وخبرة بإظهار المصالح الخفية وفيّة، وبإبراز معادن الأموال من وجوهها الجليّة مليّة، ومعرفة تعمّ البلاد بين الرغبة والرهبة، وتجعل مثل ما يودع فيها بالبركة والنماء مثل حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبّة- اقتضت آراؤنا الشريفة أن ننبّه على حسن اعتنائنا بأمره، واعتمادنا بما قدّمه من أسباب إسناء رتبته ورفعة قدره؛ فلذلك رسم- زاد الله في علائه- أن يفوّض إليه...............
فليباشر ذلك مظهرا من مصالح الدولة القاهرة ما كان في ضمير كفايته مكنونا، مبرزا من تثمير الأموال وتعمير الأعمال ما يحقّق به من خصب البلاد بمشيئة الله تعالى ما كان مظنونا، مواليا إلى الخزائن المعمورة من حمول تدبيره ما يمسي به طائر تصرّفه ميمونا، وسبب توقفه مأمونا. وليكن النّظر في عمارة البلاد هو المهمّ المقدّم لديه، والأمر الّذي يتعين توفّر اهتمامه عليه، فليجتهد في ذلك اجتهادا يظهر أثره، ويجتنى ثمره، ويحمد ورده وصدره، وتتفرّع عنه أنواع المصالح، وتترتّب عليه أسباب المناجح؛ وملاك ذلك بسط المعدلة الّتي هي خير للبلاد من أن تمطر أربعين يوما، واعتماد الرّفق الّذي لا يضرّ معه البأس قوما، ولا يجلب على فاعله مع الحزم لوما، ولا يطرد عمن أنامه العدل في مهاد الدّعة نوما؛ وليصرف إلى استجلاب الأموال وموالاة حملها همّة ناهضة، وعزمة إلى ما قرب ونأى من المصالح راكضة، وقوّة بأسباب الحزم آخذة وعلى أعنّة التدبير قابضة، وفيما خبرناه من عزائمه المشكورة، وسيرته الّتي ما برحت بين أولياء دولتنا القاهرة مشهورة، ما يكتفى به عن الوصايا المؤكّدة، ويوثق به فيما عدق به من الأمور المسدّدة؛ لكن تقوى الله تعالى أولى الوصايا وأوّلها، وأحقّ ما تليت عليه تفاصيلها وجملها؛ فليقدّم تقوى الله بين يديه، ويجعلها العمدة فيما اعتمد فيه عليه، بعد الخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه.
الوظيفة الثانية- شدّ المهمّات
. وصاحبها يتحدّث فيما يطلب للأبواب السلطانية من المستعملات وغيرها. وقد ذكر في «التثقيف» أنّ عادته أن يكون(12/33)
مقدّم ألف «1» وهذه نسخة توقيع بشدّ المهمات بدمشق، وهي:
الحمد لله الّذي شدّ عرى المصالح من الأولياء بكل ذي أيد «2» ، وكلّ من هو في المهمات أبطش بعمرو من زيد، ومن له تدبير كم أغنى باقتناصه لشوارد الأمور عن حبالة صيد.
[وبعد] «3» فإن أحق من استخلص لاستخلاص الأموال، واختير لصونها من الاختزال وحفظها من الاختلال، وأهّل قلمه وكلمه: هذا للتمثيل وهذا للامتثال، وفوّض إليه التّصرّف في الترغيب والترهيب، والاجتهاد في التّمييز والتّحرير والتّوفير إذ كلّ مجتهد مصيب- من اشتهر بأنه ذو حزم لا يني، وعزم عن المصالح لا ينثني، واحتفال بالأحوال الّتي منها نكر لمن يجني وشكر لمن يجتني، وله نباهة يدرك بها كلّ إيهام وكلّ إبهام، ويطلع [بها] «4» على فلتات ألسنة الأقلام، ويفهم بها مقاصد كلّ من هو من الجنّة في كلّ واد يهيم، ولا يخفى عليه جرائر الجرائد ولا مخازي المخازيم «5» ؛ وفيه رحمة كم أصبح بها وهو الأتقى، ولم يأت قساوة يكون بها هو المنبتّ «6» الذي لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى؛ وكم ساس الأمور ودبّرها فأحسن فيها السياسة وأجمل التدبير، واستخرج [الشّيء الكثير] «7» بالتخويف اليسير، حتّى جمع حسن تدبير واسترعا، وصنع حسنا وأحسن صنعا.(12/34)
ولما كان فلان هو لهذا الأمر الجليل المسترعى، واسمه في أوّل مدارج التّنويه والتّنويل خير مستدعى، وفيه من جميل الأوصاف ما يرضي حسن الاقتراح وقد خبر أمور الكتبه، وقد علم من أحوالهم ما هو أحرى لهم بالتّجربة، وعرف خفايا المعاملات معرفة تامّة، وأحاط بجزئيات الجهات وكلّيّاتها إحاطة خاصّة وعامّة- اقتضى حسن الرّأي المنيف، أن رسم بالأمر الشريف- لا برح يشدّ عضد كلّ مهتمّ من الأولياء بأخي كل عزم، ويجعل له سلطانا لا يكل مصلحة إلى حزم ذي حزم- أن يفو- ض إليه شدّ- المهمات بالشام المحروس.
فليضبط الأمور ضبطا مستوعبا، ولينتصب لذلك انتصابا مترتّبا، وليحترز منفّذا ومصرّفا، ومسرعا ومستوقفا، ومتى ظهر حقّ يتمسك به تمسّك الغريم «1» ، ولا يحاب فيه ذا بأس قويّ ولا ذا منهج إلى المنع والدّفع غير قويم؛ وما من جهة إلا ولها شروط صوب الصّواب، ولا يعتمد على غير الحقّ منكّبا عن ترويج الكتاب، ولتكن الحمول مسيّرة، والمتخرّجات متوفّرة، وجهات الخاصّ مقرّرة، إذ الضّمّان لا ينتظر لهم نظرة إلى ميسرة «2» ، فإنهم سوس المعاملات، وكواسر الجهات، ومنهم يحفظ أو يضاع، وبهم يترقّى أو ينحطّ الارتفاع، وجهات المقطعين الواجب له أن يجعل عليها واقية باقية، ولتحم لهم حتّى لا يتطاول إلى ذروتها امتداد الأيدي المختزلة ولا خطا العدوان الرّاقية، وليصرف وجهه بحفظه إلى مراقبة من في باب الشّدّ «3» من مقدّمين ومن رسل يأكلون أموال الناس بالباطل، ويبيعون الآجل بالعاجل، ويخيفون العامّ والخاص، وكل منهم يروم الغناء وهو رقّاص.
هذه زبدة من الوصايا مقنعة، وعزمات غنيّة عن تكثير في القول أو توسعة؛ والله تعالى يكون له ويعينه، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.(12/35)
الصنف الثاني (من الوظائف بدمشق الوظائف الدينية، وجميع ما يكتب فيها تواقيع، وهي على مرتبتين)
المرتبة الأولى (ما يكتب في قطع النصف ب «المجلس العاليّ بالياء» مفتتحا ب «الحمد لله»
وبذلك يكتب للقضاة الأربعة بحاضرة دمشق.
وهذه نسخة توقيع بقضاء الشافعية بدمشق المحروسة، كتب به لقاضي القضاة «بهاء الدين أبي البقاء السّبكي» «1» وهي:
الحمد لله الّذي أقرّ أحكام الشّرع الشريف، في أيامنا الزاهرة على أكمل القواعد، وأمرّ مدار الحكم المنيف، في دولتنا القاهرة على أجمل العوائد، وأمضى فصل القضاء في ممالكنا الشامية بيد إمام غنيت فضائله عن الشواهد، وأمته الأئمّة لاقتباس الفوائد، وعدقت أحكام الملّة منه بمجاهر في الحق مجاهد، مسدّد في الدّين سهم اجتهتاد رمى به شاكلة «2» الصّواب عن أثبت يد وأشدّ ساعد.
نحمده على نعمه الّتي حلّت مناصب الدين في ممالكنا الشريفة بأكفائها، وعلّت رتب العلم في دولتنا القاهرة باستقرار من جعلته فضائله غاية اختيارها ونهاية اصطفائها، ودلّت على اعتنائنا بتنفيذ أحكام من أتعبت سيرته الجميلة من سهد في اتّباعها وجهد في اقتفائها، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لا تزال أعلامنا بها تنتصر، وأيّامنا على الجهاد لتكون كلمتها(12/36)
هي العليا تقتصر، وأقلامنا لنشر دعوتها في الآفاق تسهب ولا توجز وتطنب ولا تختصر، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أشرف من قضت أمّته بالحقّ فعدلت، وتلقّت عنه أحكام ملّته ففاقت بذلك الأمم وفضلت، وحكمت بما أراها الله من شرعته فما مالت عن سننه القويم ولا عدلت، صلّى الله عليه وعليه آله وصحبه الذين أسلموا لله فسلموا، وعملوا في دين الله بما علموا، وبذلوا النفوس في طاعته فما استكانوا لما أصابهم في سبيل الله ولا ألموا، صلاة نؤدّي بها من أمر الله المفترض، ونرغم بإقامتها الذين في قلوبهم مرض، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن أولى من تنقّل في رتبه السّنيّة، ووطّدت له بمصر والشّام قواعد سيرته السّريّة، وأطلقت جياد اليراعة في إمضاء حكمه في المملكتين مثاني أعنتها وأنطقت صعاد البراعة في أعلاء بهائه فيهما [السنة] «1» أسنتها وأردنا أن نردّه إلى أعزّ الممالك علينا لنقرّ عينها، وقصدنا أن نعيده إلى رتبته بها لنوفّي باستعادته دينها، واخترنا أن نجدّد لهذه الوظيفة سالف عهده، وأن نريه اعتتناءنا بأمر منصبه الّذي لم يله مثله من الأئمّة من بعده، وعلمنا أنّ الديار المصرية قد اختصت بفضائله زمنا طويلا، وأن البلاد الشّاميّة قد ألفت من أحكامه ما لم ترد به بديلا- من ظهرت فضائله ظهور نعته، وتهادت فوائده رفاق الآفاق: من علماء زمانه وأئمة وقته، وعلمت أوصاف الصّدور الأول من علمه وورعه وسمته «2» ، ونشرت الأيام من علومه ما لم يطوبل تطوى إليه المراحل، ونقلت الأقلام من فنونه ما روى فيروى به السّمع الظّامي ويخصب به الفكر الماحل، وألفت الأقاليم من حكمه ما غدت به بين مسرور بإشراقه، ومروّع بفراقه، فمن أقضية مسدّدة، وأحكام مؤيّدة، وأقوال منزّهة عن الهوى، وأحوال صادرة عن زهادة محكمة القواعد ونزاهة مجتمعة القوى، وإصابة دالّة على ما وراءها من علم وورع، وإجابة في الحقّ تحيا بها السّنن وتموت البدع، وشدّة في الدّين تصدع(12/37)
في كل حكم بالحقّ وإن صدع، وعدل لا يستلان جانبه، وحزم لا يستزّل صاحبه، ولا يستنزل راكبه، وقوة في الحقّ تمنع المبطل من الإقدام عليه، ولين في الله يفسح للحقّ مجال القول بين يديه، ومجالس غدت بالعلم طيّبة الأرج، وفضائل يحدّث فيها عن موادّ فكره عن البحر ولا حرج؛ وبدائع تضرب إلى استماعها أكباد الإبل، وبدائه تهرم الأيام وعمر شبابها مقتبل.
ولما كان المجلس العاليّ- أدام الله نعمته- هو الّذي ورد على أبوابنا العالية ونور ولائه يسعى بين يديه، وصدر الان عنها وحلل آلائنا تضفو عليه، وأقام في خدمتنا الشريفة معدودا في أكرم من بها قطن، وعاد إلى الشّام مجموعا له بين مضاعفة النّعم والعود إلى الوطن، وهو الّذي تختال به المناقب، وتختار فضله العواقب، ويشرق قلمه بالفتاوى إشراق النّهار، وتغدق منافعه إغداق السّحب بالأمطار، وتحدق الطّلبة به إحداق الكمامة بالثّمر والهالات بالأقمار؛ وهو شافي عيّ كلّ شافعيّ، ودواء ألم كل ألمعيّ؛ طالما جانب جنبه المضاجع سهادا، وقطع اللّيل ثم استمدّه لمدد فتاويه مدادا، وجمع بين المذهبين نظرا وتقليدا، والمذهبين من القولين قديما وجديدا، وسلك جميع الطّرق إلى مذهب إمامه، وملك حسانها فأسفر له كلّ وجه تغطّى من أوراق الكتب بلثامه، وانفتحت بفهمه للتصانيف أبواب شغلت «القفّال» «1» أقفالها، ونفحت نفحات ما (للماورديّ» مثالها، ومنحت حللا يفخر «الغزاليّ» إذا نسج على منواله سربالها؛ فلو أدركه «الرّافعيّ» لشرح «الوجيز» »
من لفظه، وأملى(12/38)
أحكام المذاهب من حفظه، وصدّر المسائل بأقواله، وأعدّ لكلّ سؤال وارد حجّة من بحثه وبرهانا من جداله؛ فله في العلم المرتقى الّذي لا يدرك، والمنتهى الّذي لا ينازع في تفرّده ولا يشرك، والغاية الّتي أحرزها دون غيره فلولا المشقة لم تترك، وهو الّذي ما زال بهذه الرتبة مليّا، وبما عدق بذمّته من أحكامها وفيّا، وبكلّ ما يرضي الخليقة عنه من أحوالها قائما وكان عند ربّه مرضيّا، وبأعبائها مستقلّا من حين منحه الله العلم ناشئا وآتاه الحكم صبيّا. وما برح تدعوه التّقوى فيجيبها، ويترك ما لا يريب نفسه تنزيها عمّا يريبها؛ فكم فجّر بالبلاد الشّاميّة من علمه عيونا، وغرس بها من أفنان فضله فنونا، وكان لها خير جار ترك لها ما سواها، وأكرم نزيل نوى بالوصول إليها مصلحة دينه فلم يضيّع الله له نيّته الّتي نواها، وألف قواعد أهلها وعوائدهم، وعرف بحسن اطلاعه ما جبل الله عليه غائبهم وشاهدهم، وعدوه من النّعم المقبلة عليهم، واقتدوا في محبّته بالذين تبوّأوا الدّار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم؛ ثم قدم إلى الدّيار المصرية وما كان قدومه إلا علينا، ووفد إليها بحسن مودّته ومحبته اللّتين ما وفد بهما إلا إلينا، فرأينا منه إماما لا يحكم في توليته الحكم بالهوى، ولا ينوى في تقليده القضاء غير مصلحة المسلمين «ولكلّ امري ما نوى» ؛ وهو- بحمد الله- لم يزل بقواعد هذا المنصب خبيرا، وبعوائد هذه الرتبة بصيرا، وبإجرائها على أكمل السّنن وأوضح السّنن جديرا، وبإمضاء حكم الله الّذي يحقّق إيجاد الحقّ فيه للأمة أنّه من عند الله وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً
«1» ، مع ما تكمّلت به فضائله من الوقوف مع الحقّ المبين، والتّحلّي بالورع المتين، والتّخلّي للعبادة الّتي أصبح من اتصف بها مع النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين.
فلذلك رسم بالأمر الشريف الأشرفيّ النّاصريّ- لا زال علم العلم في(12/39)
أيامه مرفوعا، وألم الجهل بما خص الله به دولته من الائمة الأعلام مدفوعا- أنّ يفوّض إلى المشار إليه قضاء القضاة الشافعيّة، ونظر الأوقاف بدمشق المحروسة وأعمالها بالبلاد الشامية، وما هو مضاف إلى ذلك من الصدقات والتّداريس والتصدير وغير ذلك، على عادة من تقدّمه في ذلك وقاعدته ومعلومه.
فليقابل هذا التقليد السعيد بيد زيد في الحقّ تمكّنها، وعلى الخير تمرّنها، وفي العدل انبساطها، وفي أحكام الله تعالى بحسن المعاضدة على الحقّ قوّتها واحتياطها، وليمض على ما ألف من سيرته الّتي زان العلم أوصافها، وزان الورع اتّصافها، وحلّى العدل مفاخرها، وأحيا التّقى مآثرها، وتناقلت رفاق الآفاق أحكامها، واستصحبت من هدايا هداها ما تتحف به حكّامها؛ وفيما نعت من محاسنه ما يغني عن الوصايا المجدّدة، والإشارات المردّدة؛ لكن الذكرى بتقوى الله تنفع المؤمنين، وترفع المتّقين، وتجمع مصالح الدنيا والدين؛ فلجعلها خلقه ما استطاع، ولير حكمها هو الحكم المتبع وأمرها هو الأمر المطاع؛ والاعتماد.. «1» . رابع عشر المحرم سنة خمس وسبعين وسبعمائة.
قلت: ولم أقف على تفويض لقاض من كتابة من تقدّم سوى تفويض واحد، من إنشاء المقر الشّهابيّ «2» بن فضل الله، كتبه لقاضي القضاة «شهاب الدين ابن المجد عبد الله» بالشام المحروس، على مذهب الإمام الشافعيّ. وهذه نسخته:
الحمد لله على التّمسّك بشرائعه، والتّنسّك بذرائعه، والتّوسّل إلى الله بتأييد أحكام شارعه، والتوصل به إلى دين يقطع به من الباطل أعناق مطامعه.
نحمده حمدا يأخذ من الخير بمجامعه، ويضاهي الغمام في عموم(12/40)
منافعه، ويباهي السيف بقلم الشرع في قهر عاصيه وحماية طائعه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تؤدّي للإيمان أمانة ودائعه، وتهدي إلى صيانة مشارعه، وتقيم من العلماء كلّ شهاب تقسم الأنوار بلوامعه، وتقسم الأبصار ببدائعه، وتجول الفتاوى في صدره الفسيح وتتجوّل في شوارعه، وترهف منهم للحكم العزيز كل قلم يدلّ السهم على مواقعه، وينبّه الرمح من مقاتل الأعداء على مواضعه، ويسري غمامه إلى الأعداء بصواعقه وإلى الأولياء بهوامعه، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي أسعد الأمة بطالعه، وأصعد الأئمة في مطالعه، وأسعف الملّة بما أبقى الله فيها من حسن صنائعه ويمن طلائعه، ومن شريعته الّتي أمن حبلها الممدود من جذب قاطعهع، وكفي شر قاطعه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة [تتوالى إليه توالي] «1» العذب إلى منابعه؛ وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن الله لما أقامنا لحماية شرعه الشريف أن يستباح حماه، أو يباح لأحد من حكّامه أن يركب هواه، أو يتعدّى حدوده في سخطه أو رضاه، أو يحدث في أمره ما ليس منه إلا أن يكون ردّا على سواه [جعلنا] «2» نجدّ على إقامة مناره أن يطمس، وإدامة مبارّه أن يقلع منارها أو يبخس، استدامة لتأبيس «3» حكّامه، وتأييد أحكامه، لأنّه سحائب أنواء يعمّ الربيع ربوعها، ومشكاة أنوار يكاثر الصّباح لموعها، وأفاويق وفاق تنيم به الأمّة ضروعها، وشجرة مباركة إسلامية زكت أصولها ونمت فروعها، شكرا لله على ما خصّنا به: من تحصين ممالك الإسلام، وتحسين مسالك دار السلام، لنمنع المحن أن تسام، وبروق الفتن أن تشام، ووجوه الفتوى أن تتزين إلّا بشامة الشّام، غبطة بأن الله جعل للإسلام منها ما هو خير وأبقى، وأشرف وأتقى، وأعظم بلد تتشعّب بالمذاهب طرقا، وتودّ المجرّة لو وقفت بها على الشريعة نسقا، تتزاحم في مركزها(12/41)
الأعلام، وتتضافر على الجهاد في الله بالجلاد والجدال تارة بالسيوف وتارة بالأقلام. ودمشق حرسها الله هي أمّ ذلك الإقليم، ومدده الّذي يحنو على مشارعها حنّو الوالدة على الفطيم، وتنبت بها فوائد لا تأمن معها الغواني حتّى تلمس «جانب العقد النّظيم» ؛ وهي دار العلم، ومدار الحكم، وموطن علماء تتعاقب فيها كواكبهم، وتتناوب سحائبهم، وتتناهى إلى حكمها العزيز الشكوى وتنفصل بحكم حاكمها الدعوى، ويمتدّ جنناح طيلسانه على رضوى «1» ويحلق البرق وراء فهمه ولا يبلغ غايته القصوى، ويطول قلمه على السيف المشهّر «2» ، ويرفرف سجلّه على الشرع المطهّر؛ كم حلّت في صدوره صدور، وكم طلعت منهم شموس وبدور، وكم حمدت منهم أمور عاقبة ولله عاقبة الأمور، كم أداء درس بهم ذكر، وكم أدب نفس شكر، كم بهم مجد رسخ، وجدّ لملّة ممالاة نسخ، كم أقضية لهم بالحق وصلت، وقضيّة للحقّ فصلت، ومهنة من غلبهم اللاحق حصلت، كم سجلّ صاحب هذا المنصب حامل علمه المنشور، ومصباح ديمه الحافلة على ممرّ الدّهور، بشرف مدرّس علم يطلع من محرابه، ونسّاك حلم يبدو بدره التّمام خلف سحابه، ومجلس إفادة، انعقد عليه فيه الإجماع؛ ومحفل ساد ة، كان فيهم واسطة عقد الاجتماع.
[ولما] «3» تزلزلت قدم منابره، وانتهك حجاب ضمائره، واستزلّه الشيطان بكيده المتين، وأضلّه على علمه المبين، وسبق القلم الشّرعيّ، بما هو كائن، ومضى الحكم القطعيّ، بما هو من تصرّفه بائن- تردّد الاختيار الشريف فيمن نحلّي جيده بتقليدها، ونؤهّل يراعه لتسليم مقاليدها، وصوّبنا صواب النّظر فيها مصرا وشاما، واستشرفنا أعلاما، وتيقنّا لأقوى ما يكون [لها] «4» قواما، وابتكرنا أنه لا يصلح إلا من كان لحلّة المجد طرازا، ويزيد العمل إليه اعتزاء والعلم به(12/42)
اعتزازا، إلى أن أجمع رأينا العالي على من لا ينكر ذو قدم ولا قدم ولا قلم، أنه السابق، ولا يجحد ربّ علم ولا عمل ولا علم، أنه الباسق، ولا يشكّ أنّ من فوائده يستمدّ المطر ومن توقّد ذهنه يقدح زناد البارق، ولا يرتاب البحر أن فرائده ما يطوّق العنق ويشنّف الأذن ويتوّج المفارق، ولا يمارى في فضله الّذي لو طلب له مثيل لم يصب، ولو ادّعى الكوكب السّاري أنّه له شبيه لمسّه النّصب، أو تلفّتت أعناق القنا إلى قلمه لأيقنت أنها كلّ على القضب؛ وهو الّذي أفنى عمره في تحصيل العلم اشتغالا، وجدّ في الطّلب لصالح العمل وإن تغالى، وبقي فقيه قوم ما جدّ منهم مثله ماجد، ولا جادت يد كريم منهم تمتدّ بما هو جائد، ودرج أقرانه إلى الله وخلّي دونهم شرعا لا يردّ واردا، وخلّف بعدهم سهما في الكنانة واحدا.
وكان المجلس العاليّ- أدام الله تأييده- هو الّذي تختال به المناقب، وتختار فضائله العواقب، وتشرق بقلمه الفتاوى إشراق النّهار، وتغدق منافعه إعداق السّحب بالأمطار، وتحدق به الطّلبة إحداق الكمامة بالثّمر والهالات بالأقمار، وهو شافي عيّ كلّ شافعيّ، ودواء ألم كل المعيّ، طالما جانب جنبه المضاجع سهادا، وقطع الليل ثم استمدّه لمدد فتاويه مدادا، وجمع بين المذهبين نظرا وتقليدا، والمذهبين من القولين قديما وجديدا، وسلك جميع الطرق إلى مذهب إمامه، وملك حسانها فأسفر له كل وجه تغطّى من أوراق الكتب بلثامه، وانتفتحت [بفهمه] «1» للتصانيف أبواب شغلت «القفّال» أقفالها، ونفحت له نفحات ما «للماورديّ» مثالها، وسفحت ديم غزار يسقي «المزنيّ» سجالها، ومنحت حللا يفخر «الغزالي» إذا نسج على منواله سربالها.
فرسم بالأمر الشريف- لا زال يجدّد ملابس فضله، ويقلّد كلّ عمل لصالح أهله- أن يفوّض إليه قضاء قضاة الشافعية بدمشق المحروسة وأعمالها وجندها وضواحيها، وسائر الممالك الشامية المضافة إليها والمنسوبة لها(12/43)
والمحسوبة فيها، يولّى ذلك ولاية صحيحة شرعية، على عادة من تقدّمه وقاعدته المرعيّة، مع ما هو مضاف إلى من كان قبله من تدريس المدارس، تفويضا لا ينافسه فيه منافس، ولا يجالسه في درسه إلا من ارتضى من النجوم أن يجالس؛ وأذنّا له أن يستنيب عنه من لا يخجل عند الله ولا عندنا باستنابته، ولا يداخله ظنّ في خلاص ذمته بإنابته إلى الله في نيابته؛ على أنّه يتفقد أعمالهم، ويتصفّح أحوالهم: فمن نقل إليه ثقاته أنه على طريق مستقيم أقرّه، وإلا صرفه ثم لا يكون له إلى عمله كرّة؛ وهو القائم بحجّة الشرع الشريف وحجة الله عليه قائمة، وعليه إن قصّر- والعياذ بالله- في أموره تعود اللائمة؛ وأنت تعلم أنّا ما كنّا نعرفك عيانا، وإنّما وصفت لنا حتى كأنّا نراك وسمعت بما نحن عليه حتى كأنّك ترانا؛ فشيّد لمن شيّد لك شكرهم أركانا، وأعلى ذكرهم لمجدك بنيانا، وجعل لك قدرهم الجميل منّا سلطانا، وأقم بحسن سلوكك على ما قالوا فيك برهانا، واعرف لهم حقّ معروفهم وجازهم عن حسن ظنّهم بالحسنات إحسانا.
ونحن نوصيك بوصايا تشهد لنا يوم القيامة عليك ببلاغها، ويعترض منها في الحلوق شجا: فأيّ الرجال يقدر على مساغها، فإن قمت بها كان لنا ولك في الأجر اشتراك، وإن أضعت حقوقها فالله يعلم أننا أخرجنا هذه الأمانة من عنقنا وقلّدناك؛ والله وملائكته بيننا وبينك شهود على ما أوليناك وما ولّيناك؛ فعليك بتقوى الله في السّرّ والإعلان، والعمل بما تعلمه سواء رضي فلان أو سخط فلان، والانتهاء إلى ما يقتضيه عموم المصالح، وإمضاء كل أمر على ما أمر الله به رسوله صلّى الله عليه وسلّم وكان عليه السّلف الصّالح، وإقامة حدود الله ولا تتعدّ حدوده، وقمع البدع لإظهار الحق لا لإثارة فتنة مقصودة؛ فقد علمت ما أنكرته أنت وأمثالك من الأئمة العلماء على من تقدّمك من تسرعه في مثل ذلك، وتطلّعه إلى مطالب سقط دونها في مهاوي المهالك؛ فإيّاك إيّاك أن تتّبع في هذا النّحو سبله، أو «تنه عن خلق وتأتي مثله» والصدقات الحكمية على مادّة المساكين، وجادّة الشّاكين، ففرّقها على(12/44)
أهلها، واجمع لك الحسنات عند الله بتبديد شملها، ولا تبق منها بقية تبقى معرّضة لأكلها، فلو أراد واقفوها- رحمهم الله- أنها تبقى مخزونة، لما سمحوا ببذلها؛ وبقيّة الأوقاف شارف في أمورها، وشارك الواقفين- رحمهم الله- في أجورها، وخص الأسارى- أحسن الله خلاصهم- بما يصل به إحسانك إليهم، ويضع عنهم إصرهم والأغلال الّتي كانت عليهم.
والأيتام- جبرهم الله-: منهم الطّفل والمميّز والمراهق ومن لم يملك رشده، أو من يحتاج أن يبلغ في جواز التصرّف أشدّه؛ وكلّ هؤلاء فيهم من لا يعلم من يضرّه ممن ينفعه، ولكن الله يعرّفه وفي أعماله يرفعه؛ فاجتهد أن تكون فيهم أبا برّا، وأن تتّخذ فيهم عند الله أجرا، وأن تعامل في بينك بمثل ما عاملتهم إذا انقلبت إلى الدّار الأخرى، واحفظ أموالهم أن تنتهكها أجرة العمّال، وترجع في قراضها إلى ما يجحف برؤوس الأموال؛ ومثّل أعمالك [المعروضة] «1» على الله في صحائفها المعروضة، واحذر من المعاملة لهم إلا بفائدة ظاهرة ورهن مقبوضة.
والجهات الدّينيّة هي بضاعة حفظك، ووداعة لحظك، فلا تولّ كلّ جهة إلا من هو جامع لشرطها؛ قائم بموازين قسطها.
والشهود هم شهداء الحقّ، وأمناء الخلق، وعلى شهاداتهم تبنى الأحكام؛ فإيّاك والبناء على غير أساس ثابت فإنّه سريع الانهدام؛ ومنهم من يشهد في قيمة المثل ويتعين أن يكون م ن أهل البلد الأمثل، لأنه لا يعرف القيمة إلّا من هو ذو سعة مموّل؛ ومنهم من أذن له في العقود فامنع منهم من للتسهل بسبب من الأسباب، وما تمهّل إشفاقا لاختلاط الأنسال والأنساب، يقبل بالتعريف ما يخلو من الموانع الشرعية من كان، ولا يحسن في تزويجه يمسك إمساكا بمعروف ولا يسرح تسريحا بإحسان؛ وهؤلاء مفاسدهم أكثر من أن(12/45)
تحصى، والبلاء بهم أكبر من أن يستقصر أو يستقصى؛ فاعتبر أحوالهم اعتبارا جليّا، وفكّر في استدراك فارطهم فكرا مليّا؛ ومن لم يكن له من العلم والدّين ما يوضّح له المشتبهات، فإيّاك وتركه فربّ معتقد «1» أنه يطأ وطأ حلالا وقد أوقعه هذا ومثله في وطء الشّبهات؛ ومنهم من يعمد إلى التّحليل، ويرتكب منه محذورا غير قليل، وهو بعينه نكاح المتعة «2» الذي كان آخر الأمرين من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النّهي عنه، وقام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه محذّرا منه؛ فاحسم هذه المادّة الرّديّة الّتي تؤلم عضوا فيسري إلى سائر الأعضاء ألمها، ويبقى في كثير من الذّراريّ المولودة من هذه الأنكحة الفاسدة ثلمها.
والرّسل والوكلاء بمجلس الحكم العزيز ومن يلمزك «3» في الصّدقات، وما نزل في أمور ما يريدون بها تقليد حكمك بل ما يقضون به الأوقات؛ فلا تدع ممن تريد منهم إلا كلّ مشكور الطريق، مشهور القصة بين الخصوم بطلب التوفيق.
والمكاتيب هي سهاخمك النّافذة، وأحكامك المؤاخذة؛ فسدّد مراميها، ولا تردفها ما عرض عليك من الأحكام حتى لا يسرع الدخول فيها؛ والمحاضر هي محل التّقويّ، فاجتهد فيها اجتهادا لا تذر معه ولا تبقي.
وأما قضايا المتحاكمين إليك في شكاويهم، والمحاكمين في دعاويهم، فأنت بهم خبير، ولهم ناقد بصير؛ فإذا أتوك لتكشف بحكمك لأواءهم «4» ،(12/46)
فاحكم بينهم بما أراك الله ولا تتّبع أهواءهم؛ وقد فقّهك الله في دينه، وأوردك من موارد يقينه، ما جعله لك نورا، وجلاه لك سفورا، وأقامه عليك سورا، وعلّمك ما لم تكن تعلم منه أمورا؛ فإن أشكل عليك أمر فردّه إلى كتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وإجماع أصحابه فإن لم تجد فعندك من العلماء من تجعل الأمر بينهم شورى، ولأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتاب «1» كتبه إلى بعض القضاة، فاعمل بمقتضاه، واعلم بأنّ الله تعالى قد ارتضاك لخلقه فاعمل على رضاه.
والأئمة العلماء هم إخوانك في الدّين، وأعوانك على ردع المبتدعين، ولسانك في المحفل وجناحك إذا جلسوا ذات الشمال وذات اليمين؛ فنزّلهم منازلهم الّتي أحلّهم الله في شرفاتها، وبوّأهم رفيع غرفاتها، وتألّف خواطرهم فإنّك تنظر إلى كثير من الأمور في صفاء مصافاتها.
ومن نسب إلى خرقة الفقر «2» وأهل الصلاح هم أولياء الله المقرّبون، وأحبّاؤه الأقربون، فعظّم حياتهم، وجانب محاباتهم، فما منهم وإن اختلفت أحوالهم إلا من هو على هدى مبين، واحرص أن تكون لهم حبّا يملا «3» قلوبهم فإنّ الله ينظر إلى قوم من قلوب قوم آخرين.
وانتصب للدروس الّتي تقدّمت بها على وافد الطلبة فإنّ الكرم لا يمحقه الالتماس، والمصباح لا يفني مقله كثرة الاقتباس، والغمام لا ينقصه توالي المطر ولا يزيده طول الاحتباس، والبحر لا يتغيّر عن حاله وهو لا يخلو عن الورّاد في عدد الأنفاس.(12/47)
والوصايا كثيرة وإنّما هذه نبذة جامعة، وبارقة لامعة، ومنك يستفاد بساط القول، وانبساط الطّول؛ ولهذا يكتفى بما فيك، والله تعالى يكفيك، ويحصي حساب أعمالك الصّالحة ليوفيك، حتّى تجد فلا يتخلّف بك السير، وتستعدّ ليختم لك بخاتمة الخير، والاعتماد على الخط الشريف.
قلت: وهذه نسخة توقيع بقضاء، أنشأته بدمشق للقاضي «شرف الدّين مسعود» «1» وهي:
الحمد لله الّذي شيّد أحكام الشّرع الشريف وزاد حكّامه في أيّامنا شرفا، ورفع منار العلم على كلّ منار وبوّأ أهله من جنّات إحساننا غرفا، وأباح دم من ألحد فيه عنادا أو وجّه إليه طعنا، وأوجب الانقياد إليه بقوله تعالى: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا
«2» ، وألهم الصواب في اختيار من لم يزل لهذه الرتبة معدّا ومن رجالها معدودا، وصرف وجه إقبالنا إلى من ارتضيناه للمسلمين حاكما فأصبح بنظرنا مسعودا.
نحمده حمد من اعتنى بالقيام بشرائع الإسلام وتعظيم شعائره، ونصح للرّعيّة فيمن ولّاه عليهم وأعطى منصب الشرع حقّه بتقديم أكابره. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يقضى لصاحبها بالنّجاة من النّار، ويسجّل لقائلها بالثبوت في ديوان الأبرار، وأن محمدا عبده ورسوله الّذي شرط الإيمان بالرضا بحكمه وأوجب طاعته أمرا ونهيا واستجابة وتحكيما، فقال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً(12/48)
مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً
«1» ، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين نحن بسيرهم مهتدون، وبآثارهم مقتدون، وعلى آله وصحبه الغرّ الكرام الذين قضوا بالحقّ وبه كانوا يعدلون، صلاة لا يختلف في فضلها اثنان، ولا يتنازع في قبولها خصمان، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فلما كانت مرتبة الشرع الشريف هي أعلى المراتب، ومنصب حكّامه في الورى أرفع المناصب، إليه تنتهي المخاصمات فيفصلها ثم لا تعدوه، ويحكم فيه على الخصم فيذعن لحكمه ثم لا يشنوه «2» ، بل يتفرّق الخصمان وكلّ منهما بما قضي له وعليه راض، ويقول المتمرّد الجائر لحاكمه: قد رضيت بحكمك فاقض فيّ ما أنت قاض؛ وناهيك برتبة كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو المتصدّي للقيام بواجبها، والخلفاء الراشدون- رضوان الله عليهم- محافظين على أداء رواتبها؛ ثم اختصّ بها العلماء الذين هم ورثة الأنبياء من الخليقة، واستأثروا بها دون غيرهم من سائر الناس فهم أهلها على الحقيقة؛ إذ لا يؤهّل لهذه الرتبة إلا من ارتقى إلى درجات الكمال، واتّصف بأحسن الأوصاف واحتوى على أنفس الخصال، وتضلّع من العلم الشريف بما يرويه، وفاق في العقل والنقل بما يبحثه ويرويه.
ولما كان المجلس الفلانيّ هو عين هذه القلادة وواسطة عقدها، وقطب دائرتها وملاك حلّها وعقدها؛ إذ هو «شريح» الزمان ذكرا، و «أبو حامد» سيرة و «أبو الطّيّب» «3» نشرا؛ لا جرم ألبسته أيّامنا الزاهرة من الحكم ثوبا جديدا، وأفاض عليه إنعامنا نحلة نعقبها- إن شاء الله تعالى- مزيدا.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا زالت الشريعة المطهّرة بمناصرته في أعزّ(12/49)
صوان، وحكّامها بمعاضدته في أعلى درجة وأرفع مكان- أن يفوض إليه ...
فليباشر هذه الوظيفة مباشرة مثله لمثلها، وليعمل بما يعلمه من أحكامها فهو ابن بجدتها «1» والخبير بمسالك وعرها وسهلها؛ فهو الحاكم الّذي لا يساوى، والإمام الّذي يقتدى به في الأحكام والفتاوى؛ فعليه بالتأنّي في الأحكام، والتّثبّت فيما يصدر عنه من النّقض والإبرام؛ ولينظر في الأمر قبل الحكم المرّة ثم الأخرى، ويكرّر النّظر في ذلك ولو أقام شهرا، ويراجع أهل العلم فيما وقف عليه ويشاورهم فما ندم من استشار، ويقدّم استخارة الله تعالى في سائر أموره فما خاب من استخار، وليدر مع الحق كيف دار، ويتّبع الصّواب أنّى توجّه ويقتفي أثره حيث سار؛ وإذا ظهر له الحقّ قضى به ولو على ابنه وأبيه، وأعزّ أصدقائه وأخصّ ذويه، غير مفرّق في فصل القضاء بين القويّ والضّعيف، والوضيع والشّريف، ولا مميّز في تنفيذ الحكم بين الغنيّ والفقير، والسّوقة والأمير، وليسوّبين الخصوم حتّى في تقسيم النظر إليهم، كما في موقف الحكم وسماع الدّعوى وردّ الأجوبة فيما لهم وعليهم، وليستخلف من النوّاب من حسنت لديه سيرته، وحمدت عنده طريقته، ويوص كلّا منهم بما نوصيه به ويبالغ في تأكيد وصيته، ويستحضر السر في قوله صلّى الله عليه وسلم: «ألا كلّكم راع وكلكم مسؤول عن رعيّته» . وليمعن النّظر في أمر الشهود الذين تترتب على شهادتهم أمور الدنيا والفروج والأموال، ويتفقّد أمرهم في كل وقت ولا يغفل عنهم في حال من الأحوال، ويحملهم من الطرائق على أحسن وجهها؛ وأحقّهم بإمعان النظر شهود القيمة والعمائر، الذين يقطع بقولهم في أملاك الأيتام والأوقاف مما تنفر عنه القلوب وتنبو عنه الضمائر.
والوكلاء «2» والمتصرّفون فهم قوم فضل عنهم الشرّ فباعوه، واستحفظوا(12/50)
الودّ فلم يرعوا حقه وأضاعوه؛ فهم آفة أبواب القضاة بلا نزاع، كيف وهم الضّباع الضّارية والذّئاب الجياع. وما تحت نظره من أوقاف المدارس والأسرى والصّدقات، وغيرها مما يقصد به واقفوه وجه البر وسبيل القربات، يحسن النظر في وجوه مصارفها، مع حفظ أحوالها الّذي هو أغيا مراد واقفها.
وأهل العلم أبناء جنسه الذين فيهم نشأ ومنهم نجم، وجنده الذين يقصدونه بالفتاوى فيما قضى وحكم، فليوفّر لهم الإحسان، ويصنع معهم من المعروف ما يبقى ذكره على ممرّ الأزمان؛ ومثله لا يحتاج إلى كثرة الوصايا، وثوقا بما عنده من العلم بالأحكام والمعرفة بالقضايا؛ لكن عليه بتقوى الله ومراقبته يكن له مما يتبوّءه ظهيرا، ويسترشده في سائر أموره يجعل له من لدنه هاديا ونصيرا؛ والله تعالى يبلّغ واثق أمله من كرمنا مراما، ويوطّيء له المهاد ببلد حسنت مستقرّا ومقاما، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة توقيع بقضاء قضاة المالكية بالشام، من إنشاء الشيخ شهاب الدّين محمود الحلبيّ تغمّده الله برحمته، وهي:
الحمد لله جاعل المذاهب الشّرعيّة في أيامنا الشريفة زاهية بأركانها الأربعة «1» ، مستقرّة على النّظام الّذي غدت به قواعد الحجّة محكمة ومواقع الرحمة متّسعة، فإذا خلا ركن من مباشرة أقمنا من تكون القلوب على أولويّته مجتمعة، وانتقينا له من الأتقياء من تغدو به الأمّة حيث كانت منتفعة، واستدعينا إليه من تغدو الأدعية الصالحة لنا بتفويض الحكم إليه مرتفعة، الّذي خصّ مذهب «إمام دار الهجرة» «2» بكل إمام هجر في التّبحّر فيه دواعي السّكون(12/51)
وبواعث الدّعة، وجمّل منصب حكمه بمن كمل بعلوم الدين فخره فإذا حكم غدت الأقضية لحكمه منفّذة وإذا قضى أضحت الأحكام لأقضيته متّبعة.
نحمده على نعمه التي جعلت مهمّ الشّرع الشريف لدينا كالاستفهام الّذي له صدر الكلام، وبمثابة النّيّة المقدّمة حتّى على تكبيرة الإحرام، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أثبت الإخلاص حكمها، وأحكم الإيمان علمها، وأبقى اليقين على صفحات الوجوه والوجود وسمها المشرق واسمها، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الّذي أخذ الله ميثاق النّبيين في الإقرار بفضله، وأرسله بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ*
«1» ، وخصّه بالكتاب الذي أخرس الأمم عن مجاراته فلو اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ
«2» ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين تمسكوا بسننه وسنّته، وأوضحوا شرعه الشريف لمن تلقّاه بعدهم من أئمة أمته، صلاة لا تزال بقاع الإيمان لأحكامها منبتة، وأنواء الإيقان لأوامها مقلتة «3» ؛ وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنه لما كانت الأحكام الشرعية تتوقف على ملاحظة قضاء قضاتها في غالب الأمور، وتستند إلى مراجعة أصول حكّامها في أكثر مصالح الجمهور، لم يكن بد من مراعاة أصولها الّتي إنّما تنوب الفروع عنها، وتدبّر أحوال أحكام حكّامها الّتي تنشأ أقضية النوّاب منها؛ ولذلك لمّا أصبح منصب قضاء القضاة على مذهب الإمام «مالك بن أنس» رضي الله عنه بالشّام المحروس لضعف مباشره الممتدّ، في حكم الخالي، وتعطل بعجزه المشتدّ، مما ألف به قديما حال حكمه الحالي، وتمادى ذلك إلى أن ترقّى الناس منه إلى درجة اليقين، وتناهى الحكم فيه إلى أن يعين أن يرتاد من يتعين لمثله من الأئمّة المتّقين، لئلا يخلو(12/52)
هذا المذهب من قاضي قضاة يقيم مناره، ويديم أنواره، ويرفع شعاره، ويحيي مآثر إمامه وآثاره، ويؤمن كمال أفقه أن يعاود سراره «1» ؛ وكان المجلس الساميّ، القاضويّ، الفخريّ، هو الّذي لا يعدوه الارتياد، ولا يقف دونه الانتقاء والانقياد، ولا تتجاوزه الإصابة في الاجتهاد: لما عليه من علم جعله مخطوبا للمناصب، وعمل تركه مطلوبا للمراتب الّتي لا تذعن لكلّ طالب، وتقّى أعاده مرتقيا لكلّ أفق لا يصلح له كلّ شارق «2» ، وورع فتح له أبواب التّلقّي بالاستدعاء وإن لم تفتح لكلّ طارق؛ وهو هجر الكرافي تحصيل مذهب «إمام دار الهجرة» إلى أن وصل إلى ما وصل، وأنفق مدّة عمره في اقتناء فوائده إلى أن حصل من الثّروة بها على ما حصل، فسارت فتاويه في الآفاق، ونمت بركات فوائده الّتي أنفقها على الطّلبة فزكت على الإنفاق- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نبّقي فخر هذا المنصب الجليل بفخره، وأن نخصّ هذا المذهب النبيل بذخره، وأن نحلّي جيده بمن نقلنا إلى وشام «3» الوسام ما كان من حسن شنب العلم مختصّا بثغره.
فرسم بالأمر الشريف- لا زال لأحكام الشرع مقيما، وللنظر الشريف في عموم مصالح الإسلام وخصوصها مديما، أن يفوّض إليه......... لما تقدّم من تعيّنه لذلك، وتبيّن من أنه لحكم الأولوية بهذه الرتبة من مذهب الإمام مالك مالك.
فليل هذه الوظيفة حاكما بما أراه الله من مذهبه، مراعيا في مباشرتها حقّ الله في الحكم بين عباده وحقّ منصبه، مجتهدا فيما تبرأ به الذمة من الوقوف مع حكم الله في حالتي رضاه وغضبه، واقفا في صفة القضاء على ما نصّ فيه من شروطه وأوضح من قواعده وشرح من أدبه، ممضيا حقوق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما(12/53)
يقتضيه رأي إمامه، متوّجا الحكم بنصوصه المجمع عليها من أئمة مذهبه في نقض كلّ أمر وإبرامه، جاريا في ذلك على قواعد أحكام هذا المذهب الّذي كان مشرقا في ذلك الأفق بجماله وزينه، واقفا في ذلك جميعه مع رضا الله تعالى فإنّه في كلّ ما يأتي ويذر بعينه، والله تعالى يسدّده في قوله وعمله، ويبلّغه من رضاه نهاية سوله وغاية أمله، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة توقيع بقضاء قضاة الحنابلة، كتب بها للقاضي علاء الدّين «منجّى التنوخي» وهي:
الحمد لله الّذي رفع بعلاء الدّين قضاء قضاته، وأوضح الهدى في القيام في توليتهم بمفترضاته، وأعلى منار الشّرع بما أوقفهم عليه من أحكامه ووفّقهم له من مرضاته.
نحمده حمدا نستعيد من بركاته، ونستعيذ به أن نضلّ في ضوء مشكاته، ونستعين عليه بربّ كل حكم يمدّنا قلبه بسكونه وقلمه بحركاته، ويثبت من جميل محضره لدينا ما يرفع مسّ شكاته، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يستودع إخلاصها في قلوب تقاته، وتفوّض أحكامها إلى ثقاته، ويحمى سرحها من أبطال الجلاد والجدال بكل مشتاق إلى ملاقاته، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أفضل من حكم بما أنزل الله من آياته، وجاهد في الله برأيه وراياته، وشرع من الدّين ما ينّجي المتمسك به من غواياته، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين أقام شرعه منهم بكماته، وجعل حكمهم دائم النّفوذ أبدا بأقلام علمائه وسيوف حماته، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فمنصب الحكم الّذي به تفصل الأمور، وتنفرج له الصدور، وتتسدّد أقلام حكّامه سهاما، وتفيض غماما، وتتعلّم منه الأسود زئيرا، ويطول السيف صليلا والرمح صريرا، وتنتصب بين يدي حكّامه الأقدام، وتنتصف على(12/54)
أحكامه الخصام «1» ، وتنكّس الرؤوس لهيبته إطراقا، وتغضّ المقل فما تدير جفونا ولا تقلّب أحداقا، ويجري بتصريفه قلم القضاء، ويجاري مرهفه البروق فتقرّ له بالمضاء؛ وقد شيّد الله مبانيه في ممالكنا الشريفة مصرا وشاما على أربعة أركان، وجمع في قضائه الأئمّة الأربعة لتكمل بهم فصول الزمان؛ ومذهب الإمام أبي عبد الله «أحمد بن حنبل» رضي الله عنه هو بالسّنّة النبوية الّطراز المذهب، وطريقة السلف الصالح في كلّ مذهب؛ وقد تجنّب من سلف من علمائه التّأويل في كثير، ووقف مع الكتاب والسّنّة وكلّ منهما هو المصباح المنير.
وكانت دمشق المحروسة هي مدار قطبهم، ومطلع شموسهم ونجومهم وشهبهم، وأهلها كثيرا ما يحتاجون إلى حاكم هذا المذهب في غالب عقد كل بيع وإيجار، ومزارعة في غلال ومساقاة في ثمار، ومصالحة في جوائح «2» سماويّة لا ضرر فيها ولا ضرار «3» ، وتزويج كلّ مملوك أذن له سيّده بحرّة كريمة، واشتراط في عقد بأن تكون الامرأة في بلدها مقيمة، وفسخ إن غاب زوجها ولم يترك لها نفقة ولا أطلق سراحها، وبيع أوقاف داثرة لا يجد أرباب الوقف نفعا بها ولا يستطيعون إصلاحها.
فلما استأثر الله بمن كان قد تكمّل هذا المنصب الشريف بشرفه، وتجمّل منه ببقيّة سلفه، حصل الفكر الشريف فيمن نقلده هذه الأمانة في عنقه، ونهنّيء هذا المنصب بطلوع هلاله في أفقه، إلى أن ترجح في آرائنا العالية المرجّح(12/55)
المرجّى، وتعيّن واحدا لمّا ابتلي الناس بالقضاء كان المنجّى ابن المنجّى؛ طالما تطرّزت له الفتاوى بالأقلام، والتفّت به حلقة إمام، وخاف في طلب العلم من مضايقة اللّيالي فما نام- اقتضى حسن الرأي الشريف أن يفوّض إليه قضاء القضاة بالشام المحروسة على مذهب الإمام الربانيّ «أحمد بن حنبل» الشيبانيّ، رضي الله عنه.
فليحكم في ذلك بما أراه الله من علمه، وآتاه من حكمه، وبينه له من سبل الهدى، وعيّنه لبصيرته من سنن نبيّه صلّى الله عليه وسلّم التي من حاد عنها فقد جار واعتدى، ولينظر في أمور مذهبه ويعمل بكل ما صحّ نقله عن إمامه، وأصحابه من كان منهم في زمانه ومن تخلّف عن أيّامه؛ وقد كان- رحمه الله- إمام حقّ نهض وقد قعد الناس تلك المدّة، وقام نوبة المحنة وقام «سيّد تيم» «1» رضي الله عنه نوبة الرّدّة، ولم تهبّ به زعازع «المرّيسيّ» «2» وقد هبّت مريسا «3» ، ولا «ابن أبي دواد» «4» وقد جمع كلّ ذود وساق له من كلّ قطر عيسا؛ ولا نكث عهد ما قدّم إليه «المأمون» في وصيّة أخيه من المواثق، ولا روّعه صوت «المعتصم» وقد صبّ عليه عذابه ولا سيف «الواثق» ؛ فليقفّ على أثره، وليقف بمسنده على(12/56)
مذهبه كله أو أكثره، وليقض بمفرداته وما اختاره أصحابه الأخيار، وليقلّدهم إذا لم تختلف عليه الأخبار، وليحترز لدينه في بيع ما دثر من الأوقاف وصرف ثمنه في مثله، والاستبدال بما فيه المصلحة لأهله، والفسخ على من غاب مدّة يسوغ في مثلها الفسخ وترك زوجة لم يترك لها نفقة، وخلّاها وهي مع بقائها في زوجيّته كالمعلّقة، وإطلاق سراحها لتتزوّج بعد ثبوت الفسخ بشروطه الّتي يبقى حكمها به حكم المطلّقة، وفيما يمنع مضارّة الجار، وما تفرّع على قوله صلّى الله عليه وسلم:
«لا ضرر ولا ضرار» ، وأمر وقف الإنسان على نفسه وإن رآه سوى أهل مذهبه، وطلعت به أهلّة علماء لولاهم لما جلا الزمان جنح غيهبه. وكذلك الجوائح الّتي يخفّف بها عن الضعفاء وإن كان لا يرى بها الإلزام، ولا تجري إلا مجرى المصالحة دليل الالتزام. وكذلك المعاملة الّتي لولا الرّخصة عندهم فيها لما أكل أكثر الناس إلا الحرام المحض، ولا أخذ قسم الغلال والمعامل هو الّذي يزرع البذر ويحرث الأرض، وغير ذلك مما هو [محيط] «1» بمفرداته الّتي هي للرفق جامعة، وللرعايا في أكثر معايشهم وأسبابهم نافعة، وإذا استقرّت الأصول كانت الفروع لها تابعة؛ والخط الشريف أعلاه، إن شاء الله تعالى.
المرتبة الثانية «2» (من تواقيع الوظائف الدينية بدمشق
، ما يكتب في قطع الثلث مفتتحا ب «الحمد لله» إن علت رتبة المتولّي أو ب «أمّا بعد حمد الله» إن انحطت رتبته عن ذلك ب «المجلس السامي» وفيها وظائف)
الوظيفة الأولى- قضاء العسكر
. وبها أربعة قضاة من المذاهب الأربعة، كما بالديار المصرية.
الوظيفة الثانية- إفتاء دار العدل بدمشق
. وبها أربعة: من كل مذهب(12/57)
واحد، كما بالديار المصرية.
الوظيفة الثالثة- الحسبة «1»
وهذه نسخة توقيع بالحسبة الشريفة:
الحمد لله مجدّد النّعم في دولتنا الشريفة لمن ضفت عليه ملابسها، ومضاعف المنن في أيامنا الزاهرة لمن سمت به نفائسها، ومولي الآلاء لمن بسق غرسها لديه فزهت بجماله ثمراتها وزكت مغارسها.
نحمده على نعمه الّتي تؤنس بالشكر أوانسها، وتؤسّس على التّقوى مجالسها؛ ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة استضاء بنور الإيمان قابسها، واجتنى ثمر الهدى غارسها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أشرف من أشرقت به معالم التوحيد فعمر دارسها، وأشرق دامسها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين قلوبهم مشاهد الذّكر وألسنتهم مدارسها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن أولى من أمضي له ما كان به أمر ورسم، وجدّد له من المناصب الدّينية ما عرف به من قبل ووسم، وأثبت لترقّيه ما حتم له به من المراتب السنية بمقتضى الاستحقاق وحكم- من رقمت أوامرنا له حلّة منصب يجدّدها الإحسان، وأمرت له مراسمنا بوظيفة تؤكّد عوارفنا الحسان، وأثّلت [له] «2» نعمنا منصبا أعدّ له من كمال الأهليّة أكمل ما يعدّه لذلك الإنسان.
ولما كان فلان هو الذي تحلّى من إحساننا بما يأمن [معه] «3» سعيد رتبته [من] «4» العطل «5» ، واتّسم من برّنا وامتناننا بما هو في حكم المستقر له وإن ألوى به الدّهر ومطل- اقتضى إحساننا أن نجدّد له مواقع النّعم، ونشيّد من رجائه مواضع ما شمله من البرّ والكرم، ونري من عدق بنا رجاء أمله أنّنا نتعاهد سقيا(12/58)
آمال الأولياء والخدم.
فلذلك رسم ... - لا زال برّه شاملا، وبدره في أفق الإحسان كاملا- أن يفوّض إليه نظر الحسبة ويستمرّ في ذلك على حكم التوقيع الشريف الّذي بيده:
لما سبق من اختياره لذلك واصطفائه، وادّخاره لهذا المنصب من كفاة أعيانه وأعيان أكفائه، ولما تحلّى [به] من رياسة زانته عقودها، وتكمّل له من أصالة ضفت عليه حبرها وسمت به برودها «1» ، وتجمّل به من نزاهة أشرقت في أفق صعودها إلى الرتبة الجليلة سعودها، واتّصف به من كمال معرفة نجّزت له به من مطالب المناصب وعودها.
فليباشر ذلك معطيا هذه الوظيفة من حسن النّظر حقّها، محقّقا بجميل تصرّفه تقدّم أولويّته وسبقها، وليكن لأمر الأقوات ملاحظا، وعلى منع ذوي الغدر من الاحتكار المضيّق على الضّعفاء محافظا، وعلى الغشّ في الأقوات مؤدّبا، ولإجراء الموازين على حكم القسط مرتّبا، ولمن يرفع الأسعار لغير سبب رادعا، ولمن لا يزعه الكلام من المطفّفين «2» بالتّأديب وازعا، ولقيم الأشياء محرّرا، ولقانون الجودة في المزروع والموزون مقرّرا، ولذوي الهيئات بلزوم شرائط المروءة آخذا، وعلى ترك الجمع والجماعات لعامة الناس مؤاخذا، ولتقوى الله تعالى في كلّ أمر مقدّما، وبما يخلّصه من الله تعالى لكل ما تقع به المعاملات بين الناس مقوّما؛ وفي خصائص نفسه ما يغنيه عن تأكيد الوصايا، وتكرار الحثّ على تقوى الله تعالى الّتي هي أشرف المزايا؛ فليجعلها شعار نفسه، ونجيّ أنسه، ومسدّد أحواله الّتي تظهر بها مزيّة يومه على أمسه؛ والخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه، حجّة بمقتضاه.(12/59)
وهذه نسخة توقيع بنظر الحسبة الشريفة، من إنشاء المقرّ الشّهابي بن فضل الله، مضافا إلى نظر أوقاف الملوك، وهي:
الحمد لله مثيب من احتسب، ومجيب المنيب فيما اكتسب.
نحمده حمدا رسب الأدب صرب الطرب «1» ، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة ظاهرة الحسب، طاهرة النسب، ونشهد أن سيّدنا محمدا عبده ورسوله أفضل من انتدى وانتدب، وأدّب أمّته فأحسن الأدب، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة يكتتم أجرها فيكتتب، ويستتم بها كل صلاح [ويغتنم بها كلا فلاح] «2» ، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ الحسبة الشريفة هي قانون جوادّ «3» الأوضاع، ومضمون موادّ الإجماع، تجمع إلى الشريعة الشريفة سياسة يرهب جدّها، ويرهف حدّها، وتخشى الرعايا سطوات مباشرها، وتتنحّى عما تصبّه سيول بوادرها؛ وأصحابها الآلة الّتي هي أخت السّيف في التّأثير، ولكلّ منهما سطوة تخاف لا فرق بينهما إلّا ما بين التّأنيث والتّذكير «4» ، وله التّصرّف المطلق، والتّعرّف الّذي يفتح من الحوانيت على أربابها كلّ باب مغلق، ولركوبه في المدينة زينة يحشر لها النّاس ضحى، ورهبة يغدو بها كلّ أمين لشأنه مصلحا؛ وإليه الرجوع في كلّ تقويم، وهو المرجوّ في كلّ أمر عظيم؛ وهي بدمشق- حرسها الله تعالى- من أجلّ المناصب الّتي تتعلّق [عو] «5» اليها بيد متولّيها وتؤمل منازل البدور، وإنّ ربّها ترجع إلى تصريفه أزمّة الأمور، وينتجع سحابه الهطل غمامة الجمهور، وتحيا به سنّة عمريّة «6» لولاها لضاقت رحاب المعاملات، وضاعت بالغشّ المعايش(12/60)
المتداخلات، وظهر الغبن في غالب ما يشرى ويباع، وانتشر التطفيف [الذي] يزيل راجحة الميزان ونوّ «1» الزّرّاع؛ ولكم ناب بحسن تدبيره عن الغمام، ونظر في الدّقيق والجليل للخاصّ والعام، طالما انحطّ به سعر غلا أن يقوّم، ووجد من الأقوات صنف لا يوجد ولو بذل من الشمس دينار والبدر درهم.
وكان المجلس السّاميّ، والقضائيّ الأجلّيّ، والكبيريّ، الصّدريّ، الرّئيسيّ، العالميّ، الكافليّ، الفاضليّ، الأوحديّ، الأثيريّ، الماجديّ، الأصيليّ، العماديّ، مجد الإسلام، شرف الرؤساء، بهاء الأنام، جمال الصّدور، فخر الأعيان، خالصة الدّولة، صفوة الملوك السّلاطين: أدام الله علوّه، هو الّذي ربّته السّيادة على وسادها، ولبّته السّعادة إلى مرادها، وبنت العلياء قواعدها على عماده، وثنت المراتب أعناقها متشوّفة إلى حسن اعتماده، وباشر الجامع المعمور خصوصا والأوقاف الشّاميّة عموما فعمرها، وكثّر أعدادها وأنمى من بركات نظره متحصلاتها وثمرها، وشيد في كلّ منها مواطن عبادة، وملتقى حلقة ومدار سبحة ومفرش سجّادة، وأبى الله أن يقاس به أحد والجامع الفاروق وللّذين أحسنوا الحسنى وزيادة؛ فأوجب له جميل نظرنا أن نضاعف له الأجر في كلّ عمل إليه ينتسب، ونزيده في رزقه سعة: من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب؛ فرأينا أنّه أحقّ أن يقلّد من أمور الحسبة الشريفة حكمها المصرّف، وحكمها المعرّف، ويقام فيها بهدي من تقدّمه في تقرير أمورها على أثبت القواعد، وتقدير مصالحها على أجمل ما جرت به العوائد، ويطهّر أقواتها من الدّنس فيما يحضر على الموائد، وإخافة الأعناق من مضاربه الّتي تقطع ما غفا السيف عنه من مناط القلائد.
فرسم بالأمر الشّريف العالي- لا زالت بمراسيمه تتلقّى كلّ رتبة، وتتوقّى(12/61)
الدنايا بمن يقوم بالحسبة- أن يفوّض إليه النّظر على الحسبة الشّريفة بدمشق وما معها من الممالك الشامية المضافة إليها، بالمعلوم المستقر، الشاهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت: مضافا إلى ما هو بيده: من نظر الأوقاف المبرورة بالشّام، وأوقاف الملوك، خلا نظر الجامع المعمور إلى آخر وقت بحكم إفراده لمن عين له، تفويضا يضمّه إلى ربائب كنفه، ويعمّه بمواهب شرفه، ويحلّه في أعلى غرفه، ويحلّيه بما يحسد الدّرّ ما رمى من صدفه.
فاتّق الله في أحوالك، وانتق من يجمع عليه من النوّاب في أعمالك، وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر، فمنك المنكر لا يعرف والمعروف منك لا ينكر، واعتبر أحوال أرباب المعايش اعتبارا يصلح للناس أقواتهم، ويرغد أوقاتهم، ولا تدع صاحب سلعة يتعدّى إلى غير ما أحلّه الله له من المكاسب، ولا صاحب معيشة يقدم على تخلّل خلل في المآكل والمشارب، واقصد التّسوية بالحقّ فإنه سواء فيه البائع والمشتري، ولا فرق بين الرّخيص والثمين، وأقم الموازين بالقسط حتّى لا تتمكن كفّاتها أن تتحامل ولا تتحمل، ولا يستطيع قلبها أن يميل مع من يتموّل، ولا يقدر لسانها أن يكتم الشهادة بالحقّ وإن كان مثقال حبّة من خردل، واجعل لك على أهل المبايعات حفظة لتظلّ أعمالهم لك تنسخ، وتفقّد الأسواق مما يتولّد فيها من المفاسد فإنّ الشّيطان ربّما باض في الأسواق وفرّخ. وأرباب الصنائع فيهم من يدلّس، وفقهاء المكاتب «1» منهم من لعرضه يدنّس، والقصّاص غالبهم يتعمّد الكذب في قصصه، وأهل النّجامة «2» كم منهم من لعب مرّة بعقل امرأة وأمات رجلا بغصصه، وآخرون ممن تضلّ بهم العقول، وتظلّ حائرة فيهم النّقول، وكثير ممن سوى هؤلاء يدك مبسوطة عليهم، وأحكامك محيطة بهم من خلفهم وبين يديهم؛ فقوّم منهم من مال، وقلّد مالكا رضي الله عنه فيما رآه من المعاقبة تارة بإنهاك الجسد وتارة بإفساد المال؛ فربّما(12/62)
أطغى الغنى والمصباح فربما قطّب...... «1» ...... وثمّ من لا يستقيم حتّى يؤدّب، ومن لا يلمّ على شعث وأيّ الرّجال المهذّب «2» ؛ وفيك من الألمعية نور باهر، وكوكب زاهر؛ فلا حاجة إلى أن تلقي الوصايا أقلامها أيّها يكفلك، ولا تنبّهك على زينة العفاف فيها وهو حللك؛ والله تعالى يوفّق اعتمادك، ويوفّر من التّقوى زادك؛ والاعتماد على الخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه، حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
الوظيفة الرابعة- وكالة بيت المال المعمور.
وهذه نسخة توقيع بوكالة بيت المال، من إنشاء القاضي تاج الدين البارنباريّ «3» ، للقاضي نجم الدين أبي الطّيّب «4» .
الحمد لله الّذي جعل الطّيّبات للطّيّبين، وهدى بالنّجم المنير السّبيل المبين، وعدق بأئمة الدّين مصالح المسلمين، وآتانا بتفويضنا إليه، وتوكّلنا عليه، شرفا في الشّأن وقوّة في اليقين.
نحمده على أن أعان بخيره وهو خير معين، ونشكره على أن بصّرنا في الإرادات، بالملائكة المقرّبين، ونصرنا في الولايات، بالقويّ الأمين، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة أنوارها في القلب مشرقة على(12/63)
الصّفحات والجبين، وأذكارها على اللّسان جعلت الإنسان من صالح المؤمنين، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله هادي المهتدين، وموّضح شرعة الإحسان للمحسنين، و «أبو الطّيّب» «1» و «أبو القاسم» كنّي بأولاده المطهّرين، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين منهم من كان من السّابقين الأوّلين، ومنهم من كان مهيبا للكفر يهين، ومنهم من تزوّج بابنتي «2» الرسول ولم يتّفق ذلك لغيره من سالف السنين، ومنهم من كان الخير ملء يديه: فشمول البركة بشماله وذو الفقار في اليمين، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فأكرم التفويض ما صادف محلّا، وأبرك الولايات ما وجد قدرا معلّى، وأحسن الإحسان ما أصبح به الحال محلّى، وأسنى الأنجم ما أشرق في مطلعه وتجلّى، وأحقّ [الولاة] «3» بإعلاء منصبه من أقبلت عليه وجوه الإقبال حين تولّى، وأولى [الولايات] «4» بإجمال النّظر وإمعانه، في تشييد شانه، وتمكين مكانته ومكانه، وحفظ حوزته من سائر أركانه- وكالة بيت المال المعمور الّتي بها تصان الأرض المقيسة، ومنها تستبصر الآراء الرئيسة، وبها يؤمن الاستيلاء على المحالّ والأبنية من كلّ جائر، وبها تزاد قيم المبيعات مما هو لبيت المال ما بين عامر وداثر، وإلى متولّيها تأتي الرغبات ممن يبتاع أرضا، وبه تمضى المصالح وتقضى، وبه يظهر التمييز في الثّمن الأرضى؛ وهي في الشّام فخيمة المقدار، كريمة الآثار، مرضيّة بالربح في كل أرض بيّنة المصالح في كلّ بناء دائرة بالنجح في كل دار؛ فلا يشيم برقها، ويتوّج فرقها، ويوفّيها حقّها، إلّا من له علم وتبصرة، وعرفان أوضح الطريق وأظهره، وحسن رأي فيما(12/64)
آثره وأثّره، وصدارة ورد بها منهل الكرام البررة.
وكان فلان هو ذو السّؤدد العريق، والباسق في الدّوح الوريق، والمنتسب إلى أعزّ فريق، والطّيّب أصلا وفرعا على التّحقيق، والإمام في علومه الّتي أصّلت التّفريع ووصلت التّفريق، والموفّق فيما يأتي ويذر والله وليّ التّوفيق، قد أشرق بدمشق نجمه نورا، وابتسم البرق الشّاميّ به سرورا، وتصدّر بمحافلها فشرح صدورا، وابتنى له سؤددا وجعل مكارم الأخلاق عليه سورا، تلقى بمحضره المسائل فتلقى منه وليّا مرشدا، وتذكر لديه المباحث فتجد على ذهنه المتوقدّ هدى، وإذا اضطرب قول مشكل سكن بإبانته وهدا؛ إن تأوّل أصاب في تأويله، وإن نظر في مصلحة كان رأيه في السّداد موافقا لقيله، وقد استخرنا الله تعالى- وهو نعم الوكيل- في توكيله.
فلذلك رسم بالأمر الشريف أن يفوّض إليه..........
فليأت هذا المنصب المنصبّ وبل بركته من بابه، وليخيّم في فسيح رحابه، ولينعم بجنّاته في جنابه، وليحرّر ما يباع من أملاك بيت المال بشروطه ولوازمه المسطورة في كتابه، وليردع من استولى على أرض باغتصابه، فليس لعرق ظالم حقّ: وهو إما بناء بإنشائه وإمّا غراس بإنشابه، وما يرتجع إلى بيت المال المعمور من أرض وعقار، وروضات ذات غراس وأنهار، وقرّى وما يضاف إلى ذلك من آثار؛ فليحرّر مجموعه، وليسلك في ذلك الطريقة المشروعة، وليشفق إشفاق المتّقين الماهدين لمآلهم، ولينصح لنا وللمسلمين فهو وكيل بيت مالهم. ومن مات ولا وارث له من عصبة أو كلالة «1» ، فإنّ لبيت المال أرضه وداره وماله.(12/65)
وقد وكلنا إليك هذا التقليد وقلّدناك هذه الوكالة، ووالدك- رحمه الله- كانت مفوّضة إليه قديما فلذلك أحيينا بك تلك الأصالة.
واعلم- أعزك الله- أنّ الوصايا إن طالت فقد طاب سبحها، وإن أوجزت فقد كفى لمعها ولمحها؛ وعلى الأمرين فقد أنارها هنا بالتوفيق صبحها، وحسن بالتصديق شرحها، وأطرب من حمام أقلامها صدحها، والتّقوى فهي أوّلها وآخرها وختمها وفتحها، والله تعالى يسقي بك كلّ قضبة [ذوى] صيحها «1» ، والخير يكون إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة توقيع شريف بوكالة بيت المال بالشّام أيضا:
الحمد لله كافي من توكّل عليه، ومحسن مآل من فوّض أمره إليه، ومجمّل مآب من قدّم رجاءنا عند الهجرة إلى أبوابنا بين يديه، ومقرّ عين من أسهر في استمطار عوارفنا بكمال الأدوات ناظريه.
نحمده على نعمه الّتي جعلت سعي من أمّ كرمنا، مشكورا، وسعد من قصد حرمنا، مشهورا، وإقبال من أقبل إلى أبوابنا العالية محقّقا يتقلّب في نعمنا محبورا، وينقلب إلى أهله مسرورا، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة نعتضد فيها بالإخلاص ونعتصم، ونتمسّك في الدّنيا والآخرة بعروتها، التي لا تنفصم، ونوكّل في إقامة دعوتها، سيوفنا الّتي لا تزال هي وأعناق جاحديها تختصم، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أضاءت شريعته، فلم تخف على ذي نظر، وأنارت ملّته، فأبصرها القلب قبل البصر، وعمّت دعوته، فاستوى في وجوب إجابتها البشر، واختصت أمّته، بعلماء يبصرون من في طرفه عمى ويظهرون حقّ من في باعه قصر، صلّى الله عليه وعلى آله الذين عملوا بما(12/66)
علموا، وعدلوا فيما حكموا، وحفظوا بالحقّ بيوت أموال الأمّة فاشترك أهل الملّة فيما غنموا، صلاة توكّل الإخلاص بإقامتها، وتكفّل الإيمان بإدامتها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد: فإن أهمّ ما صرفت إليه الهمم، وأعمّ ما نوجب في اختيار الأكفاء له براءة الذّمم، وأخصّ ما اتّخذنا الاستخارة فيه دليلا، وأحقّ ما أقمنا عنّا فيه من أعيان الأمّة وكيلا، لا يدع حقّا للأمّة ما وجد إليه سبيلا- أمر بيت مال المسلمين الذي هو مادّة جهادهم، وجادّة جلادهم، وسبب استطاعتهم، وطريق إخلاصهم في طاعتهم، وسداد ثغورهم، وصلاح جمهورهم، وجماع ما فيه إتقان أحوالهم واستقرار أمورهم؛ ومن آكد مصالحه وأهمّها، وأخصّ قواعده وأعمّها، وأكمل أسباب وفوره وأتمّها، الوكالة الّتي تصون حقوقه أن تضاع، وتمنع خواصّه أن تشاع، وتحسن عن الأمّة في حفظ أموالها المناب، وتتولّى لكلّ من المسلمين فيما فرض الله لهم الدعوى والجواب؛ ولذلك لم نزل نتخيّر لها من ذخائر العلماء من زان الورع سجاياه، وكمّل العلم مزاياه، وانعقد الإجماع على كماله، وقصرت الأطماع عن التّحلّي بجمال علمه: وهل يبارى من كان علمه من جماله.
ولما كان المجلس الساميّ، الشّيخيّ، الفلانيّ، هو الّذي ظهرت فضائله وعلومه، ودلّ على بلوغ الغاية منطوق نعته ومفهومه، وحلّى علمه بالورع الّذي هو كمال الدين على الحقيقة، وسلك طريقة أبيه في التّفرّد بالفضائل فكان بحكم الإرث من غير خلاف صاحب تلك الطّريقة، مع نسب لنسيب ما مرّ حلاله، وتقّى ما ورثه من أبيه عن كلالة، وثبات في ثبوت الحقّ لا تستفزّه الأغراض، وأناة في قبول الحكم لا تحيل جواهره الأعراض، ووقوف مع الحقّ لا يبعده إلى ما [لا] «1» يجب، وبسطة في العلم بها يقبل ما يقبل ويجتنب ما(12/67)
يجتنب، وتحقيق تجري الدّعاوى الشرعيّة على محجّته، وإنصاف لا يضرّ خصمه معه كونه ألحن «1» منه بحجّته، مع وفادة إلى أبوابنا العالية تقاضت له كرمنا الجمّ، وفضلنا الّذي خصّ وعمّ- اقتضت آراؤنا الشريفة أن يرجع إلى وطنه مشمولا بالنّعم، مخصوصا من هذه الرتبة بالغاية الّتي يكبو دونها جواد الهمم، منصوصا على رفعة قدره الّتي جاءت هذه الوظيفة على قدر، مداوما [لشكر أبوابنا] «2» على اختياره لها بعد إمعان الاختبار وإنعام النّظر.
فرسم بالأمر الشريف أن تفوّض إليه وكالة بيت المال المعمور بالشّام المحروس.
فليرق هذه الرتبة الّتي هي من أجلّ ما يرتقى، ويتلقّ هذه الوكالة الّتي مدار أمرها على التّقى وهو خير ما ينتقى، ويباشر هذه الوظيفة التي مناط حكمها في الورى الّذي لا تستخفّ صاحبه الأهواء ولا تستفزّه الرّقى، ولينهض بأعبائها مستقلّا بمصالحها، متصدّيا لمجالس حكمها العزيز لتحرير حقوق بيت المال وتحقيقها، متلقّيا ما يرد من أمر الدّعاوى الشرّعية الّتي يبتّ مثلها في وجهه بطريقها، منقّبا عن دوافع ما يثبت له وعليه، محسنا عن بيت المال الوكالة فيما جرّه الإرث الشرعيّ إليه، مستظهرا في المعاقدة بما جرت به العادة من وجوه الاحتراز، مجانبا جانب الحيف في الأخذ والعطاء بأبواب الرّخص وأسباب الجواز، منكّبا في تشدّده عن طريق الظّلم الّذي من تحلّى به كان عاطلا، سالكا في أموره جادّة العدل فإنّه سيّان من ترك حقّه وأخذ باطلا، مجتهدا في تحقيق ما وضح من الحقوق الشرعية وكمن، متتبّعا ما غالت الأيام في إخفائه فإنّ الحقّ لا يضيع بقدم العهد ولا يبطل بطول الزّمن.
وفي أوصافه الحسنة، وسجاياه الّتي غدت بها أقلام أيّامنا لسنة، وعلومه التي أسرت إليها أفكاره والعيون وسنة، ما يغني عن وصايا يطلق عنان اليراعة(12/68)
في تحديدها، أو قضايا ينطق لسان البراعة في توكيدها؛ ملاكها تقوى الله وهي سجيّة نفسه، ونجيّة أنسه، وحلية خلاله المعروفة في يومه وأمسه؛ فليقدّمها في كلّ أمر، ويقف عند رضا الله فيها لا رضا زيد ولا عمرو؛ والله الموفق بمنّه وكرمه.
[الوظيفة الخامسة- الخطابة] «1»
وهذه نسخة توقيع بالخطابة بالجامع الأموي، كتب بها لزين الدّين الفارقيّ «2» ، من إنشاء الشيخ شهاب الدّين محمود الحلبيّ:
الحمد لله رافع الّذين أوتوا العلم درجات، وجاعل أرجاء المنابر بفضائل أئمّة الأمّة أرجات، وشارح الصّدور بذكره بعد أن كانت من قبل المواعظ حرجات، الّذي زان الدّين من العلماء بمن سلّمت له فيه الإمامة، وصان العلم من الأئمة المتقين بمن أصحب «3» له جامح الفضل يصرّف كيف شاء زمامه، ووطّد ذروة المنبر الكريم لمن يحفظ في هداية الأمّة حقّه ويرعى في البداية بنفسه ذمامه، ووطّأ صدر المحراب المنير لمن إذا أمّ الأمّة أرته خشية الله أنّ وجه الله الكريم أمامه.
نحمده على ما منحنا من صون صهوات المنابر إلا عن فرسانها، وحفظ درجات العلم إلا عمّن ينظر بإنسان السّنّة وينطق بلسانها، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة لا تزال أفواه المحابر، تثبت طروسها، وأنواء المنابر، تنبت غروسها، وألسنة الإخلاص تلقي على المسامع من صحف الضّمائر دروسها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي شرّفت المنابر أوّلا برقيّه إليها، وآخرا بذكر اسمه الكريم عليها؛ فهي الرّتبة الّتي يزيد تبصرة على ممرّ الدّهور(12/69)
بقاؤها، والدّرجة الّتي يطول إلا على ورثة علمه ارتقاؤها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الّذين ذكّرهم بأيام الله فذكروها، وبصّرهم بآلاء الله فشكروها، وعرّفهم بمواقع وحدانيّته فجادلوا بسنّته وأسنّته الذين أنكروها، صلاة لا تبرح لها الأرض مسجدا، ولا يزال ذكرها مغيرا في الآفاق ومنجدا، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّه لمّا كانت الخطابة من أشهر شعائر الإسلام، واظهر شعار ملّة سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، شرعها الله تعالى لإذكار خلقه بنعمه، وتحذير عباده من نقمه، وإعلام بريّته بما أعدّ لمن أطاعه في دار كرامته من أنواع كرمه، وجعلها من وظائف الأمة العامّة، ومن قواعد وراثة النّبوّة التامة؛ يقف المتلبّس بها موقف الإبلاغ عن الله لعباده، ويقوم النّاهض بفرضها مقام المؤدّي عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى أمّته عن مراد الله ورسوله دون مراده، ويقيمها في فروض الكفايات على سنن [سبله] «1» ، ويستنزل بها موادّ الرحمة إذا ضنّ الغيث على الأرض بوبله؛ وكان المسجد الجامع بدمشق المحروسة هو الّذي سارت بذكره الأمثال، وقيل هذا من أفراد الدّهر الّتي وضعت على غير مثال، قد تعيّن أن نرتاد له بحكم خلوّه من الأئمة من هو مثله فرد الآفاق، وواحد العصر عند الإطلاق، وإمام علماء زمانه غير مدافع عن ذلك، وعلّامة أئمّة أوانه الّذي يضيء بنور فتاويه ليل الشّكّ الحالك، وناصر السّنّة الّذي تذبّ علومه عنها، وحاوي ذخائر الفضائل الّتي تنمي على كثرة إنفاقه على الطّلبة منها، وشيخ الدّنيا الّذي يعقد على فضله بالخناصر، ورحلة «2» الأقطار الّذي غدت نسبته إلى أنواع العلوم زاكية الأحساب طاهرة الأواصر، وزاهد الوقت الذي زان العلم بالعمل، وناسك الدّهر الّذي صان الورع بامتداد الفضائل وقصر الأمل، والعابد الّذي أصبح حجّة العارف وقدوة السّالك، والصّادع بالحقّ الّذي لا يبالي من أغضب(12/70)
إذا رضي الله ورسوله بذلك.
ولما كان فلان هو الّذي خطبته لهذه الخطابة علومه الّتي لا تسامى ولا تسام، وعيّنته لهذه الإمامة فضائله الّتي حسنت بها وجوه العلم الوسام، حتّى كأنّها في فم الزمن ابتسام، وألقى إليه مقاليدها كماله الّذي صدّ عنها الخطّاب، وسدّ دونها أبواب الخطاب، وقيل: هذا الإمام الشافعيّ أولى بهذا المنبر وأحرى بهذا المحراب- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نحلّي أعطاف هذا المنبر بفضله الذي يعيد عوده رطيبا، ويضمّخ طيبا منه ما ضمّ خطيبا، وأن نصدّر بهذا المحراب من نعلم أنّه لدى الأمّة مناج لربّه، واقف بين يدي من يحول بين المرء وقلبه.
فلذلك رسم......- لا زال يولّي الرّتب الحسان، ويجري بما أمر الله به من العدل والإحسان- أن تفوّض إليه الخطابة والإمامة بجامع دمشق المحروس على عادة من تقدّمه.
فليرق هذه الرّتبة الّتي أمطاه الله ذروتها، وأعطاه الفضل صهوتها، وعيّنه تفرّده بالفضائل لإذكار الأمّة عليها، ورجّحه لها انعقاد الإجماع على فضله حتّى كادت للشوق أن تسعى إليه لو لم يسع إليها، حتّى تختال منه بإمام لا تعدو مواعظه حبّات القلوب، لأنها تخرج من مثلها، ولا تدع خطبه أثرا للذّنوب، لأنّها توكّل ماء العيون بغسلها، ولا تبقي نصائحه للدّنيا عند المغترّ بها قدرا، لأنّها تبصّره بخداعها، ولا تترك بلاغته للمقصّر عن التّوبة عذرا: فإنّها تحذّره من سرعة زوال الحياة وانقطاعها، ولا تجعل فوائده لذوي النّجدة والبأس التفاتا إلى أهل ولا ولد لأنّها تبشّره بما أعدّ الله لمن خرج في سبيله، ولا تمكّن زواجره من نشر الظلم أن يمدّ إليه يدا لأنّها تخبره بما في الإقدام على ذلك من إغضاب الله ورسوله.
فليطل- مع قصر الخطبة- للظّالم مجال زجره، وليطب قلب العالم العامل بوصف ما أعدّ الله له من أجره، وليجعل خطبه كلّ وقت مقصورة على(12/71)
حكمه، مقصودة في وضوح المقاصد بين من ينهض بسرعة إدراكه أو يقعد به بطء فهمه؛ فخير الكلام ما دلّ ببلاغته، وإن قلّ، وإذا كان قصر خطبة الرجل وطول صلاته مئنّة «1» من فقهه فما قصّر من حافظ على حكم السّنة فيهما ولا أخلّ.
[وهذه] نسخة توقيع بالخطابة بالجامع الأمويّ، كتب به للقاضي «تقيّ الدّين السبكي» «2» .
الحمد لله الّذي جعل درجات العلماء آخذة في مزيد الرّقيّ، وخصّ برفيع الدرجات من الأئمة الأعلام كلّ تقيّ، وألقى مقاليد الإمامة لمن يصون نفسه النّفيسة بالورع ويقي، وأعاد إلى معارج الجلال، من لم يزل يختار حميد الخلال، وينتقي، وأسدل جلباب السّؤدد على من أعدّ للصّلاة والصّلات من قلبه وثوبه كلّ طاهر نقيّ.
نحمده على أن أعلى علم الشّرع الشّريف وأقامه، وجعل كلمة التّقوى باقية في أهل العلم إلى يوم القيامة، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة عدل «3» قيّد الفضل بالشكر وأدامه، وأيّد النّعمة بمزيد الحمد فلا غرو أن جمع بين الإمامة والزّعامة، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أعلى الله به عقيرة مرتّل الأذان ومدرج الإقامة، وأغلى ببركته قيمة من تمسّك بسبيل الهدى ولازم طريق الاستقامة، صلّى الله عليه وعلى آله الذين عقدوا عهود هذا الدّين وحفظوا نظامه، وعلى أصحابه الذين ما منهم إلا من اقتدى بطريقه فاهتدى إلى(12/72)
طرق الكرامة، صلاة لا تزال بركاتها تؤيّد عقد اليقين وتديم ذمامه، وسلّم تسليما كثيرا.
أمّا بعد، فإن من شيم دولتنا الشريفة أن ترفع كلّ عالي المقدار مكانا عليّا، وتجعل له من اسمه وصفته قولا مسموعا وفعلا مرضيّا، وتوطّد له رتب المعالي وتزيد قدره فيها رقيّا، وتكسوهم من جلباب السّؤدد مطرفا «1» مباركا وطيّا، وتطلق لسان إمامه بالمواعظ الّتي إذا تعقّلها أولو الألباب خرّوا لطاعة ربّهم سجّدا وبكيّا.
ولما كان المجلس العالي هو الّذي أعزّ أحكام الشريعة الشّريفة وشادها، وأبدى من ألفاظه المباركة المواعظ الرّبّانيّة وأعادها، وأذاع فيها أسرار اليقين وزادها، وأصلح فسادها، وقوّم منادها «2» ؛ وكيف لا وقد جمع من العلوم أشتاتا، وأحيا من معالم التّقى رفاتا، وأوضح من صفات العلماء العاملين بهديه وسمته هديا وسماتا، فلذلك خرج الأمر الشريف الصالحيّ العماديّ..........
قلت: وهذه نسخة توقيع بخطابته أيضا، أنشأته للشّيخ «شهاب الدين بن حاجّي» .
الحمد لله الّذي أطلع شهاب الفضائل في سماء معاليها، وزيّن صهوات المنابر بمن قرّت عيونها من ولايته المباركة بتواليها، وجمّل أعوادها بأجلّ حبر لو تستطيع فرق قدرتها لسعت إليه وفارقت- خرقا للعادة- مبانيها، وشرّف درجها بأكمل عالم ما وضع بأسافلها قدما إلا وحسدتها على السّبق إلى مسّ قدمه أعاليها.(12/73)
نحمده على أن خصّ مصاقع «1» الخطباء من فضل اللّسن بالباع المديد، وقصر الجامع الأمويّ على أبلغ خطيب يشيب في تطلّب مثله الوليد، وأفرد فريد الدّهر باعتبار الاستحقاق برقيّ درج منبره السّعيد، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تخفق على مواكب الصّفوف أعلامها، وتتوفّر من تذكير آلاء الله تعالى أقسامها، ولا تقصّر عن تبليغ المواعظ حبّات القلوب أفهامها، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله أفضل نبيّ نبه القلوب الغافلة من سناتها، وأيقظ الخواطر النّائمة من سباتها، وأحيا رميم الأفئدة بقوارع المواعظ بعد مماتها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين علا مقامهم، ففاتت أعقابهم الرّؤوس، ورفعت في المجامع رتبهم، فكانت منزلتهم منزلة الرّئيس من المرؤوس، صلاة لا تزال الأرض لها مسجدا، ولا يبرح مفترق المنابر باختراق الآفاق لاجتماعها موردا.
وبعد، فإنّ أولى ما صرفت العناية إليه، ووقع الاقتصار من أهمّ المهمّات عليه- أمر المساجد الّتي أقيم بها للدّين الحنيف رسمه، وبيوت العبادات الّتي أمر الله تعالى أن ترفع ويذكر فيها اسمه؛ لا سيّما الجوامع الّتي هي منها بمنزلة الملوك من الرّعيّة، وأماثل الأعيان من بين سائر البريّة؛ ومن أعظمها خطرا، وأبينها في المحاسن أثرا، وأسيرها في الآفاق النّائية خبرا، بعد المساجد الثلاثة التي تشدّ الرّحال إليها، ويعوّل في قصد الزيارة عليها- جامع دمشق الّذي رست في الفخر قواعده، وقامت على ممرّ الأيام شواهده، وقاوم الجمّ الغفير من الجوامع واحده، ولم تزل الملوك تصرف العناية إلى إقامة شعائر وظائفه، وتقتصر من أهل كلّ فنّ على رئيس ذلك الفنّ وعارفه؛ فما شغرت به وظيفة إلا اختاروا لها الأعلى والأرفع، ولا وقع التّردّد فيها بين اثنين إلّا تقيّلوا «2» منهما الأعلم والأروع؛ خصوصا وظيفة الخطابة الّتي كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم للقيام بها(12/74)
متصدّيا، وعلم الخلفاء مقام شرفها بعد فباشروها بأنفسهم تأسّيا.
ولما كان المجلس العاليّ، القاضويّ، الشّيخيّ، الكبيريّ، العالميّ، الفاضليّ، الأوحديّ، الأكمليّ، الرّئيسيّ، المفوّهيّ، البليغيّ، الفريديّ، المفيديّ، النّجيديّ، القدويّ، الحجّيّ، المحقّقيّ، الورعيّ، الخاشعيّ، النّاسكيّ، الإماميّ، العلّاميّ، الأثيليّ، العريقيّ، الأصيليّ، الحاكميّ، الخطيبيّ، الشّهابيّ، جمال الإسلام والمسلمين، شرف العلماء العاملين، أوحد الفضلاء المفيدين، قدوة البلغاء المجتهدين، حجّة الأمّة، عمدة المحدّثين، فخر المدرّسين، مفتي المسلمين، معزّ السنة، قامع البدعة، مؤيّد الملّة، شمس الشّريعة، حجّة المتكلّمين، لسان المناظرين، بركة الدّولة، خطيب الخطباء، مذكّر القلوب، منبّه الخواطر، قدوة الملوك والسّلاطين، وليّ أمير المؤمنين «أبو العبّاس أحمد» أدام الله تعالى نعمته: هو الّذي خطبته هذه الخطابة لنفسها، وعلمت أنّه الكفء الكامل فنسيت به في يومها ما كان من مصاقع الخطباء في أمسها؛ إذ هو الإمام، الذي لا تسامى علومه ولا تسام، والعلّامة الّذي لا تدرك مداركه ولا ترام، والحبر الّذي تعقد على فضله الخناصر، والعالم الّذي يعترف بالقصور عن مجاراة جياده المناظر، والحافظ الذي قاوم علماء زمانه بلا منازع، وعلّامة أئمّة أوانه من غير مدافع، وناصر السّنّة الذي يذبّ بعلومه عنها، وجامع أشتات الفنون الّتي يقتبس أماثل العلماء منها، وزاهد الوقت الّذي زان العلم بالعمل، وناسك الدّهر الّذي قصّر عن مبلغ مداه الأمل، ورحلة الأقطار الّذي تشّد إليه الرّحال، وعالم الآفاق الّذي لم يسمح الدّهر له بمثال- اقتضى حسن الرأي الشريف أن نرفعه من المنابر على عليّ درجها، ونقطع ببراهينه من دلائل الإلباس الملبّسة داحض حججها، ونقدّمه على غيره ممن رام إبرام الباطل فنقض، وحاول رفع نفسه بغير أداة الرّفع فخفض.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف العاليّ، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، المنصوريّ، المعزّيّ- لا زال يرفع لأهل العلم راسا، ويحقّق لذوي الجهل من بلوغ المراتب السّنيّة ياسا- أن يفوّض إلى المجلس العالي المشار إليه خطابة(12/75)
الجامع المذكور بانفراده، على أتمّ القواعد وأكملها، وأحسن العوائد وأجملها.
فليرق منبره الّذي عاقب فيه رامحه الطّالع أعزل غيره الغارب، وليتبوّأ ذروة سنامه الأرفع من غير شريك له ولا حاجب، وليقصد بمواعظه حبّات القلوب، ويرشق شهاب قراطيسها المانعة فإنّها الغرض المطلوب، وليأت من زواجر وعظه بما يذهب مذهب الأمثال السائرة، ويرسلها من صميم قلبه العامر فإنّ الوعظ لا يظهر أثره إلّا من القلوب العامرة، ويقابل كلّ قوم من التذكير بما يناسب أحوالهم على أكمل سنن، ويخصّ كلّا من أزمان السّنة بما يوافق ذلك الزّمن؛ والوصايا كثيرة وإنّما تهذيب العلم يغني عنها، وتأديب الشريعة يكفي مع القدر اليسير منها؛ وتقوى الله تعالى ملاك الأمور وعنده منها القدر الكافي، والحاصل الوافي؛ والله تعالى يرقّيه إلى أرفع الذّرى، ويرفع على الجوزاء مجلسه العالي: «وإنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا» .
الوظيفة السادسة- التّداريس الكبار بدمشق المحروسة.
وهذه نسخة توقيع بتدريس المدرسة الرّيحانية، كتب به لقاضي القضاة «عماد الدين الطّرسوسيّ» «1» الحنفيّ، عوضا عن جلال الدّين الرّازيّ. كتب بسؤال بعض كتّاب الإنشاء، وهي:
الحمد لله الّذي جعل عماد الدّين عليّا، وأحكم مباني من حكم فلم يدع عصيّا، وقضى في سابق قضائه لإمضاء قضائه أن لا يبقي عتيّا.
نحمده على ما وهب به من أوقات الذّكر بكرة وعشيّا، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تنبّه بالعلم بوحدانيّته من كان غبيّا، وتكبت لمقاتل سيوف العلماء من كان غويّا، ونشهد أنّ سيّدنا محمدا عبده ورسوله الّذي كان(12/76)
عند ربّه رضيّا، وعلى ذبّه عمّا شرع من الدين مرضيّا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة لا يزال فضل قديمها مثل حديثها مرويّا، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فلّما كانت رتب العلم هي الّتي يتنافس عليها، ويتطاول إلى التّنقّل إليها، ويختار منها ما كسي بمباشرة المتقدّم ملابس الجلال، وآن له أن ينتقل إليه البدر بعد الهلال، وكانت المدرسة الرّيحانيّة بمحروسة دمشق هي ريحانة المجالس، وروضة العلم الزّاكية المغارس، وبحر الفوائد الّذي يخرج الفرائد، ومسرح العلماء الّذي قد آن أن يظفر به منهم من الألف زائد.
ولمّا توفّي من آلت إليه، وعالت مسألتها إلّا عليه، وكان ممّن قد ولي الأحكام استقلالا، وكان لبصر الدّنيا جلاء وللدّين جلالا، لم تكن إلّا لمن ينسى به ذلك الذّاهب، وينسب إليه علم مذهبه كلّه وإن كان لا يقتصر به على بعض المذاهب، ويعرف من هو وإن لم يصرّح باسمه، ويعرف من «1» هو وإن لم يذكر بعلاء قدره العليّ وعلمه، ولا يمترى «2» أنّه خلف «أبا حنيفة» فيمن خلف، وحصل على مثل ما حصل عليه القاضي «أبو يوسف» «3» وذهب ذلك في السّلف الأوّل مع من سلف، وأعلم بجداله أنّ «محمد بن الحسن» ليس من أقران أبي الحسن، وأنّ «زفر» «4» لم يرزق طيب أنفاسه في براعة اللّسن، وأنّ «الطّحاويّ» «5» ما طحا به «قلب إلى الحسان طروب» و «القاضي(12/77)
خان» «1» لديه منه الأنبوب، وتلقّب «شمس الأئمة» لما طلع علم أنّه قد حان من شمس النّهار غروب، و «الرّازيّ» لما جاء تيقّن أنّه يروزه «2» عن علم الجيوب، و «المرغينانيّ» مسّ ولم يرغن «3» له في مطلوب، و «الثّلجيّ» «4» ما برّد لطالب غلّه، و «الخبّازيّ» «5» لم يوجد عنده لطعام فضلة، و «الهندوانيّ» «6» ما أجدى في جلاد الجدال ولا هزّ نصله؛ ولم يزل يشار إليه والتّقليد الشريف له بالحكم المطلق بما تضمّنه من محاسن أوصافه شاهد، ودست الحكم على على كيوان شائد، ومدارس العلم تسرّ من حبّه، ما حنيت عليه من محاريبها الأضالع، ومجالس القضاء تظهر بقربه، ما لم يكن تدانى إليه المواضع.
وكان الجناب الكريم، العاليّ، القضائيّ، الأجلّيّ، الإماميّ، الصّدريّ، العالميّ، العامليّ، العلّاميّ، الكامليّ، الفاضليّ، الأوحديّ، المفيديّ، الورعيّ، الحاكميّ، العماديّ، ضياء الإسلام، شرف الأنام، صدر الشّام، أثير الإمام، سيد العلماء والحكّام، رئيس الأصحاب، معزّ السّنة، مؤيّد الملّة،(12/78)
جلال الأئمّة، حكم الملوك والسلاطين، خالصة أمير المؤمنين، أبو الحسن عليّ بن الطّرسوسيّ الحنفيّ، قاضي القضاة بالشّام- نشر ملاءة مذهبه، وحلّى بجلوسه للحكم طرفي النّهار إضاءة مفضّضه وتوشيع مذهبه، طالما ساس الرّعيّة بحكمه، وساد نظراءه في معرفة العلوم الشّرعيّة بعلمه وحكمه، وسار مثل فضله في الأقطار وضوء الشّمس مرد شعاعه، فطال إلى السّماء وقصر الأفق الممتدّ على طول باعه، وفاض فيض الغمام وما اكتال البحر بكيله ولا صار مثل صاعه، وعرضت عليه هذه المدرسة الّتي لم يكن لغيره أن يحبى ريحانتها، ولا أن تؤدّى إلى يد سواه فيودع أمانتها، فآثرها على أنّه ترك المدرسة المقدّميّة المتقدّم له درسها، المعظّم به في كلّ حين غرسها، ليوسّع بها على الطالب مذهبه، ويفرغ لها ساعة من أوقاته المنتهبة، ويهب [لها] «1» من حقّه الّذي هو في يده ما لو شاء ما وهبه.
فرسم بالأمر الشريف- لا زال يقرّب الآماد، ويرضي القوم وأقضاهم عليّ وأثبتهم طودا العماد- أن يفوّض إليه تدريس المدرسة الرّيحانية المعيّنة أعلاه، على عادة من تقدّمه وقاعدته إلى آخر وقت، بحكم تركه للمقدّمية ليهبّ عليه روحها وتهب له السّعادة ريحها؛ ولها من البشرى بعلمه ما تميس به ريحانة ريحها سرورا، وتميد وقد أكنّت جبلا من العلم وقورا، وتمتدّ وقد نافحت في مسكة اللّيل عبيرا، وفي أقحوانة الصّباح كافورا؛ وما نوصي مثله- أجلّ الله قدره- بوصية إلا وهو يعلمها، ويلقّنها من حفظه ويعلّمها؛ ومن فصل قضائه تؤخذ الآداب، وتنفذ سهام الآراء والآراب. وتقوى الله بها باطنه معمور، وكلّ أحد بها مأمور؛ وما نذكّره بها إلّا على سبيل التّبرّك بذكرها، والتّمسّك بأمرها.
والفقهاء والمتفقّهة هم جنده؛ وبهم يجدّ جدّه، [فليجعلهم له في المشكلات عدّة، وليصرف في] «2» الإحسان إليهم جهده؛ والله تعالى يعينه على ما ولي،(12/79)
ويعيّنه لكلّ علياء لا يصلح أن يحلّها إلّا عليّ. وسبيل كلّ واقف عليه العمل به بعد الخطّ الشريف أعلاه.
الوظيفة السابعة- التصادير بدمشق المحروسة.
وهذه نسخة توقيع أنشأته لقاضي القضاة «بدر الدّين محمد» ابن قاضي القضاة بهاء الدّين أبي البقاء «1» ، وولده جلال الدّين محمد، بإعادة تصديرين كانا باسمهما، بالجامع الأمويّ بدمشق: أحدهما انتقل إليهما عن سلفهما، والثاني بنزول، وخرج عنهما عند استيلاء «تنم» «2» نائب الشّام على الشّام في سنة اثنتين وثمانمائة، ثم أعيد إليهما في شوّال من السنة المذكورة، في قطع الثّلث، وهي:
الحمد لله الّذي جعل بدر الدّين في أيّامنا الزاهرة متواصل رتب الكمال، متردّدا في فلك المعالي بأكرم مساغ بين بهاء وجلال، منزّها عن شوائب النّقص.
في جميع حالاته: فإما مرتقب الظهور في سراره، أو متّسم بالتمام في إبداره، أو آخذ في الازدياد وهو هلال.
نحمده على أن أقرّ الحقوق في أهلها، وانتزع من الأيدي الغاصبة ما اقتطعته الأيام الجائرة بجهلها، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تحمي قائلها من شوائب التّكدير، وتصون منتحلها من عوارض الإصدار إذا ورد أصفى(12/80)
مناهل التصدير، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أفضل نبيّ اقتفت أمّته آثاره واتّبعت سننه، وأكرم رسول دعا إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه أئمّة الحقّ وأعلام الهدى، وحماة الدّين وكفاة الرّدى، صلاة يبقى على مدى الأيّام حكمها، ولا يندرس على ممرّ اللّيالي رسمها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من رعيت له الحقوق القديمة، وحفظت له مساعيه الكريمة، وخلّدت عليه النّعم الّتي حقّ لها أن تكون بأهلها مقيمة، من كرم أصلا وطاب فرعا، وزكا منبعا وعذب نبعا، ووقع الإجماع على فضله المتواتر فأعدق الحكم بتفضيله قطعا، ومن إذا تكلّم فاق بفضله نثر اللّالي، وإذا قدر قدره انحطّت عن بلوغ غايته المعالي، وإذا طلع بدره المضيء من أفق مجلسه الموروث عن أبيه وأعمامه قال: ليت أشياخي «1» شهدوا هذا المجلس العالي، ومن إذا جلس بحلقته البهيّة غشيته من الهيبة جلالة، وإذا أطافت به هالة الطّلبة والمستفيدين قيل: ما أحسن هذا البدر في هذه الهالة!، ومن تتيه طلبته على أكابر العلماء بالانتماء إليه، وتشمخ نفوس تلامذته على غيره من المتصدّرين بالجلوس بين يديه، ومن إذا أقام بمصر طلع بالشّام بدره، ولو أقام بالشّام بقي بمصر على الّدوام ذكره.
وكان المجلس العاليّ، القاضويّ، الكبيريّ، العالميّ، العامليّ، الأفضليّ، الأكمليّ، الأوحديّ، البليغيّ، الفريديّ، المفيديّ، النّجيديّ، القدويّ، الحجّيّ، المحقّقيّ، الإماميّ، الأصيليّ، البدريّ، جمال الإسلام والمسلمين، شرف العلماء العاملين، أوحد الفضلاء المفيدين، قدوة البلغاء،(12/81)
حجة الأدب، عمدة المحدّثين، فخر المدرّسين، مفتي الفرق، أوحد الأئمّة، زين الأمّة، خالصة الملوك والسلاطين، وليّ أمير المؤمنين، أبو عبد الله، محمد ابن المجلس العاليّ، القاضويّ، الكبيريّ، المرحوميّ، البهائيّ، أبي البقاء الشّافعيّ، السّبكيّ، ضاعف الله تعالى نعمته: هو عين أعيان الزّمان، والمحدّث بفضله على ممرّ اللّيالي وليس الخبر كالعيان، ما ولي منصبا من المناصب الدّينيّة إلّا كان له أهلا، ولا أراد الانصراف من مجلس علم إلّا قال له مهلا، ولا استبدل به في وظيفة إلّا نسب مستبدله إلى الحيف، ولا صرف عن ولاية إلّا قال استحقاقه: كيف ساغ ذلك لمتعاطيه فكيف وكيف.
وكان ولده المجلس السّاميّ، القضائيّ، الكبيريّ، العالميّ، الفاضليّ، الكامليّ، البارعيّ، الأصيليّ، العريقيّ، الجلاليّ، ضياء الإسلام، فخر الأنام، زين الصدور، جمال الأعيان، نجل الأفاضل، سليل العلماء، صفوة الملوك والسلاطين، خالصة أمير المؤمنين، أبو «1» محمد بلّغ الله تعالى فيه [عارفيه] «2» غاية الأمل، وأقرّ به عين الزّمان كما أقرّبه «3» عين أبيه وقد فعل، قد أرضع لبان العلم وربّي في حجره، ونشأ في بيته ودرج من وكره، وكمل له سؤدد الطّرفين: أبا وأمّا، وحصل على شرف المحتدين: خالا وعمّا؛ لم يقع عليه بصر متبصّر إلّا قال: نعم الولد، ولا تأمّله صحيح النّظر إلّا قال: هذا الشّبل من ذاك الأسد، ولا رمى والده إلى غاية إلّا أدركها، ولا أحاط به منطقة طلبة إلا هزّها للبحث وحرّكها، ولا اقتفى أثر أبيه وجدّه في مهيع فضل إلّا قال قائله:
أكرم بها من ذرّيّة ما أبركها! واتّفق أن خرج عنهما ما كان باسمهما من وظيفتي التّصدير بالجامع(12/82)
الامويّ المعمور بذكر الله تعالى بدمشق المحروسة: المنتقلة إحداهما إليهما عن سلفهما الصّالح قدما، والصّائرة الأخرى بطريق شرعيّ معتبر وضعا وثابت حكما- اقتضى حسن الرّأي الشريف أن يحفظ لهما سالف الخدمة، ويرعى لهما قديم الولاء فالعبرة في التّقديم عند الملوك بالقدمة.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا زال لذوي البيوت حافظا، وعلى الإحسان لأهل العلم الشّريف على ممرّ الزمان محافظا- أن يعاد ذلك إليهما، ويوالى مزيد الإحسان عليهما؛ فليتلقّيا ذلك بالقبول، ويبسطا بالقول ألسنتهما فمن شمله إنعامنا الشريف حقّ له أن يقول ويطول؛ وملاك أمرهما التّقوى فهي خير زاد، والوصايا وإن كثرت فعنهما تؤخذ ومنهما تستفاد؛ والله تعالى يقرّ لهما بهذا الاستقرار عينا، ويبهج خواطرهما بهذه الولاية إبهاج من وجد ضالّته فقال:
هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا
«1» والاعتماد في ذلك على الخطّ الشّريف أعلاه الله تعالى أعلاه، حجّة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
الوظيفة الثامنة- النّظر.
وهذه نسخة توقيع بنظر البيمارستان النّوريّ «2» ، كتب بها لمن لقبه «شهاب الدّين» وهي:
رسم......- لا زال يطلع في سماء المناصب السّنيّة من ذوي الأصالة والكفاية شهابا، ويوزع المستحقّين بجهات البرّ شكره إذ اختار لهم من أهل النّهضة من ارتدى العفاف جلبابا، ويودع صحائف الأيّام ذكره الجميل حين أحيا قربات الملوك السّالفين بانتخاب من يجدّد لهم بحسن المباشرة ثوابا- أن يحمل «مجلس الأمير» فلان: أعزّه الله تعالى فيما هو بيده من نظر البيمارستان النّوريّ بدمشق المحروسة، على حكم التّوقيع الكريم والولاية الشّرعية اللّذين(12/83)
بيده، واستقراره في ذلك بمقتضاهما استقرارا يبسط في هذا المنصب يده ولسانه، ويظهر شهاب عدله الّذي يحرق من الجور شيطانه، ويبرز من مباشرته ما عرف جوهره بحسن الانتقاء وإبريزه بحسن الانتقاد، ومن تأثيره ما تبلغ به الأنفس المراد بأوسع مراد، ويبدي من تدبيره، ما ينتج تمييز الوقف وتثميره.
فليباشر ذلك على عادة مباشرته الحسنة، وليسلك فيها ما عهد من طريقته المستحسنة، محصّلا من المفردات ما يصرفها لمستحقّها وقت الحاجة إليها، مثابرا على حسن معالجة المضرور الّذي لا تقدر يده من العجز عليها، مواصلا فعل الخير باستمرار صدقات الواقف ليشاركه في الأجر والثّواب، مستجلبا له من الدعاء ولنا بمشاركته في الأمر بالعمل بسنّته إلى يوم المآب، ضابطا أموال هذه الجهة بتحرير الأصول والمطلق والحساب والحسّاب، متقدّما إلى الخدّام والقومة بحسن الخدمة للعاجز والضّعيف، مؤكدا عليهم في أخذهم بالقول اللّيّن دون الكلام العنيف، ملزما لهم بجودة الخدمة ليلا ونهارا، مؤاخذا لهم بما يخلّون به من ذلك إهمالا وإقصارا، متقدّما إلى أرباب وظائف المعالجة ببذل النّصيحة، واستدراك الأدواء المسقمة بإتقان الأدوية الصّحيحة؛ وليتفقّد الأحوال بنفسه: ليعلم أهل المكان أنّ وراءهم من يقابلهم على التّقصير، وليبذل في ذلك جهده فإنّ الاجتهاد القليل يؤثر الخير الكثير. والوصايا كثيرة وعنده من التّأدّب بالعلم وحسن المباشرة ما فيه كفاية، وفي أخلاقه من جميل المآثر وما حازه في البداية ما ينفعه في النّهاية؛ ولكن تقوى الله عزّ وجلّ هي السّبب الأقوى، والمنهل الّذي من ورده يروى؛ فليجعلها له ذخيرة ليوم المعاد، ومعقلا عند الخطوب الشّداد؛ والله تعالى يبلّغه من التوفيق الأمل والمراد، بمنّه وكرمه!، والاعتماد......... إن شاء الله تعالى.(12/84)
الصنف الثالث (من تواقيع أرباب الوظائف بحاضرة دمشق- تواقيع أرباب الوظائف الدّيوانيّة، وفيها مرتبتان)
المرتبة الأولى (ما يكتب في قطع النصف ب «المجلس العالي» وهي على ضربين)
الضرب الأوّل «1» (تواقيع الوزارة بالمملكة الشّاميّة على ما استقرّ عليه الحال)
فقد ذكر في «التعريف» أنّه يكتب بالشام للصاحب [عز] «2» الدين أبي يعلى «حمزة بن القلانسيّ» «3» رحمه الله ب «الجناب العالي» لجلالة قدره، وسابقة خدمه، وعناية من كتب له بذلك. لكنّه لم يبيّن مقدار قطع الورق لذلك. ولا يخفى أنه كتب به في قطع الثّلثين، على القاعدة في أنّه يكتب للجناب في قطع الثّلثين. وقد ذكر بعد ذلك أنّ الّذي استقرّ عليه الحال أنّه يكتب للوزير بالشّام «المجلس العالي» بالدعاء، كما كتب للصّاحب أمين الدّين أمين الملك.
[وفيه وظائف:
الوظيفة الأولى- ولاية تدبير الممالك الشامية] «4» .
وهذه نسخة توقيع للصاحب «أمين الملك» المذكور بتدبير الممالك الشّاميّة والخواصّ «5» الشريفة والأوقاف المبرورة، من إنشاء الصّلاح(12/85)
الصّفديّ «1» ، وهي:
الحمد لله الّذي جعل وليّ أيّامنا الزّاهرة، أمينا، وأحلّه من ضمائرنا الطاهرة، مكانا أينما توجّه وجده مكينا، وخصّه بالإخلاص لدولتنا القاهرة، فهو يقينا يقينا، وعضّد بتدبيره ممالكنا الشّريفة فكان على نيل الأمل الّذي لا يمين يمينا، وزيّن به آفاق المعالي فما دجا أمر إلّا كان فكره فيه صحيحا مبينا، وجمّل به الرّتب الفاخرة فكم قلّد جيدها عقدا نفيسا ورصّع تاجها درّا ثمينا، وأعانه على ما يتولّاه فهو الأسد الأسدّ الّذي اتخذ الأقلام عرينا.
نحمده على نعمه الّتي خصّتنا بوليّ تتجمّل به الدّول، وتغنى الممالك بتدبيره عن الأنصار والخول «2» ، وتحسد أيّامنا الشّريفة [عليه] «3» أيّام من مضى من الدّول الأول، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة نستمطر بها صوب الصّواب، ونرفل منها في ثوب الثّواب، ونعتدّ برّها واصلا ليوم الفصل والمآب، ونشهد أنّ محمدا عبده الصّادق الأمين، ورسوله الّذي لم يكن عن الغيب بضنين، وحبيبه الّذي فضل الملائكة المقرّبين، ونجيّه الّذي أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى حجّة على الملحدين، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين صحبوا ووزروا، وأيّدوا حزبه ونصروا، وعدلوا فيما نهوا وأمروا، صلاة تكون لهم هدى إذا حشروا، وتضوّع لهم عرفهم في العرف وتطيّب نشرهم إذا نشروا، وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدّين.
وبعد، فإنّ أشرف الكواكب أبعدها دارا، وأجلّها سرى وأقلّها سرارا، وأعلاها منارا، وأطيب الجنّات جنابا ما طاب أرجا وثمارا، وفجّر خلاله كلّ نهر «يروع حصاه حالية العذارى» ، ورنّحت معاطف غصونه سلاف النّسيم فتراها(12/86)
سكارى، ومدّت ظلال الغصون فتخال أنّها على وجنات الأنهار تدبّ عذارا.
وكانت دمشق المحروسة لها هذه الصّفات، وعلى صفاها تهبّ نسمات هذه السّمات، لم يتّصف غيرها بهذه الصّفة، ولا اتّفق أولوا الألباب إلّا على محاسنها المختلفة؛ فهي البقعة الّتي يطرب لأوصاف جمالها الجماد، والبلد الذي ذهب بعض المفسّرين إلى أنّها إرم ذات العماد، وهي في الدّنيا أنموذج الجنّة الّتي وعد المتّقون، ومثال النّعيم للّذين عند ربّهم يرزقون، وهي زهرة ملكنا، ودرّة سلكنا؛ وقد خلت هذه المدّة ممّن يراعي تدبيرها ويحمي حوزتها ويحاشيها من التّدمير ويملأ خزائنها خيرا يجلى، إذا ملأنا ساحتها خيلا ورجلا- تعيّن أن ننتدب لها من جرّبناه بعدا وقربا، وهززناه مثقّفا وسللناه عضبا، وخبأناه في خزائن فكرنا فكان أشرف ما يدّخر وأعزّ ما يخبى؛ كم نهى في الأيّام وأمر، وكم شدّ أزرا لمّا وزر، وكم غنيت به أيّامنا عن الشّمس وليالينا عن القمر، وكم رفعنا راية مجد تلقّاها عرابة «1» فضله بيمين الظّفر، وكم علا ذرا رتب تعزّ على الكواكب الثّابتة فضلا عمن يتنقّل في المباشرات من البشر، وكم كانت الأموال جمادى وأعادها ربيعا غرّد به طائر الإقبال وصفر.
و [لما] «2» كان [الصاحب أمين الملك] «3» هو معنى هذه الإشارة، وشمس هذه الهالة وبدر هذه الدّارة، نزل من العلياء في الصّميم، وفخرنا بأقلامه الّتي هي سمر الرّماح كما فخرت بقوسها تميم، وحفظت الأموال في دفاتره الّتي(12/87)
يوشّيها فأوت إلى الكهف والرّقيم «1» ، وقال لسان قلمه: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ
«2» ، وعقيم الزّمان أن يجيء بمثله «إنّ الزمان بمثله لعقيم» ، وتشبّه به أقوام فبانوا وبادوا، وقام منهم عبّاد العباد فلمّا قام عبد الله كادوا- أردنا أن تنال الشّام فضله كما نالته مصر فما تساهم فيه سواهما، ولا يقول لسان الملك لغيره:
حللت بهذا حلّة ثم حلّة ... بهذا فطاب الواديان كلاهما
فلذلك رسم بالأمر الشّريف أن يفوّض إليه تدبير الممالك الشّريفة، ونظر الخواصّ الشريفة والأوقاف المبرورة على عادة من تقدّمه في ذلك.
فليتلقّ هذه الولاية بالعزم الّذي نعهده، والحزم الّذي شاهدناه ونشهده، والتّدبير الّذي يعترف الصواب له ولا يجحده، حتى يثمّر الأموال في أوراق الحسّاب، وتزيد نموّا وسموّا فتفوق الأمواج في البحار وتفوت القطر من السّحاب، مع رفق يكون في شدّته، ولين يزيد مضاء حدّته، وعدل يصون مهلة مدّته؛ والعدل يعمّر، والغدر يدمّر، ولا يثمّر، بحيث إنّ الحقوق تصل إلى أربابها، والمعاليم تطلع بدور بدرها كاملة كلّ هلال على أصحابها، والرّسوم لا تزداد على الطّاقة في بابها، والرّعايا يجنون ثمر العدل في أيّامه متشابها؛ وإذا أنعمنا على بعض أوليائنا بنحل «3» فلا يكدّر وردها بأنّ تؤخّر، وإذا استدعينا لأبوابنا بمهمّ فليكن الإسراع إليه يخجل البرق المتألّق في السّحاب المسخّر؛ فما أردناك إلّا لأنّك سهم خرج من كنانة، وشهم لا ينهي إلى الباطل عيانه وعنانه؛ فاشكر هذه النعمة على منائحها، وشنّف الأسماع بمدائحها، متحقّقا أنّ في(12/88)
النّقل، بلوغ العزّ والأمل، وأنّه لو كان في شرف المأوى بلوغ منى «لم تبرح الشّمس يوما دارة الحمل» ؛ فاستصحب الفرح والجذل، بدل الفكر والجدل.
الوظيفة الثانية- كتابة السّرّ بالشّام.
ويعبّر عنها بصحابة ديوان الإنشاء الشّريف بدمشق. وشأنه هناك شأن كاتب السّرّ بالأبواب السّلطانيّة.
وهذه نسخة توقيع بصحابة ديوان الإنشاء بالشّام، كتب بها لفتح الدّين ابن الشّهيد «1» ، من إنشاء القاضي ناصر الدّين بن النّشائيّ، في مستهلّ ذي القعدة سنة أربع وستّين وسبعمائة، وهي:
الحمد لله مجزل المنّ والمنح، ومرسل سحائب العطاء السّمح، ومعمل فكرنا الشّريف في انتخاب من أورى زند الخير بالقدح، ومنقّل السّرّ بين الأفاضل من صدر إلى صدر بحمّى يصون له السّرح، ويغني مشهور ألفاظه عن الشّرح، ومجمّل بناء الدّين، بما سكن به من صميم الفضل المبين، وما اقترن بأبوابه من حركة الفتح.
نحمده على نعم عاطرة النّفح، ونشكره على منن عالية السّفح، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تنجّي قائلها من حرّ الجحيم وتقيه شرّ شرر ذلك اللّفخ، وتخطب بها ألسنة الأقلام على منابر الأنامل فتنشيء عندها من مطربات الورق على غصون الأوراق هديل الصّدح، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي بلّغ الرّسالة وأدى الأمانة وعامل الأمّة بالنّصح، وأزال عنهم التّرح وأمنه الله على أسرار وحيه فكان أشرف أمين خصّه الله في محكم آياته بالمدح، وجعله أعظم من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فلم تأخذه في الله لومة لائم(12/89)
ممّن لحا «1» وممّن لم يلح، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل الوفاء والصّفاء والصّفاح والصّفح، والّذين جاهدوا في الله حقّ جهاده بالنّفس والمال والكدّ والكدح، ورفعوا أعلامهم المظلّلة، ونصبوا أقلامهم المعدّلة؛ فكم لهم في المشركين من جراح لا تعرف الجرح، وذادوا عن حوزة الدّين، بإراقة دم الكفّار المتمرّدين، فحسن منهم الذّبّ والذّبح، وكانوا فرسان الكلام، وأسود الإقدام، الّذين طالما خسأت بهم كلاب الشّرك فلم تطق النّبح، صلاة دائمة باقية الصّرح، ما اقترن النّظر باللّمح، وما هطل السّحاب بالسّح «2» ، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من خطبت المناصب العليّة، محاسنه الجليلة الجلية، ورغبت المراتب الّتي هي بالخير حريّة، في جميل حالته الّتي هي بعقود المفاخر حليّة، وسحبت سحائب الإقبال الوابليّة، ذيول فضائله الفاضليّة، واكتسب العلوم الفرعيّة والأصليّة، من مجاميع فنونه الّتي تعرب عن أنواع الفوائد الجمليّة والتّفصيليّة- من شهدت المفاخر بأنّه لم يزل الشّهيد لها وابن الشّهيد، وحمدت المآثر الّتي هو الشّهير بها فما عليها في جميل الأدوات من مزيد، وتشيّدت مباني معاليه الّتي اقترن باب خيرها منه بالفتح المبين، وتمهّدت معاني أماليه بالتّخيّل اللّطيف واللّفظ المتين، وتعدّدت أوصاف شيمه فهي لمحاسن الدّهر تزيد وتزين، وغدا من الكاتبين الكرام والكرام الكاتبين، الذين تضح باطّلاعهم مراصد المقاصد وتبين. طالما اتّسق عقد نظمه المتين، وبسق غصن قلمه المثمر بالدّين، وأضاف إلى أدب الكتاب حلية العلماء المتقنين، وارتقب أفعال الجميل الّتي استوجب بها حسن التّرقّي إلى أعلى درجات المتّقين، وقلّد أجياد الّطروس جواهر ألفاظه الّتي تفوق الجوهر عن يقين؛ فهي بنضار خطّه مصوغة أبهج صياغة، وفي طريق الإنشاء سالكة نهج(12/90)
البلاغة، وكذا بحار الفضائل واردة مناهلها المساغة؛ كم أعرب كلمه الطّيّب، عن سحّ سحاب الصّواب الصّيّب، وكم أغنى في المهمّات بكتبه، عن جيش الكتائب وقضبه «1» ، وكم هزأت صحائفه بالصّفائح وكم أغنت راشقات فكره الثابتة العلم عن سهو السّهم الرّائح، وكم تشاجرت أقلامه البيض الفعال هي وسمر الرّماح فكان نصرها اللّائح، وكم تعارض نشر وصفه وشذا الطّيب فألفى الزّمان ثناءه هو الفائح، وكم اشتمل على أنواع من النّفاسة فاستوجب منّا منّا يقضي له بأجزل المنى والمنائح.
ولما كان المجلس العاليّ، القاضويّ، الأجلّيّ، الكبيريّ، العالميّ، الفاضليّ، الكامليّ، الأوحديّ، الأثيريّ، الرّئيسيّ، البليغيّ، المفيديّ، المجيديّ، الأصيليّ، العريقيّ، العابديّ، الزّاهديّ، المؤتمنيّ، الفتحيّ، جمال الملوك والسّلاطين، وليّ أمير المؤمنين، محمد بن الشّهيد، أدام الله نعمته، هو الّذي أعرب القلم عن صفاته، وأطرب المسامع ما أدّاه اليراع عن أدواته، ورام البنان أن يستوعب بيان شكره فلم يدرك شأو غاياته، وتسارعت بدائع البدائه من أفكاره فسابقت جريان يراعه في أبياته، وراقت أماليه، لناقلي ألفاظه ومعانيه، فشكر السّمع والفهم بها هبّات هباته؛ فآدابه مشهورة، وعلومه مذكورة، وتحلّيه بمذاهب الصّوفية ارتاضت به نفسه الخيّرة الخبيرة، وإخلاصه في عبادة الله تعالى حسنت به منه السّيرة والسّريرة، وصيانته للأسرار الشّريفة استحق بها إسناد أمرها إليه، وإيداع غوامضها لديه، والتّعويل في حفظها وفي لفظه للفظها عليه- اقتضى حسن الرّأي الشّريف أن نجتبيه لما تحقّقنا منه من ذلك، ونخصّه بصحابة ديوان الإنشاء الشّريف في أجلّ الممالك، ونجعل قدمه ثابتة الرّسوخ، والصّعود في مشيخة الشّيوخ، ليسلك فيها أحسن المسالك.
فلذلك رسم بالأمر الشريف [العاليّ] »
الأشرفيّ، النّاصريّ- لا زال(12/91)
لأبوابه الشريفة فتح في الخير يقدمه النّصر، ولسحابه منح ما يعرف مدد أمداده القصر- أن تفوّض إليه صحابة ديوان الإنشاء الشّريف، ومشيخة الشيوخ بالشام المحروس، على عادة من تقدّمه وقاعدته ومعلومه الشاهد به الدّيوان المعمور إلى آخر وقت.
فليباشر ذلك بوافر عفافه، ووافي إنصافه، ومشهور أمانته، ومشكور صيانته، كاتما للأسرار، كاتبا للمبارّ، ليكون من الأبرار، عالقا مصالح الأنام بإرشاد رأيه وصوابه ضابطا أحوال ديوانه، متحرّيا في كثير الأمور وقليلها: فإن الكتاب يظهر من عنوانه، محرّرا لما يملي معتبرا لما يكتب، مجمّلا للمطالعات الكريمة بفكره المتسرّع وتصوّره الأرتب، حافظا أزمّة ما يصدر من مثال وما يرد في المهمّات الشّريفة فهو أدرى وأدرب بما على ذلك يترتّب، محافظا كعادته على دينه، لازما لصدق يقينه، خافضا لأهل الخير جناحه، مانحا لهم نجاحه، معاملا للفقراء بكرم نفس بالله غنيّة، ملاحظا لأحوالهم بالقول والفعل والعمل والنّيّة، محترما لكبيرهم، حانيا على صغيرهم، مفكّرا فيما يعود نفعه عليهم، راكنا في الباطن والظّاهر إليهم، معنيا لهم بالاشتغال بالعبادة، مسلّكا لهم الطّريق إلى الله فإنّها الطريق الجادّة، مستجلبا لدعواتهم الصّالحة، مستفيدا من متاجر بركاتهم الرّابحة. والوصايا كثيرة ومن نور إفادته تقتبس، ومن مشهور مادّته تلتمس، وملاكها التّقوى وهي أول كلّ أمر وآخره، وبملازمتها تتمّ له مفاخره؛ والله تعالى يحرسه في السّرّ والنّجوى، ويظهر بارشاده للمعاني والبيان كلّ نجوى، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة توقيع بكتابة السّرّ بالشّام، كتب به للقاضي «شرف الدّين عبد الوهّاب» «1» بن فضل الله، عند ما رسم بنقله من القاهرة إلى دمشق، في ذي(12/92)
الحجّة سنة إحدى عشرة وسبعمائة، من إنشاء الشّيخ شهاب الدّين «محمود الحلبيّ» وهي:
الحمد لله الّذي خصّ دولتنا الشّريفة برعاية الذّمم، وحفظ ما أسلف الأولياء من الطّاعات والخدم، وإدامة ما أسدته إلى خدم أيّامنا الزّاهرة من الآلاء والنّعم، وإفاضة حلل اعتنائها، التي هي أحبّ إلى من شرف بولائها، من حمر النّعم، وأبقى عوارفها على من لم يزل معروفا في صون أسرارها بسعة الصّدر وفي تدبير مصالحها بصحّة الرّأي وفي تنفيذ مراسمها بطاعة اللّسان والقلم.
نحمده على نعمه الّتي ما استهلّت على وليّ فأقلع عنه غمامها، ولا استقرّت بيد صفيّ فانتزع من يده حيث تصرّف زمامها، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة لا نزال نعتصم بحبلها المتين، ويتلقّى عرابة «1» إخلاصنا راية فضلها باليمين، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أكرم مبعوث إلى الأمم، بالإحسان والكرم، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الّذين كرمت أنسابهم، وأضاءت لهم وجوههم وأحسابهم، فرفلوا في حلل ما اكتسوه من سننه، واكتسبوه من سننه، فحسن منها اكتساؤهم واكتسابهم، صلاة لا تزال لها الأرض مسجدا، ولا يبرح ذكرها مغيرا في الآفاق ومنجدا، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من خوّلته مكارمنا الإقامة حيث يهوى من وطنه، وبوّأته نعمنا الجمع بين ذمام برّنا وبين ما فارقه من سكنه، وملّكته عواطفنا، زمام التّصرّف حيثما أمكن من خدمتنا الشريفة، وعرّفته عوارفنا، أنّ مكانته عندنا على حالها حيث أدّى ما عدق به من وظيفة- من لم يزل قلمه لسان مراسمنا، وعنان ما نجريه في الآفاق من سوابق مكارمنا، وترجمان أوامرنا، وخطيب آلائنا التي غدت بها أعطاف التّقاليد من جملة منابرنا.(12/93)
ولمّا كان المجلس العالي: هو الّذي لم يبرح صدره خزانة أسرارنا، وفكره كنانة إعلاننا في المصالح وإسرارنا، وخاطره مرآة آرائنا، ويراعه مشكاة ما يشرق: من أنوار تدبيرنا، أو يبرق: من أنواء آلائنا؛ ينطق قلمه في الأقاليم عن ألسنة أوامرنا المطاعة، وينفذ كلمه عن مراسمنا في ديوان الإنشاء بما تقابله أقلام الجماعة بالسّمع والطّاعة؛ وكانت سنّه قد علت في خدمتنا إلى أن رأينا توفير خاطره على البركات، عن كثير ممّا يتبع ركابنا الشريف من لوازم الحركات، وأن نعفيه مما يلزم الإقامة بأبوابنا الشريفة من كثرة المثول بين يدينا، وأن نقتصر به على أخفّ الوظيفتين إذ لا فرق في رتبة السّرّ بين ما يصدر عنّا أو ما يرد إلينا.
فرسم بالأمر الشّريف، العاليّ، المولويّ، السّلطانيّ، الملكيّ، الفلانيّ، أن يكون فلان صاحب ديوان الإنشاء الشّريف بالشام المحروس، بمعلومه الشّاهد له به الديوان المعمور بالأبواب العالية، عوضا عن أخيه المجلس الساميّ، القضائيّ، المحيويّ «يحيى «1» بن فضل الله» ويستمرّ أخوه القاضي «محيي الدّين» المذكور مع جملة الكتّاب بديوان الإنشاء الشّريف بالشّام المحروس، بالمعلوم الشّاهد به الدّيوان المعمور.
فليباشر هذه الرّتبة الّتي تأثلت به قواعدها وعن تقريره وتحريره أخذ كلّ من كان بأنواعها وأوضاعها عليما؛ فإنّه لم يخرج عن أخيه شيء وصل إليه، ولا فوّض له إلّا ما هو بحكم عموم الأولويّة والأوّليّة في يديه؛ وأمّا ما يتعلّق بذلك من وصايا تبسط، وقواعد تشرط، فإنّها منه استفادها من رقّمها، وعنه ارتوى بها ورواها من تعلّمها؛ ونحن نعلم من ذلك ما لا يحتاج إلى أن يزداد فيه يقينا، ولا أن نزيده بذكره معرفة وتمكينا؛ والاعتماد........
قلت: ومن غريب ما وقع: أنّه كتب للمقرّ الشّهابيّ بن فضل الله بكتابة السّر بالشّام، حين وليها بعد انفصاله من الديار المصرية توقيع مفتتح ب «أمّا بعد(12/94)
حمد الله» من إنشاء المولى «تاج الدّين بن البارنباري» وكأنّه إنّما كتب بذلك عند تغيّر السلطان الملك النّاصر «محمد بن قلاوون» عليه «1» ، على ما هو مذكور في الكلام على كتّاب السّر في مقدّمة الكتاب.
وهذه نسخة توقيع بكتابة السّر بالشّام المحروس:
أمّا بعد حمد الله منقّل الشّهب في أحبّ مطالعها، ومعلي الأقدار بتصريف الأقدار ورافعها، ومبهج النّفوس بمعادها إلى أوطانها ومواضعها، وممضي مشيئته في خليقته بالخيرة فيما يشاء لطالعها، والشّهادة له بالوحدانيّة الآخذة من القلوب بمجامعها، والصّلاة على سيدنا محمد الّذي بصّر الأمّة بهديها ومنافعها، وصان شرعته الشريفة تلو الملل بنسخ شرائعها، وعلى آله وصحبه الّذين استودعوا أسرار الملّة فحفظوا نفيس ودائعها- فإنّ ممالكنا الشريفة هي سواء لدينا في التّعظيم، وأولياء دولتنا الشريفة يتنقّلون فيها في منازل التّكريم؛ وعندنا من «فضل الله» رعاية للعهد القديم، وتأكيد لأسباب التّقديم، فلا غضاضة لمن نقلناه من أبوابنا إليها، ولا وهن يطرأ على علوّ المراتب ويعتريها، حيث صدقاتنا دائمة، وثغور إقبالنا باسمة، ومراسمنا لمساعدة الأقدار في الأيّام حاكمة؛ و «الشّهاب» لو لم يسر في سمائه، لما اهتدى الناظرون بضيائه، والدّرّة لو مكثت في صدفها، لما حظيت في العقود بشرفها.
وكان المجلس العاليّ، القضائيّ، الشّهابيّ، قد أقام في خدمتنا الشريفة بالأبواب العالية حافظا للأسرار، قائما بما نحبّ ونختار؛ ثم لمّا أخذ حظّه من القرب من أيدينا الشّريفة: رأينا أنّ عوده إلى أوطانه، وأهله من تمام إيمانه، وأنّ مرجعه إلى(12/95)
محلّه، من نعيم الله عليه وفضله؛ وما سار إلّا والإقبال يزوّده، والاستقبال به وأهل بيته يسعده ويصعده.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف أن ينقل إلى كتابة الإنشاء الشّريف بدمشق المحروسة، وأن يكون متحدّثا عن والده، على ما كان عليه بالديار المصرية وليقرّر له من المعلوم كذا وكذا.
فليسر إلى دار كرامته، وليستقرّ في موطن إقامته، قرير العين، مملوء اليدين، مسرورا برفع المحلّ في المملكتين؛ وليكن لوالده- أعزّه الله تعالى- عضدا، وليصبح له في مهماتنا الشريفة ساعدا ويدا، وليضح به اليوم برّا ليجد رضا الله غدا؛ فإنّ والده بركة الممالك، وله قديم هجرة، وسالف خدمة، وحسن طويّة، فنحن نرعاه لذلك، والمهمّات الشريفة يتلقّاها بنفسه، وليصدر فصول المطالعة مدبّجة على عادته في تدبيج طرسه، وليستعن بالله فهو وليّ الإعانة، وليعتمد على الرّفق في أمره فما كان الرّفق في شيء إلّا زانه؛ وما بعد عنّا، من كان بعيدا بالصورة قريبا بالمعنى، والله تعالى يزيده منّا منّا، والخطّ الشريف أعلاه حجّة فيه، إن شاء الله تعالى.
الوظيفة الثالثة- نظر الجيوش بالشّام.
وشأن صاحبها كتابة المربّعات «1» التي تنشأ من الشّام، وتنزيل المناشير الشريفة الّتي تصدر إليه.
وهذه نسخة توقيع شريف من ذلك، كتب به «لموسى بن عبد الوهاب» من إنشاء السيّد الشريف شهاب الدّين، وهي:
الحمد لله الّذي جعل إحساننا عائدا بصلاته، وفضلنا يجمع شمل الإسعاد بعد شتاته، وعواطفنا تنبّه جفن الإقبال من إغفائه وسناته.(12/96)
نحمده على أن نصر بنا جيش الإسلام في أرجاء ملكنا الشّريف وجهاته، وجعل البركة واليمن بأمرنا في حالتي محوه وإثباته، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة زادت في جزاء المخلص وحسناته، وأضحت نورا يسعى بين يديه إلى رحمة ربّه وإلى جنّاته، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي أظهر الله به واضح آياته، وأصبح النّشر عابقا من نشر راياته، ومحا الفترة «1» بهديه وسرّ سرائر أوليائه وأكمد قلوب عداته، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه ما تأرّج النّسيم في هبّاته، وأبهج العطاء بجزيل هباته، وسلّم تسليما.
وبعد، فإنّ من النّعم ما إذا عادت أقرّت العيون، وحققت الآمال والظّنون، ورفعت الأقدار وإن لم يزل رفيعا محلّها، وجمعت المسارّ الممتدّ على الأفئدة ظلّها، وعمرت ربوع الإحسان، وغمرت بمنائحها الحسان، كهذه النّعمة الّتي تلقّت الإقبال من حافل غمامه، وجمعت شمل التّقديم مشفوعا بإكرامه، وأعادت سماء التّكريم هادية بقطبها، مشرقة الأرجاء بنور ربّها، وسفرت بدورها بمن هو أولى باجتلائها، وتهيّأت رتبها لمن هو جدير باعتلائها؛ وحقيق بأن تعود المواهب بعد فترتها، وأن تقبل عليه وجوه المنائح بعد لفتتها، لتصبح كواكب الإسعاد كأنّها ما أفلت، وعطايا التّخويل كأنّها ما انتقلت، ويعود عليه اليوم كأمسه، ويرجع أفق العوارف الجسام مشرقا ببدر الاجتباء وشمسه.
ولمّا كان فلان هو الّذي حسنت في الخدم الشّريفة آثاره، وحمد إيراده في المهمّات الشريفة وإصداره، وشكره شامه ومصره، وسما في كلّ جهة حلّها محلّه وقدره، وتحقّقت منه رآسة قضت له بإبداء النّعم وإعادتها، وأن تجري له الدّولة من الإكرام على أجمل عادتها، وأن ترعى له حقوق ألفها حديثا وقديما، وتنشر عليه ظلال الفضل حتّى لا يفقد منها على طول المدى تكريما.(12/97)
فلذلك رسم بالأمر الشّريف ... «1» ... لا زال ... «2» ... أن يستقرّ ... «3» ... تجديدا لملابس سعده، وتأكيدا لقواعد مجده، وترديدا للفضل الّذي حلا منهل ورده، ورعاية لخدمه الّتي أكبّت عليها السيوف والأقلام، وشكرت تأثيرها جنودنا- نصرها الله تعالى- بمصر والشّام؛ ولما له من حسن سمت زاده وقاره، وأصل صالح طابت منه ثماره.
فليستقرّ في هذه الوظيفة المباركة: عالما أنّ لسان القلم أمسك عن الوصايا لأنه خبر هذه الوظيفة فرعا وأصلا، وألفت منه ناظرا علا قدرا وكرم محتدا وفصلا، وهو بحمد الله أدرى بسلوك منهاجها القويم، وأدرب باقتفاء سننها المستقيم؛ والخير يكون، والاعتماد في ذلك على الخطّ الشّريف إن شاء الله تعالى أعلاه، حجّة بمقتضاه.
المرتبة الثانية (من مراتب أرباب التّواقيع الديوانية بدمشق
- من يكتب له في قطع الثلث ب «المجلس الساميّ» بالياء مفتتحا ب «الحمد لله» إن علت رتبته وإلا ب «أما بعد» ، وتشتمل على وظائف) منها- نظر الخزانة العالية «4» ، وشأنها هناك نظير الخزانة الكبرى بالديار المصرية في القديم، ونظير خزانة الخاصّ الآن.
وهذه نسخة توقيع بنظر الخزانة العالية:
أمّا بعد حمد الله على نعمه الّتي خصّت المناصب السنية في أيّامنا الزّاهرة بكلّ كفء كريم، وجعلت على خزائن الأرض من أولياء دولتنا القاهرة كلّ حفيظ عليم، وأفاضت ظلّ إنعامنا على من إذا أنعم النّظر في حقّ ذوي البيوت القديمة كان أحقّ بالتّقديم، والصّلاة على سيدنا محمد أفضل من حباه بفضله العميم،(12/98)
واجتباه لهداية خلقه إلى السّنن القويم، وجعل سلامة الصّلاة المقبولة من النقص مقرونة بالصلاة عليه والتّسليم- فإنّ أولى من رجّحه لخدمتنا الاختيار، وقدّمه في دولتنا الاختبار، وأخلصه حسن نظرنا الشّريف رتبة أبيه من قبل، وأغدق له سحاب برّنا صوب إحسان فلم يصبه طلّ بل وبل- ومن حمد سيره وسيره، وشكر في طاعتنا ورده وصدره، وزان الأصالة بالنباهة، والرّاسة بالوجاهة، والمعرفة بالنّزاهة، وجمع بين [الظّلف] «1» والاطّلاع، والتّضلّع من العفّة والاضطلاع، والصّفات الّتي لو تخّيرها لنفسه لم يزدها على ما فيه من كرم الطّباع.
ولما كان نظر الخزانة العالية بدمشق المحروسة رتبة لا يرقى إليها من الأكفاء إلا من ومن، ولا يقدّم لها من الأولياء إلا من تعيّن من رؤساء العصر وفضلاء الزّمن، وكان فلان هو الّذي عيّنه لها ارتياد الأكفاء، واصطفي هو من أهل الصّفاء، وتقدّم من وصف محاسنه ما لا يروّع تمام بدره وظهوره بالنّقص والاختفاء.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف أن يفوّض إليه نظر الخزانة المذكورة.
فليباشر ذلك مباشرة من يحقّق في كفايته وفضيلته التّأميل، ويظهر حسن نظره الّذي هو كالنهار لا يحتاج إلى دليل، وليجر على جميل عادته في النهوض في خدمتنا بالسّنّة والفرض، ويضاعف اجتهاده الّذي بمثله جعل من اختير على خزائن الأرض؛ وهو يعلم أنّ هذه الرتبة مآل الأموال، وذخائر الإسلام الّتي هي مادة الجيوش وموارد الإفضال؛ فليعمل في مصالحها فكره ودأبه، وإذا كان حسن نظرنا الشريف قد جعله المؤتمن عليها: فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ
«2» وفي سيرته الّتي عرفت، وصفاته الّتي إن وصفت فما(12/99)
أنصفت، ما يغني عن تفاصيل الوصايا وجملها، وإعادة مزايا التأكيد: قولها وعملها؛ لكن ملاكها الصّيانة الّتي هو بها موصوف، والتّقوى التي هو بها معروف؛ والاعتماد على الخط الشّريف أعلاه.
ومنها- صحابة ديوان النّظر، وصحابة ديوان الجيش ونحو ذلك من الوظائف الديوانية بدمشق.
قلت: هذا إن كتب من الأبواب الشّريفة السّلطانية، وإلّا فالغالب كتابة ذلك عن نائب السّلطنة بدمشق.
الصنف الرابع (من الوظائف بدمشق وظائف المتصوّفة ومشايخ الخوانق، وفيها مرتبتان)
المرتبة الأولى (ما يكتب في قطع الثّلث ب «المجلس السّاميّ» بالياء، مفتتحا ب «الحمد لله» وبذلك يكتب لشيخ الشّيوخ بالشّام، وهو شيخ الخانقاه الصّلاحية، المسماة بالشميصاتية) «1»
وهذه نسخة توقيع بذلك، وهي:
الحمد لله الّذي اختار لعمارة بيوته أولياء يحبّونه ويحبّهم، وأصفياء حفّهم برحمته فاجتهدوا في طاعته فازداد قربهم، وأتقياء زهدوا في الدّنيا وأبدلوا الفاني بالباقي وطاب في مورد الصّفاء شربهم.
نحمده حمد من جعل حبّ الله دثاره، وملابس التّقوى شعاره، ونشكره والشّكر لمزيد النّعم أمارة، وللقلوب الدّاثرة عمارة، ونشهد أن لا إله إلّا الله(12/100)
وحده لا شريك له شهادة مخلص في التّوحيد، يتبوّأ بها جنان الخلد ويخلص من سماع قول جهنّم: هل من مزيد «1» ، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي أسرى به إلى حضرة أنسه، وحظيرة قدسه، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين منهم من سبق الأمّة بشيء وقر «2» في صدره، ومنهم من دلّت واقعة سارية على علوّ شأنه ورفعة قدره، صلاة لا تزال الأرض لها مسجدا، ولا يبرح ذكرها مغيرا في الآفاق ومنجدا، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أحقّ من عومل بالتّقديم، وأجدر من يخصّ بالتّكريم، من كان قدره في الأولياء عظيما، وذكره في الآفاق بين أهل المعرفة قديما، وتجريده عن الدنيا مشهورا، وسعيه على قدم الطاعة مشكورا، وشهوده لمقام الكمال مستجليا، واستجلاؤه لموادّ الأنس مستمليا؛ فهو في هذه الطائفة الجليلة سريّ المقدار، معروف الصفة في حلية الأولياء ومناقب الأبرار، والمتقدّم من الإمامة في مجمع الأخيار.
ولما كان المجلس الساميّ، الشّيخيّ، الكبيريّ، العالميّ، العامليّ، الأوحديّ، الزّاهديّ، الورعيّ، الأصيليّ، الفلانيّ، جلال الإسلام والمسلمين، وشرف الصّلحاء في العالمين، شيخ الشّيوخ، قدوة السّالكين، معتقد الملوك والسّلاطين، أعاد الله تعالى من بركاته: هو المقصود من هذه العبارة، والملحوظ بهذه الإشارة- اقتضى حسن الرّأي الشريف أن يخصّ في الدنيا بالتّعظيم، ويميّز في هذه الأمّة بالتّكريم.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف- لا زال له من جنود اللّيل «3» جيش لا تطيش(12/101)
سهامه، ومن فرسان المحاريب مدد لا تزلّ في ملاقاة الرّجال أقدامه- أن يستقرّ في كذا.
فليقابل هذه النعمة بالسّرور، وليتأثّل هذه الفضيلة بحمد الله الشّكور، وليواظب على وظيفة الدعاء بدوام أيّامنا الزّاهرة، وليستمطر جزيل الفضل من سحائب جودنا الماطرة، وليبسط يده في عمل المصالح، وليستمرّ على السّعي الحسن والعمل الصّالح؛ فإنّ هذه البقعة مأوى القادم والقاطن، وتسمو على أمثالها من المواطن؛ وليكن لأسرارهم موقّرا، ولأقواتهم المعينة على الطّاعة ميسّرا؛ والله تعالى يجعل خلواته معمورة، وأفعاله مبرورة؛ والاعتماد في ذلك على الخطّ الشّريف.
قلت: هذا إن وليها شيخ من مشايخ الصّوفية، على عادة الخوانق. وقد يليها كاتب السّرّ بالشّام، فيكتب تقليده بكتابة السّرّ في قطع النّصف «بالمجلس العالي» على عادة كتّاب السّرّ، ويشار في تقليده إلى بعض الألفاظ الجامعة بين المقامين، ويضاف إلى ألقاب كتابة السّرّ بعض ألقاب الصّوفية المناسبة لهذا المقام. على أنّه ربّما كتب بولايتها عن نائب السّلطنة بالشّام لكاتب السّرّ أو غيره.
المرتبة الثانية (من يكتب له في قطع العادة مفتتحا ب «رسم» )
وهذه نسخة توقيع من ذلك، وهي:
رسم بالأمر الشّريف- لا زالت أوامره تحلّ القربات محلّها، ومراسمه تسند الرّتب الدّينية لمن إذا خصّوا بمواقعها كانوا أحقّ بها وأهلها- أن يرتب فلان في كذا: إذ هو أولى من خصّ بمواطن العبادة، ونصّ بترفيه الأسرار على التّحلّي بإفاضة الإفادة، ووفّر كدّه على اجتلاء وجوه المعارف من أفق المراقبة، وجمع خاطره لاجتناء ثمرة الأنس من أفنان الطّاعات النّابتة في رياض(12/102)
المحاسبة، مع تمسّكه بعلوم الشريعة الّذي [خلص] «1» معرفته من الشّوائب، وأحيا الدّجى من اقتبال شبيبة ظلامه إلى أن تشيب منه الذّوائب، ونفع متعدّ إلى كلّ طالب فضل وملتمس، ودين باهر من مصباح مشكاة العلم والعمل لكلّ باغي نور ومقتبس.
فليستقرّ شيخا بالمكان الفلانيّ: لتعمر أرجاؤه بتهجّده، وتشرق خلواته بتعبّده، وتعذب موارده بأوراده، وتطلع مجالسه نجوم معرفته البازغة من أفق إيراده؛ ولتغدو هذه البقعة روضة أفكار، وقبلة أذكار، ومراقي دعوات، ومرافيء بركات، تستنزل بين صلوات مقبولة وخلوات، وليتناول المعلوم المستقرّ له ترفيها لسره، وتنزيها لفكره، وإعانة على الانقطاع بهذه البقعة الّتي تتصل به أسباب السّعادة في أرجائها، وتخصيصا لها منه بإمام تقى لو كان لبقعة أن تجتني بركته لكان منتهى رجائها، وليرفع من الأدعية الصالحة لأيّامنا المباركة ما لا تزال مواطن القبول لنفحاته المترقّبة متلقّية، وما لا تبرح النفوس لخشيته المانعة متوقّية؛ والاعتماد على الخطّ الشّريف أعلاه، حجة بمقتضاه.
قلت: هذا إن كتب عن الأبواب السّلطانية؛ وإلّا فالغالب كتابة ذلك عن نائب السلطنة بالشّام.
النوع الثاني (من وظائف دمشق ما هو خارج عن حاضرتها)
وقد تقدّم في المقالة الثانية: أنّ لدمشق أربع صفقات، وهي: الغربية، والشّرقية، والقبلية، والشّمالية.
فأما الصّفقة الغربية
«2» : وهي المعبّر عنها بالسّاحليّة والجبليّة، على ما(12/103)
تقدّم فيها، ففيها من وظائف أرباب السيوف عدّة وظائف، وتولّي فيها الأبواب السّلطانية.
منها- نيابة القدس
. وقد تقدّم أنّها كانت في الزّمن المتقدّم ولاية صغيرة يليها جنديّ، ثم استقرّت نيابة طبلخاناه، في سنة سبع وسبعين وسبعمائة، وأنّ العادة جرت أن يضاف إليها نظر الحرمين: حرم الخليل عليه السّلام، وحرم القدس، والّذي يكتب له مرسوم في قطع الثّلث ب «السّاميّ» بالياء.
ومنها- نيابة قلعة الصّبيبة
. وقد تقدّم أنّها من أجلّ القلاع وأمنعها، وأنّه كان يليها نائب مفرد من أجناد الحلقة «1» أو مقدّميها عن نائب دمشق، ثم أضيفت إلى والي بانياس، ثم استقرّت في سنة أربع عشرة وثمانمائة في الدولة الناصرية «فرج» نيابة.
ومنها- نيابة قلعة عجلون
. وقد تقدّم أنّها على صغرها حصن حصين، مبنيّة على جبل عوف «2» ، بناها أسامة بن منقذ، أحد أمراء السّلطان صلاح الدّين «يوسف بن أيّوب» في سلطنة العادل أبي بكر، وأنّه كان مكانها راهب اسمه عجلون، فسمّيت به. ثم استقرّت في الدولة الناصرية «فرج» في سنة أربع عشرة وثمانمائة إمرة طبلخاناه.
وقد تقدّم أوّل هذا القسم ما يكتب للمقدّمين، وما يكتب للطّبلخاناه، وما يكتب للعشرات.
أمّا أرباب الوظائف الدّينيّة.
فمنها- مشيخة الخانقاه الصّلاحية بالقدس
. وتوقيعها يكتب في قطع(12/104)
الثلث مفتتحا ب «الحمد لله» .
ومنها- خطابة القدس
، وتوقيعها كذلك.
ومنها- مشيخة حرم الخليل
، وتوقيعها في العادة يكتب مفتتحا ب «رسم» .
وأمّا الصّفقة القبليّة
«1» ، فالّتي يولّى بها من الأبواب السّلطانية نيابة صرخد. وقد تقدّم في الكلام على ترتيب المملكة الشّامية أنّه قد يجعل فيها من يقرب من رتب السّلطنة، وحينئذ: فإن وليها مقدّم ألف، كان مرسومه في قطع النّصف ب «المجلس العالي» ، وإن وليها أمير طبلخاناه، كان مرسومه في قطع النّصف أيضا، ب «السّاميّ» بالياء.
وأما الصّفقة الشّرقية «2» فالنّيابات بها على طبقتين:
الطبقة الأولى (ما يكتب به مرسوم شريف في قطع النّصف، وهو ما يليه مقدّم ألف أو طبلخاناه، وفيها نيابات)
النيابة الأولى- نيابة حمص.
وقد تقدّم أنّها كانت نيابة جليلة، كان يليها في الدّولة النّاصرية «محمد بن قلاوون» مقدّم ألف، وأنه ذكر في «التّثقيف» أنّها صارت الآن طبلخاناه.
وحينئذ: فإن كان بها مقدّم ألف، كان مرسومه في قطع النّصف ب «المجلس العالي» ، وإن كان طبلخاناه، كان مرسومه في قطع الثّلث ب «المجلس الساميّ» بالياء.(12/105)
وهذه نسخة مرسوم شريف بنيابة السلطنة بحمص:
الحمد لله مقدّر كلّ أجل إلى حين، ومقرّر أمور الممالك في عباده الصّالحين، الذي جعل بنا أولياءنا من الرّابحين، وحفظ ما استرعانا من أمور عباده بولاية النّاصحين.
نحمده على اختيار لا يصل إليه قدح القادحين، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة نكون بها في غمرات الحروب على السّوابح «1» سابحين، ونشهد أنّ سيّدنا محمدا عبده ورسوله أكرم المانحين، وأعظم الفاتحين، وأشرف من ولّى الأعمال الكفاة الوفاة المكافحين، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة لا تزال فيها الحفظة على أعمالنا مماسين ومصابحين، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ مراسيمنا الشّريفة وإن تأخّر وقتها إلى أجل معدود، وأمد ممدود، ومضت أيّام وليال ولها باب مسدود، وعمل سببه غير مشدود- فإنّا كالسّيف يتلاهى إذا صمّم لا يرجع، وكالغمام تتمادى مدد مدّه ثم يجود فلا يقلع، ولم نزل منذ فوّض الله أمور بلاده إلينا، وصرّف أمور جمهور عباده بيدينا، نرى أن نحمي غاباتها بأشدّ الأسود، ونرمي غاياتها بمن هو لأمر ما يسود، ونحوط جنباتها بمن لا يستبيح حرمه إلا الوفود، ونحطّ ركائب رعاياها منه على من هو المقصود، وننيب إلى ما يترجّح من مصالحهم لدينا، ونستنيب لمن يترجّى الحسنى إذا عرضت متجدّدات أمورهم علينا، وإذا انفرد بحكم لا يظنّ إلّا أنّه بمسمع من أذنينا، ومرأى من عينينا، لأنّ نوّاب الممالك الشريفة فروع عدلنا الشّريف ونحن أصلها، وأسباب إحسان بأوامرنا المطاعة قطعها ووصلها.
وكانت حمص المحروسة من أكبر الممالك القديمة، والمدن العظيمة؛ تغرق الأقاليم في مدّها، وتمتدّ عساكرها فتعدّ حماة حماة من جندها؛ وهي من(12/106)
الشّام المحروس في ملتقى مواكبه، ومجرّ عواليه ومجرى سوابقه ومجمع كتائبه؛ طالما كان بها الحرب سجالا، وطالما سابقت بها الرّجال آجالا؛ وكان لنا بها في الحرب يومان عوّضنا الله أدناهما بما حفظت المعارك، وضاقت الأرض بدماء القتلى ففاض إلى السّماء ما التقى بالشفق من [تلك المسالك] «1» ، واتّصلت بالبرّ والبحر من جانبيها، واتّصفت بأنّها مهبّ الرّياح، ومركز الرّماح، لما يهبّ لنا من بشرى النصر ويخفق من عصائبنا المنصورة عليها.
فلمّا تطاول الأمد على خلوّها ممّن ينوب عن السّلطنة الشّريفة في أحكامها، ويؤوب إلى تسديد مرامي سهامها، لم تزل آراؤنا العالية تجول فيمن يصلح أن يقّدم قدمه إلى رتبتها العليّة، ويجرّد منها عزائمه المشرفيّة، ويجمع بها على طاعتنا الشّريفة من فيها من العساكر المنصورة، والقبائل المشهورة، والطّوائف المذكورة، ويبسط بساط العدل في كافّة جنودها ورعاياها فإنّها بهؤلاء محروسة وبهؤلاء معمورة- فرأينا أنّ أولى من حكم في عاصيها والمطيع، واتّخذ لسوريا السّور المنيع، من هو الموثوق بما أمضت السيوف من هممه، وأرضت التّجارب من سوابق خدمه، وطارت سمعة شكره في الآفاق، وطابت أثنيته فجاءت بما يعرف من الطّرب لإسحاق «2» ؛ وكان قد تقدّمت له في عينتاب «3» ، نيابة كم أصابه فيها رجل بالعين ثم إنّه من العين تاب، وقام بين أيدي كفلاء ممالكنا الشريفة حاجبا، وفهم من أحكامهم الّتي تلقّوها منّا ما أصبح لها صاحبا، فما للنّيابة إحكام أحكام إلّا وهو به عالم، ولا تولية حكم إلا وقد استحقّها لقرب ما بين الحاجب والحاكم.(12/107)
وكان فلان هو المرتضى للبس هذه المفاخر، والمنتظر الّذي كم ترك الأوّل فيه للآخر- فاقتضت مراسيمنا المطاعة أن يزان جيده بهذا التقليد، وتلقى إليه المقاليد، وتمدّ يد هذه الرتبة لتلقّيه، وتخضع عنق هذه المرتبة لترقيّه، وتحوّل إليه هذه النّعمة الّتي ألحقت قدره بالأكفاء، وأهّلت هممه للاكتفاء، وشرّفت مكانه، بما أجمعت عليه آراؤنا الشريفة له من الاصطفاء، وأحسنت به الظّنّ لمّا رأت نيّته الجميلة ممثّلة من خاطره في مرآة الصّفاء.
فرسم بالأمر الشّريف- لا زال مرفوعا به كلّ علم، ممنوعا به حمى كلّ حرم- أن تفوّض إليه نيابة السّلطنة الشّريفة بحمص المحروسة وأعمالها، وجندها وعمّالها، وعساكرها وعشائرها، وعامرها وغامرها، وأوّلها وآخرها، ودانيها وقاصيها، وكلّ ما في حدودها الأربعة، وداخل في جهاتها الممنّعة، على أكمل ما جرت به عوائد من تقدّمه، واستقرّت عليه القواعد المتقدّمة.
فاتّق الله في أمورك، واجعل الشّرع الشّريف مشكاة نورك، وعظّم حكّامه، ونفّذ أحكامه، فهم أمنع سورك، واعدل فهو قرار خواطر جمهورك، وتيقّظ لسداد سداد ثغورك، وارفق لتطلق به نطق نطاق شكورك؛ وأقم الحدود فإنّها زيادة في أجورك. وأمّا العساكر المنصورة، فجمّل بهم في خدمتنا الشريفة مواكبك، وكمّل بعزائمهم مضاربك، ولا تستخدم منهم إلا من يسرّك أن تراه في يوم العرض، وتعقد هوادي جياده السماء بالأرض، واحم أطراف بلادك من عادية الرّجال، واحفظ جانبيها من تخطّف الغارات فسر قيامها [لا يدفعه] «1» غير احتيال، واهتمّ بالجهاد تحت صناجقنا «2» المنصورة لأعداء الله متى أجمعوا، وضرّسهم بأنياب أسنّتك فأنت صاحب العصا وهي تتلقّف ما صنعوا، وعمّر(12/108)
بلادها بملاحظتك الجميلة، ونمّ أمورها فهي قوام الجنود وهم إلى الثقة في النّصر الوسيلة، وسارع إلى ما ترد به مراسمنا الشّريفة عليك لنهديك إلى صراط مستقيم، وعجّل البريد فإنّك تعلم به ما لست بعليم؛ وبقيّة الوصايا لا حاجة إليها لما تعرفه من قديم، والله تعالى يمتّعك بكلّ خلق كريم؛ والخطّ الشريف أعلاه ...
النيابة الثانية- نيابة الرّحبة «1»
وهذه نسخة بنيابتها:
الحمد لله الّذي أمدّنا بنصره، وشمل بجود سلطاننا أهل عصره، وأيّده بجنود أوّلها متّصل بأوّل عراقه وآخرها بآخر مصره، وفرّق بسهامه الأعداء في حواصل الطير بين حضنه وخصره.
نحمده حمدا يقوم بشكره، ويحافظ على حسن ذكره، ويستعاذ به إلّا ممّا يدمّر على العدا من عواقب مكره، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة ترغم من جادله بكفره، وتمزّقه بين كل ناب سيف وظفره، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أرسله مقيما لأمره، ومديما في الجهاد لإعمال بيضه وسمره، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه حملة سرّه، ونقلة هديه بأسره، صلاة باقية في الوجود بقاء دهره، راقية ارتقاء زهره.
وبعد، فإنّ الثغور بسدادها، والبحور بأمدادها، والنّحور لا تحلّى بأحسن من حلية نجادها، والممالك المحروسة لا تحرس إلا بشهب خرصانها «2» ، ولا تسقى بأنقع مما تطلّه من الدّماء سحب فرسانها، والفرات لا تحمى مواردها إلا(12/109)
بأمثال سيوفها القواضب، ولا تمنع مخاوضها «1» إلّا بدم خاضب، والحصون لا يرضى بها كلّ منجنيق غضبان إلا بوصال مغاضب، والقلاع لا تتطلّع عيون ديادبها «2» إلا لمن ماء الكرى في جفونه ناضب، والمعاقل لا تسمح بعقائلها إلّا لمن هو على خطبتها مواظب؛ وكانت الرّحبة- حرسها الله تعالى- هي أوسع مكان رحابا، وأدنى إلى مطر سحابا، وأوثق ما أغلق على البلاد بابا، وأقرب ما سمع حرّاسها في السماء دعاء مجابا، قد ملئت سماؤها حرسا شديدا وشهبا، ومدّت كواكب الدلو واستقت من الغمام قلبا «3» ، وعدّت ما وراء المجرّة فعمّيت دونها المسالك، وحسبت لملك ونسبت إلى مالك؛ ومالك- لا أعني إلّا ابن طوق «4» - خازنها، ومنزل أمن وفي غاب الأسد مساكنها؛ وقد وقفت لبغداد في فم المضيق، وهمّت بلاد العدا أن تخوض الفرات إليها فقالت: ما لك إليّ طريق؛ قد افترّ في وجه العساكر المنصورة ثغرها الضّاحك، وردّ قرن الشمس فرعها المتماسك.
فلما أغمد حسامها المسلول، وأقلع غمامها وكلّ هدب بالبكاء عليه مبلول- اقتضى رأينا الشريف أن نجدّد لعروسها زفافا، ولبيوتها أفوافا، ولسيوفها جلاء، ولسقوفها إعلاء، ونولّيها لمن تكون همّته فيها جديدة الشّباب، أكيدة الأسباب، ليكون أدعى لمصالحها، وأرعى لمناجحها، وأوعى لما يجمعه سمعه من مصالحها، وأسعى في حماية مماسيها ومصابحها؛ وكان فلان هو أصلب من في كنائننا الشريفة عودا، وأنجز وعودا، وأصدق رعودا، وأيمن إذا طلع نجمه(12/110)
في أفق سعودا.
فرسم بالأمر الشريف أن تفوّض إليه نيابة الرّحبة المحروسة، على عادة من تقدّمه وقاعدته؛ [فليتول ذلك] «1» مقدّما تقوى الله والعمل بما شرع، واتّباع مراسمنا الشريفة فمثله من اتّبع، وحماية أطرافها، من كل طارق إلا طارقا يطرق بخير، وصيانة أكنافها، من كل عصابة محلّقة إلى جوّها كالطّير، وحفظها من عادية كلّ أفّاك وسفّاك، وبادية أعراب وأتراك، وكلّ فارس فرس وراكب بعير، وكلّ وقفة محاصر وحقطة «2» مغير، وجانبي برّ وبحر: في أحدهما المسالك تعمى والآخر لا يعام، وصاحبي سرّ وجهر: هذا تخشى له عاقبة كلام وهذا معاقبة كلام.
وليتخطّف من الأخبار ما تلمع لدينا بوارقه، ويتقطّف من الأقوال ثمراتها ولا يدع كلّ ما تجمعه حدائقه، وليجعل له من المناصحين طلائع ما منهم إلّا من هو في انتهاب الأخبار أبو الغارات، ومن إذا ألجمه الخوف كان له في لمع البروق إشارات، وليتّخذ من الكشّافة من يسبق قبل أن يرتدّ إليه طرفه، ومن الخيّالة من لا يرتدّ عن وقذ «3» الرّماح طرفه، ومن القصّاد من لا يطوي عنه خبرا، ومن الدّيادب من يعيره وقلّ أن تعار العيون نظرا، وليحفظ التّجار في مذاهبهم غدوّا ورواحا، ومساء وصباحا، وليستوص بهم خيرا فإنّهم طالما ازدانت بهم صدور الخزائن على امتلائها انشراحا، وليأخذ منهم ما لبيت المال فكم وجدوا بعطائه أرباحا، وليوصّل إلى أرباب القرارات «4» ما لهم من مقرّر معلوم، وليعطهم ما تصدّقنا به عليهم وهو مشكور وإلّا أعطاهم وهو مذموم،(12/111)
وليعمّر البلاد بتوطين أهل القرى، وإنامتها بالعدل ملآنة الجفون من الكرى، وليكن للفرات متيقّظا لئلا يطغى بها التّيّار، ويغلب بمدّها المخمر على سكرها من السّكر الخمار، ويقوى على سدّها قبل أن لا يقدر على مقاواة البحار، ويتفقّد مبانيها فإنّها من أسنى ما تتفقّده الأبصار، وليغلق زروعها لتكون:
كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ
«1» ، وليعفّ فإنّ العفاف هو الغنى، وليؤمّن من يليه فإنّ الأمان هو المنى، وليقرّ ما استقرّ بيننا وبين القوم من صلح أكّدت أواخيه، وأصبح كلّ من أهل الجانبين لا يفرّ من أخيه، ولا يرخّص لأحد فيما ينقضه لا في عاجل أمر ولا في تراخيه، حتّى إذا كشفت الحرب عن ساقها، وشدّت عقد نطاقها، فليكن بحسب مراسمنا الشريفة اعتماده في شنّ كلّ غارة، وسنّ كلّ ماض مرهفا غراره «2» ، وجوس خلال ديار العدا واختطاف كلّ قمر من دارة؛ والمحرقات «3» التي لا تحرق نباتا حتى تشبّ في ضلوعهم، والعيّارة «4» فهي الزّلازل الّتي تتساقط منها مباني ربوعهم، وموالاة البعوث: فإنّ كلّ بعث يتكفّل بشتات جموعهم؛ والعمل بكلّ ما ترد به مراسمنا العالية، والمواصلة بكتبه الّتي(12/112)
نرفض ما سوى أخبارها المتوالية، وإرسال كل بريد وحمام تحلّق بهما: إمّا ريح ظاهرة وإمّا ريح عادية؛ والله تعالى يقرب له الغايات المنادية، بمنّه وكرمه!.
النيابة الثالثة- نيابة مصياف «1»
وهذه نسخة مرسوم بنيابتها:
الحمد لله الّذي صرّف ممالكنا الشّريفة في الممالك، وشرّف بنا كلّ حصن لا تعرض له المجرة في المسالك، وعرّف بالتّربية في خدمة أبوابنا العالية إلى أين ينتهي السّالك.
نحمده على نعمه الّتي نعتدّ بها الحمد من ذلك، ونرغب أن نلقى الله على أداء الأمانة فيها كذلك، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فيما هو مالك، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أضاء به كلّ حال حالك، وأنجى به من مهاوي المهالك، وجمع به من الأمّة ما وهى وهي كالعقد المتهالك، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة يجد بها قائلها في الدار الآخرة كلّ هناء هنالك، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ النظر في أمور الممالك هو أوّل ما يقدّمه الملك، وأولى ما يتقدّم إليه من سلك؛ ومملكة بيت الدّعوة هي من أجلّ ما تفرّدت به ممالكنا الشّريفة، وامتدّت به في الأماكن المخيفة، وأرسلت من قلاعها من يقتلع العدا بوثوبه، ويسابق السّهم إلى مطلوبه، ويتعبّد بموالاتنا الّتي ورثها عن سلفه في طاعة أئمّتهم، وعلموا بها أن الدّولة العلوية ما انقضت حتّى انتقلت إلينا الولاية على شيعتهم، وأن الملك الإسماعيليّ فينا قد انحصر ميراثه، وأن كلّ من مات من الخلفاء الفاطميّين- رحمهم الله- نحن ورّاثه؛ فهم بهذا يبذلون نفوسهم في الطاعة الشّريفة الّتي يرونها فرضا عليهم، ويبلغون بنا أعلى مراتب الإيمان:(12/113)
لأنهم إذا رأوا منكرا أزالوه بيديهم؛ كم هجموا على عدوّ من أعداء الله هجمة طيف!، وكم استطالوا بسكّين لا يتطاول إلى مباراتها سيف!، وكم أوقدوا لهم بارقة عزم فقيل: هذه سحابة صيف!، وكم ورّدوا بالدّماء خدّا غدا ينادي: يا كرام الورد ضيف!. وكانت مصياف- حرسها الله تعالى- هي كرسيّ هذه المملكة، وقلعتها هي الّتي بذوائب الجوزاء متمسّكة؛ واقتضت مراسمنا المطاعة نقل النائب بها إلى ما رسمنا به الآن، فخلت ممّن يترقّى فيها إلى أعزّ مكان، واحتاجت إلى من تغنى به عما يقال: من اعتقال رمح وتجريد سنان.
فحصل الفكر الشريف فيمن نقلّده هذه النّيابة، ويتقلد أمر هذه العصابة، ويتصرّف في أمورها بمقتضى ما ترد به مراسمنا المطاعة، ويعلم أنّه من شيعتنا:
لأنّه داعينا في هذه الجماعة؛ فرأينا أنّ أحقّ [الناس بها] «1» من قدّمه ولاؤه، وعظّمه انتماؤه، ونبّه عليه اهتمام هممه الّتي لا تشابهها الكواكب في سيرها، وعزائمه الّتي طالما كان بها في خدمتنا الشريفة «يظلّ بموماة «2» ويمسي بغيرها» ؛ ولم تزل به مساعيه حتّى وصل إلى المزيد، وأسرع له الشّيب في طاعتنا الشّريفة: لأنّه في كلّ وقت [كان] «3» يسمع قعقعة لجام البريد؛ وكان فلان هو الّذي أشار إليه القول بوصفه، ودلّ عليه ثناؤه بعرفه.
فرسم أن تفوّض إليه النيابة بمصياف وأعمالها، على عادة من تقدّمه وقاعدته. فليقدّم تقوى الله تعالى فيما ولّيه، ولينشر جناح عدلنا الشريف على من يليه، وليعمل بالأحكام الشّرعية في كل ما يقضيه، وليسلك في أهلها أوضّح المراشد، وليبيّن لهم أنّه يدعوهم إلى سبيل الرشاد إلا ما ادعاه راشد، وليوصّل إلى المجاهدين أرزاقهم الّتي هي أثمان نفوسهم، وثمار ما دنّى القطاف من رؤوسهم. وأهل من مات أو يموت منهم على طاعتنا الشّريفة فكن عليهم(12/114)
متعطّفا، ومن طلب منك الإنصاف فكن له منصفا، وافعل معهم أحسن الأسوة، وقل لهم عنا: إنّ الصّدقات الشّريفة قد استجابت لكم يا أهل الدّعوة، وخذ بقلوبهم، لتزداد من حبّهم، وقل للمجاهدين: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
«1» ، والأموال فصنها من الضّياع، وعمارة البلاد عليك بها فإنّ القلعة لا تكون إلا بالمدينة والمدينة لا تكون إلا بالضّياع، وامتثال مراسمنا الشّريفة وكلّ ما يرسم به سارع إلى اعتماده، وطائفة المجاهدين لا تدع منهم إلا من هو معتدّ لجهاده؛ والكتمان الكتمان! فبه تنال المطالب، وتدرك المآرب؛ وعليك بقمع المفسدين، وردع المعتدين، وإقامة الحدود: فإنّ بها أقام الله هذا الدّين؛ ونحن نغتني بما فيك من المعرفة، وبما أنت عليه- بحمد الله تعالى- من كمال كلّ صفة، عن استيعاب الوصايا الّتي لم تبرح سجاياك بها متّصفة، والله تعالى يزيدك من كلّ نوع أشرفه؛ والخط الشريف أعلاه......
وأما الصّفقة الشّمالية
«2» ، فالذي يولّى بهذه الصّفقة عن الأبواب السلطانية، نيابة بعلبك فقط. وقد تقدّم في الكلام على ترتيب المملكة الشّامية أنّها كانت أوّلا إمرة عشرة، ثم صارت طبلخاناه، وأن نائب الشّام يولّي بها، وربما ولّيت من الأبواب الشّريفة السّلطانية، وحينئذ فيكون مرسوم نائبها في قطع الثّلث ب «المجلس الساميّ» بالياء.
وهذه نسخة مرسوم بنيابة بعلبكّ:
أما بعد حمد الله على أمل حقّق مناه، وصدّق غناه، وفرّق عليه سحب(12/115)
اعتناء أورق به عوده وطاب جناه، والصلاة والسلام على نبيّه سيدنا محمد الّذي كمّل بناه، وعلى آله وصحبه ما شيّد معقل فخار مبناه- فإنّ من أعظم مدن الشّام القديمة، ودور الملك الّتي ذهب من يحلّها من الملوك وبقيت آثاره مقيمة، مدينة بعلبكّ وهي الّتي تحصّن الإسلام بقلعتها، وتحصّل الرعب في قلوب الأعداء [بمنعتها] «1» ، بنيت على عهد سليمان «2» بن داود عليهما السلام وأتقن بنّاؤها، وهالت أسوارها حتّى نسب إلى صنعة الجنّ بناؤها، ودعمت السّماء عمدها، فطالت شرفها حتّى كادت تخضخض في سجل السحاب يدها، وجمعت محاسن في سواها لا توجد، وتقرّر بملكها من الملوك: تارة سعيدا وتارة أمجد، وما خلت من علماء عظيمي الشان، وصلحاء يلمّهم الجبلان:
سيس «3» ولبنان؛ وهي باب دمشق المفتوح، وسحاب الأنواء المسفوح بالسّفوح، وباب البروق الّتي آلت أنّها بأسرارها لا تبوح، ومآب السّفارة الّتي تغدو محمّلة أوقار «4» ركائبها وتروح؛ ولها العين المسبّلة الرّواتب، والجبال الرّاسية الوقار لمفرقها الشّائب، العالية الذّرى [كأنها متلفّعة] «5» من قطع السّحائب؛ و [لما] «6» كان من فيها الآن ممّن لا تستغني الدولة القاهرة عن قربه، ولا تستثني أحدا معه في تجريده سيفه المشهور من قربه، أجلنا الرّأي في كفء لعروسها، ومماثل لمركز تأوّد غروسها، فلم نجد أدرى بأحوالها، وأدرب بما يؤلّف على الطّاعة قلوب رجالها، كمن استقرّ به فيها مع أبيه الماضي- رحمه الله- الوطن [ونالا منه الوطر] «7» ، ومرت [عليهم فيه] «8» سنون وأيامّ هتف(12/116)
بها داعي قصر؛ ولا غني [عنه] «1» مع ماله من ولايات صحب فيها الناس وفارقهم على وجه جميل، ورافقهم ثم انصرف وانصرفوا عنه وما ذمّه في النّازلين نزيل؛ وكان فلان هو المتوقّد الشّهاب، المتوفّل في تلك الهضاب، المشكور قولا ودينا، المشهور بوضع كلّ شيء في موضعه شدّة ولينا.
فلذلك رسم......- لا زال إحسانه أحمد واختياره مقدّما- أن يرتّب في نيابة بعلبكّ على عادة من تقدّمه وقاعدته، مبتدئا حسن النظر في الأمور العامة، لا يدع ظلامة، ولا يدعّ «2» سالك طريق إلى سلامة، ولا يعدّ سمعا إلا لسماع شكر لا ملامة، ولينظر في المظالم نظرا ينجلي به سدفها «3» ، وليشكر العشير توطيا يوطأ به هدفها، وليلاحظ الأمور الديوانية، بما ينمّي به أموالها، ويندّي بسحابه المتدفّق أحوالها. والأوقاف فليشارك واقفيها في إحسانهم، وليجر حسناتها على ما كانت عليه في زمانهم، وليكن لها نعم الكفيل في دوام المحافظة وليتفقّد ما فيها من الحواصل والزّردخاناه «4» مما يذخر لوقته، ويؤخّر لفرط الشّغف به لا لمقته. ومن أهمّ ما يحتفظ به قلوب الرجال، وعمارة الأسوار فإنها للفرسان المقاتلة مجال، وعليها تنصب المجانيق وتتخطّف الآجال. وأمّا الشّريعة المطهّرة: فإنّ من تعدّى غرق أو أوشك أن يغرق، واتّباع أوامرها: وإلّا ففيم يعذّب من يعذّب ويحرق من يحرق؛ وتقوى الله تعالى هي الوصيّة الجامعة، والتّذكرة الّتي ترتدّ بها الأبصار خاشعة؛ وليفهم هذه الوصايا ولا يخرج شيئا منها من قلبه، وليتبيّن معانيها ليكون بها على بيّنة من ربّه؛ والله تعالى يكشف عنه غطاء حجّته، ويزعه عما يأخذه ويؤاخذه من نيّته، إن شاء الله تعالى.(12/117)
الصنف الثاني «1» (ممّن [هم] «2» خارج دمشق: ممّن يولّى عن الأبواب السلطانية- أمراء العربان، وهم على طبقتين:)
الطبقة الأولى (من يكتب له منهم تقليد في قطع النّصف ب «المجلس العالي» وهو أمير آل فضل «3» خاصّة: سواء كان مستقلا بالإمارة أو شريكا لغيره فيها)
وقد تقدّم في الكلام على ترتيب المملكة الشامية نقلا عن «مسالك الأبصار» أنّ ديارهم من حمص، إلى قلعة جعبر، إلى الرّحبة، آخذين على شقّي الفرات وأطراف العراق «4» وهذه نسخة تقليد بإمره آل فضل: كتب به للأمير شجاع الدين «فضل بن عيسى» عوضا عن أخيه مهنّا، عندما خرج أخوه المذكور مع قرا سنقر الأفرم ومن معهما من المتسحبين «5» ، وأقام [هو] «6» بأطراف البلاد ولم يفارق الخدمة،(12/118)
في شهور سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبيّ، وهو:
الحمد لله الّذي منح آل فضل في أيّامنا الزاهرة بحسن الطاعة فضلا، وقدّم عليهم بقديم الإخلاص في الولاء من أنفسهم شجاعا يجمع لهم على الخدمة ألفة وينظّم لهم على المخالصة شملا، وحفظ عليهم من إعزاز مكان بيتهم لدينا مكانة لا تنقض لها الأيام حكما ولا تنقص لها الحوادث ظلّا.
نحمده على نعمه الّتي شملت ببرّنا، الحضر والبدو، وألجهت بشكرنا، ألسنة العجم في الشّدو والعرب في الحدو، وأعملت في الجهاد بين يدينا من اليعملات «1» ما يباري بالنّصّ والعنق «2» الصّافنات في الخبب والعدو، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة ندرأ بها الأمور العظام، ونقلّد بيمنها ما أهمّ من مصالح الإسلام لمن يجري بتدبيره على أحسن نظام، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المبعوث من أعلى ذوائب العرب وأشرفها، المرجوّ الشّفاعة العظمى يوم طول عرض الأمم وهول موقفها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين كرمت بالوفاء أنسابهم، وأضاءت بتقوى الله وجوههم وأحسابهم، صلاة لا تزال الألسن تقيم نداءها، والأقلام ترقم رداءها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من أجنته الطاعة ثمرة إخلاصه، ورفعته المخالصة إلى أسنى رتب تقريبه واختصاصه، وألّف بمبادرته إلى الخدمة الشريفة قلوب القبائل وجمع شملها، وقلّده حسن الوفاء من أمر قومه وإمرتهم ما يستشهد فيه بقول الله تعالى: وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها
«3» - من ارتقى إلى أسنى رتب دنياه(12/119)
بحفظ دينه، ودلّ تمسّكه بأيمانه على صحّة إيمانه وقوّة يقينه، ولا حظته عيون السّعادة فكان في حزب الله الغالب وهو حزبنا، وقابلته وجوه الإقبال فأرته أنّ المغبون من فاته تقريبنا وقربنا، ورأى إحساننا إليه بعين لم يطرفها الجحود، ولم يطرقها إعراض السّعود، فسلك جادّة الوفاء وهي من أيمن الطّرق طريقا، واقتدى في الطاعة والولاء بمن قال فيهم بمثل قوله: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً
«1» ولمّا كان المجلس العالي ... هو الّذي حاز من سعادة الدّنيا والآخرة بحسن الطّاعة ما حاز، وفاز من برّنا وشكرنا بجميل المبادرة إلى الخدمة بما فاز، وعلم مواقع إحساننا إليه فعمل على استدامة وبلها، واستزادة فضلها، والارتواء من معروفها الّذي باء بالحرمان [منه] «2» من خرج عن ظلّها، مع ما أضاف إلى ذلك: من شجاعة تبيت منها أعداء الدّين على وجل، ومهابة تسري إلى قلوب من بعد من أهل الكفر سرى ما قرب من الأجل- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نمدّ على أطراف الممالك المحروسة منه سورا مصفّحا بصفاحه، مشرّفا بأسنة رماحه.
فرسم بالأمر الشريف العالي- لا زال يقلد وليّه فضلا، ويملأ ممالكه إحسانا وعدلا- أن يفوّض إليه كيت وكيت: لما تقدّم من أسباب تقديمه، وأوميء إليه من عنايتنا بهذا البيت الّذي هو سرّ حديثه وقديمه، ولعلمنا بأولويّته التي قطبها الشّجاعة، وفلكها الطّاعة، ومادّتها الدّيانة والتّقى، وجادّتها الأمانة التي لا تستزلّها الأهواء ولا تستفزّها الرّقى.
وليكن لأخبار العدوّ مطالعا، ولنجوى حركاتهم وسكناتهم على البعد سامعا، ولديارهم كلّ وقت مصبّحا حتّى يظنوه من كل ثنيّة عليهم طالعا، وليدم التّأهّب حتّى لا تفوته من العدوّ غارة ولا غرّة، ويلزم أصحابه بالتيقّظ لإدامة الجهاد الّذي جرّب الأعداء [منه] «3» مواقع سيوفهم غير مرّة؛ وقد خبرنا من(12/120)
شجاعته وإقدامه، وسياسته في نقض كلّ أمر وإبرامه، ما يغني عن الوصايا التي ملاكها تقوى الله تعالى وهي من سجاياه الّتي وصفت، وخصائصه الّتي ألفت وعرفت؛ فليجعلها مرآة ذكره، وفاتحة فكره؛ والله تعالى يؤيّده في سرّه وجهره، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة مرسوم شريف بإمرة آل فضل، كتب بها للأمير حسام الدين «مهنّا بن عيسى» «1» من إنشاء الشيخ شهاب الدّين محمود الحلبيّ، وهي:
الحمد لله الّذي أرهف حسام الدّين في طاعتنا بيد من يمضي مضاربه بيديه، وأعاد أمر القبائل وإمرتهم إلى من لا يصلح أمر العرب إلّا عليه، وحفظ رتبة آل عيسى باستقرارها لمن لا يزال الوفاء والشّجاعة والطّاعة في سائر الأحوال منسوبات إليه، وجعل حسن العقبى بعنايتنا لمن لم يتطرّق العدوّ إلى أطراف البلاد المحروسة إلّا وردّه الله تعالى بنصرنا وشجاعته على عقبيه.
نحمده على نعمه الّتي ما زالت مستحقّة لمن لم يزل المقدّم في ضميرنا، المعوّل عليه في أمور الإسلام وأمورنا، المعيّن فيما تنطوي عليه أثناء سرائرنا ومطاوي صدورنا، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة توجب على قائلها حسن التمسّك بأسبابها، وتقتضي للمخلص فيها بذل النّفوس والنّفائس في المحافظة على مصالح أربابها، وتكون للمحافظ عليها ذخيرة يوم تتقدّم النّفوس بطاعتها وإيمانها وأنسابها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المبعوث من أشرف ذوائب العرب أصلا وفرعا، المفروضة طاعته على سائر الأمم دينا وشرعا، المخصوص بالأئمّة الذين بثّوا دعوته في الآفاق على سعتها ولم يضيقوا لجهاد أعداء الله وأعدائه ذرعا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين حازوا(12/121)
بصحبته الرّتب الفاخرة، وحصلوا بطاعة الله وطاعته على سعادة الدنيا والآخرة، وعلموا أنّ الجنة تحت ظلال السّيوف فلم يزحزحهم عن ظلّها الرّكون إلى الدّنيا السّاخرة، صلاة تقطع الفلوات ركائبها، وتسري بسالكي طرق النّجاة نجائبها، وتنتصر بإقامتها كتائب الإسلام ومواكبها، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فإن أولى من تلقّته رتبته، التي توهّم إعراضها بأيمن وجه الرّضا، واستقبلته مكانته، التي تخيّل صدودها بأحسن مواقع القبول الّتي تضمّنت الاعتداد من الحسنات بكل ما سلف والإغضاء من الهفوات عمّا مضى، وآلت إليه إمرته التي خافت العطل منه وهي به حالية، وعادت منزلته إلى ما ألفته لدينا:
من مكانة مكينة وعرفته عندنا: من رتبة عالية- من أمنت شمس سعادته في أيّامنا من الغروب والزوال، ووثقت أسباب نعمه بأن لا يروّع مريرها في دولتنا بالانتقاض ولا ظلالها بالانتقال، وأغنته سوابق طاعته المحفوظة لدينا عن توسّط الوسائل، واحتجّت له مواقع خدمه الّتي لا تجحد مواقفها في نكاية الأعداء ولا تنكر شهرتها في القبائل، وكفل له حسن رأينا فيه بما حقّق مطالبه، وأحمد عواقبه، وحفظ له وعليه مكانته ومراتبه؛ فما توهّم الأعداء أنّ برقه، خبا حتّى لمع، ولا ظنّوا أنّ ودقه «1» ، أقلع حتّى همى وهمع، ولا تخيّلوا أنّ حسامه نبا، حتّى أرهفته عنايتنا فحيثما حلّ من أوصالهم قطع؛ وكيف يضاع مثله؟ وهو من أركان الإسلام الّتي لا تنزل الأهواء ولا ترتقي الأطماع متونها، ولا [تستقلّ] «2» الأعداء عند جهادها واجتهادها في مصالح الإسلام حسبها ودينها.
ولما كان المجلس العالي ... هو الّذي لا يحول اعتقادنا في ولائه، ولا يزول اعتمادنا على نفاذه في مصالحنا ومضائه، ولا يتغيّر وثوقنا به عمّا في خواطرنا من كمال دينه وصحّة يقينه، وأنّه ما رفعت بين يدينا راية جهاد إلّا تلقّاها عرابة عزمه بيمينه؛ فهو الوليّ الّذي حسنت عليه آثار نعمنا، والصّفيّ الّذي نشأ(12/122)
في خدمة أسلافنا ونشأ بنوه في خدمنا، والتّقيّ الّذي يأبى دينه إلا حفظ جانب الله في الجهاد بين يدي عزيمتنا وأمام هممنا- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نصرّح له من الإحسان بما هو في مكنون سرائرنا، ومضمون ضمائرنا، ونعلن بأنّ رتبته عندنا بمكان لا تتطاول إليه يد الحوادث، ونبيّن أن أعظم أسباب التقدّم ما كان عليه من عنايتنا وامتناننا أكرم بواعث.
فلذلك رسم أن يعاد «1» إلى الإمرة على أمراء آل فضل، ومشايخهم ومقدّميهم، وسائر عربانهم، ومن هو مضاف لهم ومنسوب إليهم، على عادته وقاعدته.
فليجر في ذلك على عادته الّتي لا مزيد على كمالها، ولا محيد عن مبدئها في مصالح الإسلام ومآلها، آخذا للجهاد أهبته من جمع الكلمة واتّحادها، واتّخاذ القوّة وإعدادها، وتضافر الهمم الّتي ما زال الظّفر من موادّها والنّصر من أمدادها، وإلزام أمراء العربان بتكميل أصحابهم، وحفظ مراكزهم الّتي لا تسدّ أبوابها إلّا بهم، والتّيقّظ لمكايد عدوّهم، والتّنبّه لكشف أحوالهم في رواحهم وغدوّهم، وحفظ الأطراف الّتي هم سورها من أن تسوّرها مكايد العدا، وتخطّف من يتطرّق إلى الثغور من قبل أن يرفع إلى أفقها طرفا أو يمدّ على البعد إلى جهتها المصونة يدا، وليبثّ في الأعداء من مكايد مهابته ما يمنعهم القرار، ويحسّن لهم الفرار، ويحول بينهم وبين الكرى لاشتراك اسم النّوم وحدّ سيفه في مسمّى الغرار.
وأما ما يتعلق بهذه الرتبة من وصايا قد ألفت من خلاله، وعرفت من(12/123)
كماله، فهو ابن بجدتها، وفارس نجدتها، وجهينة «1» أخبارها، وحلبة غايتها ومضمارها، فيفعل في ذلك كلّه ما شكر من سيرته، وحمد من إعلانه وسريرته؛ وقد جعلنا في ذلك وغيره من مصالح إمرته أمره من أمرنا: فيعتمد فيه ما يرضى الله تعالى ورسوله، ويبلغ به من جهاد الأعداء أمله ورسوله؛ والله الموفق بمنه وكرمه! والاعتماد.......
الطبقة الثانية (من عرب الشام- من يكتب له مرسوم شريف)
وهم على مرتبتين:
المرتبة الأولى- من يكتب له في قطع النّصف، وهم ثلاثة:
الأوّل- أمير آل عليّ
«2» ، ورتبته «الساميّ» بالياء. وقد تقدّم أن منازلهم مرج دمشق وغوطتها، بين إخوانهم آل فضل وبني عمّهم آل مراء «3» ومنتهاهم إلى [الجوف والحيّانيّة إلى الشبكة إلى تيماء إلى البراذع] «4» وأنه ذكر في «التعريف» : أنهم إنما نزلوا غوطة دمشق حيث صارت الإمرة إلى مهنا بن عيسى.
وهذه نسخة مرسوم شريف بإمرة آل عليّ، كتب به للأمير عزّ الدّين «جماز» «5» بعد وفاة والده محمد بن أبي بكر، من إنشاء المقرّ الشّهابيّ بن(12/124)
فضل الله، وهي:
الحمد لله الّذي أنجح بنا كلّ وسيلة، وأحسن بنا الخلف عمّن قضى في طاعتنا الشريفة سبيله، ومضى وخلّى ولده وسيلة، وأمسك به دمعة السّيوف في خدودها الأسيلة، وأمضى به كلّ سيف لا يردّ مضاء مضاربه بخيلة، وأرضى بتقليده كلّ عنق وجمّل كلّ جميلة.
نحمده على كلّ نعمة جزيلة، وموهبة جميلة، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة ترشد من اتخذ فيها نجوم الأسنّة دليله، وتجعل أعداء الله بعزّ الدّين ذليلة، وأنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أكرم قبيله، وشرّف به كلّ قبيلة، وأظهر به العرب على العجم وأخمد من نارهم كلّ فتيلة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة بكلّ خير كفيلة، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ دولتنا الشريفة لمّا خفق على المشرق والمغرب جناحها، وشمل البدو والحضر سماحها، ودخل في طاعتها الشريفة كلّ راحل ومقيم في الأقطار، وكلّ ساكن خيمة وجدار- ترعى النّعم بإبقائها في أهلها، وإلقائها في محلّها، مع ما تقدّم من رعاية توجب التّقديم، وتودع بها الصّنائع في بيت قديم، وتزيّن بها المواكب إذا تعارضت جحافلها، وتعارفت شعوبها وقبائلها، واستولت جيادها على الأمد وقد سبقت أصائلها، وتداعت فرسانها وقد اشتبهت مناسبها ومناصبها ومناصلها؛ وكانت قبائل العربان ممّن تعمّهم دعوتنا الشّريفة، وتضمّهم طاعتنا الّتي هي لهم أكمل وظيفة، ولهم النّجدة في كلّ بادية وحضر، وإقامة وسفر، وشام وحجاز، وإنجاد وإنجاز، ولم يزل (لآل عليّ) فيهم أعلى مكانة، وما منهم إلا من توسّد سيفه وافترش حصانه، وهم من دمشق المحروسة رديف أسوارها، وفريد سوارها، والنّازلون من أرضها في أقرب مكان، والنّازحون ولهم إلى الدار بها أقطار وأوطان؛ قد أحسنوا حول البلاد الشامية مقامهم، واستغنوا عن المقارعة على الضّيفان لما نصبوا بقارعة الطريق(12/125)
خيامهم، وباهوا كلّ قبيلة بقوم كاثر النّجوم عديدهم، وأوقدوا لهم في اليفاع «1» نارا إذا همى القطر شبّتها عبيدهم؛ وهم من آل فضل حيث كان عليّها، وحديثه في المسامع حليّها؛ فلما انتهت الإمرة إلى الأمير المرحوم الشمس الدين، محمد ابن أبي بكر رحمه الله- جمعهم على دولتنا القاهرة، وأقام فيهم يبتغي بطاعتنا الشريفة رضا الله والدّار الآخرة؛ ثم أمدّه الله من ولده بمن ألقى إليه همّه، وأمضى به عزمه، ونفّذ به حكمه، ونفّل قسمه.
