأظنها حالت عن الميثاق
وبمهجتي المتحملون عشية ... والركب بين تلازم وعناق
وحداتهم أخذت حجازاً (2) عندما ... غنت وراء الظعن في عشاق
وتنبهت ذات الجناح بسحرة ... بالواديين فنبهت أشواقي
ورقاء قد أخذت فنون الحزن عن ... يعقوب والألحان عن إسحاق (3)
قامت على ساق تطارحني الهوى ... من دون صحبي بالحمى ورفاقي
أني تباريني جوى وصبابة ... وكآبة وهوى وفيض مآقي
وأنا الذي أملي الجوى من خاطري ... وهي التي تملي من الأوراق
ولقد صفحت عن الزمان لليلة ... عدل الحبيب بها وجار الساقي
بسلافة الأقداح ذا يسعى وذا ... يعطو بسالفتيه والأحداق وقال يتذكر أيام شبابه وملاعب أترابه ويصف طيور الواجب (4) :
هل ذاك برق بالغوير أنارا ... أم أضرموا بلوى المحصب (5) نارا
فكلاهما إن لاح من هضب الحمى ... لي شائق ومهيج تذكارا
فبم (6) التعلل والشباب منكب ... عني وقد شط الحبيب مزارا
__________
(1) ص: وثاقي.
(2) ص: حجاز، وهو يشير بذكر حجاز وعشاق إلى نغمتين موسيقيتين.
(3) يعني إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وفي ذكر إسحاق مع يعقوب مناسبة.
(4) طيور الواجب: فصيلة من الجوارح.
(5) ص: المخصب.
(6) ص: فبما.(4/369)
وقد استرد الدهر أثواب الصبا ... وكذاك يرجع ما يكون معارا
فارفق بدمعك في الفراق فما الذي ... يبقى ليسقي أربعاً وديارا
ودع النسيم يراوح القلب الذي ... أورى زناد الشوق فيه أوارا
مع أنني أصبو إلى بان الغضا ... إن شمت برقاً أو شممت عرارا
فاليوم لا دار بمنعرج اللوى ... تدنو بمحبوب لنا فتزارا
كلا ولا قلبي المشوق بصابر ... عنهم فأندب دمنة وديارا
فسقى اللوى لا بل سقى عهد اللوى ... صوب الغمائم هامياً مدرارا
ولقد ذكرت على الصراة مرامياً ... تنسي بحسن وجوهها الأقمارا
وعلى الحمى يوماً ونحن بلهونا ... نصل النهار ونقطع الأنهارا
في فتية مثل النجوم تطلعوا ... وتخيروا صدق المقال شعارا
من كل نجم في الدياجي قد لوى ... في كفه مثل الهلال فدارا
متعطفاً من حزم داود الذي ... فاق الأنام صناعة وفخارا
والآن قد حن المشوق إلى الحمى ... وتذكر الأوطان والأوطارا
وصبا إلى البرزات قلب كلما ... طارت به خزر اللغالغ (1) طارا
فلأي مرمى أرتميه وليس لي ... قوس رشيق مدمج خطارا
وأغن أحوى كالهلال رشيقاً ... بل راشقاً بغروضه (2) سحارا
جبل على ضعفي إذا استعطفته ... ألوى علي العنق والدستارا (3)
وبوجهه المنقوش أولما بدا ... وبه أقم وأقعد الشطارا
وبدا بتجريمي بلا سبب بدا ... مني وأودعه الرماة مرارا
يا حسنه من مخلف لكنه ... في الجو عال لا يسف مطارا
ويطير عن مقامي عاضداً ... ولشقوتي لا يدخل المقدارا
__________
(1) اللغالغ: جمع لغلغ وهو طائر يقال عنه إنه غير اللقلق.
(2) الغروض: السهام؛ ص: بفروضه.
(3) الدستار (بالفارسية) : منديل أو المنديل الذي يلاث عمامة، ولعله يعني هنا ريش الرأس.(4/370)
لا بندقي مهما خطوت يناله ... أنى ينال مراوغاً طيارا
وسنان من خزر اللغالغ لم يزل ... يرعى الرياض وليس يرعى الجارا
لا قادم بل راحل عني إلى ... ماء الفرات يخوض منه غمارا
أو ما تراني فاقداً ومنعماً ... في الجو ليلاً (1) خلفه ونهارا
دعني فقد برد الهواء وقد أتى ... أيلول يطفيء للهجير مارا
ووراءه تشرين جاء برعده ... عجلان يحدو للسحاب قطارا
والبارق الهامي على طلل الحمى ... سدى هناك خيوطه وأنارا
والفيض (2) طام ماؤه متدفق ... والطير فيه يلاعب التيارا
والنهر جن به فراح مسلسلاً ... صب تحير لا يصيب قرارا
بهر النواظر حين أنبت شطه ... للناظرين شقائقاً وبهارا
والصبح في آفاقه يا سعد قد ... أخفى النجوم وأطلع الغرارا
فانهض إلى المرمى الأنيق بنا فقد ... هب الصباح ونبه الأطيارا
وتتابعت جفاتها (3) في أفقها ... مثل النعام قوادماً تتبارى
من جو زوراء العراق قوادماً ... يا مرحباً بقدومها زوارا
فأصخ إلى رشق القسي إذا ارتمت ... مثل الحريق أطار عنه شرارا
واطرب إلى نغمات أطيار بدت ... في الجو وهي تجاوب الأوتارا
من كل طيار كأن له دماً ... عند الرماة فثار يبغي الثارا
هل جاء في طلب القسي لحتفه ... أم جاء يطلب عندها الأوتارا
خاض الظلام وعب فيه فسود ال ... رجلين منه وسود المنقارا
وأتى يبشر باللقاء فضمخت ... تلك المغارز عنبراً ونضارا
والكي (4) كالشيخ الرئيس مزمل ... في بردتيه هيبة ووقارا
__________
(1) ص: ليل.
(2) الفيض: نهر بالبصرة؛ ص: والقيض.
(3) الجفة: الجماعة أو العدد الكثير، والجفجفة: انتفاش الطائر.