وكان الّذي يتحمل دونه مشتقّات أمورهم، ويتلقّى شكاوى آمرهم ومأمورهم؛ ويرد إلى أبوابنا العالية مستمطرا لهم سحائب نعمنا الّتي أخصب بها مرادهم، وساروا في الآفاق ومن جدواها راحلتهم وزادهم، وتفرّد بما جمعه من أبوّته وإبائه، وركز في كلّ أرض مناخ مطيّه ومرسى خبائه، وضاهى في المهاجرة إلى أبوابنا الشريفة النّجوم في السّرى، وحافظ على مراضينا الشّريفة فما انفكّ من نار الحرب إلا إلى نار القرى، وورد عليه مرسومنا الشريف فكان أسرع من السّهم في مضائه. كم له من مناقب لا يغطّي عليها ذهب الأصيل تمويها!، وكم تنقلّ من كور «2» إلى سرج ومن سرج إلى كور فتمنّى الهلال أن يكون لهما شبيها! كم أجمل في قومه سيرة!، وكم جمّل سريرة!؛ كم أثمر لها أملا!، وكم أحسن عملا!؛ كم صفوف به تقدّمت، وسيوف أقدمت، وحتوف حمائم الحمام بها على الأعداء ترنّمت!!.
وكان المجلس الساميّ الأميريّ، الأجلّيّ، الكبيريّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، العضديّ، النصيريّ، الأوحديّ، المقدّميّ، الذّخريّ، الظّهيريّ، الأصيليّ، مجد الإسلام والمسلمين، شرف الأمراء في العالمين، همام الدّولة، حسام الملّة، ركن القبائل، ذخر العشائر، نصرة الأمراء والمجاهدين، عضد(12/126)
الملوك والسلاطين «جماز بن محمد» أدام الله نعمته-: هو المراد بما تقدّم، والأحقّ بأن يتقدّم، والّذي لو أن الصباح صوارم والظّلام جحافل لتقدّم؛ فلمّا مات والده رحمه الله نحا إلى أبوابنا العالية، ونور ولائه يسعى بين يديه، ووقف بها: وصدقاتنا الشريفة ترفرف عليه، فرأينا أنّه بقية قومه الذين سلفوا، وخلف آبائه الذين عن زجر الخيل ما عزفوا، وكبيرهم الّذي يعترف له والدهم ووليدهم، وأميرهم الّذي به ترعى عهودهم، وشجرتهم الّتي تلتفّ عليه من أنسابهم فروعها، وفريدهم الّذي تجتمع عليه من جحافلهم جموعها.
فرسم بالأمر الشّريف أن تفوّض إليه إمرة آل عليّ: تامّة عامّة، كاملة شاملة، يتصرّف في أمورهم، وآمرهم ومأمورهم، قربا وبعدا، وغورا ونجدا، وظعنا وإقامة، وعراقا وتهامة، وفي كلّ حقير وجليل، وفي كلّ صاحب رغاء وثغاء وصرير وصليل، على أكمل عوائد أمراء كلّ قبيلة، وفي كلّ أمورهم الكثيرة والقليلة.
ونحن نأمرك بتقوى الله فبها صلاح كلّ فريق، وإصلاح كلّ رفيق، ونجاح كلّ سالك في طريق. والحكم: فليكن بما يوافق الشّرع الشّريف، والحقوق:
فخلّصها على وجه الحق من القويّ والضّعيف، والرفق بمن وليته من هذا الجمّ الغفير، والجمع الكبير، وإلزام قومك بما يلزمهم من طاعتنا الشّريفة الّتي هي من الفروض اللازمة عليهم، والقيام في مهمّاتنا الشريفة الّتي تبرز بها مراسمنا المطاعة إليك وإليهم، وحفظ أطراف البلاد والذّبّ عن الرّعايا من كلّ طارق يطرقهم إلا بخير، والمسارعة إلى ما يرسم لهم به ما دامت الأسفار في عصاها سير، والإفراج لعربك لا تسمح به إلا لمن له حقيقة وجود، وله في الخدمة الشريفة أثر موجود، ومنعهم: فلا يكون إلا إذا توجّه منعهم، أو توانت عزائمهم وقلّ نفعهم، والمهابة: فانشرها كسمعتك في الآفاق، ودع بوارق سيوفها تشام بالشّام وديمها تراق بالعراق، وخيول التّقادم: فارتد منها كلّ سابق وسابقة تقف دونهما الرّياح، ويحسدهما الطّير إذا طارا بغير جناح؛ ولا تتّخذ دوننا لك بطانة ولا(12/127)
وليجة «1» ولا تقطع عنا أخبارك البهيجة، وليعرف قومه له حقّه، ويوفوه من التعظيم مستحقّه، فإنه أميرهم وأمره من أمرنا المطاع، فمن نازع فقد خالف النّص والإجماع؛ والله تعالى يوفّقه ما استطاع، بمنه وكرمه! والخط الشريف.........
[الثاني- أمير آل فضل] «2»
وهذه نسخة مرسوم شريف بالتّقدمة على عربي آل فضل وآل عليّ، كتب به للأمير فخر الدين «عثمان بن [مانع] «3» بن هبة وهو:
الحمد لله الّذي خصّ من والى هذه الدّولة بالتّقدمة والفخر، ورمى من عاداها بالمذلّة والقهر، ومدّ في عمر أيّامها حتّى يستنفد الدّهر، وحتّى توصف أيّامها- وإن قصرت- بالمسارّ: كلّ شهر يمرّ منها كالعام واليوم كالشّهر.
نحمده على ما منحنا من تأييد وظفر، وطوى دعوة من عاندنا بعد النّشر، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة إن دخلت شواهدها تحت الإحصاء فلا تدخل فوائدها تحت الحصر، وأنّ محمدا عبده ورسوله الّذي جعل الله به الهداية في المبدإ والشّفاعة في المعاد يوم الحشر، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تسعد بعد الشّقاء وتجبر بعد الكسر.
وبعد، فإنّ الله سبحانه وتعالى لما مكّن لنا في الأرض، وجعل بيدنا البسط والقبض، وأرانا كيف نصنع الجميل ونجمّل الصّنع، وكيف نجبر قلب من جعل في أيامنا جبره بعد الصّدع، وكيف تصبح أنجم ذوي الأقدار في سماء مملكتنا نيّرة المطالع، وكيف نلقّي الخير في عراصها من رامه إذا كان على(12/128)
الخير في غير أيّامنا مانع، وكيف نحل التقدمة فيمن إذا عقل في حللها قيل: هذا هو أحقّ بها ممّن كان، وهذا الّذي ما برحت التقدمة في بيته في صدر الزّمان، وهذا الذي إذا ذكر آل فضل وآل عليّ كانت له مرتبة الشّرف ولا غرو أن تكون مرتبة الشّرف لعثمان، وأنّنا لا نمطي صهوة العزّ إلّا لأهلها، ولا ننسخ الآية لمن تقدّم في التّقدمة إلا بخير منها أو مثلها، ولا نسلّم رايتها، إلا لمن تعقد عليه الخناصر، ولا يتسنّم ذروتها، إلا من هو أحقّ بها وأهلها في الأوّل والآخر.
ولما كان المجلس السّاميّ، الأميريّ، فخر الدين، عثمان بن مانع بن هبة: هو المراد بهذا القول الحسن، والممدوح بحشد هذا المدح الّذي يسرّ السّرّ والعلن، والحقيق من الإحسان بكلّما والخير بأن، والخصيص من سوالف الخدم بما والمفضّل على سائر النّظراء ولو قيس بمن- اقتضى حسن الرّأي الشّريف، أن رسم بالأمر الشريف- لا زال ذو القدر في أيّامه يرتفع، وذو الفضل في دولته لا يعزّ عليه مطلب ولا يمتنع، وذو الأصالة الّتي يجتمع له فيها من النّعماء ما لا يلتئم له في غيرها ولا يجتمع- أن تفوّض إليه التقدمة على العربان بالشّام المحروس، وهم من يأتي ذكره، على ما استقرّ عليه الحال في ترتيبهم، وأنّ منازله الدّاروم «1» : بعدا وقربا، حضرا وبدوا، عامرا وغامرا، رائحا وغاديا، من الرّستن إلى الملّوحة «2» والعرب: آل فضل وآل عليّ حيث ساروا نزلوا منزلة المذكور، أو بمنزلة الأمير شمس الدين محمد بن أبي بكر، والخدمة واحدة، والكلمة على اتّفاق المصالح متعاضدة.
فليكن للقوى جسد روحها لا بل روح جسدها، ومجموع القبائل أوحد عددها إذا صح الأوّل من عددها، وقطب فلكها الّذي على تدبيره مدارها، وعلى(12/129)
تقريره اقتصارها، وعلى تقدمته تعويلها، وإلى نسبة إمارته جملتها وتفصيلها؛ وليجمعهم على الطّاعة فإن الطّاعة ملاك الأمر للآمر، وأسّ الخير للبادي والحاضر، وليعلم أن لكلّ منهم نقابة تعرف، وعلميّة أصالة بها يعرّف، ومنزلة يرثها الولد عن الوالد، ومشيخة ترجع من ذلك البيت إلى ذلك الواحد، فليحفظ لهم الأنساب، وليرع لهم الأسباب، وإذا أمروا بأمر من مهامّ الدّولة يتلو عليهم:
ادْخُلُوا الْبابَ*
«1» . والألزام له ولهم مخاوض «2» تحفظ، ومفاوز تلحظ، ومطارح لا تلفظ، ومشات ومصايف، ونفائض ومصارف، ومرابع، ومراتع، ودنوّ واقتراب، وتوطّن واغتراب، وإغارة ونهيض، وبرق ووميض.
فليرتّب ذلك أجمل ترتيب، وليسلك فيه خير مذهب وتهذيب، وليدع العادي، ويلاحظ الرّائح والغادي، وليؤمّن ذلك الجانب فأمننا تطرب أبياته المحدوّ والحادي؛ وعليهم عداد مقرّر، وقانون محرّر؛ وليكن على يد شادّه شادّا؛ ولسبب تأييدهم مادّا، ويعلم أنّه وإن كان قد أغمض من جفونه فيما مضى، وأعرض عنه في الزّمن الأوّل الّذي انقضى، وقدّم عليه من كان دونه، فقد ردّ الله له أبكار الأمر وعونه؛ فلا يجعل لقائل عليه طريقا، ولا يدخل في أمر يقال عنه فيه: كان غيره به حقيقا، بل يفوق من تقدّم في الخدمة والهمّة، والصّرامة والعزمة؛ والله يوزعه شكر هذه النّعمة؛ والخط الشريف.........
الثالث- أمير آل مراء
«3» ، ورتبته «الساميّ» بالياء.(12/130)
وقد تقدّم أنّ منازلهم حوران. وعن «مسالك الأبصار» أنّ ديارهم بين بلاد الجيدور والجولان، إلى الزرقاء [والضليل] «1» إلى آخر بصرى. ومشرقا إلى حرّة [كشب] «2» ، على القرب من مكّة المشرّفة، زادها الله شرفا.
وهذه نسخة مرسوم شريف بإمرة آل مراء، كتب بها للأمير بدر الدين «شطيّ بن عمر» «3» وهي:
الحمد لله الّذي زيّن آفاق المعالي بالبدر، ورفع بأيّامنا الشريفة خير وليّ أضحى بين القبائل جليل القدر، ومنح من أخلص في خدم دولتنا الشريفة مزيد الكرم فأصبح بإخلاصه شديد الأزر، وأجزل برّه لأصائل العرب العرباء فوفّر لهم الأقسام، وأسبغ ظلال كرمه على من يرعى الجار ويحفظ الذّمام.
نحمده على نعم هطل سحابها، ومنن تفتّحت بالمسارّ أبوابها، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تقرّب صاحبها يوم الفزع الأكبر، من المحلّ الآمن، وتورده نهر الكوثر، الذي ماؤه غير آسن، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي بعثه الله من أشرف القبائل، وأوضح بنور رسالته الدّلائل، فأنقذ الله به هذه الأمّة من ضلالها، وبوّأها من قصور الجنان أعلى غرفها وأشرف ظلالها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين أوضحوا مناهج الإيمان، وشيّدوا قواعد الدّين إلى أن علت كلمته في كلّ مكان، [فكان] «4» عصرهم أجمل عصر وقرنهم خير أوان، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من أدنينا من بساط الاصطفاء محلّه، وارتشف من(12/131)
سحاب معروفنا طلّه فوبله، ونال من عواطفنا منزلة القرب على بعد الدار، وحكم له حسن نظرنا الشريف بتوالي غزير كرمنا المدرار «1» ولما كان المجلس الفلانيّ: هو المشار إليه بهذا النّعت الحسن، والموصوف بالشّجاعة في السّرّ والعلن- رسم بالأمر الشريف- لا زال بدره، ساطع الأنوار، وبرّه، هامع القطار، وخيره يشمل الأولياء بجزيل الإيثار وجميل الآثار- أن يستقرّ المشار إليه في كيت وكيت: لأنّه البطل الشّديد، والفارس الصّنديد، وليث الحرب المذكور، ومن هو عندنا بعين العناية منظور.
وليثق من صدقاتنا الشريفة بما يؤمّل ويعهد، وليتحقّق قربه من مقامنا الشريف والعود أحمد، وليتلقّ هذا الإحسان بقلب منشرح، وأمل منفسح، وليجتهد في أمر عربانه الذين في البلاد، فإنّا جعلنا عليه في أمورهم الاعتماد، وقد أقمناه أميرا على عرب آل مراء؛ فليشمّر عن ساعد الاجتهاد في مصالح دولتنا الشّريفة بغير زور ولا مراء، وليقمع المفسد من عربانه ويقابله بالنّكال، والصّالح الخيّر منهم يجزل له النّوال، والوصايا كثيرة ولمثله لا تقال؛ والخط الشريف أعلاه حجة فيه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة مرسوم شريف بنصف إمرة آل مراء، كتب به لقناة بن نجّاد «2» في العشر الأخر من شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، من إنشاء المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله، وهي:
الحمد لله الّذي استخدم لنصرنا كلّ سيف وقناة، وكلّ سرعة وأناة، وكلّ مثقّف تسلى «3» جناياته ويعذب جناه، وكلّ ماض لا يعوقه عن مقاصده الصالحة(12/132)
يعوق وهو عبد مناة «1» نحمده حمد من أغناه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يستمدّ من قبلها فلق الصّباح سناه، ويفكّ منها من قبضة السّيوف عناه «2» ، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي [بوّأه منازل الشرف] «3» وبناه، وأحلّه من العرب في مكان يخضع له رأس كلّ جبّار ويخشع بصره وتستمع لما يوحى أذناه، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تخصّهم من كل شرف بأسماه وأسناه، وسلّم تسليما.
وبعد، فإنّ لكلّ ثاكلة قرارا، ولكلّ هاجرة مزارا، ولكلّ معصم سوارا لا يليق إلا بزنده، ولكلّ عنق درّا لا يصلح إلا لعقده، ولكلّ سيف طال هجوعه في غمده انسلالا، ولكلّ قناة لم تعتقل مدّة اعتقالا، وكانت إمرة آل مراء قد ثبتت من البيت الأحمديّ «4» بأوثق أوتادها، ووصلت منه في الرّفعة إلى نجادها، ولم تزل تنتقل في آفاقها بدورهم الطّالعة، وتضيء عليها من صفاحهم بروقهم اللّامعة، وتجول فيها من سوابقهم السّحب الهامعة، وتغني في حروبها عزائمهم إذا وقعت الواقعة؛ وتقدّمت للمجلس الساميّ، الأميريّ، الفلانيّ، بركابنا الشّريف صحبة حمد فيها السّرى، وخدمة أوقدت له نار القرى، وهاجر إلينا في وقت دلّ على وفائه، وسهر إلى قصدنا اللّيل وله النجم محيط المقل بإغفائه، وانقطع إلينا بأمله، ولازم من عهدنا الشريف صالح عمله، واستحق تعجيل نعمنا الشريفة وإن تأخرت لأجل موقوت، وأمل نجاحه لا يفوت.
فلما آن أن تفاض عليه ثيابها، ويضاف إليه ثوابها، ويصرّف في قومه(12/133)
أمره، ويشرّف بينهم قدره، ويعرف من لم يعرف المسك أنّه عندنا ذكره، ومن جهل البرّ: أنه على ما يحمد عليه شكره، ومن أنكر أنّ شيئا أصعب من الموت:
أنّه في مجال الموت صبره، ومن خالف فيما هو أمضى من القضاء: أنّه في البيعة صدره، ومن ادعى أنّه لا تصيبه البيض والسّمر: أنّها مثقّفته وبتره، وزال من هذا البيت العريق الطّود وهو ثابت، ونزع منه السّنان لولا أنّه في قناته نابت؛ و [لولاه] «1» لهاجت هذه القبيلة إلى من يقبل على نباتها، ويقيل بها: تارة ينجد في نجدها وأخرى يحول في جولاتها- رسم بالأمر الشريف أن يقلّد من إمرة آل مراء ما كان الأمير «ثابت بن عسّاف» رحمه الله يتقلده إلى آخر وقت، ويرفع فيها إلى كلّ مسامتة وسمت، ليكمّل ما نقص من التّمام وصفه، ويعلم أنه حلّق إليه حتّى أتى دون نصف البدر فاختطف النّصف وذلك النّصف هو نصفه؛ ليكون لهم إحدى اليدين، وأخرى تقع لسيف بحدّين.
وتقوى الله أبرك ما اشتملت عليه عودها، وانتخبت له زبيدها؛ فليتّخذها له ذروة يهتدي بها أنّى سلك من الفجاج، واقتحم من حلك العجاج. وعليه بحسن الصّحبة لرفيقه «2» ، ويمن القبول على فريقه، وإقامة الحدود على ما شرع الله من دينه القويم، وإدامة التّيقّظ [للثّأر] «3» المنيم، وإنزال عربه ومن ينزل عليه أو ينزل عليهم في منازلهم.
وليجمع قومه على طاعتنا الشّريفة كلّ الجمع، ويقابل ما ترد به مراسمنا المطاعة عليه بما أوجب الله لها من الطّاعة والسّمع، وليأخذ للجهاد أهبته، ويعجّل إليه هبّته، وليقف من وراء البلاد الشامية المحروسة دريئة لأسوارها المنيعة، ونطاقا على معاقلها الرفيعة، وسدّا من بين أيديها وخلفها لباب كلّ ذريعة، وخندقا يحوط بلادها الوسيعة، وحجابا يمنع فيها من تعدّى الحقّ وخاض الشّريعة، ولا يفارق البلاد حتّى يعبّس في وجوهها السّحاب، ولا يعود(12/134)
حتّى تؤذن زروعها المخيّمة بذهاب؛ والكرم هو فيه سجايا، والعزم ما برح لوشان «1» أسنّته بكلّ قناة لحايا «2» ، والحزم بيده المراويّة من آل مراء يظهر له الخفايا، والشجاعة هو في رباها المنيرة «ابن جلا وطلّاع الثّنايا» ؛ وما رضع المرمل كأفاويق الوفاق «3» ، ولا وضع شيئا «4» في موضعه كمداراة الرّفاق؛ فليكن لرفيقه أكثر مساعدة من الأخ لأخيه، وأكبر معاضدة من المصراع لقسيمه والجفن لجفنه والشّيء لما يؤاخيه. هذا يجب ويتعيّن وليس يجمعهما فرد طاعة، ولا يلزمهما لشيء واحد استطاعة؛ فكيف وهو [و] «5» رفيقه إلينا اعتزاؤهما ومنّا إعزازهما، وهما فرعان معتنقان: لدينا إجناؤهما وبيدنا إهزازهما.
وليحصّل من الخيل كل سابقة تليق أن تقدّم إلينا، وسابحة في كل مهمه حين يقدم علينا. والشّرع الشريف يكون إليه مآبك، وعليه عفوك وعقابك، وبمقتضاه عقد كلّ نكاح لا يصح إلا على وجهه المرضيّ وإلّا فهو سفاح، والميراث على حكمه لمن جرّه إليه وإلا فهو ظلم صراح، وبقية ما نوصيه به إذا انتهى منه إلى هذه النّبذة فما عليه في سواها جناح. وسبيل كلّ واقف على تقليدنا هذا أن ينيب إلى نصوصه، ويؤوب إلى عمومه وخصوصه، والحذر من الخروج عنه بقول أو عمل، فالسّيف أسبق من العذل؛ والله تعالى يمتّعه بما وهبه من العزّ في النّقل «6» ، والمحاسن الّتي هي يد المسامع والأفواه والمقل؛(12/135)
والخط الشريف أعلاه..........
المرتبة الثانية (من أرباب المراسيم من العرب- من يكتب له في قطع الثّلث ب «السّامي» بغير ياء، مفتتحا ب «أمّا بعد» وهم ثلاثة أيضا)
الأول- أمراء بني مهديّ
، وهي مقسومة بين أربعة. ورتبة كلّ منهم «مجلس الأمير» .
وقد تقدّم أنّ منازلهم البلقاء، إلى مائر «1» ، إلى الصوان، إلى علم أعفر.
وهذه نسخة مرسوم شريف بربع إمرة بني مهديّ، وهي:
أمّا بعد حمد الله على نعمه الّتي حقّقت في كرمنا المآرب، وأجزلت من آلائنا المواهب، وقرّبت لمن رجانا بإخلاص الطاعة ما يأبى عليه من المطالب، والصّلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث من أشرف ذوائب لؤيّ بن غالب، المخصوص باللّواء الّذي لا يضحى من أوى إلى ظلّه والحوض الّذي لا ظمأ بعد وروده لشارب، وعلى آله وصحبه الذين فازوا من صحبته وطاعته بأسمى المراتب وأسنى المناقب- فإنّ أولى من رفعت رعايتنا قدره، وأطلعت عنايتنا في أفق السعادة بدره، وحقّقت آلاؤنا سوله، وبلّغته صدقاتنا مرامه ومأموله- من أحكم في طاعتنا أسباب ولائه، وأتقن في خدمتنا انتساب بعيده وانتمائه، وتقرّب إلينا بإخلاصه في اجتهاده، ومتّ بما يرضينا من احتفاله بأمور جهاده، مع ما تميّز به من أسباب تتقاضى كرمنا في تقديمه، وتقتضي إجراءه على ما ألف أولياء الطاعة من حديث إحساننا وقديمه.
ولما كان فلان هو الّذي اختصّ بهذه المقاصد، وعني بما ذكر من المصادر والموارد- رسم أن يرتّب في ربع إمرة بني مهديّ.
فليرتّب فيما رسم له به من ذلك قائما من وظائفها بما يجب، عالما من(12/136)
مصالحها بما يأتي وما يجتنب، واقفا لاعتماد ما يرد عليه من المراسم وقوف المنتظر المرتقب، ملزما عربه من الخدم بما يؤكّد طاعتهم، ومن إعداد الأهبة بما يضاعف استطاعتهم، ومن المحافظة على أسباب الجهاد بما يجعل في رضا الله تعالى ورضانا قوّتهم وشجاعتهم، وليقدّم تقوى الله تعالى بين يديه، ويجعل توفيقه العمدة فيما اعتمد فيه عليه؛ والخير يكون، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة مرسوم شريف بربع إمرة بني مهديّ أيضا:
أما بعد حمد الله على نعمه الّتي جدّدت لمن أخلص في الطّاعة رتب السّعود، ورفعت من نهض في الخدم الشريفة حقّ النّهوض إلى مناصب الجدود، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد المخصوص بلواء الحمد المعقود، وظلّ الشّفاعة الممدود، والحوض الّذي لا ينضب على كثرة الورود، وعلى آله وصحبه الذين وفّوا بالعهود، وبدت سيماهم في وجوههم من أثر السّجود- فإنّ أولى من اجتلى وجوه النّعم، واجتنى ثمرة ما غرس من الخدم، وارتقى إلى ما أنعم به عليه من التّقدّم الّذي أقامه السّعد لاستحقاقه على أثبت قدم- من نشأ في طاعتنا الشّريفة يدين بولائها، ويتقلّب في خير نعمها وآلائها، ويتعبّد بما يؤهّل له من خدمها، ويبادر إلى ما يندب له من المهامّ الشّريفة بين يدي مراسمنا أو تحت علمها.
ولمّا كان فلان هو الّذي ذكرت طاعته، وشكرت خدمه وشجاعته- رسم...... أن يرتّب في ربع إمرة بني مهديّ، على عادة من تقدمه وقاعدته.
فليرتّب في ذلك، قائما بما يجب عليه من وظائفها المعروفة المألوفة، وخدمها الّتي هي على ما تبرز به أوامرنا الجارية موقوفة، وليكن هو وعربه بصدد ما يؤمرون به من خدمة يبادرون إليه، وطاعة يثابرون عليها، وتأهّب للجهاد، حيث سرت الجيوش المنصورة لم يبق لهم عائق عن التوجّه بين يديها، وسياسة(12/137)
تأخذهم من الطرائق الحميدة بسلوك ما يجب، ويعرف بها سلوك ما يسلك واجتناب ما يجتنب؛ والخير يكون، إن شاء الله تعالى.
الثاني- مقدّم زبيد
«1» ومنازل بعضهم بالمرج وغوطة دمشق، وبعضهم بصرخد، وحوران.
وهذه نسخة مرسوم شريف بتقدمة عرب زبيد، وهي:
أمّا بعد حمد الله الّذي أبقى بنا للنّعم تأبيدا، وأحسن العاقبة لأحسن عاقبة أدام لهم فيها تخليدا، وأحيا به منهم حيّا نكتب لأميرهم وإمرتهم في كلّ حين تقليدا، ونفّل منهم نوفلا «2» فلا نزال نجدّد فيهم ملابس الفخار بذكر اسمه تجديدا، ورعى بنا أبناء بيت تناسقوا أبناء وجدودا، وتباشروا بولد لمّا خلف والده ابن سعيد لا يكون إلّا سعيدا، والصّلاة والسّلام على نبيه محمد الّذي أهلك بسيفه كلّ غاشم، وأخجل بسيبه «3» كلّ غمام لوجنة الرّياض واشم، وأسعد بسببه نوفلا «4» وعبد شمس بأخوّتهما لهاشم، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه خلاصة العرب، صلاة لا يعدّ ضريبا لها الضّرب «5» ، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ العساكر المنصورة الإسلامية: منهم حاضرة أهل جدار، وبادية في قفار، وقوم هم المدن الممدّنة وقوم عليها أسوار؛ وهم صنفان: صنف(12/138)
لا تملّ السيوف عواتقهم، وصنف سيوفهم تحبس بها مناطقهم؛ والعرب أكرم [أهل] «1» البوادي، وأعظم قبائلهم تضرّما كالبرق مباراة للسّحب الغوادي، قد نصبوا بقارعة الطريق خيامهم، وسرّحوا مع أسراب الظّباء سوامهم، ووقفوا دون الممالك المحروسة كتائب مصفوقة، ومواكب بما تعرف به العرب من الشّجاعة موصوفة؛ وزبيد من أفخرها قبيلة، وأكثرها فوارس: [فأمّا أحسابها] «2» فكريمة وأمّا وجوهها فجميلة؛ شاميّة أعرقت أنسابا في يمنها، وأتهمت بشطء «3» أسنّتها ما تفتّح في المجرّة من سوسنها؛ فما يبيت بطل منهم على دمن، ولا يعرف فارس إلا إذا تملّى في الخليطين «4» من شام ومن يمن؛ كم فيهم بمواقع الطّعان فطن ذو كيس، وكم صبغ منهم بالدّماء راية حمراء يمنيّ لا ينسب إلى قيس؛ كم كرب على معديكرب منهم فارس، ونسب إلى زبيد وهو خشن الملابس؛ منهم صاحب الصّمصامة «5» بقي مثلها السّيف فردا، وكم قتل من أقرانه الشّجعان من أخ صالح وبوّأه في العجاج بيديه لحدا؛ ومن نجومهم الزواهر السّراة، وغيومهم الأكابر السّراة، من لم يزل حول دمشق وما يليها من حوران، منارة منازل وأوطان؛ حاموا عن جنابها المصون، وحاموا حول غوطتها تشبّها بحمائمها على الغصون، وماثلوا بسيوفهم أنهارها، ورماحهم حول دوحات الأيك أشجارها، واستلأموا «6» بمثل غدرانها دروعا، وحكوا بما أطلّوا من دماء الأعداء شقائق روضها، وبما جرّوا من حللهم المسهّمة «7» سيلا؛ ولم يزل لهم من البيت(12/139)
النّوفليّ من يجمع جماعتهم، ويضم تحت راية الدولة الشريفة طاعتهم؛ يخلف ابن منهم لأبيه أو أخ لأخيه، وينتظم كلّ فرقد مع من يناسبه وينضاف كلّ كوكب إلى من يؤاخيه.
وكان مجلس الأمير الأجلّ، فلان بن فلان الزّبيدي- أدام الله عزه- هو بقيّة من سلف من آبائه، وعرف مثل الأسد القسورة بإبائه، وانحصر فيه من استحقاق هذه الرتبة ميراث أبيه، واستغرق جميع ما كان من أمر قومه وإمرتهم يليه.
فرسم بالأمر الشريف- زاده الله تعالى شرفا، وذخر به لكلّ سالف خلفا- أن يرتب في إمرة قومه من زبيد النازلين بظاهر دمشق وبلاد حوران المحروس، على عادة أبيه المستقرّة، وقاعدته المستمرّة، إلى آخر وقت، من غير تنقيص له عن نجم سعده في سمة ولا سمت، تقدمة تشمل جميعهم ممّن أعرق وأشأم، وأنجد وأتهم، لا يخرج أحد منهم عن حكمه، ولا ينفرد عن قسمه، لا ممّن هو في جدار «1» ، ولا ممّن هو مصحر في قفار، يمشي على ما كان عليه أبوه، ويقوم فيهم مقامه الّذي كان عليه هو وأولوه.
ونحن نوصيك بتقوى الله تعالى، وباتّباع حكم الشّريعة الشريفة ما أقمت على بلد أو أزمعت ارتحالا، وبجمع قومك على الطاعة فرسانا وركبانا ورجالا، واتّباع أوامرها الشّريفة وأمر نوّابنا الذين هم بإزائهم، وما اعتزاز من قبلك إلا لما مالوا إليه في اعتزائهم، والتّأهّب أنت وقومك لما رسم به في ليل أو نهار، وحماية حمى أنتم حوله في صحراء مصحرة أو من وراء جدار، والمطالعة بمن ينتقل من أصحابك بالوفاة، والوصايا كثيرة ومثلك أيسر ما قال له امرء كفاه؛ والله تعالى يوفقك لما يرضاه، ويؤثرك في كلّ أمر للعمل بمقتضاه؛ وسبيل كلّ واقف عليه العمل به بعد الخط الشريف شرّفه الله تعالى وأعلاه أعلاه، إن شاء الله تعالى.(12/140)
النيابة الثانية (من نيابات البلاد الشامية- نيابة حلب. ووظائفها الّتي يكتب بها من الأبواب السلطانية على نوعين)
النوع الأوّل (من بحاضرة حلب، وهم على أصناف)
الصنف الأوّل (منهم أرباب السّيوف، وهم على طبقتين)
الطّبقة الأولى (من يكتب له تقليد، وهو نائب السّلطنة بها؛ وتقليده في قطع الثّلثين ب «الجناب الكريم» )
وهذه نسخة تقليد شريف بنيابة السلطنة بحلب، كتب به للأمير أستدمر «1» من إنشاء الشيخ شهاب الدّين محمود الحلبيّ، وهي:
الحمد لله حافظ ثغور الإسلام في أيّامنا الزاهرة، بمن يفترّ عن شنب النّصر سيفه، وناظم نطاق الحصون في دولتنا القاهرة، على همم من لم يزل يغزو عدوّ الدّين قبل طلوع طلائعه طيفه، وناشر لواء العدل في أسنى ممالكنا بيد من لا يؤمن في الحق فوته ولا يرهب في الحكم حيفه، ومدّخر [أجر] «2» الرّباط في سبيله لمن لم يبت ليلة إلا والتأييد نزيله والنّصر سميره والظّفر ضيفه، الذي جعل الجهاد في أطراف الممالك المحروسة سورا لعواصمها،(12/141)
والصّعاد «1» في مقاتل أعداء الدّين شجنا في صدورها وشجى في غلاصمها، والسّيوف الحداد تزهى بمشاركتها لاسم من بليت منه أجساد أهل الكفر بقاسمها، ورميت منه أعمارهم بقاصمها، وأرهف لهذا الأمر من أوليائنا سيفا تتحلّى الشّهباء «2» بجواهر فرنده، وتتوقّع الأعداء مواقع فتكاته قبل تألق برقه من سحب غمده، ويعرف أهل الكفر مضاربه الّتي لا تطيق مقاتلهم جحدها، وتتفرّق عصب الضلال فرقا من مهابته الّتي طالما أغارت على جيوشهم المتعدّدة وحدها.
نحمده على نعمه الّتي جعلت النّصر لأجياد ممالكنا عقودا، والكفر للهب صوارمنا وقودا، والتّأييد من نتائج سيوفنا الّتي تأنف أن ترى في مضاجع الغمود رقودا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تعلي منار الهدى، وتطفيء أنوار العدا، وتخلي أجساد أهل الكفر من قوى أرواحهم فتغدو كديارهم الّتي لا يجيب فيها إلا الصّدى، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أعلى الله بناء الإيمان بتأذينه، وأيّدنا في الذّب عن ملّته، بكل وليّ يتلقّى راية النّصر بيمينه، وأعاننا على مصالح أمّته، بكلّ سيف تتألّق نار الأجل من زنده ويترقرق ماء الحياة من معينه، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين وسمت أسنّتهم من وجوه الكفر أغفالا، وكانت سيوفهم لمعاقل أهل الشّرك مفاتح فلمّا فتحت غدت لها أقفالا؛ فمنهم من فاز بمزيّة السّبق إلى تصديقه، ومنهم من كان الشيطان ينكّب عن طريقه، ومنهم من أمر بإغماد سيف الانتصار لدمه عن مريقه، ومنهم من حاز رتبة أختانه وصهره دون أسرته الكرام وفريقه، صلاة دائمة الخلود، مستمرّة الإقامة في التّهائم والنّجود، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من حلّيت التقاليد بلآليء أوصافه، وملئت الأقاليم(12/142)
بمواقع مهابته وإنصافه، وريعت قلوب العدا بطروق خياله قبل خيله، وخاف الكفر كلّ شيء أشبه ظباه من توقّد شموس نهاره أو حكى أسنّته من تألّق نجوم ليله، ومدّ على الممالك من عزماته سور مصفّح بصفاحه، مشرّف بأسنّة رماحه، سامية على منطقة الجوزاء منطقة بروجه، نائية على أمانيّ العدا مسافة رفعته فلا يقدر أمل باغ على ارتقائه ولا رجاء طاغ على ولوجه- من تمهّدت بسداد تدبيره الدّول، وشهدت بسير محاسنه السّير الأول، وتوطّدت الممالك على أسنّته فحقّقت أنّ أعلى الممالك ما يبنى على الأسل، وسارت في الآفاق سمعته فكانت أسرى من الأحلام وأسبق من الأوهام وأسير من المثل، وصانت الثّغور صوارمه فلم يشم برقها إلا أسير أو كسير، أو من إذا رجع إليها بصره انقلب إليه البصر خاسئا وهو حسير، وزانت الأقاليم معدلته فلا ظلم يغشى ظلامه، ولا جور يخشى إلمامه، ولا حقّ تدحض حجّته ولا باطل يعلو كلامه؛ فالبلاد حيث حلّ بعدله معمورة، وبإيالته مغمورة، وسيوف ذوي الأقلام وأقلامهم بأوامره في مصالح البلاد والعباد منهيّة ومأمورة.
ولما كان الجناب العالي هو الّذي عانق الملك الأعزّ نجاده، واللّيث الّذي لم يزل في سبيل الله إغارته وإنجاده، والكميّ الّذي كم له في جهاد أعداء الله من موقف صدق يضلّ فيه الوهم وتزلّ فيه القدم، والهمام الّذي إن أنكرت أعناق العدا مواقع سيوفه «فما بالعهد من قدم» ، والمقدام الّذي لا ننكر مشاهده في إرغام الكفر ولا تكفر، والزعيم الّذي حمت مهابته السّواحل فخاف البحر:
وهو العدوّ الأزرق، من بأسه الأحمر، على بني الأصفر، والمقدّم الّذي كم ضاقت بسرايا شيعته الفجاج،! وكم أشرقت نجوم أسنّته من أفق النّصر في ظلم العجاج،! وكم حمى العذب الفرات على البعد بسيوفه وهي مجاورة للملح الأجاج!!، مع سطوة أنامت الرّعايا في مهاد أمنها، ورأفة عمرت البرايا بعاطفة إقبالها ويمنها، ورفق تكفّل لسهل البلاد وحزنها بإعانة مزنها، وشجاعة أعدّت الجيوش الّتي قبله فغدت آحادها ألوفا، وفتكات عوّدت الطّير الشّبع من وقائعه فباتت على راياته عكوفا، ومعدلة عمّت من في إيالته فأضحى الضّعيف في(12/143)
الحقّ قويّا عنده والقويّ في الباطل ضعيفا.
وكانت البلاد الحلبيّة المحروسة هي المملكة الّتي لا تجارى شهباؤها في حلبة فخار، والرّتبة الّتي لا يؤهّل لها من خواصّ الأولياء الأعزّة إلّا من استخرنا الله تعالى في تقليد جيد مفاخره بلآليء كفالتها فخار؛ فهي سور الممالك الّذي لا تتسوّره الخطوب، وأمّ الثّغور الّتي ما برح يسفر بابتسامها عن شنب النّصر وجه الزمن القطوب، وموطن الرّباط الّذي كلّ يوم وليلة [فيه] «1» خير من الدّنيا وما فيها، وعقيلة الأقاليم الّتي كم أشجى قلوب الملوك الأكابر صدودها وأسهر عيون العظماء الأكاسرة تجافيها؛ بل هي عقد درّه حصونه، وروض سيوف الكماة جداوله ورماح الحماة غصونه، وحمّى لم تزل عيون عنايتنا بعون الله تحفّه وأيدي تأييدنا بقوّة الله تصونه- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نرهف بحمايتها هذا السّيف الّذي تسابق الأجل مضاربه، وتبطل الحيل تجاربه، ويتقدّم خبر عزائمه خبرها فلا يدرى: هل ريح الجنوب أسرى وأسرع أم جنائبه «2» ، وتبثّ مهابته أمام سراياه إلى العدا سرايا رعب تفلّ جمعهم، وتسبق إلى التّحرز من بأسه بصرهم وسمعهم، وتسفر بكل أفق عن [شيعة] «3» مغيرة، أو كتيبة تجعلها لمعالي النصر الكامنة مثيرة.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف العالي- لا زالت أوامره مبسوطة في البسيطة، وممالكه محوطة بمهابته الشّاملة ومعدلته المحيطة- أن تفوّض إليه نيابة السّلطنة الشّريفة بالمملكة الحلبيّة: تفويضا يعوّذها من عيون العدا بآيات عزائمه، ويعوّدها اجتناء ثمر المنى والأمن من ودق صوارمه، وينظم دراريّ الأسنّة من أجياد حصونها في مكان القلائد، ويجعل كماة أعدائها لخوفه أضعف من الولدان وأجبن من الولائد، ويجرّد إلى مجاوريها من همّته طلائع تحصرهم في(12/144)
الفضاء المتّسع، وتسدّ عليهم مجال الأرض الفسيحة فيغدو لهم حزنها «1» الحزن الشّامل وسهلها السّهل الممتنع.
فليتقلّد هذه الرتبة الّتي بمثلها تزهى الأجياد، وبتقلّدها يظهر حسن الانتقاء لجواهر الأولياء والانتقاد، وبتفويضها إلى مثله يعلم حسن الارتياد لمصالح البلاد والعباد، وليزد جيوشها المنصورة إرهابا لعدوّهم، وإرهافا لصوارم الجهاد في رواحهم وغدوّهم، وإدامة للنّفير «2» الذي حبّبه الله إليهم، وقوّة على مجاوريهم من أهل النّفاق الذين يحسبون كلّ صيحة عليهم «3» ، فإنّهم فرسان الجلاد الذين ألفوا الوقائع، وأسوار الفرات الذين عرفوا في الذّبّ عن ملّتهم بحفظ الشّرائع، وكشّافة الكرب الذين لا يزال لهم في سائر بلاد العدا سرايا وعلى جميع مطالع ديار الكفر طلائع؛ وهم بتقدمته تتضاعف شجاعتهم، وتزيد استطاعتهم وطاعتهم؛ وليأخذهم بمضاعفة الأهب وإدامة السّعي في حفظ البلاد والذّب، والتشبّه بأسود الغابات الّتي همّها في المسلوب لا السّلب؛ وليهتمّ بكشف أحوال عدوّ الإسلام ليبرح «4» آمنا على الأطراف من حيفهم، متيقّظا لمكايدهم في رحلتي شتائهم وصيفهم، مفاجئا في كلّ منزل بسير يروّع سربهم، ويكدّر شربهم، ويجعل روح كلّ منهم من خوف قدومه نافرة عن الجسد، ويسلبهم بتوقّع مفاجأته القرار «ولا قرار على زأر من الأسد» ، ولا تزال قصّاده بأسرار قلوب الأعداء مناجية [ولا تبرح له من أعيان عيونه بين العدا فرقة ناجية] «5» وليحتفل بتدريج الحمام الّتي هي رسل أعنّته، وإقامة الدّيادب الذين إذا دعوا همهمة بألسنة النّيران لبّتهم ألسنة أسنّته؛ وليمت قلوب أعدائه بوجل(12/145)
لقائه قبل الأجل، وليزد في الحزم على ابن مزيد الّذي لم ير في الأمن إلا في درع مضاعفة «لا يأمن الدّهر أن يدعى على عجل» «1» ، وليجعل أحوال القلاع المحروسة دائما بمرأى منه ومسمع، ويشيّدها من ملاحظته باحتفال لا يدع لشائم برقها وحمول أموالها [مطمعا] «2» فقد استكمل حسن النّظر في مصالحها أجمع، وليقم منار الشّرع الشّريف بمعاضدة حكّامه، والانقياد إلى أحكامه، والوقوف مع نقضه وإبرامه:
فليجعل حكم الشريعة المطهّرة أمامه وإمامه، وليقم أمر الله فيمن اقتاده الشرع إلى حكمه فجاذب زمامه، وليعظّم حملة العلم الّذي أعلى الله مناره، وأفاض على الأمّة أنواره، وحفظ بهم على الملّة سنّة نبيهم صلّى الله عليه وسلم وآثاره، وليكن لأقدارهم رافعا، ولمضارّهم دافعا، ولأوقافهم بجميل الاحتفال عامرا، وفي مصالحهم بتحلية الأحوال آمرا، ولينشر لواء العدل الّذي أمر الله بنشره، ويشفعه بالإحسان الّذي هو مألوف من سجاياه ومعروف من طلاقة بشره، ويمدّ على الرّعايا ظلّ رأفته الّذي يضفي في النّعم لباسهم، ويديم إلفهم بالرّفاهية واستئناسهم، ويقم حكم سياسته على من لم يستقم، ويقف مع رضا الله تعالى في كلّ أمر: فإذا رحم فلله فليرحم وإذا انتقم فلغير الله لا ينتقم، وليعتن بعمارة البلاد ببسط العدل الّذي ما احتمى به ملك إلّا صانه، والرّفق الّذي لم يكن في شيء إلّا زانه، وتوخّي الحقّ الّذي من جعله نصب عينيه وفّقه الله له وأعانه. وكذلك أمر الأموال: فإنّها ذخيرة الملك وعتاده، ومادّة الجيش الّذي إذا صرفت إلى مصالحهم هممه لم يخش عليه انقطاعه ولا نفاده؛ وجميع الوصايا قد ألفنا من سيرته فيها فوق ما نقترح، وخبرنا من مقاصده فيها ما يقول للسان قلمها: قد عرفت ما أومأت إليه من مقاصدك فاسترح؛ وملاكها تقوى الله تعالى(12/146)
ورضانا، وهو المألوف من عدله وإنصافه؛ والله تعالى يديمها بتأييده وقد فعل، ويجعله من أركان الإسلام وأعلام المسلمين وقد جعل، بمنّه وكرمه؛ والاعتماد ... «1» . إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد شريف بنيابة حلب أيضا، كتب بها عن السلطان الملك النّاصر «محمد بن قلاوون» للأمير شمس الدّين «قراسنقر» «2» باعادته إليها، من إنشاء الشيخ شهاب الدّين محمود الحلبيّ، وهي:
الحمد لله الّذي جعل العواصم بإقامة فرض الجهاد في أيّامنا الشريفة معتصمة، والثّغور بما تفترّ عنه من شنب النّصر في دولتنا القاهرة مبتسمة، والصّوارم المرهفة في أطراف الممالك بأيدي أوليائنا لأرواح من قرب أو بعد عنها من الأعداء مقتسمة، والحصون المصفّحة بصفاحنا بأعلام النّصر معلمة وبسيما الظّفر متّسمة، معلي قدر من أحسن في مصالح الإسلام عملا، ورافع ذكر من يبسط إلى عزّ طاعة الله ورسوله وطاعتنا أملا، ومجدّد سعد من تلبس الأقلام من أوصافه أفخر الحلل إذا خلعت من المحامد على أوصافه حللا، ومفوّض زعامة الجيوش بمواطن الرّباط في سبيله إلى من إذا فلّلت مقاتل العدا سيوف الجلاد كانت عزائمه من السيوف المرهفة بدلا.
نحمده على نعمه الّتي جعلت طاعتنا من آكد أسباب العلوّ، وخدمتنا من أنجح أبواب الرّفعة بحسب المبالغة في الخدمة والغلوّ، ونعمنا شاملة للأولياء بما يربي على طوامح الآمال في البعد والدّنوّ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تستنزل بها موادّ النّصر والظّفر، وتستجزل بها ذخائر التأييد الّتي كم أسفر عنها وجه سفر، وترهف بها سيوف الجهاد الّتي كم آلفت من آمن(12/147)
وكفت من كفر، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أنزل سكينته عليه، وزويت «1» له الأرض فرأى منها ما يبلغ ملك أمّته إليه، وعرضت عليه كنوز الدّنيا فأعرض عمّا وضع من مقاليدها بيديه، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين رضي الله عنهم، ونهضوا بما أمروا به من طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر منهم، صلاة دائمة الظّلال، آمنة شمس دوامها من الزّوال، وسلّم تسليما كثيرا.
أمّا بعد، فإن أولى من طوّقت أجياد الممالك بفرائد أوصافه، وفوّقت إلى مقاتل العدا سهام مهابته الّتي تحول منهم بين كلّ قلب وشغافه، وخصّت به أمّ الثّغور الّتي درّ لها حلبها، ومدّت عليها أفياء النّصر الممدودة ذوابلها وقضبها، وأهدى أرج التّبلّج افترارها وشنبها- من تقوم مهابته مقام الألوف، وتجتني سمعته من ذوابل العزائم ثمر النّصر المألوف، ويسبق خياله سرايا خيله الّتي هي أسرى من هوج الرّياح إلى هزم الجموع وتفريق الصّفوف، وتنظم أسنّة رماحه في الوغى قلوب العدا نظم السّطور وتنثر صفاحه رؤوسهم نثر الحروف، وتحيط بنطاق الممالك المتطرّفة صوارمه إحاطة الأسوار بالحصون، والخمائل بالغصون، والهالات بالأقمار، والجوانح بالأسرار، ولا تبيت ملوك العدا منه إلّا على وجل، ولا يرى في الأمن إلا في درع مضاعفة «لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل» «2» ، ولا يخفى عن ألمعيّته ما يضمر الأعداء من الحركات قبل إظهارها، ولا ببعد على عزماته ما هي مليّة به من بدارها أعداء الدّين بدارها، وإذا جلس لنشر المعدلة تبرّأ الظلم من فكر [جواز] «3» البغي والجور على إنسان، وشفع ما تصدّى من ذلك بما أمر الله به من العدل والإحسان.
ولما كان الجناب العالي الفلانيّ هو الّذي ملئت قلوب العدا برعبه،(12/148)
وانطوت قلوب الرعايا على حبّه، وتهلّلت وجوه المنى في سلمه واستهلّت سحب المنايا في حربه، وجمع بين حدّة البأس ولطف التّقى فكان هو الكميّ الذي شفع الشّجاعة بالخضوع لربّه، وحاط ما وليه من الأقاليم بسوري بأسه وعدله فبات كل أحد وادعا في مهاده آمنا في سربه، وأغارت سرايا مهابته قبل طلوع طلائعه فأصبح كلّ من العدا أسير الذّعر قبل إمساكه، قتيل الخوف قبل ضربه؛ مع احتفال بعمارة البلاد، أعان السّحب على ريّها، واشتمال على مصالح العباد، قام في تيسير أرزاقهم مقام وسميّ الغمائم «1» ووليها، وتيقّظ لمصالح الثّغور أنام عنها عيون الخطوب، وإشراق في أفق المواكب كسا وجه الدّين نور البشر ووجه الكفر ظلام القطوب.
وكانت المملكة الحلبية عقيلة المعاقل، وعصمة العواصم، وواسطة عقود [الممالك] «2» وسلك فرائد النّصر الّتي كم أضاءت بها إلى الكفر وجوه المسالك، لا تدرك في مضمار الفخار شهباؤها، ولا ترى إلا كما ترى النجوم في عيون العدا حصباؤها؛ ولها من الحصون المصونة كلّ قلعة يتهيّب الطّيف سلوك عقابها «3» ، ويتقاصر لوح الجوّ عن منال عقابها؛ فهي عزيزة المنال، إلّا على كريم كفاءته، بعيدة مجال الآمال، إلا على ما ألفت من إيالة كفايته، سامية الأفق إلا على شمسه، نابية الطّرف إلا على ما عرفت من سلوكه في أمسه، ظامية الغروس الّتي أنشأها في مصالحها إلى ما اعتادته من سقيا غرسه- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نزيدها إشراقا بشمس جلاله، واعتلاء بسيفه الّذي رياض الجنّة تحت ظلاله، وأن نعيد أمرها إلى من طالما حسّن عدله بقعتها، وحصّن بأسه قلعتها، وأطارت مهابته سمعتها، وأطالت سيرته سكون رعاياها في مهاد الأمن وهجعتها، وأعاد وجوده أحوال مجاوريها من العدا إلى العدم، وأباد سيفه أرواح معانديها: فلو أنكرته أعناقهم لم يكن بالعهد من قدم.(12/149)
فلذلك رسم بالأمر الشّريف- لا زالت شمس عدله، مشرقة في الوجود، وغيث فضله، مستهلّ الجود في التّهائم والنّجود- أن تفوّض إليه.........
... تفويضا يحدّد ارتفاعها، ويعمّر وهادها وبقاعها، ويؤيّد اندفاع مضارّها وانتفاعها، ويعيد الإشراق إلى مطالعها، والأمور إلى مواقعها من سداد التدبير ومواضعها، والإقدام إلى جيوشها وأبطالها [والشجاعة إلى حماتها ورجالها] «1» فليطلع في أفق مواكبها طلوع نعته الكريم، ويجر في جوانبها ما ألفته من موارد عدله الّذي فارقها غمامه وأثر سيله مقيم، ويعاود مصالح تلك المملكة التي لا تصلح أمورها إلّا عليه، ويراجع عصمة تلك العقيلة الّتي لا تطمع أبصار عواصمها إلّا إليه، ويلق في قلوب مجاوريها ذلك الرّعب الّذي نعى إلى كلّ منهم نفسه وأسلاه عمّاه في يديه، ويثبّت تلك المهابة الّتي جعلت منايا العدا براحته يأمرها فيهم وينهاها، وينشر في الرعايا تلك المعدلة التي هي كالشمس:
لا تبتغي بما صنعت منزلة عندهم ولا جاها، ولتكن أحوال عدوّ الإسلام بمرأى منه على عادته ومسمع، ويكفّ أطماع الكفّار على قاعدته فلا يحدث لهم إلى شيم برق الثّغور مطمح ولا في العلم بشنبها مطمع، وليكن من أرصاده، نهار عدوّ الدّين وليله، ومن أمداده، مجاز الجهاد وحقيقته فلا يبرح يبيّتهم خياله إذا لم تصبّحهم خيله، ولا يبرح له من أعيان عيونه بين العدا فرقة ناجية، وطائفة بأسرار قلوب القوم مناجية، لتكون له مقاتلهم على طول الأبد بادية، وتغدو منازلهم خاوية بين سراياه الرائحة والغادية. وليتعاهد أحوال الجيوش بإدامة عرضها، وإقامة واجبات القوّة وفرضها، وإطالة صيت السّمعة المشهورة لكماتها في طول بلاد العدا وعرضها، وإزاحة أعذارها للرّكوب، وإزالة عوائق ارتيادها للوثوب، وإعداد العدد الّتي لها من أيديهم طلوع و [في] «2» مقاتل أعدائهم غروب، وليتفقد أحوال الحصون المصونة بسداد ثغورها، وسداد أمورها، وإزاحة أعذار(12/150)
رجالها، وإرهاف همم حماتها الّتي تضيق على آمال العدا سعة مجالها، وتوفير ذخائرها، وتعمير بواطنها وظواهرها، وتحصين مسالكها الّتي يرهب الخيال المتولي إلى العيون سلوك محاجرها.
وليعل منار الشّرع الشريف بتشييد مناره وإحكامه، وتنفيذه لقضايا قضاته وأحكام حكّامه، والوقوف في كلّ أمر مع نقضه في ذلك وإبرامه، ورفع أقدار حملة العلم على ما ألفوه من الرّفعة والسّموّ في أيّامه. ولتكن وطأة بأسه على أهل الفساد مشتدّة، وأوامره متقدّمة بوضع الأشياء في مواضعها: فلا توضع الحدّة موضع الأناة ولا الأناة موضع الحدّة. وليراع عهود الموادعين مهما استقاموا، ويجمع عليهم أن يكفّوا أنامل بأسه الّتي هم في قبضتها رحلوا أو أقاموا، ولتخبر ألسنة النيران بشبّها على اليفاع [والآكام] «1» من قدم لمكيدة أو طعن بمطار الحمام- وجميع ما يتعلّق بهذه المرتبة السنية من قواعد فإلى سالف تدبيره ينسب، ومن سوابق تقريره وتحريره يحسب؛ فهو ابن بجدتها، وفارس نجدتها، ومؤثّل قواعدها، وموثّر ما حمد من امتداد عضدها إلى مصالح الإسلام وساعدها؛ فليفعل في ذلك ما يشكره الله والإسلام عليه، ويثبّت الحجّة عند الله تعالى في إلقاء المقاليد إليه؛ وملاك الوصايا تقوى الله وهي سجيّة نفسه، وثمرة ما اجتنى في أيّام الحياة من غرسه، ونشر العدل والإحسان فبهما تظهر مزيّة يومه الجميل على أمسه؛ والله تعالى يجعل نعمه دائمة الاستقبال، وشمسه آمنة من الغروب والزّوال، والاعتماد......
الطبقة الثانية (من يكتب له في قطع الثّلث ب «المجلس السامي» وفيها وظائف)
الوظيفة الأولى (نيابة القلعة بها)
وهذه نسخة مرسوم شريف بنيابة قلعة حلب:(12/151)
الحمد لله معلي قدر من تحلّى بالأمانة والصّون، ورافع مكانة من كان فيما عرض من العوارض نعم العون، ومؤهّل من أرشدنا إليه للاجتباء حسن الاختبار، ومبلّغ الإيثار من شكرت عنه محامد الآثار.
نحمده حمد الشّاكرين، ونشكره شكر الحامدين، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص في اعتقاده، مبرّإ من افتراء كلّ جاحد وإلحاده، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أرسله بالحقّ بشيرا ونذيرا، وأيّده بسلطان منه وطهّر [به] «1» الأرض من دنس الضّلال تطهيرا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة لا يزال علم العلم بها منشورا، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ العناية بالحصون توجب أن لا يختار لها إلا من هو مليّ بحفظها، موفّر [لها] «2» من حسن الذّبّ غاية حظّها، حسن المرابطة، مبرّأ من دنس الأفعال السّاقطة؛ ذو قلب [قويّ] «3» وقالب، وعزم ما زال لمهمات الأمور أشجع مغالب؛ إذ هو للمرابطين بها أوثق حرز حريز، وأصون حجاب لمبارزة ذوي التّبريز، [فتصبح به] «4» مستورا عوارها، كاتمة لأسرارها أسوارها، تخاطب منازليها من مجانيقها بأبلغ لسان، وتشافه ملاجيها»
من أنفة أنفها إلا أنه بأعلى مكان.
ولما كانت القلعة الفلانية بهذه المنزلة الرّفيعة، والمكانة الّتي كلّ مكانة بالنّسبة والإضافة إلى علوّ مكانها المكانة الوضيعة- اخترنا لها وابتغينا، واستوعبنا بالتّأهيل لنيابتها ولم نترك في استيعابنا ولا أبقينا، فلم نجد لولايتها كفأ إلا من نظمت عقود هذا التّقليد لتقليده، ورتّلت سور هذه المحامد بمبديء لسان تقريظه ومعيده؛ إذ هو أوثق من يلقى إليه إقليدها «6» ، وأكفأ من ينجز به موعودها؛ إذ كان المكين، والثّقة المتحلّي إذ كان التحلّي مما يزين العاطل(12/152)
المشين؛ إن ذكر الرّأي فهو المتّصف بسديده، أو العزم فهو الموسوم بشديده، أو التّثبّت فهو من صفة شجاعته، أو حسن المظافرة فهو الباذل فيها جهد استطاعته.
ولما كانت هذه المناقب مناقبه، وهذه المذاهب مذاهبه، رسم بالأمر الشّريف العالي- زاده الله مضاء ونفاذا، واستحواء واستحواذا- أن تفوّض نيابة السّلطنة بالقلعة الفلانيّة وما هو منسوب إليها من ربض ونواح، وقرى وضواح، للمجلس السّامي فلان.
فليرق إلى رتبتها المنيف قدرها، المهمّ سرّها وجهرها، وليكن من أمر مصالحها على بصيرة، ومن تفقّد أحوالها على فطنة ما زالت منه مخبورة، وليأخذ محرزها من الجند وغيرهم بالملازمة لما عدق به من الوظائف، ويتقدّم إلى واليها مع طوّافها «1» أوّل طائف، وليتفقّد حواصلها من الذّخائر، وواصلها من التبذير بمن يرتّبه على حفظها من الأخاير؛ ومهما عرض يسرع بالمطالعة بأمره، والإعلام بنفعه وضرّه.
هذه نبذة كافية للوثوق بكفايته، والعلم بسديد كفالته؛ والله تعالى يحسن له الإعانة، ويجزل له الصّيانة؛ والخط الشّريف أعلاه.......
الوظيفة الثانية (شدّ «2» الدّواوين بحلب)
وهذه نسخة توقيع بشدّ الدّواوين بحلب:
الحمد لله الّذي أرهف في خدمة دولتنا كلّ سيف يزهى النّصر بتقليده،(12/153)
ويروى نبأ الفتح عن تجربته في مصالح الإسلام وتجريده، ويروى حدّه إذا قابله عدوّ الدّين من قلب «1» قلبه وموارد وريده.
نحمده على نعمه السابغة حمد متعرّض لمزيده، ونشكره على مننه السّائغة شكر مستنزل موادّ تأييده، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة مقرّ بتوحيده، مسرّ مثل ما يظهر من الخضوع لكبرياء تقديسه وتمجيده، مصرّ على جهاد من ألحد في آياته بنفسه وجنوده، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أشرف من دعت دعوته الأمم إلى الاعتراف بخالقها بعد جحوده، وأنجز لأمّته من الاستيلاء على الكفر سابق وعوده، وأمال به عمود الشّرك فأهوى إلى الصّعيد بعد صعوده، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين ما منهم إلا من بذل في طاعة الله وطاعته نهاية مجهوده، وأطفأ نار الكفر بعد وقودها بإيقاد لهب الجهاد بعد خموده، صلاة تقترن بركوع الفرض وسجوده، وتقام أركانها في أغوار الوجود ونجوده، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى ما أجملنا في مصالحه النّظر، وأعملنا في ارتياد الأكفاء له بوادر الفكر، واخترنا له من الأولياء من كان معدودا من خواصّنا، محبوّا بمزيد تقريبنا ومزيّة اختصاصنا، أمر الأموال الدّيوانيّة بالمملكة الحلبيّة وتفويض شدّ دواوينها المعمورة إلى من تضاعفها رتبته المكينة، ونزاهته المتينة، ويده الّتي هي بكمال العفّة مبسوطة، وخبرته الّتي بمثلها يحسن أن تكون مصالح الدولة القاهرة منوطة، ومنزلته الّتي تكفّ عن الأموال الأطماع العادية، ومهابته الّتي تكفي الأولياء من ضبط الأعمال بما يروي الآمال الصّادية، لأنّها موادّ الثّغور الّتي ما برحت عن شنب النّصر مفترّة، وأمداد الجيوش الّتي جعل الله لها أبدا على أعدائه الكرّة، ورياض الجهاد الّتي تجتنى منها ثمرات الظّفر الغضّة، وكنوز الملك الّتي ينفق منها في سبيل الله القناطير المقنطرة من الذّهب والفضّة.(12/154)
ولما كان فلان هو الّذي اخترناه لذلك على علم، ورجّحناه لما اجتمع فيه من سرعة يقظة وأناة حلم، وندبناه في مهمّاتنا الشريفة فكان في كلّ موطن منها سيفا مرهفا، واخترناه فكان في كلّ ما عدقناه به بين القويّ والضّعيف منصفا، وعلمنا من معرفته ما يستثير الأموال من مكامنها، ومن نزاهته ما يظهر أشتات المصالح من معادنها، ومن معدلته ما يمتّع الرعايا باجتناء ثمر المنى من إحسان دولتنا القاهرة واجتلاء محاسنها- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نحلّي جيد تلك الرتبة بعقود صفاته الحسنة، وأن ننبّه على حسن هممه التي ما برحت تسري إلى مصالح الدولة القاهرة والعيون وسنة.
فلذلك رسم أن يفوّض إليه ذلك تفويضا يبسط في مصالح الأموال لسانه ويده، ويقصر على مضاعفة ارتفاع الأعمال يومه الحاضر وغده، ويحسّن بسدّ الخلل وتتبّع الإهمال مصدره الجميل ومورده؛ ويجعل [له] «1» في مصالحها العقد والحلّ، والتّصرف النافذ في كلّ ما دقّ من الأموال الدّيوانية وجلّ.
فليباشر ذلك بهمّة علمنا في الحق مواقع سيفها، وأمنّا على الرعايا بما اتّصفت به من العدل والمعرفة من مواقع حتفها، وأيقظت العيون الطّامحة لسلوك ما [لا] «2» يجب بما لم تزل تتخيّله من روائع طيفها، وليثمّر الأموال بالجمع في تحصيلها بين الرّغبة والرّهبة، ويجعل ما يستخرج منها ببركة العفّة والرّفق: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ
«3» وليعفّ أثر الحمايات ورسمها، ويزل بالكلّية عن تلك الممالك الحسنة وسمها القبيح واسمها، وليكن مهمّ الثغور هو المهمّ المقدّم لديه، والنّظر في كلف القلاع المحروسة هو الفرض المتعيّن أداؤه عليه، فيحمل إليها من الأموال والغلال ما يعمّ حواصلها المصونة، ويكفي رجالها الفكر في المؤونة، ويضاعف ذخائرها التي تعدّ من أسباب تحصينها، ويصبح به حمل عامها الواحد كفاية ما يستقبله(12/155)
مع موالاة الحمول من سنينها؛ وما عدا ذلك من الوصايا فقد ألقينا إلى سمعه ما [عليه] يعتمد، وعرّفناه أنّ تقوى الله أوفى ما به يستبدّ وإليه يستند؛ بعد الخط الشّريف.
الصنف الثاني (من أرباب الوظائف بحلب- أرباب الوظائف الدّينية)
وهم على طبقتين أيضا:
الطبقة الأولى (من يكتب له في قطع الثلث ب «السّاميّ» بالياء، ويشتمل على وظائف)
منها: قضاء القضاة. وبها أربعة قضاة: من كل مذهب قاض، كما في الديار المصرية والشّام. والشافعيّ منهم هو الّذي يولّي بالبلاد كما في مصر والشّام.
وهذه نسخة توقيع بقضاء قضاة الشّافعية:
الحمد لله الّذي رفع منار الشّرع الشريف وأقامه، ونور به كلّ ظلام وأزال به كلّ ظلامة، وجعله صراطا سويّا للإسلام والسّلامة، الذي جعل القضاة أعلاما، بهم يهتدى، ونصبهم حكّاما، بمراشدهم يقتاد ويقتدى، وأخذ بهم الحقّ من الباطل حتّى لا يعتل في قضيّة ولا يعتدى، والصّلاة على سيدنا محمد الذي أوضح الله به الطّريق، وأبدى به بين الحلال والحرام التّفريق، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تتكفل لرغبات قائلها بالتّحقيق.
وبعد، فإنّ أحقّ ما [وجّهت] «1» الهمم إلى تصريفه وجها مسفرا، وقرّبت إلى يد الاقتطاف من شجرته المباركة غصنا مثمرا، وسهّدت في الاختيار له والاصطفاء لحظا ما زال للفكر في مصالح الأمّة مسهرا- الشرع الشريف الّذي(12/156)
حرس الله به حومة الدّين وحمى جانبه، وحفظ به أقوال الهدى عن المجادلة من المبتدعين وأطرافه من المجاذبة؛ وكانت حراسته معدوقة باختيار الأئمة الأعلام، وموقوفة على كلّ من يطاعن البدع عند الاستفتاء برماح الخطّ وليست رماح الخطّ غير الأقلام، ومصرفة إلى كلّ منصف في قضاياه حتّى لو ترافعت إليه اللّيالي لأنصفها من الأيّام.
ولما كان فلان هو مدلول هذه العبارة، ومرتمى هذه المشارة، ومرتمق هذه الإشارة، وقد حلّ من الممادح في محل صعب المرتقى على متوقّله، وطلع من منازل سعودها في بروج بعيدة الأوج إلا على سير بدره وتنقّله؛ وطالما حكم فأحكم، وفصل ففصّل، وروجع فما رجع وعدل فعدّل، وشهدت مراتبه الشريفة بأنّه خير من تنوّلها ميراثا واستحقاقا، وأجلّ من كادت تزهو به مطالع النجوم إشرافا وإشراقا؛ وكانت حلب المحروسة مركز دائرة لأيّامه، وسلك جوهر تصريفه الّذي طالما تقلدت أحسن العقود بنظامه؛ وقد افتخرت به افتخار السماء بشمسها، والرّوضة بغرسها، والأفهام بإدراك حسّها، والأيّام بما عملته من خير في يومها وأسلفته في أمسها، وقد اشتاقت إلى قربه شوق النّفس إلى تردّد النّفس، واللّيلة إلى طلوع النّجم أولا فإلى إضاءة القبس.
فلذلك خرج الأمر الشّريف بأن يجدّد له هذا التوقيع بالحكم والقضاء، بالمملكة الحلبيّة وأعمالها وبلادها، على عادته.
فليستخر الله تعالى وليستصحب من الأحكام ما همّته مليّة باستصحابه، ويستوعب من أمورها ما تتوضح المصالح باستيعابه، ويقم بها منار العدل والإحسان، وينهض بتدبير ما أقعده منها زمانة الزّمان. وعنده من الوصايا المباركة، ما يستغني به عن المساهمة فيها والمشاركة؛ لكن الذّكرى النافعة عند مثله نافقة؛ فإن لم يكن شعاع هلال فبارقة، وليتّق الله ما استطاع، ويحسن عن أموال اليتامى الدّفاع، ويحرس موجود من غاب غيبة يجب حفظ ماله فيها شرعا، ويقطع سبب من رام لأسباب الحقّ قطعا، ولا يراع لحائف حرمة فإنّ حرمات(12/157)
الحائفين لا ترعى، وينظر في الأوقاف نظرا يحرسها ويصونها، ويبحث عنها بحثا يظهر به كمينها؛ والله تعالى يسدّده في أحكامه بمنه وكرمه! قلت: وعلى ذلك تكتب تواقيع بقية القضاة بها من المذاهب الثلاثة الباقية.
ومنها: وكالة «1» بيت المال المعمور.
وهذه نسخة توقيع من ذلك، كتب بها لمن لقبه «كمال الدّين» وهي:
الحمد لله الّذي جعل كمال الدّين موجودا، في اقتران العلم بالعمل، وصلاح بيت المال معهودا، في استناده إلى من ليس له غير رضا الله تعالى وبراءة الذّمة أمل، وارتقاء رتب المتّقين مقصورا على من بارتقاء مثله من أئمة الأمّة تزهى مناصب الدّول، والاكتفاء بالعلماء محصورا في الآراء المعصومة بتوفيق الله من الخلل.
نحمده على نعمه الّتي جعلت مهمّ مصالح الإسلام، مقدّما لدينا، واختصاص المراتب الدّينية بالأئمة الأعلام، محبّبا إلينا، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة رفع الجهاد علمها، وأمضى الاجتهاد كلمها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أشرقت سماء ملّته، من علماء أمّته، بأضوإ الأهلّة، ونطقت أحكام شرعته، على ألسنة حملة سنّته، بأوضح الأدلّة، وبزغت شمس هدايته في تهائم الوجود ونجوده فانطوت بها ظلم الأهواء المضلّة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين نصحوا لله ولرسوله، وآثروا رضاه على نفوسهم فلم يكن لهم مراد سوى مراده ولا سول غير سوله، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من تلقّاه كرمنا بوجه إقباله، واختارت له آلاؤنا من الرّتب ما صدّه الإجمال في الطّلب عن تعلّقه بباله، ورأى إحساننا مكانه من(12/158)
العلم والعمل فعدق به من مصالح المسلمين ما لم يتركه أوّلا إلّا موافقة له لا رغبة عن خياله، ورعى برّنا وفادته فاقتضى إعادته من مناصبه إلى ما لم يزل مشرق الأفق بكمال طلعته وطلعة كماله- من ظهرت لوامع فوائده، وبهرت بدائع فرائده، وتدفّقت بحار فضائله، وتألّقت أشعة دلائله، وتنوّعت فنونه: فهو في كلّ علم ابن بجدته، وفارس نجدته، وحامل رايته، وجواد مضماره الّذي تقف جياد الأفكار دون غايته.
ولما كان فلان هو هذا البحر الّذي أشير إلى تدفّقه، والبدر الّذي أوميء إلى كمال ما تألّق به من أفقه، وكانت وكالة بيت المال المعمور بحلب المحروسة من المناصب الّتي لا يتعيّن لها إلا من تعقد الخناصر عليه، ويشار ببنان الاختصاص إليه، ويقطع بجميل نهوضه فيما يوضع من المصالح الإسلامية بيديه؛ وله في مباشرتها سوابق، وآثار [إن] «1» لم تصفها ألسنة الأقلام أوحت بها تلك الأحوال الخالية وهي نواطق- اقتضت آراؤنا الشريفة إنعام النّظر في الإنعام عليه بمكان ألفه، ومنصب رفع ما أسلفه فيه من جميل السّيرة قدره عندنا وأزلفه.
فرسم بالأمر الشريف- لا زال بابه ثمال الآمال، وأفق السّعد الّذي لو أمّه البدر لما فارق رتب الكمال- أن يفوّض إليه كذا: لما ذكر من أسباب عيّنته، وفضائل تزيّنت به كما زيّنته، ووفادة تقاضت له نزل الكرامة، واقتضت له موادّ الإحسان وموارده في السّرى والإقامة.
فليل هذه الرتبة الّتي على مثله من الأئمة مدار أمرها، وبمثل قوّته في مصالحها يتضاعف درّ احتلابها ويترادف احتلاب درّها، مراعيا حقوق الأمّة فيما جرّه الإرث الشرعيّ إليهم، مناقشا عن المسلمين فيما قصره مذهبه المذهب من الحقوق الماليّة عليهم، واقفا بالحقّ فيما يثبت بطريقة المعتبر، تابعا لحكم الله فيما يختلف سبيله [و] «2» فيما يحرّر بالعيان أو يحقّق بالخبر، محافظا على ما(12/159)
يؤول إلى بيت المال بلطف تدقيقه، وحسن تحقيقه، وقبول الدّافع بوجهه ودفعه بطريقه؛ ولا يمنع الحقّ إذا ثبت بشروطه الّتي أعذر فيها، ولا يدفع الواجب إذا تعيّن بأسبابه الّتي يتقاضاها الشّرع الشّريف ويقتضيها؛ وهو الوكيل عن الأمّة فيما لهم وعليهم، ومتولّي المدافعة عنهم فيما يقرّه الشرع في يديهم؛ فليؤدّ عنهم أمانة دينه، ويجتهد لهم فيما وضعناه من أمر هذه الوكالة الشريفة بيمينه؛ وملاك هذا الأمر الوقوف مع الحقّ الجليّ، والتّمسّك بالتّقوى الّتي تظهر بها قوّة الأمين وأمانة القويّ؛ والله تعالى يوفّقه ويسدّده.
قلت: وفي معنى ما تقدّم من قطع الورق والألقاب الحسبة، ونظر الأوقاف الكبار، وخطابة الجوامع الجليلة، وكبار التّداريس، وما يجري مجرى ذلك: إذا كتب به من الأبواب السّلطانية، وإلّا فالغالب كتابة ذلك جميعه عن نائب السّلطنة بها.
الطبقة الثانية (من يكتب له في قطع العادة «بالسامي» بغير ياء، أو «بمجلس القاضي» )
قال في «التثقيف» «1» : وهم من عدا القضاة الأربعة من [أرباب] «2» الوظائف الدينية، فيدخل في ذلك قضاء العسكر، وإفتاء دار العدل، وما يجري مجرى ذلك، حيث كتب من الأبواب السلطانية.
الصنف الثالث (من أرباب الوظائف بحلب- أرباب الوظائف الديوانية، وهم على طبقتين)
الطبقة الأولى (من يكتب له في قطع الثلث ب «الساميّ» بالياء؛ وتشتمل على وظائف)
منها: كتابة السرّ؛ ويعبّر عنها في ديوان الإنشاء بالأبواب(12/160)
السلطانية- بصاحب ديوان المكاتبات، وربّما قيل: صاحب ديوان الرسائل. قال في «التثقيف» : وربّما كتب له في قطع النّصف.
وهذه نسخة توقيع شريف من ذلك، وهي:
الحمد لله الّذي زان الدّولة القاهرة، بمن تغدو أسرارها من أمانته في قرار مكين، وحلّى أيّامنا الزاهرة، بمن تبدو مراسمها من بلاغته في عقد ثمين، ومجمّل الكتب السائرة، بمن إذا وشّتها براعته ويراعته قيل: هذا هو السّحر البيانيّ إن لم يكن سحر مبين.
نحمده على نعمه الّتي خصّت الأسرار الشريفة بمن لم يرثها عن كلالة، ونصّت في ترقّي مناصب التّنفيذ على من يستحقّها بأصالة الرّأي وقدم الأصالة، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة رقم الإخلاص طروسها، وسقى الإيمان غروسها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي آتاه جوامع الكلم، ولوامع الهدى والحكم، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين كتب في قلوبهم الإيمان، وكبت بهم أهل الطّغيان، صلاة يشفعها التّسليم، ويتبعها التّعظيم، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى الرّتب بإرتياد من تعقد على أولويّته الخناصر، ويعتمد على أصالته الّتي ما برحت في الاتصال والاتّصاف بها ثابتة الأواصر، ويعتقد في أمانته الّتي تأوي بها الأسرار إلى «صخرة أعيا الرّجال انصداعها» ، ويعتضد بفضائله الّتي يقلّ في كثير من الأكفاء اجتماعها، ويعول فيها على بلاغته، التي أعطت كلّ مقام حقّه من الإطناب والإيجاز، ويرجع فيها إلى بديهته، التي جرت بها سوابق المعالي إلى غاية الحقيقة في مضمار المجاز- رتبة هي خزانة سرّنا، وكنانة نهينا وأمرنا؛ فلا يتعين لبلوغها إلّا من ومن، ولا يعين لتلقّيها وترقّيها إلّا أفراد قلّ أن يكثر مثلهم في زمن، ولا يحسن أن تكون إلّا في بيت عريق في أنسابها، وثيق في تمكّن عرا أسبابها، عليم بقواعدها الّتي إذا اشتبهت طرق آدابها كان أدرى بها.(12/161)
ولما كان فلان هو الّذي ذكرت أسباب تعيّنه لهذه الرّتبة وتعيينه، وفتحت أبواب أولويّته بتلقّي راية هذا المنصب بيمينه، مع أدوات كمّلت مفاخره، وصفات جمّلت مآثره، وكتابة، إذا جادت أنواؤها أرض طرس أخذت زخرفها، وإذا حاذت أنوارها وجه سماء ودّت الدّراريّ لو حكت أحرفها، وبلاغة، إن أطرت بوصف أغارت الفرائد، وأعارت دررها القلائد، وأتت من رقّة المعاني بما هو أحسن من دموع التّصابي في خدود الخرائد «1» ، وإن أغرت بعدوّ أعانت على مقاتله السّيوف، ودلّت على مكامنه الحتوف، وديانة، رفعته عند الله وعندنا إلى المكان الأسنى، وصيانة، جمعت له من آلائنا واعتنائنا بين الزّيادة والحسنى، وأمانة، أغنته بجوهر وصفها الأعلى عن التّعرّض إلى العرض الأدنى، وبراعة، اعتضد بها يراعه في بلوغ المقاصد اعتضاد الرّقص بالمغنى.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف أن يفوّض إليه كذا فليبشر بتلقيّ هذا الإحسان، بيد الاستحقاق، وليتلقّ عقود هذا الامتنان، الذي طالما قلّده فخره الأعناق، وليباشر ذلك مباشرة يسرّ خبرها ويسري خبرها، ويشنّف الأسماع تأثيرها وأثرها، وليسلك فيها من السّداد، ما يؤكّد حمده، ومن حسن الاعتماد، ما يؤيّد سعده؛ والوصايا كثيرة وهو بها خبير عليم، حائز منها أوفر الأجزاء وأوفى التّقسيم «2» ، وملاكها تقوى الله فليجعلها عمدته، وليتّخذها في كلّ الأمور ذخيرته؛ والله تعالى يضاعف له من لدنّا إحسانا، ويرفع له قدرا وشانا؛ والاعتماد في ذلك على الخطّ الشّريف أعلاه الله تعالى أعلاه.
ومنها: نظر المملكة الحلبيّة القائم مقام الوزير.(12/162)
وهذه نسخة توقيع من ذلك: كتب به لعماد الدّين «سعيد بن ريان» «1» بالعود إليها، وهي:
الحمد لله رافع قدر من جعل عليه اعتمادا، ومجدّد سعد من غدا في كلّ ما يعدق به من قواعد النّظر الحسن عمادا، ومسنّي حمد من تكفّل له جميل التّصرّف أن لا تبعد الأيام عليه مرادا، ومجزل موادّ النّعم لمن إذا استمطر قلمه في المصالح همى فافتنّ أفنانا وأينع تثميرا وأثمر سدادا، وإذا أيقظ نظره في ملاحظة الأعمال استجلى وجوه المصالح انتقاء لما خفي منها وانتقادا.
نحمده على نعمه الّتي لا تزال النّعم بها مجدّدة، والقواعد موطّدة، والكرم معادا، وآلائه الّتي جعل لها الشّكر ازديانا على الأبد وازديادا، ومننه الّتي لا يقوم بها ولا بأداء فرضها الحمد ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام أو كان البحر مدادا «2» ، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة لا تألو هممنا اجتهادا في إعلاء منارها وجهادا، ولا تكبو جياد عزائمنا، دون أن تسكنها من الجاحدين قلوبا وتجري بها من المنكرين ألسنة وتقلّدها من المشركين أجيادا، ولا تنبو صوارمنا، حتّى تتّخذ لها من وريد كلّ معاند موردا ومن قمم كلّ ناكث أغمادا، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أسرى الله به إليه فبلغ في الارتقاء سبعا شدادا، وأنزل عليه أشرف كتبه بيانا وأعجزها آية وأوضحها إرشادا، وبعثه إلى الأحمر والأسود فسعد من سعد به إيمانا وشقي من شقي به عنادا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين لم يألفوا في طاعة الله وطاعته مهادا، صلاة لا تستطيع لها الدّهور نفادا، ولا تملّها الأسماع تعدادا وتردادا، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن أولى من سما به منصبه الّذي عرف به قديما، وزهيت به رتبته، التي لم يزل فيها لاقتناء الشّكر مستديما، وتحلّت به وظيفته، التي لم يبرح(12/163)
يلبس بها ثوب الثناء قشيبا ويجرّ بها رداء السّعد رقيما، وتقاضت له عوارفنا معارفه الّتي لم يزل عقدها في جيد المراتب السّنيّة نظيما، وتطلّع إليه مكانه فكأنّه بقدم هجرته لم يبرح فيه وإن بعد عنه مقيما- من لم يزل قلمه بصرفه في أسنى ممالكنا الشّريفة كاسمه سعيدا، وطرف نظره فيما يليه من المناصب السّنيّة يريه من المصالح ما كان غائبا ويدني إليه من أسباب التّدبير ما كان بعيدا؛ فما أعمل في مصالح الدولة القاهرة قلما إلا وأقبلت نحوه وجوه الأموال سافرة، ولا لحظ في مهمّات وظائفها أمرا إلّا وعاودته أسباب التّثمير النافرة، ولا اعترض «1» قلمه بنطقه وفكره إلّا وغدت الثلاثة على كل ما فيه عمارة ما يفوّض إليه من الأعمال متضافرة؛ وذلك لما اجتمع فيه من عفّة نفسه وكمال معرفته وطهارة يراعه، واتّصف به من حسن اضطلاعه وجميل اطّلاعه، وجبلت عليه طباعه من نزاهة زانت خبرته ومنّ ينقل مشكورا عن طباعه.
ولما كان فلان هو الّذي حنّت إليه رتبته وتلفّت إليه منصبه ودعته وظيفته النّفيسة إلى نفسها، واعتذرت بإقبالها إليه في يومها عن نشوزها عنه في أمسها، واشتاقت إلى التّحلّي بفضائله الّتي لم تزل تزهى بما ألفته منها على نظرائها من جنسها- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نجمّل لها عادتها ونجدّد له من الإحسان بمباشرتها السّعيدة إعادته، ونعيد إليه بمباشرة نظره الجميل مسرّته الّتي ألفها وسعادته.
فلذلك رسم ... - لا زال برّه لعماد الدّين رافعا، وأمره بالإحسان شافعا- أن يفوّض إليه نظر المملكة الحلبيّة على عادة من تقدّمه.
فليباشر هذه المملكة الّتي هي من أشهر ممالكنا سمعة، وأيمنها بقعة، وأحسنها بلادا، وأخصبها ربا ووهادا، وأكثرها حصونا شواهق، وقلاعا [سوامي] «2» سوامق، وثغورا لا تشيم ما افترّ منها البروق الخوافق، مباشرة تزيد(12/164)
مصالحها على ما عرفته، وتريها من خبرته فوق ما ألفته، وتدلّ على ما فيه من كفاءة هذّبتها التّجارب، وهدتها الأنوار الثّواقب، وصرفتها الأفكار المطّلعة على الطوالع من المغارب، وسدّدها إلى الأغراض الجميلة الخلوّ من الأغراض، ووقّفها على جواهر الصّواب عدم اعتراض النّظر إلى الأعراض، وأراها التّوفيق ما تأتي من وجوه التدبير وما تذر، وعرّفتها المعرفة الاحتراس من مخالفة الصّواب فما تزال من ذلك على حذر، وفتحت لها الدّربة أبواب التّثمير فما لحظت أمرا من الأمور الديوانية إلا وبدت البدر؛ ولتكن النعم المصونة المقدّم لديه، والنظر في مصالح القلاع المحروسة هو الغرض المنصوص عليه، فليضاعف ذخائرها، ويتفقّد موارد أمورها ومصادرها؛ وفي معرفته بقواعد هذه الوظيفة ما يغني عن الوصايا، لكن ملاكها تقوى الله، فليجعلها نجيّ نفسه، وسمير أنسه؛ والخط الشريف......
ومنها- نظر الجيش بها.
وهذه نسخة توقيع بنظر الجيش بالمملكة الحلبيّة، وهي:
الحمد لله الّذي جعل أفق السعادة بطلوع شمسه منيرا، وأقرّ في رتب العلياء من يغدو ناظرها بحسن نظره قريرا، وحلّى مفارق المناصب السّنيّة بصدر إذا تغالى اللسان في وصفه كان بنان البيان إليه مشيرا، واختار لأمصار ممالكنا الشريفة من إذا فوّض إليه نظرها كان بنسبته إلى الإبصار حقيقا به وجديرا.
نحمده وهو المحمود، ونشكره شكرا مشرق السّعود، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة عذبة الورود، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أضحت به شيوخ من الإسلام منشورة البنود، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه ما أورق عود، وأولج نهار السيوف في ليل الغمود، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن الله تعالى لما خصّ كلّ مملكة من ممالكنا الشريفة بكثرة الجيوش والأنصار، وجعل جيوشنا وعساكرنا تكاثر عدد النّجوم في كلّ مصر من(12/165)
الأمصار، وكانت المملكة الشريفة الحلبيّة هي ركن من أركان الإسلام شديد، وذخر ما دعاهم داع إلّا ولبّاه منهم عدد عديد- وجب ان يختار للنّظر عليها من الأكفاء من سما في الرآسة أصله وزكا فرعه، فاستحقّ بما فيه من المعرفة تمييز قدره ورفعه، وفاق في فضل السّيادة أبناء جنسه، وأشرقت أفلاك المعالي بطلوع شمسه، وأقرّ [بنظره] «1» نظر الجيوش المنصورة، وسارت الأمثلة بما اتفّق عليه [فيه] «2» من حسن خبرة وخيرة، وكان فلان هو الّذي طلع في أفق هذا الثّناء شمسا منيرة، واختبر بالكفاية والدّراية واختير لهذا المنصب على بصيرة، وهو الذي له من جميل المباشرة في المناصب السّنية ما هو كالشّمس لا يخفى، والّذي أحسن النّظر في الأوقاف المبرورة حتّى تمنّى كلّ منصب جليل أن يكون عليه وقفا، وهو الّذي حوى من الفضائل ما لا يوجد له نظير ولا شبيه، والّذي سما إلى رتبة من المعالي رفيعة وكان ذا الجدّ النّبيه والأب [لبنيه] «3» فلذلك رسم.... لا زال يقرّ الناظر بجوده، ويحسن النظر في أمر جيوشه وجنوده- أن يفوّض إليه كذا: علما بأنه أحقّ بذلك وأولى، وأنّ كفايته لا يستثنى فيها بإلّا ولا بلو لا، وأنّ السّداد مقترن بحسن تصريفه، وعلمه قد أغنى عن تعليمه بمواقع التّسديد وتوقيفه.
فليباشر ذلك بصدر منشرح، وأمل منفسح، عاملا بالسّنة من تقوى الله تعالى والفرض، عالما بأنّا عند وصولنا إلى البلاد نأمر بعرض الجيوش:
فليعمل على ما يبيّض وجهه يوم العرض، وليلزم عدّة من المباشرين بعمل ما يلزمهم من التّفريع والتّأصيل، والتّجريد والتّنزيل، وتحرير الأمثلة والمقابلة عليها، وسلوك الطّريق المستقيم الّتي لا يتطرق الذّم إليها، والملاحظة لأمور الجيوش المنصورة في قليل الإقطاعات وكثيرها، وجليلها وحقيرها، بحيث يكون علمه محيطا بذلك إحاطة اللّيل، ويشترط على من يتعيّن تنزيله ما استطاع(12/166)
من قوّة ومن رباط الخيل، ويقابل الأمور المضطربة بالإضراب، ويسلك أحسن المسالك في سيره وسيرته: فإنّنا فوّضنا إليه الجيوش المنصورة من جند المملكة الحلبيّة ومن أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب. والوصايا كثيرة وإن كثرت فعلمها عنده، وقد ضرب له منها مثل فليكن على سياقته فيما لم يذكر في العدّة؛ وأهمّ الأمور أن يتمسك من خشية الله بالسّبب الأقوى، ويجعل تقوى الله عماده في كلّ الأمور: فإنّ خير الزّاد التّقوى؛ والخطّ الشريف أعلاه حجة فيه.
الطبقة الثانية
من يكتب له من أهل المملكة الحلبيّة في قطع العادة مفتتحا ب «رسم» إمّا مع «مجلس القاضي» أو مع «القاضي الأجلّ» ككتّاب الدّرج ومن في رتبتهم، إن كتب لأحد منهم من الأبواب السلطانية، وإلّا فالغالب استبداد نائب السّلطنة بها بالكتابة في ذلك. فإن كتب شيء منها من الأبواب السلطانية، فليمش فيه على نحو ما تقدّم في الديار المصرية والمملكة الشامية الّتي قاعدتها دمشق.
النوع الثاني (من أرباب الوظائف بالمملكة الحلبية- من هو خارج عن حاضرتها، وهم على أصناف)
الصنف الأوّل (أرباب السيوف، وهم غالب من يكتب لهم عن الأبواب السّلطانية)
وقد تقدّم أنّ العادة جارية بتسمية ما يكتب لمن دون أرباب النيابات العظام: من دمشق، وحلب، وطرابلس، وحماة، وصفد، وغزّة، والكرك- مراسيم، وأنّ التقاليد مختصة بالنّواب العظام المقدّم ذكرهم. ولا يخفى أنّ النيابات الدّاخلة في المملكة الحلبيّة، مما هو تحت أمر نائب السّلطنة بحلب، أكثر من كل سائر الممالك الشامية.(12/167)
وبالجملة فأمرهم لا يخرج عن ثلاثة أضرب: إما مقدّم ألف، كنائب البيرة «1» ، ونائب قلعة الرّوم المعبر عنها في ديوان الإنشاء بقلعة المسلمين «2» ، ونائب ملطية «3» ، ونائب طرسوس «4» ، ونائب البلستين «5» ، ونائب البهسنى «6» ، ونائب آياس «7» المعبر عنها بالفتوحات الجاهانية. وإمّا طبلخاناه، كنائب جعبر «8» ، ونائب درندة «9» ونحوهما. وإما أمير عشرة، كنائب عين تاب «10» ، ونائب الرّاوندان «11» ، ونائب كركر «12» ، ونائب بغراس «13» ، ونائب الشّغر(12/168)
وبكاس «1» ، ونائب الدّربساك، ونائب سرفندكار «2» ، ومن في معناهم.
وقد تقدّم في الكلام على المكاتبات نقلا عن «التثقيف» . أنّ هؤلاء النوّاب تختلف أحوالهم في الارتفاع والانحطاط: فتارة تكون عادة تلك النيابة أمير طبلخاناه، ثم يولّى فيها عشرة وبالعكس. وقد تكون عادتها طبلخاناه فيستقرّ بها مقدّم ألف وبالعكس. والضابط في ذلك أنّ من يكتب له المرسوم: إن كان مقدّم ألف، كتب مرسومه في قطع النصف ب «المجلس العالي» ، وإن كان طبلخاناه، كتب له مرسومه في قطع النصف أيضا ب «الساميّ» بالياء، وإن كان أمير عشرة كتب مرسومه في قطع الثّلث. فأمّا ما يكتب في قطع النّصف، فإنّه يفتتح ب «الحمد لله» سواء كان صاحبه مقدّم ألف أو أمير طبلخاناه.
وهذه نسخة مرسوم شريف بنيابة آياس، وهي المعبّر عنها بالفتوحات الجاهانيّة، يستضاء بها في ذلك، وهي:
الحمد لله الّذي جعل من أولياء دولتنا الشّريفة كلّ سيف لا تنبو مضاربه، واصطفى لبوادر الفتوحات من أنصارنا من تحمد آراؤه وتجاربه، وألهمنا حسن الاختيار لمن تؤمن في المحافظة مآربه، وتعذب في المخالطة مشاربه، وحقّق آمالنا في مضاعفة الفتح التي أغنى الرّعب فيها عما تدافعه سيوف الإسلام وتحاربه.
نحمده حمدا يضاعف لنا في التّأييد تمكينا، ونشكره شكرا يستدعي أن يزيدنا من فضله نصرا عزيزا وفتحا مبينا، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة نخلص فيها يقينا من المخاوف يقينا، ونرد من نهلها معينا، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أيده الله بالملائكة والرّوح، وزوى له(12/169)
الأرض فرأى مشارقها ومغاربها ونرجو أن يكون ما زواه له مدّخرا لنا من الفتوح، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين هم خير أمّة أخرجت للإسلام، والذين ما زال الإيمان بهم مرفوع الألوية والأعلام، والذين لم يبرح داعي الضّلالة تحت قهر سيوفهم: فإذا أغفى «جرت عليه سيوفها الأحلام» ، صلاة يطيب اللّسان منها فيطرب، ويعرب عن صدق الإخلاص في تكرارها فيغرب، وسلّم تسليما.
أمّا بعد، فإنّ أولى من تستند أمور الممالك لعزمته، ويلقى أمر بوادر الفتوحات السّعيدة لهمّته، ويعتمد في تدبير أحوال البلاد والعباد على يمن تصرّفه وممتدّ نهضته- من لم يزل معروفا سداد رأيه، مشكورا في الخدمة الشريفة حسن سعيه، مؤيّدا [في] «1» عزمه، مظفرا في حزمه، مأمون التّأثير، ميمون التدبير، كافيا في المهمات، كافلا بعلوّ الهمّات، إذا همّ ألقى بين عينيه [صادق] «2» عزمه، وإذا اعتمد عليه في مهمّ تلقّاه بهمّته وحزمه، وإذا جرّد كان هو السّيف اسما وفعلا، وإذا دارت رحى الحرب الزّبون «3» فهو الشهم الّذي لا يخاف سهما ولا يرهب نصلا.
ولما كان.. «4» هو بدر هذا الأفق، ومقلّد هذا العقد ولا يصلح هذا الطّوق إلا لهذا العنق، وهو الّذي فاق الأولياء اهتماما، وراق العيون تقدّما وإقداما، وأرضى القلوب نصحا ووفاء، وأنضى الهمم احتفالا للمصالح واحتفاء؛ طالما جرّب فحمد عند التجارب، وجرّد فأغنى عن القواضب، واختبر فاختير، ونظر في خصائصه فلم يوجد له نظير- اقتضى حسن الرّأي الشريف أن نقلّده فتوحات أنقذها الله تعالى من شرك الشّرك، وأخرجها إلى النّور بعد ظلام الإفك، وبشّرها أنّ هذه سحابة نصر يأتي وابله إن شاء الله تعالى بعد رذاذه،(12/170)
وأنّها مقدمة سعد تتلو قوله تعالى: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ
«1» فلذلك رسم......- لا زال الفتح في دولته يزهو بانتظام سلكه؛ وأيامه الشريفة تستردّ مغتصب البلاد من يد الكفر إلى بسطة ملكه وقبضة ملكه، وإحسانه يحمي الحصون بسيف يروّع العدا ببأسه وفتكه- أن يفوّض......
اعتمادا على مضائه الّذي لا ينكر مثله للسّيف، وركونا إلى همّته الّتي تسرى برعبها إلى قلوب الأعداء سرى الّطيف.
فليباشر النيابة المذكورة: معملا رأيه في تمهيد أحوالها، وتقرير أمورها التي راق الأولياء وراع الأعداء ما كان من مالها، مجتهدا في حفظ ما بها من القلاع والحصون، مبادرا [إلى] «2» كلّ ما يحمي حماها ويصون، قائما حقّ القيام في مصالح تقريرها، وأحوال تحريرها، وأمور تمهّدها، ومنافع تشيّدها، وحواصل تكفيها، وأسباب مصلحة توافيها بمزيد الاهتمام وتوفّيها، وليكن بأحكام الشّرع الشريف مقتديا، وبنور العدل والاحسان مهتديا، وبتقوى الله عزّ وجلّ متمسّكا، وبخشية الله متنسّكا؛ وهو يعلم أنّ هذه الفتوحات [قذى] «3» في حدقة العدوّ المخذول وشجا في حلوقهم، وعلّة في صدورهم وحسرة في قلوبهم.
فليكن دأبه الاجتهاد الّذي ليس معه قرار، والتّحرّز الّذي يحلّيها أو يحميها فيكون عليها بمنزلة سور أو سوار، ويصفّحها من عزمه بالصّفاح، ويجعل عليها من شرفات حزمه ما يكون أحدّ من أسنّة الرّماح، ثم لا يزال احتياطه محيطا بها من كلّ جانب، وتيقّظه لأحوالها بمنزلة عين مراقب، واحتفاله الاحتفال الّذي بمثله يصان رداؤها من كلّ جاذب؛ ثم لا تزال قصّاده وكشّافه وطلائعه لا يقرّ بهم السّرى، ولا يعرفون طعم الكرى، يطّلعون من أخبار العدا(12/171)
على حقائقها، وتتحيّل كلّ فرقة منهم على معرفة الأحوال بينهم بمكر من تعدّد طرقها واتساع طرائقها، لتكون المتجدّدات عنده بمنزلة ما يراه في مرآة نظره، وسرّ أمور العدا لديه قبل أن يشيع بينهم ذكر خبره؛ والوصايا كثيرة وهو بحمد الله لا يحتاج مع معرفته إلى تبصرة، ولا يفتقر مع حسن بصيرته إلى تذكرة، والله تعالى يتولّاه، ويعينه على ما ولّاه؛ بعد الخط الشريف أعلاه.
وأما من يكتب له في قطع الثلث ب «مجلس الأمير» وهم العشرات [فقد ذكر في «التعريف» : أنّه يكتب لهم من الأبواب السلطانية على ذلك.
قلت: وقد تقدّم في الطبقة السابعة أنّ الكختا، وكركر، والدّربساك، قد تكون عشرة أيضا. وفي معنى ذلك نيابة عين تاب، والراوندان، والقصير، والشغر وبكاس، إذا كانت عشرة. ونيابة دبركي إذا كانت عشرة] «1» فيفتتح فيها ب «أما بعد حمد الله» على عادة ما يكتب للعشرات.
وهذه نسخة مرسوم شريف من هذه الرتبة، كتب به لنائب حجر شغلان من معاملة حلب، وهي:
أما بعد حمد الله الّذي شيّد المعاقل الإسلامية بأكفائها، وصان الحصون المحروسة بمن شكرت همّته في إعادتها وإبدائها، وحمى سرحها بمن أيقظ في الخدمة الشّريفة عيون عزمه فما ألمت بعد إيقاظه بإغفائها، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الّذي انتضى سيوف التّأييد فأعزّت الهدى وأذلّت العدا حين انتضائها، وعلى آله وصحبه ما بدت النجوم في ظلمائها، وسرت الغيوم في فضائها- فإنّ من شكرت هممه، وثبتت في الطاعة الشريفة قدمه، وأشبه عزمه في مضائه صارمه، وأضحت ثغور تقديمه باسمة- أولى بأن ترفع هذه الدولة(12/172)
الشريفة من محلّه، وتنشر عليه [من] «1» تكريمها وارف ظلّه، وترتضيه لقلاع الإسلام وتشييدها، وتجتبيه لصونها وتأييدها، وتجعله قرّة عينها وحلية جيدها، وتمضي كلمته في مصالحها، وتعدق به أسباب مناجحها، فيصبح ولقدره منّا إعلاء وإعلان، ويمسي وله شغل بطاعتنا العالية الشّان، وشغل بالمعقل الّذي يحرز بعزمه ويصان، فلأجل ذلك غدا وله من هذه النيابة على الحقيقة شغلان.
وكان [فلان] «2» هو الّذي جادت عليه دولتنا الزاهرة بسحائبها، وأشرقت على حظوظه سعود كواكبها، وأسمت له قدرا، وجعلت له إمرة وأمرا، وصرفته إلى نيابة معقل معدود من قلاع الممالك الإسلامية وحصونها، ومعاقلها الّتي علت محلّا فالجبال الشّمّ من دونها، قد أصبح شاهقا في مبناه، ممنّعا في مغناه، محصّنا برجاله، مصونا من ماضيين: السّيف في مضائه والعزم في احتفاله- اقتضى حسن الرأي الشريف أن نوقّله رتبة هذه النيابة، وننشر عليه من إحساننا سحابه.
فذلك رسم بالأمر الشريف- لا زال......... أن يستقرّ.........
فليحلّ هذه النيابة المباركة مظهرا من عزمه ما تحمد عواقبه، وتعلو مراقبه، وتسمو مراتبه، وتتوضّح سبله ومذاهبه، محصّنا لسرحه، معزّزا موادّ نجحه، مراعيا أحوال رجاله، المعدّين من حماته وأبطاله، حتّى يغدوا يقظين فيما يندبهم إليه ويستنهضهم فيه، مبادرين إلى كل ما يحفظ هذا الحصن ويحميه؛ ومن بهذا المعقل من الرّعية فليرفق بضعفائهم، وليعاملهم بما يستجلب لنا به صالح دعائهم؛ والوصايا كثيرة وملاكها التّقوى، فليتمسّك بها في السّرّ والنّجوى، وليغرسها في كل قول يبديه، وفعل يرتضيه، فإنّ غروسها لا تذوى. والله يوفّقه لصالح القول والعمل، ويصونه من الخطإ والخطل؛ والخطّ(12/173)
الشريف أعلاه، حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى، والحمد لله وحده.
قلت: وقد تقدّم أنّه لا يكتب عن السلطان مرسوم بنيابة في قطع العادة، لأنّ ذلك لا يكون إلا لجنديّ وهو دون، ومثل ذلك إنّما يكتب عن نوّاب الممالك.
الصنف الثاني (ممّا هو خارج عن حاضرة حلب- الوظائف الدّينية بمعاملتها: من القلاع وغيرها)
وهي في الغالب إنّما تصدر الكتابة فيها عن نائب حلب أيضا أو قاضيها، إن كان مرجع ذلك إليه. فإن صدر شيء منها عن الأبواب السّلطانية، كان في قطع العادة مفتتحا ب «رسم» .
وهذه نسخة توقيع من هذا النّمط ينسج على منواله، كتب به لقاضي قلعة المسلمين، وهي:
رسم بالأمر الشريف- لا زال عدله مؤيّدا للحكّام، ورأيه مسدّدا في النّقض والإبرام، وسلطانه يختار للمناصب الدّينية من نطقت بشكره ألسنة الأنام- أن يستقرّ في كذا: لما اشتهر عنه من علم ودين، وظهر من حسن سيرة اقتضت له التّعيين.
فليباشر هذه الوظيفة المباركة بالحقّ حاكما، وللرّفق ملازما، وللتّقوى مداوما؛ وهو غنيّ عن الإسهاب في الوصايا، مليّ بسلوك تقوى الله في القضايا؛ والله تعالى يزيده تأييدا، ويضاعف له بموادّ السعادة تجديدا؛ والعلامة الشريفة أعلاه، حجة بمقتضاه.
الصنف الثالث (مما هو خارج عن حاضرة حلب- الوظائف الدّيوانية)
وهي إنّما تصدر في الغالب أيضا عن نائب حلب. فإن كتب شيء منها عن الأبواب السلطانية، كان في قطع العادة مفتتحا ب «رسم بالأمر» .(12/174)
وهذه نسخة توقيع من ذلك، يستضاء به فيما يكتب من هذا النوع، كتب بها بنظر جعبر، من معاملة حلب، وهي:
رسم بالأمر الشّريف- لا زال منهلّ النّدى، مستهلّ الجدى «1» ، معيدا للإحسان كما بدا- أن يعاد فلان إلى وظيفته: لما ألفت من سيرة له لم تزل تحمد، وسيما خير منه على مثل الشّمس تشهد، ولأمانته الّتي لم تزل تفترّ بها الثّغور، وتخضرّ بها المعاهد: تارة في طوق النّحر وتارة في نحور البحور، وأصالة امتدّ ظلّها الظّليل، وعرف منها في العصر حسن الأصيل، وأينعت أكرم فرع زكا منبته «2» في الأرض المقدّسة وجوار الخليل، ولما أسلف في هذه المباشرة من عمل صالح، وسداد اعتماد لم يخرج عن تحرير تقرير وتقرير مصالح، وكتابة رآها الرّائي ونقلها النّاقل، وكفاية حفّت عيه مثل العروس المجلوّة من عقائل المعاقل.
فليباشر هذه العروس فقد أنقدها «3» سالف الخدم وأمهرها، وليثابر سقيا الغروس الّتي أنشأها في هذه الجهة وثمّرها، وليسلك مسلكه الّذي لم يزل مخيّما على رؤوس القنن، ومهوّما به طرف الأمن لليقظة الذي لا يلمّ به الوسن، مخوّلا في وظيفته المبرّات، مستقبلا للمسرّات، مفتخرا بمباشراته الّتي تجري مجاري البحار: تارة الملح الأجاج وتارة العذب الفرات؛ وهو أعرف بما يقدّمه من أمانة بها يتقدّم، وديانة يرجّب «4» بها استكفاؤه ويحكّم؛ وتقوى الله جماعها فليكن بها متمسّكا، وبمشاغلها متنسّكا؛ والله تعالى يجعل عطاءه موفّرا، وعمله متدفّقا ليردّ جعبرا جعفرا «5»(12/175)
النيابة الثالثة (نيابة طرابلس، ووظائفها الّتي جرت العادة بالكتابة فيها من الأبواب السّلطانية على نوعين)
النوع الأوّل (ما هو بحاضرة طرابلس، وهو على ثلاثة أصناف)
الصّنف الأوّل (أرباب السيوف، وهم على طبقتين)
الطبقة الأولى (من يكتب له تقليد)
وهو نائب السلطنة بها. ومرسومه في قطع الثّلثين، ولقبه «الجناب العالي» مع الدعاء بمضاعفة النعمة.
وهذه نسخة تقليد شريف بنيابتها:
الحمد لله الّذي جعل لنا التّأييد مددا، والنّصر عتادا لا نفقد مع وجوده من الأولياء أحدا، والعزّ وزرا تصمّ شهبه مسامع العدا: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً
«1» ، والفتح ذخرا فحيث ما نشاء مددنا إليه بقوّة الله يدا، وشددنا عليه بمعونته عضدا.
نحمده على نعمه الّتي جعلت مراتب دولتنا فلكا تشرق فيه رتب الأولياء إشراق البدور، وثغور ممالكنا أفقا حيثما شامته العدا ضرب بينهم وبينه من سيوف مهابتنا بسور، وفواتح الفتوح النّائية دانية من همم أصفيائنا فإذا يمّموا غرضا طارت إليه سهامهم بأجنحة النّسور، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا(12/176)
شريك له شهادة يرفع الجهاد علمها، وينصر الإيمان كلمها، ويزجي الإيقان إلى رياض التّأييد ديمها، ويستنطق التوحيد بإعلائها وإعلانها سيف أيّامنا الزاهرة وقلمها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الهادي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم، ونبيّه المخصوص بالآيات والذّكر الحكيم، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين نصروا الله فنصرهم، وأظهروا دينه فأعزّهم وأظهرهم، ويسّروا لأمّته سبل الهدى فهداهم وللسّبيل يسّرهم، صلاة لا يزال اليقين يقيم دعوتها، والتّوحيد يعصم من الانفصام عروتها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من تفترّ الثّغور بإيالته، عن شنب النّصر، وترمي الحصون بكفالته، من شام من العدا برقها بشرر كالقصر، وتقسّم السّواحل بمهابته، من جاور من أهل الكفر بحرها بين الحصد والحصر، وتمنع عزماته شواني «1» العدا أن تدّب عقاربها، أو تركب اللّجج بغير [أمانه] «2» مراكبها، أو ينتقل عن ظهر البحر إلى غير سيوفه أو قيوده محاربها- من لم يزل في نصرة الدّين لامعا كالبرق شهابه، زاخرا كالبحر عبابه، واصبا «3» على الشّرك عذابه، ظاميا إلى موارد الوريد سيفه، ساريا إلى قلوب أهل الكفر قبل جفونهم طيفه، قائمة مقام شرف الحصون أسنّة رماحه، غنّية بروج الثّغور عن تصفيحها بالجلمد بصفا صفاحه، مع خبرة بتقدمة الجيوش تضاعف إقدامها، وتثّبت في مواطن اللّقاء أقدامها، وتسدّد إلى مقاتل أهل الكفر سهامها، وتقرّب عليها في البرّ والبحر منالها وتبعد مراميها على من رامها، ومعدلة للرعايا السّكون في مهاد أمنها، والرّكون إلى ربا إقبالها ووهاد يمنها؛ فسرب الرعايا مصون بعدله، والعدل مكنون بين قوله وفعله.
ولما كان فلان هو اللّيث الّذي يحمى به غابه، والنّيّر الّذي يزهى أفق تألّق(12/177)
فيه شهابه، والهمام الّذي تعدي هممه فرسان الوغى فتعدّ آحادها بالألوف، والشّجاع الّذي إذا استعانت سواعد الشّجعان بسيوفها استعانت بقوّة سواعده السّيوف- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نحلّي به جيد مملكة انتظمت على وشام البحر، وأحاطت بما في ضميره من بلاد العدا إحاطة القلائد بالنّحر.
فرسم بالأمر الشريف لا زال......... أن يفوض إليه كيت وكيت:
لما أشير إليه من أسباب تعيّنه لهذه الرّتبة المكينة، وتحلّيه بما وصف من المحاسن الّتي تزهى بها عقائل الحصون المصونة.
فليل هذه النيابة الجليلة بعزمة تجمّل مواكبها، وهمّة تكمّل مراتبها، ومهابة تحوط ممالكها، وصرامة تؤمّن مسالكها، ومعدلة تعمّر ربوعها ورباعها، ويقظة تصون حصونها وقلاعها، وشجاعة تسري إلى العدا سرايا رعبها، وسطوة تعدي السّيوف فلا تستطيع الكماة الدّنوّ من قربها، وسمعة ترهب مجاوريه حتى يتخيّل البحر [أنه] «1» من أعوانه على حربها.
وليؤت تقدمة الجيوش الإسلامية حقّها من تدبير يجمع على الطاعة أمرها وأمراءها، ويرفع في مراتب الخدمة الشّريفة على ما يجب أعيانها وكبراءها، ويرهب بإدامة الاستعداد قلوب أعدائها، ويربط بأيزاكها «2» شوانيّ البحر حتّى تعتدّ الرباط في ذلك من الفروض الّتي يتعبد بأدائها؛ فلا يلوح قلع «3» في البحر للعدا إلا وهو يرهب الوقوع في حبالها، ولا تلحظ عين عدوّ سنا البرّ إلا وهي تتوقّع أن تكحل بنصالها؛ وليقم منار العدل بنشر لوائه، ويعضّد حكم الشّرع الشريف برجوعه إلى أوامره وانتهائه، وليكفّ يد الظّلم [عنها] «4» فلا تمتدّ إليها بنان، وليشفع العدل بالإحسان إلى الرعيّة فإن الله يأمر بالعدل والإحسان؛ وفي(12/178)
سيرته الّتي جعلته صفوة الاختيار، ونخبة ما أوضحته الحقيقة من الاختبار، ما يغني عن الوصيّة إلا على سبيل الذكرى الّتي تنفع المؤمنين، وترفع قدر الموقنين؛ وملاكها تقوى الله تعالى: فليجعلها أمام اعتماده، وإمام إصداره وإيراده؛ والله تعالى يديم موادّ تأييده وإسعاده، إن شاء الله تعالى.
الطبقة الثانية (من يكتب له مرسوم شريف في قطع الثّلث ب «المجلس السّامي» بغير ياء، وتشتمل على وظائف)
منها- شدّ الدّواوين بطرابلس.
وهذه نسخة توقيع بها:
الحمد لله مجدّد الرّتب لمن نهض فيها إخلاصه بما يجب، ومولي المنن لمن إذا اعتمد عليه من مهمّات الدّولة القاهرة في أمر عرف ما يأتي فيه وما يجتنب، ومؤكّد النّعم لمن إذا ارتيدت الأكفاء في الخدمة الشّريفة كان خيرة من يختار ونخبة من ينتخب.
نحمده على نعمه الّتي سرت إلى الأولياء عوارفها، واشتمل على الأصفياء وافر ظلالها ووارفها، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تزلف لديه، وتكون لقائلها ذخيرة يوم العرض عليه، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أشرف مبعوث إلى الأمم، وأكرم منعوت بالفضل والكرم، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين ولّوا أمر الأمّة فعدلوا، وسلكوا سنن سنّته فما مالوا عنها ولا عدلوا، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى ما اختير له من الأولياء كلّ ذي همّة عليه، وعزمة بمصالح ما يعدق به من مهمّات الدّولة القاهرة مليّة، وخبرة بكلّ ما يراد منها وفيّة، ويقظة تلحظ في كلّ ما قرب ونأى من المصالح الأمور الباطنة والأحوال الخفيّة، وصرامة تؤيس من استلانة جانبه، ونزاهة تؤمّن من إمالة رأيه في كلّ أمر عن سلوك واجبه، ومعرفة مطّلعة، ونهضة بكلّ ما إن حمّله من أعباء المهمّات(12/179)
الشّريفة مضطلعة- أمر الأموال الديوانية: فإنّها معادن الأرزاق، وموادّ مصالح الإسلام على الإطلاق، وخزائن الدّولة الّتي لو ملكتها الغمائم لأمسكت خشية الإنفاق، وذخائر الثّغور الّتي مواقعها من أعداء الدّين مواقع الشّجا في القلوب والقذى في الأحداق.
ولما كان المجلس السامي هو الّذي سمت به هممه، ورسخت في خدم الدّولة القاهرة قدمه، وتبارى في مصالح ما يعدق به من المهمّات الشّريفة سيفه وقلمه، وكانت المملكة الطّرابلسية من أشهر ممالكنا سمعة، وأيمنها بقعة، وأعمرها بلادا، وأخصبها ربا ووهادا، وأكثرها حصونا شواهق، وقلاعا سوامي سوامق، وثغورا لا تشيم ما افترّ من ثغورها البروق الخوافق، ولها الخواصّ الكثيرة، والجهات الغزيرة، والأموال الوافرة، والغلّات المتكاثفة المتكاثرة- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نرتاد لها من يسدّ خلل عطلها، ويشدّ عضد ميدها وميلها، وينهض من مصالحها بما يراد من مثله، ويعيد لها بحسن المباشرة بهجة من فقدته «1» من الأكفاء من قبله.
فلذلك رسم......... أن يفوّض إليه شدّ الدواوين المعمورة بالمملكة الطّرابلسيّة والحصون المحروسة، على عادة من تقدّمه في ذلك.
فليباشر ذلك بمعرفة تستخرج الأموال من معادنها، وتستثير كوامن المصالح من مكامنها، وتثمّر أموال كلّ معاملة بحسن الاطلاع عليها، وصرف وجه الاعتناء إليها، وتفقّد أحوال مباشريها، ومباشرة ما يتجدّد من وجوه الأموال فيها، وضبط ارتفاعها بعمل تقديره، وحفظ متحصّل ضياعها من ضياعه وصون بذارها عن تبذيره، وليجتهد في عمارة البلاد بالرّفق الّذي ما كان في شيء إلا زانه، والعدل الّذي ما اتّصف به ملك إلا صانه، والعفّة الّتي ما كانت في امريء إلّا وفقه الله تعالى في مقاصده وأعانه، وليقدّم تقوى الله بين يديه،(12/180)
ويعتمد على توفيقه فيما اعتمد فيه عليه، إن شاء الله تعالى.
قلت: وعلى ذلك يكتب شدّ مراكز البريد ونحوها.
الصنف الثاني (من الوظائف بطرابلس الّتي يكتب لأربابها من الأبواب السلطانية- الوظائف الدّينيّة، وهي على مرتبتين)
المرتبة الأولى (من يكتب له في قطع الثلث ب «المجلس الساميّ» بالياء، وتشتمل على وظائف)
منها: القضاء. وبها أربعة قضاة من المذاهب الأربعة: من كلّ مذهب قاض.
وهذه نسخة توقيع بقضاء قضاة الشّافعيّة بها، ينسج على منواله، وهي:
الحمد لله الّذي أعزّ الدّين بعلمائه، وعضّد الحكم بالمتّقين من أوليائه، وأوضح الرّشد للمقتدين بمن جعلهم في الهداية كنجوم سمائه، وجعل لكلّ من الأئمّة من مطالع الظهور أفقا يهتدى فيه بأنواره ويقتدى بأنوائه.
نحمده على أن جعل سهم اجتهادنا في الارتياد للأحكام مصيبا، وقسم لكلّ من أفقي ممالكنا من بركة علماء قسيمه الآخر نصيبا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تعصم من الهوى في الحكم لعباده، وتفصم العرا ممن جاهر فيها بعناده، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أضاءت أنوار ملّته، فاستشفّ العلماء لوامعها، ووضحت آثار سنّته، فأحرز أئمّة الأمّة جوامعها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين دعوا إلى الله فأجابوا، ودعوا إلى الحكم بسنّته فأصابوا، صلاة لا تزال الألسن تقيمها، والإخلاص يديمها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى ما أدّى فيه الاجتهاد جهده، وبلغ فيه الارتياد حدّه؛(12/181)
واستضيء فيه بنور التّوفيق، واستصحب فيه من استخارة الله خير رفيق- أمر الحكم العزيز وتفويضه إلى من وسّع الله تعالى مجال علمه، وسدّد مناط حكمه، وطهّر مرام قلبه، ونوّر بصره في الحكم وبصيرته فأصبح فيهما على بيّنة من ربّه، فأجرى الحق في البحث والفتيا على لسانه ويمينه، ونزّهه عن إرادة العلم لغير وجهه الكريم، ونبّهه على ابتغاء ما عند الله بذلك والله عنده أجر عظيم.
ولما خلا منصب قضاء القضاة بطرابلس المحروسة على مذهب الإمام الشافعيّ رضي الله عنه: وهو المنصب الّذي يضيء بالأئمة الأعلام أفقه، وتلتقي بالفضلاء الكرام طرقه، وتحتوي على أرباب الفنون المتعدّدة مجالسه، وتزكو بالفوائد المختلفة مغارسه، وكان فلان هو الّذي أشير إلى خصائص فضله، ونبّه على أنّ الاجتهاد للأمّة أفضى إلى إسناد الحكم منه إلى أهله، وأنّه واحد زمانه، وعلّامة أوانه، وجامع الفضائل على اختلافها، وقامع البدع على افتراق شبهها منه وأتلافها، وحاوي الفروع الّتي لا تتناهى، والمربي على ربّ كلّ فضيلة لا يعرف غيرها ولا يألف سواها- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نجزم من ارتياده لهذه الرتبة بهذا الرّأي [السديد] «1» ، وأن نقرّب سراه إلى هذا المنصب الذي ناداه بلسان الرّغبة من مكان بعيد.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف- لا زال إحسانه كالبدر، يملأ المشارق والمغارب، وبرّه كالبحر، يقذف للقريب الجواهر ويبعث للبعيد السّحائب- أن يفوّض إليه كذا.
فليطلع بذلك الأفق الّذي يترقّب طلوعه رقبة أهلّة المواسم، ويسرع إلى تلك الرّتبة الّتي تكاد تستطلع أنباءه من الرياح النّواسم، وينشر بها فرائده الّتي هي أحقّ أن تطوى إليها المراحل «2» ، ويقدم بها على الأسماع الظّامية لعذب(12/182)
فوائده قدوم الغمام على الرّوض الماحل، ويل هذا المنصب الّذي هو فيه بين عدل ينشره، وحقّ يظهره، وباطل يزهقه، وغالب يرهقه، ومظلوم ينصره.
وليكن أمر أموال الأيتام المهمّ المقدّم لديه، وحديث أوقاف البرّ من أوّل وأولى ما يصرف فكره الجميل إليه، ويتعاهد كشف ذلك بنفسه، ولا يكتفي في علمه فعل اليوم باطّلاعه [على أمره] «1» في أمسه؛ وهو يعلم أنّ الله يجعله بذلك مشاركا للواقفين في الأجر المختصّ بهم والشّكر المنسوب إليهم، خارجا من العهدة في أمر اليتامى باستعمال الذين يخشون لو تركوا من خلفهم ذرّيّة ضعافا خافوا عليهم؛ وليقم منار الحق على ما يجب وإن سرّ قوما وساء قوما، ويقم بالعدل على ما شرع: فإنّ «عدل يوم خير للأرض من أن تمطر أربعين يوما» .
وأمّا ما عدا ذلك من أحوال الحكم وعوائده، وآداب القضاء وقواعده، فكلّ ذلك من خصائصه يستفاد، ومن معارفه يستزاد؛ وملاك ذلك كلّه تقوى الله وهي من أطهر حلاه الحسنة، وأشرف صفاته الّتي تتداولها الألسنة؛ فليجعلها وسيلة تسديده في القول والعمل، وذخيرة آخرته التي ليس له في غيرها أمل، ويقلد العلى فيما حدّثته من أسباب نقلته فإن كمال العزّ في النقل؛ والله تعالى يمدّه بموادّ تأييده وقد فعل، ويجعله من أوليائه المتّقين وقد جعل، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
قلت: وعلى ذلك تكتب تواقيع القضاة الثلاثة الباقين.
ومنها: وكالة بيت المال.
وهذه نسخة توقيع من ذلك، وهي:
الحمد لله الّذي عمر بيت مال المسلمين بسداد وكيله، ونموّ تحصيله(12/183)
ومزيد تمويله، وتمسّكه بالصّدق من قيله، وسلوكه ما تبيّن [من] «1» سبيله، واعتماده الحق في دليله؛ ودفعه المضارّ وجلبه المسارّ بتخويله.
نحمده على برّه وتفضيله، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له إله تنزّه عن ندّه ومثيله، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي بعثه الله لتمام هذا الدّين وتكميله، وأنزل عليه المعجزات في تنزيله، وحفظ به الذّكر الحكيم من تبديله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وقبيله، وسلّم تسليما.
وبعد، فإن بيت المال المعمور هو نظام الإسلام، وذخر الأنام، وفيه محصول المسلمين تحت نظر الإمام، وفيه مادّة المجاهدين في سبيل الله على تطاول الأيّام، وإليه تجبى القناطير المقنطرة من الأموال، وعنه تصدر المبيعات من الأملاك ما بين أراض وأبنية ومحال. والوكيل على ذلك عنّا بالمملكة الطّرابلسيّة المحروسة هو الذّابّ عن حوزته، القائم بتأمين روعته، المجتهد في تمييز رجعته؛ وينبغي أن يكون من العلماء الأعلام الأئمّة، المعوّل عليهم في الأمور المهمّة، البصير بما يترجح به جانب بيت المال المعمور ويكشف كلّ غمّه، العريق في السّيادة الّتي انقادت إليها السجايا الجميلة بالأزمّة.
ولما كان فلان هو الرّاقي هضبة [هذه] «2» المآثر، الطّالع كوكب مجده السّافر، المستحقّ لكلّ ارتقاء على المنابر، ويعدّ سلفا كريما نصيرا في المفاخر، ويمّتّ ببيت بحره زاخر؛ وله في مذهب الإمام الشافعيّ رضي الله عنه بحث فاق به الأشباه والنظائر، وعنده علم بالمسائل المضروب مثلها السّائر- فلذلك رسم............
فليباشر هذه الوظيفة محترزا في كلّ ما يأتيه ويذره، ويقصده ويحرّره، ويورده ويصدره، ويبيّنه ويقدّره، ويخفيه ويظهره، ويبديه ويستره، ويدنيه ويحضره، ويقرّر جانب بيت المال المعمور، بما فيه الحظّ الموفور، والغبطة في(12/184)
كلّ الأمور؛ وهو عالم بما فيه صلاح الجمهور؛ ومن رغب في ابتياع أراض وقراح «1» ، وأبنية وأملاك ورحاب فساح؛ مما هو جار في ملك بيت المال فليوفّر جانب القيمة على ما فيه الصّلاح، وهو بحمد الله من بيت الدّين والصّلاح والإصلاح، وهو يقوي بإسناده الأحاديث الصّحاح؛ ومن له حقّ في بيت المال فليسمع دعوى مدّعيه، ولا يصرف درهما ولا شيئا إلا بحقّ واضح فيما يثبته فيه، وهو وكيل مأمون في تأتّيه، ومعنى الوكيل الّذي يوكل إليه الأمر الذي يليه.
والوصايا كثيرة وأجلّها تقوى الله بالسّمع والبصر واللسان؛ فمن تمسّك بها من إنسان فإنّه يفوز بالإحسان؛ وهو غنيّ عن الوصايا بما فيه من البيان؛ والله يجعله في كلاءة الرّحمن، بمنّه وكرمه!. والخطّ الشريف أعلاه......، إن شاء الله تعالى.
قلت: وقد يكتب لوكالة بيت المال ونحوها بالافتتاح ب «أمّا بعد» على قاعدة أصل الكتابة في قطع الثلث. والكاتب في ذلك على ما يراه بحسب ما يقتضيه الحال.
المرتبة الثانية (من تواقيع أرباب الوظائف الدينية بطرابلس- من يكتب له في قطع العادة، مفتتحا ب «- رسم» )
وهذه نسخة توقيع من هذه الرتبة بوظيفة قراءة الحديث النّبويّ، على قائله أفضل الصلاة والسلام، لمن اسمه «يحيى» يستضاء به في ذلك، وهي:
رسم بالأمر الشريف- لا زال رميم الفضل بأرواح عنايته يحيا، وأحاديث مننه الحسان تعيها أذن واعية من طيب السّماع لا تعيا، ولا برحت أولياء خدمه تثني على صدقاته بألسنة الأقلام، وتدير «2» على الأسماع من رحيقها كؤوسا(12/185)
مسكيّة الختام- أن يستقرّ في كذا استقرارا ترشف الأسماع، كؤوس روايتها فلا تروى، ورتب كماله يقصر عن طلوعها كلّ باع، فمناواته لا تنوى، وربوع معروفه لا تبيد، وآيات صلاته ينطق بتلاوتها كلّ بليغ فيبديء ويعيد، لأنّه العالم الذي أحيا من مدارس العلوم ما درس، والفاضل الّذي أضاء ببصر علومه ليل الجهل ولا غرو: «فطرّة الصّبح تمحي آية الغلس» ، والكامل الّذي لا يشوب كماله نقيصة، والأمثل الّذي أتته المعالي رخيصة، والإمام الّذي تأتمّ وراءه الأفاضل، وتأخّر عصره ففاق الأوائل؛ ما درّس إلا وجمع من فوائد «أبي حنيفة» و «ابن إدريس» ، ولا عرّس بليل الطّلب إلّا حمد عند إدراك طلبه ذلك التّعريس، ولا أعاد الدّروس للطّلبة إلا وترشّحت منه بالفوائد، ولا جمع ما فصّله العلماء إلا وأتى بالجمع الّذي لا نظير له في الفرائد.
فليباشر هذه الوظيفة مباشرة أنوار هداها لا تخمد، وليلازمها ملازمة تشكره عليها الألسنة وتحمد؛ وأنت- أدام الله تعالى فوائدك- لا تحتاج إلى الوصايا إذ أنت بها عالم، وبأسبابها متمسّك وبالقيام بها يقظ غير نائم؛ لكن التقوى [أولى] «1» بمن عرف الأمور، ولباس سوابغها يبعد كلّ محذور؛ والاعتماد على الخطّ الشريف أعلاه.
الصنف الثالث (من الوظائف بطرابلس الّتي يكتب لأربابها من الأبواب السلطانية- الوظائف الدّيوانية، وهي على مرتبتين)
المرتبة الأولى (ما يكتب في قطع الثلث ب «المجلس الساميّ» بالياء، وتشتمل على وظائف)
منها: كتابة السّرّ، ويعبّر عنه في ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية(12/186)
ب «- صاحب ديوان المكاتبات» «1» وهذه نسخة توقيع من ذلك، وهي:
الحمد لله الّذي جعل الأسرار عند الأحرار، وطوى الصّحف على حسنات الأبرار، وأجرى الأقلام ترجمانا للأفكار، وجعل الحفظة يكتبون الأعمال مع تطاول الأعمار، آناء اللّيل وأطراف النّهار، وبسط المعاني أرواحا، والألفاظ لها أشباحا، مع التّكرار، وأبهج الصدور بصدور الكتب والإيراد والإصدار.
نحمده على فضله المدرار، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة إقرار، وعمل بالجوارح بلا إنكار، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله المصطفى من مضر بن نزار، المخصوص بالمهاجرين والأنصار، الثّاوي بأشرف بقعة تزار، المشرّف كتّاب الوحي: فهم يكتبون بما يمليه عليهم المختار، وجبريل يلقي على قلبه الآيات والأذكار، عن ربّ العزة المسبل الأستار، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه ما نفح روض معطار، وسحّ صوب أمطار، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ ملاك الملك الشّريف حفظ سرّه، والاحتفال بكتبه الشّريفة ولفظها ودرّه، وخطابها ونثره، وخطها ونشره، وختمها وعطره، وتجهيزها مع(12/187)
الأمناء الثّقات الذين تؤمن غائلة أحدهم في كلّ أمره؛ وما ألقي السّرّ الشريف إلّا لأكمل الأعيان، وصدر الزّمان، وبليغ كسحبان، وفصيح كقسّ في هذا الزمان، وأصيل في الأنساب، وعريق في كرم الأحساب، وفاضل يعنو له فاضل بيسان «1» ، وينشي لفظه الدّر والمرجان، وكاتب السّرّ فلا يفوه بلسان.
ولمّا كان فلان هو واسطة عقد الأفاضل، ورأس الرّؤساء الأماثل، وحافظ السّرّ في السّويداء من قلبه، وناظم الدّرّ في سطور كتبه، والمورد على مسامعنا الشريفة من عبارته ألفاظا عذابا، القائل صوابا، والمجيد خطابا، وإذا جهّز مهمّا شريفا راعاه بعينه عودا وذهابا، وإذا استعطف القلوب النافرة عادت الأعداء أحبابا، وإذا أرعد وأبرق على مأزق أغنى عن الجيوش وأبدى عجبا عجابا، وإذا كتب أنبت في القرطاس رياضا خصابا.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف أن يفوّض إليه كذا. فليحلّ هذا المنصب الشّريف حلول القمر هالته، وليعد إليه أيّام سرّه وسروره الفائتة، وليعرب عن أصول ثابتة، وفروع في منابت الخير نابتة، ولينفّذ المهمات الشّريفة أوّلا فأوّلا من غير أن يعدق مهمّا بغيره أو يبيّته إلى غده، وليحرّر البريد المنصور بيديه غير معتمد فيه على غير رشده، ولا يغب عن وظيفته طرفة عين بل يكون كالنّجم في رصده لمرتصده، وليوص كتّاب الإنشاء لديه، والمتصرّفين بين يديه، بكتم السّرّ فإن ذلك إليه؛ فإذا أفشى أحد من السّرّ كلمة، فليزجره وليأمره أن يحفظ لسانه وقلمه، وليعط كلّ قضيّة ما تستحقها من تنفيذ كلمة؛ والابتداءات والأجوبة فلتكن ثغورها بألفاظه متشنّبة «2» وعقودها بإملائه منتظمة؛ فأمّا الابتداء فهو على اقتراحه، وأمّا الجواب فهو على ما يقتضيه الكتاب الوارد باصطلاحه؛ ولا يملي إلا إلى ثقاته ونصّاحه؛ والكتب الملوكية فليوفّها مقاصدها، وليراع عوائدها؛(12/188)
والتّقوى فهي الهامّ [من] «1» أمره، وختام عطره، وتمام بدره؛ والوصايا فهي كثيرة لديه وفي صدره؛ والله تعالى يكمّل به أوقات عصره، بمنّه وكرمه! والخطّ الشّريف أعلاه.......
ومنها: نظر المملكة، القائمة بها مقام الوزارة.
وهذه نسخة توقيع من ذلك، وهي:
الحمد لله مفيض حلل إنعامنا على من أخلص في طاعتنا الشّريفة قلبه ولسانه، ومولي فضل آلائنا العميمة على من أرهف في مصالحها آلة عزمه وبنانه، ومحلّي رتب عليائنا الشّريفة بمن أشرق في سماء المعالي بدره وإنسانه، وأينعت في غصون الأمان قطوفه وأفنانه.
نحمده حمدا يبلغ [به] «2» أقصى غاية المجد من تبتسم بجميل نظره الثّغور، وتعتصم بحميد خبره وخبرته الأمور، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تشرق بها البدور، ويعتمد عليها في الأيّام والدّهور، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الهادي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم، والنّاشر لواء العدل بسننه الواضح وشرعه القويم، وعلى آله وصحبه الذين اهتدى بهديهم ذوو البصائر والأبصار، وارتدى بأرديتهم المعلمة مقتفي الآثار من النّظار، وسلّم تسليما.
وبعد، فإنّ أولى من أسندنا إلى نظره الجميل رتبة عزّ ما زالت بنو الآمال عليها تحوم، وعدقنا بتدبيره الجميل منصب سيادة ما برحت الأمانيّ له تروم، واعتمدنا على هممه العليّة فصدّق الخبر الخبر، وركنّا إلى حميد رأيه فشهد السّمع له وأدّى النّظر.
ولما كان فلان هو الّذي رقى في ذروة هذه المعالي، وانتظم به عقد هذه اللّآلي، وحوى بفضيلة البيان واللّسان ما لم تدركه المرهفات والعوالي؛ فما حلّ(12/189)
ذروة عزّ إلّا حلّاها بنظره الجميل، ولا رقى رتبة سيادة إلا وأسفر في ذروتها وجه صبحه الجميل، ولا عدق بنظره كفالة رتبة إلا وكان لها خير كفيل.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف- لا زال ينتصي «1» للرّتب العليّة خير منجد ومغير، ويختار للمناصب السّنيّة نعم المولى ونعم النّصير- أن يفوّض إليه كذا فإنّه القويّ الأمين، والمتمسك من تقوى الله تعالى وكفايته بالسّبب المتين، والمستند بجميل كفالته وحميد ديانته إلى حصن حصين، والمستذري بأصالته الطّاهرة وإصابته إلى الجنّة الواقية والحرم الأمين.
فليقدّم خيرة الله تعالى ويباشر الجهة المذكورة بعزم لا ينبو، وهمّة لا تخبو، وتدبير يتضاعف على ممرّ الأيّام ويربو، ونظر لا يعزب عن مباشرته مثقال ذرّة إلا وهي من خاطره في قرار مكين، وضبط لا تمتدّ إليه يد ملتمس إلا ويجد من مرهفه ما يكفّ كفّها بالحدّ المتين، وليضاعف همّته، في مصالح هذه الجهة التي عدقناها بنظره السعيد، وليوفّر عزمته، فإنّ الحازم من ألقى السّمع وهو شهيد؛ والوصايا كثيرة ومثله لا يدلّ عليها، والتّنبيهات واضحة وهو- وفقه الله تعالى- أهدى من أن يرشد إليها؛ والله يوفّقه في القول والعمل، ويصلح بجميل تدبيره وحميد تأثيله كلّ خلل؛ والاعتماد على الخطّ الشريف، إن شاء الله تعالى.
ومنها- نظر الجيش بها:
وهذه نسخة توقيع بها لمن لقبه «شمس الدّين» وهي:
الحمد لله الّذي أطلع في سماء المعالي شمسا منيرة، وأينع غروس أولي الصدارة بعهاد سحب عوارفه الغزيرة، وأبدع الاحسان إلى من قدّمه الاختبار والاختيار على بصيرة.(12/190)
نحمده على نعمه الّتي عم فضلها، ومدّ على أولياء الدولة القاهرة ظلّها، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تزلف لديه، وتسلف ما يجده المتمسّك بها يوم العرض عليه، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أشرف من بعث إلى الأمم كافّة، وأكرم من غدت أملاك النّصر آيته حافّة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين حازوا بصحبته الشّرف، وفازوا بطاعة الله وطاعته من الجنان بغرف من فوقها غرف.
وبعد، فإنّ أولى ما عدق بالأكفاء، وأحقّ ما صرف إليه وجه الاعتناء، وأجدر ما أوقظ له طرف كاف لا يلمّ بالإغفاء- أمر الجيوش المنصورة بطرابلس المحروسة الّتي لا ينهض بأعباء مصالحها إلا من عرف بالسّداد في قلمه وكلمه، وألف منه حسن التصرّف فيما يبديه من نزاهته ويظهره من هممه، بخبرة مؤكّدة، وآراء مسدّدة، ومعرفة أوضاع ترتيبها وأحوالها، وقواعد مقدّميها وأبطالها، وكفاية تفتح رحاب حالها.
ولما كان فلان هو الصّدر المليّ بوافي الضّبط ووافر الاهتمام، والكافي الذي نطقت بكفايته ألسنة الخرصان «1» وأفواه الأقلام، والضّابط الّذي لا يعجز فهمه عن إحاطة العلم بذوي الآلام.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف- لا زال يقدم للمراتب، كافيا مشكورا، ويرشّح للمناصب، صدرا أضحى بالأمانة مشهورا- أن يفوّض إليه كذا: لأنّه الصّدر الّذي تزاحمت ألسنة الثّناء عليه، وترادفت بين أيدينا محامده فقرّرنا العوارف لديه، وشكرت عندنا هممه في سداد كلّ ما يباشره، وذكرت لدينا بالخير سيرته وسرائره.
فليباشر هذه الوظيفة الجليلة متحلّيا بين الأنام بعقودها، مطلعا شمس نزاهته في فلك سعودها، ناهضا بأعباء منصبه السعيد، ضابطا قواعده بكلّ(12/191)
تحرير تليد، متقنا ديوان الجيوش المنصورة، معملا في ملاحظتها نافذ البصر وحسنى البصيرة، محرّرا أوراق العدّة والعدّة، باذلا في ضبط الحلّى اهتمامه وجهده؛ والله تعالى يسعد جدّه، ويجدّد سعده؛ والخطّ الشريف أعلاه ...
... إن شاء الله تعالى.
قلت: وربّما كتب مفتتحا في هذه الرتبة ب «أمّا بعد» فإنها أصل ما يكتب في قطع الثلث.
المرتبة الثانية (من مراتب أرباب الوظائف الديوانية بطرابلس- من يكتب له في قطع العادة ب «- مجلس القاضي» )
وهو قليل الوقوع. والغالب في ذلك أن يكتب عن نائب السلطنة بها.
وهذه نسخة توقيع من هذه الرتبة بكتابة الدّست بطرابلس، يقاس عليه ما عداه من ذلك، وهي:
رسم بالأمر الشّريف- لا زال أمره الشريف، يزيد من يصطفيه شرفا، وبرّه المنيف، يفيد من يجتبيه تحفا، وخيره المطيف، يجيد لمن يختاره جودا، ويسرّ قلب من رفعه إلى صدر الدّست صعودا، فيبوّئه من جنّات العلياء غرفا- أن يستقرّ في كذا: استقرارا تجتنى منه ثمار الخيرات، وتجلى عليه عروس المسرّات، لأنّه الرئيس الّذي تفتخر هذه الوظيفة بانتسابها إليه، وتتجمّل حللها وألويتها إذا نشرت عليه، والفاضل الّذي ألقت إليه البلاغة زمامها، والكامل الذي ملك بيانها ونظامها، والأديب الّذي لا يدرك في الآداب، واللّبيب الّذي يقصر عنه طول عامّة الطّلّاب؛ كم له من كتابة حسنة الاتّساق، وبلاغة حصل على فضلها الاتّفاق، وديانة أطلق فيها لسانه ويده فشكرها الناس على الإطلاق؛ فهو مستند الرآسة، وابن من حاز كلّ فخار وراسه، والعلم المشهور علمه، وصاحب القلم المشكور رقمه؛ فالمناصب بارتفاعه إليها مفتخرة، والمراتب بعلائه مستبشرة، والأسماع بفضائله مشنّفة، والأسجاع بكلمه مشرّفة.(12/192)
فليباشر هذه الوظيفة، وليسلك فيها طريق نفسه العفيفة، وليدبّج القصص بأقلامه، وليبهج التّواقيع بما يوقّع مبرم فصيح كلامه، وليزيّن الطّروس، بكتابته، ولينعش النّفوس، ببلاغته، وليجمّل من المباشرة ما تصبح منه مطالع شرفه منيرة، وتمسي به عين محبّه قريرة؛ والوصايا فهو خطيب منبرها، ولبيب موردها ومصدرها، والتّقوى فليلازم فيها شعاره، وليداوم بها على ما يبلغ به أوطاره؛ والله تعالى يجعل سعوده كلّ يوم في ازدياد، ويسهل له ما يرفع ذكره بين العباد، بمّنه وكرمه!. والاعتماد في ذلك على الخطّ الشريف أعلاه، إن شاء الله تعالى.
النوع الثاني (من الوظائف بطرابلس- ما هو خارج عن حاضرتها، وهم على ثلاثة أصناف أيضا)
الصّنف الأوّل (أرباب السيوف)
وقد تقدّم أنّه ليس بها مقدّم ألف سوى نائب السّلطنة بها، وحينئذ فالنيابات بمعاملتها على طبقتين:
الطبقة الأولى (الطّبلخاناه)
ومراسيمهم تكتب في قطع الثلث ب «السّاميّ» بالياء، مفتتحة ب «الحمد لله» .
وهذه نسخة مرسوم شريف من ذلك بنيابة قلعة، تصلح لنائب اللّاذقيّة، ينسج على منوالها، وهي:
الحمد لله الّذي جعل الحصون الإسلاميّة في أيّامنا الزّاهرة، مصفّحة بالصّفاح، والثّغور المصونة في دولتنا القاهرة، مشرّفة بأسنّة الرّماح، والمعاقل(12/193)
المحروسة مخصوصة من أوليائنا بمن يعدّ بأسه لها أوقى الجنن وذبّه عنها أقوى السّلاح.
نحمده على نعمه الّتي عوارفها عميمة، وطوارفها كالتّالدة للمزيد مستديمة، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تنطق الضمائر قبل الألسنة بإخلاصها، وتشرق القلوب بعموم إحاطتها بها واختصاصها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أشرقت بنور ملّته الظّلم، وارتوت بفور شريعته الأمم، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين امتطوا إلى جهاد أعداء الله وأعدائه غارب الهمم، صلاة سارية كالرّياح هامية كالدّيم، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى ما عقد عليه في صيانة الحصون الخناصر، واعتمد على مثله في كفاية المعاقل إذا لم يكن غير تأييد الله وحدّ السّيف ناصر- من هو في حفظ ما يليه كالصّدور الّتي تصون الأسرار، والكمائم التي تحوط الثّمار، مع اليقظة الّتي تذود الطّيف أن يلمّ بحماة حماه، والفطنة الّتي تصدّ الفكر أن يتخيّل فيه ما اشتمل عليه وحواه، والأمانة الّتي ينوي فيها طاعة الله وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وطاعتنا الشريفة ولكلّ امريء ما نواه.
ولما كان فلان هو السيف الّذي تروق تجربته ويروع تجريده، وإذا ورد في الوغى منهل حرب فمشرعه من كلّ كميّ وريده- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نرهف حدّه بحفظ أسنى الحصون عندنا مكانا ومكانة، وأسمى المعاقل رفعة وعزة وصيانة.
فرسم بالأمر الشّريف أن تفوّض إليه النيابة بقلعة كذا.
فليباشر هذه النّيابة السّامي قدرها، الكامل في أفق الرّتب بدرها، مباشرة تصدّ الأفكار، عن توهّمها، والأبصار، عن توسّمها، والخواطر، عن تخيّل مغناها، والسّرائر، عن تمثّل صورتها ومعناها.
وليكن لمصالحها متلمّحا، ولنجوى رجالها متصفّحا، ولأعذار حماتها مزيحا، وللخواطر من أسباب كفايتها مريحا، ولمواطنها عامرا، وبما قلّ وجلّ(12/194)
من مصالحها آمرا، ولوظائفها مقيما، وللنّظر في الكبير والصغير من أمورها مديما، ولخدمتها مضاعفا، ولكلّ ما يتعين الاحتفال به من مهمّاتها واقفا، وملاك الوصايا تقوى الله: وهي أوّل ما يقدّمه بين يديه، وأولى ما ينبغي أن يصرف نظره إليه؛ فليجعل ذلك خلق نفسه، ومزيّة يومه على أمسه، والخير يكون، والخط الشريف أعلاه، إن شاء الله تعالى.
الطبقة الثانية (العشرات)
ومراسيمهم إن كتبت من الأبواب السّلطانية ففي قطع الثلث ب «السامي» بغير ياء، مفتتحة ب «أمّا بعد» إلا أنّ الغالب كتابتها عن نائب السّلطنة.
وهذه نسخة مرسوم شريف بنيابة قلعة بلاطنس «1» ، من معاملتها وهي:
أمّا بعد حمد الله على نعم توالى رفدها، ووجب شكرها وحمدها، وعذب لذوي الآمال وردها، والصّلاة والسلام على سيدنا محمد الّذي رفع به لقريش مجدها، فعلا جدّها «2» ، وعلى آله وصحبه صلاة لا يحصى عددها ولا يحصر حدّها- فإنّه لمّا كان فلان من قدمت تقادم خدمه، وتعالى به إلى العلياء سامي هممه، وترفّع به حسن ولائه حتّى أعلت الدولة من شأنه ورفعت من علمه، واستكفته لمصون الحصون، وجادت عليه بصوب إحسان روّى الأمانيّ فأضحت نضرة الغصون؛ وكانت قلعة فلانة هي القلعة الّتي شمخت بأنفها على القلاع علوّا، وسامت الجوزاء سموّا، فوجب أن لا يستحفظ عليها وفيها، إلّا من عرف بحسن المحافظة وتوفّيها؛ وكان المشار إليه هو عين هذه الأوصاف، والوارد من حسن الطاعة المورد الصّاف- اقتضى حسن الرأي الشّريف أن ننوّه بذكره، ونرفع من قدره.(12/195)
ولذلك رسم......- لا زال...... أن تفوّض إليه النيابة بهذه القلعة المحروسة، وأن تكون بأوانس صفاته مأنوسة.
فليكن فيما استحفظ كفوا، وليورد الرّعيّة من حسن السّيرة صفوا، وإذا تعارض حكم الانتقام وكان الذنب دون الحدّ فليقدّم عفوا. وعليه بالعدل، فإنّه زمام الفصل، والقلعة ورجالها، وذخائرها وأموالها، فليمعن النظر في ذلك بكرة وأصيلا، وإجمالا وتفصيلا، وتحصينا وتحصيلا. وعليه بالتّمسّك بالشّريعة المطهّرة، وأحكامها المحرّرة؛ وليردع أهل الفساد، ويقابل من ظهر منه العناد، بما يؤمّن المناهج، ويجدّد المباهج، والوصايا كثيرة، فليكن ممّا ذكر على بصيرة؛ أعانه الله على ما أولاه، ورعاه فيما استرعاه؛ والخطّ الشريف أعلاه، حجّة بمقتضاه، والخير يكون إن شاء الله تعالى.
الصنف الثاني (ممّا هو خارج عن حاضرة طرابلس- الوظائف الدّينية)
والغالب كتابتها عن نائب السلطنة بطرابلس. فإن كتب شيء منها عن الأبواب السلطانية، كان في قطع العادة «بمجلس القاضي» مفتتحا ب «رسم» .
وهذه نسخة توقيع من ذلك بنظر وقف على جامع بمعاملة طرابلس، كتب به لمن لقبه «زين الدّين» وهي:
رسم بالأمر الشّريف- لا زال كريم نظره يستنيب عنه بمصالح بيوت الله تعالى من تزداد بنظره شرفا وزينا، ويعيّن لها من الأعيان من تسرّ به خاطرا وتقرّ به عينا، ويمنحها من إذا باراه مبار وجد بينهما بونا وبينا، ويقرّر لها كلّ كاف إذا فاه راء بوصف آرائه الملموحة عيّن صوابها ولا يجد عليها عينا- أن يستقرّ بالنّظر على كذا: استقرارا يرى الوقف بنظره على ربعه طلاوة، ويجد بمباشرته في صحنه حلاوة، ويعرب عن استمراره على حسن الثّناء، ويجد من نيل ريعه أكمل وفاء، لأنّه الناظر الّذي لا يملّ إنسانه، من حسن النّظر، ولا يكلّ لسانه، عن الأمر بالمصالح ولفظه عن إلقاء الدّرر، والشّريف الّذي وجدت مخايل شرفه(12/196)
من فضل خلاله، والجواد الحائز بجوده قصب السّبق على أمثاله، والكامل الّذي لا توجد في صفاته نقيصة، والفاضل الّذي أتته الفضائل على رغمها رخيصة.
فليباشر هذا النّظر مباشرة تكحل ناظره فيها بالوسن، وليقابلها من جميل سلوكه بكل وجه حسن، وليبدأ أوقاف الجامع المذكور بالعمارة، وليقطع بمدية أمانته يد من يشنّ على ماله الغارة، وليأمر أرباب وظائفه باللّزوم، وليخصّ كلّا منهم من فضله بالعموم، وليتّق الله تعالى في القول والعمل، وليجتهد على أن لا يتخلّل مباشرته الخلل؛ والاعتماد على الخطّ الشّريف أعلاه.......
الصنف الثالث (مما هو خارج عن حاضرة طرابلس- أرباب الوظائف الدّيوانية)
وقل أن يكتب فيها شيء عن الأبواب الشّريفة السّلطانية، وأنّ الغالب كتابة ما يكتب فيها من نائب السّلطنة بطرابلس. فإن اتّفق كتابة شيء من ذلك عن الأبواب السلطانية، مشى الكاتب فيه على نهج ما تقدّم في الوظائف الدّينية: من كتابته في قطع العادة ب «مجلس القاضي» مفتتحا ب «- رسم» لا يختلف الحال منه في ذلك إلّا في الفرق بين التّعلّقات الدّينية والدّيوانيّة. والكاتب الماهر يصرّف قلمه في ذلك وفي كلّ ما يحدث من غيره على وفق ما تقتضيه الحال، وبالله المستعان.
النيابة الرابعة (نيابة حماة. ووظائفها الّتي تكتب بها من الأبواب السلطانية، ما بحاضرتها خاصّة؛ وهي على ثلاثة «1» أصناف)
الصنف الأوّل (أرباب السيوف)
وليس بها منهم إلّا نائب السلطنة خاصّة. ويكتب له تقليد في قطع الثلثين(12/197)
ب «الجناب العالي» مع الدعاء بمضاعفة النّعمة.
وهذه نسخة تقليد بنيابة حماة:
الحمد لله ذي التّدبير اللّطيف، والعون المطيف، والحياطة الّتي تستوعب كلّ تصريف وكلّ تكليف.
نحمده بمحامد جميلة التّفويف، حسنة التّأليف، مكمّلة التّكييف، بريّة من التّطفيف، حرية بكل شكر منيف، وذكر شريف، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة خلص تحريرها عن كلّ تحريف، وتنزّه مقالها عن تسويد تفنيد أو تسويف، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله صاحب الدّين الحنيف، والمبعوث بالرّحمة والتّخفيف، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة متناوبة تناوب الصّرير والصّريف «1» ، والشّتاء والمصيف، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ من شيم الدّولة وسجاياها، وأحكامها وقضاياها، تقديم الأهمّ فالأهمّ، وتحتيم الاتمّ من الرّأي وتحكيم التّدبير الأعمّ، وفعل كلّ ما يحوط الممالك ويحفظها، ويذكي العيون لملاحظتها ويوقظها: لما أوجبه الله من حقوقها، وحظره من عقوقها؛ ولا يكون ذلك إلا باختيار الأولياء لضبطها، والتّعويل على الأملياء بالقيام بشرطها، والاستناد من الزّعماء إلى من يوفّي من الخرّاجة «2» والعيون وافي قسطها.
ولما كانت المملكة الحمويّة جديرة بالالتفات، حقيقة بالحياطة من جميع الجهات، مستدعية من جميل النّظر كلّ ما يحرس ربعها، ويديم نفعها، ويحفّل ضرعها، ويلمّ شعثها ويشعب صدعها، ويسرّ سمعها، ويفعم شرعها، ويعظّم شرعها، ويكتنفها اكتناف السّور والسّوار، والهالة للبدر والأكمام للثّمار؛ وكان فلان هو المتقشّع سحاب هذا الوصف عن بدره المنير، والمتقلّع ضباب هذا التّفويض عن نور شمسه المنعشة قوى كلّ نبت نضير، والّذي بأهليته لرتبة هذا(12/198)
التفويض ما خاب المستخير، ولا ندم المستشير، والّذي يفرده استحقاقه بهذه الرتبة فلا يقول أحد من كبير ولا صغير امتثالا للمراسيم الشّريفة في حقّه: «منّا أمير ومنكم أمير» - اقتضى جميل الرأي المنيف، أن خرج الأمر الشريف- لا برح يحسن التّعويل، ويهدي إلى سواء السبيل، ويمضي مضاء القضاء المنزّل والسيف الصّقيل- أن تفوّض إليه نيابة السلطنة المعظمة في مملكة كذا وكذا.
فليقدّم خيرة الله قائلا وفاعلا، ومقيما وراحلا، وموجّها ومواجها ومسجّلا وساجلا، وعالما وعاملا، ومعتمدا على الله في أمره كلّه. وليكن من هذه المعرفة قريبا، وعلى كلّ شيء حتّى على نفسه رقيبا؛ وإذا اتّقى الله كفاه الله الناس، وإن اتقى الناس لم يغنوا عنه من الله شيئا فليقس على هذا القياس، ويقتبس هذا الاقتباس.
وأما الوصايا فالعساكر المنصورة هم مخلب الظّفر وظفره، وبهم يكشف من كل عدوّ سرّه، ويخلّى وطنه ووكره، ويضرب زيده وعمره، ويبدّد جمعه، ويساء صنعه، ويعمى بصره ويصمّ سمعه، وهم أسوار تجاه الأسوار، وأمواج تندفع وتندفق أعظم من اندفاق البحار، وما منهم إلا من هو عندنا لمن المصطفين الأخيار؛ فأحسن استجلاب خواطرهم، واستخلاب بواطنهم وسرائرهم، واستحلاب الشائع «1» من طاعاتهم في مواردهم ومصادرهم؛ وكن عليهم شفوقا، وبهم في غير الطاعة والاستعباد رفوقا، وأوجب لهم بالجهاد والاجتهاد حقوقا، واصرف لهم حملا لأعباء المهمّات والملمّات مطيقا، واستشر منهم ذوي الرأي المصيب، ومن أحسن التّجريب، ومن تتحقّق منه النّصح من الكهول والشيب، ممن كلل بغيرة منه ما شبّ فإنّ المرء كثير بأخيه، وإذا اجتمعت غصون في يد أيّد عست «2» على قصفه وقصف كلّ واحدة فواحدة لا يعييه.(12/199)
والجهاد «1» فهو ملاك كلّ استحواء واستحواذ، وبه تتميز أفعال الكفّار بالنّفاد وأفعال الدّين الحنيف بالنّفاذ؛ وما جعل الله للمدافعين عن دين الله سواه، ولا مزجي صوب صواب إلا إيّاه؛ وعلى ذلك جعل الله أرزاقهم، وهيّأ لهم به إرفاقهم؛ فليكرمهم بأخذ الأهبة، في الاعتلاء والانصباب في كلّ هضبة، والاستعداد برباط الخيل وكلّ قوّة.
ومن الوصايا الّتي ينبغي أنها ترسم في جبهات الفكر [دون توان] «2» أو ركون أن لا يستحقر عدوّا، ولا يستهزيء بقلّته لا رواحا ولا غدوّا، وليكن للاستظهار مستوعبا، ولإعمال المكايد مستوثبا، وللكشف بعد الكشف مستصحبا؛ وغير ذلك من الأمور، التي بها صلاح الجمهور.
والشّرع الشريف وتنفيذ أحكامه، وتقوية أيدي حكّامه؛ فهو ميزان الإسلام والسّلامة، وقوام الصّلاح والاستقامة، وأخوه المرتضع من ثدي الحقّ، العدل الذي كم شاق وكثيرا ما على أهل الباطل شقّ، وعمّ القريب والبعيد، والسائق والشهيد، والمريب والمريد، وكلّ ذي ضعف مبيد، وكلّ ذي بأس شديد، وكلّ مستشير ومستزيد، فإنّ ذلك إذا شمل حاط، وتم به الارتياد والارتباط، وهدى إلى أقوم صراط.
والحدود فهي حياة النفوس، وبها تزال البؤوس، فأقمها ما لم تدرأ بالشّبهات الشرعية، والأمور المرعيّة.
والأموال فهي مجلبة الرّجال، ومخلبة الآمال، وبها يشدّ الأزر، ويقوى الاستظهار [و] «3» الظّهر، فيشدّ من الذين أمرها بهم معدوق، ويقويّ أيديهم بكلّ طريق في كلّ طروق، بحيث لا يؤخذ إلا الحق ولا يترك شيء من الحقوق.(12/200)
والرعية فهم عند والي الأمر ودائع: ينبغي أنّها تكون محفوظة، وبعين الاعتناء ملحوظة؛ فأحسن جوارهم، وأزل نفارهم، واكفف عنهم مضارّهم، ولا تعاملهم إلا بما لا تسأل عنه غدا بين يدي ربّك فإنه يراك حين تقوم، وأعدد جوابا لذلك فكلّ راع مسؤول.
وأمّا غير ذلك فلا بدّ أن تطلعك المباشرة على خفايا تغنيك عن المؤامرة، وستتوالى إليك الأجوبة عند المسافرة في المكاتبات الواردة والصّادرة؛ والله يوفقك في كلّ منهج تسلكه وتقتفيه، ويسدّدك فيما من ذلك تنتحيه.
قلت: أمّا سائر أرباب الوظائف بها: كشدّ الدواوين، وشدّ مراكز البريد وغيرهما، فقد جرت العادة أنّ النائب يستقلّ بتوليتها. فإن قدّر كتابة شيء من ذلك لأحد بها، كتب لمن يكون طبلخاناه في قطع النصف ب «السامي» بغير ياء، ولمن يكون عشرة في قطع الثلث ب «- مجلس الأمير» كما في غيرها.
الصنف الثاني (أرباب الوظائف الدينية، وهم على مرتبتين)
المرتبة الأولى- من يكتب له في قطع الثلث ب «الساميّ بالياء»
. وهم قضاة القضاة الأربعة.
المرتبة الثانية- من يكتب له في قطع العادة
: إمّا في المنصوريّ، مفتتحا ب «أما بعد» وإما في الصّغير مفتتحا ب «- رسم» . وعلى ذلك تكتب تواقيع قضاة العسكر بها، ومفتي دار العدل، والمحتسب، ووكيل بيت المال، ووظائف التّداريس والتصادير، ونظر [الأحباس] «1» إن كتب شيء من ذلك عن الأبواب السلطانية، وإلّا فالغالب كتابة ذلك عن النائب بها «2»(12/201)
النيابة الخامسة (نيابة صفد)
وقد تقدّم في الكلام على المكاتبات أنّها في رتبة نيابة طرابلس وحماة في المكاتبة، وأنّها تذكر بعد حماة في المطلقات.
ووظائفها الّتي تولّى من الأبواب السّلطانية على ثلاثة أصناف:
الصنف الأوّل (أرباب السيوف، وفيه وظيفتان)
الوظيفة الأولى (نيابة السلطنة بها، ويكتب تقليده في قطع الثلثين)
وهذه نسخة تقليد بنيابة السّلطنة بصفد، كتب به لسيف الدين «قطلقتمس» «1» السلحدار الناصريّ، في سابع رمضان سنة عشر وسبعمائة، من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبيّ، وهي:
الحمد لله الّذي صان الثّغور المحروسة من أوليائنا بسيف لا تنبو مضاربه، وخصّ أسنى الممالك المصونة من أصفيائنا بعضب لا يفلّ غربه محاربه، وقدّم على زعامة الجيوش من خواصّنا ليثا يسكن إليه كلّ أسد من أسد ذائلة «2» تغالبه، حافظ نطاق البحر من أبطال دولتنا بكلّ كميّ تصدّ البحر مهابته أن يستقل براكبه أو تستقرّ على ظهره مراكبه، وناشر لواء عدلنا في أقاليمنا بما يغني كلّ قطر أن تتدفّق جداوله أو تستهلّ به سحائبه.
نحمده على نعمه الّتي جعلت سيف الجهاد رائد أوامرنا، وقائد جيوشنا إلى مواقف النّصر وعساكرنا، وذائد أعداء الملة عن أطراف ممالكنا الّتي أسبق إليها من رجع النّفس في الدّجى تألّق نجوم ذوابلنا، وفي الضّحى تبلّج غرر(12/202)
صوارمنا، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة يستظل الإيمان، تحت لوائها، وتعبق الأكوان، بما تنطق به الألسنة من أروائها، ويشرق الوجود بما يبدو على الوجوه من روائها، وتجادل أعداءها في الآفاق لرفع كلمة ملّتها على الملل وإعلائها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله خاتم الأنبياء، وأشرف حملة الأنباء، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه المخصوصين بأسنى مراتب الاجتباء، صلاة دائمة بدوام الأرض والسماء، وسلّم تسليما كثيرا.
أمّا بعد، فإنّ أولى من فوّضت إليه زعامة الجيوش بأسنى الممالك، وعدق به من تقدّم العساكر ما يرجف بمهابته هناك أرض العدوّ هنالك، وعقد به للرعايا لواء عدل تجلّى بإشراق ليل الظّلم الحالك، وعوّل عليه من جميل السّيرة فيما تعمر به البلاد وتأمن به الرعايا وتطمئنّ به المسالك- من لم يزل في خدمة الدّولة القاهرة سيفا ترهب العدا حدّه، ويخاف أهل الكفر فتكاته تحقّقا أنّ آجالهم عنده، ويتوقّع على كلّ كميّ من عظماء الشّرك أن رأسه سيكون غمده، مع سياسة تشتمل على الرعايا ظلالها الممتدّة، وسيرة تضع الأشياء مواضعها فلا تضع الحدّة موضع اللّين ولا اللّين موضع الحدّة، وتوفّر على عمارة البلاد يعين على ريّها طلّ الأنواء والوابل، وبراءة تجعل ما يودع فيها بالبركة والنّماء: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ
«1» ولمّا كان الجناب العالي هو السّيف الّذي على عاتق الدّولة نجاده، واللّيث الّذي لم يزل في سبيل الله إغارته وإنجاده، والغيث الّذي يخصب بمعدلته البلد الماحل، والأسد الّذي تصدّ ساكني البحر مهابته فيتحقّقون أنّ العطب لا السلامة في الساحل،- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نزيد حدّ عزمه إرهافا، وأن نرهب العدا ببأسه الّذي يردّ آحاد ما تقدّم عليه من الجيوش آلافا، وأن نفوّض إليه من أمور رعايانا ما إذا أسند إليه يوسعهم عدلا وإنصافا.(12/203)
فلذلك رسم بالأمر الشريف: أن تفوّض إليه نيابة السلطنة الشريفة بصفد المحروسة: تفويضا يعلي قدره، ويمضي في عموم مصالحها وخصوصها نهيه وأمره، ويرهف في حفظ سواحلها وموانيها بيضه وسمره، ويصلي مجاورها من ساكني الماء من بأسه المتوقّد جمره.
فليتلقّ هذه النعمة بباع شكره المديد، ويترقّ هذه المرتبة بمزيّة اعتزامه التي ليس عليها فيما يعدق به من مصالح الإسلام مزيد، وينشر بها من عموم معدلته ما لا يخصّ دون قوم قوما، ويعمّر بلادها بالعدل: فإنّ «عدل يوم واحد خير للأرض من أن تمطر أربعين يوما» ، ويبسط فيها من مهابته ما يكفّ أكفّ البغاة أن تمتدّ، ويمنع رخاء «1» أهوية أهلها أن تشتدّ، ويؤمّن المسالك أن تخاف، والرعايا أن يجار عليهم أو يحاف، وليكن من في تقدمته من الجيوش المنصورة مكمّلي العدد والعدد، ظاهري اللأمة «2» التي هي مادّة المجالدة وعون الجلد، مزاحي الأعذار فيما يرسم لهم به من الرّكوب، مزالي العوائق في التّأهّب لما هم بصدده من الوثوب، حافظي مراكزهم حفظ العيون بأهدابها، آخذي أخبار ما يشغل البحر من قطع العدا في حال بعدها كحال اقترابها، بحيث لا يشرف على البرّ من قطع المخذولين إلا أسير أو كسير، أو من إذا رجع بصره إلى السّواحل ينقلب إليه البصر خاسئا وهو حسير؛ وليكن أهل الجبال بمهابته كأهل السّهل «3» في حسن انقيادهم وطاعتهم، ويصدّ عنهم بسطوته مجال الأوهام المتّصلة فلا تنصرف إلى غير مجاوريهم من الأعداء مواقع بأسهم وشجاعتهم؛ وملاك الوصايا تقوى الله: وهي من أخصّ أوصافه، والجمع بين العدل والإحسان وهما من نتائج إنصافه؛ فليجعلهما عمدتي حكمه في القول(12/204)
والعمل؛ والله تعالى يجعله من أوليائه المتّقين وقد فعل؛ والاعتماد...... إن شاء الله تعالى.
الوظيفة الثانية (نيابة قلعة صفد)
وهذه نسخة مرسوم شريف بنيابة قلعة صفد المحروسة، من إنشاء المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله، كتب به للأمير سيف الدين «أزاق الناصري» خامس المحرّم سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، وهي:
الحمد لله الّذي خصّ الحصون برفعة ذراها، وسمعة من فيها من رجال تحمي حماها، وتخطف أبصار السيوف بسناها، وتصيب برميها حتى قوس قزح إذا راماها.
نحمده حمدا تبرز به المعاقل في حلاها، وتفخر به عقائل القلاع على سواها، وتشرف به شرفاتها حتّى تجري المجرّة في رباها، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة يطيب جناها، ويطنب في السماء مرتقاها، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي كتب به للأمّة هداها، وكبت عداها، وبوّأها مقاعد للقتال تقصر دونها النجوم في سراها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة لا ينقطع عنهم قراها، وسلّم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدين.
وبعد، فإنّ صفد صفت، ووفّت ووفت، وكفّت وكفت، وجاورت البحر فما غمضت عنه لديادبها «1» عيون، ولا خيطت لسيوفها بالكرى جفون، ولا ونت لرماحها عزائم شابت لممها، ولا انتشت من السّهام نبال تفيض ديمها، ولا أطالت مجانيقها السّكوت إلا لتهدر شقاشقها، وتهدّ بها من الجبال شواهقها، وتهول العدا بما تريهم من التّهويل، وترمي به من كفّاتها الحجارة من سجّيل.(12/205)
وهي القلعة الّتي يضرب المثل بحصانتها، ويطمئنّ [أهل] «1» الإسلام في إيداع أموالهم وأهلهم إلى أمانتها، قد أطلّت على الكواكب نزولا، وجرّدت على منطقة بروجها من البروق نصولا، وأتعبت الرياح لمّا حلّقت إليها، وأخافت الهلال حتّى وقف رقيبا عليها؛ وفيها من جنودنا المؤيّدة من نزيدهم بها مددا، وتطيب قلوبهم إذا خرجوا لجهاد أعداء الله وخلّوا لهم فيها مالا وولدا. وكانت النيابة بهذه القلعة المحروسة قد كادت تنطق بشكواها، وتتظلّم ممّن أساء صحبتها لمّا تولّاها، واقتضت آراؤنا العالية أن نزحزح ظلامه، عن صباحها، ونقوّض خيامه، عما فرش على الفلك الشاهقة من بطاحها؛ وفكّرنا فيمن له بالقلاع المحروسة دربة لا يخفى عليه بها سلوك، ولا يخاف معه على هذه الدّرّة الثمينة في سلوك، ممّن حمد في دولتنا الشريفة مساء صباح، ومن كان في أبوابنا العالية هو الفتّاح، ومن له همّة تناط بالثّريّا مطالبها، وعزمة ما القضاء إلا قواضبها، ومعرفة ما الرّمح المثقّف إلّا تجاربها، وكفاية ما الغرّ الزواهر إذا عدّدت إلّا مناقبها.
وكان المجلس الساميّ- أدام الله عزّه- هو المحلّق إلى هذه المرتبة، والمخلّق بالأصيل أرديتها المذهبة، والمحقّق في صفاته الورع، والمنزّه عن تدنيس طباعه بالطّمع، وله في الأمانة اليد المشكورة، وفي الصّيانة ما يمتع به ذيول السّحاب المجرورة، ومن التّقوى ما قرّب عليه المطالب البطيّة، ومن الفروسيّة ما اتخذ كلّ ذروة صهوة وكلّ جبل مطيّة، ومن الاستحقاق ما يسهّل له من صدقاتنا الشريفة صفد: وفي اللّغة أنّ الصّفد هو العطيّة.
فرسم بالأمر الشريف- شرّفه الله وعظمه، وأحكمه وحكّمه- أن يرتّب في النيابة بقلعة صفد المحروسة: على عادة من تقدّم وقاعدته في التقرير، وأمّا كيف يكون اعتماده، فسنرشده منه بصبح منير.(12/206)
فقدّم تقوى الله في سرّك ونجواك، واقصر على القناعة رجواك «1» ، واحفظ هذه القلعة من طوارق اللّيل والنّهار، وأعدّ من قبلك للقتال في قرى محصّنة أو من وراء جدار، واملأ سماءك حرسا شديدا، وشهبا وكثّر رجالها لتباري بهم النّجوم في أمثالها من بروج السماء عديدا، وخذ إلى طاعتنا الشريفة بقلوبهم وهم على ذلك ولكنّا نريد أن نزيدهم توكيدا، وتألّفهم على موالاتنا حتّى لا تجد أنت ولا هم إلى المزيد مزيدا، وتفقّد الذخائر والآلات، وتيقّظ لما تلجيء إليه الضائقة في أوسع الأوقات، وحصّن مبانيها، وحصّل فيها من الذخائر فوق ما يكفيها، ومن السّلاح ما هو أمنع من أسوارها، وأنفع في أوقات الحاجة مما تكنزه الخزائن من درهمها ودينارها: من مجانيق كالعقارب شائلة أذنابها، دافعة في صدر الخطب إذا نابها، ترمي بشرر كالقصر، وتنزل من السماء بآيات النّصر؛ ومن قسيّ: منها ما تدافع بالأرجل مرامي سهامه، ومنها ما تدوّر بالأيدي كأس حمامه، ومنها ما يسكت إذا أطلق حتّى لا يسمع كلام كلامه، ومنها ما يترنّم إذا غنّى بالحمام صوت حمامه؛ و [من] «2» ستائر يستر بها وجهها المصون، ومنائر يشاهد منها أقرب من يكون أبعد ما يكون، ورهجية تجلى بها في كلّ ليلة عروسها الممنّعة، ودرّاجة تحاط بها من جهاتها السّتّ وحدودها الأربعة؛ وأقرّ نوب الحمام الرّسائليّ فبها تسقط علينا وعليك الأخبار، ويطوى المدى البعيد في أوّل ساعة من نهار، وافتح الباب وأغلقه بشمس، واحترز على ما اشتملت عليه من مال ونفس؛ وبقية الوصايا أنت بها أمسّ، والله تعالى يزيل عنك اللّبس؛ والاعتماد......(12/207)
الصنف الثاني (أرباب الوظائف الديوانية)
والذين يكتب لهم من الأبواب السلطانية صاحب ديوان الرسائل، وناظر المال، وناظر الجيش، ووكيل بيت المال. وما عدا ذلك فإنّه يكتب عن نائبها، وربما كتب عن الأبواب السلطانية.
الصنف الثالث ( [أرباب] «1» الوظائف الدينية، وهي على مرتبتين)
المرتبة الأولى: ما يكتب في قطع الثلث ب «السّاميّ» بالياء، وهم القضاة الأربعة.
المرتبة الثانية: من يكتب له في قطع العادة، وتشتمل على قضاء العسكر، وإفتاء دار العدل، والحسبة، ووكالة بيت المال.
الصنف الرابع «2» (أرباب الوظائف الديوانية)
والّذي يكتب به من الوظائف الديوانية بها- ثلاث وظائف، يكتب لكلّ منهم في قطع الثلث ب «الساميّ» بالياء؛ وهم: صحابة ديوان المكاتبات، ونظر المال، ونظر الجيش. فإن كتب لأحد غير هؤلاء، كتب له في قطع العادة.
النيابة السادسة (نيابة غزّة)
وقد تقدّم أنّها تارة تكون نيابة، وتارة تكون تقدمة عسكر «3» ، ومقدّم(12/208)
العسكر بها يراجع نائب الشّام في أموره. وبكلّ حال فالوظائف الّتي تولّى بها من الأبواب السلطانية على صنفين:
الصّنف الأوّل (أرباب السّيوف)
وليس بها منهم إلّا نائب السّلطنة إن كانت نيابة، أو مقدّم العسكر إن كانت تقدمة عسكر. فكيفما كان فإنّه يكتب له تقليد في قطع الثلثين ب «الجناب العالي» مع الدعاء بدوام النّعمة.
وهذه نسخة تقليد بنيابتها: كتب به للأمير «علم الدّين الجاولي» «1» من إنشاء الشّيخ شهاب الدّين محمود الحلبيّ «2» ، وهو:
الحمد لله رافع علم الدّين في أيّامنا الزّاهرة، بإقامة فرض الجهاد وإدامته، وجامع رتب التّقديم في دولتنا القاهرة، لمن تفترّ الثّغور بين ترقرق عدله وتألّق صرامته، وقاطع أطماع المعتدين بمن يتوقّد بأسه في ظلال رفقه توقّد البرق في ظلل غمامته، وقامع أعدائه الكافرين بتفويض تقدمة الجيوش بأوامرنا إلى كلّ وليّ يجتنى النّصر ويجتلى من أفنان عزماته ووجاهة زعامته.
نحمده على نعمه الّتي سدّدت ما يصدر من الأوامر عنّا، وقلّدت الرّتب السّنيّة بتقليدها أعزّ الأولياء منّا منّا، ورجّحت مهمّات الثّغور لدينا على ما سواها فلا نعدق أمورها إلا بمن تعقد عليه الخناصر نفاسة به وضنّا، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة لا تزال القلوب بإخلاصها متديّنة، والألسنة(12/209)
بإعلانها متزيّنة، والأسنّة والأعنّة متباريين في إقامة دعوتها الّتي لا تحتاج أنوارها البيّنة إلى البيّنة، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أشرف مبعوث إلى الأمم، وأكرم منعوت بالفضل والكرم، وأعزّ منصور بالرّعب الّذي أغمدت سيوفه قبل تجريدها في القمم، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين نهضوا بجهاد أعداء الله وأعدائه على أثبت قدم، وسروا لفتح ما زوي له من الأرض على جياد العزائم ونجائب الهمم، وبذلوا نفائسهم ونفوسهم للذّبّ عن دينه فلم تستزل أقدامهم حمر النّعم، ولم يثن إقدامهم بيض النّعم، صلاة لا يملّ السامع نداءها، ولا تسأم الألسن إعادتها وإبداءها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّا من حين مكّن الله لنا في أرضه، وأنهضنا بمسنون الجهاد وفرضه، وقلّدنا سيف نصره الّذي انتضاه، وأقامنا لنصرة دينه الّذي ارتضاه، لم يزل مهمّ كلّ ثغر مقدّما لدينا، وحفظ كلّ جانب جاور العدوّ برّا وبحرا متعيّنا على اعتنائنا ومحبّبا إلينا؛ فلا نرهف لإيالة الممالك إلّا من إذا جرّد سيفه أغمده الرّعب في قلوب العدا، ومن إن لم تسلك البحر خيله بثّ في قلوب ساكنيه سرايا مهابة لا ترهب موجا ولا تستبعد مدى، ومن إذا تقدّم على الجيوش أعاد آحادها إلى رتب الألوف، وجعل طلائعهم رسل الحتوف، وأعداهم بأسه فاستقلّوا أعداءهم وإن كثروا، وأغراهم بمعنى النّكاية في كتائب العدا: فكم من قلب بالرّماح قد نظموا وكم من هام بالصّفاح قد نثروا.
ولذلك لمّا كان فلان هو الّذي ما زال الدّين يرفع علمه، والإقدام والرّأي يبثّان في مقاتل العدا كلومه وكلمه، والعدل والبأس يتولّيان أحكامه فلا يمضيان إلّا بالحقّ سيفه وقلمه؛ فكم نكّس راية عدوّ كانت مرتفعة، وأباح عزمه وحزمه معاقل شرك كانت ممتنعة، وكم زلزل ثباته قدم كفر فازالها، وهزم إقدامه جيوش باطل ترهب الآساد نزالها؛ فهو العلم الفرد، والبطل الّذي لأوليائه الإقبال والثّبات ولأعدائه العكس والطّرد، والوليّ الّذي لولا احتفالنا بنكاية العدا لم(12/210)
نسمح بمثله، والهمام الّذي ما عدقنا «1» به أمرا إلا وقع في أحسن مواقعه وأسند إلى أكمل أهله.
وكانت البلاد الغزّاويّة والسّاحليّة والجبليّة على ساحل البحر بمنزلة السّور المشرّف بالرّماح، المصفّح بالصّفاح، مروجه الحماة، وقلله الكماة، لا يشيم برقه من ساكني البحر إلا أسير أو كسير، أو من إذا رجع إليه طرفه ينقلب إليه البصر خاسئا وهو حسير، وبها الجيش الّذي كم لسيوفه في رقاب العدا من مواقع، ولسمعته في قلوب أهل الكفر من إغارة تركتها من الأمن بلاقع، وبها الأرض المقدسة، والمواطن الّتي هي على التّقوى مؤسّسة، والمعابد الّتي لا تعدق أمورها إلا بمثله من أهل الدّين والورع، والأعمال الّتي هو أدرى بما يأتي من مصالحها وأدرب بما يدع- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نعدق به نيابة ملكها، ونزيّن بلآليء مفاخره عقود سلكها، وأن نفوّض إليه زعامة أبطالها، وتقدمة عساكرها التي تلقى البحر بأزخر من عبابه والأرض بأثبت من جبالها، وأن نرمي بحرها من مهابته بأهول من أمواجه، وأمرّ في لهوات ساكنيه من أجاحه، لتغدو عقائل آهله، أرقّاء سيفه الأبيض وذابله، ويتبّر العدوّ الأزرق من بني الأصفر، خوف بأسه الأحمر.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف أن يفوّض إليه كيت وكيت: تفويضا يحقّق في مثله رجاءها، ويزيّن بعدله أرجاءها، ويصون ببأسه قاطنها وظاعنها، ويعمّر ويغمر برفقه وإنصافه مساكنها وساكنها.
فليباشر هذه الرّتبة الّتي يكمّل به سعودها، وتجمّل به عقودها، مباشرة يخيف بأسها اللّيوث في أجماتها، ويعين عدلها الغيوث على دفع أزماتها،(12/211)
ويغدو بها الحقّ مرفوع العلم، مسموع الكلم، ماضي السّيف والقلم، ممدود الظّلّ على من بها من أنواع الأمم، وليأخذ الجيوش الّتي بها من إعداد الأهبة بما يزيل أعذارهم عن الركوب، ويزيح عوائقهم عن الوثوب، ويجعلهم أوّل ملبّ لداعي الجهاد، وأسرع مجيب لنداء ألسنة السّيوف الحداد، وينظّم أيزاكهم «1» على البحر انتظام النّجوم في أفلاكها، والشّذور في أسلاكها، فلا تلوح للأعداء طريدة إلا طردت، ولا قطعة إلا قطعت، ولا غراب إلا حصّت قوادمه «2» ، ولا شامخ عمارة إلا وأتيح له من اللهاذم «3» هادمه، وليعل منار الشّرع الشّريف بإمضاء أحكامه، ومعاضدة حكّامه، والانقياد إلى أوامره، والوقوف مع موارد نهيهه ومصادره، ولتكن وطأته على أهل العناد مشتدّة، معرفته تضع الأشياء مواضعها: فلا تضع الحدّة موضع اللّين ولا اللّين موضع الحدّة، وليعلم أنّه وإن بعد عن أبوابنا العالية مخصوص منّا بمزيّة قربه، مختصّ بمنزلة إخلاصه الّتي أصبح فيها على بيّنة من ربّه؛ وجميع ما يذكر من الوصايا فهو مما يحكى من صفاته الحسنة، وأدواته الّتي ما برحت الأقلام في وصف كمالها فصيحة الألسنة؛ وملاكها تقوى الله وهي في خصائصه كلمة إجماع، وحلية أبصار وأسماع؛ والله تعالى يعلي قدره وقد فعل، ويؤيّده في القول والعمل؛ والاعتماد.......
وهذه نسخة تقليد بتقدمة العسكر بغزّة المحروسة:
الحمد لله مبديء النّعم ومعيدها، ومؤكّد أسبابها بتجديدها، ومعلي أقدارها بمزايا مزيدها، الذي زيّن أعناق الممالك من السّيوف بتقليدها، وبيّن من ميامنه ما ردّت إليه بمقاليدها.(12/212)
نحمده بمحامده الّتي تفوت الدّراريّ في تنضيدها، وتفوق الدّرّ فيتمنّى منه عقد فريدها، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة نافعة لشهيدها، جامعة لتوحيدها، ناقعة لأهل الجحود ممّا يورّد الأرض بالدّماء من وريدها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي كاثر الأمم بأمّته في عديدها، وظاهر على أعداء الله بمن يفلّ بأس حديدها، فيرسل من أسنته نجوما رجوما لمريدها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة نتظافر بتأييدها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ من عوائد دولتنا القاهرة أن تعود بإحسانها، وتجود بثبوت كلّ قدم في مكانها؛ وإذا ولّت عرف سحابها عن جهة عادت إليها، أو سلبت لها رونقا أعادت بهجته عليها؛ وكانت البلاد الغزّاويّة وما معها قد تمتّعت من قدماء ملوك «1» بيتنا الشّريف بسيف مشهور، وبطل تشام بوارق عزمه في الثّغور؛ وهو الذي عمّ بصيّبه بلادها سهلا وجبلا، وعمّر روضها بعدل أغناها أن يسقي طلّ طللا، وجمع أعمالها برّا وبحرا، ومنع جانبيها شاما ومصرا، وألف أهلها منه سيرة لولا ما استأثرنا الله به من سرّه لما أفقدناهم في هذه المدّة حلاوة مذاقها، وسريرة لا نرضى معها بكفّ الثّريّا إذا بسطت لأخذ ميثاقها، ولم نرفع يده إلا لأمر قضى الله به لأجل موقوت، ومضى منه ما يعلم أنه بمرجوعه القريب لا يفوت، لأنّ الشمس تغيب لتطلع بضوء جديد، والسّيف يغمد ثم ينتضى فيقدّ القدّ والجيد، والعيون تسهّد ثم يعاودها الرّقاد، والماء لو لم يفقد في وقت لما وجد لموقعه برد على الأكباد.
فلّما بلغ الكتاب أجله، وأخذ حقّه من المسألة، وانتقل من كان قد استقرّ فيها إلى جوار ربّه الكريم، وفارق الدّنيا وهو على طاعتنا مقيم- اقتضت آراؤنا الشريفة أن يراجع هذه العقيلة كفؤها القديم، وترجع هذه الأرض المقدّسة إلى من فارقها وما عهده بذميم. من لم تزل به عقائل المعاقل تصان، وخصور(12/213)
الحصون بحمائل سيوفه تزان، ومباسم الثّغور تحمى في كلّ ناحية من أسنّته بلسان، وحمى الثّغرين وما بينهما من الفجاج، وجاور البحرين فمنع جانبيهما:
فهذا عذب فرات وهذا ملح أجاج، وله في العدا وقائع زلزلت لمواقعها الألوف، ومواقف لولا ما نعقت فيها من غربان البين لطال على الدّيار الوقوف؛ وهو الّذي مدحت له في بيتنا المنصور المنصوريّ من الخدمة سوابق، وحمدت طرائق، وكثرت محاسن، وكبرت ميامن، ولمعت كواكب، وهمعت سحائب، وصدحت حمائم، وفتّحت كمائم، وعزّت جيوشنا المؤيّدة له بمضارب، وهزت سيوفا حدادا وهو بالسّيف ضارب.
وكان المجلس العالي- أدام الله تعالى نعمته- هو الّذي حمدت له آثار، وحسنت أخبار، وعمّت مدح، وتمّت منح؛ فرسمنا [بإقراره في] «1» هذا المنصب الشّريف في محلّه، وإعادته إلى صيّب وبله، وإنامة أهلها مطمئنّين في عدله، وإقرار عيون من أدرك زمانه بعوده ومن لم يدرك زمانه بما سيرونه من فضله.
فرسم بالأمر الشريف- لا زالت ملابس نعمه، تخلع وتلبس برودها، وعرائس كرمه، تفارق ثم تراجع غيدها- أن تفوّض إليه أمور غزّة المحروسة وأعمالها وبلادها، والتّقدمة على عساكرها وأجنادها، والحكم في جميع ما هو مضاف إليها من سهل ووعر، وبرّ وبحر، وسواحل ومواني، ومجرى خيول وشواني «2» ، ومن فيها من أهل عمد، ورعايا وتجّار وأعيان في بلد، ومن يتعلق فيها بأسباب، ويعدّ في صف كتيبة وكتاب. على عادة من تقدّم في ذلك، وعلى ما كان عليه من المسالك.
وسنختصر له الوصايا لأنّه بها بصير، وقد تقدّم لها على مسامعه تكرير،(12/214)
ورأس الأمور التّقوى وهو بها جدير، وتأييد الشّرع الشريف فإنّه على هدى وكتاب منير، والاطلاع على الأحوال ولا ينبئك مثل خبير.
والعدل فهو العروة الوثقى، والإنصاف حتّى لا يجد مستحقّا، والعفاف فإنّ التّطلع لما في أيدي الناس لا يزيد رزقا، والاتّصاف بالذّكر الجميل هو الذي يبقى، وعرض العسكر المنصور ومن ينضمّ إليه من عربه وتركمانه وأكراده، وكلّ مكبّر في جحافله ومكثّر لسواده؛ وأخذهم بالتأهّب في كلّ حركة وسكون، والتّيقّظ بهم لكلّ سيف مشحوذ وفلك مشحون، والاحتراز من قبل البرّ والبحر، وإقامة كلّ يزك في موضعه كالقلادة في النّحر، ولا يعيّن إقطاعا إلا لمن يقطع باستحقاقه، ويقمع العدا بما يعرف في صفحات الصّفاح من أخلاقه، ولا يخل المباشرين من عناية تمدّ إليهم ساعد المساعدة، فلا يخلّوا في البلاد بعمارة تغدو في حللها مائدة؛ وليحفظ الطّرقات حفظا تكون به ممنوعة، ويمسك المسالك فإنّه في مفرّق طرقاتها المجموعة، وليقدّم مهمّات البريد وما ينطق على جناح الحمام، وليتّخذهما نصب عينيه في اليقظة والمنام؛ فربّ غفلة لا يستدرك فائتها ركض، ورسالة لا يبلّغها إلّا رسول ينزل من السماء وآخر يسيح في الأرض، ويرصد ما ترد به مراسمنا العالية ليسارع إليه ممتثلا، ويطالعنا بما يتجدّد عنده حتّى يكون لدينا ممثّلا؛ وهو يعلم أنّه واقف من بابنا الشريف بالمجاز، وقدّام عينينا حقيقة وإن قيل على طريق المجاز؛ فليؤاخذ نفسه مؤاخذة من هو بين يدينا، ويعمل بما يسرّه أن يقدّم فيما يعرض من أعماله علينا؛ والله تعالى يزيده حظوة لدينا، ويؤيّد به الإسلام حتّى لا يدع على أعداء الله للدّين دينا، والاعتماد.......
الصنف الثاني (الوظائف الديوانية بغزّة)
وبها ثلاث وظائف: يكتب لكلّ منها في قطع العادة ب «السامي» بغير ياء؛(12/215)
وهي: كتابة الدّرج القائمة مقام كتابة السّرّ «1» ، ونظر المال؛ ونظر الجيش. قال في «التثقيف» : أمّا قاضيها ومحتسبها ووكيل بيت المال بها، فإنّهم نوّاب عن أرباب هذه الوظائف بالشّام، فلا يكتب لأحد منهم شيء عن المواقف الشريفة.
قلت: وما ذكره بناء على أنّها تقدمه عسكر. أمّا إذا كانت نيابة فإنّ هذه الوظائف يكتب بها عن الأبواب السّلطانية. وقد يكتب حينئذ بوكالة بيت المال والحسبة عن النّائب، ويكون ذلك جميعه في قطع العادة، مفتتحا ب «أمّا بعد» في المنصوريّ «2» ، أو ب «- رسم» في الصّغير، على حسب ما يقتضيه الحال.
على أنّه قد حدث بها في الدولة الظاهرية قاض حنفيّ يكتب له من الأبواب السّلطانية.
النيابة السابعة (نيابة الكرك؛ وأرباب الولايات بها من الأبواب السلطانية على أصناف)
الصنف الأوّل (أرباب السيوف)
وليس بها منهم غير نائب السّلطنة، ويكتب له تقليد في قطع الثلثين ب «المجلس العالي» .
وهذه نسخة تقليد بنيابة السّلطنة بالكرك، كتب به للأمير «سيف الدين أيتمش» «3» من إنشاء الشيخ شهاب الدّين محمود الحلبيّ، وهو:(12/216)
الحمد لله الّذي خصّ بعزائمنا معاقل الإسلام وحصونه، وبصّرنا باختيار من نرتّبه في كلّ معقل منها من أمجاد الأمراء ليحفظه ويصونه، وجعلها بعنايتنا روضا تجتلي أبصار الأولياء من بيض صفاحنا نوره وتجتني من سمر رماحنا غصونه، وعوّذها من آيات الحرس بما لا تزال حماتها وكماتها يروون خبره عن سيفنا المنتضى لحفظها ويقصّونه.
نحمده على نعمه الّتي أعلت بنا بناء الممالك، وحاطتها من نبل مهابتنا، بما لو تسلّلت بينه الأوهام ضاقت بها المسالك، وصفّحتها من صفاح عنايتنا، بما يحول برقه بينها وبين ما يستر طيف العدا من الظّلام الحالك، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تعصم من أوى إلى حرم إخلاصها، وتنجي غدا من غدا من أهل تقريبها واختصاصها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أضاءت ملّته، فلم تخف على ذي بصر، وعلت شرعته، فغدا باع كلّ ذي باع عن معارضتها ذا قصر، وسمت أمّته، فلو جالدها معاد أوبقه الحصر أو جادلها مناو أوثقه الحصر، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين كانت معاقلهم صهوات جيادهم، وحصونهم عرصات جلادهم، وخيامهم ظلال سيوفهم، وظلالهم أفياء صعادهم، صلاة لا يزال الإخلاص لها مقيما، والإيمان لها مديما، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى الحصون الإسلامية بأن تحوط عنايتنا أركانه، وتتعاهد رعايتنا مكانه، وتلاحظ مهابتنا أحواله فتحلّيها، وتشاهد أوامرنا قواعده فتشيّدها بجميل النّظر وتعليها، وتحول سطواتنا بين آمال الأعداء وتوهّمه، وتحجب مخافة بأسنا أفكار أهل العناد عن تأمّل ما في الضّمير وتوسّمه- حصن انعقد الإجماع على انقطاع قرينه، وامتناع نظيره فيما خصّه الله به من تحصينه؛ فهو فرد الدّهر العزيز مثاله، البعيد مناله، المستكنّة في ضمائر الأودية الغوامض بقعته، المستجنّة بقلل الجبال الشواهق نقعته، السّائر في أقطار الأرض صيته وسمعته.(12/217)
ولما كانت قلعة الكرك المحروسة هي هذه العقيلة الّتي كم ردّت آمال الملوك راغمة، ومنعت أهواء النّفوس أن تمثّلها في الكرى الأجفان الحالمة، وكان فلان ممّن ينهض مثله بحفظ مثلها، ويعلم أنّ أمانتها الّتي لا تحملها الجبال قد أودعت منه إلى كفئها ووضعت كفايتها في أهلها؛ فهو سيفنا الّذي يحوطها ذبابه، ووليّنا الّذي من طمح بصره إلى أفق حلّه أحرقه شهابه، ونشو أيّامنا الّتي تنشّيء كلّ ليث يقنص الظّفر ظفره وينبو بالسيوف نابه، وغذيّ دولتنا الذي ما اعتمدنا فيه على أمر إلّا كرم به نهوضه وحسن فيه منابه- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نخصّها بمهابة سيفه، ونحصّنها بما فيه من قوّة في الحقّ تكفّ كلّ باغ عن حيفه.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف- لا زالت الحصون المصونة تختال من ملكه في أبهى الحلل، وتعلو معاقل الكفر بسلطانه علوّ ملّة الإسلام على الملل- أن تفوّض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالكرك المحروس تفويضا يعلي قدره، ويطلع في أفقها بدره، ويطلق في مصالحها سيفه بالحقّ وقلمه، ويمضي في حمايتها أفعاله وكلمه، ويسدّد في أمورها آراءه المقرونة بالصّواب وهممه.
فليباشر هذه الرّتبة العليّة صورة ومعنى، المليّة إذا طاولت الكواكب بأن لا يعلم [منها] «1» أسمى وأسنى، وليجتهد في مصالحها اجتهادا يوالي له من شكرنا المنح، ويأتي فيه من مواضينا بالغرض المقترح، ويزيدها إلى حصانتها حصانة وقوّة، ويزينها بسياسته الّتي تغدو قلوب أهل العناد بمخافتها مغزوّة، ولينظر في مصالح رجالها فيكون لحماتهم مقدّما، ولمقدّميهم مكرما، ولأعذارهم مزيحا، ولخواطرهم بتيسير مقرّراتهم مريحا، وليكن لمنار الشّرع الشريف معظّما، ولأحكامه في كل عقد محكّما، ولما قرب وبعد من بلاد نيابته عامرا، ولأكفّ الجور عن الرعية كافّا: فلا يبرح عن الظّلم ناهيا وبالعدل آمرا؛ وملاك الوصايا(12/218)
تقوى الله فليجعلها حلية نفسه، ونجيّ أنسه، ووظيفة اجتهاده الّتي تظهر بها مزيّة يومه على أمسه؛ والله تعالى يسدّده في أحواله، ويعضّده في أفعاله وأقواله، بمنّه وكرمه!.
وهذه نسخة تقليد السّلطنة بالكرك، كتب به للأمير «تلكتمر الناصريّ» عندما كان المقرّ الشّهابيّ أحمد «1» ولد السلطان الملك النّاصر بالكرك، وهو:
الحمد لله الّذي جعل بنا الممالك محصّنة الحصون، محميّة بكلّ سيف يقطر من حدّه المنون، ممنّعة لا تتخطّى إليها الظّنون، محجّبة لا تراها من النجوم عيون، رافلة من الكواكب في عقد ثمين، منيعة أشبهت السّماء واشتبهت بها فأصبحت هذه البروج من هذه لا تبين.
نحمده على نعمه الّتي رفعت الأقدار، وشرّفت المقدار، وحلّت في ممالكنا الشّريفة كلّ عقيلة ما كان معصمها الممتدّ إلى الهلال ليترك بغير سوار، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة رفعت للحصون العالية رتبا، وملئت بها سماؤها حرسا وشهبا، وأعلت مكانها فاقتبست من البرق نارا ووردت من السّحاب قلبا، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أشرف من بعث ولاة على الأمصار، وكفاة على الأقطار، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه ما صدحت الحمائم، وسفحت الغمائم، وسلّم تسليما كثيرا.
أمّا بعد، فإنّ خير من حميت به الممالك، وحمدت- ولله المنّة- منه(12/219)
المسالك، وارتقت هممه إلى الشّمس والقمر والنّجوم وما أشبه ذلك، من حصل الوثوق به في أشرف مملكة لدينا، وأفضل ما يعرض في دولتنا الشريفة من أعمالها الصالحة علينا: وهي الّتي قعدت من الجبال على مفارقها، واتّصلت من النّجوم بعلائقها، وتحدّرت الغمائم من ذيولها، وطفت على السماء وطافت على الكواكب فجرت المجرّة من سيولها، وكان الكرك المحروس هو المراد، ومدينته التي لم يخلق مثلها في البلاد، وقلعته تتشكّى الرّياح لها طلوع واد ونزول واد؛ وهي أرض تمتّ بأنّها لنا سكن، ونمّت مناقبها بما في قلوبنا من حبّ الوطن، واستقرّت للمقامات العالية أولادنا- أعزّهم الله بنصره- فانتقلت من يمين إلى يسار، وتقابلت بين شموس وأقمار، وجاد بها البحر على الأنهار.
فلمّا خلت نيابة السلطنة المعظمة بها عرضنا على آرائنا الشّريفة من تطمئنّ به القلوب، ويحصل المطلوب، وتجري الأمور به على الحسنى فيما ينوب، وتباري عزائمه الرياح بمرمى كل مقلة وهزّة جيد، ولا يشكّ في أنّه كفوّ هذه العقيلة، وكافي هذه الكفالة الّتي ما هي عند الله ولا عندنا قليلة، وكافل هذه المملكة الّتي كم بها بنيّة أحسن من بنيّة وخميلة أحسن من خميلة، من كان من أبوابنا العالية مطلعه، وبين أيدينا الشّريفة لا يجهل موضعه؛ طالما تكمّلت به الصفوف، وتجمّلت به الوقوف، وحسن كلّ موصوف، ولم تخف محاسنه الّتي هو بها معروف؛ كم له شيمة عليّة، وهمّة جليّة، وتقدمات إقدام بكلّ نهاية غاية مليّة، وعزائم لها بنعته مضاء السّيف وباسمه قوّة الحديد وهي بالنسبة إليه ملكيّة؛ وكان المجلس العالي- أدام الله نعمته- هو لابس هذه البرود الّتي رقمت، والعقود الّتي نظمت، وجامع هذه الدّرر الّتي قسمت، والدّراريّ الّتي سمت إلى السماء لما وسمت، وهو من الملائك في الوقار، وله حكم كالماس وبأس يقطع الأحجار، وهو ملك نصفه الآخر من حديد كما أنّ لله ملائكة نصفهم من الثّلج ونصفهم من نار، وهو الّذي اقتضت آراؤنا الشريفة أن نجعله في خدمة ولدنا- أمتعه الله ببقائنا- نائبا بها، وقائما بحسن منابها، والمتصرّف فيها بين أيديه الكريمة، والمتلقّي دونه لأمورها الّتي قلّدنا بها عنقه أمانة عظيمة.(12/220)
فلذلك خرج الأمر الشريف- لا زال به سيف الدّين ماضيا، ولا برح كلّ واحد بحكم سيفه في كلّ تجريد وقلمه في كلّ تقليد راضيا- أن تفوّض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالكرك المحروس وما معه على عادة من تقدّمه فيها، وقاعدته التي يتكفل لها بالإحسان وبكفّ العدوان ويكفيها؛ وكلّ ما فيها من أمر فهو به منوط، وكلّ عمل لها به محوط، وحكمه في مصالحنا الشريفة في جميع بلادها مبسوط، وله تطالع الأمور، ومنه تصدر المطالعة، وبه تزال كلّ ظلامة، وتزاح كلّ ملامة، ويؤيّد الشرع الشريف ويؤبد حكمه، وينثر علمه وينشر علمه، وتقام الحدود بحدّه، والمهابة بجدّه. ورجال هذه القلعة به تتألّف على طاعتنا الشريفة قلوبهم، والرعايا يعمهم بالعدل والإحسان وأيسر ما عندنا مطلوبهم؛ وهؤلاء هم شيعتنا قبلك، ورعيّتنا الذين هم لنا ولك؛ فرفرف عليهم بجناحك، وخذهم بسماحك؛ والمسارعة إلى امتثال مراسمنا الشريفة هي أوّل ما نوصيك باعتماده، وأولى ما يقبس من نوره ويستمدّ من أمداده؛ فلا تقدّم شيئا على الانتهاء إلى أمره المطاع؛ والعمل في السّمع والطاعة باكر له ما يمكن أن يستطاع؛ وخدمة أولادنا فلا تدع فيها ممكنا، واعلم بأنّ خدمتهم وخدمتنا الشريفة سواء لأنّه لا فرق بينهم وبيننا؛ وهذه القلعة هي الّتي أودعناها في يمين أمانتك، وحميناها بسيفك وصنّاها بصيانتك؛ فالله الله في هذه الوديعة، وأدّ الأمانة فإنّها نعمت الذّريعة، واحفظها بقوّة الله وتحفّظ بأسوارها المنيعة، وعليك بالتّقوى لتّقوى والوقوف عند الشّريعة؛ والله تعالى يزيدك علوّا، ويبلّغك مرجوّا؛ والاعتماد......
قلت: وربّما ولي نيابة الكرك من هو جليل الرتبة رفيع القدر، من أولاد السلطان أو غيرهم، فتعظم النيابة بعظمه، ويرفع قدرها بارتفاع قدره، وتكون مكاتبته وتقليده فوق ما تقدّم، بحسب ما يقتضيه الحال من «الجناب» أو غيره.
وهذه نسخة تقليد بنيابة السلطنة بالكرك، كتب بها عن السلطان الملك الناصر «محمد بن قلاوون» لولده الملك الناصر «أحمد» قبل سلطنته، وكتب له فيه ب «الجناب العاليّ» من إنشاء الشريف شهاب الدّين، وهي:(12/221)
الحمد لله الّذي أسعدنا بوراثة الملك والممالك، وأرشدنا للرّأي المصيب في أن نستنيب من نشاء من ذلك، وأيّدنا بالعون والصّون في حفظ ما هنا ولحظ ما هنالك، وعوّدنا الإمداد بيمنه المتداول والإنجاد بمنّه المتدارك، وسدّدنا بالفضل والإسعاف إلى أن نتّبع من العدل والإنصاف أنجح السّبل وأوضح المسالك، وعضّدنا من ذريّتنا بكلّ نجل معرق، ونجم مشرق، يرشق شهابه، في الكرب الحالّ ويأتلق صوابه، في الخطب الحالك، وأفردنا بالنّظر الجميل، والفكر الجليل، إلى أسعد تخويل تنير بمرآته في الآفاق الشّهب الطوالع وتسير ببشراه في الأقطار النّجب الرّواتك «1» نحمده! وكيف لا يحمد العبد المالك!، ونشكره على أن أهّلنا لإقامة الشّعائر وإدامة المناسك، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جل في جبروته، عن مشابه وتعالى في ملكوته، عن مشارك، ونشهد أنّ سيّدنا محمدا عبده ورسوله الّذي أنجد جنوده من الملأ الأعلى بالملائك، وأمدّ بعوثه بالنّصر والظّفر في جميع المواقف والمعارك، وأيّد أمّته بولاية ملوك يجلسون في النّعيم على الأرائك، ويحرسون حمى الدّين بجهادهم واجتهادهم من كلّ فاتن وفاتك، صلّى الله عليه وعلى آله سفن النّجاة المؤمّنين من المخاوف والمنقذين من المهالك، ورضي الله عن أصحابه الذين نظموا شمل الإيمان، وهزموا جمع البهتان، بكلّ باتر وفاتك، صلاة ورضوانا يضحي لقائلهما في اليوم العبوس الوجه الطّلق والثّغر الضّاحك، وينشر فيحشر مع النّبيّين والصدّيقين والشّهداء والصّالحين وحسن أولئك، ما ابتهل بصالح الدّعاء، وناجح الاستدعاء، لأيّامنا كلّ عابد وناسك، وعوّل حسن آرائنا على تقديم من هو لجميل آثارنا سالك، وأقبل بالإقبال سنا شهابه المنير يجلو ما تثير من ليل نقعها السّنابك، فحصل للكرك والشّوبك بهذا القدوم فخار مسيرك بينهما وبين النجوم الشّوابك.
أمّا بعد، فإن الله تعالى آثرنا بتوفير التوفيق، ويسّرنا من الهدى إلى أقوم(12/222)
طريق، ووهبنا في الملك النّسب العليّ العريق، والحسب الّذي هو بالتّقديم والتّحكيم حقيق، وقلّدنا من عهد بيعة السّلطنة ما لحمده في الآفاق تطريق، ولعقده في الأعناق تطويق، ففيّأنا من شجرة هذا البيت الشريف النّاصريّ المنصوريّ كلّ غصن وريق، وهيّأ للبريّة تكريما عميما بتقديم من له المجد يتعيّن وبه السّؤدد يليق، وأطلع في أفق أعزّ الممالك علينا من بيتنا شهاب علا هو للبدر في الكمال والجمال شبيه وشقيق، وأطعنا أمر الله تعالى في معاملة الولد البارّ معاملة الوالد الشّفيق، وأودعنا لديه ما أودعه الله تعالى لدينا: مملكة مرتفعة متسعة ليرتفع محلّه ويتّسع أمله ولا يضيق، وجمعنا له أطرافها لتكون لكلمته العليا بها الاجتماع من غير تفريق.
ولما كان الجناب العاليّ، الولديّ، الشهابيّ، سليل الملوك والسلاطين، خليل أمير المؤمنين، هو الّذي تشير رتب الكفالة بترقّيه، وتقرّ عيون الأولياء بتعيّنه لإلقاء أمرنا المطاع وتلقّيه، وتلهج الألسنة ضارعة إلى الله تعالى أن يخلّد ملك بيته الشريف ويبقيه، وتعرج إلى السّموات دعوات الأتقياء أن يوقّيه الله مما يتقيّه؛ ونمسك في هذا المقام لسان المقال عن مدحه أدبا، ونترك الافتخار بالمال والعديد إيثارا لثواب الله وطلبا، وندرك موعظة الله سبحانه في كتابه قصدا وأربا؛ والباقيات الصّالحات خير عند ربّك ثوابا وخير عقبا «1» وببركة هذا القصد يتمّ لنا فيه المراد، ويعمّ هذه المملكة النفع بهذا الإفراد، فإنها معهد النصر والفتح، ومشهد الوفر والمنح، ومصعد العزّ الّذي لما وطئنا صرحه تدكدك للعدا كلّ صرح، وتملّك للهدى كلّ سرح، ونشقنا بها لقرب المزار من طيب طيبة «2» أعظم نفح، وقد بقينا بجاه الحالّ بها في تيسير التّأييد فكان كاللّمح، وجرى خلفنا السّمح بعد ذلك على عادته في الحكم والصّفح، وسرى ذكرنا في(12/223)
الشّرق والغرب وللحداة به أطرب صدح، وآتى الله من فضله ملكنا نعما تجلّ عن العدّ والشّرح، فيها منشأ دولة الدّول ومنها فتح الفتوح، وبإضافته إلينا تفاؤل خير مشهور ملموح، كما قيل قبلها كرك نوح «1» ؛ فبتطهير الأرض من الكفّار، عزائمنا تغدو وتروح، وبالاستناد بأطول الأعمار، أمارة بادية الوضوح، وآثار بركة الاسم الشّريف المحمّديّ تظهر علينا في الحركات والسّكنات وتلوح، وفخار هذه المملكة المباركة: لاختصاصها بالحرمين الشّريفين عليها طلاوة وسعادة وفيها روح؛ وكنّا قد سلكنا بهذا الولد النّبيل، سنّة أبي الأنبياء إبراهيم الخليل، في ولده إسماعيل، عليهما السّلام التامّ في كلّ بكرة وأصيل، حيث فارقه وأفرده، وتفقّده في كلّ حين وتعهّده، حتّى شدّ الله تعالى به عضده ورفع هو وأبوه قواعد البيت وأعانه لمّا شيّده، فأجمل الله لنا هذا القصد وأحمده، وكمّل هذا الشّروع وأسعده؛ وأجزل له من فوائده أوفر هبة وأنجز له من عوائده أصدق عدة، فأحللناه في هذه المدّة بمملكة الكرك فسلك من حسن السجايا أحسن مسلك، وملك قلوب الرّعايا وبما وهب من المنح تملك، وبسنتنا في التواضع للحق مع الخلق تمسك وبشيمنا وخلقنا في الجود تخلّق فبذل وما أمسك.
ولما بلغ أشدّه واستوى، وبزغ شهاب علاه الّذي هو وبدر السماء سوا، وحاز مكارم الأخلاق وحوى، وفاز سلطاننا في نجابته بحسن النية: «وإنّما لكل امريء ما نوى» - حكّمناه في هذه النيابة الّتي ألفها ودرّبها، وعرف أمورها وجرّبها، واستعمال خواطر أهلها واستجلبها، وأدنى لهم لمّا دنا منهم الميامن ولمّا قرّبها منهم قرّبها، واستحقّ كفالتها واستوجبها، وأظهر الله تعالى فيه من الشّمائل أنجبها، ومن الخلائق أرحبها، ومن الأعراق أطيبها، ومن العوارف أنسبها، ومن العواطف أقربها، ومن البسالة أرهفها وأرهبها، ومن الجلالة أحبّها(12/224)
إلى القلوب وأعجبها، ومن السيادة ما أخذت نفسه لها أهبها، ومن الزيادة ما يتعيّن له شكر الله الواهب الّذي وهبها، ومن السّعادة ما رفعت الأقدار على مناكب الكواكب رتبها، وأطلعت لحماته سماء العلياء شهبها، ورقّت على هامة الجوزاء منصبها، واستصحبت من العناية لهذا البيت مزيّة فرض الله بها له الطاعة وكتبها؛ فاستخرنا الله تعالى الّذي يختار لنا ويخير، وسألناه التّأييد والتّيسير؛ وفوّضنا إليه وهو الكفيل لنا بالتدبير، في كلّ مبدإ ومصير، واستعنّا به وهو نعم النّصير، واقتضى حسن الرّأي الشريف أن نسرج شهابه المنير، وننتج للأولياء يمن التّأثيل بحسن هذا التّأثير، وننهج في برّه سبلّا تقدّمنا إليها كلّ ذي منبر وسرير، ونثلج الصّدور ونقرّ العيون بسعيد هذا الإصدار وحميد هذا التّقرير.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا برح أمره يصيب السّداد فيما إليه يصير، وخبره يحمل الموافاة فللألسنة عن مكافأة برّه تقصير- أن تفوّض نيابة السّلطنة الشريفة بالكرك المحروس والشّوبك للجناب العاليّ، الولديّ، الشهابيّ، وما ينضم إلى ذلك وينضاف، من جميع الأقطار والأكناف؛ وجمعنا له من هذه المملكة الأطراف، وجعلنا له على سهلها وجبلها إشراف، وصرّفناه منها فيما هو عن علمه الكريم غير خاف، نيابة كاملة، كافلة شاملة، عامّة، تامّة، وافرة، سافرة، يستلزم طاعته فيها الافتراض، وتنحسم عنه فيها موادّ الاعتراض، وتنفذ مراسمه من غير توقّف ولا انتقاض، وتبسط يده البيضاء من غير انقباض، ويرتفع رأيه من غير انخفاض.
فلتقدر رعيّة هذه البلاد نعمة هذا التفويض قدرها، وليسألوا الله أن يوزعهم لحسن هذا التفويض شكرها؛ فقد أنشأ لهم يسرها، وأفاء لهم برّها، وألقى إليهم جودها وخيرها، وأبقى عندهم عزّها ونصرها، وليتّبعوا السّبيل القويم، وليجمعوا على الطاعة الّتي تبقي عليهم نعمة العافية وتديم، وليسمعوا ويطيعوا لما يرد إليهم من المراسيم؛ فمن لم يستقم كما أمر لا يستمرّ بهذه البلاد ولا يقيم؛ والعاقل لنفسه خصيم، والجاهل من عدم النّعمة وحرم النّعيم؛(12/225)
وفراستنا تلمح نتائج الخير من هذا التّقديم، وسياستنا تصلح ما قرب منّا وما بعد بتعريف أحكام التّحكيم؛ وكيف لا؟ وهو الكريم بن الكريم بن الكريم، المؤمّل لتمام السّؤدد قبل أن يعقد عليه التّميم، المشتمل على الخلال الموجبة له الفضل العميم، المتوصّل بيمن حركاته إلى أن يكون لمثل هذا الملك العظيم، وإلى أمانته استيداع وإلى صيانته تسليم، المقبل وجهدنا الإقبال فتتلو الرّجال: ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ
«1» ونحن نأمرك من التّقوى بما به من الله أمرنا، ونبصّرك من الهدى بما له هدينا وبصّرنا، ونبقي لديك من بدائعها ما به خصصنا وأوثرنا، ونوصيك اتّباعا للكتاب والسّنّة، ونؤتيك من الهداية ما لله في الإرشاد إليه المنّة: فقد وعظ ووصّى لقمان- عليه السّلام- ابنه، وأوصى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معاذ بن جبل لمّا بعثه إلى اليمن فحقّق الله تعالى في نجاحه رجاءه وفي فلاحه ظنّه، ونذكّر جنابك، ونرجو أن تكون ممن تنفعه الذّكرى، ونسيّر شهابك، إلى أفق السّعد، ونأمل أن تيسّر لليسرى، ونؤمّرك فنزيد علم عزّك رفعا ولواء مجدك نشرا، ونأمرك ثقة بحسن أخلاقك، فيتلو لسان وفاقك: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً
«2» ؛ فمثلك من أيّدته العصم، وأصعدته الهمم، وحمدته الأمم، وأرشدته إلى الحكم ما عهدته فكرته من الحكم، وسدّدته أعراقه وأخلاقه فلا يزاد على ما فيه من كرم؛ فلا نذكّر منك ناسيا، ولا نفكّر لاهيا، ولا نأمر وننهى إلّا من لم يزل بالمعروف آمرا وعن المنكر ناهيا.
فاتّق الله تعالى: فعلى التّقوى مرباك، وراقب الله تعالى: فالمراقبة للملوك من بيتك ملاك، وجدّ في نصرة الحقّ ولا تأب: فقد أنجد الله تعالى بذلك جدّك وأباك، واعدل فبالعدل تعمر الدّول وأقم منار الشّرع، فهو الأصل الذي يرّد إليه من القضايا كلّ فرع، ومجاله الرّحب إذا ضاق الذّرع؛ فأيّد حاكمه، وشيّد معالمه، وأكّد الإلزام بأحكامه اللّازمة.(12/226)
والأمراء والجند فهم جناح النّجاح، وصفاح الصّفاح؛ فاعتمد أحوالهم بالصّلاح، وأرد فيهم ما استطعت الإصلاح، والخيّالة والرجّالة الذين يحمى بهم مصون الحصون أن يستباح؛ فالحظ أمورهم بعين فكرك في كلّ مساء وصباح، فمن نهض في الخدمة تعيّن من النّعمة أن يزاد ومن قصر في العزم قضى الحزم أن يزاح؛ والرعايا فهم للإحسان ودائع، وللامتنان صنائع؛ فأعذب لهم من المعدلة المشارع، وانصب لهم من إقامة الحرمة الزواجر والرّوادع، وأخصب لهم من النّعمة مربعا يرغّب الجامح ويقرّب الطائع؛ وأهل الذّمة فآوهم إلى كنف العدل الواسع، واحمهم أن تمتدّ إلى أنفسهم يد جان وإلى أموالهم يد طامع، وأقم عليهم بأسا يحلّ بهم إذا اعتدوا القواصم والقوارع، وأدم لهم مهابة تسدّ من فساد الذّرائع، وعاود آراءنا الشّريفة وراجع، وواصل بأنبائك السّارّة وأفعالك البارّة وتابع، وبما تتطلّع إليه خواطرنا العاطفة من متجدّداتك المباركة أتحف وطالع؛ والله تعالى يشنّف بحسن سيرتك المسامع، ويشرّف بحلول عدلك المحافل والمجامع، ويوزعك شكر نعمته ويجعل لك من عصمته أعظم وازع، ويمتّعك بأيّامنا الّتي فيها الخير الشّامل والبرّ الجامع، ويصون بخلالك الحسنى [ما استحفظت] «1» من أسنى الودائع، ويزيّن سماء العلياء بجلالك فمنها لك قمراها والنجوم الطوالع، ويوفّق بجميل قصدك إلى أن تأخذ من القلوب بالمجامع، ويحقّق في إسعاد جنابك المطالب ويشرق بإصعاد شهابك المطالع؛ والعلامة [الشريفة أعلاه حجّة بمقتضاه] «2»
الصنف الثاني- أرباب الوظائف الدّينية
. وبها قاض واحد شافعيّ؛ وتوقيعه في قطع الثلث ب «الساميّ» بالياء.
الصنف الثالث- الوظائف الدّيوانية
؛ وهي ثلاث وظائف، يكتب لكلّ منها توقيع في قطع العادة: الأولى كتابة الدّرج، الثانية نظر المال، الثالثة نظر الجيش.(12/227)
القسم الثالث (مما يكتب من الولايات عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية- ما يكتب لأرباب الوظائف بالمملكة الحجازية)
وقد تقدّم أنّها تشتمل على ثلاث قواعد:
القاعدة الأولى (مكة المشرّفة، وبها وظيفتان)
الوظيفة الأولى (الإمارة)
وقد تقدّم أنّ إمارتها في بني الحسن بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما، وأنّها كانت تولّى من أبواب الخلافة ببغداد إلى حين انقراضها، إلّا ما تغلّب عليه الفاطميّون أصحاب مصر في خلال ذلك. ثم استقرّت آخرا من جهة ملوك مصر إلى الآن. ويكتب له تقليد في قطع النّصف ب «المجلس العالي» بزيادة ألقاب تخصّه، وقد تقدّمت ألقابه في أوّل هذا الطّرف.
وهذه نسخة تقليد بإمرة مكّة المشرّفة: كتب بها عن الملك الناصر «محمد بن قلاوون» لأسد الدّين «رميثة» «1» بن أبي نميّ؛ بإمرة مكّة المشرّفة، عوضا عن أخيه «عطيفة» عند قتل الأمير الدمرجان دار وولده خليل، من إنشاء المولى تاج الدين بن البارنباري رحمه الله، في المحرّم سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة، وهي:
الحمد لله الحكيم: فالشّريف من اتبع أوامره، العظيم: فالسّعيد من اتّقى غضبه بأعماله الزاكية ونيّاته الطاهرة، الكريم: فالفائز من سلك مراضيه(12/228)
في الدنيا ليأمن في الآخرة؛ ومن أخاف عاكف حرم الله وباديه فقد باء بالأفعال الخاسرة، ومن عظم شعائر الله فقد رفل في حلل الإقبال الفاخرة.
نحمده على ألطافه الباطنة والظّاهرة، ونشكره ونرجوه وما زال ينجح راجيه ويزيد شاكره، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة من اتخذ الحق ناصره وأودع إخلاصها ضمائره، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي بعثه الله من الحرم فألّف القلوب النّافرة، وفتح مكّة فطهّرها من الزّمرة الكافرة، وقال في ذلك اليوم: «من أغلق عليه بابه فقد أمن» فأمسى أهلها ونفوسهم بالأمن ظافرة، صلّى الله عليه وعلى آله بني الزهراء العترة الزاهرة؛ وعلى صحبه النّجوم السافرة، وسلّم تسليما كثيرا.
أمّا بعد، فإنّ الحكم [بالعدل] »
شعارنا، وبالله اقتداؤنا واقتدارنا، وفي الإحسان رغبتنا، وفي كلّ عنق منّتنا، نصفح ونمنح، ونرعى من أمسى قديم الهجرة في ولايتنا وأصبح، ونقيم من أهل البيت لحفظ ذلك البيت الأصلح فالأصلح، ونقدّم من لم يزل مقدّما وإلى صوب الصواب يجنح فينجح، وننجي من الهلكة من لاح له منهج الخير فسلكه فأفلح.
وكانت مكّة المعظمة هي أمّ القرى، والبلد الأمين المجزل فيه القرى؛ نشأ الإسلام في بطحائها، وحرّمها الله فلا ينفّر صيدها، ولا يعضد «2» شجرها، ولا تحلّ لقطتها «3» إلّا لمنشد تأكيدا لتشريفها وإعلائها، وطلعت شمس النّبوّة من شعابها، وغسلت الذّنوب بوبل سحابها؛ فيها زمزم وكزة جبريل «4» ، وفيها(12/229)
بدأ الوحي والتّنزيل، وإليها أعنقت «1» الرّكاب ففي كلّ أبطح للمطيّ مسير ومسيل؛ فكم أتى إليها من سائر الناس سائر، وكم أتى إليها الناس رجالا وعلى كلّ ضامر؛ فالرّحمة مستقرّة بين نواحيها والعيون تتملّى بأنوار تلك الأستار حتّى تجتليها، والشّفاه تتشرّف بتقبيل ذلك الحجر الّذي يشهد لها في غد ويقيها، فطوبى لمتّقيها، وسحقا لمن أخاف وفد الله فيها؛ ونحن قد بصّرنا الله بخدمة بيتها المحرّم، وحرمها المعظّم، وكرّر إليها حجّنا وكرّمه، فلله الحمد أن كرّر حجّنا وكرّم؛ وما برحنا نقيم في إمارتها من العترة النّبويّة كلّ شريف النّسب، وكلّ من يكتسب فيها رضا الله تعالى: وكلّ آمريء وما اكتسب؛ فمن أصلح منهم أقمناه، ومن حاد عن الطاعة وجحد النّعمة أزلناه، ومن أخاف فيه السبيل لم نجعل له إلى الخير سبيلا، ومن استقام على الطريقة توكّلنا على الله وولّيناه، وكفى بالله وكيلا.
وكان فلان هو الّذي ما زالت خواطرنا الشريفة تقدّمه على بني أبيه، وتختاره أميرا وتجتبيه؛ وربّما سلفت من بيته هنات صفحنا عنها الصّفح الجميل، وما قابلناهم إلا بما يليق لمجدهم الحسنيّ الحسن الأصيل؛ والإمرة وإن كانت بيد غيره هذه المدّة فما كان في الحقيقة أمير عندنا سواه، لأنّه كبير بيته المشكور من سائر الأفواه.
والآن قد اقتضت آراؤنا الشريفة أن نقيمه في بلده أميرا مفردا إليه يشار، وأن نصطفيه- وإنّه عندنا لمن المصطفين الأخيار- وأن نجعل الكلمة واحدة ليأمن النّزيل والجار؛ ومتى تجاذب الأمر كلمتان فسد نظامه، ومتى أفرد الحكم حسنت أحكامه، ومتى توحّد الأمر زال الاختلاف، وزاد الائتلاف، وأقبلت أيّامه.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف أن تفوّض إليه إمرة مكّة المشرّفة، على عادة(12/230)
والده. فليتقلّد ما فوّضناه إليه من الإمرة والنيابة بمكة المعظّمة، شاكرا ما أنعم الله به عليه من مراضينا التي لا نجاة لمن لم ينل منها نصيبا موفورا، ولا فوز لمن لم يدرك منها حظّا كبيرا، وليشرع في تمهيد البلاد من إزالة المظلمة، وليطهّرها من كلّ مجتريء على الله تعالى في البقعة المحرّمة، ولا يقرّب من في قلبه مرض فيعديه، ولا يرجع لمن فيه شقاق ظاهر في صفحات وجهه وفلتات فيه، وليعلم أن هذا بلد حرام حرّمه الله يوم خلق السّموات والأرض، وصيّر حجّ بيته على مستطيعه من الفرض، وجعله للنّاس معادا ومعاذا، وقال صلّى الله عليه وسلّم يوم عرفة: «إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» .
فليمنع الدّماء من أن تراق، والأموال من أن تؤخذ بغير استحقاق؛ والظّلم في البلد الحرام حرام، وبنو حسن أحقّ باتباع سنّة الإسلام؛ واتّق الله لتلقاه بالوجه الأبيض والعمل الأغرّ، واتّبع سنّة جدّك: فعلى اتّباعها حثّ وأمر، والق وفد الله في البرّ والبحر بالحسنى فهم أضيافه، وأمّن الحجّ ليتمّ نسكه وطوافه.
هذا تقليدنا لك أيّها الشّريف: فطب نفسا بمراضينا، وصفحنا عما مضى ومنحنا الرّضا حقّا يقينا، لأنّا نتحقّق أنّ الإحسان يحرسنا ويقينا، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد شريف لأمير مكّة المشرّفة:
الحمد لله الّذي جعل البيت مثابة «1» للناس وأمنا، ونصب فيه للقانتين ركنا، وجعل أرض الحرم لا تبيد بركاتها ولا تفنى، وجعل لشجرة النّسب الهاشميّ فيها أصلا شريفا كم أخرج غصنا، وآتى بني الحسن فيها إحسانا من لدنه وحسنا،، وأقام منهم أميرا في ذلك المحل الأسنى.(12/231)
نحمده فرادى ومثنى، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة كاملة اللّفظ والمعنى، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي شيّد الله به للدّين خير مبنى، وأضحت الضّلوع على محبّته تحنى، وثمار الخير مما بين روضته ومنبره تجنى، وخصّه الله بالشّرع المستقيم والدّين الأهنى، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة في الصدور لها سكنى، وسلّم تسليما.
وبعد، فإنّ أمّ القرى، خير البلاد بلا مرا، قد جعل الله للناس إليها رحلة وسرى، وهجروا في قصدهم إليها لذيذ الكرى، ونصب فيها بيتا متين العرى، وأنبع فيها بئرا مأوها يشفي السّقيم ويبريء الورى «1» ، وجعل فيها للشّرف بيتا عالي الذّرى، فأميرها المطاع، من أهل بيت النّبوّة لا يخيّب ولا يضاع، ذو همّة تخافها السّباع، ويرهبها البطل الشّجاع، يعدّ من الآباء أسلافا كراما، كمصابيح السماء تجلو ظلاما، وقد طيّب الله مقامهم وأعلى مقامهم حين جاوروا مقاما.
ولما كان...... هو شريف العرب، المعرق في النّسب، الطّيّب الحسب، المحيي من آثار آبائه ما ذهب، الشّريف النّفس: فلا يلتفت إلى العرض الأدنى من الرّقّة وأكّد شكره الحرم وأهله، وأثنى على صفاء سيرته الصّفا وعلى مروءته المروة إذ طاب أصله؛ قد اقتفى في الكرم أباه وجدّه، وأمّن سبيل الحاجّ من جهة البرّ ومن جهة البحر من جدّة.
فلذلك رسم أن يفوّض إليه............ فليحلّ البلد الحرام حاكما وآمرا، وليستجلب له من العاكف والباد شاكرا، وليحسن للطّائفين والعاكفين والرّكّع السّجود، وليتّبع آثار آبائه أهل الكرم والجود، وليؤمّن الخائف في تلك التهائم والنّجود، وليردع الحائف عن حيفه فلا يعود، وليعلم أنّه بواد غير ذي زرع ولكن فيه للبركات ظلّ ممدود، وخير مشهود؛ وبمكة مولد أشرف مولود، وجدّه الحسن رضي الله عنه فليكن حسن الفعال فكما ساد يسود،(12/232)
وليعرب عن الثّناء الأبيض عند ما يتمسك بتلك السّتور السّود، وليتلقّ المحمل الشريف في كلّ عام، بالاحتفال والإكرام، والطاعة الّتي يبلغ بها المرام، وليقف مع أمراء الحاج مقيما لحرمتهم بجميل الاحترام، وليكفّ الأشرار من العبيد والموالي، عن النّهب والتّخطّف لوفد الله الّذي قطع السّرى بالأيام والليالي، وليلازم خدمة المحمل الشريف على ما يناسب شرفه، حتّى يقف بعرفة، ثم يدفع إلى المزدلفة، إلى أن يقضي الحجّ ويرحل من مكّة المشرّفة، وليكن سياجا على الحجّاج، في تلك الفجاج، حتّى لا يفقد أحدهم عقالا، ولا يجد اختزالا، ويرحلون عن مكّة المعظمة من الذّنوب خفافا وبمننه ثقالا. والوصايا كثيرة وهو غنيّ عن أن نطيل له فيها مقالا، وتقوى الله فمن تمسّك بها حسن حالا، وأنتم أهلها كرّمكم الله أهلا وآلا؛ والله الله في حفظ جانب الصّحابة رضي الله عنهم فليردع عن الخوض فيهم جهّالا، والله يجعله مغمورا مسرورا بنعم الله تعالى، بمنّه وكرمه!.
وهذه وصيّة لأمير مكّة، أوردها في «التعريف» :
وليعلم أنّه قد ولّي حيث ولد بمكّة في سرّة «1» بطحائها، وأمّر عليها ما بين بطن نعمانها إلى فجوة روحائها «2» ؛ وأنّه قد جعلت له ولاية هذا البيت الّذي به تمّ شرفه، وعلت غرفه، وعرف حقّه له أبطحه ومعرّفه «3» ؛ إذ كان أولى ولاة هذا(12/233)
الحرم بتعظيم حرماته، وسرور جوانبه بما يلوح من البشر على قيماته، ولأنّه أحقّ بني الزّهراء بما أبقته له آباؤه، وألقته إليه من حديث قصيّ جدّه الأقصى أنباؤه؛ وهو أجدر من طهّر هذا المسجد من أشياء ينزه أن يلحق به فحش عابها «1» ، وشنعاء هو يعرف كيف يتتبّعها «وأهل مكّة أعرف بشعابها» .
فليتلقّ راية هذه الولاية باليمين، وليتوقّ ما يتخوّف به ذلك البلد الأمين؛ وليعلم أنّه قد أعطى الله عهده وهو بين ركن ومقام، وأنّه قد بايع الله: والله عزيز ذو انتقام؛ وليعمر تلك المواطن، ويغمر ببرّه المارّ والقاطن، وليعمل في ذلك بما ينجّث عنه نجاره «2» ، ويأمن به سكّان ذلك الحرم الّذي لا يروّع حمامه فكيف جاره، ولينصت إلى اسمه [عز وجلّ] حيث يعلن به الدّاعي على قبّة زمزم في كلّ مساء وليعرف حقّ هذه النّعمة، وليعامل من ولّي عليهم بما يليق أن يعامل به من وقف تحت ميزاب الرّحمة؛ وقد أكد موثقه والله الله في نقضه، ومدّ يده على الحجر الأسود يمين الله في أرضه؛ وليتبصّر أين هو فإنّ الله قد استأمنه على بيته الّذي بناه، وسلّمه إليه بمشعره الحرام ومسجد خيفه ومناه؛ وإنّه البيت المقصود: وكلّ من تشوّق حمى ليلى فإنّما قصده أو لعلع بلعلع «3» فإنّما عناه؛ وفي جمعه يجتمع كلّ شتيت، وفي ليالي مناه يطيب المبيت، وبمحصّبه «4» تقام المواسم، وتفترّ الثّغور البواسم، وتهبّ من قبل نعمان الرّياح النّواسم، وفي عقوة «5» داره محطّ الرّحال في كلّ عام، ومعرّ كل(12/234)
ذات عود تجذب بقلع وعوذ «1» تقاد بزمام، وإليه تضرب التّجار البراريّ والبحار، وتأتيه الوفود على كلّ قطار يحدى من الأقطار؛ وكلّ هؤلاء إنّما يأتون في ذمام الله بيته الّذي من دخله كان آمنا، وإلى محلّ ابن بنت نبيّه الّذي يلزمه من طريق برّ الضيف ما أخذ لهم وإن لم يكن ضامنا.
فليأخذ بمن أطاع من عصى، وليردع كلّ مفسد ولا سيما العبيد فإنّ العبد المفسد لا يزجره إلا العصا، وليتلقّ الحجّاج بالرّحب والسّعة، فهم زواره وقد دعاهم إلى بيته وإنّما دعاهم إلى دعة، وليتلقّ المحمل الشريف والعصائب المنصورة، وليخدم على العادة الّتي هي من الأدب مع الله تعالى معنى ومعنا صورة، وليأخذ بخواطر التّجار فإنّهم سبب الرّفق لأهل هذا البلد وتوسعة ما لديهم، والمستجاب فيهم دعوة خليله إبراهيم- صلوات الله عليه- إذ قال:
فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ
«2» ولا تتحيّف أموالهم بغرامة يقلّ بها الغنم، ولا بظلامة فإنّه بإزاء هذا البيت الّذي يردّ دونه من أراد فيه إلحادا بظلم؛ ولينظر كيف حبس دونه الفيل، وليكفّ عادية من جاوره من الأعراب حتّى لا يخاف ابن سبيل، وليقم شعائر الشّرع المطّهر، وأوامر أحكامه الّتي قامت بأبويه: بحكم جدّه سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم وسيف أبيه حيدر، وليأمر طوائف الأشراف وأشياعهم وسائر أهل موالاتهم وأتباعهم بلزوم ما كان عليه صالح السّلف وما عليه الإجماع، وتجنّب ما كانت الزّيديّة زادت فيه وكفّ الأطماع، وليتّق الله فإنّه مسؤول لديه عما استرعاه وقد أصبح وهو له راع؛ وإيّاه أن يتّكل على شرف بلده، فإن الأرض لا تقدّس أحدا، أو شرف محتده، فإن في يوم القيامة لا ينفع ولد والدا ولا والد ولدا.
الوظيفة الثانية (قضاء مكّة، ويكتب به توقيع في قطع الثلث ب الساميّ» بالياء)
وهذه نسخة توقيع بقضاء مكّة المشرّفة:(12/235)
الحمد لله الّذي أنفذ الأحكام، بالبلد الحرام، وأيد كلمة الشّرع في بلده ومنشئه بين الرّكن والمقام، وجعل الإنصاف الجزيل، حول حجر إسماعيل، متّسق النّظام.
نحمده حمدا حسن الدّوام، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة عبد قائم بحقّها أحسن القيام، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله السامي من ولد سام، والّذي قام لله حتّى ورمت منه الأقدام، وأسري به من مكّة إلى السماء مرّتين: في اليقظة والمنام، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه أئمّة الصّلاة والصّيام، وسلّم تسليما.
وبعد، فإنّ وظيفة القضاء بمكّة المعظمة هي أجلّ منصب بتلك الأباطح، ونورها في الجبين لائح، فإنّ الشّرع نشأ منها والوحي أنزل فيها فزهيت البطائح، وظهرت النّصائح، وأطربت الصّوادح، وأسكتت النّوائح، وغمرت المنائح، وانتشرت المصالح؛ فمن ولي الحكم بها وعدل فذلك هو العدل الصالح؛ وكيف لا؟ وماء زمزم شرابه، وأستار البيت تمسّها أثوابه، وعلى الله أجره وثوابه، وفي ذلك الجناب الشريف كرم جنابه، وإذا دعا الله عند الملتزم «1» جاءه من القبول جوابه.
ولمّا كان فلان هو فرع «2» الدّوحة المثمرة، ومحصّل من العلوم الشّرعية المادّة الموفّرة، وله البحوث الّتي [هي] «3» عن أحسن الفوائد وغرر الفرائد(12/236)
مسفرة، ورضيّ أهل الحرم، لما جبل عليه من خير وكرم، [تمسك] «1» بالعروة الوثقى والقويّ الأتقى فلا جرم.
فلذلك رسم.........- لا زال..........
فليكن في أمّ القرى، كالوالد المشفق على الورى، وليتمسّك من التّقوى بأوثق العرا، وليخش ربّ هذا البيت إنّه سميع يسمع ويرى، ووفد الله قطعوا إليه المراحل في السّرى، ليصافحوا كفّه المضمّخ عنبرا، وليقض بين الخصوم بالحقّ فمثله من درأ الباطل: قد جعله الله جار بيت عالي الذّرا، وفي أرض شرّف الله جبالها وقدّس غيرانها فمنها غار ثور وغار حرا «2» ، لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يتعبد في غار حرا، وأوى إلى غار ثور لما هاجر مؤيّدا مظفرا؛ والوصايا كثيرة وملاكها تقوى الله فليتمسّك بها من أمام وورا، والله تعالى يجعل نهاره منوّرا، وليله مقمرا، بمنه وكرمه!
القاعدة الثانية (المدينة النبوية، وبها ثلاث وظائف)
الوظيفة الأولى (الإمارة)
والأمر فيها على ما مرّ في إمارة مكّة المشرّفة.
وقد تقدّم أن إمارتها في بني الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما، ويكتب لها تقليد في قطع النّصف ب «المجلس العالي» أيضا بألقاب مخصوصة، وقد تقدّم ذكر ألقابه.
وهذه نسخة تقليد شريف بإمارة المدينة النبوية، كتب به للأمير بدر الدين «وديّ بن جمّاز» «3» من إنشاء المقرّ الشهابيّ بن فضل الله، سقى الله عهده:(12/237)
الحمد لله الّذي صرّف أمرنا في أشرف البقاع، وشرّف قدرنا بملك ما انعقد على فضله الإجماع، وعرّف أهل طيبة الطّيبة كيف طلع البدر عليهم من ثنيّات الوداع، وأمدّها بوديّ صغّر للتّحبّب وإلّا فهو واد متدفّق الأجراع.
نحمده على نعمه الّتي أغنت مهابط الوحي عن ارتقاب البرد اللّمّاع، وارتقاء النظر مع بدره المنير إلى كلّ شمس سافرة القناع، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تخمد من الضلال ما شاع، ومن البدع ما استطار له في كلّ أفق شعاع، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله أشرف من أنفت به حميّة الامتناع، وألفت بنا سنّته أن ترعى لأهلها ولا تراع، وعصفت ريحها بمن يمالي دينه فمال إلى الابتداع، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين ليس في فضل أحد منهم نزاع، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن الاهتمام بكلّ جهة على قدر شرفها، وعلى حسب الدّرّة الثمينة كرامة صدفها، والكمامة بثمرها، والغمامة بمطرها، والهالة بما يجلو الدّجى من قمرها؛ والمدينة الشريفة النبويّة لولا ساكنها ما عاجت إليها الركائب، ولا ناجت حدائقها غرّ السّحائب، ولا وقفت بتأرّج شذا الرّوضة الغنّاء بها الجنائب، ولا بكى متيّم دمن العقيق بمثله من دم ذائب، ولا هاج إليها البرق متألّقا، ولا هام صبّ فيها بظبيات سلع والنّقا «1» ، ولكنّها مثوى النّبوّة ترابها، ومهوى الرّسل جنابها، ومأوى كتاب الله الفسيح رحابها؛ دار الهجرة الّتي تعالت شمس الشريعة بأفقها، وتوالت سحب الهدى من بين أبيرقها «2» ، وهي ثانية مكّة المعظمة في فضلها إلّا ما ذهب إليه في تفضيلها على مكّة مالك بن أنس، ومنها انبعثت للهدى نوّارة كلّ نور وشعاع كلّ قبس، وكانت لنبيّ هذه الأمّة صلّى الله(12/238)
عليه وسلّم أبقى داريه، وأعلى سماء حوت ثلاثة أقمار منه ومن جارية.
ولما كان بها لبعض الولاة من الشّيعة مقام، ولهم فيها تحامل لا يجوز معه من الانتقاد إلّا الانتقال أو الانتقام، حتّى إنّه فيما مضى لمّا كثر منهم على بغض الصاحبين- رضي الله عنهما- الإصرار، واشرأبّوا في التّظاهر بسبّهما إلى هتك الأستار، دبّ من النار في هذا الحرم الشريف ما تعلّق بكلّ جدار، وأبت لها حميّة الغضب إلّا أن يطهّر ما سنّته أيدي الرّوافض بالنّار؛ فلما اتّصل بنا الآن أنّ منهم بقايا وجدوا آباءهم على أمّة، واقتدوا بهم في مذهب الإماميّة بما لا أراده الله تعالى ولا رسوله صلّى الله عليه وسلّم ولا أولئك الأئمة، وحضر المجلس العالي الأميريّ الأصيليّ، الكبيريّ العادليّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، الزّعيميّ، المقدّميّ، الذخريّ، الكافليّ، الشّريفي، الحسيبيّ، النّسيبيّ، الأوحديّ، البدريّ، عزّ الإسلام والمسلمين، شرف الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، جمال العترة الطاهرة، جلال الأسرة الزّاهرة، طراز العصابة العلويّة، كوكب الذّرّيّة الدّرّيّة، خلاصة البقية النّبويّة، ظهير الملوك والسلاطين، نسيب أمير المؤمنين، وديّ بن جمّاز الحسيني- أدام الله تعالى نعمته- بين أيدينا الشريفة بمحضر قضاة القضاة الأربعة الحكّام، وتذمّم «1» بأنّ مع طلوع بدره المنير لا تبقى ظلامة ولا ظلّام، وتكفّل لأهل السّنة بما أشهدنا الله به عليه ومن حضر، وتلقّى بإظهار فضل الترتيب كما هم عليه: النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثم أبو بكر ثم عمر؛ فما اختصّهما الله بجواره إلا ليثبت لهما على غيرهما إفضالا، وليجعل قبورهما في معرفة أقربهم منه درجة مثالا، لما تواترت به الأحاديث الشريفة في فضائلهما ممّا هو شفاء الصّدور، ووفاء بعهده إذ يقول: «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي؛ عضّوا عليها بالنّواجذ وإيّاكم ومحدثات الأمور» ؛ فلم يسعنا إلا أن نجعل له منّا تقليدا يمحو بحدّه ما حدث من أحداث البدع، ويجدّد من عهد جدّه نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم في معرفة حقّ أصحابه رضي الله(12/239)
عنهم ما شرع، وثوقا بأنّه من بيت كان أوّل هذا الدّين الحنيف من دلّه «1» ، ومبدأ هذا الحقّ الظاهر ما أثّلته ومثّلته في سلفه الشريف بأقارب متّصله؛ وأنّه هو المورث من الفخار ما ورثه عن آبائه الكرام، المحدّث عن كرم الجدود بما لا يحقر له جوار أو يخفر ذمام، المشرق من الأسرة العلويّة بدرا تماما، المحدق به من الكواكب العلويّة ما يظن به أبا تسمّى وابنا تسامى، المنتخب من آباء صدق أحسن في ديارهم الصنيع، وحفظ من حسبهم الكريم ما أوشك أن يضيع، واستضاء بلامعة من هدى سلفه السابق، وهامعة من ندى ما يرويه السّحاب عن الجود والبرق عن المهارق، تهتزّ بمقدمه المدينة سرورا، وتفترّ رباها منه بنسب كأنّ على نسبه من شمس الضّحى نورا، ويتباشر ما بين لابتيها «2» بمن يحمي حماها، ويحيّي محيّاها، وتتشوّف منه ربا كلّ ثنيّة إلى ابن جلادها، وطلّاع ثناياها، مع ما لا يجحد من أنّ له فيها من أبيه حقّ الوراثة، وأنّه لما كان هذا ثاني المسجدين احتاج إلى ثاني اثنين تعظيما للواحد وفرارا من الثّلاثة، ليكون هو ومن فيها الآن بمنزلة يدين كلتاهما تقبل الأخرى، وأذنين كلتاهما توعي درّا، وعينين ما منهما إلا ما يدرك أمرا بعيدا، وفرقدين لا يصلح أن يكون أحدهما فريدا، وقمرين لا يغلّب أحدهما على الآخر في التّسمية بالقمرين، وعمرين وكفى شرفا أن لا يوجد في الفضل ثالث للعمرين.
فرسم بالأمر الشريف العاليّ، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الفلانيّ- زاد الله به المواطن شرفا، وزاد به البواطن الشريفة حبّا وشغفا- أن يفوّض إليه نصف الإمرة بالمدينة الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، شريكا(12/240)
للأمير سيف الدين ابن أخيه «1» ، ورسيلا معه فيما يليه، ولكلّ منهما حقّ لا يكاد الآخر يخفيه، هذا له برّ الولد وهذا له حرمة الوالد لأنّ ابن الأخ ولد وعمّ الرّجل صنو أبيه؛ فتقسم الإمرة بينهما نصفين، وتوسم جباه الكتب الصادرة عنهما لهما باسمين.
والوصايا تمدّ من عنانها، وتعدّ من أعيانها؛ فأوّلها تقوى الله فإنّها من شعائر القلوب، وبشائر الغيوب، وأمائر نجاح كلّ مطلوب، والاعتصام بالشّريعة الشريفة: فإنّها الحبل الممدود، والجبل الّذي كم دونه من عقبة كؤود، والانتهاء إلى ما نصّ عليه الكتاب والسنة والإجماع، وقصّ جناح من مال به الهوى إلى مجاذبة الأطماع، وتلقّي وفد الله الزائر بما ألفه نزيل هذا الحمى من كرامة الملتقى، وتوقّي المذمّة فإنّها دنس لا يحمد مثله نقاء هذا النقا؛ ونعني بالمذمّة ما نسب إلى الرّوافض من البدع الّتي لا تطهّرها غرّ السحاب، ولا يستبيح معها لدخول المسجد الطّاهر من قنع بمقامه حوله التّيمّم بالتراب؛ ولا يدع أحدا من هذه الفرقة الضّالّة بعلي ولا يعيّره بما يكون به مثلة، ولا يشبّه قلبه في محبّة أهل البيت- سلام الله عليهم- بإناء امتلأ ماء ولم تبق فيه فضلة.
ولا يظنّ جاهل منهم أنّ عليه- كرّم الله وجهه- كان على أحد من الصاحبين معاتبا أو عاتب، أو أنّه تأوّل في خلافتهما معتقدا أنّ أحدا منهما غاصب؛ فما تأخّر عن البيعة الأولى قليلا إلّا لاشتغاله بما دهمه بموت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المصائب، وإلّا فقد اتخذ أمّ ولد من سبي أبي بكر رضي الله عنه لاكما يدّعيه كلّ كاذب، وقد تزوّج عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ابنته أمّ كلثوم وأقام بأمره الحدود وناب عنه وهو غائب؛ فيكفّ من عادية هؤلاء الروافض الأشرار ما سيصلون في المواقفة بناره، وسيصلون إلى الموافقة على ما طار من شراره، ولا يدع للإماميّة إماما يقتدي به منهم قوم شرار، ولا قاضيا يقضي(12/241)
بينهم: فإنّه إنّما يقطع لمن قضى له أو عليه قطعة من نار، ولا عالما يرفع له علم، ولا يفتح لهم بفتوى على مذاهبهم فم، حتّى ولا ما يتحرّك به في فم الدواة القلم.
وليطهّر هذا المسجد الشريف من دنسهم، وليمط ما يحمله أديم مجلدات التّصانيف من نجسهم؛ وسكّان هذا الحرم الشريف ومن أقام عندهم من المجاورين، أو خالطهم من زمر المقيمين والسائرين، يحسن لأمورهم الكفالة، ولا يتعرض لأحد منهم بما يؤذي نفسه ولا يناله؛ فهم في جوار نبينا صلّى الله عليه وسلّم وفي شفاعته، وكلّ منهم نزيل حرمه ومكثّر سواد جماعته، وحقّهم واجب على كل مسلم فكيف على حامي ذلك الحمى، بل من له إلى نسبه الشّريف منتمى.
واصحب رفيقك بالمعروف فإنّكما مفترقان والسعيد من لا يذمّ بعد فراقه، ومستبقان إلى كلّ مورد لا يدرى أيّكما المجدّ في سباقه، ومتّفقان على فرد أمر وأفضلكما من دوام صاحبه على إرفاقه، وصحبه على وفاقه.
وأمّا ما للمدينة الشريفة من تهائم ونجود مضافة إليها، ومستظلّة بجدرها أو متقدّمة في الصّحراء عليها، فهي ومن فيها: إما أن توجد بقلوبهم فهم أعوان، وإما أن تنفر فهم أشبه شيء بالإبل إذا نفرت تعلّق بذنب كلّ بعير شيطان؛ فأقربهما إلى المصلحة تقريبهم، وتأليفهم بما يقرب به بعيدهم ويزداد قربى قريبهم؛ والرّكبان الّتي تتّقد بهم جمرات الأصباح «1» والعشايا، ويعتقد كلّ منهم في معاجه إلى المدينة الشريفة أنّ تمام الحجّ أن تقف عليها المطايا؛ فهم هجود سرى، ووفود قرى، وركود في أفق الرّحال خلعت مقلهم على النجوم الكرى، ومعهم المحامل الشريفة الّتي هي ملتفّ شعابهم، ومحتفّ ركابهم، وهي من أسرّتنا المرفوعة، ومبرّتنا المشروعة؛ فعظّم شعائر حرماتها، وقبّل أمام منابرها الممثلة مراكز راياتها، وأكرم من جاء في خفارتها، ومن جال في دجى اللّيل لا(12/242)
يستضيء إلّا بما يبدو من إشارتها، وقد أشهدنا عليك من هو لك يوم القيامة خصيم، وأنت وشأنك فيما أنت به عليم.
وباقي الوصايا أنت لها متفطّن، وعليها متوطّن، وما ينتفع الشريف بحسبه، إن لم يكن عمله بحسبه، ولا يرتفع بنسبه، إن لم يتجنّب مكان نشبه «1» ، والله تعالى يمتّع بدوام شرفه، ولا يضيّع له أجر حالّ عمله الصالح وسلفه؛ والاعتماد.......
وهذه نسخة تقليد شريف بإمرة المدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام:
الحمد لله الفرد بلا شريك، الواحد لا من أعداد تقتضي التّشويك، المليك الّذي يتناهى إليه تقليد كلّ مليك.
نحمده حمدا يكمّل مواهب التّمليك، ويحمد عواقب التّسليك، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تصدع التّشكيك، وتصدّ كلّ أفيك «2» ، وتسدّ خلل التّدريك، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله خير من حمي به عريك «3» ، وحمى عليه تريك، وحمل حتّى تأتّى له التحرير في التّحريك، وتأنّى وما فاته على أعدائه النّصر الوشيك، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تخلص كالذّهب السّبيك، وترفع ما شيّد وتمنع ما شيك، وسلّم تسليما كثيرا.
أمّا بعد، فلما كانت المدينة الشريفة النبوية- على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- حرما لا يستباح، وحمى ليس إلّا لمن انتهكه دم مباح، وجنابا ما على من حلّه جناح، ومهبط وحي لا يمسّح بأركانه لغير الملائكة جناح، ولا يمسّك(12/243)
بعصمة من أغضى فيه على قذى، وسكت لساكنيه على أذى.
ولمّا اتصل بنا عن الرّوافض ما لا صبر لمسلم يرجو الله واليوم الآخر عليه، ولا وجه لمن قنع فيها بإخراج يديه، ولا عذر لمن لقي الله مغضبا لما ينهى إليه، لا مغضبا لما ينال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من التعرّض إلى صاحبيه، مما تقاضى منّا ما يمحو ظلامه الممتدّ، وظلمه المشتدّ، وبدعهم فسواء من ابتدعها ومن ارتدّ- فمكّنّا بتقليدنا الشريف من أعطى الله وأعطانا على قوله موثقا، وجرّد عزائم لا تردّها من خدعهم الرّقى، وأشهد الله عليه ومن حضر أنّه لا يدع هذه الفرقة الضالّة حتى يدعّ يتيمها، ويعدّ لمقاتل السّيوف حطيمها: مما تضمنه نصّ ماضي ذلك التّقليد، وما ضم ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السّمع وهو شهيد، ونبّهنا على أنّه بدر لم يبق مع طلوعه ظلمة ولا ظلامة، ولا إضاعة ولا إضامة «1» ، ولا ما تتجنّب به الرّكائب تمام الحجّ في مواقفها، ولا تنكر ما جهلت في قباب قباء من معارفها، وترد أعطانها ولا يسوقها إلى الأبرق بارق على أطلاله، ولا يعجبها إن خيل لها في النخيل مقيل في ظلاله.
وكان المجلس العالي- أدام الله تعالى نعمته هو المتكفّل بتطهير ذلك الحرم الشريف من ألم كلّ قول يفترى، ولمّ كلّ باطل يلمّ يقظة أو طيف كرى، وإزالة كلّ شحّ فيها على من أمّل قرى أمّ القرى، وإماتة كلّ بدعة تسكب على مثلها العبرات، وإماطة كلّ أذى من طريق منى والجمرات، ومنع شقاشق شيعة تغلي مراجلها من الزّفرات، وقطع كلّ نجوى ينادون بها من وراء الحجرات، وقلع طائفة لولا إقامة حدود الله لكفاهم ما يقطّع أكبادهم من الحسرات؛ وكان بها من أولاد أخيه، بل بعضه منه وبعضه من بني أبيه، من التهى عمّا تتحلّى به شيم الشريف الشريفة، وانتهى إلى ما لا يعنيه ولا يغنيه في(12/244)
تأخير خليفة وتقديم خليفة، وأهمل حقوقا عواقبها مع الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم مخيفة، وأوهم عقوقا لأصحابه بل له لقوله: «دعوا لي أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مدي أحدهم ولا نصيفه» . وبقي يتّصل بنا في هذا المعنى ما لا يقال ممّا يقال عنهم، ويصل أذاهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في صاحبيه وقد قال: «إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما يرون النّجم الطالع في أفق السماء، وإنّ أبا بكر وعمر منهم» يطلبون في التقديم على من قدّمه الله ردّ فائت ما جرى به القدر «1» ، ويضربون صفحا عما لا أراده الله ولا رسوله صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «لا أدري ما قد بقي لي فيكم فاقتدوا باللّذين من بعدي:
أبي بكر وعمر» . مع ما أضيف إلى هذا من قوادح نواب، وفواتح أبواب، وحوادث تزعج مقرّ النبوّة أنباؤها، وتمتدّ على مشارق الأنواء ظلماؤها، وتغيّر عوائد الوفود في كرامة زائرهم، وإدامة بشاشة الملتقى لسائرهم، وأمن سربهم أن يراع، وشربهم أن يتمثّل به لغير برق شعاع، وضمّهم إلى ذلك الحمى الّذي لا يضام نزيله، ولا يرام في طريق المجرّة سبيله، ولا يضلّ سار إليه ووجوه سكّان الحمى دليله، ولا يضيع وقد تلقّاه من النّسيم بليله بليله، ولا يقف وقفة المريب وضوء الصباح من أيمن النّقا قنديله، ولا يخشى وشعب ذلك الحيّ شعبه وقبيله قبيله، وإراحة ركابهم الّتي أزعجها حادي السرى، وإمتاعهم بقرب الجوار عوضا من دموعهم عمّا جرى.
فلمّا لم يبق لمن أشرنا إليه- ممّن أعطانا عهد موثقه، وسار لا يريد إلا نقاء نقاه وبراءة أبرقه- إلّا أن يحطّ بالمدينة الشريفة ركابه، ويبعد الشّكوى مما لا عهد من معاهدها اقترابه- أصرّ من فيها من ذوي قرابته «2» على منعه أن(12/245)
يدخلها إلّا بقتال يخلّ مقاعد الحرم، ويحلّ معاقد «1» الحرم، ويشعل نارا يصلى بها من لم تمتدّ له يد إليها إلى وقود، ويروع من الآلف فيها من يمتدّ له في غير مراتع غزلان النّقا سجاف قيام معقود، وقدم إلى أبوابنا العالية من كان فيها مقيما، وأنعمنا عليه بإبقاء النّصف ففاته الكلّ لمّا لم يقنع أن يكون قسيما؛ فأبت حميّتنا لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم ولتلك المواطن المعظمة إلّا أن نطهّرها مما أسبلت على سريره أذيالها، وما أطاقت على مضضه الأليم احتمالها.
فرسم بالأمر الشريف- لا زال قدره عاليا، وبرّه لا يخلّ بوديّ ولا يخلي مواليا- أن تفوّض إليه إمرة المدينة الشّريفة النبويّة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام: مستقلّا بأعبائها، مستهلّا سحابه على أرجائها، إمرة تستوعب جميعها، وتستوعي لمراسمه رباها وربوعها وعاصيها ومطيعها، وتهائمها ونجودها، وقريبها وبعيدها، وكلّ ما يدخل لها في حدّ، وينتظم لها في عدّ، وأهل حاضرتها وباديتها، وما تقف عليه من السّحب ركائب رواعيها وغاديتها، ومن تتبسّم بهم ثناياها، وتتنسّم لهم أرواح بكرها وعشاياها، ومن يضمّهم جناحها المفضّل، ويلمّهم وشاحها المفصّل، ويجمعهم جيشها السائر، ويلفّهم في شملة الدّجى قمرها الزّاهر- تفويضا يدخل فيه كلّ شريف ومشروف، ومجهول ومعروف، ومستوطن من أهلها، وغريب انتهت [به] إليها مطارح سبلها، ما فيه تأويل، ولا تعليل، ولا استثناء، ولا انثناء، ولا تخرج منه الأرض المغبّرة ولا الرّوضة الغنّاء، لا شبهة فيه لداحض، ولا حجّة لمعارض؛ يستقلّ بها جميعها بدره التمام، وبرّه الغمام، وبحره الّذي يأبى فريده أن يؤاخى في نظام، وأمره الّذي يتلقّى به عن الثقة من سادات بيته مقاليد الأحكام، وتقاليد ما يجري به القلم ويمضي السيف الحسام، إفرادا في التحكيم، وأنفة لمثله من ضرر التّقسيم، وفرارا من الشّركة «2» المشتقة من الشّرك:(12/246)
إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
«1» ، ولاية تامة، عامة، كاملة، شاملة، لا يبقى من أهل نجد من لا يدخل في حكمها، وينضاف إلى قسمها، تقابل السّوابق في غاياتها، وتقاتل الجحافل تحت راياتها، ويعدّ مع أهل بدر فيها، ويعدّ من حقوقها ما يوفّيها.
وقد سبق من الوصايا ما فيه غنى، إلّا ما لا تخل العوائد به مما يذكر هنا؛ وقد حويت بحمد الله في جميع طباعك، وجميل انطباعك، من حقّ اعتزامك؛ وصدق التزامك، ما هو كالسّنا للشّمس، والمنى للنّفس، مما تحسد على شرفه النّجوم، وتنافس العلياء ما تعلق به الغيوم.
فكمّل بتقوى الله شرفك، واتّبع في الشريعة الشّريفة سلفك؛ وكتاب الله المنزّل، أنتم أهل بيت فيكم تنزّل، وسنة جدّكم سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تهمل، وهي مجدكم المؤثل، ومعرفة حقّ من مضى عنكم، وإلا فعمّن تنقل، ومنكم، وإلا فممّن تؤمّل، وإزالة البدع وإلّا فلأيّ شيء سيوفكم تصقل، و [لماذا] «2» رماحكم تعدّل؛ والرافضة وغلاة الشّيعة هم دنس من انتمى إلى هذا البيت الشريف بولائه، وسبب وقوف من يقصد الدّخول تحت لوائه؛ فهم وإن حسبوا من أمداده، ليسوا- وحاشى نوره الساطع- إلّا من المكثّرين لسواده؛ أرادوا حفظ المودّة في القربى فأخلّوا، وقصدوا تكثير عددهم فقلّوا، وأنف من هو بريء من سوء مذهبهم، أن يتظاهر بالولاء فيعدّ من أهل البدع بسببهم؛ مع أنّهم طمعوا في رضا الله فأخطأتهم المطامع، وصحيح أنّهم زادوهم عددا إلّا أنّها كزيادة الشّغياء «3» أو كزيادة الأصابع.(12/247)
فصمّم عزمك على ما عاهدت الله عليه من رفع أيدي قضاتهم، ومنعهم هم ومن اتّبع خطوات الشّيطان في سبيل مرضاتهم، وحذّرهم ممّا لا يعود معه على أحد منهم ستر يسبل، ولا يبقى بعده لغير السّيف حكم يقبل؛ فمن خاض للسّلف الصالح يمّ ذمّ أغرق في تياره، أو قدح فيهم زناد عناد أحرق بناره؛ وألزم أهل المدينة الشريفة- على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم- بكلمة السنة فإنّها أوّل ما رفعت بتلك المواطن المعظّمة أعلامها، وسمعت في تلك الحجرة المكرّمة أحكامها، مع تعفية آثار ما ينشأ على هذه البدعة من الفتن حتّى لا ينعقد لها نقع مثار، وتوطئة أكناف الحمى لئلا يبقى به لمبطل في مدارج نطقه عثار؛ والوصية بسكّان هذا الحرم الشريف ومن ينزل به من نزيل، ويجاور به مستقرّا في مهاد إقامة أو مستوفزا على جناح رحيل، ومن يهوي إليهم من ركائب، ويأوي إليهم من رفقة مالت من نشوات الكرى بهم راقصات النّجائب، ومن يصل من ركبان الآفاق، وإخوان نوّى يتشاكون إليهم مرّ الفراق، ومن يتلاقى بهم من طوائف كلّهم في بيوت هذا الحيّ عشّاق، وأمم شتّى جموعهم: من مصر وشام ويمن وعراق، وما يصل معهم في مسيل وفودنا، وسبيل جودنا، ومحاملنا الشريفة الّتي ينصب لنا بها في كلّ أرض سرير، وأعلامنا الّتي ما سمّيت بالعقبان إلّا وهي إليها من الأشواق تطير؛ فمتى شعرت بمقدم ركابهم، أو برقت لك عوارض الأقمار من سماء قبابهم، فبادر إلى تلقّيهم، وقبّل لنا الأرض في آثار مواطيهم، وقم بما يجب في طاعة الله وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وطاعتنا [وأخرج عنهم كلّ يد ولا تخرجهم عن جماعتنا] «1» .
وأهل البادية هم حزبك الجيش اللهام، وحربك إذا كان وقودها جثث وهام، وهم قوم لم يؤدّبهم الحضر، ولا يبيت أحد منهم لأنفته على حذر، فاستجلب بمداراتك قلوبهم الأشتات، وبادر حبال إبلهم النّافرة قبل البتات، وترقّب مراسمنا المطاعة إذا ذرّت لك مشارقها، وتأهّب لجهاد أعداء الله متى(12/248)
لمعت لك من الحروب بوارقها، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولولا أنّ السيف لا يحتاج إلى حلية لأطلنا حمائل ما نمليه عليك؛ فما شهد للشّريف بصحّة نسبه، أزكى من عمله بحسبه؛ والله تعالى يقوّي أسبابك المتينة، ويمتع العيون بلوامعك المبينة، ويمسك بك ما طال به إرجاف أهل المدينة، والاعتماد ...
وهذه نسخة تقليد بإمرة المدينة النبوية، وهي:
الحمد لله الّذي خصّ بالنّصرة، دار الهجرة، وأطلع للإيمان فجره، بتلك الحجرة، وطيّب طيبة وأودع فيها سليل الأسرة.
نحمده حمدا نأمن به مكره «1» ، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة عبد تمسّك بالحجّ وتنسّك بالعمرة، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي شرّف الله قدره، وأنفذ أمره، وأيّده في ساعة العسرة، وكان أكرم الناس في العشرة، وأسخى العالمين إذ يبسط بالجود راحتيه فما أسمح عشره، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة ثبتت شجرتها من الأرض فاتّصلت فروعها بالسّدرة «2» ، وسلّم تسليما.
وبعد، فإنّ المدينة النبوية معدن الهدى والوقار، ومسكن الرّضوان والأنوار، ومهبط الملائكة الأبرار، ومنزل الوحي في اللّيل والنهار، ودار الهجرة(12/249)
للنبيّ المختار، وتربة مدفنه الزّاكي المعطار؛ تشدّ الرّحال إليها من أقاصي الأقطار، ويأتي إليها الظّالمون لأنفسهم بالاستغفار، فيرجعون وقد محيت عنهم الأوزار؛ فقلوب أهل الاشتياق مقيمة في فناء تلك الدّار، وإن كانت أجسامهم بعيدة من وراء البحار، وبها من آل البيت سادة أطهار، وأمراء كبار، يتقرّب إلى الله بحبّهم في الإعلان والإضمار، ويتوسّل بولائهم في دعوة الأسحار، قد ضمّوا إلى كرم الراحة، وسماحة الأنفس المرتاحة، شجاعة وبسالة، وعلويّة فعّالة، وتمسّكا بالمروءة المعروفة بشرف الأصالة؛ وهم يتوارثون إمرتها عن آباء سادات، وكرام لهم في الفضل عادات.
ولما كان فلان هو بقية الأسرة المتضوّعة، وثمرة الشّجرة المتفرّعة، والمخصوص بالوصف الّذي رفعه، والقول الّذي اتّبعه حين سمعه- ما زال في المدينة النبويّة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام مشكور الطّريقة، محفوظ الوثيقة، معروف الحقيقة، موصوف الآثار الحسنة بين الخليقة، يجتني لكلّ صالحة من تلك الرّوضة الشريفة المثمرة الوريقة، ويحمي السّرح أن ينتهب، ويطفيء نار الفتن فما تلتهب، ويعظّم المجاورين والواردين والقادمين على حمى سيّد العجم والعرب.
فلذلك رسم أن يستقرّ..........
فليحلّ هذا الرّبع المعمور بالتّقى، وليباشر هذه الإمرة الشّريفة زادها الله علوّا وارتقا، وليستعمل السكينة فإنّها جميلة اللّقا، وليسلك الأدب مع ساكن النّقا، وليعتمد على حسن اليقين فإنّه له وقا، وقد جاور العقيق فأصبح بقلائده الفاخرة مطوّقا، وليحكم بالعدل في بلد نشأ منه العدل والإنصاف فمنذ اجتمعا فيه ما افترقا، وليصن شرفه من الولوج في فتنة، وليغمد سيفه ولا يشهره في وقت محنة، ويحقن الدّماء أن تراق، ويتلقّ الزّوّار بالإرفاق، فإنّهم جاءوا من أقاصي الآفاق، رجالا وعلى النّياق، تحثّهم الصّبابة والأشواق.
وكلمة الشّرع وشعار السّنّة فليكن معظّما لها باتفاق بغير شقاق، وشيخ(12/250)
الحرم الشّريف وخدّامه ومجاوريه فليكرم محسنهم ويعامله بحسن الأخلاق، ويتجاوز عن مسيئهم بطيب أخلاق، وحواصل الحرم الشّريف المخزونة فيه فلتكن محميّة من التبذير في وقت الإنفاق، وتلك دار هم سكانها الطيّبو الأعراق؛ والتّقوى فمن بيتهم الشّريف آثارها الإشراق، وعليهم نزل الفرقان والتّحريم والطّلاق، فماذا عسى أن يوصيه وهو أهل الفضل على الإطلاق؛ والله تعالى يجعل نجاره في الفخر مجلّيه في السّباق، بمنّه وكرمه!.
وهذه وصية لأمير المدينة أوردها في «التعريف» ، وهي: «1» فكمّل بتقوى الله شرفك، واتّبع في الشريعة الشريفة سلفك؛ وكتاب الله المنزّل، أنتم أهل بيت فيكم تنزّل، وسنة جدّك سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تهمل، وهي مجدكم المؤثّل، ومعرفة حقّ من مضى، عنكم، وإلا فعمّن تنقل، ومنكم، وإلّا فممّن تؤمّل، وإزالة البدع وإلّا فلأيّ شيء سيوفكم تصقل، ولماذا رماحكم تعدّل، والرافضة وغلاة الشّيعة هم دنس من انتمى إلى هذا البيت الشريف بولائه، وسبب وقوف من يقصد الدّخول تحت لوائه؛ فهم وإن حسبوا من أمداده، ليسوا- وحاشى نوره الساطع- إلا من المكثّرين لسواده؛ أرادوا حفظ المودّة في القربى فأخلّوا، وقصدوا تكثير عددهم فقلّوا، وأنف من هو بريء من سوء مذهبهم، أن يتظاهر بالولاء فيعدّ في أهل البدع بسببهم؛ مع أنّهم طمعوا في رضا الله فأخطأتهم المطامع، وصحيح أنّهم زادوهم عددا إلّا أنّها كزيادة [الشّغياء أو كزيادة] «2» الأصابع.
فصمّم عزمك على ما عاهدت الله عليه من رفع أيدي قضاتهم، ومنعهم من اتّباع خطوات الشيطان في سبيل مرضاتهم، وحذّرهم مما لا يعود معه على أحد منهم ستر يسبل، ولا يبقى معه لغير السّيف حكم يقبل؛ فمن خاض(12/251)
للسّلف الصالح يمّ ذمّ أغرق في تيّاره، أو قدح فيهم زناد عناد أحرق بناره؛ وألزم أهل المدينة الشريفة النبويّة بكلمة السّنّة فإنّها أوّل ما رفعت بتلك المواطن المعظمة أعلامها، وسمعت في تلك الحجرة المكرّمة أحكامها، مع تعفية [آثار] «1» ما ينشأ على هذه البدعة من الفتن حتّى لا ينعقد لها نقع مثار، وتوطئة أكناف [ذلك] «2» الحمى لئلا يبقى به لمبطل في مدارج نطقه عثار؛ والوصيّة بسكّان هذا الحرم الشريف على الحالّ به أفضل الصلاة والسلام ومن ينزل به من نزيل، ويجاور به مستقرّا في مهاد إقامة أو مستوفزا على جناح رحيل، ومن يهوي إليهم من ركائب، ويأوي إليهم من رفقة مالت من نشوات الكرى بهم راقصات النّجائب، ومن يصل من ركبان الآفاق، وإخوان نوى يتشاكون إليهم مرّ الفراق، ومن يتلاقى بها من طوائف كلّهم في بيوت هذا الحيّ عشّاق، وأمم شتّى جموعهم من مصر وشام [ويمن] «3» وعراق، وما يصل معهم في مسيل وفودنا، وسبيل جودنا، ومحاملنا الشريفة الّتي ينصب لنا بها في كلّ أرض سرير، وأعلامنا الّتي ما سمّيت بالعقبان إلّا وهي إليها من الأشواق تطير.
فمتى شعرت بمقدم ركابهم، أو برقت [لك] «4» عوارض الأقمار من سماء قبابهم، فبادر إلى تلقّيهم، وقبّل لنا الأرض في آثار مواطيهم، وقم بما يجب في طاعة الله وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وطاعتنا، وأخرج عنهم كلّ يد ولا تخرجهم عن جماعتنا.
وأهل البادية هم حزبك الجيش اللهام، وحربك إذا كان وقودها جثث وهام، وهم قوم لم يؤدّبهم الحضر، ولا يبيت أحد منهم لأنفته على حذر، فاستجلب بمداراتك قلوبهم الأشتات، وبادر حبال إبلهم النّافرة قبل الانبتات، وترقّب مراسمنا المطاعة إذا ذرّت لك مشارقها، وتأهّب لجهاد أعداء الله متى لمعت لك من الحروب بوارقها، وأحسن كما أحسن الله إليك؛ ولولا أنّ السّيف لا يحتاج إلى حلية لأطلنا حمائل ما نمليه عليك؛ فما شهد للشّريف(12/252)
بصحّة نسبه، أزكى من عمله بحسبه، والله تعالى يقوّي أسبابك المتينة، ويمتع العيون بلوامعك المبينة، ويمسك بك ما طال به إرجاف أهل المدينة.
الوظيفة الثانية (القضاء)
وكان في الزّمن القديم بها قاض واحد شافعيّ، ثم استقرّ بها قاضيان آخران: حنفيّ ومالكيّ، يكتب لكلّ منهم توقيع في قطع الثلث ب «الساميّ» بالياء.
وهذه نسخة تقليد بقضاء الشافعية بالمدينة النبوية:
الحمد لله الّذي جعل الشرع الشريف دافق السّيول، وفي طيبة له الأصول، ومنها نشأ وتفرّع فله في البسيطة عموم وشمول، وكلّ قطر به مشمول، وكل ربع به مأهول، وتأكّد به المعلوم وتبدّد به المجهول، وزالت الشرائع كلّها وهو إلى آخر الدّهور لا يزول.
نحمده وحمده يطول، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة عمرت [بها] «1» طلول، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله أشرف رسول، وأكرم مأمول، وأفضل مسؤول، ومهنّد من سيوف الله مسلول، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبي الفروع والأصول، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ الشرع الشريف معدنه في أرض ثوى خير الرّسل فيها، ومنشؤه في بلد ملائكة الله تحميها؛ فلا يلي أقضية الناس إلّا من طالت ذوائب علمه، وأشرقت ثواقب فهمه، وبنيت على الأصول قواعد حكمه، وتحلّى بالورع فتجلّى في سماء النجاة كنجمه.
ولما كان فلان هو الّذي جذبته السعادة إلى مقرّها، وخطبته المغفرة إلى(12/253)
موطن برّها، وأهّلته الأقدار إلى جوار نبيّ هو خاتم الأنبياء وفاتح أمرها، وأصبح للحكم في المدينة، مستحقّا لما فيه من سكينة، وتحصيل للعلم ومن حصّل العلم كان الله معينه.
فلذلك رسم أن يستقرّ.............
فليباشر منصبا جليلا في محلّ جليل، وليعلم أنّ سائر الأمصار تغبطه وتحسده وما لمنصبه من مثيل؛ أين يوجد سواه في كل سبيل؟ من قاض هو بسيّد المرسلين نزيل، ومن يصبح ويمسي جارا للمستجير في المحشر الطّويل.
فاحكم بين ناس طيبة بورع وتأصيل، وتحرير في تحريم وتحليل، واتّق الله في كلّ فعل وقيل، واستقم على الحقّ حذار أن تميل؛ فصاحب الشّرع أنت منه قريب والنبيّ من الله قريب وحبيب وخليل، وماذا عسى أن نوصيه وهو بحمد الله تعالى كالنّهار لا يحتاج إلى دليل.
وأما الخطابة: فارق درج منبرها، وشنّف الأسماع من ألفاظك بدرّها وحرّر ما تقوله من المواعظ فإن صاحب العظات يسمعك، وتواضع لله فإنّ الله يرفعك؛ وهذا المرقى فقد قام فيه النبيّ الأميّ سيد الثّقلين، ومن بعده الخليفتان قرّتا العين، ومن بعدهما عثمان ذو النّورين، وعليّ رضي الله عنه أبو الحسنين؛ فاخشع، عند المطلع، واصدع، بما ينفع، وانظر لما تقوله فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم هناك يسمع، وقاضي المدينة وخطيبها يرجو أن ليس للشيطان فيه مطمع؛ والله تعالى يحوز له الخير ويجمع، بمنّه وكرمه!.
الوظيفة الثالثة (مشيخة الحرم الشريف)
وقد جرت العادة أن يكون له خادم من الخصيان المعبّر عنهم بالطّواشيّة، يعيّن لذلك من الأبواب السلطانية، ويكتب له توقيع في قطع الثلث ب «المجلس الساميّ» بالياء مفتتحا ب «الحمد لله» .(12/254)
وهذه نسخة توقيع شريف من ذلك:
الحمد لله الّذي شرف بخدمة سيدّ الرّسل الأقدار، وفضل بالتأهّل للدّخول في عداد كرمه بخدمته من اختاره لذلك من المهاجرين والأنصار، وجعل الاختصاص بمجاورة حرمه أفضل غاية تهجر لبلوغها الأوطان والأوطار، وعجّل لمن حلّ بمسجده الشريف تبوّأ أشرف روضة تردها البصائر وترودها الأبصار.
نحمده على نعمه الّتي أكملها خدمة نبيّه الكريم، وأفضلها التّوفّر على مصالح مجاوري قبر رسوله الهادي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم، وأجملها الانتظام في سلك خدمة حرمه [لأنها] بمنزلة واسطة العقد الكريم النّظيم، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة مزلفة لديه، مقرّبة إليه، مدّخرة ليوم العرض عليه، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله أشرف نبيّ بعث إلى الأسود والأحمر، وأكرم من أنار ليل الشّرك بالشّرع الأقمر، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين فخرت الحبشة بهجرتهم الأولى، ونجا النّجاشيّ بما اتّخذ عندهم من السّابقة الحسنة واليد الطّولى، وأولي بلالهم من السّبق إلى خدمة أشرف الأنبياء عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام أفضل ما يولى، صلاة لا يزال شهابها مرشدا، وذكرها في الآفاق مغيرا ومنجدا وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى [من] «1» اعتمد عليه من أفاء الله عليه من نعمه، وأفاض عليه من ملابس كرمه، وشرّف قدره بأن أهّله لخدمة سيد الرّسل بل لمشيخة حرمه، وخصّه برتبة هي أسنى الرّتب الفاخرة، وأجمع الوظائف لشرف الدّنيا والآخرة- من رجّحه لذلك دينه المتين، وورعه المكين، وزهده الّذي بلغ به إلى هذه الرتبة الّتي سيكون بها- إن شاء الله تعالى- وجيها في الدّنيا والآخرة ومن المقرّبين.
ولمّا كان فلان هو الّذي أدرك من خدمة سيّد الرسل غاية سوله، وزكت(12/255)
عند الله هجرته الّتي كانت على الحقيقة إلى الله ورسوله، وسلك في طريق خدمته الشّريفة أحسن السّلوك، وانتهت به «1» السّعادة إلى خدمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليعرض بجوهرها الأعلى عن عرض خدمة الملوك، وفاز من مجاورة الحجرة الشريفة بما عظمت عليه [به] «2» المنّة، وحلّ به مما بين القبر والمنبر في روضة من رياض الجنّة، وأقام في مقام جبريل، ومهبط الوحي والتنزيل، يتفيّأ ظلال الرّحمة الوارفة، ويتهيّأ من تلك النّعمة بالعارفة بعد العارفة- تعيّن أن يكون هو المحلّى بعقود مشيخة ذلك الحرم، والمتولّي لمصالح هذه الطائفة الّتي له في التّقدّم عليهم أثبت قدم.
فرسم بالأمر الشريف لا زال......... أن تفوّض إليه المشيخة على خدّام الحرم الشريف النّبويّ: للعلم بأنّه العامل الورع، والكافل الّذي يعرف أدب تلك الوظيفة: من خدمة الرسول صلّى الله عليه وسلم- على ما شرع، والزّاهد الّذي آثر جوار نبيّه على سواه، والخاشع الّذي نوى بخدمته الدّخول في زمرة من خدمه في حياته: «ولكلّ امريء ما نواه» .
فليستقرّ في هذه الوظيفة الكريمة قائما بآدابها، مشرّفا بها نفسه الّتي تشبّثت من خدمته الشريفة بأهدابها، سالكا في ذلك ما يجب، محافظا على قواعد الورع في كلّ ما يأتي وما يجتنب، قاصدا بذلك وجه الله الّذي لا يخيّب لرابح أملا، ولا يضيّع أجر من أحسن عملا، ملزما كلّا من طائفة الخدّام بما يقرّبه عند الله زلفى، ويضاعف الحسنة الواحدة سبعين ضعفا، هاديا من ضلّ في قوانين الخدمة إلى سواء السبيل، مبديا لهم من آداب سلوكه ما يغدو لهم منه أوضح هاد وأنور دليل؛، وفيه من آداب دينه ما يغني عن تكرار الوصايا، وتجديد القضايا؛ والله تعالى يسدّده في القول والعمل، ويوفّقه لخدمة سيّد المرسلين صلّى الله عليه وسلّم وقد فعل؛ بمنّه وكرمه.(12/256)
القاعدة الثالثة الينبع «1» (وبها وظيفة واحدة، وهي النيابة)
وقد تقدّم أنّ نيابتها في بني الحسن، من بني قتادة أيضا. وعدل بها عن لفظ الإمارة إلى لفظ النيابة تصغيرا لشأنها عن مكّة والمدينة. ويكتب لنائبها مرسوم شريف في قطع الثلث «بالمجلس السامي» بغير ياء.
وهذه نسخة مرسوم شريف بنيابة الينبع، كتب به «لمخذم بن عقيل» في عاشر رجب الفرد سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، من إنشاء المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله، وهو:
الحمد لله الّذي أتمّ لدولتنا الشريفة أنعما، وأحسن في تقديم شريف كلّ قوم تقدّما، وأمضى في كفّ كفّ الأعداء رمحا سمهريّا وسيفا مخذما «2» نحمده حمدا يكاثر عدد القطر إذا همى، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تؤمّن بالإدمان عليها منجدا ومتهما، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي شرّف من إليه انتمى، وعلى نسبه الشريف ارتمى، وبجواره المنيع احتمى، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين طلعوا في صباح كلّ نهار شموسا وفي عشيّة كلّ ليل أنجما، وسلّم تسليما.
وبعد، فإنّ أولى من أعدنا له سعادة جدّه، وعدنا إلى عوائده الحسنى لأبيه وجدّه، ورعت صدقاتنا الشريفة قصده الجميل، وشرفه الّذي سما به من أصله إلى النّجم فرع لا ينال طويل، وأقرّت عينه بسكنه، واستقرّت به مراسمنا العالية في مسكنه، وأغنته عنايتنا الشريفة عن انتظار كلّ نجم سعادة يطلع، وبعثت إليه كلّ خير إلى وطنه وهو «ينبع» ، منزلة نسبه الصّميم، والحسب الّذي يتمسّك به(12/257)
في قومه كلّ كريم، والشّرف الّذي أنارت كواكبه، والوصف الّذي ينظم الدّرّ ثاقبه «1» ولمّا كان المجلس السّامي، الأمير الأجلّ، الكبير، الشريف، الحسيب، النّسيب، الأوحد، العضد، النصير، الأصيل، فلان الدين، مجد الإسلام، زين الأنام، شرف الأمراء الأشراف، فخر العترة الطّاهرة، جمال الأسرة الزاهرة، نسيب الخلافة، عضد الملوك والسلاطين «مخذم بن عقيل» أيّده الله تعالى- هو الّذي تقدّمت إليه كلّ إشارة، وحسنت به كلّ شارة، وتعجّلت له بمراضينا الشريفة من مخلّق الشّفق كلّ بشارة، وحصل في الينبع ما حصل من الاعتداء، وامتدّت الأيدي به إلى ما كان لحجّاج بيت الله من وديعة، وظنّ أنّه لا يشيع خبره في البيداء، فخالف «2» الواجب وتعدّى الشّريعة، فاقتضت آراؤنا الشريفة تفويضها إلى العارف منها بما يجب، العالم من طريق سلفه الصّالح بما يأتي فيها ويجتنب، العامل في طاعتنا الشريفة بما هو به وبمثله من أهل الشّرف يليق، الماشي في خدمتنا الشريفة وفي خدمة الوفود إلى بيت الله الحرام على الطّريق.
فرسم بالأمر الشريف- أعلاه الله تعالى وشرفه، وأنفذه وصرّفه- أن تفوّض إليه النيابة بالينبع على عادة من تقدّمه وقاعدته إلى آخر وقت.
فليقدّم تقوى الله في كلّ ما تقدّم، ويقف مع حكم الشرع الشريف فإنّه المهمّ المقدّم، وليستوص بالحجّاج خيرا فإنّهم وفد الله وهو عليه سيقدم، وليؤمّن الطّريق فإنّه بين حرمين: بيت الله ومسجد رسوله صلّى الله عليه وسلم، وليحفظ أمانة الله فيما يخلّي ويخلّف عنده الحجاج- كتب الله سلامتهم- من وداعة «3» ،(12/258)
وليأخذ بقلوب الجلّابة فإنّهم في توسيعهم على أهل الحرمين كالمتصدّقين وإن كانوا تجارا ببضاعة، وليوصّل من تأخّر من أبناء السبيل إلى مأمنهم، وليخصّ بالعدل أهل بلده ليستقرّوا آمنين في موطنهم؛ والرّفق فهو الّذي بحلله يزيّن، وبحليه يستحسن، والّتأنّي في معرفة الحقّ من الباطل فإنّ به الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الباطل يبيّن، ولزوم الطاعة، التي أوجبها الله لنا على عباده وندب إليها، وملازمة الجماعة، التي يكفيه من بركاتها أنّ يد الله عليها، وإقامة الخدمة فيما قبله من البلاد، وكلّ حاضر وباد، وكلّ من كاد أو كاد، أو تعرّض لعناد العباد؛ فمن أقدم على محذور، أو تقدّم إلى محظور، أو ارتكب في الخلاف أمرا من الأمور، فجرّه بالبغي إلى مصرعه، وحرّك السيف لمضجعه، ودع الرّمح الّذي اعتقله للشّقاق يبكي للإشفاق عليه بأدمعه؛ وقد رأيت كيف طريقتنا المثلى، وسيرتنا الّتي لا تجد لها مثلا؛ فاسلك هذه المحجّة، وحسبك أن تتّخذ بينك وبين الله حجّة؛ وفي هذا عن بقية الوصايا غنى، والله يزيل عنك الخوف في الخيف ويبلّغك المنى في منى؛ والاعتماد.......
القسم الرابع «1» (مما يكتب من الولايات عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية- ما يقع على سبيل النّدور
، وهو الّذي يقع في حين من الأحيان من غير أن يسبق له نظير) قال الشّيخ شهاب الدين محمود الحلبيّ في «حسن التوسل» : ويحتاج الكاتب فيه إلى حسن التّصّرف على ما يقتضيه الحال.
[فمن ذلك] ما يكتب به للنيابة الخارجة عن المملكة إذا رغب فيها متوليها.
وهذه نسخة تقليد شريف من ذلك، كتب به المولى الفاضل شهاب الدين(12/259)
محمود الحلبيّ لمتملّك سيس، بإقراره على ما هو قاطع النّهر من بلاده، وهي «1» :
الحمد لله الّذي خصّ أيّامنا الزاهرة، باصطناع ملوك الملل، وفضّل دولتنا القاهرة، بإجابة من سأل بعض ما أحرزته لها البيض والأسل، وجعل من خصائص ملكنا إطلاق الممالك وإعطاء الدّول، والمنّ بالنّفوس الّتي جعلها النّصر لنا من جملة الخول، وأغرى عواطفنا بتحقيق رجاء من مدّ إلى عوارفنا كفّ الأمل، وأفاض بمواهب نعمائنا، على من أناب إلى الطاعة حلل الأمن بعد الوجل، وانتزع بآلائنا، لمن تمسّك بولائنا، أرواح رعاياه من قبضة الأجل، وجعل برد العفو عنه وعنهم بالطاعة نتيجة ما أذاقهم العصيان من حرارة الغضب:
إذ ربّما صحّت الأجسام بالعلل.
نحمده على نعمه الّتي جعلت عفونا ممّن رجاه قريبا، وكرمنا لمن دعاه بإخلاص الطاعة مجيبا، وبرّنا لمن أقبل إليه مثيبا بوجه الأمل منيبا، وبأسنا مصيبا لمن لم يجعل الله له في التّمسك بمراحمنا نصيبا، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تعصم دم من تمسّك بذمامها، وتحسم موادّ من عاندها بانتقام حسامها، وتفصم عرى الأعناق ممّن أطمعه الغرور في انفصال أحكامها وانفصامها، وتقصم من قصد إطفاء ما أظهره الله من نورها واقتطاع ما قضاه من دوامها، وتجعل كلمة حملتها هي العليا ولا «2» تزال أعناق جاحديها في قبضة أوليائها وتحت أقدامها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المبعوث بالهدى ودين الحقّ إلى كلّ أمّة، المنعوت في الكتب المنزّلة بالرأفة والرّحمة، المخصوص مع عموم المعجزات بخمس: منها «3» الرّعب الّذي كان يتقدّمه إلى من قصده ويسبقه مسيرة شهر إلى من أمّه، المنصوص في الكتب «4» المحكمة(12/260)
على جهاد أمّته الذين لا حياة لمن لم يتمسّك من طاعتهم بذمّة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين فتحوا بدعوته الممالك، وأوضحوا بشرعته إلى الله المسالك، وجلوا بنور سنّته عن وجه الزّمن كلّ حال حالك، وأوردوا من كفر بربّه «1» ورسله موارد المهالك، ووثقوا بما وعد الله نبيّه حين [زوى له مشارق الأرض ومغاربها من أنّ ملكهم سيبلغ إلى ما زوى الله له من ذلك] «2» صلاة لا تزال الأرض لها مسجدا، ولا يبرح ذكرها مغيرا في الآفاق ومنجدا، ما استفتحت ألسنة الأسنّة النّصر بإقامتها، وأبادت أعداءها باستدامتها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّه لما آتانا الله ملك البسيطة، وجعل دعوتنا بأعنّة ممالك الأقطار محيطة، ومكّن لنا في الأرض، وأنهضنا من الجهاد في سبيله بالسّنّة والفرض، وجعل كلّ يوم تعرض فيه جيوشنا من أمثلة يوم العرض، وأظلّتنا بوادر الفتوح، وأظلّت على الأعداء سيوفنا الّتي هي على من كفر بالله وكفر النّعمة «3» دعوة نوح، وأيّدنا بالملائكة والرّوح، على من جعل الواحد سبحانه ثلاثة: فانتصر بالأب والابن والرّوح، وألقت إلينا ملوك الأقطار السّلام، وبذلت كرائم بلادها وتلادها رغبة في الالتجاء [من عفونا] «4» إلى ظلّ أعلى من الأعلام، وتوسّل من كان منهم يظهر الغلظة بالذّلّة والخضوع، وتوصّل من كان منهم يبدي القوّة بالإخلاص الّذي رأوه لهم أقوى الجنن وأوقى الدّروع- عاهدنا الله تعالى أن لا نردّ منهم آملا، ولا نصدّ عن مشارع كرمنا ناهلا، ولا نخيّب من إحساننا راجيا، ولا نحلّيء «5» عن ظلّ برّنا لاجيا؛ علما أنّ ذلك شكر للقدرة الّتي جعلها الله لنا على ذلك الآمل، ووثوقا بأنّه حيث كان في قبضتنا متى نشاء نجمع عليه الأنامل؛ اللهمّ إلّا أن يكون ذلك اللّاجيء للغلّ مسرّا، وعلى عداوة الإسلام مصرّا، فيكون هو(12/261)
الجاني على نفسه، والحاني «1» على موضع رمسه، والمفرّط في مصلحة يومه وغده بتذكير «2» عداوة أمسه.
ولمّا كان من تقدّم بالمملكة الفلانية قد زيّن له الشيطان أعماله، وعقد بحبال الغرور آماله، وحسّن له التّمسّك بالتّتار الذين هم بمهابتنا محصورون في ديارهم، مأسورون في حبائل إدبارهم، عاجزون عن حفظ ما لديهم، قاصرون عن ضبط ما استلبته السّرايا «3» المنصورة من يديهم، ليس منهم إلّا من له عند سيوفنا ثار، ولها في عنقه آثار، ومن يعلم أنّه لا بدّ له عندنا من خطّتي خسف:
إمّا القتل أو الإسار.
وحين تمادى المذكور في غيّه، وحمله الغرور على ركوب جواد بغيه، أمرنا جيوشنا المنصورة فجاست خلال تلك الممالك، وداست حوافر خيلها ما هنالك، وساوت في عموم القتل والأسر بين العبد والحرّ والمملوك والمالك، وألحقت رواسي جبالهم بالصّعيد، وجعلت حماتهم كزروع فلاتهم منها قائم وحصيد؛ فأسلمهم الشيطان ومرّ، وتركهم وفرّ، وماكرهم وماكر، وأعلمهم أنّ موعدهم الساعة والساعة أدهى وأمرّ، وأخلفهم ما ضمن لهم من العون، وقال لهم: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ
«4» وكان الملك فلان ممّن تدبّر طرق النّجاة فلم ير إليها سوى الطّاعة سبيلا، وتأمّل أسباب النّجاح فلم يجد عليها غير صدق الانتماء دليلا؛ فأبصر بالخدمة موضع رشده، وأدرك بسعيه نافر سعده، وأراه الإقبال كيف ثبتت قدمه في الملك الذي زلت عنه قدم من سلف، وأظهر له الإشفاق على رعاياه مصارع من أورده سوء تدبير أخيه موارد التّلف، وعرّفه التمسّك بإحساننا كيف احتوت يده على(12/262)
ما لم يبق غضبنا في يد أخيه منه إلّا الأسى والأسف، وحسّنت له الثّقة بكرمنا كيف يجمل الطّلب، وعلّمته الطاعة كيف يستنزل عوارفنا عن بعض ما غلبت عليه سيوفنا: وإنّما الدنيا لمن غلب، وانتمى إلينا فصار من خدم أيّامنا، وصنائع إنعامنا، وقطع علائقه من غيرنا، فلجأ منّا إلى ركن شديد، وظلّ مديد، ونصر عتيد، وحرم [يأوي أمله] «1» إليه، وكرم تقرّ نضارته ناظريه، وإحسان يمتّعه بما أقرّه عطاؤنا في يديه، وامتنان يضع عنه إصره والأغلال الّتي كانت عليه- اقتضى إحساننا أن نغضي له عن بعض ما حلّت جيوشنا ذراه، وحلّت سطوات عساكرنا عراه، وأضعفت عزمات سرايانا قواه، ونشرت طلائع جنودنا ما كان ستره صفحنا عنهم من عورات بلادهم وطواه، وأن نخوّله بعض ما وردت خيولنا مناهله، ووطئت جيادنا غاربه وكاهله، وسلكت كماتنا فملكت دارسه وآهله، وأن [نبقي مملكة] «2» هذا البيت الّذي مضى سلفه في الطاعة عليه، ويستمرّ ملك الأرمن «3» الذي أجمل السّعي في مصالحه بيديه، لتتيمّن رعاياه به، ويعلموا أنّهم أمنوا على أرواحهم وأولادهم بسببه، [ويتحقّقوا أن أثقالهم بحسن توصّله إلى طاعتنا قد خفّت، وأنّ بوادر الأمن بلطف توسّله إلى مراضينا قد أطافت بهم وحفّت، وأنّ سيوفنا التي كانت مجرّدة على مقاتلهم بجميل استعطافه قد كفتهم بأسها وكفّت، وأن سطوتنا الحاكمة على أرواحهم قد عفت عنهم بملاطفته وعفّت؛ فرسم أن يقلّد كيت وكيت ويستقرّ بهذه المملكة الفاسدة استقرارا لا ينازع في استحقاقه، ولا يعارض فيما سبق من إعطائه له وإطلاقه، ولا يطالب عنه بقطيعة، ولا يطلب منه بسببه غير] «4» طوية مخلصة ونفس مطيعة، ولا تخشى عليه يد جائرة، ولا سريّة في طلب الغرّة سائرة، ولا تطرق كناسه أسد جيوش مفترسة، ولا سباع نهاب مختلسة؛ بل تستمرّ بلاده المذكورة في ذمام(12/263)
رعايتنا، وحضانة عنايتنا، وكنف إحساننا، ووديعة برّنا وامتناننا؛ لا تطمح إليها عين معاند، ولا يمتدّ إليها إلّا ساعد مساعد وعضد معاضد.
فليقابل هذه النّعمة بشكر الله الّذي هداه إلى الطاعة، وصان بإخلاص ولائه نفسه ونفائس بلاده من الإضاعة، وليقرن ذلك بإصفاء موارد المودّة، وإضفاء ملابس الطاعة الّتي لا تزداد بحسن الوفاء إلا جدّة، واستمرار المناصحة في السّرّ والعلن، واجتناب المخادعة ما ظهر منها وما بطن، وأداء الأمانة فيما استقرّ معه الحلف عليه، ومباينة ما يخشى أن يتوجّه بسببه وجه عتب إليه، واستدامة هذه النّعمة بحفظ أسبابها، واستقامة أحوال هذه المنّة برفض موجبات الكدر واجتنابها، وإخلاص النّيّة الّتي لا تعتبر ظواهر الأحوال الصالحة إلّا بها.
ومن ذلك ما يكتب به لحكم رماة البندق «1» .
قد جرت العادة أنه إذا كان للسلطان عناية برمي البندق، أقام لرماته حاكما من الأمراء الذين لهم عناية برمي البندق.
وهذه نسخة توقيع من ذلك:
الحمد لله الّذي خصّ أيّامنا الزاهرة، باستكمال المحاسن في كلّ مرام، وجعل [من] أولياء دولتنا القاهرة، من أصاب من كلّ مرمى بعيد شاكلة الصّواب حتّى أصبح حاكما فيه بين كلّ رام، وجمع لخواصّنا من أشتات المفاخر ما إذا برزوا فيه للرياضة ليلا [أغنت] «2» قسيّهم عن الأهلّة ورجومها عن رجوم الظّلام،(12/264)
وسدّد مقاصد أصفيائنا في كلّ أمر فما شغلوا بمسرّة سرّ إلا وكانت من أقوى أسباب التّمرّن على خوض الغمرات العظام، واقتحام الحرب اللهام، واشتمال جلابيب الدّجى في مصالح الإسلام.
نحمده على نعمه الوسام، وأياديه الجسام، وآلائه الّتي ما برحت بها ثغور المسارّ دائمة الابتسام، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تعصم من الزّلل، وتؤمّن من الزّيغ والخلل، وتلبس المتمسّك بها من أنوار الجلالة أبهى الحلل، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المنزّه عن الهوى، المخصوص بالوحي الّذي علّمه شديد القوى، الدّالّ على اعتبار الأعمال بصّحة القصد بقوله صلّى الله عليه وسلم: «إنّما الأعمال بالنّيات وإنّما لكلّ امريء ما نوى» ، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين وفّق الإخلاص مساعيهم، ووفّر الإيمان دواعيهم، صلاة دائمة الاتّصال، مستمرّة الإقامة بالغدوّ والآصال، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّه لمّا كان رمي البندق من أحسن ما لهت به الكماة، في حال سلمها، ومن أبهج ما حفظت به الرّماة، حياة نفوسها وعزّة عزمها، على ما فيه من اطّراح الراحة واجتنابها، واستدعاء الرّياضة واجتنائها، وخوض الظّلمات في الظّلام، وتوخّي الإصابة في غمرات الدّجى الّتي تخفى فيها المقاتل على حدق السّهام، وارتقاب ظفر، يسفر عنه وجه سفر، ومهاجمة خطر، تفضي إلى بلوغ وطر- وله شرائط تقتضي التقدّم بين أربابه، وقواعد لا يخالفها «1» من كان مبرّزا في أصحابه، وأدوات كمال، لا بدّ للمتحلّي بهذه الرّتبة منها، وحسن خلال، تهدر أعمال من بعد عليه مرامها وقصرت مساعيه عنها، وعوائد معلومة، بين أرباب هذا الشّأن وكبرائه، ومقاصد مفهومة، فيما يتميز به المصيب الحاذق على نظرائه.
ولمّا كان الجناب العالي الفلانيّ ممّن يشار إليه في هذه الرتبة ببنان(12/265)
التّرجيح، ويرجع إلى أقواله فيما اقتضى التّعديل فيما بين أربابها والتّجريح، ويعمل فيها بإشارته الخالصة من الهوى والأغراض، ويعوّل فيها على قدم معرفته المميزة بين أقدار الرّماة مع تساوي إصابة الأغراض، لاحتوائه على غايات الكمال فيها، وسبقه منها إلى مقامات حسان لا يعطيها حقّها [إلا] «1» مثله ولا يوفّيها- اقتضى رأينا الشريف أن نعدق به أحكامها، ونرّد إلى أمره ونهيه كبراءها وحكّامها.
فرسم بالأمر الشريف أن يكون حاكما في البندق لما يتعين من اختصاصها بجنابه، ويتبين من أولويّته بالحكم في هذا الفنّ على سائر أربابه.
فليل ذلك حاكما بشروطه اللّازمة بين أهله، المعتبرة بها خلال الكمال في قول كلّ أحد منهم وفعله، المميّزة بين تفاوت الرّماة بحسب كيفية الرّمي وإتقانه، المرجحة في كثرة الطّير بإمكانه له في وقت البروز ومكانه، المهدرة ما يجب بين أهل هذا الفنّ إهداره، المثبتة ما يتعيّن في كمال الأدوات إثباته في قدم الكبراء وإقراره؛ وليعمل في ذلك جميعه بما تقتضيه معرفته المجمع في فنّه عليها، ويتقدّم فيها بما تدله عليه خبرته الّتي ما برح وجه الاختيار مصروفا إليها؛ والله تعالى يسدّده في القول والعمل، ويبلّغه مراتب الرّفعة في خلاله الجميلة وقد فعل؛ والخير يكون، إن شاء الله تعالى.
قلت: وربّما كان المرسوم المكتتب لمن هو دون من تقدّم من أمير عشرة أو من في معناه، فيفتتح ب «أما بعد» ويكمل على نحو ما تقدّم.
وهذه نسخة ثانية لحاكم البندق، مفتتحة ب «أما بعد» وهي:
أمّا بعد حمد الله الّذي لا معقّب لحكمه، ولا يعزب شيء عن علمه، ولا قنوط من رحمته وسعة حلمه، ملهم أهل محاربة أعداء دينه بالرّياضة لها في أيّام سلمه، ومنجز وعود السّعود لمن كان النّجم مبدأ همّته، والصّدق حلّة(12/266)
سجيّته، والعزّ حلية اسمه، والصّلاة والسلام على سيدنا محمد الّذي هدى الله بنور ملّته العادلة من تردّى في ظلمات ظلمه، ورفع منار النّبوّة بما خصه به من افتتاح التقدّم في رتبتها وختمه، وعلى آله وصحبه الّذي سرى كلّ منهم إلى غاية الكمال على نجائب همّته وجياد عزمه- فإنّ أولى من رعيت له أسباب قدمه وتقدّمه، وفتحت له أبواب حكمه في رتبته وتحكّمه، وأعيد إلى مكانته الّتي رقاها باستحقاقه قديما، ورفع إلى منزلته الّتي لم يزل بقواعدها خبيرا وبأوضاعها عليما- من ارتقى في رتبته إلى نجم أفقها، واقتدى في مناهجه بدليل مسالكها وطرقها، فأتى في مصالحها بيوت الإصابة من أبوابها، ونقل فيها أوضاع الإجادة عمّن كان أدرى بها، وتقدّم فيها تقدّم هجرته وسبق قدمه، وبلغ في مقاماتها الغاية بين وثبات ساعده وثبات قدمه، وجمع من أشتات الطّير ما افترق في غيره، وحوى من السّبق إلى أنواعها ما حكم بسعد نجمه ويمن طيره؛ فكم ليلة أسفر فيما أبرزوه عن صباح نجاحه، وكم طائر زاحم النّسرين بقوادمه أصبح لديه محمولا بجناحه، وكم أنزلت أهلّة قسيّة الطير على حكمها، وكم حكت بنادقه في رجوم الطّير المحلّقة إلى السماء انقضاض نجمها، وكم أبصر مقاتل الطّير وهي من اللّيل في ظلمات بعضها فوق بعض، وكم اشتغل من الطير الواجب «1» بندب رمي لم يشغله من إعداد الأهبة للجهاد عن الفرض، حتّى كاد النّسر الطائر إذا توهّم أنّ الهلال قوسه يغدو كأخيه واقعا، والمرزم «2» المحلّق في الأفق يمسي لإشارة بنادقه الصّمّ متتبّعا، حتى أصبح وهو الكبير في فنّه بآداب التعريف، وأضحى وهو الخبير بنوعه بطريق النّقل والتّوقيف.
ولمّا كان فلان هو كبير هذا الفنّ وخبيره، ومقدّم هذا النّوع الّذي لم يزل بنجلائه عظيم كلّ عصر وأميره، وقديم هذا المرمى الّذي جلّ المراد به الجدّ لا(12/267)
اللّعب، وأليف هذا المرام الّذي ينشط إليه اللّاعب ويستروح إليه التّعب- اقتضى الرأي الشريف أن نجعله حاكما في هذه الرتبة الجليلة بما علم أو علّم منها، فاصلا بين أهلها بمعرفته الّتي ما برحت يؤخذ بها في قواعدها وينقل عنها- فرسم بالأمر الشريف أن يكون حاكما في البندق.
فليستقرّ في هذه الرتبة الّتي تلقّاها، بيمين كفايته ويمنه، وارتقاها، بتفرّده في نوعه وتقدّمه في فنّه، وليعتمد الإنصاف في أحكام قواعدها، وإجراء أمر أربابها على أحوالها المعروفة وعوائدها، وينافس المعروفين بها على التّحلّي بآدابها، والتّمسك من المروءة والأخوّة بأفضل أهدابها، وينصف بينهم فيما يعتدّ به من واجبها، ويلزم الداخل فيها بالمشي على المألوف من طرقها والمعروف من مراتبها، ولا يحكم في التقديم والتأخير بهوى نفسه، ولا يقبل من لم يتحرّ الصّدق في يومه أنّه قبل منه في أمسه؛ فإنّ استدامة شروطها أمان من السّقوط عن درجها، وإذا حكّمت نفوس أهلها الصّدق في أقوالها وأفعالها فقد خرجت من خطّ حرجها؛ وليرع لذوي التقدّم فيها قدم هجرتهم، واشتهار سيرتهم الحسنة بين أسرتهم؛ وقد خبر من أوصافه الحسنة، وسابق رتبته الّتي لم تكن عين العناية عنها وسنة، ما اقتضى استقرار رتبته على مكانتها ومكانها، واكتفي له من مبسوط الوصايا بعنوانها؛ فليتّق الله في قوله وعمله، ويجعل الاعتماد على توفيقه غاية أمله؛ والخير يكون، إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك ما يكتب به في إلباس الفتوّة.
اعلم أنّ طائفة من الناس يذهبون إلى إلباس لباس الفتوّة، ويقيمون لذلك شروطا وآدابا جارية بينهم. ينسبون ذلك في الأصل إلى أنّه مأخوذ عن الإمام عليّ كرّم الله وجهه.
والطريق الجاري عليه أمرهم الآن أنّه إذا أراد أحدهم أخذ الطّريق عن كبير من كبراء هذه الطائفة، اجتمع من أهلها من تيسّر جمعه، وتقدّم ذلك الكبير(12/268)
فيلبس ذلك [المريد] «1» ثيابا، ثم يجعل في كوز أو نحوه ماء ويخلط به بعض ملح، ويقوم كلّ منهم فيشرب من ذلك الماء وينسبه إلى كبيره. وربّما اعتنا «ابن بذلك بعض الملوك. وقد جرت العادة في ذلك أنه إذا ألبس السلطان واحدا من الأمراء أن يكتب له بذلك توقيعا.
وهذه نسخة توقيع بفتوّة، من إنشاء القاضي محيي الدّين بن عبد الظاهر، وهو:
الحمد لله الّذي جعل أنساب الفتوّة، متصلة بأشرف أسباب النّبوّة، وأفضل من أمدّه منه بكلّ حيل وقوّة، وأسعد من سما فكان عليّا على كلّ من سام علوّه.
نحمده حمدا تغدو الأفواه به مملوّة، ونشكره على مواهبه بآيات الشّكر المتلوّة، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة من جعل إلى منهج التوحيد رواحه وغدوّه، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي شدّ الله أزره بخير من أفتى وفتّى فنال كلّ فتويّ من الفتيان به شرف الأبوّة والبنوّة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين نصروا وليّه وخذلوا عدوّه، صلاة موصّلة إلى نيل الأمانيّ المرجوّة.
وبعد، فإنّ خير من اتّصل به رجاء الرجال الأجواد، وطوى البعيد إلى تحصيل مرامه كلّ طود من الأطواد، وأماط به عن مكارم الأخلاق لثام كلّ جود وامتطى ظهر خير جواد، واستمسك من ملابس الشّرف بما يؤمّن ويؤمّل وما يشد به من كلّ خير لباس التّقوى، وما تؤيّد به عزيمته فتقوى، وما يتقيد به على رؤوس الأحزاب، وما يتنزل به عليه أحسن آية من هذا الكتاب- من اشتهر بالشّجاعة الّتي تقدّم بها على قومه، وحمد أمسها في يومه، وبالشّهامة الّتي لها ما للسّهام من تفويق، ولزرق الأسنّة من تحذيق، ولبيض الصّفاح من حدّة متون، وللسّمهريّة من ازدحام إذا ازدحمت المنون، ومن صدق العزيمة، ما يشهد به كرم الشّيمة، ومن شدّة الباس، ما يجتمع به على طاعته كثير من الناس، ومن صدق اللهجة واللّسان، ما اتّصف عفافه منهما بأشرف ما يتّصف به(12/269)
الإنسان، ومن طهارة النّفس ما يتنافس على مثله المتنافسون، ويستضيء بأنواره القابسون، ويرفل في حلل نعمائه اللّابسون؛ و [كان] «1» من الذين أبانوا عن حسن الطاعة وأنابوا، وإذا دعوا إلى استنفار جهاد واجتهاد لبّوا وأجابوا، والذين لا يلوون ألسنتهم عن الصّدق، ولا يولّون وجوههم عن الحقّ، والذين لا يقعدهم عن بلوغ الأوطار مع إيمانهم حبّ الأوطان، وإذا نفذوا في حرب الأعداء لا ينفذون إلا بسلطان.
ولما كان فلان ذو المفاخر، والمآثر، أمير الفتيان، مميّز الإخوان والأعيان، هو صاحب هذا المحفل المعقود، والممدوح بهذا المقال المحمود، والممنوح بهذا المقام المشهود، والثّناء الّذي سرّ باله بما سربله أثواب العزّة والفخار، والاعتناء الّذي استخير الله في اصطفائه واختباره في ذلك فخار- اقتضى حسن الرأي الشريف- كرّم الله أنصاره، وأعلى مناره- أن نجيب وسائل من وقف في هذا القصد وقفة سائل، لينال بذلك كلّ إحسان وإحسان كلّ نائل، ودعا إلى الكريم العامّ بالإنعام، والدعاء لسلطان يدعى له ويدعو كلّ الأنام، فقال: أسأل الله وأسأل سلطان الأرض، ملك البسيطة إمام العصر، رافع لواء النّصر، ناصر الملّة المحمديّة، محيي الدّولة العبّاسيّة، فاتح البلاد والقلاع والأمصار، قاهر الكفّار مبيد الفرنج والأرمن والتّتار، سلطان الزّمان، خسروان إيران، شاهنشاه القان، سلطان العالم وارث الملك، سلطان العرب والعجم والتّرك، الذي انتهى إليه عن أمير المؤمنين الإمام الأوّاب، المغوار، عليّ بن أبي طالب ذي الفخار، شرف الفتوّة واتّصال الأنساب.
قلت: هذا ما وقفت عليه من نسخة هذا التّوقيع. وقد ذكر الشيخ شهاب الدّين محمود الحلبيّ في كتابه «حسن التوسل» نسخة تقليد أنشأه في الفتوّة، أسقط منه أوّل الخطبة وهو:- وابتدأ منه بقوله «2» :
نحمده على ما منحنا من نعم شتّى، ووهبنا من علم وحلم غدونا بهما(12/270)
أشرف من أفتى [في الكرم وفتّى] «1» وآتانا ملك خلال الشّرف الّذي لا ينبغي لغير ما اختصّنا به من الكمال ولا يتأتّى، وخصّنا به من رفع أهل الطاعة إلى سماء النّعم يتبوّأون من جنان الكرم حيث شاءوا: وغيرهم لا تفتّح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجّنة حتّى، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة من انتمى في فخار أبوّة التّقى إلى حسب عليّ، وانتهى [من بنوّة المروءة] «2» إلى سبب قويّ ونسب زكيّ، وارتدى حلل الوقار بواسطة الفتوّة عن خير وصيّ عن أشرف نبيّ، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي نور شريعته جليّ، وجاه شفاعته مليّ، وبسيفه وبه حاز النّصر من انتمى إليه: فلا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا عليّ.
وبعد، فإنّ أولى من لبّى إحساننا نداء ودّه، وربّى امتناننا نتاج ولائه الموروث عن أبيه وجدّه، ورقّاه كرمنا إلى رتبة علاء «3» يقف جواد الأمل عن بلوغها عند حدّه، وتلقّت كرائمنا «4» وفد قصده بالتّرحيب، وأنزلت جار رجائه «5» من مصر نصرها بالحرم الآمن والرّبع الخصيب، وأذنت لأمله ما نأى من الأغراض حتى بلغه بفضلها سهم اجتهاده المصيب، وأعدّت له من حلل الجلالة ما هو أبهى من رداء السّماء الّذي تزداد على الأبد جدّة برده القشيب، وخصّته لابتناء المجد بأجلّ بنوّة جعلت له في إرث خلال الشّرف أوفر «6» حظّ وأوفى «7» نصيب- من سمت منابر المجد بذكره، وابتسمت أسرّة الحمد بشكر أوصافه ووصف شكره، واختالت موادّ «8» الثناء بحسن خلاله، واختارت كواكب السّناء إقبال طوالعه بطوالع إقباله، وتمّسك من طاعتنا بأمثل «9» أسباب الهدى،(12/271)
واعتصم بعروة بنوّة الأبناء «1» فأوطأه التّوثّق بها رقاب العدا، واتّصف بمحاسن الشّيم في مودّتنا فأضحى فتيّ السّنّ كهل الحلم يهتزّ للنّدى، وانتمى إلينا فأصبح لدينا ملكا مقرّبا، وأوجب من حقوق الطاعة علينا ما أمسى به لدينا- مع جلالة الأبناء- ابنا وغدونا له- مع شرف الآباء- في نسب الفخر العريق أبا، ونشأ في مهاد الملك فسما به للعلم والعلم، بالسّيف والقلم «2» ، والبأس والكرم، واعتزى إلى أبوّة حنوّنا ببنوّة رجائه فتشبّه بعدل أيامنا: «ومن يشبه «3» أباه فما ظلم» ، وتحلّى بصدق الولاء وهو أوّل ما يطلب في سرّ هذا النّسب ويعتبر، وتحلّى لنكاية عدوّ الإسلام بلطف [مكايده إذ] «4» السيوف تجزّ الرّقاب «وتعجز عما تنال الإبر» .
ولمّا كان فلان هو الّذي زان بموالاتنا عقود مجده، وزاد في طاعتنا على ما ورث من مكارم أبيه وجدّه، [وساد الملوك في اقتبال] «5» شبابه، وصان ملك أبيه عن عوارض أوصابه باتّباع ما أوصى به، وأنفت صوارمه أن تكون لغير جهاد أعداء الله معدّة، وعزائمه أن تتّخذ عدوّ الله وعدوّه أولياء تلقي إليهم بالمودّة، وسهامه أن تسدّد [إلّا] «6» إلى مقاتل العدا، وأسنّته أن يبلّ لها من غير مناهل صدور الكفر صدى، مع اجتماع خلال الشّرف لشرف خلاله، وافتراق أسباب السّرار عن هالة كماله، وسؤاله ما ليس لغيره أن يمدّ إليه يدا، والتماسه من كرمنا العميم أجلّ ما نحل والد ولدا؛ وأنّه وقف على قدم الرّجاء الثّابت، ومتّ بقدم غروس الولاء الّتي أصلها في روض المودّة نابت، وقال: أسأل الله وأسأل سلطان(12/272)
الأرض، القائم لجهاد أعداء الله بالسّنة والفرض، فاتح الأمصار، الذي لم تزل سيوفه تهاجر في سبيل الله عن غمودها إلى أن صار له من الملائكة الكرام أنصار، الذي كرّم الله شرف الفتوّة بانتمائها إليه، وأعلى قدر بنوّة المروءة باتّصالها به عن الخلفاء الراشدين عن أب [فأب] «1» عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه، وأورثه من خلقه الكرم والبأس فتحلّيا منه بأجلّ مواف [وأكمل] «2» موافق، ومنحه بحفظ العهد من خصائصه ما عهد به إليه النّبيّ الأمّيّ من أنّه ما يحبّه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق، أعزّ الله سلطانه، وأوطأ جياده معاقل الكفر وأوطانه، أن يتقبل قصدي بقبول حسن، ويقبل بوجه كرمه على أملي الّذي لم يقعد به عن فروض الطاعات وسننها وسن، وينظمني في سلك عقود الفتوّة ملتزما بأسبابها، مقتديا «3» بطاعته الّتي هي أكمل أنسابها، متّصفا بموالاته الّتي لا يثبت لها حكم إلّا بها، آتيا بشروط خدمته الّتي من لم يأت بها على ما يجب فما أتى البيوت من أبوابها.
فاستخرنا الله تعالى في عقد لواء هذا الفخار لمجده فخار، ونظمناه لعقد هذا المقام الكريم واسطة لمثله كان يزينها الادّخار.
فرسم «4» بالأمر الشريف- لا زال جوده يعلي الجدود، ويوطّد لأبناء ملوك الزّمن من رتب الشرف فوق ما وطّدت الآباء والجدود- أن نصل سببه بهذا السّبب الكريم، ونعقد حسبه في الفتوّة بأواخي هذا الحسب الصّميم، ونعذق «5» نسبه بأصالة هذه الأبوّة الّتي هي إلا عن مثله عقيم، ويفاض عليه شعار هذا(12/273)
الخلق المتّصل عن أكرم وصيّ بمن قال الله تعالى في حقّه: إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ
«1» فليحلّ هذه الهضبة الّتي أخذت من [أفق العزّ بالمعاقد] «2» ويحلّ هذه الرتبة الّتي دون بلوغها من نوع الفراقد ألف راقد، ويجرّ رداء الفخر على أهداب الكواكب، ويزاحم بمواكب مجده النجوم على ورود نهر المجرّة بالمناكب، وليصل شرف «3» هذه النسبة من جهته بمن «4» رآه أهلا لذلك، وليفت في الفتوّة بما علم من مذهبنا الّذي انتهى «5» فيه منّا إلى مالك، وليطل على ملوك الأقطار، بهذه الرتبة الّتي تفانى الرّجال على حبّها، ويصل على صروف الأقدار، بهذه العناية الّتي جعلته- وهي حلية حزب الله- من حزبها، وليصل سرّ هذا الفضل العميم بإيداعه إلى أهله، وانتزاعه ممن لم يره أهلا لحمله.
قلت: وما تقدّم مما يكتب عن الأبواب الشريفة السلطانية بالديار المصرية والممالك الشامية، لأرباب السيوف، وأرباب الأقلام وغيرهم: من التّقاليد، والتّفاويض، والتّواقيع، والمراسيم: المكبّرة والمصغّرة، ليس هو على سبيل الاستيعاب، بل على سبيل التمثيل والتّذكير، لينسج على منواله، وينهج على نهجه. فإنّ استيفاء ما يكتب في ذلك مما يشقّ، ويقف القصد دونه. بل لا بدّ من حوادث تحدث لم يسبق لها مثال يقتفى أثره. فيحتاج الكاتب إلى حسن التّصرّف في إيراد ما يلائم ذلك ويناسبه. وكلّ كاتب ينفق من كسبه، على قدر سعته، والله تعالى هو الموفق إلى نهج الصواب، والهادي إلى طريق الحقّ في الأمور كلّها، بمنّه وكرمه.(12/274)
الفصل الثالث من الباب الرابع من المقالة الخامسة (فيما يكتب من الولايات عن نوّاب السلطنة؛ وفيه طرفان)
الطرف الأوّل (في مقدّمات هذه الولايات، ويتعلق بها مقاصد)
المقصد الأوّل (في بيان من تصدر عنه الولايات: من نوّاب السلطنة)
اعلم أنّ نوّاب السلطنة بالديار المصرية لا تصدر عنهم ولاية في جليل ولا حقير، بل التولية والعزل منوطان بالسّلطان، والكتابة في ذلك معدوقة به، سواء في ذلك النائب الكافل، ونائب الإسكندرية، ونائبا الوجهين: القبليّ والبحريّ، إلا ما يكتب عليه النائب الكافل من القصص في صغائر الولايات:
من نظر الأوقاف وغيرها، ثم تعيّن ويكتب بها تواقيع سلطانية.
أما نوّاب السلطنة بالممالك الشامية: وهم نائب السلطنة بالشام، ونائب السّلطنة بحلب، ونائب السلطنة بطرابلس، ونائب السلطنة بحماة، ونائب السّلطنة بصفد، ونائب السلطنة بغزّة، إذا كانت نيابة لا تقدمة عسكر «1»(12/275)
المقصد الثاني (في بيان الولايات الّتي تصدر عن نوّاب السلطنة بالممالك الشامية)
قد تقدّم في الكلام على الولايات الصادرة عن الأبواب السلطانية بالممالك الشامية، أنّ نوّاب هذه الممالك يستبدّون بتولية ولاة الأعمال، وقد يستبدّون أيضا بتولية صغار النّواب، كالقلاع والبلدان الّتي تكون نيابتها إمرة عشرة. وربّما استبدّوا بتولية بعض النيابات التي تكون نيابتها إمرة طبلخاناه؛ إلّا أنّ تولية العشرات عن النّواب أكثر وتولية الطبلخاناه عن السّلطان أكثر. أمّا النيابات الّتي تكون نيابتها تقدمة ألف، فإنّها مختصة بالسلطان.
والنيابات الّتي يكون متولّيها جنديّا أو مقدّم حلقة فإنّها مختصة بالنوّاب. وأنّ تولية أكابر أرباب الأقلام: ككاتب السّرّ، والوزير بالشّام، حيث جعلت وزارة، وناظر النّظار، حيث جعلت نظرا، وأصحاب دواوين المكاتبات، ونظّار المال بسائر الممالك، ونظّار الجيش، وقضاة القضاة بها- فإنّ التولية في ذلك تختص بالسلطان دون النوّاب. وما عدا ذلك يولّي فيه السلطان تارة، والنّوّاب أخرى.
وربّما حصلت الولاية في بعض ذلك من بعض النّوّاب ثم يكتب من الأبواب السلطانية بالحمل عليها، على ما تقدم بسط القول فيه هناك، فليراجع منه.
المقصد الثالث (في افتتاحات التواقيع والمراسيم بتلك الولايات
تقدّم في الكلام على الولايات الصادرة عن الأبواب السلطانية أنّه يراعى فيها براعة الاستهلال في الافتتاح وأنّ الافتتاح فيها ب «الحمد لله» أعلى من الافتتاح ب «أما بعد» ، والافتتاح ب «أمّا بعد» أعلى من الافتتاح ب «- رسم بالأمر الشريف» ، وأنّ لفظ «أما بعد» أعلى من لفظ «وبعد» ، وأنه يراعى في الولايات وصف المتولّي والولاية، ويؤتى لكلّ أحد من ذلك بما يناسبه من صفات المدح، ثم يقال: «ولما كان فلان هو المشار إليه بالصفات المتقدّمة، اقتضى حسن الرّأي أن يستقرّ في كذا ونحو ذلك» . ثم يؤتى من الوصايا بما يناسب مقام الولاية والمتولّي لها، ثم يؤتى بالاختتام: من المشيئة والتّاريخ،(12/276)
والحمدلة، والتّصيلة، والحسبلة.
والأمر فيما يكتب عن النوّاب جار على هذا المنهج إلّا في أمور قليلة:
منها: أنّ جميع ما يكتب عن النوّاب بالشّأم يقال فيه «توقيع» ولا يقال فيه «تقليد» ولا «تفويض» وربما قيل «مرسوم» في أمور خاصّة.
ومنها: أن التوقيع يوصف ب «الكريم» لا ب «الشّريف» فيقال: «توقيع كريم أن يستقرّ فلان في كذا» أو «مرسوم كريم لفلان بكذا» بخلاف ما يكتب عن الأبواب السلطانية، فإنّه يوصف بكونه «شريفا» فيقال: «تقليد شريف» و «تفويض شريف» و «مرسوم شريف» و «توقيع شريف» على ما تقدّم ذكره.
ومنها: أنّ «1» الكاتب يأتي بنون الجمع [جاريا «2» في ذلك على من تصدر عنه الولاية، كما أنّ الولايات عن الأبواب السلطانية [يجري فيها على] «3» العادة في الكتابة عن الملوك، وكأنّهم راعوا في ذلك أنّ المكتوب عنه هو السلطان في الحقيقة، وفعل النائب كأنّه فعله نفسه، كما يقال: هزم الأمير الجيش، وفتح السلطان المدينة، والّذي هزم وفتح إنّما هو جنده لا هو في نفس الأمر.
ومنها: أنّه إذا افتتح التوقيع ب «- رسم بالأمر» - لا يوصف ب «الشّريف» بل ب «العاليّ» على ما تقدّم. فيقال: «رسم بالأمر العاليّ، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الفلاني الفلانيّ» . وكذلك إذا أتي بذكر «رسم» بعد الافتتاح ب «الحمد لله وأما بعد» فإنّه يقال فيه: «العالي» دون «الشريف» .
قلت: هذا ما كان الأمر عليه في الزّمن المتقدّم كما أشار إليه المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله في «التعريف» . ثم استقرّ الحال على وصف الأمر(12/277)
ب «الشريف» فيقال: «رسم بالأمر الشريف العالي» إلى آخره، كما يكتب عن السلطان.
ومنها: أنّه يقال في آخر التوقيع: «والاعتماد على الخط الكريم أعلاه» ولا يقال: «على الخط الشريف» ، كما في السلطان.
ومنها: أنّه لا يذكر في تواقيع النوّاب مستند كتابتها، كما يكتب فيما يكتب عن السلطان.
المقصد الرابع (في بيان الألقاب)
قد تقدّم في المقالة الثالثة، في الكلام على الولايات الصادرة عن الأبواب السلطانية أنّ أعلى ما يكتب لأرباب السيوف «المقرّ الكريم» ثم «الجناب الكريم» ثم «الجناب العالي» ثم «المجلس العالي» ثم «المجلس الساميّ» بالياء ثم «المجلس السامي» بغير ياء، ثم «مجلس الأمير» ثم «الأمير» .
وأن أعلى ما يكتب لأرباب الوظائف الديوانية: «الجناب العالي» ثم «المجلس العالي» ثم «المجلس الساميّ» بالياء، ثم «المجلس السامي» بغير ياء، ثم «مجلس القاضي» ثم «القاضي» .
وأن أعلى ما يكتب لأرباب الوظائف الدينيّة: «المجلس العالي» . ثم استقرّ أعلى ما يكتب لهم: «الجناب العالي» و «المجلس العالي» بعده، ثم «الساميّ» بالياء، ثم «السامي» بغير ياء، ثم «مجلس القاضي» ثم «القاضي» على ما تقدّم في أرباب الوظائف الديوانية، إلّا فيما يقع الاختلاف فيه من الألقاب والنّعوت الخاصّة بكلّ منهما.
وأنّ أعلى ما يكتب لأرباب الوظائف الصّوفيّة: «المجلس العالي» ثم «المجلس الساميّ» بالياء ثم «المجلس السامي» بغير ياء، ثم «مجلس الشيخ» ثم «الشيخ» .(12/278)
وأنّه يكتب لأرباب الوظائف العادية: «المجلس السامي، الصدر الأجل» أو «مجلس الصدر» أو «الصدر» .
وأنه يكتب لزعماء أهل الذّمة ألقابهم المتعارفة. فيكتب لرئيس اليهود:
«الرئيس» ولبطاركة النّصارى: «البطرك» ونحو ذلك.
فأمّا ما يكتب عن نوّاب الشام، فعلى أصناف، كما تقدّم في الألقاب الّتي تكتب عن الأبواب السلطانية، مع اختلاف في بعض الألقاب بزيادة ونقص، وعلوّ وهبوط.
الصنف الأوّل (أرباب السيوف، ولألقابهم مراتب)
المرتبة الأولى- المقرّ الشريف
«1» ؛ وبذلك يكتب للطبقة الأولى من مقدّمي الألوف بالشّام، وحلب، وطرابلس، إذا ولّي أحد منهم نظر وقف، أو نحو ذلك. أمّا غير هذه الممالك الثلاث، فقد تقدّم أنّه ليس في شيء منها تقدمة ألف، ويقال فيه عندهم: «المقرّ الشريف، العالي، المولويّ، الأميريّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ، العونيّ، الغياثيّ، الزّعيميّ، الظّهيريّ، المخدوميّ، الفلانيّ، عزّ الإسلام والمسلمين، سيّد الأمراء في العالمين، ناصر الغزاة والمجاهدين، زعيم جيوش الموحّدين، عون الأمّة، كهف الملّة، ظهير(12/279)
الملوك والسلاطين، فلان الفلانيّ: أعزّ الله تعالى أنصاره» .
المرتبة الثانية- المقرّ الكريم
؛ وبذلك يكتب للطبقة الثانية من مقدّمي الألوف، ويقال فيه: «المقرّ الكريم، العالي، المولويّ» . بنحو الألقاب المتقدّمة.
المرتبة الثالثة- المقرّ العالي
؛ وبه يكتب للطبقة الثالثة من مقدّمي الألوف، ويقال فيه: «المقرّ العالي، المولويّ» بنحو الألقاب المتقدّمة أيضا [كما] «1» يكتب لنقيب الأشراف بحلب، وهي: «المقرّ العالي، الأميريّ، الكبيريّ، النقيبيّ، الحسيبيّ، النّسيبيّ، العريقيّ، الأصيليّ، الفاضليّ، العلّاميّ، العارفيّ، الحجيّ، القدويّ، النّاسكيّ، الزّاهديّ، العابديّ، الفلانيّ، جلال الإسلام والمسلمين، جمال الفضلاء البارعين، فخر الأمراء الحاكمين، زين العترة الطاهرة، شرف الأسرة الفاخرة، حجّة العصابة الهاشمية، قدوة الطائفة العلويّة، نخبة الفرقة الناجية الحسنيّة، شرف أولي المراتب، نقيب ذوي المناقب، ملاذ الطّلّاب الدّاعين، بركة الملوك والسلاطين، فلان: أسبغ الله عليه ظلاله» .
المرتبة الرابعة- الجناب «2» الكريم
. وبه يكتب للأمراء الطّبلخاناه، ويقال(12/280)
فيه: «الجناب الكريم، العالي، المولويّ، الأميريّ، الكبيريّ، العضديّ، النّصيريّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، الذّخريّ، الظّهيريّ، الفلانيّ، مجد الإسلام والمسلمين، شرف الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، ظهير الملوك والسلاطين، فلان: أعزّ الله تعالى نصرته» .
المرتبة الخامسة- الجناب العالي
. وبه يكتب لأمراء العشرينات، ويقال فيه: «الجناب العالي، الأميريّ، الكبيريّ، الذّخريّ، النّصيريّ، المجاهديّ، المؤيّديّ، الأوحديّ، الأكمليّ، الظّهيريّ، الفلانيّ، مجد الإسلام والمسلمين، شرف الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، ظهير الملوك والسلاطين، فلان أدام الله تعالى نعمته» .
المرتبة السادسة- المجلس «1» العالي
. وبه يكتب لأمراء العشرات، ويقال فيه: «المجلس العالي، الأميريّ، الكبيريّ، الأجلّيّ، المجاهديّ، العضديّ، النّصيريّ، الهماميّ، الأوحديّ، الذّخريّ، الفلانيّ، مجد الإسلام والمسلمين، شرف الأمراء في العالمين، نصرة الغزاة والمجاهدين، عضد الملوك والسلاطين، فلان: أدام الله تعالى رفعته» .
المرتبة السابعة- المجلس الساميّ بالياء
. وبه يكتب لمقدّمي الحلقة وأعيان جند الحلقة، ويقال فيه: «المجلس الساميّ، الأميريّ، الأجلّيّ، الكبيريّ، المجاهديّ، الأعزّيّ، الأخصّيّ، الأكمليّ، الأوحديّ، الفلانيّ، مجد الأمراء، زين الأكابر، ذخر المجاهدين، فلان: أدام الله توفيقه» .
المرتبة الثامنة- المجلس السامي بغير ياء
. وبه يكتب للطّبقة الثانية من جند الحلقة، ويقال فيه: «المجلس السامي، الأمير، الأجلّ، الكبير، الغازي، المجاهد، المرتضى، المختار، فلان الدّين، مجد الإسلام، بهاء الأنام، زين الأمراء، فخر المجاهدين، عمدة الملوك والسلاطين، فلان: أعزّه الله تعالى» .(12/281)
المرتبة التاسعة- مجلس الأمير
. وبه يكتب للطّبقة الثالثة من جند الحلقة، ويقال فيه: «مجلس الأمير، الكبير» . بنحو ألقاب السامي بغير ياء.
المرتبة العاشرة- الأمير
. وبه يكتب لجند الأمراء ونحوهم، ويقال فيه:
«الأمير الأجلّ» .
الصنف الثاني (من أرباب الولايات بالممالك الشامية- أرباب الوظائف الديوانية، وفيهم مراتب)
المرتبة الأولى- المقرّ الشريف
؛ وبه يكتب لكاتب السّرّ بالشّام، وصاحب ديوان الرسائل بحلب، ومن في معناهما.
وهذه ألقاب كتب بها لكاتب السّرّ بدمشق بولاية مشيخة الشّيوخ، وبولغ فيها جدّ المبالغة، إلّا أنّها ليست حسنة التّأليف، ولا رائقة التّرتيب، وهي:
«المقرّ الشّريف، العالي، المولويّ، القاضويّ، الكبيريّ، العالميّ، العامليّ، العلّاميّ، الإماميّ، الفريديّ، المفيديّ، القدويّ، الحجّيّ، الأجلّيّ، الحبريّ، المحقّقيّ، المدقّقيّ، الزّاهديّ، العارفيّ، الخاشعيّ، الناسكيّ، المسلّكيّ، العابديّ، المرشديّ، الرّبّانيّ، الورعيّ، الممهّديّ، المشيّديّ، المشيريّ، السّفيريّ، اليمينيّ، الملاذيّ، الشّيخيّ، الفلانيّ، جلال الإسلام والمسلمين، سيّد الأكابر والرّؤساء في العالمين، عون الأمّة، صلاح الملّة، جمال المملكة، نظام الدّولة، عزّ الملك، لسان الممالك، زين الأولياء، مظهر أنباء الشّريعة وناصرها، مؤيّد الحقّ والمعين على إظهاره، قامع البدع ومخفي أهلها، رحلة الحفّاظ، علم المفسّرين، حجّة الطالبين، سيف المناظرين، قدوة العبّاد والزّهاد، ملجأ الصّلحاء والعارفين، حسنة الأيّام، فرد الزّمان، غرّة وجه الأوان،(12/282)
شيخ المشايخ، مفيد كلّ غاد ورائح، موصّل السّالكين، مربّي الأتقياء والمريدين، كنز السّالكين والمرشدين، ممهّد الدّول، مشيّد الممالك، مجمّل الأمصار، مدبّر أمور سلطانه في اللّيل والنّهار، مجهد نفسه في رضا مولاه، معين الخلائق على حقوقهم، مذلّ حزب الشّيطان، ملك البلغاء والمتكلّمين، خلاصة سلف القوم المباركين، بركة الملوك والسلاطين، وليّ أمير المؤمنين، فلان الفلانيّ: أسبغ الله تعالى ظلاله» .
المرتبة الثانية- المقرّ الكريم
؛ وبه يكتب للطبقة الثانية من أرباب الوظائف الديوانية. ويقال فيه: «المقرّ الكريم، العالي، المولويّ، القاضويّ» . بنحو الألقاب السابقة مع «المقرّ الشريف» .
المرتبة الثالثة- الجناب الكريم
؛ وبه يكتب للطبقة الثالثة من أرباب الوظائف الديوانية. وهذه ألقاب كتب بها لبعض الكتّاب بكتابة الإنشاء والجيش بحلب، وهي: «الجناب الكريم، العالي، المولويّ، القضائيّ، الكبيريّ، العالميّ، الفاضليّ، البارعيّ، الكامليّ، الماجديّ، الأوحديّ، الأثيريّ، الأثيليّ، الأصيليّ، القواميّ، النّظاميّ، الفلانيّ، ضياء الإسلام والمسلمين، أوحد الفضلاء في العالمين، خالصة الملوك والسلاطين، فلان، ضاعف الله تعالى نعمته» .
المرتبة الرابعة- الجناب العالي
؛ وبه يكتب لكتّاب الدّست ونحوهم.
وهذه ألقاب كتب بها لبعض كتّاب الدّست بالشّأم، وهي: «الجناب العالي، القضائيّ، الكبيريّ، العالميّ، الفاضليّ، الأكمليّ، البارعيّ، الأوحديّ، القواميّ، النّظاميّ، المفوّهيّ، الرّئيسيّ، الماجديّ، الفلانيّ، مجد الإسلام والمسلمين، شرف الرّؤساء في العالمين، أوحد الفضلاء الماجدين، قدوة البلغاء، جمال الكّتّاب، زين المنتشئين، خالصة الملوك والسلاطين، فلان، أدام الله تعالى نعمته» .(12/283)
المرتبة الخامسة- المجلس العالي
؛ وهذه ألقاب كتب بها لكاتب درج بالشام جليل القدر، وهي: «المجلس العالي، القضائيّ، الأجلّيّ، الكبيريّ، العالميّ، الفاضليّ، البارعيّ، الكامليّ، الرّئيسيّ، الأوحديّ، الأثيريّ، الأصيليّ، العريقيّ، الفلانيّ، مجد الإسلام، شرف الرّؤساء في الأنام، حجّة البلغاء، قدوة الفضلاء، أوحد الأمناء، زين الكتّاب، رضيّ الدّولة، صفوة الملوك والسلاطين، فلان، أدام الله علوّه» .
المرتبة السادسة- المجلس الساميّ بالياء
؛ وهذه ألقاب كتب بها لبعض كتّاب دمشق بنظر الرّباع «1» وهي: «المجلس الساميّ، القضائيّ، الأجليّ، الكبيريّ، الرّئيسيّ، الأوحديّ، الأكمليّ، الماجديّ، الأثيريّ، الأثيليّ، الأصيليّ، الفلانيّ، مجد الإسلام، شرف الرّؤساء، أوحد الفضلاء، صفوة الملوك والسلاطين، أدام الله تعالى علوّه» .
المرتبة السابعة- المجلس السامي بغير ياء
؛ وهذه ألقاب كتب بها لكتّاب درج بالشام، وهي: «المجلس السامي، القاضي، الأجلّ، الكبير، الفاضل، الأوحد، الأثير، الرئيس، البليغ، الأصيل، فلان الدّين، مجد الإسلام، بهاء الأنام، شرف الرّؤساء، أوحد الفضلاء، زين الأعيان، فخر الصدور، نجل الأكابر، سليل العلماء، صفوة الملوك والسلاطين، فلان، أدام الله تعالى رفعته» .
المرتبة الثامنة- مجلس القاضي
؛ وهي: «مجلس القاضي، الأجلّ،(12/284)
الكبير» والباقي من نسبة ألقاب السامي بغير ياء.
المرتبة التاسعة- القاضي
؛ ويقال فيها: «القاضي، الأجلّ» . وربّما زيد على ذلك قليلا، كما تقدّم في السلطانيات.
الصنف الثالث (من أرباب الولايات بالممالك الشامية- أرباب الوظائف الدّينية، وفيه مراتب)
المرتبة الأولى- المقرّ الشريف
. وبذلك يكتب لقضاة القضاد ومن في معناهم.
وهذه ألقاب كتب بها لقاضي القضاة المالكيّ بدمشق بتصدير، وهي:
«المقرّ الشريف، العالي، المولويّ، القضائيّ، الكبيريّ، الإماميّ، العالميّ، العلّاميّ، الفريديّ، المفيديّ، الخاشعيّ، النّاسكيّ، الرّحليّ، القدويّ، الملاذيّ، العابديّ، المحقّقيّ، المدقّقيّ، المحسنيّ، الحاكميّ، الفلانيّ، جلال الإسلام والمسلمين، سيّد العلماء في العالمين، قدوة البارعين، سيّد المناظرين، لسان المتكلّمين، ملاذ الطالبين، كنز المتفقّهين، إمام الأئمّة، حجة الأمّة، ناصر الشريعة، فرد الزمان، أوحد الوقت والأوان، رحلة القاصدين، حكم الملوك والسلاطين، فلان، أسبغ الله ظلاله» «1»
المرتبة الثانية- المقرّ الكريم
. وبه يكتب لمن دونه من هذه الرتبة.
وهذه ألقاب كتب بها لقاضي القضاة بحلب بوظيفة دينيّة، وهي: «المقرّ الكريم، العالي، المولويّ، القاضويّ، الكبيريّ، العالميّ، العادليّ،(12/285)
الأصيليّ، العريقيّ، القواميّ، النّظاميّ، الإماميّ، العلّاميّ، القدويّ، المفيديّ، الشّيخيّ، الرّكنيّ، الصاحبيّ، الحاكميّ، المحسنيّ، الفلانيّ، فلان الإسلام والمسلمين، شرف الفضلاء في العالمين، قدوة العلماء العاملين، لسان المتكلمين، برهان المناظرين، صدر المدرّسين، رحلة الطالبين، بقيّة السلف الكرام الدارجين، بركة الملوك والسلاطين، خالصة أمير المؤمنين، فلان، أعزّ الله تعالى أحكامه» .
المرتبة الثالثة- الجناب الكريم
؛ وهذه ألقاب كتب بها لبعض المشايخ بتدريس بالشّام، وهي: «الجناب الكريم، العالي، المولويّ، القضائيّ، الكبيريّ، العالميّ، الفاضليّ، المفيديّ، الفريديّ، المحقّقيّ، المدقّقيّ، الأوحديّ، الأكمليّ، الفلانيّ، مجد الإسلام والمسلمين، شرف العلماء في العالمين، جمال الفضلاء المدرّسين، خالصة الملوك والسلاطين، فلان، أسبغ الله تعالى ظلّه» .
المرتبة الرابعة- الجناب العالي
؛ وهذه ألقاب من ذلك كتب بها لقاض من قضاة العسكر «1» بالشام، وهي: «الجناب العالي، القضائيّ، الكبيريّ، العالميّ، الفاضليّ، الرئيسيّ، الأكمليّ، الإماميّ، العلّاميّ، المفيديّ، المحقّقيّ، الفريديّ، البارعيّ، المدقّقيّ، الأوحديّ، القدويّ، الحبريّ، الحافظيّ، الأصيليّ، الأثيريّ، النّاسكيّ، الورعيّ، العلّاميّ، مجد الإسلام والمسلمين، شرف العلماء العاملين، زين الحكّام في العالمين، حجّة المذهب، إمام البلغاء، مفتي المسلمين، مفيد الطالبين، قطب الزّهّاد، ملاذ(12/286)
العبّاد، خالصة الملوك والسلاطين، فلان، أدام الله تعالى نعمته» .
المرتبة الخامسة- المجلس العاليّ
«1» ؛ وهي: «المجلس العاليّ، القضائيّ، الأجليّ، الكبيريّ، العالميّ، الفاضليّ، الكامليّ، الرّئيسيّ، الأوحديّ، الأثيريّ، الأثيليّ، الأصيليّ، العريقيّ، الفلانيّ، مجد الإسلام، شرف الرّؤساء في الأنام، حجّة الفضلاء، صدر المدرّسين، مرتضى الملوك والسلاطين، فلان، أدام الله تعالى علوّه» .
المرتبة السادسة- المجلس الساميّ بالياء
؛ وهي: «المجلس الساميّ، القضائيّ، العالميّ، الفاضليّ، الكامليّ، الأوحديّ، الأصيليّ، العريقيّ، المحقّقيّ، الفلانيّ، مجد الإسلام والمسلمين، أوحد الفضلاء في العالمين، صدر المدرّسين، أوحد المفيدين، مرتضى الملوك والسلاطين، فلان، أدام الله سعادته» .
المرتبة السابعة- المجلس السامي بغير ياء
؛ وهي: «المجلس السامي، القاضي، الأجلّ، الكبير، الأوحد المرتضى، الأكمل، فلان الدين، مجد الإسلام، بهاء الأنام، زين الفضلاء، أوحد العلماء، رضيّ الملوك والسلاطين، فلان، أدام الله عزه» .
المرتبة الثامنة- مجلس القاضي
؛ وهي: «مجلس القاضي، الأجلّ» بنحو الألقاب المذكورة في «السامي» بغير ياء.
المرتبة التاسعة- القاضي
؛ وهي: «القاضي الأجلّ» على ما تقدّم.(12/287)
الصنف الرابع (من أرباب الولايات بالممالك الشامية- مشايخ الصوفيّة)
ولم أقف على شيء من ألقاب ما كتب من هذا الباب، سوى [ما كتب] «1» في مشيخة الشيوخ بالشام لكاتب السّرّ، وقد تقدّم ذكره في أوّل الألقاب الديوانية هناك، وألقاب الجناب العالي فيما كتب به في مشيخة الزاوية الأمينيّة بدمشق، وهي: «الجناب العالي، الشيخيّ، العالميّ، العامليّ، العلّاميّ، الأوحديّ، القدويّ، العابديّ، الزاهديّ، الورعيّ، الناسكيّ، الخاشعيّ، المسلّكيّ، المرقّيّ، الربانيّ، الأصيليّ، الفلانيّ، مجد الإسلام، حسنة الأيام، قدوة الزّهّاد، ملاذ العبّاد، جمال الورعين، مربيّ المريدين، أوحد السالكين، خلف الأولياء، بركة السلاطين، فلان، أعاد الله تعالى من بركته» .
ومن هذا يؤخذ ما حدث كتابته مما هو فوق ذلك أو دونه.
الصنف الخامس (من أرباب الولايات بالممالك الشامية- أمراء العربان)
ولم أقف على شيء مما كتب به من ألقابهم، سوى ألقاب «السّامي» بغير ياء لبعض أمراء بني مهديّ، وهي: «المجلس السامي، الأمير، الأجلّ، الكبير، المجاهد، الأصيل، العريق، الأوحد، فلان الدين، مجد الإسلام، بهاء الأنام، شرف العربان، زين القبائل، عمدة الملوك والسلاطين، فلان، أعزّه الله تعالى» وعليه يقاس ما عساه يكتب من هذا النّمط.(12/288)
الصنف السادس (من أرباب الولايات بالممالك الشامية- أرباب الوظائف العادية، كرآسة الطّبّ ونحوها)
وألقاب رئيس الطّبّ «1» : «المجلس العالي، القضائيّ» على نحو ما تقدّم في الدّيوانيات.
الصنف السابع (من أرباب الولايات بالنيابات الشامية- زعماء أهل الذّمة)
وهي رآسة اليهود، وبطركيّة النّصارى.
أما رئيس اليهود
، فالذي رأيته لهم من ألقابه في عهد قديم، كتبه ابن الزكيّ «2» في الدولة الأيوبية، قال في ألقابه: «الرئيس، الأوحد، الأجلّ، الأعزّ، الأخصّ، الكبير، شرف الداووديين، فلان» .
وأما بطرك النّصارى، فرأيت لهم فيه طريقتين:
الطريقة الأولى
: «البطرك المحتشم، المبجّل، فلان، العالم بأمور دينه، المعلّم أهل ملّته، ذخر الملّة المسيحيّة، كبير الطائفة العيسويّة، المشكور بعقله عند الملوك والسلاطين، وفقه الله تعالى» .
الطريقة الثانية
: «مجلس القسّيس، الجليل، الرّوحانيّ، الخطير، المتبتّل، ابن المطران، النّاصب، الخاشع، المبجّل، قدوة دين النّصرانيّة، فخر الملة العيسويّة، عماد بني المعموديّة، جمال الطائفة الفلانية، صفوة الملوك والسلاطين، فلان، أدام الله تعالى بهجته» .(12/289)
المقصد الخامس (في بيان مقادير قطع الورق المستعمل فيما يكتب عن نوّاب الممالك الشامية)
قد تقدّم في المقالة الثالثة، في الكلام على مقادير قطع الورق، أنّ الورق المستعمل في دواوين الممالك الشامية على ثلاثة مقادير: قطع الطلحية الشامية الكاملة، وهو في عرض الطّليحة المعبر عنها بالفرخة وطولها، وقطع نصف الحمويّ، وهو في نصف عرض الطّلحية الّتي في قطع الحمويّ وطولها، وربّما نقصت في الطول، وقطع العادة، وهو على نحو من قطع العادة البلدي؛ وقد تقدّم ذكره.
فما كان منها في طول الشاميّ الكامل كتب بقلم»
الثلث، وما كان في قطع نصف الحمويّ كتب بقلم التوقيعات، وما كان في قطع العادة كتب بقلم الرّقاع؛ ثم ما كان في قطع الطلحية، افتتح ما يكتب فيه ب «الحمد لله» ، وما كان في قطع نصف الحمويّ، افتتح ما يكتب فيه ب «أمّا بعد حمد الله» ، وما كان في قطع العادة، افتتح ما يكتب فيه ب «- رسم بالأمر الشريف» سواء في ذلك علت الألقاب أو انحطّت، حتّى إنه ربّما كتب ب «المقرّ» في قطع العادة، اعتبارا بحال الوظيفة.
المقصد السادس (في بيان ما يكتب في طرّة «2» التواقيع)
اعلم أنّ النوّاب بالممالك الشاميّة عادتهم في العلامة كتابة اسم النائب، كما أنّ السلطان فيما يكتب عنه من الولاية يكتب في العلامة اسمه، وحينئذ(12/290)
فيحتاج الكاتب إلى أن يكتب في أعلى الدّرج في الوسط ما صورته: «الاسم الكريم» ثم يكتب من أوّل عرض الدّرج ما صورته: «توقيع كريم باستقرار المقرّ الشريف أو الكريم، أو الجناب الكريم أو العالي، أو المجلس العالي أو السامي، أو مجلس الأمير أو القاضي، أو الشيخ، ونحو ذلك، في كذا وكذا إلى آخره» . فإن كان فيه معلوم كتب آخرا: «بالمعلوم الشاهد به الديوان المعمور، أو الشاهد به كتاب الوقف» ونحو ذلك ثم يكتب: «حسب ما رسم به على ما شرح فيه» . ولفظ: «حسب ما رسم به» مما جرت به عادة كتّابهم، بخلاف ما يكتب به من الأبواب السلطانية على ما تقدّم ذكره.
وهذه طرّة توقيع بنقابة الأشراف بحلب المحروسة، كتب به للشريف «غياث الدين أحمد» بن محمد بن إبراهيم المعروف بابن الممدوح، وهي:
توقيع كريم باستقرار المقرّ العاليّ، الأميريّ، الكبيريّ، الشّريفيّ، النّقيبيّ، الحسيبيّ، الأصيليّ، العزّيّ، بركة الملوك والسلاطين، أحمد ابن المقرّ العاليّ، الشّريفيّ، النّقيبيّ، الشّهابيّ، أحمد «1» الحسيني، أسبغ الله ظلالهما، في وظيفة نقابة السّادة الأشراف، ونظر أوقافها، والحكم في طوائفهم على اختلافهم أجمعين، عوضا عن والده المشار إليه برضاه، على عادته في ذلك ومستقرّ قاعدته، وتعاليمه المستمرة إلى آخر وقت، حسب ما رسم به بمقتضى الخطّ الكريم، على ما شرح فيه.
وهذه نسخة طرة توقيع بكشف الصفقة القبلية بالشام، مما كتب به ل «غرس الدين خليل الناصريّ» وهي:
توقيع كريم بأن يستقرّ الجناب الكريم، العاليّ، المولويّ، الأميريّ، الكبيريّ، الغرسيّ، ظهير الملوك والسلاطين، خليل الناصريّ، أدام الله تعالى(12/291)
نعمته، في كشف البلاد القبليّة المحروسة بالشام المحروس، على عادة من تقدّمه في ذلك ومستقرّ قاعدته، حسب ما رسم به، على ما شرح فيه.
وهذه نسخة طرّة توقيع بالمهمنداريّة «1» بالشام المحروس، كتب به ل «غرس الدين خليل الطناحيّ» وهي:
توقيع كريم باستقرار الجناب العاليّ، الأميريّ، الكبيريّ، الغرسيّ، عضد الملوك والسلاطين، خليل الطناحيّ، أدام الله تعالى نعمته، في وظيفة المهمنداريّة الثانية بالشام المحروس، عوضا عن حسام الدّين حسن بن صاروجا، بحكم شغورها عنه، لما اتفق من الغضب الشّريف عليه، واعتقاله بالقلعة المنصورة بحلب المحروسة، على أجمل عادة، وأكمل قاعدة، حسب ما رسم به، على ما شرح فيه.
وهذه نسخة طرّة توقيع بتصدير الجامع الأمويّ بالشام، كتب به للقاضي «ناصر الدين» بن أبي الطّيّب كاتب السّر بالشام، وهي:
توقيع كريم بأن يستقرّ المقرّ الشريف، الناصريّ، محمد بن أبي الطيب العمريّ، العثمانيّ، الشافعيّ، صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالمملكة الشريفة الشاميّة المحروسة، عظّم الله تعالى شأنه، في وظيفة التّصدير بالجامع الأمويّ المعمور بذكر الله تعالى، عوضا عن القاضي صدر الدّين عبد الرحمن الكفريّ الشافعيّ، بحكم وفاته إلى رحمة الله تعالى، بما له من المعلوم الّذي(12/292)
يشهد به ديوان الوقف المبرور، حسب ما رسم به، على ما شرح فيه.
وهذه نسخة طرّة توقيع بإعادة مشيخة الشّيوخ بالشام إلى القاضي «ناصر الدين بن أبي الطّيّب» المذكور أعلاه، وهي:
توقيع كريم بأن تفوّض إلى المقرّ الشريف العاليّ، المولويّ، القاضويّ، النّاصريّ، محمد بن أبي الطيب العمريّ، العثمانيّ، الشافعيّ، صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالمملكة الشريفة الشامية المحروسة، أعاد الله تعالى من بركاته، وأسبغ ظلاله، مشيخة الشّيوخ بالشام المحروس، وظيفته الّتي خرجت عنه، المرسوم الآن إعادتها إليه، عوضا عمن هي بيده، بمعلومه في النظر والمشيخة، الشاهد بهما ديوان الوقف المبرور، إلى آخر وقت، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، حسب ما رسم به، على ما شرح فيه.
وهذه طرّة توقيع بالحمل على النزول والتقرير الشّرعيّ، بالزاوية الأمينيّة، بالقدس، كتب به للشيخ «برهان الدين الموصليّ» وهي:
توقيع كريم بأن يحمل الجناب العاليّ، الشيخيّ، البرهانيّ، إبراهيم ابن سيدنا المرحوم الشيخ القطب، تقيّ الدّين أبي بكر الموصليّ، رضي الله عنه وأعاد من بركاتهما، في وظيفتي النظر والمشيخة، بالزاوية الأمينية بالقدس الشريف، على حكم النزول الشّرعيّ، واستمرار ذلك بمقتضاهما، ومنع المنازع بغير حكم الشّرع الشّريف، حسب ما رسم به، على ما شرح فيه.
وهذه طرّة مرسوم بربع تقدمة إمرة بني مهديّ كتب به ل «عيسى بن حناس» وهي:
مرسوم كريم بأن يستقرّ المجلس السامي، الأمير، شرف الدّين،(12/293)
عيسى بن حناس «1» ، أعزّه الله تعالى، في ربع تقدمة بني مهديّ، على عادة من تقدّمه، حملا على ما بيده من التّوقيع الكريم، على ما شرح فيه.
وهذه طرّة توقيع ببطركية النصارى الملكيّة «2» بالشام، كتب به ل «داود الخوري» وهي:
توقيع كريم بأن يستقرّ البطريرك، المحتشم، المبجّل، داود الخوري، المشكور بعقله لدى الملوك والسلاطين، وفّقه الله تعالى، بطريرك الملكيّة بالمملكة الشريفة الشامية المحروسة، حسب ما اختاره أهل ملّته المقيمون بالشام المحروس، ورغبوا فيه، وكتبوا خطوطهم به، وسألونا تقريره دون غيره، حسب ما رسم به، على ما شرح فيه.
المقصد السابع (في بيان كيفية ترتيب هذه التواقيع)
قد جرت عادة كتّاب هذه النيابات أن تكتب الطّرّة بأعلى الدّرج كما تقدّم.
ثم يترك وصلان بياضا بما في ذلك من وصل الطّرّة؛ ثم تكتب البسملة في أوّل الوصل الثالث، ثم يكتب تحت البسملة على سمت الجلالة: «الملكيّ الفلانيّ» ثم يخلّى بيت العلامة نحو ستة أصابع معترضة، ثم يكتب السطر الثاني ويوافي كتابة السّطر، ويكون ما بينهما بقدر أصبعين، والباقي على نحو ما تقدّم في السلطانيات.(12/294)
الطرف الثاني (في نسخ التواقيع المكتتبة عن نوّاب السلطنة بالممالك الشامية)
قد تقدّم في المقالة الثانية أنّ بالبلاد الشامية سبع نيابات: دمشق، وحلب، وطرابلس، وحماة، وصفد، وغزّة إن كانت نيابة، والكرك. وأنّ أعلاها دمشق، ثم حلب، ثم طرابلس. وفي معنى طرابلس حماة وصفد.
وقد اقتصرت في نسخ التواقيع على ما يكتب في ثلاث نيابات [تقديما لها] «1» على ما عداها.
النيابة الأولى الشام (والتواقيع الّتي تكتب بها على خمسة أصناف)
الصنف الأوّل (ما يكتب بوظائف أرباب السيوف، وهو على ضربين)
الضرب الأوّل (ما هو بحاضرة دمشق؛ وهو على مراتب)
المرتبة الأولى (ما يفتتح ب «الحمد لله» وفيها وظائف)
وهذه نسخ تواقيع من ذلك:
نسخة توقيع بولاية دمشق:
الحمد لله الّذي جعل هذه الأيّام الزاهرة تنقل أولياء آلائه الشريفة إلى أعلى المراتب، وتجزل لهم من مننه الجمّة المواهب، وتضاعف لهم النّعمة بكرمها الّذي إذا أنهمل كان كالغيث السّاكب.
نحمده على أن جعل نظرنا يلمح أهل الهمم ويراقب، ونشهد أن لا إله إلا(12/295)
الله وحده لا شريك له شهادة يبلغ قائلها ببركتها المنى والمآرب، وتهون عليه كلّ المصاعب، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي أظهر الله ببعثته الحقّ في المشارق والمغارب، وأنار به ظلم الغياهب، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين شيّدوا منار الإسلام وأقاموه بالسيوف القواضب، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ المناصب بمتولّيها، والمعالي بمعلّيها، والعقود ليست بمن تحلّيه بل بمن يحلّيها، وأطيب البقاع جنابا ما طاب أرجا وثمارا، وفجّر خلاله كلّ نهر «يروع حصاه حالية العذارى» ، ورنّحت معاطف غصونه سلاف النّسيم فتراها سكارى، وتمتدّ ظلال الغصون فيخال أنّها على وجنات الأنهار عذارا.
ولمّا كانت دمشق المحروسة لها هذه الصفات، وعلى ضفّاتها تهبّ نسمات هذه السّمات، لم يتّصف غيرها بهذه الصفة، [ولا اتفق أولو الألباب إلا على محاسنها المختلفة] «1» وكان الجناب الكريم هو من أعيان الدّولة وأماثلهم، ووجوه رؤسائهم وأفاضلهم، وله في طاعتنا استرسال الأمن من سوء مواطن المخاوف، ووصل في ولائها القديم بالحديث والتّالد بالطّارف، وتولّى مهمّات الخدم فأبان في جميعها عن مضاء عزمه، وكان من حسن آثاره فيها ما شهر غفلها بوسمه؛ فمن ناواه من أقرانه أربى عليه وزاد، ومن باراه من أنظاره أنسى ذكره أو كاد.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف أن يستقرّ في ولاية مدينة دمشق المحروسة.
فليباشر هذه الولاية، عاملا بتقوى الله تعالى التي أمر بها في محكم الكتاب، حيث يقول: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ
«2» ، وليشمل كافّة الرّعايا بالحفظ والرّعاية، ويجزل حظّهم من(12/296)
الملاحظة والعناية، وليساو في الحقّ بين ضعيفهم وقويّهم، وفقيرهم وغنيّهم، وليلزم أتباعه بحفظ الشوارع والحارات، وحراستها في جميع الأزمنة والأوقات، مع مواصلة التّطواف كلّ ليلة بنفسه في أوفى عدّة، وأظهر عدّة، منتهيا في ذلك وفيما يجاريه إلى ما يشهد باجتهاده، ويعرب عن سداده، ويعلم منه صواب قصده واعتماده، وبذل مناصحته في إصداره وإيراده؛ والله تعالى يعينه على ما ولّاه، ويحفظ عليه ما نوّله وأولاه، بمنّه وكرمه.
وهذه نسخة توقيع بنظر الجامع الأمويّ، لصاحب سيف: كتب به في الدّولة الظّاهرية «برقوق» لناصر الدين «محمد» ابن الأمير جمال الدين، عبد الله ابن الحاجب، عند مصاهرته الأمير بطا الدوادار «1» ، وهي:
الحمد لله الّذي قدّم أعظم الأمراء ليعمّ مواطن الذّكر بنظره السّعيد، وأقام لتعظيم بيوت أذن الله أن ترفع، [أميرا] «2» في الاكتساب للأجور أسرع من البريد، وأطرب المسامع بسيرته في أحسن معبد جلّيت فيه عروس مهرها كتاب الله تعالى والنّور من زيتونة لا شرقيّة ولا غربيّة ومرئيّ «3» عليه من مكان بعيد.
نحمده على أن أحلّ ناصر الدين بجماله الأسنى أشرف المراتب، وبوّأه المحلّ الرّفيع الّذي بلّغ به الأمّة المحمديّة المآرب، وسار خبر سيرته في المشارق والمغارب، وبلّغ بمشارفة نظره السعيد الشّاهد والغائب، حمدا نرفعه على النّسر الطائر، ونتمثل بقول القائل: كم ترك الأوّل للآخر، ونشهد أن لا إله(12/297)
إلا الله وحده لا شريك له الّذي خلق العباد لعبادته، وفضّل بعض المساجد على بعض لما سبق في علمه من إرادته، ونشهد أنّ سيدنا محمدا خير الخلائق عبده ورسوله الّذي سنّ الجمعة والجماعة، وعمر المساجد بالرّكوع والسّجود إلى قيام السّاعة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين اتّبعوه في قيام الليل إلّا قليلا، ولازموا المساجد بكرة وأصيلا، وحضّوا على الجماعة إلى يوم تكون الجبال فيه كثيبا مهيلا «1» ، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فلمّا كان جامع دمشق المحروسة رابع المساجد، وموطن كلّ راكع وساجد، وتقصده الأمم من الأقطار، ولم يخل من العبادة في اللّيل والنهار، ورواتب حكّام الشريعة عليه، والعلماء الأعلام تبثّ فيه العلوم وتأوي إليه، وغالب المساجد إلى سماط وقفه مضافة، وخطابته تضاهي مرتبة الخلافة؛ وهو أجلّ عجائب الدّنيا التي وضعت على غير مثال، وبه يفتخر أهل الهدى على أهل الضّلال- تعيّن أن يكون الناظر في أمره من عظم قدرا، وطاب ذكرا، وفتح لوقفه باب الزّيادة على مضيّ الساعات، وجمع أمواله بعد الشّتات، ووصل الحقوق لأربابها الذين كأنّهم جراد منتشر، ولم يضع من ماله مثقال حبّة ومن قال: إنّه صدقة فيومه يوم عسر، وعمّ جميع المساجد المضافة إليه بالفرش والتّنوير، وبدّأ الأئمّة والمؤذّنين والخدمة بعد العمارة على الكبير والصّغير.
وكان الجناب الكريم- ضاعف الله تعالى نعمته- هو الّذي يقوم في هذا الأمر أحسن مقام، ويصلح له في مصلحته الكلام.
رسم بالأمر العاليّ، المولويّ، السّلطانيّ، الملكيّ، الظّاهريّ، السّيفيّ- لا زال هذا الدّين القيّم قائما بمحمّده، والمساجد المعمورة [معمورة] «2» بإكرام مسجده- أن يستقرّ الجناب الناصريّ المشار إليه في النّظر(12/298)
السعيد على الجامع الأمويّ المعمور بذكر الله تعالى، وأوقافه المبرورة، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، بالمعلوم الشاهد به ديوان الوقف المبرور، إلى آخر وقت.
فليباشر ذلك: لما يعرف من فعاله الحسنة، وخبرته الّتي نطقت بها من المحابر الأفواه ومن الأقلام الألسنة؛ ولما حازه من فضيلتي السّيف والقلم، وأعماله الّتي بدت للمهتدي بها كنور لا نار على علم، وليعمّر ما دثر من الأوقاف وليوصل الحقوق إلى أربابها، وليدفع الأموال إلى من هو أولى بها، ويكفّ كفّ الظّلم وليبلّغ المستحقّ المآرب، وليحجب الخونة عن التّوصّل إلى مثقال ذرّة بجدّه فهو كجدّه حاجب، وليبدأ بالعمارة والفرش والتّنوير في جميع الأوقات، وأرباب الصّلاة والصّلات. والوصايا كثيرة وهو بها أدرى؛ وتقوى الله عزّ وجلّ ملاكها ولا زال يفيدها كما يعلّم الشّجاعة زيدا وعمرا؛ والله تعالى يجعله أبدا للدّين ناصرا، ويصلح عمله أوّلا وآخرا؛ والاعتماد في معناه، على الخطّ الكريم أعلاه.
المرتبة الثانية (ما يفتتح ب «أما بعد حمد الله» وفيها وظائف)
وهذه نسخة توقيع [بتولية] «1» الزكاة، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة «2» ، وهي:
أمّا بعد حمد الله مسعد من زكّاه عمله، ووفّاه وعد الخير أمله، ومصعد من وفت في تدبير الوظائف تفاصيل أمره ووفرت في تثمير الأموال جمله، والصّلاة(12/299)
والسلام على سيدنا محمد عبده ورسوله الّذي أمرنا بالصّلاة والزّكاة، وشفى جانب الدّين القيّم من الشّكاة، وعلى آله وصحبه الذين سار على نهجه القويم سائرهم، وتزكّى- وإنّما يتزكّى لنفسه- منجدهم وغائرهم- فإنّ أحقّ الوظائف أنّ يندب لحمايتها الحسام، ويترتّب لكفايتها من تحلّت بالمحامد شيمه الجسام- وظيفة الزّكاة الّتي وصلت سبب مكانها بإمكانها، وبنيت شريعة الإسلام على أحد أركانها، ومدحت المملكة بمعالي البرّ والإحسان المنظّمة من ديوانها.
ولما كان فلان ممّن زكت صفاته، وسمت بالجميل سماته، ووضحت كفاءته ودرايته، وصلحت حمايته الحساميّة ووقايته، وكان اليمن في قبضة مضائه، وتجريده وانتضائه، وكان نفوذ أمره واقفا عند حدّه واقعا على وفق ارتضائه- تعيّن أن يوصل سبب الشّدّ بأسبابه، ويرجع إليه في الزكاة المستحقّ نصابها حتّى يقال: رجع الحقّ بالحسام إلى نصابه.
فلذلك رسم أن يرتب...... «1» علما بأنّه الكافي الّذي إذا شدّ سدّ، وإذا قصر رأيه على الصّنع الجميل مدّ، والخبير الّذي إذا جمع مالا وعدّده كان مشكورا، وإذا فرقه في مستحقّيه كان خلاف الغير بالخير مذكورا، والنّاهض الذي ما تبرّم بمضايق المهمّات ولا شكاها، والمهيب الّذي قد أمّن من سار بالبضاعة إليه وقد أفلح من زكّاها.
فليستقرّ في هذه الجهة استقرارا يزيد مكانه وإمكانه، ويثمّر عمله وديوانه، وليوصّل كلّ ذي حقّ إلى حقّه فإنّما بسطت أيدي ولاة الأمور ليبسط عدله متولّيها وإحسانه. وتقوى الله تعالى هي العمدة؛ فليحقّق باعتمادها فيه ظنون الرّاجين، وليستعن بها على رضا المستنهضين له وعلى رضا المحتاجين؛ والله تعالى يلهمه الخير في ذوي الصادر والوارد حتّى يكونوا إلى خير(12/300)
«لاچين» «1» خير لاجين.
وهذه نسخة توقيع بشدّ الحوطات «2» بدمشق. كتب به لشرف الدين يحيى بن العفيف، [بإجرائه] «3» على عادته، وحمله على ما بيده من التّوقيع الشّريف، وهي:
أمّا بعد حمد الله الّذي سهّل الخيرات بأسبابها، وأقرّ في الوظائف السّنية كفاة أربابها، وكمّل أدوات من حنّكته التّجارب في المباشرات حتّى دخل المناصب العليّة من أبوابها، والصلاة والسلام الأتمّين الأكملين على سيدنا محمد الّذي جاء برشد الشريعة وصوابها، وعرّف بحسن الصّنيعة وثوابها، وعلى آله وصحبه وعترته الطاهرين- فإنّ أولى من لفتنا إليه جيد الإحسان، وألقينا إليه طرف التّكريم فبلغ الأمانيّ والأمان، ولحظناه بعين عنايتنا فنال من فضلنا ما أخجل الغيث الهتّان، ومنحناه من برّنا ما شرح له صدرا، واستصحبنا له ما ألفه من كرمنا وجعلنا له بعد عسر يسرا، وأيقظنا حظّه وقد كاد أن يغفى، وأطلعنا كوكب سعده بعد أن كاد يخفى- من ألفت مهمّاتنا منه الهمم العليّة، وسلك بين أيدينا المسالك المرضيّة، وأتمن على أموال الحوطات الدّيوانية، فنمت بحسن أمانته، وشكرت الدولة جميل تدبيره ودرايته.
وكان المجلس العالي فلان- أدام الله عزّه- هو الّذي أخبر عنه الوصف بما أثبته العيان، وأظهر الاختبار منه حسن السّيرة والسّريرة والسّجايا الحسان.(12/301)
فلذلك رسم بالأمر العالي- أعلاه الله تعالى، وضاعف إحسانه على أهل الهمم ووالى- أن يستمرّ المشار إليه في شدّ الحوطات الديوانية بدمشق المحروسة، على عادته، ومستقرّ قاعدته، وحمله على ما بيده من التّوقيع الشريف المستمرّ حكمه.
فليباشر هذه الوظيفة على أجمل عوائده، وليعد إليها على أكمل قواعده؛ إلّا أنّ التّذكرة بتقوى الله تعالى لا بدّ من اقتباس ضياها، والتّنبيه على سلوك سبيل هداها؛ فلتكن قاعدة أمله، وخاتمة عمله. والاعتماد في معناه، على الخطّ الكريم أعلاه، إن شاء الله تعالى.
المرتبة الثالثة (من تواقيع وظائف أرباب السّيوف بدمشق- ما يفتتح ب «- رسم بالأمر العالي» وفيه وظائف)
وهذه نسخ تواقيع من ذلك:
نسخة توقيع بشدّ مراكز البريد، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، كتب بها لمن لقبه «بدر الدين» في سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، وهي:
رسم بالأمر العالي- لا زالت البرد سائرة بأوامر عدله المديد، وهوامر جوده المجيد، وسوائر الأخبار عن بأسه ونداه المرويّ سندهما عن ثابت ويزيد، ولا برحت جوامع عطاياه وقضاياه: هذه فاتحة لمصالح الآمال باب الزّيادة وهذه فاتحة لمصالح الإسلام باب البريد- أن يستقرّ المجلس على عادته الأولى، وقاعدته الّتي ما برحت قدم مساعيه فيها المقدّمة ويد أمانته الطّولى، علما بكفاءته التي شهدت بها حتّى الخيل الماثلات خرسا فأفصحت، المواصلات سعيا فأنجحت، الموريات قدحا «1» إلا أنّ ألسنة الأحوال في شهادتها ما(12/302)
قدحت، المغيرات على السّرى صبحا ما دار عليها شفق العشيّ فاغتبقت «1» ، حتّى دار عليها شفق الفجر فاصطبحت. ومراكز الطّرق الّتي حمتها مهابته فكأنّها مراكز الأسل، ومراكض السّبل، كلّ واد منها وما حمل وكل حدب وما نسل؛ واعتمادا على سداد عزمه الّذي وافق خبره الخبر، ورشاد سعيه الّذي كلّ أوقاته من وجوه الإجادة ووجوه الجياد غرر، وركونا إلى أنّه الكافي فيما يعتمده ويراه، السّاري في المهمّات لا يملّ وهيهات أن يمل البدر من سراه؛ كم أعان الإسلام على ما اتّخذه من قوّة ومن رباط الخيل، وكم جاد على الجياد على الغيث «2» حتّى سارت بين يديه كالسّيل، وكم حفظ عليها قوتها وقوّتها فبعد ما كانت تموت بالعدد صارت تعيش بالكيل.
فليباشر ما عوّل فيه عليه، وأعيد من حقّه وإن كان خرج عنه إليه، وليطلق يد أمره ونهيه بما يسرّه أن يقدّمه بين يديه، حريصا على أن تنطق هذه الدّوابّ الخرس غدا بثنائه، مجريا لقوائمها وللإقامة بها على عادة إجرائه، متخيرا لها كلّ حسن الإمرة والسّياسة عند رحيلها وقدومها، ومن إذا عرضت عليه بالعشيّ الصّافنات الجياد طفق مسحا ولكن بإماطة الأذى عن جسومها، موسّعا عليها من المباني والأحوال كلّ مضيق، آمرا بما يحتاج إليه نوعها البديع من صناعتي ترشيح وتطبيق، مستأمنا من الأيدي من يردّ عنها الأيادي الضّائمة، ومن يساوي بينها في الأقوات حتّى لا تكون كما قال الأوّل: «خيل صيام وخيل غير صائمة» ، متحرّيا في تكفيتها أجمل الطّرق والطّرائق، مستجلبا صنوف العليق فلا تنقطع من برّه العلائق؛ والله تعالى يمدّه بعونه ورشده، ويجعل عزمه سابقا إلى التوفيق «سبق الجواد إذا استولى على أمده» ، بمنّه وكرمه.(12/303)
وهذه نسخة توقيع بنقابة النّقباء «1» ، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة أيضا، كتب بها لشهاب الدين «بولاقي» عوضا عن أبيه، في سنة أربع وثمانمائة، وهي:
رسم بالأمر العالي- لا زال بإنعامه يسفر عن وجه الأمل نقابه، ويحفظ لكافي الخدمة أعقابه، ويلوي باستمرار النّعم أدوار الزّمان وأحقابه، ويطلع في آفاق دولته شهاب كلّ عزم تحمد عساكره المنصورة ارتقاءه وارتقابه- أن يرتّب المجلس السّامي، الأمير:......... علما بأوصافه الحسنة، وأوضاعه الّتي لا يحتاج الحكم بفضلها إلى إقامة بيّنة، وكفاءته الّتي تنطق بها ألسنة الأحوال المؤمّنة وقلوب العساكر المؤمنة، وهمّته الّتي إذا وقّفت المواقف على الأعداء عرّفته أصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة، وتصديقا لدلالة عزمه الواعد، وتحقيقا لحماية شهابه الواقد، وركونا إلى قيامه مقام أبيه رحمه الله في الخدمة حتّى كأن لم يفقده من الجيش فاقد؛ وأنّه لدرجات الاستحقاق راقي، وأنّه العوض عن أب لاقى منيّته وكلّ آمريء لاقي المنيّة وابن لاقي، وأنّه كفء هذه المنزلة كما حكم الرأي واقتضى، وكما شهد «2» لغرّته بغرر الفوائد وكيف لا وهو ابن النّقيب المرتضى!.
فليتلقّ بشهابه المضيء هذا المطلع الأسنى، وليقم في هذه الوظيفة على قدم الخدمة صورة ومعنى، مقدّما على النّقباء تقديم إمامهم، معلّما لجند الإسلام معلوم مقامهم، مالئا بإتقان معرفة الحلى سمع من استملاه، محظيا(12/304)
للجنديّ معينا له على حصول الخير حتّى يشكره شكر من أطعمه وحلّاه، ناظما للمواكب عقد مجتمعها الثّمين، مصاحبا لها صحبة يثنى بها عليه وحسبه أن يكون من أصحاب اليمين، مرتّبا لها أحسن ترتيب، منقّبا عن محاسن تجمّلها:
فإنّ اسم النّقيب مشتقّ من التّنقيب. وليكاثر حملة السّيوف فإنّه حامل سيف وعصا، وإنّه بهذه مخلّص حقوق من أطاع وبهذا موبق نفس من عصى؛ وليحرص على أن يقوم بوعد الاجتهاد المنجز، وعلى أن يكون سيف تحريض على جرحى الأعداء مجهز، وعلى أن يحصل في مواطن الجهاد على الأجرين:
أجر المقاتل وأجر المجهّز؛ والله تعالى يحمد في الخير طرائقه، ويؤيّد عزمه الجيشيّ حتّى تلهج بشكره ألسنة الأعلام الخافقة، والاعتماد.......
وهذه نسخة توقيع بشدّ خزائن السلاح، من إنشاء ابن نباتة أيضا، وهي:
رسم بالأمر الشريف- لا زالت أسنّة نجوم السّعد من سلاحه، وصواعقها من أعوان صفاحه، وسماكها الرّامح من أنصار رماحه، ولا برح يعمل معادن الأرض حتّى يفنى ذهبها وحديدها على يدي بأسه وسماحه- أن يرتّب......
لأنّه الناهض الّذي تتزيّن الوظائف بسمته وباسمه، وتتعيّن المصالح والمناجح بعزمه وحزمه، والمسدّد من آرائه سهاما، والمجرّد من اهتمامه كلّ ماضي الحدّ إذا كان بعض الاهتمام كهاما «1» ، والوفيّ في شدّ الجهات قولا وعملا، والمليّ بحمل السلاح واستعماله على رغم القائل: «أصبحت لا أحمل السّلاح ولا» ، والخبير بمحاسن الاقتراح، والكافي ولا عجب إذا سلّمت له ذوو الوظائف وألقت عليه السلاح؛، ذو العزم الأشدّ، والرّأي الأسدّ، والذّكيّ الّذي إذا تناول بعض الأسلحة وانتسبت شجاعته رأيت القوس في يد عطارد في بيت الأسد.
فليباشر هذه الوظيفة المباركة بعزم أقطع من حسام، وأمانة أقوم من ألف(12/305)
وصيانة أحصن من لام «1» ؛ معتبرا لأحوالها، مقرّرا لمطالب مآلها من مالها، موفّرا من أسلحتها الّتي تتوفّر بها من الخير سهامه، منصفا لصناعها الذين يحمد عند استعمالهم صنيعه واهتمامه، مكثرا لخزائنها من ذخائر العدد، مجهّزا لجيوش الإسلام من مادّة عملها بأنفع مدد: من قسيّ تقضي أهلها بقطع أعمار العدا، وسيوف صقيلة إذا نادت ديار النّاكثين أجابت الندا، ودروع تموّجت غدرانها إلا أنّها في مهالك الحرب لا تغوّر، ورماح أطّردت كعوبها فكلّها على عدوّ الإسلام كعب مدوّر؛ إلى غير ذلك مما يدلّ على عزمه الحميد، ويقضي للنّعمة عليه بالمزيد؛ والله تعالى يثقّف عزمه، ويوفّر من السّلاح والنّجاح سهمه.
وهذه نسخة توقيع بشدّ الجوالي «2» ، من إنشاء ابن نباتة أيضا، وهي:
رسم بالأمر الشريف- لا زالت سعود أوامره واضحة الأدلّة، نافذة الحكم على كلّ ملّة، قائمة لخصب البلاد بالعدل، مقام السّحب المستهلّة- أن يرتّب فلان في شدّ الجوالي بدمشق المحروسة: لما ظهر من نجابته، واشتهر من حزمه ومهابته، وبدا من هممه العوالي، وعزائمه الّتي تجلو صدأ الهمّ بالجوالي، وإذا قيل لحاسده: له ولأبيه إمرة الخيل قال: والجوى لي، وأنّه الكافي الّذي إذا استنهض كانت عزائمه شابة، ونفحات ذكره الجميل هابّة، ونجل الهمام الّذي أشهد على كفاءته النّهار وعلى تعبّده اللّيل، وأعدّ لمصالح الإسلام ما استطاع من قوّة ومن رباط الخيل، وأنّ مرباه جميل، ومنشاه في منازل الخير دليل.(12/306)
فليباشر هذه الوظيفة المباركة بعزم يثمّر مالها، ويقرّر على السّداد أحوالها، ويستخلص الحقّ من أهل الاعتقاد الباطل، ويستخرج الوفر من أهل الجلد الماطل؛ فلا نصرانيّ إلّا وهو يتضرّع تحت الزّرقاء من باسه، ولا يهوديّ إلا وهو يشكو الصّفراء «1» في راسه، ولا سامريّ إلّا والنار الحمراء مطلّة على أنفاسه، حتّى تكون أوصاف شدّه متلوّة، وعزائمه في الجوالي مجلوّة، وهممه جارية على إيلافها ومألوفها، مجزّئة لأقلام الحساب والدّراهم على حروفها، صحيحة الوزن غير منهوك، آخذة الدّينار من وازنه، وهو كالمأخوذ منه مصكوك، شدّا تنعقد على اختياره الخناصر، وكما أنّ للإسلام منه قوّة فليكن للوظائف الدينية منه ناصر.
الضرب الثاني (ممن يكتب له عن نائب السلطنة بالشام من أرباب السيوف- من هو بأعمال دمشق؛ ومواضعهم على ثلاث مراتب أيضا)
المرتبة الأولى (ما يفتتح ب «الحمد لله» وفيها وظائف)
وهذه نسخ تواقيع من ذلك:
نسخة توقيع بنيابة بعلبكّ كتب بها لركن الدين «عمر بن الطحان» وهي:
الحمد لله الّذي جمّل بمحاسن زينه من استحقّ الصّعود إلى أعلى المنازل، وجعل نجم سعده بارتقائه إلى سماء المناصب طالعا غير آفل، وصان بعقله الراجح أحصن المعاقل.
نحمده على إحسانه الواصل، وغيث جوده الّذي هو على الدّوام هاطل، حمدا ينطق بمدح معدلته كلّ لسان قائل، ويزيد خيره على كلّ عام قابل، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له الّذي ألحق جياد الأواخر بالأوائل،(12/307)
وجعل أجمل الأمراء يفوق البدور الكوامل، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي جعله لديه أعظم الوسائل، وتلازم هو وجبريل في علوّ المنازل، والتّقدّم في المحافل، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه سادات العشائر والقبائل، والمجاهدين في سبيل الله بالبيض البواتر والسّمر الذّوابل، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فلمّا كانت بعلبكّ المحروسة من أعزّ بلاد الإسلام، وأبهج مدن الشّام- تعيّن أن نعيّن لها حاكما ديّنا خبيرا، أمينا أميرا؛ شجاعا مهتابا «1» ، بطلا برمحه وسيفه في صدور الأعداء ورقابهم طعّانا ضرّابا، وكان الجناب الكريم فلان- ضاعف الله تعالى نعمته، وحرس من الغير مهجته- من بيت كان على التّقوى أساسه، وعدّت لدفع المعضلات أناسه، واشتهرت همّتهم فلا يردّ لهم سهم ولا يطاق باسه؛ طالما نفوا عن الدّين الحنيفيّ خبث الكفر بعدما تمكنت أدناسه، وشمّروا عن ساعد الاجتهاد فمحي بسيوفهم ضلال الشّرك وأرجاسه؛ وهو أعزّه الله تعالى ممّن شجى بشجاعته، حلوق الكتائب، ووفّى بعدله وحسن سياسته، حقوق المناصب، وقام في خدمة الدّولة الشريفة أحسن قيام، وهذّبته بمرورها اللّيالي والأيام، وتأهل لحلول الرتب العليّة، وتعيّن لارتقاء المراتب السّنيّة؛ فأردنا أن نختبره فيما نولّيه، ونخبر عزمه فيما نوليه.