(4) الكي: الطائر الذي يسمى أبو منجل أو Pelican.(4/371)
يسطو على الأسماك (1) يوماً كلما ... أذكى له حر الماعة نارا
والوز كم قد هاجنا بنغيمه ... ليلاً وكم قد شاقنا أسحارا
فإذا بدا ضوء الصباح ثنى له ... عطفاً وصفق بالجناح وطارا
وترى اللغالغ تستبيك بأعين ... خزرية صفر الجفون صغرا
فكأن ورساً ذيب في أجفانها ... فحكى النضار وحير النظارا
وترى الأنيسات الأوانس تنقضي ... بين الرياض كأنهن عذارى
يسلبن أرباب العقول عقولهم ... ويرغن منه حيلة ونفارا
وترى الحبارج (2) كالقطا أرياشها ... أو كالرياض تفتحت أزهارا
هجرت منازلها على برح الظما ... واستبدلت دوية وقفارا
والنسر سلطان لها لكنه ... لم يلقها (3) لدمائها مهدارا
قد شاب منه رأسه من طول ما ... كرت عليه عصوره الأدورا
أرخى جناحيه عليه كجوشن ... لو كان يمنع دونه الأقدارا
وإذا العقاب سطا وصال بكفه ... عاينت منه كاسراً جبارا
يعطي ومينع غيرة وتكرماً ... ويبيح ممنوعاً ويمنع جارا
وترى الكراكي كالرماد وربما ... قرقت فأذكت في القلوب النارا
قد سطرت في الجو منها أسطر ... وطوت سجل سخائها أسفارا
فإذا انصرعن فلاتكن ذا غفلة ... عن أن تنقط (4) حليهن مرارا
وبدت غرانيق لهن ذوائب ... لولا البياض لخلتهن عذاري
حمر العيون تدير من أحداقها ... فينا كؤوساً (5) قد ملين عقارا
__________
(1) ص: الأسمال.
(2) الحبرج: نوع من الحبارى، وقال ابن البيطار (2: 5) : طائر معروف بالديار المثرية مشهور بها.
(3) ص: يلفها.
(4) ص: تنفط.
(5) ص: كؤوس.(4/372)
والصوغ (1) في أفق السماء محلق (2) ... مثل الغمام إذا استقل وسارا
ذو مغرز ذرب (3) فلو يسطو (4) به ... فضح السنان وأخجل البتارا
ومرازم بيض وحمر ريشها ... كالورد بين الياسمين نثارا
خفقت بأجنحة على محمره ... كمراوح أضرمن منه جمارا
وعجبت كيف صبت إلى صلبانها ... تلك الرماة وما هم بنصارى
وشبيطر (5) ما إن يحل له دم ... مهما علا شجراً (6) وحل جدارا
الشرط فيه إلفه لمنازل ... فاصبر له حتى يفارق دارا
وكأنما العناز (7) لما أن بدا ... لبس السواد على البياض غيارا
وكأنه قد ضاق عنه مزرراً ... فوق القميص فحلل الأزرارا
هل عب في صرف العقار بمغرز ... أم كان خاض من الرماء بحارا
خذ مالكي وصف الجليل منقحاً ... يا سعد واقض برمها الوطارا
واستغنم اللذات في زمن الصبا ... لا زال كفك للندى مدرارا وقال أيضاً:
لو بلغ الشوق هذا البارق الساري ... أو بعض وجدي الذي أخفي وتذكاري
ما بت أرعى الدجى شوقاً إلى قمر ... ولا معنى بطيف طارق طاري
جيراننا كنتم بالرقمتين فمذ ... بعدتم صار دمعي بعدكم جاري
فكم أواري غراماً من جوى وأسى ... زناده تحت أثناء الحشا واري
__________
(1) كذا ولعل صوابه ((صرغ)) وهو فيما يبدو معرب جرغ: طائر من أنواع البازي.
(2) ص: مخلق.
(3) ص: درب.
(4) ص: تسطو.
(5) الشبيطر: مالك الحزين (دوزي) .
(6) ص: شجر.
(7) العناز: من الواضح أنه نوع من الطيور، ولم أجد له وصفاً أو تعريفاً.(4/373)
وكم أداري فؤاداً عز مطلبه ... يوم اللوى وأداري الوجد بالدار
أشتاق إن نفحت بالغور ريح صبا ... تهدي شذا شيخه المطلول والغار
وقد أنحلتني الغواني غير راحمة ... وعقتني الليالي بعد إبداري
وأضرمت أضلعي ناراً مؤججة ... وحيرت أدمعي في العين يا حار (1)
فصرت كالسيف يغضي (2) الجفن منه على ... ماء ويطوى الحشا منه على نار
ذكرت عيشاً على لبنان جدد لي ... من عهد لبني صباباتي وأوطاري
فراجع القلب من أطرابه طرب ... وعاود العين طيف منهم ساري
فبت بالدمع كالغدران طافحة ... مني على ناقض للعهد غدار
فيا له من غرير غر بي طمعاً ... بموعد من خيال منه غرار
بقامة وعذار حول وجنته ... قامت بها وبه في الحب أعذاري
ألقى إليه القنا الخطار مقتحماً ... ولا أبالي بأهوال وأخطار
أغن ألمى رشيق القد معتدل ... رخص البنان كحيل الطرف سحار
قد زنر الخصر منه بالنحول وقد ... أغناه إفراطع عن شد زنار
يسعى بشمسية كالشمس دائرة ... على مزاهر قينات وأزهار
تكللت بلآل من فواقعها ... وزررت طوقها منه بأزارا
صهباء من عهد كسرى حين عتقها ... في دنها وبه كانت بذي قار
قد أمطرت راحة الساقي الكؤوس لنا ... فأنتبتتها رياضاً ذات نوار (3)
تألفت مثل زهر الروض عن حبب ... فنحن ما بين نوار وأنوار
صلى (4) المجوس إليها واصطلوا لهباً ... منها فصلوا لذات النور والنار
وسبح القوم لما أن رأوا عجباً ... في أكؤس الراح نواراً على نار
__________
(1) ص والزركشي: جار.
(2) ص: يقضي.
(3) ص: بذيقار.