فلذلك رسم بالأمر العالي- لا زال أمره مستمرّ الإحسان، مجزلا لذوي الاستحقاق عوارف النّعم الحسان- أن يستقرّ الجناب الكريم المشار إليه- ضاعف الله تعالى نعمته- في نيابة السّلطنة الشريفة ببعلبكّ المحروسة والبقاعين «2» المعمورين، على عادة من تقدّمه في ذلك، ومستقرّ قاعدته، بالمعلوم الّذي يشهد به الديوان المعمور، إلى آخر وقت.(12/308)
فليباشر هذه النيابة الشريفة بخاطر منفسح حاضر، وقلب منشرح على الخيرات مثابر، وليتّخذ الشرع الشريف إماما، وليتوخّ أوامره ونواهيه نقضا وإبراما، وليقف عند حدوده المشروعة، ولا يتعدّها ومن يتعدّ حدود الله فيده من الإيمان منزوعة، وليلن جانبه للرّعية، وليحملهم من العدل والإنصاف على المحجّة الواضحة الجليّة؛ فإنّهم الرعية الضعفاء «1» الصالحون الذين أنعم الله عليهم بتفويض أمورهم إليه، وليعرّفهم قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «اللهمّ من ولي من [أمور] «2» أمّتي شيئا فرفق بهم فارفق به ومن شقّ عليهم فاشقق عليه» ، وليعمّر البلاد، وليقمع أهل الفساد، وليمهّد البقاع، وليحيي موات الضّياع، وليقم على القلعة المنصورة الحرس، ولا يغفل عن حفظها بمعرفته الّتي أكدت له من السّعادة سببا؛ والله تعالى يبلّغه من إحساننا أربا، وينجح له من فضلنا طلبا، ويحرسه بسورتي فاطر وسبا؛ والاعتماد في معناه، على الخط الكريم أعلاه.
وهذه نسخة توقيع بكشف البلاد القبلية، كتب به لغرس الدين خليل الناصريّ في الدولة الظاهرية «برقوق» وهي:
الحمد لله الّذي جرد من أولياء هذه الدّولة الشّريفة سيوفا تحسم موادّ الفساد، وتبيد أهل الزّيغ والعناد، وتعمّ ببأسها وبعدلها البلاد، حمدا مستمرّا على الآباد، مزوّدا غرسها النافع ونعم الزّاد، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ربّ العباد، القائم على كلّ نفس بما كسبت والمجازي لها بما عملت يوم يقوم الأشهاد، ونشهد أنّ سيدنا محمدا خير الخلائق عبده ورسوله الّذي بلّغه في الدنيا والآخرة أقصى المراد، وفضّله على الخلائق: الآلاف والمئين والعشرات والآحاد، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين فتحوا البلاد،(12/309)
بسيوفهم الحداد، ومزّقت رماحهم من مخالفي دينهم القويم القلوب والأكباد، وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم التّناد.
وبعد، فلمّا كانت المملكة القبليّة جلّ البلاد الشامية، وبها أرزاق العساكر الإسلامية، وطريق الحاجّ إلى بيت الله الحرام، وزيارة نبيّه عليه أفضل الصّلاة والسلام، وإلى الأرض المقدّسة، التي هي على الخيرات مؤسّسة، وإلى الأبواب الشريفة السلطانية، وممر التّجار قاصدين الدّيار المصريّة، ومنازل العربان، ومواطن العشران «1» - وجب أن يفوّض حكمها إلى من عرف بالشّهامة والشجاعة، واليقظة الّتي لا يغفل بها عن مصلحة المسلمين ساعة؛ من أثمر غرسه وما يفوّه، وأينع بالمروءة والفتوّة، وتقدّم في الكمال على زيد وعمرو، وأضرم في قلوب الأعداء نارا أحرّ من الجمر.
وكان الجناب الكريم- أدام الله نعمته- هو المشهور بهذه الصّفات، والمنعوت بالشّجاعة والإقدام وحسن الأدوات.
فلذلك رسم بالأمر العالي- لا زال إحسانه يثّمر غرسا، وجوده يسرّ نفسا- أن يستقرّ الجناب المشار إليه في كشف البلاد القبلية المحروسة على منوال من تقدّمه وعادته، وحدوده في ذلك ومستقرّ قاعدته.
فليباشر ذلك بهمّته العليّة، وشجاعته الأحزميّة، ونفسه الأبيّة، وليبيّض وجهه في هذه النّوبة حتّى يطرب الناس بالنّوبة الخليليّة، وليعدل في الكبير والصغير، وليقمع رؤوس عشير اتخذوا رأسهم مولى: فلبئس المولى ولبئس العشير، وليدفع أذى العرب، وليحذّرهم شرّا اقترب، وليكثر الركوب إلى المعاملات، ولا يخش من كثرة الحركات، وليعلم أنّ كلّ ما هو آت آت، وليتخذ الشّرع الشريف إماما، وليتوخّ أوامره ونواهيه نقضا وإبراما، وليقف عند(12/310)
حدوده المشروعة، ولا يتعدّها: ومن يتعدّ حدود الله فيده من الإيمان منزوعة، وليلن جانبه للرّعية، وليحملهم من العدل والإنصاف على المحجّة الواضحة الجليّة؛ فإنهم الرعية الضّعفاء الذين أنعم الله عليهم بتفويض أمورهم إليه، وليعتمد قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «اللهمّ من ولي من أمور أمّتي شيئا فرفق بهم فارفق به ومن شقّ عليهم فاشقق عليه» ؛ والوصايا كثيرة وتقوى الله عزّ وجلّ نظامها وقوامها، واتّباع سنّة نبيّه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم قيادها وزمامها، والاعتماد في معناه، على الخطّ الكريم أعلاه.
وهذه نسخة توقيع بكشف الرّملة، كتب به لأبي بكر «أمير علم» «1» ، في الدولة الظاهرية «برقوق» وهي:
الحمد لله الّذي قلّد أجياد المجاهدين، سيف نصره، وأكّد بعزائم أهل اليقين، حماية حوزة الإسلام وصيانة ثغره، وجعل ألسنة أسنّة المرابطين في فم الثّغر زينا إذا ازدان بغرّة بدره، وأنزل بأعداء الدّين قوادح نقمه وقوارع قهره.
أحمده أن حمى بأولي النّجدة والبأس للمسلمين حمى، وأشكره على ما همع من صيّب نعمائه وهمى، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة أتّخذها عند الله ذخرا، وأرجو بها في العقبى أجرا، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي آيد يده بالسّيف وأمدّه أيدا، وعلى آله الذين حلّى بهم للإسلام جيدا، وصحبه الذين جلا ببوارق صفاحهم، وخوارق رماحهم، غمم المجال، وغمم القتال، فلم يهمل الأعداء ولم يمهلهم رويدا.
وبعد، فإنّ أولى من جعل في نحر البحر هماما صارم «2» ، وأشدّ من قاطع(12/311)
أعداء الدين وصارم، من تضرب بشجاعته الأمثال، ويورد في صدور الأبطال صمّ الأسل النّهال، ويحمي حمى الثّغر فلا يدع عدوّا ولا يرهب نهبا، ويرقى رقاب الكفر فيؤمنون وإن كان وراءهم ملك يأخذ كلّ سفينة غصبا «1» ولما كان الجناب الكريم فلان- أدام الله تعالى نعمته- هو الّذي أخلص في الطّاعة، ونصح سلطانه حسب الطاقة والاستطاعة- رسم بالأمر الشريف العالي- لا زال سيف عدله ماضيا، وكلّ بحكمه راضيا- أن يستقرّ الجناب المشار إليه كاشفا بالرّملة المعمورة، على عادة من تقدّمه في ذلك.
فليباشر ذلك معمّرا تلك البلاد بعدله، مجتهدا على إيصال الحقّ إلى أهله، وليتخذ الشّرع الشريف إماما، وليتوخّ أوامره ونواهيه نقضا وإبراما، وليقف عند حدوده المشروعة، ولا يتعدّها: ومن يتعدّ حدود الله فيده من برّ الإيمان منزوعة، وليلن جانبه للرّعية، وليحملهم من العدل والإنصاف على المحجّة الواضحة الجليّة، [فإنّهم الرعية الضّعفاء الذين أنعم الله عليهم بتفويض أمورهم إليه] «2» ، وليعتمد فيهم قول النّبي صلّى الله عليه وسلم: «اللهمّ من ولي من أمور أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به ومن شقّ عليهم فاشقق عليه» . والوصايا كثيرة وأهمّها التّقوى فليلازم عليها فإنّها تحفظه، وبالسيادة والسعادة تلحظه؛ والله تعالى يكمّل توفيقه، ويسهّل إلى نجح المقاصد طريقه؛ والاعتماد في معناه، على الخط الكريم أعلاه.
قلت: ومن تأمّل وصايا هذه التواقيع الثلاثة المتقدّمة الذكر، علم ما كان عليه كتّاب الزمان، من انتزاع الفقرات من توقيع، وترصيعها في توقيع آخر، من غير تغيير لفظ في أكثرها.(12/312)
المرتبة الثانية (من تواقيع أرباب السيوف ممّن بأعمال دمشق- ما يفتتح ب «أما بعد حمد الله» وفيها وظائف)
وهذه نسخ تواقيع من ذلك.
نسخة توقيع بنيابة بعلبكّ لمن دون من تقدّم في المرتبة الأولى، من إنشاء الشيخ جمال الدّين بن نباتة، كتب به لمن لقبه «ناصر الدين» ؛ وهي:
أمّا بعد حمد الله الّذي لم يخل مملكة إسلامية من قوّة ولا ناصر، ولم يحل أمرها على ذي عزم قاصر، ولم يحلّ وجهها إلا بمن نسي به القديم وشهد له المعاصر، ولم يلق مقاليدها إلا لمن وضح برأيه الإبهام وثبتت بفضله الشهادة وعقدت على ذكره الخناصر، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الّذي شيّد معالم الدّين وأركانه، وجدّد مكان الحقّ وإمكانه، وعلى آله وصحبه الذين تابعوا في الخلق عدله وإحسانه، وشايعوا في النّصر نصله وسنانه، ما استناب الودق «1» في سقيا الرياض غدرانه، وخلع على الغصون خلعا خطر فيها الزّهر بأكمامه وعقد من الثّمر تيجانه- فإنّ شرف الأماكن بساكنيها، وجسوم الديار بنفوس قاطينها، والمنازل بكواكبها، والمناصب بنصيبها من الكفاءة ونائبها، وإنّ مدينة بعلبكّ علم في المدائن مرفوع الخطّة، وجسم من جسوم الديار قد آتاه الله بسطة، بنية سليمان عليه السّلام فهي بالملك قديمة الاختصاص، ومبتنى الجانّ المنسوبة عقودها العلية والدّرية إلى كلّ بناء وغوّاص، وشام الشّام المعجبة، وروضة نداه المعشبة، وثنيّة ثغره الباسم، وعرف أعراق حياه النّاسم، ومأوى صلحائه أحياء بين أوطانها، وأمواتا بين صفيح لبنانها؛ لو عرضت البلاد سحبا لقيل لسحابها: يا كثير المنن، ولو صوّرت أناسيّ لقيل لإنسانها: يا طيّب النّجر واللّبن؛ لا يمنع ماعونها، ولا ينقطع عونها عن البلاد وما أدراك ما عونها، ولا(12/313)
تليق من النوّاب إلّا بكلّ سرّي العزم والهمّة، عليّ الآراء في الملمّة المدلهمّة، ناجح القول والعمل، صالح لأن يثني على نيابته البعلبكّية صالحو المدينة والجبل، مكمّل لسلوك الحقّ الأنجى والعزم الأنجد، مؤهّل لارتقاء الرّتب التي [إن خلت من ماجد تناولها] «1» الأمجد.
وكان فلان هو جملة هذا التّفصيل، وجمال هذا التّفضيل، وكفء هذه العقيلة، وسعد هذه المنزلة الّتي مدّت بالسّيف والقلم ذراعه ونظّمت من البناء إكليله.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا زالت الممالك بمحاسن أيّامه إرم ذات العماد، والبلاد ذات الخصب السّنيّ لا ذات السّنة الجماد- أن يرتّب في نيابة بعلبكّ المحروسة: مجدّدا بهمّته العالية علوّ صرحها، وحماية سرحها، ورعاية جبلها وسفحها، موريا في مصالحها زناد فكره الّتي لا تتمكّن أقوال العداة من قدحها، مصرّفا أوامره كيف شاءت، منصفا للأحوال المنوطة برعايته إن دنت أو تناءت، باسطا لعدل قلمه على المجيدين، وسطوات سيفه على المعتدين، وازعا بمهابته من جاور جبال العمل من الضّالّين، فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ
«2» وليتبوّأ منها معقلا يحمده المناصر والمهاجر، وليحط منها ثغرا مساويكه الأسل والمسعى إليه على المحاجر، وليجر أمور الديوان على سنن التّمييز والتّثمير، وليدبّر الأوقاف المبرورة بمحاسن التّدبير، وليشارك أهلها في الأجر الأوّل بالأجر الأخير؛ والأسوار هي وقلوب الرّجال من أهمّ ما يعمّره، ووفور الحواصل والسّلاح ممّا للوليّ ولقاء العدوّ يدّخره، وتقوى الله عزّ وجلّ ممّا لا يزال لسانه يستحلي القول فيه فيكرّره؛ والله تعالى يمدّه بإعانته ولطفه، ويكفيه ما أهمّ من الأمور فما كفي من لم يكفه.(12/314)
وهذه نسخة توقيع بولاية الولاة بالشّام المحروس لمن لقبه «عزّ الدّين» من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة أيضا؛ وهي:
أمّا بعد حمد الله الذي جعل للولاة في هذه الدّولة عزّا يتجدّد، وعزما يتشدّد، [وفعلا إذا حكم لا يتعدّى ورأيا لا يتعدّد] «1» ، وكافي ولاة يتلذّذ الواصف بذكر اهتمامه الّذي إذا اهتمّ لا يتلدّد، وإذا اعتبر عزمه وحزمه فهذا فضل يتجدّد، وهذا وصف لا يتحدّد، والصلاة والسلام على سيد الخلق محمد، وعلى آله وصحبه ذوي العزّ المؤبّد، والعزم المؤيّد، ما كتب قلم الغيث الجائد على طرس الرّوض فجوّد- فإنّه لما كانت الولاة في خدمة البلاد جيشا يحمون سرحها، ويعمرون صرحها، ويخصبون بالعدل قبل العمارة سفحها، ويحكمون في رعاياها، ويتمكّثون في قضاياها، ويقرعون ثغورها ويفرعون ثناياها- تعيّن أن نقدّم على هذا الجيش المذكور أميرا يقرّر أمرها، وينسّق من ميمنته وميسرته يمنها ويسرها، ويجرّد من الرّأي سلاحه، ويسرّ قلبه بالتّدبير ويريش جناحه.
وكان المجلس السامي هو الأمير الدّالّ عليه هذه الإمارة، المعنيّ بهذه الشّارة والإشارة، المستحقّ بشريف نفسه مدارج الارتقاء، ومباهج الانتقاد والانتقاء، المسبل أذيال مفاخره أيّ إسبال، المرقوم باسمه ورسمه على أرجاء الولايات: «عزّ يدوم وإقبال» ، المقيم من أمانته ومهابته بين حرزين، الشّهم الذي لا يذلّ وهو من نعته ومنتسبه بين عزّين، الصّمصام الّذي تسرّ [به] يد من ارتضاه وانتضاه، والماشي على الحقّ الظّاهر حتّى يقال: أهذا والي الولاة أم قاضي القضاة؟.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- شرّفه الله وعظّمه- أن(12/315)
يستقرّ......... اعتمادا على شهامته الّتي بمثلها تمهّد البلاد، وكفاءته التي تفصح بالخيرات السّنيّة ألسنة الجماد، وصرامته الّتي تشدّ على أيدي الولاة فيردون الحقوق من أيدي الاغتصاب، ودرايته الّتي ينتسبون إليها فينشدون:
وكنّا كالسّهام إذا أصابت ... مراميها فراميها أصاب «1»
فليباشر هذه الرّتبة بكفئها: من العزم العالي، والقدر الغالي، والمعدلة التي تتمسّك منها الأحوال بأوثق العرا، وتتلو سيّارتها المرفقة: وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى
«2» ، مراعيا لجميع الأحوال، مثمّرا لمربع الأموال، واليا على ولاة إن شكّوا في صنع الله فما لهم من الله من وال، ماشيا من تقوى الله تعالى في كلّ أمر على أقوى وأقوم منوال؛ والله تعالى يخصب البلاد بغمام رأيه الصّيّب، ويطيّب الأماكن المنبتة بمثله: «وكلّ مكان ينبت العزّ طيّب» .
وهذه نسخة توقيع بولاية البلقاء والصّلت «3» ، من إنشاء ابن نباتة، وهي:
أمّا بعد حمد الله مضاعف النّعمة، ومرادف رتب الإحسان لمن أخلص في الخدمة، ومجدّد منازل العزّ لمن طلعت كواكب اهتمامه في آفاق الأمور المهمّة، ومؤكّد سهام الخير المقتسمة، لمن سدّد في شرف الأغراض رأيه بل سهمه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبيّ الأميّ هادي الأمّة، وعلى آله وصحبه حماة الدّين من العوارض الملمّة، صلاة تكون بين أرواحهم الزّكية مودّة ورحمة- فإنّ أحقّ الأولياء بمزيد الآلاء المتّصلة، وتجديد النّعم المقبلة وتقديم المساعي الّتي لا تلبس حلل الفخار إلا مكتملة- من وضحت في صفات الفضل آياته، وتقابلت في حالتي التّدبير سطاه وأناته، وروّى غلّة البلد الخائف(12/316)
ففاض على المعتدين جدول سيفه وجرت بالدّم قناته، وقام على قدم الاجتهاد، وقسم بين جفنه وجفن سيفه السّهاد.
ولما كان المجلس هو المقصود بهذه الكناية، والمشهود له في طلق هذه الغاية، والعالي بهممه على ذوي الارتقاء، والوالي الّذي إذا ركب الولاة لاشتهار ذكر كان من بينهم فارس البلقاء، والنّاهض بتثمير الأموال غمام رأيه الصّيّب، والطّيّب بسياسته محلّ الولاية: «وكلّ مكان ينبت العزّ طيّب» - تعين أن نتزيّد منصبه إذا تزيّدت المناصب، وأن تستمرّ مرتبته إذا مرّت لذهابها المراتب، وأن يشتمل في استمرارها عليه، وأن يكون في إعراب الدّولة القاهرة مضافا ومضافا إليه.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- أعلى الله تعالى أبدا عماده، وجعل لولاة أيّامه الحسنى وزيادة- أن يستمرّ على ولاية البلقاء على عادته، وأن تضاف إليه ولاية الصّلت: جمعا له بين الأختين حلالا، والذّروتين منالا، والرّايتين نهوضا بهما واستقلالا، وعلما بوفاء عزمه الّذي أمر أمره، ورفعا لقدره الّذي حسن أن يقول لمنصب البلقاء: «لنا الأبلق الفرد الّذي سار ذكره» ، وتيمّنا بغرّة الصّلت فإنّ الصّلت هو الجبين الواضح بشره؛ وكيف لا؟ وهو الكافي الّذي جمع مال الجهات فاوعى، وقسم فنون المصالح جنسا ونوعا، وحسم أدواءها بحسام رفقه كرها وطوعا.
فليباشر بالعزّ واليمن جهتيه، وليأخذهما بكلتا يديه، وليفض وجه عزمه في أرض الدّولة حتّى يكون شبه البلقاء اللازم لإحدى ولايتيه، محصّنا بسماكي سيفه وقلمه فنعم البلدتان، مثمّرا بسداد قوله وفعله ومن دونهما جنّتان، موفيا للحقوق، معفيا لاعتراف النّعمة من العقوق، راقيا بهمته- إن شاء الله تعالى- إلى رتب لو رامها نجم الأفق لعاقه العيّوق «1» ، عاملا بتقوى الله عزّ وجلّ فإنّ(12/317)
خير الدنيا والآخرة بتقوى الله معدوق؛ والله تعالى يوضّح لرأيه أجمل الطرائق، وينجح على البلقاء وغيرها سعيه السّائق، وفكره السابق، بمنه وكرمه!.
وهذه نسخة توقيع بولاية نابلس، من إنشاء ابن نباتة أيضا؛ وهي:
أمّا بعد حمد الله على ماهنّأ من المواهب، وهيّأ من عليّ المراتب، وأنجز من وعود السّعود بعد مطال المطالب، وزيّن من سماء الوظائف عند إزهائها بزينة الكواكب، وعمرّ من صدور الولاة والولاية بعليّ تثني عليه الرعيّة «ولو سكتوا أثنت عليه الحقائب» ، والصلاة على سيدنا محمد عبده ورسوله الذي جرّد لنصر الإيمان حدّه القاضب، وحزبه الغالب، وندب لإحياء الحقّ عليه بعدما همّت به النّوادب، وعلى آله وصحبه الذين هم في الممات جمال الكتب كما كانوا في الحياة جمال الكتائب، صلاة تتعطر بنفحاتها الصّبا وتتقطّر من خلف سراها الجنائب- فإنّ عقائل الولايات أولى بخطبة أكفائها، ورغبة السّراة من ذوي اصطفائها، ونسبة من يقوم للأمور المعلّلة بقانونها وشفائها «1» .
ولما كانت بلد نابلس المحروسة من أعلى عقائل البلاد قدرا، وأمرا الجهات أمرا، وأسرى الولايات محلّا وذكرا، وأوفى النّواحي من زمان بني أيّوب على تكاليف الملك صبرا، وأنزه البقاع الّتي لو رآها الملك المصريّ لما استغلى غوطة الشّام بشبرين من شبرا «2» ؛ بلد أعارته الحمامة طوقها وحمّلت الثّناء فوق طوقه، ونجم نبات واديها الزّهر حتّى تساوى النّجمان من تحته ومن فوقه- تعيّن أن يختار لولايتها من تعيّن ولاؤه، وتمكن في الرّتب علاؤه، وتبيّن في مصالح الولايات احتفاله واحتفاؤه، وشهر وفاؤه بالخدمة فلا شرف بسعي إلّا له منه شينه وراؤه وفاؤه، من شهدت السّواحل الشاميّة في مباشرته أنّه أجرى منها(12/318)
المال بحرا، وأفاض الوصف درّا، وشهدت الزّكاة- وديوانها المادح- أنّه أفلح من زكّاها خبرا وخبرا.
فلذلك رسم بالأمر الشريف أن يرتّب فلان...... علما بأنّه الأوحد الذي جمع الأوصاف المتقدّمة، وأسمع من المحامد نتيجة لها من كلا قوله وفعله مقدّمة، وأطلع في آفاق الوظائف كنجوم الجوزاء الثّلاثة رأيه وسيفه وقلمه، واطّلع على محاسن التّدبير فكان في رعايا بلده ممّن تواصوا بالصّبر وتواصوا بالمرحمة، وأنّه الكافي الّذي إذا ولي ثمّر، وإذا صال على المفسدين دمّر، وإذا شامت المهمّات بارق عزم، أسبل وإذا سامت قواه شمّر، وأنّه الأمين إذا تصرّف، والمأمون إذا تعرّف، والشّجاع إذا تحصّنت البلاد بنسبه الحصنيّ:
فسواء في شمول الأمن ما توسّط منها وما تطرّف.
فليباشر هذه الولاية المباركة بعزم يوضّح بشرها، وينجح أمرها، ويقيم في خطبة علاه عذرها، وحزم يثمر مالها وغلالها، وينقع غلّتها ويضع أغلالها، وبأس يدع المفسد من سيفه أو قيده في طوق أو حجل «1» ، ويذر السّارق والمارق يشير بلا كفّ ويسعى بلا رجل، مشيّدا لنواحيها بالتّرغيب والتّرهيب على أوثق المباني، مصلحا بين أهل الأهواء حتّى لا يضرّ قول القائل: «رفيقك قيسيّ وأنت يماني» ، متفقّدا من الأحوال كلّ جليل وحقير، ناهضا في تلقّي المهمات على قدم التقدم بالعزم الأثير، جاعلا من لدى محجّة عمله لصلاح العشيرة نعم العشير، عاملا بتقوى الله تعالى في كلّ أمر وإليها بالحديث يشير.
وهذه نسخة توقيع بشد الدّواوين بغزّة، من إنشاء ابن نباتة، كتب به ل «علاء الدّين بن الحصنيّ» المقدّم ذكره في التّوقيع قبله، وهي:
أمّا بعد حمد الله على كلّ نعمة جلّت، ونعمة في أهلها حلت وحلّت، ورتبة بانتساب كافيها وباسمه تحصّنت على الحقيقة وتعلّت، والصلاة والسلام على سيدنا(12/319)
محمد خير من سلّمت عليه الألسنة وصلّت، وسلّت به سيوف النصر وصلّت، صلاة دائمة ما أمليت على الأسماع فملّت، ولا قابلتها وجوه الملائكة إلا تهلّلت ولا سحب الرّضوان إلّا انهلّت- فإنّ منزلة يستقى [من] مهمّات الدّولة خبرها، ويستدعى من جانبي مصر والشّام سبرها، ويحمد إليها من ناحيتي الساحل والجبل سراها وسيرها؛ وتلك وظيفة شدّ الدّواوين المعمورة بغزّة المحروسة التي تلتقط من ساحل بحرها درر الخير المقتبل، وتقول المهمّات الشريفة لسراة استنهاضها: يا سارية الجبل- حقيقة أن يتخيّر لها من الشاكرين من يحمد اجتهاده وجدّه، ومن السّابقين إلى المقاصد من يحسن- كما يقال- تقريبه وشدّه، ومن شكرت في الولايات آلاؤه، ومن إذا علا نظر رأيه في المصالح قيل: دام علاؤه، ومن إذا دبّر جهة قالت بلسان الحال: لقد زاد في المصالح حسنا، ولقد تحصّنت بانتساب ذكره فلا عدمت منه حصنا.
ولذلك رسم بالأمر الشريف أن يستقرّ............ لما عرف من حزمه وعزمه، ولما جدّد في مقدّمات القدر من رفعه وفي إعلاء المهمّات من جزمه، ولما عهد من هممه في جهات دبّرها، وفي ولايات ثمّرها، وفي وظائف شدّها: أمّا على العتاة فشدّدها وأمّا على المستحقّين فيسّرها، ولما اشتهر من ذكره الّذي لا برح عليّا، ولما ظهر من درايته الّتي جعلت كوكب سعده وسعيه درّيّا، ولما بهر من تميّزه الّذي إذا هزّ عصاه بيد تساقط على المقاصد رطبا جنيّا.
فليباشر هذه الوظيفة المباركة مباشرة تبيّض لها وجها وعرضا، وإذا أثنى عليه المثني تبرعا كافأه حتّى يكون قرضا، مجتهدا في تثمير الأموال والغلال، ضابطا لأمور الدّيوان حتّى لا يشكو الخلّة ولا الاختلال، قائما بحقوق الخدمة، مستزيدا- بشكر الأقوال والأفعال- لما يرسخ له من أقسام النّعمة، عليّا على كلّ حال إذا وفّت الفكر قدره وإذا ذكر اللّسان اسمه.
المرتبة الثالثة (من تواقيع أرباب السيوف بأعمال دمشق ما يفتتح ب «- رسم» وفيها وظائف)
وهذه نسخ تواقيع من ذلك:(12/320)
نسخة توقيع بنيابة قلعة القدس، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، كتب بها لشرف الدين «موسى الردّادي» ؛ وهي:
رسم......- لا زالت ولاة أيّامه عالية الشّرف، سامية المستشرف آوية من جنّات خير الدّنيا والآخرة إلى غرف من فوقها غرف- أن يستقرّ المجلس السامي...... علما باهتمامه الوفي، واعتزامه المتيقّظ إذا نام حدّ المشرفي، واستنادا إلى رأيه الّذي يقول نجمه الطّالع: «ما أبعد العيب والنّقصان من شرفي» !!، وإرشاد سعيه إلى أن اتّخذ من الأرض المقدّسة دارا، ومن حرمه الشّريف جارا، واتّقاد ذهنه وشجاعته اللّذين آنس بهما من جانب الطّور نارا، وكيف لا؟ وقد قالت همّته: يا موسى أقبل ولا تخف، وأخرج يدك البيضاء في النيابة تكن أحقّ من اغترف بها الإحسان واعترف.
فليباشر ما فوّض إليه مباشرة يعلو بها شرف اسمه ومسمّاه، ويبدو للاختيار والاختبار فضل التقدّم الّذي إذا بدا له كفاه، وليجر بهذه الرتبة رأيا حسن الإحكام، وليواظب على حفظ هذه القلعة الّتي فتح بها عليه فإنّها من أعظم فتوح الإسلام، وليمدّ عليها من كفايته سورا حول سورها، وليتفقّد رجالها وعددها تفقّد الشّهب في ديجورها، وليردّ عنها بعزمه الرّدّادي عيون الأعادي الزّرق حتّى لا يراع في أرض الحرم ولا حمامات طيورها، وليشكر نعمة أوته إلى هذه المنازل الطّاهرة، وليقرّب ليد آمله طلب خير الدّنيا والاخرة، وليقدّم من الوصايا تقوى الله الّتي عن أصلها تتفرّع نعمه الباطنة والظّاهرة، حتّى يجعل له في الوادي المقدّس ربعا مأنوسا، وجمعا محروسا، وأحاديث حسنة تقول لمستمع مثلها في الآفاق: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى *
«1» والله تعالى يمدّه بإعانته، ويلهمه شكر ما رزق من فضل مكانه ومكانته، بمنّه وكرمه!(12/321)
وهذه نسخة توقيع بنيابة قلعة صرخد «1» لمن لقبه «جمال الدين» وهي:
رسم بالأمر- لا زال يتخيّر لقلاعه النّائب ويتحيّز «2» من النّائبة، ويمدّها بسحائب برّه وفكره الصّائبة، ويندب لخدمتها كلّ سيف يرضي النّادب «3» ويقيم على غيرها النّادبة- أن يرتّب مجلس الأمير...... لأنّه الكافي الّذي تسرّ الحصون بأمثاله، وتبتسم شرفات القلاع لإقباله، وتنشرح منازلها بتنقّل نجوم الهداية من أفعاله وأقواله، والمليّ بأداء الخدمة، والمرشّح لما هو أوفى وأوفر من الأمور المهمّة.
فليباشر نيابة هذه القلعة القديم أثرها، والشّهير خيرها وخبرها، بعزمة سيف قاطعة، وحدّة بأس ذائعة، ومهابة ذكر لشياطين النّفاق عنها رادعة؛ فإنّها من بناء المردة «4» : فليردّ عنها آفة جنسها، وليحط برقى عزائمه حول نفاستها(12/322)
ونفسها، وليجر أمرها على السّدد «1» ، وليبنها بلزومه المهديّ أوثق ممّا بناها أولئك بالصّفّاح والعمد، وليرض الآثار السّليمانيّة بسلمان بيت الملازمة على طول الأبد، وليجتهد فيما هو بصدده حتى تدمّر بتدمر «2» جوانح الحسدة بالكمد، مكثّرا بذكرى مهابته لعددها، موفّرا لعددها، مستوجبا لاستجلاب الإنعام عليه باستجلاب مددها.
وهذه نسخة توقيع بنيابة قلعة الصّبيبة «3» ، وهي:
رسم بالأمر العالي- لا زال إحسانه يعيد إلى الحصون ناصرها وزينها، ويفيد أصحاب الهمم صونها، ويحرسها بمن إذا نظر فيها وحماها كان عونها وعينها- أن يستقرّ المجلس الساميّ الأميريّ......... لما ألفته هذه القلعة المنصورة من تحصينه وتحسينه، وعرفته من ترتيبه في عمارتها وتزيينه، ولأنّه الأدرى بالمصالح العائد نفعها، والأدرب بمناجحها الحميد وقعها، الذي(12/323)
باشرها من قبل فأحسن السّلوك، ونصح هذه الدولة القاهرة فأثنى على سيرته ملوك الحصون وحصون الملوك.
فليعد إلى هذا المعقل المنيع عود الماء إلى مشاربه، وليسر في أرجاء أبراجها مسير القمر بين كواكبه، وليتفقّد أمور رجالها المستخدمين، وليستجلب قلوب حفظتها الأقدمين، متحاشيا من رأي القاصر الغبيّ، قائما بالمهمّات الّتي تزاحم منه بشيخ لا تزاحم بصبيّ، مقيما على رفع الأدعية لهذه الدولة القاهرة، مستزيدا بالشّكر لنعم الله الباطنة والظّاهرة، مجتهدا معتمدا على تقوى الله تعالى الّتي جعلت له مكانا مكينا في الدّنيا وطريقا سهلا إلى الآخرة، والله تعالى ينجح قصده، ويتقبل جهاده وجهده، بمنّه وكرمه.
قلت: هذا كان شأنها حين كان يولّى بها مقدّم حلقة أو جنديّ من الشّام.
لكن قد تقدم في الكلام على ترتيب الممالك الشّامية في المقالة الثالثة أنّها استقرّت في الدولة الناصرية «فرج» في سنة أربع عشرة وثمانمائة [ولاية] «1» وحينئذ فتكون ولايتها من الأبواب السلطانية. فإن عادت إلى ما كانت عليه أوّلا، عاد الحكم كذلك.
وهذه نسخة توقيع بنيابة قلعة حمص، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، وهي:
رسم بالأمر- لا زال يندب لخدمة قلاعه كلّ سيف مختبر، ومجرّب عبرت عليه العبر، ومؤدّ لفرائض الخدمة: إمّا بقيام عند الصّبا وإمّا بقعود عند الكبر- أن يرتّب فلان في نيابة قلعة حمص المنصورة إجابة لسؤاله فيما سأله: من التّوفر على مواصلة الصّلوات، ورفع الدّعوات، وجمع ثوابي الجهاد(12/324)
والخلوات، وتقضّي باقي العمر وادعا، متنسّكا طائعا، إذا بكى بجواره حتّى النّهر العاصي «1» رقّ عليه فما يعدم منه بكا.
فليباشر نيابة هذه القلعة العليّ خبرها ومخبرها، المليّ سماعها ومنظرها، المطلّة على مراكز الرّماح المشهورة، ومهاب الرياح: إمّا بغيث السّهام ممطرة وإمّا بسهام الغيث ممطورة، المجاورة «2» لسيف الله «خالد» فهي بإعراب المجاورة منصورة غير مكسورة، معتبرا لأحوالها، مستدعيا لما تحتاج إليه من عددها وعدد رجالها، محصّنا باستدعاء السّلاح وسلاح الأدعية الجديرين بأمثالها.
وهذه نسخة توقيع بنيابة قلعة جعبر «3» ، قبل أن تنقل إلى حلب، وهي:
رسم بالأمر الشريف- أعلى الله تعالى في سماء الملك كواكبه، ونصر في أقطار الأرض كتبه وكتائبه، وصرّف بأوامره العالية كلّ نائب وفرّق بها كلّ نائبة- أن يرتّب............ علما بأنّه الكافي الّذي تعقد على همّته الخناصر، ويثني على تقديم عزائمه القديم والمعاصر، وتقوى الجهات وتنصر باسمه بعد أن كانت بغير قوّة ولا ناصر، واعتمادا على كفاءته النافعة، وشهامته(12/325)
الرّائقة الرّائعة، ودرايته الّتي تضيء بها القلعة وتسمو حتّى يقول الاستيقان: ما هذه شميس «1» هذه شمس طالعة.
فليباشر هذه القلعة القديم أثرها، الحميد خبرها وخبرها، المصغّر «2» تصغير التّحبيب والتّحسين اسمها ومنظرها، المنفرد سهلها بذيل الآفاق فتمسك «3» بسحبها، المنشدة لارتقاب نهضة حال من علم ابن منصور بها، راقيا صرحها، راعيا بالمصالح سرحها، مجتهدا فيما يقضي لقدره بالرّفعة، ولرائد أمله بخصب النّجعة، جاعلا هذه المنزلة أوّل درجاته: وحسبه بمنزلة يكون أوّل درجاتها قبّة قلعة؛ والله تعالى يسدّد عزمه وحزمه؛ ويحمد في الكفاة خبره كما أحمد فيهم اسمه، بمنّه وكرمه.
وهذه نسخة توقيع بنيابة مغارة زلّايا؛ من إنشاء ابن نباتة، وهي:
رسم بالأمر- لا زال يزيد قلاع الإسلام علاء في السّمة والاسم، وفي القوّة والجسم، وفي اعتناء يجمع لعقيلتها بين الحسن والقسم «4» - أن يرتّب مجلس الأمير......... لقيامه بواجب الخدمة، وملازمة فرائضها المهمّة، وعزمته الوفيّة في النفس، الزّائد وصفها على الأمس، العليّ نسبها وحسبها: فتارة إلى العلى وتارة إلى الشّمس.
فليباشر هذه القلعة الّتي علت بنفسها محلّا وسكنا، وقال ساكن مغارها لثاني اثنين من حزمه وعزمه: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا
«5» ، واستعلى ثنيّتها فأنشد: «أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا» «6» ، ونادى بقعتها: هذا عزمي وحزمي لا يقال(12/326)
ولا يازلّايا، مجتهدا في سداد أمورها، وتحصينها بالمهابة القائمة مقام سورها، مستجلبا ما يحتاج إليه وما يرتّب من عدّة، ملازما لزوم الخمس لأوقات مباشرتها لا يوصف بالزّوال بل بطول المدّة.
وهذه نسخة توقيع بولاية القدس، من إنشاء ابن نباتة، وهي:
رسم بالأمر............ لا زال يشمل بظلّه وفضله، ويجمّل بإحسانه وعدله، وينقّل شمس الولاة من البرج الظّاهر إلى مثله- أن ينقل فلان من كذا إلى ولاية القدس الشريف: علما بكفايته الّتي تقدّمت، وشهامته الّتي تحكّمت، وإمامته الّتي سلمت فيما سلّمت، وهمّته الّتي وضحت شمسا فلا تنفس، وقالت لقيامه في المصالح: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ
«1» .
فليباشر هذه الولاية مباشرة تمحو بضياء شمسه ظلما وظلاما، وتقول لنار الحوادث في المشاهد الجليلة: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً
«2» مجتهدا فيما هو بصدده، عارفا بوجوه المصالح حتّى يكون السّكن «3» أعرف بشمس بلده، ناهضا بأمور الدّيوان جليّها وخفيّها، وعبء المهمات حافلها وحفيّها، مستزيدا بالشكر لمباديء النّعم، قائلا في محلّ البلدين المباركين: ما سرت من حرم إلّا إلى حرم.
وهذه نسخة توقيع بولاية غزّة، وهي:(12/327)
رسم بالأمر- لا زال ينشيء في رياض الإحسان غرسا، ويحقّق في استحقاق الكفاة حدسا، ويقدّم من لا تزال الولايات تحمد له يوما وتذكر لقومه أمسا- أن يرتّب......... لما عرف من عزمه الّذي جرّد منه الاختيار والاختبار جميلا، وكمال شخصه الّذي اتّخذه التوفيق فلم يقل: لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا
«1» ، واعتماد الّذي يصبح في المحامد ويمسي، وينافس مرباه فهذا يقول: ثمري وهذا يقول: غرسي.
فليباشر هذه الولاية بعزم مقتبل الشّبيبة، وحزم لا يقعد الرأي المحيل تجريده في المصالح وتجريبه، ونفع في المهمّات وردع للمفسدين تحمد موارده ومصادره، وذكر له حسن تلتقط من ساحل الشام جواهره، مستزيدا لما رسخ له من درجات الأمور المهمّة، منزّه العرض عن كلّ لائمة مرجّحا تقوى الله تعالى في كلّ ملمّة؛ والله تعالى يحمد في الخدمة آثاره؛ ويعزّ في ولاية حربه الساقة «2» إذا هانت الحرب على النّظّارة.
وهذه نسخة توقيع بولاية لدّ «3» ، لمن اسمه «نجم الدين أيّوب» وهي:
رسم بالأمر- لا زالت نجوم أوامره سعيدة، وظلال عوارفه مديدة، ومنازل الولايات حامدة لمن يقدّمه وطوالع أفقها حميدة- أن يرتّب.........
اعتمادا على كفاءته الّتي تشيّد له مجدا، وتعقب مسعاه حمدا، وتكفي من هذه الجهة وأهلها بلدا وقوما لدّا «4» : لما احتوى عليه من موجبات الاصطناع ودواعيه، وفات باستقلاله أمد مساجله ومناويه، واشتمل على الخلال الّتي(12/328)
قضت بتقديمه، والأفعال الّتي استدعت المبالغة في تفخيمه وتكريمه، وسلك من المخالصة ما يوجب الاستحقاق والاستيجاب، ويوصّل حميد مسعاه إلى بلوغ الآمال وإدراك المحابّ.
فليباشر هذه الولاية: عاملا بتقوى الله تعالى فيما يسرّه ويعلنه، معتمدا فيها غاية ما يستطيعه المكلّف ونهاية ما يمكنه؛ وليسوّ بين القويّ من أهل هذه الولاية والضّعيف، ولا يجعل في الحقّ فرقا بين المشروف والشّريف، ويمدّ على كافتّهم رواق السّكون والأمنة، وليجرهم في المعدلة على العادة الجميلة الحسنة، وليأخذ في الأمور الدّيوانيّة بالاجتهاد مراعيا في ذلك حال العمارة، آتيا من الإحسان إلى الرّعية ما يكون للعدل شارة، وافيا في ذلك كلّه بالمطلوب، صابرا على تكاليف المهمّات ولا ينكر الصّبر لايّوب.
وهذه نسخة توقيع بولاية بيسان «1» ، لمن لقبه «شهاب الدين» من إنشاء ابن نباتة؛ وهي:
رسم بالأمر- لا زالت شهب أوقاته سعيدة، وسحب هباته ساحبة الجود مديدة، وبحور نعمائه الحقيقيّة كبحور الأعاريض المجازيّة: كاملة منسرحة مديدة- أن يستقرّ......... اعتمادا على عزمه المنير شهابه، الكثير توقّده في أوقات المهمات والتهابه، واستنادا إلى كفاءته الّتي يشهد بها ولاؤه في الخدمة وولايته، وشهامته الّتي يجزم بها في الأمر رأيه وترفع في الخدمة ولايته ومهابته، وعلما بسياسته الّتي يقمع بها أهل الفساد، وتكاد تفخر بيسان بفضلها كما فخرت ب «فاضلها» «2» على البلاد.(12/329)
فليقم في وظيفته على قدم اجتهاده، وكرم ارتياده واعتياده، شافيا لأحوال أهل ناحيته من الوصب «1» ، مثمّرا الغلال والأموال بعزم قد ارتفع وانتصب، ظاهرا في الخدمة مجهوده، مليّنا لحديد من عصى عليه في عمله كما أورثه داوده؛ والله تعالى يوفّقه.
وهذه نسخة توقيع بولاية صيدا، لمن لقبه «شجاع الدين» ب «المجلس العالي» ؛ وهي:
رسم بالأمر العالي- أنفذه الله في الأقطار، ونجّم بولاته أيّام الأوطان والأوطار، وأجرى بشكره سفن الركائب وركائب السّفن إذا سفّ وإذا طار- أن يستقرّ فلان...... ركونا إلى عزمه وحزمه، وسكونا إلى اهتمامه الّذي حكم فيه الاختبار بعلمه، وعلما أنّ للولايات به الانتفاع، ولحصونها الامتناع والارتفاع، وأنّه إذا ولي رعى وإذا أقوى «2» كان أعصم راع، وإذا فكّر في الرأي ووقب «3» في المهمّ كان نعم الشّجاع.
فليباشر ولاية عمله ناهضا بأعبائه، رافعا بالعدل لأرجائه ورجائه، حريصا على طيب الأخبار المنتشرة من كافور صبحه ومسك مسائه، وليتفقّد أحوال برّه وبحره، ويتيقّظ لذلك البرّ وجهره، وذلك البحر وسرّه، حتّى يتحدّث البحر عن عزمه ولا حرج، ويسير ذكره كنسيم الرّوض لا ضائع الصّنع ولكن ضائع الأرج، ويعتمد مصالح النواحي وسكّانها، والأموال وديوانها، والجهات وضمّانها، ونجوم التقسيطات في البلدة وتحرير ميزانها، ويجمع بين اللّين والشّدّة بسياسة لا يخرج بها الرّأي عن إبانها، وتقوى الله تعالى هي العمدة فعليها يعتمد،(12/330)
وعلى ركنها يستند، حتّى تجعل له على المصالح أيدا، وحتّى تثني نحو الثناء عليه عمرا وزيدا، وحتّى تجعل له بأسا في الأعداء يكيد كيدا، وحسن ذكر في البلد يصيد «صيدا» «1» .
وهذه نسخة توقيع بولاية قاقون «2» ، من إنشاء ابن نباتة؛ وهي:
رسم بالأمر- لا زال يندب لمصالح الولايات سيوفا، ويقدّم ظنّا في الكفاة يعلم أنّه سيوفى، ويدني من ثمرات الإنعام والإرغام لأيدي المجتنين قطوفا- أن يستقرّ......... اعتمادا على همّته الشّائدة، ودرايته السّائدة، وأمانته الشّاهدة، وصفات عزمه الّتي هي في الولايات «معن» وهي «زائدة» «3» ؛ مجتهدا على أن يثمر عمل ولايته فتزكو أعماله، وترد عليه المهمّات فتتلقّاها بالكفاءة أفعاله المعروفة وأقواله، وتشهد منه الأحوال معنى بل معاني يثبت بها في الأذهان قبوله وإقباله.
وهذه نسخة توقيع بولاية صرخد «4» ، من إنشائه، لمن لقبه «جمال الدين» وهي:
رسم بالأمر أعلاه الله تعالى، وبلّغ بأيّامه الرتب وأهلها آمالا، وزان الولايات بما ينتج من مقدّمة فعله وقوله جمالا- أن يرتّب مجلس الأمير............ لأنّه الكافي الّذي عرفت في المهمّات همّته،(12/331)
وألفت عزمته، وأديرت أوصافه عقارا صرخديّة «1» ولا عجب أن سرت بالنّواحي خدمته، والنّاهض الّذي وفّى الولاية حقّها، وأدّى الأمانة وسلك طرقها، وأطلع في سماء الولايات شهب رأيه فحمى وزان أفقها.
فليباشر هذه الولاية بعزم سنيّ، وحزم سريّ، ومهابة تأخذ للضّعيف من القويّ، وديانة تمشي من الكفاءة والأمانة على صراط سويّ، مثمرا للمال والغلال، راقما لحلل الذّكر بحسن الخلال، محسّنا لذكر ولايته حتّى يجمع لها بالوصف والنّعت بين الحسن والجمال؛ وإيّاه والجبن عن المهمّات فما كل جبن صرخديّ محمود العاقبة والمآل.
وهذه نسخة توقيع بولاية سلميّة «2» ، من إنشائه، كتب به ل «- شهاب الدين الحجازيّ» ؛ وهي:
رسم......- لا زال يطلع شهب الولاة مشرقة، وينشيء سحب الإحسان مغدقة، ولا برحت أقلام علائمه كالغصون بأحسن ثمرات الدّوح مثمرة مورقة- أن يرتّب............ علما أنّه الناهض الّذي إذا ولي كفى، وإذا طبّ الولاية المعتلّة بتقديم المعرفة شفى، وركونا إلى عزمه الّذي أبى لشهابه أن يخمد، وكفاءته الّتي قضت لاسمه بالعود: فإنّ العود أحمد، واعتمادا على سيرته الحسنة السّمعة، الحقيقة بالرّفعة، وعلى سطوته(12/332)
بالمفسدين الّتي حسّنت أن يقال فيه: «لقد أوقع الجحّاف بالبشر وقعة» «1» فليباشر هذه الولاية بعزمه المتوالي، واجتهاد رأيه الّذي يطرب بارقه المتعالي، جاريا على عادة سدده، مجتهدا فيما هو بصدده، مسدّدا- إن شاء الله- في القول والعمل، مانعا لناحيته الأعرابيّة من تطرّق الخلل وتطرّف الجلل، مصلحا بالتّدبير عمل ما يشهد بعزائمه الوفيّة، وهممه الجليّة، وإذا سأل عن شدّ الولاة واحد قيل: سل ميّة عن سلميّة.
وهذه نسخة توقيع بشدّ متحصّل قمامة «2» ، من إنشاء ابن نباتة؛ وهي:
رسم بالأمر- بسط الله تعالى على الأمم مهابته وظلّه، وبأسه وفضله، ووجّه إليه آمال الخلق من كلّ قبلة، وأعلى آراءه الّتي يقال لعدلها: «لقد جدت حتّى جزت في كلّ ملّة» - أن يرتّب......... مضافا لما بيده، واستنادا إلى صحيح خبره في الكفاءة وعلوّ سنده، وارتيادا لهممه الّتي إن رواها مسلم عن طوعه رواها نصرانيّ عن تجلّده، وسكونا إلى حركته الّتي تحصّل مالا، وتصل إلى مالا، وتستخرج الوفر من مكمنه، وتأخذ الحقّ [من] قدّام يدي الماثل ومن خلف أذنه، وعلما أنّ ما لمتحصل قمامة مثل عزمه المختار، ورفقه الذي يستنزل درّ القصد المدرار، واجتهاده الّذي زرعه المستنهضون فاستوى على سوقه يعجب الزّرّاع ليغيظ بهم الكفّار.
فليباشر هذه الوظيفة بشدّة ولين يجعل كلّ واحد منهما في موضعه ومقامه، وحقّ منير يجعل سبت نور كلّ لياليه وأيامه، وأمانة مدلّة، وكفاءة مظلّة،(12/333)
وصيانة توجب مزيد الخير إذا له، ومهابة إذا أدخلت مستخرج قمامة أصلحته وجعلت أعزّة أهلها أذلّة؛ لا يثني هممه النّفيسة، ولا يلتفت- كما يقال- لتبخير الكنيسة، بل يستعمل فراسة تروع من حمل عن أداء الحقّ بهتانا، ومناقشة تكشف عن جبال التّجلّد أكنانا، ورأفة مع ذلك بالظّاهري العجز: ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانا، ومتابعة للضّرائب القديمة لا يصرف عنها، واستخلاص ما على الرّأس حتّى يقال: «ليس تحت الزّرقاء أخضع منها» ، عاملا بتقوى الله تعالى فإنّ أهل معاملته أهل ذمّة، مجتهدا في استحقاق ما يترشح له من ولايات الأمور المهمّة.
الصنف الثاني (ممّا يكتب لأرباب الوظائف بدمشق- تواقيع أرباب الوظائف الدّينية؛ وهي على ضربين)
الضرب الأوّل (ما يكتب لمن هو بحاضرة دمشق، وهو على ثلاث مراتب)
المرتبة الأولى (ما يفتتح ب «الحمد لله» )
وهذه نسخ تواقيع من ذلك:
توقيع بنظر الحسبة «1» بالشّام، كتب به للقاضي «نور الدين عليّ بن أبي الفرج» ب «الجناب الكريم» ؛ وهو:
الحمد لله الّذي جعل مقام الأولياء عليّا، ورقى بهم إلى طور العناية(12/334)
فأشرق نورهم سنيّا، ووفّقهم للأمر بالمعروف فلم يزل غيث النّدى بهم وليّا، وزند سبل الرّشاد والحكمة وريّا.
نحمده حمدا كثيرا طيّبا زكيّا، ونشكره شكرا لا يزال غصنه بالزّيادة جنيّا، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة نكرّرها بكرة وعشيّا، ونسلك بها صراطا سويّا، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده الّذي اختاره صفيّا، وقرّبه نجيّا، ورسوله الّذي قام به الحقّ وأصبح به الباطل خفيّا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة ينال بها المؤمن يوم العطش ريّا، ويحوز بها في جنّة المأوى حللا وحليّا، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فإنّ أولى ما يلزم الفكر [فيه] ويتعيّن، ويتمّ النّجح بحسن النّظر فيه ويتبيّن- أمر الحسبة الشريفة: فإنّها المنصب الّذي به صلاح أحوال الرّعية، وقوام إقامة الحدود الشّرعيّة؛ تسلك العامّة لمستوليه سبل صنائعه ذللا، وتكسو بإتقانها أنواع بضائعها حللا، وينتفع بمعرفته الآمر والمأمور، وتحاط المعايش عن غشيان الغشّ من حرمته بسور، وتطمئنّ القلوب بإصلاح المطاعم وتتهنّى، وتقول الألسنة: شكرا لمن سنّ هذه السّنّة الشّريفة وسنّى، وردع ذوي الغشّ عن غوايتهم: فم غشّنا ليس منّا؛ لا سيّما بدمشق فإنّها شامة البلاد المحروسة، وموطن البركة المأثورة والبهجة المأنوسة؛ بلد شاع ذكرها في المغارب والمشارق، وإنّ محاسنها لن تقاس بغيرها: والجامع الفارق.
وكان فلان ممن تحلّى من عقود المحامد بجواهرها، وارتدى من حلل المآثر بمفاخرها، وعرف بالنّهضة والعفاف، واتصّف بجميل المعرفة والإنصاف، وحسنت سيرته في أحكامه، وحمدت قواعد [تعهّده] «1» ونضارة نظامه.
فلذلك رسم بالأمر العالي- لا زال يولي جميلا، ويولّي في الوظائف السّنيّة جليلا- أن يستقرّ المشار إليه في نظر الحسبة الشّريفة بالشام(12/335)
المحروس، على عادة من تقدّمه في ذلك، والقاعدة المستمرة، بالمعلوم المستمرّ للوظيفة المذكورة، إلى آخر وقت: وضعا للشّيء في محلّه، وتفويضا لجميل النّظر إلى أهله.
فليباشر ذلك آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر، سالكا من حسن الطريقة ما يحمد به ويشكر، ويسرّه حين تتلى سور محاسنه وتذكر، متفّقدا أحوال العامّة ومعايشها في كلّ آن، ملتفتا في أمر ما يكال أو يوزن إلى قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ
«1» ، مشمّرا عن ساعده في الإجراء على العوائد المستحبّة، محترزا فيما يأمر به: فإنّ الله تعالى لا يخفى عليه مثقال حبّة؛ ولينظر في الدّقيق والجليل، والكثير والقليل، وليستكثر الأخبار، وليستعلم الأسعار، ولا يغفل عن تعاهد السّوقة آناء الليل وأطراف النّهار، وليلاحظ أمر السّكّة السلطانية بإصلاح العيار، وضبط أحوال النّقود بمقدار، وليقم من خدمته رقيبا على من اتّهم في صنعته أو استراب، وليبالغ في النّظر في أمر المآكل والمشارب فإنّ أكثر الدّاء من الطعام والشّراب، وليزجر بتأديبه من افترى، أو تلقّى الرّكبان أو غدا في الأقوات محتكرا؛ وليعلم أنّه قلّد أمر هذه الوظيفة المباركة: فليختر من يستنيب، وليبصر كيف يسلك برعايته من حكم عليه فما يلفظ من قول إلّا لديه رقيب؛ والوصايا كثيرة وأصلها التقوى الّتي هي أجلّ ما يقتني المؤمن ويكتسب، وأجدر بالزّيادة: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ
«2» . والله تعالى يديم علاه، ويتولاه فيما تولّاه.
وهذه نسخة توقيع بنظر الجامع الأمويّ، من إنشاء الشيخ جمال الدّين بن(12/336)
نباتة، كتب به للقاضي «عماد الدين بن الشيرازي» في الدولة الصالحية «1» «صالح بن الناصر محمد» ب «الجناب الكريم» ؛ وهي:
الحمد لله الّذي أذن لبيوته أن ترفع فرفع عمادها، وأعاد أحسنها إلى نظر من صرّف أمورها بما حسن وصرفها عمّا دهى، وأحيا الآثار الأمويّة حتّى غدت كالهاشمية تدعو أجوادها وسجّادها، وأنجز وعد أهلها بمن أشارت إلى مباشرته أعلام أعلام المنابر بالأصابع ونصّت المآذن أجيادها.
نحمده على ماهيّأ من الفوائد، وهنّأ من العوائد، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة يقوم بها الخطاب شاهدا ويقوم بها الخطباء في المشاهد، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أوتي الجوامع من الكلم وجعلت له الأرض من المساجد، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين عمروا بيوت العبادات بهدايته، وظهروا في مجال الجمع وسجال الجموع تحت رايته، صلاة متصلة السّير كالسّيل، مسبلة الغمام كالذّيل، واضحة كردع الخلوق لدلوك الشّمس «2» فائحة كفتيت المسك إلى غسق اللّيل.
وبعد، فإنّ أولى الأمور الدّينية بتقديم الاهتمام، وتقرير الاعتزاء إلى الاعتزام، وتشمير ساعد الرّأي وزهراته على الأكمام- أمر تكون إقامة الصّلوات أحد أركانه، وتدبير المصالح مشيرا إلى علوّ شانه، وأرزاق العلماء والصّلحاء تستدرّ من هطّاله وهتّانه.
وكان الجامع الأمويّ بدمشق المحروسة لهذه الأركان بمنزلة الأسّ الرّاسخ تمكينه، والفرع الشّامخ في وجه السّحاب عرنينه، وبنية زمان بني أميّة(12/337)
الذين عفا شرف مفاخرهم وما عفا شرفه وفخره، ووكر الإسلام الّذي مضى لبد «1» أمثاله وما بقي إلّا نسر السماء ونسره؛ ذو المرأى الشارح والفضل المشروح، والحسن الّذي إن تغالى في وصف الجوامع قوم قيل: باب الزيادة مفتوح؛ تفخر به دمشق وحقّ لها على كلّ مصر أن تفخر، وتبعث نظرات حسنه الفخر من حملة فصوص الترخيم إلى الأسود والأحمر؛ يحمد المجاور به مغناه وغناه، ويسع أرباب العلم والمقاصد ناديه ونداه، ويطالع المسك سطور مياهه المتجعّدة فأوّل ما يقرأ من تنبيه عزمه باب المياه؛ وقد عهد أن يتولّى نظره كلّ سنيّ المفاخر، سريّ المآثر، كريم الفرع والأصل، ماضي العزم كالنّصل، حائز من أقلامه أمد العلياء وقصب الخصل «2» ولذلك رسم بالأمر الشّريف- لا زال وجه الفضل بدولته الشريفة واضحا، وميزان العدل والإحسان راجحا، ولا زال في كنف من منّ به على الدّين والدنيا وآتاهما صالحا- أن يفوّض إلى فلان نظر الجامع الأمويّ المذكور: لما عرف من أنه الرئيس الّذي ما ساد سدى، والكامل الّذي إذا آنس [سار] «3» نار فكرته وجد على النار هدى، وأنّه باشر نظر هذا الجامع قديما فجمّله، ورصد سناه فكمّله، واستشهد في محضر ديوانه على النّزاهة أقلامه المعدّلة، وتدبيره المعدّ له، وكثرّ أوقافه وكانت قد اضمحلّت، وشيّد عمائره وكانت قد استقلّت، وملأ حواصله وكانت أقلام المكتسبة تنشد: «أسائلها أيّ المواطن حلّت» ، ولما ألف هذا الجامع المعمور من عواطفه، وعرف من عوارفه، وشهد من جلوسه لمصالح وقفه أحسن الله مكافأة جالسه وواقفه، فأثبت في صدر المحافل أنّ الله(12/338)
تعالى قد رزقه من الفضل جسيما، وكتب له من شرف الاكتساب والانتساب حديثا وقديما، وألقى إلى يده قلم كفاءة وأمانة كان كرمها للآملين حصينا وكان قلمها للخائنين خصيما؛ كم وفّر به المصالح فوفّى، وكم جمع بهمّته المحاولة مالا فجهّز به من جند الدّعاء صفّا، كم سرّ بمناقبه سراة سلف ما منهم إلّا جواد لا يرضى في سبق المكارم بحاتمه، وكاتب يكبر عن قول الواصف: إنّ ياقوتا في فصّ خاتمه، ورئيس هو أجلّ ما أهدت شيراز إلى دمشق من عالي طراز الفضل وعالمه.
فليباشر ما فوّض إليه بعزم لا تفلّ مضاربه، ورأي لا تأفل كواكبه، ومعدن وفاء بالمنصب لا تبرح لجناة الخيانة مهالكه ولجناة الجنان مطالبه، ناظرا في حسن وظيفتها باجتهاد لا يملّ من النّظر، مثمرا لأوقافها بغصن قلمه الّذي لا ينكر لأصله الصّائب أطايب الثّمر، ملاحظا لمباني هذا الجامع بسعادته: وإنّ السّعادة لتلحظ الحجر، صارفا لذوي الاستحقاق مستحقّهم كما عهدوا من إمام براعته المنتظر، مجتهدا على أن يرضي الوظيفة والقوم، معينا عدوى أنامله الخمس على عددها من فريضة اللّيلة واليوم، عالما أنّ الله تعالى قد أحيا هذا الدّيوان فإنّه كما علم أصل في بابه، آمرا بما يقترح لنظام هذا الدّيوان وكتّابه، منتقدا حال من إذا عمّر دواة في وقف كانت سببا لعمرانه أو سببا- والعياذ بالله تعالى- لخرابه، مطالبا من ظنّ أنّ حسابه يهمل في دهر هذه المباشرة «فكان حساب الدّهر غير حسابه» ، متخيرا من الكفاة كلّ مأثور الفضيلة، ومن الأمناء كلّ مأمون الرّذيلة، ومن القوّام كلّ من لا يقعد عن الواجب، ومن الوقّادين كلّ من لا يعاب بطول الفتيلة، جاعلا تقوى الله تعالى، في كلّ ما يأتي ويذر سائقه إلى الفوز ودليله؛ والله تعالى يمدّه بالسداد، ويصل مفاخره بالسّند ويحرس شرف بيته من السّناد، ويجعل كلّ منصب كريم باسمه وقلمه كما قال الأوّل:
«رفيع العماد طويل النّجاد» .
وهذه نسخة توقيع بنظر مدرسة الشيخ أبي عمر، من إنشاء ابن نباتة، كتب(12/339)
به للقاضي «تقيّ الدين» بالجناب العالي؛ وهي:
الحمد لله الّذي عمر عهد التّقى بتقيّه، وأقرّ نظره بمشاهدة أبيض العرض نقيّه، وأخصب منازل الأولياء بمن ينوب تثميره وتدبيره عن الغيث مناب وليّه، ومن إذا شهد مقام الزّهّاد بمعروفه شهد سداد العزم بسريّه.
نحمده على جليّ اللّطف وخفيّه، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة وافي الحقّ وفيّه، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده أكرم بعبده ونبيه، ورسوله وصفيّه، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة يمزج أرجها كافور صباح النهار بمسك عشيّه.
وبعد، فخير النظر ما كان به الثّواب مأمولا، والعمل مقبولا، والآخرة للناهض فيه خيرا من الأولى، وتخيّر الأكفاء لمناصبه الدّينية سببا لخير الدّارين موصولا.
ولمّا كانت المدرسة الصالحية بجبل الصالحية المعروفة بالشيخ العارف أبي عمر: رضي الله عنه وأرضاه، وسقى سبل الغيث آثاره الطاهرة وثراه، مما يتعيّن في مصالحها حسن النّظر، ويتبين في القيام بأمرها فضل الآراء والفكر؛ إذ هي زاوية الخير النافعة، ومدرسة الذكر الجامعة، وعشّ القرآن المترنّمة أطياره بخفقان القلوب الخاشعة، وصفّة «1» الفقراء الذين لا يسألون النّاس إلحافا، والأصفياء من الطّمع الذين لا يتقاضون الدهر إنصافا وإن صافى، ومرتكض سوابق الأعمال والأقوال، ومقرّ القرّاء والقراءة على ممّر الليالي الطوال، ومعدن التّلاوة المأثور غناؤها في ذلك الجبل وما كلّ المعادن ولا كلّ الجبال، والبنية لله وتحتاج من ينظر بنور الله في وقفها، ويحفظ مسالك جمعها وصرفها، وينمّي حال درهمها بتدبيره الوافي: فربّما أبقتها الأحوال منه على نصفها.(12/340)
وكان فلان ممّن لحظ أمورها على بعد فشغف الملحوظ باللّاحظ، وحفظها على نأي فكأنّما روت بالإجازة عن الحافظ، وأدار عليها من رشفات قلمه نغبة السّاقي، وأنهلها شربة مضى بها ما مضى من تعدّد المال: وفي الجرائد باق يطلب الباقي؛ وسأل أهلها بعد ذلك ملازمته للنّظر فلزموا، ورفعوا قصصهم في طلبه لهذه الوظيفة فجزموا؛ وكيف لا؟ وهو نعم الناظر والإنسان، وفي مصالح القول والعمل ذو اليدين واللّسان، وذو العزائم الّتي تقيّدت في حبّه الرّتب: «ومن وجد الإحسان» ، والمتقدّم فعله ورأيه في العاجل والآجل، والمأمون الّذي يعزى إلى عقيلة نسبة الرشيد ولا عجب أن يعزى المأمون إلى مراجل «1» ؛ كم جرت ألسنة الأوقاف بأوصافه، وكم روى الجامع الصحيح خبرا عن مسلّم عفافه، وكم جدّد لبنائه زخرفا بعد ما كاد نادب الرّسوم يقف على أحقافه؛ كم وفّر على الأيتام ميراث وفرها، وكم قال اختبار الملوك الباقية:
«لأشكرنّك ما حييت» فقال ماضي الملوك ذوي الأوقاف: «ولتشكرنّك أعظمي في قبرها» - فاقتضى الرأي أن يجاب في طلبه المهمّ سؤال القوم، وأن يتّصل أمس الإقبال باليوم، وأن تبلغ هذه الوظيفة أملها فيه بعد ما مضت عليها من الدّهر ملاوة، وهذه المدرسة الّتي لولا تداركه لكانت كما قال الخزاعيّ:
«مدارس آيات خلت من تلاوة» .
ولذلك رسم بالأمر الشريف- لا زال يراعي مصالح المؤمنين- أن يفوّض إليه النّظر على هذه المدرسة المعمورة، وأوقافها المبرورة، إجابة لسؤال من فيها من جماعة الفقراء ورغبتهم فيه، وارتقابهم لعزمه الّذي إذا نظر حالها الأوّل تلا فيه تلافيه؛ على أن يتّبع في أمرها شرط الواقف برأى غير قاعد، وإن كان لا(12/341)
يزيد فيها على أربعمائة نفر إلّا أن يزيد ريع الوقف وهو- إن شاء الله- ببركته وهمّته زائد.
فليباشر ما فوّض إليه مباشرة من إذا بدأ أعاد، وإذا دعي لمثل هذا الحال الضّعيف طبّ وعاد، ومثمرا لمالها- على عادة غصن قلمه الأخضر- أثمارا، مستخلصا للبواقي من أربابها الّتي تنهب العين وتدّعي لفتراتها انكسارا، قائلا في حال هذه المدرسة بالعطف، مساويا في المواساة بين فقرائها عند الميزان والصّرف، نازلا بنور بشره وودّه بينهم منازل القلب والطّرف، مجهّزا لجيش عسرتهم فإنّهم جمع للتّلاوة والصلوات، متطلّعا لخبرهم فإنّهم أجناد صفوف الأسحار وسلاحهم الدّعوات، وتقوى الله تعالى مشتقّ منها اسمه فلتكن شقيقة نفسه في الخلوات؛ والله تعالى يحفظ عليه حظّا نفيسا، وقدرا للنجوم جليسا، ويحيي به ميّت الوظائف حتّى يقال: أسليمان أنت أم عيسى؟.
وهذه نسخة توقيع بخطابة الجامع الأمويّ، من إنشاء ابن نباتة، كتب به باستمرار القاضي تاج الدين ب «الجناب العالي» ؛ وهي:
الحمد لله الّذي رفع للمنابر رأسا باستقرار تاجها، وجمع لصدور المحاريب شملا بعوائد ابتهاجها، وزيّن مواقع النّعم بالتّكرار كما تزان لآليء النّظام بازدواجها، وبيّن مطالع الفرج بعد الغمّ: وما الدّهر إلّا ليل غمّة ثم صبح انفراجها.
نحمده على معاد الآمال ومعاجها، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تمشي البصائر إلى الحقّ بسراجها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله القائم على المنابر لمداواة الفهوم وعلاجها، ومداراة الخصوم وحجاجها، القائل له تأديب ربّه: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ
«1» آية يسري(12/342)
الفطن على منهاجها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه بحور النّعم والنّقم عذبها وأجاجها، وبدور مساجد التّقى ومشاهد الوغى عند عجاج ليلها وليل عجاجها، صلاة كصلاتهم آمنة من خداجها «1» ، ما مدّت نفحات الروض إلى مخالطة سيرهم يد احتجاجها، ومازجت معاليهم النّجوم فحسن بكأس الثّريّا شرف امتزاجها.
وبعد، فإنّ أولى الناس باستقرار مناصب الدين العريقة، واستمرار علوّ الدّرجات: إمّا من المراتب مجازا وإمّا من المنابر حقيقة، واستمطار الوظائف بعيادة فضله ولا سيّما أعواد الخطابة، واستبصارها بلفظه ولا سيّما إذا سلّمت الرّاية العباسيّة من نطقه لعرابة- من درج من عشّ فروعها خافقا عليه جناحا علميه، وصعد إلى عرشها مقبّلة بنظرات الجفون المتسامية آثار قدميه، وأعرق نسبه في موطن مكانها المكين، وبلغ مقامه مقام سلفه أربعين سنة في الطّلوع بأفقها المبين، وقال استحقاق ميراثه: «وماذا تدّري الخطباء «2» منّي» «وقد جاوزت» بمقام السّلف «حدّ الأربعين» ، ومن إذا سمعت خطابته قال الحفل:
لا فضّ فوه، ولا عدم البيت ولا بنوه، ومن إذا طلع درج المنبر قال المستجلون لسناه: أهلّ البدر؟ قيل لهم: أخوه، ومن إذا قام فريدا عدّ بألف من فرائد الرجال تنظّم، وإذا أقبل في سواد طيلسانه واحدا قيل: جاء السّواد الأعظم.(12/343)
ولما كان فلان هو معنى هذه الإشارة، وفحوى هذه العبارة، وصدر هذا التّصدير: ومن سواه أحقّ بصفات الصّدارة؟، ومن إذا ضرب المثل بالخطابة النّباتيّة «1» في حلب قال لخطابته بدمشق: «إيّاك أعني فاسمعي يا جارة» ؛ ومن نشأ في محلّ فخار طيب المعاقد، ومن وضع رجله على المنابر ومدّ عزمه إلى الفراقد، ومن شمّر في أوائل عمره إلى العلياء وحيدا وخلّف دونها من أنداده ألف راقد، ومن إذا صعد للخطابة أنشد الحفدة:
ولمّا رأيت الناس دون محلّه ... تيقّنت أنّ الدّهر للنّاس ناقد
[وكان] «2» الجامع الأمويّ المعمور بذكر الله تعالى بدمشق المحروسة هو الذي كلّ بنان إلى حسنه يشير؛ وكلّ ذي مذهب إذا عاين تصنيف وضعه قال هذا لفقه المحاسن هو الجامع الكبير، [تعيّن أنه المسلّم ليده] «3» المعلم بطرازي نسبه ورشده، المقدّم ليد نصرته سيف خطابة لا يخرج بيد الاستحقاق عن حدّه، تكاد المنابر تعود للنّشأة الأولى طربا لسجع بيانه، يسهب ويقول الناس ليته لا اختصر، ويودّون لو لبس كلّ يوم سواد أهبته وزيد فيه منهم سواد القلب والبصر، وعارضه من العظماء الكفاة من نوى بدلا فأبى حنوّ الدّولة إلا عطفا، ونازله وارد من القضاء ولكن أنزل الله عليه مع القضاء لطفا.
ولذلك رسم بالأمر الشريف أن يستقرّ على عادته في خطابة الجامع المذكور، وما يتعلق بذلك: من تدريس وتصدير، وتقرير وتقدير، وتأثيل وتأثير، ومحكوم بالتفويض إليه ومحكّم، ومرسوم لا يغيّر عليه ما رسم به وما يرسم، وأن يمنع دليل الاعتراض ويدفع، ويكفّ حتّى تتصل العناية بهذا البيت الذي هو من بيوت أذن الله أن ترفع، وحتّى يعلم أنّ قوما أحسنوا صحبة الدّول(12/344)
فسعدوا، ونبّهوا عهود الخدمة لأعقابهم وهجدوا، وحتّى يقول هذا النّجل الظافر بعد آبائه وأخيه: ليت أشياخي ببدر شهدوا.
فليعد حديث منصبه القديم، وليقم إلى تشّنيف الأسماع من نثير لفظه بأبهى من العقد النظيم، وليفكّ أسرى القلوب برواتب إشارته: فإنّه «الفاضل عبد الرحيم» ؛ وليبك العيون بوعظه وإن أقرّها بمشاهدته؛ وليحرص على فخر الدولة الشريفة به كما فخر سيف الدّولة بابن نباتته «1» ووصايا هذه الرّتبة متشعّبة وهو على كلّ حال أدرب وأدرى بها، وما استقرّت على قبض سيوفها يده إلّا ورجعت الحقوق إلى نصابها؛ وكذلك ما هو معدوق بوظائفه: من مدارس علوم، ومجالس نظر طالما نظر في كتبها وهو الصحيح نظرة في النّجوم- لا يحتاج فيها إلى مطالعة الوصايا فإنّه من كلّ أبوابها دخل، ولا يمرّ بها على أذنه فم المبلّغ فإنّها من فمه أحلى ومن تسويغ فمه أحلّ؛ ولكنّ التّذكار بتقوى الله تعالى فيما يأتي ويذر أسّ جليل، ووجه تتفاضل وجوه الألفاظ من ذكره على لفظ جميل، وألفاظ الخطيب المتّقي إذا وصلت من القلب إلى القلب وفت بريّ الغليل؛ والله تعالى يمدّه بألطافه، ويجريه على عوائد إسعاده وإسعافه، ويروي بصواب كلمه الأسماع وبصوب الغمام عهود أسلافه.
وهذه نسخة توقيع بتدريس المدرسة المسرورية بدمشق، من إنشاء الشّيخ صلاح الدين الصّفديّ «2» ، كتب به للشيخ «تقيّ الدين السّبكي» «3»(12/345)
ب «المقرّ الكريم» ؛ وهي:
الحمد لله الّذي جعل تقيّ الدّين عليّا، وأوجده فردا في هذا الملإ فكان بكلّ علم مليّا، وأظهر فضله الجليل فكان كالصّباح جليّا.
نحمده على نعمه الّتي تكاثرت فأخجلت الغمائم، وتوفّرت الألسنة على حمده فتعلّمت أسجاعها الحمائم، وتأثّرت بموافقها الأحوال فأخملت زهر الخمائل في الكمائم، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة لا شبهة تعكّر ما صفا من لجّتها، ولا ريبة توعّر ما تسهل من محجّتها، ولا ظلمة باطل تكدّر ما أنار من حجتها. ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي جمعت فيه مكارم الأخلاق، وتفرّد بمزايا منها أنّه حبيب الخلّاق، وشارك الأنبياء في معجزاتهم وزاد عليهم بما أتيح له من خمس لم يعطهنّ غيره منهم على الإطلاق، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الّذي تفقّهوا في الدّين، وحازوا الأجور لمّا جروا إلى جزّ الغلاصم من الملحدين، وأنزلوا لمّا نازلوا أبطال الباطل والمعتلين من المعتدين، صلاة يفوح نسيم ريّاها المتأرّج، ويلوح وسيم محيّاها المتضرّج، ما فرّج العلماء مضايق الجدال في الدّروس، وقبلت ثغور الأقلام وجنات الطّروس، وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدّين.
وبعد، فإنّ المدارس- عمرها الله تعالى بالعلماء- لواقفيها شروط، ولأهلها همم أنزلها بالنجوم منوط؛ يغوصون بحور البحوث في طلب اللّآلي، ويقطعون ظلل الظّلام بالسّهر في حبّ المعالي؛ سيّما المدرسة المسروريّة:
فإنّ واقفها- أثابه الله تعالى- شرط في المدرّس بها شروطا قلّ من يقلّها، أو يتحلّى بعقودها أو يحلّها؛ وكان مفرقها قد تحلّى بتاج تجوهر، ومغلقها قد ضمّ منه فاضلا تمهّدت به قواعد المذهب لمّا تمهّر، فأعرض عنها، ونفض يده منها،(12/346)
رغبة في الإقبال على شانه، وانقطاعا إلى مالك الأمر وديّانه، فخلا ربعها من أنسه، وكادت تكون طللّا بعد درسه.
وكان فلان- أسبغ الله ظلّه- قد وافق بعض ما فيه شرط الواقف، وشهد بنشر علومه البادي والعاكف، وطاف بكعبة فوائده كلّ طائف، ينصرف عنه باللّطائف؛ أمّا «التّفسير» فإنّه فيه آية، وأمّا «الحديث» فإنّه الرّحلة في الرّواية والدّراية، وأما «الأصول» فإنّه زأر ب «الرازيّ» حتّى اختفى، وأمّا «الفقه» فلو شاء أملى في كلّ مسألة منه مصنّفا، وأمّا «الخلاف» فقد وقع الاتّفاق على أنّه شيخ المذاهب، وأمّا «العربية» ف «الفارسيّ» «1» يعترف له فيها بالغرائب؛ إلى غير ذلك من العلوم الّتي هو لها حامل الرّاية، وله بالتّدقيق فيها أتمّ عناية، وإذا كان أهل كلّ علم في المبادي كان هو في الغاية.
فلذلك رسم بالأمر العالي- أعلاه الله تعالى- أن يفوّض إليه كذا وكذا:
وضعا للشّيء في محلّه، ومنعا لتاريخ ولاية غيره أن يفجأ في غير مستهلّه؛ فالآن أمسى الواقف مسرورا على الحقيقة، والآن جرى الخلاف فيها على أحسن طريقة؛ وهو- أسبغ الله تعالى ظلّه- أجلّ خطرا من أن يذكّر بشيء من الوصايا، وأعظم قدرا من أن تدلّ ألمعيّته على نكتها الخفايا، لأنّه بركة الإسلام، وعلّامة الأعلام، وأوحد المجتهدين والسّلام؛ والله تعالى يمتّع المسلمين ببقائه، ويعلي درجات ارتقائه؛ والخطّ الكريم أعلاه الله تعالى أعلاه، حجة في ثبوت العمل بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة توقيع بتدريس المدرسة الناصرية الجوّانية، من إنشاء الصّلاح الصّفدي أيضا، كتب به للقاضي ناصر الدين «محمد بن يعقوب» كاتب السّرّ(12/347)
يومئذ بالشام، حين عاد إلى تدريسها بعد انفصاله عنها، ب «المقرّ الكريم» ؛ وهي:
الحمد لله الّذي بدأ النّعم وأعادها، وأفاء المنن وأفادها، وزان المناصب السّنيّة بمن يليها وزادها، وشاد عماد المعالي بأربابها وصانها عمّا دهى.
نحمده على نعمه الّتي بدأت بالمعروف وتمّمت، وخصّصت بالإحسان وعمّمت، وبرّأت من النّقائص وسلمّت، وفلّت بالألطاف الخفية صوارم الحوادث وثلّمت، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تضيء بها الحنادس «1» ، وتزكو بأنوائها منابت الإيمان والمغارس، وتسمو باقتنائها إلى علّيين النفوس النّفائس، ويرغم المؤمنون بإعلائها من الكفار المعاطس، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي تمّم للناس مكارم الأخلاق، وأخجل بجود كفّه الفيّاض صوب الغيث الدّفاق، وفضح البدر اللّياح في الدّجى بنور جبينه البرّاق، وتقدّم النّبيين والمرسلين في حلبة الشّرف على جواد فضله السّبّاق، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه أعلى من نصبوا للهدى أعلاما، وأرقى من أصبح العلم لفضلهم الباهر رقّاما، وأحلى من كان الزمان بوجودهم وجودهم للعفاة أحلاما، وأقوى من كان الإيمان بهم إذا استنجد على الكفر أقواما، صلاة لا ينفد لها أمد، ولا يفنى لها مدد، ما شبّ بارق وخمد، وشفى الغمام طرف زهر من الرّمد، وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدّين.
وبعد، فإنّ مدارس العلم الشريف لها الذكر الخالد، والشّرف الطّارف والتّالد، بها تتبيّن فوارس الجلاد في مضايق الجدال، وتتجلّى بدور الكلام في مطالع الكمال، وتبدو شموس الجمال فيما لها من فسيح المجال؛ والمدرسة الناصرية- أثاب الله تعالى واقفها- هي الواسطة في عقودها، والدّرّة الثمينة بلا كفء لها بين قيم نقودها، قد تدبّج فيها البناء، وتأرجّ عليها الثّناء، وتخرّج عنها الحسن فإنّ له بها مزيد اعتناء.(12/348)
وكان المقرّ الفلانيّ قد نفض يده من عنانها، ورفض عن اختيار بهاء جنانها، وثنى طلبته عن محاورتها، ورمى أمنيّته من مجاورتها، فساء من بها من أهل العلم فراقه، وأوحشهم وجهه الّذي أخجل البدور رونقه والبحر اندفاقه، وفقدوا مكارمه الّتي ما سمع «السّمعانيّ» بمثلها ولا وصلت إلى «الصّوليّ» ولا ضمّتها أوراقه «1» فلذلك رسم بالأمر العالي أن يعاد إلى تدريسها: لأنّ العود أمدح وأحمد، والرّجوع إلى الحقّ أسعف وأسعد.
فليباشر ما فوّض إليه مباشرة ألفت من كمال أدواته، وعرفت من جمال ذاته، ناشرا أعلام علومه المتنوّعة، وفضائله الّتي تقصر عن الثّناء عليها أنفاس الرّياض المتضوّعة؛ فلو عاصره «ابن عطيّة» أمسك عنه في «2» تفسيره، أو «صاحب الكشّاف» «3» لغطّى رأسه من تقصيره، أو «الرّافعيّ» «4» لأصبحت راية رأيه في الفقه خافضة رافعة، أو «النّوويّ» «5» رحمه الله لاستعار منه زهرات روضته اليانعة، أو «الآمديّ» «6» لما امتدّت له معه في أصوله خطوة، أو «ابن(12/349)
الحاجب» «1» لما كان له مع ابن الحاجب حظوة، أو «ابن يعيش» «2» لمات ذكره في النحو فكان فقيدا، أو «ابن مالك» «3» لأمسى «تسهيله» تعقيدا، أو «الشّبليّ» «4» لعلم أنّه ما شبّ له في التّصرّف مثل شبله، أو «ابن عربيّ» «5» لأعرب عن عجمة وما تمسّك صوفيّ بحبله؛ إلى غير ذلك من إنشاء إنشاء ساد في العبدين «6» : «عبد الحميد» و «عبد الرّحيم» ، ونظم كلّما نظمأ إلى رشفه طافت علينا قوافيه بكأس مزاجها من تسنيم «7» ؛ وعلى الجملة فتفصيل معارفه يضيق عن فضّها فضاء هذا التّوقيع الكريم، وسرد محاسنه لا تتّسع له حواشيّ هذا البرد الرّقيم؛ ولكن أشارت أنملة القلم منها إلى نبذة، وعلمنا أنّ القلوب تشتاق إلى أوصافه ففلذنا لها من ذلك فلذة.
وأما الوصايا فمثله لا يذكّر بشيء منها، ولا يقال له: دع هذه الودعة وهذه الدّرّة صنها؛ لأنّ الأمر والنّهي له في ذلك، وإذا أطلع بدور وصيّة ضوّأ أحوال الدّياجي الحوالك؛ ولكن تقوى الله عزّ وجلّ ذكرها في كلّ توقيع طرازه(12/350)
المعلم، ونكتته الّتي طودها لا يثلّ وحدّها لا يثلم، فليكن مستصحب حالها الحالي، مستصعب فراقها الّذي يهوّنه البال البالي؛ والله تعالى لا يخلي ربوع العلم من أنسه، ويجعل سعده في غد زائدا كما زاد في يومه على أمسه؛ والخط الكريم أعلاه، حجّة في ثبوت العمل بمقتضاه.
وهذه نسخة توقيع بتدريس المدرسة النّوريّة «1» ، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، كتب به لقاضي القضاة «نجم الدين الحنفيّ» بنزول والده عنها ب «الجناب الكريم» ؛ وهي:
الحمد لله الّذي أنمى أهلّة العلم فأبدرت، وفروعه فأثمرت، ونجومه فاستقلّت مطالعها النّوريّة وتنّورت، ولالئه في بحار اللّفظ والفضل فتجوهرت، وأنهاره الّتي أخذت في المدّ ماخذ تلك البحار فاسترحبت واستبحرت.
نحمده على نعمه الّتي قرّت وقرت، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة إذا خصّلها اليقين وفرت، وإذا نصّلها «2» الإخلاص مضت في أوداج الباطل وفرت «3» ، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الحاكم في فصل الأقضية لمّا شجرت «4» ، والنّاظم درر الإيمان حتّى زهت في أعناق العقائد وزهرت، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه فئة الحقّ الّتي ظهرت وطهرت، وعصابة الإسلام الّتي سرت خلفها سرايا الدّين فهاجرت في الله ونصرت،(12/351)
صلاة طيبة تحلو إذا تكرّرت، وتحيّة باقية تشرق شمسها إذا الشّمس كورت، وتعبق نفحات نشرها إذا الصّحف نشرت.
أما بعد، فإنّ منازل العلم من خير ما أبقى الآباء للأعقاب، وأكمل ما ذخر لنجباء الأبناء على مدى الأحقاب، وأعدل ما شهد بلسان حاله المتمثّل أنّ وكر العقاب لابن العقاب؛ وكانت المدرسة النّوريّة الكبرى بدمشق المحروسة هي الواسطة والمدارس درر، والصّبح وأوطان العلم غرر، ومنزلة الحكم الأمنع، وبيت القضاء الّذي أذن الله لقدره أن يرفع، ومكان ذي اليد الماضي سيف حكمه إذا قرعت العصا لذي الإصبع، وذات العماد الّتي ادّخرها لنجله، وأعدّ فضلها في العباد والبلاد لفضله؛ وكان ذلك «1» قد نزل لولده فلان عن الحكم على هذا الحكم، ونطق بمزيّة الاستحقاق وقلوب بعض الأعداء صمّ بكم، ورغب- أجلّه الله- فيما يرغب فيه من الانقطاع ذو السّن «2» العالي، والقدر الغالي، وانتظم تقليده الشريف فكان أجود حلية على أحسن جيد حالي، ثم التوقيع بتدريس هذه المدرسة الّتي زكيّ في أهل الفضل شهيدها «3» ، ونظرها الذي خلف في حكمه وليّ عهده عن أبيه: فلله أمين هذه الخلافة ورشيدها.
ولذلك رسم بالأمر الشريف أن يفوّض إلى فلان تدريس المدرسة النّوريّة ونظرها: لاستحقاقه لها بشفعة منصب الحكم العزيز، ومنشإ الفضل الحريز، ووجيز النزول المكتتب، وقبول هبة والده الّذي يعتاد أن يهب الجليل لمن يهب، وتشريفه بإنعامها النّفيس، وإجلاسه بها على مرتبة حكم وبساط نظر وسجادة تدريس، وعلما بأنّ نجم ذلك النّيّر أولى بهذه المنازل، وشبل ذلك الأسد أحقّ بهذا الغاب الماثل، وأنّه كوكب هذا المذهب المنير، وإمام جامعيه المعروفين: كبير وصغير، وصاحب شبيبة العزم المقتبل، والرّأي الموفي على(12/352)
قياس الأمل، وتجنيس الجود والإجادة، وتكميل بحري العلم والبرّ واجتهاد الزّيادة؛ وأنّه ممّن آتاه الله رفعة في القدر والاسم، وزاده بسطة في العلم والجسم، وأحكم بديهة علمه فما تستوقف الاسماع رويّته، وأعلاه وعظّمه فما هو النّجم الّذي تستصغر الأبصار رؤيته.
فليباشر تدريس هذه المدرسة ونظرها بعزمه الباهر وصفا، التّالي بلسان الحمد: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى
«1» جاريا على أعراق نسبه المشهور، فائض اللّفظ والفضل فإنّه بحر من البحور، مظهرا من مباحثه الّتي تقلّد العقول بأبهى مما تقلّد النّحور، مهتديا من رأيه ومن بركة الواقف- رضي الله عنه- بنور على نور؛ والله تعالى يزين بنجمه أفق السّيادة، ويزيد فيما وهبه من الفضل إن كان التّمام يقبل زيادة.
توقيع بتدريس المدرسة الرّيحانية الحنفيّة، من إنشاء ابن نباتة، كتب به للقاضي «عماد الدين الحنفي» ب «الجناب الكريم» ؛ وهو:
الحمد لله الّذي جمّل مدارس العلم بذات عمادها، وصاحب نفلها واجتهادها، ومنشر عهدها ومنشيء عهادها، وواصل مناسبها الّتي لو ادّعاها دونه زيد لكانت دعوى زيادها، ومفصح فتاويها على منبر قلم اهتز عوده ونفح وأطرب: فناهيك بثلاثة أعوادها!.
نحمده على نعمه الّتي قضى الحمد بازديادها، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تعدّها النفس لمعادها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله هادي الأمّة إلى سبيل رشادها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه بحار العلم وأطوادها، ما قامت الطّروس والسّطور لعيون الألفاظ مقام بياضها وسوادها.
أمّا بعد، فإنّ لمذاهب العلم رجالا يوضّحون طرقها، ويمدّون في(12/353)
المباحث طلقها، ويعمّرون مدارسها: فيا لها من ذات دروس يكون العمران معتلقها ومعتنقها!.
ولمّا كانت المدرسة الرّيحانية بدمشق في أيدي العلماء نخبة ريحانيّة، وشقيقة نفس نعمانيّة، مأهولة المنازه والمنازل بكّل ذي فضل جليّ، وعلم مليّ، ووصف كريم، ونفس نفيس يتلّقاه منها روح وريحان وجنّة نعيم؛ وخلت الآن من إمام كرمت خلاله، وعظمت خصاله، ومضى وتمضّى وما يبقى إلّا الله جلّ عن الحوادث جلاله- فتعيّن أن نختار لتدريس مكانها من يفتخر به المكان والزّمان، ويتشيد بزيادة علمه لصاحب مذهبها أضعاف ما شاده زياد للنّعمان، من شيّد الشريعة الشريفة مقاله ومقامه، وعلا عماده إلى عقود الشّهب فلله مراده ومرامه، من لو عاصره «ابن الحسين» «1» لحسن أن يعترف بقدره الجليل، وقال عند محاضرة بحثه كما قال «أبو يوسف» «2» : فصبر جميل، واستزاد «شمس الشريعة» فكيف «السراج» من لمعه البريقة، وقال «ابن الساعاتي» «3» : ما رأيت أرفع من هذا القدر درجة ولا أبدع من هذا الذّهن دقيقه.
ولذلك رسم بالأمر الشريف- لا زال عاليا بأمره كلّ عماد، زاهيا بمحامد ملكه كلّ ناطق وجماد، أن يفوّض لفلان......... لأنّه المعنيّ بما تقدّم من الأوصاف الحلوة إذا تكرّرت، والمقصود بألفاظها إذا تعنونت الأفهام وتيسّرت، والمعوّذة فرائد مباحثه المفرّقة ب إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ
«4» ، وإمام المذهب الحنفيّ والحكم الأحنفيّ، وحصاة القلب الّتي(12/354)
تنسف بإشارتها جبال «النّسفيّ» «1» ، ولسان النّظر الّذي أشرف على بعده فاختفى في قربه المشرفيّ، وصاحب الفنون وما وسقت، وأفنان الحكم والحكم وما بسقت، ونعوت الفضل والفضائل وما عطفت من البيان ونسقت.
فليتولّ تدريس هذه المدرسة المعمورة مؤيّد الولاية، مجدّد البداية لحنيفيّتها والنهاية، ساجدا قلم الفتاوى والفتوّة كلّما تلا كرمه وكلمه آية بعد آية، منفقا من ألفاظه حتّى يستغني عن «الكنز» «2» وصاحبه، ويردّ فرع المقال على الأصل وطالبه، ويعرض عن أعاريض «البسيط» ، ويغرق في أفكار وارده «المحيط» ، ويمدّ سماط العلم الّذي وفى بعد «القدوريّ» «3» وما خان، وتفخر بقاضيها أعظم مدينة فما يضرّها فقد «قاضي خان» «4» ، وتتذكرّ المقدّمية في طلبته فوائد الحلقة، وينتقل الجناب الكريم من تقدمتها إلى ما هو أوفى في الغرض وأوفر في النّفقة؛ والله تعالى يزيد رتب العلم به سرورا، ويجعل له باستطلاعها كتاب حكم وحكم يلقاه منشورا.
وهذه نسخة توقيع بتصدير بالجامع الأمويّ، كتب به لقاضي القضاة «علم(12/355)
الدين ابن «1» القفصي» قاضي قضاة دمشق ب «المقرّ الشريف» وهي من تلفيق كتّاب الزمان. على أنها بالمدرس أليق منها بالمصدّر؛ وهي:
الحمد لله الّذي أعلى علم أئمّة الدّين إلى أعلى الغرف، وميّزهم بالعلم الشّريف الّذي يسمو شرفه على كلّ شرف، وأوضح بهم منهج الحقّ القويم فعلا بإرشادهم سبيل الهدى وانكشف.
نحمده على ما أفاض من نعمه المتواترة كلّ حين، ونشكره على إحياء معاهد المعابد بمن حذا حذو الأولياء المتّقين، حمدا يظهر الآيات المحمّديّة والبراهين، ويبسط ظلّ من هو عن الحقّ لا يمين. ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ربّ العالمين، الذي علّم الإنسان ما لم يعلم وهو العالم بما تخفي الصّدور ويعلم عباده المؤمنين، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أوتي علم الأولين والآخرين، وكان من دعائه لشيبة «2» : «اللهمّ فقّهه في الدّين» ! صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الّذي عملوا بما علموا فكانوا أئمّة المسلمين، والعمدة على أقوالهم الّتي نقلوها عن خاتم النبيين، على توالي الأيّام والجمع والأشهر والسّنين، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فلمّا كانت أعلام العلماء في الآفاق منشورة، وربوع الفوائد بطريقتهم المثلى معمورة، وصدور المعابد الشّريفة محتاجة إلى صلتها بكفئها الفرد مسرورة، وكان فلان- أسبغ الله تعالى ظلاله، وضاعف جلاله- هو الّذي ملأت مباشرته العيون والأسماع، وانعقدت على تفرّده في عصره كلمة الإجماع، واشتهر ذكره الجميل بأنواع المكرمات وأطاعه من مشكل المذهب ما هو على غيره شديد الامتناع، وأضحت فضائله «المدوّنة» «3» ولفظه الجلّاب،(12/356)
وكنفه «الموطّأ» «1» للطلبة يغنيهم عن معاهد «عبد الوهاب» ؛ وعزيمته لا يلحق غبارها في المعارك، ولا يظنّ خدّام العلوم الشرعية والأدبية إلا أمّ مالك وابن مالك.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا زال يجمع لمن برع في العلوم من ألوان المناصب المختلفة، ويرفع قدر القوم الذين قلوبهم على التقوى مؤتلفة- أن يستقرّ المشار إليه في وظيفة التّصدير بالجامع الأمويّ بدمشق المحروسة- عمره الله تعالى بذكره- عوضا عن فلان بحكم نزوله عن برضاه، حملا على ما بيده من النّزول الشّرعيّ، بالمعلوم الّذي يشهد به ديوان الوقف المبرور، على أجمل عادة، وصرفه إليه مهنّأ ميسّرا أسوة أمثاله.
فليباشر هذه الوظيفة على عادة مباشراته الّتي حفّت بالعلوم، وافتخرت بحسن المنطوق الدّالّ على المعنى المفهوم، ويمدّ موائد علمه المحتوية على أنواع الفضائل، وليبيّن ما يخفى على الطلبة بأوضح الدلائل، وليؤدّ الفوائد الواصلة إلى الأذهان على أحسن أسلوب، وليقرّر الأصول الّتي امتدّت فروعها بقواعد السّنة المحمّدية وفي ثمرها الجنيّ تقوية القلوب، وليكرم منهم من يضح فضله لديه ويبين، وليبسط هممهم بقوله صلّى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدّين» ، وليوضّح طريق إرشاده ليسهل سلوكها عليهم، وليجعل وفود فوائده في كلّ وقت واصلة إليهم، وليتّبع «إمام دار الهجرة» في مذهبه المذهب، وليخلّد من صفاته الجميلة ما يذهب الزّمان ولا يذهب، وليسمح للفقهاء بمواصلة فضله الأعم، فإنّه أن يهدى به واحد خير من حمر النّعم.
والوصيا كثيرة ومنه يطلب بيانها، وبه تقوى أسبابها ويعلو بنيانها؛ ولكن الذّكرى تنفع المؤمنين، ويظهر [بها] سرّ خبرهم ويستبين؛ وتقوى الله تعالى هي(12/357)
العروة الوثقى، والخصلة الّتي بها يعظم كلّ واحد ويرقى؛ فليواظب عليها، وليصرف وجه العناية إليها؛ والله تعالى المسؤول أن يجعل علم علمه دائما في الآفاق منشورا، وذكره الطّيّب على ألسنة الخلائق كلّ أوان مذكورا.
المرتبة الثانية (من تواقيع أرباب الوظائف الدّينية بحاضرة دمشق- ما يفتتح ب «أما بعد حمد الله» ؛ وفيها عدّة وظائف)
وهذه نسخ تواقيع من ذلك.
توقيع بقضاء العسكر بدمشق، كتب به للقاضي شمس الدّين «محمد الإخنائي» «1» الشافعيّ، ب «الجناب العالي» ؛ وهو:
أما بعد حمد الله تعالى مضاعف النّعمة، ومرادف رتب الإحسان لمن أخلص في الخدمة، ومجدّد منازل السّعد لمن أطلعت كواكب اهتمامه في آفاق الأمور المهمّة، والصلاة والسلام الأتمّين الأكملين على سيدنا محمد وآله الّذي بشّر بنصر هذه الأمة، ووعد بأن سيكشف به غمام كلّ غمّة، وأنّه يتجاوز عن أهلها بشفاعته وكيف لا؟ وقد أرسل للعالمين رحمة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تجزل لقائلها نصيبه من الأجر وتوفّر قسمه- فإنّ أحقّ الأولياء من تأكّدت له أسباب السعادة، وكافأناه بالحسنى وزيادة، وبلّغناه من إقبالنا غاية مآربه ومطالبه، وعرفت منه العلوم الّتي لا يشكّ فيها، والنّباهة الّتي لا يقدر أحد من أقرانه يوفّيها، والخبرة الوافية الوافرة، والدّيانة الباطنة والظّاهرة، وسار بعلومه المثل، وسلك مسلك الأولياء في العلم والعمل، واعتبرت أحواله الّتي توجب(12/358)
التقديم، واختبرت فعاله الّتي ضاعفت له مزيد التكريم.
وكان فلان- أدام الله تعالى نعمته- هو الّذي أتقن العلوم بحثا وتهذيبا، وبرهن عن المسائل الشّرعية بأفهام تزيدها إلى الطالبين تقريبا، وأوضح عويص مشكلاتها، وصحّح من ألسن العرب لغاتها.
فلذلك رسم بالأمر العالي- لا زالت شمسه بالعناية مشرقة، وأنواء فضائل أوليائه مغدقة- أن يستقرّ فلان في وظيفة قضاء العساكر المنصورة الشاميّة: حملا على ما بيده من النّزول الشّرعيّ، على عادة من تقدّمه في ذلك وقاعدته، ومعلومه الذي يشهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت؛ فهو الحاكم الّذي لم يزل للعساكر المنصورة نعم الصّاحب، والمورد على سمعهم من الأحكام الشّرعية ما يفتدي به الحاضر والغائب، والقائم بأعباء العساكر المنصورة، والحافظ لنظام الملك الشريف على أحسن صورة.
فليباشر هذه الوظيفة المباركة وليحلّ في قضاء العساكر المنصورة بطلعته السّنيّة، وليفصل بينهم في الأسفار كلّ قضيّة، وليعرّفهم طرق القواعد الشّرعيّة، وليحترز في كلّ ما يأتيه ويذره، ويقصده ويحذره، ويورده ويصدره.
والوصايا كثيرة ومنه تستفاد، وإليه يرجع أمرها ويعاد؛ ولكن لا بدّ للقلم من المرح في ميدان التّذكار، والتّنبيه على منهاج التّقوى الّتي هي أجمل شعار؛ والله تعالى يمنحه من إحساننا جزيل العطاء والإيثار، ويسمعه من أنباء كرمنا كلّ آونة أطيب الأخبار، بمنّه وكرمه!.
توقيع بنظر جامع يلبغا اليحياويّ «1» ، كتب به للأمير جمال الدين «يوسف شاه» العمريّ الظاهريّ ب «الجناب الكريم» ؛ وهو:(12/359)
أمّا بعد حمد الله الّذي أظهر جمال الأتقياء في كلّ مشهد وجامع، وقدمه بما أولاه على كلّ ساجد وراكع، وخصّه من فضله بما قصرت عنه الآمال والمطامع، والصلاة والسلام الأتمّين الأكملين على سيدنا محمد عبده ورسوله مولي الخير الواسع، والإحسان المتتابع، ومن أحيا جود جوده النّفوس وسرّ القلوب وأطرب ذكر عظاته المسامع، وعلى آله وصحبه النّجوم الطّوالع، والذين أودعهم العلم الّذي آتاه لإقامة دينه من لا تخيب لديه الودائع؛ والتّشريف و [الإكرام] «1» ، والتّبجيل والإعظام- فإنّ أولى من رعينا له حقّ الخدم، ووقوفه في الطاعة الشريفة على أثبت قدم، من قام بما لم يقم به غيره، وحسنت سيرته وسيره.
وكان فلان أدام الله تعالى نعمته، وحرس من الغير مهجته، ممّن جمّل الممالك ودبّرها، وضبط أموال الأوقاف وحرّرها، وارتفع على الرؤوس، وحصّل أموال الأوقاف الّتي فطر تحصيلها أكباد الخونة وسرّ من مستحقّيها النّفوس- تعيّن أن نعرف له مقداره الّذي لا يخفى، ونوفّيه بعض حقّه فإنّه الّذي بالإحسان قد أوفى.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا زال يقبل على فضل وليّه، ويضاعف له البرّ المستمطر من غيث جوده ووليّه- أن يستقرّ فلان في كذا، على عادة من تقدّمه في ذلك ومستقرّ قاعدته، بالمعلوم الشاهد به ديوان الوقف المبرور إلى آخر وقت.
فليباشر هذه الأوقاف، وليسلك فيها طرق العدل والإنصاف، وليتّبع شرط واقفها- رحمه الله تعالى- المجمع على صحّته من غير خلاف، وليحي ما تشعّث وتخرّب في الجامع المشار إليه وأوقافه بعين بصيرته، وليقم بالمعروف من معرفته؛ وهو أعزّه الله تعالى أولى من باشره، وعمر داثره، وأحرى من تحرّى(12/360)
مبارّه ومآثره، وميّز أوقافه، وتدارك بتلافيه تلافه. وهو غنيّ عن شرح الوصايا فإنّها من آدابه تعرف، ومن بحر أدواته تغرف؛ وملاكها تقوى الله تعالى الرّؤوف، فليكن على مستحقّي هذا الوقف عطوف؛ والله تعالى يجزل له أجرا، ويجعل له ما يفعله من الخير ذخرا.
توقيع بنظر تربة أرغون شاه، كتب به «لقجا السيفي بوطا» ، ب «الجناب العالي» ؛ وهو:
أمّا بعد حمد الله الّذي بلّغ الأولياء من مبرّاته الأمل والإرادة، وألقى مقاليد الأمور إلى من استحقّ بحسن مباشرته الزّيادة، والصّلاة والسلام الأتمّين الأكملين على سيدنا محمد عبده ورسوله صاحب لواء الحمد والنّصر، ومن جاءت آيات تفضيله كفلق الصّبح وجمّلت محاسنه كلّ عصر، وعلى آله وصحبه الذين نصروه فنصرهم الله، وحجبوه بأنفسهم عن البأس ولم يحجبوه عن النّاس لخفض جناحه لمولاه، والتّشريف والتّكريم، والتّبجيل والتّعظيم.
ولمّا كان فلان- أدام الله تعالى نعمته- هو المعروف بالأوصاف الجميلة، والمنعوت بالنّعوت الّتي أتت في وصفه بكلّ فضيلة، فلذلك رسم بالأمر العالي- لا زال إحسانه عميما، وفضله لذوي الاستحقاق أبدا مقيما- أن يستقرّ فلان في كذا، على عادة من تقدّمه في ذلك ومستقر قاعدته، بالمعلوم الّذي يشهد به ديوان الوقف المبرور إلى آخر وقت.
فليباشر ذلك بهمّته العليّة، ونفسه الأبيّة؛ والوصايا كثيرة وأهمّها التّقوى؛ فليلازم عليها فإنّها تحفظه، وبالسّيادة تلحظه؛ والله تعالى يكمّل توفيقه، ويسهّل إلى نجح المقاصد طريقه، بمحمّد وآله!.
توقيع بتدريس الجامع الأمويّ عودا إليه، من إنشاء جمال الدين بن نباتة،(12/361)
كتب به للقاضي «فخر الدين المصريّ» وهو:
أمّا بعد حمد الله معيد الحقّ إلى نصابه، والغيث إلى مصابّه، واللّيث- وإن غاب- إلى مستقرّ غابه، وشرف المكان إلى من هو أحقّ وأولى به، وبحر العلوم إلى دوائر محافله في الدّروس وإلى قويّ أسبابه، والصّلاة والسلام على سيدنا محمد الّذي هاجر فرجع بغنيمته وإيابه، وطلع من ثنيّات الوداع طلوع البدر المشرق في أثناء سحابه، وعلى آله وصحبه الشّائمين سبل صوبه السّالكين سبيل صوابه، ما قطف من غصون أقلام العلماء ثمر «البيان والتّبيين» متشابها وغير متشابه- فإنّ شرف الكواكب في سيرها ورجوعها، ونموّ تشعّلها ما بين فترة مغيبها وطلوعها؛ لا سيّما العلماء الذين يهتدى بأنوارهم، ويقتدى بآثارهم، ومصابيح الحقّ التي تقدح ولا يقدح في أزندة أفكارهم.
وكان من قصد بهذا التّلويح ذكره، وعرف من هذا المعنى المفهوم فخره، قد حمد بمجالس التّصدير بالجامع الأمويّ ما ذكره من سلف أعيانه، وقام بوجود الدّليل على وجود ماضي برهانه، وجادل لسانه وقلم يده عن الشّريعة: وغيره من العيّ لا من يده ولا من لسانه، ثم هجر مكانه هجرة على العذر محمولة، وهاجر إلى حرم الله تعالى وحرم رسوله صلّى الله عليه وسلّم هجرة مقبولة، ورام بعض الصّبيان التقدّم إلى رتبة الشيخ فقالت: إليك عنّي، فأنا من مخطوبات الأكابر فما أنا منك ولا أنت منّي؛ ثم حضر إلى محلّه الكريم من غاب، ورجع إلى مستقرّه الأمثل به: وما كلّ حمزة أسد الله فليسكن في ذلك الغاب.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا زالت صلات مراسمه جميلة العوائد، جليلة الفوائد، وأقلامها أغصانها ممدود بها الرّزق فهي على الوصفين موائد- أن يستمرّ على عادته في كذا وكذا، وإبطال ما كتب به لغيره: عملا باختبار الحاضر، واختيار نظر الناظر، وعلما بأنّ هذه المرتبة لمن له إتقان عقلها(12/362)
ونقلها، وتلاوة في موضع الوقف: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها
«1» فقولا للممنوع: ما كلّ عزّ بدائم، ولا كلّ ذي طلب بكمال الوجوب قائم، ومن أين لهذه الرتبة مثل هذا الكفء الّذي اشتهر فخره، وزهت به على الأمصار شامه ومصره؟؛ وهذا الإمام، وكلّ مضاه مأموم، وهذا المقدام، تحت علم العلم وكلّ مباه مهزوم، وهذا الثّابت وكلّ ندّ مشرّد، وهذا الكامل وكل ضدّ مبرّد.
فليستمرّ على عادته الجميلة مجمّلا لزمانه ومكانه، مكمّلا في وشائع العلم ما يشي «ابن الصّباغ» «2» من ألوانه؛ مالكا لما حررّه «الشافعيّ» ، جازما بفعل ما نصبه «الرّافعيّ» ، ساميا عن وفاء الواصف: فسواء في ذكره إسراف بيان أو إسراف عيّ، شاملا للطلبة المعتادين بعطفه، مقابلا للمستفتين بلطائفه ولطفه، باحثا عن درر الجدال بفكره إذا بحث قلم بعض المجادلين عن حتفه بظلفه، داعيا لهذا الملك الصالحيّ فإنّ دعاء العالم الصالح سور من بين يديه ومن خلفه؛ والله تعالى يجريه على خير العوائد، ويمدّه بإقبال النعم الزوائد، بمنّه وكرمه!.
توقيع بتدريس المدرسة الدماغية «3» بدمشق، من إنشاء ابن نباتة. كتب به للقاضي جمال الدين، أبي الطّيب، الحسن بن علي، الشافعيّ؛ وهو:
أمّا بعد حمد الله رافع منادى العلم بمفرده، وبيت التّقى بقافية سؤدده،(12/363)
ونظم المفاخر بمن إذا قيل: «أبو الطّيب» أصغى الحفل لمنشده، ومشهد الفضل بإمامه: وحسبك من يكون «الحسن بن علي» إمام مشهده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبده ورسوله سيد الخلق وسنده، وعلى آله وصحبه السائرين في العلم والحلم على جدده، ما سحب نسيم الرّوض برده وافترّ لعس «1» السحاب عن ثغر برده- فإنّ للعلم أبناء ينشأون في ظلاله، ويسكنون في حلاله، ويفرّقون للخلق بين حرام المشتبه وحلاله، ويجمّلون وجه الزمان:
فلا عدم الزمان منهم جمال وجهه ولا وجه جماله؛ ترتشف شفاه المدارس من كلمهم كلّ عذب المساغ، وتشافه منهم كلّ ذي فضل ما هو عند البلاغ ببلاغ، وتشاهد ما خصّوا به من الشّرف والرّآسة فلا عجب أنّ محلّهم منهما محلّ الدماغ!.
وكانت المدرسة الشافعية الدماغية بدمشق المحروسة رأسا في مدارس العلم، وهامة في أعضاء منازل ذوي الحكم والحلم؛ لا تسمو همّتها إلا بكلّ سامي العمامة، هامي الفضل كالغمامة، ساجع اللّفظ إلّا أنّه أبهى وأزهى من طوق الحمامة، كائد للملحد مكرم للطالب ولا كيد لابن الخطيب ولا كرامة- واسطة بين العادلية والأشرفيّة تليق بمن يكون عقد كلامه المثمن، ونظامه الأمكن، وبيانه المنشد «أجارة بيتينا» يعني بيت النسب وبيت المسكن.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا زال يجدّد لوجوه العلم جمالا، ولوجوب الحمد نوالا، ولوجود الفضل كرما ما قال قط ولا نوى: لا- أن يفوّض إلى فلان- أيّد الله مجده، وحرس للمسلمين أباه وأعلى بالسعادة جدّه- تدريس المدرسة الدّماغية المذكورة: لأنّه جمال العلم المعقودة على خطبته الآمال، المعدوقة بمقدّمات فضله وفصله نتائج الأقوال الصالحة والأعمال، المحبوبة إلى الله والخلق سيماه وشيمه ولا نكر: فإنّ الله جميل يحبّ الجمال؛ ولأنّه العالم(12/364)
الذي إذا قال لم يترك مقالا لقائل، وإذا شرح على قياسه أتى بما لم تستطعه الأوائل، وإذا جارى العلماء كاد «إمام الحرمين» يقول: أنا المصلّي وأنت السابق، «والغزاليّ» : من لي أن أنسج على منوال هذا اللفظ الرّائق؟؛ «وابن دقيق العيد» «1» : ليت لي من هذه الدّقائق بلغة؟، و «ابن الصّباغ» : هذا الّذي صبغه الله من المهد عالما! ومن أحسن من الله صبغة؟؛ ولأنه العالم الّذي أحيا ذكر «ابن نقطة» «2» بعد ما دارت عليه الدوائر، وأغنى وحده دمشق عمن أتى في النسب «بعساكر» ، ولأنّه في البيان ذو الانتقاد والانتقاء، والعربيّ الّذي إن كان لرقاب الفضلاء «ابن مالك» فإن قرينه «أبو البقاء» ، والكامل حسبا، ومثل جيّده المنقود لا يبهرج، والواصل نسبا، ومثل فرعه بعد أصله: «ولله أوس آخرون وخزرج» .
فليباشر هذا التّدريس بعزائم سريّة، ومباحث تستنار منها معارف القول التّبريّة، وطرائف لا تحبس بدمشق على نقداتها المصرية، ولينصر مذهب الإمام الشافعيّ رضي الله عنه فإنّ قومه الأنصار، وليخفض جناحه للطّلبة فطالما خفضت الملائكة أجنحتها ليصير فلا عجب أن صار!؛ وليفد وافديه وهو قاعد أضعاف ما أفادهم صاحب المكان وهو واقف؛ وتقوى الله عزّ وجلّ أولى ما طالعه في سرّه وجهره من «عوارف المعارف» «3» ؛ والله تعالى يمدّه بإسعاده(12/365)
ولطفه، ويحوطه بمعقّبات من بين يديه ومن خلفه، ويضيء بارق كلمه الصّيّب، ويطرب أسماع الطّلبة بالطّيّب من معاني «أبي الطّيّب» .
توقيع بتدريس المدرسة الرّكنية الحنفيّة بظاهر دمشق، كتب به للقاضي بدر الدين «محمد بن أبي المنصور» الحنفيّ ب «المقرّ العالي» ؛ وهو:
أمّا بعد حمد الله الّذي أطلع بدر الدّين مشرقا في منازل السّعود، وحرس سماء مجده فلا يطيق من رام جنابها الاستطراق إليها ولا الصّعود، وجعل ركنه الشديد في أيّامنا الزاهرة المشيد وظلّه الممدود، والصلاة والسلام الأتمّين الأكملين على سيدنا محمد ذي الحوض المورود، والكرم والجود، وعلى آله وصحبه نجوم الهدى وأعيان الوجود، ما أورق عود، وحمدت عقبى الصّدور والورود، صلاة دائمة إلى اليوم الموعود- فإنّ أعلام الهدى لم تزل منشورة بمعالم العلماء، وأقطار الأرض ما برحت مشرقة بمن تستغفر لهم الحيتان في البحر والملائكة في السماء، وطول الأرض إلى فضائلهم أشدّ اضطرارا وأحوج إلى القرب إليهم والانتماء؛ وكان فلان- أدام الله تعالى تأييده- من بيت شهدت الأيام مفاخره، وحمد الأنام أوائله وأواخره، وأضحت عيون الزمان إلى مآثره ناظرة، وغصون الفنون بفرائده ناضرة، وأوصافه الجليلة للأبصار والبصائر باهرة، وأصناف الفضائل من إملائه واردة صادرة.
فلذلك رسم بالأمر العالي- زاده الله تعالى على العلماء إقبالا، وضاعف إحسانه إليهم ووالى- أن يستمرّ المشار إليه فيما هو مستمرّ فيه: من تدريس المدرسة الرّكنية الحنفيّة، بظاهر دمشق المحروسة، حملا على ما بيده من الولاية الشّرعية والتوقيع الشريف: رعاية لجانبه وتوقيرا، وإجابة لقصده الجميل وتوفيرا، واستمرارا بالأحقّ وتقريرا.
فليباشر ذلك مباشرة ألفت منه، واشتهر وصفها الزّكيّ عنه، وليوضّح للطّلبة سبل الهداية، وليوصّلهم من مقاصدهم الجميلة إلى الغاية، وليسلك(12/366)
طريقه والده، فإنّها الطريقة المثلى، وليتحلّ من جواهر فرائده، فإنّها أعلى قيمة وأغلى، وليمل على الأسماع فضائله التي لا تملّ حين تملى.
وهذه نسخة توقيع بتدريس المدرسة الخاتونية البرّانية «1» الحنفيّة بدمشق، كتب بها للشيخ صدر الدين «عليّ بن الآدميّ» الحنفيّ ب «الجناب الكريم» .
وكأنّه في الأصل لمن لقبه: «بدر الدين» لأنّ البدر هو المناسب لهذا الافتتاح، فنقله بعض جهلة الكتّاب إلى «صدر الدين» كما تراه؛ وهذه نسخته:
أمّا بعد حمد الله الّذي زان أهل العلم الشريف بصدر أخفى نوره الشّموس، وأعلاه- لما حازه من الشّرف الأعلى- على الرؤوس، وجعل كلّ قلب يأوي إلى تبيان بيانه يوم الدّروس، والصلاة والسلام الأتمّين الأكملين على سيدنا محمد الّذي أذهب الله ببركته عن هذه الأمّة كلّ مكر وبوس، وخصّهم في الدّنيا بطيب الحياة وفي الآخرة بسرور النفوس، وعلى آله وصحبه صلاة مثمرة الغروس- فإنّ أولى من تنصرف إليه الهمم، من تبدو دلائل علمه كنور لا نار على علم، وتسير فضائله في الآفاق سير الشّموس والأقمار، وتبرز إذا يبديها صدره من حجب وأستار.
وكان فلان- ضاعف الله تعالى نعمته، وحرس من الغير مهجته- هو الّذي أشير إلى ما حواه صدره الكريم من الفضائل، واشتهر في دروسه بإقامة الحجج وإيضاح الدّلائل، وبرع في العلوم الدّينية، وفاق أبناء عصره في الصّناعة الأدبيّة، وأنفق كنزه على الطّلاب، فأصبح «عمدة المحدّثين» وأمسى «مختار الأصحاب» ، «أبو يعلى» ينزل ببابه، و «ابن عقيل» يرتدّ على أعقابه، و «ابن(12/367)
الحاجب» يرفعه على عينه، و «الرّازيّ» يدّخر كسبه لوفاء دينه، و «ابن بطّة» يطير من مواقع سهامه، و «مقاتل» مجروح بحدّ كلامه، و «ابن قدامة» متأخّر عن مجاراته، و «الأثرم» يخرس عند سماع عباراته.
فلذلك رسم بالأمر العالي- لا زال يجمع لمن برع في العلوم من ألوان المناصب المختلفة، ويرفع قدر القوم الذين قلوبهم على التّقوى مؤتلفة- أن يستمرّ الجناب الكريم المشار إليه بالمدرسة الخاتونية البرّانية الحنفيّة، حملا على ما بيده من النّزول الشّرعيّ والولاية الشرعية: لأنّه الخلاصة الّتي صفت من الأقذار، والعدّة ليوم الجدال إذا ولّى غيره الأدبار، والمختار الّذي جنحت المناصب السّنيّة إلى اختياره دون من سواه، رغبة فيما ادّخره من الفضائل وحواه؛ «بدايته» «نهاية الطلاب» ، وعلومه «تحفة الأصحاب» ؛ إن حدّث «فابن معن» بصحّة نقله يحيا، أو فسّر «فمجاهد» عن مجاراته يعيا، و «الزّمخشريّ» يبعد عن الجوار، و «البغويّ» يبتغي الوقوف على الآثار، و «سيبويه» عندما ينحو يقصد «التسهيل» من لفظه المغرب المعرب، و «ابن عصفور» يكاد يطير طربا لما يبديه من «المرقص المطرب» ، و «أبو يوسف» أصبح بصحبته منصورا، و «محمد بن الحسن» أضحى برفعته مسرورا؛ هو في القدر «عليّ» وفي الطريقة «محمود» وفي العلوم «محمد» ، وفي النطق الحركة «سعيد» وفي النظر «أسعد» ، وفي النّضارة «النعمان» و «طاووس» يتحلّى جزءا من كمال خصاله، و «الحسن» يقتدي بحسن فعاله؛ نشأ في العفّة والصّيانة، وكفله التوفيق وزانته الأمانة؛ فهو بحر العلوم، ومستخلص درّها المكنون ومظهر سرّها المكتوم؛ لو رآه «الإمام» لقاس علاه بالشّمس المنيرة، ولو عاصر الأصحاب لغدت أعينهم به قريرة.
فليباشر هاتين الوظيفتين اللّتين اكتستا به بعد نور الشّمس جلالا، وليلق علومه الّتي يقول القائل عند سماعها: هكذا هكذا وإلّا فلا لا، وليعلّم الطّلبة إذا أدهشتهم كثرة علومه أنّ فوق كلّ ذي علم عليم، وليتكرّم عليهم بكثرة الإفادة فإنّ عليّا هو الكريم، وليفق في مباشرة النّظر كلّ مثيل ونظير، ولا ينّبئك مثل(12/368)
خبير، وليجتهد على عمارة معاهدها بذكر الله تعالى، وأداء الوظائف بحسن ملاحظته: ليزداد عند الخليقة جلالا؛ وفيه- بحمد الله- ما يغني عن تأكيد الوصايا، ويعين على السّداد وفصل القضايا؛ وكيف لا؟ وهو الخبير بما يأتي ويذر، والصّدر الّذي لا يعدو الصّواب في ورد ولا صدر؛ والله تعالى يسرّ القلوب بعلوّ مراتبه، ويقرّ العيون ببلوغ مقاصده ومآربه، بمنّه وكرمه!.
توقيع بخطابة جامع جرّاح، من إنشاء ابن نباته، كتب به ل «- شرف الدين ابن عمرون» ب «المجلس العالي» ؛ وهو:
أمّا بعد حمد الله الّذي قسم للمنابر شرفا يتجدّد، وعطفا من الفصحاء يتأكّد، وعلما مرفوعا لا يتعدّى وعلما منصوبا لا يتعدّد، والصلاة والسلام على سيد الثّقلين وصاحب القبلتين محمد، وعلى آله وصحبه القانتين القائمين الرّكع السّجّد، ما عظّم خطيب ومجّد، وبدا في حلية سيادة وأهبة خطابة وهو على الحالين مسوّد- فإنّ لصهوات المنابر فرسانا، ولصدور المحاريب أعيانا، ولعيون المشاهد أناسيّ يراعي منها الاستحقاق لكلّ عين إنسانا.
ولمّا كان جامع جراح المعمور بذكر الله تعالى ممّا أسّس على التّقوى، ووسم بأهل الزّهد سمة إذا ضعفت السّمات تقوى، مجمع الصّلحاء من كلّ ناحية، ومنتجع الفقراء: فنعم الجامع لهم ونعمت الزّاوية!، ومفزع العظماء عند استدفاع حرب وكرب، ومطلع لنور الهداة الّذي أغرب فأطلع نجومهم من الغرب- تعيّن أن نختار له الخطباء والأئمّة، وننتخب لمنصبه من أفاضل الأمّة، وتتناسب حضّار منبره بصاحب علومهم وأعلامهم وإمامهم، المسرورين به يوم يأتي كلّ أناس بإمامهم.
فرسم بالأمر- لا زالت أعواد المنابر بذكره أرجة، وأعلامها كالألسنة بحمده لهجة- أن يفوّض لفلان......... علما باستحقاق شرفه لهذه(12/369)
الرّتبة، وصعود هذه الذّروة الهضبة، ولأنّه الأولى بدرجات الرّتب النّفائس، والأجدر بجنى فروعها الموائس، والإمام على الحالين إذا قامت صفوف المساجد وإذا قعدت صفوف المدارس، والعربيّ الّذي إذا رقى ذروة منبر أطلقت عليه لفظة فارس، والورع الّذي آثر في مناصبه الباقية على الفانية، ومنابر الحكم المضيئة على مراتب الحكم الماضية، وعلى مجالس الدّعاوى مجالس الدّعوات، وعلى مقام الصّلات مقام الصلوات، وعلى القضاء الفرض، وعلى [الرّحبة المحلّ الأرقى] «1» ولو كمفحص «2» القطاة من الأرض، وعلى عرض الدّنيا القليل جوهر الفضل الكثير، وعلى كتاب «أدب القاضي» كتاب «الجامع الصغير» «3» فليباشر هذه الوظيفة المباركة: خطيبا تدرأ مواعظه الخطوب، واعظا من قلب تقيّ تصل هدايا تقاه إلى القلوب، فصيحا تكاد المنابر تهتزّ طربا ببيانه، نجيحا تكاد أجنحة أعلامها تطير فرحا بمكانه، شاملا بنفحات فضله النّواسم، كاملا لو تقدّم زمانه لم يقل: «فلا الكرج الدّنيا ولا النّاس قاسم» ؛ والله تعالى يسدّد أقواله وأفعاله، ويرفع على المنابر والرّتب والمراتب مقامه ومقاله، ويمتّعه بهذه الرّتبة الّتي أشبهت معنى في الخلافة: «فلم يكن يصلح إلّا لها ولم تكن تصلح إلا له» .
المرتبة الثالثة (من تواقيع أرباب الوظائف الدينية بحاضرة دمشق- ما يفتتح ب «- رسم بالأمر» ؛ وفيها وظائف)
وهذه نسخ تواقيع من ذلك:(12/370)
نسخة توقيع بالتّدريس بالجامع الأمويّ والإفتاء به، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، كتب بها للشيخ «فخر الدين المصريّ» استمرارا ب «المجلس العالي» وهي:
رسم بالأمر الشّريف- لا زال لدولته الفخر على الإطلاق، والمنّ على الأعناق، والكرم لطالبي الإرفاد والإرفاق، والتّكريم والتّقديم لذوي التّأهيل والاستحقاق، ولا برحت النّعم الثابتة للسّاجعين بمدحه المطرب قائمة مقام الأطواق- أن يستقرّ فلان......... نفع الله ببقائه، ورفع عيون الأنجم لدرجات ارتقائه، لفوائده الّتي شملت الورى، وعلت الذّرا، وحمدت الأفهام عند صباحها السّرى، وقعد بها مسبل ذيل الحياء وسار بذكره من لا يسير مشمّرا، ومنزلته الّتي نصبت للهدى علما، وألفاظه الّتي أعربت عن بدائع بهرت فما فتح بمثلها العلماء فما، واستنباطه الّذي يقول للأول: قال وقلتم، وأقام وزلتم، واحتياطه الّذي يقول للسائلين: اهبطوا من انتساب حلقته مصرا فإنّ لكم ما سألتم؛ وأنّه الفاضل الّذي ما استنار بعلمه فتّى فتاه، والنّافع الّذي ما استطبّ بكلماته سقيم ذهن فلمّا تحرّكت شفتاه شفتاه؛ كم جلس للأشغال فثنى أنفس المارّة عن أشغالها!، ونصر العلم في حلقته المجنّدة فكان من أمرائها المنصور ولم يكن للأنداد من رجالها!، كم سلّم لبيان بحثه الحقيقيّ والمجازيّ!، وكم سطّرت لمناظرته المحمدية مع أهل الزّيغ سير ومغازي!، وكم خلص دينار فهمه المصريّ على النّقد فهيهات أن يروز مثله «الرّازي» !؛ كم فخرت مصر بانتسابه؛ ودمشق بسقيا سحابه!، وكم قال الرازي: ليت لي هذا الفخر فأروي في الأوّل بفتى خطيبه وفي الآخر بفتيّ خطابه.
فليستمرّ- نفع الله به- على وظيفته المأثورة، وحلقته الّتي نصبت على مصايد كلماته المشهورة، ومائدة علمه المنصوبة وذيول منافعها في الآفاق مجرورة، وليواظب على جلوسه بالجامع المنشرح المشروح، ودرسه المتضمّن(12/371)
فتح أبواب العلوم وغيره كما يقال: على المفتوح، سالكا من نهج الإفادة مسالكه، مكاثرا بأجنحة فتاويه الطّيّارة ما يبسط لديه من أجنحة الملائكة، متصرّفا على عادة عبادته في مواطن العلم والعمل، مستندا في جلسته إلى سارية يقول لها وقاره وحلمه: يا سارية الجبل الجبل، داعيا لهذه الدّولة الشريفة: فإنّ دعاء العالم مثله طائر لآفاق القبول من أوكار القبل؛ والله تعالى يمدّه بعونه ولطفه، ويحوط مجالس علمه بالملائكة المقرّبين من بين يديه ومن خلفه، بمنّه وكرمه!.
وهذه نسخة توقيع بتدريس مدرسة القصّاعين، من إنشاء ابن نباتة، كتب به لفخر الدين «أحمد بن الفصيح» «1» الحنفيّ المقريّ ب «المجلس السامي» ، وهي:
رسم بالأمر الشريف- لا زال يقدّم من العلماء أفخرهم ذكرا، وأحمدهم أمرا، وأفصحهم نسب فضائل وفضائل نسب يقول الاستحقاق: كلاهما وتمرا- أن يرتّب فلان......: لما شهر من علومه السّنيّة، وفوائده السّريّة، ووجوه فضائله الحسنة، وعيون كلماته المتيقّظة إذا كانت بعض العيون مستوسنة، ولأنّه غريب في الوصف والمكان، وصاحب علم لا يكاد يوجد له شقيق وإن كان منسوبا إلى «النّعمان» ، وإمام قراءات ثبتت له فيها على «أبي عليّ» الحجّة، وتوضّحت ببيانه المحجّة، وتعيّن محلّه الأثير، وروى الطالب من علمه عن «نافع» ومن ذهنه في الفوائد عن «ابن كثير» ، وأنّه فخر الحنفيّة القائم في السّمعة مقام «رازيها» ، المطلّ بمنسر قلمه على المعاني إطلال بازيها، «الأكمل» الذي له من علوم صدره خزانة، «الصّدر» الذي كلّ صدر يشهد له بعلوّ المكانة.(12/372)
فليباشر تدريس هذه المدرسة المباركة: حقيقا بجلوس صدرها، خليقا بتجديد شرفها وذكرها، مظهرا للخبايا النّكت في زواياها، جديرا بأن يكون في خفايا المسائل ابن جلاها وطلّاع ثناياها، يملأ ببيان بحوثه فكر الواعي وسمعه، ويشير ببنان قلم فتياه ما يتجدّد له من رفعة، ويبسط إدلال الطّلبة حتّى يأكلوا في القصّاعية معه في القصعة؛ والله تعالى يسرّه من مدارس الحنفيّة بهذه البداية، ويقرّه بما يتجدّد من وظائفها التالية: وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ
«1» بمنّه وكرمه!.
وهذه نسخة توقيع بتدريس المدرسة الطّرخانية، من إنشاء ابن نباتة، كتب به للقاضي جمال الدين «يوسف الحنفيّ» بنزول من والده؛ وهي:
رسم بالأمر الشريف- لا زالت مواطن العلم مكمّلة بذكره، مبجّلة بأمره، مؤهّلة لكلّ يوسفيّ الجمال يذكّر عزيز شامه عزيز مصره- أن يستقرّ فلان في كذا، بحكم ما قرّره مجلس الحكم العزيز الشافعيّ، ونعم المالك لمذهب شافع، واتبّاعا لما حرّره الجناب الشريف التّقويّ ذو النّسب الصّحابيّ الّذي كلّ أمر لأمره تابع، وعملا بما رآه رأيه الكريم الّذي إذا كان الجمال شافعا كان هو للجمال شافع، وإذا أنشأ من أبناء العلماء فروعا [لا] «2» تميل عليهم الأيام ميلة، وإذا وقفت في طريقهم الأنداد قال اقتصار نسبه الأنصاريّ: يأبى الله ذاك وبنو قيلة «3» ، وقبولا لنزول هذا الوالد الّذي أعرقت في آفاق العلم مطالعه، وإقبالا على هذا الولد الّذي نجحت في استحقاق التّقديم مطامعه، وعلما بنجابة هذا الفاضل الّذي طاب أصلا وفرعا، وقدّم نفسه ووالده وترا وشفعا، وهذا البادي الشّبيبة الّذي يأمر بفضائله على الشّيب وينهى، وهذا الواضح الدّلالة على مفاخر قومه: فحبّذا الدّعوى وبيّنتها منها، وهذا النّجيب الّذي قدمه أبوه منجبا، وذكاؤه(12/373)
معجبا، وقلمه في الأوراق معشبا، واشتغاله: إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت من محفوظات كتبي ما يقارب أحد عشر كوكبا، وإذا درّس كان لطلبته ملاذا، وإذا عانده معاند قال برفيع همّته: يوسف أعرض عن هذا، وإذا قرأ كتب فصاحته أذهل ذوي الألباب، وإذا فتح لتفسير كتاب الله فاتحة، عوّذ بفضل: الم ذلِكَ الْكِتابُ
«1» ، وإذا روى الأحاديث أطربت حقيقته السماع، وإذا أخذ في دقائق النّقل والعقل علم وعقل أنّ الفكرة صناع «2» فليباشر هذه المدرسة المباركة ببيان عربيّ وإن كان نسبها طرخانيّا، وعلم روضي لا يعرف العلماء شقيقه وإن كان مذهبه نعمانيّا، ومباحث تذكي نار قريحته: فكم طبخ لأنداده من أصحاب «القدوريّ» قدرا، ولزوم درس يسرّ أباه بمذهبه: فإنّه القاضي «أبو يوسف» خبرا في الحقيقة وخبرا؛ والله تعالى يصون شبيبته المقبلة من طوارق الحدثان، وينفع بعلوم بيته الّتي من شكّ منها في الحقّ فكأنه من الحدثان.
وهذه نسخة توقيع بتصدير بالجامع الأمويّ، من إنشاء ابن نباتة، كتب به ل «- شمس الدين بن الخطيب» ؛ وهي:
رسم بالأمر الشريف- لا زالت نعمه ظاهرة الفضل كالشّمس، طاهرة الوضوح من دنس اللّبس، وافرة النّموّ فيومها قاصر عن الغد زائد على الأمس- أن يرتّب فلان في كذا ويرتّب له كذا على المصالح؛ فكم للمسلمين في جامع علمه مصالح، وفي منافع قصده مناجح، وفي فوائده نصيب، وفي طرق هداه معالم: ولا تنكر «المعالم» لابن الخطيب، ليتناول هذا الرّاتب المستقرّ من أحلّ الجهات وأجلّها، وتكون شمسه المباركة خير شمس تجري لمستقرّ لها،(12/374)
عوضا عما نزل عنه من تدريس الحلقة المعدوقة بصاحب حمص وتصديرا بالجامع الأمويّ يبسط به أنواره الشّمسيّة، وينقل اسمه إلى إمرة العلم بدمشق عوضا عن الحلقة الحمصيّة؛ فليعتمد ما رسم به، ولا يتحوّل عما قضى العدل والإحسان بموجبه.
الضرب الثاني (من تواقيع أرباب الوظائف الدّينية بالشام- ما يكتب به لمن هو بأعمال دمشق؛ وهو على مرتبتين)
المرتبة الأولى (ما يفتتح ب «أمّا بعد حمد الله» وفيها وظائف)
توقيع بتدريس المدرسة النّوريّة [بحمص] «1» من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، كتب به للقاضي زين الدين «عمر البلفياني» ب «المجلس العالي» ؛ وهو:
أمّا بعد حمد الله الّذي جعل لوجوه العلم زينا وأيّ زين، وأقرّ لأماكنها عينا بمن يكون التّنبيه على فضل مكانته فرض عين، ونشر أحاديثها بمن إذا حدّث عن يد تمكّنه في العقل والنّقل قيل: صدق «ذو اليدين» ، وأحيا مذاهبها بمن إذا عقدت الخناصر على أمثاله العلماء كان أوّل العقد وثاني الغيث وثالث «العمرين» ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبده ورسوله الّذي أوضح تبيين الهدى وسنّه، وأرهف شبا الحقّ وسنّه، وعلى آله وصحبه الذين منهم «عليّ» مفتاح مدينة العلم و «عمر» سراج أهل الجنّة، ما جرت أقلام العلم والجود في هذه الأيّام الصّالحيّة طلقة العنان مطلقة الأعنّة- فإنّ أولى العلماء بمدارس علم لا خلت، ومجالس فهم عزّت بأهلها فلا تعزّلت، ومشاهد عقل(12/375)
ونقل لا عقلت ألسنتها بعد مستحقّيها ولا انتقلت- من أضاءت مشكاتها النّوريّة بمصابيح كلمه، وفتّحت كمائمها النّوريّة عن زهرات الهدى بقطرات قلمه، وتذكرت بأوقاته الأخيرة عهود أهلها من هداة الاسلام وأوقات ذي سلمه.
ولمّا كان فلان هو المقصود بخلاصة هذا المعنى، والممدود إليه نظر هذا الوصف الأسنى، والعالم الّذي تشبث بأسباب محاسنه بلد «الهرمين» ، والسابق وإن خلا وقته الطاهر خلف وقت «إمام الحرمين» ؛ كم اجتنى ثمر الفوائد من أصل وفرع!، وكم بات قلمه من ورق فتاويه وإسكات مناويه بين وصل وقطع!؛ كم صدق برق بديهته الأفكار حين شامت!، وكم نبّهت عند ليالي المشكلات «عمر» «1» ثم نامت!، وكم تهادت نظره كتب العلم حتّى قال «كتاب الأمّ» «2» : نعم الولد النّجيب، وقال «كتاب الروضة» : نعم أخو الغائث الصّائب على رياض القول المصيب، وقال «الشامل» من فضله: هذا لطلبته «نهاية المطلب» ، وقال «التنبيه» على محاسنه: ليت «النّابغة» رآه فدرى أيّ الرّجال «المهذّب» «3» ، وكانت المدرسة الشّهيدية النّوريّة بحمص المحروسة قد شهدت مع من شهد بفضله، وسعدت بنبله، ووسمت بعلم علمه، وسمت سموّ الشهباء: هذه بمقرّ تدريسه وهذه بمجلس حكمه؛ ثم زار دمشق زورة(12/376)
تشوّقت [إليه] «1» بعدها تلك المشاهد، وتشوّفت إلى العود هاتيك المعاهد، وقضى الوفاء أن يعاد إليها أحسن إعادة، وأن يرجع إلى الأماكن الشهيدية الشاهدة ببرّه فتكون منه عادة ومنها شهادة، واقتضى الاستحقاق أن يردها بالمعلوم المستقرّ وزيادة وأحسن ما ورد البحر في الزيادة.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- أعلاه الله وشرّفه، وحلّى بسيره الصالحة سمع الدّهر وشنّفه- أن يستقرّ فلان في تدريس المدرسة النّورية بحمص المحروسة على عادته، وعلى نهج إفاءته وإفادته، بالمعلوم المقرّر له بمجلس الحكم العزيز الشافعيّ بدمشق المحروسة: رعاية لتلك المعاهد النّوريّة الّتي تتأرّج بها الآصال والبكر، وأنوار القبول القائلة لوفدها الطارق: «عليك سلام الله يا عمر» .
فليعد إلى هذه الوظيفة عود الحليّ إلى العاطل، وليقبل على رتبته المرتقبة إقبال الغيث على الماحل، وليقل بلسان تقدّمه لمعانديه: إن كان أعجبكم عامكم فعودوا إلى حمص في قابل، ولينصر بقاعها الحمصيّة بجلاد جداله فإنّها من أوّل جند الإسلام، وليقم الآن في هذه الأوقات الشّاميّة فإنّه بركة الوقت والبركة في الشّام، مثمرا من أقلام علومه أزكى الغروس، مظهرا من مباحثه النّفائس مبهجا من طلبته النّفوس، عامرا لمعاهدها بدروسه: ويا عجبا لمعاهد تعمر بالدّروس «2» !، ذاكرا للوصايا الحسنة الّتي لا تقصّ عليه فهو أخبر بها، والّتي من أوّلها وأولاها تقوى الله تعالى وهي بأفعاله أمسك من تفاعيل العروض بسببها، والله تعالى يعضّده في رحلته ومقامه، ويمتع الرّتب تارة بمجالس دروسه وتارة بمجالس أحكامه، ويروي صدى مصر والشّام من موارد علمه، هذه بأوفى من نيلها وهذا بأوفر من غمامه.(12/377)
المرتبة الثانية (من تواقيع أرباب الوظائف الدينية بأعمال دمشق- ما يفتتح ب «- رسم بالأمر» ؛ وفيها وظائف)
وهذه نسخ تواقيع من ذلك:
نسخة توقيع بحسبة بعلبكّ: من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، كتب بها ل «- شهاب الدين بن أبي النور» ؛ وهي:
رسم بالأمر الشريف- لا زالت شهب أوامره عالية السّنا والسّناء، وفيّة لذوي الاستحقاق بمزيد الاعتناء والاغتناء، جليّة البرّ بمن شهد بحسن حسبته حتّى لسان الميزان وفم الكيل وشفة الإناء- أن يستمرّ فلان...... لما ذكر من أوصافه الّتي ضاعفت فيه الرّغبة، وحالفت به سموّ الرّتبة، وشهدت بها حسبته تلو الشّهود: وحسبك من اجتمعت على فضله شهادة الفرض وشهادة الحسبة، ولما صحّ من كفاءته وتجربيه، ووضح في هذه الوظيفة من تدريبه الّتي تدري به، ولما تعيّن من استمرار شهابه في المنزلة الّتي تكتسي من أضوائه وتكتسب، وهذه الرتبة الّتي تعلو بمعرفته: وكفاه أنّه يرزق من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب! وأنّه فيها ذو الرّأي الزّائد، والنّفع الوارد، والشّهاب الّذي نور هداه في وجه المريد وأثركيّ حسبته في وجه المارد، وأنّه وليها ولاية لا تزال تذكر وتشكر، وعرف بوفائها وكان أوفى من أمر بمعروف أو نهى عن منكر، وأنّه قام حقّ القيام حتّى قال البلد: رعى الله زمانك، واجتهد حتّى قال الاعتبار للميزان: لا تذكر الزّيغ ولا تحرّك به لسانك.
فليستمرّ في حسبته المباركة استمرارا يستحلى ذكره، ويستجلى في الاسم شهابه وفي السّمة بدره، وليحتسب في نفع المسلمين حسبة يحتسب بها عند المملكة ثناءه وعند الملائكة أجره، سالكا على نهج العزم الجميل، جاعلا أوّل نظره من أقوات الرّعيّة في الدّقيق والجليل، مستبينا لما التبس من غشّ المطاعم والمشارب فلم يستبن، حاكما- ولا سيّما في قاعات بعلبك- برأي(12/378)
يفرّق بين الماء واللّبن، حاثّا على بيع المآكل بخبرة من ملإ بصره، حريصا على أن لا ينشد لسان الدّاخل فيه «ومن لم يمت بالسّيف مات بغيره» ، دافعا ضرر المجتري البائع عن المشتري المسكين: ذكيّا فيما يذكّي فيذبح بسكّين ويذبح متناوله بغير سكّين، قاضيا بالحقّ في كلّ ما يشترى ويباع، متكلّما في أنواع الملابس وغيرها بالباع والذّراع، وازنا بالعدل في كلّ موزون ومكيول، رادعا لكلّ عمّال مداهن في كلّ مدهون ومعمول، حاملا على الحال المستقيم كلّ حيّ لديه وكلّ من هو على آلة حدباء محمول؛ ومن زاد في الإضرار فليمنع زائده، ومن زاد في الاشتطاط وتجبير الشراء فليقطع بالنّكال زائده، ومن دنّس في الأشربة فلا يلبث أن يغلّظ التّأديب وأن يريقه، ومن سقى الضّعفاء منها كما يقال: سقية فليسقه من السّوط ما يكاد ينثر جسمه على الحقيقة، ومن عانى صناعة ليس له فيها يد فليلزمه بما بسط في إفساده اليدين، ومن حكم في صناعة الطّبّ بما لم يسغ في المسائل فليصرفه منها بخفيّ حنين، ومن تمرّد في معاملته فليردّه بالقهر إلى صالح مردّه، ومن عدا وعتا فليعامله بما يخرجه من التّرح لا من الفرح من جلده، مقداما في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ولا جزع، مستعينا بالديوان فيما أهمّ: فإنّ الله يزع بالسلطان ما لا يزع، مجتهدا فيما يزيد تقدّم سعيه المشكور، وصنعه المبرور، منيرا لآفاق منصبه وكيف لا وهو الشّهاب بن أبي النّور؟؛ وتقوى الله تعالى هي السبيل الأقوم فليكن لها منهاجا، وليواظب على طريقة الحقّ: فكم شرّ عنها حاد وكم خير منها جا «1» !.
توقيع بنظر السبيل بدرب الحجاز، بالركب الشاميّ، من إنشاء ابن نباتة، كتب به للقاضي «قطب الدين السبكي» ؛ وهو:
رسم بالأمر- لا زال يقرّ بالوظائف الدّينية من يحبّها وتحبّه، ومن يتوارد(12/379)
على ذكره بادي الشّكر وركبه، ومن إذا بدت مطالع الخير فهو نيّره وإذا دار فلك الثناء فهو قطبه- أن يستقرّ......: لما ذكر من وصفه الجميل، واستحقاقه الذي دلّ [عليه] البرهان في محفله وبرهن في موكبه الدليل، وديانته الّتي هي لمباني الأوصاف الرّفيعة أساس، وكفاءته الّتي لها من نفسه نصّ ومن نفس قومه قياس، ومرباه في بيت تقيّ صحّت تجارب معدنه على السّبك، و [دلت] «1» مناقبه على استحقاق الرّتب الّتي يقول بشيرها: قفا نبتسم! ويقول حاسدها: قفا نبك، ولما تقدّم من تشوّفه لهذه العزمة الناجحة، وتشوّقه من هذه المبرّة الشريفة الصالحيّة بسلوك تلك الفجاج الصّالحة، ولأنّ الضّعف عاقه عن الماضي فأطلقته الآن هذه القوّة، وجعلت له بأوفى القادرين على الحسنات والإحسان أسوة، ومكّنته في هذه الشّقّة الطويلة على سحب أذيال المعروف من منزل الكسوة إلى منازل ذات الكسوة «2» فليباشر هذه الوظيفة المبرورة بعزم يبير من الوجد ماكنه «3» ، وحزم يثير من المدح المشكور كامنه، وسمعة على ألسنة التذكار يمضي وتبقى حتّى تكاد تكون للكواكب السبعة ثامنة، متصرّفا في الإرفاد والإرفاق، بآراء يؤيد الله [بها] الذين هم رفاق وأيّ رفاق، منفقا في سبيل الله على يده أعدل إنفاق، حاميا عدله من لفظة نفاق، مخصبا بإنعام الدّولة الشريفة في القفر الماحل، حاملا للمنقطع على أنهض وأبرك الرواحل، مواصلا لنقل الأزواد إقامته ومسيره، وبالماء والشّراب الطّيبين الطّهورين ضعيفه وفقيره، وبأنواع الأدوية والعقاقير الّتي تعمّ متتابع الرّكب [و] عقيره، وتجبر على الحالين كسيره، وبوفاء جميع المستحقّين تاليا عن لسان الدولة الشريفة: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ
«4» داعيا بخلود ملكها في تلك المشاهد الّتي هي بقبول مصاعد الدّعوات ونزول(12/380)
مواعد البركات جديرة؛ والله تعالى يتقبّل دعاءه وسعيه، ويحسن كلاءته ورعيه، بمنه وكرمه!.
الصنف الثالث (من التواقيع الّتي تكتب لأرباب الوظائف بدمشق- ما يكتب لأرباب الوظائف الدّيوانية؛ وهي على ضربين)
الضرب الأوّل (ما يكتب لمن بحاضرة دمشق منهم؛ وهو على ثلاث مراتب)
المرتبة الأولى (ما يفتتح ب «الحمد لله» ؛ وفيها وظائف)
وهذه نسخ تواقيع من ذلك:
نسخة توقيع بكتابة الدّست بدمشق، كتب به لتاج الدين «عبد الوهاب» ابن المنجا التنوخيّ، عوضا عن شمس الدين «محمد بن حميد» بالوفاة؛ وهي:
الحمد لله الّذي جعل تاج الأولياء أينما حلّ حلّى المراتب وزانها، وغدا على التّحقيق كفأها ووزانها، وألبسها من براعته ويراعته عقودا تزرّ دررها «1» وجمانها، ومنح دستها العليّ من ألفاظها المجيدة بيانها، وزادها بأصالته فخارا يستصحب وقتها وزمانها، وارتقى ذروتها الّتي طالما زاد بالمعالي أركانها، فتبوّأ بمزيد المجد مكانها.
نحمده على نعمه الّتي أجزلت إحسانها، وأجملت امتنانها، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تشهد القلوب إيمانها، ويدّخر القائل إلى يوم المخاف أمانها، ويتبوّأ بها في الدّار الآخرة من يخلص فيها جنانه جنانها،(12/381)
ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي أظهر الله تعالى به الشريعة المطهرة وأبانها، وشرّف هذه الأمّة ورفع على جميع الأمم شانها، وبعثه رحمة إلى كافّة الخلق فأقام بمعجزاته دليل الهداية وبرهانها، وأطفأ بنور إرشاده شرر الضّلالة ونيرانها، وأحمد بدينه القويم وصراطه المستقيم معتقدات [طوائف] «1» الشّرك وأديانها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين ما منهم إلا من نزّه نفسه النّفيسة وصانها، وسلك في خدمته وصحبته الطريقة المثلى فأحسن إسرار أموره وإعلانها، صلاة دائمة باقية تحمد بالأجور اقترانها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من جدّدنا رفعة تاجه، وسدّدنا قوله في مجلس عدل ينشر فيه بكلمة الحقّ ما انطوى من أدراجه، وحدّدنا له محلّ سفارة يلحظ فيه حوائج السائل فيغنيه عن إلحاحه ولجاجه- من هو في السّؤدد عريق، ولسانه في الفضائل طليق، وقلمه حلّى الطروس بما يفوق زهر الرّياض وهو لها شقيق؛ وكان فلان هو الّذي علا تاجه مفرق الرّآسة، وجلا وصفه صور المحاسن والنّفاسة.
فرسم بالأمر العاليّ- لا زال يولي جميلا، ويولّي المناصب الجليلة جليلا- أن يستقرّ المشار إليه في وظيفة توقيع الدّست الشريف بالشام المحروس، عوضا عن فلان بحكم وفاته إلى رحمة الله تعالى، بالمعلوم الشاهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت.
فليباشر ذلك مباشرة تشكر مدى الزمان، وتحمد كلّ وقت وأوان، وليملأ بالأجور لنا صحفا بما يؤدّيه عنّا من خير وإحسان؛ والوصايا كثيرة وأهمّها التقوى؛ فليلازم عليها في السّرّ والنّجوى؛ والله تعالى يحرسه ويرعاه، ويتولّاه فيمن تولاه؛ والاعتماد..............(12/382)
[وهذه نسخة] توقيع بنظر الخاصّ، من إنشاء ابن نباتة، كتب به للقاضي «بهاء الدين بن ريّان» ؛ وهي:
الحمد لله معلي رتب الأعيان، ومبقي أحبّاء السّيادة على ممرّ الأحيان، ومبدي «بهاء» المناصب، بمن فضله الواضح والصّبح سيّان، ومنشي ثمرات المناقب، في منابت أهلها حيث الفرع باسق والأصل «ريّان» .
نحمده على أن يسّر البيت المعلّى بحسنه، وأيقظ جفن الآمال من وسنه، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تجمع لنا من خيري الدّنيا والآخرة كرم المطلبين، وشرف المنصبين، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المشرق فضله على أهل المشرقين والمغربين، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين أصبح الثناء عليهم وقفا، واشتمال الذّكر عليهم عطفا، صلاة تضيء آفاق القبول بشمعة صبح لا تقطّ ولا تطفى، وسلّم.
أما بعد، فإنّ للمناصب الدينية نسبة ببيوت أهل الدّيانة، ولخاصّ الرّتب تعلقا بالخاصّ من ذوي الكفاءة والأمانة؛ والمنازل بكواكبها المتألّقة، والحدائق بمغارسها المتأنّقة، ونفوس الدّيار بسكّان معاهدها المتشوّفة المتشوّقة.
ولمّا كان الخاصّ الشريف والوقف المنصوريّ لوجه المناصب الشامية بمنزلة حسن الشامتين، ولرائد الخصب من جهتي الدنيا والآخرة بمحلّ نفع الغمامتين؛ هذا على صنع البرّ الممدود مقصور، وهذا لسحاب الخير سفّاح لأنهر جهة ل «- لمنصور» ؛ يعلو هذا بالنّاظر في دقائقه إلى أعلى الدرّج، ويتلو هذا بلسان ميزانه المنفق على المارستان: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ
«1» - لا يليق الجمع بين رتبتيهما إلّا لمن يجمع بسعيه فضل الدّارين، ومن يجيد بنان قلمه الحلبيّ حلب ضرعيهما الدّارّين، ومن نشأ في بيت سعادة أذن الله لقدره أن يرفع، وأقلام بيته(12/383)
أن تنفع، ولمحاسن ذويه أن تشفع بجمالها إلى قلوب الأولياء فتشفّع، ومن يسرّ برواية فضله وبرؤيته السّمع والعين، ومن يفترض شرفه وشرف إخائه حبّ «الحسن» و «الحسين» ، ومن تبتهج جوانح المحاريب بتعبّده، وتلهج ألسنة مصابيح المساجد بالثّناء على تردّده وتودّده، وتستبق جياد عزمه: فبينما الكميت «1» في الشّهباء تابع أدبه إذا بابن أدهم «2» رسيل تزهّده، ومن تقول مناصب حلب: «لله درّ بهائه المقتبل!، ومن ينشد ثبات وقاره مع لطافة خلقه:
«يا حبّذا جبل الرّيّان من جبل» «3» !، ومن تنفح أخباره منافح الأزهار، ومن يشهد بفضله جيش المحراب في اللّيل وبمباشرته جيش الحرب في النهار، ومن تأسى بلدة فارقها فراق العين للوسن، ومن يروي صامت دمشق وغيرها من تدبيره عن «عامر» وعن «حسن» .
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا زال من ألقابه الشريفة صالح المؤمنين، وعماد الدّاعين لدولته القاهرة والمؤمّنين- أن يفوّض للجناب العالي......
فإنّه المعنيّ بهذه الأوصاف المتقدّمة، والمقصود بإفاضة حللها المعلمة، والموصوف الّذي يحلو وصفه إذ كرّر، ويستعبد الأوصاف والأسماع إذا حرّر، والأحقّ برتبة عزّ في النّظار مضى وأبقى ثناءه، ومكان نظر إن لم يقل الدعاء اليوم: أدام الله عزّه! قال: أدام الله بهاءه، واللّائق بتقرير منصب تقصر دونه(12/384)
المطامع، وتصدير ديوان إن انقطعت روايته عن «حمزة» فقد اتّصلت روايته عن «نافع» .
فليباشر هذين المنصبين المنجبين، مجتهدا في مصالح الخاصّ الشريف، والوقف الّذي لا تحتاج همّته فيه إلى توقيف، حتّى يكون خير الخاصّ عامّا، وأمر الوقف تامّا، وريعهما بالبركات خير محفوف، والمنصوريّ من جهة المعاضدة قد أضحى وهو بالعضدين موصوف.
والوصايا متعدّدة وهو أدرى وأدرب بها، وتقوى الله تعالى أولى وصيّة تمسّك المرء بسببها، وشكر النعمة أدلّ على نبيه همم الرجال وعلى فضل مهذّبها؛ والله تعالى يسدّد قلمه، ويثبّت في مطالع العزّ قدمه، بمنّه وكرمه!.
توقيع بنظر الخزانة العالية «1» ، من إنشاء ابن نباتة، كتب به للقاضي «تقيّ الدين بن أبي الطّيّب» ب «الجناب العالي» ؛ وهو:
الحمد لله الّذي له خزائن السموات والأرض، وبحكمته يهب منها ما يشاء لمن يشاء رضي المعاند أم لم يرض، وبمنّته فضّلت مراتب أهل التّقى على الرّتب كما فضّل على النافلة الفرض، وبعنايته بنيت بيوت أهل السّيادة على الطّول وبقي صالح عملهم إلى العرض، وبهدايته سما إلى أعلى الخزائن من تقرضها أوصاف قلمه وقلم أبيه أحسن القرض.
نحمده على ما منح من خزائن فضله، ونشكره والشّكر ضامن المزيد لأهله، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة يدّخرها الإنسان لنيّته وقوله وفعله، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي جمع بفيئه وفرّق(12/385)
ببذله، وأعطى ما لم تنطو ضمائر الأكياس في صدور الخزائن على مثله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه السّالكين سنن فضيلته وفضله، التابعين في الكرم والبأس قياس بيانه ونصّ نصله، ما أطلعت خزانة الوسميّ آثار نقط الغيث كالدّراهم، وخلعت على الدنيا خلع الروض متقلنسة بمستدير الظّلال مزرورة بمعقود الكمائم، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ الرّتب ذخائر قوم في خزائن الاختيار، وأخاير أهل تزكو نقود شيمهم على محكّ الاعتناء والاعتبار، وفروع خلف تظهر مظاهر نصولها الزكيّة سابغة الظّلّ رائقة الزّهر فائقة الثّمار؛ إذا احتيج منهم إلى ذخيرة نفعت، وإلى أخير وقت أربى على عزائم الأول وما صنعت، وإلى فروع شجرة سرت محامدها الضّائعة: لا ممّا ضاعت بل ممّا تضوّعت.
ولما كانت رتبة نظر الخزانة العالية بدمشق المحروسة أحقّ بمن هذا وصفه، وهذا نعته في مقدمّة الذّكر الجميل وهذا إليه عطفه؛ إذ هي مرتبة العلياء ومكانها، وزهرة سماء المملكة وميزانها، ومنشأ غيوث صلاتها الهامرة، ومنبت رياض خلعها الزاهرة، وأفق السعادة ومطلع نجمها المنير، وجنّة أولياء الدّولة ولباسهم فيها حرير، ومعنى شرف الاكتساء والاكتساب، ومأوى الفاضل- والحمد لله- الذي يحفظها التحصيل بحساب ويعطيها الجود بغير حساب.
وكان الجناب...... «1» ممن تضم أعطافه أنوار السّعادة، وتحفّ أطرافه و...... «2» . السّيادة، وتنتقل جلسته: إمّا من تنفيذ الديوان لمرتبة وإمّا من تدريس العلم لسجّادة، ذو الفضل والفضائل حسن التّجنيس والتّطبيق، والكتابة: من حساب وإنشاء زاكية النّثر على التّعليق، ونفحات البرّ من نفحات العيش أجود، والشبيبة فيها النهى فمكانه كما قال البحتريّ: نسب أسود، والهمم الّتي حاولت منال الشّهب الممتنعة ولات حين مناص، والكلمة الّتي لو(12/386)
عاين «البصريّ» فرائد نحرها لقال: كلّ هذه درّة الغوّاص، والعزائم الّتي رامت المناصب فما قبلت من خزانتها سوى الرّفيع وما رضيت من ديوانها سوى الخاص؛ كم نبّهت منه المقاصد «عمر» «1» ثم نامت!، وكم أجلسته كواكب اليمن في صدر محفل ثم قامت!، كم حوى من الحمد سنيّا!، وملأ الرّباع خيرا وفيّا!، وقيض الله للفقراء والأيتام حنانا من لدنه وزكاة وكان تقيّا.
فلذلك رسم بالأمر الشرّيف- لا برح صالح الدّهر كالزّهر، مالك نفوس الأولياء والأعداء: هاتيك بالإنعام وهاتيك بالقهر- أن يفوّض إليه نظر الخزانة العالية مضافا إلى ما بيده من نظر الخاصّ الشريف: لأنّ مثله لا يصرف عن وظيفة بسناه تعترف، ومن نداه تغترف، وأنّ اجتماع العدل والمعرفة قاض بأنّ «عمر» لا ينصرف، وأنّ الخاصّ لخاصّ الأولياء أمسّ مكانة، وأنّ الخزانة أنسب بمن عرف بالصّيانة، وأنّ خزائن الأرض، وهي مصر لو نطق نظيرها لقال: ليس لي مثل هذه الخزانة، وأنّ عين الأعيان أولى بالنّظر، وأنّ الأنظار لا بل الصّحابة أحقّ ب «عمر» ؛ لما علم من سيرته النّقيّة، وسريرته التقيّة، وصفاته الّتي يمتدّ فيها نفس القول حتّى ينقطع وفي الأوصاف بعد بقيّة وبقيّة.
فليباشر ما فوّض إليه من أعلى المراتب المنجبات، والوظائف المعجبات المعشبات، والجهات الّتي ما لها كبيته الطّيّبي: والطّيّبون للطّيّبات، مستجدّا من نظر هذه الخزانة ثوب سعده الجديد، معملا في مصارف الذّهب والفضّة بصر آرائه الحديد، منبّها لها عزمه العمريّ ونعم من ينبّه، مشبها في الكفاءة أباه المرحوم وما ظلم من أشبه، مقرّرا من أحوالها أحسن مقرّر، محرّرا من أمورها أولى ما اعتمد والخزانة أولى بالمحرّر، حافظا لمالها بقلم التّحصيل حتّى ينفّذ قلم الإطلاق، صائنا لوفرها حتّى ينفقه الكرم خشية الإمساك بعدما أمسكه الصّون خشية الإنفاق، مستدعيا من أصنافها كلّ ما تنوّع وتصنّف، وتوشّع(12/387)
وتفوّف، مثبتا كلّ ما خلع من ديوانها العزيز وتخلّف، مؤلّفا للكساوى «1» في رحلة كلّ صيف وشتوة، مواصلا للأحمال من دمشق على كلّ حال من جهة الكسوة، منهيا لإنعامها بقلم الإطلاق التّام، متلقّفا بعصا قلمه في يده البيضاء ما تأفك عصا الأقلام، حريصا على أن يكون بابها في الكرم كما يقال: «سهل الحجاب مؤدّب الخدّام» ، عاملا بتقوى الله تعالى الّتي بها يبدأ الذّكر الجميل ويختم، ويلبس بها في الدّنيا والآخرة رداء الخير المعلم، غنيّا عن تبيين بقايا الوصايا الّتي هو فيها بحر، وابن بحر بكتاب «البيان والتبيين» أعلم؛ والله تعالى يمدّه بفضله، ويحفظ عليه الفضل الّذي هو من أهله، ويملأ آماله بغمام الخير الصّيّب، ويديم سعادة بيته الّذي لا يرفع الشّكر لطيبه إلا الكلم الطّيّب.
المرتبة الثانية (من تواقيع أرباب الوظائف الديوانية بحاضرة دمشق- ما يفتتح ب «أمّا بعد حمد الله» )
وهذه نسخ تواقيع من ذلك:
[نسخة] توقيع بنظر الأسرى ونظر الأسوار، كتب بها لدوادار الأمير «سودون الطرنطاي» »
كافل الشّام، وإن كانت هي في الأصل ديوانية أو دينية؛ وهي:
أمّا بعد حمد الله الّذي خصّ أولياءه بفضله الوافر، وعمّهم بحسن نظره فأشرق صبح صباحهم السّافر، وانتضى من عزائمهم لنصرة الدّين سيفا يسرّ المؤمن ويغيظ الكافر، واجتبى من الكفاة من يشيّد معاقل الإسلام بفضله(12/388)
المتظافر، والصلاة والسلام الأتمّين الأكملين على سيدنا محمد الّذي أضاء برسالته الوجود، وخصّه الله تعالى بالصّفات الفائقة والمآثر الحسنة والجود، وعلى آله وصحبه الذين حرسوا الملّة الحنيفيّة من جهادهم بأمنع سور، وأوهنوا جانب الكفر وأنقذوا الأسير وجبروا المكسور، صلاة دائمة مدى الأيّام والشّهور، معلية للأولياء علم النّصر المنشور- فإنّ أولى من عدقنا به المناصب السّنيّة، وفوّضنا إليه جليل الوظائف الدّينيّة، ونطنا به فكّ رقبة المسلم من أسره، وخلاصه من عدوّه الّذي لا يرثي لمسكنته ولا يرقّ لكسره، وأجرينا قلمه ببذل الفداء، وجعلنا مداده درياقا «1» لمرض الأسر الّذي يعدل ألف داء، وأقمناه للعاني من شرك الشّرك منقذا، وللدافع في بيداء العدا بحسن إعانته منجدا، وللأسوار الممنّعة بجميل نظره متفقّدا- من أضحى فضله ظاهرا، وجلاله باهرا، وخلاله موصوفة بالمحاسن أوّلا وآخرا.
وكان فلان هو الّذي بهرت مآثره الأبصار وملأت الأسماع، وانعقدت على تفرّده في عصره بالمفاخر كلمة الإجماع، وسارت الرّكبان بذكره الّذي طاب وجوده الّذي شاع، وصفت سريرته، فأضحى جميل الإعلان، وحمدت سفارته، فكانت عاقبة كلّ صعب ببركتها أن لان.
فلذلك رسم بالأمر العاليّ- لا زال يولي جميلا، ويولّي في الوظائف جليلا- أن يستقرّ المشار إليه في وظيفتي نظر الأسرى والأسوار بدمشق المحروسة، على أجمل عادة، وأكمل قاعدة، بالمعلوم الشاهد به ديوان الوقف المبرور إلى آخر وقت: وضعا للشيء في محله، وتفويضا لجميل النّظر إلى أهله.
فليباشر ذلك مباشرة تسرّ النفوس، وتزيد بها الغلال وتزكو بها الغروس، وليجر أحوال الوقف المبرور على مقتضى شرط الواقف والشّرع الشريف،(12/389)
وليتصرّف في تحصيل المال وإنفاقه أحسن تصريف، وليجتهد على تخليص المأسور، وإغاثة من ضرب بينه وبينه بسور، ويسارع إلى تشييد الأسوار الممنّعة، وإتقان تحصينها ليتضاعف لمن حوته منّا الأمن والدّعة؛ والوصايا كثيرة وملاكها تقوى الله تعالى وسلوك صراط الحقّ المستقيم: فليواظب عليها، وليصرف وجه عنايته إليها؛ والله تعالى يديم علاه، ويتولّاه فيما تولاه، بمنه وكرمه.
توقيع بصحابة ديوان الأسرى «1» ، من إنشاء ابن نباتة، كتب به للقاضي شرف الدين «سالم بن القلاقسيّ» ؛ وهو:
أمّا بعد حمد الله الّذي جدّد بطالع الشّرف قواعد بيت السّيادة، ومشاهد حوك السّعادة، ومصاعد ذرا الأقلام الّتي قسمت مجاني قصبها للإفاءة والإفادة، ومعاهد القوم الذين سلكوا مسالك سلفهم الحسنى: ولو كان التمام يقبل هنا مزيدا قيل: وزيادة، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الّذي شدّ الله برسالته أزر الحقّ وشاده، وعلى آله وصحبه ذوي الأقدار المستزادة المستجادة، ما اتّصل بحديث الفضل سنده وأمن بيت التقوى سناده- فإنّ البيوت المنتظم فخارها، المأمون من عروض الأيّام زحافها وانكسارها، أولى بأن تنتخب لهم المناصب كما تنتخب للبيوت المعاني، وتستقرى الوظائف العليّة كما تستقرى لمواضع كلمها المباني، وتختار لنجل الأصحاب «2» بينهم كلّ جهة مأمونة الصّحابة، موقورة السّحابة، مجرورة ذيل الخيرات السّحابة، مصونة عن غير الأكفاء كما يصان للجهات حجبا، لائقة بالأفاضل لأنّ لأوقاف الأسرى بالفاضل نسبا.
فلذلك رسم بالأمر الشريف أن يرتّب في كذا: علما بأنّه الرئيس الّذي إذا(12/390)
ولي وظيفة كفاها، وإذا وعدها بصلاح التّدبير وفاه وفاها، وإذا وصل نسبها بنسبه كان من إخوان صفائها لا من إخوان صفاها، والخبير الّذي استوضح بيمن الرّأي مذاهبه ومسالكه، والعالم الّذي إذا مشّى الأمور بسط جناح الرّفق وإذا مشى بسطت له أجنحتها الملائكة، والجليل الّذي إذا نظر ذهنه في المشكلات دقّق، والكاتب الّذي تعينت أقلام علمه وكفاءته إلّا أنّ كلّها في الفصل محقّق؛ هذا وخطّ عذاره ما كتب في الخدّ حواشيه، وليل صباه ما اكتمل، فكيف إذا أطلعت كواكب المشيب دياجيه؛ وكيف لا؟ وأبوه- أعلى الله تعالى جدّه- صاحب المجد الأثيل، والفضل الأصيل، ووكيل السلطنة الّذي إذا تأمّلت محاسنه قالت: حسبنا الله ونعم الوكيل.
فليباشر هذه الوظيفة برأي يسهّل- بمشيئة الله- عسيرها، ويفكّ- بعون الله- أسيرها، واجتهاد سنيّ يحسن قلمه في الأمور مسرى، واعتماد سريّ لا يرى ديوان أسرى منه أسرى، مشبها أباه في عدله ومن أشبه أباه فما ظلم، وتوقّد رأيه لدى طود حلم وعلم «فيالك من نار على علم!» ، حتّى يأمن ديوان مباشرته من ظلم الظالم، ويشعل ذكاءه حتّى يقال: عجبا للمشعل نارا وهو سالم!، ويثمّر مال الجهة بتدبيره، ويشرك لفظ إطلاق الديوان في ماله وأسيره، وتنتقل الأسرى من ركوب الأداهم إلى ركوب الشّهب والحمر من دراهمه ودنانيره، ويحمد على الإطلاق، وينفق خشية الإمساك إذا أمسك [غيره] «1» خشية الإنفاق، ويمشي بتقوى الله- عزّ وجلّ- في الطّريق اللّاحب «2» ، وينسب إلى ديوانه وقومه فيقال: صاحب طالما انتسب من سلفه لصاحب؛ والله تعالى ينجح لكواكب رأيه مسيرا، ويجبر به من ضعف الحال كسيرا، ويكافيء سادات بيته الذين يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً
«3»(12/391)
المرتبة الثالثة (من تواقيع أرباب الوظائف الديوانية بحاضرة دمشق- ما يفتتح ب «- رسم بالأمر الشريف» )
وهذه نسخ تواقيع من ذلك:
نسخة توقيع............ «1» .......... من إنشاء ابن نباتة، كتب به للقاضي «علاء الدين بن شرف الدين بن الشهاب محمود» عند موت أبيه وهو صغير؛ وهي:
رسم بالأمر الشريف- لا زال يجبر ببرّه مصاب الأبناء بآبائهم، ويسرّهم بما يتجدّد في كواكب الشّرف من علائهم، ويعتق قلوبهم من إسار الحزن حتّى ينشأوا من الصّغر على أنساب عفّتهم وولائهم- أن يستقرّ...... اعتمادا على نجابته الشاهده، ومخايل همّته السائدة، واستنادا إلى أصالته الّتي لا يبدي فرعها إلّا زكيّ الثّمر، ولا يهدي بحرها إلّا أنفس الدّرر، ولا يخلّف أفقها إلّا كبيرا تستصغر الأبصار رؤيته: والذّنب للطّرف لا للكوكب في الصّغر، وعلما أنّه من أسرة شهابيّة لا يهتدى في الإنشاء إلّا بنورهم، ولا يتحدّث بالعجائب إلّا عن بحورهم، ولا ينبت أقلام البلاغة إلّا عشبهم، ولا تعشب روضات الصحائف إلا سحبهم، ولا تثبت أفلاك الكتابة إلا كتبهم، صغيرهم في صدور الإنشاء كبير، وملقّن آيات فضلهم يروي أعداد الفوائد عن «ابن كثير» ، وعليّهم بعد «أبي بكر» تقول المحامد لسلفه وخلفه: منّا أمير ومنكم أمير؛ وأنّه اليوم لا سيف إلّا «ذو الفقار» من أذهانهم، ولا فتّى إلّا «عليّ» من ولدانهم، وأنّ فرخ البطّ سابح، وسعد القوم للأنداد ذابح «2» ، وخواتم صحف الجمع الظاهر أشبه(12/392)
بالفواتح، والبلاغة في الدنيا كنوز والأقلام في أيديهم مفاتح، وأنّ [الكلام حليته] «1» وسمته، وأنّه إذا خدم دولة بعد مخلّفه قيل للذاهب: لقد أوحشنا وجهه وللقادم: لقد آنستنا خدمته.
فليأخذ في هذه الوظيفة بقوّة كتابه، وليتناول باليمن واليمين قلم جدّه كما تناول راية مجده عرابة «2» ، وليتقلّد بقلائد هذه النّعم عقيب ما نزع التمائم، وليجهد في إمرار كلمه الحلو الّذي أوّل سمائه قطر ثم صوب الغمائم، مجوّدا خطّه ولفظه حتّى تتناسب عقده، ناشئا على كتم السّرّ حتّى كأنّ الفؤاد قبره والجنب لحده، مهتديا بالعلم الشّهابيّ في برّ أخيه الأكبر فإنّه من بوارق المزن، مبتديا مع أخيه الآخر السّرور إذ ينزع عنهما لباسهما من الحزن؛ والله تعالى يزيد في فضله، ويتمّ عليه النعمة كما أتمهّا على أبيه من قبله، ويفقّهه في السيادة حتّى يحسن في الفخار ردّ الفرع إلى أصله.
توقيع بنظر مطابخ السّكّر، من إنشاء ابن نباتة، كتب به للقاضي «شرف الدّين بن عمرون» ؛ وهو:
رسم......- لا زالت سمة المناصب في دولته الشّريفة مشرّفة، وأقلام الكفاة مصرّفة، وألفاظ الشّكر ثابتة عند ذوي الاستحقاق ومصنّفة، والنّعماء المنصفة لأمثالهم حلوة المذاقين من نوع ومن صفة- أن يستقرّ...... لما عرف من شيمه المستجادة، وهممه المستزادة، وكفاءته اللّائق بها حسن النّظر الثّابت بفضلها رقم الشّهادة، وأصالته الّتي نهض أوّلها بمهمّات الدّول فلو رآه معاوية- رضي الله عنه- لقال: يا عمرون أنت عمرو وزيادة، ولما ألف من مباشرته المنيفة خبرا وخبرا، وأنظاره السّامية إلى معالي(12/393)
الأمور نظرا، ووظائفه الّتي لا يكاد يبلغ العشر منها ذوو الهمم العليّة، وجهاته التي عرف بها سلفه وخلفه فلا غرو أن لبس عمامة مفاخره بيضاء وسكّريّة.
فليباشر هذه الوظيفة الحلوة معنى ومذاقا، الحليّة عقدا ونطاقا، المحسوبة على مطالع الشّرف وفقا وآفاقا، جاعلا شكر النّعمة من أوفى وأوفر مزاياه، وصلف الهمّة من أولى وأوّل وصاياه، حافظا للمطابخ وإن كان عادة آبائه بذلها، مدّخرا للجفان وإن كانت سمة قراهم إزالتها ونقلها، حريصا على أن لا يجعل لأيدي الأقلام الخائنة مطمحا، وعلى أن ينشد كلّ يوم للتّدبير لا للتّبذير:
[لنا] الجفنات الغرّ يلمعن في الضّحى
محرّرا لحساب درهمها ومحمولها، ومصروفها ومحصولها، محترزا على مباشرته من الخلل في هذين المكانين، حذرا من كفّتها وقبّانها فإنّها تتكلّم في الحمد أو في الذّم بلسانين، بل تعلن- إن شاء الله- بحمده المقرّر، وتكرّر الأحاديث الحلوة عنه فمن عندها خرج حديث الحلو المكرّر؛ والله تعالى يمدّ مساعيه بالنّجح الوفي، ويلهم همّته أن تنشد: «ما أبعد العيب والنّقصان من شرفي!» .
توقيع بنظر دار الطّراز «1» ، من إنشاء ابن نباتة؛ وهو:
رسم بالأمر- لا زالت سيره بمرقوم المحامد مطرّزة، ودولته بمحاسن التأييد والتّأبيد معزّزة، ونعمه ونقمه: هذه على الأعداء مجهزة وهذه إلى الأولياء مجهّزة- أن يرتّب فلان: لكتابته الّتي رقمت الطّروس، وطرّزت بالظّلماء أردية الشّموس، وأثمرت أقلامه بمحاسن التّدبير فكانت في جهات الدّول نعم الغروس، وحسابه الّذي ناقش ونقش، ورقم الأوراق ورقش، واعتزامه الّذي(12/394)
علّم رشدا، وسلك طريقا في الخدمة جددا، وقوي اسمه وتكاثرت أوصافه فما كان من أنداده أضعف ناصرا وأقلّ عددا؛ وأنّه الكافي الّذي إذا قدّم نهض، وإذا سدّد سهم قلمه أصاب الغرض، والسّامي إلى سماء رتبه بالقلب والطّرف، والمنزّه لقلمه الحرّ من أن يستعبد على حرف.
فليباشر هذه الوظيفة بكفاءة عليها المعوّل، وأقلام إذا تمشّت في دار الطّراز على الورق قيل: «شمّ الأنوف من الطّراز الأوّل» ، مستدعيا لأصنافها ومالها، عادلا في قسمة رجائها ورجالها، معملا راحته بالقلم فإنّ كتابتها متعبة، مهتديا في طرق حسابها فإنّها متشعّبة، ماشيا على نهج الاحتراز، ساعيا إلى الرّتب بإرهاف عزم كالسّيف الجراز «1» ، سعيد السّعي- إن شاء الله تعالى- حتّى يقول سناء الملك المستنهض له: هذا القاضي السّعيد وهذه دار الطّراز؛ والله تعالى يوفّقه في جميع أحواله، ويؤيّد مساعي قلمه الّذي تنسج أقلام الكفاة على منواله.
توقيع بنظر الرّباع «2» ، من إنشاء الشيخ صلاح الدّين الصّفديّ، باسم القاضي نجم الدين «أحمد بن نجم الدين محمد بن أبي الطّيّب» ؛ وهو:
رسم بالأمر العالي- لا زال نجم [آلائه] «3» يتّقد نورا، وخاطر أوليائه يتّحد بالآمال سرورا- أن يرتّب المجلس الساميّ القضائيّ- أدام الله تعالى علوّه- في نظر الرّباع الدّيوانية، ومباشرة الأيتام- حرسهم الله تعالى- على عادة من تقدّمه وقاعدته، بالمعلوم الّذي يشهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت: لأنّه النّجم الّذي بزغ في أفق الرّآسة، وجمّل ما آثره قبيله وأناسه «4» ، والأصيل الّذي(12/395)
شاد الفضل مجده، وأحكم الفخر عقده، والرّئيس الّذي يصدق التّفرس في شمائله، ويحكم الظن الصائب في أثناء مخايله.
فليباشر ذلك مباشرة هي معروفة من هذا البيت، مألوفة من كبيرهم وصغيرهم: فإنّهم لا لوّ فيهم ولا ليت «1» ، معتمدا على سلوك طريقة أخيه وأبيه، مجتهدا على اتباع اعتمادها في توخيّه الصّواب أو تأبّيه، حتّى يقال: هذا صنو ذلك الغصن الناضر، وهذا شبل ذلك اللّيث الخادر، وتصبح الرّباع بحسن نظره آهلة بالأهلّة، كاملة بالمحاسن الّتي تمسي الأقمار منها مستهلّة، وتعود الأيتام بمشارفته كأنهم لم يفقدوا برّ والدهم، ولم يحتاجوا مع تدبيره إلى مساعدهم.
والوصايا كثيرة وأهمها تقوى الله عزّوجلّ فإنّها الحصن الأوقى، والمعقل المنيع المرقى؛ فليتّخذها لعينيه نصبا، وليشغل بها ضميره حتّى يكون بها صبّا؛ والله تعالى ينمّي غصنه الناضر، ويقرّ بكماله القلب والنّاظر؛ والخطّ الكريم أعلاه الله تعالى أعلاه، حجّة في ثبوت العمل بما اقتضاه؛ والله الموفّق بمنه وكرمه!.
توقيع باستيفاء المقابلة واستيفاء الجيش «2» ؛ وهو:
رسم بالأمر- لا زالت المناقب في دولته الشريفة شمسيّة الأنوار، قرشيّة الفخار، مشتقّة المحامد من الأسماء والآثار، محصّلة بأقلام اليمين ما يبذله الكرم من أقسام اليسار- أن يستقرّ...... حسب الاستحقاق المقتضى،(12/396)
والاختيار المرتضى، وعين الرّأي الّذي ما بينه وبين الرّائي حاجب، وتقدّم السّنّة القديمة فإنّ التقديم لقريش واجب، ولأنّ الصفات الشّمسيّة أولى بشرف آفاقها، ومنازل إشرافها وإشراقها، ومطالع سعدها المنزّهة عن اللّبس، وجلائل قلمها العطارديّ في يد الشّمس، ولأنّ المشار إليه أحقّ بمصاعد المرتقين، ولأنّه تربّى في بيت التّقى فكان الله معه إنّ الله مع المتّقين.
فليباشر هاتين الوظيفتين على العادة المعروفة بعزمه السديد، ومدّات قلمه التي بحرها في السبع بسيط وظلّها في النّفع مديد، وليتمثّل بديوان مقابلة فريدا لا يرهب مماثلة، وليجبر أحوالها بضبطه حتّى يجمع بين الجبر والمقابلة، وليمدّ الجيوش المنصورة من أوراقه بأعلامه، ومن قصبات السّبق برماح تعرف بأقلامه، وليسترفع من الحسبانات ما يمحو بإيضاحه وتكميله من مقدّمات ظلم وإظلام، وليجمع بين ضرّتي الدنيا والآخرة في شريعة الإسلام؛ والله تعالى يمدّ قرشيّته بأنصار من العزم، وتابعين بإحسان من نوافذ نوافل الحزم.
توقيع بصحابة ديوان الأسواق «1» ، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، وهو:
رسم بالأمر- لا زالت أسواق نعمه قائمة، وأجلاب كرمه دائمة، ولا برحت المناصب مكمّلة بكفاة أيّامه الذين يحقّقون ظنونها السامية ويرعون أحوالها السّائمة- أن يرتّب فلان.........: علما بكتابته الّتي وسمت الدّفاتر أحسن سمة، واستبقت إلى صنع الخير المسوّمة، وكفاءته الّتي لا تزال تنمو لديه وتنتمي، ويراعته الّتي إذا سئل عنها السّوق قال: هي عصاي أتوكّأ عليها وأهشّ بها على غنمي، ودرايته الّتي تعين المملكة على المير «2» ، ويشهد(12/397)
تيمّنها أنّ الخيل في نواصيها الخير، وتحقّق فيه الظّنّ والأمل، وتحوط السّوق عن الخائن حتّى يقول: لا ناقة لي في هذا ولا جمل، وأنّه الكافي الّذي إن قال أو فعل كان مسدّدا، وإن ضبط ديوان الشّدّ «1» السعيد كان على الزّائغين من الكتبة حرفا مشدّدا.
فليباشر هذه الوظيفة المباركة متمكّن الأسباب، مالك الحزم والرفقّ حتّى تكثر لديه الجلّاب، معينا لبيت المال على الإنفاق، قائما بحقوق ذوي الاستحقاق، عالما أنّه [متولّي] «2» أكثر جهات الخير المطلق فليكن بها مشكورا على الإطلاق، مجتهدا في رضا المطالبين حتّى يتّبعوا سنن المرسلين في هذه [الصفة] «3» يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، مواظبا على الديوان الّذي هو بصحابته معدوق، سالكا سبل الصّيانة والكفاءة فكلاهما نعم السّبيل المطروق، محترزا من ذي خيانة إن غفل عنه طفق مسحا بالسّوق؛ والله تعالى يوفّق عزائمه التي هي أشهر من علم، وهمّته الّتي قاسمت «أبا الطّيّب» : والخيل تشهد والقرطاس والقلم» .
نسخة توقيع بشهادة الخزانة العالية «4» ، من إنشاء ابن نباتة، كتب به لجمال الدين «عبد الله بن العماد الشيرازيّ» ؛ وهي:
رسم بالأمر الشريف- لا زالت سمة المناصب في دولته بأسماء الكفاة مجمّلة، وخلع المفاخر على بيوت السيادة مكمّلة، وخزائن الملك بين نقيضين من جنس واحد: فبينما هي بأقلام الكفاة محتفظة إذا هي بأقلام الكفاة مبذّلة- أن يستقرّ المجلس الساميّ.........: علما بمحاسنه التي وضح(12/398)
جمالها، وتفسّح في العلياء مجالها، ونجح في منابت الفضل أصلها، وشرف بكواكب اليمن اتّصالها، ومعاليه التي تهلّل بها وجه الأصالة، وكمل بيت الرّآسة والجلالة، ومساعيه الّتي استوفى بها أجناس الفضل وتوريثه فما أخذها عن كلال ولا ورثها عن كلالة، وسيرته الّتي تطوي فخار الأقران حين تنشر، وهمّته التي أنشدت السّعادة فرعها الكريم: «مباديك في العلياء غاية معشر» ، ومكانته من بيت السيادة الرّفيع عماده، البديع سنده المنيع سناده، المديد من تلقاء المجرّة طنبه الثّابتة من حيّز النّجوم أوتاده، وأنّه نجل السّراة الذين أخذوا من الفضل في كلّ واد، واستشهدوا على مناقبهم كلّ عدوّ وكلّ وادّ «1» ، وحملوا من صناعاتهم رايات عبّاسيّة سارت بها رماح أقلامهم تحت أبدع سواد، وملأوا قديم الأوطان بشرف الأخير: فسواء على شيراز محاسن «ابن العميد» ومحاسن «ابن العماد» ، وتبيّنت مناقبهم بهذا النّجل السّعيد طرق المراتب كيف تسلك، وإحراز المناصب كيف يكون لها يد أرباب البيوت أملك، ودرجات الوظائف كيف تسرّ الوالد بالولد حتّى يقول: لا أبالي هي اليوم لي أم لك!؛ كم استنهض والده لجليل فكفى، وجميل قصد فوفى، وأوقات علت حتى أضحت إلى علاه تنتسب، ومناصب رزق- بتقواه فيها- من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب؛ وجاء هذا الولد ذخيرة والده فحسنت للخزانة الذّخيرة، وعضّدت الأوّلة من السيادة بالأخيرة.
فليباشر هذه الوظيفة مباشرة هي أعلى منها وأشرف سيرة، مجتهدا فيما يبيّض وجه علمه ونسبه، عارفا قدر هذه الرّتبة من أوائل رتبه، متيقّظ الأفكار والطّرف، متأرّج المعرفة إذا ذكروا العرف، زاكيا تبر شهادته على التّعليق فلا ينتقد عليه في متحصّل ولا صرف، حتّى تقول الخزانة: نعم العزم الشاهد! وحتّى يشهد بوفاء فضله المضمون، وحتّى يعلم بأمانته أنّ عبد الله هو «المأمون» ؛ وتقوى الله تعالى في الوصايا أوّل وأولى ما تمسّك به، واستقام على(12/399)
شرف مذهبه؛ والله تعالى يسرّ الإسلام بتنبيه قدره ويقرّ الأوصاف بمهذّبه!.
توقيع بشهادة الأسوار؛ وهو:
رسم بالأمر- لا زال يمدّ على الإسلام من عنايته سورا، ويجدّد للأولياء برّا ميسورا، ويسعدهم بكلّ توقيع يكون بالحساب يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا- أن يرتّب المجلس.........: علما بعزمه الساهد «1» ، وحزمه الشاهد، وكفاءته وأمانته الّتي ما كان وصفهما حديثا يفترى، ونظرا لحاله وحال الأسوار: فيالها شهادة كان أصلها نظرا.
فليباشر هذه الرتبة المباركة كما عهد منه مباشرة حسنة الآثار، مشرقة الأنوار، جاعلة تلك العمائر حلية لدمشق: فبينما هي سور إذا هي سوار، ضابطا لمتحصّلها ومصروفها، محرّرا لوقفها محترزا من وقوفها، جاريا على جميل عادته، زاكيا بكرم الله تعالى على التّوفيق تبر شهادته، حتّى تشهد هذه الوظيفة بهمّته المتمكّنة الأسباب، ويضرب بين المدينة وبين من كادها بسور باطنه فيه الرّحمة وظاهره من قبله العذاب؛ والله تعالى يسدّده في كلّ أمر، ويحفظ همّته وبركته «ليوم كريهة وسداد ثغر» .
توقيع بمشارفة «2» خزائن السّلاح، لمن لقبه «جمال الدين إبراهيم» ؛ وهو:
رسم بالأمر العاليّ- أعلى الله تعالى أعلام حمده، وجعل أحكام المقادير(12/400)
من جنده، ولا زالت أفلاك الشّهب من خزائن سلاح سعده- أن يرتّب......: حملا على حكم النّزول الشّرعيّ، والطّلوع إلى رتب الاستحقاق المرعيّ، وعلما بكفايته الّتي بلّغته آمالا، وجعلت للوظائف بذكره جمالا، وثمّرت بقلمه للجهات مالا، وأوصلته على رغم الأنداد لما لا، واعتمادا على أمانته الّتي أعدّها ملاذا، واكتفى بها سلاح عزمه نفاذا، وصيانته التي طالما اعترض [لها] «1» عرض الدّنيا فقالت: يا إبراهيم أعرض عن هذا، واستنادا إلى نشأته في بيت علت في المناصب أعلامه، وصدقت في المراتب حلومه وأحلامه، وتناسبت الآن تصرّفاته السعيدة: فإمّا في تدبير الجيوش وإمّا في تثمير السلاح أقلامه.
فليباشر هذه الوظيفة المباركة بعزم بادي النّجا والنّجاح، وقلم على حالتي وظيفته وهمّته ماضي عزم السّلاح، مقرّرا لعملها ومعمولها، ضابطا لواصلها ومحمولها، حتّى يذهب لسان سيفها بشكره، وتطلع أهلّه قسيّها بميامين ذكره، وتكون كعوب رماحها كلّها كعب مبارك بمباشرته وبشره؛ والله تعالى يسدّد قلمه في وظيفته تسديد سهامها، ويوفّر له من أنصباء المراشد وسهامها.
قلت: وهذا توقيع بوظيفة بكتابة ديوانيّة لسامريّ، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة؛ وهو:
رسم بالأمر- لا زال قلم أوامره الفضّيّ يظهر ثمره، مسمعا حديث الإنعام الشامل حتّى سمره- أن يرتّب فلان في كذا: علما بكفايته الّتي يعذر بها في قومه على سلوك التّيه، وحذق حسابه الّذي هو ألذّ من السّلوى لمجتنيه ومجتبيه، وقريحته الّتي إذا اختارها اختيار قوم موسى فاز من العمل بمطلوبه، وإذا قيل: يا سامريّ ما قدّمك على القرناء في الحساب؟ قال: بصرت بما لم يبصروا به، وأمانته الّتي حاطت حياطة الصّعدة «2» السّمراء، ورفعت رايته على الأنداد قائلة:(12/401)
ما حاط البيضاء والصّفراء كصاحب الحمراء «1» !، واعتمادا على كتابته الّتي شهدت بها من حسباناته الأسفار المبيّنة، وإقراء لصناعاته الّتي سحرت الفكر حتّى قيل: هذا من شعب القرّايين «2» والكهنة.
فليباشر هذا الاستيفاء لأوفى منه مترقّيا، ولكلمات الاختيار متلقّيا، ناهضا بالخدمه، مجدّدا باعتزامه الإسرائيليّ ذكر النّعمة، عارفا قدر الإنعام الّذي رعى وشمل كلّ ذمّة، سالكا من الاجتهاد في خدمة حسابه كلّ طريقة، غائظا للحساد من أهل ملّته: فيعبدون العجل مجازا وحقيقة، مجتهدا في استنزال المنّ لا المنع، معوّذا آلاف الحواصل بعشر كلمات راتبة منه في السّمع، معلّقا على جميعها هيكلا من أمانته فهو أدرى في الهيكل بشرط الجمع، صائنا لنفسه من عدوان الخيانة حتّى لا يعدو في سبت ولا في أحد، متنزها عن أكل المال مع الخونة حتّى يقال: نعم السّامريّ الّذي لا يأكل مع أحد.
الضرب الثاني (من الوظائف الديوانية بالشام- ما هو خارج عن حاضرة دمشق. وغالب ما يكتب فيها من التواقيع مفتتح ب «- رسم» )
وهذه نسخ تواقيع من ذلك:
نسخة توقيع بنظر غزّة؛ وهي:
رسم بالأمر- لا زال النّصر المكرّر، يحلو بذكره، والسّعد المقرّر، يجلو وجوه الآمال بدهره، ولا برح سراج الخدم مضيئا عند ليالي نهيه الحالك وأمره- أن يستقرّ فلان......: لما عرف في المناصب من نهوضه الّذي راق وراج، وفي المهمّات من رأيه الّذي يمشّي أحوال الجهات المستقيمة بسراج، ولما شهر(12/402)
له في الأنظار المتعدّدة من علوّ الهمم، وفي الوظائف المتردّدة من العزمات الّتي يقول السّداد: نبّه [لها] عمرا «1» ثم نم، ولما وصف من أمانته ودرايته وهما المراد «2» من مثله، ورآسة خلقه وخلقه المشيدين عن حسن الثناء وسهله، وآثاره الحميدة المنتقلات وكيف لا؟ وهو المنتسب إلى سلف يحمد لسان الإسلام أثر عقله ونقله.
فليباشر هذه الوظيفة المباركة على العادة مباشرة يحمد أثرها، ويسند عن صحيح عزمه خبرها وخبرها، ويورق بغصون الأقلام ورق حسابها ويروق ثمرها، مجتهدا فهو من نسل المجتهدين في عوائد التّحصين والتّحصيل، والتّأثير والتّأثيل، مليّا بما يجبر كسر هذه البلاد بالصّحّة ويأسو جرجها بعد التّعديل، حريصا على أن يحيي- بمشيئة الله تعالى وتدبيره- عملها الّذي لم يبق الموت من ذمائه غير القليل، سالكا من النّزاهة والصّيانة طريقته المثلى، ومن الكفاءة والأمانة عادته الّتي ترفع درجته- إن شاء الله- إلى ما هو أعلى وأغلى، مسترفعا للحساب ولقدره في الخدمة، شاكرا: فإنّ الشّكر ضمين لازدياد النّعمة بعد النّعمة، سراجا وهّاج الذّكاء على المنار ولا ظلم مع وجوده ولا ظلمة؛ والله تعالى يعلي قدره، ولا يطفيء ذكره.
توقيع بصحابة ديوان الحرمين، من إنشاء ابن نباتة، لمن لقبه «شمس الدّين» ؛ وهو:
رسم بالأمر- لا زالت أوامره نافذة في الآفاق، عاطفة عطف النّسق على ذوي الاستحقاق، مطلعة شمس التّقى والعلم في منازل الإشراق- أن يستقرّ المجلس......: علما باستحقاقه لما هو أكثر وأكبر، وأوفى وأوفر، وإطلاعا(12/403)
لشمسه وإن اعترضها غمّ غيم في مطالع شرفها الأنور، وإعلاما بأنّه غيم يزور ويزول، ونقص لا يقيم إلا كما يذهب عارض من أفول، واعتمادا على ما عرف من وفاء صحابته، وألف من سناء درايته ودرابته، ووصف من أيّام ديونته «1» بعد أيّام حكمه بعد أيّام خطابته!، واستنادا إلى نشأته في بيت العلم المستفاد، والحكم المستجاد، والفضل المستزاد، وتربية الوالد الّذي كان الاختيار يحلف بالفخر أنه ما يرى أظهر من ذات العماد.
فليباشر صحابة ديوان هذين الحرمين الشّريفين بأمل مبسوط، وحال بينما هو منحوس حظّ إذا هو- إن شاء الله- مغبوط، واجتهاد مضمون لجدواه فضل الزيادة، وسير لا يزال بشمسه حتّى تجري لمستقرّ لها من منازل السّعادة، ومباشرة لأوقافها تعان وتعاد أجمل إعانة وأكمل إعادة، وصحابة يتنوّع في نفعها ويتعين حتّى تكون منه عادة ومنها شهادة.
توقيع بنظر الشّعرا «2» وبانياس، من إنشاء ابن نباتة، لمن لقبه «صدر الدّين» واسمه «أحمد» بالعود؛ وهو:
رسم بالأمر- لا زالت صدور الكفاة منشرحة في أيّامه، منسرحة الآمال في إنعامه، ولا برح عوده أحمد إلى المناصب في ظلال سيوفه وأقلامه.
ومنه: فليباشر هذه الوظيفة الشاكرة له أوّلا وآخرا، وليجتهد فيما يزيده من الاعتناء والاغتناء باطنا وظاهرا، وليستزد بشكره من النّعمة فما أخلف وعد المزيد(12/404)
شاكرا، وليحرص على أن يرى أبدا في المراتب صدرا ولا يرى عن ورود الإحسان صادرا.
توقيع بنظر حمص، من إنشاء ابن نباتة، كتب به لابن البدر ناظر حمص بالنّزول من أبيه عند ما أسنّ؛ وهو:
رسم بالأمر- لا زال حسن النّظر من مواهبه، ويمن الظّفر من مراكبه؛ وسقي البلاد صوب العدل من سحائبه، ولا برح سنا البدر من خدمه فإذا أحسّ بالسّرار ألقى الخدمة إلى أزهر كواكبه- أن يستقرّ المجلس......: لما علم من رأيه الأسدّ، وعزمه الأشدّ، ومربى والده حتّى يبين عظم الهناء بالشّبل عندما وهن عظم الأسدّ، وركونا إلى نجابته الّتي سمت أصلا وفرعا، وقدمت غناء ونفعا، وتبسّمت كمائم أصلها المستأنفة حيث كاد الزمان ينعى منه ينعا، واستنادا إلى أنّ الصّناعة شابّة، ونسمات التّمكين هابّة، وإلى أنّ أغصان العزائم نضرة، وإلى أنّ مع القدرة قدرة، وإلى أنّ كوكب العزّ في المنزلة قد خلف بدره، واعتمادا على سهام تنفيذه الصائبة، وأحكام هممه الواجبة، وأقلام يده الّتي تحسن إخراج الأمل فيه وكيف لا؟ وهي الحاسبة الكاتبة.
فليباشر هذا النّظر المفوّض إليه ساميا نظره، زاكيا في الخدمة خبره وخبره، شاكرا هذا الإنعام الّذي برّ أباه وأسعد جدّه ومزيد الإنعام مضمون المزيد «1» لمن شكره، عالما أنّ هذه المملكة الحمصيّة من أقدم ذخائر الأيام، وأكرم ما أفاء الله من غنيمتها وظلّها على جند الإسلام، وأنّها من مراكز الرّماح كما شهر فليمدّها من تدبيره برماح الأقلام، وليواظب بحسن نظره على تقرير أحوالها، وتقريب آمالها، وتأثير المصالح في أعمالها، ولا يحمّص «2» أمرها في التّضييق فكفى ما حمّصتها الأيام على تعاقب أحوالها، بل يجتهد في إزاحة(12/405)
أعذارها بسداد الرّأي الرابح، وإشاعة الذّكر الحسن مع كلّ غاد ورائح، ورفع الأيدي بالأدعية الصالحة في تلك المشاهد للملك «الظاهر» في هذا الوقت والملك «الصالح» ، حتّى يشهد سيف الله «خالد» بمضاء سيف حزمه وعزمه، وحتّى يتوفّر من غرض الخير والحمد نصيب سهمه؛ وتقوى الله تعالى أوّل الوصايا وآخرها فلتكن أبدا في همّة فهمه.
توقيع بنظر الرّحبة «1» من إنشاء ابن نباتة لمن لقبه «تاج الدين» ؛ وهو:
رسم بالأمر- لا زال مليء السّحاب، بسقيا الآمال الواردة، مملوء الرّحاب بكفاة الأعمال السّائدة، مخدوم الممالك والأيّام بأقلام الدواوين الحاسبة وأقلام الدواوين الحامدة- أن يستقرّ.........: لكفاءته الّتي وافق خبرها الخبر، ونشر ذكرها نشر الحبر، وصناعة حسابه الّتي لو عاش «أبو القاسم المعرّي» «2» لم يكن له فيها قسيما، ولو عاصرها «ابن الجرّاح» بقدمه وإقدامه لا نقلب عنها جريح الفكر هزيما؛ بل لو ناو أه الشّديد الماعز لذبح بغير سكين، والتّاج الطويل لرجع عن هذا التّاج الطائل رجوع المسكين.
فليباشر ما فوّض من هذه الوظيفة إليه، ونبّه الاختبار فيها نظره الجميل وناظريه، جاريا على عوائد هممه الوثيقة، ماشيا على أنجح طريق من آرائه وأوضح طريقة، نازلا منزلة العين من هذه الجهة الّتي لو صوّرت بشرا لكان ناظرها على الحقيقة؛ مفرّجا لمضايقها حتّى تكون كما يقال رحبة، مقتحما من حزون أحوالها العقبة وما أدراك ما العقبة؟، فكّ من رقاب السّفّار المعوّقين(12/406)
رقبة، وأطعم أرباب الاستحقاقات في يوم ذي مسغبة، وساعف بتيسير المعلوم كلّ كاتب ذي متربة «1» ، حريصا على أن يغني الديوان بوفره، وتغنّي حداة التّجار بشكره، وعلى أن يقوم رجال الاستخدام في المهمّات بنصره، وعلى أن تساق بفضّيّ قلمه الأموال أحسن سوق، وعلى أنّ يكون لأهل الرّحبة من إحسانه «مالك» ومن جدوى تدبيره «طوق» ؛ والله تعالى يوضّح في المصالح منهاجه، ويعلي على رؤوس الأوصاف تاجه.
توقيع بنظر جعبر «2» قبل أن تنقل إلى عمل حلب، من إنشاء ابن نباتة، كتب به «لهبة الله بن النفيس» ؛ وهو:
رسم بالأمر- لا زالت المناصب في دولته الشريفة تستقبل هبة الله بشكرها، ونتائج الذّكر النّفيس بمقدّمات نشرها وبشرها- أن يرتّب.........: لكفاءته التي اشتهرت، وأمانته التي طهرت فظهرت، ومباشرته الّتي ضاهت نجوم السماء إذا زهرت، ونجوم الأرض إذا أزهرت، وأنّه الّذي جرّب عزمه فزكا على التّجريب، ورقي في مطالع التّدريج والتّدريب، ونصّ حديث اجتهاده المقرّب فكان سابقا على النّصّ والتّقريب، وأنّ هذه البقعة المباركة ممّن أطاب التّاريخ خبرها، وقصّ سيرها، وحمد صاحبها العقيليّ من قديم أثرها، وعرف بركتها لمّا استسقى بها من السّماء على لسان بعض الحيوان مطرها.
فليباشر هذا الثّغر المحروس بكفاءة باسمة، وعزمة كالحسام لأدواء الأمور حاسمة، ورأي للنّجاح حسن الاستصحاب، وتثمير كما ملأ الرّحبة(12/407)
فليملأ بمضاعفته الرّحاب، موفّرا العدد للحواصل وحواصل العداد، فاتحا لأفواه القفول بذكره الجميل في التّهائم والنّجاد، ماشيا فيما يأتي ويذر على سداد الطّرق وطرّق السّداد.
توقيع بنظر البقاع «1» ، من إنشاء ابن نباتة؛ وهو:
رسم بالأمر- لا زال يهنّيء للكفاة رزقا، ويهيّء لتجديد المناصب مستحقّا، ولا برحت البقاع بأيّامه الكريمة تسعد كما تسعد الرّجال ولا تشقى- أن يرتّب...... حسب ما تضمنته مكاتبة الجناب الفلانيّ: منبّها على قدر هذا الناظر المهذّب وصفه، المرتّب على نحو الثناء نعته وعطفه، المشهور بمباشرته انتفاع الوظائف وارتفاعها، الشاهد بكفاءته وأمانته مسالك الأعمال وبقاعها، واعتمادا على مباشرته الزكية، وكتابته الّتي لا يداهنها المداهنون وهي نعم البعلبكيّة.
فليباشر هذه الوظيفة المتيمّنة بمطالع رشده، ومطالب سدّده، عالما أنّ البقاع كالرّجال تسعد وتشقى: فليكن سعدها على قلمه ويده، مجتهدا فيما يبيّض وجه شاكره، حريصا على ازدياد الصفات الّتي كانت في عقد حساب العمل محلّ بنانه فجعلته الآن محلّ ناظره، مثمّرا لأموال النواحي وغلالها، واضعا عن أرباب الاسحقاقات ما عليها من سوء التدبير: من إصرها وأغلالها، محتاطا لنفسه في الحوطات حتّى لا يذكر إلا بخير، ولا يعرف قلمه إلا بمير، ناثرا حبّ حبّه حتّى تهوي إليه ألفاظ الثّناء هويّ الطّير، جاعلا تقوى الله مقصده: فإنّها السبيل إلى فوز الدارين لا غير.(12/408)
الصنف الرابع (مما يكتب لأرباب الوظائف بالشام- تواقيع مشايخ الخوانق، وهي على ضربين)
الضرب الأوّل (ما هو بحاضرة دمشق، وهو على ثلاث مراتب)
المرتبة الأولى (ما يفتتح ب «الحمد لله» )
وهو توقيع شيخ الشيوخ بدمشق: وهي مشيخة الخانقاه الصلاحية المعروفة بالشّميصاتية «1» ، وقد تقدّم أنها يكتب بها أيضا من الأبواب السلطانية.
ثم هي تفرد تارة عن كتابة السّر بالشام، وتارة تضاف إليها.
توقيع بمشيخة الشّيوخ بالشام، من إنشاء الشّيخ جمال الدين بن نباتة، كتب به للشيخ «علاء الدين عليّ» مفردة عن كتابة السّرّ؛ وهو:
الحمد لله الّذي جعل شرف أوليائه عليّا، وفضله الجليل جليّا، واتّصال علائهم كاتصال كوكب الشّرف بإيلاء الخيرات مليّا، وحاضر أفقهم كغائبه إذا سطّرت دعواته واستمطرت هباته كان على كلا الحالين وليّا.
نحمده على توالي النّعم الأنيقة، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تستمرّ بأصلها فروع الحقيقة، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أجدر الخلق بكرم الخليقة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين سلكوا بهداه أحسن طريق وسلكوا في أحسن طريقة، صلاة دائمة لا تزال بها عقائد الإخلاص موثقة وألسنة الذّكر طليقة، وتحيّة إذا بدت في حضرة الادّكار كانت للأعين من النّور نهاره وكانت للأنجم من القدر شقيقه.(12/409)
أما بعد، فإنّ أولى المراتب الدينية بتقديم العناية، وتفخيم الرعاية، وتكريم التولية ولا سيما إذا كانت منتسبة إلى أهل الولاية- مرتبة مشيخة الشيوخ التي يجمع عباد الله الصالحين نطاقها، ويضمّهم رواقها، وتطلعهم مطالع كواكب الهدى آفاقها المنيرة وأوفاقها.
ولما خلت الآن هذه الرّتبة بالشام المحروس من شيخ تدور هذه الطائفة على قطبه، وتجتمع على مائدة قرباته وقربه، وتمشي على قدمه وتناجي صلاح أحوالها عن قلبه- تعيّن أن نختار لها من كملت بالله أداته، وصفت في مشاهد الحقّ ذاته، وزكت في علمي الإبانة والأمانة شهادته المفصحة ومشاهداته، وأجمع الناس على فوائد تسليكه واسلاك قلمه حيث بدت في وجوه الحسن حسناته، ووجوه الشام شاماته، لما شهر من معرفته وعرفانه، ولما دعي له ببقاء نوح لما فاض في العلم من طوفانه، ولما قام في الأذهان من طبقة قدره الموصوف، ولما سار من رسالة أخباره فإذا قالت الآثار: «هذا السّريّ» قال الإيثار: «وفضله معروف» .
فليباشر هذه المشيخة المباركة بصدر للسّالكين «1» رحيب، وبرّ للسائلين مجيب، وفضل يقول الرائد والمريد بدار إقامته: قفا نبك من ذكرى منزل وحبيب، وبشر وبشرى يملآن عين المجتلي ويد المجتدي، وعطف ولطف إذا قال الذّاكر لمن مضى: راح مالكي! قال المعاين: وجاء سيّدي؛ وليراع أمور الخوانق الشاميّة ما غاب منها وما حضر، وما سمع منها وما نظر، وليهذب قلوب ساكنيها حتّى يعود كإخوان الصّفاء من المودّة قوم كانوا إخوان الصّفا من الحجر، قائما بحقوق الرّتبة قيام مثله من أئمّة العلم والعمل، داعيا لهذه الدّولة العادلة فإنّه أقصى دواعي الأمل، معربا- لأنّ العربيّة من علومه- عن الإيضاح غنيّا عن تفصيل الجمل؛ وهو المسلّك «2» فما يحتاج لتسليك درر الوصايا، المخبوء لمثل(12/410)
هذه الزّوايا المبرورة: فنعم الزّوايا المحبوّة بنعم الخبايا؛ والله تعالى يعيد على الأمّة بركاته، ويمتّعهم باستسقاء الغيوث: إمّا ببسطها عند برّه، وإمّا ببسطها عند دعواته.
وهذه نسخة توقيع بمشيخة الشيوخ بالشام أيضا، مضافة إلى كتابة السّرّ به، كتب بها للقاضي ناصر الدين «محمد بن أبي الطّيّب» كاتب السّرّ بالشام ب «المقرّ الشريف» ؛ وهي:
الحمد لله الّذي شرح صدور أوليائه بمعرفة الحقّ واتّباعه، وجعلهم خواصّه الذين غدوا من أتباع الحبيب وأشياعه، ورفع ذكرهم على رؤوس الأشهاد وآواهم إلى مقام الأنس في محلّ القرب بالتّسليك المحمّديّ الّذي أوصل إليه مزيده بانقطاعه، وخصّهم ببركات من حضّهم على الأعمال الصالحة بقصده الجميل وعلمه الغزير واتّضاعه، ومنحهم بمن أوضح لهم الطّريق المستقيم بإبدائه الحقّ وإبدار إبداعه، وغذاهم بالحكمة فنشأوا بالمعرفة وصار لهم العقل السّليم بالتّحفّظ من الأهوية الرّديّة فسلمت لهم الطّيبة على قانون الصّحّة بحسن تركيبه وأوضاعه، وأفاض عليهم من بحر علمه ما نالوا به الرّشد فصاروا أولياء بملازمة أوراده ومتابعة أوزاعه.
نحمده على ما ألهمنا من وضع الشّيء في محلّه، وإيصال الحقّ إلى أهله، وإجابة سؤال الفقراء وإعانتهم بمن أغناهم عن السّؤال بفضائله وفضله، حمدا يعيد كشّاف الكرب على مريديه وطلبته، ويرفع مقام من قام بشعار الدّين بتعظيم قدره وعلوّ درجته، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له الّذي من تقرّب منه ذراعا، تقرّب منه باعا، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة وإذا تقرّب إليه عبده(12/411)
بالنوافل أحبّه، وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ
«1» ، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي أضاءت الأكوان من نور هديه فاهتدت به أصحاب المعارف المسلّمون لموجدهم الأمر والإرادة، ومن هو روح الوجود الّذي أحيا كلّ موجود وسلّك طريق سنّته الموصّلة إلى عالم الغيب والشّهادة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين صفت قلوبهم من الأكدار وإلى التّقوى سبقوا، وصدقوا في المحبّة فاستحقوا ثناء مولاهم: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا
«2» ؛ فمنهم من شمّت من فيه رائحة كبد مشويّة من خشية الله، ومنهم من حدّث بما شاهده ببصره وبصيرته على البعد ورآه، ومنهم من أحيا ليله واستحيت منه ملائكة السماء، ومنهم من اتّخذه أخا إذ هو باب مدينة العلم وركن العلماء، صلاة دائمة تطيّب أوقات المحبّين، وتطرب بسماعها قلوب المتّقين أهل اليقين؛ وسلّم تسليما.
أمّا بعد، فإنّ أولى من قدّمناه إلى أهل الصلاح، ورفعناه إلى محلّ القرب وروح الأرواح، وحكّمناه على أهل الخير، ومكّنّاه في حزب الله الّذي غلب لمّا اجتهدوا على إخراج حزب الشّيطان من قلوبهم وزحفوا على قراره بجيش التّقوى وسمتهم الزّهد وحسن السّير، وولّيناه أجلّ المناصب الّذي تجتمع فيه قلوب الأولياء على الطّاعة، وأحللناه أرفع المراتب الّذي خطبه منهم خيار الجمع لجلوة عروس الجمال في الخلوة بعقد ميثاق سنّة المحبّة وشهادة قلوب الجماعة- من جمّله صورة ومعنى، وافتخر به أحاد ومثنى، وباشره على أحسن الوجوه، وبلّغ كلّا من مريديه وطلبته من فضائله وفضله ما يؤمّله ويرجوه، ومدّ موائد علومه المحتوية على أنواع الفضائل المغذّية للقلوب، وجلس في حلل الرّضا فكسا القوم الذين لا يشقى بهم الجليس ملابس التّقوى المطهرة من العيوب،(12/412)
وظهر في محفلهم للهداية كالبدر وهم حوله هالة، وكان دليلهم إلى الحقّ فغدوا بتسليكه من مشايخ الرّسالة، وجاهد في بيان معاني القرآن العظيم حتّى قيل لمّا فسّره: هذا «مجاهد» ، واستدلّ على تنزيه من تكلم به- سبحانه- عن التشبيه والتعليل «وفي كلّ شيء له آية تدلّ على أنّه واحد» ، ونقل الحديث المحمّديّ الذي هو «موطّأ» لتفهيم «الغريب» منه وميز «صحيحه» لكّل «مسلم» فأطرب بسماعه الوفود، وأفاد العباد «تنبيه الغافلين» فقاموا في الخدمة فأصبحوا تعرفهم بسيماهم: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ
«1» ، وخفض جناحه الّذي عبر به الشّعرى العبور والنّسر الطائر «2» ، وسار إحسانه إلى طوائف الفقراء فصار مثلا فحبّذا «المثل السّائر» .
وكان فلان- أعاد الله تعالى من بركاته وأسبغ ظلاله- هو الّذي أقامه الله تعالى لهذه الطائفة المباركة مرّة بعد مرّة، وذكرت صفاته الجميلة فكان مثله للعيون قرّة، واتّصف بهذه الصّفات الّتي ملأت الأفواه والمسامع كما ملأت مرءآته المقل، وحصل البشر بمعروفه الذي تتبعه السريّ «أبو يزيد» «3» فجرى على عادة القوم الكرام ووصل، ونبعت عناصر فضائله فكانت شراب الذين صفت قلوبهم من كدرها، وأمطرت سحائب علومه الإلهيّة الدارّة من سماء الحقيقة فسالت أودية بقدرها، وظهرت لمعة أنوار شمس معارفه عند التّجلّي على المريد، وساق نفوس القائمين لمّا عزّ مطلبهم بأصله الّذي شرح طلاسم قلب الفاني بذكر الباقي فغرقوا في بحار المحبّة وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ
«4» .(12/413)
فلذلك رسم بالأمر العالي- لا زال يرفع أهل العلم والعمل إلى أعلى مقام، ويبني لهم في جنّات القرب قصور الرّضا: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها
«1» ومزيدهم الإكرام- أن تفوّض إليه مشيخة الشيوخ بالشام المحروس: وظيفته التي خرجت عنه، المرسوم الآن إعادتها عليه، عوضا عمّن كانت بيده، بمعلومي النّظر والمشيخة الشاهد بهما ديوان الوقف المبرور إلى آخر وقت، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، تفويضا نظمت بالقبول عقوده، ودامت في دار السعادة سعوده، وفي درج المعالي صعوده.
فليتلقّ ذلك بالقبول، وليبلّغ الفقراء من إقباله الجمّ الّذي ألجم عدوّه المنى والسّول، وليعامل المريدين بالشّفقة المعروفة من رحمة دينه وإفضاله، وليشمل كلّا منهم بعنايته ولطفه فإنّ الخلق عيال الله وأحبّهم إليه أشفقهم على عياله، وليأمرهم بملازمة إقامة الصّلاة طرفي النهار وزلفا «2» من اللّيل، وإذا مالوا- والعياذ بالله تعالى- يوما إلى منافسة بينهم فليقل: اتّقوا الله ما استطعتم وكونوا عباد الله إخوانا ولا تميلوا كلّ الميل، وليفسح لهم حرم الخير الّذي وقفوا فيه تجاه قصر تعبّده الّذي علا بالجوهر الفرد وقوّة الإخلاص، وليدخلهم منه جنّة إقبال فوائده التي فيها من أبكار معانيه حور مقصورات في خيام أداته لم يطمثهنّ إنس قبلهم ولا جانّ وأعجز قصره العالي وجوهره الغالي كلّ بنّاء وغوّاص، وليجعلهم له على جبل اعتماده ومروة مروءته إخوان الصّفا، وليقمهم في ركن مقام المناجاة إذا زمزم مطرب حيّهم تلقاء أهل الوفا، وليقدّم السابقين بمعرفة حقّهم ونجدتهم بالورع الّذي يغلبون به الشيطان فإنّ حزب الله هم الغالبون، وليداو قلوبهم المرضى بشراب المحبّة وتركيب أدوية الامتلاء من الدنيا ليغتذوا وقت السّحر [بحديث] «3» (هل من تائب) ، ولا يسقهم كاسات تضعف عنها قوّتهم(12/414)
حتّى ينقّوا من بردة الهوى المضرّة ويغتسلوا بحارّ مجاري دموع الخشوع ويلبسوا جديد ملابس التّقى ويغدوا من الحبائب. ومنه تعرف الوصايا، وعنه تنقل المزايا، وكرم الأخلاق والسّجايا؛ وليأمر السالكين بمداومة الأعمال الّتي قامت بحسن العقائد واستقلّت، وليحضّ المريدين أوائل التّسليك على ذلك فإن أحبّ الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قلّت، وليعرّفهم المحبة بذكر الله لئلّا يقوموا على قدم الهيام، وليبيّن لهم المعنى إذا لم يعرفوا المعنى ليقطعوا الهواجر في طلب الصّيام، وليفرّق بين الواردات بملازمة الأوراد لئلّا يقعوا من الاشتباه في حيرة، وليأمرهم بادّخار العمل الصالح لتكون التقوى لقلوبهم قوتا والزّهد ميرة، وليقمع أهل البدع، وليرفع من اتّضع، وليتفقد أحوال أوقافهم بجميع الخوانق والرّبّط والزوايا بالجميل من النّظر، وليزد في الأجور بما يؤثّر فيها نظره الذي ما زال لهم منه أوفر نصيب فحبّذا العين والأثر؛ والوصايا وإن كثرت فهو مفيدها وعنده منبعها، وتقوى الله الّذي هو شيخها ومريدها في بيته المبارك حلاوة ذوقها ومجمعها؛ والله تعالى يكلؤه في اللّيل والنهار بآياته البّينات، ويرفعه بها ويرقّيه إلى أعلى الدّرجات.
المرتبة الثانية (من تواقيع مشايخ الأمكنة بحاضرة دمشق- ما يفتتح ب «أمّا بعد حمد الله» ؛ وفيها وظائف)
نسخة توقيع بمشيخة إقراء القرآن، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، كتب به للشيخ شهاب الدين «أحمد بن النقيب» ب «المجلس العالي» ؛ وهي:
أمّا بعد حمد الله رافع شهب الهدى أعلاما، وجاعل رتب أفضلها أعلى ما، ومحلّ أحمدها من مدارس الآيات منازل بدر إذا محا المحاق من هذا اسما أثبت من سموّ هذا قمرا تماما، ومسكنه من مواطن الذكر جنّات قوم بارتقائهم وبقاء ذكرهم خالدين فيها حسنت مستقرّا ومقاما، والصلاة والسلام على سيدنا(12/415)
محمد أرفع من اتّخذ القرآن إماما، وأنفع من عقد استحقاق النّبوّة على حمده خنصرا وجلا الحقّ بهداه إبهاما، وعلى آله وصحبه أمنع من لبس بسرد الآيات درعا واقتسم من بركتها سهاما- فإنّ وظيفة يكون القرآن الكريم، ربيع فصلها وفضلها، ورتبة يكون الذّكر الحكيم، مداوي قلوب جفلها، ومشيخة يكون مريد الآيات البيّنات وارد زوايا أهلها- لأحقّ أن تتخيّر لها الأكفاء من ذوي الفضل الأثير، والأدلّاء على أشرف نتاج الهداية من ذوي الحلم الساكن والعزم المثير.
ولما كانت مشيخة إقراء القرآن بالتّربة المعروفة بأم الصالح بدمشق المحروسة، هي كما يقال: أمّ العلم وأبوه، وأخوه وحموه، وصاحبته وأهل الكتاب والسّنة بنوه، وخلت الآن من شيخ [كان] «1» يحمي حماها، وتقسم الخلوات والآيات من بركته وتلاوته ب «الشّمس وضحاها والقمر إذا تلاها» ، وكان فلان هو الذخيرة المخبوءة لهذا الأمر، وذو السّيرة المحبوّة بهذا الشّرف الغمر، وصاحب القراءة والبيان الّذي لا يعوز زمان طلبته [أبو] «2» عمر ولا أبو عمرو، والجامع لعلوم كتاب الله تعالى جمع سلامة في فنّه، وصحّة في شرف ذهنه، وجواز أمر يشهد أنّ البحر يخرج [لدى] «3» المشكلات من صدره ويدخل عند عقد الحبا في ردنه، والقاريء الّذي إذا قال مبيّنا قال الّذي عنده علم الكتاب، والتّالي الّذي إذا قصر أو مدّ، مدّ إلى سموات العلى بأسباب، والمشير إلى علمه المرسوم بمصحفه فلا عدم إشارته ومرسومه أولو الألباب، والمجلّي وإن سمّاه العرف تاليا، والمنقّب عن غوامض التّفسير: و «ابن النقيب» أولى بسند التّفسير عاليا، والإمام السّنّي وإن سمّاه الشرع الإمام الحاكم دهرا وأقام له في أفق كلّ فضل داعيا، والسّامي الّذي يسلك بفخره على «العراقيّ» أوضح محجّة، والعربيّ الّذي ما «للفارسيّ» دخول في باب تيقّنه وإن جاء بحجّة، وذو(12/416)
الرّوايات المروية سحائبه، وخلف العلماء الأبيض فما «خلف الأحمر» ممّا يقاربه، ولا «ثعلب» مما تضجّ لديه ثعالبه، ولا «ابن خروف» مما يدانيه وهو «اللّيث» ومن الأقلام مخالبه، وبقية السادة القرّاء المنشد قول الحماسيّ:
وإنّي من القوم الذّين هم هم ... إذا مات منهم سيّد قام صاحبه!
بدور سماء، كلّما غاب كوكب، ... بدا كوكب، تأوي إليه كواكبه! «1»
تعيّن أن يخطب لهذه المشيخة خطبة الفتى لاقتبال مجده والشّيخ لتوقيره، ويطلب لهذه الرتبة طلبا يقضي الأمل فيه بعنوان تيسيره.
فرسم بالأمر الشريف أن يستقرّ......: وضعا للأشياء في محلّها، ورفعا لأقدار الأفاضل إلى أعلى رتب الفضل وأجلّها، وعلما بمقدار هذا العالم السابق في أفق الهدى شهابا، المدفّق على رياض العلم سحابا، النّاقل إلى مجالس الاشتغال خطا يقول لها المؤمن بالإكرام والكافر بالإرغام: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
«2» فليباشر هذه الوظيفة مباشرة مثله من ذوي الأناة والإفادة، وكفاة المناصب الذين على سعيهم الحسنى وعلى الدّولة تصل الزّيادة، وليسلك في الأشغال عادة نطقه الأحسن، وليعامل طلبته في المباحث بغير ما ألفوا من الخلق الأخشن، وليعلم أنّه قد جمع بين برّه وتربة الأمّ كي تقرّ عينها ولا تحزن؛ فليسرّها بنبله، وليبرّها بفضله، وليوفرّ السّعي إليها كلّ وقت في المسير، وليفسّر أحلام أملها فيه فمن مفردات علومه التّفسير، وليحسن لتلامذته الجمع، وليحم حمى رواياتهم من الخطإ ولا عجب أن يحمى حمى السّبع! تاليا كلام ربّه كما أنزل وحسبه، داعيا بنسب قراءته إلى ابن كعب «3» فحبذا نسبه المبارك وكعبه، ناصبا بمنظر شخصه(12/417)
أشخاص أمثاله الأول بعد ما ضمهم صفيح اللّحد وتربه، حتّى يميس «الكسائيّ» في برد مسرّته الفاخر، ويفتح عيون «حمزة» على زهرات روض عبق المباخر، ويترنّم ورشان «ورش» «1» في الأوراق على بحره الزّاخر، ويظهر بفضله ذكر «الشّاطبيّ» فيكون «القاضي الفاضل» رحمه الله قد أظهره في الزمن الأوّل و «القاضي الفاضل» أجلّه الله قد أظهره في الزمن الآخر؛ وتقوى الله تعالى كما علم ختام الوصايا البيض فليتناول مسكها الذي هو بشذا المسك ساخر، والله تعالى ينفع بعلوم صدره الّذي ما ضاق عن السّؤال فملّه، ويمتع بعلوّ قدره الّذي إن لم يكن هو لفضل الثناء فمن له.
المرتبة الثالثة (من تواقيع مشايخ الأماكن بحاضرة دمشق- ما يفتتح ب «- رسم بالأمر» )
توقيع بمشيخة الجواليقية، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة؛ وهو:
رسم بالأمر- لا زال حسن اعتقاده يستنزل النّصر فينصر، ويستبصر مطالع الفوز فيبصّر، ويستجلب الأدعية الصالحة من كلّ زاهد إذا حام في أفق العبادة حلّق وما قصّر- أن يستقرّ......: حملا على الوصية التامّة الحكم والأساس؛ وعلما بأنّه ممّن حلّ في مشيخته لباس بلاس «2» ، ونزع في الزّهد عما عدّ زينة في النّاس، وسرّح شعره حقيقة التّسريح فأطلقه، ومحارقّ سواده وبياضه فأعتقه، ولازم طريق مشايخه فما، وشكر الحال فجعل في منبت كلّ شعرة لسانا للشّكر وفما، وسرّ طائفة وردوا على آثاره مناهل الوفا، وصفت(12/418)
قلوبهم ووجوههم فدارت عليهم كؤوس إخوان الصّفا، حتّى مشوا إلى مطالب الخير مشي الرّخاخ «1» ، وفاخروا أقواما دنّسوا عزّة رتبتهم فلولا أدبهم لا نشدوهم: «عقول مرد ولحى أشياخ» .
فليقم في مشيخة قياما يحيي القوم بأنفاسه، ويبهجهم بكرامة الكشف من قلبه وتكريم الكشف من راسه، سالكا بهم في طرائق الخير مستبشرين، آمرا بتقصير الملابس ورعا حتّى يدخل بهم إلى النّسك محلّقين ومقصّرين؛ والله تعالى ينفع به، ويغني حاله بمذهب مذهبه.
الضرب الثاني (من تواقيع مشيخة الأماكن- ما هو بأعمال دمشق؛ وفيه مرتبة واحدة، وهي الافتتاح ب «- رسم» )
وهذه نسخ تواقيع من ذلك:
نسخة توقيع بمشيخة الحرم الخليليّ، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، كتب به للشيخ «شمس الدين بن البرهان» الجعبريّ ب «المجلس» ؛ وهي:
رسم بالأمر الشريف- أعلاه الله تعالى، وبسط عدله الّذي لا يبلغه الواصف ولو تغالى، وسرى لأولياء بني الأولياء ببرّه الّذي تسنّن بسنّة الغيث ثم توالى- أن يستقرّ......- أدام الله تعالى ببركته الانتفاع، وباقتداء سلفه الارتفاع، وأعاد من بركات بيته الّذي قام البرهان بفضله وقال بوضوح شمسه الإجماع- في مشيخة حرم سيدنا الخليل صلوات الله عليه وسلامه، على عادته القديمة المقدّمة، ومستقرّ قاعدته المعلومة المعلمة، بعد إبطال ما كتب به لغيره فإنّ هذا الوليّ أولى، ولأنّ الحقّ معه وباع الحقّ أطول على المعنيين إطالة «2» وطولا، وضعا للشّيء في محلّه الفاخر، وحملا على ما بيده من تواقيع شريفة(12/419)
توارث بركتها ملوك البسيطة في الأوّل والآخر، وعلما أنّه بقيّة العلم المشيد، والزّهد العتيد، وخليفة السّلف الصالح وما منهم إلّا من هو «أمين» العزم «رشيد» ، وأنّه الشيخ وكلّ من عرفه في بقائه ولقائه مريد، والقائم بالمقام الخليليّ- صلوات الله تعالى على ساكنه- مقاما مجتبى، والمنتسب إلى خدمة الحرم الإبراهيميّ مخدوما صلّى الله عليه ونسبا، والقديم الهجرة فلا تتركه الأوطان ولا تهجره، والمقيم بالبلد الخليليّ على إقامة الخير: فما ضرّه أنّ العدوّ يشكوه إذا كان «الخليل» يشكره؛ وقد سبقت له مباشرات في هذا الحرم الشريف فكان عزمها تماما، وشكرها لزاما، وكانت على الصّادرين كتلك النّار النبويّة بردا وسلاما.
فليعد إلى مباشرة وظائفه المذكورة في التواقيع الشريفة الّتي بيده، وليكن يومه في الفضل زائدا على أمسه مقصّرا عن غده، بثناء يتلقّى أضياف أبي الأضياف، بأليف أحوال الداخلين إليه شتاء وصيفا وإن لم تكن رحلة إيلاف، جاريا في بركة التّدبير والتثمير على عادته وعادة سلفه فنعم الخلف ونعم الأسلاف، مواظبا على عادة تقواه ورفع الأدعية لهذه الدّولة الشريفة، جاعلا ذلك منه أوّل وآخر كلّ وظيفة؛ والله تعالى ينفع ببركات سلفه وبه، ويكافيء عن الأضياف بسط راحته بالخيرات وفضل تعبه.
توقيع بمشيخة الزاوية الأمينية بالقدس ونظرها، كتب به للقاضي «برهان الدين» بن الموصلي ب «الجناب العالي» ؛ وهو:
رسم ... - لا زال يجري الأولياء في مقاصدهم على أجمل عادة، ويختار منهم لمواطن الخير من يرعاها بنظر يثمّر لها السّعادة- أن يحمل فلان في وظيفتي النظر والمشيخة بالزاوية الأمينيّة بالقدس الشريف، على حكم النّزول والتقرير الشّرعيّين المستمرّ حكمهما إلى آخر وقت، واستمراره في الوظيفتين المذكورتين بمقتضاهما، ومنع المنازع بغير حكم الشرع الشريف.(12/420)
فليباشر ذلك بما يقتدى به من تسليكه وتأديبه، وتسرّع رغبته في هذا المقام ومن عناية تهذيبه؛ والوصايا كثيرة ولكن لا تقال لمثله إذ هو معلّمها، وتقوى الله سبحانه أهمّها وأعظمها؛ والله تعالى المسؤول أن يرشدنا إليها، وأن يجعل في كلّ الأمور اعتمادنا عليها، بمنّه وكرمه!.
الصنف الخامس (ممّا يكتب لأرباب الوظائف بالشام- تواقيع العربان)
والّذي وقفت عليه من ذلك مرسوم مكتتب بربع تقدمة بني مهديّ ب «المجلس السامي» بغير ياء، كتب به ل «- موسى بن حناس» مفتتحا ب «أما بعد» ؛ وهو:
أما بعد حمد الله تعالى الّذي جمع على الطاعة الشريفة كلّ قبيلة، وبسط على ذوي الإخلاص [ظلال نعمه] «1» الظّليلة، والشهادة بأنّه الّذي لا إله إلّا هو وحده لا شريك له شهادة أتخذها للتوحيد دليله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ورسوله الّذي اتخذه الله تعالى حبيبه وخليله، وآتاه الدّرجة الرفيعة والوسيلة، وعلى آله وصحبه صلاة مباركة أصيلة- فإن الأولى لتزكية القوم ترعى «2» ، وذا الإخلاص ينجح له كلّ مسعى، والجدير بالنّعم من يجيب بالطّاعة حين يدعى، من سلك في الخدمة الشريفة مسلك الأسلاف، وتجنّب ما يفضي إلى الشّقاق والخلاف؛ فعند ذلك رفعنا مراتبه، وضاعفنا مواهبه، وأنرنا بالإقبال الشّريف كواكبه، وأجملنا مكاسبه، وبسطنا في ربع تقدمة بني مهديّ كلامه، ونفّذنا أمره على طائفته: قوله وإبرامه، من أضحى مشكورا من كلّ جانب، مجتهدا في المصالح وبلوغ المآرب، من عرف بالأمانة فسلكها، واشتهر بالصّيانة فملكها، وحاز أوصافا حسنة، وسيرة نطقت بها الألسنة، وكان فلان هو الذي أضحى على عربانه مقدّما، ومن أكابرهم معظّما.(12/421)
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا زالت مراسمه الشريفة عالية نافذة، وأوامره بصلة الأرزاق عائدة- أن يستقرّ...... على عادته وقاعدته: حملا على ما بيده من التوقيع الكريم.
فليباشر هذه الإمرة مع شركائه مباشرة حسنة، وليسر فيها سيرا تشكره عليه الألسنة، وليظهر السّداد، وليبذل الطّاعة والاجتهاد، وليسلك المسالك الحسنة؛ والله تعالى يجعله من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، والوصايا كثيرة وملاكها تقوى الله تعالى؛ والله تعالى يجعل إحساننا إليه يتوالى.
قلت: وقد تقدّم أنّه يكتب بإمرة بني مهديّ من الأبواب السلطانية أيضا.
على أنّ هذا التوقيع من التواقيع الملفقة، ليس فيه مطابقة للتواقيع، وليس برائق اللفظ، ولا مؤنق المعنى.
الصنف السادس (مما يكتب لأرباب الوظائف بالشام- تواقيع زعماء أهل الذّمة: من اليهود والنصارى)
وهذه نسخة توقيع لبطرك النصارى مفتتحا ب «أما بعد» كتب به للبطرك «ميخائيل» وهي:
أمّا بعد حمد الله الّذي جعلنا نشمل كلّ طائفة بمزيد الإحسان، ونفيض من دولتنا الشريفة على كلّ بلد اطمئنانا لكلّ ملّة وأمان، ونقرّ عليهم من اختاروه ونراعيهم بمزايا الفضل والامتنان، والشّهادة بأنّه الله الّذي لا إله إلّا هو الواحد الذي ليس في وحدانيته قولان، والفرد المنزّه عن الجوهر والأقنوم والوالد والولد والحلول والحدثان، [شهادة] «1» أظهر إقرارها اللّسان، وعملت بها الجوارح والأركان، والصّلاة والسلام على سيدنا محمد عبده ورسوله المبعوث إلى كافّة الملل والإنس والجان، الذي بشّر به عيسى وآمن به موسى وأنزل عموم رسالته(12/422)
في التّوراة والإنجيل والزّبور والفرقان، فصحّ النّقل بنبوّته وآدم في الماء والطّين وأوضح ذلك البرهان، وعلى آله وصحبه الذين سادوا بإخلاص الوحدانيّة، وشادوا أركان الملة المحمّديّة، وأعزّوا الإيمان وأذلّوا الطّغيان، صلاة ينفح طيبها، ويفصح خطيبها، ويفرح بها الرحمن- فإنّ أولى من أقمناه بطريكا على طائفة النصارى الملكيّة، على ما يقتضيه دين النصرانية والملّة العيسويّة، حاكما لهم في أمورهم، مفصحا عما كمن في صدورهم- من هو أهل لهذه البطريكية «1» ، وعارف بالملّة المسيحيّة، أخذه لها «2» أهل طائفته، لما يعلمون من خبرته ومعرفته، وكفايته ودربته، وندب إلى ولاية يستحقّها على أبناء جنسه، ورغب في سلوكه لها مع إطابة نفسه، مع ما له من معرفة سرت أخبارها، وظهرت بين النّصارى آثارها، وكان فلان- أدام الله تعالى بهجته- هو من النصارى الملكيّة بالمعرفة مذكور، وسيره بينهم مشكور، القائم فيهم بالسّيرة الحسنة، والسّالك في مذاهبهم سيرا تشكره عليها الألسنة.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا زال إحسانه العميم لكلّ طائفة شاملا، وبرّه الجسيم لسائر الملك بالفضل متواصلا- أن يستقرّ بطركا على النصارى الملكيّة بالشام وأعماله، على عادة من تقدّمه في ذلك، وتقوية يده على أهل ملّته، من تقادم السنين بحكم رضاهم، ومنع من يعارضه في ذلك: حملا على ما بيده من التوقيع الكريم المستمرّ حكمه إلى آخر وقت.
فليباشر هذه البطركية مباشرة محمودة العواقب، مشكورة لما تحلّت به من جميل المناقب، وليحكم بينهم بمقتضى مذهبه، وليسر فيهم سيرا جميلا ليحصل لهم غاية قصده ومأربه، ولينظر في أحوالهم بالرّحمة، وليعمل في تعلّقاتهم بصدق القصد والهمّة، وليسلك الطريق الواضحة الجليّة، وليتخلّق بالأخلاق المرضيّة، وليفصل بينهم بحكم مذهبه في موارثهم وأنكحتهم،(12/423)
وليعتمد الزّهد في أموالهم وأمتعتهم، حتّى يكون كلّ كبير وصغير ممتثلا لأمره، واقفا عندما يقدّم به إليه في سرّه وجهره، منتصبين لإقامة حرمته، وتنفيذ أمره وكلمته؛ وليحسن النظر فيمن عنده من الرّهبان، وليرفق بذوي الحاجات والضّعفاء: من النّساء والصّبيان، والأساقفة والمطارنة والقسّيسين زيادة للإحسان، إحسانا جاريا في المساء والصّباح، والغدوّ والرّواح.
فليمتثلوا أمره بالطّاعة والإذعان، وليجيبوا نهيه من غير خلاف ولا توان؛ ولا يمكّن النّصارى في الكنائس من دقّ الناقوس، ورفع أصواتهم بالضّجيج ولا سيما عند أوقات الأذان لإقامة النّاموس، وليتقدّم إلى جميع النصارى بأنّ كلّا منهم يلزم زيّه، وما جاءت به الشروط العمريّة «1» لتكون أحوالهم في جميع البلاد مرعيّة، وليخش عالم الخفيّات، وليستعمل الأناة والصّبر في جميع الحالات؛ والوصايا كثيرة وهو بها عارف، والله تعالى يلهمه الرّشد والمعارف.
قلت: وهذا التوقيع فيه ألفاظ ومعان غير مستحسنة، وألفاظ ومعان منكرة، أفحشها قوله: مفصحا عما كمن في صدورهم. فإنّه لا يعلم ما تخفي الصدور وتكنّه إلّا الله تعالى.
واعلم أنّه ربما افتتح توقيع البطريرك عندهم ب «- رسم بالأمر» .
توقيع لبطرك النصارى بالشام أيضا، كتب به للبطريرك «داود الخوري» ب «البطرك المحتشم» ؛ وهو:
رسم بالأمر- لا زال يعزّ بالالتجاء إلى حرمه من يأوي إليه، ويقصد عدله(12/424)
من أهل الملل ويعتمد عليه- أن يستقرّ فلان- وفّقه الله تعالى- بطريرك الملكية، بالمملكة الشريفة الشاميّة المحروسة، حسب ما اختاره أهل ملّته المقيمون بالشام المحروس ورغبوا فيه، وكتبوا خطوطهم به، وسألوا تقريره في ذلك دون غيره؛ إذ هو كبير أهل ملّته، والحاكم عليهم ما امتد في مدّته، وإليه مرجعهم في التّحريم والتّحليل، وفي الحكم بينهم بما أنزل الله تعالى في التّوراة ولم ينسخ في الإنجيل؛ وشرعته مبنيّة على المسامحة والاحتمال، والصّبر على الأذى وعدم الاكتراث [به] «1» والاحتفال.
فخذ نفسك في الأوّل بهذه الآداب، واعلم بأنّ لك في المدخل إلى شريعتك طريقا إلى الباب «2» ؛ فتخلّق من الأخلاق بكلّ جميل، ولا تستكثر من متاع الدنيا فإنه قليل، وقدّم المصالحة بين المتحاكمين إليك قبل الفصل البتّ فإنّ الصّلح كما قيل: سيّد الأحكام، وهو قاعدة دينك المسيحيّ ولم تخالف فيه المحمديّة الغرّاء دين الإسلام، ونظّف صدور إخوانك من الغلّ ولا تقنع بما ينظّفه ماء المعمودية من الأجسام «3» ؛ وإليك الأمر في البيع، وأنت رأس جماعتك والكلّ لك تبع؛ فإيّاك أن تتخذها لك تجارة مربحة، أو تقتطع بها مال نصرانيّ تقرّبه فإنّه ما يكون قد قرّبه إلى المذبح وإنّما ذبحه؛ وكذلك الديارات والقلالي «4» ، [يتعين عليه أن يتفقّد فيها كل أمر في] «5» الأيام والليالي،(12/425)
وليجتهد في إجراء أمورها على ما فيه رفع الشبهات، وليعلم أنّهم إنّما اعتزلوا فيها للتّعبد فلا يدعها تتّخذ متنزّهات؛ فهم إنّما أحدثوا هذه الرّهبانية للتّقّلل في هذه الدنيا والتّعفّف عن الفروج، وحبسوا فيها أنفسهم حتّى إنّ أكثرهم إذا دخل إليها ما يعود يبقى له خروج؛ فليحذّرهم من عملها مصيدة للمال، أو خلوة له ولكن «1» بالنّساء حراما ويكون إنّما تنزّه عن الحلال؛ وإيّاه ثم إيّاه أن يؤوي إليه من الغرباء القادمين عليه من يريب، أو يكتم عن الإنهاء إلينا مشكل أمر ورد عليه من بعيد أو قريب؛ ثم الحذر الحذر من إخفاء كتاب يرد [إليه] «2» من أحد من الملوك، ثم الحذر الحذر من الكتابة إليهم أو المشي على مثل هذا السّلوك؛ وليجنّب البحر وإيّاه من اقتحامه فإنّه يغرق، أو تلّقي ما يلقيه إليه جناح غراب منه فإنّه بالبين ينعق؛ والتّقوى مأمور بها أهل كلّ ملّة، وكلّ موافق ومخالف في القبلة؛ فليكن عمله بها وفي الكتابة ما يغني عن التصريح، وفيها رضا الله تعالى وبها أمر المسيح.
توقيع برآسة اليهود بالشام، [جاء] مفتتحا «برسم» من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، وهو:
رسم بالأمر- لا زال جوده في كلّ ملّة، وغمام كرمه على الخلق كأنه ظلّة، وذمام نعمه يبلّغ المسلم والذّمّيّ من الاستحقاق محلّه، أن يستقر الحكيم [فلان] «3» ومنه:- وأن يعاملهم على ما ألفوه من الأحكام، وينصف صاحب حقّهم(12/426)
من متطلّبهم: حتّى لا يعدو أحد في سبت ولا في سائر الأيّام، ويهذّب وحشيّ جاهلهم بإيناسه، ويعالج سقم كاهلهم حتّى تطلع الصّفراء من راسه.
فليقم مقاما في هذه الطائفة القديمة، وليعبّر من أسفار عبرانيّة عن عوائد قضاياهم النظيمة، مفرّحا بمعرفته كلّ حرّان، جامعا كلّ شعث على عدل عنده وإحسان، شاكرا لظلل النّعمة، عارفا بالعوارف الّتي ترعى يمينها كلّ ذمّة.
النيابة الثانية (من النيابات الّتي يكتب عن نوابها بالولايات- نيابة حلب)
وهي على نحو من نمط دمشق فيما يكتب عن نائبها؛ فيكتب عن نائبها أيضا بالتواقيع لأرباب الوظائف بحاضرة حلب وأعمالها: من أرباب السّيوف، وأرباب الأقلام الدّينية، وأرباب الأقلام الديوانية، ومشايخ الأماكن وغيرهم، مرتّبة على المراتب الثلاث: من الافتتاح ب «الحمد لله» ، والافتتاح ب «أمّا بعد حمد الله» ، والافتتاح ب «- رسم بالأمر» .
وهذه نسخ تواقيع مما كتب به لأرباب السيوف بحاضرة حلب وأعمالها، يستضاء بها في ذلك:
توقيع بنقابة الأشراف «1» ، كتب به للشريف عزّ الدّين «أحمد بن أحمد الحسيني» ب «المقرّ العالي» ؛ وهو:
أمّا بعد حمد الله الّذي خلّد السيادة في بيوت الشّريف أحمد تخليد، وقلّد تقاليد السّعادة، لأهل الإفادة، أسعد تقليد، وجدّد الوفادة، لحرم العبادة، بعزّ العصابة المحمدية آكد تجديد، والصلاة والسلام على سيد الخلق الّذي عقد العهدين لأمّته، بالثّقلين: من كتاب الله وعترته، وسرّ النفوس المؤمنة هداه بكلّ أبيّ من أسرته، وأقرّ العيون المراقبة بكلّ سريّ من أهل بيته تبرق أنوار(12/427)
النبوّة من أسرّته، وعلى آله حبل النّجاة للمتمسّك، وسبل الهداة للمتنسّك، وصحبه نجوم الهدى، ورجوم العدا، وأئمّة الخير لمن بهم اقتدى، صلاة وسلاما، يتعاقبان دواما، ويتلازمان على الألسنة مدى المدى لزاما، ما حلا بعين وطف «1» ، وما علا علويّ ذرا شرف- فإنّ أهمّ ما اعتنى به ولاة أمور الإسلام، وأعمّ ما اقتنى منه رعاة أجور الحكّام- رعاية مصالح أهل البيت، وانتهاز الفرصة في موالاتهم حتّى لا يقال لفواتها: ليت، وتعظيم ما عظّم الله تعالى من حقوقهم، وتكريم ما كرّم رسوله من برّهم واجتناب عقوقهم، وتقديم أحقّهم بالتقديم لا حقّ سبّاقهم إلى غايات الغلوات وسبوقهم، والتّعبد بالتّعب والاجتهاد في نفعهم، ونصب النفوس للنّصب لتجر ذيول الفخر بموالاتهم، وإعلائهم على الرؤوس ورفعهم، اختيارا لرأي من زاد في العناية بالعترة الطاهرة وأربى، وأتمارا بقوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى
«2» خصوصا نقابة الأشراف، والنّظر فيما لهم من الأوقاف؛ فهي شاملة جمعهم، وجامعة شملهم، وواصلة نفعهم، ونافعة كلّهم، وبفضل مباشرها تسبغ عليهم النّعمة، وتستدرّ ببركة إجماعهم عليه سحب الرّحمة، وبكفالته تجمع المنّة لمراتبهم وأحسابهم، وبإيالته تدفع الظّنّة عن مناقبهم وأنسابهم؛ وهو القائم عن ولاة الأمور من خدمهم بفروض الكفاية، والدّائم الدّأب لمرآة أدبهم لتحسن لهم الرّعاية، فوجب الاحتفال باختيار من يحلّي هذا المنصب الشريف، وتعيّن الابتهال في امتياز من يسبغ عليه هذا الظّلّ الوريف، ممّن قدم في هذه السيادة بيته، وارتفع بخفض العيش لقرابته بعفافه وديانته صيته، وتنزّه عن كلّ ما يشين وتبرّا، واكتسى حلل الفخار العلية ومن أعراض الدنيا الدّنيّة تعرّى.
وكان فلان بن فلان- أسبغ الله تعالى ظلالهم، وضاعف بمعالي الشّرف(12/428)
جلالهم- ممّن حاز في هذه الخلال المنازع «1» ، وجاز نهاية هذه الخصال بلا منازع، وورد من حياض المناقب الجميلة أعذب المشارع، ودرى المراقي إلى المجد ودرب، وبلغت نفوس محبّيه من مخايل سعوده الأرب، وقرّت عيون أقاربه بما حصل له من القرب، ونشأ في حجر السّعادة، وارتضع لبان الإفادة، ولحق بالسابقين الأوّلين من أهل بيته في الزّهادة، وتبتّل بالإخلاص فظهرت على وجهه أنوار العبادة، وانقطع على العمل، وبلغ من العلوم الأمل: قؤوم تشبّث بالمجرّة وهو شامة في شامه المنسوب:
ورث السّيادة كابرا عن كابر ... كالرّمح أنبوب على أنبوب
أصل فخار سما، وفرع نجار نما، وغيث فضل همى، أثبت في أعلى المعالي قدما، وناسب قدره سعيه كرما، وجلّت صفات محاسنه اللّائقة، وحلّت الأفواه مدائح سجاياه الرّائقة، وتملّت الألسن وما ملّت ما تملي عنه بالخير كلّ ناطقة.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا زالت أوامره ببرّ آل موالاته ماضية، ونواهيه بقهر أهل معاداته قاضية- أن يستقرّ...... استقرارا يقرّ عين العلا، ويسرّ نفوس أهل الولا، ويضع الأشياء في محلّها، ويسند الأمور إلى أهلها، ويستجلب الأدعية، ويحمل بالولاء الجميل ألوية، ويشرح خواطر الأشراف ويطيّب نفوسهم، ويرفع بعد سجود الشّكر بالدعاء رؤوسهم.
فليباشر هذه الوظيفة مباشرة يقفو بها آثار بيته الطاهر، بعزم كريم: لكلّ مصلح بالخير غامر، ولكلّ مفسد بالضّير قاهر، وحزم حليم: لكلّ حقّ ناصر، ولكلّ كسر جابر، وليصل بالبرّ رحمه، وليلن للضعيف كلمه، وليقم بأعباء هذه الوظيفة قيام عمّه الشّريف وأبيه، وليصم عن أموال الأوقاف صياما يقرّبه الله تعالى به ويجتبيه، ليحمد، هذا المنصب الجليل، في بيته الأصيل، عوده على(12/429)
أحمد؛ ولينفع قرابته بتثمير أموالهم، وليشفع النهضة بالمعرفة في تثمير غلالهم، لتدرّ بركته أخلاف أرزاقهم، وتقرّ خواطرهم بمضاعفة أرزاقهم وإطلاقهم، ويخصب في جنابه مرعاهم، ويقرّب في بابه مسعاهم، وتنطق بشكره ألسنتهم الشريفة، وتنطبق على صحبته ظلال بيوتهم الوريفة، وليعتبر ويختبر أشغالهم وليمنع شبّانهم من الاحتراف بحرف الأدنياء، وليأمر الآباء بتعهّد تربية الأبتاء، وليأمرهم من العمل بما يناسب معاليهم، وليجبرهم بتدبيره السّديد جبرا يميّزهم بحسن السّمت من أوليائهم: وكلّنا من مواليهم.
والوصايا كثيرة، وعين علومه بتعدادها بصيرة؛ وتقوى الله تعالى لا يهمل النّصّ عليها، والإشارة بحسن البيان وحسن البنان إليها؛ فلتكن ركن استناده، ورأس مال اعتماده؛ والله تعالى يديمه في صعود درج السّعود مدّة حياته، ويجمع له خيري الدنيا والآخرة برفع درجاته.
وهذه نسخة توقيع بنقابة الجيوش بحلب، كتب به ل «- ناصر الدين بن أيتبك» ب «السّامي» بغير ياء؛ وهي:
رسم بالأمر الشريف- لا زال أمره الشريف يعضّد الجيوش بأعضد ناصر، ويرشد أولياء الخدمة إلى ارتقاء رتب المعالي فكلّ إنسان عن إدراك محلّها قاصر- أن يستقرّ فلان- أدام الله توفيقه، وجعل اليمن والسّعد قرينه ورفيقه- ... استقرارا يظهر ما لم يخف من نهضته وكفايته، ويشهر معلن سرّ يقظته ودرايته؛ لأنّه الفارس الّذي أعزّ كلّ راجل بشجاعته، والممارس الّذي خبر الوقائع بحسن دربته ودراية صناعته، والعارف الّذي اتّصف بالخبرة وحسن الصّفة، وعرف في أموره بالعدل والمعرفة، والهمام الّذي علت همّته فوق كلّ همّة، وكشف بجزيل مروءته من الكربات كلّ غمّة، وسار في الجيوش سيرة والده، فشهد كلّ بما حواه من طارف الفضل وتالده.
فليباشر ذلك: سائرا في الجنود أحسن سيرة، مراقبا الله تعالى فيما يبديه(12/430)
من القول والفعل والعلانية والسّريرة، ملازما ما يلزمه من حقوق هذه الوظيفة، قائما بما يجب من أداء الخدمة الشّريفة، ولينفّذ ما يؤمر به من الأوامر، عالما بما يتعيّن من حقوق المأمور والآمر، [وليجتهد] «1» في جمع العساكر وإعلامهم بالمهمّات، وليتفقّد أحوال الجند في سائر الأوقات، وليسفر النّقاب عن الوجوه بالحلية يوم العرض، وليسبل حجاب السّتر على من أدركه العجز عن أداء الفرض؛ والوصايا كثيرة لا تحتاج إلى التّعداد، وتقوى الله تعالى هي العمدة في كلّ الأمور وعليها الاعتماد.
توقيع بالمهمنداريّة «2» بحلب، كتب به ل «غرس الدين الطناحي» ب «الجناب العالي» ؛ وهو:
رسم بالأمر الشريف- لا زالت عزائمه تندب للمهمّات من غرست برياض وليّه أدواح الهمم فزكا غرسا، وتقرّر لها من شاب فوده في إفادة الوفود فأجاب قصدا وأطاب نفسا، ولا برحت عنايته تشمل من أولياء خدمها كلّ شهم إذا سلّ عضبا أزال نفسا وأسال نفسا، وتعيّن من أعيانهم كلّ جميل يودّ المنافس لو شاهده ولا تبخس يد الرّقيّ منه نفسا- أن يستقرّ............ لأنّه ذو الهمم الّتي لا تلحق جيادها، ولا تسبق جودة جيادها «3» ، لا منتهى لصغار هممه فأنّى تدرك كبارها، ولا تدرك سوابقه فأنّى تقتفى آثارها؛ له قدم إقدام في الثّرى لا يزال «4» راسخا، وهامة همّة لم يزل شرفها على الثّريّا باذخا، ولأنّه الفارس(12/431)
الذي تفرّست في مخايله الشّجاعة، وتبضّع الشّهامة في الحروب فكانت أربح بضاعة؛ كم أزرت سمر رماحه بهيف القدود، وأخجلت بيض صفاحه كلّ خود أملود «1» ، وكم جرّدت من مطربات قسيّه الأوتار فتراقصت الرؤوس، وشربت الرّماح خمر الدّماء فعربدت على النّفوس:
له همم تعلو السّحائب رفعة، ... وكم جاد منها بالنّفائس والنّفس!
وتجنى ثمار الفضل من دوح غرسه! ... ولا غرو أن تجنى الثّمار من الغرس!
فليباشر هذه الوظيفة مباشرة تحمده فيها الورّاد، وتشكره بالقصد ألسنة القصّاد، وتذكره البريديّة «2» بالخير في كلّ واد، وليهيّء لهم [من القرى ما يهيّئه] «3» المضيف، وليحصّل لهم التّالد منه والطّريف، وليتلقّهم بوجه الإقبال، وليبدأهم بالخير ليحسن له المآل، وليجعل التّقوى إمامه في كلّ أمر ذي بال، وليتّصف بالإنصاف فهو أحمد الأوصاف في جميع الأحوال.
توقيع بتقدمة البريديّة بحلب، كتب به لعماد الدين «إسماعيل» ب «المجلس العالي» ؛ وهو:
رسم بالأمر الشريق- لا زالت عنايته الكريمة تقدّم إلى الرّتب العليّة من بنى أسّ إقدامه من المروءة على أشرف عماد، وتعيّن للمهمّات الشّريفة من امتطى من جياد العزم أسبق جواد، وتندب لها من أولياء خدمه كلّ ندب لم يزل ساعد سعده مبنيّا على السّداد، وتصعد إلى أفقها من ذوي الشّهامة من فاقت بيمينه الصّعاد- أن يستقرّ.......: لأنّه ذو الهمم الّتي سامى بها الفراقد، والكفء الّذي نشط إلى القيام بالعزائم إذا قعد عنها من ذوي الهمم ألف راقد،(12/432)
والمقدّم الّذي قدّمه الإقدام على قضاء الأمور المعضلات، وحلّى أجياد ذوي المآرب إذ حلّ لهم منها بيمن عزمه المشكلات؛ ما علا جواد بريد إلّا وسابق الطّرف «1» بل الطّرف إلى المراد، ولا ندب إلى مهمّ للحكم فيه نيلا لأمل إلّا قدح من رأيه في فضائه أورى زناد، والفارس الّذي تمايلت بكفّه العوامل «2» عجبا فأخجلت الأغصان، وحلت إذ حلّت بقلوب الأعداء وإن كانت من المرّان «3» ، والشّهم الّذي سبق السّهم إلى الغرض، والشّجاع الّذي ما أعرض عن محاربة الأقران: فصفّى جوهر شجاعته من العرض، واليقظ الّذي لم يكن يناظره إنسان، ولا انطبق على أسيافه المسهّدة بيمينه أجفان.
فليباشر هذه التّقدمة مباشرة يشهد الحاسد له فيها بالتقديم، ويقرّ الجاحد أنّه أهدي لما أسدي إليه إلى صراط عزم مستقيم، وليطر إلى قضاء المهمّات الشريفه بأجنحة السّداد، وليمتط من جواد الجوادّ «4» أسبق جواد، وليسوّ بين البريدية في الأشغال، وليقبل عليهم فيما يرومونه من حسن السّفارة بوجه الإقبال، وليسلك سنن الصّدق والتّقوى وليجعلهما له أحسن سنّة، وليلبس سوابغ الإنصاف فإنّها من سهام الخلل جنّة.
نسخة توقيع بنيابة عينتاب «5» ، كتب به لناصر الدين «محمد بن شعبان» ب «المجلس العالي» عوضا عمن كان بها؛ وهي:
رسم بالأمر الشريف- لا زال إحسانه العميم، يرفع لناصر الدين قدرا، وامتنانه الجسيم، ينفّذ له في حفظ الممالك المنصورة أمرا، ويولّي أمر الرّعية(12/433)
من حسنت سيرته سرّا وجهرا- أن يستقرّ.........: لأنه شهم سهم عرفانه مصيب، وفارس ربع خبره وخبره خصيب، له مناقب جليلة، وسيرة محمودة جميلة، تنقّل في المراتب تنقّل البدر في سعوده، وارتقى ذروة السيادة ارتقاء الكوكب في منازل صعوده؛ ما باشر مباشرة إلّا ونشرت له بها أعلام شكره، ولا علا منزلة إلّا تليت بها سور حمده وذكره؛ لم يزل متّبعا للحقّ في أحكامه، سالكا سبل الصّواب في نقضه وإبرامه؛ فتح له إقبالنا الكريم بابه، فلذلك قدّم على غيره في هذه النّيابة.
فليباشرها مقتفيا آثار العفاف، مرتديا أردية العدل والإنصاف، مقيما منار الشرع الشريف، منصفا من القويّ الضّعيف؛ والله تعالى يوفّقه للصواب فيما تولّاه؛ والخطّ الكريم شاهد أعلاه.
قلت: وعلى نيابة عينتاب هذه يقاس ما في معناها من نيابات العشرات «1» ، فيجري الحكم في تواقيعها كذلك. أمّا الطبلخانات «2» فقد تقدّم أنّ الأصل أنّه لا يولّى فيها إلّا من الأبواب السلطانية.
وهذه نسخة مرسوم بإمارة الرّكب الحلبيّ المتوجّه إلى الحجاز الشريف، كتب به لشهاب الدين «أحمد بن الطنبغا» ب «الجناب الكريم» .
والبياض «3» فيه وصل واحد؛ وهي:
رسم بالأمر العاليّ- لا زال يمنح وفد الله تعالى بمن لم يزل شهاب هممه في أفق الصيانة منيرا، ويسند أمرهم إلى كلّ ندب لا يزال على الحقّ ظاهرا وعلى ذوي الباطل ظهيرا- أن يستقرّ فلان من أعيان الموالي الأمراء الطبلخانات(12/434)
بحلب المحروسة- أعزّ الله تعالى نصرته- أميرا على ركب الحاجّ الحلبيّ في هذا العام المقبل، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، حسب ما رسم به، استقرارا يحمد به الوفد عند صباح هممه السّرى، ويبلغ بهم قرى الغفران بأمّ القرى، وينال به طيب العيش بطيبة وطابة «1» ، ويدرك بجياد فضله آرابه، ويمنح به زيارة سيّد البشر عليه أفضل الصلاة والسلام، ويفوّق به سهم إصابته من البشر إلى مرامي المرام، ويشهد به بين قبره ومنبره روضة من رياض الجنّة، ويلبس به سوابغ القبول لتكون له من سهام الذّنوب أوقى جنّة، ويتردّى [به] برود التّقى حين ينزع محرّمات الإحرام، ويقبل به على ذكر الله تعالى في الوهاد والبقاع والآكام، ويستقبل به حرم بيت الله الحرام، ويشبّ له الهنا حين دخوله المسجد من باب بني شيبة، ويتعاطى به أسباب التّوبة، لينال من العفو من الله الكريم سيبه، ولا يقتصر به عن التّطاول إلى الدعاء إلى الله تعالى لتعمّه الرحمة بفضله وطوله، ويدخل به حرما آمنا يتخطّف الناس من حوله، ويفتح به إلى المقام بابا من الأمن إلى يوم القيامة مقيم، ويذكر بوقوفه بعرفات وقوفه يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
«2» فليباشر هذه الإمرة المباركة مباشرة يتيقظ منها لهجر المنام، وليصرف وجه سهامه إليها في المسير والمقام، ولينفق على الحاجّ من كنوز معدلته، وليجعل القيام بمصالحهم من أكبر همّته، وليسع بالصّفا في حراستهم من أهل الفساد، وليعتمد صونهم من ذوي العناد، وليعاملهم بالإرفاد والإرفاق، وليقطع من بينهم شقّة الشّقاق، وليجعل تقوى الله إمامه في القول والعمل.
وهذه نسخ تواقيع لأرباب الوظائف الدينية بحلب:
توقيع بقضاء القضاة، كتب به لقاضي القضاة جمال الدّين «إبراهيم «3» بن(12/435)
أبي جرادة» قاضي قضاة حلب المحروسة الشهير ب «ابن العديم» من إنشاء ... «1» ... الحنفي ب «المقرّ الكريم» ؛ وهو:
الحمد لله الّذي رفع مراتب المناصب العليّة وكساها من ملابس أهلها حلل الجمال، وجمع شملها فاقترنت بإلفها اقتران النّيّرين: شمس الضّحى وبيت الكمال، ورفع عنها يد المتطاول والمتناول فأصبح رقم طرازها الموشّى منتسجا على أحسن منوال، وقطع الأطماع عن إدراك شأوها فلا يصل إليها إلّا كلّ فحل من الرجال.
نحمده على نعمه الّتي اعترف من اغترف من بحرها الوافر بالخير الكامل والفضل المديد، واقترف من اقتطف ثمار جودها جميل النّوال المفيد، وجزيل الإحسان العديد، حمدا يوافي نعمه ويكافي مزيده، ويعمّ بالإنعام الشّامل نائله ومريده، ونشكره على مننه الّتي يقصر لسان الإطناب عن حصرها وتعدادها، وتعجز بنات الفكر عن إدراك وصفها وتردادها، شكرا ينال به العبد رضا المعبود، ويبلغ به من مقاصد الكرم والجود غاية المقصود، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ولا ضدّ، ولا والد له ولا ولد ولا ندّ، شهادة تبيّض وجه قائلها عند العرض، وينطق بها لسان التوحيد يوم تبدّل الأرض غير الأرض، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي أظهر الله به الحقّ وأعلنه، وبهر بحقائق معجزاته العقول فاعترف كلّ بصحّة ما عرّفه وبيّنه، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين نصر الله بهم الإسلام وأبّد أحكامه، وأحكم بهم مباني الإيمان المنيرة وأيد إحكامه، صلاة تتعطّر بنفحات عرفها أرجاء المدارس، وينادي لسان فضلها لرائد فرائد المعالي على طول المدا: رس «2» ، وسلّم ومجدّ وكرّم، وشرّف وبجّل وعظّم.(12/436)
وبعد: فإنّ أولى من لحظته عين العناية والقبول، وأجدر من بلغ من مقاصد المناصب العلية غاية القصد والسّول، وأعزّ من رقي ذرا المعالي وارتقى، وأجلّ من وصف بالأوصاف الجميلة ونعت بالدّيانة والتّقى- من سارت سيرة فضله في الآفاق، ودلّ على صفاء السريرة منه حسن الأخلاق، واشتهر بالعلوم الجزيلة، والمناقب الجليلة، وعرف في الإنصاف بالأوصاف المحمودة والخصال الجميلة، وأظهر من العلوم الشريفة، ما حيّر العقول، وحقّق من المسائل اللّطيفة، ما جمع فيه بين المنقول والمعقول، ودقّق المباحث حتّى اعترف بفضله الخاصّ والعام، وفرّق بين الحقيقة والمجاز فلا يحتاج إلى استعارة إذا تشبّه الأخصام، وحكم بما أراه الله فأحكامه مرضيّة، وقضاياه في الجملة قد أنتجت فهي مقدّمة في كلّ قضيّة، وثابر على إلقاء الدّروس في وقتها وأوانها، وقرّر كلّ مسألة في محلّها ومكانها، وأفاد طلّاب العلم الشريف من فوائده الجمّة، وكشف لهم عن غوامض المباحث فجلا عن القلوب كلّ غمّة، وجال في ميادين الدّروس فحيّر الأبطال، وحاز قصب السّبق في حلبة اللّقاء فردّ متأسّفا كلّ بطال، ونظر في أمور الأوقاف بما أراه الله فأتقن بحسن النظر وجه ضبطها، وأجرى أمور الواقفين على القواعد المرضيّة فوافق المشروط في شرطها، وجمع ما تفرّق من شملها فأجمل وفصّل، وحفظ أموالها فحصّل وأصّل؛ فهو الحاكم المشهور بالعدل والمعرفة، والناظر الّذي حمدت الأمور تصرّفه، والإمام الّذي ائتم الأنام بأقواله وأفعاله، والعالم الّذي يحمد الطالب إليه شدّ رحاله، والمدّرس الّذي أفاد بفقهه المفيد النافع، وترفّع في البداية والنّهاية فهو المختار في المنافع، وسلك منهاج الهداية، فنال من العلوم الغاية؛ فبدائع ألفاظه لعقائد الدّين منظومة، وكنز عرفانه عزيز المطلب ومحاسنه المشتملة على الكمال معلومة.
ولما كان فلان- أعزّ الله تعالى أحكامه، وقرن بالتوفيق والسّداد نقضه وإبرامه، هو المشار إليه بالأوصاف والنّعوت، والمعوّل عليه إذا نطق بالفضائل والحاضرون سكوت، والمشكور أثر بيته المشهور، والمنشور علم علمه من(12/437)
السّنة والشّهور؛ يا له من بيت لم يزل معمورا بالتّقوى والصّلاح، محميّا بأسلحة أهله: فمن أحكامهم السّيوف ومن أقلامهم الرّماح؛ فهو العديم المثل وبيته العديم، وحرم فضل يحجّ إليه الرّاحل والمقيم؛ فاستحقّ أن تقابل مقاصده بالإقبال، ويقابل بما يؤمّله مقابلة مثله ولا كسائر الأمثال.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا زالت مراسمه المطاعة تقرّ الحقّ في يد مستحقّه، وتردّ الأمر إلى وليّه ومالك رقّه، وتسوق هدي الإحسان إلى محلّه، وتضع الاستحقاق في يد مستحقّه والحقّ وضع الشّيء في محلّه- أن يستقرّ......... بحكم ظهور الحقّ بيده المباركة، وخفاء الباطل الّذي ليس له في الحقّ مشاركة، استقرارا مباركا ميمونا، بالخير والسّعد مقرونا؛ لأنّه الأحقّ بأمر وظائفه، والطائف حول حرمها الممنوع طائفه، وأولى من عقلت عليه عقيلته، وردّت إليه فريدته، وباشر بنفسه الكريمة ما عهد إليه سلفه، وانفرد به فلا يناله- إن شاء الله- إلّا خلفه؛ طالما ألفت منه الأوقاف منّ الشّفقة والخير، وحفظ جهاتها المحميّة عن تطاول يد الغير، ونعم بحسن نظره من المدارس كلّ دارس، وفازت منه الدّروس بالعالم العارف والبطل الممارس.
فليباشر ذلك على ما تقدّم له من حسن المباشرة، وليجتهد- على عوائده- في تحصيل ريعه مثابرا على الأجور أشدّ مثابرة، وليصرف أموال الأوقاف في مصارفها، بعد العمارة والتّثمير المبدّأين في شرط واقفها، وليسوّ- على مقتضى معدلته- بين القويّ والضعيف، والشابّ الصّغير والشّيخ النّحيف، على قدر تفاوتهم في العلم الشريف، وليطلق لسانه في إلقاء الدّروس على عادته، وليمهّد للمشتغلين طريق الفهم لينالوا من إفادته؛ وهو بحمد الله تعالى أولى من أدّى الأمور على الوجه المستقيم، ووفّى المناصب حقّها فإنّ الوفاء جدير ب «- إبراهيم» «1»(12/438)
والوصايا كثيرة وإليه مرجوعها، ومن بحار علمه ودينه المتين ينبوعها؛ والله تعالى يؤيّد به المناصب، ويرفع بعلوّ رتبته المراتب.
نسخة توقيع بخطابة جامع، كتب به لقاضي القضاة «كمال الدين عمر» ابن قاضي القضاة جمال الدين إبراهيم «1» بن أبي جرادة الحنفيّ، الشهير بابن العديم ب «المقرّ الشريف» وهي:
رسم بالأمر الشريف- لا زالت عنايته ترقّي في منازل المجد من تتأثّل بفضله بهجة وكمالا، وتذلّل جيادها لفرسان الفضائل فتجيد لهم في ميدان البلاغة مجالا، وتسلّم رايتها [إلى من صدق بارق سعده، ووهب من العلم] «2» ملكا لا ينبغي لأحد من بعده- أن يستقرّ...... لأنّه الإمام الّذي [لو] «3» تقدّم عصره لكان أحد أئمة الاجتهاد، والعارف الّذي بلغ بولايته مريد الفضل غاية المراد، والعالم الّذي وجدت أخبار علومه نسبة يطابقها في الخارج صالح العمل، واتبع سنن الكتاب والسّنّة فلم يتخلّل طريقته المثلى خلل، والمحقّق الذي وجد إلى كنه الحقيقة أكمل مجاز، والمفوّه الّذي بلغ من البلاغة في كلام البشر حدّ الإعجاز؛ إن خطب شنّف بدرر مواعظه الأسماع، وشرّف بغرر فرائده الأسجاع، واهتزّت أعواد المنابر طربا لكلمه الطّيّب، وروّى أوام «4» القلوب سحّ فضله الصّيّب، وإن قرأ في محرابه أقرّ بفضله الجمع الجامع، واستقلّ «ابن كثير» حين وجد «الكسائيّ» عاريا مما لديه وفضله الجمّ أكمل «نافع» :
خطيب إذا الصّادي تصدّى لفضله: ... ليروى، فأنواء العلوم تغيثه!
وإن يرو للجلّاس أخبار أحمد، ... فخير جليس لا يملّ حديثه!(12/439)
وهو الكامل الّذي أدرك درجات الكمال في البداية فأمن في النّهاية وهو قاض من النقص، وسارت عيس الطّلّاب إلى حضرته الكريمة واحدة ولكن بالنّص، والصّاحب الّذي استصحب يسار العفاة باليمين، وأزال ظنّ قاصده في برّه الشامل باليقين؛ كم أطلق بأقلامه المفيدة مكرمة بصلة الأرزاق، ونسخ بمحقّق فضله رقاع «1» الأول بالعطاء على الإطلاق، ولو نظر الملكان: هاروت وماروت ما ملكه من كتابته السّاحرة لأقرّا أنّه السّحر الحلال، ولو قابله «ابن هلال» لا نخسف بدر فضله عند الكمال:
ففي كفّه الأقلام تهزأ بالقنا، ... وتخشى سطاها الأسد في غاب غابها!
يروع سيوف الهند وري «2» يراعه، ... وقد طار من خوف حديد ذبابها!
فليباشر هذه الخطابة مباشرة ترشف منها كؤوس كلمه الأسماع، وليكشف لها عن وجوه فضائله القناع، ولينثر عليهم من درر بلاغته ما تلتقطه أفواه المسامع، ولينشر من طيّ لسانه علم علمه الّذي لا يقاس عليه غيره أبى الله والفارق الجامع، وليطرب بمواصيل أسجاعه القاطعة بفضائله المكمّلة، وليظهر ما جمعه من محاسنه الّتي هي الجمع الّذي لا نظير له، ولينفق على الجمع يوم الجمعة مما آتاه الله تعالى من كنوز الفضائل، وليبلّغهم من بلاغته التي أخملت ذكر «قسّ» و «سحبان وائل» ؛ وأنت- أسبغ الله تعالى ظلالك- معدن الفضائل فأنّى تهدى إليك الوصايا؟، والمتصف بصفات الكمال فكيف تعرض عليك المزايا؟؛ ولكنّ الوصية بتقوى الله تعالى من شعائر الإسلام، والله تعالى يديمك غرّة في جبهة الأيّام.
وهذه نسخة توقيع بتدريس بالجامع المذكور، كتب به للقاضي علاء(12/440)
الدين «عليّ الصّرخديّ» الشافعيّ، نائب الحكم العزيز بحلب ب «المقرّ العالي» ؛ وهي:
رسم بالأمر- لا زالت صدقاته تمنح دروس العلم الشريف بعلّي العلوم، وتندب لها من ذوي الاجتهاد من ساير بهممه البرق وسائر النّجوم، وتقرّر للطّلبة من أولى العناية من حقّق الفضائل واطّلع على سرّها المكتوم، وتدير عليهم من مشرب فوائده ما يخال أنّه الرّحيق المختوم- أن يستقرّ فلان......... استقرارا تقرّ به أعين الطّلّاب، وتلمح من صوب فضله عين الصّواب، ويشيّد به دارس الدروس، ويطلع به في سماء الفضائل أنور شموس، وتنشر به أعلام العلوم من طيّ الألسنة، ويذهب من كلّ الطّلبة في تحصيل العلم الشريف وسنه، لأنّه الحبر الّذي شهدت بفضله الأسفار، ورحلت إلى فوائده الجمّة السّفّار، والبحر الّذي جرت سفن الأذهان به فلم تدرك غاية قراره، وعجزت الأمثال عن خوض تيّاره، والعالم الّذي أقرّ بعلمه الأعلام، وشهدت بإحكام أحكامه الأحكام؛ ما برز في موطن بحث إلّا وبرّز على الأقران، ولا جاراه مجتهد إلّا وكانا كفرسي رهان، ولا نطق بمنطق إلّا وأنتجت مقدّمات هممه العليّة واجتهاده على فضله أكمل برهان، ولا أجرى جياد علومه إلى غاية إلّا مطلقة العنان، ولا رآه من أخبر عن فضله إلّا تمثل له: ليس الخبر كالعيان؛ إن تصدّر للفوائد التقطت الأسماع درّ علمه النفيس، وإن درّس تخال الطّلبة أنّه «ابن إدريس» ؛ فهو طود فضل لا يسامى علّوا ورفعة، ولا ينوي مناو أته مناويء ولو كان «ابن رفعة» :
إمام غدا للسّالكين مسلّكا، ... عليم، وكم أولى الفضائل من ولي!
علا فأسال البحر من فيض علمه! ... وذلك سيل جاء بالفضل من علي!
فليباشر هذا التّدريس المبارك مباشرة يثبت بها فوائده، وينثر بها فرائده، ويطرب الطّلّاب بطريف العلم وتالده، ويجمع لهم من صلة الفضل وعائده،(12/441)
وليلازم المباشرة ملازمة لا ينفكّ عنها أيّام الدّروس، ولينر القلوب بمصابيح الكتاب والسّنة ويسرّ النفوس.
وأنت- أمتع الله بفوائدك- من نورك الوصايا تقتبس، وكم آنس الطّالب نار فضلك فأتى منها بأنور قبس؛ والله تعالى يبقيك للعلوم كنزا لا تفنى مواهبه، ويديمك للطّلّاب بحرا لا تنقضي عجائبه.
وهذه نسخة توقيع بتدريس بالجامع المذكور لحنفيّ، كتب به للشّيخ شمس الدين «محمد القرميّ» «1» الحنفيّ، ب «الجناب العالي» ؛ وهي:
رسم بالأمر- لا زالت عنايته الكريمة تطلع شمس الدّين للهداية في أفق المدارس، وتشيّد بالعلماء الأعلام من ربوعها كلّ دارس، وتمنح الفقهاء بمن إذا تصدّى للإفادة جادت نفسه بالدّرر النّفائس، وتندب لها من أولي البلاغة من إذا ألّف فصلا وجدت غصون أقلامه في روضات الطّروس أحسن موائس- أن يستقرّ فلان: استقرارا تجمّل به الدّروس بالفوائد، وتمنح الطّلبة منها بالصّلة والعائد، ويمدّ لهم من موادّ العلوم أشرف موائد، ويوردهم من مناهلها أعذب موارد، لأنّه شمس العلوم ومصباحها، وقمر ليل المشكلات وصباحها، وساعد الفتاوى الطائرة بفضائله في الآفاق وجناحها، وروح كؤوس العلوم وراحها، وطليعة الحقائق وعنوانها، وعين الدقائق وإنسانها، والإمام الّذي أئتمّ به الطلّاب فاستحقّ الإمامة، والعالم الّذي اجتهد على فضل العلوم فاستوجب أن ينعت بالعلّامة، والفاضل الّذي ضبطت أقواله للاطّلاع على سرّها المكتوم، فاختصّ فعل علمه المتعدّي باللّزوم لاتّصافه بالعموم؛ كم التقطت من دروسه الجواهر، وتمثل لأبكار فوائده: كم ترك الأوّل للاخر؛ قابلته الأسفار عن وجوه فوائدها(12/442)
بالإسفار، وأظهرت لذكاء ذكائه ما ضمّته أحشاؤها من الإضمار؛ فهو المختار لهذا التّدريس: إذ درر فوائده منظومة، والمجتبى للإفادة بسلوكه طرق الهداية إلى دقائقها المكتومة، وكم استنارت الطّلبة من سمر فضله حتّى كاد أن يكون ثالث القمرين، وجمع في صدره بحري المنقول والمعقول حتّى قيل: هذا «مجمع البحرين» :
هو البحر، إلّا أنّ فيه عجائبا ... ووافر فضل ليس يوجد في البحر!
بلاغته السّحر الحلال، وإنّما ... بديع معانيها يجلّ عن السّحر!
فليباشر هذا التّدريس ناثرا درر فرائده، ناشرا غرر فوائده، جائدا بجياد فضائله السّابقة إلى الغايات، عائدا بصلات حقائقه لتكمل للطّلبة به المسرّات، وليلازم أيّام الدّروس ما أسدي إليه من هذه الوظيفة، وليرتق من درج التّقوى لغرف المعارف الشّريفة.
وهذه نسخة توقيع بإمامة وتصدير بجامع منكلي بغا الشّمسي «1» بحلب، كتب به للشيخ شمس الدين «محمد الإمام» ، ب «الجناب العالي» ؛ وهي:
رسم بالأمر- لا زالت صدقاته العميمة تطلع شمس الدّين في أفق المعالي، وترفع من أوليائه خدمة من جيده بالفضل حالي، وتمنح برّها من أعربت عن لحنه الطّيّب وتشنّفت من فيه باللّآلي، وتسفح غيث جودها على من أجمع على طيب مسامرته ورفع أدعيته الأسماع واللّيالي ... أن يستقرّ(12/443)
فلان- أدام الله تعالى ضياء شمسه، وبنى له ربع السّعد من جوده على أسّه...... لأنّه الإمام الذي شهدت بحسن قراءته المحاريب، والآتي من فضل فضائله بالأغاريب، والفاضل الّذي سلك طرق الفضائل أحسن سلوك، وشهد بسبق جياد جوده في حلبة الاختبار كلّ حتّى الملوك، والكامل الّذي كملت أوصافه المحمودة فأمن النّقائص، واختصّ بجميل الشّيم وحسن الخصائص؛ ما أمّ إلّا وشهد بفضله كلّ مأموم، وأقرّوا أنّ أسماعهم ارتشفت رحيق فضائله من كأسها المختوم، وما سامر الخواصّ إلّا وشهد العوامّ بحسن صفاته، ولا حدّث إلّا وكانت الملوك من رواته.
فليباشر هذه الوظائف المباركة مباشرة تقرّ بها النّواظر، وتجتمع الألسنة على أنّه أكرم إنسان وخير ناظر، وليتصدّر لإلقاء الفوائد، وليكسب الأسماع من علمه بالطّريف والتّالد، وليتناول معلومه أوان الوجود والاستحقاق، هنيّا ميسّرا من غير تقييد على الإطلاق، وليتّق الله فيما أسدي إليه من ذلك، وليسلك من سنن التّقوى- بقدم الصّدق- أحسن المسالك.
وهذه نسخ تواقيع لأرباب الأقلام الديوانية بحلب وما معها:
توقيع بكتابة الدّست بحلب، كتب به ل «بهاء الدين بن الفرفور» ونظر بيت المال بحلب، ب «الجناب العالي» ؛ وهو:
رسم بالأمر- لا زال ينظم عقود الإحسان في أجياد أوليائه، ويجزل لهم بوافر نظره وافي عطائه، ويجري بهاء الدّين على أحسن نظام فينجز له عدة وفائه- أن يستقرّ......... استقرارا يبلغ به وجوه الآمال، ويكسو الدّواوين ملابس البهاء والكمال، ويزيدها رفعة بما يفضله من ذلك الجمال؛ لأنّه الفاضل الّذي إذا قصد المعانيّ أصاب، وإذا سئل عن كلّ معنى لطيف أجاد وأجاب، والفصيح الّذي إذا تكلّم أجزل وأوجز، وأسكت كلّ ذي لسن بفصاحته وأعجز، والبليغ الّذي أبدع في مكاتباته بمنثوره ومنظومه، واللّبيب الّذي أطلع من أزهار كلمه المسموعة في رياض الطّروس ما يخجل الرّوض إذا افتخرت(12/444)
بمشمومه، والكاتب الّذي قطعت بمعرفته الأقلام، والحاسب الّذي عقدت على خبرته خناصر الأنام، والأديب الّذي جمع بين «1» قلم الإنشاء الشّريف، وحاز ما في ذلك من تالد وطريف؛ فلله درّه من كاتب زيّن الطّروس بحسن كتابته، وجمّل الألفاظ والمعاني بجميل درايته وفصاحته.
فليباشر ما عدق به من ذلك مباشرة مقرونة بالسّداد، مشكورة المساعي والاعتماد، مظهرا براعة يراعه، باسطا يد إيداعه الجميل وإبداعه، مفوّفا حواشي القصص بتوقيعاته، موشّيا برود الطّروس بترصيعاته وتوشيعاته، ناظرا على اعتماد مصالح بيت المال المعمور، وتحصيل حواصله على الوجه المشهور والطّريق المشكور، عاملا بتقوى الله عزّ وجلّ في ضبط مصالح ديوان الجيوش المنصورة، سالكا من حسن الاعتماد طرقا على السّداد والتّوفيق مقصورة؛ والوصايا كثيرة وتقوى الله تعالى عمادها، فليجعلها عمدته فيما يتمّ به للنفس المطمئنة مرادها؛ وليتناول معلومه المستقرّ لذلك أوان وجوبه؛ والله تعالى يبلّغه غاية قصده ومطلوبه.
توقيع بصحابة ديوان الأموال بحلب، من إنشاء ابن الشّهاب محمود، كتب به للقاضي شمس الدّين «محمد بن محمد» ، أحد كتّاب الدّست بحلب، ب «المجلس العالي» ؛ وهو:
رسم بالأمر- لا زالت صدقاته العميمة تسرّ نفوسا، وتطلع في هالات الوظائف السّنيّة عوض الشّمس شموسا، وتسقي غرس نعمائها الهبات الهنيّة فتزهي أغصانا يانعة وغروسا- أن يستقرّ......: لأنّه الأوحد الكامل، والرئيس الفاضل، ولأنّه حاز قصب السّبق في المباشرات، والمناصب الجليلة والمراتب السّنيّات؛ طالما بذل جهده في خدمة الدّول، وسلك بجميل مباشرته طريق السّلف وسبيل الأول، فأدرك بحسن سيرته ويمن طريقته نهاية السّؤل(12/445)
وغاية الأمل، وأتى الأمور على قدر ولا يقال: على عجل، ولأنّه الأمين في صنعة الإنشاء، والتابع في فنه فنون الأدباء؛ إن رقم الطّروس طرّز، وإن بارز الأقران في مواطن الافتخار برّز، وإن بسط الجرائد، تغار من حسنهنّ الخرائد؛ طالما نطق بالحكم، واشتهر بين أصحابه مثل اشتهار النّار على علم؛ نظم المحاسن في نثره البديع، وجمع بين الأضداد فيما يبديه من الإنشاء ويحلّيه من التّصريع؛ قدمت هجرته في الخدمة الشريفة، واقتطف من زهر الصّدقات الشريفة أحسن منصب وأجمل وظيفة، وتحلّى جيده بالقلائد، وحصّل بسعيه مجموع الفرائد، فعادت عليه الصّدقات الشريفة بأجمل العوائد؛ قد استحقّ التقديم، واستوجب من الصّدقات العميمة نهاية التّكريم.
فليباشر هذه الوظيفة مباشرة حسنة الآثار، جميلة الإيراد والإصدار، ناظما بقلمه الحساب على أنواعه، محكما له على سداد أوضاعه، وليطلع شمسه في سماء هذه الوظيفة، وليجن من روضها الأريض كلّ يانعة لطيفة، وليعلم أنّ هذه بوادر خير سرت إليه، وسوابغ نعم خلعت عليه، وأنّ الصدقات العميمة لا بدّ أن توليه بعد ذلك برّا، وتترادف عليه تترى، وتعلي له بين رفاقه المرفقين قدرا؛ ومثله لا ينبّه على وصيّة، لا دانية ولا قصيّة؛ لكن التقوى لا بدّ منها، ولا يجوز أن يغفل عنها؛ فليجعلها اعتماده في كلّ الأمور، وليتناول معلومه المقرّر له على الوظيفة المذكورة في غرر الشهور؛ والله تعالى يضاعف له بمضاعفة الصدقات عليه أوقات السّرور، ويقيه بلطفه كلّ محذور.
توقيع بنظر بهسنى «1» ، من عمل حلب، كتب به لفتح الدين «صدقة بن زين الدين، عبد الرحيم المصريّ» ، ب «المجلس السامي» ؛ وهو:(12/446)
رسم بالأمر- لا زالت صدقاته العميمة تفتح لأولياء خدمته أبواب الخيرات، ولا برحت تهدي إليهم أنواع المسرّات- أن يستقرّ.........
في وظيفة النظر بمدينة بهسنى المحروسة عوضا عمّن بها، بالمعلوم الّذي يشهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت، على العادة في ذلك والقاعدة، استقرارا يسرّ خاطره، ويقرّ ناظره؛ لأنّه الماهر في صناعته، والرّابح في متاجر بضاعته.
فليباشر هذه الوظيفة مباشرة حسنة، لتصبح الألسنة بشكرها معلنة، وليصرّف قلمه فيما يعود نفعه عليه، وليجتهد فيما يستجلب الأثنية «1» إليه، وليقبض معلومه أوان وجوبه هنيّا، وليتناوله بيد استحقاقه مريّا؛ والوصايا كثيرة وهو- بحمد الله تعالى- غير محتاج إليها، لأنّه الفاعل لها والدّالّ عليها؛ وتقوى الله تعالى عمادها، وبه قوامها وسنادها؛ فليتمسّك بسببها في الحركات والسّكنات، والله تعالى يهيّء له أسباب المسرّات.
توقيع بكتابة الإنشاء ونظر الجيش بدبركي «2» ، كتب به للقاضي شهاب الدين «أحمد بن أبي الطيب العمريّ العثماني» ، ب «الجناب الكريم» ، وهو:
رسم بالأمر- لا زال يجمّل الثغور بمن تزهو برحيق كلمه الطيب [المناصب] «3» ، ويكمّل محاسنها بمن لم تزل الصّحف تقود من جياد فضله أجمل جنائب، وحباها بشهاب يهتدى إلى المقاصد بنجم رأيه الثّاقب، وسرّها بكلّ ندب لم تزل كتبه تردّ من الدّعّار الكتائب- أن يستقرّ...... في وظيفتي كتابة الإنشاء الشريف والجيش المنصور بدوركي المحروسة، عوضا عن فلان،(12/447)
بالمعلوم الشاهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت، لأنه من بيت رفع علم قدره على السحائب، وانتصبت راية آرائهم بالتمييز في مواكب العزة عن المواكب، وأضيف إلى مجدهم شرف الكمال فانجرّ بالإضافة ذيل مجدهم على الكواكب، وجزم أولو الفضل بنسبتهم إلى المعالي فحازوا قصبها استحقاقا وما زاحموا عليها بالمناكب، وأسّس أصله على عماد شرف «الفاروق» و «ذي النّورين» فتفرّع على أكمل تناسل بتناسب.
النيابة الثالثة (مما يكتب من التواقيع بالولايات عن نوّاب السلطنة بها- نيابة طرابلس)
وهي على ما تقدّم في دمشق: من تقسيمها إلى تواقيع أرباب السيوف، وتواقيع وظائف أرباب الأقلام الدينية، وتواقيع أرباب الوظائف الديوانية، وأرباب الوظائف بمشيخة الأماكن وغيرهم، وتقسيم ذلك إلى ما يفتتح ب «الحمد لله» ، وما يفتتح ب «أما بعد حمد الله» ، وما يفتتح ب «- رسم بالأمر» .
وهذه نسخ تواقيع من ذلك:
نسخة توقيع بشدّ الدواوين بطرابلس، كتب به لصلاح الدّين «صلاح الحافظي» ، ب «الجناب الكريم» ؛ وهي:
الحمد لله الّذي أيّد هذه الدولة وسدّدها بأنواع الصّلاح، وعمر العالم بعدل سلطانها وجعل أيّامه مقرونة بالنّجاح، وأقام لتدبير المملكة [كل] «1» كفء كاف مشهور باليمن والفلاح.
نحمده على نعمه الغامرة في المساء والصّباح، ونشكره على آلائه في كلّ غدوّ ورواح، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة خالصة ضوئية كالمصباح، وأنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله أشرف من اصطفاه وأرسله بالدين(12/448)
الحنيفيّ فبشر وأنذر وحلّل وحرّم [وحظر] «1» وأباح، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة دائمة مستمرّة ما حيعل «2» الدّاعي إلى الفلاح.
وبعد، فإنّ أولى الأولياء بمضاعفة الأحسان، وأن يعلى له في المكان والإمكان- من عرف بأجلّ المباشرات في الفتوحات، واشتهر فيها بالكفاية والصّيانة وجميل التّدبير وحسن الصّفات.
ولمّا كان فلان هو المنفرد بهذه الصّفات الحسنة، واتّفقت على نعوته الجميلة الألسنة، والوحيد بهذه السّجايا، الفريد بشرف المزايا، عقدت الخناصر عليه، واقتضت الآراء أن يسند تدبير المملكة إليه: فإنّها لم تجد لها كفأ غيره، ولا من يجمع شمل شتات أقوالها ولم يفرّط مثقال ذرّة.
فلذلك رسم بالأمر- لا زال يندب لتدبير الممالك كلّ كفء كاف، ويورد أولياءه من موارد إحسانه موردا عذبا صاف- أن يفوّض إلى الجناب الكريم- أدام الله علوّ قدره، وأيده بالمعونة في أمره- شدّ الدّواوين المعمورة الطّرابلسيّة، بالمعلوم المستقرّ، الشاهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت، على عادة من تقدّمه.
وهذه نسخة توقيع بالاستمرار في شدّ الدّواوين:
الحمد لله الّذي قرن الشّدّة بالفرج وجبر بعد الانكسار، وامتحن عباده بأنواع من المحن ليعلم الصادقين في الاصطبار، وأطلع في أفق العلا سعد السّعود ساطعا بالنّور بعدما غار، وجمع لمن انقطع به حبل الرّجاء من الخلق فتوكّل عليه بين نيل المطلوب وتمحيص الأوزار.
نحمده وفي محامده تطيب الآثار، ونشكره على ما أسبل من النّعم الغزار،(12/449)
ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له إله كشف الغمّ بعدما غم القلوب وغطّى على الأبصار، وفرّج الهمّ، وقد كان ادلهمّ، وأظلمت منه النّواحي والأقطار، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المصطفى المختار، سيّد ولد آدم في الدّنيا وسيدهم في دار القرار، صلّى الله عليه وعلى آله الأطهار، وصحابته الأخيار، ما أظلم ليل وأضاء نهار.
وبعد، فإن الله تعالى لطف بهذه الدّولة المعظّمة في المقام والسّير، فما مضى لأحد معها يوم سرور إلا والّذي من بعده خير، ونصب خيام عدلها على الخلق وشرع أطنابها، ورغب العباد في فضلها العميم وفتح لهم بابها، وجعلها كاشفة للكروب الموجبة للحزن والضّيق، راشفة من خزائن ملكه ومعادن نصره كأس رحيق، تصل بقوّته وتقطع، وتفرّق بإرادته وتجمع؛ ثم جعل المال نظام ملكها القويم، وقوام سلكها النّظيم؛ به تمضي أوامره ونواهيه، وتجري على السّداد بما يحبّه ويرضيه؛ فتعيّن إعداد من يقيم بعزمه عمده، ويقعد من أخذ منه بغير استحقاق ممن أقعد الدّين زنده؛ وقدّر الله تعالى في هذا الوقت ما قضاه، ونفّذ حكمه فيمن خرج عن طاعته وأمضاه، فلم تبق مملكة إلّا ومسّها وأهلها الإضرار، ولا بقعة إلّا ولحق أهلها بأس أولئك الفجّار، فأدرك اللّطف الإلهيّ ممالك الإسلام، وحل الرّكاب الشريف بأرض الشام، فكان بردا وسلام «1» ، ونجا المخلص وهلك الناكث النّاكل بقدوم سلطان الإسلام، خلّد الله ملكه [ليقذف] «2» بالحقّ على الباطل، وأيد الله دولته الشريفة بعونه المتواصل.
وكان فلان له مباشرات عديدة، وتأثيرات حميدة، وآخر ما كان في وظيفة شدّ الدواوين بطرابلس: فباشرها مباشرة جميلة الأثر، مشكورة السّير عند من ورد وصدر، ودبّر مهمات يعجز عن حصرها أولو العقول والفكر، وحصّل للديوان المعمور أموالا كالطّوفان ولكن بلا غرق، واستعجب منها كيف حصرتها(12/450)
الأقلام أو وسعها الورق!؟؛ والّذي كان بوظيفة الشّدّ الآن زاهد عنها، ليس له رغبة فيها ولا في شيء منها.
فتعين إعادة الجناب الفلانيّ إليها، ورسم بالأمر- لا زالت أيام دولته الشريفة تصلح الشان، وتعيد الخير إلى ما كان- أن يستقرّ.......
فليعد إليها عود الحسام إلى غمده، والماء إلى منهل ورده، وليباشرها بمباشرته المعروفة، وعزائمه المألوفة، وهممه الموصوفة، مسترفعا المتحصل ومصروفه، وليتحقّق أنّ الله تعالى سيصل رزقه فلا يوجس في نفسه خيفة، وليجعل تقوى الله تعالى دأبه في كلّ قضيّة ثقيلة كانت أو خفيفة، والله تعالى يمدّه بألطافه المطيفة، بمنه وكرمه.
وهذه نسخة توقيع بنقابة العساكر بطرابلس:
الحمد لله الأوّل بلا آخر، الغنيّ في ملكه عن النّاصر، المنزّه في سلطانه عن المؤازر، المتوحّد بعدم الأشباه والنّظائر، المبيد لكلّ مظاهر بالعناد مجاهر، العليم بما تكنّه الأفكار وتجنّه الضّمائر، الرّقيب على كلّ ما تردّد من الأحوال بين سوادي القلب والناظر.
وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة خالصة يرغم بها كلّ جاحد وكافر، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المبعوث والشّرك مدلهمّ الدّياجر، والرّشد قد خيّم عليه الضّلال فما له من قوّة ولا ناصر، فأقام به الدّين الحنيفيّ النّيّر الزّاهر، ورفع ذكره في سائر الأقطار والأمصار على رؤوس المنابر، صلّى الله عليه وعلى آله أهل المكارم والمآثر، ما حمد السّرى عند الصّباح سائر، وخمد شرر الشّرّ بكلّ مناضل ومناظر، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من سيقت إليه وفود النّعم، ومنح من الخيرات أجزل القسم، وعدقت الأمور بعزائمه، واعتمد على همته الّتي هي في المضاء كأسنّته(12/451)
وصوارمه، ورعيت عهود ولائه الّتي لا تنكر، ووصفت مساعيه الّتي استحقّ أن يحمد بها ويشكر- من إذا عوّل عليه في المهمّات كفاها، وإذا استطبّت المعضلات به شفاها، وسارت أنباء مهابته غورا ونجدا، واتّصف بحسن التدبير الذي عليه من الإقبال أكمل إجدا «1» ولمّا كان فلان هو الّذي تناقلت تباشير أخباره الرّكبان، وأثنى على شهامته السّيف والسّنان، وشرفت بمحاسنه الأقلام، وارتفع ذكره بالشجاعة على رؤوس الأعلام.
فلذلك رسم......- لا زال للدّين الحنيفيّ ناصرا، وللأعداء قامعا قاهرا، وللحقّ مؤيّدا باطنا وظاهرا- أن يستقرّ الجناب العالي المشار إليه أمير نقباء العساكر المنصورة الطّرابلسيّة، عوضا عمّن كان بها، على عادته وقاعدته:
لأنّه الحبر الّذي عقدت على خبرته الخناصر، وورث الشّهامة كابرا عن كابر، وأضحى بتدبيره واضح الغرر، شاهدا له به العين والبصر؛ إن جال بين صفوف العساكر كان أسدا، وإن رتّب جيوشها أحصاها حليّة وعددا.
فليباشر هذه الوظيفة محرّرا أحوال العساكر المنصورة، مقرّرا لهم في منازلهم على أكمل عادة وأجمل صورة، بمناصحة ضمّخ بمسكها، ومخالصة قام مقام واسطة جوهر سلكها، وملازمة خدمة تأزّرت بها أعطافه، وصفاء طويّة شرفت بها أوصافه، ومحبّة عدل جمع فيها بين قوله وفعله، وإخلاص يحسن بالمرء أن يكون ملتحفا بظلّه: لكي يتمّ الله النّعم عليه كما أتمّها على أبيه من قبله؛ وليقصد رضا الله تعالى في هذا الأمر، لا رضا زيد ولا عمرو؛ والله تعالى يتولّاه فيما تولّاه، والاعتماد في ذلك على الخط الكريم أعلاه، حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.(12/452)
وهذه نسخة توقيع بنقابة الأشراف بطرابلس ب «المجلس الساميّ» بالياء؛ وكتب فيه «القضائي» على خلاف الأصل، وهي:
رسم بالأمر- لا زال يرفع لذوي الأصالة الشّريفة قدرا، وينقلهم إلى الرّتب السّنيّة ويعلي لهم ذكرا، ويشملهم من إحسانه بما يسرّ لهم قلبا ويشرح صدرا، ويبلّغهم من المآرب أوفاها، ومن ملابس القبول أجملها وأسناها- أن يستقرّ فلان- أدام الله نعمته- في نقابة السّادة الأشراف بالمملكة الطرابلسيّة، على ما تقدّم من عادته في ذلك: استقرارا جاريا فيه على أجمل العادات، واعتمادا على ما عهد من سلفه الشّريف الذّات، ورعاية له في تجديد المسارّ، وترجيحا لما اشتمل عليه من حسن الكفاية في كلّ إيراد وإصدار، ورفعة ليده الباسطة على أبناء جنسه، وتقوية يجد أثرها في معناه وحسّه، رسما يستوجب به النّعم الجزيلة، وولاية توليه من الكرم سوله، وعناية تصبح بها ربوع أنسه مأهولة، لأنّه أولى أن يقرّ في هذه الوظيفة ويزاد، وأحقّ أن يرعى لما سبق له من السّداد، وأجدر أن لا يضاع حقّه حيث له إلى ركن الشّرف المنيف استناد.
فليباشر هذه الوظيفة المباركة مبسوطا أمله في المزيد، منوطا رجاؤه في نعمنا باستئناف وتجديد، محوطا ما بيده من كرمنا العديد؛ وهو غنيّ أن نثّني له الوصايا ونعيد، مليّ بحسن السجايا الّتي جبلت على التّحقيق والتّوفيق والتّسديد؛ والله تعالى يطوّق بمنن جودنا منه الجيد، ويغدق له سحائب رفدنا التي تجريه على ما ألف من فضلها العديد؛ والعلامة الشريفة- أعلاها الله تعالى- أعلاه، حجة بمقتضاه.
وهذه نسخة توقيع بشدّ الشواني «1» بطرابلس، كتب به لعلاء الدين «أيدغمش» ، وهي:(12/453)
رسم ... - لا زالت أيامه، قائمة بالجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ، وأعلامه، حائمة على التقاط مهج العدا في البرّ والبحر بما يقرّب لهم الأجل- أن يستقرّ فلان في شدّ الشّواني المعمورة المنصورة على العادة في ذلك، بهمّته العلية، وعزمته الّتي هي ببلوغ المقاصد مليّة، وشهامته الّتي ترهب العدا، وشجاعته الّتي تلبسهم أردية الرّدى، وبسالته الّتي تبسلهم «1» في البحر فتصيّرهم كالأسماك لا يسام لهم صدى.
فليجتهد في ذلك جدّ الاجتهاد، وليعمد فيه السّداد والسّداد، وليوقظ أجفان سيوفه من الغمض، وليرهب العدا بشدّة وطأته الّتي لها الثّبات في الأرض، وليلازم مواظبة الشواني ليلا ونهارا، وليكن هو ومن حوله لمن بها أنصارا؛ والله تعالى يجزل له مبارّا، ويرفع له مقدارا، بمنّه وكرمه.
وهذه نسخة توقيع بشدّ دار الضّرب «2» ، كتب به ل «علاء الدين الدّوادار» ؛ وهي:
رسم ... - لا زال إحسانه يجود غماما، وفضله الشامل على الأولياء المتقين إماما، وسحائب برّ كرمه هامية على أوليائه، هاملة على أصفيائه، فتراهم يخرّون للأذقان سجّدا وينتصبون قياما- أن يستقرّ المشار إليه في شدّ دار الضّرب: إعانة له على الخدمة الشّريفة، وإرفادا له بمعلومها إذ هي ليست له بوظيفة، لأنه أكبر من ذلك قدرا، وأحقّ بكلّ منزلة عليّة وأحرى؛ ولكن هذه الجهة هي قانون المعاملة، وسكّتها بشعار الملك متّصلة وبين الحقّ والباطل فاصلة، ومنها النّقوش الّتي هي رستاق الأرزاق، وصدر كلّ إطلاق وفنداق «3» ؛(12/454)
حكيم ما أرسل في حاجة إلّا وأذن لها بالنّجاح، ولا استؤمن عليه امرؤ باذن الإمام إلا وحقّ له [الاتصاف] «1» بالصلاح والفلاح؛ هذا وهو في الأصل مذموم، وطالبه محروم: لأنه مقسوم، والأجل محتوم، ولكن تطهيره من الدنس واجب، والحسبة في عياره حتى يغدو وبودق «2» صفائه من الغشّ ناضب.
فليعتمد المشار إليه في شدّ هذه الجهة حسن التقوى ويلاحظ بعزمه أمورها لتكون على السّداد، ويعتمد على السّيد النّاظر فإنّه نعم العماد، ويفوّض إليه كشف الرّوباص «3» وحكّ العيار فهو به أدرى وأحرى وأدرب بإدحاض غشّ الفساد، وليتناول معلومه المقرّر له عند الوجوب والاستحقاق، هنيّا ميسّرا خالصا من التّنازع والشّقاق، ومثله فلا يدلّ على [صواب] «4» : إذ تقوى الله تعالى كلمة الفصل وفصل الخطاب، والله تعالى يجعلها لنا وله زادا وحرزا، وذخرا يوم المعاد وركزا «5» وهذه نسخة توقيع بشدّ البحر «6» بمينا طرابلس؛ وهي:(12/455)
رسم بالأمر- لا زال سيفه قاطعا من الأعداء نحرا، وأمره نافذا برّا وبحرا، وفعله صالحا دنيا وأخرى- أن يستقرّ الجناب المشار إليه في شدّ مينا البحر بطرابلس.
فليباشر هذه الوظيفة شارحا لها صدرا، فاتحا لها بحسن مباشرته الجميلة بصرا وفكرا، باعثا لها في الآفاق بمباشرته ذكرا جميلا، باحثا عمّا يتعلق بمتحصل المينا المعمورة بكرة وأصيلا، مسوّيا بين الناس فيما رزق الله وفتح، وبعث من فضله ومنح، بحيث لا يقدّم عزيزا ولا يؤخّر ذليلا، ولا يراعي في ذلك صديقا ولا خليلا.
وليقدّم خوف الله تعالى على خوف خلقه، وليسّو بين الضّعيف والقويّ فيما بسط الله من رزقه؛ وآكد ما نوصيه به تقوى الله تعالى فيما هو بصدده؛ فليجعلها في أموره الباطنة والظاهرة من عدده؛ والله تعالى يقدّمه في مباشرته لاقتناء محاسن المعروف وزبده، ويرزقه من الأجر على ما يعمله من الخير مع تجّار هذا البحر بما هو أكثر من زبده.
توقيع كريم بنيابة اللّاذقيّة، من إنشاء القاضي تاج الدين بن البارنباري، كتب به ل «- شمس الدين» ابن القاضي، ب «الجناب العالي» ؛ وهو:
الحمد لله الّذي زاد «شمس» الأولياء إشراقا، ومنحه في هذه الدّولة الشريفة إرفادا وإرفاقا، وصان الثّغور المحروسة بعزماته الّتي سرّت قلوبا وأقرّت أحداقا، وجدّدت لأوليائها من مواهبها عطاء وفاقا.
نحمده على حكمه وفعله، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تمنح قائلها مزيد فضله، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي أيّده الله بملائكته المقرّبين، وشد أزره من أصحابه بالآباء والبنين، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه أئمّة الدّين، صلاة تمنح قائلها غرف الجنان وَالْعاقِبَةُ(12/456)
لِلْمُتَّقِينَ*
«1» وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ من شيم هذه الدّولة إذا بدأت تعود، وإذا نظرت تجود، وإذا قدّمت وليّا لحظته بأعين السّعود.
وكان الجناب العالي- أدام الله نعمته- عين القلادة، وبيت السّيادة، ومعدن السّعادة، وأهلا أن يدبّر الأمور، ويسّد الثّغور، ونيابة اللّاذقيّة مجاورة البحور، وجزيرة العدوّ بينها وبينها نهار فهي في أمرها له قاعدة في النّحور، وقد رأيناه أهلا أن يصون نحرها، ويتقلّد أمرها، ويحفظ برّها، ويدفع شرّها.
فلذلك رسم بالأمر- أعلى الله تعالى شرفه- أن تفوّض إليه نيابة اللّاذقية المحروسة، على عادة من تقدّمه.
فليسر إليها سير الشّمس في أبراج شرفها، وليقبل عليها إقبال الدّرّة على التّرائب بعد مفارقة صدفها؛ وأوّل ما نأمره [به] : إرهاب العدوّ بالعدّة والعديد، وإظهار المهابة في القريب والبعيد، وتفقّد الأيزاك «2» بنفسه من غير اتّكال على سواه كما يفعل البطل الصّنديد، وليخلع عنه ملابس الوشي ويلبس الحديد، وليهجر المضاجع ويتّخذ ظهر جواده مستقرّه العتيد، حتّى ينتشر له صيت بين أهل التّثليث كما انتشر صيته بين أهل التوحيد.
وابسط بساط العدل ليطأه الموالي والعبيد، واحكم بالحقّ فالحقّ مفيد والباطل مبيد، ومتى تسامع التّجّار بعدلك جاءوا بالأصناف والمتجر الجديد، واركن إلى حكم الشّرع الشريف فإنّه يأوي إلى ركن شديد، واتّق الله تجده أمامك فيما تروم وتريد، وتمسّك بالسّيرة الحسنة يزدك الله رفعة وأنت أحقّ بالمزيد، وعقبها نستنجز لك تشريفا شريفا مقرونا بتقليد أعظم من هذا التقليد؛ والخطّ الكريم أعلاه حجة به، إن شاء الله تعالى.(12/457)
توقيع بنيابة قلعة حصن الأكراد «1» ، كتب به لشهاب الدين «أحمد الناصري» ؛ وهو:
الحمد لله الّذي أطلع في سماء الدّين شهابا، وفتح لمن خافه واتّقاه إلى الخيرات أبوابا، وحباه من إفضاله وألبسه من حلل إنعامه ونعمائه أثوابا.
نحمده على نعمه الّتي أجزل لنا بمزيد حمدها أنعما وثوابا، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة نتّخذها من النار حجابا، ونعتدّ بها في الآخرة مفازا حدائق وأعنابا، وكواعب أترابا، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي شرّفه على الأنبياء منصبا ونصابا، وسبى بطلعته وطليعته قلوبا وأحزابا، وقرّبه إلى أن كان قاب قوسين وأسمعه من لذيذ كلامه خطابا، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه: أكرم به وبهم آلا وأصحابا، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من انتدب، لحفظ المعاقل الإسلاميّة وانتخب، وأحرى من لحظته عين عنايتنا فكان إليها من العين أقرب، وأحقّ من اعتمد على بسالته وإيالته بما سبر من الأنام والأيام وجرّب- من عرف بشجاعة أين منها عمرو بن معدي «2» ، وأمانة كفت حين كفّت كفّ التّعدّي، وعفّة جعلها في أحواله كلّها نصب العين، وسياسة ما زال يصلح بها بين ذوي المشاققة ذات البين؛ وكان فلان هو الموصول المقدّم، الموصوف بهذه الصفات الّتي سرّ السّاحل بها فتبسّم.
فلذلك رسم بالأمر- لا زال يطلع في آفاق الحصون المصونة شهابا، ويرفع الأولياء بإحسانه الّذي يؤكّد لهم في جوده أسبابا- أن يستقرّ [المجلس العالي] «3» نائبا بقلعة حصن الأكراد المحروس وأعمالها، على عادة من تقدّمه ومستقرّ قاعدته.(12/458)
فليباشر ما ولّيناه وأوليناه، مباشرة تسفر عن حسن فطنته وذكائه، وتضيء الآفاق بنور شهابها وسنائه، وتظهر معروفها المعروف بعدم غيبته وخفائه، معتمدا على الله تعالى في إبدائه وإنهائه، شارحا لكلّ قلب ألانه إحسانه بعد غلظته وجفائه، مانحا من بحر جوده وعدله بالدّرّ لا بجفائه، مكرما لمن بهذا المعقل:
من أمرائه وأجناده وأغنيائه وفقرائه، مقيما لمنار الشّرع الشريف الّذي لا تستقيم الأمور إلّا بمتابعته وإبدائه، وليظهر من شجاعته وبسالته ما لا فائدة في خفائه، وليشهر سيفه، في وجه من أظهر حيفه، وعدم خوفه، من سطوة ربّه وكرمائه.
وأعظم ما نوصيه به التّقوى، فإنّه بملازمتها يقوى، على دفع الشّرّ وفعل الخير وإسدائه، والوصايا كثيرة وهو المجرّب بالعمل بها لمن يرغب في استيلائه؛ والله تعالى يحرق بشهاب عدله كلّ متمرّد..........
واعلم أنّه ربّما كتب توقيع نائب حصن الأكراد مفتتحا ب «أمّا بعد حمد الله» .
وهذه نسخة توقيع بنيابة حصن الأكراد، كتب به باسم «شهاب الدين الجاكي» ب «الجناب العالي» ؛ وهي:
أمّا بعد حمد الله الّذي جعل شهاب الدّين يتنقّل في مطالع سعده، وجدّد أثواب النّعماء لمن قدمت هجرته وظهر خيره فأنجز له الإقبال صادق وعده، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تبلّغ قائلها إنالة قصده، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أيّده الله بنصر من عنده، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين كانوا من أنصاره وجنده، صلاة دائمة يبلغ المؤمن بها غاية رشده، وسلّم تسليما كثيرا- فإنّ أولى من شمله إحسان هذه الدّولة الشريفة ونوّله مراده، وأجزل عليه النّعم فكان أحقّ بها لحسن طويّته فأجراه الله على أحسن عادة، وبلّغه غاية القصد ومعدن السعادة- من سلك مسالك الأمناء الثّقات، واشتهرت عنه العفّة وحسن الصّفات، فتعيّن تقديمه وتقريبه إلى أجلّ ولايات الفتوحات.(12/459)
ولمّا كان فلان- أدام الله عزّه، وأنجح قصده- هو المنعوت بصفات السّداد، المشهور بالنّهضة والشّجاعة في هذه البلاد، الذي حوى المكارم والإفضال، ووافق خبره خبره في سائر الأحوال.
فلذلك رسم بالأمر- لا زال شهاب فضله ساطعا، ونور إحسانه لامعا- أن يستقرّ المجلس العالي الشّهابيّ المشار إليه في ولاية الأعمال الحصنيّة والمناصف «1» عوضا عمّن بها، على عادته وقاعدته: لأنّا وجدناه شمس أعيان الأماثل، وألفيناه قليل النّظير والمضاهي والمماثل، وعليه عقدت الخناصر، واتّفقت الآراء الثاقبة في الباطن والظاهر، ولما جمع من كرم الشّيم وجميل الخلال، وحاز من النّباهة الرفيعة الذّرا المديدة الظّلال.
فليتوجّه إلى محلّ ولايته، وليظهر ما أكمنه من العدل والإنصاف في ضمائره بحسن سياسته، ولينصف المظلوم ممّن جار عليه واعتدى، ويتّبع في ذلك ما يوضّح له من طريق منار الهدى، وليبسط المعدلة ويمدّ باعه، وليبد الظّلم ويقصم ذراعه، وليصرف همّته في عمارة البلاد، وتأمين العباد، وسلوك سبل الرّشاد، وليجتهد في سدّ الخلال، وإصلاح ما فسد بغيره من الأحوال، وليجعل تقوى الله محجّته، واتّباع العدل حجّته، وسلوك الحقّ عدّته، فقد جاءت التّقوى في التنزيل مؤكّدة، ووردت في كثير من السّور مردّدة؛ والله تعالى يعينه على ما ولّاه، ويحرسه ويتولّاه، بعد الخط الكريم أعلاه.
وهذه نسخة توقيع بنيابة قلعة المرقب «2» والولاية بها، كتب به لصلاح الدين «خليل» ، ب «الجناب العالي» ؛ وهي:(12/460)
الحمد لله الّذي جعل هذه الدولة الشريفة مقرونة بالتأييد والنّجاح، ووفّق أولياءها إلى سلوك سبل السعادة وشيّدها بالصّلاح، وخوّلهم في أيّامها المراتب العلية ليبتهلوا بأدعيتهم وبدوامها في المساء والصّباح.
نحمده على نعمه الّتي لا يبرح مخلصها في ازدياد وارتياح، ونشكره على آلائه شكرا نستحقّ به المزيد كما أوضح في القرآن أكمل إيضاح، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة معلنة بالفلاح، وأنّ محمدا عبده ورسوله الذي أنزل عليه في محكم كتابه العزيز: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ
«1» صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الغرّ الكرام الأشباح «2» ، ما ترنّم طائر على غصن وحيعل الدّاعي إلى الفلاح، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن أولى من عدقت به نيابة أجلّ المعاقل والثّغور وفوّضت إليه، وعوّل في حفظها ومباشرتها الحسنة الجميلة عليه- من عقدت على حزمه الخناصر، وورث الشّجاعة والشّهامة كابرا عن كابر، وهو الّذي نما فرعا وزكا [أصلا] «3» ، وفاق في المكارم على نظرائه قولا وفعلا، فأضحى وافر الثّناء واضح الغرر، شاهدا له به العين والبصر.
ولما كان فلان هو المنعوت بهذه الصّفات، والموصوف في مواقف الحروب بما لديه من الثّبات والوثبات، المشكورة خدمته، شاما ومصرا، المشهورة بين الهمم همّته، برّا وبحرا.
فلذلك رسم ... لا زالت مراسيمه الشريفة مبثوثة بالعدل والإحسان، ومعدلته تستدعي بدوام دولته الشريفة لسان كلّ إنسان- أن تفوّض إليه نيابة قلعة(12/461)
المرقب المحروس، والولاية بالأعمال الشرقيّة، وما هو منسوب إليها، على العادة في ذلك ومستقرّ القاعدة: إذ هو أحقّ بها وأهلها، وأكمل [من] «1» يجمع شتات شملها.
فليباشر ما ندب إليه من هذه الجهات مباشرة تقصر الأفكار عن توهّمها، والأبصار عن توسّمها، والخواطر عن تخيّل مبناها، و [الأذهان] «2» عن تمثّل صورتها ومعناها، وليكن لمصالحها متلمّحا، ولأحوال رجالها متصفّحا، ولأقدار جهاتها مربحا، وللخواطر بأداء أحوالها على السّداد مريحا، ولوظائفها مقيما، وللنظر في الكبير والصّغير من مصالحها مديما، ولحرمتها مضاعفا، وعلى كلّ ما يتعيّن الاحتفال به من مهمّاتها واقفا، ويعدّ للعدوّ المخذول عند تحرّكه العزم الشديد، ويهجر لبس الوشي ويتألّف لبس الحديد، ويتّخذ ظهر جواده مستقرّه العتيد، ويشمّر للجهاد ذيلا، ومعاذ الله أن يميل عنه ميلا، ويبسط العدل للرّعيّة، ويعاملهم المعاملة المرضيّة، ويحسن إلى الأمراء البحريّة «3» ، ويلاحظ مصالحهم في كلّ قضيّة، ويتفقّد الرّجال، وأرباب الأدراك «4» والشّواني ويحذّرهم من الإهمال، ويأمرهم باليقظة والاحتراز في اللّيل والنهار وسائر الأحوال، وليعمل ما يحتاج إليه من آلات الجهاد وليكن على حذر مما يتجدّد كلّ يوم، وليوقع الرّهبة في قلوب الأعداء بخيله في اليقظة وخياله في النّوم، ويتفقّد المواني في سائر الأوقات في اللّيل والنهار، وليحذّر أمراء الأيزاك من الغفلة فإن(12/462)
الغافل لا يزال على شفا جرف هار «1» وليتّق الله في أقواله وأفعاله. والوصايا كثيرة وهو أدرب بها وأدرى، وأبواب الخيرات واسعة وهو إليها أسرع وأجرى، وليشكر الله تعالى على ما ولّاه، والاعتماد على الخط الكريم أعلاه.
وهذه نسخة توقيع بنيابة حصن عكّار «2» كتب به ل «- ناصر الدين الكرديّ» ، ب «الجناب العالي» ؛ وهي:
الحمد لله الّذي نصر هذا الدّين الحنيفيّ بسيّد البشر، وخصّ هذه الدولة الشريفة بالتأييد والظّفر، ووافى الأولياء بجودها الّذي لم يزل من ذمة الوفاء ينتظر.
نحمده على منّه الّذي طالما بدا في جبهات الأولياء بشره وظهر، ونشكره على جوده الّذي أغنى عن التّحجيل والغرر «3» ، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تنجي قائلها يوم الفزع الأكبر، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أقام الله بسيفه الإيمان فاشتهر، وكفّ به يد الطّغيان وزجر، صلّى الله عليه وعلى آله ما اتصلت عين بنظر وأذن بخبر، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى [الأولياء بالمناصب] «4» من رعيت له خدم عديدة، وعرفت له في أجلّ الثّغور مباشرات سعيدة، واشتهرت شهامته وكفايته في الآفاق،(12/463)
وظهرت أمانته ظهور الشّمس في الإشراق، وتقدّم بذلك على نظرائه وفاق.
ولمّا كان الجناب العالي هو المنعوت بهذه الصفات الجميلة، والمحتوي على هذه المزايا الجليلة، الذي شاعت شجاعته مع طهارة يد- ولا عجب فإنّ هذا الشّبل من ذاك الأسد- وسارت الرّكبان في الممالك بنهضتهما في المباشرات، وسدّ الخلل في المهمّات المعضلات.
فلذلك رسم ... - لا زالت أيّامه مبثوثة بالعوارف والإحسان، ومعدلته تستدعي بدوام دولته الشريفة لسان كلّ إنسان- أن تفوّض إليه نيابة قلعة حصن عكّار المحروس، على عادة من تقدّمه وقاعدته، بالمرتّب الشاهد به الديوان المعمور.
فليقدّم خيرة الله تعالى ويتوجّه إليها، ويصرف وجه الإقبال عليها، وينظر في عمارتها ومصالحها، ويستدرك ما استهدم من بيوت حواصلها، ليصبح وجه هذا الثّغر بحلوله به باسما، وينشر له من حسن تدبيره وجميل تأثيره علما، وليحسن إلى الأمراء البحريّة، وينزلهم منازلهم على العادات المرضيّة، وليعدل في الرّعيّة، وينصف المظلوم من الظالم في كلّ قضيّة، ويلزم أرباب الوظائف من المقدّمين والرّجّالة بالخدمة بالنّوبة على العادة، ويوصّل إليهم معلومهم من جهاتهم المعتادة، ويتّبع الحقّ المحض في كلّ أمر، لا يقتدي برأي زيد ولا عمرو، وليعلم أنّه مطالب بالعدل في وظيفته، فإنّ كلّ راع مسؤول عن رعيّته؛ والوصايا كثيرة ومعظمها تقوى الله في سائر الأمور: فليتمسّك بها يقوى فإنّها السّبب الأقوى؛ والله تعالى يتولاه في السّر والنّجوى؛ بعد الخطّ الكريم أعلاه.
وهذه نسخة توقيع بنيابة بلاطنس «1» ب «الجناب العالي» ؛ وهي:(12/464)
الحمد لله الّذي أسبغ نعمه على أوليائه، وأجزل كرمه على أصفيائه، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تنجي قائلها من وبيل العذاب، وتجدّد له أسباب السعادة في الدنيا ويوم الحساب، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المبعوث بالنّور المبين، المخصوص بالدّين المتين، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وأهله وأصفيائه وأترابه.
وبعد، فأنّ القلاع المنصورة ممّا يتعيّن الاحتفال بأمرها، والاهتمام بحفظ رجالها في سرّها وجهرها؛ ومن أجلّ قلاع الساحل المحروس، وأجمل مساكن البحر المأنوس، قلعة بلاطنس.
فلذلك رسم ... - لا زالت صدقاته تشمل كلّ أوحد، وتجبر كلّ وليّ أمجد- أن يستقرّ......... إذ هو الخبير، الذي ليس لمعرفته نظير، والضّابط الّذي يحاقق على الجليل والحقير، والنّقير والقطمير «1» ، والشّجاع الذي هو في يوم النّضال على أخذ العدوّ لقدير، والضّرغام الّذي أعطاه الله القوّة والمعرفة التامّة فهو بهما جدير.
فليسر إلى الثّغر المحروس، ويعتمد في أموره ما هو فيه من الخبرة مغروس.
وهذه نسخة توقيع بتقدمة العسكر بجبلة «2» ، كتب به ل «- صلاح الدّين الحافظي» ، ب «الجناب العالي» ؛ وهي:
الحمد لله الّذي جعل هذه الدّولة الشريفة تنقل كلّ وليّ إلى درجات(12/465)
سعده، وتؤكّد أسباب الارتقاء لمن حمدت مآثره وحسنت سيرته في اليوم والّذي من بعده، وتجدّد أثواب النّعماء لمن ظهر خيره وخبرته فأنجز له الإقبال صادق وعده.
نحمده على نعمه الّتي أجزلت لمستحقّها مواهب رفده، ونشكره على مننه التي خصّت كلّ كاف بتأثيل مجده، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة يبلغ بها قائلها غاية قصده، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي أيّده الله تعالى بنصر من عنده، وآمنه على وحي الرّسالة فنصح الأمّة غاية جهده، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الّذي كانوا من أنصاره وجنده، صلاة دائمة باقية يبلغ بها المؤمن غاية رشده، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ الجناب العالي لمّا تقدمت له مباشرات، في أجلّ الولايات وأحسن النيابات، وهو يسير في كلّ منها أجمل سير، ويحسن إلى رعيّتها فلا غرو أن يذكروه بكلّ خير؛ كم قام بمهمّات من غير عسف أهل البلاد، وكم أعان الدّيوان المعمور من غير ضرر للعباد، وكم ميّز أموالا فكانت أيّام مباشراته أعياد، وكم له من خدم سار بها الرّكاب وبلغ بها المراد، وكم أثنى عليه لسان القلم حتّى نفد المداد، وكم وصفت هممه وحسن تأتّيه في كلّ توقيع وتقليد على أنّ الكاتب ما زاغ عن الحقّ ولا مال عن الصّدق فيها ولا حاد.
فاقتضى محمود رأينا الّذي ما برح بعون الله يصيب، وجميل فكرنا الّذي ما دعوناه لأمر إلّا وبالإصابة بحمد الله يجيب، أن نعيّن له وظيفة نريحه فيها من التّعب، ونوفّره من تبعات الطّلب؛ وكان من تقدمة العسكر بجبلة يعتريه ألم يعوقه عن الرّكوب في الخدم الشريفة والنزول، سيّما في هذا الوقت الّذي فيه يتحرّك العدوّ المخذول.
فلذلك رسم ... - لا زالت أيّامه الشريفة تيسّر أسباب النّجاح، وعوارفه تطوى لها أرض البعد عن أوليائها كما تطوى لذي الصّلاح- أن يستقرّ(12/466)
الجناب......... في تقدمة العسكر المنصور بجبلة، على عادة من تقدّمه وقاعدته.
فليباشرها مباشرة تليق بشجاعته، وتعهد من حسن سياسته، وليكرم الشّرع الشريف، وليردع من يحيد عن الحقّ أو يحيف، وليجمع الأمراء المقدّمين والحلقة المنصورة على الركوب في الخدمة الشّريفة، وليشكر نعمة الله تعالى المطيفة، وليتيقّظ لردع العدوّ المخذول، وليعلم أنّنا استرعيناه أمر ذلك وكلّ راع مسؤول، وليتحقّق أنّ العدوّ المخذول طالب للهالكين منهم بالثار، وهم قاصدون جبلة فلتكن عنده يقظة واستبصار، وليرتّب الأيزاك وليعمّر المواني بالرجال، ويتفقّدهم في الليل أكثر من النهار، وليهجر النّوم في طلب الظّفر والمنى فمن سهر لذلك ما خاب، ولا يأمن مكيدتهم ويغترّ بهم فيقول: قد ضرب بينهم وبينها بسور له باب؛ وباقي الوصايا فهو بها أعلم، ولم يبرح متلفّعا بثوبها المعلّم؛ وملاكها تقوى الله تعالى فمن لم يعمل بها يأثم، ومن تركها يندم، ومن لزمها فهو في الدارين مقدم؛ والله تعالى يتولاه، والاعتماد على الخطّ الكريم أعلاه، إن شاء الله تعالى.
واعلم أنّه ربّما افتتح توقيع مقدّم العسكر بجبلة ب «أمّا بعد حمد الله» .
توقيع بتقدمة العسكر بجبلة، ممّا كتب به لحسام الدين العلائيّ ب «الجناب العالي» ؛ وهو:
أمّا بعد حمد الله على نعمه الّتي تجزل لكلّ وليّ من موادّ فضلها إنعاما، وتمنح من عوارفها أقساما، وتبلّغ من النّجح لذوي الاستحقاق آمالا وتجعل في نحور الباغين حساما، والشّهادة له بالوحدانية الّتي لم تزل للأولياء المتقين لزاما، وترفع لهم في الجنّات مقاما، والصّلاة على سيّدنا محمد الّذي محا الله بنبوّته عن الأمة المحمديّة آثاما، وشرّفه على سائر خلقه وجعله للأنبياء ختاما، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين ظافروه وبايعوه دهورا وأعواما، صلاة(12/467)
دائمة تزيد مردّدها عزّا وإكراما- فإنّ الاهتمام بكلّ جهة هو على قدرها، والعناية بقطرها.
ولما كانت مدينة جبلة المحروسة مخصوصة بمقام بر [كات السيد السّند] «1» الزّاهد الّذي ترك الدّنيا والأهل والولد، والوليّ المبرّز في عبادة الخالق، والمتوكّل الّذي لم يدّخر قوت ساعة لساعة اعتمادا على الرّزاق- تعيّن النظر في أمرها وحفظها من العدوّ المخذول، وإن كان بهذا السّيّد السّند قد تبين حفظها، وكان فلان ممّن باشرها فأحسن فيها المباشرة، وكلأ حفظها بيقظته وعينه السّاهرة- اقتضى رأينا أن نعيده إليها، ونسبغ ظلّه عليها.
فلذلك رسم بالأمر- لا زال حسامه قاطعا من الأعداء نحرا، وفعله صالحا دنيا وأخرى- أن يعاد المشار إليه إلى تقدمه العسكر المنصور بجبلة المحروسة، عوضا عمّن بها، وعلى عادته وقاعدته.
فليعد إليها عود الحسام إلى غمده، والماء إلى منهل ورده، وليقدّم خيرة الله في المسير إليها، وليبسط العدل ليأمن أهلها بقدومه عليها، وليكرم من بها من العسكر المنصور، ويحسن إلى الرّعيّة بها ليصبح خير مشكور، ولينصف المظلوم ممّن ظلمه، وينشر للشّرع الشريف علمه، وليخلّص الحقّ من القويّ والضّعيف، والدّنيّ والشريف، وليلزم من بهذا الثّغر بعمل اليزك المعتاد، والتّيقّظ لأمر العدوّ المخذول ومضاعفة الاجتهاد، وليلازم تقوى الله تعالى في الأقوال والأفعال، والله تعالى يمنحه من فضله ما يرجو من الآمال.
وهذه نسخ تواقيع لأرباب الوظائف الدينية بطرابلس.
توقيع بنظر الحسبة بطرابلس، كتب به للقاضي «ناصر الدين بن شيصة» ؛ وهو:(12/468)
الحمد لله مبشّر الصابرين، وموصّل الأرزاق على يد أصفيائه من العالمين، ومعيد كلّ وليّ إلى منصبه ولو بعد حين.
نحمده على فضله المبين، ونشكره على أن جعلنا من عباده المؤمنين، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة ندّخرها ليوم الدّين، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، الذي أرسله بواضح الحجج ومحكم البراهين، وأنزل عليه كتابا عربيّا مبين «1» ، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الغرّ المحجّلين، صلاة مستمرّة على ممرّ الأيام والشّهور والسّنين، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من غزّرنا موادّ رفده، وأجزلنا له حظوظ سعده، وبلّغناه من إقبالنا غاية قصده، وحمدنا تصرّفه من قبل عندما رسم لما جدّد [من] «2» بعده، وأعدناه إلى رتبة ألفت منه حسن السياسة والتّدبير، وعرف فيها بالكفاية والصّيانة ويمن التأثير- من له ولسلفه في المباشرات الجليلة يد طولى، فكان بوظيفته أحقّ وأولى.
ولما كان المجلس العالي هو المتّصف بصفات الكمال، المشكور في سائر الأحوال، فلذلك رسم بالأمر- أنفذه الله في الآفاق، وأجراه بصلة الأرزاق- أن يعاد فلان- أدام الله نعمته- إلى نظر الحسبة الشريفة بالمملكة الطّرابلسيّة على عادته وقاعدته، مضافا إلى ما بيده من بيت المال المعمور: لأنه الفاضل الذي لا يجارى، والعالم بأحوال الرّعيّة فلا يناظر في ذلك ولا يمارى، والفيلسوف الّذي يظهر زيف كلّ مريب، والنّحرير «3» الذي بخبرته يسير كلّ حبيب ولبيب.(12/469)
فلينظر في الدّقيق والجليل، والكثير والقليل، وما يحصر بالمقادير وما لا يحصر، وما يؤمر فيه بمعروف أو ينهى عن منكر، وما يشترى ويباع، وما يقرّب بتحريره إلى الجنّة ويبعد عن النار ولو لم يكن قد بقي بينه وبينها إلا قدر باع أو ذراع، وكلّ ما يعمل من المعايش في نهار أو ليل، وما لا يعرف قدره إلا إذا نطق لسان الميزان أو تكلّم فم الكيل؛ وليعمل لديه معدّلا لكلّ عمل، وعيارا إذا عرضت عليه المعايير يعرف من جار ومن عدل، وليتفقّد أكثر هذه الأسباب، ويحذّر من الغشّ: فإنّ الدّاء أكثره من الطعام والشّراب؛ وليتعرّف الأسعار، ويستعلم الأخبار من كلّ سوق من غير إعلام لأهله ولا إشعار؛ وليقم عليهم من الأمناء من ينوب عنه في النّظر، ويطمئنّ به إن غاب أو حضر، ودار النّقود والضرب الّتي منها تنبثّ، وقد يكون فيها من الزّيف ما لا يظهر إلا بعد طول اللّبث، فليتصدّ لمهمّها بصدره الّذي لا يحرج، وليعرض منها على المحكّ [من رأيه «1» ما لا يجوز عليه بهرج، وما يعلق من الذهب المكسور ويروبص من الفضة ويخرج، وليقم الضّمّان على العطّارين والطّرقيّة في بيع غرائب العقاقير إلّا ممن لا يستراب فيه وهو معروف، وبخطّ طبيب ماهر لمريض معيّن في دواء موصوف؛ والطّرقيّة وأهل النّجامة وسائر الطوائف المنسوبة إلى ساسان، ومن يأخذ أموال الرّجال بالحيلة ويأكلهم باللّسان، وكلّ إنسان سوء من هذا القبيل هو في الحقيقة شيطان لا إنسان، فامنعهم كلّ المنع، واصدعهم مثل الزّجاج حتّى لا ينجبر لهم صدع، وصبّ عليهم النّكال وإلّا فما تجدي في تأديبهم ذات التّأديب والصّفع، ومن وجدته قد غشّ مسلما، أو أكل بباطل درهما، أو أخبر مشتريا بزائد، أو خرج عن معهود العوائد، أشهره بالبلد، وأركب تلك الآلة قفاه حتّى يضعف منه الجلد؛ وغير هؤلاء [من فقهاء المكاتب، وعالمات النساء وغيرهما من الأنواع] «2» ممن يخاف من ذئبه العائث في سرب الظباء والجآذر،(12/470)
ومن يقدم على ذلك أو مثله وما يحاذر، ارشقهم بسهامك، وزلزل أقدامهم بإقدامك، ولا تدع منهم إلّا من اخترت أمانته، واختبرت صيانته؛ والنوّاب لا ترض منهم إلا من يحسن نفاذا، ويحتسب لك أجر استنابته إذا قيل لك: من استنبت؟ فقلت: هذا؛ وتقوى الله هي نعم المسالك، وما لك في كلّ ما ذكرناه بل أكثره إلّا إذا عملت فيه بمذهب مالك؛ والله تعالى يسدّدك ويرشدك ويوفّقك إلى أحسن المسالك.
توقيع بالخطابة والإمامة بالجامع المنصوريّ بطرابلس، كتب به للخطيب «جمال الدين إبراهيم» ، ب «المجلس السامي» بغير ياء؛ وهو:
رسم بالأمر الشريف- لا زال عود منابر الإسلام بماء إحسانه رطيبا، وبرد شعائر الدين الحنيفيّ في أيّامه الزاهرة قشيبا، ومواهبه ومناقبه تقيم لممادحه في كلّ واد شاعرا ولمحامده في كلّ ناد خطيبا- أن يرتب المجلس السامي، الإمام، العامل- رحم الله تعالى السّلف، وزاد مجد الخلف- خطيبا وإماما بالمسجد الجامع المعمور المنصوريّ بطرابلس المحروسة، عوضا عن فلان، وعلى عادته وقاعدته، وبمعلومه الشاهد به الديوان المعمور المستقرّ باسمه، إلى آخر وقت: رعاية لأهليّته الواضحة الدلائل، وفضيلته الناطقة الشّواهد الصّادقة المخايل، وأوصافه الجميلة الّتي بها تعرف من أبيه الشّمائل، ولأنّه الصّدر ابن الصدر النّجيب، والخطيب الإمام ابن الإمام الخطيب، والولد النّجيب الّذي حذا حذو والده في الصّلاح ما خاب ولا يخيب، والنّجل النّبيه المهذّب الّذي أشبه أباه في الدّين والورع: ومن أشبه أباه فما ظلم في النّباهة والتّهذيب.
فليباشر هذه الخطابة والإمامة الّتي هو ابن جلاها، وطلّاع ثناياها، زائنا حلاها، زائدا علاها، وليرق ذروة هذا المنصب الّذي هو أعلى المناصب الدّينيّة، وليتلقّ نعم الله عزّ وجلّ بالشّكر الّذي يوجب المزيد ويكسب المزيّة، وليقم مقام والده في هذه الرّتبة السّنيّة، بإخلاص العمل وصدق النّيّة، مجلّيا في(12/471)
مضمار البيان الّذي سلّمت إليه أعنّته، وألقيت إليه أزمّته، محلّيا بقلائد المواعظ وفرائد الأمثال أعواد المنبر الّذي لو أمكنه لسعى إليه، مشنّفا الأسماع بجواهر الأوامر وزواهر الزّواجر الّتي يصدع بها عليه.
وليسر كسيرة والده في الطّريقة المثلى وسلوك المنهج الأسدّ، وليجتهد في إحياء رسومه في العبادة واقتفاء آثاره في العلم والزّهادة حتّى يقول الناس:
هذا الشّبل من ذاك الأسد، جاريا على أفضل العوائد في ديانته، ساريا بأجمل القواعد من صيانته، وليوصّل إليه معلومه الشاهد به الدّيوان المعمور المستقرّ إلى آخر وقت، على عادة من تقدّمه وقاعدته: لاستقبال مباشرته أحيان الوجوب وأزمان الاستحقاق، رزقا دارّا، سارّا، هنيّا، مرضيّا، من غير تنغيص، ولا تنقيص؛ والاعتماد على العلامة الكريمة أعلاه، وثبوته إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة توقيع بخطابة، كتب به للشيخ «صدر الدين الخابوري» ، ب «المجلس الساميّ» بالياء؛ وهي:
رسم......- لا زالت أيّامه الشّريفة تضع الأشياء في محلّها، وتفوّض المناصب المنيفة إلى أهلها، وتشرّف صدور المحافل بصدر العلماء في حزنها وسهلها- أن تفوّض إلى فلان الخطابة بالجامع الناصريّ المعروف «بجامع التوبة» بطرابلس المحروسة وجوبا وتعيّنا، اقتضى في تقدّم الفاضل على المفضول تيقّنا وتبيّنا، لأنّه الحبر الّذي لا يجارى في فضائله، والبحر الّذي يجود فيجيد بفواضله، والصّدر الّذي ملئت بفوائده وفرائده بزمانه محافل صدوره وصدور محافله؛ كم نطقت ألسن الأقلام بأفواه المحابر بفضله في الأقاليم والآفاق، وكم من عبارة بفصاحة وبلاغة حققت أنّه بها فات الفصحاء والبلغاء وفاق؛ لقد أصبح شمل هذا الجامع بهذا الفاضل الّذي طال ارتقابه له جامعا، وأمسى وقد ظفرت يمناه من اليمن به والبركة بما لم يكن بشيء منه في مثل هذه(12/472)
الأيّام طامعا، فلذلك بادر منبره المنيف وحلّ له حقوته «1» مسارعا؛ ووطّأ- لامتطائه إيّاه- صهوته، وغفر للدّهر بهذه الحسنة الجميلة فيما سلف منه هفوته، وعلم أنّه الخطيب الذي استقرّ يطالع المنابر من خطبته بما يفجّر من العيون منابع المدامع، ويشوّق إلى الآخرة من ألفاظ يشنّف بها المسامع، وأنّ قسّا لا يقاس به في خطبه وعظاته، وأنّ سحبان يودّ من خجله أن يسحب ذيله على مآثره المأثورة عنه ليعفّي آثار فلتات كلماته ولفتات لفظاته.
فليباشر هذه الوظيفة المباركة بالله تعالى مذكّرا، ولما أمر عباده ونهاهم عنه على أسماعهم مكرّرا، ويعلم أنّه في المحراب مناج لربه، واقف بين يدي من يحول بين المرء وقلبه؛ فليعتصم بالله عزّ وجلّ في قوله وفعله، ويتيقّن أنّ الكلمة إذا خرجت من قلب لا تقع إلا في مثله.
وفي إحاطة علمه المشهور، وفضله المشهود المشكور، ما يغني عن وصيّة بها يتذكّر، وتذكرة في صحيفة فكره ترقم وتسطّر؛ وليوصّل إليه معلومه على هذه الوظيفة الشاهد به الديوان المعمور، وليوفّر خاطره من التّبذّل في تحصيل معلومه الجاري له وطلبه، وليعامل بما يليق من الإجلال والإعظام بوظيفته الشّريفة والمحلّ العالي الرّفيع من منصبه؛ والعلامة الكريمة أعلاه، حجّة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخ تواقيع لأرباب الوظائف الديوانية بطرابلس:
نسخة توقيع بشهادة الجيوش بطرابلس، كتب به للقاضي بدر الدين «محمد بن الفرفور» ، ووالده يومئذ ناظر الجيوش بها، ب «المجلس العالي» ؛ وهي:(12/473)
أما بعد حمد الله الّذي زيّن سماء المعالي ببدرها، وأنبت في رياض السّعادة يانع زهرها، ورفع المناصب السّنيّة إلى شرف محلّها ومحلّ شرفها، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة خالصة في قولها وفعلها، وأنّ محمدا عبده ورسوله أرسله بالملّة الحنيفيّة قائما بفرضها ونفلها، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر مبلّغا لرسالات ربّه كلّها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة لا ينحصر عددها، ولا ينقضي أمدها، وسلّم تسليما كثيرا- فإنّ أولى من خطبته المناصب من هو أحقّ بها وأهلها [وله] فيها نسبة لا ينكر فضلها، ومباشرات في الممالك الإسلامية مشهورات بالكفاية والعفّة في برّها وبحرها.
ولمّا كان فلان- حرس الله جنابه وأسبغ ظلّ والده- هو المعنيّ بهذه الإشارة، وشمس هذه الهالة وبدر هذه الدّارة.
فلذلك رسم......- زاده الله تعالى عظمة وشرفا، ومنحة في الجنان قصورا وغرفا- أن يستقرّ......: إقرارا لعين والده، وجمعا له بين طريف السّعد وتالده، لأنّه النّبعة الّتي نشأت في رياش السّيادة، والزّهرة الّتي برزت في كمام السّعادة؛ فلا يزال فرعه- إن شاء الله- بسعادة هذه الدّولة الشريفة ينمي إلى أن يتأصّل، وزهرته تزهى إلى أن تبلغ الإثمار وتتوصّل.
فليباشر هذه الوظيفة المباركة مباشرة تظهر فيها كفايته عند الانتقاد، وتحمد فيها عقبى الاختيار والاختبار والرّشاد، وليسلك في أمانته سنن أبيه- أسبغ الله ظلّه- التي أحكمها في كلّ ما أبدى وأعاد، ويتّبع طرقه الهادية إلى سبيل السعادة والإرشاد، ويبد ما اكتسبه من والده عن سلفه من هذه الصّناعة وهو أحقّ بهذا السّند، ولا يخرج عن رأي أبيه- أيّده الله- حتّى يقول الناس: هذا الشّبل من ذاك الأسد، وليشمّر في تحصيل الفضائل الّتي تبلغ بها الآمال، وتصلح الأحوال، وليتلقّ هذه المباشرة بعزمه الشديد، بنفسه لا بالتّقليد، فإنّه شاهد ومسؤول بقوله يوفّق في الاستحقاق وفي النّقود والكيول؛ وتقوى الله هي السّبب الأقوى، فليتمسّك بحبلها يقوى؛ والوصايا كثيرة في ذلك ووالده بها(12/474)
أعلم؛ والله تعالى يسلّكه سبيل الهدى فإنّه أنجح الطّرق وأسلم؛ والله تعالى يتولّى عونه، ويديم صونه؛ والاعتماد......
توقيع بكتابة الدّرج بطرابلس، كتب به ب «المجلس الساميّ» بالياء؛ وهو:
رسم بالأمر الشّريف- لا زالت مراسمه العالية تطلع في أفلاك المعالي بدرا منيرا هاديا إلى الفضائل مأمونا من السّرار «1» ، ومكارمه الوافية ترفع من أعلام المعاني صدرا كبيرا رشيدا في البيان أمينا على الأسرار، ومراحمه الكافية تقرّعيون الأعيان والأخيار- أن يرتّب فلان- ضاعف الله تعالى أنوار فضائله التي يأتمّ بها المستضيء والمهتدي، ويعشو إلى قراها المستعين والمقتدي- في كتابة الدّرج السعيد بطرابلس المحروسة بما قرّر له من المعلوم الوارد في الاستئمار الشّريف على ما يتعيّن بقلم الاستيفاء جهته، ويبّين تفصيله وجملته، نظرا إلى استحقاقه الظّاهر، وفضله الباهر؛ وبلاغته الّتي أفصحت عن بيان البليغ القادر، وفصاحته الّتي بلغت الكمال بعون الملك القادر، وإطرابه، في إطنابه، وإعجازه، في إيجازه؛ فله في الدلائل قدرة «المنصور» وفي الفضائل قوّة «الناصر» ؛ طالما أزهر بقلمه «المهديّ» للصواب، «السّفّاح» كالسّحاب، روض العلوم والآداب، وأظهر ببيانه «المنتصر» في الخطاب، «المقتدر» على الاقتضاب، طرق الفنون، واضحة العيون، محكمة الأسباب، وسبل الحكم مفتّحة الأبواب؛ فهو بالسنا والسناء بدر «المسترشد» ، وبالجدا والجداء «معزّ» «المستنجد» ، وبفرط الحيا والحياء سحاب المستمطر و «المستظهر» ، وبغرب الذّكا والذّكاء برق «المستبصر» و «المستنصر» .
فليباشر هذه الوظيفة المباركة «معتصما» بحبل التّقوى، «مستعصما» من(12/475)
المراقبة بالسّبب الأقوم الأقوى، مجدّدا رسوم هذه الصناعة الّتي ربعها قد درس ومحلّها قد أقوى، فإن «المتّقي لله» «الرّاضي» به هو «الراشد» «الفائز» بالسّعادة، و «المتوكّل» عليه «المطيع» له هو «الواثق» ببلوغ القصد الحائز للارادة؛ وليطرّز حلل البيان بوشي بنانه الّذي أصبح ديباج الطّرس به «معتزّا» ، وليقوّم معاني البديع بعامل قلمه الخطّيّ الّذي أمسى الفضل به كالسّمهريّ قائما مهتزا، «مستكفيا» بما يصرّعه ويرصّعه نظما ونثرا من البدائع، «مستعليا» لما يرفّعه ويفرّعه من غرر الفقر، ودرر الفكر، بخاطره الوقّاد النّقّاد المنقاد الطائع، «مقتفيا» فيما ينشئه آثار ما يصدر عن «الحاكم» و «الآمر» ، «مكتفيا» فيما يبديه بمقدار ما تبرز به المراسيم والأوامر، «حافظا» للسّرّ «العزيز» كاتبا كاتما فلا يعضده فيه «عاضد» ولا يظفر به «ظافر» ، «معتمدا» على الكتمان في جميع ما يورده ويصدره، مقتصدا بالتّوفيق في سائر ما يخفيه ويظهره.
والوصايا فمن آدابه تستفاد، والنّصائح فلها منه المبدأ وإليه المعاد؛ فليتسنّم ذروة أعلاها، وليتنسّم نفحة ريّاها.......
توقيع بشهادة دار الضّرب بطرابلس؛ وهو:
رسم بالأمر- لا زال رأيه الشريف يقرّب من الأمور صوابا، ولا برح أفق سماء مملكته الشريفة يطلع بفلكه بدرا منيرا وشهابا- أن يرتّب فلان......: لأنه العدل الّذي اشتهرت عدالته، والأمين الّذي بهرت فظهرت أمانته، والرّئيس الّذي ما برح صدر المحافل، والفاضل الّذي فاق بفضله على الأقران والأماثل، وشهدت بنزاهته المشهورة الأواخر والأوائل.
فليباشر هذه الوظيفة مباشرة مطابقة لعدالته المشهورة، معربّة عن أصالته المخبورة، موضّحة عن ديانته الّتي غدت في العالمين معروفة غير منكورة، ليصبح هذا المنصب مشرقا بنوره، سنيّ الأرجاء بساطع ضياء شهابه ونور بدوره؛ وهو- أعزّه الله- غنيّ عن وصيّة منه تستفاد، أو تنبيه على أمر منه يبدأ(12/476)
وإليه يعاد؛ وليتناول معلومه الشاهد به الديوان المعمور هنيّا ميسّرا، ولا يقف أمله عنده: فإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا.
توقيع بنظر اللّاذقيّة «1» ، كتب به للقاضي «برهان الدين» الأذرعيّ؛ وهو:
رسم بالأمر- أنفذه الله في الآفاق، وطوّق بمنّه وفواضل برّه الأعناق- أن يستقرّ المجلس السامي- حرس الله مهجته، وأهلك حسدته- في نظر اللاذقية المحروسة، على عادة من تقدّمه وقاعدته، بالمعلوم الشاهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت: علما بأمانته المشهورة، وكتابته الّتي هي بين أهل الصّناعة مشكورة، وخبرته الّتي هي في المباشرات معروفة غير منكورة، وكفايته المألوفة الموفورة؛ فإنّه باشر الحسبة الشّريفة ونهى وأمر، واتّبع في أحكامه ما أمر به «أمير المؤمنين عمر» ، وضبط أموال بيت المال بحسن نظره وميّز وثمّر.
فليباشر هذه الوظيفة المباركة مباشرة على أجمل العادات، ويسترفع مالها من الحسبانات، ويوصّل إلى أرباب الاستحقاق ما لهم من الحقوقات، على ما يشهد به الديوان المعمور في سائر الأوقات؛ فإنّ هذه الوظيفة من أجلّ المباشرات؛ وليتناول معلومه الشاهد به الديوان المعمور هنيّا ميسّرا على جاري العادة لمن تقدّمه في الفروع وسائر الجهات، وليعتمد على تقوى الله تعالى في سائر الحركات والسّكنات؛ والله تعالى يتولّاه، والاعتماد على الخط الكريم أعلاه.
توقيع أيضا في المعنى:
لا زالت صدقاته الشريفة تقيم لاتباع الحقّ برهانا، وتسدي إلى كلّ أحد خيرا وإحسانا- أن يرتّب فلان ناظرا باللّاذقيّة المحروسة وما هو مضاف إليها،(12/477)
على عادة من تقدّمه وقاعدته ومعلومه الشاهد به الديوان المعمور: لأنّه طالما باشر نظر بيت المال فوفّر الأموال، وأصلح ما فسد من الأحوال، وسدّد بحسن تدبيره الأقوال والأفعال، وأظهر من الأمانة ما تميّز به في مباشراته، وفاق به على قرنائه وأهل زمانه وأوقاته، ثم باشر الحسبة فسلك فيها مسلك السّرّ والجهر وصدق الخبر، وسلك مسلك أمير المؤمنين عمر.
فليباشر هذا النّظر بقلب منشرح، وأمل منفسح، وليظهر فيه ما جرّب به من الأمانة، وتجنّب الخيانة، وليجتهد في تحصيل أموال الدّيوان المعمور، ويبسط قلمه في إصلاح الأمور، وليوصّل إلى أرباب المرتّبات ما هو لهم مستحق، فإنّهم به أولى وأحق، وليوصّل إليه معلومه أوان وجوبه واستحقاقه.......
توقيع بمشارفة حصن الأكراد، كتب به للقاضي «بدر الدين» ب «المجلس العالي؛ وهو:
رسم بالأمر الشّريف- لا زالت مراسمه العالية تولي الأنام برّا، وتجدّد بإسباغ الإنعام بشرا، وتضوّع في كلّ ناد من أندية الثّناء والدعاء نشرا، وتطلع في كلّ أفق من آفاق السّيادة من صدور الأعيان وأعيان الصّدور بدرا- أن يرتّب فلان في مشارفة حصن الأكراد المحروس: لما هو عليه من العفّة والصّلف «1» ، والنّزاهة الّتي عرف بها واتّصف، والرّآسة الّتي انتقلت إلى الخلف عن السّلف، والعدالة الّتي لا يتكلّف لسلوك نهجها: ومن العجب خلوّ البدر عن الكف!، كم حفظت بمباشرته الأموال، وصلحت بملاحظته الأحوال، وعقدت الخناصر على سيرته وحسن سيره، واشتهر بجميل تدبير أوجب تقديمه على غيره.(12/478)
فليباشر هذه الوظيفة الّتي هي من أجلّ الوظائف، وليشكر ما أولي من المعروف وأسدي إليه من العوارف، وليبذل جهده في صلاح الأحوال، وتثمير الأموال، وتقرير القواعد على السّداد، وإجراء العوائد على وفق المراد، فإنّه ممّن دلّت خبرته على جميل آثاره، ولاحت الغبطة في اختياره الّذي أغنى عن تقديم اختباره؛ كيف لا؟ وهو ممّن نشأ في خدور فنون الكتابة، واشتهر في مواطن النّضال مع وفور الانتقال بحسن الإصابة؛ فهو إن شاء الإنشاء بلغ منه المرام، وإن بسط الجرائد للتّصرّف قيل: هذا الكاتب النّظّام؛ كم له من يد بيضاء في التّبييض والتّسويد، وهمّة علياء بلغ بها من السّيادة ما كان يريد.
فليقدّم خيرة الله تعالى في هذا الأمر ويجعلها إمامه، وليتمسّك بها مقتديا بمن قدمها أمامه، وليكن عند حسن الظّنّ به ليبلغ من سعادة الدّارين مرامه.
والوصايا الّتي يعمّ نفعها، ويتعيّن على تناسب الأعمال جمعها، به تسلك سبلها، وعنه تؤخذ تفاصيلها وجملها؛ فليسلك منها الأقوم الأرشد، وليتمسّك بالأقود الأحمد، بحزم وافر، وعزم غير قاصر؛ وليتناول معلومه الشاهد به الديوان المعمور أحيان الوجوب والاستحقاق رزقا دارّا، هنيّا ميسّرا سارّا، من غير تقتير ولا تكدير، ولا تنغيص ولا تأخير.
توقيع بمشيخة المقام الأدهميّ، كتب به باسم الشيخ «عبد الله السطوحيّ» ب «المجلس العالي» ؛ وهو:
أما بعد حمد الله الّذي سقى محلنا بإيابه «1» ، وأنبت عشبنا بسحابه، وأقرأنا كتاب وجهه وأغنانا عن وجه كتابه، وجعل لكلّ مقام مقالا من صدق(12/479)
أوليائه، ومنحهم بما اختار لهم من سرائر مواهبه وعطائه، وجمع قلوب الفقراء على العبادة والدعاء بواسطة من أحبابه وأخصّاء نجبائه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد نجم السّرى، وليث الشرّى، وسيّد من وطيء الثّرى، وعلى آله وصحبه الذين منهم من لو أقسم لأبرّ قسمه ربّ السما، وسلّم تسليما كثيرا- فلمّا كان الاعتناء بالأمور الدّينيّة من الواجبات، والمحافظة عليها [مما] «1» تبادر إليه من النّفوس الرّغبات؛ وبيوت الله تعالى فهي قوام الدّين المتين، ولا ينهض بعمارتها إلا الذين اتّقوا وآمنوا بربّ العالمين، فطوبى لهم ونعم أجر العاملين.
ومن البيوت العامرة، والسّراة الطاهرة، والمقامات الّتي إذا حلّ بساحتها أكمه العين بصرته نجوما زاهرة- مقام من ذكر كرامته أشأم في أقطار الأرض وأيمن وأنجد وأتهم، السّيّد الجليل وليّ الله «إبراهيم بن أدهم» «2» ، سيّد الأولياء، وسلطان الأتقياء، رحمة الله عليه ما سار على الطّريق سائر، وما امتطى ظهر قلوص مسافر، مقام بالزّهد موصوف، وبالبركات معروف، وله الإطلاقات المشهورة، والمناهل المأثورة، في وردها المبرورة، قد استولت عليه يد التّبذير، وعاد بعد طول سماطه في تقصير، واختلف فيه النيّات فكان في كيس الفقير «3» ، فكشف الله هذه النّقمة، وأدام سوابغ النّعمة، وأسبل على هذا المقام ظلال الحرمة، وأرسل الله على عباده المتّقين باعثا من عنده، وأيقظهم لعلمه بأن كلّا واقف عند أمره وحدّه، وأنطق لسان من لا رادّ لأمره، فكشف غمّة هذا المقام وعزل من يخاف عليه من سوء تدبيره وشرّه.
فلذلك رسم- أن تفوّض مشيخة المقام الجليل الأدهميّ بثغر جبلة المحروس- على ساكنه الرحمة والرضوان- إلى فلان- نفع الله ببركاته، وأعاد(12/480)
على المسلمين من صالح دعواته- عوضا عمن كان بها بحكم انفصاله حسب ما وردت المراسيم الشريفة- شرفها الله تعالى وعظمها- عند اتّصال العلوم الشريفة- زادها الله تعظيما- بأمر المقام المشار إليه واعتماد المتصرفين فيه: إذ وضعت الآن الأشياء في محلّها، وأسندت الأمور إلى أهلها، وقلّدت هذه المثوبة إلى من يظهر سرائر فضلها، ولحظت الآراء حجر هذا المقام والأثر، ولا شكّ أنّ السّعادة تلحظ الحجر؛ كم له من آيات مشهورة، وكرامات بلسان الحمد مذكورة، ومساع في الخيرات مبرورة، وقد عمّ الزوايا بأجناس المكارم، وبسط للزّائرين من إكرامه سماطا يقول الزّائر: هذا ولا حاتم:
نزور ديارا زارها جود كفّه ... ومن دونها للزّائرين مراحل،
ونرجع عنها والجفون قريرة: ... كما راجعت مأوى الحقوف المساحل! «1»
فليتلقّ- أعاد الله من بركته- هذه الولاية، وليجعل للمقام المشار إليه من خاطره الكريم أوفر عناية، ويستخلف عنه إذا توجّه إلى [مشيخة كذا] «2» بحصن الأكراد فإنّها مستمرّة بيده وولايتها باقية عليه، وأمرها في إبدائه وإعادته عليه؛ والله تعالى يتولّاه، فيما ولّاه؛ والاعتماد.......
قلت: وقد أتيت على جملة من تواقيع أرباب الوظائف: بدمشق وحلب وطرابلس وأعمال كلّ منها، يستغني بها الماهر عمّا سواها، ويقيس عليها ما عداها؛ إذ لا سبيل إلى استيفاء جميعها، والإتيان على جملتها.
وفيما ذكر من هذه الممالك الثلاث تنبيه على ما يكتب بحماة وصفد اللّتين هما في رتبة طرابلس، وتلويح إلى ما عداها، مما هو دونها كغزّة إذا كانت نيابة، والكرك الّتي هي دون ذلك.(12/481)
والله تعالى هو الهادي إلى التوفيق، والمرشد للسّداد، بمنّه وكرمه.
تم الجزء الثاني عشر. يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الثالث عشر وأوّله المقالة السادسة (فيما يكتب في المسامحات، والإطلاقات السلطانية، والطّرخانيات وتحويل السنين والتذاكر؛ وفيها أربعة أبواب) والحمد لله رب العالمين، وصلاته على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وآله وصحبه والتابعين، وسلامه وحسبنا الله ونعم الوكيل.(12/482)
مصادر ومراجع الهوامش للجزء الثاني عشر من صبح الأعشى
1 1- القرآن الكريم.
2- أساس البلاغة- للزمخشري- دار صادر- بيروت.
3- الأعلاق الخطيرة- تأليف ابن شداد-.
تحقيق يحيى عبّارة- وزارة الثقافة، دمشق.
4- الأعلام- خير الدين الزركلي-.
دار العلم للملايين- بيروت.
5- الألقاب الإسلامية في التاريخ والآثار والوثائق- تأليف حسن الباشا.- مكتبة النهضة المصرية.
6- الإنتصار لواسطة عقد الأمصار تأليف ابن دقماق-.
دار الآفاق الجديدة- بيروت.
7- بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب- تأليف محمود شكري الآلوسي-.
دار الكتب العلمية- بيروت.
8- تأصيل ما ورد في تاريخ الجبرتي من الدخيل- تأليف أحمد السعيد سليمان-.
دار المعارف- مصر.
9- تاريخ التمدّن الإسلامي- تأليف جرجي زيدان. 2 10- التعريفات- تأليف علي بن محمد الجرجاني-.
دار الكتب العلمية- بيروت.
11- التعريف بمصطلحات صبح الأعشى- تأليف محمد قنديل البلقي- الهيئة المصرية للكتاب.
12- تشريف الأيام والعصور في سيرة الملك المنصور- تأليف محيي الدين بن عبد الظاهر.
تحقيق مراد كامل ومحمد علي النجار- وزارة الثقافة والإرشاد- ج. ع. م.
13- تهذيب الأسماء واللغات- للنووي-.
دار الكتب العلمية- بيروت.
14- جمهرة أمثال العرب- تأليف أبي هلال العسكري-.
تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعبد المجيد قطامش- المؤسسة العربية الحديثة.
15- جنى الجنتين في تمييز نوعي المثنيين- تأليف المحبّي- دار الآفاق الجديدة.(12/483)
16- الجوهر الثمين في سير الملوك والسلاطين- تأليف ابن دقماق-.
تحقيق محمد كمال الدين عز الدين علي- عالم الكتب.
17- حسن التوسل في صناعة الترسّل- تأليف شهاب الدين محمود الحلبي-.
تحقيق أكرم عثمان يوسف- وزارة الثقافة والإعلام العراقية.
18- الحسبة والمحتسب في الإسلام- نصوص جمعها وقدّم لها نقولا زيادة- المطبعة الكاثوليكية- بيروت.
19- الحياة العقيلة في عصر الحروب الصليبية بمصر والشام-. تأليف أحمد أحمد بدوي- دار نهضة مصر للطباعة والنشر.
20- الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة- تأليف علي مبارك- الهيئة المصرية للكتاب.
21- خطط المقريزي-.
دار صادر- بيروت.
22- دائرة المعارف الإسلامية- مجموعة من المستشرقين- الطبعة العربية-.
دار الشعب- القاهرة.
23- شذرات الذهب- تأليف ابن العماد الحنبلي-.
دار إحياء التراث العربي.
24- شرح أبيات مغني اللبيب- تأليف عبد القادر بن عمر البغدادي.
تحقيق عبد العزيز رباح وأحمد يوسف دقاق-.
25- شرح ديوان الحماسة- للتبريزي-.
منشورات عالم الكتب- بيروت. 2 26- صبح الأعشى في صناعة الإنشا- القلقشندي- الطبعة الأميرية- القاهرة.
27- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع- تأليف محمد بن عبد الرحمن السخاوي-.
دار مكتبة الحياة- بيروت.
28- طبقات الشافعية- تأليف هداية الله الحسيني-.
تحقيق عادل نويهض.
دار الآفاق الجديدة- بيروت.
29- طبقات الشعراء- تأليف ابن قتبية الدينوري-.
تحقيق مفيد قميحة-.
دار الكتب العلمية- بيروت.
30- العقد الفريد- تأليف ابن عبد ربه- تحقيق عبد المجيد الترحيني. دار الكتب العلمية بيروت.
31- فوات الوفيات- تأليف محمد شاكر الكتبي-.
تحقيق إحسان عباس-.
دار صادر- بيروت.
32- القاموس المحيط- للفيروزأبادي- المؤسسة العربية للطباعة والنشر- بيروت.
33- القلقشندي وكتابه صبح الأعشى- مجموعة من الباحثين- الهيئة المصرية للكتاب.
34- قوانين الدواوين- تأليف ابن مماتي-.
تحقيق عزيز سوريال عطية- مطبعة مصر.
35- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون- تأليف حاجي خليفة-.
دار الفكر بيروت.(12/484)
1 36- الكليات- تأليف أبي البقاء الكفوي-.
تحقيق عدنان درويش ومحمد المصري- وزارة الثفاقة- دمشق.
37- لسان العرب- تأليف ابن منظور-.
دار صادر- بيروت.
38- مجمع الأمثال- للميداني-.
تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد- مطبعة السنّة المحمدية.
39- مراصد الإطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع- تأليف عبد المؤمن البغدادي-.
تحقيق علي محمد البجاوي-.
دار أحياء الكتب العربية.
40- مسالك الأبصار في ممالك الأمصار.
(قبائل العرب في القرنين السابع والثامن الهجريين) . تأليف ابن فضل الله العمري-.
تحقيق دوروثيا كرافولسكي.
41- المستقصى في أمثال العرب- للزمخشري-.
دار الكتب العلمية- بيروت.
42- معجم البلدان- ياقوت الحموي-.
دار إحياء التراث العربي- بيروت.
43- معجم الألفاظ والأعلام القرآنية- محمد اسماعيل إبراهيم-.
دار الفكر العربي.
44- معجم الأنساب والأسرات الحاكمة في التاريخ الإسلامي-. للمستشرق زامباور- مطبعة جامعة فؤاد الأول.
45- معجم الشعراء- المرزباني- تصحيح وتعليق: د- ف- كرنكو-.
دار الكتب العلمية- بيروت. 2 46- معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس-.
تحقيق عبد السلام هارون- دار الفكر.
47- المعجم الوسيط- مجمع اللغة العربية- القاهرة.
48- معجم عبد النور- تأليف جبور عبد النور-.
دار العلم للملايين.
49- منطلق تاريخ لبنان- تأليف كمال سليمان الصليبي- منشورات كارافان- نيويورك.
50- الموسوعة العربية الميسرة- بإشراف محمد شفيق غربال-.
دار الشعب القاهرة.
51- الموسوعة الفلسطينية- هيئة الموسوعة الفلسطينية- دمشق.
52- مقدمة ابن خلدون- تأليف عبد الرحمن ابن خلدون.
دار الكتاب اللبناني- بيروت.
53- نزهة النفوس والأبدان في تواريخ الزمان- تأليف الخطيب الصيرفي-.
تحقيق حسن حبشي-.
مطبعة دار الكتب- الظاهرة.
54- النظم الإسلامية- تأليف صحبي الصالح-.
دار العلم للملايين- بيروت.
55- هدية العارفين- إسماعيل باشا البغدادي- دار الفكر- بيروت.
56- الوثائق السياسة للعهد النبوي والخلافة الراشدة- تأليف محمد حميد الله-.
دار النفائس- بيروت.
57- وفيات الأعيان- تأليف ابن خلكان-.
تحقيق إحسان عباس.
دار الثفافة- بيروت.(12/485)
فهرس الجزء الثاني عشر من صبح الأعشى
الموضوع الصفحة القسم الثاني- مما يكتب من الولايات عن الأبواب السلطانية- ما يكتب لأرباب الوظائف بالممالك الشامية؛ ونواب السلطنة في التولية على ضربين 3 الضرب الأوّل- من لا تصدر عنه منهم تولية في عمل نيابته 3 الضرب الثاني- من تصدر عنه التولية والعزل في عمل نيابته؛ وكان في البلاد الشامية سبع ممالك عظام استقرّت سبع نيابات 3 النيابة الأولى- نيابة دمشق، ويعبّر عنها بكفالة السلطنة بالشام، ووظائفها على نوعين 5 النوع الأوّل- ما هو بحاضرة دمشق، ويشتمل ما يكتب به من وظائفها عن الأبواب السلطانية على أربعة أصناف 6 الصنف الأوّل- أرباب السيوف، وهم على طبقات 6 الطبقة الأولى- من يكتب له تقليد في قطع الثلثين ب «المقرّ العالي» مع الدعاء ب «عزّ الأنصار» وهو نائب السلطنة بها 6 الطبقة الثانية- من يكتب له تقليد شريف في قطع النصف ب «المجلس العالي» وهو الوزير من أرباب السيوف 22 الطبقة الثالثة- من يكتب له مرسوم شريف؛ وهي على مرتبتين 23 المرتبة الأولى- من يكتب له في قطع النصف، وهو نائب قلعة دمشق.. 23
المرتبة الثانية- من المراسيم الّتي تكتب بحاضرة دمشق لأرباب السيوف، ما يكتب في قطع الثلث، وفيها وظيفتان 31 الوظيفة الأولى- شدّ الدواوين بدمشق 31 الوظيفة الثانية- شدّ المهمّات 33(12/487)
الصنف الثاني- من الوظائف بدمشق الوظائف الدينية، وجميع ما يكتب فيها تواقيع، وهي على مرتبتين 36 المرتبة الأولى- ما يكتب في قطع النصف ب «المجلس العاليّ» بالياء، مفتتحا «بالحمد لله» 36 المرتبة الثانية- من تواقيع الوظائف الدينية بدمشق، ما يكتب في قطع الثلث مفتتحا ب «الحمد لله» إن علت رتبة المتولي، أو «أما بعد حمد الله» إن انحطّت رتبته عن ذلك ب «المجلس السامي» وفيها وظائف 57 الوظيفة الأولى- قضاء العسكر 57 الوظيفة الثانية- إفتاء دار العدل بدمشق 57 الوظيفة الثالثة- الحسبة 58 الوظيفة الرابعة- وكالة بيت المال المعمور 63 الوظيفة الخامسة- الخطابة 69 الوظيفة السادسة- التداريس الكبار بدمشق المحروسة 76 الوظيفة السابعة- التصادير بدمشق المحروسة 80 الوظيفة الثامنة- النّظر 83 الصنف الثالث- من تواقيع أرباب الوظائف بحاضرة دمشق- تواقيع أرباب الوظائف الديوانية، وفيها مرتبتان 85 المرتبة الأولى- ما يكتب في قطع النصف ب «المجلس العالي» وهي على ضربين 85 الضرب الأوّل- تواقيع الوزارة بالمملكة الشاميّة على ما استقرّ عليه الحال، وفيه وظائف 85 الوظيفة الأولى- ولاية تدبير الممالك الشامية 85 الوظيفة الثانية- كتابة السرّ بالشام 85 الوظيفة الثالثة- نظر الجيوش بالشام 96 المرتبة الثانية- من مراتب أرباب التواقيع الديوانية بدمشق- من يكتب له في قطع الثلث ب «المجلس الساميّ» بالياء، مفتتحا ب «الحمد لله» إن علت رتبته، وإلّا ب «أما بعد» وتشتمل على وظائف 98(12/488)
الصنف الرابع- من الوظائف بدمشق وظائف المتصوّفة ومشايخ الخوانق، وفيها مرتبتان 100 المرتبة الأولى- ما يكتب في قطع الثلث ب «المجلس الساميّ» بالياء، مفتتحا ب «الحمد لله» وبذلك يكتب لشيخ الشيوخ بالشام 100 المرتبة الثانية- من يكتب له في قطع العادة مفتتحا ب «رسم» 102 النوع الثاني- من وظائف دمشق ما هو خارج عن حاضرتها، وقد تقدم في المقالة الثانية أن لدمشق أربع صفقات 103 الصفقة الغربية- وهي المعبر عنها بالساحلية والجبلية، وتولّي فيها الأبواب السلطانية 103 الصفقة القبليّة- ويولّى بها من الأبواب السلطانية نيابة صرخد 105 الصفقة الشرقية- والنيابات فيها على طبقتين 105 الطبقة الأولى- ما يكتب به مرسوم شريف في قطع النصف، وهو ما يليه مقدّم ألف أو طبلخاناه، وفيها نيابات 105 النيابة الأولى- نيابة حمص 105 النيابة الثانية- نيابة الرحبة 109 النيابة الثالثة- نيابة مصياف 113 الصفقة الشمالية- والّذي يولّى بهذه الصفقة عن الأبواب السلطانية نيابة بعلبكّ فقط 115 الصنف الثاني-[لم يتقدم تقسيمه إلى أصناف، ولعلّ مراده أن ما تقدّم من التولية من الصفقات صنف أول وهذا صنف ثان] ممن هم خارج دمشق: ممن يولّى عن الأبواب السلطانية- أمراء العربان، وهم على طبقتين 118 الطبقة الأولى- من يكتب له منهم تقليد في قطع النصف ب «المجلس العالي» 118 الطبقة الثانية- من عرب الشام- من يكتب له مرسوم شريف، وهم على مرتبتين 124 المرتبة الأولى- من يكتب له في قطع النصف 124(12/489)
المرتبة الثانية- من يكتب له قي قطع الثلث ب «السامي» يغير ياء مفتتحا ب «أما بعد» 136 النيابة الثانية- من نيابات البلاد الشامية- نيابة حلب، ووظائفها الّتي يكتب بها من الأبواب السلطانية على نوعين 141 النوع الأوّل- من بحاضرة حلب، وهم على أصناف 141 الصنف الأوّل- أرباب السيوف، وهم على طبقتين 141 الطبقة الأولى- من يكتب له تقليد، وهو نائب السلطنة بها، وتقليده في قطع الثلثين ب «الجناب الكريم» 141 الطبقة الثانية- من يكتب له في قطع الثلث ب «المجلس السامي» وفيها وظائف 151 الوظيفة الأولى- نيابة القلعة بها 151 الوظيفة الثانية- شدّ الدواوين بحلب 153 الصنف الثاني- من أرباب الوظائف بحلب- أرباب الوظائف الدينيّة، وهم على طبقتين 156 الطبقة الأولى- من يكتب له في قطع الثلث ب «الساميّ» بالياء 156 الطبقة الثانية- من يكتب له في قطع العادة ب «السامي» بغير ياء، أو ب «مجلس القاضي» 160 الصنف الثالث- من أرباب الوظائف بحلب- أرباب الوظيفة الديوانية، وهم على طبقتين 160 الطبقة الأولى- من يكتب له في قطع الثلث ب «الساميّ» بالياء 160 الطبقة الثانية- من يكتب له من أهل بالمملكة الحلبيّة في قطع العادة مفتتحا ب «رسم» 167 النوع الثاني- من أرباب الوظائف بالمملكة الحلبيد- من هو خارج عن حاضرتها، وهم على أصناف 167 الصنف الأوّل- أرباب السيوف 167 الصنف الثاني- مما هو خارج عن حاضرة حلب، الوظائف الدينية بمعاملتها: من القلاع وغيرها 174(12/490)
الصنف الثالث- مما هو خارج عن حاضرة حلب- الوظائف الديوانيّة 174 النيابة الثالثة- نيابة طرابلس، ووظائفها على نوعين 176 النوع الأوّل- ما هو بحاضرة طرابلس، وهو على ثلاثة أصناف 176 الصنف الأوّل- أرباب السيوف، وهم على طبقتين 176 الطبقة الأولى- من يكتب له تقليد 176 الطبقة الثانية- من يكتب له مرسوم شريف في قطع الثلث ب «المجلس السامي» بغير ياء 179 الصنف الثاني- من الوظائف بطرابلس الّتي يكتب لأربابها من الأبواب السلطانية- الوظائف الدينيّة وهي على مرتبتين 181 المرتبة الأولى- من يكتب له في قطع الثلث ب «المجلس الساميّ» بالياء 181 المرتبة الثانية- من تواقيع أرباب الوظائف الدينيّة بطرابلس من يكتب له في قطع العادة مفتتحا ب «رسم» 185 الصنف الثالث- من الوظائف بطرابلس الّتي يكتب لأربابها من الأبواب السلطانية- الوظائف الديوانية وهي على مرتبتين 186 المرتبة الأولى- ما يكتب في قطع الثلث ب «المجلس الساميّ» بالياء 186 المرتبة الثانية- من مراتب أرباب الوظائف الديوانية بطرابلس- من يكتب له في قطع العادة ب «مجلس القاضي» 192 النوع الثاني- من الوظائف بطرابلس- ما هو خارج عن حاضرتها، وهي على ثلاثة أصناف أيضا 193 الصنف الأوّل- أرباب السيوف، والنيابات بمعاملتها على طبقتين 193 الطبقة الأولى- الطبلخاناه 193 الطبقة الثانية العشرات 195 الصنف الثاني- مما هو خارج عن حاضرة طرابلس- الوظائف الدينية. 196
الصنف الثالث- مما هو خارج عن حاضرة طرابلس- أرباب الوظائف الديوانية 197 النيابة الرابعة- نيابة حماة، ووظائفها الّتي يكتب بها عن الأبواب السلطانية، ما بحاضرتها خاصّة وهي على ثلاثة أصناف [ذكر صنفين(12/491)
فقط] 197 الصنف الأوّل- أرباب السيوف 197 الصنف الثاني- أرباب الوظائف الدينية 201 النيابة الخامسة- نيابة صفد، ووظائفها الّتي تولّى من الأبواب السلطانية على ثلاثة أصناف 202 الصنف الأوّل- أرباب السيوف 202 الصنف الثاني- أرباب الوظائف الديوانية 208 الصنف الثالث- أرباب الوظائف الدينية 208 الصنف الرابع-[وقد تقدّم له التقسيم إلى ثلاثة أصناف] أرباب الوظائف الديوانية [وهذا الصنف هو بمعنى الصنف الثاني، وقد زاد فيه اللقلب وقطع الورق] 208 النيابة السادسة- نيابة غزّة، والوظائف الّتي تولّى بها من الأبواب السلطانية على صنفين 208 الصنف الأوّل- أرباب السيوف 209 الصنف الثاني- الوظائف الديوانيّة 215 النيابة السابعة- نيابة الكرك، وأرباب الولايات بها من الأبواب السلطانية على أصناف 216 الصنف الأوّل- أرباب السيوف 126 الصنف الثاني- أرباب الوظائف الدينيّة 227 الصنف الثالث- الوظائف الديوانيّة 227 القسم الثالث- مما يكتب من الولايات عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية- ما يكتب لأرباب الوظائف بالمملكة الحجازية، وقد تقدّم أنها تشتمل على ثلاث قواعد 228 القاعة الأولى- مكّة المشرّفة، وبها وظيفتان 228 الوظيفة الأولى- الإمارة 228 الوظيفة الثانية- قضاء مكّة 235 القاعدة الثانية- المدينة النبوية، وبها ثلاث وظائف 237(12/492)
الوظيفة الأولى- الإمارة 237 الوظيفة الثانية- القضاء 253 الوظيفة الثالثة- مشيخة الحرم الشريف 254 القاعدة الثالثة- الينبع، وبها وظيفة واحدة وهي النيابة 257 القسم الرابع [وقد تقدّم له تقسيمه إلى ثلاثة أصناف فقط]- مما يكتب من الولايات عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية- ما يقع على سبيل النّدور، وهو الّذي يقع في حين من الأحيان من غير ان يسبق له نظير 259 الفصل الثالث، من الباب الرابع من المقالة الخامسة- فيما يكتب من الولايات عن نوّاب السلطنة، وفيه طرفان 275 الطرف الأوّل- في مقدّمات هذه الولايات، ويتعلق بها مقاصد 275 المقصد الأوّل- في بيان ما تصدر عنه الولايات: من نوّاب السلطنة 275 المقصد الثاني- في بيان الولايات الّتي تصدر عن نوّاب السلطنة بالممالك الشامية 276 المقصد الثالث- في افتتاحات التواقيع والمراسيم بتلك الولايات 276 المقصد الرابع- في بيان الألقاب، وأمّا ما يكتب عن نوّاب الشام فعلى أصناف 278 الصنف الأوّل- أرباب السيوف 279 الصنف الثاني- من أرباب الولايات بالممالك الشامية- أرباب الوظائف الديوانية 282 الصنف الثالث- من أرباب الولايات بالممالك الشامية- أرباب الوظائف الدينيّة 285 الصنف الرابع- من أرباب الولايات بالممالك الشامية- مشايخ الصوفيّة 288 الصنف الخامس- من أرباب الولايات بالممالك الشامية- أمراء العربان 288 الصنف السادس- من أرباب الولايات بالممالك الشامية- أرباب الوظائف العادية 289 الصنف السابع- من أرباب الولايات بالممالك الشامية- زعماء أهل الذمّة 289(12/493)
المقصد الخامس- في بيان مقادير قطع الورق المستعلى فيما يكتب عن نوّاب الممالك الشامية 290 المقصد السادس- في بيان ما يكتب في طرّة التواقيع 290 المقصد السابع- في بيان كيفيّة ترتيب هذه التواقيع 294 الطرف الثاني- في نسخ التواقيع المكتتبة عن نوّاب السلطنة بالممالك الشامية، وقد اقتصر في نسخ التواقيع على ما يكتب ثلاث نيابات 295 النيابة الأولى- الشام، والتواقيع الّتي تكتب بها على خمسه أصناف 295 الصنف الأوّل- ما يكتب بوظائف أرباب السيوف، وهو على ضربين 295 الضرب الأوّل- ما هو بحاضرة دمشق، وهو على مراتب 925 المرتبة الثانية- ما يفتتح ب «الحمد لله» 295 المرتبة الثالثة- من تواقيع وظائف أرباب السيوف بدمشق- ما يفتتح ب «رسم بالأمر العالي» 302 الضرب الثاني- ممن يكتب له عن نائب السلطنة بالشام من أرباب السيوف- من هو بأعمال دمشق، ومواضعهم على ثلاث مراتب أيضا 307 المرتبة الثانية- من تواقيع أرباب السيوف- ما يفتتح ب «أما بعد حمد الله» 313 الصنف الثاني- مما يكتب لأرباب الوظائف بدمشق- تواقيع أرباب الوظائف الدينيّة، وهي على ضربين 334 الضرب الأوّل- ما يكتب لمن هو بحاضرة دمشق، وهو على ثلاث مراتب. 334
المرتبة الأولى- ما يفتتح ب «الحمد الله» 334 المرتبة الثانية- ما يفتتح ب «أما بعد حمد الله» 358 المرتبة الثالثة- ما يفتتح ب «رسم بالأمر» 370 الضرب الثاني- من تواقيع أرباب الوظائف الدينيّة بالشام- ما يكتب به لمن هو بأعمال دمشق، وهو على مرتبتين 375 المرتبة الأولى- ما يفتتح ب «أما بعد حمد الله» 375 المرتبة الثانية- ما يفتتح «برسم بالأمر» 378(12/494)
الصنف الثالث- من التواقيع الّتي تكتب لأرباب الوظائف بدمشق- ما يكتب لأرباب الوظائف الديوانية، وهي على ضربين 381 الضرب الأوّل- ما يكتب لمن بحاضرة دمشق منهم، وهو على ثلاث مراتب 381 المرتبة الأولى- ما يفتتح ب «الحمد لله» 381 المرتبة الثانية- ما يفتتح ب «أما بعد حمد الله» 388 المرتبة الثالثة- ما يفتتح ب «رسم بالأمر الشريف» 392 الضرب الثاني- من الوظائف الديوانية بالشام- ما هو خارج عن حاضرة دمشق، وغالب ما يكتب فيها من التواقيع مفتتح ب «رسم» 402 الصنف الرابع- مما يكتب لأرباب الوظائف بالشام- تواقيع مشايخ الخوانق، وهي على ضربين 409 الضرب الأوّل- ما هو بحاضرة دمشق، وهو على ثلاث مراتب 409 المرتبة الأولى- ما يفتتح ب «الحمد لله» 409 المرتبة الثانية- ما يفتتح ب «أما بعد حمد الله» 415 المرتبة الثالثة- ما يفتتح ب «رسم بالأمر» 418 الضرب الثاني- من تواقيع مشيخة الأماكن- ما هو بأعمال دمشق؛ وفيه مرتبة واحدة، وهي الافتتاح ب «رسم» 419 الصنف الخامس- مما يكتب لأرباب الوظائف بالشام- تواقيع العربان. 421
الصنف السادس- مما يكتب لأرباب الوظائف بالشام- تواقيع زعماء أهل الذمّة 422 النيابة الثالثة- مما يكتب من التواقيع بالولايات عن نوّاب السلطنة بها- نيابة طرابلس 448 تمّ فهرس الجزء الثاني عشر من صبح الأعشى(12/495)
[الجزء الثالث عشر]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
وصلّى الله وسلّم على سيدنا محمد وآله وصحبه
المقالة السادسة فيما يكتب في [الوصايا الدينية
، و] «1» المسامحات، والإطلاقات السلطانية والطّرخانيات، وتحويل السنين والتذاكر؛ وفيها أربعة أبواب:
الباب الأوّل في الوصايا الدينيّة؛ وفيه فصلان
الفصل الأول فيما لقد ماء الكتّاب من ذلك
اعلم أنّه كان لقدماء الكتّاب بذلك عناية عظيمة بحسب ما كان للملوك من الإقبال على معالم الدّين؛ ومن أكثرهم عناية بذلك أهل الغرب: لم يزالوا يكتبون بمثل ذلك إلى نواحي ممالكهم، ويقرأ على منابرهم؛ ولهم في ذلك الباع الطويل والهمة الوافرة.