(4) ص والزركشي: صلوا.(4/374)
في فتية هم أباحوا قتلها بيد ... لكاعب معصر أو رجل عصار
على اصطخاب المثاني كان سفكهم ... دماءها بين عيدان وأوتار
ثارت لتقتص من قوم فما برحت ... في حث كاس على الوتار والثار
فالقوم من بعض قتلاها وما ظلمت ... وإنما أخذت منهم بأوتار
فاخلع عذارك والبس من أشعتها ... ولا تكونن من كاس لها عار
ولا تطع أمر لاح في هوى رشأ ... وكاس راح فما اللاحي بأمار وقال رحمه الله تعالى:
تذكر ربعاً بالشآم ومربعا ... وملهى لأيام الشباب ومرتعا
فعاوده داء من الشوق مؤلم ... أصاب حرارات القلوب فأوجعا
على حين شطت بالفريق ركائب ... وأسرى بها الحادي الطروب فأسرعا
وأتبعهم قلباً مطيعاً على الغضا ... وخليت لي جفناً على السفح أطوعا
وساروا يؤمون الكثيب وخلفوا ال ... كئيب المعنى في الديار مضيعا
يكابد حر الشوق بعد رحيلهم ... وفرط التشكي والحنين الموجعا (1)
وأوجع من هذا وذلك كله ... شباب أراه كل يوم مودعا
تولى وأبقى في الجوانح حرقة ... وأودع قلبي حسرة حين ودعا
وعاجلني صبح من الشيب قبل أن ... أهوم في ليل الشباب وأهجعا
وحجب عني الغانيات كأنه ... بياض على العينين والفود أجمعا
فيا ربة الخلخال والخال حفضي ... على مغرم لولا النوى ما تضعضعا
ولا تذكريني الواديين ولا تري ... لعيني أطلال الديار فتدمعا
فلولاك ما حن المشوق إلى الحمى ... ولا شام برق الشام من سفح لعلعا
ولا راح يستسقي سقيط دموعه ... لسقط بنعمان الأراك وأجرعا
ومما شجاني في الصباح حمامة ... تحرك بالشجو الأراك المفرعا
__________
(1) لعل الصواب: ((المرجعا)) .(4/375)
تذكرني أيامنا بسويقة ... وليلاتنا اللاتي مضت بطويلعا
فقلت لها لا تظهري من لواعج ... فنوناً بأفنان الأراك تصنعا
فغصنك قد أضحى عليك منعماً ... وغصني قد أمسى علي ممنعا
بلى طارحيني ما شجاك فكلنا ... على غصن نبدي الأسى والتفجعا
وذي هيف عذب اللمى زارني وقد ... تلفع خوفاً بالدجى وتدرعا
فبت أعاطيه الحديث منمقاً ... وبات يعاطيني العتيق مشعشعا
إلى أن دعا داعي الفلاح ولم يكن ... سوى أنه داع على شملنا دعا
ولم أدر أن الصبح كان مراقباً ... لنا من وراء الليل حتى تطلعا
فقام كظبي الرمل وسنان خائفاً ... يكفكف من خوف التفر أدمعا
" فلما تفرقنا كأني ومالكاً (1) ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا " (2)
فسحقاً لدهر لم أزل من صروفه ... بنابة في كل يوم مروعا
إلى غرضي (3) الأقصى يسدد سهمه ... وعهدي به لم يبق في القوس منزعا
فحتام لا أنفك أشكو ليالياً ... ودهراً (4) بتفريق الأحبة مولعا
وقد زجرتني الأربعون فلم تدع ... لي الآن في وصل الكواكب مطمعا
ومر الشباب الغض مني فمذ نأى ... تتابعه العيش اللذيذ تتبعا
وكانت بأحناء الضلوع حشاشة ... فأسبلتها فوق المحاجر أدمعا وقال أيضاً:
بدا صدغ من أهواه في ماء خده ... فحيرني لما التوى وتعقربا
" وقالوا يصير الشعر في الماء حية ... فكيف غدا في ذلك الخد عقربا " (5)
__________
(1) ص: ومالك.
(2) البيت مضمن من شعر متمم بن نويرة في رثاء أخيه مالك.
(3) ص: غرض.
(4) ص: ودهر.
(5) زيادة من الزركشي.(4/376)
وأنشدني الحاج الدين الذهبي قال، أنشدني بدر الدين لنفسه وقد تواترت الأمطار بدمشق:
إن أقام الغيث شهراً هكذا ... جاء بالطوفان والبحر المحيط
ما هم من قوم نوح يا سما ... أقلعي عنهم فهم من قوم لوط وقال في مليح بوجهه حب الشباب:
تعشقته لدن القوام مهفهفاً ... شهي المى أحوى المراشف أشنبا
وقالوا بدا حب الشباب بوجهه ... فيا حسنه وجهاً إلي محببا وقال في النجم العيادي الكحال، وقد كحل غلاماً غدوة ومات النجم في عشية ذلك النهار:
يا قوم قد غلط الحكيم وما دري ... في كحله الرشأ الغرير بطبه
وأراد أن يمضي نصال جفونه ... ويحدها لتصيبنا فبدت به وقال أيضاً:
هلم يا صاح إلى روضة ... يجلو بها العاني صدا همه
نسيمها يعثر في ذيله ... وزهرها يرقص في كمه وقال أيضاً:
أدر كؤوس الراح في روضة ... قد نمقت أزهارها السحب
الطير فيها مغرم شيق ... وجدول الماء بها صب وقال أيضاً:
لم لا أهيم إلى الرياض وطيبها ... وأبيت منها تحت ظل ضافي
والزهر يلقاني بثغر باسم ... والماء يلقاني بقلب صافي وقال:(4/377)
أرأيت وادي النيربين، وماؤه ... يبدي لناظرك العجيب الأعجبا
يتكسر الماء الزلال على الحصى ... فإذا غدا بين الرياض تشعبا وقال في دولاب:
وروضة دولابها ... إلى الغصون قد شكا
من حيث ضاع زهرها ... دار عليه وبكى وقال:
رب ناعوة روض ... بات يندى ويفوح
تضحك الزهار منها ... وهي تبكي وتنوح وقال:
رفقاً بصب مغرم ... أبليته صداً وهجرا
وافاك سائل دمعه ... فرددته في الحال نهرا وقال:
يا عاذلي فيه قل لي ... إذا بدا كيف أسلوا
يمر بي كل وقت ... وكلما مر يحلو وقال:
باكر إلى الروضة تستجلها ... فثغرها في الصبح بسام
والنرجس الغض أعراه الحيا ... فغض طرفاً فيه أسقام
وبلبل الدوح فصيح على ال ... أيكة والشحرور تمتام
ونسمة الريح على ضعفها ... لها بنا مر وإلمام
فعاطني الصهباء مشمولة ... عذراء فالواشون نوام
واكتم أحاديث الهوى بيننا ... في خلال الروض نمام وقال أيضاً في معذر:(4/378)
صدوا وقد دب العذار بخده ... ما ضرهم لو أنهم جبروه
هل ذاك غير نبات خد قد حلا ... لكنهم لما حلا هجروه وقال وقد أحيل على ديوان الحشر (1) :
أمولاي محيي الدين طال ترددي ... لجائزة قد عيل من دونها صبري