وهذه نسخة من ذلك كتب بها بها أبو زيد الداراري: أحد كتّاب الأندلس عن أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين المنصور: أحد خلفاء بني أميّة «2» بالأندلس؛ وهي:(13/3)
الحمد لله الذي جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلين تتفرّع عنهما مصالح الدنيا والدّين، وأمر بالمعروف والإحسان إرشادا إلى الحق المبين، والصلاة على سيدنا محمد الكريم المبتعث بالشريعة التي طهّرت القلوب من الأدران واستخدمت بواطن القلوب وظواهر الأبدان طورا بالشّدّة وتارة باللين، القائل- ولا عدول عن قوله عليه السّلام-: «من اتّقى الشّبهات استبرأ لدينه» تنبيها على ترك الشكّ لليقين، وعلى آله الكرام أعلام الإسلام المتلقّين راية الاهتداء في إظهار السّنن وإيضاح السّنن باليمين، الذين مكّنهم الله تعالى في الأرض فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر: وفاء بالواجب لذلك التمكين.
والرّضا عن الأئمة المظهرين للدّين المتين، البالغين بالبلاد والعباد نشرا(13/4)
للعدل وإتماما للفضل إلى أقصى غاية التمهيد والتأمين، رضي الله عنهم أجمعين! وعن تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين!.
وإنّا كتبناه لكم- كتب الله لكن اتّباعا إلى ما ينهى من المصالح إليكم، واستماعا إلى ما يتلى من المواعظ عليكم- من حضرة إشبيلية «1» - كلأها الله-.
والذي نوصيكم به تقوى الله تعالى والعمل بطاعته والاستعانة به والتوكّل عليه، وأن تعلموا أنا لم نقم هذا المقام الذي حفظ الله به نظام الحق من انتثاره، وأمدّنا بعونه الجميل على إحياء الدّين وإفاضة أنواره، إلا لنستوفي كلّ نظر يعود على الأمة باستقامة أخراها وأولاها، ونهيب بها إلى أسمى رتب السعادة وأعلاها، ونوقظ بصائرها بنافع الذكرى من كراها. فعلينا لها بحكم ما تقلّدناه من إمامتها، وتحمّلناه من أمانتها، أن نتخوّلها بالحكمة والموعظة الحسنة، ونرشدها إلى المناهج الواضحة والسّبل البيّنة، ونضفي على خاصّتها وعامّتها ظلّ الدّعة والأمنة؛ وإذا كنّا نوفّيها تمهيد دنياها، ونعتني بحماية أقصاها وأدناها، فالدّين أهمّ وأولى، والتّهمّم بإحياء شرائعه وإقامة شعائره أحقّ أن يقدّم وأحرى. وعلينا أن نأخذ بحسب ما نأمر به وندع، ونتّبع السّنن المشروعة ونذر البدع، ولها أن لا ندّخر عنها نصيحة، ولا نغبّها «2» إرادة من الأدواء مريحة، ولنا [عليها] «3» أن تطيع وتسمع؛ وقد علم الله أنا لم نتحمّل أمانة الإسلام، لنستكثر من الدنيا وزخرفها، ولم نتصدّ لهذا المقام، لنستأثر بنعيمها وترفها، وإنما كان قصدنا قبل وبعد إقامة الكافّة في أوثر قراها وأوطإ كنفها؛ وبحسب هذه النية التي طابقها العمل، ولم يتعدّها الأمل، نيلت من الخيرات نهايات، كانت الخواطر تستبعد منالها، وتيسّرت(13/5)
إرادات، كانت الأمّة منذ زمان لم تر مثالها، وساعدت العناية الربّانيّة فلم تؤن «1» مقصودا جميلا، ولا منّا جزيلا.
وإلى هذا- أدام الله كرامتكم- فإنا لم نزل مع طول المباشرة للأحوال كلّها، وتردّد المشاهدة لعقد الأمور وحلّها، نقف وقوف المتأمل على جزئيّات الأمور وكليّاتها، ولا يغيب عن تصفّحنا وتعرّفنا شيء من مصالح الجهات وكيفيّاتها، ولم نمرّ بمائل إلا تولّينا إقامته، وأعدنا إليه اعتداله واستقامته ولا انتهينا إلى صواب قول أو عمل إلا شدنا مبناه، وأظهرنا لفظه ومعناه.
والآن حين استوفى إشرافنا على البلاد قاطبة، ولزمنا بحكم القيام لله في خلقه بحقّه أن نتعهّد الكافّة دانية ونائية وشاهدة وغائبة، ورجونا أن نتخلّص من القسم الأوّل في قوله عليه السّلام: «اللهمّ من ولي من أمر أمّتي شيئا فرفق بهم فارفق به» بأعمال على الرّفق دائبة، وعلى الحقّ مواظبة- صرفنا أعنّة الاعتناء بجوامع المصالح فرأينا الدّين ينظم تبدّدها، ويستوعب تعدّدها، لا تشذّ مصلحة عن قوانينه، ولا تنال بركة إلا مع تحصينه وتحسينه؛ والله تعالى يعيننا وإياكم على إقامة حدوده، وإدامة عهوده. وأوّل ما يتناول به الأمر كافّة المسلمين الصلاة لأوقاتها، والأداء لها على أكمل صفاتها، وشهودها إظهارا لشرائع الإيمان في جماعاتها، فقد قال عليه السّلام: «أحبّ الأعمال إلى الله الصّلاة؛ فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيّعها فهو لما سواها أضيع» . وقال عمر رضي الله عنه: «ولا حظّ في الإسلام لمن ترك الصّلاة» ؛ فهي الرّكن الأعظم من أركان الإيمان، والأسّ الأوثق لأعمال الإنسان، والمواظبة على حضورها في المساجد، وإيثار ما لصلاة الجماعة من المزيّة على صلاة الواحد، أمر لا يضيّعه المفلحون، ولا يحافظ عليه إلا المؤمنون. قال ابن مسعود رضي الله عنه: «لقد رأيتنا وما يتخلّف عنها إلا منافق معلوم النّفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرّجلين حتّى يقام في الصّف» ، وشهود الصبح والعشاء الأخرة شاهد بتمحيص الإيمان؛(13/6)
وقد جاء: «إن شهود الصّبح في جماعة يعدل قيام ليلة» وحسبكم بهذا الرّجحان.
والواجب أن يعتنى بهذه القاعدة الكبرى من قواعد الدّين، ويؤخذ بها في كافّة الأمصار الصغير والكبير من المسلمين، ويلحظ في التزامها قوله عليه السّلام:
«مروا أولادكم بالصّلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر سنين» . وبحسب ذلكم رأينا أن نلزم جار كلّ مسجد، وأمير كلّ سوق وشيخ كلّ زقاق ومعلّم كلّ جهة الانتداب لهذا السعي الكريم، والبدار لما فيه من الأجر العظيم، وأن يحضّ كلّ من في جهته أو سوقه أو حومة مسجده أو موضع صنعته أو تجارته أو تعليمه على الصّلاة وحضورها، والاعتناء بأحكام طهورها، وأن لا يتخلّف عن الجماعة إلا لعذر بيّن، أو أمر يكون معه الشّهود غير ممكن. وعليهم أن يلتزموا هذه الوظيفة أتمّ التزام، ويقوموا بها مؤتجرين «1» أحسن قيام، ويشمّروا عن ساعد كلّ جدّ واعتزام، ويتعرّفوا كلّ من تحتوي عليه المنازل ممن بلغ حدّ التكليف من الرجال، ويتعهدوهم الحين بعد الحين والحال إثر الحال، ويطلبوهم بالذّكر بملازمة هذا العمل الذي قدّمه الله على سائر الأعمال. وليحذر المسلم أن يواقع بإضاعة المكتوبة أمرا إمرا «2» ، ويترك من فرائض الإسلام ما يقتل متعمّد تركه حدّا أو كفرا.
وعلى معلّمي كتاب الله أن يأخذوا الصّبيان بتعلّم الصلاة والطهارة والإدامة لإقامتها والموالاة وحفظ ما تقام به وأقلّ ذلك سورة فاتحة الكتاب. وعلى كل إنسان في خاصّته أن يأخذ صغار بنيه وكبارهم وسائر أهله ومن إلى نظره بذلك ويأمرهم به؛ قال الله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها
«3» ، وقال عليه الصلاة والسلام: «كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته» .
ثم اعلموا أنّ الصلاة بما آثرها الله به من وظائفها الشريفة، وخصائصها(13/7)
المنيفة، تنتظم من أعمال البرّ ضروبا لا تحصر، وتعصم من مواقعة ما يشنأ «1» وينكر، وتحظي من الخيرات العميمة الجسمية بالقسم الأوفى الأوفر؛ قال الله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ
«2» ونحن لا نوسع تاركها بحال عذرا، ولا نؤخّر له عقابا وزجرا، ولا نزال نجبره على إقامتها قسرا، وإذا استمرّ التعهّد لها مع الأحيان، وعمل الناس بما جدّدناه من إجراء التذكير بها بين القرابة والصّحابة والجيران، وتواصوا بالمحافظة عليها حسب الإمكان، لم تزل بيوت أذن الله تعالى أن ترفع ويذكر فيها اسمه معمورة بتلاوة القرآن، ولم تنفكّ إلا للإقامة عن الأذان.
ومما يزيد هذه الوظيفة تأكيدا، ويوفّي قواعدها تشييدا، درس كتاب الصلاة والطهارة حتّى يستكملوه وعيا وحفظا، ويؤدّوا مضمّنه لفظا، فلفظا، ففي ذلك من الإشراف على أحكام العبادتين ما تبين مزيّته وفضله، ولا يسمع المؤمن بحال جهله؛ ثم إذا أحكموه انتقلوا إلى درس كتاب الجهاد، وعمروا الآناء بتعرّف ما أعدّ الله للمجاهدين من الخير المستفاد؛ فالجهاد في سبيل الله فرض على الأعيان، وقد تأكّد تعيّنه لهذه البلاد المجاورة لعبدة الأصنام والصّلبان، ونرجو أن ينجز الله ما وعد به من الفتح القريب لأهل الإيمان؛ وليطلبوا الناس بعرض ما يتدارسون تثبيتا لمحفوظاتهم «3» ، واستزادة لقسمهم من الأجر وحظوظهم.
ومن مقدّمات الجهاد، وأقوى أسباب الاعتداد، تعلّم الرّماية التي ورد الحضّ عليها، وندب الشرع إليها. قال عليه السّلام في قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ
«4» «ألا إنّ القوّة الرّمي» ، قالها ثلاثا: فأظفروا الناس بتعلمهم، ولترتّبوهم طبقات على قدر إجادتهم وتقدّمهم، قال عليه السّلام: «من(13/8)
ترك الرّمي بعد ما علّمه رغبة عنه فإنّها نعمة تركها أو قال كفرها» ، وقال عليه السلام: «من رمى بسهم في سبيل الله فبلغ العدوّ أو لم يبلغ كان له كعتق رقبة» .
وليعلموا أنهم يطلبون في وقت الحاجة بما يثمره هذا التأكيد من بدارهم، ويترتّب عليه من ائتمارهم، وليحرصوا على أن يلفى عددهم وافرا في حالتي إيرادهم وإصدارهم.
ومما فيه مصلحة كريمة الأثر، واضحة الحجول والغرر، يكون ذكرها جميلا، وأجرها جزيلا، تعهّد الضّعفاء والفقراء، وإسهامهم من الكثير كثيرا ومن القليل قليلا بحسب الإصابة والرّخاء، ووضع الصدقات في أهل التعفّف الذين لا يسألون الناس إلحافا أوّل ما يجيء حين العطاء؛ فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «ليس المسكين بهذا الطّوّاف الذي يطوف على الناس فتردّه التّمرة والتّمرتان، وإنّما المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدّق عليه ولا يقوم فيسأل النّاس» ؛ فتفقّدوا هذا الصّنف فهو أولى بالإيثار، وأحقّ أهل الإقتار، والمؤمنون إخوة ويعنى الجار بالجار، وليعن الغنيّ الفقير فذلك من مكارم الآثار.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة تعيّنت إقامتها على المسلمين جميعا؛ فمن رأى منكرا فلينهه إليكم وعليكم تغييره وتعفية أثره على ما يوجبه الدّين ويقتضيه، وليأخذوا الحقّ من كل من تعيّن عليه سواء في ذلك القويّ والضعيف، والمشروف والشريف؛ وكلّ من ارتكب منكرا كائنا من كان، عزّ قدره أوهان، فليبالغ في عقابه، وينكّل على قدر ما ارتكب من المنكر وأتى به، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «إنّما أهلك الذين من قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضّعيف أقاموا عليه الحدّ؛ وإنّني والّذي نفسي بيده لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» ، وقال لأسامة في الحديث نفسه: «أتشفع في حدّ من حدود الله» ؛ وقد حدّ عمر رضي الله عنه ولده، وحدّ عثمان رضي الله عنه أخاه. فلتكن هذه الوظيفة منكم بمرأى ومسمع، ولتسلكوا(13/9)
في إقامتها على الخامل والنّبيه أوضح مهيع، ووفّوا المعروف حقّه من الإظهار، وتلقّوا المنكر بأتمّ وجوه الإنكار، ثم عليكم أجمعين بالتّواصي بالخير والتّعاون على البرّ والتقوى: وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ
«1» وقال عليه السّلام:
«لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تجسّسوا وكونوا عباد الله إخوانا» .
وبالجملة فعلى المؤمن أن يستنفد وسعه في الاقتداء برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والسّلف من بعده؛ ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة؛ ولم ينشأ ما نشأ من الأهوال، ولا طرأ في هذه الأمة ما طرأ من الاختلال، إلا بمفارقة الاقتداء الذي هو للدّين رأس المال؛ ورضي الله عن عمر حيث قال: «فرضت الفرائض وسنّت السّنن وتركتم على الواضحة إلا أن تضلّوا بالناس يمينا وشمالا» .
ومن أشدّ المنكرات- بغير نكير- وجوب تغيير: الخمر التي هي أسّ الإثم والفجور، وأمّ الخبائث والشّرور، وأسّ كلّ خطيئة ورأس كل محظور؛ فليشتدّ أتمّ الاشتداد في أمرها، ويبحث غاية البحث عن مكامن عصرها، ويتفقّد الأماكن المتّهمة ببيعها، ويتسبّب بكلّ وجه وكل طريق إلى قطعها، وليبادر حيث كانت إلى إراقة دنانها، وليبالغ إلى أقصى غايات الاجتهاد في شانها؛ وإنّ الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه؛ فليتّق الله مدمن شربها فإنها رجس من عمل الشيطان، وليحذر ما في قوله عليه السّلام: «لا يشرب المؤمن الخمر حين يشربها وهو مؤمن» من إخراجه عن أهل الإيمان؛ وشرب الخمر لجاج في الطّبع، فلا خير فيها مع الاعتناء المبنيّ على الشّرع؛ ولو نهي الناس عن فتّ البعر لفتّوه حرصا غالبا على ما تقدّم فيه من الزّجر والمنع، فمن عثر عليه بعد من شارب لها أو عاصر، مستسرّ بها أو مجاهر، فليضرب الضرب المبرّح، ويسجن السجن الطويل، وليبقّ إلى أن تصحّ توبته صحة لا تحتمل التأويل؛ ثم إن عاد فالحسام المصمّم يحسم داءه إذا أعضل، ويصدّ به سواه عما استحلّ من هذا الحرام واستهسل.(13/10)
ومن أشدّ ما حذّر منه، وأكّد النهي عنه، كتب الفلسفة لعن الله واضعها! فإنهم بنوها على الكفر والتعطيل، وأخلوها من البرهان والدّليل، وعدلوا بها ضلالا وإضلالا عن سواء السبيل، وجعلوها تكأة لعقائدهم ومقاصدهم المخيّلة ركونا إلى الباطل وتمسّكا بالمستحيل، وقد كان سيدنا الإمام المنصور رضي الله عنه قد جدّ فيها بالتحريق والتّمزيق، وسدّ بإمضاء عزمه المسدّد ورأيه المؤيّد وجوه طلّابها بكل طريق، فحسبنا أن نقتدي في ذلك بأثره الجميل، ونأخذ في إحراقها حيث وجدت وإهانة كاتبيها وطالبيها وقاريها ومقريها، ولا يعدل عن السيف في عقاب من انتحلها واستوهبها- وإن السيف في حقّه لقليل؛ وقد قال عليه الصلاة والسلام:
«تركت فيكم أمرين لن تضلّوا ما تمسّكتم بهما: كتاب الله وسنّة نبيّه» وبحسب العاقل كتاب الله وسنّة الرسول.
ويتعلق بهذا المنهيّ عنه ما استرسل فيه مردة أهل الأهواء، والمتنكّبون فيما تلبّسوا به من الأدران عن سنن الاهتداء، أولئك قوم اعتقدوا إباحة المحظورات كلّها، وعدّوا بإيهاماتهم السخيفة، وتخيّلاتهم الضعيفة، كلّ واهي العقد منحلّها، وادّعوا أنهم من الملة وأعمالهم تقضي بأنهم ليسوا من أهلها؛ فليبحث عن ذلك الصّنف الأوّل وهذا الثان، فمذهبنا أن نطهّر دين الله مما لصق به من الأدران، وأن نعيده إلى ما كان عليه قبل والله المستعان.
ومن الوظائف التي يجب أن تعتنوا بها غاية الاعتناء، وأن تقدّموا النظر فيها على سائر الأشياء، أمر أسواق المسلمين فقد اتّصل بنا ما تطرّق للتّجارات من مسامحات تعفّي عليها الخدع، ولا ينثرها إلا الحرص والطمع، ولا توافق الشرع ولا يطابقها الورع، حتى شاب أكثر المعاملات الفساد، ولا يجري على القانون الشرعيّ في كثير من المبايعات الانعقاد، وتصدّى المتحيّلون فيها لحيل يقصدونها، وأنواع لاجتلاب السّحت «1» يرصدونها؛ وربّما ورد التاجر من القطر(13/11)
الشاسع، وحسّن الظنّ بالمشتري منه أو البائع، فيبلغ في خدعته، والإضرار به في سلعته، أسو أالمبالغ، ويرتكب من محرّم الخلابة «1» ما ليس بالسائغ، وسمع من ذلك أن من لا يتّقي الله تعالى يلابس الرّبا في تجارته، ويبني عليه جميع إدارته؛ وحفظ المكاسب من الخبائث أوجب الواجبات، والحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور متشابهات، ويمحق الله الرّبا ويربي الصدقات؛ فلتلزموا الأمناء المعروفين بالدّيانة، المشهورين بالأمانة، تفقّد هذه الأسواق، وليحص كلّ أمين من تشتمل عليه سوقه من التّجّار، وليعرف المختار منهم من غير المختار، ومن لا يصلح للتجارة في سوق المسلمين يقام منها على أسو إ حال، ومن عثر منهم على ربا في معاملته عاجلتموه بأشدّ العقاب وأسو إ النّكال؛ فخلّصوا المتاجر من الشوائب، ومروهم بأن يسيروا في بيعهم وشرائهم واقتضائهم على أجمل المذاهب، وأن يحذروا الغشّ فقد قال عليه السّلام: «من غشّنا فليس منّا» والانتفاء من الإيمان من أعظم المصائب؛ وإذا اعتبرت في المبايعات الوجوه الشرعيّة ولحظت الأحكام زكّى الله عمل التاجر، وبورك له فيما يدير من المتاجر. ثم لتوصوا كلّ من تقدّمونه لشغل من الأشغال أن يبدأ بصلاح نفسه قبل سواها، وأن يلتزم الأعمال التي يؤثرها الله تعالى ويرضاها، وحذّروهم كلّ الحذر أن تقفوا لهم على ما يشين، أو تسمعوا لهم قبيحا يخفى أو يبين؛ فمن سمعتم عنه أدنى سبب من هذا فعاجلوه بالعقاب الشّديد، والنّكال المبيد، إن شاء الله تعالى والسلام.
قلت: وعلى هذه المعاني والأمور المأمور بها في هذا الكتاب قد كانت الخلفاء تكتب بها في المكاتبات على أنحاء متفرّقة على ما تقدّم في مقاصد المكاتبات من المقالة الرابعة، وكانوا يولّون على الصلاة والمساجد من يقوم بأمرها على ما تقدّم، وإنّ أكثر هذه الأمور الآن مضمّنة في تواقيع أصحاب الحسبة على ما تقدّم ذكره في الكلام على الولايات في المقالة الخامسة، وبالله التوفيق.(13/12)
الفصل الثاني من الباب الأول من المقالة السادسة (فيما يكتب من ذلك في زماننا)
وهو قليل: لقلّة الاعتناء بأمر الدين والاكتفاء في ذلك بالتفويض إلى متولّي الحسبة؛ إلا أنه ربّما كتب في ذلك في الأمور المهمة عند تعدّي الطّور في أمر من الأمور الدّينية، والخروج فيه عن الحدّ.
ثم هو على ضربين:
الضرب الأوّل (ما يكتب عن الأبواب السلطانية)
وهذه نسخة توقيع شريف من هذا النوع كتب به في الأيام ... «1» أن لا يباع على أهل الذمّة رقيق حين كثر شراء أهل الذمة من اليهود والنصارى العبيد والجواري وتهويدهم وتنصيرهم «2»(13/13)
الضرب الثاني (مما يكتب في الأوامر والنّواهي الدينية- ما يكتب عن نوّاب السلطنة بالممالك)
وهذه نسخة توقيع كريم بمنع أهل صيدا وبيروت وأعمالهما من اعتقاد الرافضة والشّيعة وردعهم، والرّجوع إلى السنّة والجماعة، واعتقاد مذهب أهل الحق، ومنع أكابرهم من العقود الفاسدة والأنكحة «1» الباطلة، والتعرّض إلى أحد من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وأن لا يدعوا سلوك [طريق] أهل السنة الواضحة، ويمشوا في شرك أهل الشك والضّلال، وأنّ كل من تظاهر بشيء من بدعهم قوبل بأشدّ عذاب وأتمّ نكال؛ وليخمد نيران بدعهم المدلهمّة، وليبادر إلى حسم فسادهم بكل همّة، وتصريفهم عن [التّهوّك في مهالك أهوائهم إلى ما نصّ عليه الشرع] «2» واعتبره، وتطهير بواطنهم من رذالة اعتقادهم الباطل إلى أن يعلنوا جميعهم بالترضّي عن العشرة، وليحفظ أنسابهم بالعقود الصحيحة، وليداوموا على اعتقاد الحقّ والعمل بالسنّة الصريحة- في خامس عشرين «3» جمادى الآخرة سنة أربع وستين وسبعمائة؛ وهي:
الحمد لله الذي شرع الحدود والأحكام، وجدع بالحق [أنوف] «4» العوامّ الأغتام الطّغام «5» ، وجمع الصّلاح والنّجاح والفلاح في الأخذ بسنّة خير الخلق وسيّد الأنام، وقمع الزائغين عمّا عليه أهل السنة من الحق في كلّ نقض وإبرام. نحمده على نعمه الجسام، ومننه التي تومض بروقها وتشام، وآلائه التي لا تسأم ولا تسام، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ليس لمن تمسّك(13/14)
بعروتها الوثقى انفصال ولا انفصام، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الداعي إلى الملك العلّام، والهادي إلى الحق بواضح الإرشاد والإعلام، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين هم أئمة الإسلام، وهداة الخلق إلى دار السّلام، خصوصا أبا بكر الصديق الذي سبق الناس بما وقر «1» في صدره لا بمزيّة صلاة ولا بمزيد صيام، وعمر بن الخطّاب الذي كان له في إقامة الحق أعظم مقام، ومن أهل الصلاح والفساد انتقاء وانتقام، وعثمان بن عفّان الذي جمع القرآن فحصل لشمل سوره وآياته بما فعل أحسن التئام، وأنفق ماله محتسبا لله تعالى فحاز من الثواب رتبة لا ترام، وعليّ بن أبي طالب الذي كان صهر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وابن عمه ووارث علمه اللهام «2» ، والمجادل عن دينه بالعلم والمجاهد بين يديه بالحسام، والباقين من العشرة الكرام، صلاة تستمدّ بركاتها وتستدام، وينمو فضلها بغير انقضاء ولا انصرام.
وبعد، فإن الله تعالى بعث محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم بشرعه الذي ارتضاه، ودينه الذي قضاه، وحكمه الذي أبرمه وأمضاه، فبلّغ الرسالة، وأوضح الدّلالة، وأفصح المقالة، وجاهد في الله طوائف الأعداء، وأمال الله تعالى إلى قبول قوله وتصديقه من سبقت له العناية من الأودّاء، ونصره على مخالفيه من المشركين والحاسدين حتّى مات كل منهم بما في نفسه من الداء، وبيّن الطريق، وبرهن على التحقيق، فأعلن النّذارة والبشارة، ومهّد قواعد الدين تارة بالنص وتارة بالإشارة، وتمّ الدين بإحكام أحكامه، وشيّدت قواعده بإعلاء أعلامه، وعمّت الدعوة وتمّت، وفشت الهداية ونمت، ودخل الناس في الدين أرسالا، وبلغت نفوس المؤمنين من إعلاء كلمة التوحيد آمالا، وأصبحت الخيرات والبركات تتواتر وتتوالى، وخمدت نار الشّرك وطفئت مصابيح الضلالة ووحّد الله تبارك وتعالى.
فلمّا تكامل ما أراد الله تعالى إظهاره في زمانه، وتمّ ما شاء إبرازه في إبّانه، وأعلنت الهداية، ومحيت الغواية، وقام عمود الدين،(13/15)
ودحضت حجة الملحدين، واستوسق أمر الإسلام واستتبّ، وتبّت يدا مناوئه وتبّ- اختار الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم جواره وقربه، فقضى نحبه ولقي ربّه؛ فقام خلفاؤه بعده بآثاره يقتدون، وبهديه وإرشاده يهتدون، ولأحكامه يتّبعون، ولأوامره يستمعون، ولمعاني ما جاء به يعون، وإلى قضاياه يرجعون، لا يغيّرون ولا يبدّلون، ولا يتعرّضون ولا يتأوّلون، فقضى على ذلك الخلفاء الراشدون، والأئمّة المهديّون؛ لم يتّبع أحد منهم في زمانهم عقيدة فاسدة، ولم يظهر أحد مقالة عن سواء السبيل حائدة؛ ثم تفرّقت الآراء، وتعدّدت الأهواء، واختلفت العقائد، وتباينت المقاصد، ووهت القواعد، وتصادمت الشّواهد، وتفرّقت الناس إلى مقرّ بالحقّ وجاحد، وظهرت البدع في المقالات، وضلّ كثير في كثير من الحالات، وتهافت غالبهم في الضّلالات، وقال كلّ قوم مقالة تضمّنت أنواعا من الجهالات؛ وكان من أسخفهم عقلا، وأضعفهم نقلا، وأوهنهم حجّة، وأبعدهم من الرّشد محجّة، طائفة الرافضة والشّيعة، لارتكابهم أمورا شنيعة، وإظهارهم كلّ مقالة فظيعة، وخرقهم الإجماع، وجمعهم قبيح الابتداع، فتبدّدوا فرقا، وسلكوا من فواحش الاعتقادات طرقا، وتنوّع ناسهم، وتعدّدت أجناسهم، وتجرّأوا على تبديل قواعد الدّين، وأقدموا على نبذ أقوال الأئمة المرشدين، وقالوا ما لم يسبقوا إليه، وأعظموا الفرية فيما حملوا كلام الله ورسوله- عليه السّلام- عليه، وباؤوا بإثم كبير وزور عظيم، وعرّجوا «1» عن سواء السبيل فخرجوا عن الصراط المستقيم، وفاهوا بما لم يفه به قبلهم عاقل، وانتحلوا مذاهب لا يساعدهم عليها نقل ناقل، وتخيّلوا أشياء فاسدة حالهم فيما نخيّلها أسو أمن حال باقل «2» ، وتمسّكوا بآثار موضوعة، وحكايات إلى غير الثّقات مرفوعة، ينقل عن أحدهم ما ينقله عن مجهول غير معروف، أو عمن هو بالكذب والتدليس مشهور وموصوف؛ فأدّاهم ذلك إلى القول بأشياء- منها ما يوجب الكفر(13/16)
الصّراح، ويبيح القتل الذي لا حرج على فاعله ولا جناح- ومنها ما يقتضي الفسق إجماعا، ويقطع من المتّصف به عن العدالة أطماعا- ومنها ما يوجب عظيم الزّجر والنّكال- ومنها ما يفضي بقائله إلى الويل والوبال. لعب الشيطان بعقولهم فأغواهم، وضمّهم إلى حزبه وآواهم، ووعدهم غرورا ومنّاهم، وتمنّوا مغالبة أهل الحق فلم يبلغوا مناهم، مرقوا من الدّين، وخرقوا إجماع المسلمين، واستحلّوا المحارم، وارتكبوا العظائم، واكتسبوا الجرائم، وعدلوا عن سواء السبيل، وتبوأوا من غضب الله شرّ مقيل. مذهبهم أضعف المذاهب، وعقيدتهم مخالفة للحق الغالب، وآراؤهم فاسدة، وقرائحهم جامدة، والنّقول والعقول بتكذيب دعاويهم شاهدة، لا يرجعون في مقالتهم إلى أدلّة سليمة، ولا يعرّجون في استدلالهم على طريق مستقيمة، يعارضون النّصوص القاطعة، ويبطلون القواعد لمجرّد المنازعة والمدافعة، ويفسّرون كلام الله تعالى بخلاف مراده منه، ويتجرّأون على تأويله بما لم يرده الله ولم يرد عنه؛ فهم أعظم الأمة جهالة، وأشدّهم غواية وضلالة؛ ليس لهم فيما يدّعونه مستند صحيح، ولا فيما ينقلونه نقل صريح.
فلذاك كانوا أقلّ رتبة في المناظرة، وأسو أالأمّة حالا في الدنيا والآخرة، وأحقر قدرا من الاحتجاج عليهم، وأقلّ وضعا من توجيه البحث إليهم؛ أكابرهم مخلّطون، وأصاغرهم مثلهم ومعظمهم مخبّطون؛ بل كلّهم ليس لأحد [منهم] حظّ في الجدال، ولا قدم في صحة الاستدلال؛ ولو طولب أحد منهم بصحّة دعواه لم يجد عليها دليلا، ولو حقّق عليه بحث لم يلق إلى الخلاص سبيلا؛ غاية متكلّمهم أن يروي عن منكر من الرجال مجهول، ونهاية متعلّمهم أن يورد حديثا هو عند العلماء موضوع أو معلول؛ يطعنون في أئمة الإسلام، ويسبّون أصحاب النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، ويدّعون أنهم شيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وهو بريء منهم، منزّه عما يصدر عنهم، فقدره أرفع عند الله والناس، ومحلّه أعلى بالنص والقياس، ويحرم أن ينسب إليه الرّضا بهذه العقائد، أو التقرير لهذه المفاسد، فإن طريقته هي المثلى، وسيرته هي العليا؛ فالأخذ بالحق إليه يؤول، والصواب معه حيث يفعل أو يقول، ولا يصحّ نقل شيء من هذا(13/17)
عنه، ولا يحل نسبه شيء إليه منه؛ ومنصبه أجلّ من ذلك، ومكانه أعزّ مما هنالك؛ غير أنّ هؤلاء يعرض لأحدهم في دينه شبهة، يقلّد فيها مثله في الضلالة وشبهه، ويتردّد في نفسه من الغمّ برهة لا يجد لخلاصه منها وجهة، ولا يوجّه قلبه إلى طلب النجاة منها وجهه، ولا يقع نظر بصيرته على طريق الصواب ولا يحقّق كنهه، فيرتكب خطرا يوجب توبيخه في القيامة وجبهه، وتسودّ في الموقف ناصية منه وجبهة، ويعدم لتحيّره في الضلال عقله وفهمه وفقهه؛ قد صرفوا إلى الطعن في العلماء، ومخالفة ربّ الأرض والسماء، همّهم وهممهم، وافتروا على الله كذبا فذمّهم وأباح دمّهم، وقال لسان حال أمرهم أرى قدمهم أراق دمهم، وهان دمهم فها ندمهم.
وقد بلغنا أن جماعة من أهل بيروت وضواحيها، وصيدا ونواحيها، وأعمالها المضافة إليها، وجهاتها المحسوبة عليها، ومزارع كل من الجهتين وضياعها، وأصقاعها وبقاعها، قد انتحلوا هذا المذهب الباطل وأظهروه، وعملوا به وقرّروه، وبثّوه في العامّة ونشروه، واتخذوه دينا يعتقدونه، وشرعا يعتمدونه، وسلكوا منهاجه، وخاضوا لجاجه، وأصّلوه وفرّعوه، وتديّنوا به وشرعوه، وحصّلوه وفصّلوه، وبلّغوه إلى نفوس أتباعهم ووصّلوه، وعظّموا أحكامه، وقدّموا حكّامه، وتمّموا تبجيله وإعظامه؛ فهم بباطله عاملون، وبمقتضاه يتعاملون، ولأعلام علمه حاملون، وللفساد قابلون، وبغير السّداد قائلون، وبحرم حرامه عائذون، وبحمى حمايته لائذون، وبكعبة ضلاله طائفون، وبسدّة شدّته عاكفون؛ وإنهم يسبّون خير الخلق بعد الأنبياء والمرسلين، ويستحلّون دم أهل السّنّة من المسلمين، ويستبيحون نكاح المتعة ويرتكبونه، ويأكلون مال مخالفيهم وينتهبونه، ويجمعون بين الأختين في النكاح «1» ، ويتديّنون بالكفر الصّراح، إلى(13/18)
غير ذلك من فروع هذا الأصل الخبيث، والمذهب الذي ساوى في البطلان مذهب التثليث- فأنكرنا ذلك غاية الإنكار، وأكبرنا وقوعه أشدّ إكبار، وغضبنا لله تعالى أن يكون في هذه الدولة للكفر إذاعة، وللمعصية إشادة وإشاعة، وللطاعة إخافة وإضاعة، وللإيمان أزجى بضاعة، وأردنا أن نجهّز طائفة من عسكر الإسلام، وفرقة من جند الإمام، تستأصل شأفة هذه العصبة الملحدة، وتطهّر الأرض من رجس هذه المفسدة؛ ثم رأينا أن نقدّم الإنذار، ونسبق إليهم بالإعذار، فكتبنا هذا الكتاب، ووجّهنا هذا الخطاب، ليقرأ على كافّتهم، ويبلّغ إلى خاصّتهم وعامّتهم، يعلمهم أن هذه الأمور التي فعلوها، والمذاهب التي انتحلوها، تبيح دماءهم وأموالهم، وتقتضي تعميمهم بالعذاب واستئصالهم؛ فإنّ من استحلّ ما حرّم الله تعالى وعرف كونه من الدين ضرورة فقد كفر، وقد قال الله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ
«1» عطفا على ما حكم بتحريمه، وأطلق النصّ فتعيّن حمله على تعميمه؛ وقد انعقد على ذلك الإجماع، وانقطعت عن مخالفته الأطماع، ومخالفة الإجماع حرام بقول من لم يزل سميعا بصيرا وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً
«2» ونكاح المتعة منسوخ «3» ، وعقده في نفس الأمر مفسوخ، ومن ارتكبه بعد علمه بتحريمه واشتهاره، فقد خرج عن الدّين بردّه الحقّ وإنكاره، وفاعله إن لم يتب فهو مقتول، وعذره فيما يأتيه من ذلك غير مقبول، وسبّ الصحابة رضوان الله عليهم مخالف(13/19)
لما أمر به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من تعظيمهم، ومنابذ لتصريحه باحترامهم وتبجيلهم، ومخالفته عليه السّلام فيما شرعه من الأحكام، موجبة للكفر عند كل قائل وإمام، ومرتكب ذلك على العقوبة سائر، وإلى الجحيم صائر. ومن قذف عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها بعدما برّأها «1» الله تعالى فقد خالف كتابه العظيم، واستحقّ من الله النّكال البليغ والعذاب الأليم، وعلى ذلك قامت واضحات الدلائل، وبه أخذ الأواخر والأوائل، وهو المنهج القويم، والصّراط المستقيم، وما عدا ذلك فهو مردود، ومن الملّة غير معدود، وحادث في الدين، وباعث من الملحدين، وقد قال الصادق في كل مقالة، والموضّح في كل دلالة: «كلّ محدثة بدعة وكلّ بدعة ضلالة» ؛ فتوبوا إلى الله جميعا، وعودوا إلى الجماعة سريعا، وفارقوا مذهب أهل الضّلالة، وجانبوا عصبة الجهالة، واسمعوا مقالة الناصح لكم في دينكم وعوا، وعن الغيّ ارجعوا، وإلى الرّشاد راجعوا، وإلى مغفرة من ربّكم وجنة عرضها السموات والأرض باتّباع السنة بادروا وسارعوا؛ ومن كان عنده امرأة بنكاح متعة فلا يقربها، وليحذر من غشيانها وليتجنّبها، ومن نكح أختين في عقدين فليفارق الثانية منهما فإنّ عقدها هو الباطل، وإن كانتا في عقد واحد فليخرجهما معا عن حبالته «2» ولا يماطل، فإنّ عذاب الله شديد، ونكال المجرم في الحميم كلّ يوم يزيد، ودار غضب الله تنادي بأعدائه هل من مزيد؛ فلا طاقة لكم بعذابه، ولا قدرة على أليم عقابه، ولا مفرّ للظالم منه ولا خلاص، ولا ملجأ ولا مناص؛ فرحم الله تعالى امرأ نظر لنفسه، واستعدّ لرمسه، ومهّد لمصرعه، ووطّأ لمضجعه، قبل فوات الفوت، وهجوم الموت، وانقطاع الصّوت، واعتقال اللسان، وانتقال الإنسان، قبل أن تبذل التوبة ولا تقبل، وتذرى الدموع وتسبل،(13/20)
وتنقضي الآجال وينقطع الأمل، ويمتنع العمل، وتزهق من العبد نفسه، ويضمّه رمسه، ويرد على ربه وهو عليه غضبان، وإنّ سخطه عليه بمخالفة أمره قد بان، ولا ينفعه حينئذ النّدم، ولا تقال عثرته إذا زلّت به القدم؛ وقد أعذر من أنذر، وأنصف من حذّر؛ فإنّ حزب الله هم الغالبون، والذين كفروا سيغلبون، وسيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون. ألهمنا الله وإيّاكم رشدنا، ووفّق إلى مراضيه قصدنا، وجمعنا وإياكم على الطاعة، وأعاننا جميعا على السّنّة والجماعة، بمنّه وكرمه!.
وهذه نسخة مرسوم كتب به عن نائب المملكة الطرابلسيّة إلى نائب حصن الأكراد «1» ، بإبطال ما أحدث بالحصن: من الخمّارة، والفواحش، وإلزام أهل الذّمّة بما أجري عليهم أحكامه من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب «2» رضي الله عنه- في أواخر جمادى الأولى سنة خمس وستين وسبعمائة؛ وهو:
المرسوم بالأمر العاليّ- لا زال قصده الشريف المثابرة على تغيير المنكر، وشدّ أزر المنكر، مشمّرا في إراحة القلوب بإزاحة مواطن الفواحش: من سفاح ومخدّر وميسر ومسكر- أن يتقدّم الجناب الكريم باستمرار ما وفّقنا الله تعالى له ورسمنا به، وأعطيناه دستورا يجده من عمل به يوم حسابه: من إبطال الخمّاره، وهدم مبانيها بحيث لا يبقى للنّفس الأمّارة عليها أمارة، وإخفاء معالمها التي توطّنها الشيطان فقطن، وإزالة ما بها من الفواحش التي ما ظهر منها أقلّ مما بطن، وإخلاء تلك البلاد من هذا الفساد الموجب لكثرة المحن والاختلاف وإراقة ما بها من الخمور، التي هي رأس الإثم والشّرور، وإحراق كل مخدّر مذموم في الشّرع محذور، وإذهاب اسم الحانة بالكليّة بحيث لا يتلفّظ به مسلم ولا كافر، ولا يطمع نفسه في الترتيب عليها من هو على خزيه وبغيه مظافر. وقد غيّرنا هذا المنكر بيد(13/21)
أطال الله بفضله في الخير باعها، وغنمنا إزالة هذه المفسدة فأحرزنا برّها واصطناعها، خوفا من وعيد قوله تعالى: كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ
«1» ورجاء أن نكون من المراد بقوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
«2» وعملا بقوله عليه السّلام: «من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده» ، وعلما بأنّ أمير الرعية إذا لم يزل المنكر من بينهم فكيف يفلح في يومه وحال السّؤال عنهم في غده.
وقد صار حصن الأكراد بهذه الحسنة في الحصن المنيع، وأهله المتمسّكون بالعروة الوثقى في مربع خصيب مريع، وضواحيه مطهّرة من خبث السّفاح ونجاسة الخمور، ونواحيه كثيرة السّرور قليلة الشّرور، قد أعلى الله تعالى به كلمته، وأجاب لصغيره وكبيره في هذا الأمر دعوته؛ وما ذلك إلا بتوفيق من أهّلنا لذلك، وألهمنا رشدنا وطهّرنا من هذه المفاسد تلك المسالك، وله الحمد على ما وفّق إليه، وأعان عبده في ولايته عليه؛ فإن المنكر إذا فشا ولم ينكر آن خراب الديار، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «إنّ الله ليغار» ، فعند ذلك تمنع السماء درّها، وتمسك الأرض بذرها، ويجفّ الضّرع، وييبس الزّرع، وتعطش الأكباد، وتهلك البلاد.
فليبسط الجناب الكريم يده في إزالة ما بقي من منكر، متفقّدا لجليله وحقيره بالفحص الشديد وما على ذلك يحمد بكل لسان ويشكر، مترقّبا من يدخل البلد ذلك ليقابله بالضرب بالسياط، آخذا في تتبّع خلاله بالحزم والتحرّي والاحتياط، إلى أن تصل بنا أخباره، ويعلو لدينا في سياسته ونهضته مناره، وتحمد عندنا إيالته وآثاره، وهو بحمد الله كما نعهد شديد على كل مفسد ومعاند، سديد الآثار والأثارة والمقاصد.
وأما أهل الذمّة فما رفع عنهم السيف إلا بإعطاء الجزية والتزام الأحكام،(13/22)
وأخذ عهود أكيدة عليهم من أهل النقض والإبرام.
فليتقدّم الجناب الكريم بإلزامهم بما ألزمهم به الفاروق رضوان الله عليه، وليلجئهم في كل أحوالهم إلى ما ألجأهم إليه: من إظهار الذّلّة والصّغار، وتغيير النّعل وشدّ الزّنّار، وتعريف المرأة بصبغ الإزار؛ وليمنعوا من إظهار المنكر والخمر والناقوس، وليجعل الخاتم أو الحديد في رقابهم عند التجرّد في الحمّام، وليلزموا بغير ذلك من الأحكام التي ورد بها المرسوم الشريف من مدّة أيّام؛ ومن لم يلتزم منهم بذلك وامتنع، وأعلن بكفره وأعلى كلمته ورفع، فما له حكم إلا السيف، وغنم أمواله وسبي ذراريّه وما في ذلك على مثله حيف؛ فهاتان مفسدتان أمرنا بالزامهما فرارا من سخط الله تعالى وحذارا، إحداهما إبطال الحانة والثانية إخفاء كلمة اليهود والنّصارى.
فليتقدّم الجناب المشار إليه باستمرار ما رسمنا به فهو الحق الذي لا شكّ فيه، والنّور الذي يتبعه المؤمن ويحكيه، ونرجو من كرم الله تعالى استمرار هذه الحسنة مدى الأزمان، واستثمار شجرها المائد الأغصان، وإبطال هذا الحزن المسمّى ظلما بالفرح «1» ، وإعمال السيف في عنق من ارتضاه بين أظهر المسلمين فانهتك سرّه وافتضح.
وليقمع أهل الشرك والضلال، بما يلزم الصّغار عليهم والإذلال، إلى أن لا يرفع لهم راس، ولا يشيّدوا كيدا إلا على غير أساس، وليستجلب الجناب الكريم لهذه الدولة الشريفة ولنا الدعاء من المسلمين، والفقراء والصالحين والمساكين، وليطب قلوبهم باستمرار ما أزلناه، ومحونا آثاره وأبطلناه، وقصدنا بإبطاله من تلك الأرض، مسامحة من الحكم العدل يوم العرض؛ ومن أعاد ما أبطلناه أو أعان على إعادته، أو أمر بتشييده وبناء حجارته، أو رتّب مرتّبا على خدر بغيّ وموّه ودلّس بالأفراح، أو أطلق أن يباع منكر أو سوّل له شيطانه أنه من الأرباح، فإن الله تعالى يحاكمه وهو أحكم الحاكمين، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.(13/23)
الباب الثاني فيما يكتب في المسامحات والإطلاقات؛ وفيه فصلان.
الفصل الأوّل فيما يكتب في المسامحات
والمسامحات جمع مسامحة، وهي [الجود والموافقة على ما أريد منه] «1» والمراد المسامحة بما جرت به عادة الدواوين السلطانية: من المقرّرات واللوازم السلطانية، وهي على ضربين:
الضرب الأوّل (ما يكتب من الأبواب السلطانية)
وقد جرت العادة أنّ السلطان إذا سمح بترك شيء من ذلك كتب به مرسوم شريف وشملته العلامة الشريفة؛ وهو على مرتبتين:
المرتبة الأولى- المسامحات العظام.
وقد جرت العادة أن تكتب في قطع الثلث مفتتحة ب «الحمد لله» .
وصورتها أن يكتب في أعلى الدّرج بوسطه الاسم الشريف كما في مراسيم الولايات، ثم يكتب من أوّل عرض الورق إلى آخره «مرسوم شريف أن يسامح بالجهة الفلانية وإبطال المكوس بها، أو أن يسامح بالباقي بالجهة الفلانية، أو أن(13/24)
يسامح أهل الناحية الفلانية بكذا وكذا، ابتغاء لوجه الله تعالى، ورجاء لنواله الجسيم على ما شرح فيه» ثم يترك وصلان بياضا غير وصل الطّرّة، ويكتب في أوّل الوصل الثالث البسملة، ثم الخطبة بالحمد «1» لله إلى آخرها، ثم يقال: وبعد، ويؤتى بمقدّمة المسامحة: من شكر النعمة، والتوفية بحقها ومقابلتها بالإحسان إلى الخلق، وعمل مصالح الرعية وعمارة البلاد، وما ينخرط في هذا السّلك، ثم يقال: ولذلك لما كان كذا وكذا اقتضت آراؤنا الشريفة أن يسامح بكذا، ثم يقال:
فرسم بالأمر الشريف أن يكون الأمر على كذا وكذا، ثم يقال: فلتستقرّ هذه المسامحة ويؤتى فيها بما يناسب، ثم يقال: وسبيل كلّ واقف على هذا المرسوم الشريف العمل بمضمونه أو بمقتضاه، ويختم بالدعاء بما يناسب.
وهذه نسخة مرسوم بمسامحة ببواقي دمشق وأعمالها، من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبيّ «2» رحمه الله تعالى؛ وهي:
الحمد لله الرؤوف بخلقه، المتجاوز لعباده عما قصّروا فيه من حقّه، المسامح لبريّته بما أهملوه من شكر ما بسط لهم من رزقه، جاعل دولتنا القاهرة مطلع كرم؛ تجتلى أنوار البرّ في البرايا من أفقه، ومنشأ ديم، تجتلب أنواء الرّفق بالرعايا من برقه، ومضمار جود يحتوي على المعروف من جميع جهاته ويشتمل على الإحسان من سائر طرقه؛ فلا برّ تنتهي إليه الآمال إلا ولكرمنا إليه مزيّة سبقه، ولا أجر يتوجّه إليه وجه الأمانيّ إلا تلقّته نعمنا بمتهلّل وجه الإحسان طلقه، ولا(13/25)
معروف تجدب منه أرجاء الرجاء إلا واستهلّت عليه آلاؤنا من صوب برّنا المألوف لآلي ودقه «1» نحمده على نعمه التي عمّت الرّعايا بتوالي الإحسان إليهم، وأنامتهم في مهاد الأمن بما وضعت عنهم مسامحتنا من إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، وأنالتهم ما لم تطمح آمالهم إليه: من رفع الطّلب عن بواقي أموال أخّروها وراء ظهورهم وكانت كالأعمال المقدّمة بين يديهم.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تبعث على نشر رحمته، التي وسعت كلّ شيء في عباده، وتحثّ على بثّ نعمته، التي غمرت كلّ حيّ على اجتماعه وسعت إلى كل حيّ على انفراده، وتحضّ على ما ألهمنا من رأفة بمن قابله بتوحيده وشدّة على من جاهره بعناده.
ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أسكت ألسنة الشرك وأخرسها، وعفّى معالم العدوان وطمسها، وأثّل قواعد الدين على أركان الهدى وأسّسها، وأوضح سبل الخيرات لسالكها فإذا سعدت بالملوك رعاياها فإنما أسعدت الملوك بذلك في نفس الأمر أنفسها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين شفعوا العدل بالإحسان، وجمعوا بين ملك الدنيا والآخرة بإحياء السّنن الحسان، وزرعوا الجهاد بالإيمان في كل قلب فأثمر بالتوحيد من كلّ لسان، صلاة جامعة أشتات المراد، سامعة نداء أربابها يوم يقوم الأشهاد، قامعة أرباب الشكّ فيها والإلحاد، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإننا لما آتانا الله من ملك الإسلام، وخصّنا به من الحكم العامّ، في أمة سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وأيّدنا به من النصر على أعداء دينه، وأمدّنا به من تأبيد تأييده ودوام تمكينه، وجعل دولتنا مركزا مدار ملك الأمة الإسلامية عليه، وفلكا مآل أمور الأمّة المحمدية في سائر الممالك على اختلافها(13/26)
إليه، ورزقنا من النصر على أعدائه ما أعزّ المسلمين وأدالهم، وأذلّ المشركين وأذالهم، وكفّ بالرّعب أطماعهم، وأعمى بما شاهدوه أبصارهم وأصمّ بما سمعوه أسماعهم، وحصرهم بالمهابة في بلادهم، وأيأسهم بالمخافة من نفوسهم قبل طارفهم وتلادهم- لم نزل نرغب في حسنات تحلّى بها أيامنا، وقربات تجري بها أقلامنا، ومكرمات تكمل بها عوارفنا وإنعامنا، ومآثر يخلّد بها في الباقيات الصالحات ذكرنا، ومواهب تجمّل بها بين سير العصور الذاهبة سيرتنا الشريفة وعصرنا، ومصالح يصرف بها إلى مصالح البلاد والعباد نظرنا الجميل وفكرنا، نهوضا بطاعة الله فيما ألقى مقاليده إلينا، وأداء لشكره فيما أتمّ به نعمه العميمة علينا، واكتسابا لثوابه فيما نقدّمه من ذخائر الطاعات بين يدينا، ونظرا في عمارة البلاد بخفّة ظهور ساكنيها، وإطابة لقلوب العباد من تبعات البواقي التي كانت تمنعهم من عمارة أراضيهم وتنفّرهم من التوطّن فيها، ورغبة فيما عند الله والله عنده حسن الثواب، وتحرّيا لإصابة وجه المصلحة الإسلاميّة في ذلك والله الموفّق للصواب.
ولذلك لمّا اتّصل بنا [أنّ] باقي البلاد الشامية من البواقي التي يتعب ألسنة الأقلام، إحصاؤها، ويثقل كواهل الأفهام، تعداد وجوهها واستقصاؤها، مما لا يسمح بمثله في سالف الدّهور، ولا يسخو به إلا من يرغب مثلنا فيما عند الله من أجور لا تخرجه عن مصالح الجمهور- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نعفي منها ذمما كانت في أغلال إسارها، وأثقال انكسارها، وروعة اقتضائها، ولوعة التردّد بين إنظار المطالبة وإمضائها، وأن نعتق منها نفوسا كانت في سياق مساقها، وحبال إزهاقها وإرهاقها، لتتوفّر الهمم على عمارة البلاد، بالأمن على الطارف والتّلاد، وتجمع الخواطر على حسن الخلف، بما حصل لهم من المسامحة عما عليهم من ذلك سلف، بذمم بريّة من تلك الأثقال، عريّة عن عثرات تلك البواقي التي ما كان يقال إنها تقال.
فرسم بالأمر الشريف- زاده الله تعالى علوّا وتشريفا، وأمضاه بما يعم الآمال رفقا بالرعايا وتخفيفا، وأجراه من العدل والإحسان بما يعمّ البلاد، ويجبر العباد،(13/27)
فإن الأرض يحييها العدل ويعمرها الاقتصار على الاقتصاد- أن يسامح..........
فليستقرّ حكم هذه المسامحة استقرارا يبقي رسمها، ويمحو من تلك البواقي المساقة رسمها واسمها، ويضع عن كواهل الرعايا أعباءها، ويسيّر بين البرايا أخبارها الحسنة وأنباءها، ويسقط من جرائد الحساب تفاصيلها وجملها، ويحقّق بتعفيته آثارها رجاء رعيّة بلادنا المحروسة وأملها.
فقد ابتغينا بالمسامحة بهذه الجمل الوافرة ثواب الله وما عند الله خير وأبقى، وأعتقنا بها ذمم من كانت عليه من ملكة المال الذي كان له باستيلاء الطّلب واستمراره مسترقّا، تقرّبا إلى الله تعالى لما فيه من إيثار التخفيف، ووضع إصر التكليف، وتقوية حال العاجز فإنّ غالب الأموال إنما تساق على الضعيف، وتوفير همّ الرّعايا على عمارة البلاد وذلك من آكد المصالح وأهمّها، وتفريغ خواطرهم لأداء ما عليهم من الحقوق المستقبلة وذلك من أخصّ المنافع وأعمّها؛ فليقابلوا هذه النّعم بشكر الله على ما خصّ دولتنا به من هذه المحاسن، ويوالوا حمده على مامتّعهم به من موادّ عدلها التي ماء إحسانها غير آسن، ويبتهلوا لأيّامنا الزاهرة بالأدعية التي تخلّد سلطانها، وتشيّد أركانها، وتعلي منار الدين باعتلائها، وتؤيّدها بالملائكة المقرّبين على أعداء الله وأعدائها، وسبيل كل واقف على مرسومنا هذا: من ولاة الأمر أجمعين العمل بمضمونه، والانتهاء إلى مكنونه، والمبادرة إلى إثبات هذه الحسنة، والمسارعة إلى العمل بهذه المسامحة التي تستدعي مسارّ القلوب وثناء الألسنة، وتعفية آثار تلك البواقي التي عفونا عن ذكرها، ومحو ذكر تلك الأموال التي تعوّضنا عن استيفائها بأجرها.
وهذه نسخة مرسوم شريف بالمسامحة بالبواقي في ذمم الجند والرّعايا بالشام، كتب به في الدولة الناصرية محمد بن قلاوون في شهور سنة اثنتين(13/28)
وسبعمائة بخط العلّامة كمال الدين محمد الزّملكانيّ «1» من إنشائه، وقريء على المنبر بالجامع الأمويّ بدمشق المحروسة؛ وهي:
الحمد لله الذي وسع كلّ شيء رحمة وعلما، وسمع نداء كلّ حيّ رأفة وحلما، وخصّ أيامنا الزاهرة بالإحسان فأنجح فيها من عدل وخاب من حمل ظلما، وزان دولتنا بالعفو والتجاوز فهي تعتدّ المسامحة بالأموال الجسيمة غنما إذا اعتدّتها الدّول غرما.
نحمده على نعمه التي غمرت رعايانا بإدامة الإحسان إليهم، وعمرت ممالكنا بما نتعاهد به أهلها من نشر جناح الرأفة عليهم، وخفّفت عن أهل بلادنا أثقال بواقي الأموال التي كانوا مطلوبين بها من خلفهم ومن بين يديهم، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لم تزل تشفع لأهلها العدل بالإحسان، وتجمع لأربابها بالرأفة والرّفق أشتات النّعم الحسان، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي جلا الغمّة، وهدى الأمّة، وسنّ الرأفة على خلق الله والرحمة، وحثّ على الإحسان إلى ذوي العسرة لما في ذلك من براءة كل مشغول الذّمّة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذي أمروا بالتيسير، واقتنعوا من الدنيا باليسير، وأوضحوا طرق الإحسان لسالكيها فسهل على المقتدي بهم في الحنوّ على الأمة الصعب ويسّر العسير، صلاة تدّخر ليوم الحساب، وتعدّ للوقت الذي إذا نفخ في الصّور فلا أنساب، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن الله تعالى لمّا خصّ أيامنا الزاهرة بالفتوح التي أنامت الرعايا، في مهاد أمنها، وأنالت البرايا، مواقع يمنها ومنّها، وكفّت أكفّ الحوادث عن البلاد(13/29)
وأهلها، ونشرت عليهم أجنحة البشائر في حزن الأرض وسهلها، وأعذبت من الطّمأنينة مواردهم، وعمّت بالدّعة والسكون قاطنهم وراحلهم، وبدّلتهم من بعد خوفهم أمنا، ونوّلتهم بأجابة داعي الذّبّ عنهم منّا منّا، رأينا أن نفسّح لهم مجال الدّعة والسكون، وأن لا نقنع لهم بما كان من أسباب المسارّ حتّى نتبعها بما يكون، وأن نصفّي بالإعفاء من شوائب الأكدار شربهم، ونؤمّن بالإغفاء عن طلب البواقي التي هي على ظهورهم كالأوزار سربهم، وأن نشفع العدل فيهم كما أمر الله تعالى بالإحسان إليهم، ونضع عنهم بوضع هذه الأثقال إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، وأن نوفّر على عمارة البلاد هممهم، ونبري من تبعات هذه الأموال اللازمة لهم ذممهم، ونريح من ذلك أسرارهم، ونطلق من ربقه الطلب المستمرّ إسارهم، ونسامحهم بالأموال التي أهملوها وهي كالأعمال محسوبة عليهم، ونعفيهم من الطلب بالبواقي التي نسوها كالآجال وهي مقدّمة بين يديهم، لتكون بشراهم بالنصر كاملة، ومسرّتهم بالأمن من كلّ سبيل شاملة.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا زال برّه عميما، وفضله لحسن النظر في مصالح رعاياه مديما- أن تسامح مدينة دمشق المحروسة وسائر الأعمال الشامية بما عليها من البواقي المساقة في الدواوين المعمورة إلى المدد المعينة في التذكرة الكريمة المتوّجة بالخط الشريف؛ وجملة ذلك من الدراهم «1» ألف ألف وسبعمائة ألف وستة وأربعون ألفا ومائة ألف وخمسة وأربعون درهما، ومن الغلال المنوّعة تسعة آلاف وأربعمائة واثنتان وأربعون غرارة «2» ، ومن الحبوب مائتان وثمان وعشرون غرارة، ومن الغنم خمسمائة رأس، ومن الفولاذ ستّمائة وثمانية أرطال، ومن الزّيت ألفان وثلاثمائة رطل، ومن حبّ الرّمّان ألف وستّمائة رطل.(13/30)
فليتلقّوا هذه النعمة بباع الشكر المديد، ويستقبلوا هذه المنّة بحمد الله تعالى فإنّ الحمد يستدعي المزيد، ويرفلوا في أيامنا الزاهرة، في حلل الأمن الضافية، ويردوا من نعمنا الباهرة، مناهل السعد الصافية، ويقبلوا على مصالحهم بقلوب أزال الأمن قلقها، وأذهبت هذه المسامحة المبرورة فرقها، ونفوس أمنت المؤاخذة من تلك التّبعات بحسابها، ووثقت بالنجاة في تلك الأموال من شدّة طالب يأبى أن يفارق إلّا بها، وليتوفّروا على رفع الأدعية الصالحة لأيّامنا الزاهرة، ويتيمّنوا بما شملهم من الأمن والمنّ في دولتنا القاهرة؛ فقد تصدّقنا بهذه البواقي التي أبقت لنا أجرها وهي أكمل ما يقتنى، وخفّفت أثقال رعايانا وذلك أجمل ما به يعتنى. وسبيل كل واقف على هذا المرسوم الشريف اعتماد حكمه، والوقوف عند حدّه ورسمه؛ ويعفّي آثار هذا الباقي المذكور بمحو رسمه واسمه، بحث لا يترك لهذه البواقي المذكورة في أموالنا انتساب، ولا يبقى لها إلى يوم العرض عرض نورده ولا حساب؛ والخط الشريف شرفه الله تعالى أعلاه حجة بمقتضاه.
وهذه نسخة مسامحة بمكوس على جهات مستقبحة بالمملكة الطرابلسية، وإبطال المنكرات، كتب بها في الدولة الناصرية «محمد بن قلاوون» أيضا في شهور سنة سبع عشرة وسبعمائة «1» ؛ وهي:
الحمد لله الذي جعل الدّين المحمّديّ في أيامنا الشريفة على أثبت عماد، واصطفانا لإشادة أركانه وتنفيذ أحكامه بين العباد، وسهّل علينا من إظهار شعائره ما رام من كان قبلنا تسهيله فكان عليه صعب الانقياد، وادّخر لنا من أجور نصره أجلّ ما يدّخر ليوم يفتقر فيه لصالح الاستعداد.
نحمده على نعم بلّغت من إقامة منار الحق المراد، وأخمدت نار الباطل(13/31)
بمظافرتنا ولولا ذلك لكانت شديدة الاتّقاد، ونكّست رؤوس الفحشاء فعادت على استحياء إلى مستسنّها أقبح معاد، ونشكره على أن سطّر في صحائفنا من غرر السّير ما تبقى بهجته ليوم المعاد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يجدها العبد يوم يقوم الأشهاد، وتسري أنوار هديها في البرايا فلا تزال آخذة في الازدياد، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي بعثه الله بالإنذار إلى يوم التّناد، والإعذار إلى من قامت عليه الحجة بشهادة الملكين فأوضح له سبيل الرّشاد، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين منهم من ردّ أهل الردّة إلى الدّين القويم أحسن ترداد، ومنهم من عمّم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سائر العباد والبلاد، ومنهم من بذل ماله للمجاهدين ونفسه للجهاد، ومنهم من دافع عن الحق فلا برح في جدال عنه وفي جلاد، صلاة تهدي إلى السّداد، وتقوّم المعوجّ وتثقّف الميّاد، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن الله تعالى منذ ملّكنا أمور خلقه، وبسط قدرتنا في التصرّف في عباده والمطالبة بحقّه، وفوّض إلينا القيام بنصرة دينه، وفهّمنا أنه تعالى قبض قبل خلق الخلائق قبضتين فرغبنا أن نكون من قبضة يمينه، وألقى إلينا من مقاليد الممالك، وأقام الحجة علينا بتمكين البسطة وعدم المشاقق في ذلك، ومهّد لنا من الأمر ما على غيرنا توعّر، وأعدّ لنا من النّصر ما أجرانا فيه على عوائد لطفه لا عن مرح في الأرض ولا عن خدّ مصعّر- ألهمنا إعلاء كلمة الإسلام، وإعزاز الحلال وإذلال الحرام، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن لا نختار على دار الآخرة دار الدّنيا؛ فلم نزل نقيم للدّين شعارا، ونعفّي للشّرك آثارا، ونعلن في النصيحة لله تعالى ولرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم جهرا وإسرارا، ونتّبع أثر كرم نقتفيه، وممطول بحقّه نوفّيه، ونعلم حق قربة نشيّده، ومخذولا استظهر عليه الباطل نؤيّده، وذا كربة نفرجها، وغريبة فحشاء استطردت من أدؤر «1» الحق نخرجها، وسنّة سيئة تستعظم النفوس زوالها فتجعلها هباء منثورا، وجملة عظيمة أسّست على غير(13/32)
التقوى مبانيها فيحطمها كرمنا فنؤدّي الجزاء عنها موفورا؛ فاستقصينا ذلك في ممالكنا الشريفة مملكة مملكة، واستطردنا في إبطال كل فاحشة موبقة مهلكة، فعفّينا من ذلك بالديار المصرية ما شاع خبره، وظهر بين الأنام أثره، وطبّقت بمحاسنه الآفاق، ولهجت به ألسنة الدّعاة والرّفاق: من مكوس أبطلناها، وجهات سوء عطّلناها، ومظالم رددناها إلى أهلها، وزجرناها عن غيّها وجهلها، وبواق سامحنا بها وسمحنا، وطلبات خفّفنا عن العباد بتركها وأرحنا، ومعروف أقمنا دعائمه، وبيوت لله عز وجل أثرنا منها كل نائمة؛ ثم بثثنا ذلك في سائر الممالك الشامية المحروسة، وجنينا ثمرات النصر من شجرات العدل التي هي بيد يقظتنا مغروسة.
ولما اتّصل بعلومنا الشريفة أنّ بالمملكة الطرابلسية آثار سوء ليست في غيرها، ومواطن فسق لا يقدر غيرنا على دفع ضررها وضيرها، ومظانّ آثام يجد الشيطان فيها مجالا فسيحا، وقرى لا يوجد بها من [كان] «1» إسلامه مقبولا ولا من [كان] «2» دينه صحيحا، وخمورا يتظاهر بها ويتصل سبب الكبائر بسببها، وتشاع بين الخلائق مجهرا، وتباع على رؤوس الأشهاد فلا يوجد لهذا المنكر منكرا، ويحتجّ في ذلك بمقرّرات سحت لا تجدي نفعا، وتبقى في يد آخذها كأنها حيّة تسعى.
ومما أنهي إلينا أن بها حانة عبّر عنها بالأفراح قد تطاير شررها، وتفاقم ضررها، وجوهر فيها بالمعاصي، وآذنت لولا حلم الله وإمهاله بزلزلة الصّياصي، وغدت لأهل الأهوية مجمعا، ولذوي الفساد مربعا ومرتعا، يتظاهر فيها بما أمر بستره من القاذورات، ويؤتى بما يجب تجنّبه من المحذورات، ويسترسل في الأفراح بها بما يؤدّي إلى غضب الجبّار، وتهافت النفوس فيها كالفراش على الاقتحام في النار.
ومنها- أن المسجون إذا سجن بها أخذ بجميع ما عليه بين السجن وبين(13/33)
الطّلب، وإذا أفرج عنه ولو في يومه انقلب إلى أهله في الخسارة بشرّ منقلب، فهو لا يجد سرورا بفرجه، ولا يحمد عقبى مخرجه.
ومنها: أنّ بالأطراف القاصية من هذه المملكة قرى سكّانها يعرفون بالنّصيرية لم يلج الإسلام لهم قلبا، ولا خالط لهم لبّا، ولا أظهروا له بينهم شعارا، ولا أقاموا له منارا، بل يخالفون أحكامه، ويجهلون حلاله وحرامه، ويخلطون ذبائحهم بذبائح المسلمين، ومقابرهم بمقابر أهل الدّين، وكل ذلك مما يجب ردعهم عنه شرعا، ورجوعهم فيه إلى سواء السبيل أصلا وفرعا، فعند ذلك رغبنا أن نفعل في هذه الأمور ما يبقى ذكره مفخرة على ممّر الأيّام، وتدوم بهجته بدوام دولة الإسلام، ونمحو منه في أيامنا الشريفة ما كان على غيرها به عارا، ونسترجع للحق من الباطل ثوبا طالما كان لديه معارا، ونثبت في سيرة دولتنا الشريفة عوارف لا تزال مع الزمن تذكر، وتتلو على الأسماع قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ
«1» فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا زال بالمعروف آمرا، وعن المنكر ناهيا وزاجرا، ولا متثال أوامر الله تعالى مسارعا ومبادرا- أن يبطل من المعاملات بالمملكة الطرابلسية ما يأتي ذكره:(13/34)
1 جهات الأفراح المحذورة بالفتوحات خارجا عما لعله يستقرّ من ضمان الفرح الخ؛ وتقديرها:
أقصاب للأمراء بحكم أن بعض الأمراء كان لهم جهات زرع أقصاب وقرّروا على بقية فلّاحيهم العمل بها والقيام بنظيره آخر العمل؛ وتقدير ذلك:
هبة الشادّ بنواحي الكهف تشدّ فيما كان يستأدى من كل مدير؛ وتقدير متحصله: 2 السجون بالمملكة الطرابلسية خارجا عن سجن طرابلس بحكم أنه أبطل بمرسوم شريف متقدّم التاريخ؛ وتقديرها:
عفاية الشام بكور طرابلس واقفة والسرون وما معه بحكم أن المذكورين كانوا ثبتوا على المراكز بالبحر، فلما شكت المراكز بالعساكر المنصورة قرّر على ذلك في السنة:
ضمان المشعل بطرابلس مما كان أوّلا بديوان الشام بالفتوحات ثم استقر بالديوان المعمور في شهور سنة ست عشرة وسبعمائة وتقديره: 3 سجن الأقصاب المحدّث بأمر أقصاب الديوان المعمور التي كان فلّاحو الكورة بطرابلس يعملون بها ثم أعفوا عن العمل وقرّر عليه في السنة:
حق الديوان بصهيون بطرابلس وقصريون بطرابلس عمن كان معا في حصنها؛ وتقدير متحصل ذلك:
المستحدث إقطاعا من بعض الأمراء على الفلاحين مما لم تجر به عادة: من حشيش وملح وضيافة؛ وتقديره:(13/35)
فليبطل هذا على ممرّ الأزمنة والدّهور، إبطالا باقيا إلى يوم النّشور، لا يطلب ولا يستادى، ولا يبلغ الشيطان في بقائه مرادا.
ويقرأ مرسومنا هذا على المنابر ويشاع، وتستجلب لنا منهم الأدعية الصالحة فإنها نعم المتاع.
وأما النّصيريّة فليعمروا في بلادهم بكل قرية مسجدا، ويطلق له من أرض القرية رقعة أرض تقوم به وبمن يكون فيه من القوّام بمصالحه على حسب الكفاية، بحيث يستفزّ الجناب الفلانيّ نائب السلطنة بالمملكة الطرابلسيّة والحصون المحروسة- ضاعف الله تعالى نعمته- من جهته من يثق إليه لإفراد الأراضي وتحديدها وتسليمها لأئمّة المساجد المذكورة، وفصلها عن أراضي المقطعين وأهل البلاد المذكورة، ويعمل بذلك أوراقا وتخلّد بالديوان المعمور حتى لا يبقى لأحد من المقطعين فيها كلام، وينادى في المقطعين وأهل البلاد المذكورة بصورة ما رسمنا به من ذلك.
وكذلك رسمنا أيضا بمنع النّصيريّة المذكورين من الخطاب، وأن لا يمكّنوا بعد ورود هذا من الخطاب جملة كافية، وتؤخذ الشهادة على أكابرهم ومشايخ قراهم لئلا يعود أحد منهم إلى التظاهر بالخطاب ومن تظاهر به قوبل أشدّ مقابلة.
فلتعتمد مراسمنا الشريفة ولا يعدل عن شيء منها، ولتجر المملكة الطرابلسيّة مجرى بقيّة الممالك المحروسة في عدم التظاهر بالمنكرات، وتعفية آثار الفواحش وإقامة شعائر الدّين القويم: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
»
؛ والاعتماد على الخط الشريف أعلاه.(13/36)
وهذه نسخة توقيع بالمسامحة في جميع المراكز بما يستأدى على الأغنام الدغالي الداخلة إلى حلب، وأن يكون ما يستخرج من تجار الغنم على الكبار منها خاصّة، من إنشاء المقرّ الشهابيّ بن فضل الله «1» ، مما كتب به في شهور سنة سبع وثلاثين وسبعمائة؛ وهي:
الحمد لله ذي المواهب العميمة، والعطايا التي لا تجود بها يد كريمة، والمنن التي عوّضنا منها عن كل شيء بخير منه قيمة، والمسامحة التي ادّخر لنا بها عن كل مال حسن مآل وبكلّ غنم غنيمة.
نحمده على نعمه التي غدت على كثرة الإنفاق مقيمة، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله أكرم من سمح وسامح في أمور عظيمة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة مستديمة، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فمنذ ملّكنا الله لم نزل نرغب إليه، ونعامله بما نهبه له ونربح عليه، ولم نبق مملكة من ممالكنا الشريفة حتى سامحنا فيها بأموال، وسامينا فيها بنفع أرضها السّحب الثّقال، وكانت جهة العداد بالمملكة الحلبية المحروسة مثقلة الأوزار بما عليها، مشدودة النّطاق بما يغلّ من الطلب يديها، مما هو على التّركمان بها محسوب، وإلى عديدهم عدده منسوب، ونحن نظنّه في جملة ما أسقطته مسامحتنا الشريفة وهو منهم مطلوب، وهو المعروف بالدغالي زائدا على الرّؤوس الكبار، ومعدودا عند الله من الكبائر وهو في حساب الدّواوين من الصّغار؛ فلمّا اتصل بنا أنّ هذه المظلمة ما انجلى عنهم ظلمها، ولا رفع من الحساب عنهم قلمها- أكبرنا موقع بقائها، وعلمنا أنها مدّة مكتوبة لم يكن بدّ من المصير إلى(13/37)
انقضائها، واستجلبنا قلوب طوائف التّركمان بها، وأوثقنا أسبابهم في البلاد بسببها، لأمرين كلاهما عظيم: لرغبتنا فيما عند الله ولما لهم من حقّ ولاء قديم؛ كم صاروا مع الجيوش المنصورة جيوشا، وكم ساروا إلى بلاد ملوك الأعداء فثلّوا «1» لهم عروشا، وكم كانوا على أعقاب العساكر المؤيّدة الإسلامية ردفا ومقدّمتهم في محاصرة جاليشا «2» ، وكم قتلوا بسهامهم كافرا وقدّموا لهم رماحهم نعوشا؛ ومنهم أمراء وجنود، ونزول ووفود، وهم وإن لم يكونوا أهل خباء فهم أهل عمود، وذوو أنساب عريقة، وأحساب حقيقة، إلى القبجاق «3» الخلّص مرجعهم، والفرس بفرسان دولتنا الشريفة تجمعهم- فاقتضى رأينا الشريف أن نرعى لهم هذه الحقوق بإبطال تلك الزيادة المرادة، وأن نتناسى منها ما هو في العدد كالنّسيء في الكفر زيادة.
فرسم بالأمر الشريف- لا زالت مواهبه تشمل الآفاق، وتزيد على الإنفاق، وتقدّم ما ينفد إلى ما هو عند الله باق- أن يسامح جميع التّراكمين الدّاخل عدادهم في ضمان عداد التّركمان بالمملكة الحلبية المحروسة بما يستأدى منهم على الأغنام الدغالي، وأن يكون ما يستخرج منهم من العدد على الكبار خاصة: وهو عن كل مائة رأس كبار ثلاثة أرؤس كبار خاصّة لا غير من من غير زيادة على ذلك، مسامحة مستمرّة، دائمة مستقرّة، باقية بقاء الليالي والأيام، لا تبدّل لها أحكام، ولا(13/38)
تتغيّر بتغيّر حاكم من الحكّام؛ نرجو أن نسرّ بها في صحائف أعمالنا يوم العرض، لا يتأوّل فيها حساب، ولا تمتدّ إليها [يد] «1» حسّاب، ولا يبقى عليها سبيل للدواوين والكتّاب، ولا تسيّب أغنامهم ليرعاها منهم أولئك الذّئاب؛ كلّما مرّ على هذه المسامحة زمان أكّد أسبابها، وبيّض في صحائف الدفاتر حسابها، لا تعارض ولا تناقض ولا يتأوّل فيها متأوّل في هذا الزمان ولا فيما بعده من الزمان، ولا يدخل حكمها في النسيان، ولا ينقص أجرها المضمون، ولا تطلب أصحاب هذه الدغالي عليها بعداد في قرن من القرون، ولا يستحقر بما يستأدى منها جليلة ولا حقيرة، ولا يسمح لنفسه من قال إنها صغيرة وهي عند الله كبيرة: لتطيب لأهلها ومن تسامع بما شملهم من إحساننا الشريف النّفوس، ولا تصدّع لهم بسبب هذا الطّلب رؤوس؛ فمن تعرّض في زماننا أمدّنا الله بالبقاء أو كشف في هذه الصدقة الجارية وجه تأويل، أو سكن فيها إلى مداومة بقليل، أو طلب من ظالم بعينه مداواة قوله العليل، فسيجد ما يصبح به مثلة، ويتوب به مثله ويكون لمن بعده عبرة بمن قدّم قبله؛ ونحن نبرأ إلى الله ممن يتعرّض بعدنا إلى نقضها؛ وهذه المسامحة عليه حجّتنا التي لا يقدر عند الله على دحضها.
ولتقرأ على المنابر وتعل كلمتها، وتمدّ في أقطار الأرض كما امتدّ السحاب ترجمتها؛ وسبيل كل واقف عليها من أرباب الأحكام: أصحاب السيوف والأقلام، ومن يتناوب منهم على الدّوام، العمل بما رسمنا به واعتماد ما حكم بموجبه، بعد الخط الشريف شرفه الله تعالى أعلاه، إن شاء الله تعالى.
المرتبة الثانية- من المسامحات أن تكتب في قطع العادة مفتتحة برسم بالأمر الشريف.
وغالب ما يكتب ذلك للتّجار الخواجكية «2» بالمسامحة بما يلزمهم من(13/39)
المكوس والمقرّرات السلطانية عن نظير ثمن ما يبتاع منهم من المماليك.
والعادة أن يكتب في طرّتها «توقيع شريف بمسامحة فلان بما يجب عليه من الحقوق الديوانية بالديار المصرية والبلاد الشامية» بحسب ما يرسم له به.
وهذه نسخة توقيع من ذلك؛ وهي:
رسم بالأمر الشريف- لا زال يتبع السّماح بمثله، ويشمل الرعايا كلّ وقت في ممالكه الشريفة بعدله، ويواصل إليهم رفقه ورفده فلا يبرحون في مهاد من نعمه وإسعاد من فضله- أن يسامح المجلس السامي (إلى آخر ألقابه) أدام الله تعالى رفعته بما يجب عليه من الحقوق الدّيوانية بالديار المصرية والبلاد الشامية، وسائر الممالك الإسلامية، فيما يبيعه ويبتاعه ويتعوّضه من سائر الأصناف خلا الممنوعات: صادرا لا غير أو صادرا وواردا، بنظير المماليك الذين ابتاعهم برسم الأبواب الشريفة بكذا وكذا ألف درهم.
فليعتمد هذا المرسوم الشريف كلّ واقف عليه ويعمل بحسبه ومقتضاه، من غير عدول عنه ولا خروج عن حكمه ومعناه؛ والخطّ الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة دعاء آخر يفتتح به توقيع مسامحة، وهو: لا زالت نعمه عميمة، وسجاياه كريمة، ومواهبه في الآفاق سائرة وفي الأقطار مقيمة، أن يسامح فلان بكذا وكذا.
آخر: لا زالت صدقاته الشريفة تحقّق وسائل طالبها، وأوامره المطاعة نافذة في مشارق الأرض ومغاربها، أن يسامح فلان بكذا وكذا.(13/40)
قلت: والعادة في مستند ذلك أنه تحضّر به قائمة من ديوان الخاص الشريف فيكتب عليها كاتب السر بالتعيين، ويخلّدها كاتب الإنشاء عنده شاهدا له بذلك كما في غيره من سائر المستندات.
الضرب الثاني (ما يكتب عن نوّاب السلطنة بالممالك الشاميّة)
وغالب ما يكون في مسامحات التّجار بمقرّر ما يبتاعونه أو يشترونه، أو بقدر معيّن يحصل الوقوف عنده، ويعبّر عما يكتب فيه بالتواقيع كما في الولايات عندهم، وأكثر ما يفتتح برسم بالأمر.
وهذه نسخة مرسوم شريف بمسامحة كتب بها عن نائب الشام في الدولة الناصرية «فرج» «1» لخواجا محمد بن المزلّق، وهي:
رسم بالأمر العالي- لا زال قصد ذوي الحقوق عنده ناجحا، وإحسانه للمقرّب إليه مسامحا- أن يسامح الجناب العاليّ، الصّدريّ، الكبيريّ، المحترميّ، المؤتمنيّ، الأوحديّ، الأكمليّ، الرئيسيّ، العارفيّ، المقرّبيّ، الخواجكيّ، الشمسيّ، مجد الإسلام والمسلمين، شرف الأكابر في العالمين، أوحد الأمناء المقرّبين، صدر الرؤساء، رأس الصّدور، عين الأعيان، كبير الخواجكية، سفير الدولة، مؤتمن الملوك والسلاطين: محمد بن المزلّق، عين الخواجكية بالمملكة الشريفة الشامية المحروسة- أدام الله تعالى نعمته- بما يجب عليه من الحقوق الديوانية بالطّرقات المصرية، وجميع البلاد الشامية المحروسة(13/41)
والركاه بدمشق، وحلب، وطرابلس، وحماة، وصفد، وغزّة، وحمص، وبعلبكّ المحروسات، والبروك، والمقطعين، وقطيا، مما يبيعه ويبتاعه ويتعوّضه من جميع الأصناف خلا الممنوعات صادرا وواردا، ويثمّن عليه بقيمة ما يشتريه بما مبلغه من الدراهم النّقرة «1» الجيّدة مائتا ألف درهم، ولا يطالب عن ذلك بحقّ من الحقوق ولا بمقرّر من المقرّرات، مسامحة باقية مستمرّة، دائمة أبدا مستقرّة، لا ينتقض حكمها، ولا يغيّر رسمها، لخدمته الدّول على اختلافها، ولمبالغته في التقرّب بما يرضي الخواطر الكريمة وينفع الناس بما يحضره من أنواع المتاجر وأصنافها، ولاستحقاقه لهذا الإنعام، ولاختصاصه به دون الخاصّ والعام.
فليتلقّ ذلك بالحمد والابتهال؛ والله تعالى يبلّغه من مزيد إنعامنا الآمال؛ والاعتماد في معناه، على الخط الكريم أعلاه، إن شاء الله تعالى.(13/42)
الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة السادسة
(فيما يكتب من الإطلاقات: إمّا تقريرا لما قرّره غيره من الملوك السابقة، وإمّا ابتداء لتقرير ما لم يكن مقرّرا قبل، وإما زيادة على ما هو مقرّر؛ وفيه طرفان)
الطرف الأوّل (فيما يكتب عن الأبواب السلطانية؛ وهو على ثلاث مراتب)
المرتبة الأولى (ما يكتب في قطع الثلث مفتتحا بالحمد لله؛ وهو أعلاها)
وهذه نسخة توقيع شريف باستقرار ما أطلقه السلطان صلاح الدين يوسف ابن أيوب بالديار المصرية للعمريّين أعصاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كتب به في الدولة الناصرية محمد بن قلاوون «1» ، من إنشاء المقرّ الشّهابي بن فضل الله؛ وهي:
الحمد لله الذي أبدأ الجميل وأعاده، وأجرى تكرّمنا على أجمل عادة، وقفّى بنا آثار الذين أحسنوا الحسنى وزيادة.
نحمده على أن جعل جودنا المقدّم وإن تأخّر أياما، والمطيّب لذكر من تقدّم(13/43)
حتّى كأنما حاله مثل المسك ختاما، والصّيّب «1» الذي تقدّمه من بوادر الغيث قطر ثم استهلّ هو غماما، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرفع أعلامها ونمنع أن تطمس الليالي لمن جاهد عليها من ملوك الزمان أعلاما، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي هدى به إلى أوضح المسالك، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين فتحوا من الأرض ما وعد أنه سيبلغ ملك أمّته إلى ما زوي «2» من ذلك، وسلم.
وبعد، فإن أفضل النّعم ما قرن بالإدامة، وأعظم الأجور [أجر] «3» من سنّ سنة [حسنة] «4» فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، وأحسن الحسنات ما رغّبت السلف الصالح في خلفهم، وأمرّت بأيديهم ما حازوه من ميراث سلفهم؛ وكان المولى الشهيد الملك الناصر صلاح الدين، منقذ بيت المقدس من المشركين، أبو المظفّر يوسف بن أيوب- قدّس الله روحه- هو الذي كان على قواعد العمريّين بانيا، والفاتح لكثير من فتوحات أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتوحا ثانيا؛ ولما أعلى الله بمصر دولته المنيرة، ومحا به من البدع الإسماعيلية عظائم كثيرة، حبّس ناحية «شباس الملح» «5» وما معها جميع ذلك بحدّه وحدوده وقريبه وبعيده، وعامره وغامره، وأوّله وآخره، على المقيمين بالحرمين الشريفين من الذّرّية العمريّة، كما قاله في توقيعه الشريف المكتتب بالخط الفاضل عمر الأنام، واقتفى بهداه بعده من إخواننا الصالحين ملوك الإسلام؛ فجدّدنا لهم هذا التوقيع الشريف تبرّكا بالمشاركة واستدراك ما فاتنا مع سلفهم الكريم بالإحسان إلى أعقابهم. ومرسومنا أن يحملوا على حكم التوقيع(13/44)
الشريف الصّلاحيّ وما بعده من تواقيع الملوك الكرام، ولا يغيّر عليهم فيه مغيّر من عوائد الإكرام، ولا يقبل فيهم قول معترض ولا تتعرّض إليهم يد معترّض، ولا يفسح فيهم لمستعص إن لم يكن رافضا فإنه برفض حقّهم مترفّض، وليعامل الله فيهم بما يزيد جدّهم رضي الله عنه رضا، ويحبّس تحبيسا ثانيا لولانا لقيل لمن يطالب بها كيف تطالب بشيء مضى مع من مضى؛ ونحن نبرأ إلى الله ممن سعى في نقضها بسبب من الأسباب، أو مدّ فيها إلى فتح باب، أو تأوّل في حكم هذا الكتاب عليهم وقد وافق حكم جدّهم حكم الكتاب، وأن لا يقسم شيء من ريع هذه الناحية على غير المقيمين منهم بالحرمين الشريفين. ومن خاف على نفسه في المقام فيهما ممن كان في أحدهما ثم فارقه على عزم العود إلى مكانه، وأقام وله حنين إلى أوطانه، ولم يلهه استبدال أرض بأرض وجيران بجيران عن أرضه وجيرانه، إتباعا لشرطها الأوّل بمثله، واتّباعا [لمن] فيها «1» فاز مع السابقين الأوّلين بمزيد فضله.
وليكن النظر فيه لأمثل هذا البيت من المستحقين لهذا الحبس «2» كابرا عن كابر، ناظرا بعد ناظر، اتّباعا للمراد الكريم الصّلاحيّ في مرسومه المقدّم، وتفسيرا لمن لا يفهم، من غير مشاركة معهم لأحد من الحكّام، لا أرباب السيوف ولا أرباب الأقلام: لنكون نحن ومحبّسها- أثابه الله على هذه الحسنة- متناصرين، ولتجد البقيّة التي قد ناصرها ناصرين الناصر الأوّل منهما بناصرين، وليحذر من تتبّع عليهم تأويلا، ومن وجد في قلبه مرضا فأعداهم به تعليلا؛ فما كتبناه لتأويل حصل عليهم، ولا لتعليل المراسيم الملوكية التي هي في يديهم، وإنما هو بمثابة إسجال اتّصل من حاكم إلى حاكم، وسيف جدّدنا(13/45)
تقليده ليضرب به على يد الظالم، وجود أعلمنا من يجيء أنه على مدى الليالي والأيام ضرب لازم، وفضل إن تقدّمنا إليه من الملوك الكرام حاتم، فإن كرمنا عليه خاتم؛ فقد نبّهوا رحمهم الله مكافأة على إحسانهم إلى الذرّية العمرية عمرا، ثم ماتوا وأحالوا على جودنا المحمديّ فإنهم ببركات من سمّينا باسمه صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنواع الحسنات أسرا، فكان توقيعنا هذا لهم بمنزلة الخاتمة الصالحة، والرحمة التي أربت أوائلها على الغيوث السافحة؛ فلقد تداركنا رمق برّهم المعلّل، ولحقنا سابق معروفهم فلم نتمهّل، وأعدنا ما بدأوا به من الجميل فتكمّل، وقرنّا مراسيمنا المطاعة بعضها ببعض وربما زاد الآخر على الأوّل، فأمددناها منه بما لو لم يكن مداده أعزّ من سواد القلب والبصر لما كان قرّة عين لمن يتأمّل: ليرتفع عن هذه الناحية وعمر فيها كلّ كارث كارث، ويزال عنهم إلا ما يكون من مجدّدات الخير خير حادث، ويعلم الملكان المتقدّمان أمامنا أن نعزّز بثالث. وجميع النوّاب والولاة والمتصرفين، والمسارعين إلى الخيرات ونعوذ بالله من المتوقّفين، ومن يدخل في دائرة الأعمال، وينضمّ إلى راية العمّال، فإنا نحذّره أن يتعرّض فيها إلى سوء مآل، أو يردّ منها يده إلى جيبه بمال، أو يشوّش على أهلها ما استقاموا على أحسن حال، وإن يحمد الله من تقدّمنا من الملوك واتّبعوا فيه التوفيق في علاماتهم فإنا نحمده وهو أملنا ولنا في الغيب آمال؛ والله تعالى يجعل هذه الحسنة خالصة لوجهه الكريم، معوّضة منه بالثواب العظيم، واصلة بالرحمة لرميم هذا البيت القديم، إن شاء الله تعالى، والاعتماد............
المرتبة الثانية (ما يفتتح بأما بعد حمد الله» )
وهو على نحو ما تقدّم في الولايات: إما في قطع الثلث أو في العادة المنصوريّ.
وهذه نسخة توقيع شريف من ذلك؛ وهي:
أما بعد حمد الله الذي جعل أيّامنا مطلعا للسّعادة، وجعل لأوليائها، من(13/46)
إحساننا الحسنى وزيادة، وأضفى حلل بهائها، على من لم يجتمع لغيره ما اجتمع له من أوصاف السّيادة، والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبده ورسوله الذي شيّد الله به مباني الدين الحنيفيّ ورفع عماده، ونصر جيوش الإسلام ومهّد مهاده، وعلى آله وصحبه الذين ما منهم إلا من جعل طاعته ونصرته عمدته واعتماده، واتخذ مظافرته ومؤازرته في كل أمر عتاده، صلاة مستمرّة على كرّ الجديدين «1» إلى يوم الشّهادة- فإنّ أولى من تلحظه دولتنا الشريفة في أقبالها بمزيد إقبالها، وتعلي قدره إلى غاية تقصر الأفلاك عن إدراك منارها وبعد «2» منالها، وتضاعف له أسباب الإحسان من حسن نظرها واشتمالها، وتشيّد مباني عزّه فلا تصل يد الزمن إلى بعض تصرّمها، وتسبغ ملابس النّعم عليه فيختال في أضفاها ومعلمها، وتجدّد من مزايا جودها ما يحسن به الجزاء عما أسلفه من خدمها- من نظر في مصالح أحوالها المنصورة فأحسن النظر، وعضّد أنصارها بآرائه التي تشرق بها وجوه الأيّام إشراق الدّراريّ والدّرر، وأضحى وله في العلياء المحلّ الأثيل، والمناقب التي هي كالنهار لا تحتاج إلى دليل، والسيادة التي تكسو الزمن حلل البهاء فيجرّ منها على المجرّة ذيلا ضافيا، والمآثر التي لولا ما أحيته من معالم الرّآسة كان طللا عافيا، مع ما له من الحقوق التي تشكرها الأيّام والدّول، والخدم التي كم بلغ بمخالصته فيها من قصد وأمل، والسّجايا التي إذا خلعت عليها حللا من الثناء وجدتها منه في أبهى الحلل.
ولما كان فلان هو الذي تحلّى من هذا الثناء بدرّه الثّمين، وتلقّى راية هذا المجد كما تلقّاها عرابة «3» باليمين، وتنضّدت كواكب هذا المدح لتنتظم سلكا(13/47)
لمآثره، واتّسقت فرائد هذا الشكر لترصّع عقودا لمفاخره- وجب علينا أن نجدّد له في أيامنا ما تتضاعف به أسباب النّعم لديه، ويتحقّق منه إقبالنا بوجه الإقبال عليه.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- زاد الله تعالى في علائه، وأضفى على أوليائه حلل آلائه، وأبقى على الزمن بوجوده رونق بهائه- أن يستقرّ للمشار إليه في الشهر كذا وكذا مضافا إلى غير ذلك من لحم وتوابل وعليق على ما يشهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت؛ فليتلقّ إحساننا بيد إستحقاق لها في الفضل باع شديد، ويثق منّا بالإقبال الذي لا يزال عنده إن شاء الله وهو ثابت ويزيد، ويتناول ما قرّر باسمه في كل شهر من استقبال تاريخه بعد الخطّ الشريف أعلاه، إن شاء الله تعالى.
المرتبة الثالثة (مما يكتب به في الاطلاقات)
أن يكتب في قطع العادة مفتتحا برسم بالأمر الشريف؛ والرسم فيه على نحو ما تقدّم في الولايات، وهو أن يقال: «رسم بالأمر لا زال......... أن يستقرّ باسم فلان كذا وكذا: لأنه كذا وكذا» ونحو ذلك.
وهذه نسخة توقيع شريف بمرتّب على الفرنج الجرجان الواردين لزيارة القدس أنشأته لشرف الدّين قاسم؛ وهي:
رسم بالأمر الشريف- لا زال عدله الشريف لمال الفيء بين ذوي الاستحقاق قاسما، وفضله العميم لأولي الفضل في سلك الصّلات ناظما، ومعروفه المعروف لمواقع البرّ يؤمّ عالما ويبيت غانما- أن يستقرّ لمجلس القاضي فلان الدين على الفرنج الجرجان الواردين لزيارة قمامة «1» بالقدس الشريف كذا(13/48)
وكذا: لما اشتمل عليه: من مبين العلم ومتين العمل وجميل السّيرة، واجتمع لديه: من طيّب الذّكر وجميل الأثر وصفو السّريرة، ولإقامته بالمسجد الأقصى الذي هو أحد المساجد الثالثة التي تشدّ الرحال إليها، وإحدى القبلتين المعوّل في أوّل الإسلام عليها، ومجاورة الصّخرة المعظّمة، والآثار الشريفة والأماكن المكرّمة، وقيامه بما يجب من الدعاء لدولتنا القاهرة، والابتهال إلى الله تعالى بدوام أيّامنا الزاهرة.
فليتناول هذا المعلوم مهنّأ ميسّرا، وليرج من كرمنا الوافر فوق ذلك مظهرا، وليشهر سلاح دعائه بتلك الأماكن الشريفة على أعداء الله وأعداء الدّين، ويرمهم بسهام الليل التي لا تخطيء إن شاء الله تعالى الطّغاة المتمرّدين، فبذلك يستحقّ هذا السّهم من الفيء حقّا، ويعدّ من المقاتلة الذّابّين عن الإسلام صدقا؛ وليقم على جادّة الاستقامة في الدّين وليكن مما سوى ذلك بريّا، ويقابل هو ومثله إنعامنا بالشكر يتلو عليهم لسان كرمنا فكلوه هنيّا مريّا؛ والخط الشريف أعلاه.........
وهذه نسخة توقيع شريف أيضا أنشأته باسم بهاء الدّين، أبي بكر بن غانم، كاتب الدّست الشريف بالشام المحروس باستمرار مرتّبه على الفرنج الجرجان الواردين إلى ثغر الرملة المحروس؛ وهي:
رسم بالأمر الشريف- لا زال إحسان كرمه يزين ببهاء حسنه المكارم، وكرم(13/49)
إحسانه تتراكم سحائبه الهامية فتزري بالسّيول وتهزأ بالغمائم، وفيء نواله يقسم في أوليائنا خلفا بعد سلف فهم من فضله بين غانم وابن غانم- أن يستقرّ مرتّب المجلس السامي......... «1»(13/50)
الباب الثالث من المقالة السادسة في الطّرخانيّات
والمراد بها أن يصير الشخص مسموحا له بالخدم السلطانية: يقيم حيث شاء، ويرتحل متى شاء: تارة بمعلوم يتناوله مجّانا، وتارة بغير معلوم «1» ؛ وفيه فصلان:
الفصل الأوّل في طرخانيّات أرباب السّيوف
واعلم أنّ الطرخانية تكتب للأمراء تارة وللأجناد أخرى، وأكثر ما تكتب لمن كبرت سنّه وضعفت قدرته وعجز عن الخدمة السلطانية.
وقد جرت العادة أن يسمّى ما يكتب فيها مراسيم؛ وهي على ثلاث «2» مراتب:
المرتبة الأولى
(أن يفتتح المرسوم المكتتب في ذلك بالحمد لله) والرسم فيه على نحو من الولايات: وهو أن تستوفي الخطبة إلى آخرها، ثم يقال: وبعد، ثم يقال: ولما كان فلان ونحو ذلك، ثم يقال: اقتضى رأينا(13/51)
الشريف، ثم يقال: فلذلك رسم بالأمر الشريف أن يستقرّ فلان طرخانا يتصرّف على اختياره، يسير ويقيم في أيّ مكان اختاره من بلاد المملكة، وما يجري مجرى ذلك.
وهذه نسخة مرسوم شريف بطرخانيّة لأمير؛ وهي:
الحمد لله اللطيف بعباده الرؤوف بخلقه، المانّ بفضله الغامر بجوده الجائد برزقه، المتفضّل على العبد: في الصّبا بصفحه وفي الكهولة بعفوه وفي الشّيخوخة بعتقه.
نحمده على أن جبلنا على اصطناع الصنائع، وخصّنا برفع العوائق وقطع القواطع، وألهمنا عطف النّسق وإن كثرت مما سواه التّوابع، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تسكن الرحمة في قلب قائلها، وترفع سطوة الغضب عن منتحلها في أواخر السّطوة وأوائلها، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله أفضل نبيّ أوعد فعفا، وأكرم رسول وعد فوفى، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين سلكوا في المعروف سننه، ونهجوا في الإحسان إلى الخلق نهجه فكان لهم في رسول الله أسوة حسنة، صلاة تقيل العثرات، وتتلو بلسان قبولها إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ
«1» وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن أولى من رمقته المراحم الشريفة، بعين عنايتها، ولحظته العواطف المنيفة، بلحظ رعايتها، [من أهلّه إخلاصه لأن يقوم مقا] «2» ما لا يفارقه ولا يباين، وأن لا يحطّ من قدره العالي بسبب ما اتّفق إذ كلّ مقدّر كائن، وأن يصرّف اختياره في الإقامة حيث شاء من الممالك المحروسة والمدائن.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا زال من شيمه السّماح، ومن كرمه بلوغ النجا والنّجاح، ومن نعمه الصّفح عن الذّنب المتاح، حتّى يحفظ على الأنفس النفيسة الأموال ويريح لها الأرواح، [ولا برح يولي] «3» من قسمة المكرمات ما(13/52)
ينسى به الذّنب فكأنّه كان برقا أومض ولمح وراح- أن يكون المشار إليه طرخانا يقيم حيث شاء وأين أراد من البلاد الإسلامية المحروسة معاملا بمزيد الإكرام والاحترام، وأوفر العناية والرّعاية حسب ما اقتضته المراسيم الشريفة في ذلك عند ما شملته الصدقات العميمة والمراحم الشاملة بالعفو الشريف، والحكم المنيف، والإقبال والرّضا، والصّفح عمّا مضى، لما رأيناه من ترفيه خاطره، وقرار قلبه برفع التكليف عنه وقرّة ناظره، ولما تخلّقت به أخلاقنا، من التيمّن الذي ألبسه أثواب الأمان، وجبلت عليه طباعنا، من الرأفة والرحمة والراحمون يرحمهم الرحمن، ولما مهّده له عندنا اعترافه الذي هو له في الحقيقة أقوى شفاعة، ولما تحقّقناه من أنه لم يفعل ذلك إلا لوفور الطاعة التي أوجبت له الإرهاب إذ الهرب من الملوك طاعة، وكيف لا وقد تيقّن سخطنا الشريف وعلم، وخشي مهابتنا الشريفة ومن خاف سلم.
فليتقلّد عقود هذه المنن التي طوّقت جيده بالجود، وليشكر مواقع هذا الحلم الذي سرّ وسار كالمثل السائر في الوجود، وليقابل هذا الإقبال بالدعاء لأيّامنا الزاهرة، وليحظ بمواهبنا العميمة وصدقاتنا الباهرة، وليحط علما بأنّ إحساننا العميم قد أعاد إليه ما ألفه من الإسعاد والإصعاد، وأنّ صفحنا الشريف قد أضرب عمّا مضى والماضي لا يعاد؛ فليقم حيث شاء من البلاد المحروسة، متفيّئا ظلال مواهبنا التي يغدو وسرائره بها مأنوسة، واردا بحار عطايانا الزاخرة، ممتّعا بملابس رضانا الفاخرة، طيّب القلب منبسط الأمل، منشرح الصدر بما عمّه من الإنعام وشمل، مرعيّ الجناب في كل مكان، معظّم القدر على توالي الأزمان، مبتهجا بغمد ما عرض من ذلك التقطيب، مستبشرا بإقبالنا الذي يلذّ به عيشه ويطيب؛ والله تعالى يديم له عوارفنا المطلقة، وغمائم كرمنا المغدقة، ومواهبنا التي انتشرت له في كلّ قطر فهي لأنواع العطايا مستغرقة، ومنننا التي تسير معه حيثما سار وتقيم لديه أنّى أقام فلا تزال عنده مخيّمة في الأماكن المتفرّقة؛ والاعتماد على الخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه.(13/53)
المرتبة الثانية (أن يفتتح مرسوم الطّرخانية ب «أما بعد» )
والرسم فيه كما في الولايات أيضا يقال فيه: [أما بعد] «1» فإن كذا وكذا، ثم يقال: ولما كان كذا وكذا، اقتضى رأينا الشريف، ثم يقال: ولذلك رسم بالأمر الشريف، ويكمّل عليه.
وهذه نسخة مرسوم من ذلك؛ وهي:
أما بعد حمد الله على نعمه التي أو زعتنا بالإحسان إلى عباده أداء شكرها، وآلائه التي ألهمتنا بالتخفيف عن بريّته اقتران محامده بذكرها، ومننه التي وفّق بها دولتنا الشريفة لأن يكون العدل والإحسان أولى ما أجرته بفكرها، وأحقّ ما أمرّته بذكرها، والصلاة والسلام على رسوله الذي أوضح سبل المعروف، وشرع سنن العدل المألوف، ووصفه الله تعالى بالرأفة والرحمة فبه يقتدي كلّ رحيم وبه يأتمّ كلّ رؤوف، وعلى آله وصحبه الذين رفعوا منار العدل لسالكه، وقرّبوا منال الفضل لآخذه وبيّنوا الحيف والاشتطاط لتاركه- فإن الله تعالى خصّ أيامنا الزاهرة بتعاهد أهل خدمتنا بالعدل والإحسان، وتفقّد رعايانا بإزالة ما يكدّر عليهم موارد النّعم الحسان؛ فلا نزال ننعم النظر في أمورهم، ونفيض عامّ إحساننا على خاصّهم وجمهورهم، ليناموا من عدلنا في مهاد الدّعة، ويبيت ضعيفهم من مراحمنا الشريفة في أتمّ رأفة وفقيرهم في أوفر سعة.
ولما كان فلان ممن توفّر في الخدمة الشريفة قسمه، وكبر في الطاعة سنّه ووهن عظمه، وعجزت عن الركوب والنزول حركته، وذهبت مواقف حربه ولم يبق إلا أن تلتمس بركته- اقتضى حسن الرأي الشريف أن يضاعف إليه الإحسان، ويعامل بوافر البرّ وجزيل الامتنان.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا زال يوالي المنن، ويولي الأولياء من(13/54)
المعروف كلّ جميل حسن- أن يستقرّ المذكور طرخانا لا يطلب لخدمة في نهار ولا ليل، ولا يلزم بالقيام بنزك «1» ولا خيل؛ فليمض حكم هذه الطّرخانية لا تتأوّل ألسنة الأقلام في نصّه، ولا تتطرّق أوهام الأفهام إلى اعتراض ما ثبت من إعفائه بنقضه ولا نقصه؛ وسبيل كل واقف عليه اعتماد مضمونه والوقوف عند حكمه، والانتهاء إلى حدّه واتّباع رسمه، إن شاء الله تعالى «2»(13/55)
الفصل الثاني من الباب الثالث من المقالة السادسة
(فيما يكتب في طرخانيّات أرباب الأقلام) وهو قليل نادر قلّ أن يكتب؛ وإذا كتب فغالب ما يفتتح برسم، ويسمّى ما يكتب فيه تواقيع.
وهذه نسخة طرخانية كتب بها عن الملك الناصر محمد بن قلاوون للقاضي قطب الدين بن المكرّم أحد كتّاب الدّرج الشريف بالأبواب الشريفة، عند إقامته بالحجاز الشريف، بأن يستقر طرخانا بنصف معلومه الذي كان له على كتابة الدّرج الشريف وأن يقيم حيث شاء؛ وهي:
رسم بالأمر الشريف- لا زال يأمر فيطاع، ويصل فيعين على الانقطاع، ويرى على اقتراح الآمل جوده المكرر المكرم فالآمل يقترح ما استطاع- أن يستقرّ للمجلس السامي القضائي فلان بن المكرّم نفع الله به من معلومه عن كتابة الدرج الشريف الشاهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت النّصف من كل شهر، على الأدعية الصالحة لهذه الدولة القاهرة، ويقيم حيث شاء، ثم يستقرّ ذلك لأولاده من بعده، ثم لأولاد أولاده بالسّويّة إعانة له على بلوغ قصده ورغائبه، واستعانة بحاضر الجود دون غائبه، وإكراما لجانبه؛ وطالب وجه الله تعالى [يعان] «1» على الفوز بكنوز مطالبه.(13/56)
وما كنا لنسمح ببعده عن أبوابنا الشريفة، ولا نجيبه لمفارقة ما بيده من وظيفة، لأنه ما يدرك أحد من أبناء عصره مدّه ولا نصيفه؛ ولديوان إنشائنا جمال بعقود كتابته النظيمة ومعاني ألفاظه اللطيفة؛ وإنّما لإقباله على الآجلة، وإعراضه عن العاجلة، واستيعاب أوقاته بأداء الفريضة والنافلة، أسعفنا سؤاله بالإجابة، وأعنّاه على الإنابة، وأجزلنا سهمه من الإحسان فبلغ سهمه الإصابة، ومن أحسن سبيلا ممن أخذ لنفسه قبل الحين، ونفض يديه من الدنيا فراح بالخير مملوء اليدين، فنظر إلى معاده فأقبل على الله قرير العين؛ وها نحن قد كرّمناه في وقت واحد بانشاء ولدين.
فليشكر لصدقاتنا هذه النّعم المتزايدة، والصّلات العائدة، والإحسان إليه وإلى بنيه جملة واحدة، وليدع لدولتنا القاهرة حين يقوم لله قانتا، وحين يقول ناطقا وحيث يفكّر صامتا، وعند فطره من صومه، وفي أعقاب الصلوات في ليلته ويومه، وليوصّل إليه هذا المرتّب ميسّرا لا يكدّر مورده بتأخير، وليصرف إليه مهنّأ لا يشان طوله بتقصير، ولا يحوج إلى عناء وطلب، ولا يلجأ في تناوله إلى كدّ وتعب، بل يرفّه خاطره عمّا فاز به من حسن المنقلب؛ والله تعالى يمدّه بعونه وفضله، وينجب فرعه ببركة أصله؛ والخطّ الشريف أعلاه حجة فيه، إن شاء الله تعالى.(13/57)
الباب الرابع من المقالة السادسة
(فيما يكتب في التوفيق بين السّنين الشمسيّة [والقمريّة] »
المعبر عنه في زماننا بتحويل السّنين، وما يكتب في التذاكر؛ وفيه فصلان)
الفصل الأوّل [فيما يكتب في التوفيق بين السنين؛ وفيه طرفان:
الطرف الأوّل] «2» (في بيان أصل ذلك)
اعلم أنّ استحقاق الخراج [و] «3» جبايته منوطان بالزّروع والثّمار من حيث إن الخراج من متحصّل ذلك يؤخذ، والزّروع والثّمار منوطة بالشّهور والسنين الشمسيّة من حيث أن كل نوع منها يظهر في وقت من أوقاتها ملازم له لا يتحوّل عنه ولا ينتقل للزوم كل شهر منها وقتا بعينه من صيف أو شتاء أو خريف أو ربيع؛ واستخراج الخراج في الملّة الإسلامية منوط بتاريخ الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وشهوره وسنوه عربية. والشهور العربية تنتقل من وقت إلى وقت؛ فربما كان استحقاق الخراج في أوّل سنة من السّنين العربية، ثم تراخى الحال فيه إلى أن صار استحقاقه في أواخرها، ثم تراخى حتّى صار في السنة(13/58)
الثانية فيصير الخراج منسوبا للسنة السابقة، واستحقاقه في السنة اللاحقة، فيحتاج حينئذ إلى تحويل السّنة الخراجيّة السابقة إلى التي بعدها على ما سيأتي ذكره.
قال في «موادّ البيان» «1» : والسبب في انفراج ما بين السنين الشمسية والهلاليّة أنّ أيّام السنة الشمسية هي المدّة التي تقطع الشمس الفلك فيها دفعة واحدة، وهي ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم بالتقريب حسب ما توجبه حركتها، وأيّام السنة الهلاليّة هي المدّة التي يقطع القمر الفلك فيها اثنتي عشرة دفعة، وهي ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما وسدس يوم؛ فيكون التفاوت بينهما أحد عشر يوما وسدس يوم، فتكون زيادة السنين الشمسية على السنين الهلالية في كل ثلاث سنين شهرا واحدا وثلاثة أيام ونصف يوم تقريبا، وفي كل ثلاث وثلاثين سنة سنة بالتقريب؛ فإذا تمادى الزمان تفاوت ما بين السنين تفاوتا قبيحا «2» ، فيرى السلطان عند ذلك أن تنقل السنة الشمسية إلى السنة الهلاليّة بالاسم دون الحقيقة توفيقا بينهما، وإزالة للشبهة في أمرهما؛ ومتى أو عز بذلك لم يقف على الغرض فيه إلا الخاصّة دون العامّة؛ و [ربما أسرع] إلى ظنّ المعاملين وأرباب الخراج والأملاك أنّ ذلك عائد عليهم بظلم وحيف، وإلى ظنّ مستحقّي الإقطاع أنه منتقص لهم، ونسبوا الجور إلى السلطان بسبب ذلك وشنّعوا عليه، فرسم بلغاء الكتّاب في هذا المعنى رسوما تعود بتفهيم الغبيّ، وتبصير العميّ، وتوصل المعنى المراد إلى الكافّة إيصالا يتساوون في تصديقه وتيقّنه، ولا تتوجّه عليهم شبهة ولا شكّ فيه.
قلت: وقد ذكر أبو هلال العسكري في «الأوائل» أنّ أوّل من أخّر النّيروز المتوكّل على الله، أحد خلفاء بني العبّاس، وذلك أنه بينما هو يطوف في متصيّد له(13/59)
إذ رأى زرعا أخضر، فقال: قد استأذنني عبيد الله بن يحيى «1» في فتح الخراج وأرى الزّرع أخضر؛ فقيل له: إن جباية الخراج الآن قد تضرّ بالناس إذ تلجئهم إلى أنهم يقترضون ما يؤدّون في الخراج، فقال: أهذا شيء حدث أو لم يزل كذا؟ فقيل له: بل حدث؛ وعرّف أنّ الشمس تقطع الفلك في ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وربع يوم، وأنّ الروم تكبس في كل أربع سنين يوما فيطرحونه من العدد، فيجعلون شباط ثلاث سنين متواليات ثمانية وعشرين يوما؛ وفي السنة الرابعة ينجبر من ذلك الرّبع اليوم يوم تامّ، فيصير شباط تسعة وعشرين يوما، ويسمّون تلك السنة الكبيسة. وكانت الفرس تكبس للفضل الذي بين سنيها وبين سنة الشمس في كل مائة وستّ عشرة سنة شهرا؛ فلما جاء الإسلام عطّل ذلك ولم يعمل به فأضر بالناس ذلك، وجاء زمن هشام بن عبد الملك فاجتمع الدّهاقنة إلى خالد بن عبد الله القسريّ «2» وشرحوا له ذلك (ولم يعمل به فأضرّ بالناس ذلك) «3» ، وقد سألوه أن يؤخّر إليه [فأرسل] «4» الكتب إلى هشام سرّا في ذلك، فقال هشام: أخاف أن يكون ذلك من قول الله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ
«5» فلما كان أيّام الرشيد اجتمعوا إلى يحيى بن خالد البرمكيّ، وسألوه في تأخير النّيروز نحو شهر فعزم على ذلك، فتكلم أعداؤه فيه وقالوا: تعصّب للمجوسية، فأضرب عنه فبقي على ذلك إلى اليوم؛ فأحضر المتوكّل حينئذ إبراهيم بن العباس «6» ، وأمره أن يكتب عنه كتابا في تأخير النّيروز بعد أن تحسب(13/60)
الأيام، فوقع الاتّفاق على أن يؤخّر إلى سبعة وعشرين يوما من حزيران، فكتب الكتاب على ذلك. قال العسكري: «وهو كتاب مشهور في رسائل إبراهيم بن العباس» «1» ؛ ثم قتل المتوكل قبل دخول السنة الجديدة، ووليّ المنتصر واحتيج إلى المال فطولب به الناس على الرسم الأوّل؛ وانتقض ما رسمه المتوكل فلم يعمل به حتّى ولي المعتضد، فقال لعليّ بن يحيى المنجم «2» : تذكر ضجيج الناس من أمر الخراج؛ فكيف جعلت الفرس مع حكمتها وحسن سيرتها افتتاح الخراج في وقت مالا يتمكّن الناس من أدائه فيه؟ فشرح له أمره، وقال: ينبغي أن يردّ إلى وقته، ويلزم يوما من أيام الرّوم «3» فلا يقع فيه تغيّر، فقال له المعتضد سر إلى عبيد الله بن سليمان «4» فوافقه على ذلك، فصرت إليه ووافقته، وحسبنا حسابه فوقع في اليوم الحادي عشر من حزيران «5» ، فأحكم أمره على ذلك، وأثبت في الدواوين؛ وكان النّيروز الفارسي إذ ذاك يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر سنة اثنتين وثمانين ومائتين، ومن شهور الروم الحادي عشر من نيسان.
وقد قال أبو الحسين عليّ بن الحسين «6» الكاتب رحمه الله: عهدت جباية(13/61)
الخراج في سنين قبل سنة إحدى وأربعين ومائتين في خلافة أمير المؤمنين المتوكّل رحمة الله عليه تجري لكل سنة في السنة التي بعدها بسبب تأخّر الشهور الشمسيّة عن الشّهور القمرية في كل سنة أحد عشر يوما وربع يوم وزيادة الكسر عليه؛ فلما دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائتين، كان قد انقضى من السّنين التي قبلها ثلاث وثلاثون سنة، أوّلهن سنة ثمان ومائتين من خلافة أمير المؤمنين المأمون رحمة الله عليه، واجتمع من هذا المتأخّر فيها أيام سنة شمسيّة كاملة: وهي ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم وزيادة الكسر، وتهيّأ إدراك غلّات وثمار سنة إحدى وأربعين ومائتين في صدر سنة اثنتين وأربعين [ومائتين] ، فأمر أمير المؤمنين المتوكل رحمة الله عليه بإلغاء ذكر سنة إحدى وأربعين ومائتين، إذ كانت قد انقضت ونسب الخراج إلى سنة اثنتين وأربعين ومائتين «1» قال صاحب «المنهاج في صنعة الخراج» «2» : ولما نقلت سنة إحدى وأربعين ومائتين إلى سنة اثنتين وأربعين، جبى أصحاب الدواوين الجوالي «3» والصدقات لسنتي إحدى واثنتين وأربعين ومائتين في وقت واحد، لأن الجوالي بسرّ من رأى ومدينة السلام ومضافاتهما كانت تجبى على شهور الشمس، الأهلة، وما كان عن جماجم أهل القرى والضّياع والمستغلّات كانت تجبى على شهور فألزم أهل الجوالي خاصّة في مدة الثلاث وثلاثين سنة «4» ، ورفعها العمّال في(13/62)
حسباناتهم فاجتمع من ذلك ألوف ألوف دراهم، فجرت الأعمال بعد نقل المتوكّل على ذلك سنة بعد سنة، إلى أن انقضت ثلاث وثلاثون سنة آخرتهن انقضاء سنة أربع وسبعين ومائتين، فلم ينبّه كتّاب أمير المؤمنين- المعتمد على الله رحمة الله عليه- على ذلك، إذ كان رؤساؤهم في ذلك الوقت إسماعيل بن بلبل وبني الفرات، ولم يكونوا عملوا في ديوان الخراج والضّياع في خلافة أمير المؤمنين المتوكل رحمه الله، ولا كانت أسنانهم أسنانا بلغت معرفتهم معها هذا النّقل، بل كان مولد أحمد بن الفرات قبل هذه السنة بخمس سنين، ومولد عليّ أخيه فيها، وكان إسماعيل يتعلّم في مجلس لم يبلغ أن ينسخ، فلما تقلّدت لناصر الدين [أبي أحمد طلحة الموفق] «1» رحمة الله عليه أعمال الضّياع بقزوين ونواحيها لسنة ستّ وسبعين ومائتين، وكان مقيما بأذربيجان، وخليفته بالجبل والقرى جرادة بن محمد، وأحمد بن محمد كاتبه، واحتجت إلى رفع جماعتي إليه- ترجمتها بجماعة [سنة] «2» ست وسبعين ومائتين [التي أدركت غلّاتها وثمارها في سنة سبع وسبعين ومائتين] «3» ، ووجب إلغاء ذكر سنة ستّ وسبعين ومائتين؛ فلما وقفا على هذه الترجمة أنكراها وسألاني عن السبب فيها فشرحته لهما، ووكّدت ذلك بأن عرّفتهما أني قد استخرجت حساب السنين الشمسية والسنين القمرية من القرآن [الكريم بعد] «4» ما عرضته على أصحاب التفسير، فذكروا أنه لم يأت فيه شيء من الأثر، فكان ذلك أوكد في لطف استخراجي: وهو أن الله تعالى قال في سورة الكهف:
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً
«5» ، فلم أجد أحدا من المفسّرين عرف ما معنى [قوله] «6» : وازدادوا تسعا، وإنما خاطب الله جل وعز نبيّه بكلام العرب وما تعرفه من الحساب؛ فمعنى هذه التسع أن الثلاثمائة كانت شمسية بحساب العجم ومن كان لا يعرف السنين القمرية، فإذا أضيف إلى الثلاثمائة القمريّة زيادة التسع كانت سنين شمسيّة [صحيحة] «7» فاستحسناه؛ فلما انصرف(13/63)
جرادة مع الناصر- رحمة الله عليه- إلى مدينة السلام وتوفّي الناصر رضوان الله عليه وتقلد أبو القاسم عبيد الله بن سليمان رحمه الله كتابة أمير المؤمنين: المعتضد بالله صلوات الله عليه، أجرى له جرادة ذكر هذا النقل، وشرح له سببه: تقرّبا إليه، وطعنا على أبي القاسم عبيد الله رحمه الله في تأخيره إيّاه.
فلما وقف المعتضد بالله رحمه الله على ذلك تقدّم إلى أبي القاسم بإنشاء الكتب بنقل سنة ثمان وسبعين ومائتين إلى سنة تسع وسبعين ومائتين، فكتب، وكان هذا النقل بعد أربع سنين من وجوبه؛ ثم مضت السنون سنة بعد سنة إلى أن انقضت الآن ثلاث وثلاثون سنة أولاهن السنة التي كان النقل وجب فيها: وهي سنة خمس وسبعين ومائتين، وآخرتهن انقضاء سنة سبع وثلاثمائة، فوافق ذلك خلافة المطيع لله في وزارة أبي محمد المهلّبي، فأمر بنقل سنة ستّ وثلاثمائة إلى سنة سبع وثلاثمائة، ونسبة الخراج إليها فنقلت، وأمر بالكتابة بذلك من ديوان الإنشاء فكتب به.
وقد حكى أبو الحسين هلال بن المحسن بن أبي إسحاق إبراهيم الصابي عن أبيه «1» أنه قال: لما أراد الوزير أبو محمّد المهلّبي نقل السنة أمر أبا إسحاق والدي وغيره من كتّابه في الخراج والرسائل بإنشاء كتاب عن المطيع لله رحمة الله عليه في هذا المعنى، وكلّ منهم كتب، وعرضت النّسخ على الوزير أبي محمّد فاختار منها كتاب والدي وتقدّم بأن يكتب إلى أصحاب الأطراف. وقال لأبي الفرج ابن أبي هاشم «2» خليفته: اكتب إلى العمال بذلك كتبا [محققة] «3» ، وانسخ في أواخر [ها] «4» هذا الكتاب السلطاني، فغاظ أبا الفرج وقوع التفضيل والاختيار لكتاب والدي، وقد كان عمل نسخة اطّرحت في جملة ما اطّرح، وكتب: «قد رأينا نقل سنة خمسين [إلى إحدى وخمسين] «5» فاعمل على(13/64)
ذلك» ولم ينسخ الكتاب السلطاني، وعرف الوزير أبو محمد ما كتب به أبو الفرج، فقال له: لماذا أغفلت نسخ الكتاب السلطاني في آخر الكتاب إلى العمّال وإثباته في الديوان؟ فأجاب جوابا علّل «1» فيه، فقال له يا أبا الفرج:
ما تركت ذلك إلا حسدا لأبي إسحاق على كتابه، وهو والله في هذا الفن أكتب أهل زمانه.
قال صاحب «المنهاج في صنعة الخراج» : وقد كان نقل السنين في الديار المصرية [أغفل] «2» حتى كانت سنة تسع وتسعين وأربعمائة الهلاليّة فنقلت سنة تسع وتسعين الخراجية إلى سنة إحدى وخمسمائة فيما رأيته في تعليقات أبي.
قال: وآخر ما نقلت السنة في وقتنا هذا أن نقلت سنة خمس وستين وخمسمائة إلى سنة سبع وستين وخمسمائة الهلالية، فتطابقت السنتان. وذلك أنني لما قلت للقاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني: إنه قد آن نقل السنة، أنشأ سجلّا بنقلها نسخ في الدواوين، وحمل الأمر على حكمه، ثم قال: وما برح الملوك والوزراء يعنون بنقل السنين في أحيانها، ومطابقة العامين في أوّل زمان اختلافهما بالبعد وتقارب اتفاقهما بالنّقل.
قلت: والحاصل أنه إذا مضى ثلاث وثلاثون سنة من آخر السنة، حوّلت السنة الثالثة والثلاثون إلى تلو السنة التي بعدها، وهي الخامسة والثلاثون، وتلغى الرابعة والثلاثون؛ ومقتضى البناء على التحويل الذي كان في خلافة المطيع في سنة سبع وثلاثمائة المقدّم ذكره أن تحوّل سنة سبع وثلاثمائة إلى سنة تسع وثلاثمائة، ثم تحوّل سنة أربعين وثلاثمائة إلى اثنتين وأربعين وثلاثمائة، وتلغى سنة إحدى وأربعين، ثم تحوّل سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة إلى سنة خمس وسبعين وثلاثمائة، وتلغى سنة أربع وسبعين، ثم تحوّل سنة ست وأربعمائة إلى سنة ثمان وأربعمائة، وتلغى سنة سبع، ثم تحول سنة تسع وثلاثين وأربعمائة إلى سنة إحدى وأربعين وأربعمائة،(13/65)
وتلغى سنة أربعين؛ ثم تحوّل سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة إلى سنة أربع وسبعين وأربعمائة، وتلغى سنة ثلاث وسبعين؛ ثم تحوّل سنة خمس وخمسمائة إلى سنة سبع وخمسمائة، وتلغى سنة ستّ؛ لكن قد تقدّم من كلام صاحب «المنهاج في صنعة الخراج» أن التحويل كان تأخّر بالديار المصرية إلى سنة تسع وتسعين وأربعمائة، فحوّلت سنة تسع وتسعين الخراجية إلى سنة إحدى وخمسمائة، فيكون التحويل بالديار المصرية قد وقع قبل استحقاقه بمقتضى الترتيب المقدّم ذكره بستّ سنين من حيث إنه كان المستحقّ مغلّ سنة خمس وخمسمائة إلى سنة سبع وخمسمائة كما تقدّم، فنقلت سنة تسع وتسعين وأربعمائة إلى سنة إحدى وخمسمائة. والأمر في ذلك قريب إذ التحويل على التقريب دون التحديد.
ثم مقتضى ترتيب التحويل الرابع في الديار المصرية بعد تحويل سنة تسع وتسعين وأربعمائة إلى سنة إحدى وخمسمائة أن تحوّل بعد ذلك سنة ثنتين وثلاثين وخمسمائة إلى سنة أربع وثلاثين وخمسمائة، وتلغى سنة ثلاث وثلاثين؛ ثم تحوّل سنة خمس وستين وخمسمائة إلى سنة سبع وستين وخمسمائة، وتلغى سنة ستّ وستين؛ ثم تحوّل سنة ثمان وتسعين وخمسمائة إلى سنة ستمائة، وتلغى سنة تسع وتسعين وخمسمائة؛ ثم تحوّل سنة إحدى وثلاثين وستّمائة إلى سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وتلغى سنة اثنتين وثلاثين؛ ثم تحوّل سنة أربع وستين وستمائة إلى سنة ستّ وستين وستمائة، وتلغى سنة خمس وستين؛ ثم تحوّل سنة سبع وتسعين وستمائة إلى سنة تسع وتسعين وستمائة، وتلغى سنة ثمان وتسعين؛ ثم تحوّل سنة سبعمائة وثلاثين إلى سنة سبعمائة واثنتين وثلاثين، وتلغى سنة إحدى وثلاثين؛ ثم تحوّل سنة ثلاث وستين وسبعمائة إلى سنة خمس وستين وسبعمائة، وتلغى سنة أربع وستين وسبعمائة؛ وتحوّل سنة ست وتسعين وسبعمائة إلى سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، وتلغى سنة سبع وتسعين؛ ثم لا يكون تحويل إلى تسع وعشرين وثمانمائة، فتحول إلى سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة؛ لكن قد حوّل كتّاب الدواوين بالديار المصرية وأرباب الدولة بها سنة تسع وأربعين وسبعمائة:(13/66)
(وهي سنة الطاعون الجارف العامّ) إلى سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، وألغوا سنة خمسين. وكان يقال: مات في تلك السنة كلّ شيء حتّى السنة؛ وسيأتي ذكر المرسوم المكتتب بها في تحويل السنين في هذه المقالة، إن شاء الله تعالى.
ونقل ذلك لتأخير وقع من إغفال تحويل سنة سبعمائة وثلاثين المتقدّمة الذكر، وآخر سنة حوّلت في زماننا سنة ... «1» .
الطرف الثاني (في صورة ما يكتب في تحويل السنين؛ وهو على نوعين) «2»
النوع الأوّل (ما كان يكتب في ذلك عن الخلفاء؛ وفيه مذهبان)
المذهب الأوّل (أن يفتتح ما يكتب ب «أمّا بعد» )
وعلى ذلك كان يكتب من ديوان الخلافة ببغداد.
وهذه نسخة ما ذكر أبو الحسين بن علي الكاتب المقدم ذكره أنه كتب به في ذلك في نقل سنة ثمان وسبعين ومائتين إلى سنة تسع وسبعين ومائتين في خلافة المعتضد بالله أمير المؤمنين؛ وهي «3» :
أمّا بعد، فإنّ أولى ما صرف إليه أمير المؤمنين عنايته، وأعمل فيه فكره ورويّته، وشغل به تفقّده ورعايته، أمر الفيء الذي خصّه الله به وألزمه جمعه وتوفيره، وحياطته وتكثيره، وجعله عماد الدّين، وقوام أمر المسلمين، وفيما يصرف منه إلى أعطيات الأولياء والجنود، ومن يستعان «4» به لتحصين البيضة والذّبّ عن الحريم، وحجّ البيت، وجهاد العدوّ، وسدّ الثّغور، وأمن السبل، وحقن الدّماء، وإصلاح ذات البين، وأمير المؤمنين يسأل الله راغبا إليه، ومتوكّلا(13/67)
عليه، أن يحسن عونه على ما حمّله منه، ويديم توفيقه لما أرضاه، وإرشاده إلى ما يقضي [بالخير] «1» عنه وله.
وقد نظر أمير المؤمنين فيما كان يجري عليه أمر جباية هذا الفيء في خلافة آبائه [الخلفاء] «2» الراشدين فوجده على حسب ما كان يدرك من الغلّات والثّمار في كل سنة أوّلا أوّلا على مجاري شهور سني الشمس في النّجوم التي يحلّ مال كلّ صنف منها فيها، ووجد شهور السنة الشمسية تتأخّر عن شهور السنة الهلاليّة أحد عشر يوما وربعا وزيادة عليه، ويكون إدراك الغلات والثّمار في كل سنة بحسب تأخّرها.
فلا تزال السنون تمضي على ذلك سنة بعد سنة حتى تنقضي منها ثلاث وثلاثون سنة وتكون عدّة الأيام المتأخّرة منها أيام سنة شمسيّة كاملة، وهي ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم وزيادة عليه، فحينئذ يتهيّأ بمشيئة الله وقدرته إدراك الغلّات التي تجري عليها الضرائب والطّسوق «3» في استقبال المحرّم من سني الأهلّة. ويجب مع ذلك إلغاء ذكر السنة الخارجة إذ كانت قد انقضت ونسبتها إلى السنة التي أدركت الغلّات والثمار فيها، وإنه وجد ذلك قد كان وقع في أيام أمير المؤمنين المتوكّل على الله رحمة الله عليه عند انقضاء ثلاث وثلاثين سنة، آخرتهن سنة إحدى وأربعين ومائتين، فاستغني عن ذكرها بإلغائها ونسبتها إلى سنة اثنتين وأربعين ومائتين؛ فجرت المكاتبات والحسبانات وسائر الأعمال بعد ذلك سنة بعد سنة إلى أن مضت ثلاث وثلاثون سنة، آخرتهنّ انقضاء سنة أربع وسبعين ومائتين، [ووجب إنشاء الكتب بإلغاء ذكر سنة أربع وسبعين ومائتين] «4» ونسبتها إلى سنة خمس وسبعين ومائتين، فذهب ذلك على كتّاب أمير المؤمنين [المعتمد على الله وتأخّر الأمر أربع سنين إلى أن أمر أمير المؤمنين] «5» المعتضد بالله رحمه الله في سنة(13/68)
سبع وسبعين ومائتين بنقل خراج سنة ثمان وسبعين ومائتين إلى سنة تسع وسبعين ومائتين؛ فجرى الأمر على ذلك إلى أن انقضت في هذا الوقت ثلاث وثلاثون سنة: أولاهنّ السنة التي كان يجب نقلها فيها، وهي سنة خمس وسبعين ومائتين، وآخرتهن انقضاء شهور خراج سنة سبع وثلاثمائة، ووجب افتتاح خراج ما تجري عليه الضرائب والطسوق في أوّلها [وإن] «1» من صواب التدبير واستقامة الأعمال، واستعمال ما يخفّ على الرعية معاملتها به نقل سنة الخراج لسنة سبع وثلاثمائة إلى سنة ثمان وثلاثمائة، فرأى أمير المؤمنين- لما يلزمه نفسه ويؤاخذها به «2» ، من العناية بهذا الفيء وحياطة أسبابه، وإجرائها مجاريها، وسلوك سبيل آبائه الراشدين رحمة الله عليهم فيها- أن يكتب إليك وإلى سائر العمّال في النواحي بالعمل على ذلك، وأن يكون ما يصدر [إليكم] «3» من الكتب وتصدرونه عنكم وتجري عليه أعمالكم ورفوعكم وحسباناتكم وسائر مناظراتكم على هذا النّقل.
فاعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين واعمل به مستشعرا فيه وفي كلّ ما تمضيه تقوى الله وطاعته، ومستعملا [عليه] «4» ثقات الأعوان وكفاتهم، مشرفا عليهم ومقوّما لهم، واكتب بما يكون منك في ذلك، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة ما كتب به أبو إسحاق الصابي عن المطيع لله بنقل سنة ستّ «5» وثلاثمائة إلى سنة سبع وثلاثمائة؛ وهي:
أما بعد، فإنّ أمير المؤمنين لا يزال مجتهدا في مصالح المسلمين، وباعثا لهم على مراشد الدنيا والدّين، ومهيّئا لهم إلى أحسن الاختيار فيما يوردون ويصدرون، وأصوب الرأي فيما يبرمون وينقضون؛ فلا تلوح له خلّة داخلة على(13/69)
أمورهم إلا سدّها وتلافاها [ولا حال عائدة بحظّ عليهم إلا اعتمدها وأتاها] «1» ولا سنّة عادلة إلا أخذهم باقامة رسمها، وإمضاء حكمها والاقتداء بالسلف الصالح في العمل بها والاتباع لها؛ وإذا عرض من ذلك ما تعلمه الخاصّة بوفور ألبابها، وتجهله العامّة بقصور أفهامها، وكانت أوامره فيه خارجة إليك وإلى أمثالك من أعيان رجاله، وأماثل عمّاله، الذين يكتفون بالإشارة، ويجتزئون بتيسير الإبانة والعبارة، لم يدع أن يبلغ من تلخيص اللفظ وإيضاح المعنى إلى الحدّ الذي يلحق المتأخّر بالمتقدّم، ويجمع بين العالم والمتعلّم؛ ولا سيّما إذا كان ذلك فيما يتعلّق بمعاملات الرعيّة، ومن لا يعرف إلا الظّواهر الجلية دون البواطن الخفيّه، ولا يسهل عليه الانتقال عن العادات المتكررة إلى الرّسوم المتغيّرة، ليكون القول بالمشروح لمن برّز في المعرفة مذكّرا، ولمن تأخّر فيها مبصّرا، ولأنه ليس من الحق أن تمنع هذه الطبقة من برد اليقين في صدورها، ولا أن يقتصر على اللّمحة الدالّة في مخاطبة جمهورها، حتّى إذا استوت الأقدام بطوائف الناس في فهم ما أمروا به وفقه ما دعوا إليه وصاروا فيه على كلمة سواء لا يعترضهم شكّ الشاكّين ولا استرابة المستريبين، اطمأنّت قلوبهم، وانشرحت صدورهم، وسقط الخلاف بينهم، واستمرّ الاتفاق فيهم، واستيقنوا أنهم مسوسون على استقامة من المنهاج، ومحروسون من جرائر الزّيغ والاعوجاج؛ فكان الانقياد منهم وهم دارون عالمون، لا مقلّدون مسلّمون، وطائعون مختارون، لا مكرهون ولا مجبرون.
وأمير المؤمنين يستمدّ الله تعالى في جميع أغراضه ومراميه، ومطالبه ومغازيه، مادّة من صنعه تقف به على سنن الصّلاح، وتفتح له أبواب النّجاح، وتنهضه بما أهّله لحمله من الأعباء التي لا يدّعي الاستقلال بها إلا بتوفيقه [ومعونته] «2» ، ولا يتوجه فيها إلا بدلالته وهدايته؛ وحسب أمير المؤمنين الله ونعم الوكيل.(13/70)
وأمير المؤمنين يرى أنّ أولى الأقوال أن يكون سدادا، وأحرى الأفعال أن يكون رشادا، ما وجد له في السابق من حكم الله أصول وقواعد، وفي النّص من كتابه آيات وشواهد، وكان مفضيا بالأمة إلى قوام من دين ودنيا، ووفاق في آخرة وأولى، فذلك هو البناء الذي يثبت ويعلو، والغرس الذي ينبت ويزكو، والسّعي الذي تنجح مباديه وهواديه، وتبهج عواقبه وتواليه، وتستنير سبله لسالكيها، وتوردهم موارد السعود في مقاصدهم فيها، غير ضالّين ولا عادلين، ولا منحرفين ولا زائلين.
وقد جعل الله عزّ وجلّ من هذه الأفلاك الدائرة، والنّجوم السائرة، فيما تتقلّب عليه من اتّصال وافتراق، ويتعاقب عليها من اختلاف واتّفاق، منافع تظهر في كرور الشّهور والأعوام، ومرور اللّيالي والأيّام، وتناوب الضّياء والظلام، واعتدال المساكن والأوطان، وتغاير الفصول والأزمان، ونشء النّبات والحيوان؛ فما في نظام ذلك خلل، ولا في صنعة صانعه زلل، بل هو منوط بعضه ببعض، ومحوط من كلّ ثلمة ونقض؛ قال الله سبحانه: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ
«1» ، وقال جلّ من قائل: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
«2» وقال: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
«3» ، وقال عزّت قدرته: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ
«4» ففضّل الله تعالى في هذه الآيات بين الشمس والقمر، وأنبأنا في الباهر من حكمه، والمعجز من كلمه، أنّ لكلّ منهما طريقا سخّر فيها وطبيعة جبل عليها، وأن كلّ تلك المباينة والمخالفة في المسير، تؤدّي إلى موافقة وملازمة في(13/71)
التدبير؛ فمن هنالك زادت السنة الشمسية فصارت ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وربعا بالتقريب المعمول عليه؛ وهي المدّة التي تقطع الشمس فيها الفلك مرّة واحدة، ونقصت السنة الهلالية فصارت ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوما وكسرا، وهي المدّة التي يجامع القمر فيها الشمس اثنتي عشرة مرة، واحتيج إذا انساق هذا الفضل إلى استعمال النقل الذي يطابق إحدى السنتين بالأخرى إذا افترقتا، ويداني بينهما إذا تفاوتتا.
وما زالت الأمم السالفة تكبس زيادات السنين على افتنان من طرقها ومذاهبها، وفي كتاب الله عز وجل شهادة بذلك إذ يقول في قصّة أهل الكهف:
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً
«1» فكانت هذه الزيادة بأن الفضل في السنين المذكورة على تقريب التقريب.
فأما الفرس فإنهم أجروا معاملاتهم على السنة المعتدلة التي شهورها اثنا عشر شهرا، وأيامها ثلاثمائة وستون يوما، ولقّبوا الشهور اثني عشر لقبا، وسمّوا أيام الشهر منها ثلاثين اسما، وأفردوا الأيّام الخمسة الزائدة، وسمّوها المسترقة وكبسوا الرّبع في كل مائة وعشرين سنة شهرا.
فلما انقرض ملكهم، بطل في كبس هذا الربع تدبيرهم، وزال نوروزهم عن سنّته، وانفرج ما بينه وبين حقيقة وقته، انفراجا هو زائد لا يقف، ودائر لا ينقطع، حتّى إنّ موضوعهم فيه أن يقع في مدخل الصيف وسينتهي إلى أن يقع في مدخل الشتاء، [ويتجاوز ذلك؛ وكذلك موضوعهم في المهرجان أن يقع في مدخل الشتاء] «2» وسينتهي إلى أن يقع في مدخل الصيف ويتجاوزه.
وأما الروم فكانوا أتقن منهم حكمة وأبعد نظرا في عاقبة: لأنهم رتّبوا شهور السنة على أرصاد رصدوها، وأنواء عرفوها، وفضّوا الخمسة الأيام الزائدة على(13/72)
الشّهور، وساقوها معها على الدّهور، وكبسوا الرّبع في كل أربع سنين يوما، ورسموا أن يكون إلى شباط مضافا فقرّبوا ما بعّده غيرهم، وسهّلوا على الناس أن يقتفوا أثرهم، لا جرم أن [المعتضد بالله صلوات الله عليه على أصولهم بنى، ولمثالهم احتذى] «1» في تصييره نوروزه اليوم الحادي عشر من حزيران، حتّى سلم مما لحق النواريز في سالف الأزمان، وتلافوا الأمر في عجز سني الهلال عن سني الشمس، بأن جبروها بالكبس فكلّما اجتمع من فضول سني الشمس ما يفي بتمام شهر جعلوا السنة الهلاليّة التي يتّفق ذلك فيها ثلاثة عشر هلالا؛ فربّما تمّ الشهر الثالث عشر في ثلاث سنين وربّما تمّ في سنتين بحسب ما يوجبه الحساب، فتصير سنتا الشمس والهلال عندهم متقاربتين أبدا لا يتباعد ما بينهما.
وأمّا العرب فإن الله جل وعزّ فضّلها على الأمم الماضية، وورّثها ثمرات مساعيها المتعبة، وأجرى شهر صيامها ومواقيت أعيادها وزكاة أهل ملّتها، وجزية أهل ذمّتها، على السنة الهلاليّة، وتعبّدها فيها برؤية الأهلة، إرادة منه أن تكون مناهجها واضحة، وأعلامها لائحة، فيتكافأ في معرفة الغرض ودخول الوقت الخاصّ منهم والعام، والناقص الفقه والتام، والأنثى والذكر، وذو الصّغر والكبر، فصاروا حينئذ يجبون في سنة الشمس حاصل الغلّات المقسومة وخراج الأرض الممسوحة، ويجبون في سنة الهلال الجوالي والصدقات والأرجاء «2» والمقاطعات والمستغلّات، وسائر ما يجري على المشاهرات، وحدث من التعاظل والتداخل بين السنين ما لو استمر لقبح جدّا، وازداد بعدا، إذ كانت الجباية الخراجية في السنة التي تنتهي إليها تنسب في التسمية إلى ما قبلها فوجب مع هذا أن تطرح تلك السّنة وتلغى، ويتجاوز إلى ما بعدها ويتخطّى؛ ولم يجز لهم أن يقتدوا بمخالفيهم في كبس سنة الهلال بشهر ثالث عشر؛ لأنهم لو فعلوا ذلك لتزحزحت الأشهر الحرم عن مواقعها، وانحرفت المناسك عن حقائقها، ونقصت الجباية عن سني(13/73)
الأهلة القبطية بقسط ما استغرقه الكبس منها، فانتظروا بذلك الفضل إلى أن تتمّ السنة، وأوجب الحساب المقرّب أن يكون كل اثنتين وثلاثين سنة شمسية ثلاثا وثلاثين سنة هلالية، فنقلوا المتقدّمة إلى المتأخّرة نقلا لا يتجاوز الشمسية، وكانت هذه الكلفة في دنياهم مستسهلة مع تلك النعمة في دينهم.
وقد رأى أمير المؤمنين نقل سنة خمسين وثلاثمائة الخراجيّة إلى سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة الهلالية جمعا بينهما، ولزوما لتلك السّنّة فيهما.
فاعمل بما ورد به أمر أمير المؤمنين عليك، وما تضمنه كتابه هذا إليك، ومر الكتّاب قبلك أن يحتذوا رسمه فيما يكتبون به إلى عمّال نواحيك، ويخلّدونه في الدواوين من ذكورهم ورفوعهم، ويقرّرونه في دروج الأموال «1» ، وينظمونه في الدفاتر «2» والأعمال، ويبنون «3» عليه الجماعات والحسبانات، ويوعزون بكتبه من الروزنامجات «4» والبراآت، وليكن المنسوب كان «5» من ذلك إلى سنة خمسين وثلاثمائة التي وقع النقل [عنها معدولا به إلى سنة إحدى وخمسين التي وقع النقل] «6» إليها، وأقم في نفوس من بحضرتك من أصناف الجند والرعية وأهل الملّة والذمّة أنّ هذا النقل لا يغيّر لهم رسما، ولا يلحق بهم ثلما، ولا يعود على(13/74)
قابضي العطاء بنقصان ما استحقّوا قبضه، ولا على مؤدّي حقّ بيت المال بإغضاء عما وجب أداؤه، فإن قرائح أكثرهم فقيرة إلى إفهام أمير المؤمنين الذي يؤثر أن تزاح فيه العلّة، وتسدّ به منهم الخلّة «1» ، إذ كان هذا الشأن لا يتجدّد إلا في المدد الطّوال التي في مثلها يحتاج إلى تعريف الناشي، وإذكار الناسي، وأجب بما يكون منك جوابا يحسن موقعه لك، إن شاء الله تعالى.
المذهب الثاني (مما كان يكتب عن الخلفاء في تحويل السنين
أن يفتتح ما يكتب بلفظ:
«من فلان أمير المؤمنين إلى أهل الدولة» ونحو ذلك) ثم يؤتى بالتحميد وهو المعبّر عنه بالتصدير؛ وعليه كان يكتب خلفاء الفاطميين بالديار المصرية.
قال في «موادّ البيان» : والطريق في ذلك أن يفتتح بعد التصدير والتحميد؛ [وهو على ضربين] «2» :
الضرب الأوّل (ما كان يكتب في الدولة الأيوبية)
وكانت العادة فيه أن يفتتح بخرجت الأوامر ونحو ذلك، ثم يذكر فيه نحوا مما تقدّم.
وهذه نسخة مرسوم بتحويل السنة القبطية [إلى السنة العربية] «3» ، من إنشاء القاضي الفاضل عن الملك الناصر «صلاح الدين يوسف بن أيوب» تغمّده الله برحمته؛ وهي «4» :(13/75)
خرجت الأوامر الصّلاحيّة بكتب هذا المنشور وتلاوة مودعه بحيث يستمرّ، ونسخه في الدّواوين بحيث يستقرّ؛ ومضمونه:
إنّ نظرنا لم يزل تتجلّى له الجلائل والدقائق، ويتوخّى من الحسنات ما تسير به الحقائب والحقائق، ويخلّد من الأخبار المشروعة، كلّ عذب الطرائق رائق، ويجدّد من الآثار المتبوعة، ما هو بثناء الخلائق لائق، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الخير إلا جهدنا أن نكتسبها، ولا يثوّب بنا الداعي إلى مثوبة إلا رأينا أن نحتسبها، لا سيّما ما يكون للسنين الماضية ممضيا، وإلى القضايا العادلة مفضيا، ولمحاسن الشريعة مجلّيا، ولعوارض الشّبه رافعا، ولتناقض الخبر دافعا، ولأبواب المعاملات حافظا، ولأسباب المغالطات لافظا، وللخواطر من أمراض الشّكوك مصحّحا، وعن حقائق اليقين مفصحا، وللأسماع من طيف الاختلاف معفيا، ولغاية الإشكال من طرق الأفهام معفّيا.
ولما استهلّت سنة كذا الهلالية، وقد تباعد ما بينها وبين السنة الخراجية إلى أن صارت غلّاتها منسوبة إلى ما قبلها، وفي ذلك ما فيه: من أخذ الدّرهم المنقود، عن غير الوقت المفقود، وتسمية بيت المال ممطلا وقد أنجز، ووصف الحق المتلف بأنه دين وقد أعجز، وأكل رزق اليوم وتسميته منسوبا إلى أمسه، وإخراج المعتدّ لسنة هلاله إلى حساب المعتدّ إلى سنة شمسه.
وكان الله تعالى قد أجرى أمر هذه الأمّة على تاريخ منزّه عن اللّبس، موقّر عن الكبس، وصرّح كتابه العزيز بتحريمه، وذكر ما فيه من تأخير وقت النّسيء وتقديمه؛ والأمّة المحمدية لا ينبغي أن يدركها الكسر «1» ، كما أنّ الشمس لا ينبغي أن تدرك القمر، وسننها بين الحق والباطل فارقة، وسنتها أبدا سابقة، والسّنون(13/76)
بعدها لاحقة، يتعاورها الكسر الذي يزحزح أوقات العبادات عن مواضعها، ولا يدرك عملها إلا من دقّ نظره، واستفرغت في الحساب فكره؛ والسنة العربية تقطع بخناجر أهلّتها الاشتباه، وتردّ شهورها حالية بعقودها موسومة الجباه؛ وإذا تقاعست السنة الشمسية عن أن تطأ أعقابها، وتواطي حسابها، اجتذبت قراها قسرا، وأوجبت لحقّها ذكرا، وتزوّجت سنة الشمس سنة الهلال وكان الهلال بينهما مهرا؛ فسنتهم المؤنثة وسنتنا المذكّرة، وآية الهلال هنا دون آية الليل هي المبصرة؛ وفي السّنة العربيّة إلى ما فيها من عربيّة الإفصاح، وراحة الإيضاح، الزيادة التي تظهر في كل ثلاث وثلاثين سنة توفي على عدد الأمم قطعا، وقد أشار الله إليها بقوله: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً
«1» وفي هذه السنة الزائدة زيادة، من لطائف السّعادة، ووظائف العبادة، لأن أهل ملّة الإسلام يمتازون على كل ملة بسنة في نظير تلك المدّة قصدوا صلاتها، وأدّوا زكاتها، وحجّوا فيها البيت العتيق الكريم، وصاموا فيها الشهر العظيم، واستوجبوا فيها الأجور الجليلة، وأنست فيها أسماعهم بالأعمار الطويلة؛ ومخالفوهم فيها قد عطّلت صحائفهم في عدوانهم، وإن كانت عاطلة، وخلت مواقفهم في أديانهم، وإن لم تكن قطّ آهلة.
وقد رأينا باستخارة الله سبحانه والتيمّن باتّباع العوائد التي سلكها السّلف، ولم تسلك فيها السّرف، أن ينسخوا أسماءها من الخراج، ويذهب ما بين السنين من الاضطراب والاعوجاج، لا سيما والشهور الخراجيّة قد وافقت في هذه الشهور الشهور الهلالية، وألقى الله في أيامنا الوفاق بين الأيّام، كما ألقى باعتلائنا الوفاق بين الأنام، وأسكن بنظرنا ما في الأوقات من اضطراب وفي القلوب من اضطرام.
فليستأنف التاريخ في الدواوين المعمورة، لاستقبال السنة المذكورة، بأن توسم بالهلاليّة الخراجيّة لإزالة الالتباس، ولإقامة القسطاس، وإيضاحا لمن أمره عليه غمّة من الناس؛ وعلى(13/77)
هذا التقرير، تكتب سجلّات التحضير، وتنتظم الحسبانات المرفوعة، والمشارع الموضوعة، وتطّرد القوانين المشروعة، وتثبّت المكلّفات المقطوعة؛ ولو لم يكن بين دواعي نقلها، وعوارض زللها وزوالها، إلا أنّ الأجناد إذا قبضوا واجباتهم عن منشور إلى سنة خمس في أواخر سنة سبع وسقط ساقطهم بالوفاة، وجرى بحكم السمع لا بالشّرع إلى أن يرث وارثه دون بيت المال مستغلّ السنة الخراجية التي يلتقي فيها تاريخ وفاته من السنة الهلالية وفي ذلك ما فيه، مما يباين الإنصاف وينافيه [لكفى] «1» وإذا كان العدل وضع الأشياء في مواضعها فلسنا نحرم أيّامنا المحرّمة بذمامنا، ما رزقته أبناؤها من عدل أحكامنا، بل نخلع عن جديدها «2» المس كل المس، و [نمنع] «3» تبعة الضّلال أن تسند مهادنته إلى نور الشمس، ولا نجعل أيامنا معمورة بالأسقاط التي تجمعها، بل مغمورة بالأقساط التي تنفعها؛ فليبن التاريخ على بنيانه وليحسم الخلف الواقع في السنين، بهذا الحقّ الصادع المبين، ولينسخ المشهود به في جميع الدواوين، وليكاتب بحكمه من الخراج إلى من يمكنه من المستخدمين- ومنها أن المستجدّ من الأجناد لو حمل على السنة الخراجية في استغلاله، وعلى الهلاليّة في استقباله، لكان محالا على ما يكون محالا، وكان يتعجّل استقبالا، ويباطن استغلالا؛ وفي ذلك ما ينافر أوصاف الإنصاف ويصون الفلاح إن شاء الله تعالى.
الضرب الثاني (ما يكتب به في زماننا)
وقد جرت العادة أن يكتب في قطع الثّلث وأنه يفتتح بخطبة مفتتحة ب «الحمد لله» ثم يقال: وبعد فإنا لما اختصّنا الله تعالى به من النظر في أمر الناس(13/78)
ومصالحهم، ويذكر ما سنح له من ذلك ثم يقال: ولمّا كان، ويذكر قصة السنين:
الشمسية والقمريّة، وما يطرأ بينهما من التباعد الموجب لنقل الشمسية إلى القمرية، ثم يقال: اقتضى الرأي الشريف أن يحوّل مغلّ سنة كذا إلى سنة كذا وتذكر نسخة ذلك، ثم يقال: فرسم بالأمر الشريف الفلاني لا زال.........
أن تحوّل سنة كذا إلى سنة كذا.
وهذه نسخة مرسوم بتحويل السنة القبطية إلى العربية؛ وهي:
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار آيتين، وصيّر الشهور والأعوام لابتداء المدد وانتهائها غايتين، ليعلم خلقه عدد السنين والحساب، وتعمل بريّته على توفية الأوقات حقّها من الأفعال التي يحصل بها الاعتداد ويحسن بها الاحتساب.
نحمده على ما خصّ أيامنا الزاهرة من إنعام النظر في مصالح خلقه، وإمعان الفكر في تشييد ما بسط لهم من رزقه، وإزالة الضّرر في تيسير القيام بما أوجب عليهم من حقّه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عاصمة من الزيغ ذا هوى، معتصمة من التوفيق بأقوى أسباب التوثيق وأوثق أسباب القوى، شافعة حسن العمل في مصالح العباد بحسن النية، فإنّ الأعمال بالنيات وإنّما لكلّ امريء ما نوى، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي بعثه الله رحمة للعالمين، وحجة على العاملين، ونشر دعوته في الآفاق فأيّده لإقامتها بنصره وبالمؤمنين، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين أمروا فأطاعوا، ونهوا فاجتنبوا ما نهوا عنه ما استطاعوا، صلاة تنمي نماء البدور، وتبقى بقاء الدّهور، وتطوى بنشرها مراحل الأيام إلى يوم النّشور.
وبعد، فإنّا لما اختصّنا الله تعالى به من التوفّر على مصالح الإسلام، والتناول لما تنشرح به في مواقف الجهاد، صدور السيوف وتنطق به في مصالح العباد، ألسنة الأقلام، نتبع كلّ أمر فنسدّ خلله، ونثقّف ميله، ونقيم أوده، وننظر ليومه بما يصلح به يومه ولغده بما يصلح غده، إصلاحا لكل حال بحسبه، وتقريبا لكل شيء على ما هو أليق بشأنه وإقرارا لكلّ أمر على ما هو الأحسن به.(13/79)
ولما كان الزمن مقسوما بين سنين شمسية يتّفق فيها ما أخرج الله تعالى من الرّزق لعباده، ويحصل بها ميقات القوت الذي قال الله تعالى فيه: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ
«1» وقمريّة لا يعوّل في أحكام الدّين إلا عليها، ولا يرجع في تواريخ الإسلام إلّا إليها، ولا تعتبر العبادة الزمانيّة إلا بأهلّتها، ولا يهتدى إلى يوم الحجّ الأكبر إلا بأدلّتها، ولا يعتدّ في العدد التي تحفظ بها الأنساب إلا بأحكامها، ولا تعلم الأشهر الحرم إلا بوجودها في الأوقات المخصوصة من عامها، وكان قد حصل بينهما من تفاوت الأيام في المدد، واختلاف الشّهور الهلالية في العدد، ما يلزم منه تداخل مغلّ في مغل، ونسبة شيء راح وانقضى إلى ما أدرك الآن وحصل، ويؤدّي ذلك إلى إبقاء سنة بغير خراج، وهدر ما يجب تركه فليس الوقت إليه محتاج، وإلغاء ما يتعيّن إلغاؤه، وإسقاط ما تلتفت إليه الأذهان وهو لا يمكن رجاؤه، وإن كان ذلك الإسقاط لا ضرر فيه على العباد والبلاد، ولا نقص ينتج منه للأمراء والأجناد، ولا حقيقة له ولا معنى، ولا إهمال شيء أفقر تركه ولا إبقاؤه أغنى، ولكن صار ذلك من عوائد الزّمن القديمة، ومصطلحا لا تزال العقول بالاحتياج إلى فعله عليمة، وأمرا لا بدّ للملك منه، وحالا لا مندوحة للدّول عنه، لتغدو التصرّفات على الاستقامة ماشية، والمعاملات من الحق ناشية، ويعفى رسم ما لم يكن في الحقيقة رابط، ويزال اسم مالو توسّمه الفضل لأضحى كأنه يغالط- اقتضى حسن الرأي الشريف أن تحوّل هذه السنة التي يحصل بها الكبس، وأن يدحضها يقين النفس، وأن يرفع ما بها من أشكال الإشكال، ويزال هذا السبب الذي نشأ عنه دخول الأكثر باستدراج الأقلّ فلا يكون للأذهان عليه اتّكال- نظرا بذلك في مصالح الأمّة، ودفعا لما يجدونه من أوهام مدلهمّة، وعملا يطابق به الدليل حكمه، ويوافق فيه اللفظ معناه والفعل اسمه، وتخفيفا عن الرعية من لزوم ما لا يلزم في الحقيقة عملا بقوله تعالى: ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ
«2»(13/80)
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا زال عدله سائرا في الأيّام والأنام، وفضله [سائدا] «1» بالرّفق الذي تغدو به العقول والعيون كأنها من الأمن في منام- أن يحوّل مغلّ سنة تسع وأربعين وسبعمائة بالديار المصرية المحروسة، لمغلّ سنة خمسين وسبعمائة، ويلغى اسم مغل السنة المذكورة، من الدّواوين المعمورة، ولا ينسب إليها مغلّ بل يكون مغلّ سنة خمسين وسبعمائة تاليا لمغل سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، وتستقرّ السنة حينئذ هلاليّة خراجيّة بحكم دوران السنين، واستحقاق هذا التحويل من مدّة خمس عشرة سنة، حيث اتفاق مبدإ السنين الشمسية والقمريّة، ووقوع الإغفال عن هذا المبهم في الدول الماضية، لتكون هذه الدولة الشريفة قائمة بما قعد عنه من مضى من الدول، مقوّمة بعون الله لكل متأوّد من الزّيغ والخلل، لما في ذلك من المصالحة العامّة، والمنحة التامّة، والحقّ الواضح، والقصد الناجح، والمنهج القويم، والصّراط المستقيم، والاعتماد على الشهور القمريّة قال الله تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ
«2» فليعتمد حكم ما قرّرناه، وليمتثل أمر ما أمرناه، وليثبّت ذلك في الدّواوين، وليشهر نبؤه المبين، وليسقط ما تخلّل بين هاتين السنتين من المغلّ الذي لا حقيقة له، وليترك ما بينهما من التفاوت الذي لا تعرف الحسبانات معدّله، وليمح اسم هذه الأيام من الدفاتر، ولينس حكمها فإنها أولى بذلك في الزمن الآتي والغابر؛ فليس المغلّ سوى للعام الذي وجد فيه سببه، وظهر فيه حصوله وتعيّن طلبه، وأدرك في إبّانه، وجاء في زمانه، وأينع به ثمر غرسه، واستحقّ في وقته لا كما يلزم أن يكون اليوم في أمسه؛ وفي ذلك من الأسباب الباعثة على ما رسمنا به، والدّواعي اللازمة لذهابه، والبراهين القاطعة بقطعه، والدلائل الواضحة على دفعه، ما قدّمناه: من المصالح المعيّنة، والطّرق المبيّنة، وإزالة الأوهام، وتأكيد(13/81)
الأفهام، وإراحة الخواطر، وإزاحة ما تتشوّق إليه الظّنون في الظاهر؛ وليبطل ذلك من الارتفاعات «1» بالكلّيّة، ويسقط من الجرائد لتغدو الحسبانات منه خليّة، ولا يذكر مغلّ السنة المدحوضة في سجلّ ولا مشروح، ولا مشهود يغدو حكمه ويروح، ولا مكلّفات تودعها الأقلام شيئا على المجاز وهو في الحقيقة مطروح، لتثبت الحسنات لأيامنا الزاهرة في هذا المحو، ويكشف ما ينتج بسماء العقل من غيم الجهالة بما وضح من هذا الصّحو، ويتمسّك في صحة العبادات والمعاملات بالسنين العربية من غير خروج عن ذلك النحو؛ والله تعالى يبيّن بنا طرق الصواب، ويحسن ببقاء ملكنا الشريف المآل والمآب، ويجعل دولتنا توضّح الأحكام على اختلاف الجديدين «2» : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ
«3» والاعتماد فيه على الخط الشريف- أعلاه الله تعالى- أعلاه، إن شاء الله تعالى.
حادي عشرين «4» جمادى الأولى سنة خمسين وسبعمائة.
حسب المرسوم الشريف؛ بالإشارة الكافلية السيفيّة، كافل الممالك الشريفة الإسلامية، أعزّ الله تعالى نصرته؛ ثم الحمدلة والتصلية والحسبلة.
قلت: وهذه النسخة صدرها إلى قوله: والشهور الهلالية أجنبيّ عما بعد ذلك من تتمة الكلام. وذلك أني ظفرت بعجز النسخة، وهو المكتتب في تحويل سنة تسع وأربعين في نفس المرسوم الشريف الذي شملته العلامة الشريفة، وقد قطع أوّله فركّبتها على هذا الصدر.
ومن عجيب ما يذكر في ذلك أن سنة تسع وأربعين التي حوّلت إلى سنة(13/82)
خمسين هي السنة التي وقع فيها الطاعون الجارف الذي عمّ الأقطار خلا المدينة النبويّة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام التي أخبر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه لا يدخلها الطاعون، وكثر فيها الموت حتى انتهى إلى عشرين ألفا في اليوم الواحد؛ وكان يقال في هذه السنة لما حوّلت: [مات كلّ شيء حتى السنة] «1» لإلغائها؛ وجعل مغلّ سنة خمسين تاليا لمغل سنة ثمان وأربعين كما تقدّم.(13/83)
الفصل الثاني من الباب الرابع من المقالة السادسة
(فيما يكتب في التذاكر [وفيه ثلاثة أضرب] «1» ) والتّذاكر جمع تذكرة.
قال «في موادّ البيان» : وقد جرت العادة أن تضمّن جمل الأموال التي يسافر بها الرسول ليعود إليها إن أغفل شيئا منها أو نسيه، أو تكون حجة له فيما يورده ويصدره، قال: ولا غنى بالكاتب عن العلم بعنواناتها وترتيبها.
فأما عنوان التذكرة فيكون في صدرها تلو البسملة؛ فإن كانت للرسول يعمل عليها، قيل: تذكرة منجحة صدرت على يد فلان عند وصوله إلى فلان بن فلان، وينتهي بمشيئة الله تعالى إلى ما نصّ فيها، وإن كانت حجة له يعرضها لتشهد بصدق ما يورده، قيل: تذكرة منجحة صدرت على يد فلان بن فلان بما يحتاج إلى عرضه على فلان.
وأما الترتيب فيختلف أيضا بحسب اختلاف العنوان: فإن كانت على الرسم الأوّل، كان بصدرها «قد استخرنا الله عزّو جل وندبناك، أو عوّلنا عليك، أو نفّذناك، أو وجّهناك إلى فلان: لإيصال ما أودعناك وشافهناك به من كذا وكذا» ويقصّ جميع الأغراض التي ألقيت إليه مجملة. وإن كانت محمولة على يده كالحجة له فيما يعرضه، قيل: «قد استخرنا الله عزّ وجل وعوّلنا عليك في تحمّل تذكرتنا هذه والشّخوص بها إلى فلان، أو النّفوذ، أو التّوجّه، أو المصير، أو القصد(13/84)
بها وإيصالها إليه، وعرض ما تضمّنته عليه، من كذا وكذا» ويقصّ جميع أغراضها.
ثم قال: وهذه التذاكر أحكامها أحكام الكتب في النّفوذ عن الأعلى إلى الأدنى، وعن الأدنى إلى الأعلى، فينبغي أن تبتنى على ما يحفظ رتب الكاتب والمكتوب إليه: فإن كانت صادرة عن الوزير إلى الخليفة مثلا فتصدّر بما مثاله «قد استخرت الله تعالى، وعوّلت عليك في الشّخوص إلى حضرة أمير المؤمنين- صلوات الله عليه- متحمّلا هذه التّذكرة؛ فإذا مثلت بالمواقف المطهّرة، فوفّها حقّها من الإعظام والإكبار، والإجلال والوقار، وقدّم تقبيل الأرض والمطالعة بما أشاء مواصلته من شكر نعم أمير المؤمنين الضافية عليّ، المتتابعة لديّ، وإخلاصي لطاعته، وانتصابي في خدمته، وتوفيري على الدعاء بثبات دولته، وخلود مملكته، وطالع بكذا وكذا» وعلى هذا النظام إلى آخر المراتب، يعني مراتب المكاتبات.
قلت: والذي جرى عليه اصطلاح كتّاب الزمان في التذاكر أنّ التذكرة تكتب في قطع الشاميّ، تكسر فيها الفرخة الكاملة نصفين، وتجعل دفترا وورقة إلى جنب أخرى لا كرّاسة بعضها داخل بعض، وتكون كتابتها بقلم الرّقاع، وتكون البسملة في أعلى باطن الورقة الأولى ببياض قليل من أعلاها وهامش عن يمينها؛ ثم يكتب السطر التالي من التذكرة على سمت البسملة ملاصقا لها، ثم يخلّى قدر عرض إصبعين بياضا ويكتب السطر التالي، ثم يخلّى قدر إصبع بياضا ويكتب السطر التالي؛ ويجري في باقي الأسطر على ذلك حتى يأتي على آخر الورقة، ثم يكتب باطن الورقة التي تليها كذلك، ثم ظاهرها كذلك، ثم الورقة الثانية فما بعدها على هذا الترتيب إلى آخر التذكرة، ثم يكتب «إن شاء الله تعالى» ثم التاريخ، ثم الحمدلة والصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم الحسبلة، على نحو ما تقدّم في المكاتبات والولايات وغيرها على ما تقدّم بيانه في المقالة الثالثة في الكلام على الخواتم.
وهذه نسخة تذكرة أنشأها القاضي الفاضل عن السلطان صلاح الدين(13/85)
يوسف بن أيّوب، سيّرها صحبة الأمير شمس الدين الخطيب: أحد أمراء الدولة الصلاحية إلى أبواب الخلافة ببغداد في خلافة الناصر لدين الله، وهي:
تذكرة مباركة، ولم تزل الذّكرى للمؤمنين نافعة، ولعوارض الشكّ دافعة، ضمّنت أغراضا يقيّدها الكتاب، إلى أن يطلقها الخطاب. على أن السائر سيّار البيان، والرسول يمضي على رسل التبيان؛ والله سبحانه يسدّده قائلا وفاعلا، ويحفظه بادئا وعائدا ومقيما وراحلا.
الأمير الفقيه شمس الدين خطيب الخطباء- أدام الله نعمته، وكتب سلامته، وأحسن صحابته- يتوجّه بعد الاستخارة ويقصد دار السلام، والخطّة التي هي عشّ بيضة الإسلام، ومجتمع رجاء الرّجال، ومتّسع رحاب الرّحال؛ فإذا نظر تلك الدار الدارّ سحابها، وشافه بالنظر معالم ذلك الحرم المحرّم على الخطوب خطابها، ووقف أمام تلك المواقف التي تحسد الأرجل عليها الرّؤوس، وقام بتلك المنازل التي تنافس الأجسام فيها النّفوس- فلو استطاعت لزارت الأرواح محرمة من أجسادها، وطافت بكعبتها متجرّدة من أغمادها- فليمطر الأرض هناك عنّا قبلا تخضّلها، بأعداد لا نحصّلها؛ وليسلّم عليها سلاما نعتدّه من شعائر الدين اللازمة، وسنن الإسلام القائمة، وليورد عنا تحيّة يستنزلها من عند الله تحية مباركة طيّبة، وصلاة تخترق أنوارها الأستار المحجّبة، وليصافح عنّا بوجهه صفحة الثّرى، وليستشرف عنّا بنظره فقد ظفر بصباح السّرى، وليستلم الأركان الشريفة، فإن الدّين إليها مستند، وليستدم الملاحظات اللّطيفة، فإنّ النّور منها مستمدّ؛ وإذا قضى التسليم وحقّ اللقاء، واستدعى الإخلاص جهد الدعاء، فليعد وليعد حوادث ما كانت حديثا يفترى، وجواري أمور إن قال منها كثيرا فأكثر منه ما جرى، وليشرح صدرا منها لعلّه يشرح منا صدرا، وليوضّح الأحوال المستسرة فإنّ الله لا يعبد سرّا:
ومن الغرائب أن تسير غرائب ... في الأرض لم يعلم بها المأمول
كالعيس أقتل ما يكون لها الظّما «1» ... والماء فوق ظهورها محمول(13/86)
فإنّا كنا نقتبس النار بأيدينا، وغيرنا يستنير، ونستنبط الماء بأيدنا، وغيرنا يستمير، ونلقى السّهام بنحورنا، وغيرنا يغيّر التصوير، ونصافح الصّفاح بصدورنا، وغيرنا «1» يدّعي التصدير، ولا بدّ أن نستردّ بضاعتنا، بموقف العدل الذي تردّ به الغصوب، ونظهر طاعتنا، فنأخذ بحظّ الألسنة كما أخذنا بحظ القلوب؛ وما كان العائق إلا أنّا كنا ننظر ابتداء من الجانب الشريف بالنعمة، يضاهي ابتداءنا بالخدمة، وإيجابا للحق، يشاكل إيجابنا للسّبق، إلى أن يكون سحابها بغير يد مستنزلا، وروضها بغير غرس مطفلا.
كان أوّل أمرنا أنا كنّا في الشام نفتح الفتوحات مباشرين بأنفسنا ونجاهد الكفّار متقدّمين لعساكره نحن ووالدنا وعمّنا؛ فأيّ مدينة فتحت، أو معقل ملك، أو عسكر للعدوّ كسر، أو مصافّ للإسلام معه ضرب، فما يجهل أحد، ولا يجحد عدوّ، أنّا نصطلي الجمرة، ونملك الكسرة، ونتقدّم الجماعة، ونرتّب المقاتلة، وندبّر التعبئة، إلى أن ظهرت في الشام الآثار التي لنا أجرها، ولا يضرّنا أن يكون لغيرنا ذكرها.
وكانت أخبار مصر تتّصل بنا بما الأحوال عليه فيها من سوء التدبير، ومما دولتها عليه من غلبة صغير على كبير، وأن النّظام قد فسد، والإسلام بها قد ضعف عن إقامته كلّ قائم بها وقعد، والفرنج قد احتاج من يدبّرها إلى أن يقاطعهم بأموال كثيرة، لها مقادير خطيرة، وأنّ كلمة السّنة بها وإن كانت مجموعة، فإنها مقموعة، وأحكام الشريعة وإن كانت مسمّاة، فإنّها متحاماة، وتلك البدع بها على ما يعلم، وتلك الضّلالات فيها على ما يفتى منها بفراق الإسلام ويحكم، وذلك المذهب قد خالط من أهله اللّحم والدّم، وتلك الأنصاب قد نصبت آلهة تتّخذ من دون الله تعظّم وتفخّم، فتعالى الله عن شبه العباد، وويل لمن غرّه تقلّب الذين كفروا في البلاد.(13/87)
فسمت هممنا دون همم ملوك الأرض إلى أن نستفتح مقفلها ونسترجع للإسلام شاردها ونعيد على الدّين ضالّته منها فسرنا إليها بعساكر ضخمة، وجموع جمّة، وبأموال انتهكت الموجود، وبلغت منّا المجهود، وأنفقناها من خالص ذممنا وكسب أيدينا، ومن أسارى الفرنج الواقعين في قبضتنا، فعرضت عوارض منعت، وتوجّهت للمصريين حيل باستنجاد الفرنج «1» تمّت: ولكلّ أجل كتاب، ولكلّ أمل باب.
وكان في تقدير الله سبحانه أنّا نملكها على الوجه الأحسن، وناخذها بالحكم الأقوى الأمكن، فغدر الفرنج بالمصريين غدرة في هدنة عظم خطبها وخبطها، وعلم أنّ استئصال كلمة الإسلام محطّها، وكاتبنا المسلمون من مصر في ذلك الزمان، كما كاتبنا المسلمون من الشام في هذا الأوان، بأنّا إن لم ندرك الأمر وإلا خرج من اليد، وإن لم ندفع غريم اليوم لم يمهل إلى الغد؛ فسرنا بالعساكر الموجودة والأمراء الأهل المعروفة إلى بلاد قد تمهّد لنا بها أمران، وتقرّر لنا فيها في القلوب ودّان: الأوّل لما علموه من إيثارنا المذهب الأقوم «2» ، وإحياء الحقّ الأقدم، والآخر لما يرجونه من فكّ إسارهم، وإقالة عثارهم؛ ففعل الله ما هو أهله، وجاء الخبر إلى العدوّ فانقطع حبله، وضاقت به سبله، وأفرج عن الديار بعد أن كانت ضياعها ورساتيقها وبلادها وإقليمها قد نفذت فيها أوامره، وخفقت عليها صلبانه، وأمن من أن يسترجع ما كان بأيديهم حاصلا، وأن يستنقذ ما صار في(13/88)
ملكهم داخلا، ووصلنا البلاد وبها أجناد عددهم كثير، وسوادهم كبير، وأموالهم واسعة، وكلمتهم جامعة، وهم على حرب الإسلام أقدر منهم على حرب الكفر، والحيلة في السّرّ منهم أنفذ من العزيمة في الجهر. وبها راجل من السّودان «1» يزيد على مائة ألف رجل كلهم أغتام «2» أعجام، إن هم إلا كالأنعام، لا يعرفون ربّا إلا ساكن قصره، ولا قبلة إلا ما يتوجّهون إليه من ركنه. وبها عسكر من الأرمن باقون على النّصرانية موضوعة عنهم الجزية كانت لهم شوكة وشكّة، وحميّة وحمة، ولهم حواش لقصرهم من بين داع تلطف في الضّلال مداخله، وتصيب العقول مخاتله، ومن بين كتّاب أقلامهم تفعل أفعال الأسل، وخدّام يجمعون إلى سواد الوجوه سواد النّحل، ودولة قد كبر عليها الصغير، ولم يعرف غيرها الكبير، ومهابة تمنع خطرات الضمير، فكيف لحظات التدبير.
هذا إلى إستباحة للمحارم ظاهرة، وتعطيل للفرائض على عادة جارية، وتحريف للشّريعة بالتأويل، وعدول إلى غير مراد الله في التنزيل، وكفر سمّي بغير اسمه، وشرع يتستّر به ويحكم بغير حكمه.
فما زلنا نسحتهم سحت المبارد للشّفار، ونتحيّفهم تحيّف الليل والنهار للأعمار، بعجائب تدبير، لا تحتملها المساطير، وغرائب تقرير، لا تحملها الأساطير، ولطف توصّل ما كان في حيلة البشر ولا قدرتهم إلا إعانة المقادير، وفي أثناء ذلك استنجدوا علينا الفرنج دفعة إلى بلبيس، ودفعة إلى دمياط، في كل منهما وصلوا بالعدوّ المجهر، والحشد الأوفر، وخصوصا في نوبة دمياط فإنهم نازلوها بحرا في ألف مركب مقاتل وحامل، وبرّا في مائتي ألف فارس وراجل، وحصروها شهرين يباكرونها ويراوحونها، ويماسونها ويصابحونها، القتال الذي يصليه(13/89)
الصّليب، والقراع الذي ينادى به من مكان قريب، ونحن نقاتل العدوّين «1» :
الباطن والظاهر، ونصابر الضّدّين: المنافق والكافر، حتّى أتى الله بأمره، وأيّدنا بنصره، وخابت المطامع من المصريّين ومن الفرنج ومن ملك الرّوم ومن الجنويّين وأجناس الرّوم لأن أنفارهم تنافرت، ونصاراهم تناصرت، وأناجيل طواغيتهم رفعت، وصلب صلبوتهم أخرجت، وشرعنا في تلك الطوائف من الأجناد والسّودان والأرمن فأخرجناهم من القاهرة تارة بالأوامر المرهقة لهم، وبالذّنوب الفاضحة منهم، وبالسّيوف المجرّدة وبالنار المحرقة، حتّى بقي القصر ومن به من خدمه قد تفرّقت شيعه، وتمزّقت بدعه، وخفتت دعوته، وخفيت ضلالته؛ فهنالك تمّت لنا إقامة الكلمة والجهر بالخطبة والرفع للواء السّواد الأعظم، والجمع لكلمة السّواد الأعظم، وعاجل الله الطاغية الأكبر بفنائه، وبرّأنا من عهدة يمين كان حنثها أيسر من إثم إبقائه، إلا أنه عوجل لفرط روعته، ووافق هلاك شخصه هلاك دولته.
ولما خلا ذرعنا، ورحب وسعنا، نظرنا في الغزوات إلى بلاد الكفّار، فلم تخرج سنة إلا عن سنّة أقيمت فيها برّا وبحرا، ومركبا وظهرا، إلى أن أوسعناهم قتلا وأسرا، وملكنا رقابهم قهرا وقسرا، وفتحنا لهم معاقل ما خطر أهل الإسلام فيها منذ أخذت من أيديهم، وما أوجفت فيها خيلهم ولا ركابهم مذ ملكها أعاديهم؛ فمنها ما حكمت فيه يد الخراب، ومنها ما استولت عليه يد الاكتساب، ومنها قلعة بثغر أيلة «2» كان العدوّ قد بناها في بحر الهند، وهو المسلوك منه إلى(13/90)
الحرمين واليمن، وغزا ساحل الحرم فسبى منه خلقا، وخرق الكفر في هذا الجانب خرقا، فكادت القبلة أن يستولى على أصلها، ومساجد الله أن يسكنها غير أهلها، ومقام الخليل صلوات الله عليه أن يقوم به من ناره غير برد وسلام، ومضجع الرسول شرّفه الله أن يتطرّقه من لا يدين بما جاء به من الإسلام، ففتح الله هذه القلعة وصارت معقلا للجهاد، وموئلا لسفّار البلاد، وغيرهم من عبّاد العباد؛ فلو شرح ما تمّ بها للمسلمين من الأثر الجليل، وما استدّ من خلّاتهم، وأحرق من زروع المشركين ورعي من غلّاتهم، إلى أن ضعفت ثغورهم، واختلّت أمورهم، لاحتيج فيه إلى زمن يشغل عن المهمات الشريفة لسماع مورده، وإيضاح مقصده.
وكان باليمن ما علم من ابن مهديّ «1» الضالّ وله آثار في الإسلام، وثار طالبه النبيّ عليه الصلاة والسلام، لأنه سبى الشرائف الصالحات وباعهنّ بالثمن البخس، واستباح منهن كلّ ما لا تقرّ عليه نفس، وكان ببدعه دعا إلى قبر أبيه وسمّاه كعبة، وأخذ أموال الرعايا المعصومة وأجاحها، وأحلّ الفروج المحرّمة وأباحها، فأنهضنا إليه أخانا بعسكرنا بعد أن تكلّفنا له نفقات واسعة، وأسلحة رائعة، وسار فأخذناه ولله الحمد، وأنجح الله فيه القصد، ووردتنا كتب عساكرنا وأمرائنا بما نفذ في ابن مهديّ وبلاده المفتتحة ومعاقله المستضافة؛ والكلمة هنالك بمشيئة الله إلى الهند سارية، وإلى ما لم يفتضّ الإسلام عذرته مذ أقام الله كلمته متمادية.(13/91)
ولنا في المغرب، أثر أغرب، وفي أعماله أعمال دون مطلبها كما يكون المهلك دون المطلب؛ وذلك أن بني عبد المؤمن قد اشتهر أنّ أمرهم أمر، وملكهم قد عمر، وجيوشهم لا تطاق، وأوامرهم لا تشاقّ، ونحن والحمد لله قد ملكنا مما يجاورنا منه بلادا تزيد مسافتها على شهر، وسيّرنا عسكرا بعد عسكر رجع بنصر بعد نصر، ومن البلاد المشاهير، والأقاليم الجماهير- لكّ- برقة- قفصة- قسطيلية- توزر؛ كلّ هذه تقام فيها الخطبة لمولانا الإمام المستضيء بالله سلام الله عليه، ولا عهد للإسلام بإقامتها، وتنفّذ فيها الأحكام بعلمها المنصور وعلامتها. وفي هذه السنة كان عندنا وفد قد شاهده وفود الأمصار، مقداره سبعون راكبا كلّهم يطلب لسلطان بلده تقليدا، ويرجو منّا وعدا ويخاف وعيدا.
وقد صدرت عنا بحمد الله تقاليدها، وألقيت إلينا مقاليدها، وسيّرنا الخلع والألوية، والمناشير بما فيها من الأوامر والأقضية.
وأما الأعداء الذين يحدقون بهذه البلاد، والكفّار الذين يقاتلونها بالممالك العظام والعزائم الشّداد، فمنهم صاحب قسطنطينيّة وهو الطاغية الأكبر، والجبّار الأكفر، وصاحب المملكة التي أكلت على الدّهر وشربت، وقائم النّصرانية التي حكمت دولته على ممالكها وغلبت، وجرت لنا معه غزوات بحريّة، ومناقلات ظاهريّة وسرّية، وكانت له في البلاد مطامع منها أن يجبي خراجا، ومنها أن يملك منها فجاجا، وكانت غصّة لا يسيغها الماء، وداهية لا ترجى لها الأرض بل السّماء، فأخذنا ولله الحمد بكظمه، وأقمناه على قدمه، ولم نخرج من مصر، إلى أن وصلتنا رسله في جمعة واحدة في نوبتين بكتابين كلّ واحد منهما يظهر فيه خفض الجناح، وإلقاء السّلاح، والانتقال من معاداة، إلى مهاداة، ومن مناضحة، إلى مناصحة، حتّى إنه أنذر بصاحب صقلّية وأساطيله التي يرد ذكرها، وعساكره التي لم يخف أمرها.
ومن هؤلاء الكفّار صاحب صقلّيّة هذا كان حين علم أن صاحب الشام(13/92)
وصاحب قسطنطينيّة قد اجتمعا في نوبة دمياط فغلبا وهزما وكسرا، أراد أن يظهر قوّته المستقلّة بمفردها، وعزمته القائمة بمجرّدها، فعمر أسطولا استوعب فيه ماله وزمانه: فإنه إلى الآن منذ خمس سنين يكثّر عدّته، وينتخب عدّته، ويجتلب مقاتلته إلى أن وصل منها في السنة الخالية إلى إسكندريّة أمر رائع، وخطب هائل، ما أثقل ظهر البحر مثل حمله، ولا ملأ صدره مثل خيله ورجله؛ ما هو إقليم بل أقاليم نقله، وجيش ما احتفل ملك قطّ بنظيره لولا أنّ الله خذله؛ ولو ذهبنا نصف ما ذهب، فيه من ذهب، وما أخذ منه من سلاح وخيل وعدد ومجانيق، ومن أسر منه من خيّالة كبار، ومقدّمين ذوي أقدار، وملوك يقاطعون بالجمل التي لها مقدار، وكيف أخذه وهو في العدد الأكثر بالعدد الأقلّ من رجالنا، وكيف نصر الله عليه مع الأصعب من قتاله بالأسهل من قتالنا، لعلم أنّ عناية الله بالإسلام تغنيه عن السلاح، وكفاية الله لهذا الدّين تكفيه مؤونة الكفاح؛ ومن هؤلاء الجنويّين الذين يسرّبون الجيوش- البنادقة- البياشنة «1» - الجنوية كلّ هؤلاء تارة لا تطاق ضراوة ضرّهم، ولا تطفأ شرارة شرّهم، وتارة يجهّزون سفّارا يحتكمون على الإسلام في الأموال المجلوبة، وتقصر عنهم يد الأحكام المرهوبة؛ وما منهم الآن إلا من يجلب إلى بلدنا آلة قتاله وجهاده، ويتقرّب إليها بإهداء طرائف أعماله وبلاده؛ وكلّهم قد قرّرت معه المواصفة، وانتظمت معه المسالمة، على ما نريد ويكرهون، ونؤثر ولا يؤثرون «2»(13/93)
ولما قضى الله بالوفاة النّورية، وكنّا في تلك السنة على نيّة الغزو، والعساكر قد ظهرت، والمضارب قد برزت، ونزل الفرنج بانياس وأشرفوا على احتيازها، ورأوها فرصة مدّوا إليها يد انتهازها، استصرخ بنا صاحبها للممانعة، واستنهضنا لتفريج الكرب الواقعة، فسرنا مراحل اتّصل بالعدوّ أمرها، وعوجل بالهدنة الدّمشقيّة التي لولا مسيرنا ما انتظم حكمها ولا قبل كثيرها ولا قليلها؛ ثم عدنا إلى البلاد فتوافت إلينا الأخبار بما الدولة النّوريّة عليه من تشعّب الآراء وتوزّعها، وتشتّت الأمور وتقطّعها، وأن كلّ قلعة قد حصل فيها صاحب، وكلّ جانب قد طمح إليه طالب؛ والفرنج قد بنوا بلادا يتحيّفون بها الأطراف الإسلامية، ويضايقون بها البلاد الشاميّة، وأمراء الدولة قد سجن أكابرهم وعوقبوا وصودروا، والمماليك الذين للمتوفّى أغرار خلقوا للأطراف لا للصّدور، وجعلوا للقيام لا للجلوس في المحفل المحصور، وقد مدّوا الأعين والأيدي والسّيوف، وساءت سيرتهم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، وكلّ واحد يتّخذ عند الفرنج يدا، ويجعلهم لظهره سندا، ويرفع عنهم ذخيرة كانت للإسلام، ويفرّج لهم عن أسير من أكابر الكفّار كان مقامه مما يدفع شرّا، ولا يزيد نار الكفر جمرا، وإطلاقه يجلب قطيعة تقوّي إسلاما وتضعف كفرا، فكثرت إلينا مكاتبات أهل الآراء الصائبة، ونظرنا للإسلام ولنا ولبلاد الإسلام في العاقبة، وعرفنا أن البيت المقدّس إن لم تتيسّر الأسباب لفتحه، وأمر الكفر إن لم يجرّد العزم في قلعه، وإلا ثبتت عروقه،(13/94)
واتسعت على أهل الدين خروقه، وكانت الحجة لله قائمة، وهمم القادرين بالقعود آثمة؛ وإنا لا نتمكن بمصر منه مع بعد المسافة، وانقطاع العمارة وكلال الدواب، وإذا جاورناه كانت المصلحة بادية، والمنفعة جامعة، واليد قادرة، والبلاد قريبة، والغزوة ممكنة، والميرة متسعة والخيل مستريحة، والعساكر كثيرة، والجموع متيسرة، والأوقات مساعدة؛ وأصلحنا ما في الشام من عقائد معتلّة، وأمور مختلّة؛ وآراء فاسدة، وأمراء متحاسدة، وأطماع غالبة، وعقول غائبة، وحفظنا الولد القائم بعد أبيه، وكفلناه كفالة من يقضي الحقّ ويوفيه؛ فإنّا به أولى من قوم يأكلون الدنيا باسمه، ويظهرون الوفاء بخدمه وهم عاملون بظلمه، والمراد الآن هو كل ما يقوّي الدولة، ويؤكّد الدعوة، ويجمع الأمة، ويحفظ الألفة، ويضمن الزّلفة، ويفتح بقيّة البلاد، ويطبّق بالاسم العبّاسيّ كلّ ما تخطئه العهاد- ونحن نقترح على الأحكام المعهودة، وننتظر أن يأتي الإنعام على الغايات المزيدة؛ وهو تقليد جامع لمصر والمغرب واليمن والشام، وكلّ ما تشتمل عليه الولاية النّورية، وكل ما يفتحه الله للدولة بسيوفنا وسيوف عساكرنا، ولمن نقيمه من أخ وولد من بعدنا، تقليدا يضمن للنّعمة تخليدا، وللدّعوة تجديدا، مع ما ينعم به من السّمات التي يقتضيها الملك؛ فإنّ الإمارة اليوم بحسن نيّتنا في الخدمة تصرّف بأقلامنا، وتستفاد من تحت أعلامنا، ويتبيّن أنّ أمراء الدولة النّورية يحتاج إليهم في فتح البلاد القدسية ضرورة: لأنها منازل العساكر، ومجمع الأنفار والعشائر؛ فمتى لم يكن عليهم يد حاكمة، وفيهم كلمة نافذة، منعهم ولاة البلاد، وبغاة العناد.
وبالجملة فالشام لا ينتظم أمره بمن فيه، وفتح بيت المقدس ليس له قرن يقوم به ويكفيه؛ والفرنج فهم يعرفون منا خصما لا يملّ الشرّ حتّى يملّوا، وقرنا لا يزال يحرّم السيف حتّى يحلّوا، حتى إنا لمّا جاورناهم في هذا الأمد القريب، وعلموا أنّ المصحف قد جاء بأيدينا يخاصم الصليب، استشعروا بفراق بلادهم، وتهادوا التعازي لأرواحهم بأجسادهم؛ وإذا سدّد رأينا حسن الرأي ضربنا بسيف يقطع في غمده، وبلغنا المنى بمشيئة الله ويد كلّ مسلم تحت برده، واستنقذنا أسيرا من المسجد الذي أسرى الله إليه بعبده.(13/95)
هذا ما لاح طلبه على قدر الزمان، والأنفس تطلب على مقدار الإحسان؛ فإنّ في استنهاض نيّات الخدّام بالإنعام ما يعود على الدولة منافعه، وتنكأ الأعداء مواقعه، وتبعث العزائم من موت منامها، وتنفض عن البصائر غبار ظلامها؛ والله تعالى ينجد إرادتنا في الخدمة بمضاعفة الاقتدار، ومساعدة الأقدار، إن شاء الله تعالى.
الضرب الثاني (ما كان يكتب لنوّاب السلطنة بالديار المصرية عند سفر السلطان عن الديار المصرية)
والعادة أن يكتب فيما يتعلق بمهمّات الديار المصرية وأحوالها ومصالحها، وما يترتّب فيها، وما يمشى على حكمه بمصر والقاهرة المحروستين، وسائر أعمال الديار المصرية، وما تبرز به المراسيم الشريفة في أمورها وقضاياها، واستخراج أموالها وحمولها، وعمل جسورها وحفائرها، وما يتجدّد في ذلك، وما يجري هذا المجرى من سائر التعلّقات، وتصدر بذلك التذكرة.
وهذه نسخة تذكرة سلطانية كتب بها عن السلطان الملك الصالح عليّ، ابن الملك المنصور قلاوون الصالحي، لكافل السلطنة بالديار المصرية، الأمير زين الدين كتبغا، عند سفر السلطان الملك [المنصور] »
إلى الشام، واستقرار كتبغا المذكور نائبا عنه في سنة تسع [وسبعين] «2» وستمائة، من إنشاء [محمد] «3» بن المكرّم بن أبي الحسن الأنصاريّ، أحد كتّاب الدرج يومئذ ومن خطّه نقلت؛ وهي:(13/96)
تذكرة نافعة، للخيرات جامعة، يعتمد عليها المجلس العاليّ، الأميريّ، الزّينيّ، كتبغا المنصوريّ، نائب السلطنة الشريفة- أدام الله عزه- في مهمّات الديار المصرية وأحوالها ومصالحها، وما يترتّب بها، وما يبتّ ويفصل في القاهرة ومصر المحروستين وسائر أعمال الديار المصرية، صانها الله تعالى، وما تستخرج به المراسيم الشريفة، المولوية، السلطانية، الملكية، الصالحيّة الفلانية- أنفذها الله تعالى- في أمورها وقضاياها، وولاياتها وولاتها، وحمولها وحفيرها وحفظها ومتجدّداتها على ما شرح فيه:
- فصل الشّرع الشريف:
يشدّ من حكّامه وقضاته في تنفيذ قضاياه وتصريف أحكامه، والشّدّ منه في نقضه وإبرامه.
- فصل العدل والانصاف والحق:
يعتمد ذلك في جميع المملكة الشريفة: مدنها وقراها وأعمالها وولاياتها:
بحيث يشمل الرعايا من خاصّ وعامّ، وبعيد وقريب، وغائب وحاضر، ووارد وصادر، ويستجلب الأدعية الصالحة من جميع الناس لهذه الأيّام الزاهرة، ويستنطق الألسنة بذلك؛ فإنّ العدل حجة الله ومحجّة الخير، فيدفع كلّ ضرر ويرفع كلّ ضير.(13/97)
- فصل الدماء:
يعتمد فيها حكم الشرع الشريف. ومن وجب عليه قصاص يسلّم لغريمه ليقتصّ منه بالشرع الشريف، ومن وجب عليه القطع يقطع بالشرع الشريف.
- فصل الأمور المختصّة بالقاهرة ومصر المحروستين، حرسهما الله تعالى:
لا يتجوّه «1» فيها أحد، ولا يقوى قويّ على ضعيف، ولا يتعدّى أحد على أحد جملة كافية.
- فصل:
يتقدم بأن لا يمشي أحد في المدينة ولا ضواحيها في الحسينيّة والأحكار «2» في الليل إلا لضرورة، ولا يخرج أحد من بيته لغير ضرورة ماسّة، والنساء لا ينصرفن في الليل ولا يخرجن ولا يمشين جملة كافية.
- فصل الحبوس:
تحرس وتحفظ بالليل والنهار؛ وتحلق لحى الأسارى كلّهم: من فرنج وأنطاكيّين وغيرهم، ويتعهّد ذلك فيهم كلما تنبت، ويحترز في أمر الداخل إلى الحبوس، ويحترز على الأسارى الذين يستعملون، والرجال الذي يخرجون معهم، وتقام الضّمّان الثّقات على الجانداريّة «3» الذين معهم، ولا يستخدم في(13/98)
ذلك غريب، ولا من فيه ريبة، ولا تبيت الأسارى الذين يستعملون إلا في الحبوس، ولا يخرج أحد منهم لحاجة تختص به ولا لحمّام ولا كنيسة ولا فرجة، وتتفقّد قيودهم وتوثّق في كل وقت.
ويضاعف الحرس في الليل على خزانة البنود «1» باظهار ظاهرها وعلوّها وحولها وكذلك خزانة الشمائل «2» وغيرها من الجيوش.
- فصل:
يرتّب جماعة من الجند مع الطّوّاف «3» في المدينة لكشف الأزقّة وغلق الدّروب وتفقّد أصحاب الأرباع، وتأديب من يخلّ بمركزه من أصحاب الأرباع، وتكون الدّروب مغلقة. وكذلك تجرّد جماعة الحسينيّة والأحكار وجميع المراكز، ويعتمد فيها هذا الاعتماد؛ ومن وجد في الليل قد خالف المرسوم ويمشي لغير عذر يمسك ويؤدّب.(13/99)
- فصل [الأبواب] :
يحترز على الأبواب غاية الاحتراز، ويتفقّد في الليل خارجها وباطنها وعند فتحها وغلقها.
- فصل:
الأماكن التي يجتمع فيها الشّباب وأولو الدّعارة ومن يتعانى العيث والزّنطرة «1» ، لا يفسح لأحد في الاجتماع بها في ليل ولا نهار، ويكفّون الأكفّ اللئام بحيث تقوم المهابة وتعظم الحرمة، وينزجر أهل الغيّ والعيث والعبث.
- فصل:
يرتّب المجرّدون «2» حول المدينتين بالقاهرة ومصر المحروستين على العادة، وكذلك جهة القرافة وخلف القلعة وجهة البحر، وخارج الحسينية، ولا يهمل ذلك ليلة واحدة، ولا يفارق المجرّدون مراكزهم إلا عند السّفور وتكامل الضوء.
- فصل:
يتقدّم بأن لا تجتمع الرجال والنساء في ليالي الجمع بالقرافتين «3» ، ويمنع النساء من ذلك.(13/100)
- فصل:
مهمّات الغائبين في البيكار «1» المنصور تلحظ ويشدّ من نوّابهم في أمورهم ومصالحهم، ويستخلص حقوقهم لنوّابهم وغلمانهم ووكلائهم؛ ومن كانت له جهة يستخلص حقّه منها ولا يتعرّض إلى جهاتهم المستقرّة فيما يستحقّونه؛ ويقوّي أيديهم، وتؤخذ الحجج على وكلائهم بما يقبضونه حتى لا يقول مؤكّلوهم في البيكار: إنّ كتب وكلائنا وردت بأنهم لم يقبضوا لنا شيئا، فيكون ذلك سببا لردّ شكاويهم.
- فصل:
خليج القاهرة ومصر المحروستين يرسم بعمله وحفره وإتقانه في وقته:
بحيث يكون عملا جيّدا متقنا من غير حيف على أحد، بل كلّ أحد يعمل ما يلزمه عملا جيّدا.
- فصل:
جسور ضواحي القاهرة يسرع في إتقانها وتعريضها، ويجتهد في حسن رصفها وفتح مشاربها، وحفظها من الطارق عليها، وتبقى متقنة مكملة إلى وقت النّيل المبارك؛ ولا يخرج في أمرها عن العادة، ولا يحتمي أحد عن العمل فيها بما يلزمه؛ ويحمل الأمر في جراريفها ومقلقلاتها «2» على ما تقدّمت به المراسيم الشريفة في أمر الجسور القريبة والبعيدة.
- فصل في الأعمال والولايات:
تتنجّز الأمثلة الشريفة السلطانية، المولوية، الملكية، الصالحية، الفلانية، شرفها الله تعالى، بإتقان عمل الجسور وتجويدها وتعريضها وتفقّد القناطر والتّراع، وعمل ما تهدّم منها وترميم ما وهى، وإصلاح ما تشعّث من أبوابها،(13/101)
وتحصيل أصنافها التي تدعو الحاجة إليها في وقت النّيل، وتعتمد المراسيم الشريفة من أنّ أحدا لا يعمل بالجاه، ومن وجب عليه فيها العمل يعمل على العادة في الأيام الصالحيّة؛ ويؤكّد على الولاة في مباشرتها بنفوسهم، وأن لا يتّكلوا على المشدّين «1» ؛ وأيّ جهة حصل منها نقص أو خلل كان قبالة ذلك روح والي ذلك العمل وماله؛ ويشدّد على الولاة في ذلك غاية التشديد، ويحذّر أتمّ التحذير، وتؤخذ خطوط الولاة بأنّ الجسور قد أتقن عملها على الوضع المرسوم به، وأنها أتقنت ولم يبق فيها خلل، ولا ما يخشون عاقبته، ولا ما يخافون دركه، وأنها عملت على ما رسم.
- فصل:
يتقدّم إلى الولاة ويستخرج الأمثلة الشريفة السلطانية بترتيب الخفراء على ما كان الحال رتّب عليه في الأيام الظاهريّة: أن يرتّب من البلد إلى البلد خفراء ينزلون ببيوت شعر على الطّرقات على البلدين، يخفرون الرائح والغادي؛ وأيّ من عدم له شيء يلزمه دركه، وينادى في البلاد أن لا يسافر أحد في الليل ولا يغرّر، ولا يسافر الناس إلا من طلوع الشمس إلى غروبها، ويؤكّد في ذلك التأكيد التام.
- فصل الثغور المحروسة:
يلاحظ أمورها ومهمّاتها، ويستخرج الأمثلة الشريفة السلطانية في مهمّاتها وأحوالها وحفظها، والاحتراز على المعتقلين بها، والاستهظار في حفظهم، والتيقّظ لمهمّات الثغر، واستجلاب قلوب التّجار، واستمالة خواطرهم، ومعاملتهم بالرّفق والعدل حتى تتواصل التجار وتعمر الثغور، ويؤكّد عليها في المستخرج وتحصيل الأموال، وأصناف الذّخائر، وأصناف الخزائن المعمورة والحوائح خاناه «2» ، ويوعز إليهم بأنّ هذا وقت انفتاح البحر وحضور التّجار وتزجية(13/102)
الأموال، وصلاح الأحوال، والنهضة في تكثير الحمول، ويؤكّد عليهم في المواصلة بها، وأن تكون حمولا متوفّرة، وأنه لا يفرّط في مستخرج حقوق المراكب الواصلة، ولا يقلّل متحصّلها، ولا ينقص حملها، ويسيّر بحملها حملا إلى بيت المال المعمور على العادة، ويؤكّد عليهم في الاستعمالات، وتحصيل الأقمشة والأمتعة على اختلاف أصنافها وإزالة الأعذار فيها: بحيث لا يتوقّف أمر الاستعمالات ولا يؤخّر مهمّها عن وقته؛ ومهما وصل من المماليك والجواري والحرير والوبر والأطلس والفضّة الحجر، وأقصاب الذهب المغزول يعتمد في تحصيله العادة.
- فصل:
يؤكّد على ولاة الأعمال في استخلاص الحقوق الديوانية من جهاتها، والمواصلة بالحمول في أوقاتها، ومباشرة أحوال الأقصاب ومعاصرها في أوقاتها، واعتماد مصلحة كل عمل على ما يناسبه وتقتضيه مصلحته: من مستخرج ومستغل، ومحمول ومزدرع، ومستعمل ومنفق، ويحذّرهم عن حصول خلل، أو ظهور عجز، أو فتور عزم، أو تقصير رأي، أو ما يقتضي الإنكار ويوجب المؤاخذة، ويشدّد في ذلك ما تقتضيه فرص الأوقات التي ينبغي انتهازها على ما يطالعون به.
- فصل [أموال] «1» الخراج الديوانية:
يحترز عليها وتربّى وتنمّى، ولا يطلق منها شيء إلا بمرسوم شريف منّا، ويطالع بأنّ المرسوم ورد بكذا وكذا ويعود الجواب بما يعتمد في ذلك.
- فصل حقوق الأمراء والبحرية والحلقة «2» المنصورة والجند وجهاتهم:
يستخلص أموالهم ووكلاءهم، ويوجد الشهادات بما عليهم من غلّة(13/103)
ودراهم، وغير ذلك، ولا يحوج الوكلاء إلى شكوى منهم تتصل بمن هو في البيكار، ويحسم هذه المادّة، ويسدّ أبواب المماطلة عنهم.
- فصل:
يتقدّم إلى الولاة والنّظّار والمستخدمين بعمل أوراق بما يتحصّل للمقطعين الأصلية «1» في كل بلد، ولمقطع الجهة، ولمن أفرد له طين بجهة، ولمن جهته على الرسوم: ليعلم حال المقطعين في هذه السنة الجيشيّة والجهاتيّة وما تحصّل لكل منهم، ولا يحصل من أحد من الولاة مكاشرة ولا إهمال، ولا يطمع في الوكلاء لأجل غيبة الأمراء والمقطعين في البيكار، ولا يحوج أحد من المقطعين إلى شكوى بسبب متأخّر ولا ظليمة ولا إجحاف.
- فصل:
إذا خرج جاندار «2» من مصر إلى الأعمال لا يعطى في العمل أكثر من درهمين نقرة «3» ، ويوصّل الحقّ الذي جاء فيه لمستحقّه؛ فإن حصل منه قال وقيل أو حيف أو تعنّت يرسم عليه، ويسيّر الحقّ مع صاحبه معه، ويطالع بأن فلانا الجاندار حضر وجرى منه كذا وكذا، ويشرح الصورة ليحسم الموادّ بذلك.
- فصل:
إذا سيّر أحد من الولاة رسولا بسبب خلاص حقّ من بعض قرى أعماله فيكون ما يعطى الجاندار عن مسافة سفر يوم نصف نقرة، وعن يومين درهم واحد(13/104)
لا غير؛ وأيّ جاندار تعدّى وأخذ غير ذلك يؤدّب ويصرف من تلك الولاية.
- فصل:
تكتب الحجج على كل وكيل يقبض لمخدومه شيئا من مغلّه أو جهته: من الديوان أو الفلّاحين، ولا يسلّم له شيء إلا بشهادة بحجج مكتتبة عليه، تخلّد منها حجّة الديوان المعمور بما قبضه من جهته أو إقطاعه، وتبقى الحجج حاصلة حتى إذا شكا أحد إلينا وسيّرنا عرّفناهم بمن يشكو من تأخّر حقه، يطالعوننا بأمر وكيله وما قبض من حقه، وتسيّر الشهادة عليه طيّ مطالعته، (ويحترز من الشهادات) بما وصل لكلّ مقطع، حتّى إنا نعلم من مضمون الحجج والشهادات متحصّل المقطعين من البلاد والجهات مفصّلا وجملة ما حصل لكل منهم: من عين وغلة وما تأخّر لكل منهم، ويعمل بذلك صورة أمور البلاد والمقطعين وأحوالهم، ويزيل شكوى من تجب إزالة شكواه، وتعلم أحوالهم على الجليّة.
- فصل:
تقرأ هذه التذاكر على المنابر فصلا فصلا، ليسمعها القريب والبعيد، ويبلّغها الحاضر والغائب، ويعمل بمضمونها كل أحد؛ ومن خرج عنها أو عمل بخلافها فهو أخبر بما يلقاه من سطواتنا وشدّة بأسنا؛ والسلام.
الضرب الثالث (ما كان يكتب لنوّاب القلاع وولاتها: إما عند استقرار النائب بها، وإما في خلال نيابته)
والعادة فيها أن يكتب فيها باعتماد الكشف عن أحوال القلعة وأسوارها وعرض حواصلها، ومقدّمي رجالها، وترتيب الرجال في مراكزهم، وكشف مظالم الرعايا، والنظر في الاحتراز على القلعة وعلى أبوابها، والاحتفاظ بمفاتيحها على العادة، وتحصيل ما يحتاج إليه فيها من الزاد والحطب والملح والفحم وغير ذلك، والمطالعة بمتجدّدات الأخبار.(13/105)
وهذه نسخة تذكرة كتب بها عن السلطان الملك المنصور قلاوون بسبب قلعة صرخد من الشام، عند استقرار الأمير سيف الدين باسطي نائبا بها، والأمير عز الدين واليا بها في سنة تسع وسبعين وستمائة، من إنشاء القاضي محيي «1» الدّين بن عبد الظاهر صاحب ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية؛ وهي:
تذكرة مباركة نافعة، لكثير من المصالح جامعة، يعتمد عليها الأميران: سيف الدين وعزّ الدين عند توجّههما إلى قلعة صرخد «2» المحروسة:
يعتمدان العدل في الرعية، وسلوك منهج الحق في كل قضيّة، واعتماد ما يرضي الله تعالى ويرضينا؛ وليكن الإنصاف لهما عقيدة والتقوى دينا، ولا يتطلّع أحدهما إلى ما في يد أحد من مال ولا نشب «3» ، ولا يعارض أحد أحدا بلا سبب، وليتّقوا «4» الله ويخشوه، ويتجنّبوا الباطل ولا يغشوه، ولا يظنّ أحد منهم أن قد بعد عنا فيطمح إلى الظلم أو يطمع، فإنا منهم بمرأى ومسمع، وليكونوا على المصالح متفقين، وبأذيال الحق متعلّقين، وعلى الرعيّة مشفقين.
- فصل:
يتقدّمان بكشف أسوار القلعة المنصورة وأبراجها وبدناتها وأبوابها، وما(13/106)
يحتاج إلى إصلاح وترميم وعمارة، ويحرّران أمر ذلك تحريرا، ويجتهدان في إصلاح ما يجب إصلاحه وترميم ما يجب ترميمه، والمطالعة بما كشفاه وما اعتمداه.
- فصل:
يتقدّمان بعرض حواصل القلعة المنصورة، والخزانة المعمورة، ويحقّقون ما بها من الأموال والغلال والذخائر والحواصل، ويعملون بذلك أوراقا محرّرة، ويسيّرون نسختها إلى الباب الشريف.
- فصل:
يتقدّمان بعرض مقدّمي رجال القلعة، وأرباب الجامكيّات «1» والرواتب بها، ويحرّران أمر مقرراتهم: من جامكية وجراية، ويجريان في صرف ذلك على العادة الجارية المستقرّة.
- فصل:
يستوضحان من الأمير عزّ الدين والأمير علم الدين المنصرفين عن المصالح المختصّة بهذه القلعة وعن أمورها، جليلها وحقيرها، فإنهما قد أحسنا في ذلك التدبير، وأجملا التأثير، وسلكا أجمل مسلك، ويهتديان بما يوضّحانه لهما من المصالح والمهمّات ليكون دخولهما في هذا الأمر على بصيرة.
- فصل:
يكون أمر النيابة والحكم العامّ في القلعة المنصورة، وتنزيل الرجال واستخدامهم وصرف من يجب صرفه- للأمير سيف الدّين باسطي بمشاركة الأمير عز الدين في أمر الرجال والاستخدام والصّرف، ويكون أمر النيابة راجعا للأمير سيف الدين باسطي والحكم فيها له، ويكون أمر ولاية القلعة للأمير عزّ الدين، ويجريان في ذلك على عادة(13/107)
من تقدّمهما في هذه النيابة والولاية؛ ويكون الأمير سيف الدين في الدار التي كان يسكنها الأمير عزّ الدين؛ وحكمه في النيابة كحكمه؛ ويسكن الأمير عزّ الدين في الدار التي كان يسكن فيها الأمير علم الدّين، وحكمه في الولاية كحكمه. ولا يتعدّى أحد طوره، ولا يخرج عما قرّر فيه، ويرعى كلّ منهما لصاحبه حقّه فيما رتّب فيه، ويتفقان على المصالح كلّها، ويكونان كروحين في جسد واحد.
- فصل:
يتقدّمان بأن يترتّب الرجال في مراكزهم ومنازلهم على العادة في الليل والنهار، والحرسيّة «1» على العادة في الليل والنهار. وإن كان ثمّ خلل في ذلك أو تفريط أو إهمال، فليستدرك الفارط ويرتّب الأمر فيه على أحسن ترتيب.
- فصل:
ينتصبان في أوقات العادة في باب القلعة لكشف مظالم الرعية في القلعة والبرّ، ويعتمدان إنصافهم، وتلبية داعيهم، وسماع كلمهم، وكفّ ظالمهم وإعانة مظلومهم، واعتماد ما يجب من العدل وبسطه في الرعية، وكفّ الأيدي العادية.
- فصل:
أبواب القلعة إذا أغلقت في كل ليلة تبيّت المفاتيح عند النائب في المكان المعتاد بعد ختم الوالي عليها على العادة؛ وإذا تسلّمها يتسلّمها بختمها على العادة.
- فصل:
الذّخائر والغلال يجتهد في تصحيلها بالقلعة؛ ولا تخزن غلة جديدة على غلة عتيقة. وكلّ هري يخزن فيه غلّة يحرّر أمرها وتشال عيّنتها في كيس وتجعل في الخزانة ويختم عليها؛ ولا يصرف من الجديد قبل نفاد العتيق، ولا يترك العتيق ويصرف من الجديد. وكذلك بقية الحواصل يسلك فيها هذا المسلك.(13/108)
- فصل:
مهما جرت العادة بتثمينه على أرباب الجامكيّات والمقرّرات، فليجر الأمر فيه على العادة من غير حيف، وليدخل الديوان والمباشرون في التثمين لئلّا يسلك أمر التثمين على الرّجّالة والضّعفاء مع قلّة معلومهم «1» ويوفّر من ذلك أرباب الدّواوين مع كثرة معلومهم، بل يكونوا أوّل من يثمّن عليه؛ ومن لا قدرة له: مثل راجل ضعيف أو ربّ معلوم قليل، فليرفق به في ذلك، نظرا في حقّ الضعفاء.
- فصل:
يكثّرون من الأحطاب ومن الفحم والملح بالذخائر، وكذلك من كلّ ما تدعو الحاجة إليه، ويجتهدون في تحصيل الأموال وتوفيرها بالخزانة المعمورة:
بحيث لا يكون لهما شغل يشغلهما عن ذلك، بل يصرفان الهمّة في غالب أوقاتهما إلى الفكرة في مال يحصّلونه، أو صنف يدّخرونه، ولا يهملان ذلك.
- فصل:
يطالعان الأبواب العالية في غالب أوقاتهما بما يتجدّد عندهما من المصالح، وبما يتميّز من الأموال، و [بما] حمل إلى الخزائن وإلى الأهراء من الأموال والغلال. وكذلك يطالعان نائب السلطنة بدمشق المحروسة على العادة في ذلك؛ ولتكن مطالعتهما جامعة وعليها خطّهما. ومن لاحت له مصلحة في بعض الأوقات واختار أن يطالع بانفراده فليطالع.
- فصل:
لا يمكّنان أحدا من الرجال المرتّبين بالقلعة المحروسة وأرباب النّوب أن يخلّ بنوبته ولا يفارقها، ولا يخرج من القلعة أحد من الرجال إلا بدستور «2» ويعود في يومه والله الموفق.(13/109)
قلت: وبالجملة فالتذاكر منوطة بحال المكتوب له التذكرة، والمكتوب بسببه؛ فيختلف الحال باختلاف الأسباب، ويؤتى لكل تذكرة بفصول تناسبها بحسب ما تدعو الحاجة إليه.
واعلم أنّ اللائق بالتذاكر الخارجة من ديوان الإنشاء أن تكون في الفصاحة والبلاغة على حدّ الرسائل، فيعلو شأن التّذكرة باعتبار اشتمالها على الفصاحة والبلاغة، وينحطّ بفواتهما؛ وانظر إلى تذكرة القاضي الفاضل المبتدإ بها؛ وما اشتملت عليه من الفصاحة والبلاغة، وأين هي من التذكرتين اللتين بعدها؛ فإنه قد أهمل فيهما مراعاة الفصاحة والبلاغة جملة، بل لم تراع في الأخيرة منهما قوانين النحو، إذ يكون يتكلّم بصيغة التثنية على سياق ما عقدت له التذكرة لاشتمالها على اثنين فإذا هو قد عدل إلى لفظ الجمع، ثم يعود إلى لفظ التثنية؛ هذا، وهي منسوبة إلى القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، صاحب ديوان الإنشاء يومئذ، وهو من بيت الكتابة والبلاغة، إلا أنه قد يريد بعدوله من التثنية إلى الجمع أن ينتقل إلى خطاب جمع المتحدثين في القلعة فيما يتعلّق بذلك الفصل الذي يكون فيه، وإلا فلا يجوز صدور مثل ذلك عنه وتكراره المرّة بعد الأخرى.(13/110)
المقالة السابعة في الإقطاعات والقطائع؛ وفيها بابان
الباب الأوّل في ذكر مقدّمات الإقطاعات؛ وفيه فصلان
الفصل الأوّل في ذكر مقدّمات تتعلّق بالإقطاعات؛ وفيه ثلاثة أطراف
الطرف الأوّل (في بيان معنى الإقطاعات وأصلها في الشرع)
أما الإقطاعات فجمع إقطاع، وهو مصدر أقطع؛ يقال: أقطعه أرض كذا يقطعه إقطاعا، واستقطعه إذا طلب منه أن يقطعه، والقطيعة الطائفة من أرض الخراج.
وأما أصلها في الشرع فما رواه الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق بسنده إلى ابن سيرين عن تميم الداريّ أنه قال: «استقطعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أرضا بالشأم قبل أن تفتح فأعطانيها، ففتحها عمر بن الخطاب في زمانه فأتيته، فقلت: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أعطاني أرضا من كذا إلى كذا، فجعل عمر ثلثها لابن السبيل، وثلثا لعمارتها، وثلثا لنا» .
وفي رواية: استقطعت أرضا بالشام فأقطعنيها، ففتحها عمر في زمانه فأتيته، فقلت: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أعطاني أرضا من كذا إلى كذا، فجعل عمر ثلثها لابن السبيل، وثلثها لعمارتها، وترك لنا ثلثا.(13/111)
وذكر الماورديّ في «الأحكام السلطانية» : أنّ أبا ثعلبة الخشنيّ رضي الله عنه سأل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقطعه أرضا كانت بيد الروم فأعجبه ذلك، وقال ألا تسمعون ما يقول؟ فقال: والذي بعثك بالحق ليفتحنّ عليك، فكتب له بذلك كتابا «1» وذكر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أقطع الزّبير بن العوّام ركض فرسه من موات البقيع «2» فأجراه ورمى بسوطه رغبة في الزيادة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أعطوه منتهى سوطه» .
وذكر أنّ الأبيض بن حمّال استقطعه ملح مأرب فأقطعه، فأخبره الأقرع بن حابس أنه كان في الجاهلية [وهو بأرض ليس فيها غيره من ورده أخذه، وهو مثل الماء العدّ «3» بالأرض، فاستقال الأبيض في قطيعة الملح فقال قد أقلتك على أن تجعله منّي صدقة، فقال النبيّ عليه الصلاة والسلام: هو منك صدقة، وهو مثل الماء العدّ من ورده أخذه] «4» وذكر أبو هلال العسكريّ في كتابه «الأوائل» : أنّ أوّل من أقطع القطائع بالأرضين أمير المؤمنين عثمان بن عفّان رضي الله عنه (ولا وجه له بعد ما تقدّم ذكره) «5» ؛ اللهم إلا أن يريد أن عثمان أوّل من أقطع القطائع بعد الفتح، فإنّ ما أقطعه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان قبل الفتح كما تقدّم.
قال بعد ذلك: ويروى أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أقطع قطائع فاقتدى عثمان به في(13/112)
ذلك، وأقطع خبّاب بن الأرتّ وسعد بن أبي وقّاص وسعيد بن زيد والزّبير، وأقطع طلحة أجمة الجرف «1» : وهو موضع النّشاستج «2» ، فكتب إلى سعيد بن العاص وهو بالكوفة أن ينفّذها له.
الطرف الثاني (في بيان أوّل من وضع ديوان الجيش، وكيفيّة ترتيب منازل الجند فيه، والمساواة والمفاضلة في الإعطاء)
ذكر أبو هلال العسكري في «الأوائل» والماورديّ في «الأحكام السلطانية» أن أوّل من وضع الديوان في الإسلام أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه. قال الماورديّ: واختلف [الناس] «3» في سبب وضعه [له] «4» : فقال قوم:
سببه أن أبا هريرة قدم عليه بمال من البحرين، فقال له عمر: ما جئت به؟ قال خمسمائة ألف درهم، فاستكثره عمر، وقال: أتدري ما تقول؟ قال نعم! مائة ألف خمس مرات، فقال عمر: أطيّب هو؟ قال لا أدري. فصعد عمر المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيّها الناس! قد جاءنا مال كثير، فإن شئتم كلنا لكم كيلا، وإن شئتم عددنا لكم عدّا، فقام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين: رأيت الأعاجم يدوّنون ديوانا، فدوّن أنت لنا ديوانا.
وذهب آخرون إلى أن سبب وضع الديوان أنّ عمر بعث بعثا وعنده الهرمزان «5» ، فقال لعمر: هذا بعث قد أعطيت أهله الأموال، فإن تخلّف منهم(13/113)
رجل وأخلّ بمكانه، فمن أين يعلم صاحبك به؟ فأثبت لهم ديوانا، فسأله عن الدّيوان ففسّره له.
ويروى أنّ عمر رضي الله عنه استشار المسلمين في تدوين الدواوين، فقال عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه: تقسم كلّ سنة ما اجتمع إليك من المال، ولا تمسك منه شيئا. وقال عثمان: أرى مالا كثيرا يسع الناس، فإن لم يحصوا حتّى يعلم من أخذ ممن لم يأخذ، خشيت أن ينتشر الأمر- فقال خالد بن الوليد «1» رضي الله عنه: قد كنت بالشام فرأيت ملوكها دوّنوا ديوانا وجنّدوا جنودا، فدوّن ديوانا وجنّد جنودا، فأخذ بقوله ودعا عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم، (وكانوا من شباب «2» قريش) فقال: اكتبوا [الناس] «3» على منازلهم! فبدأوا ببني هاشم فكتبوهم، ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه، [ثم عمر وقومه] «4» وكتبوا القبائل ووضعوها على الخلافة، ثم رفعوه إلى عمر، فلما نظر فيه، قال: لا! وما وددت أنه هكذا، ولكن ابدأوا بقرابة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: الأقرب فالأقرب حتّى تضعوا عمر حيث وضعه الله، فشكره العبّاس على ذلك، وقال: وصلتك رحم.
وروى زيد بن أسلم عن أبيه «5» : أن بني عديّ جاءوا إلى عمر، فقالوا:
إنك خليفة أبي بكر، وأبو بكر خليفة رسول الله، فلو جعلت نفسك حيث جعلك هؤلاء القوم الذين كتبوا؟ فقال: بخ. بخ يا بني عديّ!! إن أردتم إلّا الأكل على ظهري، وأن أذهب «6» حسناتي لكم، لا والله! حتّى تأتيكم الدعوة ولو انطبق «7» عليكم الدفتر. يعني ولو أن تكتبوا آخر الناس. إنّ صاحبيّ سلكا طريقا، فإن خالفتهما خولف بي؛ والله ما أدركنا الفضل في الدنيا والآخرة «8» ، ولا نرجو الثواب(13/114)
عند الله على عملنا إلا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهو أشرفنا، وقومه أشرف العرب، ثم الأقرب فالأقرب؛ وو الله لئن جاءت الأعاجم بعمل وجئنا بعمل دونهم، لهم أولى بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم منّا يوم القيامة: فإنّ من قصّر به عمله لم يسرع به نسبه.
وروي أنّ عمر رضي الله عنه حين أراد وضع الديوان «1» ، قال: بمن أبدأ؟
فقال له عبد الرحمن بن عوف: ابدأ بنفسك، فقال عمر: أذكر أنّي حضرت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو يبدأ ببني هاشم وبني عبد المطّلب؛ فبدأ بهم عمر، ثم بمن يليهم من قبائل قريش بطنا بعد بطن، حتى استوفى جميع قريش، ثم انتهى إلى الأنصار، فقال عمر: ابدأوا برهط سعد بن معاذ من الأوس «2» ، ثم بالأقرب فالأقرب لسعد.
وأما المساواة والمفاضلة في العطاء فقد اختلف فيه: فكان أبو بكر رضي الله عنه يرى التسوية [بينهم] «3» في العطاء [ولا يرى التفضيل بالسابقة] «4» كما حكاه عنه الماورديّ في «الأحكام السلطانية» .
قال أبو هلال العسكري في «الأوائل» : وقد روي عن عوانة أنه قال: جاء مال من البحرين إلى أبي بكر رضي الله عنه فساوى فيه بين الناس، فغضبت الأنصار، وقالوا له: فضّلنا، فقال: إن أردتم أن أفضّلكم فقد صار ما عملتموه للدّنيا، وإن شئتم كان ذلك لله، فقالوا: والله ما عملناه إلا لله! وانصرفوا؛ فرقي أبو بكر رضي الله عنه المنبر؛ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا معشر الأنصار لو شئتم [أن] «5» تقولوا: إنا آويناكم وشاركناكم أموالنا ونصرناكم بأنفسنا لقلتم، وإنّ لكم من الفضل ما لا يحصى له عدد، وإن طال الأمد، فنحن وأنتم كما قال الغنويّ:(13/115)
جزى الله عنّا جعفرا حين أزلقت «1» ... بنا نعلنا في الواطئين «2» فزلّت
أبوا أن يملّونا ولو أنّ أمنّا ... تلاقي الّذي لا قوه «3» منّا لملّت
هم أسكنونا في ظلال بيوتهم ... ظلال بيوت أدفأت وأكنّت
قال الماورديّ: وإلى ما رأى أبو بكر رضي الله عنه ذهب عليّ رضي الله عنه في خلافته، وبه أخذ الشافعيّ ومالك.
وكان عمر رضي الله عنه يرى التفضيل بالسابقة في الدّين، حتّى إنه ناظر أبا بكر رضي الله عنه في ذلك، حين سوّى بين الناس، فقال: أتساوي بين من هاجر الهجرتين وصلّى إلى القبلتين وبين من أسلم عام الفتح خوف السيف؟! - فقال أبو بكر: إنما عملوا لله، وإنما أجورهم على الله، وإنما الدّنيا [دار] «4» بلاغ [للراكب] «5»
، فقال له عمر: لا أجعل [من قاتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كمن قاتل معه؛ فلما وضع الديوان جرى] «6» على التفضيل بالسابقة؛ ففرض لكلّ رجل شهد بدرا من المهاجرين [الأوّلين] «7» خمسة آلاف درهم كلّ سنة، ولكل من شهد بدرا من الأنصار أربعة آلاف درهم «8» ، ولكلّ رجل هاجر قبل الفتح ثلاثة آلاف درهم، ولكلّ رجل هاجر بعد الفتح ألفين؛ وفرض لغلمان أحداث من أبناء المهاجرين والأنصار أسوة من أسلم بعد الفتح؛ وفرض للناس على منازلهم، وقراءتهم القرآن، وجهادهم بالشام والعراق؛ وفرض لأهل اليمن وقيس: لكل رجل من ألفي درهم إلى ألف درهم، إلى خمسمائة درهم، إلى ثلاثمائة درهم «9» ، ولم ينقص(13/116)
أحدا عنها، وقال: لئن كثر المال لأفرضنّ لكلّ رجل أربعة آلاف درهم: ألفا لفرسه «1» ، وألفا لسلاحه، وألفا لسفره، وألفا يخلّفها في أهله؛ وفرض للمنفوس»
مائة درهم، فإذا ترعرع فرض له مائتين، فإذا بلغ زاده. وكان لا يفرض للمولود شيئا حتّى يفطم، إلى أن سمع ليلة امرأة تكره ولدها على الفطام، وهو يبكي، فسألها عنه- فقالت: إن عمر لا يفرض للمولود حتى يفطم فأنا أكرهه على الفطام حتى يفرض له- فقال يا ويح عمر! كم احتقب «3» من وزر وهو لا يدري؛ ثم أمر مناديا فينادي: ألا لا تعجلوا أولادكم بالفطام، فإنا نفرض لكلّ مولود في الإسلام. قال الماورديّ: ثم روعي في التفضيل عند انقراض أهل السوابق التقدّم في الشجاعة والبلاء في الجهاد.
وأما تقدير العطاء فمعتبر بالكفاية حتّى يستغني بها عن التماس مادّة تقطعه عن حماية البيضة. ثم الكفاية معتبرة من ثلاثة أوجه: أحدها عدد من يعوله من الذّراريّ والمماليك- والثاني عدد ما يرتبط من الخيل والظّهر- والثالث: الموضع الذي يحلّه في الغلاء والرّخص فتقدّر [كفايته في] «4» نفقته وكسوته لعامه كلّه. ثم تعتبر حاله في كل عام، فإن زادت نفقاته زيد، وإن نقصت نقص؛ فلو تقدّر رزقه بالكفاية، فمنع الشافعيّ من زيادته على الكفاية وإن اتّسع المال، لأن أموال بيت المال لا توضع إلا في الحقوق اللازمة؛ وأجاز أبو حنيفة زيادته حينئذ.
الطرف الثالث (في بيان من يستحق إثباته في الديوان، وكيفية ترتيبهم فيه)
فأما من يستحق إثباته في الديوان، ففيه خمسة أمور:(13/117)
أحدها- البلوغ. فلا يجوز إثبات الصّبيّ في الدّيوان؛ وهو رأي عمر رضي الله عنه، وبه أخذ الشافعيّ رضي الله عنه، بل يكون جاريا في جملة عطاء الذّراريّ.
الثاني- الحرّيّة. فلا يثبت في الديوان مملوك، بل يكون تابعا لسيّده داخلا في عطائه، خلافا لأبي حنيفة فإنه جوّز إفراد المملوك بالعطاء؛ وهو رأي أبي بكر رضي الله عنه.
الثالث- الإسلام، ليدفع عن الملّة باعتقاده، حتّى لو أثبت فيهم ذمّيّ لم يجز، ولو ارتد منهم مسلم سقط.
الرابع- السّلامة من الآفات المانعة من القتال. فلا يجوز أن يكون زمنا «1» ولا أعمى ولا أقطع، ويجوز أن يكون أخرس أو أصمّ. أما الأعرج، فإن كان فارسا جاز إثباته أو راجلا فلا.
الخامس- أن يكون فيه إقدام على الحرب ومعرفة بالقتال، فإن ضعفت همّته عن الإقدام، أو قلّت معرفته بالقتال لم يجز إثباته.
فإذا وجدت فيه هذه الشروط، اعتبر فيه خلوّه عن عمل وطلبه الإثبات في الديوان؛ فإذا طلب فعلى وليّ الأمر الإجابة إذا دعت الحاجة إليه. ثم إن كان مشهور الاسم فذاك، وإلا حلّي ونعت، بذكر سنّه وقدّه ولونه وصفة وجهه، ووصف بما يتميّز به عن غيره، كي لا تتفق الأسماء، أو يدّعي في وقت العطاء، ثم يضمّ إلى نقيب عليه أو عريف يكون مأخوذا بدركه.
وأما ترتيبهم في الديوان فقد جعلهم الماورديّ في «الأحكام السلطانية» على ضربين:(13/118)
الضرب الأوّل- الترتيب العامّ. وهو ترتيب القبائل والأجناس حتّى تتميّز كلّ قبيلة عن غيرها وكلّ جنس عمن يخالفه، فلا يجمع بين المختلفين، ولا يفرّق بين المؤتلفين: لتكون دعوة الديوان على نسق معروف النسب يزول فيه التنازع والتجاذب. فإن كانوا عربا روعي فيهم القرب من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، كما فعل عمر رضي الله عنه: فتقدّم العرب المستعربة: وهم عدنان من ولد إسماعيل عليه السّلام، على العرب العاربة: وهم بنو قحطان عرب اليمن: لأن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من عدنان. ثم عدنان تجمع ربيعة ومضر؛ فتقدّم مضر على ربيعة: لأن النّبوّة في مضر، ومضر تجمع قريشا وغير قريش، فتقدّم قريش على غيرهم: لأن النبوّة فيها، فيكون بنو هاشم هم قطب الترتيب، ثم من يليهم من أقرب الأنساب إليهم حتّى يستوعب قريشا، ثم من يليهم في النّسب حتّى يستوعب جميع مضر، ثم من يليهم حتى يستوعب جميع عدنان.
وإن كانوا عجما لا يجتمعون على نسب، فالمرجوع إليه في أمرهم: إما أجناس وإما بلاد؛ فالمميّزون بالأجناس كالتّرك والهند؛ ثم تتميز التّرك أجناسا، والهند أجناسا. والمميّزون بالبلاد: كالدّيلم والجبل؛ ثم تميّز الديلم بلدانا، والجبل بلدانا. فإذا تميّزوا بالأجناس أو البلدان: فإن كانت لهم سابقة ترتّبوا عليها في الديوان، وإن لم تكن لهم سابقة ترتّبوا بالقرب من وليّ الأمر؛ فإن تساووا فبالسّبق إلى طاعته.
الضرب الثاني- الترتيب الخاصّ: وهو ترتيب الواحد بعد الواحد، فيقدّم فيه بالسابقة بالإسلام كما فعل عمر رضي الله عنه؛ فإن تساووا ترتّبوا بالدّين؛ فإن تقاربوا فيه رتّبوا بالسّن؛ فإن تقاربوا بالسّن رتّبوا بالشّجاعة؛ فإن تقاربوا فيها، كان وليّ الأمر بالخيار بين أن يرتّبهم بالقرعة أو على رأيه واجتهاده.(13/119)
الفصل الثاني من الباب الأوّل من المقالة السابعة (في بيان حكم الإقطاع)
قال في «الأحكام السلطانية» : وإقطاع السلطان مختصّ بما جاز فيه تصرّفه، ونفذت فيه أوامره، دون ما تعيّن مالكه وتميّز مستحقّه.
ثم الإقطاع على ضربين:
الضرب الأوّل (إقطاع التّمليك)
«1» والأرض المقطعة بالتمليك إمّا موات، وإمّا عامر، وإمّا معدن.
فأمّا الموات فإن كان لم يزل مواتا على قديم الزمان، لم تجر فيه عمارة، ولم يثبت عليه ملك، فيجوز للسلطان أن يقطعه من يحييه ويعمره. ثم مذهب أبي حنيفة أنّ إذن الإمام شرط في إحياء الموات؛ وحينئذ فيقوم الإقطاع فيه مقام الإذن. ومذهب الشافعيّ أن الإقطاع يجعله أحقّ بإحيائه من غيره. وعلى كلا المذهبين يكون المقطع أحقّ بإحيائه من غيره.
وأما إن كان الموات عامرا فخرب وصار مواتا عاطلا، فإن كان جاهليّا:
كأرض عاد وثمود، فهي كالموات الذي لم تثبت فيه عمارة في جواز إقطاعه.(13/120)
قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «عادت الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم منّي، يعني أرض عاد» .
وإن كان الموات إسلاميّا جرى عليه ملك المسلمين، ثم خرب حتّى صار مواتا عاطلا، فمذهب الشافعيّ أنه لا يملك بالإحياء، عرف أربابه أم لم يعرفوا؛ ومذهب مالك أنه يملك بالإحياء، عرف أربابه أم لم يعرفوا؛ ومذهب أبي حنيفة أنه إن عرف أربابه لم يملك بالإحياء، وإلّا ملك. ثم إذا لم يجز أن يملك بالإحياء على مذهب الشافعي، فإن عرف أربابه لم يجز إقطاعه، وإن لم يعرفوا جاز إقطاعه وكان الإقطاع شرطا في جواز إحيائه؛ فإذا صار الموات إقطاعا لمن خصّه الإمام به لم يستقرّ ملكه عليه حتى يحييه ويكمل إحياؤه، فإن أمسك عن إحيائه كان أحقّ به يدا وإن لم يصر له ملكا.
وأمّا العامر: فإن تعيّن مالكوه، فلا نظر للسلطان فيه إلا ما تعلّق بتلك الأرض من حقوق بيت المال إذا كانت في دار الإسلام، سواء كانت لمسلم أو ذمّيّ، وإن كانت في دار الحرب التي لم يثبت عليها للمسلمين يد جاز للإمام أن يقطعها ليملكها المقطع عند الظّفر بها، كما أقطع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم تميما وأصحابه أرضا بالشام قبل فتحه، على ما تقدّم ذكره في أوّل الباب.
وإن لم يتعيّن مالكوه: فإن كان الإمام قد اصطفاه لبيت المال من فتوح البلاد: إما بحقّ الخمس، أو باستطابة نفوس الغانمين، لم يجز إقطاع رقبته:
لأنه قد صار باصطفائه لبيت المال ملكا لكافّة المسلمين، فصار «1» على رقبته حكم الوقف المؤبّد؛ والسلطان فيه بالخيار بين أن يستغلّه لبيت المال وبين أن يتخيّر له من ذوي المكنة والعمل من يقوم بعمارة رقبته، ويأخذ خراجه، ويكون الخراج أجرة عنه تصرف في وجوه المصالح.
وإن كان العامر أرض خراج لم يجز إقطاع رقابها تمليكا.(13/121)
وأما إقطاع خراجها فسيأتي في إقطاع الاستغلال فيما بعد، إن شاء الله تعالى.
وإن كان الموات قد مات عنه أربابه من غير وارث، صار لبيت المال ملكا لعامّة المسلمين. ثم قيل: تصير وقفا على المسلمين بمجرّد الانتقال إلى بيت المال، لا يجوز إقطاعها ولا بيعها. وقيل: لا تصير وقفا حتّى يقفها الإمام؛ ويجوز للإمام بيعها إذا رأى فيه المصلحة ويصرف ثمنها في ذوي الحاجات. ثم قيل: يجوز إقطاعها كما يجوز بيعها، ويكون تمليك رقبتها بالإقطاع كتمليك ثمنها. وقيل: لا يجوز إقطاعها وإن جاز بيعها: لأن البيع معاوضة والإقطاع صلة.
الضرب الثاني (من الإقطاع إقطاع الاستغلال)
«1» فأما الخراج: فإن كان من يقطعه الإمام من أهل الصّدقات لم يجز أن يقطع مال الخراج: لأن الخراج فيء لا يستحقّه أهل الصدقة كما لا يستحقّ الصدقة أهل الفيء؛ وأجاز إقطاعه أبو حنيفة.
وإن كان من أهل المصالح ممن ليس له رزق مفروض فلا يصحّ أن يقطعه على الإطلاق، وإن جاز أن يعطى من مال الخراج: لأنهم من نفل أهل الفيء لا من فرضه، وما يعطونه إنما هو من غلّات المصالح؛ فإن جعل لهم من مال الخراج شيء أجري عليه حكم الحوالة لا حكم الإقطاع.
وإن كان من مرتزقة أهل الفيء وهم أهل الجيش، فهم أخصّ الناس بجواز الأقطاع: لأن لهم أرزاقا مقدّرة تصرف إليهم مصرف الاستحقاق، من حيث إنها أعواض عما أرصدوا نفوسهم له من حماية البيضة والذّبّ عن الحريم.(13/122)
ثم الخراج: إما جزية وهو الواجب على الجماجم، وإما أجرة وهو الواجب على رقاب الأرض. فإن كان جزية لم يجز إقطاعه أكثر من سنة، لأنه غير موثوق باستحقاقه بعدها لاحتمال أن يسلم الذمّيّ فتزول الجزية عنه. وإن كان أجرة جاز إقطاعه سنين لأنه مستقرّ الوجوب على التأييد.
ثم له ثلاث أحوال:
إحداها- أن يقدّر بسنين معلومة، كما إذا أقطعه عشر سنين مثلا، فيصحّ، بشرط أن يكون رزق المقطع معلوم القدر عند الإمام، وأن يكون قدر الخراج معلوما عند الإمام وعند المقطع، حتّى لو كان مجهولا عندهما أو عند أحدهما لم يصحّ. ثم بعد صحّة الإقطاع يراعى حال المقطع في مدّة الإقطاع: فإن بقي إلى إنقضاء مدّة الإقطاع على حال السلامة فهو على استحقاق الإقطاع إلى انقضاء المدّة، وإن مات قبل انقضاء المدّة بطل الإقطاع في المدّة الباقية، ويعود الإقطاع إلى بيت المال. وإن كان له ذرّية دخلوا في عطاء الذراريّ دون أرزاق الأجناد، ويكون ما يعطونه تسبّبا لا إقطاعا. وإن حدث بالمقطع زمانة في تلك المدّة ففي بقاء الإقطاع قولان: (أحدهما) أنّ إقطاعه باق عليه إلى انقضاء المدّة (والثاني) أنه يرتجع منه.
الثانية- أن يقطعه مدّة حياته ثم لعقبه وورثته بعد موته، فلا يصحّ: لأنه يخرج بذلك عن حقوق بيت المال إلى الأملاك الموروثة، فلو قبض منه شيئا بري أهل الخراج بقبضه: لأنه عقد فاسد مأذون فيه ويحاسب به من جملة رزقه:
فإن كان أكثر ردّ الزيادة، وإن كان أقلّ رجع بالباقي؛ وعلى السلطان أن يظهر فساد الإقطاع حتّى يمتنع هو من القبض ويمتنع أهل الخراج من الدّفع ولم يبرأوا بما دفعوه إليه حينئذ.
الثالثة- أن يقطعه مدّة حياته. ففي صحّة الإقطاع قولان للشافعي بالصحّة والبطلان؛ ثم إذا صحّ الإقطاع فللسلطان استرجاعه منه بعد السنة التي هو فيها، ويعود رزقه إلى ديوان العطاء. أما السنة التي هو فيها: فإن حلّ رزقه فيها قبل حلول خراجها لم يسترجع منه في سنته لاستحقاق خراجها في رزقه، وإن حل(13/123)
خراجها قبل حلول رزقه جاز استرجاعه منه: لأنّ تعجيل المؤجّل وإن كان جائزا فليس بلازم.
وأما العشر فلا يصحّ إقطاعه، لأنه زكاة الأصناف، فيعتبر وصف استحقاقهم عند دفعها إليهم؛ وقد يجوز أن لا يوجد فلا تجب.
قلت: هذا حكم الإقطاع في الشريعة، وعليه كان عمل الخلفاء والملوك في الزمن السالف؛ أما في زماننا فقد فسد الحال وتغيّرت القوانين، وخرجت الأمور عن القواعد الشرعية، وصارت الإقطاعات ترد من جهة الملوك على سائر الأموال: من خراج الأرضين، والجزية، وزكاة المواشي، والمعادن، والعشر، وغير ذلك. ثم تفاحش الأمر وزاد حتّى أقطعوا المكوس على اختلاف أصنافها، وعمّت بذلك البلوى؛ والله المستعان في الأمور كلّها.(13/124)
الباب الثاني من المقالة السابعة (فيما يكتب في الإقطاعات في القديم والحديث؛ وفيه فصلان)
الفصل الأوّل في أصل ذلك
والأصل فيه ما روي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أقطع تميما الدّاريّ أرضا بالشأم وكتب له بها كتابا.
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق فيه طرقا مختلفة، فروى بسنده إلى زياد بن فائد «1» ، عن أبيه فائد، عن زياد بن أبي هند، عن أبي هند الداريّ أنه قال: قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مكّة ونحن ستّة «2» نفر:
تيم بن أوس، ونعيم بن أوس أخوه، ويزيد بن قيس، وأبو هند بن عبد الله، وهو صاحب الحديث، وأخوه الطيّب بن عبد الله [كان اسمه برا] «3» فسماه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عبد الرحمن «4» ، وفاكه بن النعمان، فأسلمنا وسألنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقطعنا أرضا من أرض الشأم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «سلوا حيث شئتم» . فقال(13/125)
تميم: أرى أن نسأله بيت المقدس وكورها، فقال أبو هند: [هذا محلّ ملك العجم] «1» وكذلك يكون فيها ملك العرب وأخاف أن لا يتمّ لنا هذا، فقال تميم:
فنسأله بيت جبرين وكورتها، فقال أبو هند: هذا أكبر وأكبر. فقال: فأين ترى أن نسأله؟ فقال: أرى أن نسأله القرى التي تقع فيها تلّ مع آثار إبراهيم، فقال تميم: أصبت ووفّقت- قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لتميم: «أتحبّ أن تخبرني بما كنتم فيه أو أخبرك؟» - فقال تميم: بل تخبرنا يا رسول الله نزداد إيمانا- فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أردتم أمرا فأراد هذا غيره» ونعم الرأي رأى- قال: فدعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بقطعة جلد من أدم، فكتب لنا فيها كتابا نسخته:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
«هذا [كتاب] «2» ذكر [فيه] «3» ما وهب محمد رسول الله للدّارييّن؛ إذا أعطاه الله الأرض، وهب لهم بيت عينون وحبرون «4» [والمرطوم] «5» وبيت إبراهيم بمن فيهنّ لهم أبدا «6» «شهد عبّاس بن عبد المطّلب، وجهم «7» بن قيس، وشرحبيل بن حسنة، وكتب» .
قال: ثم دخل بالكتاب إلى منزله [فعالج] «8» في زاوية الرّقعة وغشّاه بشيء لا يعرف، وعقده من خارج الرّقعة بسير عقدتين، وخرج إلينا به مطويّا وهو يقول: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ(13/126)
وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ
«1» ثم قال: انصرفوا حتّى تسمعوا بي قد هاجرت. قال أبو هند:
فانصرفنا. فلما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة، قدمنا عليه فسألناه أن يجدّد لنا كتابا، فكتب لنا كتابا نسخته:
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» *
«هذا ما أنطى «2» محمد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لتميم الدّاريّ وأصحابه، إنّي أنطيتكم عينون وحبرون والرطوم وبيت إبراهيم برمّتهم وجميع ما فيهم نطيّة «3» بتّ، ونفّذت وسلّمت ذلك لهم ولأعقابهم من بعدهم أبد الأبد؛ فمن آذاهم فيها آذاه الله» .
«شهد أبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطّاب، وعثمان بن عفّان، وعليّ بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب» «4» فلما قبض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وولي أبو بكر وجّه الجنود إلى الشام، فكتب لنا كتابا نسخته:
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» *
«من أبي بكر الصدّيق إلى عبيدة بن الجرّاح «5» ؛ سلام عليك، فإنّي أحمد إليك الله الّذي لا إله إلّا هو» .
«أما بعد: امنع من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من الفساد في قرى(13/127)
الدّارييّن؛ وإن كان أهلها قد جلوا عنها وأراد الدّاريّون أن يزرعوها «1» فليزرعوها، فإذا رجع أهلها إليها فهي لهم وأحقّ بهم والسلام عليك» .
وروى بسنده أيضا إلى الزّهريّ وثور بن يزيد عن راشد بن سعد، قالا:
قام تميم الداريّ وهو تميم بن أوس، رجل من لخم، فقال يا رسول الله، إنّ لي جيرة من الرّوم بفلسطين لهم قرية يقال لها حبرى، وأخرى يقال لها بيت عينون: فإن فتح الله عليك الشأم فهبهما لي، قال: هما لك، قال: فاكتب لي بذلك، فكتب له:
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» *
«هذا كتاب من محمد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لتميم بن أوس الداريّ؛ إنّ له قرية حبرى «2» وبيت عينون، قريتها «3» كلّها، سهلها وجبلها، وماءها وحرّتها، وأنباطها وبقرها، ولعقبه من بعده، لا يحاقّه فيها أحد، ولا يلجه عليهم أحد بظلم. فمن ظلمهم أو أخذ من أحد منهم شيئا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» وكتب عليّ.
فلما ولي أبو بكر، كتب لهم كتابا نسخته:
«هذا كتاب من أبي بكر، أمين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي استخلف في الأرض بعده، كتبه للدّارييّن: أن لا تفسد عليهم مأثرتهم «4» قرية حبرى وبيت عينون، فمن كان يسمع ويطيع فلا يفسد منها شيئا، وليقم عمرو بن العاص «5» عليهما فليمنعهما من المفسدين» .(13/128)
وروى ابن مندة بسنده إلى عمرو بن حزم رضي الله عنه أنه قال: أقطع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم تميما الداريّ، وكتب:
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» *
«هذا كتاب من محمد رسول الله لتميم بن أوس الداريّ: إنّ له صهيون «1» قريتها كلّها، سهلها وجبلها، وماءها وكرومها، وأنباطها وورقها، ولعقبه من بعده، لا يحاقّه فيها أحد، ولا يدخل عليه بظلم؛ فمن أراد ظلمهم أو أخذه منهم فإنّ عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» .
قلت: وهذه الرّقعة التي كتب بها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم موجودة بأيدي التميميّين خدّام «2» حرم الخليل عليه السّلام إلى الآن؛ وكلّما نازعهم أحد أتوا بها إلى السلطان بالديار المصريّة ليقف عليها ويكفّ عنهم من يظلمهم. وقد أخبرني برؤيتها غير واحد؛ والأديم التي هي فيه قد خلق لطول الأمد.(13/129)
الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة السابعة
(في صورة ما يكتب في الإقطاعات؛ وفيه طرفان)
الطرف الأوّل (فيما كان يكتب من ذلك في الزّمن القديم)
وكانت الإقطاعات في الزّمن الأوّل قليلة؛ إنّما كانت تجبى الأموال إلى بيت المال ثم ينفق منه على الجند على ما تقدّم ذكره، وربّما أقطعوا القرية ونحوها وقرّروا على مقطعها شيئا يقوم به لبيت المال في كل سنة؛ ويسمّون ذلك المقاطعة.
ثم ما كان يكتب في ذلك على ضربين، كلاهما مفتتح بلفظ «هذا» :
الضرب الأوّل (ما كان يكتب عن الخلفاء؛ ولهم فيه طريقتان)
الطريقة الأولى (طريقة كتّاب الخلفاء العبّاسيّين ببغداد)
وكان طريقهم فيها أن يكتب «هذا كتاب من فلان (بلقب الخليفة) إنك ذكرت من أمر ضيعتك الفلانية كذا وكذا، وسألت أمير المؤمنين في كذا وكذا، وقد أجابك أمير المؤمنين إلى سؤالك في ذلك ونحوه» .
وهذه نسخة مقاطعة كتب بها عن المطيع لله الخليفة العبّاسي، من إنشاء أبي إسحاق الصابي «1» ؛ وهي:(13/130)
هذا كتاب من عبد الله الفضل، الإمام، المطيع لله، أمير المؤمنين، لفلان بن فلان.
إنّك رفعت قصّتك تذكر حال ضيعتك المعروفة بكذا وكذا، من رستاق كذا وكذا، من طسّوج كذا وكذا، وأنها أرض رقيقة قد توالى «1» عليها الخراب، وانغلق أكثرها بالسّدّ والدّغل، وأنّ مثلها لا [تتّسع يد الليالي للإنفاق عليه، وقلب بالانبله «2» واستخراج سدوده وقفل أرضه، ولا] يرغب الأكرة «3» في ازدراعه والمعاملة فيه. وإن أمير المؤمنين مقاطعك عن هذه الضّيعة على كذا وكذا من الورق المرسل في كلّ سنة، على استقبال سنة كذا وكذا الخراجيّة، مقاطعة مؤبّدة، ماضية مقرّرة نافذة، يستخرج مالها في أوّل المحرّم من كلّ سنة، ولا تتبع بنقض ولا يتأوّل فيها متأوّل، ولا تعترض في مستأنف الأيّام، [ما] «4» اجتهدت في عمارتها، وتكلّفت الإنفاق عليها واستخراج سدودها، وقفل «5» أراضيها واحتفار سواقيها، واجتلاب الأكرة إليها، وإطلاق البذور والتقاوى فيها، وإرغاب المزارعين بتخفيف طسوقها بحق الرقبة ومقاسماتها، وكان في ذلك توفير لحقّ بيت المال وصلاح ظاهر لا يختلّ.
وسألت أمير المؤمنين الأمر بذلك والتّقدّم به والإسجال لك به، وإثباته في ديوان السّواد ودواوين الحضرة وديوان الناحية، وتصييره ماضيا لك ولعقبك وأعقابهم، ومن لعلّ هذه الضّيعة أو شيئا منها ينتقل إليه ببيع أو ميراث أو صدقة أو غير ذلك من ضروب الانتقال.
وإنّ أمير المؤمنين بإيثاره الصّلاح «6» ، واعتماده أسبابه، ورغبته فيما عاد(13/131)
بالتوفير على بيت المال، والعمارة والتّرفيه للرّعية، أمرنا بالنظر فيما ذكرته، واستقصاء البحث عنه، ومعرفة وجه التدبير، وسبيل الحظّ فيه، والعمل بما يوافق الرّشد في جميعه، فرجع إلى الدّيوان في تعرّف ما حكيته من أحوال هذه الضّيعة، فأنفذ منه رجل مختار ثقة مأمون، من أهل الخبرة بأمور السّواد وأعمال الخراج: قد عرف أمير المؤمنين أمانته وعلمه ومعرفته، وأمر بالمصير إلى هذه الناحية، وجمع أهلها: من الأدلّاء والأكرة والمزارعين، وثقات الأمناء والمجاورين، والوقوف على هذه الأقرحة، وإيقاع المساحة عليها، وكشف أحوال عامرها وغامرها، والمسير على حدودها، وأخذ أقوالهم وآرائهم في وجه صلاح وعمارة قراح منها، وما يوجبه صواب التدبير فيما التمسته من المقاطعة بالمبلغ الذي بذلته. وذكرت أنه زائد على الارتفاع، والكتاب بجميع ذلك إلى الديوان، ليوقف عليه وينهى إلى أمير المؤمنين فينظر فيه: فما صحّ عنده منه أمضاه، وما رأى الاستظهار على نظر الناظر فيه استظهر فيما يرى منه، حتّى يقف على حقيقته، ويرسم [بما] «1» يعمل عليه.
فذكر ذلك الناظر أنه وقف على هذه الضّيعة، وعلى سائر أقرحتها وحدودها ونطاقها، بمشهد من أهل الخبرة بأحوالها: من ثقات الأدلّاء والمجاورين، والأكرة والمزارعين، والأمناء الذين يرجع إلى أقوالهم، ويعمل عليها، فوجد مساحة بطون الأقرحة «2» المزدرعة من جميعها، دون سواقيها وبرورها وتلالها وجنائبها ومستنقعاتها، وما لا يعتمد من أرضها، بالجريب «3» الهاشميّ الذي تمسح به الأرض في هذه الناحية كذا وكذا جريبا: منها جميع القراح المعروف بكذا وكذا، ومنها قراح كذا وكذا، ومنها الحصن والبيوت، والساحات، والقراحات، والخزّانات، ووجد حالها في الخراب والانسداد،(13/132)
وتعذّر «1» العمارة، والحاجة إلى عظيم المؤونة وفرط النّفقة «2» ، على ما حكيته وشكوته، ونظر في مقدار أصل هذه الخزّانات من هذه الضّيعة، وما يجب عليها، وكشف «3» الحال في ذلك.
ونظر أمير المؤمنين فيما رفعه هذا المؤتمن المنفذ من الديوان، واستظهر فيه بما رآه من الاستظهار، ووجب عنده من الاحتياط، فوجد ما رفعه صحيحا صحّة عرفها أمير المؤمنين وعلمها، وقامت في نفسه، وثبتت عنده، ورأى إيقاع المقاطعة التي التمستها على حقّ بيت المال في هذه الضّيعة، فقاطعك عنه في كلّ سنة هلاليّة، على استقبال سنة كذا وكذا الخراجية، على كذا وكذا: درهما صحاحا مرسلة بغير كسر ولا كعائه «4» (؟) ولا حقّ حرب ولا جهبذة «5» ولا محاسبة ولا زيادة، ولا شيء من جميع المؤن وسابق التواقيع «6» والرّسوم، تؤدّى في أوّل المحرّم من كلّ سنة، حسب ما تؤدّى المقاطعة، مقاطعة ماضية مؤبّدة، نافذة ثابتة، على مضيّ الأيام، ولزوم «7» الأعوام، لا تنقض ولا تفسخ، ولا تتبع، ولا يتأوّل فيها، ولا تغيّر «8» على أن يكون هذا المال: وهو من الورق المرسل كذا وكذا في كل سنة مؤدّى في بيت المال، ومصحّحا عند من تورد عليه في هذه الناحية أموال خراجهم ومقاطعاتهم وجباياتهم، لا يعتلّ فيها بآفة تلحق الغلّات، سماويّة ولا أرضيّة، ولا بتعطّل أرض، ولا بقصور عمارة، ولا نقصان ريع، ولا بانحطاط سعر، ولا بتأخّر قطر، ولا بشرب غلّة «9» ، ولا حرق(13/133)
ولا شرق «1» ، ولا بغير ذلك من الآفات بوجه من الوجوه، ولا بسبب من الأسباب؛ ولا يحتجّ في ذلك بحجّة يحتجّ بها [التّناء] «2» ، والمزارعون، وأرباب الخراج في الالتواء بما عليهم، وعلى أن لا يدخل عليك في هذه المقاطعة يد ماسح ولا مخمّن، ولا حازر، ولا مقدّم، ولا أمين، ولا حاظر، ولا ناظر، ولا متتبّع، ولا متعرّف لحال زراعة وعمارة، ولا كاشف لأمر زرع وغلّة، ماضيا ذلك لك ولعقبك من بعدك، وأعقابهم، وورثتك وورثتهم «3» ، أبدا ما تناسلوا، ولمن عسى أن تنتقل هذه الأقرحة أو شيء منها إليه بإرث، أو بيع، أو هبة، أو نحل، أو صدقة، أو وقف، أو مناقلة، أو إجارة، أو مهايأة «4» ، أو تمليك، أو إقرار، أو بغير ذلك من الأسباب التي تنتقل بها الأملاك من يد إلى يد، ولا ينقض ذلك ولا شيء منه، ولا يغيّر ولا يفسخ، ولا يزال ولا يبدّل، ولا يعقّب، ولا يعترض فيه بسبب زيادة عمارة، ولا ارتفاع سعر ولا وفور غلّة، ولا زكاء ريع، ولا إحياء موات، ولا اعتمال «5» معطّل، ولا عمارة خراب، ولا استخراج غامر، ولا صلاح شرب «6» ، ولا استحداث غلّات لم يجر الرسم باستحداثها وزراعتها، ولا يعدّ ولا يمسح ما عسى أن يغرس بهذه الأقرحة: من النّخل وأصناف الشّجر المعدود والكرم، ولا يتأوّل عليك فيما لعلّ أصل المساحة أن تزيد به فيما تعمّره وتستخرجه من الجبابين «7» والمستنقعات، ومواضع المشارب المستغنى عنها، إذ كان أمير المؤمنين قد عرف جميع ذلك، وجعل ما يجب على شيء منه عند وجوبه داخلا في هذه المقاطعة، وجاريا معها.(13/134)
على أنّك إن فصّلت شيئا من مال هذه المقاطعة على بعض هذه الأقرحة من جميع الضّيعة، وأفردت باقي مال المقاطعة بباقيها عند ملك ينتقل منها عن بدل، أو فعل ذلك غيرك ممّن جعل له في هذه المقاطعة ما جعل لك من ورثتك وورثتهم، وعقبك وأعقابهم، ومن لعلّ هذه الضّيعة أو شيئا من هذه الأقرحة ينتقل إليه بضرب من ضروب الانتقال، قبل ذلك التفصيل منكم عند الرّضا والاعتراف ممّن تفصلون باسمه، وتحيلون عليه، وعوملتم على ذلك، ولم يتأوّل عليكم في شيء منه.
وعلى أنك إن التمست أو التمس من يقوم مقامك ضرب منار على هذه الضيعة، تعرف به حدودها ورسومها وطرقها، ضرب ذلك المنار أيّ وقت التمسوه، ولم يمنعوا منه؛ وإن تأخّر ضرب المنار لم يتأوّل عليكم به، ولم يجعل علّة في هذه المقاطعة، إذ كانت شهرة هذه الضيعة وأقرحتها في أماكنها، ومعرفة مجاورها بما ذكر من تسميتها ومساحتها، تغني عن تحديدها أو تحديد شيء منها، وتقوم مقام المنار في إيضاح معالمها، والدّلالة على حدودها وحقوقها ورسومها. وقد سوّغك يا فلان بن فلان أمير المؤمنين وعقبك من بعدك وأعقابهم، وورثتك وورثتهم أبدا ما تناسلوا، ومن تنتقل هذه الأقرحة أو شيء منها إليه- جميع الفصل بين ما كان يلزم هذه الضّيعة وأقرحتها من حقّ بيت المال وتوابعه، على الوضيعة التامة، وعلى الشروط القديمة، وبين ما يلزمها على هذه المقاطعة، وجعل ذلك خارجا عن حاصل طسّوج «1» كذا وكذا، وعما يرفعه المؤتمنون، ويوافق عليه المتضمّنون، على غابر الدهر ومرّ السنين، وتعاقب الأيّام والشهور.
فلا تقبل في ذلك سعاية ساع، ولا قدح قادح، ولا قرف قارف، ولا إغراء مغر، ولا قول معنّف، ولا يرجع عليك فيما سوّغته ونظر لك به في حال من(13/135)
الأحوال، ولا يرجع في التقريرات، ولا تنقض بالمعاملات وردّها إلى قوام أصولها، ولا ضرب من ضروب الحجج والتأويلات، التي يتكلم عليها أهل العدل على سبيل الحكم والنظر، وأهل الجور على سبيل العدوان والظّلم، ولا تكلّف يا فلان بن فلان، ولا عقبك من بعدك، ولا ورثتك، ولا أعقابهم، ولا أحد ممن تخرج هذه الضّيعة أو هذه الأقرحة أو شيء منها إليه، على الوجوه والأسباب كلّها- إخراج توقيع، ولا كتاب مجدّد، ولا منشور بانفاذ شيء من ذلك، ولا إحضار سجلّ به، ولا إقامة حجّة فيه في وقت من الأوقات.
وعلى أن لا يلزمك ولا أحدا ممن يقوم مقامك في هذا المقاطعة مؤونة، ولا كلفة، ولا ضريبة، ولا زيادة، ولا تقسيط كراء منه، ولا مصلحة، ولا عامل بريد، ولا نفقة، ولا مؤونة جماعة، ولا خفارة، ولا غير ذلك. ولا يلزم بوجه من الوجوه في هذه المقاطعة زيادة على المبلغ المذكور المؤدّى في بيت المال في كلّ سنة خراجية، وهو من الورق على المرسل كذا وكذا، ولا تمنع من روز جهبذ «1» أو حجّة كاتب أو عامل بما لهذه المقاطعة إذا أدّيته أو أدّيت شيئا منه أوّلا أوّلا، حتّى يتكّمل الأداء، وتحصل في يدك البراءة في كلّ سنة بالوفاء بجميع المال بهذه المقاطعة.
وعلى أن تعاونوا على أحوال العمارة، وصلاح الشّرب، وتوفّر عليكم الضّيافة والحماية، والذّبّ والرّعاية.
ولا يتعقّب ما أمر به أمير المؤمنين أحد من ولاة العهود والأمراء والوزراء وأصحاب الدواوين، والكتّاب والعمّال والمشرفين، والضّمناء والمؤتمنين، وأصحاب الخراج والمعاون «2» ، وجميع طبقات المعاملين، وسائر صنوف(13/136)
المتصرّفين- يبطله أو يزيله عن جهته، أو ينقضه، أو يفسخه، أو يغيّره، أو يبدّله، أو يوجب عليك أو على عقبك من بعدك وأعقابهم وورثتهم أبدا ما تناسلوا، ومن تخرج هذه الضيعة أو شيء منها [إليه] «1» حجة على سائر طرق التأويلات؛ ولا يلزمك شيئا فيه، ولا يكلّفكم عوضا عن إمضائه، ولا ينظر في ذلك أحد منهم نظر تتبّع ولا كشف، ولا بحث، ولا فحص. فإن خالف أحد منهم ما أمر به أمير المؤمنين، أو تعرّض لكشف هذه المقاطعة أو مساحتها أو تخمينها، أو اعتبارها والزيادة في مبلغ مالها، أو ثبت في الدّواوين في وقت من الأوقات شيء يخالف ما رسمه أمير المؤمنين فيها: إما على طريق السّهو والغلط، أو العدوان والظّلم والعناد والقصد، فذلك كلّه مردود، وباطل، ومنفسخ، وغير جائز، ولا سائغ، ولا قادح في صحّة هذه المقاطعة وثبوتها ووجوبها، ولا معطّل لها، ولا مانع من تلافي السّهو واستدراك الغلط في ذلك، ولا مغيّر لشيء من شرائط هذه المقاطعة، ولا حجّة تقوم عليك يا فلان بن فلان، ولا على من يقوم في هذه المقاطعة بشيء من ذلك: إذ كان ما أمر به أمير المؤمنين من ذلك على وجه من وجوه الصلاح، وسبيل من سبله رآهما وأمضاهما، وقطع بهما كلّ اعتراض ودعوى، واحتجاج وقذف، وأزال معهما كلّ بحث وفحص، وتبعة وعلاقة؛ وإن كان من الشرائط فيما سلف من السنين وخلا من الأزمان ما هو أوكد وأتمّ وأحكم وأحوط لك، ولعقبك وورثتك، وأعقابهم وورثتهم، ومن تنتقل هذه الأقرحة أو شيء منها إليه «2» مما شرط في هذا الكتاب بحال، أوجبها لك الاحتياط على اختلاف مذاهب الفقهاء والكتّاب وغيرهم مما للخلفاء أن يفعلوه وتنفّذ فيه أمورهم، وحملت وحملوا عليه، وهو مضاف إلى شروط هذا الكتاب التي قد أتى عليها الذّكر، ودخلت تحت الحصر، ولم يكلّف أحد منكم إخراج أمر به.(13/137)
وإن التمست [أنت] «1» أو أحد من ورثتك وأعقابك، ومن عسى أن تنتقل هذه الضّيعة والأقرحة أو شيء منها إليه في وقت من الأوقات تجديد كتاب بذلك، ومكاتبة عامل أو مشرف، أو إخراج توقيع ومنشور إلى الديوان بمثل ما تضمّنه هذا الكتاب، أجبتم إليه ولم تمنعوا منه.
وأمر أمير المؤمنين بإثبات هذا الكتاب في الدّواوين، وإقراره في يدك، حجّة لك ولعقبك من بعدك وأعقابهم، وورثتك وورثتهم، ووثيقة في أيديكم، وفي يد من عسى أن تنتقل هذه الضيعة أو الأقرحة أو شيء منها إليه، بضرب من ضروب الانتقال التي ذكرت في هذا الكتاب والتي لم تذكر فيه، وأن لا تكلّفوا إيراد [حجة] »
من بعده، ولا يتأوّل عليكم متأوّل فيه.
فمن وقف على هذا الكتاب وقرأه أو قريء عليه: من جميع الأمراء، وولاة العهود والوزراء، والعمّال، والمشرفين، والمتصرّفين، والناظرين «3» في أمور الخراج، وأصحاب السيوف على اختلاف طبقاتهم، وتباين منازلهم وأعمالهم، فليمتثل ما أمر به أمير المؤمنين ولينفّذ لفلان بن فلان وورثته وورثتهم، وعقبه وأعقابهم، ولمن تنتقل هذه الأقرحة أو شيء منها إليه- هذه المقاطعة، من غير مراجعة فيها، ولا استثمار عليها، ولا تكليف [له] «4» ولا لأحد ممن يقوم بأمرها إيراد حجّة بعد هذا الكتاب بها. وليعمل بمثل ذلك من وقف على نسخة من نسخ هذا الكتاب في ديوان من دواوين الحضرة، وأعمالها أو الناحية، وليقرّ في يد فلان بن فلان أو يد من يورده ويحتجّ به ممن يقوم مقامه، إن شاء الله تعالى.(13/138)
الطريقة الثانية (ما كان يكتب في الإقطاعات عن الخلفاء الفاطميين بالديار المصرية)
وهو على نحو مما كان يكتب عن خلفاء بني العبّاس.
قال في «موادّ البيان» : والرسم فيها أن يكتب:
أمير المؤمنين بما وهبه الله تعالى: من شرف الأعراق، وكرم الأخلاق، ومنحه من علوّ الشان، وارتفاع السّلطان، يقتدي بإذن الله سبحانه في إفاضة إنعامه وبرّه، على الناهضين بحقوق شكره، ويوقع أياديه عند من يقوم بحقّها، ويتألّفها بحمدها وشكرها، ولا ينفّرها ويوحشها بكفرها وجحدها، ويتحرّى بعوارفه المغارس التي تنجب شجرتها، وتحلولي ثمرتها؛ والله تعالى نسأله أن يوفّقه في مقاصده، ويريه مخايل الخير في مصادره وموارده، ويعينه على إحسان يفيضه ويسبغه، وامتنان يضفيه ويفرغه.
ولما كان فلان بن فلان ممن غرس أمير المؤمنين [إحسانه] «1» لديه فأثمر، وأولاه طوله فشكر، ورآه مستقلّا بالصّنيعة، حافظا للوديعة، مقابلا العارفة بالإخلاص في الطاعة، مستدرّا بالانقياد والتّباعة، أخلاف الفضل والنّعمة (ويوصف الرجل المقطع بما تقتضيه منزلته) ثم يقال: رأى أمير المؤمنين مضاعفة أياديه لديه، ومواصلة إنعامه إليه، وإجابة سؤاله، وإنالته أقاصي آماله، وتنويله ما نحت إليه أمانته، وطمحت نحوه راحته، وإسعافه بما رغب فيه من إقطاعه الناحية الفلانية، أو الدار أو الأرض، أو تسويغه ما يجب عليه من خراج ملكه، وما يجري هذا المجرى. ثم يقال: ثقة بأنّ الإحسان مغروس منه في أكرم مغرس وأزكاه، وأحقّ منزل بالتنويل وأولاه، وخرج أمره بإنشاء هذا المنشور بأنه قد أقطعه الناحية الفلانية، لاستقبال سنة كذا بحقوقها وحدودها، وأرضها العامرة ووجوه جباياتها، (وينص على كلّ حق من حقوقها، وحدّ من(13/139)
حدودها) فإذا استوفى القول عليه، قال: إنعاما عليه، وبسطا لأمله، وإبانة عن خطره.
فليعلم ذلك كافّة الولاة والنّظّار والمستخدمين من أمير المؤمنين ورسمه، ليعلموا عليه وبحسبه، وليحذروا من تجاوزه وتعدّيه، وليقرّ بيده بعد العمل بما نصّ فيه، إن شاء الله تعالى.
قلت: والتحقيق أنّ لهم في ذلك أساليب: منها ما يفتتح بلفظ «هذا» والمعروف أنه كان يسمّى ما يكتب في الإقطاعات عندهم سجلّات كالذي يكتب في الولايات.
وهذه نسخة منشور من مناشيرهم، من إنشاء القاضي الفاضل لولد من أولاد الخليفة اسمه حسن ولقبه حسام الدين، مفتتح بلفظ «هذا» ، وهي:
هذا كتاب من أمير المؤمنين لولده الذي جلّ قدرا أن يسامى، وقرّ في ناظر الإيمان نورا وسلّته يد الله حساما، وحسن به الزمان فكان وجوده في عطفه حلية والغرّة ابتساما، وأضاءت وجوه السعادة لمنحها «1» بكريم اسمه إتّساما، وتهيّأت الأقدار لأن تجري على نقش خاتم إرادته امتثالا وارتساما- الأمير فلان، جريا على عادة أمير المؤمنين التي أوضح الله فيها إشراق العوائد، واتّباعا لسنّة آبائه التي هي سنن المكارم والمراشد، وارتفادا مع ارتياح [إلى موارد] «2» كرمه التي هي موارد لا يحلّأ «3» عنها وارد، واختصاصا بفضله لمن كفاه من الشّرف أنّه له والد، وعموما بما يسوقه الله على يده من أرزاق العباد، وإنعاما جعل نجله طريقه إلى أن يفيض على كلّ حاضر وباد.(13/140)
وأمير المؤمنين بحر ينتشيء من آله السّحاب المنزّل، ويمدّهم جوادّ العطاء الأجزل- أمر بكتبه لما عرضت لمقامه رقعة بكذا وكذا، وخرج أمر أمير المؤمنين إلى وليّه وناصره، وأمينه على ما استأمنه الله عليه وموازره، السيد الأجلّ الذي لم تزل آراؤه ضوامن للمصالح كوافل، وشهب تدبيره من سماء التوفيق غير غاربة ولا أوافل، وخدمه لأمير المؤمنين لا تقف عند الفرائض حتّى تتخطّى إلى النّوافل، وجاد فأخلاف النّعم به حوافل، وأقبل فأحزاب الخلاف به جوافل، وأيقظ عيونا من التدبير على الأيّام لا تدّعي الأيّام أنها غوافل- بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بإقطاع ناحية كذا بحدّها، والمعتاد من وصفها المعاد، وما يدلّ عليه الديوان من عبرتها «1» ، ويتحصّل له من عينها وغلّتها، إلى الديوان الفلانيّ:
إقطاعا لا ينقطع حكمه، وإحسانا لا يعفو رسمه، وتسويغا لا يطيش سهمه، وتكميلا لا يمحى وسمه، وتخويلا لا يثنى عزمه، يتصرّف فيه هذا الديوان ويستبدّ به مالكا، ويفاوض فيه مشاركا، ويزرعه متعمّلا ومضمّنا، ويستثمره عادلا في أهله محسنا، لا تتعقّبه الدواوين بتأوّل ما، ولا الأحوال بتحوّل ما، ولا الأيّام بتقلّبها، ولا الأغراض بتعقّبها، ولا اختلاف الأيدي بتنقّلها، ولا تعترضه الأحكام بتأوّلها.
وقد أوجب أمير المؤمنين على كلّ وال أن يتحامى هذه الناحية بضرره، ويقصدها بجميل أثره، ويحيطها بحسن نظره، ويتّقي فيها ركوب عواقب غرره، ويجتنب فيها مطالب ورده وصدره، ونزول مستقرّه، ولا يمكّن منها مستخدما، ولا يكلّف أهلها مغرما، ويجريها مجرى ما هو من الباطل حمى، ما لم يقل فيها بميل، أو يخف من سبلها سبيل؛ وله أن يتطلّب الجاني بعينه، ويقتضيه بأداء ما استوجب من دينه، وأخذه مسوقا بجرائم ذنبه إلى موقف حينه؛ فمن قرأه فليعمل به.(13/141)
وهذه نسخة سجلّ بإقطاع، عن العاضد آخر خلفاء الفاطميين أيضا لبعض أمراء الدولة، من إنشاء القاضي الفاضل أيضا؛ وهي:
أمير المؤمنين- وإن عمّ جوده كما عمّ فضل وجوده، وسار كثير إحسانه وبرّه في سهول المعمور ونجوده، ورحم الله الخلق بما استأثره دون الخلائق من قربه في سجوده- فإنه يخص بني القربى من جدّه، والضاربين معه في أنصباء مجده: من سلالته الزكيّة، وطينته المسكيّة، وأعراقه الشريفة، وأنسابه المنيفة؛ فكل غرّاء لا تخفى أوضاحها، إلا إذا فاضت أنوارهم، وكل عذراء لا يعهد إسماحها «1» ، إلا إذا راضت أخطارهم.
ولمّا عرضت بحضرته ورقة من ولده الأمير فلان الذي أقرّ الله به عين الإسلام، وأنجز به دين الأيّام، وأطلعه بدرا في سماء الحسب، وجلا بأنواره ظلام النّوب، وامتاح «2» من منبع النبوّة وارتوى، واستولى على خصائص الفضل الجليّ واحتوى، وأعدّ الله لسعد الأمّة ذا مرّة «3» شديد القوى، وأدنى الاستحقاق من الغايات حتّى تأهّب لأن يكون بالواد المقدّس طوى، وأضحت كافّة المؤمنين مؤمّنين على مكارمه، وأمست كافّة الخائفين خائفين من سيل أنفسهم على صوارمه؛ وآراؤه أعلى أن يضاهيها [رأي] «4» وإن جلّ خطره، وأعطيته أرقى أن يدانيها عطاء وإن حسن في الأحوال أثره؛ وإن جلّ خطره؛ وأعطيته أرقى أن يدانيها عطاء وإن حسن في الأحوال أثره؛ وإنما ينبع بملكه منها ما راق بعين اختياره وإيثاره، وسعد بالانتظام في سلك جوده الذي يعرّضه أبدا لانتثاره؛ وتضمّنت هذه الرّقعة الرغبة في كذا وكذا، وذكر الديوان كذا.
خرج أمر أمير المؤمنين إلى فتاه وناصره، ووزيره ومظاهره، السيد الأجلّ الذي انتصر الله به لأمير المؤمنين من أعدائه، وحسم بحسامه ما أعضل من(13/142)
عارض الخطب ودائه، ونطقت بفضله ألسن حسّاده فضلا عن ألسنة أودّائه، وسخت الملوك بأنفسها أن تكون فداء له إذا حوّزها المجد في فدائه، الذي ذخره الله لأمير المؤمنين من آدم ذخيرة، وجمع له في طاعته بين إيقاظ البصيرة وإخلاص السّريرة، وفضّلت أيامه على أيّام أوليائه بما حلّاها من جميل الأحدوثة وحسن السّيرة، وسهّل عليه التّقوّي في المنافع والعكوف على المصالح، وأجنى من أقلامه ورماحه ثمرات النّصائح، وفاز بما حاز من ذخائر العمل الصالح بالمتجر الرّابح، وألهمه من حراسة قانون الملك ما قضى بحفظ نظامه، ولم ينصرف له عزم إلا إلى ما صرف إليه رضا ربّه ورضا إمامه.
ونفذت أوامره بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السّجل إلى الديوان الفلانيّ بإقطاعه الناحية وما معها منسوبا إليها وداخلا فيها لاستقبال [سنة] كذا، منحة سائغة، لا يعترضها التكدير، ونعمة سابغة، لا ينقضها التّغيير، وحباء موصول الأسباب، وعطاء بغير منّ ولا حساب، يتحكّم فيه على قضايا الاختيار، وتنفذ فيه أوامره الميمونة الإيراد والإصدار.
ومنها- أن يفتتح السّجلّ بلفظ: «إنّ أمير المؤمنين» ويذكر من وصفه ما سنح له، ثم يذكر حكم الإقطاع، وكيفية خروجه.
وهذه نسخة سجلّ من ذلك كتب به لبعض وزرائهم، من إنشاء القاضي الفاضل؛ وهي:
إنّ أمير المؤمنين لما أطلق الله يد برّه من أميال تبدو على الأحوال شواهد آثارها، وتروض الآمال سحائبها بسائب مدرارها، وتتنزّه مواعدها عن إنظارها، ومواردها عن أن يؤتى بأنظارها، ويقوم بناصرها فيكون أقوى أعوانها على الشكر وأنصارها، وألهمه من مواصلة المنن التي لا تنقطع روايتها ولا تتناهى مراتبها، وموالاة المنح التي تهبّ على جناب الخير شمائلها وجنائبها، وتلتقي في مسارح المدائح غرائبها ورغائبها، وحبّبه إليه من انتهاز فرص المكارم في الأكارم، وابتداء المعروف وابتدار مغانمه التي لا تعقبها مغارم- يولي آلاءه من يجزي عن(13/143)
حسنتها عشرا، ويعقل عقائلها عند من يسوق إليها من استحقاقها مهرا، ويقابل بالإحسان إحسان أجلّ أوليائه قدرا، ويضاعف الامتنان عند من لم يضعف في موازرته أزرا، ويودع ودائع جوده في المغارس الجيّدة بالزّكاء والنّماء، ويزكّي أصول معروفه لمن يفتخر بالانضواء إلى موالاته والانتماء، ويستكرم مستقرّ مننه وآلائه، ويحسن إلى الإحسان ثم يبتهج بموالاته لديه وإيلائه.
ولما كان السيد الأجلّ أمير الجيوش آية نصر أمير المؤمنين التي انبرت فما تبارى، ونعمة الله التي أشرقت أنوارها وأورت فما تتوارى، وسيف حقّه الذي لا تكلّ مقاطعه، وبحر جوده الذي لا تكدّر مشارعه، والمستقلّ من الدّفاع عن حوزته بما عجزت عنه الأمم، والعليّ على مقدار الأقدار إذا تفاوتت قيم الهمم، والكاشف الجلّى عن دولته وقد عظمت مظالم الظّلم، والجامع على المماراة والمواراة قلب المؤالف والمخالف ولسان العرب والعجم، والمتبوّيء من الملك ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، والمتوقّل «1» من الفخر محلّا لا يطمع النّجم فيه من بعده، والمغير على الحرب العوان بقبليّة البكر، والمنفّذ بمبتدع العزمات ما لولا وقوعه لما وقع [في] «2» الفكر، والقاضي للدّين بحدّ سيوفه مطلول حقّه وممطول دينه، والقائم لأمير المؤمنين مقاما قام به أبوه في نصرة جدّه صلى الله عليهما يوم بدره ويوم حنينه.
ولقد أظهر الله آيات نضارة نظره على الأرض فأخذت زخرفها وازّينت، وابتدت أيديه الجنى فتظاهرت أدلّتها على دولته وتبينت، واستلأمت «3» المملكة من تدبيره بجنّة تتحاماها الأقدار وهي سهام، ووثقت من عنايته إلى هجر الخطوب بما يعيد نارها وهي برد وسلام؛ وما ضرّها مع تيقّظ جفنه أن يهجع في جفنه طرف الحسام، ولا احتاجت وقلبه يساور جسيم أمورها أن تتعب في وأدها(13/144)
الأجسام؛ فأيّ خير يولى- وإن عظم- يناهض استحقاقه؟ وأيّ غاية وإن جلّت تروم نيل مدى مسعاه ولحاقه؟؛ وأنّى لأعراض الدنيا أن تهدي لجوهره عرضا، ولا تبلغ مبالغ النعم الجلائل أن تعتدّ اليوم من مساعيه عوضا؟، وهل لأمير المؤمنين أعمال في مجازاته عن قيامه بغمد رأيه ومجرّد عضبه، ودفاعه عن حوزة عدّته وذبّه، وكرّه في مواقف كربه، وكفايته للأمة في سلمه وحربه، وإيالته التي خصّ الأرض منها فضل خصبه، إلا أن يذكره بقلبه عند ربّه، وأن يرفع الحجب عند كلّ سؤال كما يرفع الله عند دعائه مسدل حجبه؟.
وعرضت بحضرة أمير المؤمنين مطالعة منه عن خبر باسمه الكريم مقصور على الرّغبة في خروج الأمر بتمليك جهته التي تقوم عدّتها عدّة ألف، مستخرجا بها الخطّ الشريف بإمضاء التمليك وإجازته، وتسليم الملك وحيازته.
فتلقّى أمير المؤمنين هذه الرغبة بإفراز جرى فيه من الأوامر على أفضل سنن، وتقبّلها منه بقبول حسن، وتهللت عليه لسؤاله مصابيح الطّلاقة والبشر، ونفذت «1» مواقع توقيعه ما لا تبلغه مواقع ماء المزن في البلد القفر، وشمله خطّه الشريف بما نسخته: خرج أمره إليه بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السّجلّ بتمليك الجهة المقدّم ذكرها بجميع حدودها وحقوقها، وظاهرها وباطنها، وأعاليها وأسافلها، وكلّ حقّ لها، داخل فيها وخارج عنها، وما هو معروف بها ومنسوب إليها، تمليكا مخلّدا، وإنعاما مؤبّدا، وحقّا مؤكّدا، يجري على الأصل والفرع، ويحكم أحكام الكرم والشّرع، ماضيا لا تتعقّب حدوده بفسخ، جائزا لا تتجاوز عقوده بنسخ، موصولة أسبابه فلا تتطرّق أسباب التغيير إليها، موروثا حتّى يرث الله الأرض ومن عليها.
فليعتمد كافّة ولاة الدّواوين، ومن يليهم من المتصرّفين، حمل الأمر على موجبه، والحذر من تعدّيه وتعقّبه، وامتثال ما رسمه أمير المؤمنين وحدّه،(13/145)
والوقوف عند أمره الذي عدم من مال فردّه، وليقرّ في يد الديوان حجّة لمودعه بعد نسخه في الدواوين بالحضرة، إن شاء الله تعالى.
الضرب الثاني (مما كان يكتب في الإقطاعات في الزمن المتقدّم ما كان يكتب عن ملوك الشرق القائمين على خلفاء بني العبّاس)
وطريقتهم فيه أن يكتب في الابتداء: «هذا كتاب» ونحو ذلك، كما كان يكتب عن خلفاء بني العبّاس في ذلك، ثم يذكر عرض أمره على الخليفة، واستكشاف خبر ما تقع عليه المقاطعة من الدواوين، وموافقة قولهم بما ذكره في رقعته، ويذكر أنّ أمير المؤمنين وذلك السّلطان أمضيا أمر تلك المقاطعة وقرّراه.
ثم ربّما وقع تسويغ ما وجب لبيت المال لصاحب المقاطعة زيادة عليها ليكون في المعنى أنّه باشرها.
وهذه نسخة مقاطعة بضيعة كتب بها عن صمصام الدولة [بن عضد الدولة] «1» بن ركن الدولة بن بويه؛ وهي:
هذا كتاب من صمصام الدولة، وشمس الملّة، أبي كاليجار، بن عضد الدولة وتاج الملة أبي شجاع، بن ركن الدّولة أبي عليّ مولى أمير المؤمنين، لمحمد بن عبد الله بن شهرام.
إنك ذكرت حال ضياعك المعروفة برسدولا والبدريّة من طسّوج نهر الملك «2» ، والحظائر والحصّة بنهر قلّا من طسّوج قطربّل «3» ، وما لحقها: من(13/146)
اختلال الحال ونقصان الارتفاع، [واندثار] «1» المشارب، واستئجام «2» المزارع، وطمع المجاورين، وضعف الأكرة والمزارعين، وظلم العمّال والمتصرّفين، لتطاول غيباتك عنها، وانقطاعك بالأسفار المتصلة عن استيفاء حقوقها، وإقامة عماراتها، والإنفاق على مصالحها، والانتصاف من المجاورين لها والمعاملين فيها؛ ووصفت ما تحتاج إلى تكلّفه من الجملة الوافرة: لاحتفار أنهارها، وإحياء مواتها، واعتمال متعطّلها، وإعادة رسومها، وإطلاق البذور فيها، وابتياع العوامل لها، واختلاف الأكرة إليها.
وسألت أن تقاطع عن حقّ بيت المال فيها وجميع توابعه، وسائر لزومه، على ثلاثة آلاف درهم في كلّ سنة، معونة لك على عمارتها، وتمكينا من إعادتها إلى أفضل أحوالها، وتوسعة عليك في المعيشة منها.
فأنهينا ذلك إلى أمير المؤمنين الطائع لله، وأفضنا بحضرته فيما أنت عليه من الخلائق الحميدة، والطرائق الرّشيدة، وما لك من الخدمات القديمة والحديثة، الموجبة لأن تلحق بنظرائك من الخدم المختصّين، والحواشي المستخلصين، بإجابتك إلى ما سألت، وإسعافك بما التمست، فخرج الأمر- لا زال عاليا- بالرجوع في ذلك إلى كتّاب الدواوين، وعمّال هذه النّواحي، وتعرّف ما عندهم فيه مما يعود بالصّلاح، ويدعو إلى الاحتياط. فرجع إليهم فيما ذكرته وحكيته، فصدّقوك في جميعه، وشهدوا لك بصحّته، وتردّد بينك وبينهم خطاب في الارتفاع الوافر القديم، وما توجبه العبر لعدّة سنين، إلى أن استقرّ الأمر على أن توقّعت على هذه الضّياع المسمّاة في هذا الكتاب خمسة آلاف درهم ورقا مرسلا بغير كسر، ولا كفاية، ولا حقّ خزن، ولا جهبذة ولا محاسبة، ولا غير ذلك من المؤن كلّها.(13/147)
ثم أنهينا ذلك إلى أمير المؤمنين الطائع لله، فأمر- زاد الله أمره علوّا- بإمضاء ذلك، على أن يكون هذا المال، وهو خمسة آلاف درهم مؤدّى في الوقت الذي تفتتح فيه المقاطعات: وهو أوّل يوم من المحرّم في كلّ سنة، على استقبال السنة الجارية، سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة الخراجية، عن الخراج في الغلّات الشّتويّة والصّيفية، والمحدثة والمبكّرة الجارية على المساحة، والحاصل من الغلّات الجارية على المقاسمة والجوالي، والمراعي، والأرحاء «1» ، وسائر أبواب المال، ووجوه الجبايات وتقسيط المصالح، والحماية، مع ما يلزم ذلك من التوابع كلّها: قليلها وكثيرها، والرسوم الثابتة في الدواوين بأسرها، وعن كلّ ما أحدث ويحدث بعدها على زيادة الارتفاع ونقصانه، وتصرّف جميع حالاته: مقاطعة مقرّرة مؤبّدة، ممضاة مخلّدة، على مرور الليالي والأيّام، وتعاقب السنين والأعوام، لك ولولدك، وعقبك من بعدك، ومن عسى أن تنتقل هذه الضياع إليه بميراث، أو بيع، أو هبة، أو تمليك، أو مناقلة، أو وقف، أو إجارة، أو مباذرة، أو مزارعة أو غير ذلك من جميع الوجوه التي تنتقل الأملاك عليها، وتجري بين الناس المعاملات فيها، لا يفسخ ذلك ولا يغيّر، ولا ينقض ولا يبدّل، ولا يزال عن سبيله، ولا يحال عن جهته، ولا يعترض عليك ولا على أحد من الناس فيه ولا في شيء منه، ولا يتأوّل عليك ولا على غيرك فيه، بزيادة عمارة، ولا زكاء ريع، ولا غلوّ سعر، ولا إصلاح شرب، ولا اعتمال خراب، ولا إحياء موات، ولا بغير ذلك من سائر أسباب وفور الارتفاع ودرور الاستغلال.
وحظر مولانا أمير المؤمنين الطائع لله، وحظرنا بحظره على كتّاب الدّواوين: أصولها وأزمّتها، وعمّال النواحي، والمشرفين عليها، وجميع المتصرّفين على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم، الاعتراض عليك في هذه المقاطعة، أو إيقاع ثمن أو مساحة على ما كان منها جاريا على الخراج، أو تقرير(13/148)
أو حزر «1» ، أو قسمة على ما كان منها جاريا على المقاسمة، أو أن تدخلها يد مع يدك لناظر أو حاظر أو مستظهر أو معتبر أو متصفّح، إذ كان ما يظهر منها من الفضل على مرور السنين مسوّغا لك، لا تطالب به، ولا بمرفق عنه، ولا على ما ظهر عليه وعلى شيء منه، ولا يلتمس منك تجديد كتاب، ولا إحضار حجّة، ولا توقيع به ولا منشور بعد هذا الكتاب: إذ قد صار ذلك لك وفي يدك بهذه المقاطعة، وصار ما يجب من الفضل بين ما توجبه المسائح والمقاسمات وسائر وجوه الجبايات، وبين مال هذه المقاطعة المحدودة المذكورة في هذا الكتاب خارجا عمّا عليه العمّال، ويرفعه منهم المؤتمنون، ويوافق عليه المتضمّنون، على مرور الأيّام والشهور، وتعاقب السنين والدّهور؛ فلا تقبل في ذلك نصيحة ناصح، ولا توفير موفّر، ولا سعاية ساع، ولا قذف قاذف، ولا طعن طاعن.
ولا يلزم عن إمضاء هذه المقاطعة مؤونة، ولا كلفة، ولا مصانعة، ولا مصالحة، ولا ضريبة، ولا تقسيط، ولا عمل بريد، ولا مصلحة من المصالح السلطانية، ولا حقّ حماية، ولا خفارة، ولا غير ذلك من جميع الأسباب التي يتطرّق بها عليك، ولا [على من] «2» بعدك، لزيادة على مالها المحصور المذكور في هذا الكتاب، ولا حقّ خزن ولا جهبذة، ولا محاسبة ولا مؤونة ولا زيادة.
ومتى استخرج منك شيء أو من أحد من أنسبائك، أو ممّن عسى أن تنتقل إليه هذه المقاطعة بشيء زائد عليها على سبيل الظلم والتّأوّل والتعنّت لم يكن ذلك فاسخا لعقدها، ولا مزيلا لأمرها، ولا قادحا في صحّتها، وكان لك أن تطالب بردّ المأخوذ زائدا على مالها، وكان على من ينظر في الأمور إنصافك في ذلك وردّه عليك، وكانت المقاطعة المذكورة ممضاة على تصرّف الأحوال كلّها.
ثم إنّا رأينا بعد ما أمضاه مولانا أمير المؤمنين، وأمضيناه لك من ذلك وتمامه وإحكامه ووجوبه وثبوته، أن سوّغناك هذه الخمسة آلاف درهم المؤدّاة(13/149)
عن هذه المقاطعة على استقبال سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة الخراجية، تسويغا مؤبّدا، ماضيا على مرّ السنين: ليكون في ذلك بعض العوض عن باقي أملاكك وضياعك التي قبضت عنك، وبعض المعونة فيما أنت متصرّف عليه من خدمتنا، ومتردّد فيه من مهمّات أمورنا؛ وأوجبنا لك في هذا التّسويغ جميع الشروط التي تشترط في مثله، مما ثبت في هذا الكتاب ومما لم يثبت فيه:
لينحسم عنك تتبّع المتتبّعين، وتعقّب المتعقبين، وتأوّل المتأوّلين على الوجوه والأسباب.
وأمرنا- متى وقع على مال هذا التّسويغ (وهو خمسة آلاف درهم) ارتجاع، بحدث يحدث عليك، أو بتعويض تعوّض عنه، أو بحال من الأحوال التي توجب ارتجاعه- أن يكون أصل المقاطعة ممضى لك، ورسمها باقيا عليك وعلى من تنتقل هذه الضياع إليه بعدك، على ما خرج به أمر أمير المؤمنين في ذلك، من غير نقض ولا تأوّل فيه، ولا تغيير لرسم من رسومه، ولا تجاوز لحدّ من حدوده، على كلّ وجه وسبب.
فليعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين الطائع لله وأمره، ومن امتثالنا وإمضائنا، وليعمل عليه جماعة من وقف على هذا الكتاب: من طبقات الكتّاب، والعمّال، والمشرفين، والمتصرفين في أعمال الخراج والحماية والمصالح، وغيرهم. وليحذروا من مخالفته، وليمضوا بأسرهم لمحمد بن عبد الله بن شهرام ومن بعده جميعه، وليحملوه على ما يوجبه. وليقرّ هذا الكتاب في يده وأيديهم بعده حجة له ولهم، ولينسخ في جميع الدواوين، إن شاء الله تعالى.
الطريقة الثانية (مما كان يكتب في الإقطاعات في الزمن المتقدّم- ما كان يكتب عن الملوك الأيوبيّة بالديار المصرية)
وكانوا يسمّون ما يكتب فيها تواقيع؛ ولهم فيه أساليب:(13/150)
الأسلوب الأوّل (أن يفتتح التوقيع المكتتب بالإقطاع بخطبة مفتتحة ب «الحمد لله» )
وكان من عادة خطبهم أن يؤتى فيها بعد التحميد بالصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلم، ثم يؤتى ببعديّة، ثم يذكر ما سنح من حال السلطان، ثم يوصف صاحب الإقطاع بما تقتضيه حاله من صفات المدح، ويرتّب على ذلك استحقاقه للإقطاع. وقد كان من عادتهم أنهم يأتون بوصية على ذلك في آخره.
وهذه نسخة توقيع على هذا الأسلوب، كتب به عن السلطان صلاح الدين «يوسف بن أيوب» رحمه الله، لأخيه العادل «أبي بكر» بإقطاع بالديار المصرية، وبلاد الشام، وبلاد الجزيرة، وديار بكر، في سنة ثمانين وخمسمائة، بعد الانفصال من حرب الكفار بعكّا وعقد الهدنة معهم؛ وهي:
الحمد لله الذي جعل أيّامنا حسانا، وأعلى لنا يدا ولسانا، وأطاب محتدنا أوراقا وأغصانا، ورفع لمجدنا لواء ولجدّنا برهانا، وحقّق فينا قوله: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً
«1» نحمده على سبوغ نعمته، ونسأله أن يجعلنا من الداخلين في رحمته.
ثم نصلّي على رسوله محمد الذي أيّده بحكمته، وعصمه من الناس بعصمته، وأخرج به كلّ قلب من ظلمته، وعلى آله وأصحابه الذين خلفوه فأحسنوا الخلافة في أمّته.
أما بعد، فإن فروع الشّجرة يأوي بعضها إلى بعض لمكان قربه، ويؤثر بعضها بعضا من فضل شربه؛ ونحن أهل بيت عرف منا وفاق القلوب ودّا، وإيثار الأيدي رفدا؛ وذلك وإن كان من الحسنات التي يكثر فيها إثبات الأقلام، فإنه من مصالح الملك التي دلّت عليها تجارب الأيّام؛ وكلا هذين الأمرين مشكورة مذاهبه، محمودة عواقبه، مرفوعة على رؤوس الأشهاد مناقبه؛ وما من أحد من(13/151)
أدانينا إلا وقد وسمناه بعوارف يختال في ملابسها، ويسرّ في كلّ حين بزفاف عرائسها، ولم نرض في بلّ أرحامهم بمواصلة سلامها دون مواصلة برّها وإدناء مجالسها؛ ولإخوتنا من ذلك أوفر الأقسام، كما أنّ لهم منّا رحما هو أقرب الأرحام؛ وقد أمرنا بتجديد العارفة لأخينا الملك العادل، الأجلّ، السيد، الكبير، سيف الدين، ناصر الإسلام «أبي بكر» أبقاه الله. ولو لم نفعل ذلك قضاء لحقّ إخائه الذي ترفّ عليه حواني الأضالع، لفعلناه جزاء لذائع خدمه التي هي نعم الذّرائع؛ فهو في لزوم آداب الخدمة بعيد وقف منها على قدم الاجتهاد؛ وفي لحمة شوابك النّسب قريب وصل حرمة نسبه بحرمة الوداد؛ وعنده من الغناء ما يحكم لآماله ببسطة الخيار، ويرفع مكانته عن مكانة الأشباه والأنظار، ويجعله شريكا في الملك، والشريك مساو في النقض والإمرار؛ فكم من موقف وقفه في خدمتنا فجعل وعره سهلا، وفاز فيه بإرضائنا وبفضيلة التقدّم فانقلب بالمحبّذين إرضاء وفضلا؛ ويكفي من ذلك ما أبلاه في لقاء العدوّ الكافر الذي استشرى في هياجه، وتمادى في لجاجه، ونزل على ساحل البحر فأطلّ عليه بمثل أمواجه، وقال: لا براح، دون استفتاح؛ الأمر الذي عسرت معالجة رتاجه، وتلك وقائع استضأنا فيها برأيه الذي ينوب مناب الكمين في مضمره، وسيفه الذي ينسب من الاسم إلى أبيضه ومن اللّون إلى أخضره؛ ولقد استغنينا عنهما بنضرة لقبه الذي تولّت يد الله طبع فضله، وعنيت يد السّيادة برونق صقله؛ فهو يفري قلوب الأعداء قبل الأجساد، ويسري إليهم من غير حامل لمناط النّجاد، ويستقصي في استلابهم حتّى ينتزع من عيونهم لذّة الرقاد؛ وليس للحديد جوهر معدنه المستخرج من زكاء الحسب، وإذا استنجد قيل له: يا ذا المعالي! كما يقال لسميّه: يا ذا الشّطب؛ ولو أخذنا في شرح مناقبه لظلّ القلم واقفا على أعواد منبره، وامتدّ شأو القول فيه فلم ينته مورده إلى مصدره؛ فمهما خوّلناه من العطايا فإنه يسير في جنب غنائه، ومهما أثنينا عليه فإنّه سطر في كتاب ثنائه.
وقد جعلنا له من البلاد ما هو مقتسم من الديار المصرية والشاميّة، وبلاد(13/152)
الجزيرة وديار بكر: ليكون له من كلّ منها حظّ تفيض يده في أمواله، ويركب في حشد من رجاله، ويصبح وهو في كلّ جانب من جوانب ملكنا كالطّليعة في تقدّم مكانها، وكالرّبيئة «1» في إسهار أجفانها.
فليتسلّم ذلك بيد معظّم قدرا، ولا يستكثر كثرا، ويحمل منها رفدها غيثا أو بحرا؛ وكذلك فليعدل في الرعيّة الذين هم عنده ودائع، وليجاوز بهم درجة العدل إلى إحسان الصنائع؛ فإذا أسند هذا الأمر إلى ولاته فليكونوا تقاة لا يجد الهوى عليهم سبيلا، ولا يحمد الشيطان عندهم مقيلا، وإذا حمّلوا ثقلا لا يجدون حمله ثقيلا.
وقد فشا في هذا الزمن أخذ الرّشوة وهي سحت أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنبذه، ونهى عن أخذه، وعن الرغبة في تداوله؛ وهو كأخذ الرّبا الذي قرنت اللّعنة بمؤكله وآكله.
وأما القضاة الذين هم للشريعة أوتاد، ولإمضاء أحكامها أجناد، ولحفظ علومها كنوز لا يتطرّق إليها النّفاد، فينبغي أن يعوّل فيهم على الواحد دون الاثنين، وأن يستعان منهم في الفصل بذي الأيدي وفي اليقظة بذي اليدين؛ ومن رام هذا المنصب سائلا فليلمه وليغلظ القول في تجريع ملامه، وليعرف أنه ممّن رام أمرا فأخطأ الطّريق في استجلاب مرامه؛ وأمر الحكّام لا يتولّاه من سأله، وإنما يتولّاه من غفل عنه وأغفله.
وإذا قضينا حقّ الله في هذه الوصايا فلنعطفها على ما يكون لها تابعا، ولقواعد الملك رافعا؛ وذاك أنّ البلاد التي أضفناها إليك: فيها مدن ذات أعمال واسعة، ومعاقل [ذات] حصانة مانعة، وكلّها يفتقر إلى استخدام الفكر في تدبيره، وتصريف الزمان في تعميره؛ فولّ وجهك إليها غير وان في تكثير قليلها، وترويض مخيلها، وبثّ الأمنة على أوساطها، وإهداء الغبطة إلى أفئدة(13/153)
أهلها حتّى تسمع باغتباطها؛ وعند ذلك يتحدّث كلّ منهم بلسان الشّكور، ويتمثل بقوله تعالى: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ
«1» واعلم أنه قد يجاورك في بعضها جيران ذو بلاد وعساكر، وأسرّة ومنابر، وأوائل للمجد وأواخر؛ وما منهم إلا من يتمسّك منّا بودّ سليم، وعهد قديم، وله مساعدة نعرف له حقّها (والحقّ يعرفه الكريم) .
فكن لهؤلاء جارا يودّون جواره، ويحمدون آثاره؛ وإن سألوك عهدا فابذله لهم بذل وفيّ واقف على السّنن، مساو بين السرّ والعلن؛ ولا يكن وفاؤك لخوف تتّقي مراصده، ولا لرجاء ترقب فوائده؛ فالله قد أغناك أن تكون إلى المعاهدة لاجيا، وجعلك بنا مخوفا ومرجوّا لا خائفا ولا راجيا؛ وقد زدناك فضلة في محلك تكون بها على غيرك مفضّلا، وقد كنت من قبلها أغرّ فأوفت بك أغرّ محجّلا؛ وذاك أنّا جعلناك على آية الخيل تقودها إلى خوض الغمار، وتصرّفها في منازل الأسفار، وترتّب قلوبها وأجنحتها على اختلاف مراتب الأطوار؛ فنحن لا نلقى عدوّا ولا ننهد إلى بلد إلا وأنت كوكبنا الذي نهتدي بمطلعه، ومفتاحنا الذي نستفتح المغلق بيمن موقعه، ونوقن بالنصر في ذهابه وبالغنيمة في مرجعه؛ والله يشرح لك صدرا، وييسّر لك منّا أمرا، ويشدّ أزرنا بك كما شدّ لموسى بأخيه أزرا، والسلام.
الأسلوب الثاني (أن يفتتح التوقيع بالإقطاع بلفظ: «أما بعد فإنّ كذا» )
ويذكر ما سنح له من أمر السلطان أو الإقطاع أو صاحبه، ثم يتعرّض إلى أمر الإقطاع؛ وهو دون الأسلوب الذي قبله في الرتبة.
وهذه نسخة توقيع بإقطاع من هذا الأسلوب، كتب بها لأمير قدم على الدولة فاستخدمته؛ وهي:(13/154)
أما بعد، فإنّ لكلّ وسيلة جزاء على نسبة مكانها، وهي تتفاوت في أوقات وجوبها ومثاقيل ميزانها؛ ومن أوجبها حقّا وسيلة الهجرة التي طوى لها الأمل من شقّته ما طوى، وبعث بها على صدق النّية «ولكلّ امريء ما نوى» ؛ فالأوطان إليها مودعة، والخطوات موسّعة، والوجوه من برد الليل وحرّ النهار ملفّعة، وقد توخّاها قوم في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحظوا في الدّنيا باعتلاء المنار، وفي الآخرة بعقبى الدار، وقدّموا على من آوى ونصر فقال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ
«1» ؛ ثم صارت هذه سنّة فيمن هاجر من أقوام إلى أقوام، واستبدل بأنام عن أنام؛ وكذلك فعلت أيّها الأمير فلان- وفقك الله- وقد تلقّيت هجرتك هذه بالكرامة، وزخرفت لها دار الإقامة؛ فما ابتغيت بها بغية إلا سهّلت لك فجاجها، أو عاج عليك معاجها، وحمد لديك تأويبها وإدلاجها، وأصبحت وقد وجدت خفضا غبّ السّرى، وخيطت منك الجفون على أمن الكرى، وتبوّأت كنف الدولة التي هي أمّ الدّول إذ صرت إلى القرية التي هي أمّ القرى.
ونحن قد أدنيناك منّا إدناء الخليط والعشير، ورفعناك إلى محلّ الاختصاص الذي هو المحلّ الأثير، وآخينا بينك وبين عطايانا كما ووخي بين الصّحابة النّبويّة يوم الغدير.
هذا ولك وسيلة أخرى تعدّ من حسان المناقب، وتوصف بالصّفات الأطايب؛ وما يقال إلا أنها من الأطواد الرّواس، وأنها تبرز في اللباس الأحمر وغيرها لا يبرز في ذلك اللّباس؛ وهي التي تجعلك بوحدتها في كثرة، وتتأمّر بها من غير إمرة؛ وطالما أطالت يدك بمناط البيض الحداد، وفرّجت لك ضيق الكرّ وقد غصّ بهوادي الجياد، وحسّنتك العيون وقد رميت منك بشرق القذا ونبوة السّهاد؛ ومن شرف الإقدام أن العدوّ يحبّ العدوّ من أجله، ويضطرّه إلى أن يقرّ بفضله؛ ومذ وصلت إلينا وصلناك بأمرائنا الذين سلفت أيّامهم، وثبتت في(13/155)
مقامات الغناء أقدامهم، وتوسّمنا أنك الرجل الذي يزكو لديك الصّنيع، وأنك ستشفعه بحقوق خدمتك التي هي نعم الشفيع.
وقد عجّلنا لك من الإقطاع ما لا نرضى أن تكون عليه شاكرا، وجعلناه لك أوّلا وإن كان لغيرك آخرا؛ وهو مثبت في هذا التّوقيع بقلم الديوان الذي أقيم لفرض الجند كتابا، ولمعرفة أرزاقهم حسابا؛ وهو كذا وكذا.
فتناول هذا التّخويل الذي خوّلته باليمين، واستمسك به استمساك الضّنين.
واعلم أنه قد كثر الحواسد لما مددناه من صنعك، وبسطناه من ذرعك؛ فأشج حلوقهم بالسّعي لاستحقاق المزيد، وارق في درجات الصّعود وألزمهم صفحة الصّعيد.
والذي نأمرك به أن [تعدّ] «1» نفسك للخدمة التي جعلت لها قرنا وأنت بها أغنى، وأن تنتهي فيها إلى الأمد الأقصى دون الأدنى؛ فلا تضمم جناحك إلّا على قوادم من الرجال لا على خواف، وإذا استنفرت فانفر بثقال من الخيل وخفاف، وكن مذخورا لواحدة يقال فيها: يا عزائم اغضبي، ويا خيل النّصر اركبي؛ وتلك هي التي تتظلّم بها الجماجم من الضّراب، وتلاقى فيها عصب الغربان والذّباب؛ ولا تحتاج مع هذه إلى منقبة تتجمّل بتفويفها، وتتكثّر بتعريفها، وتنتمي إلى تليدها باستحداث طريفها.
والله تعالى يشدّ بك أزرا، ويملأ بك عينا وصدرا، ويجعل الفلج مقرونا برأيك ورايتك حتّى يقال: «ومكروا مكرا» وجرّدنا بيضا وسمرا؛ والسلام إن شاء الله تعالى.(13/156)
الأسلوب الثالث (أن يفتتح التوقيع المكتتب بالإقطاع بما فيه معنى الشجاعة والقتال وما في معنى ذلك، وهو أدنى من الذي قبله رتبة)
وهذه نسخة توقيع بإقطاع من هذا النّمط، كتب به لبعض الأمراء الصّغار؛ وهي:
القلم والرّمح قلمان كلاهما أسمر، وكما تشابها في المنظر فكذلك تشابها في المخبر؛ غير أنّ هذا يركب في عسكر من القول وهذا يحمل في عسكر؛ وقد نطق أحدهما بالثناء على أخيه فأحسن في نطقه، وأقرّ له بالفضيلة ومن الإنصاف أن يقرّ لذي الحق بحقّه؛ غير أنّ هذه الفضيلة تعزى إلى من يقيم أود الساعي بتقويم أوده، ولا يرى لها سبيلا قصدا إلا بالوطء على قصده؛ وهو أنت أيّها الأمير فلان، أيّدك الله!.
وقد اخترناك لخدمتنا على بصيرة، وأجريناك من اعتنائنا على أكرم وتيرة، ورفعنا درجتك فوق درجة المعلّي لمن سبقك وإنها لكبيرة.
ولم يكن هذا الاختيار إلا بعد اختبار لا يحتاج معه إلى شهادة، ولو كشف الغطاء لم يجد اليقين من زيادة «1» ؛ فطالما عجمت نبعتك، وتيمّنت طلعتك، ولم تعرض سلعة الغناء إلا نفقت سلعتك؛ ومثلك من تباهي الرجال بمكانه، وتخلّي له فضلة عنانه، ويتّسع ميدان القول في وصفه إذا ضاق بغيره سعة ميدانه؛ وما يقال إلا أنّك الرجل الذي تقذف الجانب المهمّ بعزمك، وترمي برأيك قبل رماء سهمك، وبك يحسر دجى الحرب الذي أعوزه الصّباح، ويحمى عقابها أن يحصّ «2» له جناح؛ فأسباب الاعتضاد بك إذن كثيرة الأعداد، وأنت الواحد المشار إليه ولا تكثر إلا مناقب الآحاد.(13/157)
وقد بدأناك من العطاء بما يكون ببسم الله في صدر الكتاب، وجعلناه كالغمامة التي تأتي أوّلا بالقطار ثم تأخذ في الانسكاب؛ وخير العطاء ما ربّ بعد ميلاده، وأينع ثمره بعد جداده؛ وإن صادف ذلك وسائل خدم مستأنفة كان لها قرانا، وصادف الإحسان منه إحسانا؛ وقد ضمن الله تعالى للشّاكر من عباده مزيدا، ولم يرض له بأن يكون مبدئا حتّى يكون معيدا؛ وكذلك دأبه فيمن عرف مواقع نعمه، وعلم أن صحّتها لا تفارقه ما لم يعدها بسقمه.
ونحن أولى من أخذ بهذا الأدب الكريم، وألزم نفسه أن تتحلّى بخلقه وإنه للخلق العظيم؛ وعطاؤنا المنعم به عليك لم يذكر في هذا التوقيع على حكم الامتنان، بل إثباتا لحساب الجند الذين هم أعوان الدّولة ولا بدّ من إحصاء الأعوان؛ وهو كذا وكذا.
فامدد له يدا تجمع [مع] «1» الشّكر مواظبة، [ومع] «2» الطّاعة مراقبة، وكن في التّأهّب للخدمة كالسّهم الموضوع في وتره، وأصخ بسمعك وبصرك إلى ما تؤمر به فلا ائتمار لمن لم يصخ بسمعه وبصره.
وملاك ذلك كلّه أن تتكثر من فرسان الغوار، وحماة الذّمار، والذين هم زينة سلّم ومفزع حذار؛ ومثل هؤلاء لا يضمّهم جيش إلا تقدّمه جيش من الرّعب، ودارت منه الحرب على قطبها ولا تدور رحّى إلا على قطب؛ وإذا ساروا خلف رايتك نشرت ذوائبها على غابة من الآساد، وخفقت على بحر من الحديد يسير به طود من الجياد.
ومن أهمّ الوصايا إليك أن تضيف إلى غنائهم غنى يبرزهم في زهرة من اللّباس، ويعينهم على إعداد القوّة ليوم الباس، ويقصّر لديهم شقّة الأسفار التي تذهب بنزقات الشّماس، وينقطع دون قطعها طول الأنفاس؛ وأيّ فائدة في عسكر يأخذ بعد المسرى في حوره، ولا يزيد صبره بزيادة سفره، ويكون حافره وخفّه سواء في انتساب كلّ منهما إلى شدّة حجره.(13/158)
فانظر إلى هذه الوصية نظر من طال على صحبه بالكفّ الأوسع، وعلم ما يضرّ فيهم وما ينفع؛ والله يمنحك من لدنه توفيقا، ويسلك بك إلى الحسنى طريقا، ويجعلك خليقا بما يصلحك وليس كلّ أحد بصلاحه خليقا، والسلام.
الطرف الثاني (ما يكتب في الإقطاعات في زماننا)
وهو على ضربين:
الضرب الأوّل (ما يكتب قبل أن ينقل إلى ديوان الإنشاء)
وفيه جملتان:
الجملة الأولى- في ابتداء ما يكتب في ذلك من ديوان الجيش.
اعلم أنّ مظنّة الإقطاعات هو ديوان الجيش دون ديوان الإنشاء؛ وما يكتب فيه من ديوان الإنشاء هو فرع ما يكتب من ديوان الجيش.
ثم أوّل ما يكتب من ديوان الجيش في أمر الإقطاع إما مثال، وإما قصّة، وإما نزول «1» فأما المثال، فإنه يكتب ناظر الجيش في نصف قائمة شاميّ، بعد ترك الثلثين من أعلاها بياضا، في الجدول الأيمن من القائمة ما صورته:
«خبز فلان المتوفّى إلى رحمة الله تعالى» أو «المرسوم ارتجاعه» أو «المنتقل لغيره» ونحو ذلك. ويكون «خبز» سطرا، وباقي الكلام تحته سطرا.
وتحت ذلك ما صورته: «عبرة كذا وكذا دينارا» بالقلم القبطي. وفي الجدول الأيسر ما صورته:
«باسم فلان الفلانيّ» وإن كان زيادة عيّن؛ ثم يشمله الخط الشريف(13/159)
السلطاني بما مثاله: «يكتب» ثم يكتب تحته ناظر الجيش ما مثاله: «يمتثل المرسوم الشريف» ويعيّنه على من يختاره من كتّاب الجيش، ثم يترك بعد ذلك بديوان النظر؛ ويكتب تاريخه بخطّ كاتب ناظر الجيش بذيل المثال، ويخلّده الكاتب المعيّن عليه، ويكتب بذلك مربّعة «1» على ما سيأتي ذكره.
وأما القصص فتختلف بحسب الحال: فتارة ينهى فيها وفاة من كان بيده الإقطاع، وتارة انتقاله عنه، وتارة ارتجاعه، وتارة طلب إعادة ما خرج عنه، وتارة طلب تجديد، ونحو ذلك.
ويكتب ناظر الجيش على حاشيتها بالكشف. ويكتب الكشف بذيل ظاهرها من ديوان الجيش بما مثاله:
«رافعها فلان أنهى ما هو كذا وكذا، وسأل كذا وكذا» ويذكر حال الإقطاع. ثم يشملها الخطّ الشريف السلطاني بما مثاله: «يكتب» . وباقي الأمر على ما تقدّم في ذكر المثال.
وأما الإشهادات فتكون تارة بالنزول، وتارة بالمقايضة؛ وربّما وقع ذلك بالشركة، ثم يكتب ناظر الجيش على ظاهر الإشهاد بالكشف، ويعمل فيه على ما تقدّم في القصّة.
الجملة الثانية- في صورة ما يكتب في المربّعة الجيشية.
قد جرت عادة ديوان الجيش أنه إذا عيّن ناظر الجيش المثال أو القصة أو الإشهاد على أحد من كتّاب ديوان الجيش، يخلّد الكاتب ذلك عنده، ثم تكتب به مربّعة من ديوان الجيش وتكمّل بالخطوط على ما تقدّم، وتجهّز إلى ديوان الإنشاء، فيعيّنها كاتب السّرّ على من يكتب بها منشورا على ما سيأتي.
وصورة المربّعة أن يكتب في ورقة مربّعة، يجعل أعلى ظاهر الورقة الأولى(13/160)
منها بياضا، ويكتب في ذيلها معترضا: آخذا من جهة أسفل المربعة إلى أعلاها أسطرا قصيرة على قدر عرض ثلاثة أصابع ما صورته:
«مثال شريف- شرّفه الله تعالى وعظمه- بما رسم به الآن: من الإقطاع» باسم من عين فيه من الأمراء أو من المماليك السلطانية بالديار المصرية، أو بالمملكة الفلانية، أو من الحلقة المصرية أو الشامية، أو نحو ذلك «على ما شرح فيه حسب الأمر الشريف شرّفه الله تعالى وعظمه» .
وتحت ذلك كلّه ما صورته:
«يحتاج [إلى الخط] «1» الشريف أعلاه الله تعالى» .
ثم يكتب داخل تلك الورقة- بعد إخلاء هامش عرض إصبعين- البسملة، وتحتها في سطر ملاصق لها: «المرسوم بالأمر الشريف العاليّ، المولوي، السلطانيّ» ثم ينزل إلى قدر ثلثي الصفحة، ويكتب في السّطر الثاني بعد البياض الذي تركه على مسامتة السّطر الأول: «الملكيّ الفلانيّ الفلانيّ» بلقب السلطنة: كالناصريّ، ولقب السلطان الخاص كالزّينيّ «أعلاه الله تعالى وشرّفه، وأنفذه وصرّفه، أن يقطع من يذكر: من رجال الحلقة بالدّيار المصرية أو المملكة الشامية أو نحو ذلك، ما رسم له به الآن في الإقطاع، حسب الأمر الشريف شرّفه الله تعالى وعظّمه» .
ثم يكتب في الصفحة الثانية مقابل البسملة: «فلان الدّين فلان الفلانيّ، المرسوم إثباته في جملة رجال الحلقة المنصورة بالديار المصرية أو الشامية، بمقتضى المثال الشّريف أو المربّعة الشريفة المشمولة بالخط الشريف» . ثم يكتب تحت السّطر الأخير في الوسط ما صورته: «في السنة كربستا» إن كان جميع البلد أو البلاد المقطعة لا يستثنى منها شيء، أو يكتب: «خارجا عن الملك والوقف» أو نحو ذلك «على ما يقتضيه الحقّ» .(13/161)
ثم يكتب تحت ذلك على حيال السّطور ممتدّا من أوّل السّطر إلى آخره:
«خبز» .
ثم يكتب تحته: «فلان بن فلان الفلانيّ، بحكم وفاته، أو بحكم نزوله برضاه» ونحو ذلك على عادته- ناحية كذا. ناحية كذا. ناحية كذا.
وإن كان فيه نقد ونحوه ذكره، ويستوفي ذلك إلى آخر: «بعد الخط الشريف- شرفه الله تعالى- إن شاء الله تعالى» .
ثم يؤرّخ في سطرين قصيرين ويحضر إلى صاحب ديوان الإنشاء، فيعيّنه على من يكتبه من كتّاب الإنشاء، على ما سيأتي بيانه.
الضرب الثاني (فيما يكتب في الإقطاعات من ديوان الإنشاء؛ وفيه خمس جمل)
الجملة الأولى (في ذكر اسم ما يكتب في الإقطاعات من ديوان الإنشاء)
قد اصطلح كتّاب الزمان على تسمية جميع ما يكتب في الإقطاعات: من عاليها ودانيها، للأمراء والجند والعربان والتّركمان وغيرهم- مناشير؛ جمع منشور. والمنشور في أصل اللّغة خلاف المطويّ. ومنه قوله تعالى: وَكِتابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ
«1» واعلم أن تخصيص ما يكتب في الإقطاعات باسم المناشير مما حدث الاصطلاح عليه في الدولة التّركية.
أما في الزّمن المتقدّم فقد كانوا يطلقون اسم المناشير على ما هو أعمّ من ذلك: مما لا يحتاج إلى ختم: كالمكتوب بالإقطاع على ما تقدّم، والمكتوب(13/162)
بالولاية، والمكتوب بالحماية، وما يجري مجرى ذلك. وربّما سمّي ما يكتب في الإقطاع مقاطعة، وربما سمّي سجلّا وغير ذلك.
أما الآن فإذا أطلقت المناشير لا يفهم منها إلا ما يكتب في الإقطاعات خاصّة؛ وخصّوا كلّ واحد مما عداها باسمه، على ما هو مذكور في مواضعه دون ما عداها؛ ولا مشاحّة في الاصطلاح بعد فهم المعنى.
قلت: ومن خاصّة المناشير أنّها لا تكتب إلا عن السلطان مشمولة بخطّه، وليس لغيره الآن فيها تصرّف، إلّا ما يكتب فيه النائب الكافل «1» ابتداء.
الجملة الثانية (في بيان أصناف المناشير
، وما يخصّ كلّ صنف منها: من مقادير قطع الورق، وما يختصّ بكلّ صنف منها من طبقات الأمراء والجند) اعلم أنّ المناشير المصطلح عليها في زماننا على أربعة أصناف: يختصّ بكلّ صنف منها مقدار من مقادير قطع الورق.
الصّنف الأوّل- ما يكتب في قطع الثّلثين وهو لأعلى المراتب من الأمراء.
قال في «التعريف» «2» : ومن كان مؤهّلا لأن يكتب له تقليد كان منشوره من نوعه ومن دون ذلك إلى أدنى الرّتب.
قال في «التثقيف» «3» : وفي قطع الثّلثين يكتب لمقدّمي الألوف بالديار المصرية، سواء كان من أولاد السلطان أو الخاصكية «4» أو غيرهم، وكذلك جميع(13/163)
النوّاب الأكابر بالممالك الإسلامية، والمقدّمون بدمشق. وكلّ من له تقليد في قطع الثلثين يكون منشوره في قطع الثلثين.
الصنف الثاني- ما يكتب في قطع النّصف.
قال في «التثقيف» : وفيه يكتب لأمراء الطّبلخانات «1» بمصر والشام، سواء في ذلك الخاصكيّة وغيرهم. وكذلك الأمراء المقدّمون من نوّاب القلاع الشامية.
وفي معناهم المقدّمون بحلب وغيرها: من نوّاب القلاع وغيرهم.
الصنف الثالث- ما يكتب في قطع الثلث.
قال في «التثقيف» : وفيه يكتب لأمراء العشرات مطلقا بسائر الممالك، يعني مصر والممالك الشامية بجملتها. قال: وكذلك الطّبلخانات من التّركمان والأكراد بالممالك الإسلامية.
الصنف الرابع- ما يكتب في قطع العادة المنصوريّ.
قال في «التثقيف» : وفيه يكتب للمماليك السّلطانية، ومقدّمي الحلقة، ورجال الحلقة. إلا أنه يختلف الحال بين المماليك السلطانية، ومقدّمي الحلقة، وبين رجال الحلقة بزيادة أوصال الطّرّة، والإتيان بالدّعاء المناسب: يعني أنه يترك في طرّة مناشير المماليك السلطانية ثلاثة أوصال بياضا، وفي مناشير رجال الحلقة وصلان.
قلت: ولا فرق في ذلك بين حلقة مصر وغيرها من المماليك الشاميّة.
الجملة الثالثة (في بيان صورة ما يكتب في المناشير في الطّرّة والمتن)
قال في «التثقيف» : إن كان المنشور في قطع الثّلثين، كتب في طرّته من يمين الورق بغير هامش ما صورته:(13/164)
«منشور شريف بأن يجري في إقطاعات المقرّ الكريم» أو «الجناب الكريم العاليّ الأميريّ الكبيريّ» وإن كان نائبا زيد بعدها: «الكافليّ الفلانيّ» يعني بلقبه الخاصّ «فلان الفلانيّ» بلقب الإضافة إلى لقب السلطان: كالناصريّ ونحوه. ثم الدعاء بما جرت به عادته دعوة واحدة «ما رسم له به الآن من الإقطاع» ويشرح ما تضمّنته المربّعة إلى آخره، فمن ذلك جميعه سطران بقلم الثلث.
قال: والأحسن أن يكون آخر السطر الثاني الدعاء، والتتمة بالقلم الرّقاع أسطرا قصارا بهامش من الجانبين، ثم يكتب في الوسط سطرا واحدا بالقلم الغليظ: «والعدّة» وتحته بالقلم الدقيق «خاصته، ومائة طواشيّ «1» أو تسعون طواشيّا أو ثمانون طواشيّا أو سبعون طواشيّا» حسب ما يكون في المربّعة. ويترك ثلاثة أوصال بياضا بما فيه من وصل الطّرّة؛ ثم تكتب البسملة في أوّل الوصل الرابع، وبعدها خطبة مفتتحة بالحمد، ويكمّل بما يناسبه، ثم يقال: «أما بعد» ويذكر ما ينبغي ذكره على نحو ما تقدّم في التقاليد.
قال في «التعريف» : إلا أن المناشير أخصر، ولا وصايا فيها.
قال في «التثقيف» : ثم يذكر بعد ذلك اسمه بأن يقول: «ولمّا كان الجناب» وبقية الألقاب والنعوت والدّعاء- ولا يزاد على دعوة واحدة «هو المراد بهذه المدح، والمخصوص بهذه المنح» أو نحو ذلك- «اقتضى حسن الرّأي الشريف أن نخوّله بمزيد النعم» .
وإن كان المنشور في قطع النّصف كتب على ما تقدّم، إلا أنه لا يقال: «أن يجرى في إقطاعات» . بل إن كان مقدّما بحلب أو غيرها أو طبلخاناه خاصكيّا، أو كان من أولاد السّلطان، كتب: «أن يجري في إقطاع المجلس العاليّ أو(13/165)
الساميّ» . وإن كان طبلخاناه ممّن عدا هؤلاء كتب «منشور شريف بما رسم به من الإقطاع للمجلس السامي» والتّتمة على حكم ما تقدّم من غير فرق.
وأما ما يكتب في قطع الثلث فيكتب: «منشور شريف بما رسم به من الإقطاع لمجلس الأمير» .
وأما التجديدات فيكتب في طرّتها: «منشور شريف رسم بتجديده باسم فلان بن فلان الفلاني، بما هو مستقرّ بيده من الإقطاع الشاهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت» ويشرح حسب ما تضمنته المربّعة، ثم يقال: «على ما شرح فيه» .
وأما الزيادات والتّعويضات، فقال في «التعريف» : إذا رسم للأمير بزيادة أو تعويض: فإن كان من ذوي الألوف: كالنّوّاب الأكابر، ومقدّمي الألوف بمصر والشام، كتب له في قطع الطّرّة على العادة، وبعد البسملة: «خرج الأمر الشريف العاليّ، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الفلانيّ، الفلانيّ، ويدعى له بما يناسب الحال «أن يجرى في إقطاعات المقرّ الفلانيّ أو الجناب الفلانيّ» .
وفي التّتمة نظير ما تقدّم في المناشير المفتتحة بالخطبة، على ما تقدّم بيانه.
والذي ذكره في «التعريف» : أنه يكتب في ذلك لمقدمي الألوف أو من قاربهم: «أما بعد حمد الله» .
وإن كان من أمراء الطبلخاناه الصغار فمن دونهم حتّى جند الحلقة، كتب له في قطع العادة: «خرج الأمر الشريف» .
قال في «التثقيف» : وكذلك الزيادات والتعاويض، سواء في ذلك كبيرهم وصغيرهم. قال: ويمكن أن يميّز أمير آل فضل فيكتب له ذلك في قطع الثلث. قال في «التعريف» : أما إذا انتقل الأمير من إقطاع إلى غيره، فإنه يكتب له كأنّه مبتدأ على ما تقدّم أوّلا.
واعلم أنه لم تجر العادة بأن تكتب في أعلى الطرّة إشارة إلى العلامة السلطانية، كما يكتب في الولايات الاسم الشريف في أعلى الطّرّة. قال في «التثقيف» : والسبب فيه أنّ العلامة لا تخرج عن أحد ثلاثة أمور: إما الاسم(13/166)
الشريف مفردا، كما في الأمثلة السلطانية إلى من جرت العادة أن تكون العلامة له الاسم الشريف، وما «1» يتعلّق بالتقاليد والتواقيع والمراسيم الشريفة، وأوراق الطريق، أو يضاف إلى الاسم الشريف والده، أو أخوه، وذلك ممّا يتعلق بالأمثلة الشريفة خاصة إلى من جرت عادته بأن تكون العلامة إليه كذلك، وذلك بخلاف المناشير: فإنّ العلامة فيها على ما جرت به العوائد، أن يكتب السلطان: «الله أملي» أو «الله وليّي» أو «الله حسبي» أو «الملك لله» أو «المنّة لله وحده» لا يختلف في ذلك أعلى ولا أدنى؛ فلا يحتاج إلى إشارة بسببها ينبه عليها، لأن ترك الإشارة إليها دليل عليها، وإشارة إليها، كما ذكر النحاة علامات الاسم والفعل ولم يذكروا للحرف علامة، فصار ترك العلامة إليها علامة، بخلاف الأمثلة: فإنها تختلف: فتكون العلامة فيها تارة «الاسم» ، وتارة «أخوه» ، وتارة «والده» .
الجملة الرابعة (في الطّغرى «2» التي تكون بين الطّرّة المكتتبة في أعلى المنشور وبين البسملة)
قال في «التعريف» : قد جرت العادة أن تكتب للمناشير الكبار كمقدّمي الألوف والطبلخانات طغرى بالألقاب السلطانية؛ ولها رجل مفرد بعملها وتحصيلها بالدّيوان. فإذا كتب الكاتب منشورا أخذ من تلك الطّغراوات واحدا، وألصقها فيما كتب به. قال في «التعريف» : وتكون فوق وصل بياض فوق البسملة.
قال في «التثقيف» : فبعد وصلين أو ثلاثة من الطّرّة.
قلت: ولم تزل هذه الطّغرى مستعملة في المناشير إلى آخر الدولة الأشرفيّة «شعبان بن حسين» «3» ثم تركت بعد ذلك ورفض استعمالها وأهملت. ولا يخفى أنه يرد عليها السّؤال الوارد على الطّغرى المكتتبة في أوّل المكاتبات إلى سائر ملوك الكفر من تقديم اسم السلطان على البسملة، على ما تقدّم بيانه في موضعه.(13/167)
وقد تقدّم الاحتجاج لذلك بقوله تعالى في قصّة بلقيس: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
«1» وأنه يحتمل أن يكون قوله: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ
حكاية عن قول بلقيس، ويكون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هو أوّل الكتاب، فلا يكون في ذلك حجة على تقدّم الاسم على البسملة. وأنه إنما يتّجه الاحتجاج بذلك على القول بأنّ قوله: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ
من كلام سليمان عليه السّلام، وأنه إنما قدّم اسمه على البسملة وقاية لاسم الله تعالى، من حيث إنه كان عادة ملوك الكفر أنهم إذا لم يرضوا كتابا مزّقوه أو تفلوا فيه، فجعل اسمه حالّا محلّ الوقاية. ولا شكّ أنّ مثل ذلك لا يجيء هنا، لأن المحذور فيه مفقود، من حيث إنّ هذه المناشير إنما تلقى إلى المسلمين القائمين بتعظيم البسملة والموفين لها حقّها. وحينئذ فيكون لترك استعمالها وجه ظاهر من جهة الشرع، بخلاف ما في المكاتبات إلى ملوك الكفر.
واعلم أن هذه الطّغراوات تختلف تركيباتها باعتبار كثرة منتصباتها من الحروف وقلّتها، باعتبار كثرة آباء ذلك السلطان وقلّتهم؛ ويحتاج واضعها إلى مراعاة ذلك باعتبار قلّة منتصبات الكلام وكثرتها. فإن كانت قليلة أتي بالمنتصبات كما سيأتي بيانه بقلم جليل مبسوط، كمختصر الطّومار ونحوه، لتملأ على قلّتها فضاء الورق من قطع الثلثين أو النّصف. وإن كانت كثيرة أتي بالمنتصبات بقلم أدقّ من ذلك، كجليل الثّلث ونحوه اكتفاء بكثرة المنتصبات عن بسطها.
ثم تختلف الحال في طول المنتصبات وقصرها باعتبار قطع الورق: فتكون منتصباتها في قطع النّصف دون منتصباتها في قطع الثلثين.
ثم قد اصطلح واضعوها على أن يجعلوا لها هامشا أبيض من كلّ من الجانبين بقدر إصبعين مطبوقين، وطرّة من أعلى الوصل قدر ثلاثة أصابع مطبوقة.
ثم إن كانت في قطع النصف جعلت منتصباتها مع تصوير الحروف بأسفلها(13/168)
في الطول بقدر ... «1» ذراع، وفي العرض بقدر ... «2» . ذراع.
وإن كانت في قطع الثلثين جعل طولها مقدار ... «3» . ذراع، وعرضها مقدار ... «4» . ذراع. ثم تارة تكون منتصبات محضة يقتصر فيها من اسم السلطان على ما هو مذكور من اسمه واسم أبيه، وتارة يجعل اسم السلطان واسم أبيه بأعالي المنتصبات في الوسط بقلم الطّومار قاطعا ومقطوعا، بحيث يكون ما بين أعلى الاسم وآخر أعلى المنتصبات قدر أربعة أصابع أو خمسة أصابع مطبوقة.
ثم إذا ألصق الكاتب الطّغرى، كتب بأسفلها في بقية وصلها في الوسط، بعد إخلاء قدر إبهام بياضا ما صورته: «خلّد الله سلطانه» .
وهذه صورة طغرى منشور بألقاب السلطان الملك الناصر «محمد بن قلاوون» مضمونها:
«السلطان الملك الناصر، ناصر الدّنيا والدّين، محمد ابن السلطان الشهيد الملك المنصور، سيف الدين قلاوون» .
وعدد منتصباتها من الألف وما في معناها خمسة وثلاثون منتصبا بقلم النّصف، وهو بقدر قلم الثلث الثقيل وقدر نصفه.
وترتيب منتصباتها [منتصبان] «5» متقاربان بينهما بياض لطيف بقدر مرود دقيق، ثم منتصب يحفّه بياضان، كلّ منهما أعرض من المنتصب الأسود بيسير.
وبعد ذلك منتصبان متقاربان بينهما على ما تقدّم. وكذلك إلى آخر المنتصبات، فتختتم بمنتصبين مزدوجين، كما افتتحت بمنتصبين مزدوجين، على ما اقتضاه تحرير التقسيم، وهي في طول نصف ذراع بذراع القماش القاهريّ مع زيادة نحو نصف قيراط، وعرض مثل ذلك. وتحتها في الوسط بقلم الثلث الجليل بعد خلوّ عرض إصبع بياضا ما صورته: «خلّد الله سلطانه» ؛ وهي هذه:(13/169)
وهذه نسخة طغرى منشور أيضا بألقاب السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسين بن الناصر محمد بن قلاوون، مضمونها:
«السلطان الملك الأشرف ناصر الدنيا والدين ابن الملك الأمجد ابن السلطان الملك الناصر ابن الملك المنصور قلاوون» .
وعدد منتصباتها من الألفات وما في معناها خمسة وأربعون منتصبا، بقلم جليل الثّلث، بين كلّ منتصبين قدر منتصب مرّتين بياضا، وطولها ثلث ذراع وربع ذراع بالذراع المقدّم ذكره، وعرضها كذلك؛ واسم السلطان بأعاليها بقلم الطّومار بالحبر قاطع ومقطوع كما أشار إليه في «التعريف» .
مثاله: شعبان بن حسين- الشين والعين والباء والألف سطر، والنون من شعبان وابن سطر مركب فوق الشين والعين، وحسين سطر مركب فوق ذلك؛ وطول ألف شعبان تقدير سدس ذراع، وقد قطعت النون الألف وخرجت عنها بقدر(13/170)
يسير، وأوّل الاسم بعد المنتصب السادس عشر من المنتصبات، وآخر النون من حسين البارزة عن ألف شعبان إلى جهة اليسار بعدها أحد عشر منتصبا من جهة اليسار؛ وهي هكذا:
الجملة الخامسة (في ذكر طرف من نسخ المناشير التي تكتب في الإقطاعات في زماننا)
قد تقدّم الكلام في الجملة الثالثة على صورة ما يكتب في المناشير وما تفتتح به وذكر ترتيبها، واختلاف حالها باختلاف حال مراتب أصحابها صعودا وهبوطا، فأغنى عن ذكر إعادته هنا.
واعلم أن الأحسن بالمناشير أن تكون مبتكرة الإنشاء، ليراعى فيها حال المكتوب له في براعة الاستهلال وغيرها من المناسبات والمطابقات؛ فإن تعذّر ذلك فالأحسن أن تكون براعة الاستهلال منقولة في الإسم والكنية واللّقب ونحوها(13/171)
ليكون ذلك أقرب إلى الغرض المطلوب؛ فإن تعذّر ذلك فينبغي أن تكون براعة الاستهلال قاصرة على معنى الإقطاع وما ينجرّ إليه من ذكر كرم السلطان ومنّه وإحسانه إلى أخصّائه، وما ينخرط في هذا السّلك.
ثم نسخ المناشير على ثلاثة أنواع:
النوع الأوّل (ما يفتتح ب «الحمد لله» ، وهو على ثلاثة أضرب)
الضرب الأوّل (مناشير أولاد الملوك)
وهذه نسخ مناشير من ذلك:
نسخة منشور، كتب به عن الملك المنصور قلاوون لابنه الناصر محمد في سلطنة أبيه المذكور، من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر؛ وهي:
الحمد لله الذي زيّن سماء الملك بأنور كوكب بزغ، وأعزّ ملك نبغ، وأشرف سلطان بلغ إلى ما بلغ ذوو الاكتهال من اختيار شرف الخلال وما بلغ.
نحمده حمدا تزيد به النعماء وتنمي، وتهمل به الآلاء وتهمي، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة خالصة من كلّ ريب، واقصة «1» كلّ عيب، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي بعثه الله تعالى بمكارم الأخلاق، ومعاداة ذوي النّفاق، وساوى بين الصّغير والكبير من أولي الاستحقاق، في الإرفاد والإرفاق، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما رقّ نسيم وراق، وما خصفت أوراق.
وبعد، فإن الهواتف أبين ما تشدو، إذا حفّت الرياض بها من كلّ جانب، والسماء أحسن ما تبدو، إذا تزيّنت بالكواكب السيّارة والشّهب الثّواقب، والسعادة(13/172)
أحمد ما تحدو، إذا خصّصت بمن إليه، وإلّا ما تشدّ الركائب، وعليه، وإلا ما تثني الحقائق والحقائب؛ ومن هو للملك فلذة كبده، ونور مقلته وساعد يده، ومن تتيمّن السلطنة بملاحظة جبينه الوضي، وتستنير بالأنور المضي، ومن تغضب الدنيا لغضبه وتزهى إذا رضي، ومن نشأ في روض الملك من خير أصل زكيّ، وفاحت أزاهره بأعطر أرج وأطيب نشر ذكيّ، وطلع في سماء السّلطنة نجما ما للنيّرين ما له من الإضاءة، ويزيد عليهما بحسن الوضاءة، ومن تشوّف النصر له من مهده، وتشوّق الظّفر إلى أنه يكون من جنده، واستبشرت السلطنة بأن صار لها منه فرع باسق، وعقد متناسق، وزند وار وجناح وارف، وفخار تليد وعزّ طارف، وطرفان معلمان تنشر فيهما المطارف.
ولهذه المحاسن التي تشرئبّ إلى قصدها آمال الخلائق المنتجعة- اقتضى حسن البرّ الوصول، وشرف الإقبال والقبول، أن خرج الأمر العاليّ- لا برحت مراسمه متزينة زينة السماء بكواكبها، ومزاحمة سمك السّماك بمناكبها- أن يجرى في ديوان الجناب العاليّ المولويّ، الملكيّ، الناصريّ.......
قلت: كما أنّ هذا المنشور منشور سلطان فهو في البلاغة لحسن إنشائه سلطان المناشير.
الضرب الثاني (من نسخ المناشير المفتتحة بالحمد مناشير الأمراء مقدّمي الألوف)
وهذه نسخ مناشير منها:
نسخة منشور، كتب به للأمير بدر الدين بيدرا «1» ، أستادار الملك المنصور قلاوون، من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر رحمه الله؛ وهي:(13/173)
الحمد لله الذي جعل بدر الدين تماما على الّذي أحسن، وإماما تقتدي النجوم منه بالضّياء الأبين والنّور الأزين، ونظاما يجمع من شمل الذّرى ما يغدو به حماه الأحمى وجنابه الأصون.
نحمده حمد من أعلى صوته وصيته أعلن، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تغدو وتبدو عند الذّبّ وفي القلب مكانها الأمكن، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله ونبيّه الذي أوهى الله به بناء الشّرك وأوهن، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه ورضي عمّن آمن به وعمّن أمّن.
وبعد، فإنّ خير النّعماء ما أتي به على التّدريج، وأتى كما يأتي الغيث بالقطر والقطر لإنبات كل زوج بهيج، وأقبل كما تقبل الزيادة بعد الزيادة فبينا يقال: هذا خليج يمدّه البحر إذ يقال: هذا بحر يستمدّ منه كلّ خليج، وبينا يقال: هذا الأمير، إذ يقال: هذا الممير، وبينا يقال: هذا الهلال، إذ يقال: هذا هو البدر المنير.
ولمّا كان فلان من هذه الدّولة بموضع الغرّة من الجبين، وسكان الرّاحة من اليمين، وله سوابق خدمة لا يزاحمه أحد في طرق طروقها، ولا تستكثر له زيادة بالنسبة إلى موجبات حقوقها؛ وهو من التّقوى بالمحلّ الأسمى، على غيره من الطّرّاق، والمكان الأحمى، الذي مكانه منه- وإن كان أمير مجلس «1» - صدر الرّواق، وله الكرامات التي ترى الخدود لها صعر، وكم سقت من سمّ العداة دافة الذّعر، وكم قابل نوره نارا فصارت بردا وسلاما، وتكلّم على خاطر فشاهد الناس منه شيخا من حيث الشبيبة أجلّ الله قدره غلاما؛ فهو المجاهد للكفّار، وهو المتهجّد في الأسحار، وهو حاكم الفقراء وإن كان سلطانه جعله أستاذ الدّار؛ وهو صاحب العصا التي أصبح بحملها مضافة إلى السّيف يتشرّف، ومعجزها لا يستكثر له أنها لكلّ حيّة تتلقّف، وهو الذي تحمد الكشوف والسّيوف فتوحه وفتحه، والذي يشكر يده عنان كلّ سابح وزمام كلّ سبحة؛ وكم أسال بيديه من دماء الأعداء ماء(13/174)
جرى، وعمل بين يديه للفقراء ما جرى، وكم وليّ لله خفي شخصه فأظهر محضه فقال الوليّ: وما أدري درا لولا بيدرا- اقتضى حسن الرأي الشريف أن يجمّل إحسان الدولة القاهرة له عملا، وأن يحسن له علّا ونهلا، وأن يختار له إذ هو صاحب العصا كما اختار موسى قومه سبعين رجلا.
وخرج الأمر العاليّ- لا زال ظلّه ظليلا، بامتداد الفيء بعد الفيء، وعطاؤه جزيلا، بتنويل الشيء بعد الشيء- وهو ذو الكرم والكرامات، وصاحب العصا بالأستادارية، ولا يستكثر لصاحبها سحر الحيّات.
وهذه نسخة منشور من ذلك لمن لقبه سيف الدّين، من إنشاء المقرّ الشهابيّ بن فضل الله «1» ؛ وهي:
الحمد لله الذي جرّد في دولتنا القاهرة سيفا ماضيا، ووفّق من جعل فعله لمزيد النّعم متقاضيا، وأسعد بإقبالنا الشريف من أصبح به سلطانه مرضيّا وعيشه راضيا.
نحمده على نعمه التي تسرّ مواليا وتسوء معاديا، وتقدّم من أوليائنا من يقوم مقامنا إذا سمع مناديا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة كم أروت في موارد الوريد من الرّماح صاديا، وأورت هاديا، ورفعت من أعيان الأعلام هاديا، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أنزل القرآن بصفاته حاليا، وأحلّنا ببركة المشاركة في اسمه المحمّديّ مكانا عاليا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة لا يبرح كلّ لسان لها تاليا، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ صدقاتنا الشريفة لم تزل تجدّد إنعاما، وتزيد إكراما، وتضاعف لكلّ من أضحى ناصرنا بحقيقة ولائه إجلالا وإعظاما، ليترقّى إلى أعلى الدّرج،(13/175)
ويعلم أنه قد ورد البحر فيحدّث عن كرمه ولا حرج، ومن رأى التقرّب إلى الله تعالى بمراضينا الشريفة فتقرّب إليها، وأقبل بقلب مخلص عليها، وأشبه البدور في مواقفه توسّما، وحكى السّيف بارق ثغره لمّا أومض في حومة الحرب متقسّما، وأقدم حين لم يجد بدّا أن يكون مقدّما، ووصفت الطّعنات التي أطلعت أسنّتها الكواكب بها درّيّة، والحملات التي تقرّ العدا لفعلاتها أنها بهادريّة؛ كم له من محاسن، وكم عرفت له من مكامن، وكم له من صفات كالعقود يصدق بها من قال: الرجال معادن؛ كم له من همّة تترقّى به إلى المعالي، كم له من عزمة يروى حديثها المسند عن العوالي؛ كم به أمور تناط، وكم جمهور يحاط؛ كم له من احتفاء واحتفال، وكم له من قبول وإقبال، وكم له من وثبات وثبات، وكم له من صفات وصفات، وكم له إماتة كماة؛ كم له من مناقب تصبح وتمسي، وكم له من معارف لمّا علم بها ملكه- خلّد الله ملكه- قالَ الْمَلِكُ: ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي
«1» فلذلك لا تزال آراؤنا العالية تعقد له في كلّ وقت راية، وتسعى به إلى أبعد غاية، وتتبع له عناية بعد عناية، حتى لا تخلو دولتنا الشريفة من سيف مشهور، وعلم منشور، وبطل لا يردّ عن الصّميم تصميما، ولا تعدّ أكابر الأمراء إلا ويكون على العساكر مقدّما وعلى الجيوش زعيما: ليعلم كلّ مأمور وأمير، وكلّ مماثل ونظير، أنّ حسن نظرنا الشريف يضاعف لمن تقرّب إلينا بالطاعة إحسانا، ويوجب على من وجد الميسور بهذا المنشور امتنانا: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً
«2» ولمّا كان فلان هو المعنيّ بهذه المقاصد، والمخصوص بهذه الممادح والمحامد، والواحد الذي ما قدّم على الألف إلّا وكالألف ذلك الواحد.(13/176)
فلذلك خرج الأمر الشريف- لا زالت أيّامه موصولة الخلود، موسومة بمزايا الجود- أن يجرى في إقطاعه.........
وهذه نسخة منشور من ذلك لمن لقبه «شمس الدين» كتب به في الدولة الناصرية «محمد بن قلاوون» ؛ وهي:
الحمد لله الذي جعل دولتنا القاهرة مطلع كلّ قمر منير، ومجمع كلّ مأمور وأمير، وموقع كلّ سحاب يظهر به البرق في وجه السّحاب المطير، الذي شرّف بنا الأقدار، وزاد الاقتدار، وجعل ممالكنا الشريفة سماء تشرق فيها الشّموس والأقمار.
نحمده على نعمه التي تختال أولياؤنا بها في ملابسها، وتختصّ بنفائسها، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نجرّد سيف الدّين لإقامتها، ونحافظ بوقائعه في الحرب على إدامتها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي خصّه بمزيّة التقريب، وشرفه على الأنبياء بالمكان القريب، صلّى الله عليه وعلى آله الذين عظّمهم بقربه، وكرّمهم بحبّه، وقدّمهم في السّلف الصّالح إذا جاء كلّ ملك بأتباعه وكلّ ملك بصحبه، وسلّم.
وبعد، فإن أولى الأولياء أن تشمله صدقاتنا الشريفة بحسن نظرنا الشريف، وبرفعة قدره المنيف، ليتمّ له إحسانها، ويزيد إمكانها، حتّى ينتقل هلاله إلى أكمل مراتب البدور، ويمتدّ بحصنه المستظلّ به كثير من الجمهور، ويتقدّم في أيّامنا الشريفة إلى الغاية التي يرجوها، ويقدّم قدمه إلى مكانة أمثاله التي حلّوها، وتتكمّل بنا نعمة الله: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها
«1» - الناصريّ بحقيقة ولائه، البهادريّ «2» شجاعة في لقائه، من تكفّلت صدقاتنا العميمة له بما لم يكن(13/177)
في أمله، وجمّلت حمايتنا الشريفة معاطفه بأبهى مما ينسجه الربيع من حلله، وتوسّمنا فيه من معرفة تقرّب إلى مراضينا الشريفة بها دريّا، وهمّة جرّدنا بها منه سيفا بهادريّا، وطلعة أطلعت منه بالبهاء كوكبا درّيّا، مع ما تخوّل فيه من نعمنا الشريفة، وقام به في أبوابنا العالية من أحسن القيام في كلّ وظيفة.
ولما كان فلان هو الذي أشرنا إليه، ونبّهنا مقل النجوم عليه، فاقتضت آراؤنا الشريفة أن نبلّغه أقصى رتب السعادة، ونعجّل له بحظّ الذين أحسنوا الحسنى وزيادة، ليعدّ في أكابر أمراء دولتنا الشريفة إذا ذكروا، والمقدّمين على جيوشنا المنصورة إذا بادروا إلى مهمّ شريف أو ابتدروا، ليعلم كلّ أحد كيف يجازى كلّ شكور، وكيف يتحلّى بنعمنا الشريفة كلّ سيف مشهور، وكيف نذكر واحدا منهم فيغدو في زعماء العساكر المؤيّدة وهو مذكور، ليبذلوا في خدمة أبوابنا الشريفة جهدهم، ويتوكّلوا على الله تعالى ثم على صدقاتنا العميمة التي تحقّق قصدهم.
فلذلك خرج الأمر الشريف.........
وهذه نسخة منشور من ذلك، كتب به في الدولة الناصرية «محمد بن قلاوون» لمن لقبه «بدر الدين» ؛ وهي:
الحمد لله الذي زيّن أفق هذه الدّولة القاهرة ببدرها، وسيّرة في درج أوجها ونصرها، ونقّله في بروج إشراقها ومنازل فخرها.
نحمده على نعمه المنهلّة ببرّها، المتهلّلة ببشرها، المتزيّدة كلّما زدنا في حمدها وشكرها، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنطق بها القلوب في سرّها وجهرها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المبعوث إلى الأمم(13/178)
بأسرها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تملأ الوجود بأجرها، وتضمن لأمّتها النّجاة يوم حشرها.
وبعد، فإنّ أولى من تنعّمت النّعمى بتواليها عليه ومرّها، وخير من استقرّت الخيرات عنده في مستقرّها، وأعلى من عمّمته ألسنة الأقلام ببدائع نظمها ونثرها، وخصّصته بمحامد تتأرّج المناشير بنشرها- من كان للدولة القاهرة يشرح صدرها، بتيسير أمرها، ويشدّ أزرها، بحمل وزرها، ويتكفّل بأداء فرائض إتمامها ونصرها، ويوصّل حمل ما يفتحه من الحصون الضّيّقة إلى مصرها.
ولما كان فلان هو بدر هذه السماء ومنير زهرها، ونيّر نجوم هذه المقاصد ومبتدأ فخرها، وفريدة عقد هذه القلائد ويتيمة درّها، وصاحب هذه الألغاز ومفتاح سرّها- اقتضت الآراء الشريفة أن تزفّ إليه عرائس العوارف، ما بين عوانها وبكرها، وترفّ عليه نفائس اللّطائف، ما بين شفعها ووترها، وتتهادى إليه الهدايا ما بين صفرها وحمرها، وتتوالى عليه الآلاء ما بين ثمرها وزهرها، وأن تزاد عدّته المباركة في كمّيّتها وقدرها، وأن تكمّل عشراته التّسع بعشرها، ليعلم أنه لا يبرح في خلدها وسرّها، وأنها لا تخليه ساعة من سعيد فكرها.
فلذلك خرج الأمر العاليّ- لا زالت الأقدار تخصّ دولته القاهرة بإطابة ذكرها، وإطالة عمرها، ولا برحت الأملاك كفيلة بنصرها، بمضاء بيضها وإعمال سمرها- أن يجري.........
وهذه نسخة منشور من ذلك كتب به في الدولة الناصرية «محمد بن قلاوون» لمن لقبه «صلاح الدين» ، وهي:
الحمد لله الذي أتحف الممالك الشريفة من سعيد تدبيرنا، بصلاحها، وصرف حميد تأثيرنا، بإنجاب الأولياء وإنجاحها، وأسعف طوامح أمانيّهم: من اقترابهم من خواطرنا الشريفة في بعدهم وتدانيهم بإجابة سؤالها وإصابة اقتراحها.
نحمده على أن جعل نصر دولتنا الشريفة قريبا من نصّاحها، ونشكره على أن(13/179)
وصل أراجيّهم بإرباحها، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تحسن المآل والعاقبة لذوي الإخلاص كما أحسنت في ابتدائها وافتتاحها، ويؤذن حسن اعتنائها لأحوال أولي الاختصاص بإصلاحها، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي عمّت مواهبه، بإبراق سمائها وإغداق سماحها، وسمت مناقبه، بائتلاق غررها وإشراق أوضاحها، وأمّت مواكبه، ديار العدا فشدّت عليهم مشهور قراعها ومنصور كفاحها، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين أصابت أكفّهم في السّلم بمسعفات أقلامها وصالت أيديهم في الحرب بمرهفات رماحها، ما جرت الأقدار بمتاحها، وسرت المبارّ لممتاحها، وظهرت آثار الإقبال التامّ على من له بخدمتنا اهتمام واحتفال فلاح على مقاصده معهود فلاحها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من لمحه نظرنا الشريف حيث كان، ورجّحه فكرنا الحسن الجميل فمنحه الإجمال والإحسان، من لم يزل شكره أرجا بكلّ مكان، وذكره بهجا تسري به الركائب وتسير به الرّكبان، وصدره الرحيب مستودع الأسرار فلا تصاب إذ كانت فيه تصان، وقدره عندنا المحفوظ المكانة، فإن بعد فهو قريب دان، وأمره منّا الملحوظ بالإعانة، فلا نزال نوليه البرّ ونعلي له الشّان.
ولما كان فلان..........
وهذه نسخة منشور، كتب به للأمير سعد الدين مسعود بن الخطيري، من إنشاء الشريف شهاب الدين كاتب الإنشاء؛ وهو:
الحمد لله على نعمه التي زادت سعودا، وضاعفت صعودا، وكرّمت في أيّامنا من لا حاجب له عن أن نمنحه من إنعامنا مزيدا، وقدّمت بين أيدينا الشريفة من أوليائنا من غدا قدره عندنا خطيرا وحظّه لدينا مسعودا.
نحمده على أن أنجز لأصفيائنا من وفائنا وعودا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تحمد لمخلصها صدورا وورودا، وتلقى مؤمنها بالبشر إذا جمع الموقف وفودا، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي شرّف بإنجاده مطرودا،(13/180)
وأردف بالملائكة جنودا، وأوصل به حقوقا وأقام حدودا، وحجب ببركاته وفتكاته الأسواء فغدا العدل موجودا، وأضحى الحكم مقصودا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين ما منهم إلا من كان بالمؤمنين رحيما وعلى المشركين شديدا.
أما بعد، فنعمنا إذا أولت وليّا، منحها والت، وإذا قدّمت صفيّا، وهبته مزيدها وأنالت، وإذا أقبلت بوجه إقبالها على مخلص تتابعت إليه المسرّات وانثالت، لا سيّما من أطابت الألسنة الثناء عليه وأطالت، وجبلت سجاياه على العدل والمعرفة فما حافت ولا مالت، وأوصلت رأفته منّا المستضعفين وعلى المجرمين سطوته صالت؛ فبيمن مقاصده هانت الخطوب وإن كانت فتكاته في الحروب كم هالت، وهممه في السّلم قد جلّت ويوم الرّوع كم جالت، وعزائمه كم غارت فأغارت وللمعتدين كم غالت، وكم سبق إلى خدمتنا صاحب الشمس وكيف لا وهو البدر ولكنه لم يزل وإن هي زالت.
وكان فلان هو الذي نقّلناه في درجات التّقديم حتّى كمل بدره، ووقّلناه في مراتب التّكريم حتّى أصبح وهو المسعود حظّه المحمود ذكره، وخوّلناه مواهب جودنا العميمة فاستدّ «1» باعه واشتدّ أزره.
فلذلك خرج الأمر الشريف- لا برح إنعامه يجلّ عن الحصر، ودولته يخدمها العزّ والنّصر، وإكرامه يقضي بمسرّات الأولياء بالجمع ويفضي إلى أعمار الأعداء بالقصر-..........
وهذه نسخة منشور، كتب به لعلاء الدين إيدغمش أمير آخور «2» الناصريّ(13/181)
[كتب به في الدولة الناصرية] «1» محمد بن قلاوون، من إنشاء الشريف؛ وهو:
الحمد لله الذي زاد علاء دولتنا الشريفة، وأفاد النّعماء التامّة من قام بين أيدينا أتمّ قيام في أتمّ وظيفة، وأجاد الآلاء المتوالية بمن أعنّة الجياد بإشارته مصرّفة ومنّة الجود بسفارته مصروفة، وأراد الاصطفاء لأعزّ همام: في قلوب الأولياء له محبّة وفي قلوب الأعداء منه خيفة، وأباد أولي العناد بفتكاته التي بها الغوائل مكفيّة والطّوائل مكفوفة، وشاد الملك الأعزّ بإرفاد وليّ له الشجاعة المشكورة والطاعة المعروفة.
نحمده على أن جعل اختياراتنا بالتّسديد محفوظة وبالتأييد محفوفة، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة السّرائر لإخلاصها ألوفة، والضّمائر على اختصاصها معطوفة، ونشهد أنّ سيدّنا محمدا عبده ورسوله الذي نسله من النّبعة المنيفة وأرسله بالشّرعة الحنيفة، وفضّله بالرّفعة على ظهر البراق إلى السّبع الطّباق وجنود الأملاك به مطيفة، صلّى الله عليه وعلى آله ذوي الهمم العليّة والشّيم العفيفة، ورضي الله عن أصحابه الذين لو أنفق أحد مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه، صلاة تبيّض بالأجور الصّحيفة وتعوّض بالوفور من مبرّاتنا الجليلة بفكرتنا الجميلة اللطيفة، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فكرمنا يسبغ المواهب والمنائح، ونعمنا تبلّغ المآرب والمناجح، فلا نبرح ننقل في درجات الصّعود من هو في خدمتنا لا يبارح، ويتكفّل صالح نظرنا الشريف صلاح حال من أجمل النصائح وأثّل المصالح، فكم راض لنا من جامح، وخاض بحر الوغى على ظهر سابح، وحمى رواق الإسلام من رعبه بذبّ ورمى أعناق الكفّار من عضبه بذابح، وأصمى المقاتل بكل نابل يستجنّ في الجوانح، وانتمى إلى سعادة سلطاننا الناصر الفاتح، وسما عزم إعلائه بتقريبه وإدنائه إلى السّماك الرامح. طالما مسّ الكفّار الضّرّ إذ مسّاهم بالعاديات الضّوابح «2» ، وأحسّ(13/182)
كلّ منهم بالدّمار لما ظنّ أنه لحربه يكابد ولحزبه يكافح، وصبّحهم بإغاراته على الموريات قدحا «1» فأغرى بهم الخطوب الفوادح، وطرحهم بالفتكات إلى الهلكات فصافحت [رقابهم] «2» رقاب الصّفائح، وأخلى من أهل الشّرك المسارب والمسارح، وأجلى أهل الإفك عن المطارد والمطارح.
ولمّا كان فلان هو الذي استثار إليه شأن هذه المدائح، وسار بذكره وشكره كلّ غاد ورائح.
خرج الأمر الشريف- لا برح سبيل هداه الواضح، وجزيل نداه يغدو كالغوادي بالعائد والبادي من فضله وهو الناصح،..........
وهذه نسخة منشور، كتب به للأمير شمس الدين سنقر البكتوتي الشهير بالمسّاح؛ وهي:
الحمد لله الذي أجزل المواهب، وجدّد من النّعم ما لا تزال الألسنة تتحدّث عن بحرها بالعجائب، وأطلع في أفق الدولة الشريفة شمسا تستمدّ من أنوارها الكواكب.
نحمده على نعم يتوالى درّها توالي السحائب، ويغالى درّها عن أن تطوّق «3» به الأذنان والتّرائب، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تختصّ قائلها من درجات القبول والإقبال بأسمى الدّرجات وأسنى المراتب، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي اصطفاه من لؤيّ بن غالب، وصان ببعثته الشريفة رداء النّسك عن كلّ جاذب، وخصّه بأشرف المواهب، وصيّر الإيمان بنور(13/183)
هدايته واضح السّبل والمذاهب، صلى الله عليه وعلى آله وصخبه صلاة لا يمضي جزء من الدّهر إلا ووجودها فيه وجود الفرض الرّاتب، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أحقّ من حلّي من النّعماء بأفضل العقود، وخصّ بأضفى ملابس الإقبال وأصفى مناهل الإفضال: فاستعذب من هذه الورود، واختال من هذه في أجمل البرود، ومنح من الإقبال بكلّ غادية تخجل السحاب إذ يجود، وإن رقمت بها الأقلام سطورا في طروس أزرت بالزّهر اليانع والرّوض المجود، ونقل قدره من منزل عزّ إلى منزل أعزّ فكان كالشّمس تنتقّل في منازل الشّرف والسّعود- من ظهرت مكارم سماته، واشتهرت محاسن صفاته، وطلعت في سماء العجاج نجوم خرصانه ولمعت في دجى النّقع بروق ظباته «1» ، وقدّم على الجيوش والجحافل فظهرت نتائج التأييد والتّسديد من تقدّمه وتقدماته، وهزم جيوش الأعداء، في مواقف الهيجاء؛ بثبات أقدامه في إقدامه ووثباته، وتجرّد في المهمّات والملمّات تجرّد الماضيين: من سيوفه وعزماته.
ولما كان فلان هو الموصوف بهذه الأوصاف الجليلة، والمنعوت بهذه المحاسن الجميلة، والمشار إليه بهذه المحامد والممادح التي تزهو على زهر الكواكب، وتسمو بما له من جميل المآثر والمناقب- أوجب له الاختيار المزيد، وقضى له الامتنان بتخويله نعما وتنويله مننا: تضحي هذه عقدا في كلّ جيد، وتمسي هذه مقرّبة له من الآمال كلّ بعيد- واقتضى حسن الرّأي الشريف أن يمنح بهذا المنشور، ليخصّ من الأولياء بالسعد الجديد والجدّ السعيد.
فلذلك خرج الأمر الشريف.........(13/184)
وهذه نسخة منشور، كتب به للأمير خاص «1» ترك في الرّوك «2» الناصريّ؛ وهي:
الحمد لله على نعمه التي سرت إلى الأولياء ركائبها، وهمت على رياض الأصفياء سحائبها، وتوالت إلى من أخلص في الطاعة بغرائب الاحسان رغائبها، وتكفّلت لمن خصّ بأسنى رتب البرّ الحسان مكارمها العميمة ومواهبها، وغمرت بحار كرمها الزاخرة من يحدّث عن شجاعته ولا حرج كما يحدّث عن البحور التي لا تفنى عجائبها.
نحمده على نعمه التي إذا أغبّتنا سحائب النّدى أعقبت سحائب، وخصّت الخواصّ من درج الامتنان بمراتب تزاحمها الكواكب على نهر المجرّة بالمناكب، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لا يزال الجهاد يرفع ألويتها، والجلاد يعمر بوفود الإخلاص أنديتها، والإيمان يشيّد في الآفاق أركانها الموطّدة وأبنيتها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أيده الله بنصره، وخصّه بمزيّة التّقدّم على الأنبياء مع تأخّر عصره، وآتاه من المعجزات ما تكلّ ألسنة الأقلام عن إحصائه وحصره، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين حاطوا دينه بالمحافظة على جهاد أعدائه، وأيّدوا ملّته بإعادة حكم الجلاد في سبيل الله وإبدائه، صلاة لا يزال الإيمان يقيم فرضها، والإيقان يملأ طول البسيطة وعرضها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن أولى من ضوعفت له النّعم، ووطّدت له الرّتب التي لا تدرك غاياتها إلا بسوابق الخدم، وأشرقت به مطالع السّعود، وحقّقت له مطالب الاعتلاء والصّعود، ورفعته مواقع الإحسان إلى أسنى المراتب التي هو مليّ بارتقائها، وتولّت له هوامع البرّ والامتنان انتقاء فرائد النّعم التي هو حقيق باختيارها(13/185)
وانتقائها، وبلّغته العناية بأجلّ مما مضى قدرا، واستقبلته الرعاية من أفق الإقبال بما إذا حقّق التأمّل وجد هلاله بدرا- من ربّي في ظلّ خدمتنا التي هي منشأ الآساد، ومربى فرسان الجهاد، وعرين ليوث الوغى التي آجامها عوالي الصّعاد، وبراثنها مواضي السّيوف الحداد، وفرائسها كماة أهل الكفر وحماة أرباب العناد؛ فكم له في الجهاد من مواقف أعزّت الدّين، وأذلّت المعتدين، وزلزلت أقدام الأبطال، وزحزحت ذوي الإقدام عن مواقف المجال، وحكّمت صفاته «1» في القمم، وأنبتت صفاحه في منابت الهمم، وفرّقت ما لأهل الكفر من صفوف، وأرتهم كيف تعدّ ألوف الرجال بالآحاد وآحادها بالألوف.
ولما كان فلان هو الذي أشير إلى مناقبه، ونبّه على شهرة إقدامه في كل موقف يمن عواقبه، وأوميء إلى خصائص أوصافه التي ما زال النصر يلحظها في مشاهد الجهاد بعين ملاحظه ومراقبه- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نجدّد اعتلاء مجده، ونزيد في أفق الارتقاء إضاءة إقباله وإنارة سعده.
فلذلك خرج الأمر الشريف لا زال...... الخ.
وهذه نسخة منشور كتب به في الدولة الناصرية محمد بن قلاوون لجمال الدّين أقوش الأشرفي «2» ، المعروف بنائب الكرك عند خروجه من الجبّ؛ وهي:
الحمد لله مفرّح القلوب، ومفرّج الكروب، ومبهج النفوس بذهاب غياهب الخطوب، ومبلّغ من تقادم عهده في حفظ ولائنا نهاية المرغوب، وغاية المطلوب، الذي أعاد إلى المخلصين في طاعتنا النعمة بعد شرودها، وعوّضهم عن تقطيب الأيّام بابتسامها وعن خمولها بسعودها، وألقى على الأول منهم جمالا لا يسع الأذهان أن تّتصف بإنكار حقوقه وجحودها.(13/186)
نحمده على ما وهبنا من الأناة والحلم، وخصّ به دولتنا من المهابة التي تخشى يوم الحرب والمواهب التي ترجى يوم السّلم، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تكفّلت بالنجاة لقائلها، وأغنت من حافظ عليها عن ضراعات النّفوس ووسائلها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المبعوث برعاية الذّمم، والمنعوت بحسن الرأفة التي هي شعار أهل الوفاء والكرم، [صلى الله عليه] وعلى آله وصحبه ما تلافت الأقدار نفوسا من العدم، وتوافت الأمانيّ والمناجح فأظفرت من أخلص نيّته الجميلة بردّ ضالّة النّعم، صلاة تضفي على الأولياء حلل القبول والرضا، وتصفي من الأكدار مناهل سرورهم فكأنّ الخطب أبرق وأومض فمضى، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من انتظمت بعد الشّتات عقود مسارّه، وابتسمت بعد القطوب ثغور مبارّه، واشتملت عواطفنا عليه فجلبت أسباب منافعه وسلبت جلباب مضارّه، واحتفلت عوارفنا بالملاحظة لعهده الوثيق العرا، والمحافظة على سالف خدمته التي ما كان صدق ولائها حديثا يفترى، وسبق له من الاختصاص في الإخلاص ما يرفعه من خاطرنا مكانة عالية الذّرا- من أضحى من السابقين الأوّلين في الطاعة، والباذلين في أداء الخدمة والنّصيحة لدولتنا جهد الاستطاعة، والمالكين للمماليك بحسن الخلّة وجميل الاعتزام، والمحافظين على تشييد قواعد الملك بآرائه وراياته التي لا تسامى ولا تسام، وأمسى هو الوليّ الذي لا يشاركه أحد في إخلاص الضمير في موالاتنا وصفاء النّيّة، ولا يساهمه وليّ فيما اشتمل عليه من صدق التعبّد وجميل الطّويّة، المخلص الذي انفرد بخصائص الحقوق السابقة والآنفة، وامتاز بموجبات خدم لا تجحد محافظتها التالدة والطارفة، وطلعت شمس سعادته في سماء مملكتنا فلم يشبها الغروب، وأضاء بدره في أفق عزّه فكان سراره «1» مذهبا لأعين الخطوب.
ولما كان فلان......... الخ.(13/187)
الضرب الثالث- مما يفتتح بالحمد مناشير أمراء الطبلخاناه.
وقد تقدّم أنّها كمناشير مقدّمي الألوف في الترتيب إلا أنها أخصر منها.
وهذه نسخ مناشير من ذلك:
نسخة منشور كتب به لبعض الأمراء؛ وهي:
الحمد لله رافع الأقدار، ومجزل المبارّ، وجاعل يمين كرمنا مبسوطة باليسار.
نحمده على غيث فضله الدّارّ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة سرّت الأسرار، وأذهب نورها ما كان للشرك من سرار، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أنجد له في نصر الحق وأغار، وأرهف من سيف النّصر الغرار، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين منهم من كان ثاني اثنين في الغار، ومنهم من سبقت له دعوة سيد المرسلين من سالف الأقدار، ومنهم من كرّم الله وجهه فكان له من أعظم الأنصار.
وبعد، فإنّ العطايا أيسر ما يكون تنويلها، وأسرّ ما يلفى تخويلها، إذا وجدت من هو لرايتها متلقّيا، وفي ذرا الطاعة مترقّيا، ومن إذا صدحت حمائم التأييد كانت رماحه الأغصان، وألويته الأفنان، ومن تردّى ثياب الموت حمرا فما يأتي لها الليل إلا وهي بالشهادة مخضرّة من سندس الجنان، وإذا شهر عضبه، أرضى ربّه، وإذا هزّ رمحه، حمى سرحه، وإذا أطلق سهما، قتل شهما، وإذا جرّد حساما، كان حسّاما، وإذا سافرت عزائمه لتطلب نصرا، حلّت سيوفه فجاءت بالأوجال جمعا وبالآجال قصرا.
ولما كان فلان هو الذي جمع هذه المناقب الجمّة، وامتاز بالصّرامة وعلوّ الهمّة، استحقّ أن ينظر إليه بعين العناية، وأن يجعل ابتداؤه في الإمرة دالّا على أسعد نهاية.(13/188)
فلذلك خرج الأمر الشريف- لا زال يرفع الأقدار، ويجزل المبارّ، أن يجرى في إقطاع......... الخ.
وهذه نسخة منشور لمن لقبه زين الدين؛ وهي:
الحمد لله الذي وهب هذه الدولة من أوليائها أحسن زين، ومنحها منهم من يشكر السيف والعنان منه اليدين، ومن يملأ ولاؤه القلب وثناؤه السّمع وبهاؤه العين.
نحمده على نعمه التي نفت عن نور الملك كلّ شيء من شين، وأبقت له من كماته وحماته من لا في إخلاصه ريب ولا في محافظته مين «1» ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة متبرّي من اتخاذ إلهين اثنين، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله شهادة متمسّك من هذه وهذه بعروتين، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة دائمة ما جمع المسافر من الصلوات بين الأختين، وما جلس خطيب بين خطبتين، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ خير من رقى خطيبه إلى أرفع رتبة، وأنجح في تخويل النّعم على كل طلبة ورغبة، لا بل أهديت إليه عرائس النّعماء وقد ابتدأت هي بالخطبة، وكثّر له في معروف أصبح ببذله معروفا، وأعين على جود أمسى به موصوفا، وذلّلت له قطوف إحسان كم ذلّل الأولياء [من أجله] «2» في مراضي الدولة ومحابّها قطوفا فقطوفا- من خلف الملك أحسن الخلف، ومن له بفعل الخير أعظم كلف، ومن يشهد له بالشّجاعة الخيل واللّيل والبيداء، والسيف والرمح والأعداء؛ فلا غزوة إلا له فيها تأثير وأثر، ولا ندوة إلا وبها من وصفه بالذكر الجميل سمر، تتشوّف إلى ملاحظة غرّته كلّ عين ويتبيّن لحياطته في الوجود كلّ أثر، ما أنار وجهه في نهار سلم إلا وقيل الشمس ولا بدا في ليل خطب إلّا وقيل القمر.(13/189)
ولما كان فلان هو بدر هذه الهالة، وجلّ هذه الجلالة، ونور هذه المقلة، ولابس هذه الحلّة- اقتضى حسن الرأي الشريف أن تكثّر لديه النّعم وأن يجري بتنمية الإحسان هذا القلم.
فلذلك خرج الأمر الشريف- لا برح يجود، وبالخيرات يعود- أن يجري في إقطاعه......... الخ.
وهذه نسخة منشور من ذلك؛ وهي:
الحمد لله الذي أيّد دولتنا القاهرة بكل راية تعقد، وأمير يؤمّر وجنود تجنّد، وكلّ بطل إذا جرّد عزمه سلّم إليه المهنّد، واشتبه الرمح بمعاطفه فلم يدر أيّهما تأوّد.
نحمده كما يجب أن يحمد، ونمدحه بما لا يماثله الدّرّ المنضّد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أفضل ما به نشهد، ونصلّي على نبيّه وعبده سيدنا محمد، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه في كل مقال يتجدّد، صلاة فيها الأقلام لا تتردّد فيما تتردّد، ورضي الله عن أصحابه وسلّم وكرّم ومجّد، ما غرب فرقد وطلعت شمس ثم ما غربت شمس وطلع فرقد.
وبعد، فإنّ لآرائنا العالية المزيد في كل ما تقتضيه، وفي كل من ترتضيه، من جميع أوليائها، لجميل آلائها، ممن فاق أبناء جنسه، وكان في أمثاله وحيدا لأنه لا يوجد له نظير وهو كثير بنفسه، وتسابقت الخيل إلى ارتقائه على صهواتها، والتطمت بحار الوغى لما ألقى له كلّ سابح في غمراتها، وافتخرت القسيّ بمدّه الذي لا تخرج به الأقمار عن هالاتها، والسيوف لأنه إذا اشتركت معه في لقب كان أسمى مسمّياتها، والرماح لأنه كم له عليها من منّة لما أطلقها في الحروب من اعتقال راياتها، وتجدّدت الألسنّة فيما يتلوه من سورات الفرسان لأنه أكبر آياتها؛ وهو الذي انتظمت به المعالي والعوالي قصدها الذي به يرى غمرات الموت(13/190)
ثم يزروها على ما هي عليه من إهالاتها «1» ، مع ماله في خدمتنا الشريفة من سوابق لا تجارى في سبيل، ولا يلحق لها شأوا أشهب الصبح ولا أدهم الليل ولا أشقر البرق ولا أصفر الأصيل: فاقتضت صدقاتنا الشريفة له الإحسان، وتقاضت عوارفنا الحسان، فرفعت له رتبة لا يبلغها كثير من الناس إلا باللسان؛ وكان فلان هو الذي حسن وصفا، وشكرت مساعيه سجاياه وهو أوفر وأوفى.
فلذلك خرج الأمر الشريف...... الخ.
وهذه نسخة منشور؛ وهي:
الحمد لله على نعمه التي أسنت المواهب، وأغنت الأولياء بآلائها عن دوم الدّيم وسحّ السحائب.
نحمده على غرائب الرّغائب، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تتكفّل لقائلها ببلوغ المآرب، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي افتخرت باسمه المناقب، وانتصرت بعزمه المقانب «2» ، وقهر بباسه كلّ جان وعمر بناسه كلّ جانب، وكشف الله ببركته اللّأؤاء «3» ، وغلب بفتكاته الأعداء؛ وكيف لا وهو سيّد لؤيّ بن غالب، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين أذلّ بجهادهم المحارب، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من أعذبنا نهله، وأنجحنا أمله، وأجزلنا [له] «4» من هبات جودنا [وأغدقنا عليه من منن عطائنا ورفدنا- من نازل الأعداء يوم الوغى فراح] «5»(13/191)
إلى أعلامهم فنكّسها وإلى أعناقهم فوقصها «1» ، وحكّم سيفه في أشلائهم وأرواحهم: فهذه اقتناها وهذه اقتنصها؛ ما فوّق يوم الرّوع سهمه إلا أصاب المقاتل، ولا شهر سيفه إلا قهر ببأسه كلّ باسل، ولا سارت عقبان راياته إلى معترك الحرب ضحى إلا ظلّل بعقبان طير في الدماء نواهل.
ولما كان فلان هو الذي يشير إليه بنان هذا المدح، ويسير إليه إحسان هذا المنح- فلذلك خرج الأمر الشريف: لا برحت ظلال كرمه وارفة، وسحائب نعمه واكفة- أن يجرى في إقطاعه...... الخ.
وهذه نسخة منشور تصلح لمن مات أبوه؛ وهي:
الحمد لله الذي جعل سماء كرمنا، على الأولياء هامية السّحاب، وعوارف نعمنا، جميلة العقبى للأعقاب، وعواطف أيامنا الشريفة تجزل العطاء وتجبر المصاب.
نحمده على نعمه التي ما سخنت «2» العيون إلا أقرّتها، ولا اكتأبت النّفوس بملمّة إلا سرّتها، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لا يزال ربع الأنس بها معمورا، وصدع النّفس بها مجبورا، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي أصبح شعث الإيمان به ملموما، وحزب الطّغيان به مهزوما، وداء البهتان بحسامه محسوما، صلّى الله عليه وعلى آله الذين كان هو بدر السيادة وكانوا نجوما، صلاة لا يبرح ذكرها في صحائف القبول مرقوما، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من درّت أخلاف جودنا لخلفه، ورعى كرمنا خدم سلفه، ونقّلنا هلاله من تقريبنا إلى منازل شرفه، وأجراه إحساننا على جميل عوائده، وسوّغه نوالنا أعذب موارده، جمع له إنعامنا بين طارفه وتالده، من أستمسك من(13/192)
سبب إخلاصنا بآكده، وحذا في ولائنا أحسن حذو ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده، واشتهر بالشّهامة التي أغنت بمفردها عن الألوف، وعرف بالإقدام الذي طالما فرّق الجموع واخترق الصّفوف، ما دنا من الأعداء إلا دنت منهم الحتوف، ولا أظلم ليل النقع إلا جلته أنجم الصّعاد وأهلّة السّيوف.
ولما كان فلان هو الممدوح بجميل هذه الشّيم، والممنوح جزيل هذه النّعم، والشبيه في موالاتنا بأبيه ومن أشبه أباه فما ظلم.
فلذلك خرج الأمر الشريف- لا برحت سحب كرمه هاطلة الأنواء، شاملة الآباء والأبناء- أن يجرى في إقطاعه...... الخ.
النوع الثاني
(من المناشير ما يفتتح ب «أما بعد» ويختصّ بأمراء العشرات ومن في معناهم:
كأمراء العشرينات ونحوهم ممّن لم يبلغ شأو الطّبلخانات) وهي على ضربين:
الضرب الأوّل (في مناشير العشرات، كائنا ذلك الأمير من كان)
وهذه نسخ مناشير من ذلك:
نسخة منشور من ذلك؛ وهي:
أما بعد حمد الله على نعمه التي يبديها ويعيدها، ويفيئها ويفيدها، ويديمها على من شكر ويزيدها، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي نزلت لنصره ملائكة السماء وجنودها، وأخذت على الإقرار بنبوته مواثيق الأملاك وعهودها، وعلى آله وصحبه الذين هم أمناء الأمّة وشهودها- فإنّ أحقّ من تقلّب في إنعامنا، وتقدّم في أيّامنا، وتوالت إليه آلاؤنا تترى، وتكرّرت عليه نعماؤنا مرّة بعد أخرى، من ظهرت آثار خدمته، وصحتّ أخبار نجدته، وشكرت مساعيه الجليلة،(13/193)
وحمدت دواعيه الجميلة، وكان له من صفاته الحسنى، ما ينيله من الدّرجات الأعلى ومن المطالب الأسنى.
ولما كان فلان ممّن زانته طاعته، وقدّمه إقدامه وشجاعته، وشهدت له مواقف الحروب، أنه مجلي الكروب، وأقرّ له يوم الوغى، بإبادة من بغى، وكان له مع الشهامة الرأي الثاقب، والسّهم الصائب، يصيب ولا يصاب، جذع القريحة، رابط الجأش عند تغيّر الأذهان الصحيحة- اقتضى حسن الرأي الشريف أن ترفع درجته، وتعلى رتبته، وينظم في عقود الأمراء، ويسلك به جادّة الكبراء، لترقّيه في درج السعادة، وتبلغ به رتبة السيادة.
فلذلك خرج الأمر الشريف- لا برحت هامية غوادي آلائه، سابغة ملابس نعمائه- أن يجرى في إقطاعه...... الخ.
وهذه نسخة منشور من ذلك؛ وهي:
أما بعد حمد الله على نعمه التي فسّحت في كرمها مجال المطالب، وفتّحت لخدمها أبواب نجح المآرب، وحقّقت في عوارفها آمال من تقرّب إليها من الخدمة والطاعة بأنجح ما تقرّب الراغب إلى الرغائب، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي زوى «1» الله له [الأرض] «2» ليرى ما تنتهي إليه الكواكب، وعلى آله وصحبه الذين استسهلوا في جهاد أعدائه المصاعب، ورمى الله من ألحد في دينه من سطواتهم بعذاب واصب «3» ، فإنّ أولى من تلقّته وجوه النّعم السوافر، واستقبلته نعم العوارف التي هي من غير الأكفاء نوافر، وأتته السّعود المقبلة، وواتته الآلاء المقيمة والمستقبلة، من صحّت شجاعته في مواقف الجهاد المدلهمّة، وسمحت شهامته في الوغى بمجال السّيوف المرهفة لدفع الخطوب الملمّة، وأقرّت له أقرانه بأنه فارس(13/194)
هيجائها الذي كم كشف بأسنّته عن قلوب العدا للمؤمنين غمّ غمّة.
ولما كان فلان هو المشهود له بهذه المواقف، المشهور بالوقوف في المواطن التي يثبت بها وما بالحتف شكّ لواقف- «1» اقتضى حسن الرأي الشريف......... الخ.
وهذه نسخة منشور من ذلك؛ وهي:
أما بعد حمد الله على جيوش كثّرها، وجيوب للعدا بالأسنّة زرّرها، وجنوب بالنوم على فرش الأمن الوثيرة آثرها، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أيّد الله به الأمة وظفّرها، وثبّت مواقفه ونضّرها، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تستمدّ الأيّام والأنام من رقيّها آصالها وبكرها- فإنّ من ورد البحر أغناه بمدّه، ومن تعرّض لسقيا السّحاب جاد له برفده، ومن جاور كوكب السعد فاض عليه من سعده، ومن تيمّم نادي النّدى كان أدنى إلى نيل قصده، ومن يمتّ بخدمة كان من حقّه رعاية عهده.
ولما كان فلان هو الذي قدّم خدما شهدت بها غرر الأيّام، ولسان كلّ ذابل وحسام، وكلّ كميّ لوت إلى فؤاده من يده طيور سهام، وجرّبناه فحمدناه بالتجريب، ودرّبناه حتّى تأهل للتأمير بالتّدريب، واستحقّ المكافأة على ما آثره، وكانت له خدمة عندنا كالحسنة له عنها عشرة.
فلذلك خرج الأمر الشريف- لا زال يمدّ أولياءه ويسعدهم، ويقرّب أخصّاءه ولا يبعدهم، أن يجرى في إقطاعه...... الخ.
وهذه نسخة منشور من ذلك؛ وهي:(13/195)
أما بعد حمد الله على نعم منحها، وأبواب فضل فتحها، وآمال للأولياء أنجحها، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي هدى الله به الأمة الإسلامية وأصلحها- فإن أولى من همت عليه سحائب الإحسان، وافتتحته أيامنا الشريفة بمقدّمة كرم تميّزه بين الأقران- من جعل الولاء له خير ذخيرة، وأجمل فيما أسرّه وأبداه من حسن السّيرة والسّريرة، وكانت له الطاعة التي يحسن فيها الاعتقاد، والشجاعة التي ظهرت في مواقف الحروب والجهاد، والخدمة التي لم يزل فيها مشكور المساعي، والموالاة التي لم يبرح عليها موفّر الدّواعي.
ولما كان فلان ممن له الخدمة التي تقضي بالتقديم، وتوجب له على إحسان دولتنا الشريفة رفعة القدر ومزيد التكريم- اقتضى حسن الرأي الشريف أن نحلّه مراتب ذوي الأمر والإمرة، وننظمه في سلك من سرّه بإنعامه ورفع قدره.
فلذلك خرج الأمر الشريف لا برح...... الخ.
الضرب الثاني (في مناشير أولاد الأمراء
؛ وهي كالتي قبلها إلا أنه يقع التعرّض فيها إلى الإشادة بآبائهم، وربما أطيل فيها مراعاة لهم) وهذه نسخة مناشير من ذلك:
وهذه نسخة منشور؛ وهي:
أما بعد حمد الله الذي جعل سيف دولتنا للدين المحمّديّ ناصرا، وجمع شمل أعزّ الأولياء والأبناء في خدمتنا على إنعامنا الذي أضحى بين الأنام مثلا سائرا، وأقرّ الأعين من ذراريّ أصفيائنا بما يفوق الدّراريّ التي غدا نورها في أفقها زاهيا زاهرا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أيّده الله من أوليائه بعشيرته الأقربين، وشدّ أزره من أصحابه بالأبناء والبنين، وعلى آله وصحبه صلاة لا نزال بها في درج النصر مرتقين، ولا يبرح لنا بها حسن العاقبة بالظّفر على الأعداء والعاقبة للمتّقين- فإنّ أنمى الغروس من كان أصله في درج الولاء ثابتا، وأزهى الثمر ما كان في أغصان الوفاء نابتا، وأبهى الأهلّة ما بزغ في سماء الإخلاص،(13/196)
وطلع آمنا من السّرار والانتقاص، وأعزّ الأولياء من نشأ في ظلّ القرب والاختصاص، وتلقّى ولاءنا عن أبوّة كريمة جمعت له من العلياء شمل طارفه وتالده، وحذا في عبوديتنا حذو والده، ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده، وتحلّى بطريقته المثلى في الموالاة التي عدم له فيها المضاهي والمماثل، ولاحت على أعطافه مخايل الإخلاص فيعرف فيه من تلك المخايل.