وقد كنت قبل الحشر أرجو نجازها ... فكيف وقد صيرتموها إلى الحشر وقال في نجم الدين ابن اسرائيل، وكان النجم قد هوي مليحاً يلقب بالجويرح:
قلبك اليوم طائر ... عنك أم في الجوانح
كيف يرجى خلاصه ... وهو في كف جارح ثم بلغه أنه تركه فكتب إليه:
خلصت طائر قلبك العاني ترى ... من جارح يغدو به ويروح
ولقد يسر خلاصه إن كنت قد ... خلصته منه وفيه روح وقال في مليح وراق:
خليلي جد الوجد واتصل الأسى ... وضاقت على المشتاق في قصده السبل
وقد أصبح القلب المعنى كما ترى ... معنى بوراق وما عنده وصل وقال في زهر اللوز:
الزهر أحسن ما رأي ... ت إذا تكاثرت الهموم
تحنو علي غصونه ... ويرق لي فيه النسيم وقال فيه أيضاً:
__________
(1) ديوان الحشر هو الذي يعني بالمواريث الحشرية وهي تركة من لا وارث له، أوله وارث إلا أنه لا يستغرق الميراث كله (صبح الأعشى 4: 33 وانظر ملحق دوزي ((حشر)) ) .(4/379)
عرج على الزهر يا نديمي ... ومل إلى ظله الظليل
فالزهر يلقاك بابتسام ... والريح تلقاك بالقبول وقال ملغزاً في السرطان:
ما اسم إذا ما أنت صحفته ... صار مثنى باعتبارين
في الراس والعين يرى دائماً ... وهو بلا راس ولا عين وقال في واقعة:
ومعذر قد بيتته جماعة ... ولووا بما وعدوه طول الليل
واكتاله كل هناك وما رأى ... منهم سوى حشف وسوء الكيل وقال أيضاً:
حلا نبات الخد يا عاذلي ... لما بدا في خده الأحمر
فشاقني ذاك العذار الذي ... نباته أحلى من السكر وقال في الشمعة:
وذات قد أهيف ... فؤادها قد التهب
كصعدة من فضة ... لها سنان من ذهب وقال فيها:
وشمعة وقفت تشكو لنا حرقاً ... وأدمعاً لمتزل تهمي سواكبها
وحيدة في الدجى من طول ما مكثت ... تكابد الليل قد شابت ذوائبها وكتب إلى صاحب (1) له:
شوقي إليك مع البعاد تقاصرت ... عني خطاي وقصرت أقلامي
واعتلت النسمات فيما بيننا ... مما أحملها إليك سلامي
__________
(1) ص: صاحباً.(4/380)
وقال في مليح يلقب بالشقيق:
يا قامة الغصن الرطيب إذا انثنى ... ولوى معاطفه نسيم الريح
أشقيق روض أنت يا بدر الدجى ... بالله قل لي أم شقيق الروح وقال في مليح رفا:
وبمهجتي الرفا الذي ... فضح الذوابل لينه
لم يرف قلب متيم ... قد مزقته جفونه وقال في مليح اسمه داود:
قد كنت جلداً في الخطوب إذا عرت ... لا تزدهيني الغانيات الغيد
وعهدت قلبي من حديد في الحشا ... فألانه بجفونه داود وقال في الذهبيات:
انظر إلى الأغصان كيف تذهبت ... وأتى الخريف بحمرها وبصفرها
تحلو شمائلها إذا ما أدبرت ... وتزيد حسناً في أواخر عمرها وقال في الكاس المصورة:
انظر إلى صور الفوراس إذ بدت ... بالخيل في كاس المدامة ترتمي
ما بين طاف في المدام وراسب ... كفوارس الهيجاء تسبح في الدم وقال:
ورياض وقفت أشجارها ... وتمشت نسمة الصبح إليها
طالعت أرواقها شمس الضحى ... بعد أن وقعت الورق عليها وقال:
وجنان ألفتها إذ تغنت ... فوقها الورق بكرة وأصيلا
نهرها مسرعاً جرى وتمشت ... في رباها الصبا قليلاً قليلا(4/381)
وقال في مليح يلقب بالشهاب:
يا قضيب الأراك عند التثني ... هز عطفيه حين ماس الشباب
عجباً كيف ضل فيك المحبو ... ن بليل الأسى وأنت شهاب وقال في مليح أراد تقبيله في فمه فامتنع فجاءت القبلة في خده:
منعت ارتشاف الثغر يا غاية المنى ... وزحزحتني منه إلى خدك القاني
لئن فاتني منه الأقاحي فإنني ... حصلت على ورد جني وريحان وقال، وكان يبات كثيراً بالجامع الأموي:
طال نومي بالجامع الرحب والبر ... د مبيدي وليس منه خلاص
كيف أدفا فيه وتحتي بلاط ... ورخام حولي وفوقي رصاص وقال:
لا تلحني اليوم في ساق وصهباء ... وسقتني كاسها صرفاً بلا ماء
وأنف الهموم بها عني فقد كثرت ... آلامها واشف ما بالقلب من داء
عذراء مشمولة تطفو فواقعها ... كأنها أدمع في خد عذراء
أبدي الحباب لها خطاً فأحسن ما ... قد كان حرر من ميم ومن هاء
قديمة ذاتها في روض جنتها ... كانت وكان لها عرش على الماء وقال يذكر بوعد:
إني أذكر مولانا الأمير وما ... أظنه ناسي الوعد الذي ذكرا
والدوح يبدي (1) الجنى لكن أغصنه ... لو لم تهز لما ألقت لك الثمرا وقال في مليح نجار:
بروحي نجار حكى الغصن قده ... رشيق التثني أحول الطرف وسنان
__________
(1) ص: يبدو.(4/382)
يميل على الأعواد قطعاً بما جنت ... وما سرقت الناس قده وهي أغصان وقال يحذر من صحبة الناس:
لا ترم في الدنو وداً من النا ... س وإن كنت عندهم مشكوراً
ودهم في الدنو منهم قليل ... فإذا ما بعدت كان كثيراً
وكذا الشمس والهلال اصطحاباً ... كلما زاد بعده زاد نورا وقال في مليح يسمى زهر السفرجل:
أحن إلى الأزهار ما هبت الصبا ... وما ناح في الأيك الحمام المطوق
وأشتاق زهر اللز كل عشية ... وإني إلى زهر السفرجل أشوق وكتب إلى شهاب الدين السنبلي يعرض بطلب فحم:
جاء الشتاء الغث يا سيدي ... بل يا شهابي في دجى الهم
وفصله البارد قد جاءني ... منه بكانون بلا فحم وقال من قصيدة:
وأرقني خيال من حبيب ... تناءت داره حتى نآني
فيمن سهري (1) يلم فما أراه ... ومن سقمي يطوف فما يراني وقال أيضاً:
أمولاي أشكو إليك الخمار ... وما فعلت بي كؤوس العقار
وجور الساقة التي لم تزل ... تريني الكواكب وسط النهار
__________
(1) ص: شهري.(4/383)
598 - (1)
" محيي الدين ابن زيلاق "
يوسف بن يوسف بن يوسف بن سلامة بن إبراهيم بن الحسن بن إبراهيم، الصدر محيي الدين ابن زيلاق العباسي الهاشمي الموصلي الكاتب الشاعر؛ مولده سنة ثلاث وستمائة، وقتله التتار حين ملكوا الموصل في سنة ستين وستمائة.
قال بهاء الدين ابن الفخر عيسى في وصفه: الصاحب محيي الدين يضرب به المثل في العدالة، وله الرتبة العليا في الشرف والأصالة، وكان شاعراً مجيداً فاضلاً حسن المعاني، رحمه الله. فمن شعره ما كتبه إلى بعض أصحابه وهو بدمشق يصفها:
أدمشق لا زالت تجودك ديمة ... ينمى بها زهر الرياض ويونق
أهوى لك السقيا وإن ضن الحيا ... أغناك عنه ماؤك المتدفق
ويسر فلبي لو تصح لي المنى ... أني أنال بك المقام وأرزق
وإذا امرؤ كانت ربوعك حظه ... من سائر الأمصار فهو موقف
أني التفت فجدول متسلسل ... أو جنة مرضية أو جوسق
يبدو لطرفك حيث مال حديقة ... غناء نور النور منها يشرق
يشدو الحمام بدوحها فكأنما ... في كل عود منه عود مورق
وإذا رأيت الغصن ترقصه (2) الصبا ... طرباً رأيت الماء وهو يصفق
لبست جنان النيربين محاسناً ... وقفت عليها كل طرف يرمق
__________
(1) الزركشي: 359 وذيل مرآة الزمان 1: 513، 2: 181 والبداية والنهاية 13: 236 والحوادث الجامعة: 348 والشذرات 5: 304 وعبر الذهبي 5: 262؛ وقد أخلت المطبوعة بقسم من هذه الترجمة.
(2) ص: يرقصه.(4/384)
فحمامها غرد ونبت رياضها ... خضل وركب نسميها مترفق
وسرت لداريا (1) المعطر تربها ... ريا ذكي المسك منها يعبق
وترى من الغزلان في ميدانها ... فرقاً أسود الغيل منها تفرق
من كل وسنان الجفون محبه ... سهران من وجد عليه مؤرق
حيث الهوى في جانبيه مخيم ... وخيول فرسان الشبيبة تعنق
والقاصدون إليه إما شائق ... متنزه أو عاشق متشوق
صفان هذا باسم عن ثغره ... عجباً، وهذا بالمامع يشرق
هذي المنازل لا أثيلات الحمى ... بعداً لهن ولا اللوى والأبرق
لا تخدعن فما اللذاذة والهوى ... ومواطن الأفراح إلا جلق خذه الخدمة - حرس الله مجد المجلس العالي، وجعل السعادة من صحبه، والأيام من حزبه، والمكرمات من كسبه، وأهدى القرة إلى طرفه والمسرة إلى قلبه، وأوجب له لباس الإقبال ولا روعه بسلبه، وعوض عن الوحشة ببعده الإيناس بقربه - نائبة عن مسطرها في تقبيل يده الكريمة، ووصف مسراته النازحة وأحزانه المقيمة، وشكاية ما أجداه البعد من تحرقه وتلهفه، ووفرته الغيبة من تشوقه إلى الحضرة السامية وتشوفه، هذا مع أن الذكرى تمثل شخصه فلا يكاد يغيب، ويناجيه الخاطر وهو بعيد كمناجاته (2) وهو قريب، وبحسن ذلك أورد هذه الخدمة مطولاً، وأفاض فيها مسترسلاً، متأنساً بمفاوضته، ومتذكراً أوقات محاضرته، وراغباً أن يريه دمشق بعين وصفه، ويثبت نعتها لديه فكأنها حيال طرفه، وأول ما يبدأ بوصف الرحلة إليها ويقول: إن الزمان صورها للنظر قبل الإشراف (3) عليها، فقدمناها
__________
(1) ص: لدياريا.
(2) ص: كما جاءته.
(3) ص: الاشراق.(4/385)
والفصل ربيع، ومنظر الروض بديع، والربى محضرة أكنافها، مائسة أعطافها، تبكي بها عيون السحاب فتتبسم، وتخلع (1) عليها ملابس السباب فتتقمص وتتعمم، فما أتينا على مكان إلا وجدنا غيره أحق بالثناء وأجدر، ولا أفل بدر من الزهر إلا بزغت شمس فقلنا هذا أكبر، حتى إذا بلغت النفس أمنيتها، وأقبلنا على دمشق فقبلنا ثنيتها، رأينا منظراً (2) يقصر عنه المتوهم، ويملأ عين الناظر المتوسم، ظل ظليل، ونسيم عليل، ومغنى (3) بنهاية الحسن كفيل، يطوى الحزن بنشره، ويقف قدر البلدان دون قدره، فيصغر عند صفته شعب بوان، ويغمد في مفاصله سيف غمدان، ويبهت لمباهاته ناظر الإيوان، فالأغصان مائسة في سندسيها، متظاهرة بفاخر حليها، قد ألقحتها الأنهار فأثقلتها بحملها، ولا عبتها الصبا فتلقت كل واحدة بمثلها:
لها ثمر تشير إليك منه ... بأشربة وقفن بلا أواني (4)
وأمواه يصل بها حصاها ... صليل الحلي في أيدي الغواني فسرنا منها بين جنات، كظهور البزاة، وجداول كبطون الحيات، قد هز الشوق أطيارها فصدحت، وحرك النسيم رباها فنفحت، فحنت عليها أفنانها حنو الوالدات على اليتيم، وحجبت عن معارضتنا حاجب الشمس وأذنت للنسيم، فإذا أصابت شمسها فرجة لاحظتنا ملاحظة الحياء، وألقت فضة الماء شعاعها فصححت صنعة الكيمياء؛ ثم أفضينا إلى فضاء قد أثرى من الروض ثراه، وغني عن منة السحاب ذراه، قد تشابه فيه الشقيقان خداً وزهرا، واقترن به الياسمين أقاحاً وثغراً، وتغاير أخضراه آساً وعذارا،
__________
(1) ص: ويخلع.