ولما كان فلان هو جوهر ذلك السيف المشكور بالمضاء، عند الانتضاء، ونور ذلك البدر المشهور في أفق العلياء، بالغناء والسّناء؛ كم لأبيه في خدمتنا عند تزلزل الأقدام من مواقف، وكم أسلف في طاعتنا من مخالصة عند الاختلاف وهو عليها عاكف؛ ما تقدّم في كتيبة الإقدام إلا والنّصر له معاضد، ولا جرّد في مهمّ إلا أغنى عما سواه واستحقّ أن ينشد «ولكنّ سيف الدّولة اليوم واحد» .
اقتضى حسن الرأي الشريف أن ننضّد لسعادتهما عقدا منضّدا، وأن نخصّ كلّا منهما بإمرة حتى يغدو لنا من هذا والدا من أعز الأنصار ومن هذا ولدا.
فلذلك خرج الأمر الشريف- لا برح [يوفّر] «1» لأوليائه، من الإحسان المدد، ويكثّر لأصفيائه، من الأعوان على الطاعة العدد، ويشمل برّه ومعروفه الوالد والولد- ... الخ.
وهذه نسخة منشور؛ وهي:
أما بعد حمد الله الذي زيّن سماء دولتنا من ذراريّ أوليائنا بمن يفوق الدّراريّ إشراقا، وأنار مطالع مواكبنا المنصورة من كواكب أصفيائنا بمن يبهر العيون ائتلاقا واتّساقا، وجمع شمل السعادة لأهل بيت اتّسقت عقود ولائهم في طاعتنا فحسنت في جيد الدّهر انتظاما وانتساقا، جاعل سيوف دولتنا في مراضينا مرهفة الغرار، مرتقبة الأعداء فما جرّدت عليهم إلا أرتهم مصارع الاغترار، والشهادة له بالوحدانية التي نطق بها لسان التوحيد والإقرار، وجعلت وسيلة إلى الخلود بدار(13/197)
القرار، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أنجده الله من خاصّته بالأعوان والأنصار، ورفع لواء نبوّته حتّى صار منشور الأعلام في الأمصار، وعلى آله وصحبه الذين ميّزهم الله بشرف قربه، وجعل للآباء منهم فضل المزيّة من قلبه، ورفع أقدارهم بأن جعل منهم حبّه وابن حبّه- فإن أولى من جمع شمل السعادة في إزاره، ورفعت رأية الإمارة لفخاره، [من نشأ على إخلاص الولاء] «1» الذي أشبه فيه أباه، [ولمعت] «2» بروق أسنّته التي [كم أغمدها في رقاب عداه] «3» ، كم جرّد النصر لنا من أبيه سيفا في مواقف التأييد وأمضاه؛ كم زكا فرعه السامي في رياض الإخلاص، وأبدر هلاله المشرق في مطالع الاختصاص.
ولما كان فلان هو الذي نشأ في خدمتنا وليدا، وغذّي بلبان طاعتنا فأمسى حظّه سعيدا، وأضحى رأيه حميدا، ولم يزل لأبيه أعزّه الله حقوق ولاء تأكدت أسبابها، ومدّت في ساحة الاعتداد أطنابها، وحسن في وصف محافظتها إسهاب الألسنة وإطنابها- اقتضى حسن الرأي الشريف أن نرقّي هلاله إلى منازل البدور، وأن نطلعه في سماء عزّ بادية الإنارة واضحة السّفور، وأن نعلي من ذلك قدره إلى محلّ الإمارة، وأن نتوّجه منها بما يكون أعظم دليل على إقبالنا وأظهر أمارة.
فلذلك خرج الأمر الشريف لا زال ... الخ.
وهذه نسخة منشور؛ وهي:
أما بعد حمد الله على آلائه التي أقرّت عيون أصفيائنا بما خصّت به آباءهم من عموم النّعم، وسرّت قلوبنا بما جدّدت لذراريّهم من حسن الترقّي إلى ما يناسبهم من شريف الخدم، وأنشأت في دولتنا الشريفة من أولاد خواصّنا كلّ شبل له من الظّفر ظفر ومن مسبل الذوائب أجم، وإذا شاهدت الأسود الكواسر شدّة وثباته وثباته، شهدت بأنه أشبه في افتراس الفوارس أباه ومن أشبه أباه فما ظلم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي ما زال دين الله بمجاهدة أعدائه مرفوع(13/198)
العلم، ونصر الله باقيا في أمّته يتناقله من الأبناء من كان ثابت القدم من القدم، وعلى آله الذين جلوا بأسنّتهم وسنّتهم غياهب الظّلم- فإن أولى من وطّدت له درج «1» السعود ليتوقّل في هضبها، ويتنقّل في رتبها، ويتلقّى بوادر إقبالها، ويترقّى إلى أسنى منازل السعد منها وأيّام شبيبته في اقتبالها، ويرفل في حلل جدّتها المعلمة الملابس، ويرتاد في رياض يمنها النامية المنابت الزاكية المغارس- من نشأ في ظلّ آلائنا، وغذّي بلبان ولائنا، ولقّي فروض طاعتنا ناشئا فهو يتعبّد بحفظها، ويدين بالمحافظة على معناها ولفظها، وينقل عن أبيه قواعدها وأحكامها فهو الشّبل ابن اللّيث، والنّدى الصادر عن الغيث، والفرند «2» المنتسب إلى معدن ولائنا عنصره، والهلال الذي سيضيء بإشراق جودنا عليه نيّره.
ولما كان فلان هو الذي توشّح عقد هذا الثناء بثمينه، ورشّح لتناول راية الإمارة بيمينه، وقابل إقبال طلعتنا فأكسبه اشراقنا إنارة جبينه- اقتضى حسن الرأي الشريف أن ننضّد عقود الإحسان بتحلية نحره، وأن نضفي عليه ملابس جودنا وبرّه.
فلذلك خرج الأمر الشريف لا برح...... الخ.
وهذه نسخة منشور؛ وهي:
أمّا بعد حمد الله منوّر الأهلّة في آفاقها، ومنوّل عوارفه بإرفاقها، ومكمّل عطاياه بإطلاقها، ومنشيء ذراريّ الأولياء كالدّراريّ في إشراقها، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي جمع القلوب بعد افتراقها، وشفع في الخليفة إلى خلّاقها، وعلى آله وصحبه البحور في اندفاقها، والبدور في ائتلاقها، فإن أبناء الأولياء أشبال الأسود، وعليهم عاطفتنا تجود، قد أنشأت نعمنا آباءهم فأصبحوا(13/199)
للدولة أنصارا، وألحقناهم بهم في التقديم فأقرّوا أبصارا، وكان ممّن ترعرع ناشيا، وغدا فرعا زاكيا، وتدرّب على الصّهوات يمتطيها، وتأهّل لحلول النعم برضا مفضيها، ودلّت حركاته على أنّ الشجاعة سجيّة طباعه، وأنه تروّى بلبان الطاعة من وقت رضاعه، وأنّ أباه، أجلّه الله أحسن مرباه، فأشبهه بجميل اتّباعه، وهو فلان المنتخب في الدولة الناضرة، المشبه في الإضاءة النجوم السافرة.
فلذلك خرج الأمر الشريف...... الخ.
النوع الثالث (من المناشير ما يفتتح بخرج الأمر الشريف)
وحكمها حكم أواخر المناشير المفتتحة بالحمد لله، وبأما بعد حمد الله، يقتصر فيها على هذا الافتتاح الذي هو آخر المناشير، ويدعى له بما يناسب.
وهذه نسخة منشور ينسج على منوالها؛ وهي:
خرج الأمر الشريف العاليّ، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الفلانيّ، الفلانيّ، (بلقب السلطنة واللقب الخاص) أعلاه الله تعالى وشرّفه، وأنفذه في الآفاق وصرّفه، أن يقطع باسم فلان ... ثم يذكر ما اشتملت عليه المربّعة الجيشية.
قلت: وقد تقدّم أن مناشير العربان منها ما يفتتح بالحمد لله، ومنها ما يفتتح بأما بعد حمد الله، ومنها ما يفتتح بخرج الأمر الشريف، ومناشير التّركمان والأكراد منها ما يفتتح بأما بعد حمد الله؛ ومنها ما يفتتح بخرج الأمر الشريف، على ما تقدّم بيانه؛ ولا يخفى أنّ الترتيب في مناشيرهم على ما تقدّم ذكره في جميع المراتب، إلا أنه قد تمتاز هذه الطوائف بألفاظ تخصّهم، لا سيّما مناشير العرب فإنهم يمتازون بألفاظ وألقاب تخصّهم.
وهذه نسخة منشور لأمير عرب مفتتحة بالحمد لله ينسج على منوالها، وهي:
الحمد لله الذي أرسل ديم كرمنا دائمة الإمداد، وشمل بجودنا كلّ حاضر وباد، وجعل أيّامنا الشريفة تخصّ بطولها كلّ طيّب النّجار طويل النّجاد.(13/200)
نحمده حمدا بحلاه يزدان ومن جداه يزاد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تمهد لقائلها خير مهاد، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الكريم الأجداد الرحيب الناد، أرسله لإصلاح الفساد، وإرباح الكساد، وكشف العناء وإزالة العناد، صلّى الله عليه وعلى آله الذين أرهفوا في جهاد أعداء الله البيض الحداد، وأرعفوا السّمر الصّعاد «1» ، وعلى أصحابه الذين كانوا يوم الفخار السادات ويوم النّزال الآساد، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من عمرنا بكرمنا مربعه وناديه، وأمطرنا ثرى أمله بغادية مغادية، وسفر له وجه إحساننا عن واضح أسرّته، وقابله إقباله فقدّمه على قبيلته وميّزه على أسرته، من أخلص في طاعتنا ضميرا، واتّبع جادّة موالاتنا فأصبح بتجديد نعمنا جديرا، وحذا في خدمتنا أحسن حذو، وعرف بجميل المخالصة في الحضر والبدو، واشتهر بالشّجاعة التي طالما فرّقت جموعا، وأقفرت من الأعداء ربوعا، واتصف بالإقدام الذي ما ألف عن محارب رجوعا: كم أنهل مثقّفاته في دماء النّحور، وأشرع صعاده فأوردها الأوردة وأصدرها في الصّدور، ورفع من أسنتها في ليل النّقع نارا قراها لحوم العدا وأضيافها الآساد والنّسور.
ولما كان فلان هو الممنوح هذا الإنعام الغمر، والممدوح في مواقف الحروب بإقدام عمرو.
فلذلك خرج الأمر الشريف- لا برحت شاملة مواهبه، هاملة سحائبه- أن يجرى في إقطاع...... الخ.
أما الزيادات والتعويضات فإنها ان افتتحت «بأما بعد» فعلى ما تقدّم في أمراء العشرات؛ إلا أنه يقال «أن يجرى في إقطاعات» على الجمع، وإن افتتحت «بخرج الأمر الشريف» ، فعلى ما تقدّم في إقطاعات الأجناد، إلا أنه يقال «أن يجرى» ولا يقال «أن يقطع» .(13/201)
المقالة الثامنة [في الأيمان] «1» ، وفيها بابان
الباب الأوّل في أصول يتعيّن على الكاتب معرفتها قبل الخوض في الأيمان؛ وفيه فصلان
الفصل الأوّل فيما يقع به القسم؛ وفيه طرفان
الطرف الأوّل (في الأقسام التي أقسم بها الله تعالى في كتابه العزيز)
اعلم أنه قد ورد في القرآن الكريم أقسام أقسم الله تعالى بها إقامة للحجّة على المخالف بزيادة التّأكيد بالقسم؛ وهي على ضربين:
الضرب الأوّل- ما أقسم الله تعالى فيه بذاته أو صفاته؛ والمقصود منه مجرّد التأكيد.
وقد ورد ذلك في مواضع يسيرة من القرآن:
منها قوله تعالى: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ
«2» ، وقوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ
»
،(13/202)
وقوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا
«1» ، وقوله: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ
«2» ومنها قوله تعالى: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ
«3» ، وقوله: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ
«4» ، وقوله: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ
«5» ، وقوله: حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ*
«6»
الضرب الثاني- ما أقسم الله تعالى فيه بشيء من مخلوقاته ومصنوعاته.
والمقصود منه مع التأكيد التّنبيه على عظيم قدرته وجلاله عظمته، من حيث إبداعها، تعظيما له لا لها.
وقد ورد ذلك في مواضع كثيرة من القرآن، لا سيّما في أوائل السّور: فأقسم تعالى بالسّماء والأرض، والشّمس والقمر، والنّجوم والرّياح، والجبال والبحار، والثّمار واللّيل والنهار، وما تفرّع عنهما من الأوقات المخصوصة، وبالملائكة الكرام المسخّرين في تدبير خلقه، إلى غير ذلك من الحيوان والثّمار وغيرها. وقيل المراد في القسم بها وقت كذا.
فأمّا ما في أوائل السّور فقال تعالى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِياتِ ذِكْراً
«7» ، وقال جلّ وعزّ: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِ وِقْراً فَالْجارِياتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً
«8» ، وقال جلّت عظمته: وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍ(13/203)
مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ
«1» ، وقال:
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى
«2» ، وقال: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ
«3» ، وقال: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً وَالنَّاشِراتِ نَشْراً فَالْفارِقاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً
«4» ، وقال: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً
«5» ، وقال: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ
«6» ، وقال: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ
«7» ، وقال:
وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ
«8» ، وقال: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ وَوالِدٍ وَما وَلَدَ
«9» ، وقال: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى
«10» ، وقال: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى
«11» ، وقال: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ
«12» ، وقال: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ
«13» وأقسم بالملائكة القائمين في عبادته، والمسخّرين في تدبير مخلوقاته في قوله: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً
«14» . قيل المراد بالصّافّات: الصّافّون(13/204)
صفوفا، وبالزّاجرات الملائكة التي تزجر السّحاب. وفي قوله: فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً
«1» قيل: المراد الملائكة التي تقسّم الأرزاق على الخلق. وفي قوله:
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً
«2» قيل: النازعات الملائكة تنزع روح الكافر عند الموت، والناشطات تنشط روح المؤمن كما ينشط العقال من يد البعير. وقوله تعالى: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً وَالنَّاشِراتِ نَشْراً فَالْفارِقاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً
«3» ، وقوله تعالى: وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ
«4» ، وقوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ وَوالِدٍ وَما وَلَدَ
«5» ، وقوله تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها وَالسَّماءِ وَما بَناها وَالْأَرْضِ وَما طَحاها وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها
«6» ، وقوله تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ
«7» ، وقوله تعالى: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً فَالْمُورِياتِ قَدْحاً فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً
«8» وقوله تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ
«9» . أقسم بالعصر وهو الدهر1» .
وأما في أثناء السور فمنه قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ
«11» ؛(13/205)
وقوله: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ
«1» ، وقوله: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ
«2»
الطرف الثاني (في الأقسام التي تقسم بها الخلق؛ وهي على ضربين)
الضّرب الأوّل (ما كان يقسم به في الجاهليّة)
اعلم أنّ مبنى الأيمان على الحلف بما يعظّمه الحالف ويتّحرّز من الحنث عند الحلف به. فأهل كلّ ملّة يحلفون بما هو عظيم لديهم في حكم ديانتهم. ولا خفاء في أنّ كلّ معترف لله تعالى بالرّبوبيّة من أهل الديانات يحلف به، سواء كان من أهل الكتاب أو مشركا، ضرورة اعترافهم بألوهيّته تعالى، والانقياد إلى ربوبيّته.
وقد حكى الله تعالى عن الكفّار في القرآن الكريم رعاية القسم بالله فقال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها
«3» وقال جلّ وعزّ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ
«4» ، وقال جلّ من قائل: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ
«5» ثم اليهود يحلفون بالتّوراة، والنّصارى يحلفون بالإنجيل، وعبدة الأوثان من العرب كانوا يحلفون بأوثانهم؛ وكان أكثر حلف عرب الحجاز باللّات والعزّى.(13/206)
وربما جنحوا عن صورة القسم إلى ضرب من التّعليق، مثل أن يقول: إن فعلت كذا فعليّ كذا، أو فأنا كذا، أو فأكون مخالفا لكذا أو خارجا عن كذا أو داخلا في كذا، وما أشبه ذلك.
وقد كانت العرب تأتي في نظمها ونثرها [عند] «1» حلفها بالتّعليق بإضافة المكروه إلى مواقعة ما يحذرونه: من هلاك الأنفس والأموال، وفساد الأحوال، وما يجري مجرى ذلك.
قال الجاحظ: قال الهيثم: يمين لا يحلف بها أعرابيّ أبدا، وهي أن يقول:
لا أورد الله لك صافيا «2» ، ولا أصدر لك واردا، ولا حططت رحلك، ولا خلعت نعلك، يعني إن فعلت كذا.
وقال النّابغة الذّبيانيّ:
ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه ... إذا فلا رفعت سوطي إليّ يدي
وقال الأشتر النّخعيّ:
بقّيت وفري وانحرفت عن العلى، ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس!
إن لم أشنّ على ابن حرب غارة ... لم تخل يوما من نهاب نفوس!
وقال معد [ان] «3» بن جوّاس الكنديّ:
إن كان ما بلّغت عنّي، فلا منى ... صديقي وشلّت من يديّ الأنامل!
وكفّنت وحدي منذرا بردائه ... وصادف حوطا من أعاديّ قاتل!(13/207)
وقال عديّ بن زيد «1» :
فإن لم تهلكوا فثكلت عمرا ... وجانبت المروّق والسّماعا!
ولا ملكت يداي عنان طرف ... ولا أبصرت من شمس شعاعا!
ولا وضعت إليّ على خلاء ... حصان يوم خلوتها قناعا!
وقال عمرو بن قميئة «2» :
فإن كان حقّا كما خبّروا ... فلا وصلت لي يمين شمالا.
وقال العلويّ البصريّ:
ويقول للّطرف اصطبر لشبا القنا ... فهدمت ركن المجد إن لم تعقر!
وإذا تأمّل شخص ضيف طارقا ... متسربلا سربال ليل أغبر!
أوما إلى الكوماء «3» هذا طارق ... عزّتني الأعداء إن لم تنحري!
وقال محمد بن الحصين الأنباريّ:
ثكلتني التي تؤمّل إدرا ... ك المنى بي وعاجلتني المنون!
إن تولّى بظلمنا عبد عمرو ... ثم لم تلفظ السّيوف الجفون!
الضرب الثاني (الأقسام الشرعية)
والمرجوع فيه إلى صيغة الحلف وما يحلف به.
فأما صيغة الحلف ففيه صريح وكناية: فالصريح يكون مع الإتيان بلفظ(13/208)
الحلف، كقوله: أحلف بالله لأفعلنّ كذا، وأقسم بالله لأفعلنّ كذا، مع الإتيان بحرف من حروف القسم: وهي الواو كقوله: والله، والباء الموحدة كقوله:
بالله لأفعلنّ كذا، والتاء المثناة فوق كقوله: تالله لأفعلنّ كذا. وقد ورد القسم في القرآن الكريم بالواو، كما في قوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ
«1» وبالتاء المثناة: كما في قوله تعالى حكاية عن الخليل عليه السّلام:
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ
«2» ، وقوله حكاية عن إخوة يوسف عليه السّلام خطابا لأبيهم: قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ
«3» ، وقوله حكاية عنهم في خطاب يوسف عليه السّلام: قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا
«4» فإذا أتى باليمين بصيغة من هذه الصّيغ انعقدت يمينه، نوى اليمين أو لم ينو.
والكناية كقوله بلّا- بحرف القسم- وبالّه؛ ولعمر الله، وايم الله، وأشهد بالله، وأعزم بالله. فإذا أتى بصيغة من هذه الصّيغ ونوى اليمين انعقدت، وإلا فلا. وفي معنى ذلك تعليق التزام فعل أو تركه، بشرط أن يكون ذلك قربة، كقوله:
إن فعلت كذا فعليّ نذر كذا، أو يكون كفّارة يمين، مثل أن يقول: إن فعلت كذا فعليّ كفّارة يمين.
وأما ما يحلف به فهو على أربعة أصناف:
الصنف الأوّل- اسم الله تعالى الذي لا يشاركه فيه غيره
، وهو الله والرّحمن. ولا نزاع في انعقاد اليمين به بكلّ حال إذ لا ينصرف بالنّية إلى غيره، قال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا
«5» : أي هل تعلم أحدا(13/209)
تسمّى الله غيره، وقال جلّ وعزّ: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى
«1» ، فجعل اسمه الرحمن قرينا لاسمه الله. ولا عبرة بتسمية مسيلمة الكذّاب- لعنه الله- نفسه رحمن اليمامة تجهرما «2» ، إذ لم يتسمّ به إلا مقيّدا بإضافته إلى اليمامة. وكذلك الأزل «3» الذي ليس قبله شيء.
الصنف الثاني- اسم الله تعالى الذي يسمّى به غيره على سبيل المجاز،
وعند الإطلاق ينصرف إلى الله تعالى: كالرّحيم، والعليم والحليم، والحكيم، والخالق، والرّازق، والجبّار، والحقّ، والرّبّ. فإن قصد به الله تعالى انعقدت اليمين، وإن قصد به غيره فلا تنعقد، ويديّن «4» الحالف.
الصنف الثالث- ما يستعمل في أسماء الله تعالى مع مشاركة غيره له فيه
: كالموجود، والحيّ، والنّاطق؛ ولا تنعقد به اليمين، قصد الله تعالى أو لم يقصد:
لأن اليمين إنّما تنعقد بحرمة الاسم، وإنما يكون ذلك في الخاصّ دون المشترك.
الصنف الرابع- صفات الله تعالى
. فإن كانت الصّفة المحلوف بها صفة لذاته كقوله: وعظمة الله، وجلال الله، وقدرة الله، وعزّة الله، وكبرياء الله، وعلم الله، ومشيئة الله، انعقدت اليمين وإلّا فلا. ولو قال: وحقّ الله، انعقدت اليمين عند الشافعي ومالك وأحمد رحمهم الله. وذهب أبو حنيفة إلى أنها لا تنعقد: لأنّ حقوق الله تعالى هي الطاعات، وهي مخلوقة، فلا يكون الحلف بها يمينا. ولو قال: والقرآن انعقدت اليمين عند الشافعيّ رضي الله عنه خلافا لأبي حنيفة.
وكان كان أكثر حلف النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «والذي نفسي بيده» وأيمان الصحابة(13/210)
في الغالب: وربّ محمد، وربّ إبراهيم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما يحلف: «لا ومقلّب القلوب» .
ثم اليمين الشّرعية التي يحلّف بها الحكّام: إن كان مسلما «أحلف بالله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشّهادة، الذي أنزل القرآن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم» ، وإن كان يهوديّا «أحلف بالله الذي أنزل التّوراة على موسى ونجّاه من الغرق» ، وإن كان نصرانيّا «أحلف بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى بن مريم» .(13/211)
الفصل الثاني من الباب الأوّل من المقالة الثامنة
(في بيان معنى اليمين الغموس، ولغو اليمين، والتّحذير من الحنث والوقوع في اليمين الغموس؛ وفيه طرفان)
الطرف الأوّل (في بيان معنى اليمين الغموس، ولغو اليمين)
أما معناها «1» ، فقال الشافعيّ رضي الله عنه: هي أن يكون الحالف في خبره كاذبا. وقال غيره: هي أن يحلف على ماض وإن لم يكن «2» ، وهما متقاربان.
وإنما سمّيت الغموس لأنّها تغمس صاحبها في الإثم.
وقد اختلف في وجوب الكفّارة فيها: فذهب الشافعيّ رضي الله عنه إلى وجوب الكفّارة فيها تغليظا على الحالف، كما أوجب الكفّارة في قتل العمد، وهو مذهب عطاء والزّهريّ وابن عيينة وغيرهم. وذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد رضي الله عنهم إلى أنه لا كفّارة فيها، احتجاجا بأنها أعظم من أن تكفّر: لأنها من الكبائر العظام، وهو مذهب الثّوريّ واللّيث وإسحاق، وحكي عن سعيد بن المسيّب.(13/212)
وأما لغو اليمين فقد اختلف فيه أيضا: فذهب الشافعي إلى أنه ما وقع من غير قصد: ماضيا كان أو مستقبلا كقوله: لا والله، وبلى والله «1» ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. وذهب أبو حنيفة إلى أنه الحلف على الماضي من غير قصد الكذب في يمينه؛ مثل أن يظنّ شيئا فيحلف عليه؛ وهو الرواية الثانية عن أحمد؛ وحكي عن مالك أن هذه هي اليمين الغموس.
الطرف الثاني (في التّحذير من الوقوع في اليمين الغموس)
أما اليمين الغموس فإنّها من أعظم الكبائر، وناهيك أنها تغمس صاحبها في الإثم. وقد قال تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ
«2» ، وقال جلّ وعزّ: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا
«3» وفي الحديث أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حلف على يمين وهو فيها فاجر ليقتطع بها مال امريء مسلم لقي الله عزّ وجلّ وهو عليه غضبان» . وقد قيل إن التوحيد (وهو: الذي لا إله إلا هو) إنما أوصل في اليمين رفقا بالحالف كي لا يهلك لوقته؛ فقد روي عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «إذا حلف الحالف بالله الذي لا إله إلا هو، لم يعاجل لأنه قد وحد الله تعالى» .
ويروى أن جعفر بن محمد عليه السّلام، ادّعى عليه مدّع عند قاض، فأحلفه جعفر بالله، لم يزد على ذلك، فهلك ذلك الحالف لوقته، فقال القاضي ومن حضر: ما هذا؟ فقال: إن يمينه بما فيه ثناء على الله ومدح يؤخّر العقوبة كرما منه عزّ وجلّ وتفضّلا. وقال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه:(13/213)
«أحلفوا الظّالم إذا أردتّم يمينه بأنه بريء من حول الله وقوّته، فإنه إذا حلف بها كاذبا عوجل» .
ومن غريب ما يحكى في ذلك أن عبد الله بن مصعب الزّبيريّ سعى بيحيى ابن عبد الله بن الحسن إلى الرشيد، بعد قيام يحيى بطلب الخلافة؛ فجمع بينهما وتواقفا، ونسب يحيى إلى الزّبيريّ شعرا يقول منه:
قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتها ... إنّ الخلافة فيكم يا بني حسن
فأنكر الزبيريّ الشّعر، فأحلفه يحيى، فقال: قل قد برئت من حول الله وقوّته، واعتصمت بحولي وقوّتي، وتقلّدت الحول والقوّة من دون الله استكبارا على الله، واستغناء عنه، واستعلاء عليه، فامتنع؛ فغضب الرشيد وقال: إن كان صادقا فليحلف؛ وكان للفضل بن الربيع فيه هوى، فرفسه برجله، وقال: ويحك احلف! فحلف ووجهه متغيّر وهو يرعد، فما برح من موضعه حتّى أصابه الجذام فتقطّع ومات بعد ثلاثة أيام؛ ولما حمل إلى قبره ليوضع فيه انخسف به حتّى غاب عن أعين الناس، وخرجت منه غبرة عظيمة، وجعلوا كلّما هالوا عليه التّراب انخسف، فسقّفوه وانصرفوا.(13/214)
الباب الثاني من المقالة الثامنة (في نسخ الأيمان الملوكيّة؛ وفيه فصلان)
الفصل الأوّل في نسخ الأيمان المتعلّقة بالخلفاء؛ وهي على نوعين
النوع الأوّل (في الأيمان التي يحلّف بها على بيعة الخليفة عند مبايعته؛ وهي الأصل في الأيمان الملوكية بأسرها)
وأوّل من رتّبها الحجّاج بن يوسف حين أخذه البيعة لعبد الملك بن مروان على أهل العراق، ثم زيد فيها بعد ذلك، وتنقّحت في الدولة العبّاسية وتنضدت.
وكان عادتهم فيها أن يجري القول فيها بكاف الخطاب، كما في مكاتباتهم يومئذ، وربّما أتي فيها بلفظ المتكلم.
وهذه نسخة يمين أوردها أبو الحسين الصّابي «1» في كتابه «غرر البلاغة» وهي:
تبايع عبد الله أمير المؤمنين فلانا: بيعة طوع واختيار، وتبرّع وإيثار، وإعلان وإسرار، وإظهار وإضمار، وصحّة من غير نغل، وسلامة من غير دغل، وثبات من غير تبديل، ووفاء من غير تأويل، واعتراف بما فيها من اجتماع الشّمل، واتّصال الحبل، وانتظام الأمور، وصلاح الجمهور، وحقن الدّماء، وسكون الدّهماء، وسعادة الخاصّة والعامّة، وحسن العائدة على أهل الملّة والذّمّة- على(13/215)
أن عبد الله فلانا أمير المؤمنين عبد الله الذي اصطفاه، وأمينه الذي ارتضاه، وخليفته الذي جعل طاعته جارية بالحقّ، وموجبة على الخلق، وموردة لهم مورد الأمن، وعاقدة لهم معاقد اليمن، وولايته مؤذنة بجميل الصّنع، ومؤدّية لهم إلى جزيل النّفع، وإمامته التي اقترن بها الخير والبركة، والمصلحة العامّة المشتركة، وأمّل فيها قمع الملحد الجاحد، وردّ الجائر الحائد، ووقم «1» العاصي الخالع، وعطف الغاوي المنازع، وعلى أنك وليّ أوليائه، وعدوّ أعدائه: من كلّ داخل في الجملة، وخارج عن الملّة، وعائذ بالحوزة، وحائد عن الدّعوة، ومتمسّك بما بذلته عن إخلاص من آرائك، وحقيقة من وفائك، لا تنقض ولا تنكث، ولا تخلف ولا تواري ولا تخادع، ولا تداجي ولا تخاتل، علانيتك مثل نيّتك، وقولك مثل طويّتك، وعلى أن لا ترجع عن شيء من حقوق هذه البيعة وشرائطها على ممرّ الأيام وتطاولها، وتغيّر الأحوال وتنقّلها، واختلاف الأوقات وتقلّبها، وعلى أنك في كلّ ذلك من أهل الملّة الإسلامية ودعاتها، وأعوان المملكة العباسيّة ورعاتها، لا يتداخل قولك مواربة ولا مداهنة، ولا يعترضه مغالطة ولا يتعقّبه مخالفة، ولا تحبس به أمانة، ولا تقلّه خيانة، حتّى تلقى الله تعالى مقيما على أمرك، ووفيّا بعهدك، إذ كان مبايعو ولاة الأمر وخلفاء الله في الأرض إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
«2» عليك بهذه البيعة التي أعطيت بها صفقة يدك، وأصفيت فيها سريرة قلبك، والتزمت القيام بها ما طال عمرك، وامتدّ أجلك- عهد الله إنّ عهد الله كان مسؤولا وما أخذه على أنبيائه ورسله، وملائكته وحملة عرشه، من أيمان مغلّظة وعهود مؤكّدة، ومواثيق مشدّدة: على أنك تسمع وتصغي، وتطيع ولا تعصي، وتعتدل ولا تميد، وتستقيم ولا تميل، وتفي ولا تغدر، وتثبت ولا تتغيّر؛ فمتى زلت عن هذه المحجّة خافرا لأمانتك، ورافعا لديانتك، فجحدت الله تعالى ربوبيّته، وأنكرت(13/216)
وحدانيّته، وقطعت عصمة محمد صلّى الله عليه وسلّم منك وجذذتها، ورميت طاعته وراء ظهرك ونبذتها، ولقيت الله يوم الحشر إليه، والعرض عليه، مخالفا لأمره، وناقضا لعهده، ومقيما على الإنكار له، ومصرّا على الإشراك به، وكلّ ما حلّله الله لك محرّم عليك، وكلّ ما تملكه يوم رجوعك عن بذلك، وارتجاعك ما أعطيته في قولك: من مال موجود ومذخور، ومصنوع ومضروب، وسارح ومربوط، وسائم ومعقول، وأرض وضيعة، وعقار وعقدة، ومملوك وأمة، صدقة على المساكين، محرّمة على مرّ السنين؛ وكلّ امرأة لك تملك شعرها وبشرها، وأخرى تتزوّجها من بعدها طالق ثلاثا بتاتا، طلاق الحرج والسنة، لا رجعة فيها ولا مثنويّة؛ وعليك الحجّ إلى بيت الله الحرام الذي بمكة ثلاثين دفعة حاسرا حافيا، وراجلا ماشيا، نذرا لازما، ووعدا صادقا، لا يبرئك منها إلا القضاء لها، والوفاء بها، ولا قبل منك توبة ولا رجعة، ولا أقالك عثرة ولا صرعة، وخذلك يوم الاستنصار بحوله، وأسلمك عند الاعتصام بحبله؛ وهذه اليمين قولك قلتها قولا فصيحا، وسردتها سردا صريحا، وأخلصت فيها سرّك إخلاصا مبينا، وصدقت بها عزمك صدقا يقينا؛ والنّيّة فيها نيّة فلان أمير المؤمنين دون نيّتك، والطّويّة دون طويّتك؛ وأشهدت الله على نفسك بذلك وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً*
«1» يوم تجد كلّ نفس عليها حافظا ورقيبا.
وهذه نسخة يمين بيعة أوردها ابن حمدون في «تذكرته» وأبو الحسن بن سعد في «ترسّله» تواردت مع البيعة السابقة وأيمانها في بعض الألفاظ، وخالفت في أكثرها؛ وهي:
تبايع الإمام أمير المؤمنين بيعة طوع وإيثار، ورضا واختيار، واعتقاد وإضمار، وإعلان وإسرار، وإخلاص من طويّتك، وصدق من نيّتك، وانشراح(13/217)
صدرك وصحّة عزيمتك، طائعا غير مكره، ومنقادا غير مجبر، مقرّا بفضلها، مذعنا بحقّها، معترفا ببركتها، ومعتدّا بحسن عائدتها، وعالما بما فيها وفي توكيدها من صلاح الكافّة، واجتماع الكلمة الخاصّة والعامّة، ولمّ الشّعث، وأمن العواقب، وسكون الدّهماء، وعزّ الأولياء، وقمع الأعداء- على أن فلانا عبد الله وخليفته، والمفترض عليك طاعته، والواجب على الأمة إقامته وولايته، اللّازم لهم القيام بحقّه، والوفاء بعهده، لا تشكّ فيه، ولا ترتاب به، ولا تداهن في أمره ولا تميل؛ وأنك وليّ وليّه، وعدوّ عدوّه: من خاصّ وعام، وقريب وبعيد، وحاضر وغائب، متمسك في بيعته بوفاء العهد، وذمّة العقد، سريرتك مثل علانيتك، وظاهرك فيه مثل باطنك، وباطنك فيه وفق ظاهرك؛ على أنّ إعطاءك الله هذه البيعة من نفسك، وتوكيدك إيّاها في عنقك، لفلان أمير المؤمنين عن سلامة من قلبك، واستقامة من عزمك، واستمرار من هواك ورأيك، على أن لا تتأوّل عليه فيها، ولا تسعى في نقض شيء منها، ولا تقعد عن نصرته في الرّخاء والشّدّة، ولا تدع النّصر له في كلّ حال راهنة وحادثة، حتّى تلقى الله تعالى موفيا بها، مؤدّيا للأمانة فيها، إذ كان الذين يبايعون ولاة الأمر وخلفاء الله في الأرض إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ.
عليك بهذه البيعة التي طوّقتها عنقك، وبسطت لها يدك، وأعطيت بها صفقتك؛ وما شرط فيها من وفاء وموالاة، ونصح ومشايعة، وطاعة وموافقة، واجتهاد ومبالغة- عهد الله إنّ عهد الله كان مسؤولا، وما أخذ الله على أنبيائه ورسله عليهم السلام؛ وأخذ على عباده من وكيدات مواثيقه، ومحكمات عهوده، وعلى أن تتمسّك بها ولا تبدّل، وتستقيم ولا تميل.
وإن نكثت هذه البيعة، أو بدّلت شرطا من شروطها، أو عفّيت رسما من رسومها، أو غيّرت حكما من أحكامها، معلنا أو مسرّا، أو محتالا أو متأوّلا، أو زغت عن السبيل التي يسلكها من لا يخفر الأمانة، ولا يستحلّ الغدر والخيانة، ولا يستجيز حلّ العقود- فكلّ ما تملكه من عين أو ورق أو آنية أو عقار أو زرع أو ضرع(13/218)
أو غير ذلك من صنوف الأملاك المعتقدة»
، والأمور المدّخرة، صدقة على المساكين، محرّمة عليك أن ترجع من ذلك، إلى شيء من مالك، بحيلة من الحيل، على وجه من الوجوه وسبب من الأسباب، أو مخرج من مخارج الأيمان؛ وكلّ ما تفيده في بقيّة عمرك: من مال يقلّ خطره أو يجلّ، فتلك سبيله إلى أن تتوفّاك منيّتك، ويأتيك أجلك.
وكلّ مملوك لك اليوم أو تملكه إلى آخر أيامك أحرار سائبون لوجه الله تعالى، ونساؤك يوم يلزمك الحنث «2» ، ومن تتزوّج بعدهنّ مدّة بقائك طوالق ثلاثا بتاتا، طلاق الحرج والسّنّة «3» ، لا مثنويّة فيها ولا رجعة، وعليك المشي إلى بيت الله الحرام ثلاثين حجّة حافيا حاسرا راجلا، لا يرضى الله منك إلا بالوفاء بها، ولا يقبل الله منك صرفا ولا عدلا، وخذلك يوم تحتاج إليه، وبرّأك الله من حوله وقوّته، وألجأك إلى حولك وقوّتك، والله تعالى بذلك شهيد وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً*.
[النوع] الضرب الثاني «4» (الأيمان التي يحلّف بها الخلفاء)
وقلّ من تعرّض لها لقلّة وقوعها، إذ الخليفة قلّما يحلّف: لعلوّ رتبته، وارتفاع محله؛ ومدار تحليف الخلفاء بعد القسم بالله على التّعليق بوقوع المحذور عليهم، ولزومه لهم، مثل البراءة من الخلافة والانخلاع منها، وما يجري مجرى ذلك. ولم أقف على ذلك إلا في ترسل الصّابي، وذلك حين كان الأمر معدوقا «5» بالخلفاء.(13/219)
الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة الثامنة: (في نسخ الأيمان المتعلقة بالملوك؛ وفيه خمسة مهايع «1» )
المهيع الأوّل (في بيان الأيمان التي يحلّف بها المسلمون؛ وهي على نوعين)
النوع الأوّل (من الأيمان التي يحلّف بها المسلمون: أيمان أهل السّنّة)
وهي اليمين العامة التي يحلّف بها أهل الدولة: من الأمراء والوزراء والنوّاب، ومن يجري مجراهم.
وهذه نسخة يمين أوردها في «التعريف» وهي:
أقول وأنا فلان: والله والله والله، وبالله وبالله وبالله، وتالله وتالله وتالله، والله العظيم الذي لا إله إلا هو، الباريء الرحمن الرحيم، عالم الغيب والشهادة، والسّر والعلانية، وما تخفي الصّدور، القائم على كلّ نفس بما كسبت، والمجازي لها بما عملت، وحقّ جلال الله، وقدرة الله، وعظمة الله، وكبرياء الله، وسائر أسماء الله الحسنى، وصفاته العليا إنّني من وقتي هذا، وما مدّ الله في عمري، قد أخلصت نيّتي، ولا أزال مجتهدا في إخلاصها، وأصفيت طويّتي، ولا أزال مجتهدا في إصفائها، في طاعة مولانا السلطان فلان الفلاني- خلّد الله ملكه- وخدمته ومحبّته، وامتثال مراسيمه، والعمل بأوامره، وإنني والله العظيم [حرب(13/220)
لمن حاربه، سلم لمن سالمه، عدوّ لمن عاداه، وليّ لمن والاه من سائر الناس أجمعين، وإنني والله العظيم] «1» لا أضمر لمولانا السلطان فلان سوءا ولا غدرا، ولا خديعة ولا مكرا، ولا خيانة في نفس ولا مال، ولا سلطنة، ولا قلاع ولا حصون، [ولا بلاد ولا غير ذلك] «2» ولا أسعى في تفريق كلمة أحد من أمرائه، ولا مماليكه، ولا عساكره، ولا أجناده، ولا عربانه ولا تركمانه ولا أكراده، ولا استمالة طائفة منهم لغيره، ولا أوافق على ذلك بقول ولا فعل ولا نيّة ولا بمكاتبة [ولا مراسلة] «3» ، ولا إشارة ولا رمز، ولا كناية ولا تصريح؛ وإن جاءني كتاب من أحد من خلق الله تعالى بما فيه مضرّة على مولانا السلطان أو أهل دولته لا أعمل به، ولا أصغى إليه، وأحمل الكتاب إلى ما بين يديه الشريفتين، هو ومن أحضره إن قدرت على إمساكه.
وإنني والله العظيم أفي لمولانا السلطان بهذه اليمين من أوّلها إلى آخرها، لا أنقضها ولا شيئا منها، ولا أستثني فيها ولا في شيء منها، ولا أخالف شرطا من شروطها، ومتى خالفتها أو شيئا منها، أو نقضتها أو شيئا منها، أو استثنيت فيها أو في شيء منها طلبا لنقضها، فكلّ ما أملكه: من صامت وناطق صدقة على الفقراء والمساكين، وكلّ زوجة في عقد نكاحه أو يتزوّجها في المستقبل فهي طالق [ثلاثا بتاتا على سائر المذاهب] «4» ، وكلّ عبيدي وإمائي أحرار لوجه الله؛ وعليه الحجّ إلى بيت الله الحرام بمكّة المعظّمة، والوقوف بعرفة ثلاثين حجّة متواليات متتابعات كوامل، حافيا ماشيا، وعليه صوم الدّهر كلّه إلا المنهيّ عنه، وعليه أن يفكّ ألف رقبة مؤمنة من أسر الكفّار، ويكون بريئا من الله تعالى ومن رسوله صلّى الله عليه وسلم ومن دين الإسلام إن خالفت هذه اليمين أو شرطا من شروطها.
وهذه اليمين يميني وأنا فلان، والنّيّة فيها بأسرها نيّة مولانا السلطان فلان، ونيّة مستحلفيّ له بها، لا نيّة لي في باطني وظاهري [سواها] «5» ؛ أشهد الله عليّ بذلك، وكفى بالله شهيدا؛ والله على ما أقول وكيل.(13/221)
قلت: عجيب من المقرّ الشّهابي رحمه الله ما أتى به في نسخة هذه اليمين، فإنه أتى بها بلفظ التكلم إلى قوله: «وكلّ زوجة» فعدل عن التكلم إلى الغيبة، وقال في نكاحه، وكذلك ما بعده إلى قوله «من أسر الكفار ويكون بريئا من الله ومن رسوله صلّى الله عليه وسلّم إن خالفت هذه اليمين» وأتى بصيغة التكلم إلى آخر الكلام. فإن كان فرّ في قوله: «وكل زوجة في نكاحه» خوفا من أن يقول «في نكاحي» فتطلق زوجته هو، فلا وجه له: لأن الحاكي لا يقع عليه الطّلاق، وكذا ما بعده من العتق وغيره.
وأعجب من ذلك كلّه قوله: ويكون بريئا من الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم ومن دين الإسلام إن خالفت؛ فجمع بين الغيبة والتّكلّم في حالة واحدة!!. على أن ما ذكره بلفظ الغيبة إنما هو فيما سطّره في النّسخة. أما إذا كتبت اليمين التي يحلّف بها، فإنها لا تكون في الجميع إلا بلفظ التكلّم؛ فما المعنى في أنّه خاف من الوقوع في المحذور عند حكاية القول، ولم يخف مثل ذلك فيما يكتبه في نفس اليمين؟.
وقد ذكر صاحب «التثقيف» جميع ذلك بلفظ التكلم، مع المخالفة في بعض الألفاظ وزيادة ونقص فيها.
وهذه نسختها؛ وهي:
أقول وأنا فلان بن فلان: والله والله والله، وبالله وبالله وبالله، وتالله وتالله وتالله، والله الذي لا إله إلا هو، الباريء الرحمن الرحيم، عالم الغيب والشّهادة، والسّر والعلانية، وما تخفي الصّدور، القائم على كلّ نفس بما كسبت، والمجازي لها بما احتقبت، وحقّ جلال الله، وعظمة الله، وقدرة الله، وكبرياء الله، وسائر أسماء الله الحسنى، وصفاته العليا، وحقّ هذا القرآن الكريم ومن أنزله، ومن أنزل عليه- إنني من وقتي هذا، ومن ساعتي هذه، وما مدّ الله في عمري قد أخلصت نيّتي، ولا أزال مجتهدا في إخلاصها، وأصفيت طويّتي، ولا أزال مجتهدا في إصفائها- في طاعة السلطان الملك الفلانيّ، فلان الدنيا والدّين فلان- خلّد الله ملكه- وفي خدمته ومحبّته ونصحه، وأكون وليّا لمن والاه، عدوّا(13/222)
لمن عاداه، سلما لمن سالمه، حربا لمن حاربه: من سائر الناس أجمعين؛ لا أضمر له سوءا ولا مكرا، ولا خديعة ولا خيانة في نفس، ولا مال، ولا ملك؛ ولا سلطنة، ولا عساكر، ولا أجناد، ولا عربان، ولا تركمان، ولا أكراد، ولا غير ذلك، ولا أسعى في تفريق كلمة أحد منهم عن طاعته الشريفة، وإنّني والله العظيم أبذل جهدي وطاقتي في طاعة مولانا السلطان الملك الفلانيّ، فلان الدنيا والدين المشار إليه؛ وإن كاتبني أحد من سائر الناس أجمعين بما فيه مضرّة على ملكه لا أوافق على ذلك بقول ولا فعل ولا نيّة؛ وإن قدرت على إمساك الذي جاءني بالكتاب أمسكته، وأحضرته لمولانا السلطان الملك الفلانيّ المشار إليه، أو النائب القريب منّي. وإنّني والله العظيم أفي لمولانا السّلطان المشار إليه بهذه اليمين من أوّلها إلى آخرها، لا أستثني فيها ولا في شيء منها، ولا استفتي فيها ولا في شيء منها. وإن خالفتها أو شيئا منها، أو استثنيت منها، أو استفتيت طلبا لنقضها أو نقض شيء منها، فيكون كلّ ما أملكه من صامت وناطق صدقة على الفقراء والمساكين من المسلمين، وتكون كلّ زوجة في عقد نكاحي أو أتزوّجها في المستقبل طالقا ثلاثا بتاتا على سائر المذاهب، وتكون كلّ أمة أو مملوك في ملكي الآن أو أملكه في المستقبل أحرارا لوجه الله تعالى، ويلزمني ثلاثون حجّة متواليات متتابعات، حافيا حاسرا، وعليّ صوم الدّهر بجملته إلا الأيام المنهيّ عن صومها.
وهذه اليمين يميني، وأنا فلان بن فلان، والنّيّة في هذه اليمين بأسرها نيّة مولانا السلطان الملك الفلانيّ المشار إليه، ونيّة مستحلفيّ له بها، لا نيّة لي في غيرها، ولا قصد لي في باطني وظاهري سواها. أشهد الله عليّ بذلك، وكفى بالله شهيدا، والله على ما أقول وكيل.
قلت: وربّما كان للسلطان وليّ عهد بالسّلطنة فيقع التّحليف للسّلطان ولولده جميعا، وهي على نحو ما تقدّم، لا يتغير فيها إلا نقل الضمير من الإفراد إلى التّثنية.(13/223)
وهذه نسخة يمين حلّف عليها العساكر للسلطان الملك المنصور «قلاوون» في سنة ثمان وسبعين وستمائة له ولولده وليّ عهده الملك الصالح علاء الدين «عليّ» أوردها ابن المكرّم في تذكرته؛ وهي:
والله والله والله، وبالله وبالله وبالله، وتالله وتالله وتالله، والله العظيم الذي لا إله إلا هو، الرحمن الرحيم، الطّالب الغالب، المدرك المهلك، الضارّ النافع، عالم الغيب والشّهادة، والسّرّ والعلانية وما تخفي الصدور، القائم على كلّ نفس بما كسبت، والمجازي لها بما احتقبت، وحقّ جلال الله، وعزّة الله، وعظمة الله، وسائر أسماء الله الحسنى، وصفاته العليا- إنّني من وقتي هذا، ومن ساعتي هذه، وما مدّ الله في عمري قد أخلصت النّيّة، ولا أزال مجتهدا في إخلاصها، وأصفيت طويّتي ولا أزال مجتهدا في إصفائها، في طاعة السّلطان فلان، وطاعة ولده وليّ عهده فلان، وخدمتهما وموالاتهما، وامتثال مراسيمهما، والعمل بأوامرهما. وإنّني والله العظيم حرب لمن حاربهما، سلم لمن سالمهما، عدوّ لمن عاداهما، وليّ لمن والاهما. وإنّني والله العظيم لا أسعى في أمر فيه مضرّة على مولانا السلطان، ولا في مضرّة ولده، في نفس ولا سلطنة، ولا إستمالة لغيرهما، ولا أوافق أحدا على ذلك بقول ولا فعل، ولا مكاتبة ولا مشافهة، ولا مراسلة، ولا تصريح. وإنّني والله العظيم لا أدّخر عن السّلطان ولا عن ولده نصيحة في أمر من أمور ملكهما الشريف، ولا أخفيها عن أحدهما، وأن أعلمه بها في أقرب وقت يمكنني الإعلام له بها، أو أعلم من يعلمه بها، وأن الخ «1» .......(13/224)
النوع الثاني (من الأيمان التي يحلّف بها المسلمون أيمان أهل البدع؛ والذين منهم بهذه المملكة ثلاث طوائف)
الطائفة الأولى (الخوارج)
وهم قوم ممن كانوا مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، حملوه على أن رضي بالتّحكيم بينه وبين معاوية، وأشاروا بإقامة أبي موسى الأشعريّ حكما عن عليّ، وإقامة عمرو بن العاص حكما عن معاوية، فخدع عمرو أبا موسى: بأن اتّفق معه على أن يخلعا عليّا ومعاوية جميعا، ويقيم المسلمون لهم خليفة يختارونه؛ فتقدّم أبو موسى وأشهد من حضر أنّه خلعهما، فوافق عمرو على خلع عليّ، ولم يخلع معاوية؛ وبقي الأمر لمعاوية؛ فأنكروا ذلك حينئذ، ورفضوا التّحكيم، ومنعوا حكمه، وكفّروا عليّا ومعاوية ومن كان معهما بصفّين، وقالوا: لا حكم إلا لله ورسوله، وخرجوا على عليّ، فسمّوا الخوارج، ثم فارقوه وذهبوا إلى النّهروان فأقاموا هناك، وكانوا أربعة آلاف غوغاء لا رأس لهم؛ فذهب إليهم عليّ رضي الله عنه فقاتلهم، فلم يفلت سوى تسعة أنفس:
ذهب منهم اثنان إلى عمان، واثنان إلى كرمان، واثنان إلى سجستان، واثنان إلى الجزيرة، وواحد إلى اليمن؛ فظهرت بدعتهم بتلك البلاد وبقيت بها.
ثم من مذهبهم منع التّحكيم على ما تقدّم، وتخطئة عليّ وأصحابه، ومعاوية وأصحابه بصفّين في اعتمادهم إيّاه، بل تكفيرهم على ما تقدّم؛ ومنها امتناع ذلك عن رضا أصلا «1» وأنهم يمنعون التأويل في كتاب الله تعالى. ومنهم من يقول: إن سورة يوسف عليه السّلام ليست من القرآن، وإنما هي قصّة من(13/225)
القصص، ومن أدخلها في القرآن فقد زاد فيه ما ليس منه، على ما سيأتي ذكره.
ويقولون: إن إمارة بني أميّة كانت ظلما، وإنّ قضاءهم الذي رتّبوه على التحكيم باطل. ويذهبون إلى تخطئة عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعريّ فيما اتفقا عليه عند تحكيمهما؛ ويشنّعون على معاوية وأصحابه، ويقولون: استباحوا الفروج والأموال بغير حقّ.
ثم منهم من يكفّر بالكبائر، ومنهم من يكفّر بالإصرار على الصّغائر بخلاف الكبائر من غير إصرار على ما يأتي ذكره. ويصوّبون فعلة عبد الرحمن بن ملجم في قتله عليّا رضي الله عنه، وينكرون على من ينكر ذلك عليه، لا سيما من ذهب من الشّيعة إلى أن ذلك كفر. وفي ذلك يقول شاعرهم:
يا ضربة من وليّ «1» ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إنّي لأذكره يوما فأحسبه ... أوفى الخليقة عند الله ميزانا
وكذلك يصوّبون فعل عمرو بن بكر الخارجيّ في قتل خارجة بن أبي حبيبة «2» صاحب شرطة عمرو بن العاص بمصر، حين قتله على ظنّ أنه عمرو بن العاص، لما لهم عنده من الإحن والضّغائن، وأنهم يصوّبون فعل قطام زوج عبد الرحمن بن ملجم في [اشتراطها على ابن ملجم حين خطبها ثلاثة آلاف وعبدا وقينة وقتل عليّ] «3» ، وأنهم يستعظمون خلع طاعة رؤوسهم، وأنهم يجوّزون كون الإمام غير قرشيّ، بل هم يجوّزون إمامة الحرّ والعبد جميعا، وينسبون من خالفهم إلى الخطإ، ويستبيحون دماءهم بمقتضى ذلك.
واعلم أن ما تقدّم ذكره من معتقدات الخوارج هو مقتضى ما رتّبه من يمينهم في «التعريف» على ما سيأتي ذكره. على أن بعض هذه المعتقدات يختصّ بها(13/226)
بعض فرق الخوارج دون بعض على ما سيأتي بيانه، ولكلّ منهم معتقدات أخرى تزيد على ما تقدّم ذكره.
وهأنا أذكر بعض فرقهم، وبعض ما اختصّت به كلّ فرقة منهم، ليبني على ذلك من أراد ترتيب يمين لفرقة منهم:
فمنهم المحكّمة- وهم الذين يمنعون التّحكيم.
ومنهم الأزارقة- وهم أتباع نافع بن الأزرق، وهم الذين خرجوا بفارس وكرمان أيّام ابن الزّبير، وقاتلهم المهلّب بن أبي صفرة، وهم الذين يكفّرون عليّا مع جمع من الصحابة، ويصوّبون فعل ابن ملجم، ويكفّرون القعدة عن القتال مع الإمام وإن قاتل أهل دينه، ويبيحون قتل أطفال المخالفين ونسائهم، ويسقطون الرّجم عن الزّاني المحصن، وحدّ القذف عن قاذف الرّجل المحصن دون قاذف المرأة المحصنة، ويخرجون أصحاب الكبائر عن الإسلام، ويقولون: التّقيّة غير جائزة.
ومنهم النّجدات- وهم أصحاب نجدة بن عامر، يكفّرون بالإصرار على الصغائر دون فعل الكبائر من غير إصرار، ويستحلّون دماء أهل العهد والذّمّة وأموالهم في دار التّقيّة، ويتبرّأون ممن حرّمها.
ومنهم البيهسيّة- وهم أصحاب أبي بيهس بن [جابر] «1» ، يرون أنه لا حرام إلا ما وقع عليه النّصّ بقوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً
«2» الآية. ويكفّرون الرّعيّة بكفر الإمام.
ومنهم العجاردة «3» - وهم الذين ينكرون كون سورة يوسف من القرآن،(13/227)
ويقولون: إنما هي قصّة من القصص، ويوجبون التّبرّي من الطّفل، فإذا بلغ دعي إلى الإسلام.
ومنهم الميمونية «1» - وهم فرقة يقولون: إن الله تعالى يريد الخير دون الشّر، ويجوّزون نكاح بنات البنات وبنات أولاد الإخوة والأخوات.
ومنهم الإباضيّة «2» - يرون أنّ مرتكب الكبيرة كافر للنعمة لا مشرك، ويرون أنّ دار مخالفيهم من المسلمين دار توحيد، ودار السلطان منهم دار بغي.
ومنهم الثّعالبة «3» - يرون ولاية الطّفل حتّى يظهر عليه إنكار الحقّ فيتبرّأون منه.
ومنهم الصّفريّة «4» - يرون أنّ ما كان من الكبائر فيه حدّ كالزّنا لا يكفّر به، وما كان منها ليس فيه حدّ: كترك الصّلاة يكفّر به.
وكأن الذي أورده في «التعريف» متّفق عليه عندهم، أو هو قول أكثرهم فاكتفى به.(13/228)
وقد رتب في «التعريف» تحليفهم على مقتضى ما ذكره من اعتقادهم فقال:
وأيمانهم أيمان أهل السّنّة، ويزاد فيها: وإلا أجزت التّحكيم، وصوّبت قول الفريقين في صفّين، وأطعت بالرّضا منّي حكم أهل الجور، وقلت في كتاب الله بالتأويل، وأدخلت في القرآن ما ليس منه، وقلت: إن إمارة بني أميّة عدل، وإن قضاءهم حقّ، وإن عمرو بن العاص أصاب، وإنّ أبا موسى ما أخطأ، واستبحت الأموال والفروج بغير حقّ، واجترحت الكبائر والصّغائر، ولقيت الله مثقلا بالأوزار، وقلت: إن فعلة عبد الرحمن بن ملجم كفر، [وإن قاتل خارجة آثم، وبرئت من فعلة قطام] «1» ، وخلعت طاعة الرّؤوس، وأنكرت أن تكون الخلافة إلّا في قريش، وإلّا فلا روّيت سيفي ورمحي من دماء المخطئين.
الطائفة الثانية (الشّيعة)
وهم الذين شايعوا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وقالوا بإمامته وخلافته: نصّا ووصاية، جليّا أو خفيّا، وإن الإمامة لا تخرج عنه وعن بنيه إلا بظلم من غير ذلك الإمام «2» ، أو بتقيّة منه لغيره.
قال الشّهرستانيّ في «النّحل والملل» : ويجمعهم القول بوجوب التّعيين للإمام والتنصيص عليه ممّن قبله، وثبوت عصمة الأئمّة وجوبا عن الكبائر والصغائر، والقول بالتّولّي للأئمّة والتّبرّي من غيرهم.
وقال في «التعريف» يجمعهم حبّ عليّ رضي الله عنه، وتختلف فرقهم فيمن سواه.
فأما مع إجماعهم على حبّه فهم مختلفون في اعتقادهم فيه، فمنهم أهل غلوّ مفرط وعتوّ زائد: ففيهم من أدّى به الغلوّ إلى أن اتّخذ عليّا إلها وهم النّصيريّة-(13/229)
قال: ومنهم من قال: إنّه النبيّ المرسل وإنّ جبريل غلط، ومنهم من قال: إنه شريك في النّبوّة والرسالة، ومنهم من قال: إنه وصيّ النّبوّة بالنّصّ الجليّ، ثم تخالفوا في الإمامة بعده وأجمعوا بعده على الحسن ثم الحسين؛ وقالت فرقة منهم: وبعدهما محمد بن الحنفيّة.
ثم قد ذكر في «التعريف» أن الموجود من الشيعة في هذه المملكة خمس فرق:
الفرقة الأولى (الزّيديّة)
وهم القائلون بإمامة زيد بن عليّ بن الحسين السّبط، ابن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه؛ وهو الذي رأسه مدفون بالمشهد الذي بين كيمان مصر، جنوبيّ الجامع الطّولونيّ، المعروف بمشهد الرّأس، فيما ذكره القاضي محيي الدّين بن عبد الظاهر في خطط القاهرة. قال في «التعريف» : وهم أقرب القوم إلى القصد الأمم. قال: ولهم إمام باق باليمن إلى الآن، وصنعاء داره، وأمراء مكّة المعظّمة منهم. ثم قال: وحدّثني مبارك بن عطيفة بن أبي نميّ:
أنهم لا يدينون إلا بطاعة ذلك الإمام، ولا يرون إلا أنّهم نوّابه، وإنما يتّقون صاحب مصر لخوفهم منه وللإقطاع، وصاحب اليمن لمداراته لواصل الكارم «1» ورسوم الأنعام. ومن ثمّ عدّهم من جملة من بهذه المملكة من طوائف البدع.
وكان من مذهب زيد هذا جواز إمامة المفضول مع قيام الأفضل، ويقول: إنّ عليّا رضي الله عنه كان أفضل الصّحابة رضوان الله عليهم، إلا أنّ الإمامة فوّضت إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لمصلحة رأوها، وقاعدة دينيّة راعوها: من(13/230)
تسكين نائرة الفتنة، وتطييب قلوب العامّة، مع تفضيل عليّ على الشّيخين عندهم في أوانهم. وأتباعه يعتقدون أنّ هذا هو المعتقد الحقّ، ومن خالفه خرج عن طريق الحقّ، وضل عن سواء السّبيل.
وهم يقولون: إن نصّ الأذان بدل الحيعلتين: «حيّ على خير العمل» يقولونها في أذانهم مرّتين بدل الحيعلتين، وربّما قالوا قبل ذلك: «محمد وعليّ خير البشر، وعترتهما خير العتر» ومن رأى أن هذا بدعة فقد حاد عن الجادّة.
وهم يسوقون الإمامة في أولاد عليّ كرّم الله وجهه من فاطمة رضي الله عنها، ولا يجوّزون ثبوت الإمامة في غير بنيهما؛ إلا أنّهم جوّزوا أن يكون كلّ فاطميّ عالم زاهد شجاع خرج لطلب الإمامة إماما معصوما واجب الطاعة، سواء كان من ولد الحسن أو الحسين عليهما السلام، ومن خلع طاعته فقد ضلّ. وهم يرون أن الإمام المهديّ المنتظر من ولد الحسين رضي الله عنه دون ولد الحسن، ومن خالف في ذلك فقد أخطأ. ومن قال: إنّ الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما أفضل من عليّ وبنيه فقد أخطأ عندهم وخالف زيدا في معتقده. ويقولون: إن تسليم الحسن الأمر لمعاوية كان لمصلحة اقتضاها الحال، وإن كان الحقّ له.
قال في «التعريف» : وأيمانهم أيمان أهل السّنّة، يعني فيحلّفون كما تقدّم، ويزاد فيها: وإلّا برئت من معتقد زيد بن عليّ، ورأيت أنّ قولي في الأذان: «حيّ على خير العمل» بدعة، وخلعت طاعة الإمام المعصوم الواجب الطّاعة، وادّعيت أن المهديّ المنتظر ليس من ولد الحسين بن عليّ، وقلت بتفضيل الشيخين على أمير المؤمنين عليّ وبنيه، وطعنت في رأي ابنه الحسن لما اقتضته المصلحة، وطعنت عليه فيه.
الفرقة الثانية (من الشّيعة: الإمامية)
وهم القائلون بإمامة اثني عشر إماما: أوّلهم أمير المؤمنين عليّ المرتضى، ثم ابنه الحسن المجتبى، ثم أخوه الحسين شهيد كربلاء، ثم ابنه عليّ السّجّاد(13/231)
زين العابدين، ثم ابنه محمد الباقر، ثم ابنه جعفر الصّادق، ثم ابنه موسى الكاظم، ثم ابنه عليّ الرّضا وهو الذي عهد إليه المأمون بالخلافة ومات قبل أن يموت المأمون، ثم ابنه محمد التّقي، ثم ابنه عليّ النقي، ثم ابنه الحسن الزّكيّ المعروف بالعسكريّ، ثم ابنه محمد الحجّة، وهو المهديّ المنتظر عندهم، يقولون إنه دخل مع أمّه صغيرا سردابا بالحلّة على القرب من بغداد ففقد ولم يعد، فهم ينتظرونه إلى الآن، ويقال: إنهم في كلّ ليلة يقفون عند باب السّرداب ببغلة مشدودة ملجمة من الغروب إلى مغيب الشّفق ينادون: أيّها الإمام! قد كثر الظّلم! وظهر الجور فاخرج إلينا! ثم يرجعون إلى اللّيلة الأخرى، وتلقّب هذه الفرقة بالأثني عشريّة أيضا، لقولهم بإمامة اثني عشر إماما، وبالموسويّة لقولهم بانتقال الخلافة بعد جعفر الصادق إلى ابنه موسى الكاظم المقدّم ذكره دون أخيه إسماعيل إمام الإسماعيليّة الآتي ذكره، وبالقطعيّة لقولهم بموت إسماعيل المذكور في حياة أبيه الصادق والقطع بانتقال الإمامة إلى موسى «1» قال في «التعريف» : وهم مسلمون، إلا أنهم أهل بدعة كبيرة سبّابة.
وهم يقولون: بإمامة عليّ رضي الله عنه نصّا ظاهرا، وتعيينا صادقا، احتجاجا بأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من يبايعني على ماله، فبايعه جماعة، ثم قال: من يبايعني على روحه وهو وصيّي ووليّ هذا الأمر من بعدي، فلم يبايعه أحد، حتّى مدّ أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام يده إليه فبايعه على روحه ووفى بذلك» .
قال في «العبر» «2» : وهذه الوصيّة لا تعرف عن أحد من أهل الأثر، بل هي من موضوعاتهم؛ ويخصّونه بوراثة علم النبيّ صلّى الله عليه وسلم.
ويروون أنه صلّى الله عليه وسلّم قال يوم غدير خمّ: «من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وأدر الحقّ على لسانه كيفما دار» ويرون أنّ بيعة الصّدّيق رضي الله عنه يوم السّقيفة غير صحيحة: حين اجتمع(13/232)
الأنصار بعد موت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة ليبايعوه، وذهب إليهم أبو بكر رضي الله عنه ومعه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة، وروى لهم أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يصلح هذا الأمر إلّا لهذا الحيّ من قريش» فرجعوا إلى قوله وبايعه عمر، ثم بايعه الناس على ما تقدّم ذكره في الكلام على مبايعات الخلفاء في المقالة الخامسة، وأنّ القائم فيها مجترم لا سيّما أوّل باد بذلك. ويقولون: إن الحقّ كان في ذلك لعليّ بالوصيّة. ويقولون: إن القيام على أمير المؤمنين عثمان بن عفّان رضي الله عنه، وحصره في الدار كان واجبا لاعتقادهم عدم صحّة خلافته مع وجود عليّ رضي الله عنه، وإن المتأخّر عن حصره كان مخطئا. ويرون جواز التّقيّة خوفا على النّفس، وأنّ عليّا رضي الله عنه إنما تأخّر عن طلب الإمامة عند قيام من كان قبله بها تقيّة على نفسه «1» ويرون أنّ من أعان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الخلافة كان مخطئا: لبطلان خلافته بترتّبها على خلافة أبي بكر ووجود عليّ الذي هو أحقّ بها. ويزعمون أنّ الصّدّيق رضي الله عنه منع فاطمة رضي الله عنها حقّها من إرثها «2» من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تعدّيا، وأنّ من ساعد في تقديم تيم بخلافة أبي بكر، أو تقديم عديّ بخلافة عمر، أو تقديم أميّة بخلافة عثمان كان مخطئا. ويزعمون أنّ عمر رضي الله عنه لم يصب في جعل الأمر شورى بين بقيّة العشرة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لاستحقاق تقدّم عليّ على الجميع.(13/233)
ويصوّبون قول حسان بن ثابت رضي الله عنه فيما كان من موافقته في حديث الإفك «1» في حقّ عائشة رضي الله عنها، ولا يرون تكذيبه في ذلك. ويرون أنّ عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها كانت مخطئة في قيامها على عليّ يوم الجمل، وأنّ من قام معها كان مخطئا للموافقة على الخطإ.
ويقولون إنّ من قام مع معاوية على عليّ بصفّين وشهر السّيف معه عليه فقد ارتكب محظورا، وينكرون ما وقع من زياد بن أبيه من الدّعوى الباطلة؛ وذلك أنه بعد قتل الحسين عليه السّلام جهّز جيشا إلى المدينة النبوية مع مسلم ابن عبد الله فقتلوا وسبوا وبايعوا من تبعهم على أنّهم خول ليزيد.
ويقولون ببطلان حكم ابن مرجانة، ويعدّون من العظائم قيام عمر بن سعد في قتال الحسين؛ وحقيق أن ينكروا عليه ذلك ويستعظموه! فقد قيل: إنه بعد قتله أمر جماعة فوطئوا صدر الحسين وظهره بالخيل، وكان يزيد قاتله الله قد أمره بذلك.
ويرون أن الأمر صار بعد الحسن عليه السّلام إلى أخيه الحسين، ويقولون:
إنّ الإمامة عند الحسن مستودعة لا مستقرّة، ولذلك لم تثبت في بنيه. ويعدّون من العظائم فعل شمر بن [ذي] «2» الجوشن: وهو الذي احتزّ رأس الحسين، وأنّ من ساعده على ذلك مرتكب أعظم محظورات بأشدّ بليّة، وحقيق ذلك أن يستعظموه! فأيّ جريمة أعظم من قتل سبط رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟.
وقد ذكر صاحب «نظم السّمط في خبر السّبط» : أنه وجد في حجر مكتوب قبل البعثة بألف سنة ما صورته:
أترجو أمّة قتلت حسينا ... شفاعة جدّه يوم الحساب؟
ويقال: إنّ الذي احتزّ رأس الحسين إنما هو سنان بن أنس النّخعي.(13/234)
ويعدّون من العظائم أيضا سبي معاوية أهل البيت عند غلبة عليّ رضي الله عنه بصفّين وسوقهم معه إلى دمشق سوقا بالعصيّ، ويرون أنّ خلافة يزيد بن معاوية كانت من أعظم البلايا، وأن المغيرة بن شعبة أخطأ حيث أشار على معاوية بها، ويقولون بالتّبرّي من عمرو بن العاص رضي الله عنه لانتمائه إلى معاوية، وخديعته أبا موسى الأشعريّ يوم الحكمين حتى خلع عليّا، وإنّ من ظاهره أو عاضده كان مخطئا.
وكذلك يتبرّؤون من بسر بن [أبي] «1» أرطاة: لأنّ معاوية بعثه إلى الحجاز في عسكر فدخل المدينة وسفك بها الدّماء، واستكره الناس على البيعة لمعاوية، وتوجه إلى اليمن بعد ذلك فوجد صبيّين لعبيد الله بن عبّاس [عامل عليّ] «2» على اليمن فقتلهما.
ويرون تخطئة عقبة بن عبد الله المرّي، ويقدحون في رأي الخوارج: وهم الذين خرجوا على عليّ رضي الله عنه بعد حرب صفّين، على ما تقدّم ذكره [في الكلام] «3» على أيمان الخوارج: وهو مفارقتهم عليّا رضي الله عنه، وتخطئتهم له في الغنائم.
ويقولون: إنّ الامامة انتقلت بعد الحسين السّبط عليه السّلام في أبنائه إلى تمام الأثني عشر؛ فانتقلت بعد الحسين إلى ابنه زين العابدين، ثم إلى ابنه محمد الباقر، ثم إلى ابنه جعفر الصّادق، ثم إلى ابنه موسى الكاظم، ثم إلى ابنه عليّ الرّضا، ثم إلى ابنه محمد التّقيّ «4» ، ثم إلى ابنه علي النّقي، ثم إلى ابنه الحسن الزّكيّ، ثم إلى ابنه محمد الحجّة، وهو المهديّ المنتظر عندهم، على ما تقدّم ذكره في أوّل الكلام على هذه الفرقة، وإنّ من خالف ذلك فقد خالف الصّواب.(13/235)
ويستعظمون دلالة من دلّ بني أميّة وبني العبّاس على مقاتل أهل البيت. أما دلالة بني أميّة، فبعد غلبة معاوية بصفّين. وأما دلالة بني العبّاس، فعند تنازع بني العبّاس وأهل البيت في طلب الخلافة، زمن أبي جعفر المنصور وما بعده.
ويقولون: ببقاء حكم المتعة: وهي النكاح المؤقّت الذي كان في صدر الإسلام. ويشنّعون على نجدة بن عامر الحنفي «1» الخارجيّ حيث زاد في حدّ الخمر، وغلّظ فيه تغليظا شديدا، كما حكاه الشّهرستانيّ عنهم.
ويستعظمون البراءة من شيعة أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه، واتبّاع أهوية أهل الشام من متابعي بني أميّة والغوغاء القائمين بالنّهروان: وهم الخوارج الذين خالفوا عليّا بعد قضيّة التحكيم بصفّين، وأقاموا بالنّهروان من العراق لقتال عليّ، ورئيسهم يومئذ عبد الله بن وهب، فسار إليهم عليّ وكانوا أربعة آلاف فقتلوا عن آخرهم «2» ، ولم يقتل من أصحاب عليّ سوى سبعة أنفس.
ويرون أنّ أبا موسى الأشعريّ رضي الله عنه أخطأ في موافقته عمرو بن العاص رضي الله عنه: حيث حكم بخلع عليّ ولم يخلع عمرو معاوية.
ويعتمدون في القرآن الكريم على مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، دون المصحف الذي أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم، فلا يثبتون ما لم يثبت فيه قرآنا «3»(13/236)
ويتبرّأون من فعل ابن ملجم في قتله أمير المؤمنين رضي الله عنه، وحقّ لهم التّبرّي من ذلك.
ويرون أنّ موالاة ابن ملجم وإسعافه في صداق زوجته قطام جريرة.
ويرون محبة قبيلة همدان من المحبوب المطلوب: لمشايعتهم عليّا رضي الله عنه ومحبّتهم أهل البيت كما هو المشهور عنهم؛ حتّى يحكى أنّ أمير المؤمنين عليّا رضي الله عنه صعد يوما المنبر وقال: ألا لا ينكحنّ أحد منكم الحسن بن عليّ فإنه مطلاق، فنهض رجل من همدان وقال: والله لننكحنّه ثم لننكحنّه! إن أمهر أمهر كثيفا، وإن أولد أولد شريفا!. فقال عليّ رضي الله عنه حينئذ:
لو كنت بوّابا على باب جنّة ... لقلت لهمدان ادخلي بسلام!
ويقولون باشتراط العصمة في الأئمّة، فلا يكون من ليس بمعصوم عندهم إماما.
وقد رتّب في «التعريف» يمينهم على هذه العقائد، فقال: وهؤلاء يمينهم هي:
إنّني والله والله والله العظيم، الرّبّ الواحد الأحد، الفرد الصّمد، وما أعتقده من صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم ونصّه على إمامة ابن عمّه ووارث علمه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يوم غدير خمّ، وقوله: «من كنت مولاه فعليّ مولاه اللهمّ وال من والاه! وعاد من عاداه! وأدر الحقّ على لسانه كيفما دار!» وإلّا كنت مع أوّل قائم يوم السّقيفة، وآخر متأخّر يوم الدّار، ولم أقل بجواز التّقيّة خوفا على النّفس، وأعنت ابن الخطّاب، واضطهدت فاطمة، ومنعتها حقّها من الإرث، وساعدت في تقديم تيم وعديّ وأميّة، ورضيت بحكم الشّورى، وكذّبت حسّان بن ثابت يوم عائشة، وقمت معها يوم الجمل، وشهرت السّيف مع معاوية يوم صفّين، وصدّقت دعوى زياد، ونزلت على حكم ابن مرجانة «1» ، وكنت مع عمر بن سعد في قتال الحسين،(13/237)
وقلت: إنّ الأمر لم يصر بعد الحسن إلى الحسين، وساعدت شمر بن [ذي] «1» الجوشن على فعل تلك البليّة، وسبيت أهل البيت وسقتهم بالعصيّ إلى دمشق، ورضيت بإمارة يزيد، وأطعت المغيرة بن شعبة، وكنت ظهيرا لعمرو بن العاص، ثم لبسر بن [أبي] «2» أرطاة، وفعلت فعل عقبة بن عبد الله [المرّي] «3» وصدّقت رأي الخوارج، وقلت: إن الأمر لم ينتقل بعد الحسين بن عليّ في أبنائه إلى تمام الأئمّة، إلى الإمام المهديّ المنتظر، ودللت على مقاتل أهل البيت بني أميّة وبني العبّاس، وأبطلت حكم التّمتّع، وزدت في حدّ الخمر ما لم يكن، وحرّمت بيع أمّهات الأولاد، وقلت برأيي في الدّين، وبرئت من شيعة أمير المؤمنين، وكنت مع هوى أهل الشّام والغوغاء القائمة بالنّهروان، واتّبعت خطأ أبي موسى وأدخلت في القرآن ما لم يثبته ابن مسعود، وشركت ابن ملجم وأسعدته في صداق قطام، وبرئت من محبّة همدان، ولم أقل باشتراط العصمة في الإمام، ودخلت مع أهل النصب الظّلّام.
قلت: قد ذكر في «التعريف» فرقة الإمامية هذه من الشّيعة الذين بهذه المملكة، ولم أعلم أين مكانهم منها.
الفرقة الثالثة (من الشّيعة: الإسماعيلية)
وهم القائلون بإمامة إسماعيل بن جعفر الصّادق، وأنّ الأمامة انتقلت إليه بعد أبيه دون أخيه موسى الكاظم المقدّم ذكره في الكلام على فرقة الإماميّة، وهم يوافقون الإماميّة المقدّم ذكرهم في سوق الإمامة من أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه إلى جعفر الصّادق، ثم يعدلون بها عن موسى الكاظم الذي هو الإمام عند الإماميّة إلى إسماعيل هذا، ثم يسوقونها في بنيه، فيقولون: إنّ الإمامة انتقلت بعد أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه إلى ابنه الحسن، ثم إلى أخيه(13/238)
الحسين، ثم إلى ابنه عليّ زين العابدين، ثم إلى ابنه محمد الباقر، ثم إلى ابنه جعفر الصّادق، ثم إلى ابنه إسماعيل- الذي تنسب إليه هذه الفرقة- بالنّصّ من أبيه. فمن قائل: إن أباه مات قبله، وانتقلت الإمامة إليه بموته. ومن قائل: إنه مات قبل أبيه. وفائدة النّصّ ثبوتها في بنيه بعده. ثم يقولون: إنها انتقلت من إسماعيل المذكور إلى ابنه محمد المكتوم، ثم إلى ابنه جعفر الصدق «1» ، ثم إلى ابنه محمد الحبيب، ثم إلى ابنه عبيد الله المهديّ أوّل خلفاء الفاطميين ببلاد المغرب، وهو جدّ الخلفاء الفاطميّين بمصر، ثم إلى ابنه القائم بأمر الله أبي القاسم محمد: ثاني خلفاء الفاطميّين ببلاد المغرب، ثم إلى ابنه المنصور بالله أبي الطاهر إسماعيل: ثالث خلفاء الفاطميّين ببلاد المغرب، ثم إلى ابنه المعزّ لدين الله أبي تميم معدّ: أوّل خلفاء الفاطميّين بمصر بعد قيامه ببلاد المغرب (وهو باني القاهرة) ، ثم إلى ابنه العزيز بالله أبي المنصور نزار: ثاني خلفائهم بمصر، ثم إلى ابنه الحاكم بأمر الله أبي عليّ المنصور: ثالث خلفائهم بمصر، ثم إلى ابنه الظاهر لإعزاز دين الله أبي الحسن عليّ: رابع خلفائهم بمصر، ثم إلى ابنه المستنصر بالله أبي تميم معدّ: خامس خلفائهم بمصر.
ثم من هاهنا افترقت الإسماعيلية إلى فرقتين: مستعلويّة ونزاريّة.
فأمّا المستعلويّة فيقولون: إن الإمامة انتقلت بعد المستنصر بالله المقدّم ذكره إلى ابنه المستعلي بالله، أبي القاسم أحمد: سادس خلفائهم بمصر، ثم إلى ابنه الآمر بأحكام الله أبي عليّ المنصور: سابع خلفائهم بمصر؛ ثم إلى ابنه «2»(13/239)
الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد بن أبي القاسم: ثامن خلفائهم بمصر، ثم إلى ابنه الظافر بأمر الله أبي المنصور إسماعيل، تاسع خلفائهم بمصر، ثم إلى ابنه الفائز بنصر الله أبي القاسم عيسى بن الظّافر: عاشر خلفائهم بمصر، ثم إلى العاضد لدين الله أبي محمد عبد الله بن يوسف بن الحافظ: حادي عشر خلفائهم بمصر، وهو آخرهم حتّى مات «1» وأما النّزاريّة فإنهم يقولون: إن الإمامة انتقلت بعد المستنصر إلى ابنه نزار بالنّصّ من أبيه دون ابنه المستعلي؛ ويستندون في ذلك إلى أنّ الحسن بن الصّبّاح كان من تلامذة أحمد بن عطاش «2» صاحب قلعة أصبهان وألموت، وكان شهما عالما بالتّعاليم والنّجوم والسّحر، فاتّهمه ابن عطاش بالدّعوة للفاطميّين خلفاء مصر، فخاف وهرب منه إلى مصر في خلافة المستنصر المقدّم ذكره، فأكرمه وأمره بدعاية الناس إلى إمامته، فقال له ابن الصّباح: من الإمام بعدك؟ فقال له:
ابني نزار، فعاد ابن الصّباح من مصر إلى الشّام والجزيرة وديار بكر وبلاد الرّوم، ودخل خراسان، وعبر إلى ماوراء النّهر، وهو يدعو إلى إمامة المستنصر وابنه نزار بعده. قال الشّهرستانيّ في «الملل والنحل» «3» : وصعد قلعة ألموت في شعبان سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة واستظهر وتحصّن.
ثم النّزاريّة يزعمون أنّ نزارا المذكور خرج من الإسكندرية حملا في بطن جارية، تقيّة على نفسه، وخاض بلاد الأعداء حتّى صار إلى ألموت. ورأيت في «المغرب» لابن سعيد أنه إنّما صار من عقبه من وصل إلى تلك البلاد، وصارت الإمامة في بنيه هناك.(13/240)
والمستعلوية ينكرون ذلك إنكارا، ويقولون: إنه قتل «1» بالإسكندرية: سار إليه الأفضل بن أمير الجيوش وزير المستعلي وحاصره بالإسكندرية، ثم ظفر به وأتى به إلى المستعلي، فبنى عليه حائطين فمات، ثم فرّ بعض بني نزار إلى بلاد [مشارق أفريقية] «2» وأقام بالمغرب، والقائمون بها الآن من ولده، وهو الذي تشهد به كتب التواريخ: كمغرب ابن سعيد «3» وغيره.
ثم الإسماعيليّة في الجملة: من المستعلويّة والنّزاريّة يسمّون أنفسهم أصحاب الدّعوة الهادية، تبعا لإمامهم إسماعيل المذكور، فإنه كان يسمّى صاحب الدّعوة الهادية.
قال في «التعريف» : وهم وإن أظهروا الإسلام وقالوا بقول الإمامية، ثم خالفوهم في موسى الكاظم وقالوا: إنّ الإمامة لم تصر إلى أخيه إسماعيل فإنّهم طائفة كافرة يعتقدون التّناسخ والحلول.
وذكر في «مسالك الأبصار» : أن ملخّص معتقدهم التّناسخ. ثم قال: ولقد سألت المقدّم عليهم والمشار إليه فيهم: (وهو مبارك بن علوان) عن معتقدهم(13/241)
وجاذبته الحديث في ذلك مرارا، فظهر لي منه أنّهم يرون أنّ الأرواح مسجونة في هذه الأجسام المكلّفة بطاعة الإمام المطهّر على زعمهم؛ فإذا انتقلت على الطاعة كانت قد تخلّصت وانتقلت للأنوار العلويّة، وإن انتقلت على العصيان هوت في الظّلمات السّفلية.
وذكر في «العبر» : أنّ منهم من يدّعي ألوهيّة الإمام بنوع الحلول، ومنهم من يدّعي رجعة من مات من الأئمّة بنوع التناسخ والرّجعة، ومنهم من ينتظر مجيء من يقطع بموته، ومنهم من ينتظر عود الأمر إلى أهل البيت.
ثم المستعلويّة والنّزاريّة يتّفقون في بعض المعتقدات ويختلفون في بعضها.
فأمّا ما يتفقون عليه من الاعتقاد، فهم يتّفقون على أنه لا بدّ من إمام معصوم: ظاهر أو مستور. فالأئمّة الظاهرون هم الذين يظهرون أنفسهم ويدعون الناس إلى إمامتهم، والمستورون هم الذين يستترون ويظهرون دعاتهم. وآخر الظّاهرين عندهم إسماعيل الذي ينسبون إليه، وأوّل المستورين ابنه المكتوم.
ومن معتقدهم أنّ من مات ولم يعرف إمام زمانه أو لم يكن في عنقه بيعة إمام، مات ميتة جاهليّة، ويرون أن العلم لا يكون إلا بالتعليم من الأئمّة خاصّة، وأنّ الأئمّة هم هداة الناس؛ ويقولون: إن للأئمّة أدوارا في كلّ دور منها سبعة أئمّة:
ظاهرين أو مستورين. فإن كان أهل الدّور ظاهرين يسمّى ذلك الدّور دور الكشف، وإن كانوا مستورين يسمّى دور السّتر. ويقولون بوجوب موالاة أهل البيت، ويتبرّأون ممن خالفهم، وينسبونهم إلى الأخذ بالباطل، والوقوع في الضّلال، لا سيما النّواصب، وهم الطائفة المعروفة بالناصبيّة أتباع ... «1» ، ويرمونهم(13/242)
بالعظائم، وينسبونهم إلى اعتماد المحال والأخذ به. ومن خرج عندهم عن القول بانتقال الإمامة بعد الحسن السّبط عليه السّلام، ثم أخيه الحسين، ثم في أئمّتهم المتقدّم ذكرهم، إلى إمامهم إسماعيل الذي ينسبون إليه بالنّصّ الجليّ، فقد حاد عن الحقّ. وهم يعظمون ... «1» ويستعظمون القدح فيه، وأن من وقع في ذلك فقد ارتكتب خطأ كبيرا.
ولدعاة الأئمّة المستورين عندهم من المكانة وعلوّ الرّتبة الرّتبة العظمى، لا سيما الداعي القائم بذلك أوّلا: وهو الداعي إلى محمد المكتوم أوّل أئمتهم المستورين على ما تقدّم ذكره، فإن له من الرّتبة عندهم فوق ما لغيره من الدّعاة القائمين بعده.
ومما اشتهر من أمر الدّعاة لأئمتهم المستورين أنه كان ممّن ينسب إلى التّشيّع رجل اسمه رمضان، ويقال: إنه صاحب كتاب «الميزان» في نصرة الزندقة، فولد له ولد يقال له: ميمون، نشأ على أهبة في التّشيع والعلم بأسرار الدّعاء لأهل البيت، ثم نشأ لميمون ولد يقال له: عبد الله، وكان يعالج العيون ويقدحها، فسمّي القدّاح «2» ، واطّلع على أسرار الدّعوة من أبيه، وسار من نواحي كرخ وأصبهان إلى الأهواز والبصرة وسلمية من أرض الشام يدعو الناس إلى أهل البيت، ثم مات ونشأ له ولد يسمّى أحمد فقام مقام أبيه عبد الله القدّاح في الدّعوة، وصحبه رجل يقال له رستم بن الحسين بن حوشب النّجّار من أهل الكوفة، فأرسله أحمد إلى اليمن، فدعا الشّيعة باليمن إلى عبد الله المهديّ فأجابوه، وكان أبو عبد الله الشّيعيّ من أهل صنعاء من اليمن، وقيل من أهل(13/243)
الكوفة، يصحب ابن حوشب، فحظي عنده وبعثه إلى المغرب. ومن نسب أحدا من هذه الدعاة إلى ارتكاب محظور أو احتقاب إثم فقد ضلّ وخرج عن جادّة الصواب عندهم. ويرون تخطئة من مالأ على الإمام عبيد الله المهديّ: أوّل أئمتهم القائمين ببلاد الغرب على ما تقدّم، وارتكابه المحظور وضلاله عن طريق الحقّ؛ وكذلك من خذل الناس عن اتّباع القائم بأمر الله بن عبيد الله المهديّ، ثاني خلفائهم ببلاد المغرب، أو نقض الدولة على المعزّ لدين الله: أوّل خلفائهم بمصر؛ ويرون ذلك من أعظم العظائم، وأكبر الكبائر.
ومن أعيادهم العظيمة الخطر عندهم يوم غدير خمّ (بفتح الغين المعجمة وكسر الدال المهملة وسكون المثناة تحت وراء مهملة في الآخر، ثم خاء معجمة مضمومة بعدها ميم) : وهو غيضة بين مكّة والمدينة على ثلاثة أيام من الجحفة.
وسبب جعلهم له عيدا أنهم يذكرون أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نزل فيه ذات يوم فقال لعليّ رضي الله عنه: «اللهم من كنت مولاه فعليّ مولاه، أللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيث دار» على ما تقدّم نحوه في الكلام على يمين الإمامية.
وقد كان للخلفاء الفاطميّين بمصر بهذا العيد اهتمام عظيم، ويكتبون بالبشارة به إلى أعمالهم، كما يكتبون بالبشارة بعيد الفطر وعيد النّحر ونحوهما.
ويعتقدون في أئمّتهم أنهم يعلمون ما يكون من الأمور الحادثة.
وقد ذكر المؤرّخون عن عبيد الله المهديّ جدّ الخلفاء الفاطميّين بمصر أنه حين بنى المهديّة بمشارق أفريقية من بلاد المغرب طلع على سورها ورمى بسهم وقال: إلى حدّ هذه الرمية ينتهي صاحب الحمار؛ فخرج بالمغرب خارجيّ يعرف بأبي يزيد صاحب الحمار، وقصد المهديّة حتّى انتهى إلى حدّ تلك الرمية، فرجع ولم يصل المهديّة.
وكان الحاكم بأمر الله أحد خلفاء مصر من عقب المهديّ المذكور يدّعي(13/244)
علم الغيب على المنبر بالجامع المعروف به على القرب من باب الفتوح بالقاهرة، فكتبوا له بطاقة فيها:
بالظّلم والجور قد رضينا ... وليس بالكفر والحماقه
إن كنت أوتيت علم غيب ... بيّن لنا كاتب البطاقه
فترك ما كان يقوله ولم يعد إليه قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ
«1» وهم يقدحون في عيّاش «2» بن أبي الفتوح الصّنهاجيّ، وزير الظّافر: أحد الخلفاء الفاطميّين بمصر. وذلك أنّه كان له ولد حسن الصّورة اسمه نصر، فأحبّه الظافر المذكور حتّى كان يأتي إليه ليلا إلى بيته، فرمى عيّاش الظافر بابنه، وأمره أن يستدعيه فاستدعاه، فأتى إليه ليلة على العادة، فاجتمع عيّاش بن «3» السلار هو وابنه نصر على الظافر وقتلاه، وهربا إلى الشام، فأسرهما الفرنج، ثم فدي ابنه وصلب على باب زويلة «4»(13/245)
وهم يقدحون في عيّاش المذكور ويرمونه بالنّفاق بسبب ما وقع منه في حقّ الظافر من رميه بابنه وقتله إياه.
قلت: وعيّاش هذا هو الذي أشار إليه في «التعريف» في صورة يمين الإسماعيلية بابن السلار. وهو وهم منه، إذ ليس عياش بابن السلار، وإنما ابن السلار هو زوج أمّ عيّاش المذكور، وكان قد وزّر للظّافر المذكور قبل ربيبه عيّاش وتلقّب بالعادل، واستولى على الأمر حتّى لم يكن للظافر معه كلام، ثم دسّ عليه ربيبه عيّاش من قتله، ووزّر للظّافر بعده. فابن السلار هو العادل وزير الظافر أوّلا لا عيّاش ربيبه.
ومن أكبر الكبائر عندهم وأعظم العظائم أن يرمى أحد من آل بيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم لا سيّما الأئمّة بكبيرة، أو ينسبها [أحد] إليهم، أو يوالي لهم عدوّا أو يعادي وليّا.
وأما ما يختص به المستعلوية، فإنهم ينكرون إمامة نزار بن المستنصر المقدّم ذكره، ويكذّبون النّزاريّة في قولهم: إن نزارا خرج حملا في بطن جارية حتّى صار إلى بلاد الشّرق. ويقولون: إنه مات بالإسكندرية ميتة ظاهرة.
ويقولون: إنه نازع الحقّ أهله وجاذب [الخلافة ربّها] «1» من حيث إن الحقّ في الإمامة والخلافة كان لإمامهم المستعلي بالله فادّعاه لنفسه. ويقولون: إن شيعته على الباطل، وموافقتهم في اعتقادهم إمامته خطأ. ويرون من الضّلال اتباع الحسن بن الصّبّاح «2» داعية نزار والنّاقل عن المستنصر النّصّ على إمامته، ويرون(13/246)
الكون في جملة النّزاريّة من أعظم الأضاليل، لا سيّما من كان فيهم آخر أدوار الأئمّة التي هي في كلّ دور سبعة أئمّة، على ما تقدّم ذكره في صدر الكلام على أصل معتقد هذه الفرقة.
ثم هم يعظّمون راشد الدين سنان «1» : وهو رجل كان بقلاع الدّعوة بأعمال طرابلس من البلاد الشامية في زمن السلطان صلاح الدّين يوسف بن أيّوب، انتهت رياستهم إليه. قال في «مسالك الأبصار» : وكان رجلا صاحب سيميا، فأراهم بها ما أضلّ به عقولهم: من تخييل أشخاص من مات منهم على طاعة أئمتهم في جنّات النعيم، وأشخاص من مات منهم على عصيان أئمّتهم في النار والجحيم؛ فثبت ذلك عندهم واعتقدوه حقّا. ومن قدح في ذلك فقد دخل في أهل الضلال. ويقدحون في ابن السلار المقدّم ذكره ويسفّهون رأيه «2» فيما كان منه: من إزالة الخطبة للفاطميّين وحطّ رايتهم الصّفراء والخطبة لبني العبّاس ورفع(13/247)
رايتهم السّوداء، وما كان منه من الفعلة التي استولى بها على قصر الفاطميّين ومن فيه، وأخذ أموالهم بعد موت العاضد.
وأما ما يختص به النّزاريّة، فإنهم يقولون: إنّ الأمر صار إلى نزار بعد أبيه المستنصر على ما تقدّم ذكره، وإن من جحد إمامته فقد أخطأ، ويزعمون أنه خرج من الإسكندريّة حملا في بطن أمة وخاض بلاد أعدائه الذين هم المستعلويّة بمصر حتّى صار إلى بلاد الشرق. ويقولون: إن الاسم يغير الصورة بمعنى؛ ويرون أن الطّعن على الحسن بن الصّباح المقدّم ذكره فيما نقله عن المستنصر من قوله:
الإمامة بعدي في ولدي نزار، من أعظم الآثام، ويعظّمون علاء الدّين صاحب قلعة ألموت؛ وهي قلعة بالطّالقان بناها السلطان ملكشاه السّلجوقيّ؛ وذلك أنه أرسل عقابا فبرّز في مكانها؛ فلمّا وافى مكانها بنى فيه هذه القلعة وسماها ألموت، ومعناه تعليم العقاب «1» وعلاء الدّين هذا هو ابن جلال الدّين الحسن «2» الملقّب بإلكيا، وهو من عقب الحسن بن الصّبّاح المقدّم ذكره، وكان أبوه جلال الدّين قد أظهر شعائر الإسلام، وكتب بذلك إلى سائر بلاد الإسماعيليّة بالعجم والشّام فأقيمت فيها، ثم توفّي بقلعة ألموت المذكورة في سنة ثمان عشرة وستمائة، فاستولى ابنه علاء(13/248)
الدّين هذا على قلعة ألموت المذكورة، وخالف رأي أبيه المذكور إلى مذهب النّزاريّة، وصار رأسا من رؤوسهم؛ والتّبرّي منه عندهم من أشدّ الخطإ.
واعلم أنّ أصل هذه الفرقة كانت بالبحرين في المائة الثانية وما بعدها، ومنهم كانت القرامطة الذين خرجوا من البحرين حينئذ، نسبة إلى رجل منهم اسمه قرمط، خرج فيهم وادّعى النّبوّة وأنّه أنزل عليه كتاب؛ ثم ظهروا بالمشرق «بأصبهان» : في أيام السلطان ملكشاه السّلجوقيّ، واشتهروا هناك بالباطنية:
لأنهم يبطنون خلاف ما يظهرون «1» ، وبالملاحدة: لأن مذهبهم كلّه إلحاد؛ ثم صاروا إلى الشّام، ونزلوا فيما حول طرابلس، وأظهروا دعوتهم هناك، وإليهم تنسب قلاع الإسماعيلية المعروفة بقلاع الدّعوة، فيما حول طرابلس، كمصياف، والخوابي، والقدموس، وغيرها.
ولمّا افترقوا إلى مستعلويّة ونزاريّة كما تقدّم، أخذ من منهم ببلاد المشرق بمذهب النّزاريّة، عملا بدعوة ابن الصّباح المقدّم ذكره، وأخذ من منهم بالشّام بقلاع الإسماعيلية بمذهب المستعلويّة، وصاروا شيعة لمن بعد المستعلي من خلفاء الفاطميّين بمصر، واشتهروا باسم الفداويّة، ووثبوا على السّلطان صلاح الدّين يوسف بن أيّوب بالشام مرّات وهو راكب ليقتلوه فلم يتمكّنوا منه. ثم صالحهم بعد ذلك على قلاعهم بأعمال طرابلس في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة؛ ثم انتموا إلى ملوك مصر في أيام الظاهر بيبرس، واشتهروا باسم الفداويّة لمفاداتهم بالمال على من يقتلونه.
وقد ذكر في «مسالك الأبصار» نقلا عن مقدّمهم: مبارك بن علوان: أن كلّ من ملك مصر كان مظهرا لهم. ولذلك يرون إتلاف نفوسهم في طاعته: لما ينتقلون إليه من النعيم الأكبر في زعمهم. ورأيت نحو ذلك في «أساس السّياسة» لابن ظافر «2» ؛ وذكر أنّهم يرون أن ملوك مصر كالنوّاب لأئمّتهم: لقيامهم مقامهم.(13/249)
أما أيمانهم التي يحلّفون بها فقد قال في «التعريف» جريا على معتقدهم المتقدّم: إن اليمين الجامعة لهم أن يقول: «إنّني والله والله الواحد الأحد، الفرد الصّمد، القادر القاهر، الذي لا إله إلا هو، وحقّ أئمّة الحقّ، وهداة الخلق، عليّ وبنيه أئمة الظّهور والخفاء، وإلّا برئت من صحيح الولاء، وصدّقت أهل الأباطيل، وقمت مع فرقة الضّلال، وانتصبت مع النّواصب في تقرير المحال، ولم أقل بانتقال الإمامة إلى السّيد الحسين، ثم إلى بنيه بالنّصّ الجليّ، موصولة إلى جعفر الصادق، ثم إلى إبنه إسماعيل صاحب الدّعوة الهادية، والأثرة الباقية، وإلّا قدحت في القّدّاح، وأثّمت الدّاعي الأوّل، وسعيت في اختلاف الناس عليه، ومالأت على السّيّد المهديّ، وخذلت الناس عن القائم، ونقضت الدّولة على المعزّ، وأنكرت أن يوم غدير خمّ لا يعدّ في الأعياد، وقلت: أن لا علم للأئمّة بما يكون، وخالفت من ادّعى لهم العلم بالحدثان، ورميت آل بيت محمد بالعظائم، وقلت فيهم بالكبائر، وواليت أعداءهم، وعاديت أولياءهم» .
قال: ثم من هنا تزاد النّزاريّة: «وإلّا فجحدت أن يكون الأمر صار إلى نزار وأنه أتى حملا في بطن جارية لخوفه خوض بلاد الأعداء، وأن الاسم لم يغيّر الصورة، وإلا طعنت على الحسن بن الصّبّاح، وبرئت من المولى علاء الدّين صاحب الألموت، ومن ناصر الدّين سنان الملقّب براشد الدّين، وكنت أوّل المعتدين؛ وقلت: أنّ ما رووه كان من الأباطيل، ودخلت في أهل الفرية والأضاليل» .
قال: وأمّا من سواهم من الإسماعيلية المنكرين لإمامة نزار، فيقال لهم عوض هذا: وإلا قلت: «إن الأمر صار إلى نزار، وصدّقت القائلين أنّه خرج حملا في بطن جارية، وأنكرت ميتته الظاهرة بالإسكندرية، وادّعيت أنّه لم ينازع الحقّ أهله، ويجاذب الخلافة ربّها، ووافقت شيعته، وتبعت الحسن بن صبّاح، وكنت في النّزاريّة آخر الأدوار» .(13/250)
قال: ثم يجمعهم آخر اليمين أن يقال: وإلّا قلت مقالة ابن السّلار في النّفاق وسدّدت رأي ابن أيّوب، وألقيت بيدي الرّاية الصّفراء، ورفعت السّوداء، وفعلت في أهل القصر تلك الفعال، وتمحّلت مثل ذلك المحال.
قلت: ما ذكره في «التعريف» فيما تزاده النّزارية: «ومن ناصر الدّين سنان الملقّب براشد الدّين» وهم: فإنّ المذكور إنّما هو من إسماعيلية الشّام الذين هم شيعة المستعلويّة لا من الإسماعيلية النّزاريّة الذين هم ببلاد المشرق، على ما تقدّم بيانه. فكان من حقّه أن يلحق ذلك بيمين من سواهم من الإسماعيلية الذين هم المستعلوية. وكذلك قوله: ثم يجمعهم آخر اليمين أن يقال: «وإلّا قلت مقالة ابن السّلار في النّفاق، وسدّدت رأي ابن أيّوب» إلى آخره، فإنّ ذلك مما يختص بالمستعلويّة، لأن ابن السّلار كان وزير الظافر كما تقدّم، والظافر من جملة الخلفاء القائمين بمصر بعد المستعلي، الذين خالفت النّزاريّة في إمامتهم. وكذلك قضية ابن أيّوب إنما كانت مع العاضد آخر خلفائهم بمصر؛ وكلّ ذلك مختصّ بإسماعيلية الشّام الذين هم شيعة المستعلوية دون النّزاريّة، وحينئذ فكان من حقّه أن يقتصر في زيادة يمين النزارية على آخر «وبرئت من المولى علاء الدّين صاحب ألموت» ويزيد في يمين من سواهم من الإسماعيلية بعد قوله آخر الأدوار: «وإلّا برئت من ناصر الدّين سنان الملقّب براشد الدّين، وكنت أوّل المعتدين، وقلت: إنّ مارآه كان من الأباطيل، ودخلت في أهل الفرية والأضاليل» ثم يقول بعد ذلك: «وإلّا قلت مقالة ابن السّلار في النّفاق، وسدّدت رأي ابن أيّوب، وألقيت بيدي الرّاية الصّفراء، ورفعت السّوداء، وفعلت في أهل القصر تلك الفعال، وتمحّلت مثل ذلك المحال» .
الفرقة الرابعة (من الشّيعة: الدّرزيّة)
قال في «التعريف» : وهم أتباع أبي محمد الدّرزيّ. قال في «التعريف» :(13/251)
وكان من أهل موالاة الحاكم أبي عليّ المنصور بن العزيز خليفة مصر. قال:
وكانوا أوّلا من الإسماعيليّة، ثم خرجوا عن كلّ ما تمحّلوه، وهدموا كلّ ما أثّلوه، وهم يقولون برجعة الحاكم، وأن الألوهية انتهت إليه وتديرت ناسوته، وهو يغيب ويظهر بهيئته ويقتل أعداءه قتل إبادة لا معاد بعده، بل ينكرون المعاد من حيث هو، ويقولون نحو قول الطبائعية: إن الطبائع هي المولّدة، والموت بفناء الحرارة الغريزية، كانطفاء السراج بفناء الزّيت إلا من اعتبط، ويقولون: دهر دائم، وعالم قائم؛ أرحام تدفع، وأرض تبلع؛ بعد أن ذكر أنهم يستبيحون فروج المحارم وسائر الفروج المحرّمة، وأنهم أشدّ كفرا ونفاقا من النّصيريّة الآتي ذكرهم، وأبعد من كلّ خير وأقرب إلى كلّ شرّ.
ثم قال: وأصل هذه الطائفة هم الذين زادوا في البسملة أيّام الحاكم، فكتبوا: «باسم الحاكم الله الرحمن الرحيم» ، فلما أنكر عليهم كتبوا: «باسم الله الحاكم الرحمن الرحيم» ، فجعلوا في الأوّل الله صفة للحاكم، وفي الثاني العكس. وذكر أن منهم أهل كسروان «1» ومن جاورهم. ثم قال: وكان شيخنا ابن تيمية رحمه الله تعالى يرى أنّ قتالهم وقتال النّصيريّة أولى من قتال الأرمن: لأنهم عدوّ في دار الإسلام وشرّ بقائهم أضرّ.
وقد رتّب على هذا المعتقد أيمانهم في «التعريف» فقال: وهؤلاء أيمانهم:
«إنّني والله وحقّ الحاكم، وما أعتقده في مولاي الحاكم، وما اعتقده أبو محمد الدّرزيّ الحجة الواضحة، ورآه الدّرزيّ مثل الشّمس اللّائحة، وإلا قلت:
إن مولاي الحاكم مات وبلي، وتفرّقت أوصاله وفني، واعتقدت تبديل الأرض والسماء، وعود الرّمم بعد الفناء، وتبعت كلّ جاهل، وحظرت على نفسي ما أبيح لي، وعملت بيدي على ما فيه فساد بدني، وكفرت بالبيعة المأخوذة، وألقيتها ورائي منبوذة» .(13/252)
الفرقة الخامسة (من الشّيعة: النّصيريّة؛ بضم النون وفتح الصاد المهملة)
قال في «إرشاد القاصد» «1» : وهم أتباع «نصير» غلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وهم يدّعون ألوهية عليّ رضي الله عنه مغالاة فيه. قال الشّهرستانيّ: [ولهم جماعة ينصرون مذهبهم وينوبون عن أصحاب مقالاتهم] «2» قال: وبينهم خلاف في كيفية إطلاق الألوهيّة على الأئمة [من أهل البيت] «3» واختلافهم راجع ... «4»
ويزعمون أن مسكن عليّ السّحاب، وإذا مرّ بهم السّحاب قالوا: السلام عليك يا أبا الحسن، ويقولون: إنّ الرّعد صوته، والبرق ضحكه؛ وهم من أجل ذلك يعظّمون السّحاب، ويقولون: إن سلمان الفارسيّ رسوله، وإن كشف الحجاب عمّا يقوله من أيّ كتاب بغير إذن ضلال، ويحبّون ابن ملجم قاتل عليّ رضي الله عنه، ويقولون: إنه خلّص اللّاهوت من النّاسوت، ويخطّئون من يلعنه.
قال في «التعريف» : ولهم خطاب بينهم، من خاطبوه به لا يعود يرجع عنهم ولا يذيعه ولو ضرب عنقه. قال: وقد جرّب هذا كثيرا، وهم ينكرون إنكاره.
قال في «إرشاد القاصد» : وهم يخفون مقالتهم، ومن أذاعها فقد أخطأ عندهم، ويرون أنهم على الحقّ، وأنّ مقالتهم مقالة أهل التّحقيق، ومن أنكر ذلك فقد أخطأ.(13/253)
قال في «التعريف» : ولهم [اعتقاد] «1» في تعظيم الخمر، ويرون أنها من النّور. ولزمهم من ذلك أن عظّموا شجرة العنب التي هي أصل الخمر حتّى استعظموا قلعها. ويزعمون أن الصّدّيق وأمير المؤمنين عمر وأمير المؤمنين عثمان رضي الله عنهم تعدّوا عليه «2» ومنعوه حقّه من الخلافة، كما تعدّى قابيل بن آدم عليه السّلام على أخيه هابيل، وكما اعتدى النّمرود على الخليل عليه السّلام، وكما يقوم كلّ فرعون من الفراعنة على نبيّ من الأنبياء عليهم السلام.
قال في «التعريف» : وهي طائفة ملعونة مرذولة مجوسيّة المعتقد، لا تحرّم البنات ولا الأخوات ولا الأمّهات. قال: ويحكى عنهم في هذا حكايات.
وقد رتّب في «التعريف» حلفهم على مقتضى هذا المعتقد، فقال:
وأيمانهم: إنّني وحقّ العليّ الأعلى، وما اعتقده في المظهر الأسنى، وحقّ النّور وما نشأ منه، والسّحاب وساكنه، وإلّا برئت من مولاي عليّ العليّ العظيم، وولائي له، ومظاهر الحقّ، وكشفت حجاب سلمان بغير إذن، وبرئت من دعوة الحجّة نصير، وخضت مع الخائضين في لعنة ابن ملجم، وكفرت بالخطاب، وأذعت السّرّ المصون، وأنكرت دعوى أهل التّحقيق، وإلّا قلعت أصل شجرة العنب من الأرض بيدي حتّى أجتثّ أصولها وأمنع سبيلها، وكنت مع قابيل على هابيل، ومع النّمرود على إبراهيم، وهكذا مع كل فرعون قام على صاحبه، إلى أن ألقى العليّ العظيم وهو عليّ ساخط، وأبرأ من قول قنبر «3» ، وأقول: إنه بالنار ما تطهّر.
الطائفة الثالثة (من أهل البدع: القدريّة)
وهم القائلون بأن لا قدر سابق، وأن الأمر أنف: يعني مستأنفا؛ ولكنهم لما سمعوا قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلم «القدريّة مجوس هذه الأمّة» قلبوا الدليل وقالوا بموجب(13/254)
الحديث، وقالوا: القدريّة اسم لمن يقول بسبق القدر. ثم غلب عليهم اسم المعتزلة بواسطة أن واصل بن عطاء أحد أئمّتهم كان يقرأ على الحسن البصريّ فاعتزله بمسألة خالفه فيها. وهم يسمّون أنفسهم أهل التّوحيد [وأهل العدل] «1» ويعنون بالتوحيد نفي الصفات القديمة عن الله تعالى: كالحياة والعلم والإرادة والقدرة؛ وأنه تعالى حيّ بذاته، [عالم بذاته] «2» مريد بذاته، قادر بذاته، لا بحياة وعلم وإرادة وقدرة؛ ويعنون بالعدل أنّهم يقولون: إنّ العبد إنما يستحقّ الثّواب والعقاب بفعله الطاعة والعصيان، وباعتبار أنّه الخالق لأفعال نفسه دون الله تعالى، تنزيها له تعالى عن أن يضاف إليه خلق الشّرّ: من كفر ومعصية. وإذا كان العبد هو الخالق لأفعال نفسه الموجد لها فليس قدر سابق.
ولهم أئمّة كثيرة، لهم مصنّفات في الأصول والفروع: منهم واصل بن عطاء، وأبو الهذيل العلّاف، وإبراهيم النّظّام، وبشر بن المعتمر، ومعمر بن عبّاد، وأبو عثمان الجاحظ، [وأبو عليّ الجبّائي] «3» وابنه أبو هاشم، وغيرهم.
وعندهم أنّه لا قدر سابق بل الأمر أنف، وأن الله تعالى إنما يخلق الأفعال والمشيئة، وأن العبد هو المكتسب لأفعاله كما تقدّم.
وممّن علت رتبته فيهم الجعد بن درهم، اجتمع على مروان بن محمد آخر خلفاء بني أميّة، وأخذ عنه مروان مذهبه في القول بالقدر وخلق القرآن، وعلت رتبته عنده، وبه سمّي مروان المذكور الجعديّ «4» وكانت له واقعة مع هشام بن عبد الملك بن مروان. ويستعظمون الإيمان بالقدر: خيره وشرّه، ويتبرؤون منه، وينكرون القول بأنّ ما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
ويقولون: إذا كان أمر مفروغ منه ففيم يسدّد الإنسان ويقارب؟. ويطعنون في رواة حديث: «اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له» . ويتأوّلون قوله تعالى: وَإِنَّهُ فِي أُمِ(13/255)
الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ
«1» ويستعظمون البراءة من اعتقادهم، ولقاء الله تعالى على القول بأن الأمر غير أنف.
وقد رتّب في «التعريف» أيمانهم على هذا المعتقد، فقال:
ويمينهم: «والله والله والله العظيم ذي الأمر الأنف، خالق الأفعال والمشيئة، وإلّا قلت: بأن العبد غير مكتسب، وأنّ الجعد بن درهم محتقب «2» ، وقلت: إن هشام بن عبد الملك أصاب دما حلالا منه، وإن مروان بن محمد كان ضالّا في اتّباعه، وآمنت بالقدر خيره وشرّه، وقلت: إن ما أصابني لم يكن ليخطئني وما أخطأني لم يكن ليصيبني، ولم أقل: إنه إذا كان أمر قد فرغ منه ففيم أسدّد وأقارب، ولم أطعن في رواة حديث «اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له» ولم أتأوّل معنى قوله تعالى: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ
. وبرئت مما اعتقد، ولقيت الله وأنا أقول: إنّ الأمر غير أنف. وبالله التوفيق والعصمة» .
المهيع الثاني (في الأيمان التي يحلّف بها أهل الكفر ممّن قد يحتاج إلى تحليفه؛ وهم على ضربين)
الضرب الأوّل (من زعم منهم التّمسّك بشريعة نبيّ من الأنبياء عليهم السلام؛ وهم أصحاب ثلاث ملل)
الملّة الأولى (اليهود)
واشتقاقها من قولهم: هاد إذا رجع. ولزمها هذا الاسم من قول موسى عليه(13/256)
السلام: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ
«1» أي رجعنا وتضرّعنا. ومنتحلها اليهود المتمسّكون بشريعة موسى عليه السّلام. قال السلطان عماد الدّين صاحب حماة في تاريخه «2» : وهم أعمّ من بني إسرائيل: لأن كثيرا من أجناس العرب والرّوم وغيرهم قد دخلوا في اليهوديّة وليسوا من بني إسرائيل. وكتابهم الذي يتمسّكون به «التّوراة» وهو الكتاب الذي أنزل على موسى عليه السّلام.
قال أبو جعفر النّحّاس، في «صناعة الكتّاب» : وهي «3» مشتقّة من قولهم:
ورت ناري ووريت، وأوريتها إذا استخرجت ضوءها: لأنه قد استخرج بها أحكام شرعة موسى عليه السّلام، وكان النّحّاس بجنح إلى أن لفظ التّوراة عربيّ؛ والذي يظهر أنه عبرانيّ معرّب «4» : لأن لغة موسى عليه السّلام كانت العبرانية، فناسب أن تكون من لغته التي يفهمها قومه، قال الشّهرستانيّ في «النّحل والملل» : وهي أوّل منزل على بني إسرائيل سمّي كتابا، إذ ما قبلها من المنزّل إنما كان مواعظ ونحوها. قال صاحب حماة: وليس فيها ذكر القيامة ولا الدّار الآخرة ولا بعث ولا جنّة ولا نار، وكلّ وعيد يقع فيها إنما هو بمجازاة دنيويّة، فيوعدون على مجازاة الطّاعة بالنّصر على الأعداء، وطول العمر، وسعة الرّزق ونحو ذلك؛ ويوعدون على الكفر والمعصية بالموت ومنع القطر والحميّات والحرب، وأن ينزل عليهم بدل المطر الغبار والظّلمة ونحو ذلك، يشهد لما قاله قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ
«5» ، الآية، فجعل الظّلم سببا للتحريم. قال: وليس فيها أيضا ذمّ الدنيا، ولا طلب الزّهد فيها، ولا وظيفة صلوات معلومة، بل في التوراة الموجودة بأيديهم الآن نسبة أمور إلى الأنبياء عليهم السلام من الأسباط وغيرهم لا تحلّ حكايتها.(13/257)
واعلم أنّ التوراة على خمسة أسفار:
أوّلها- يشتمل على بدء الخليقة والتاريخ من آدم إلى يوسف عليه السّلام.
وثانيها- فيه استخدام المصريّين بني إسرائيل، وظهور موسى عليه السّلام عليهم، وهلاك فرعون، ونصب قبّة الزمان وهي قبّة [كان ينزل على موسى فيها الوحي] «1» وأحوال التّيه، وإمامة هارون عليه السّلام، ونزول العشر كلمات في الألواح على موسى عليه السّلام، وهي شبه مختصر ممّا في التوراة يشتمل على أوامر ونواه وسماع القوم كلام الله تعالى. وقد أخبر الله تعالى عنها بقوله: وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ
«2» قال مجاهد: وكانت الألواح من زمرّدة خضراء، وقال ابن جبير: من ياقوتة حمراء، وقال أبو العالية: من زبرجد، وقال الحسن: من خشب نزلت من السماء، ويقال: إنها كانت لوحين.
وإنما جاءت بلفظ الجمع: لأن الجمع قد يقع على الاثنين، كما في قوله تعالى:
فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ
والمراد اثنان.
وثالثها- فيه كيفية تقريب القرابين على سبيل الإجمال.
ورابعها- فيه عدد القوم، وتقسيم الأرض بينهم، وأحوال الرّسل الذين بعثهم موسى عليه السّلام من الشام، وأخبار المنّ والسّلوى والغمام.
وخامسها- فيه أحكام التّوراة بتفصيل المجمل، وذكر وفاة هارون ثم موسى عليهما السلام، وخلافة يوشع بن نون عليه السّلام بعدهما.
ثم قد ذكر الشّهرستانيّ وغيره أن في التّوراة البشارة بالمسيح عليه السّلام، ثم بنيّنا محمد صلّى الله عليه وسلم، إذ قد ورد ذكر «المشيحا» في غير موضع، وأنه يخرج واحد في آخر الزمان، هو الكوكب المضيء الذي تشرق الأرض بنوره. وغير خاف على ذي لبّ أنّ المراد بالمشيحا المسيح عليه السّلام، وأنّ المراد بالذي يخرج في آخر(13/258)
الزمان نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلم؛ بل ربّما وقعت البشارة بهما جميعا في موضع واحد، كما في قوله: إن الله تعالى جاء من طور سيناء وظهر «1» من ساعير وعلن بفاران.
وساعير هي جبال بيت المقدس حيث مظهر المسيح عليه السّلام، وفاران جبال مكّة حيث ظهر النبيّ صلّى الله عليه وسلم.
قال الشّهرستانيّ: ولما كانت الأسرار الإلهيّة، والأنوار الرّبانيّة، في الوحي والتنزيل، [والمناجاة والتّأويل] «2» على ثلاث مراتب: مبدإ ووسط وكمال، وكان المجيء أشبه شيء بالمبدإ، والظهور أشبه بالوسط، والعلن أشبه بالكمال، عبّر في التوراة عن ظهور صبح الشريعة [والتّنزيل] «3» بالمجيء [على طور سيناء] «4» ، وعن طلوع شمسها بالظهور [على ساعير] «5» ، وعن بلوغ درجة الكمال [والاستواء] «6» ، بالعلن [على فاران] »
؛ وقد عرفوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بوصفه في التّوراة حقّ المعرفة: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ
«8» وقد ذكر المفسّرون عن ابن عبّاس رضي الله عنه أن موسى عليه السلام لما ألقى الألواح عند رجوعه إلى قومه، تكسّرت فلم يبق منها إلا سدسها.
ويروى أن التّوراة كانت سبعين وسق بعير.. «9» وأنها رفع منها ستّة أسباعها وبقي السّبع؛ ففي الذي بقي الهدى والرحمة، وفي الذي رفع تفصيل كلّ شيء.
وليعلم أنّ اليهود قد افترقوا على طوائف كثيرة، المشهور منها طائفتان:(13/259)
الطائفة الأولى (المتّفق على يهوديّتهم؛ وهم القرّاؤون)
وهم وإن كانوا فرقتين «1» ، فإنّهم كالفرقة الواحدة، إذ توراتهم واحدة، ولا خلاف في أصل اليهوديّة بينهم. وقد اتفق الجميع على استخراج ستمائة وثلاث عشرة فريضة من التّوراة يتعبّدون بها. ثم كلّهم متفقون على نبوّة موسى وهارون ويوشع عليهم السلام، وعلى نبوّة إبراهيم وإسحاق ويعقوب: وهو إسرائيل، والأسباط: وهم بنوه الاثنا عشر الآتي ذكرهم آخرا «2» وهم ينفردون عن الطائفة الثانية الآتي ذكرها: وهي السّامرة بنبوّة أنبياء غير موسى وهارون ويوشع عليهم السلام، وينقلون عن يوشع تسعة عشر كتابا زيادة على التّوراة يعبّرون عنها بالنّبوّات تعرف بالأول.
ثم الرّبّانيّون ينفردون عن القرّائين بشروح موضوعة لفرائض التّوراة المتقدّمة الذّكر، وضعها أحبارهم، وتفريعات على التّوراة ينقلونها عن موسى عليه السلام.
ويتّفق الرّبّانيّون والقرّاؤون على أنّهم يستقبلون صخرة بيت المقدس في صلاتهم، ويوجّهون لها موتاهم، وعلى أن الله تعالى كلّم موسى عليه السّلام على طور سيناء: وهو جبل في رأس بحر القلزم في جهة الشّمال على رأس جزيرة في آخره، داخل بين ذراعين يكتنفانه.
وهم مختلفون في أمرين:
أحدهما- القول بالظّاهر والجنوح إلى التأويل. فالقرّاؤون يقفون مع ظواهر نصوص التّوراة، فيحملون ما وقع فيها منسوبا إلى الله تعالى: من ذكر الصّورة، والتكلّم، والاستواء على العرش، والنّزول على طور سيناء، ونحو ذلك على(13/260)
ظواهره، كما تقوله الظاهرية من المسلمين، وينجرّون من ذلك إلى القول بالتّشبيه، والقول بالجهة. والرّبّانيّون يذهبون إلى تأويل ما وقع في التّوراة من ذلك كلّه؛ كما تفعل الأشعريّة من المسلمين.
الثاني- القول بالقدر. فالرّبّانيّون يقولون بأن لا قدر سابق وأن الأمر أنف كما تقوله القدريّة من المسلمين. والقرّاؤون يقولون بسابق القدر كما تقوله الأشعريّة.
أما ما عدا ذلك فكلا الفريقين يقولون: إن الله تعالى قديم أزليّ واحد قادر، وإنه تعالى بعث موسى بالحقّ، وشدّ أزره بأخيه هارون. ويعظّمون التوراة التي هي كتابهم أتمّ التعظيم، حتّى إنهم يقسمون بها كما يقسم المسلمون بالقرآن، وكذلك العشر كلمات التي أنزلت على موسى عليه السّلام في الألواح الجوهر؛ وقد تقدّم أنها مختصر ما في التوراة، مشتملة على أوامر ونواه وسماع كلام الله تعالى، وهم يحلفون بها كما يحلفون بالتّوراة، ويعظّمون قبّة الزّمان وما حوته: وهي القبة التي كان ينزل على موسى فيها الوحي.
ومن أعظم أنواع الكفر عندهم تعبّد فرعون وهامان لعنهما الله. (وكان اسم فرعون موسى فيما ذكره المفسرون الوليد بن مصعب، وقيل: مصعب بن الرّيّان.
واختلف فيه: فقيل كان من العمالقة، وقيل من النّبط. وقال مجاهد: كان فارسيّا وهامان وزيره) والتّبرّي من إسرائيل (وهو يعقوب عليه السّلام) ومعنى إسرائيل فيما ذكره المفسرون «عبد الله» كأنّ «إسرا» عبد، و «إيل» اسم الله تعالى بالعبرانية.
وقيل: إسراء من السّرّ، وكأّنّ إسرائيل هو الذي شدّده الله وأتقن خلقه.
ومن أعظم العظائم عندهم الأخذ بدين النّصرانية، وتصديق مريم عليها السلام في دعواها أنها حملت من غير أن يمسّها بشر؛ ويرمونها بأنها حملت من يوسف النّجّار، وهو رجل من أقاربها كان يخدم البيت المقدّس معها، ويرون تبرئتها من ذلك جريرة تقترف.
ويستعظمون الوقوع في أمور:(13/261)
منها: القول بإنكار خطاب الله تعالى لموسى عليه السّلام وسماعه له.
ومنها: تعمّد طور سيناء الذي كلّم الله تعالى موسى عليه بالقاذورات، ورمي صخرة بيت المقدس التي هي قبلتهم بالنّجاسة، ومشاركة بختنصّر في هدم بيت المقدس وقتل بني إسرائيل، وإلقاء العذرة «1» على مظانّ أسفار التّوراة.
ومنها: الشّرب من النّهر الذي ابتلي به قوم طالوت ملك بني إسرائيل، والميل إلى جالوت ملك الكنعانيّين: وهو الذي قتله داود عليه السّلام، ومفارقة شيعة طالوت الذين قاموا معه على جالوت. وذلك أنّه لمّا رفعت التّوراة وتسلّط على بني إسرائيل عدوّهم من الكنعانيّين الذين ملكهم جالوت، كانت النّبوّة حينئذ فيهم في شمعون، وقيل في شمويل، وقيل في يوشع بن نون، فقالوا له: إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، فقال لهم ما أخبر الله تعالى به: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً
«2» ولم يكن من سبط الملك، إذ كان الملك من سبط معروف عندهم، فقيل: كان سقّاء، وقيل: كان دبّاغا، فأنكروا ملكه عليهم، وقالوا كما أخبر الله تعالى: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا
«3» الآية؛ فلما فصل طالوت بالجنود أراد الله تعالى أن يريه من يطيعه في القتال ممّن يعصيه، فسلّط عليهم العطش وابتلاهم بنهر من حولهم، قيل: هو نهر فلسطين، وقيل: نهر بين الأردنّ وفلسطين، فقال لهم طالوت: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي
«4» إلى قوله: وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ.
ومنها: إنكار الأنبياء الذين بعثهم الله تعالى إليهم: وهم موسى وهارون ويوشع ومن بعدهم: من أنبيائهم عليهم السلام، ومن قبلهم: من إبراهيم وإسحاق ويعقوب صلوات الله عليهم، والأسباط الاثني عشر الآتي ذكرهم، والدّلالة على(13/262)
دانيال النّبيّ عليه السّلام حتّى قتل، وإخبار فرعون مصر بمكان إرمياء النّبيّ عليه السلام عند اختفائه بها، والقيام مع البغي والفواجر يوم يحيى بن زكريّا عليهما السلام في المساعدة عليه.
ومنها: القول بأن النار التي أضاءت لموسى عليه السّلام من شجرة العوسج بالطّريق عند مسيره من مدين حتّى قصدها وكانت وسيلة إلى كلام الله تعالى له نار إفك لا وجود لها؛ وكذلك أخذ الطّرق على موسى عليه السّلام عند توجّهه إلى مدين فارّا من فرعون، والقول في بنات شعيب اللّاتي سقى لهنّ موسى عليه السلام بالعظائم ورميهنّ بالقبيح.
ومنها: الإجلاب مع سحرة فرعون على موسى عليه السّلام والقيام معهم في غلبته، والتّبرّي ممن آمن منهم بموسى عليه السّلام.
ومنها: قول من قال من آل فرعون: اللّحاق اللّحاق: لندرك من فرّ: من موسى وقومه عند خروجهم، كما أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله: فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ
«1» ومنها: الإشارة بتخليف تابوت يوسف عليه السّلام بمصر حين أراد موسى عليه السّلام نقله إلى الشّام ليدفنه عند آبائه: إبراهيم وإسحاق ويعقوب: وذلك أنّهم جعلوا تابوته في أحد شقّي النّيل فأخصب وأجدب الجانب الآخر، فحوّلوه إلى الجانب الآخر فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الأوّل، فجعلوه وسط النّيل فأخصب جانباه جميعا، إلى أن كان زمن موسى عليه السّلام وضرب النّيل بعصاه فانفلق عن التّابوت، فأخذ في نقله إلى الشام ليدفنه عند آبائه كما تقدّم، فأشار بعضهم ببقائه بمصر فوقع في محظور لمخالفة موسى عليه السّلام فيما يريده.(13/263)
ومنها: التّسليم للسّامريّ وتصديقه على الحوادث التي أحدثها في اليهوديّة على ما سيأتي ذكره في الكلام على السّامرة في الطائفة الثانية من اليهود.
ومنها: نزول أريحا: مدينة الجبّارين من بلاد فلسطين.
ومنها: الرّضا بفعل سكنة سدوم من بلاد فلسطين أيضا وهم قوم لوط.
ومنها: مخالفة أحكام التّوراة التي ورد [الحثّ] «1» فيها عليها.
ومنها: استباحة السّبت بالعمل فيه والعدو فيه: إذ استباحته عندهم توجب هدر دم مستبيحه من حيث إنه مسخ من مسخ باستباحته قردة وخنازير، والله تعالى يقول: وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً
«2» ومنها: إنكار عيد المظلّة وهو [سبعة أيام أوّلها الخامس عشر من تشرى] «3» وعيد الحنكة وهو [ثمانية أيام يوقدون في الليلة الأولى من لياليه على كل باب من أبوابهم سراجا وفي الليلة الثانية سراجين وهكذا حتى يكون في الليلة الثامنة ثمانية سرج] «4» وهما من أعظم أعيادهم.
ومنها: القول بالبداء على الله في الأحكام، وهو أن يخطر له غير الخاطر الأوّل، وهو تعالى منزّه عن ذلك، ورتّبوا عليه منع نسخ الشرائع، ويزعمون أن النّسخ يستلزم البداء، وهو مما اتّفق كافّة اليهود على منعه، على ما تقدّم أوّلا.
ومنها: اعتقاد أنّ المسيح عليه السّلام هو الموعود به على لسان موسى عليه السلام، المذكور بلفظ المشيحا وغير ذلك، على ما تقدّمت الإشارة إليه.
ومنها: الانتقال من دين اليهودية إلى ما سواها من الأديان، إذ عندهم أنّ شريعة موسى عليه السّلام هي التي وقع بها الابتداء، وبها وقع الاختتام.(13/264)
ومنها: الانتقال من اليهوديّة إلى ما عداها من الأديان: كالإسلام والنّصرانية وغيرهما، فإنه يكون بمثابة المرتدّ عند المسلمين. «1»
ومنها: استباحة لحم الجمل: فإنه محرّم عندهم، ومن استباحه فقد ارتكب محظورا عظيما عندهم؛ وقد دخل ذلك في عموم قوله تعالى إخبارا بما حرّم عليهم: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ
«2» ، يعني ما ليس بمنفرج الأصابع كالإبل وما في معناها.
ومنها: استباحة أكل الشّحم خلا شحم الظّهر، وهو ما علا فإنه مباح لهم؛ وعن ذلك أخبر الله تعالى بقوله: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما
«3» ومنها: استباحة أكل الحوايا. قال ابن عباس وغيره: هي المباعر. وقال أبو عبيدة: هي ما تحوّى من البطن أي استدار، والمراد شحم الثّرب. وكذلك استباحة ما اختلط من الشّحم بعظم وهو شحم الألية، وعنه أخبر تعالى بقوله:
أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ
«4» عطفا على الشّحوم المحرّمة. على أن بعض المفسّرين قد عطف قوله تعالى: أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ
على المستثنى في قوله: إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما
، فحمله على الاستباحة؛ والموافق لما يدّعونه الأوّل، ويرون أن سبب نزول هذه الآية أنّ اليهود قالوا لم يحرّم علينا شيء إنما حرّم إسرائيل على نفسه الثّرب وشحم الألية فنحن نحرّمه، فنزلت. على أنّ اليهود القرّائين والرّبّانييّن يجملونها فيبيعونها ويأكلون ثمنها، ويتأوّلون أن آكل ثمنها غير آكل منها، وإلى ذلك الإشارة بقوله صلّى الله عليه وسلم: «قاتل الله(13/265)
اليهود! حرّمت عليهم الشّحوم فباعوها وأكلوا ثمنها» والسامرة مخالفون في ذلك، ويقولون بتحريم الثّمن أيضا، على ما سيأتي ذكره.
وليعلم أن القرّائين والرّبّانيين يحرّمون من الذّبيحة كلّ ما كانت رئته ملتصقة بقلبه أو بضلعه، والسّامرة لا يحرّمون ذلك.
ومنها: مقالة أهل بابل في إبراهيم عليه السّلام، وهي قولهم [إنه لمن الظالمين في تكسير أصنامهم] «1» ومنها: أن يحرّم الأحبار الذين هم علماؤهم على الواحد منهم، بمعنى أنهم يمنعونه من مباحاتهم في المآكل والمشارب والنّكاح وغير ذلك حرمة يجمعون عليها، وتتأكّد بقلب حصر الكنائس عليها؛ إذ من عادتهم أنهم إذا حرّموا على شخص وأرادوا التّشديد عليه قلبوا حصر الكنائس عند ذلك التّحريم تغليظا على المحرّم عليه.
ومنها: الرّجوع إلى التّيه بعد الخروج منه؛ فإنهم إنما خرجوا إليه عند سخط الله تعالى عليهم بمخالفة موسى عليه السّلام عند امتناعهم عما أمروا به من قتال الجبّارين، كما أخبر تعالى عن ذلك بقوله: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ
«2» قال المفسّرون: وكان يتيهون ستّة فراسخ في أربعة فراسخ، يمشون كلّ يوم ويبيتون حيث يصبحون؛ فأمر الله تعالى موسى عليه السّلام فضرب الحجر بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وكانوا اثني عشر سبطا لكلّ سبط عين؛ فإذا أخذوا حاجتهم من الماء احتبس وحملوا الحجر معهم، وكانت ثيابهم فيما يروى لا تخرّق ولا تتدنّس، وتطول كلّما طال الصّبيان.
ومنها: تحريم المنّ والسّلوى الذي امتنّ الله تعالى عليهم به كما أخبر بذلك(13/266)
بقوله تعالى: وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى
«1» ويقال إنه التّرنجبين. وقال ابن عبّاس: والمراد بالمنّ الذي يسقط على الشّجر وهو معروف. قال قتادة: كان المنّ يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس كسقوط الثّلج، فيأخذ الرجل منهم ما يكفيه ليومه، فإن أخذ أكثر من ذلك فسد.
وأما السّلوى، فقيل: هي طائر كالسّمانى، وقال الضّحّاك: هي السّمانى نفسها، وقال قتادة: هو طائر إلى الحمرة كانت تحشره عليهم الجنوب.
ومنها: التّبرّؤ من الأسباط: وهم أولاد يعقوب عليهم السلام، وعددهم اثنا عشر سبطا: وهم يوسف، وبنيامين، ونفتالي «2» ، وروبيل «3» ، ويهوذا، وشمعون، ولاوي، ودان، وربولي «4» ، ويشجر «5» ، وجاد، وأشر «6» ؛ ومنهم تفرّع جميع بني إسرائيل ولد كلّ منهم أمّة من الناس. وسمّوا أسباطا أخذا من السّبط وهو التتابع، إذ هم جماعة متتابعون. وقيل: من السّبط وهو الشّجر، فالسّبط الجماعة الراجعون إلى أصل واحد.
ومنها: القعود عن حرب الجبّارين مع القدرة على حربهم: وذلك أنهم أمروا بدخول الأرض المقدّسة: وهي بيت المقدس فيما قاله ابن عباس والسّدّيّ وغيرهما، والشام فيما قاله قتادة، ودمشق وفلسطين وبعض الأردنّ فيما قاله الزّجّاج، وأرض الطّور فيما قاله مجاهد؛ وكان فيها قوم جبّارون من العمالقة كما أخبر الله تعالى؛ والجبّار هو المتعظّم الممتنع من الذّلّ والقهر أخذا من الإجبار:
وهو الإكراه كأنّه يجبر غيره على ما يريده.(13/267)
قال ابن عبّاس: لما بعث موسى عليه السّلام من قومه اثني عشر نقيبا ليخبروه خبرهم، رآهم رجل من الجبّارين فأخذهم في كمّه مع فاكهة كان قد حملها من بستانه وجاء بهم إلى الملك فنثرهم بين يديه، وقال: إن هؤلاء يريدون قتالنا؛ وكان من أمرهم ما قصّه الله تعالى في كتابه بقوله: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ
«1» فكان في قعودهم عن حرب الجبارين مع القدرة والنّشاط مخالفة لما أمروا به.
وقد رتّب في «التعريف» أيمان اليهود على هذا المقتضى، فقال: ويمينهم:
«إنني والله والله والله العظيم، القديم الأزليّ الفرد الصّمد الواحد الأحد المدرك المهلك، باعث موسى بالحقّ، وشادّ أزره بأخيه هارون، وحقّ التوراة المكرّمة وما فيها وما تضمّنته، وحقّ العشر كلمات التي أنزلت على موسى في الصّحف الجوهر، وما حوته قبّة الزّمان، وإلّا تعبّدت فرعون وهامان، وبرئت من بني إسرائيل، ودنت بدين النّصرانية، وصدّقت مريم في دعواها، وبرّأت يوسف النّجّار، وأنكرت الخطاب، وتعمدت الطّور بالقاذورات، ورميت الصّخرة بالنّجاسة، وشركت بختنصّر في هدم بيت المقدس وقتل بني إسرائيل، وألقيت العذرة على مظانّ الأسفار، وكنت ممّن شرب من النّهر ومال إلى جالوت، وفارقت شيعة طالوت، وأنكرت الأنبياء، ودللت على دانيال، وأعلمت جبّار مصر بمكان(13/268)
إرمياء، وكنت مع البغيّ والفواجر يوم يحيى، وقلت: إن النّار المضيئة من شجرة العوسج نار إفك، وأخذت الطّرق على مدين، وقلت بالعظائم في بنات شعيب، وأجلبت مع السّحرة على موسى، ثم برئت ممن آمن منهم، وكنت مع من قال:
اللّحاق اللّحاق لندرك من فرّ، وأشرت بتخليف تابوت يوسف في مصر، وسلّمت إلى السّامريّ، ونزلت أريحا مدينة الجبّارين، ورضيت بفعل سكنة سذوم، وخالفت أحكام التّوراة، واستبحت السّبت وعدوت فيه، وقلت إن المظلّة ضلال، وإن الحنكة محال، وقلت بالبداء على الله تعالى في الأحكام، وأجزت نسخ الشرائع، واعتقدت أنّ عيسى بن مريم المسيح الموعود به على لسان موسى بن عمران، وانتقلت عن اليهودية إلى سواها من الأديان، واستبحت لحم الجمل والشّحم والحوايا أو ما اختلط بعظم، وتأوّلت أنّ آكل ثمنه غير آكله، وقلت مقالة أهل بابل في إبراهيم، وإلّا أكون محرّما حرمة تجمع عليها الأحبار، وتقلب عليها حصر الكنائس، ورددت إلى التّيه، وحرمت المنّ والسّلوى، وبرئت من كلّ الأسباط، وقعدت عن حرب الجبّارين مع القدرة والنّشاط» .
قلت: قوله في هذه اليمين في حرمة الشّحم وما في معناه: وتأوّلت أن آكل ثمنه غير آكله، بمعنى أنه يستعظم الوقوع في تأوّل ذلك، وهو خلاف معتقدهم:
لأنهم يتأوّلون أن آكل ثمنه غير آكله كما تقدّم عنهم، وإنما تمنع ذلك السّامرة، فكان من حقّه أن يورد ذلك في يمين السّامرة وأن يقول هنا: ولم أتأوّل أن آكل ثمنه غير آكله فتنبه لذلك.
واعلم أنّ أوّل ما استحدثت هذه الأيمان لأهل دين اليهوديّة فيما ذكره محمد بن عمر المدائنيّ في كتاب «القلم والدّواة» في زمن الفضل بن الرّبيع وزير الرّشيد، أحدثها كاتب له قال له: كيف تحلّف اليهوديّ قال: أقول له: وإلّا برئت من إلهك الذي لا تعبد غيره ولا تدين إلّا له، ورغبت عن دينك الذي ارتضيته، وجحدت التّوراة وقلت: إنّ حمار العزيز راكب جمل موسى، ولعنك ثمانمائة حبر على لسان داود وعيسى بن مريم، ومسخك الله كما مسخ أصحاب السّبت فجعل منهم القردة والخنازير، وخالفت ما دوّنه دانيال وأشلوما ويوحنّا، ولقيت الله بدم(13/269)
يحيى بن زكريا، وهدمت الطّور صخرة صخرة، وضربت بالنّاقوس في بيت المقدس، وتبرأ منك الأسباط وآباؤهم: إسرائيل، وإسحاق، وإبراهيم، وغمست لحية الجاثليق في معموديّة النّصارى، وانقلبت عن السّبت إلى الأحد، وإلّا قدّر الله لك أن تلقى الذي يخرج من الماء ليلة السّبت، وصيّر الله طعامك لحم الخنزير وكروش الجمال ومعد الخنازير، وسلّط الله عليك وعلى أهلك بختنصّر ثانية يقتل المقاتلة ويسبي الذّرّيّة ويخرّب المدائن، وأراك الله الأيدي التي تنال الرّكب من قبيل الأسباط، وآخذك الله بكلّ لسان جحدته وبكلّ آية حرّفتها، وقلت في موسى الزّور، وإنّه في محلّ ثبور، وفي دار غرور، وجحدت إهيا أشر إهيا «1» أصبئوت آل شدّاء. وهذه اليمين لازمة لك ولبنيك إلى يوم القيامة.
قلت: هذه اليمين في غاية الإتقان والتّشديد، إلا أنّ قوله: وآخذك الله بكلّ لسان جحدته وبكلّ آية حرّفتها غير مناسب لتحليفهم: لأنهم يرون أن لا إثم عليهم في الجحد ولا يعترفون بالتّحريف بل ينكرونه. على أن أكثرها غير متوارد على اليمين التي أوردها في «التعريف» : فلو ألحقها بها ملحق في آخرها على صيغة اليمين الأولى من إيرادها بصيغة التكلم، مثل أن يقول: وإلا برئت من إلهي الذي لا أعبد غيره ولا أدين إلّا له، وألا رغبت عن ديني الذي ارتضيته، وعلى ذلك في الباقي، لكان حسنا.
الطائفة الثانية (من اليهود: السّامرة)
وهم أتباع السّامريّ الذي أخبر الله تعالى عنه بقوله في سورة الأعراف «2» :(13/270)
وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ
. قال بعض المفسّرين: واسمه موسى بن ظفر، وكان أصله من قوم يعبدون البقر فرأى جبريل عليه السّلام مرّة وقد جاء إلى موسى راكبا على فرس الحياة، فأخذ قبضة من تراب من تحت حافر فرسه. وكان بنو إسرائيل قد خرجوا معهم حليّ [استعاروه] «1» من القبط، فأمرهم هارون أن يحفروا حفرة ويلقوا فيها ذلك الحليّ حتّى يأتي موسى فيرى فيه رأيه، فجمعوا ذلك الحليّ كلّه وألقوه في تلك الحفرة، فجاء السّامريّ فألقى ذلك التراب عليه، وقال له: كن عجلا جسدا له خوار، فصار كذلك. قال الحسن: صار حيوانا لحما ودما. وقيل:
بل صار يخور ولم تنقلب عينه. فقال لهم السّامريّ: هذا إلهكم وإله موسى، فعكفوا على عبادته، ونهاهم هارون فلم ينتهوا [فجاء موسى] «2» وحرّق العجل وذرّاه في اليمّ كما أخبر الله تعالى عنه بقوله: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً
«3» فأمروا بقتل أنفسهم كما أخبر تعالى بقوله: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
»
الآية. فقتل منهم سبعون ألفا ثم رفع عنهم القتل بعد ذلك.
وقد اختلف في السّامرة: هل هم من اليهود أم لا؟ والقرّاؤون والرّبّانيّون ينكرون كون السّامرة من اليهود. وقد قال أصحابنا الشافعية رحمهم الله: إنهم إن وافقت أصولهم أصول اليهود فهم منهم حتّى يقرّوا بالجزية وإلا فلا.
ثم السّامرة لهم توراة تختصّهم غير التوراة التي بيد القرّائين والرّبّانيين، والتّوراة التي بيد النّصارى؛ وهم ينفردون عن القرائين والربانيين بإنكار نبوّة من بعد موسى ما عدا هارون ويوشع عليهما السلام، ويخالفونهم أيضا في استقبال صخرة بيت المقدس، ويستقبلون طور نابلس ويوجّهون إليه موتاهم، زاعمين أنّه(13/271)
الذي كلّم الله تعالى موسى عليه، ويزعمون أنّ الله تعالى أمر داود عليه السّلام ببناء بيت المقدس عليه، فخالف وبناه بالقدس: قاتلهم الله أنّى يؤفكون. وهم قائلون أيضا: إن الله تعالى هو خالق الخلق الباريء لهم، وإنه قادر قديم أزليّ. ويوافقون على نبوّة موسى وهارون عليهما السلام، وأن الله تعالى أنزل عليه التّوراة، إلا أنّ لهم توراة تخصّهم تخالف توراة القرّائين والرّبانيّين المتقدّمة الذّكر، وأنه أنزل عليه أيضا الألواح الجوهر المتضمّنة للعشر كلمات المتقدّمة الذّكر، ويقرّون أنّ الله تعالى هو الذي أنقذ بني إسرائيل من فرعون ونجّاهم من الغرق، ويقولون: إنه نصب طور نابلس المقدّم ذكره قبلة للمتعبّد.
ويستعظمون الكفر بالتّوراة التي هم يعترفون بها، والتّبرّي من موسى عليه السلام دون غيره من بني إسرائيل، ويعظّمون طورهم طور نابلس المقدّم ذكره، ويستعظمون دكّه وقلع آثار البيت الذي عمر به، ويستعظمون استباحة السّبت كغيرهم من اليهود، ويوافقون القرّائين في الوقت مع ظواهر نصوص التّوراة، ويمنعون القول بالتأويل الذاهب إليه الرّبانيّون من اليهود، وينكرون صحّة توراة القرّائين والرّبانيّين، ويجعلون الاعتماد على توراتهم، ويقولون: لا مساس:
بمعنى أنه لا يمسّ أحدا ولا يمسّه. قال في «الكشاف» : كان إذا مسّ أحدا أو مسّه أحد حصلت الحمّى للماسّ والممسوس وقد أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السّلام للسّامريّ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ
«1» ويحرّمون من الذّبائح «2» ، ويحرّمون أكل اللحم مختلطا بلبن، زاعمين أنّ في توراتهم النّهي عن أكل لحم الجدي بلبن أمّه؛ ويستعظمون السّعي إلى الخروج إلى الأرض التي حرّم عليهم سكناها وهي مدينة أريحا.
ومن أكبر الكبائر عندهم وطء المرأة الحائض، والنّوم معها في مضجع(13/272)
واحد، لا سيما إذا فعل ذلك مستبيحا له. ومن أعظم العظائم عندهم إنكار خلافة هارون عليه السّلام، والأنفة من كونها.
وقد رتّب في «التعريف» يمينهم على مقتضى ذلك، فذكر أنّ يمينهم:
«إنني والله والله والله العظيم، الباريء، القادر، القاهر، القديم، الأزليّ، ربّ موسى وهارون، منزل التوراة والألواح الجوهر، منقذ بني إسرائيل، وناصب الطّور قبلة للمتعبّدين، وإلّا كفرت بما في التوراة، وبرئت من نبوّة موسى، وقلت:
إنّ الإمامة في غير بني هارون، ودكّيت الطّور، وقلعت بيدي أثر البيت المعمور، واستبحت حرمة السّبت، وقلت بالتأويل في الدّين، وأقررت بصحّة توراة اليهود، وأنكرت القول بأن لا مساس، ولم أتجنّب شيئا من الذّبائح، وأكلت الجدي بلبن أمّه، وسعيت في الخروج إلى الأرض المحظور عليّ سكنها، وأتيت النّساء الحيّض زمان الطّمث مستبيحا لهنّ، وبتّ معهنّ في المضاجع، وكنت أوّل كافر بخلافة هارون، وأنفت منها أن تكون.
[الملة الثانية] الفرقة الثالثة «1» (ممّن تدعو الضرورة إلى تحليفه- النّصرانيّة)
وقد اختلف في اشتقاقها، فقيل: أخذا من قول المسيح للحواريّين: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ*
«2» وقول الحواريّين: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ*
«3» وقيل: من نزوله هو وأمّه- بعد عودها به من مصر- بالنّاصرة: وهي قرية من بلاد فلسطين من الشام: وقيل غير ذلك.
والنّصارى- هم أمّة عيسى عليه السّلام، وكتابهم الإنجيل. وقد اختلف في اشتقاقه «4» على ثلاثة مذاهب حكاها أبو جعفر النّحّاس «5» في «صناعة الكتّاب» :(13/273)
أحدها- أنه مأخوذ من قولهم: نجلت الشّيء إذا أخرجته، بمعنى أنه خرج به دارس من الحقّ.
والثاني- أنه مأخوذ من قولهم: تناجل القوم إذا تنازعوا، لأنه لم يقع في كتاب من الكتب المنزّلة مثل التنازع الواقع فيه. قاله أبو عمرو الشّيبانيّ.
والثالث- أنه مأخوذ من النّجل بمعنى الأصل: لأنه أصل العلم الذي أطلع الله تعالى فيه خليقته عليه، ومنه قيل للوالد نجل: لأنه أصل لولده.
ثم ذكر هذه الاشتقاقات جنوح من قائلها إلى أنّ لفظ الإنجيل عربيّ، والذي يظهر أنه عبرانيّ: لأنّ لغة عيسى عليه السّلام كانت العبرانيّة؛ وقد قال صاحب «إرشاد القاصد» : إن معنى الإنجيل عندهم البشارة.
واعلم أنّ النّصارى بجملتهم مجمعون على أن مريم حملت بالمسيح عليه السلام، وولدته ببيت لحم من بلاد القدس من الشّام، وتكلّم في المهد، وأنّ اليهود حين أنكروا على مريم عليها السلام ذلك فرّت بالمسيح عليه السّلام إلى مصر، ثم عادت به إلى الشام، وعمره اثنتا عشرة سنة، فنزلت به القرية المسمّاة ناصرة المقدّم ذكرها، وأنه في آخر أمره قبض عليه اليهود وسعوا به إلى عامل قيصر ملك الرّوم على الشام، فقتله وصلبه يوم الجمعة، وأقام على الخشبة ثلاث ساعات، ثم استوهبه رجل من أقارب مريم اسمه يوسف النّجّار من عامل قيصر، ودفنه في قبر كان أعدّه لنفسه في مكان الكنيسة المعروفة الآن بالقمامة «1» بالقدس، وأنّه مكث في قبره ليلة السّبت ونهار السّبت وليلة الأحد، ثم قام من صبيحة يوم الأحد، ثم رآه بطرس الحواريّ وأوصى إليه؛ وأنّ أمّه جمعت له الحواريّين فبعثهم رسلا إلى الأقطار للدّعاية إلى دينه، وهم في الأصل اثنا عشر حواريّا: بطرس (ويقال له: سمعان، وشمعون الصّفا أيضا) «2» ، وأندراوس وهو(13/274)
أخو بطرس المقدّم ذكره، ويعقوب بن زيدي، ويوحنّا الإنجيليّ، وهو أخو «1» أندراوس، وفيلبس، وبرتلوماوس، وتوما: ويعرف بتوما الرسول، ومتّى ويعرف بمتّى العشّار، ويعقوب بن حلفا، وسمعان القناني (ويقال له شمعون أيضا) ، وبولس «2» (ويقال له تداوس) ، وكان اسمه في اليهودية شاول، ويهوذا الأسخر يوطي (وهو الذي دلّ يهود على المسيح حتّى قبضوا عليه بزعمهم) وقام مقامه بنيامين، ويقولون: إنه بعد أن بعث من بعث من الحواريّين صعد إلى السّماء. وهم متّفقون على أن أربعة من الحواريّين تصدّوا لكتابة الإنجيل: وهم بطرس، ومتّى، ولوقا «3» ، ويوحنّا، فكتبوا فيه سيرة المسيح من حين ولادته إلى حين رفعه، وكتب كلّ منهم نسخة على ترتيب خاصّ بلغة من اللّغات.
فكتب بطرس إنجيله باللّغة الرّوميّة في مدينة رومية قاعدة بلاد الرّوم، ونسبه إلى تلميذه مرقس أوّل بطاركة الإسكندرية، ولذلك يعرف بمرقس الإنجيليّ، وقيل: إن الذي كتبه مرقس نفسه. وكتب متّى إنجيله بالعبرانيّة في بيت المقدس، ونقله بعد ذلك يوحنّا بن زيدي إلى اللّغة الرومية. وكتب لوقا إنجيله بالرّومية وبعث به إلى بعض أكابر الرّوم، وقيل: بل كتبه باليونانّية بمدينة الإسكندرية. وكتب يوحنّا إنجيله باليونانية بمدينة أفسس، وقيل مدينة رومية.
قال الشّهرستانيّ: وخاتمة إنجيل متّى: «إني أرسلكم إلى الأمم كما أرسلني أبي إليكم، فاذهبوا وادعوا الأمم باسم الأب والابن وروح القدس» ثم اجتمع برومية من توجّه إليها من الحواريّين ودوّنوا قوانين دين النصرانية على يد أقليمش «4» تلميذ بطرس الحواريّ، وكتبوا عدد الكتب التي يجب قبولها والعمل بمقتضاها، وهي عدّة كتب: منها الأناجيل الأربعة المتقدمة الذّكر، والتّوراة التي(13/275)
بأيديهم، وجملة كتب من كتب الأنبياء الذين قبل المسيح عليه السّلام، كيوشع بن نون، وأيّوب، وداود، وسليمان عليهم السلام، وغيرهم «1» ثم لما مات الحواريّون أقام النّصارى لهم خلائف، عبّر عنهم بالبطاركة جمع بطرك، وهي كلمة يونانية مركّبة من لفظين، أحدهما «بطر» ومعناه.. «2» ، والثانية «يرك» ومعناه.. «3» ، ورأيت في ترسّل العلاء بن موصلايا «4» : كاتب القائم بأمر الله العبّاسيّ «فطرك» بإبدال الباء فاء، والعامة يقولون: «بترك» بابدال الطاء تاء، وهو عندهم خليفة المسيح، والقائم بالدّين فيهم.
وقد كان لبطاركتهم في القديم خمسة «5» كراسيّ، لكلّ كرسيّ منها بطرك.
الأوّل منها بمدينة رومية، والقائم به خليفة بطرس الحواريّ المتوجه إليها بالبشارة؛(13/276)
والثاني بمدينة الإسكندريّة، والقائم به خليفة مرقس تلميذ بطرس الحواريّ المقدّم ذكره وخليفته بها؛ والثالث بمدينة بزنطية: وهي القسطنطينيّة؛ والرابع بمدينة أنطاكية من العواصم التي هي في مقابلة حلب الآن؛ والخامس بالقدس. وكان أكبر هذه الكراسيّ الخمسة كرسيّ رومية لكونه محلّ خلافة بطرس الحواريّ، ثم كرسيّ الإسكندرية، لكونه كرسيّ مرقس خليفته.
ثم اصطلحوا بعد ذلك على أسماء وضعوها على أرباب وظائف دياناتهم، فعبروا عن صاحب المذهب بالبطريق، وعن نائب البطرك بالأسقفّ، وقيل الأسقفّ عندهم بمنزلة المفتي، وعن القاضي بالمطران، وعن القاريء بالقسّيس، وعن صاحب الصلاة وهو الإمام بالجاثليق «1» ، وعن قيّم الكنيسة بالشّمّاس، وعن المنقطع إلى المولى للعبادة بالرّاهب.
وكانت الأساقفة يسمّون البطرك أبا، والقسوس يسمون الأسقفّ أبا، فوقع الاشتراك عندهم في اسم الأب، فوقع اللّبس عليهم، فاخترعوا لبطرك الإسكندرية اسم الباب، ويقال فيه البابا «2» بزيادة ألف، والبابه بإبدال الألف هاء، ومعناه عندهم أبو الآباء: لتمييز البطرك عن الأسقفّ، فاشتهر بهذا الاسم، ثم نقل اسم الباب إلى بطرك رومية لكونه خليفة بطرس الحواريّ؛ وبقي اسم البطرك على بطرك الإسكندرية وغيره من أصحاب الكراسيّ.
واعلم أن النّصارى مجمعون على أن الله تعالى واحد بالجوهر ثلاثة بالأقنوميّة؛ ويفسّرون الجوهر بالذّات والأقنوميّة بالصّفات: كالوجود والعلم والحياة؛ ويعبرون عن الذّات مع الوجود بالأب، وعن الذّات مع العلم بالابن؛ ويعبرون عن الذّات مع الحياة بروح القدس؛ ويعبّرون عن الإله باللّاهوت، وعن(13/277)
الإنسان بالنّاسوت؛ ويطلقون العلم على الكلمة التي ألقيت إلى مريم عليها السلام فحملت منها بالمسيح عليه السّلام؛ ويخصّونه بالاتّحاد دون غيره من الأقانيم.
واجتمع منهم ثلاثمائة وثمانية عشر، وقيل وسبعة عشر «1» أسقفّا من أساقفتهم بمدينة نيقية «2» من بلاد الرّوم بحضرة قسطنطين ملك الرّوم عند ظهور أريوش الأسقفّ وقوله: إن المسيح مخلوق، وإنّ القديم هو الله تعالى، وألّفوا عقيدة استخرجوها من أناجيلهم لقّبوها بالأمانة «3» ، من خرج عنها خرج عن دين النّصرانية؛ ونصّها على ما ذكره الشّهرستانيّ في «النّحل والملل» وابن العميد مؤرّخ النّصارى في تاريخه ما صورته:
«نؤمن بالله الواحد الأب، مالك كلّ شيء، وصانع ما يرى وما لا يرى، وبالابن الواحد أيشوع المسيح ابن الله، بكر الخلائق كلّها، وليس بمصنوع، إله حقّ من [إله حق من] «4» جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم وكلّ شيء، الذي من أجلنا و [من] «5» أجل خلاصنا نزل من السّماء، وتجسّد بروح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب أيام فيلاطوس، ودفن ثم قام في اليوم الثالث وصعد إلى السّماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعدّ للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء. ونؤمن بروح القدس الواحد الحيّ الذي يخرج من أبيه،(13/278)
وبمعموديّة واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة [واحدة] «1» قدسيّة مسيحيّة جاثليقيّة، وبقيام أبداننا، وبالحياة الدّائمة أبد الآبدين.
ووضعوا معها قوانين لشرائعهم سمّوها الهيمانوت «2» ثم اجتمع منهم جمع بقسطنطينيّة عند دعوى مقدونيوس المعروف بعدوّ روح القدس، وقوله: إن روح القدس مخلوق، وزادوا في الأمانة المتقدّمة الذّكر ما نصه: «ونؤمن بروح القدس المحيي المنبثق من الأب» ولعنوا من يزيد بعد ذلك على كلام الأمانة أو ينقص منها.
وافترق النّصارى بعد ذلك إلى فرق كثيرة، المشهور منها ثلاث فرق:
الفرقة الأولى (الملكانيّة)
قال الشّهرستانيّ: وهم أتباع ملكان الذي ظهر ببلاد الرّوم؛ ومقتضى ذلك أنّهم منسوبون إلى ملكان صاحب مذهبهم. ورأيت في بعض المصنّفات أنّهم منسوبون إلى مركان قيصر أحد قياصرة الرّوم، من حيث إنّه كان يقوم بنصرة مذهبهم، فقيل لهم مركانيّة، ثم عرّب ملكانيّة «3» ؛ ومعتقدهم أن جزءا من اللّاهوت حلّ في النّاسوت، ذاهبين إلى أن الكلمة، وهي أقنوم العلم عندهم، اتّحدت بجسد المسيح وتدرّعت بناسوته ومازجته ممازجة الخمر [اللبن] «4» أو الماء اللّبن؛ لا يسمّون العلم قبل تدرّعه ابنا، بل المسيح وما تدرّع به هو الابن؛ ويقولون: إن الجوهر غير الأقانيم كما في الموصوف والصّفة، مصرّحين بالتثليث،(13/279)
قائلين بأن كلّا من الأب والابن وروح القدس إله، وإليهم وقعت الإشارة بقوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ
«1» وهم يقولون: إن المسيح قديم أزليّ من قديم أزليّ، وإن مريم ولدت إلها أزليّا، فيطلقون الأبوّة والبنوّة على الله تعالى وعلى المسيح حقيقة، متمسّكين بظاهر ما يزعمون أنه وقع في الإنجيل من ذكر الأب والابن: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً
«2» ثم هم يقولون: إن المسيح ناسوت كليّ لا جزئيّ، وإن القتل والصّلب وقعا على الناسوت واللّاهوت معا كما نقله الشّهرستانيّ في «النّحل والملل» وإن كان الشيخ شمس الدّين بن الأكفاني في كتابه «إرشاد القاصد» قد وهم فنقل عنهم القول بأن الصّلب وقع على النّاسوت دون اللّاهوت.
ومن معتقدهم أيضا أنّ المعاد والحشر يكون بالأبدان والأرواح جميعا، كما تضمّنته الأمانة المتقدّمة، وأنّ في الآخرة التّلذّذات الجسمانيّة بالأكل والشّرب والنّكاح وغير ذلك كما يقوله المسلمون.
ومن فروعهم أنهم لا يختتنون، وربّما أكل بعضهم الميتة. وممّن تمذهب بمذهب الملكانيّة الرّوم والفرنجة ومن والاهم.
والملكانية يدينون بطاعة الباب: وهو بطرك رومية المقدّم ذكره، قال في «الروض المعطار» : من قاعدة الباب أنه إذا اجتمع به ملك من ملوك النّصارى ينبطح على بطنه بين يديه، ولا يزال يقبّل رجليه حتّى يكون هو الذي يأمره بالقيام «3»(13/280)
الفرقة الثانية (اليعقوبيّة)
وهم أتباع ديسقرس بطرك الإسكندريّة في القديم: وهو الثامن من بطاركتها من حين بطركيّة مرقس الإنجيلّي نائب بطرس الحواريّ بها. قال ابن العميد في تاريخه: وسمّي أهل مذهبه يعقوبية: لأن اسمه كان في الغلمانية يعقوب. وقيل:
بل كان له تلميذ اسمه يعقوب فنسبوا إليه. وقيل: بل كان شاويرش بطرك أنطاكية على رأي ديسقرس، وكان له غلام اسمه يعقوب فكان يبعثه إلى أصحابه: أن اثبتوا على أمانة ديسقرس فنسبوا إليه. وقيل: بل نسبوا إلى يعقوب البردغاني تلميذ سويرس بطرك أنطاكية، وكان راهبا بالقسطنطينيّة فكان يطوف في البلاد ويدعو إلى مذهب ديسقرس. قال ابن العميد: وليس ذلك فإنّ اليعاقبة ينسبون إلى ديسقرس قبل ذلك بكثير، ومعتقدهم أن الكلمة انقلبت لحما ودما فصار الإله هو المسيح.
ثم منهم من قال إن المسيح هو الله تعالى. قال المؤيّد صاحب حماة:
ويقولون مع ذلك إنه قتل وصلب ومات وبقي العالم ثلاثة أيّام بلا مدبّر.
ومنهم من يقول: ظهر اللاهوت بالنّاسوت، فصار ناسوت المسيح مظهر الحقّ لا على طريق حلول جزء فيه، ولا على سبيل اتّحاد الكلمة التي هي في حكم الصّفة، بل صار هو هو، كما يقال: ظهر الملك بصورة إنسان، وظهر الشّيطان بصورة حيوان، وكما أخبر التّنزيل عن جبريل عليه السّلام بقوله تعالى: فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
«1» وأكثرهم يقول: إن المسيح جوهر واحد إلا أنّه من جوهرين، وربّما قالوا:
طبيعة واحدة من طبيعتين. فجوهر الإله القديم وجوهر الإنسان المحدث تركّبا تركّب النّفس والبدن فصارا جوهرا واحدا أقنوما واحدا، وهو إنسان كلّه وإله كلّه،(13/281)
فيقال: الإنسان صار إلها ولا ينعكس، فلا يقال: الإله صار إنسانا، كالفحمة تطرح في النار فيقال: صارت الفحمة نارا، ولا يقال: صارت النار فحمة؛ وهي في الحقيقة لا نار مطلقة ولا فحمة مطلقة، بل هي جمرة.
ويقولون: إنّ الكلمة اتحدت بالإنسان الجزئيّ لا الكلّيّ، وربّما عبّروا عن الاتحاد بالامتزاج والادّراع والحلول، كحلول صورة الإنسان في المرآة.
ومنهم من يقول: إن الكلمة لم تأخذ من مريم شيئا لكنّها مرّت بها كمرور الماء بالميزاب، وإنّ ما ظهر من شخص المسيح عليه السّلام في الأعين هو كالخيال والصّورة في المرآة، وإن القتل والصّلب إنما وقعا على الخيال.
وزعم آخرون منهم أنّ الكلمة كانت تداخل جسد المسيح أحيانا فتصدر عنه الآيات: من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص؛ وتفارقه في بعض الأوقات فترد عليه الآلام والأوجاع. ثم هم يقولون: إن المعاد إنما هو روحانيّ فيه لذّة وراحة وسرور، ولا أكل ولا شرب ولا نكاح.
ومن فروعهم أنهم يختتنون، ولا يأكلون الحيوان إلا بعد التّذكية. وقد حكى ابن العميد مؤرّخ النّصارى أن ديسقرس صاحب مذهب اليعقوبية حين ذهب إلى ما ذهب: من مذهبه المقدّم ذكره، رفع أمره إلى مركان قيصر ملك الروم يومئذ، فطلبه إلى مدينة خلقدونية «1» من بلاد الرّوم، وجمع له ستّمائة وأربعة وثلاثين أسقفّا، وناظروه بحضرة الملك فسقط في المناظرة، فكلمته زوجة الملك فأساء الرّدّ فلطمته بيدها، وتناوله الحاضرون بالضرب، وأمر بإخراجه؛ فسار إلى القدس، فأقام به واتبعه أهل القدس وفلسطين ومصر والإسكندرية؛ وقد اتّبعه على ذلك أيضا النّوبة والحبشة، وهم على ذلك إلى الآن.(13/282)
الفرقة الثالثة (النّسطوريّة)
ومقتضى كلام ابن العميد أنهم أتباع نسطوريوس بطرك القسطنطينيّة.
ويحكى عنه أن من مذهبه أن مريم عليها السلام لم تلد إلها، وإنما ولدت إنسانا، وإنّما اتّحد في المشيئة لا في الذّات، وأنه ليس إلها حقيقة بل بالموهبة والكرامة.
ويقولون بجوهرين وأقنومين، وإن كرلس بطرك الإسكندرية وبطرك رومية خالفاه في ذلك، فجمعا له مائتي أسقفّ بمدينة أفسس «1» ، وأبطلوا مقالة نسطوريوس وصرّحوا بكفره، فنفي إلى إخميم من صعيد مصر ومات بها، فظهر مذهبه في نصارى المشرق: من الجزيرة الفراتيّة والموصل والعراق وفارس «2» والذي ذكره الشّهرستانيّ في «النّحل والملل» أنهم منسوبون إلى نسطور الحكيم الذي ظهر في زمان المأمون، وتصرّف في الأناجيل بحكم رأيه، وقال: إن الله تعالى واحد ذو أقانيم ثلاثة: الوجود والعلم والحياة؛ وإن هذه الأقانيم ليست بزائدة على الذّات ولا هي هي، وإن الكلمة اتّحدت بجسد المسيح عليه السّلام لا على طريق الامتزاج، كما ذهبت إليه الملكانيّة، ولا على طريق الظّهور كما قالته اليعقوبيّة، ولكن كإشراق الشّمس في كوّة، أو كظهور النّقش في الخاتم؛ قال الشّهرستانيّ: ويعني بقوله إنه واحد بالجوهر أنه ليس مركّبا من جنس بل هو بسيط واحد. ويعني بالحياة والعلم أقنومين جوهرين أي أصلين مبدأين للعالم. قال:
ومنهم من يثبت لله تعالى صفات زائدة على الوجود والحياة والعلم: كالقدرة والإرادة ونحوهما. ومنهم من يطلق القول بأن كلّ واحد من الأقانيم الثلاثة حيّ ناطق إله. ومنهم من يقول: إن الإله واحد، وإن المسيح ابتدأ من مريم عليها السلام،(13/283)
وإنه عبد صالح مخلوق، خلقه الله تعالى وسماه ابنا على التّبنّي لا على الولادة والاتّحاد. ثم هم يخالفون في القتل والصّلب مذهب الملكانية واليعقوبية جميعا، فيقولون: القتل والصّلب وقعا على المسيح من جهة ناسوته لا من جهة لا هوته: لأن الإله لا تحله الآلام. قال صاحب حماة «1» : وهم عند النصارى كالمعتزلة عندنا.
وليعلم أن للنّصارى أشياء يعظّمونها و [أشياء] «2» يستعظمون الوقوع فيها.
فأما التي يعظّمونها فإنهم يعظمون المسيح عليه السّلام حتّى انتهوا فيه إلى ما انتهوا: من دعوى الألوهيّة والبنوّة لله سبحانه، تعالى الله عما يشركون، واسمه عندهم أيشوع فعرّب عيسى، وإنّما سمي المسيح لكونه ممسوح القدمين لا أخمص له «3» ويعظّمون مريم عليها السلام لولادتها المسيح عليه السّلام، ويعبّرون عنها بالسّيّدة، وبالبتول، وبالعذراء.
ويعظمون مريحنّا «4» المعمدان، وهم عندهم يحيى بن زكريّا عليه السّلام، ومعنى «مر» السّيّد، و «يحنّا» يعني يحيى؛ ويسمّونه المعمدان لأنهم يزعمون أنّ مريم عليها السلام حين عودها من مصر إلى الشأم ومعها السّيد المسيح تلقّاه يحيى عليه السّلام فعمّده في نهر الأردنّ من بلاد فلسطين، يعني غمسه فيه، ويجعلون ذلك أصلا للمعموديّة: وهو الماء الذي يغمسون فيه عند تنصّرهم، ويقولون: إنه لا يصح تنصّر نصرانيّ دون تعمّد. ولماء المعمودية بذلك عندهم من التّعظيم ما(13/284)
لا فوقه. وبعضهم يقول: إن المراد بمر يحنّا المعمدان غير يحيى بن زكريّا عليهما السلام.
ويعظمون الحواريّين: وهم أصحاب المسيح عليه السّلام. وقد تقدّم أن عدّتهم اثنا عشر حواريّا، ومعنى الحواريّ الخاصّ، ومنه قيل للدّقيق النّاصع البياض دقيق حوّارى، سمّوا بذلك لأن المسيح عليه السّلام استخلصهم لنفسه.
ويعظّمون البطاركة لأنهم خلفاء الدّين عندهم، ويرون لهم من الحرمة ما لدين النّصرانية عندهم من الحرمة، بل يجعلون أمر التّحليل والتّحريم منوطا بهم، حتّى لو حرّم البطرك على أحدهم زوجته لم يقربها حتّى يحلّها له.
وسيأتي «1» ما لبطرك اليعقوبية عند صاحب الحبشة من الحرمة عند ذكر المكاتبة إليه فيما بعد، إن شاء الله تعالى. وكذلك يعظّمون أرباب الوظائف الدّينية عندهم: من البطريق، والأسقفّ، والمطران، والقسّيس، والشّمّاس، والراهب؛ وقد تقدّم تفسيرهم فيما مرّ.
ويعظّمون يوسف النّجّار: وهو قريب لمريم عليها السلام، يقال: إنه ابن عمّها، كان معها في خدمة بيت المقدس، وهو الذي استوهب المسيح بعد الصّلب بزعمهم حتّى دفنه. واليهود يرمون مريم عليها السلام معه بالفجور على ما تقدّم.
ويعظّمون مريم المجد لانيّة المقدّم ذكرها، ويزعمون أنها.. «2» أخرج منها سبعة شياطين، وأنها أوّل من رأى المسيح حين قام من قبره.
ومن عادتهم أنه إذا مات منهم أحد ممن يعتقدون صلاحه صوّروا صورته في حيطان كنائسهم ودياراتهم يتبركون بها.
ويعظّمون قسطنطين بن قسطنطين ملك الرّوم، وذلك أنّه أوّل من أخذ بدين(13/285)
النصرانية من الملوك وحمل على الأخذ به. وقد اختلف في سبب ذلك فقيل: إنه كان يحارب أمّة البرجان بجواره وقد أعجزه أمرهم، فرأى في المنام كأنّ ملائكة نزلت من السماء ومعها أعلام عليها صلبان، فعمل أعلاما على مثالها وحاربهم بها فظهر عليهم. وقيل: بل رأى صورة صليب في السماء. وقيل: بل حملته أمّه هيلاني على ذلك.
ويعظمون هيلاني أم قسطنطين المقدّم ذكره، ويقولون: إنها رحلت من قسطنطينيّة إلى القدس، وأتت إلى محلّ الصّلب بزعمهم، فوقفت وبكت، ثم سألت عن خشبة الصّلب، فأخبرت أن اليهود دفنوها وجعلوا فوقها القمامات والنّجاسات، فاستعظمت ذلك، واستخرجتها وغسلتها وطيّبتها وغشّتها بالذّهب، وألبستها الحرير، وحملتها معها إلى القسطنطينيّة للتّبرّك، وبنت مكانها كنيسة، وهي المسمّاة الآن بالقمامة، أخذا من اسم القمامة التي كانت موضوعة هناك.
ويعظّمون من الأمكنة بيت لحم حيث مولد المسيح عليه السّلام، وكنيسة قمامة حيث قبره، وموضع خشبة الصّلب التي استخرجتها هيلاني أم قسطنطين بزعمهم.
وكذلك يعظّمون سائر الكنائس: وهي أمكنة عباداتهم كالمساجد للمسلمين. وأصلها في اللّغة مأخوذ من قولهم: كناس الظّبي: وهو المكان الذي يستتر فيه، سمّيت بذلك لاستتار هم فيها حال عبادتهم عن أعين الناس. وكذلك يعظّمون الدّيارات: وهي أمكنة التّخلّي والاعتزال كالزّوايا للمسلمين.
ويعظّمون المذبح: وهو مكان يكون في الكنيسة يقرّبون عنده القرابين ويذبحون الذّبائح، ويعتقدون أنّ كلّ ما ذبح عليه من القربان صار لحمه ودمه هو لحم المسيح ودمه حقيقة.
ويعظمون من الأزمنة أعيادهم الاتي ذكرها عند ذكر أعياد الأمم: كعيد(13/286)
الغطاس من أعيادهم الكبار، وموقعه في الحادي عشر من طوبه «1» من شهور القبط، وعيد السّيدة من أعيادهم الصّغار، وموقعه في الحادي والعشرين من بؤونه منها، وعيد الصّليب، وموقعه عندهم في السابع عشر من توت، إلى غير ذلك من الأعياد الآتي «2» ذكرها مع أعياد الأمم، في الكلام على الأزمنة من هذه المقالة، إن شاء الله تعالى.
وأما الأشياء التي [يتعبّدون] «3» بها، فإنهم يصلّون سبع صلوات في اليوم واللّيلة؛ وهي: الفجر، والضّحى، والظّهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ونصف اللّيل؛ ويقرأون في صلاتهم بمزامير داود عليه السّلام كما تفعل اليهود.
والسّجود في صلاتهم غير محدود العدد، بل قد يسجدون في الرّكعة الواحدة خمسين سجدة. وهم يتوضّأون للصلاة، ولا يغتسلون من الجنابة، وينكرون الطّهر للصّلاة على المسلمين وعلى اليهود، ويقولون: الأصل طهارة القلب. وإذا أرادوا الصّلاة ضربوا بالنّاقوس، وهو خشبة مستطيلة نحو الذراع يضرب عليها بخشبة لطيفة فيجتمعون. وهم يستقبلون في صلاتهم المشرق، وكذلك يوجّهون إليه موتاهم. قال الزّمخشريّ: ولعلّ ذهابهم إلى ذلك لأخذ مريم عليها السلام عنهم مكانا شرقيّا كما أخبر تعالى بقوله: إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا
«4» ولهم صيامات في أوقات متفرّقة.
منها: صومهم الكبير: وهو ستّون «5» يوما أوّلها يوم الاثنين. وموقع أوّله في(13/287)
شباط أو أذار من شهور السّريان، بحسب ما يقتضيه حسابهم، يفطرون في خلالها يوم الأحد، تبقى مدّة صيامهم منها تسعة وأربعون يوما.
ومنها: [صومهم الصّغير] «1» : وهو ستّة «2» وأربعون يوما يصومونها بعد الفصح الكبير بخمسين يوما، أوّلها يوم الاثنين أيضا؛ وعندهم فيه خلاف.
ومنها: صوم العذارى: وهو ثلاثة أيام، أوّلها يوم الاثنين الكائن بعد كانون الثاني، في صيامات أخرى يطول ذكرها، ولكثرة صيامهم قيل: إذا حدّثت أن نصرانيّا مات من الجوع فصدّق.
وأمّا ما يحرّمونه، فإنهم يقولون بتحريم لحم الجمل ولبنه كما يقوله اليهود، ويقولون: بحلّ لحم الخنزير خلافا لليهود، وهو مما ينكره اليهود عليهم من مخالفة أحكام التوراة.
ويحرّمون صوم يوم الفصح الأكبر، وهو يوم فطرهم من صومهم الأكبر.
ويحرّمون على الرجل أن يتزوّج امرأتين في قرن واحد.
ويحرّمون طلاق الزوجة بل إذا تزوّج أحدهم امرأة لا يكون له منها فراق إلا بالموت.
وأما الأشياء التي يستعظمون الوقوع فيها:
فمنها: جحود كون المسيح هو المبشّر به على لسان موسى عليه السّلام.
ومنها: إنكار قتل المسيح عليه السّلام وصلبه؛ فإنهم يعتقدون أن ذلك كان سببا لخلاص اللاهوت من النّاسوت، فمن أنكر عندهم وقوع القتل والصّلب على المسيح خرج عن دين النصرانية، بل إنكار رؤيته مصلوبا عندهم ارتكاب محظور.
على أنّهم ينكرون على اليهود ارتكابهم ذلك، ويستعظمون مشاركتهم في ذلك، فيالها من عقول أضلّها بارئها!.(13/288)
ومنها: كسر صليب الصّلبوت، وهو الخشبة التي يزعمون أن المسيح عليه السلام صلب عليها. وقد تقدّم أن هيلاني أمّ قسطنطين استخرجتها من القمامة وغسلتها وطيّبتها وغشّتها بالذّهب وألبستها الحرير وحملتها معها للتّبرك.
ومنها: الرّجوع عن متابعة الحواريّين الذين هم أصحاب المسيح عليه السلام.
ومنها: الخروج عن دين النّصرانية أو التّبري منه، والقول بدين التوحيد أو دين اليهودية.
ومنها: الوقوع في حقّ قسطنطين وأمّه هيلاني: لقيامهما في إقامة دين النّصرانية أوّلا على ما تقدّم ذكره. وكذلك الاستهانة بالبطاركة أو أحد من أرباب الديانات عندهم: كالأساقفة ونحوهم ممن تقدّم ذكره.
ومنها: القعود عن أهل الشّعانين: وهم أهل التّسبيح الذين كانوا حول المسيح عليه السّلام حين ركب الحمار بالقدس ودخل صهيون يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهم حوله يسّبحون الله تعالى ويقدّسونه.
ومنها: صوم يوم الفصح الأكبر، وصرف الوجه في الصلاة عن الشّرق، واستقبال صخرة بيت المقدس موافقة لليهود.
ومنها: هدم كنيسة قمامة: لكونها عندهم في محلّ القبر بزعمهم. وكذلك غيرها من الكنائس والدّيرة.
ومنها: تكذيب أحد من نقلة الإنجيل الأربعة الذين كتبوه كمتّى وغيره، أو تكذيب أحد من القسوس: وهم الذين يقرأون الإنجيل والمزامير، وتكذيب مريم المجد لانية فيما أخبرت به عن المسيح من قيامه من قبره الذي كان دفن فيه بزعمهم؛ فإنهم يزعمون أنّها أوّل من رآه عند قيامه.
ومنها: القول بنجاسة ماء المعمودية: وهو الماء الذي ينغمسون فيه عند تنصّرهم.(13/289)
ومنها: عدم اعتقاد أن القربان الذي يذبح في المذبح لا يصير لحمه ودمه هو لحم المسيح ودمه؛ ولعمري إن هذه لعقول ذاهبة.
ومنها: استباحة دماء أهل الديارات، والمشاركة في قتل الشّمامسة الذين هم خدّام الكنائس.
ومنها: خيانة المسيح في وديعته. وذلك أنّهم يزعمون أن كلّ ما خالفت فيه فرقة من الفرق الثلاث الفرقة الأخرى كقول الملكانية بأنّ المعاد جسمانيّ، وقول اليعقوبية: إن المعاد روحانيّ، فإنّ الفرقة الأخرى يستعظمون الوقوع فيما ذهب إليه مخالفها؛ وكذلك كلّ ما جرى هذا المجرى.
وقد رتّب الكتّاب أيمان النّصارى على هذه المعتقدات. قال محمد بن عمر المدائني في كتاب «القلم والدّواة» : وقد يذهب على كثير من الكتّاب ما يستحلف به اليهود والنصارى عند الحاجة إلى ذلك منهم، فيستحلفون بأيمان الإسلام وهم مستحلّون للحرام، ومجترئون على الآثام، ويتأثّمون من أيمانهم، والاستقسام بأديانهم. ثم أشار إلى أنّ أوّل ما رتّبت الأيمان التي يحلّف بها النصارى على هذه الطريقة في زمن الفضل بن الرّبيع، فحكى عن بعض كتّاب العراق أنه قال: أراد الفضل بن الربيع: يعني وزير الرّشيد أن يستحلف كاتبه «عونا النصراني» فلم يدر كيف يستحلفه، فقلت: ولّني استحلافه، قال: دونك، فقلت له: إحلف بالهك الذي لا تعبد غيره، ولا تدين إلّا له، وإلا فخلعت النّصرانيّة، وبرئت من المعمودية، وطرحت على المذبح خرقة حيضة يهوديّة، وقلت في المسيح ما يقوله المسلمون إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ
«1» ، وإلا فلعنك البطريك الأكبر، والمطارنة، والشّمامسة، والقمامسة، والدّيرانيّون، وأصحاب الصوامع عند مجتمع الخنازير وتقريب القربان، وبما استغاثت به النّصارى ليسوع، وإلّا فعليك جرم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفّا الذين(13/290)
خرجوا من نيقية حتى أقاموا عمود النصرانية، وإلّا فشققت الناقوس وطبخت به لحم جمل وأكلته يوم الاثنين مدخل الصّوم (واتحمت من كل بركه يوما) «1» ورميت الشاهد بعشرين حجرا جاحدا بها، وهدمت كنيسة لدّ، وبنيت بها كنيسة اليهود، وخرقت غفارة مريم وكهنونة داود، وأنت حنيف مسلم؛ وهذه اليمين لازمة لك ولعقبك من بعدك. وقال فقال عون: أنا لا أستحلّ أن أسمع هذه فكيف أقولها! وخرج من جميع ما طالبه به الفضل، فأمر بها الفضل فكتبت نسخا وفرّقت على الكتّاب وأمرهم بحفظها وتحليف النصارى [بها] «2» قلت: وقد أكثر الناس من ترتيب نسخ الأيمان لتحليف النّصارى، فمن مطنب ومن موجز، على اختلاف مقاصدهم فيما يقع به التّحليف ويوافق آراءهم فيه. وقد رتّب المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله في «التعريف» لهم أيمانا على مقتضى آراء فرقهم الثّلاث المتقدّمة الذّكر: من الملكانيّة، واليعقوبية، والنّساطرة.
فأما الملكانيّة، فقال: إنّ يمينهم: «والله والله والله العظيم، وحقّ المسيح عيسى ابن مريم، وأمّه السّيدة مريم، وما أعتقده من دين النّصرانيّة، والملّة المسيحية ... وإلّا أبرأ من المعمودية، وأقول: إن ماءها نجس، وإن القرابين رجس، وبرئت من مريحنّا المعمدان والأناجيل الأربعة، وقلت: إن متّى كذوب، وإن مريم المجد لانية باطلة الدّعوى في إخبارها عن السّيد اليسوع المسيح، وقلت في السيدة مريم قول اليهود، ودنت بدينهم في الجحود، وأنكرت اتّحاد اللّاهوت بالنّاسوت، وبرئت من الأب والابن وروح القدس، وكذّبت القسوس، وشاركت في ذبح الشّمامس، وهدمت الديارات والكنائس، وكنت ممّن مال على قسطنطين ابن هيلاني، وتعمّد أمّه بالعظائم، وخالفت المجامع التي أجمعت الأساقفة بروميّة والقسطنطينيّة، ووافقت البرذعانيّ بأنطاكية، وجحدت مذهب الملكانيّة، وسفّهت(13/291)
رأي الرّهبان، وأنكرت وقوع الصّلب على السّيّد اليسوع، وكنت مع اليهود حين صلبوه، وحدت عن الحواريّين، واستبحت دماء الدّيرانيّين، وجذبت رداء الكبرياء عن البطريرك، وخرجت عن طاعة الباب، وصمت يوم الفصح الأكبر، وقعدت عن أهل الشّعانين، وأبيت عيد الصّليب والغطاس، ولم أحفل بعيد السّيدة، وأكلت لحم الجمل، ودنت بدين اليهود، وأبحت حرمة الطّلاق، وخنت المسيح في وديعته، وتزوّجت في قرن بامرأتين، وهدمت بيدي كنيسة قمامة، وكسرت صليب الصّلبوت، وقلت في البنوّة مقال نسطورس، ووجّهت إلى الصّخرة وجهي، وصدّيت عن الشّرق المنير حيث كان المظهر الكريم، وإلّا برئت من النورانيين والشعشعانيين، ودنت غير دين النّصارى، وأنكرت أنّ السّيد اليسوع أحيا الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص، وقلت بأنّه مربوب، وأنّه ما رؤي وهو مصلوب، وأنكرت أن القربان المقدّس على المذبح ما صار لحم المسيح ودمه حقيقة، وخرجت في النصرانية عن لا حب الطريقة، وإلّا قلت بدين التّوحيد، وتعبدت غير الأرباب، وقصدت بالمظانيات غير طريق الإخلاص، وقلت: إنّ المعاد غير روحانيّ «1» ، وإن بني المعمودية لا تسيح في فسيح السماء، وأثبتّ وجود الحور العين في المعاد، وأن في الدار الآخرة التّلذّذات الجسمانية «2» ، وخرجت خروج الشّعرة من العجين من دين النّصرانية، وأكون من ديني محروما، وقلت إن جرجس لم يقتل مظلوما.
وأما اليعاقبة، فقال: إنه يبدل قوله: اتحاد اللّاهوت بالنّاسوت بقوله:
مماسّة اللّاهوت للنّاسوت. ويبطل قوله: ووافقت البرذعانيّ بأنطاكية، وجحدت مذهب الملكانيّة. ويبدّل بقوله: وكذّبت يعقوب البرذعانيّ، وقلت: إنه غير نصراني، وجحدت اليعقوبية، وقلت إن الحق مع الملكانية. ويبطل قوله:
وخرجت عن طاعة الباب، ويبدل بقوله: وقاتلت بيدي عمدشيون، وخرّبت كنيسة قمامة وكنت أوّل مفتون.(13/292)
وإن كان من النساطرة أبدل القولين وأبقى ما سواهما، وقال عوض مماسة اللّاهوت للنّاسوت: إشراق اللّاهوت على النّاسوت، ويزاد بعد ما يحذف: وقلت بالبراءة من نسطورس وما تضمّنه الإنجيل المقدّس.
وهذه نسخة يمين حلّف عليها ملك النّوبة للسلطان الملك المنصور «قلاوون» عند استقراره نائبا عنه في بلاد النّوبة؛ وهي:
والله والله والله، وحقّ الثّالوث المقدّس، والإنجيل الطّاهر، والسيدة الطّاهرة العذراء أمّ النّور، والمعمودية، والأنبياء، والرّسل، والحواريّين، والقدّيسين، والشّهداء الأبرار، وإلّا أجحد المسيح كما جحده بودس، وأقول فيه ما يقول اليهود، وأعتقد ما يعتقدونه، وإلّا أكون بودس الذي طعن المسيح بالحربة- إنّني أخلصت نيّتي وطويّتي من وقتي هذا وساعتي هذه للسّلطان الملك فلان، وإني أبذل جهدي وطاقتي في تحصيل مرضاته، وإنني ما دمت نائبه لا أقطع المقرّر عليّ في كلّ سنة تمضي: وهو ما يفضل من مشاطرة البلاد على ما كان يتحصّل لمن تقدّم من ملوك النّوبة، وأن يكون النّصف من المتحصّل للسلطان مخلّصا من كلّ حقّ، والنّصف الآخر مرصدا لعمارة البلاد وحفظها من عدوّ يطرقها، وأن يكون عليّ في كلّ سنة كذا وكذا. وإنّني أقرّر على كلّ نفر من الرّعية الذين تحت يدي في البلاد من العقلاء البالغين دينارا عينا، وإنّني لا أترك شيئا من السّلاح ولا أخفيه، ولا أمكّن أحدا من إخفائه؛ ومتى خرجت عن جميع ما قرّرته أو عن شيء من هذا المذكور أعلاه كلّه، كنت بريئا من الله تعالى ومن المسيح ومن السّيدة الطاهرة، وأخسر دين النّصرانية، وأصلّي إلى غير الشّرق، وأكسر الصّليب، وأعتقد ما يعتقده اليهود. وإنّني مهما سمعت من الأخبار الضّارّة والنافعة طالعت به السّلطان في وقته وساعته، ولا أنفرد بشيء من الأشياء إذا لم يكن مصلحة، وإنّني وليّ من والى السلطان وعدوّ من عاداه؛ والله على ما نقول وكيل.
قلت: وسيأتي ذكر أيمان الفرنج على الهدنة عند ذكر ما أهمله في «التعريف» : من نسخ الأيمان في آخر الباب، إن شاء الله تعالى.(13/293)
الملة الثالثة (المجوسيّة
: وهي الملّة التي كان عليها الفرس ومن دان بدينهم) وهم ثلاث فرق:
الفرقة الأولى- الكيومرتيّة
- نسبة إلى كيومرث، ويقال: جيومرت بالجيم بدل الكاف. وهو مبدأ النّسل عندهم كآدم عليه السّلام عند غيرهم، وربّما قيل:
إن كيومرث هو آدم عليه السّلام. وهؤلاء أثبتوا إليها قديما وسمّوه يزدان، ومعناه النّور، يعنون به الله تعالى، وإلها مخلوقا سمّوه أهرمن، ومعناه الظّلمة، يعنون به إبليس. ويزعمون أن سبب وجود أهرمن أنّ يزدان فكّر في نفسه أنه لو كان له منازع كيف يكون، فحدث من هذه الفكرة الرّدية أهرمن، مطبوعا على الشّرّ والفتنة والفساد والضّرر والإضرار، فخرج على يزدان وخالف طبيعته، فجرت بينهما محاربة كان آخر الأمر فيها على أن اصطلحا أن يكون العالم السّفليّ لأهرمن سبعة آلاف سنة، ثم يخلّي العالم ويسلّمه ليزدان. ثم إنه أباد الذين كانوا في الدّنيا قبل الصّلح وأهلكهم، وبدأ برجل يقال له كيومرت، وحيوان يقال له الثّور، فكان من كيومرت البشر ومن الثّور البقر وسائر الحيوان.
وقاعدة مذهبهم تعظيم النور، والتّحرّز من الظّلمة، ومن هنا انجرّوا إلى النار فعبدوها: لما اشتملت عليه من النور. ولمّا كان الثّور هو أصل الحيوان عندهم المصادف لوجود كيومرت، عظّموا البقر حتّى تعبّدوا بأبوالها.
الفرقة الثانية- الثّنويّة
- وهم على رأي الكيومرتيّة في تفضيل النّور والتحرّز من الظّلمة، إلا أنهم يقولون: إن الاثنين اللذين هما النور والظلمة قديمان.
الفرقة الثالثة- الزّرادشتية
الدائنون بدين المجوسيّة- وهم أتباع زرادشت الذي ظهر في زمن كيستاسف «1» السّابع من ملوك(13/294)