(2) ص: منظر.
(3) ص: ومعنى.
(4) الشعر للمتنبي.(4/386)
وأصفراه (1) عاشقاً وبهاراً، فأي هم لا تطرده أنهارها المطردة، وفرح لا تجليه أطيارها المغردة. ولما وصلنا إلى محلها الذي هو مجتمع الأهواء، ومقر السراء، ومقتنص الظباء، واستوطنا وطنها الذي هو للظامي نهلة، وللمستوفز عقلة:
أجد لنا طيب المكان وحسنه ... منى فتمنينا فكنت الأمانيا هذا مع إكثاره لا يبلغ اليسير من نعتها، وما نرى آية من الحسن إلا هي أكبر من أختها:
وإن دمشقاً وهي في الأرض جنة ... محاسنها للبعد عنك معايب والله تعالى يجمع الشمل على الإيثار، ويملأ أوطان المولى باليسار. تمت.
ومن شعر ابن زيلاق، رحمه الله تعالى:
إلى الله أشكو هاجري ومعنفي ... عليه فكل جائر في احتكامه
حبيب نأى عني الكرى بملاله ... وواش دنا مني الأسى بملامه
غريب المعاني قام عذر صبابتي ... بحسن عذاربيه ولين قوامه
له هيف الغصن الرطيب ولينه ... ولي من تجنيه بكاء حمامه
تفرد قلبي دونه بهمومه ... وشارك جسمي خصره في سقامه
سقى الله ليلاً حين جاد بوصله ... وقد كان لا يسخو برد سلامه
فطاف كمثل الظبي عند التفاته ... بحمراء مثل الجمر عند اضطرامه
كسا المزج (2) أعلاها حباباً كأنه ... ثناياه أبداهن حسن ابتسامه
شككنا فلم نعرف أمنظوم عقده ... من الدر أم من ثغره أم كلامه
ولم ندر هذا السكر من سحر طرفه ... ومن خده والريق أم من مدامه
__________
(1) ص: وصفراه.
(2) ص: المزاج.(4/387)
وقال أيضاً:
يفديك جفن بمائه شرق ... جار عليه البكاء والأرق
ومهجة لم تزل حشاشتها ... منك بنار الجفاء تحترق
يا قمراً أصبحت محاسنه ... تنهب ألبابنا وتسترق
تجمعت فيك للورى فتن ... على تلاف النفوس تنفق
طرف كحيل ووجنة كسيت ... حمرة دمعي ومبسم يقق
جالت على عطفه ذوائبه ... كالغصن زانت فروعه الورق
رأوك لي بجنة معجلة ... ما وجدوا مثلها ولا رزقوا
هم حسدوني عليك فاختلفوا ... بكل زور عليك واختلفوا
سعوا بتفريقنا فلا اجتمعوا ... على وصال يوماً ولا اتفقوا
فأين كانوا وأدمعي بدد ... تركض في وجنتي وتستبق
ومقلتي حشوها السهاد وأح ... ناء ضلوعي تعتادها الحرق
ماذا يضر الوشاة أنهم ... رقوا لقلبي الموجوع أو رفقوا
بمن كسا وجنتيك من حلل ال ... حسن رياضاً نسيمها عبق
وأطلع البدر من جبينك مح ... فوفاً بصدغ كأنه الغسق
لا تثن عطفاً إلى الوشاة فما ... سلاك قلبي لكنهم عشقوا
أنت بحالي أدري وحالهم ... قد وضحت في حديثنا الطرق
ما كنت يوماً إليك معتذراً ... لو أنهم في مقالهم صدقوا وقال أيضاً:
أظهرت حسن معانيه الشمول ... فاختفى اللائم واستحيا العذول
وثنت منه الحميا قامة ... علمت بأن الحمى كيف يميل
رشأ يفتك في عشاقه ... صارم من لحظه الساجي صقيل
أصل وجدي فيه فرع مرسل ... مثل ليلي فاحم اللون طويل(4/388)
وفم عذب وثغر أشنب ... خصر من برده يشفي الغليل
أنا للجفوة منه قابل ... ولأعباء تجنيه حمول
وأمور الحب من أعجبها ... أن ترى القاتل يهواه القتيل وقال أيضاً:
لك السلامة من وجدي ومن حرقي ... وما تعانيه أجفاني من الأرق
أردت فينا كؤوس الشوق مترعة ... وأسكرتنا حمياها فلم نفق
يا مظهراً بمحياه وطرته ... فضيلة الجمع بين لاصبح والغسق
حملت مهجتي الأسقام فاحتملت ... وزدتها بعده بعداً قلم تطق
مهما نسيت فلا أنسى زيارته ... في خفية لابساً ثوباً من الفرق
نشوان تستر عطفيه ذوائبه ... كما اكتسى الغصن الميال بالورق
يسعى إلي براح من مقبله ... يلذ مصطبحي فيها ومغتقي
لا أسأل الليل عن بدر السماء إذا ... رقدت فيه وبدر الأرض معتنقي وقال أيضاً:
ثنى مصل قد السمهري ولينه ... وجرد عضباً مرهفاً من جفونه
وبات يرينا كيف يجتمع الدجى ... مع الصبح في أصداغه وجبينه
وكيف قران الشمس والبدر كلما ... غدا يلثم الكاس التي بيمينه
وبت أفديه بنفس بذلتها ... غراماً لمحفوظ الجمال مصونه
وأرخص دمع العين وجداً بمبسم ... يقابله من دره بثمينه
سقى ذلك الوادي وإن فتكت بنا ... نحور حواريه وأعين عينه
ولا زال مبيض الأقاحي ضاحكاً ... به كل منهل الغمام هتونه وقال أيضاً:
بعثت لنا من سحر مقلتك الوسنى ... سهاداً يذود الجفن أن يألف الجفنا
وأبرزت وجهاً يخجل البدر طالعاً ... ومست بقد علم الهيف الغصنا(4/389)
وأبصر جسمي حسن خصرك ناحلاً ... فحاكاه لكن زاد في دقة المعنى
أسمراء إن أطلقت بالهجر عبرتي ... فإن لقلبي من تباريحه سجنا
وإن تحجبي بالبيض والسمر فالهوى ... يهون عند العاشق الضرب والطعنا
وما الشوق إلا أن أزورك معلناً ... فلا مضمراً خوفاً ولا طالباً إذنا
وألقاك لا أخشى الغيور وانثني ... ولو حجبت أسد الشرى ذلك المغني وقال أيضاً:
أريقته في الكأس أم صرف خمره ... وهذا حباب المزج أم سمط ثغره
يضوع بأيدينا وقد قام ساقياً ... بصنفيه من نشر المدام ونشره
له جنة من وجنيته وإنما ... تعارضنا من دونه نار هجره
وصبح جبين نعتدي بضيائه ... إذا ما ضلننا في غياهب شعره
لئن كان دمعي مطلقاً بجفائه ... ففي أسره قلبي المعنى بأسره
وليل طويل العمر أحوى كأنه ... غدائر من أهواه أو يوم غدره
إذا خشيت فيه المنى من ضلالها ... هدانا إلى مطلبوها نور بدره وقال أيضاً:
بدا لنا من جبينه قمر ... تضل في ليل شعره الفكر
ظبي غرير في طرفه سنة ... يلذ فيها للعاشق السهر
جديد برد الشباب حف بري ... حان وورد بخده نضر
ولا رعت مقلة نبات عذا ... ريه فيحاج عنه تعتذر
جوامع الحسن فيه جامعة ... فالقلب وقف عليه والبصر وقال أيضاً:
ألم وأعين الرقباء وسنى ... كما تم الهلال سناً وسنا
ومال بعطفه مرح التصابي ... كما عطفت نسيم الروض غصنا
وخص رياض خديه شقيق ... يلوح عليه خال عم حسنا(4/390)
وطاف بقهوة لم تبق فيها ... مصاحبة الليالي غير معنى
فخلنا الشمس طالعة علينا ... وقد برزت من الراووق وهنا
فلا تحفل بأعمال المصلى ... ولا تسأل بها طللاً ومغنى
ومل نحو الخلاعة والتصابي ... إذا فن مضى جددت فنا
وعاط الكأس أحرو ذا دلال ... أغن يناسب الظبي الأغنا
يظن حمامة تشدو بغصن ... إذا ما مال معتدلاً وغنى وقال رحمه الله تعالى، موشح:
يا نديمي بالرياض قفا ... فهي لي مذهب
وأديراها سلافاً قرقفا (1) ... لونها مذهب
خلت فيها الحباب حين صفا ... أنجماً تغرب
حجبت بالبهاء والحسن ... عن عيون الشر
وبدت في الخفاء كالوهم ... تجتني بالفكر
لا تخالف يا منيتي أمري ... وادعني بالرحيق
ما ترى صحبتي من السكر ... ليس فيهم مفيق
نحن قوم من شيعة الخمر ... ونحب العتيق
قد نقضنا (2) غياية (3) الحزن ... بسماع الوتر
وحمانا من ناصب الهم ... وعدك المنتظر
صاح لا تستمع من اللاحي ... واطرح ما يقول
فمن الغبن إن تبت صاحي ... من كؤوس الشمول
__________
(1) غير منسجم في الوزن مع سياق الأشطار الأخرى.
(2) لعل الصواب ((رفضنا)) ليكون ((الرفض)) مقابلاً ل؟ ((النصب)) .
(3) ص: عناية.(4/391)
فاكس راح النديم بالراح ... واعص قول العذول
ما ترى العذل في الصبا يغني ... عن " ... "
بنت خدر تشفي من السقم ... فاقض منها وطر
حث شمس الكؤس يا بدر ... فالندامى نجوم
واستقنيها كأنها تبر ... من بنات الكروم
ضحكت في ثغورها الزهر ... ببكاء الغيوم
وتغنت بأطيب اللحن ... صادحات الشجر
ناطقات بالسن عجم ... طاب شرب السحر
حثها بيننا رشاً وسنان ... نلت منه الأمان
ناعس الطرف بابلي الأجفان ... باسم عن جمان
قد سكرنا من لحظه الفتان ... قبل خمر الدنان
رب خمر شربت من جفن ... واجتنيت الزهر
من خدود تحمى عن اللثم ... بسيوف الحور وقال أيضاً:
أمحل صبوتنا تحية مغرم ... يهدي السلام على البعاد برغمه
أثرى ثرى ذاك الجناب من الحيا ال ... غادي ومن لي لو ظفرت بلثمه
فبشعب ذاك الحي مثل غزاله ... في غنجه وهلاله في تمه
دمعي ومبسمه لكل منهما ... معنى غنيت بنثره وبنظمه
والخصر منه والجفون وعهده ... كل كسا جسمي النحول بسقمه
متلون أصلي بجمرة حربه ... طوراً وطوراً أستريح بسلمه
ويسيء بي فعلاً ويحسن ثغره ... لثماً فيشفع ظلمه في ظلمه وقال أيضاً:(4/392)
ما وجه عذرك والكؤوس تدار ... ضاقت بمن جهل الصبا أعذار
سفرت لك اللذات واتسعت بها ال ... أوقات واجتمعت لك الأوطار
ساق يسوق إلى السرور ومطرب ... حسن الغناء وروضة وعقار
أو ما ترى حسن الربيع وقد غدا ... يختال في حبراته آذار
روض كما يرضي العيون يزينه ... زهر تسر بحسنه الأسرار
وجداول نشأت بهن حدائق ... ضحكت خلال فروعها الأنوار
وكأنما أشجارهن عرائس ... تجلى ومن در السحاب نثار
تشدو حمائمها ويرقص دوحها ... غب الصبا وتصفق الأنهار
فأدم لنا أفراحنا بمدامة ... لم تتصل بصفائها الأكدار
حمراء تبدو في الكؤوس كأنها ... ذهب عليه من اللجين إزار
يسعى عليك بها غرير أهيف ... نوم المحب إذا جفاه غرار
وسنان فيه للغزالة وابنها ... وجه وطرف فاتر ونفار
رشأ ولكن في القلوب كناسه ... قمر ولكن أفقه الأزرار
ظهرت عذاراه فزادت وجهه ... نوراً وتشرق في الدجى الأقمار
وأفاك يحمل مثل ما في خده ... ماء به تروي القلوب ونار
في مجلس تمت لساكنه (1) المنى ... وتكفلت بسعودها الأقدار وقال أيضاً:
سل عن فؤاد بنار الهجر تحرقه ... وناظر بتجنيه تؤرقه
ولا ترج سلواً من غريم هوى ... موكل بجديد الصبر يخلقه
أهواه معتدل العطاف مائلها ... يجور في إذا ما اهتز مورقه
غصن ولكن بماء الحسن منبته ... بدر ولكن من الأزرار مشرقه
يجلو الظلام محياه ويعذب مج ... ناه وتحلو ثناياه ومنطقه
__________
(1) ص: بساكنه.(4/393)
ملاحة تسترق القلب رقتها ... ونظم ثغر يروق العين رونقه
ثلاثة منه أعداني السقام بها ... مجرى الوشاح وجفناه وموثقه
ألقى الرماح بقلب غير مكترث ... وأتقي طرفه الساجي وأفرقه
فالأبيض العضب ما تبديه مقلته ... والأسمر اللدن ما يحويه قرطقه وقال أيضاً:
قم لا عدمتك فالرياح تغربل ... والرعد يطحن والغمائم تنخل
والمسك قد عجن الثرى بسحيقه ... والعود يحرق والحميا تشعل
والدن تنور توقد جمرة ال ... صهباء باطنه وفار المبزل
هي قوت أرواح عنت بحصادها ال ... أيدي كما اكتنف الدياس الأرجل
اللون تبر والحقيقة جوهر ... والريح مسك والمذاقة فوفل
والبرد قد ولى فمالك راقداً ... متدثراً (1) يا أيها المزمل؟
أو ما ترى فصل الربيع وحسنه ... والروض يضحك والحيا يتهلل
والغيم كالكافور ينثر لؤلؤاً ... والجومسك والغدير مصندل
أبدت بدائع زهرها لك جنة ... قد زخرفت فنعيمها متعجل
نسجت يدا الإبداع وشي رقومها ... فلأجل ذاك النسج عيني تغزل
فمحمر ومصفر ومبيض ... وموطس ومريش ومكلل
ومدبج ومكتب ومذهب ... ومفضض باللازورد مكحل
جل المكون أعينا ما زانها ... كحل ومبدع صبغة لا تنصل
فإذا اجتليت فكل شبر نزهة ... وإذا ظمئت (2) فكل باع منهل
فهزارها شحرورها ورشانها ... سمانها دراجها والبلبل
هذا يجاوي ذا بأحسن منطق ... فإذا شدا الثاني أعاد الأول
__________
(1) ص: راقد متدثر.
(2) ص: ضميت.(4/394)
وتقيم مأتمها الفواخت سحرة ... فكأنهن مفجعات ثكل
وعلى الغدير شباك تبر حاكها ... شمس الضحى وسنا دروع تصقل
روض ومعشوق وحسن حمائم ... وصفاء ساقية وراح سلسل
وظلال غادية فسيف بروقها ... ماض وطيب هوائها مستقبل
والشمس تجنح للغروب فثوبها ال ... ذهبي مصفر البقاع مجلل
ما للمسرة عن حمانا مخرج ... كلا ولا لأسى علينا مدخل
ومحاسن الحدباء مشرقة على ... كل البلاد لها الفخار الأفضل
يا حبذا الشرف المطل وديرها ال ... عالي وطيب فضائه والهيكل
ورواقه " وبهاؤه " (1) وجواره ... والعيش فيه والهواء الأعدل
وعبيره يهدي بطيب نسيمه ... وشموله يبقى فدام الشمأل
يا طيب صحته وصحبته ونا ... قوس الصباح على الصبوح يحيعل
مغنى أقام به الرشيد وحله ال ... منصور والمأمون والمتوكل
يا ساحة الحدباء تربك إثمد ... للناظرين فما الدخول فحومل؟
هبني أحاول غيرها أو أبتغي ... عوضاً عن الأوطان أو أتبدل
فعن الذين عهدتهم بفنائها ... أهلي وجيراني بمن أستبدل فيجور أحياناً وطوراً يعدل
صبراً فكل ملمة من بعدها ... فرج وكل عسير أمر يسهل وقال أيضاً:
وإذا شكوت من الزمن ومسني ... ضيم ونكس صعدتي إعسار
وعلمتم أني بكم متعلق ... فعلى علاكم لا علي العار
__________
(1) سقط من ص وزدته من المطبوعة.(4/395)
599 - (1)
الملك الجواد
يونس بن مودود (2) بن محمد بن أيوب، السلطان الملك الجواد مظفر الدين ابن الأمير مظفر الدين ابن الملك العادل أبي بكر؛ كان في خدمة عمه الكامل، فوقع بينهما، فسار إلى عمه المعظم فأقبل عليه، ثم عاد إلى مصر واصطلح مع الكامل، فلما مات الأشرف جاء مع الكامل إلى دمشق، فلما مات الكامل تملك الجواد دمشق. وكان جواداً كلقبه، ولكن كان حوله ظلمة، وكان يحب بالصالحين والفقراء.
وتقلبت به الأحوال وعجز عن مملكة دمشق، وكاتب الصالح نجم الدين أيوب، فقدم وسلم إليه دمشق وعوضه سنجار وعانة، وسار إلى الشرق فلم يتم له الأمر، وأخذ منه سنجار وبقى بيده عانة، فسار إلى بغداد وقدم على الخليفة فأكرمه، فأباعه عانة بذهب كثير، ثم سار إلى مصر وافداً على عمه الصالح فهم بالقبض عليه، فتسحب إلى الكرك إلى الملك الناصر داود، فقبض عليه. ثم انفلت منه وقدم على الصالح إسماعيل صاحب دمشق فلم يهش له، فقصد ملك الفرنج الذي بصيدا وبيروت فأكرمه، وشهد مع الفرنج وقعة قلنسوة، وقتل فيها ألف مسلم، ثم بعث إليه الصالح الأمير ناصر الدين ابن يغمور ليحتال عليه بخديعة، فيقال ابن يغمور اتفق معه على مسك الصالح اسماعيل، ثم إن الصالح ظفر بهم فسجن الجواد بقلعة
__________
(1) مرآة الزمان: 704 وتاريخ أبي الفدا (وفيات سنة 638) والسلوك 1: 214 والنجوم الزاهرة (ج؟: 6 صفحات متفرقة) ومرآة الجنان 4: 104.
(2) ص: ممدود.(4/396)
غزتا وسجن ابن يغمور بقلعة دمشق، فطلب الفرنج الجواد من الصالح وقالوا: لا بد منه، فأظهر أنه مات، ويقال إنه خنقه، وأخرج من السجن ميتاً، ودفن بقاسيون بتربة المعظم العظم سنة إحدى وأربعين وستمائة، رحمه الله، ويقال إن أمه كانت أفرنجية، والله أعلم.(4/397)
فراغ(4/398)
تم المجموع المسمى بفوات الوفيات والذيل عليها في العشر الأول من المحرم سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام الحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وحسبنا الله ونعم الوكيل.(4/399)